تقریب القرآن الی الاذهان

اشارة

سرشناسه : شیرازی، محمد

عنوان و نام پديدآور :تقریب القرآن الی الاذهان/ محمد شیرازی

مشخصات نشر : قم: ایمان، [ 13؟].

مشخصات ظاهری : 168 ص.

عنوان دیگر : تقریب القرآن الی الاذهان

موضوع : تفاسیر شیعه

موضوع : تفاسیر -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP98/ح 46ت 704215 1300ی

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 65-2176

الجزء الأول

المقدمة

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أنزل القرآن و جعله شفاء و رحمة للمؤمنين، و الصلاة و السلام على أشرف الخلق و سيّد الأنبياء و المرسلين، سيّدنا و مولانا أبي القاسم محمّد و على آله الغرّ الميامين أهل بيت الوحي، و موضع الرسالة، و مختلف الملائكة، و مهبط الذكر و التنزيل، خزّان العلم، و منتهى الحلم، و أصول الكرم، و قادة الأمم، و أولياء النعم، و عناصر الأبرار، و دعائم الأخيار، و أبواب الإيمان، و أمناء الرحمن، و سلالة النبيّين، و صفوة المرسلين، و عترة خيرة ربّ العالمين.

و بعد:

فحيث إنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن يكون الرسل بشرا يوحى إليهم كانت الحاجة إلى آيات و دلائل تبيّن صدقهم فيما يبلّغون عن ربّهم، و يهدون، و يعلّمون. من هنا كانت المعجزة قرينة الرسالة، و لو لا المعجزة لأشكل الأمر على الناس، و خالط الشكّ اليقين، و التبس الصدق و الكذب، و بالتالي تشوّشت أفكار الناس في تمييز الصادق من الكاذب، و النبيّ من المنتحل.

و من هنا فإنّ الظاهر أنّه لم يرد لفظ المعجزة كاصطلاح إلّا في الفترة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 6

المتأخّرة عن رسول الوحي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول القرآن، و إنّما عبّر عنها في الآيات و الروايات بالآية تارة قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ «1» و بالبيّنة تارة قَدْ

جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «2» و بالبرهان تارة ثالثة فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ «3» و بالسلطان رابعة فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «4» لما في هذه الألفاظ من اندماج بين وحي اللفظ و بصيرة العقل و قوّة الحجّة و منطق البرهان، فتحاكي وجدان الإنسان و قلبه و عقله و فطرته و بصره و بصيرته بما يقطع أمامه سبل الشكّ، و يزيح ظلمات الوهم.

فالآيات علائم و دلالات ظاهرة، كما أنّ دلالاتها واضحة سواء كانت دلالة عقليّة أو حسيّة، و البرهان إظهار للحجّة بموازين العقل و الحكمة، و هو أوكد الأدلّة المحفّزة لكوامن الصدق و التصديق؛ لذلك يقتضي الصدق لا محالة، و السلطان لما فيه من سلطنة و هيمنة على القلب و العقل تدعو إلى الإيمان، و تدفع الشكوك و الأوهام، و لا يبعد أن تكون الآية لعموم الناس؛ لأنّ الحب طريقهم إلى الإيمان و اليقين غالبا، و البيّنة في مواقع إظهار ما يخفى على الناس معرفته، و البرهان لمن كان من أهل العقول و الأفكار، و السلطان لتسلّطه على أهل العلم و الحكمة من الناس. هذا من حيث خصوصيّات كلّ لفظ منها.

و أمّا من حيث الهدف و المضمون فالجميع يشترك في تصديق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تثبيت حقّانيّة دعواه، و استقامة طريقه، و صحّة أهدافه و نواياه.

و لعلّ من هنا اتّفقت الكلمة على انحصار طريق معرفة صدق دعوى الأنبياء عليهم السّلام بظهور المعجز على أيديهم كما يظهر من أقوال المحقّقين كقولهم: «و طريق معرفة صدقه ظهور المعجزة على يده». «5»

______________________________

(1) الأنعام: 110.

(2) الأعراف: 74.

(3) القصص: 33.

(4) إبراهيم: 11.

(5) تجريد الاعتقاد: 214.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 7

و عليه فإنّ طريق التصديق

بالنبوّة و الإيمان بها ينحصر بالإعجاز الذي يظهره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاهدا مطابقا لدعواه.

و لعل هذا هو المرتكز في أذهان البشر و فطرهم كسبيل قد يعد وحيدا، أو الأكثر قوّة، و الأسرع أثرا في التصديق و الإيمان؛ و لذا كان أوّل نداء يطلقه الكافرون في مواجهة دعوات الرسل و الأنبياء عليهم السّلام هو المطالبة بإظهار الآيات و المعاجز، و كلّ قوم كانوا يطلبون من رسولهم ذلك حتّى و إن أقرّوا بغيره من الأنبياء السابقين.

قال تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ «1».

ففي الوقت الذي أثبتت الآية التقارن التامّ بين رسالات الرسل و الآيات البيّنة كشفت عن إيمان اللاحقين بدعوات السابقين حتّى و إن كذّبوا من أرسل إليهم من الأنبياء، فطالبوهم بإظهار الآية.

و كانت هذه الآيات هي الحجّة التي تنهض للمطالبين الصادقين في دعواهم لجذبهم إلى الإيمان، كما تثبت على المعاندين لو أصرّوا و ظلّوا في غيّهم يعمهون.

و لعلّ ممّا يشهد لذلك آيات متضافرة في الكتاب العزيز، بعضها يثبت وقوع الإعجاز مقارنا لدعوى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعضها يبيّن نوع الإعجاز و تفاصيل حدوثه.

و ربّما يعدّ من الأولى قوله سبحانه: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ «2».

فهي في الوقت الذي تثبت دلائل الأنبياء الكافية في اليقين و الإيمان

______________________________

(1) الأنبياء: 6.

(2) الروم: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 8

تهدّد المنكرين الذين عاصروا الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عايشوه بمصير يشبه مصير السابقين في مواقفهم من الرسل، و قد جمعت

هذه الآيات مع الآيات التي في سياقها قبلا و بعدا بين الدلائل المادّيّة و المعنويّة، فحيث تحدّثت ما قبلها عن آية الرياح و ما لها من آثار هامّة و نافعة تقوم عليها حياة الناس حيث إنّها:

1- تأتي لهم بالسحاب المثقل بالغيث الذي يسقي الأرض العطشى، فينبت رزقهم و كلأ مواشيهم.

2- توازن حرارة الجو فتعطيهم برودة في المناطق الحارّة و دفئا في الباردة.

3- تنقي الهواء و الفضاء من الأوبئة و الغازات الضارّة.

4- تلقح الأشجار فتعطي ثمارها، و الأزهار فتعطي أريجها و جمالها، و تنشر البذور من البيادر إلى الأراضي الجرداء فتغدو خضراء ممرعة ترعاها الأغنام و المواشي، و تضفي على الحياة بهجة و روعة.

5- تحرّك الفلك و السفن في البحار و الأنهار فتربط بين البشر، و تجمع بين حاجاتهم و احتياجاتهم فيتكافلون و يتكاملون و يتعاونون ..

و غيرها من آيات و براهين و دلائل تقوم عليها حياة الناس، و تدلّ على سعة رحمة اللّه عزّ و جلّ و عميم فضله و خيره و عظم بركته؛ و لذا قال سبحانه بعدها: وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «1».

و أمّا الدلائل المعنويّة التي هي أيضا من آثار رحمة الله و خيره و بركته فقد جاءت مقارنة لتلك لتشمل كلّ جوانب الإنسان، و تسدّ كلّ احتياجاته الجسديّة و الروحيّة؛ إذ لا يكفي الإنسان أن يعيش ناعما، يبات شبعانا،

______________________________

(1) النحل: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 9

و يغدو وفيرا رويا، فإنّ ذلك مهما بلغ و كثر و لذ و طاب لا يسدّ حاجاته الأكبر و الأوسع في تحقيق الآمال، و اللهفة إلى النجاح في مختلف شؤون الحياة، بل لو لا الأمل و النجاح يصبح نهار الإنسان ليلا، و حلوه

مرّا؛ لقصور الدنيا بما فيها من شهوات و غرائز و لذات و مطائب عن إشباع روح الإنسان و عقله و فكره، فحتى تتمّ النعمة و تكتمل الحجّة و يتمّ البرهان كان لا بدّ من إشعال و قدة الأمل في قلبه، و إنارة طريقه على المستقبل و الغد الناجح الوفير، فقال سبحانه: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ «1».

و على خلاف ذلك ما سيلاقيه الكفّار المعاندون من أيام شديدة و ساعات سوداء مدلهمّة، و منها قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «2» و المستفاد منها هو أنّ لكلّ رسول و نبيّ آية قد أحكمها الله تعالى و تولّاها بالحقّ و الصدق و الثبات في الموقف و الغاية، يمتنع عنها الريب، و لا تخالجها شكوك الشيطان و تشكيكاته، و هذه أيضا تضمّنت آيات الظاهر و الباطن، فالأولى تنسف خطط الشيطان، و تعود بالناس إلى الإيمان، و الثانية تطمئن الرسل بمستقبل مشرق يعيش الناس فيه الإيمان بأصنافه و شعبه.

______________________________

(1) الروم: 48.

(2) الحج: 53.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 10

كيفيّة الإعجاز

و من الثانية: آيات متضافرة أيضا شرحت بوضوح و دقّة و عمق كيفيّة الإعجاز و أنحائه لعل منها:

1- قوله سبحانه: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ «1» و هي اليد و العصا، و الحجر، و البحر، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم دلائل خارقة ظاهرة.

2- قوله تعالى: وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ

طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ «2».

3- قوله تعالى: وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً. «3» 4- قوله تعالى: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ «4».

5- قوله تبارك و تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ «5» و غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الله تعالى قد نصر أنبياءه عليهم السّلام بالمعجزة، و لم يوكل عموم الناس الذين يقنعهم بالإيمان عادة الشاهد

______________________________

(1) الإسراء: 102.

(2) آل عمران: 50.

(3) الأعراف: 74.

(4) سبأ: 13.

(5) الأنبياء: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 11

المادي الظاهر على صدق الأنبياء أكثر من قدرتهم الروحيّة و حالاتهم المعنويّة و العقليّة؛ لأنّ هذا قد لا يدركه عموم الناس كما لم ينحصر لطفه عزّ و جلّ بإخبارات النبيّ السابق عن ظهور نبيّ في اللاحق، و ذكره لعلامات النبوّة و سيماء النبيّ القادم؛ و ذلك لأنّه حتى لو وصلت هذه الإخبارات و العلامات للأمم اللاحقة على نحو التواتر إلّا أنّها قد لا تلزم من لا يتديّن بدين أصلا، أو لا يعتقد بنبوّة ذلك النبيّ، فلا تتمّ الحجّة عليه.

و لعلّ قوله سبحانه في سورة الحديد: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ «1» يحاكي أصحاب العقول المتفتّحة و الآراء المتطلّعة لجمع الدين بالدنيا و الفكر و التطبيق حتّى في مثل مجالات السياسة و الاجتماع و الاقتصاد و نحوها، حيث جمعت بين ثلاثة دلائل واضحة تشكّل العناصر الأساس لقيام أي مجتمع و دولة، و هي:

1- البيّنات

كحجج على الإيمان 2- الكتاب كحجّة على التقنين و التنظيم 3- الميزان كحجّة على التطبيق و الممارسة مادّيّا و معنويّا.

و من الواضح أنّ كلّ دولة و أمّة تقومان على العقيدة و النظام و السلطة، و يجمعهما الهدف المشترك، و هو العدل، ثم يأتي بعد ذلك الحديد و القوّة لحمايتهما من الاستهانة أو الاستلاب، و بهذا يبني الأنبياء عليهم السّلام حضارة إنسانيّة رائعة يسودها الأمن و السلام، و يحكمها العدل و النظام في شتى المجالات، و قد جمع هذه جميعا القرآن الكريم، فاحتوى كلّ رسالات الأنبياء و أهدافهم، فوصفه ربّه و منزّله:

______________________________

(1) الحديد: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 12

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1» و وصفه من حمله و بلّغ به و بشّر: «هو الدليل يدلّ على خير سبيل» «2» ..

و بالتالي فإنّ كلّ حرف و كلمة و جملة و آية و سورة بل كلّ حركة و سكنة و رفع و نصب فيه يدلّ على إعجاز و إعجاز و علوّ و سمو، فهو كما قالوا عنه:

ليست معجزة واحدة فحسب، بل موسوعة معجزات، فاجتماعيّاته معجزة لعلماء الاجتماع، و سياسيّاته معجزة للسياسيّين، و أخلاقيّاته معجزة للأخلاقيّين، و عسكريّاته معجزة للعسكريّين، و اقتصاديّاته معجزة للاقتصاديّين، و تربويّاته معجزة للتربويّين، و أداءه معجزة للأدباء، و لكلّ اختصاصيّ معجزة في اختصاصه، بل إنّ القرآن معجزة لكلّ إنسان في الجانب المنسجم مع أولويّات ذلك الإنسان، فهو معاجز بعدد الخلائق، أو ليست الطرق إلى الله سبحانه بعدد أنفاس الخلائق؟ فهو معجزة للناس أجمعين.

و فوق ذلك أنّه معجزة الفلسفة، فهو كتاب أعطى الفلسفة الكاملة الصحيحة للبشر، فهو كتاب الكون، بل هو عدل الكون؛ إذ الكون كلّه كلمة من كلمات الله، و

القرآن كلمة أخرى من كلمات الله، فهي و تلك كلمتان مترادفتان، الكون قرآن و لكن بشكل، و القرآن كون و لكن بشكل آخر، و بعد ذلك و قبله فإنّ من القرآن ما فيه شفاء و رحمة للعالمين، و لا يزيد الظالمين إلّا خسارا.

كما ستبقى صور الإعجاز و أشكاله تتجلّى في كلّ عصر، و مع كلّ جيل مهما نضج البشر، و تنامت عقولهم، و تراكمت تجاربهم، و تنوّرت أفكارهم.

فإنّ القرآن يفسّره الزمان كما في بعض الأخبار لا تنقضي عجائبه، و لا تنتهي غرائبه؛ لأنّه كلام اللّه سبحانه، و فيض من علمه اللامتناهي، و كلامه عزّ و جلّ مظهر لعلمه، و علمه مظهر لذاته، و كلّها لا متناهية و فوق ما لا يتناهى،

______________________________

(1) الإسراء: 10.

(2) أصول الكافي: ج 2، 599، ح 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 13

فكيف يدركه بشر، أو يحيط بكنوزه محيط أو عالم؟ و بهذا يظهر مدى التجافي عن الحقيقة الدامغة فيما يدّعيه بعض أعداء الإسلام من أنّ القرآن من صنع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّ القرآن لم يوح إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأكمله، بل كان يوحى إليه رؤي قصيرة و وصايا، و أمثال و قصص ذات مغزى، أو أحاديث في أصول العقيدة.

و يكفينا في ردّ زعم هؤلاء ما صدع به الحقّ تبارك و تعالى في قوله عزّ من قائل: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ «1».

و

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام «و كفى بالكتاب حجيجا و خصيما»

«2».

فإنّ كلمات القرآن و آياته و حروفه و كلّ ما فيه ينطق بأنّه وحي ممّن خلق الأرض

و السماوات العلى، و ما خلقته عقول بشر، أو فاهت به ألسنتهم.

الإعجاز لغة و اصطلاحا

المعجز في اللغة له أكثر من معنى إلّا أنّ الأقرب منه إلى الفهم العرفي ما ذكر في أقرب الموارد، و هو: أعجز فلان فلانا أي صيّره عاجزا «3».

لكن في مجمع البحرين فسّره بالمعنى المصطلح، و كأنّه تفسير بالمصداق، فقال: المعجز: الأمر الخارق للعادة المطابق للدعوى المقرون بالتحدّي، و قد ذكر المسلمون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألف معجزة منها القرآن «4».

و قد فقد عرّف بتعاريف مختلفة بعض الشي ء باختلاف قيودها.

______________________________

(1) العنكبوت: 50.

(2) نهج البلاغة: ص 112، الخطبة 83.

(3) أقرب الموارد: ج 3، ص 482، «عجز».

(4) مجمع البحرين: ج 4، ص 25، «عجز».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 14

ففي تجريد الاعتقاد: و طريق معرفة صدقه ظهور المعجزة على يده، و هو ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة و مطابقة الدعوة «1».

و قريب منه ما في مجمع البيان: و حاصله أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهيّة بما يخرق النواميس الطبيعيّة و يعجز عنه غيره شاهدا على صدق دعواه «2».

و ينبغي إضافة قيد التحدّي لهذين التعريفين لينطبق على موازين الحدّ التامّ المنطقي بداهة دخول الكرامة و نحوها في التعريف، فلا يصبح حينئذ مائزا بين ما يظهر على أيدي الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام، و لا يبعد أن تكون جميع هذه التعاريف ناظرة إلى أمر واحد و إن كان ربّما لم يستظهر من بيانها، و هو أنّ المعجز أمر خارق للعادة و ليس لضوابط العقل؛ إذ لا يمكن الجمع بين النقيضين حتّى بالإعجاز لامتناع الموضوع.

و عليه فليس الإعجاز في تبديل الممتنع بالذات إلى ممكن، بل هو اختصار

مراحل الإمكان الاستعدادي للممكن بإرادة الله سبحانه، أو بقوّة النبيّ المعنويّة التي منحها الله سبحانه إياه لإيجاده؛ و لذا يسمّى خارقا للعادة، فيمكن إثمار الشجرة غير المثمرة في آن؛ لأنّ تحقّق الاثمار عادة يتوقّف على شرائط لا تتحقّق عادة إلّا بعد مضي زمان، و لكن ربّما تحصل هذه الشرائط فورا بالإعجاز، و هذا هو معنى خرق العادة أي المعتاد المألوف في الكون أو عند الناس.

هذا و هناك شروط أخرى ينبغي توفّرها في الإعجاز منها: مطابقة المعجزة للدعوى، و أن لا يكون هناك من يعارض مدّعي النبوّة فيما يتحدّى

______________________________

(1) تجريد الاعتقاد: ص 214.

(2) مجمع البيان: ج 1، ص 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 15

به، بحيث يستطيع غيره أن يأتي بمثل ما أتى به؛ إذ لا يكون حينئذ ما أتى به ذلك النبيّ معجزا، و منها غير ذلك ممّا فصّله علماء الكلام.

بعض مزايا القرآن الكريم

و لعلّ من المناسب أن نشير هنا إلى بعض مزايا القرآن الكريم التي اتّفق أهل الرأي فيها على أنّها إعجاز:

1- أنّ القرآن الكريم معجز من حيث اختصاصه بمرتبة عليا في الفصاحة و البلاغة خارقة للعادة لا يمكن لأحد أن يأتي بمثلها أو أن يدانيها.

2- من حيث كونه مركّبا من نفس الحروف الهجائيّة التي يقدر على تأليفها كلّ أحد و مع ذلك عجز الخلق عن تركيب مثله بهذا التركيب العجيب، و النمط الغريب من قوة اللفظ، و سحر البيان، و دقّة المعنى، و سلاسة التعبير، و قوّة الترابط بحيث إنّ كلّ تغيير أو تصرّف فيه يخرجه عن عذوبته، و يشير إلى وجود خلل في العبارة.

3- من حيث امتيازه عن غيره من كلام العرب بامتياز مليح، فإنّ أي كلام في هذه اللغة مهما كان فصيحا

و بليغا إذا زيّن بالقرآن الكريم تجد القرآن ممتازا عنه متفوقا عليه بما لا يقبل القياس أو التقويم.

4- من حيث اتّصافه بنظام فريد، و أسلوب وحيد غير معهود في جميع الأزمنة، لا شعرا و لا نثرا؛ لذلك نسبه أدباء الكفّار إلى السحر؛ و ذلك لأخذه بمجامع القلوب و اتّصافه بالجاذبيّة الخاصّة.

5- بالرغم من سعة مضامينه و وفرة آياته و كثرة سوره فهو خال عن الاختلال و التناقض و التهافت أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1».

______________________________

(1) النساء: 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 16

فلا تجد فيه كلمة خالية عن الفصاحة، و لا آية مخالفة لآية أخرى، بل جميعه موصوف بغاية الجودة، و متّصف بما لم تجر بمثله العادة.

6- من حيث اشتمال القرآن الكريم على أحسن الآداب، و أمتن الحكم، و أكمل المواعظ، و أصوب القوانين، و أتمّ الأحكام في العبادات و المعاملات و المعاشرات في أمور الحياة و الأسرة و المجتمع، و في الحدود و الأقضية في السفر و الحضر و الأمن و الخوف و السلم و الحرب و العسرة و الغلبة و كلّ ما يحتاجه الإنسان في أصوله و فروعه بشكل ليس فيه أدنى خلل.

فجعل الله تعالى هذا القرآن مشتملا على كلّ ما تحتاج إليه الأمم، و هاديا إلى التي هي أقوم، كما جعل بيانه و تبيانه عند مهابط وحيه و خزّان علمه و ترجمانه في خلقه النبيّ الأمين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته الأطهار عليهم آلاف التحية و الثناء تكريسا للاقتداء، و تعظيما للإمامة و ما يترتّب عليها من فوائد كبيرة في دنيا الناس و دينهم.

7- من حيث ما

تضمّنه من الأخبار في قضايا الأمم السالفة، و خفايا القصص الماضية، و دقائق القرون الخالية، مثل أخبار آدم عليه السّلام و ابنيه، و مسائل نوح عليه السّلام، و أمور إبراهيم عليه السّلام، و قصّة أصحاب الكهف، و قضايا موسى ..... ممّا لم يطّلع عليها أحد إلا بعض خواصّ الأحبار و الرهبان الذين لم يكن النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معاشرا لهم، بل كان بعيدا عن مخالطتهم.

فكتاب كهذا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي لم يتعلّم عند أحد يكشف قطعا عن كونه من اللّه العالم بجميع الأمور.

علما بأنّ ما بيّنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أخبار القرآن لم يكن اقتباسا من كتبهم، بل نقلا لحقيقة الأمر و واقعه الموجود عندهم، و إلّا لكانوا يرمونه بالسرقة من كتبهم و هم غير آبين من توجيه التهمة مع توفّر الدواعي الكافية في ذلك.

8- من حيث اشتماله على الأخبار عن ضمائر المنافقين و بواطن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 17

الكافرين و نوايا المشركين الخفيّة التي لم يطلع عليها أحد حتّى إنّهم كانوا يحذرون من أن تنزل فيهم آية تفضحهم، و تكشف نواياهم.

بل أخبر عن الأمور المستقبليّة و الحوادث المقبلة و الغيب الصادق و النبأ المطابق ممّا لم يطّلع عليه إلّا علّام الغيوب مع كمال المطابقة و الصدق كما في قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1»، و قوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «2» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

هذا مضافا إلى إخباراته عن الحقائق العلميّة التي لم ينكشف اليسير منها إلّا في الآونة الأخيرة و القرون

المتأخّرة على رغم تطوّر العلوم و المعارف.

9- من حيث خواصّه المعنويّة و خصائصه الذاتيّة في التأثير على الأرواح، و شفائه للقلوب و الضمائر، و علاجه للأجسام، و طمأنته للقلوب، و بركاته في النفوس، فضلا عن الآثار الوضعيّة الأخرى التي تلازمه في النظر و القراءة و الاستشهاد و الاحتفاظ و نحو ذلك.

10- من حيث طراوته و حلاوته و عدم الملل منه عند تلاوته و قراءته مهما زادت و تكرّرت، و بعد كلّ ذلك فإنّه لا يخلق على طول الأزمان، و لا يبلى، بل يستفاد منه في كلّ قراءة جديدة نكتة جديدة، و يجد القارئ المتدبّر فيه إلماعات و إشارات و حقائق و لطائف لم تظهر له من قبل،

فهو كلام اللّه البالغ، و حكمه الساطع، و هو نور لا يطفأ، و سراج لا يخبو كما ورد في خطبة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة

«3».

إلى غير ذلك من جهات و أسرار لا يسع المجال لبيانها هنا.

______________________________

(1) القمر: 46.

(2) الفتح: 28.

(3) نهج البلاغة: ص 315، الخطبة 198.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 18

الشيعة و الاهتمام البالغ بالقرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم أحدث في الحياة البشرية أعظم انقلاب و تغيير شمل كلّ مناحي الحياة، و امتدّ شعاعه إلى أبعد الأصقاع، و أذهل أقوى الأدمغة، و اكتسح أعظم الحضارات، و أقام فوق ركامها أنظف حضارة و أجمل حياة و أكمل سيادة و سياسة.

هذا و قد كان للشيعة اليد الطولى و السهم العظيم في الاهتمام به، و العمل على دراسته و تفسيره، و بيان معانيه و مضامينه، و اكتشاف أسراره و آياته و بيّناته بهدى من أئمّتهم عليهم السّلام الذين هم عدل القرآن و أهله الذين أنزل القرآن في بيوتهم.

فكتبوا و نشروا و حثّوا أيما

حثّ على قراءته و حفظه و نشره و تجويده و الاستناد إليه في كلّ حقول المعرفة، و كان السبب في اهتمام الشيعة بالقرآن في الدرجة الأولى هو أهمّيّة القرآن نفسه و عظمة أمره، ثمّ الاقتداء بالنبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة من أهل بيته عليهم السّلام في ذلك.

فمن ينظر إلى الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام و التي تحدّثوا فيها عن القرآن الكريم يواجه عناية بالغة و كبيرة منهم بهذا الكتاب الإلهي الخالد، ثم من يطّلع على بقيّة أحاديثهم في شتى جوانب الدين يجدها مليئة بالاستدلالات من القرآن الكريم ممّا يكشف عن شدّة حرصهم على البقاء إلى جانب القرآن و الانطلاق منه و الرجوع إليه، و يشهد بذلك ما ألّفه علماء الإمامية سدّدهم اللّه تعالى و رواتهم حول فضل القرآن و خصائصه و علومه و مزاياه و في شتى المجالات. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 19

ما يلي:

1- كتاب فضل القرآن ليونس بن عبد الرحمن من أصحاب الإمام الرضا عليه السّلام.

2- كتاب فضل القرآن لمحمّد بن الحسن الصفّار المتوفّى سنة 290 ه.

3- كتاب نوادر القرآن لعليّ بن إبراهيم بن هاشم في القرن الثالث الهجري.

4- كتاب فضل القرآن لمحمّد بن مسعود العيّاشي في القرن الثالث الهجري.

5- كتاب فضائل القرآن لأحمد بن محمّد بن عمّار المتوفّى سنة 346 ه.

كما عقد جمع من علماء الإمامية أبوابا خاصّة حول القرآن في كتب الحديث مثل:

1- كتاب فضل القرآن في الجزء الثاني من (أصول الكافي) للكليني.

2- كتاب فضل القرآن في الجزء الثاني من موسوعة (من لا يحضره الفقيه).

3- كتاب القرآن في الجزء الرابع من موسوعة (وسائل الشيعة).

4- كتاب

القرآن في الجزء الأوّل من (مستدرك وسائل الشيعة).

5- كتاب القرآن في الجزء الثاني و التسعين من موسوعة (بحار الأنوار).

و هذا يدلّك على مدى اهتمام الشيعة بالقرآن الكريم، كما أنّ التأريخ يشهد لهم مدى تفانيهم و بذلهم لأرواحهم على مدى التأريخ في سبيل القرآن الكريم و العترة الطاهرة عليهم السّلام. و قبل كلّ ذلك كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 20

هو أوّل من سمع القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خالجته آياته، و هو أوّل من جمعه بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كتب تفسيره و تأويله و شأن نزوله كما في متضافر الأدلّة «1».

أمّا في علوم التفسير فكان الشيعة لهم القدم الأوّل في ذلك، و قد ذكر الشيخ الذهبي من علماء الأزهر في كتابه التفسير و المفسّرون عددا من ذلك بعد أن استعرض بنحو مجمل من كتب في العصر الإسلامي الأوّل، و عدّ على رأسها تفسير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فهو أوّل من كتب في التفسير، ثم قال في كتابه: و قد عدّ السيوطي في الإتقان من اشتهر بالتفسير من الصحابة و سمّاهم، و من سمّاهم ابن مسعود، و ابن عبّاس، و أبي بن كعب، و زيد بن ثابت و غيرهم ... ثمّ قال: أمّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فهو أكثر الخلفاء الراشدين رواية عنه في التفسير «2».

و في مكان آخر قال: جمع عليّ عليه السّلام إلى مهارته في القضاء و الفتوى علمه بكتاب اللّه، و فهمه لأسراره و خفي معانيه، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل و معرفة التأويل، و قد روي عن

ابن عباس أنه قال: ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. «3» و ليس الذهبي منفردا في هذا القول، فقد ذكر هذا الكثيرون غيره «4».

أمّا أوّل من صنّف في التفسير فهو ترجمان القرآن عبد اللّه بن العبّاس المتوفّى سنة 68، ثم تلميذه سعيد بن جبير الذي قتله الحجاج عام 94 «5»، و قيل: سنة 95 و كان من المشهورين في التفسير، بل روي عن قتادة أن

______________________________

(1) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 316- 317؛ الذريعة: ج 4، ص 231.

(2) التفسير و المفسّرون: ج 1، ص 63- 64.

(3) التفسير و المفسّرون: ج 1، ص 89- 90.

(4) بين الجدران: ج 1، ص 17- 18؛ دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: ج 11، ص 52.

(5) الذريعة: ج 4، ص 233.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 21

سعيدا كان أعلم معاصريه بالتفسير «1». و أسند أبو عمر الكشي في كتاب الرجال عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام أنه قال: سعيد بن جبير كان يأتمّ بعليّ بن الحسين عليه السّلام، و كان عليّ بن الحسين عليه السّلام يثني عليه. و ما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر- يعني التشيّع- و كان مستقيما «2».

و قد اهتمّ الشيعة اهتماما كبيرا بالتفسير، و كتبوا فيه الكثير من الكتب، منها في تفسير كل القرآن، و منها في بعضه.

القرآن و أهل البيت عليهم السّلام

إنّ من يتتبّع أحاديث العترة النبويّة الطاهرة يجدها تسير جنبا إلى جنب مع القرآن، تتمسّك بآياته، و تستدلّ بإشاراته، كما أنّ القرآن الكريم نفسه يشيد بمواقفهم و أقوالهم عليهم السّلام؛ إذ وصفهم بالطهارة من الرجس المعنوي و الماديّ ذلك الوصف المؤكّد الذي يقتضي تنزيههم عن أيّ خطأ و خطل،

و مخالفة للكتاب، بل يقتضي كونهم مع القرآن في هدف واحد، و على جادّة واحدة، و لا غرابة إذا قيل: إنّهم عليهم السّلام ورثوا الكتاب و علمه و فهمه و فقه أسراره و مقاصده و أبعاده و بطونه دون غيرهم، فذلك أمر قد جرى بعض منه في الأنبياء السابقين و أوصيائهم كما يصرّح القرآن الكريم بذلك.

و قد صرّح أئمّة أهل البيت المطهّرون عليهم السّلام بهذا الأمر في تصريحات مستقلّة، مثلما

روي عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السّلام إذ قال

«نحن الذين اصطفانا اللّه عزّ و جلّ، و أورثنا هذا الذي فيه تبيان كلّ شي ء»

«3» على أنّ العقل يحتمّ مثل هذه الوراثة للكتاب و علمه و فهمه و فقهه؛ إذ لو لا الصفوة التي ترث مسئوليّة الحفاظ على الرسالة لضاعت الرسالة،

______________________________

(1) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: ج 11، ص 55؛ انظر الإتقان في علوم القرآن: ج 2، ص 1234؛ تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 324.

(2) رجال الكشي: ج 1، ص 335.

(3) أصول الكافي: ج 1، ص 226، ح 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 22

و ضاعت جهود صاحبها، و انتقض الغرض من بعثته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و من البديهي أنّ أولى الناس بذلك هو من يرتبط بصاحب الرسالة بوشائج القربى، و يكون على درجة عالية من الطهر و التقى و الورع و الذكاء و النبوغ ليزداد حرصه على الرسالة و على ميراث صاحبها من العلوم و المعارف؛ و لهذا اختصّ نسب الرسول و ذرّيّته عليهم السّلام بعلم الكتاب العزيز، فهم تحمّلوه و حملوه كمسؤولية كبري، و تجشّموا في سبيل المحافظة عليه عناء كبيرا و نصبا كثيرا، و قاتلوا الناس على تنزيله، ثمّ قاتلوهم على

تأويله، ثم إنّ البراهين و الأدلّة العمليّة التي قدّمها الأئمة عليهم السّلام في مجال تفسير القرآن و فكّ رموزه و بيان بطونه و أبعاده بنفسها خير شاهد على ذلك، و نذكر هنا جملة من الأحاديث الواردة بهذا الشأن تيمّنا و تبرّكا:

1-

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»

«1».

2-

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا أوّل وافد على العزيز الجبّار يوم القيامة و كتابه و أهل بيتي، ثمّ أمّتي، ثمّ أسألهم ما فعلتم بكتاب اللّه و أهل بيتي»

«2».

3- و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هم مع القرآن و القرآن معهم لا يفارقونه حتى يردوا عليّ الحوض»

«3».

و لا يخفى على اللبيب دلالة (المعيّة و عدم المفارقة) على التلازم و عدم الافتراق أو الاختلاف في كل شي ء حتّى يوم القيامة.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 7، ص 254- 255، ح 8181، باب 47 من كتاب الزكاة؛ بحار الأنوار: ج 2، ص 100، ح 59؛ و انظر الإرشاد: ج 1، ص 233.

(2) وسائل الشيعة: ج 6، ص 170، ح 2، باب 2 من أبواب قراءة القرآن.

(3) بحار الأنوار: ج 22، ص 150، ح 142.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 23

4- و

عن عليّ عليه السّلام قال: «سلوني فو اللّه لا تسألوني عن شي ء إلّا أخبرتكم به و اسألوني عن كتاب اللّه فو اللّه ما من آية إلّا و أنا أعلم أ بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل

أم في جبل»

«1».

5- و

عنه عليه السّلام قال: «و اللّه ما نزلت آية إلّا و قد علمت فيم نزلت و أين نزلت ... إنّ ربّي وهب لي قلبا عقولا و لسانا سؤولا»

«2».

6- و

عنه عليه السّلام قال: «سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب اللّه، فما من آية إلّا و أعلم حيث نزلت بحضيض جبل أو سهل أرض»

«3».

7- و

عن أبي الصباح قال: و اللّه لقد قال لي جعفر بن محمّد عليهما السّلام: «إنّ اللّه علّم نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التنزيل و التأويل، فعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام قال: و علّمنا و اللّه»

«4».

8- و

عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعت أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام يقول: «و اللّه إنّي لأعلم كتاب اللّه من أوّله إلى آخره، كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء و خبر الأرض و خبر ما كان و خبر ما هو كائن. قال اللّه عزّ و جلّ: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ»

«5» «6».

9- و

عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «7» قال: هم الأئمّة عليهم السّلام»

«8».

______________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن: ج 2 ص 1227؛ و انظر الغدير: ج 6، ص 193؛ بحار الأنوار:

ج 40، ص 179، ح 61.

(2) المناقب: ج 2، ص 43؛ الإتقان في علوم القرآن: ج 2، ص 1227.

(3) بحار الأنوار: ج 40 ص 190، ح 74.

(4) الكافي: ج 7، ص 442، ح 15؛ التهذيب: ج 8، ص 286، ح 1052، وسائل الشيعة:

ج 23، ص 224، ح 29426، باب 12 من أبواب كتاب الأيمان.

(5) النحل: 90.

(6) أصول

الكافي: ج 1، ص 229، ح 4، و فيه «فيه تبيان كلّ شي ء».

(7) العنكبوت: 50.

(8) أصول الكافي: ج 1، ص 214، ح 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 24

و

في رواية أخرى: «هم الأئمّة عليهم السّلام خاصّة»

«1».

10- و

عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في تفسير قول اللّه عزّ و جلّ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «2» قال عليه السّلام: «إنّما نحن الذين يعلمون، و الذين لا يعلمون عدوّنا، و شيعتنا أولو الألباب»

«3».

11- و

عن عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى طهّرنا و عصمنا و جعلنا شهداء على خلقه، و حجّته في أرضه، و جعلنا مع القرآن، و جعل القرآن معنا لا نفارقه و لا يفارقنا»

«4».

12- و

عنه عليه السّلام قال: «نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد، فينا نزل القرآن، و فينا معدن الرسالة»

«5».

13- و

عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «6» قال عليه السّلام: «الذكر القرآن، و نحن أهله»

«7».

14- و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ «8» قال عليه السّلام: «الثقلان نحن و القرآن»

«9».

15- و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ اللّه جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن»

«10».

هذا و قد تواترت الأخبار الدالّة على كونهم عليهم السّلام عدل القرآن و الثقل الذي أوصى به النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الدالّ على تلاحمهم المطلق مع القرآن فكرا و قولا و عملا، بل هم القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى، و قد وردت أكثر من ثلاثين رواية بهذا الشأن عن طرقنا، و أكثر من ستّ عشرة

______________________________

(1) أصول الكافي:

ج 1، ص 214، ح 5.

(2) الزمر: 10.

(3) أصول الكافي: ج 1، ص 212، ح 1.

(4) بحار الأنوار: ج 23، ص 343، ح 26.

(5) بحار الأنوار: ج 26، ص 269، ح 5.

(6) النحل: 44.

(7) بحار الأنوار: ج 23، ص 181، ح 37.

(8) الرحمن: 32.

(9) بحار الأنوار: ج 24، ص 324، ح 37.

(10) بحار الأنوار: ج 89، ص 27، ح 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 25

رواية من طرق العامّة تدلّ على ذلك، كما أورده العلّامة البحراني «1» و غيره.

و من هنا اتّفق أصحابنا على أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصحيح عن النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة الطاهرين عليهم السّلام، و حرّموا القول فيه بالرأي و الاجتهاد، و هذا ما رواه العامّة أيضا

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من فسّر القرآن برأيه و أصاب الحقّ فقد أخطأ»

«2» و الظاهر أنهم التزموا به من حيث الكبرى و إن خالف جمع غير قليل من مفسّريهم الالتزام بذلك من حيث الصغرى. خصوصا ما يتعلّق بالآيات الواردة بشأن أهل البيت عليهم السّلام و بيان فضائلهم و مقاماتهم الربّانيّة.

و من الواضح أنّه لا يجوز أن يكون في كلام اللّه عزّ و جلّ و حججه المعصومة عليهم السّلام تناقض أو تضادّ أو تعارض حقيقي لما فيه من القبح و نقض الغرض و غيرهما من المحالات.

كيف لا و قد عرفت أنّهم عليهم السّلام عدله، بل و الناطق من كلماته و آياته، كما أنّه الميزان الذي يفصل بين منطقهم و حديثهم و منطق و حديث غيرهم، و ممّا يؤكّد ذلك ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و

الأئمّة عليهم السّلام: «إذا جاءكم منّا حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالفه فاطرحوه أو ردّوه علينا»

«3».

و لعلمائنا الأعلام في علمي التفسير و الأصول كلام مفصّل في بيان المقصود من التفسير بالرأي و حلّ بعض التشابه البدوي الذي قد يتصوّره البعض تعارضا واقعا بين الآيات و الروايات بما لا يسعنا المجال لبيانه هنا «4».

______________________________

(1) البرهان في تفسير القرآن: ج 1، ص 9- 15 و 26- 28.

(2) التبيان: ج 1، ص 4، مقدّمة المؤلّف.

(3) التهذيب: ج 7، ص 275، ح 1169.

(4) من أراد الاطّلاع يمكنه مراجعة مجمع البيان: ج 1، ص 6؛ تفسير الصافي: ج 1، ص 32- 35؛ البرهان في تفسير القرآن: ج 1، ص 17- 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 26

هذا مضافا إلى ما تواتر نقله في كتب العامّة فضلا عن الخاصّة من حديث الثقلين الدالّ على تلاحم القرآن و أهل البيت عليهم السّلام، فقد أوردوا في كتبهم من روايته عن الصحابة الذين سمعوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أكثر من ثلاثين صحابيا، و بقي على ذلك متواترا في كلّ عصر إلى العصر الحاضر، و نصّ الحديث هو

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»

«1».

و لا يخفى أنّ لفظ العترة و الأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة في تعيين أهل البيت عليهم السّلام يعيّنان المراد من أهل البيت عليهم السّلام، فضلا عن دلالة الإجماع و العقل.

و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا»

مع

قول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و إنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»

يعيّنان الأئمّة الاثني عشر المعصومين عليهم السّلام من عترة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذرّيّته كما ذكره العلّامة البلاغي (قده) و لعلّ من دلائل ذلك أيضا إجماع المسلمين على أنّ من عداهم عليهم السّلام ليس معصوما، و لا يتّصف بأنّه مثل كتاب اللّه لا يضلّ من تمسّك به. و هذه أسماء الصحابة السامعين لهذا الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 1- عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام 2- عبد اللّه بن عبّاس 3- أبو ذرّ الغفاري 4- جابر الأنصاري 5- عبد اللّه بن عمر 6- حذيفة بن أسيد 7- زيد بن أرقم 8- عبد الرحمن ابن عوف 9- ضميرة الأسلمي 10- عاصم بن ليلى 11- أبو رافع 12- أبو هريرة 13- عبد اللّه بن حنطب 14- زيد بن ثابت 15- أم سلمة 16- أم هاني أخت أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام 17- خزيمة بن ثابت 18- سهل بن سعد 19- عدي بن حاتم 20- عقبة بن عامر 21- أبو أيوب الأنصاري 22-

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 27، ص 34، ح 33144، باب 6 من أبواب صفات القاضي و ما يجوز أن يقضي به؛ و انظر الخصال: ج 1، ص 65، ح 97؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 663، ح 3788؛ مسند أحمد: ج 3، ص 14 و 17 و 26؛ المستدرك على الصحيحين:

ج 3، ص 148.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 27

أبو سعيد الخدري 23- أبو شريح الخزاعي 24- أبو قدامة الأنصاري 25- أبو ليلى 26- أبو الهيثم بن التيهان.

و هؤلاء الذين ذكرنا أسماءهم

من بعد أم هاني قد رواه كلّ منهم منفردا كمن تقدّمه، و قاموا في رحبة الكوفة مع سبعة من قريش، فشهدوا أنّهم سمعوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فهؤلاء ثلاثة و ثلاثون، و رواه أبو نعيم الإصبهاني في كتاب (منقبة المطهّرين) مسندا عن جبير بن مطعم، و أسنده أيضا عن أنس بن مالك، و أسنده عن البراء بن عازب، و رواه موفّق بن أحمد أخطب خوارزم عن عمرو بن العاص. و قلّما يخلو عن رواية هذا الحديث مسند أو جامع أو كتاب في الفضائل لأهل السنّة من أوّل ما أخرج الحديث من الحفظ و صدور الحفّاظ إلى صحف المحدّثين و لا زالت يروى فيها عن صحابي واحد أو أكثر، و ربّما روي في واحد منها عن أكثر من عشرين صحابيا إمّا مجملا كما في الصواعق، و إمّا مسندا مفصّلا كما في كتب السخاوي و السيوطي و السمهودي و غيرهم، و من أراد الاطلاع فليرجع إلى الجزأين المكتوبين في أسانيد هذا الحديث من كتاب العبقات.

كما و رواه الإماميّة في كتبهم و أسانيدهم المتكرّرة عن الباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السّلام، عن آبائهم عليهم السّلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالأسانيد الأخر عن أمير المؤمنين عليه السّلام و عمر و أبي ذرّ و جابر و أبي سعيد و زيد بن أرقم و زيد بن ثابت و حذيفة بن أسيد و أبي هريرة و غيرهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما في غاية المرام «1».

أهل البيت عليهم السّلام عدل القرآن

تضافرت الأدلة من الآيات و الروايات بل و هو ممّا يحكم به العقل أيضا

فضلا عن الإجماع أنّ أهل البيت عليهم السّلام عدل القرآن الكريم، و هما القيمتان

______________________________

(1) انظر علوم القرآن عند المفسّرين: ج 1، ص 204.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 28

المتكاملتان و المتلاحمتان في الجوهر و المضمون، و لا يفصل بينهما مكان أو زمان أو رأي أو مفهوم، و لا يوزّعهما فكر أو تطبيق، شعاعان من نور واحد، و طريقان في هدف واحد، يشتركان معا في إضاءة عقل الإنسان و روحه و قلبه، و يوجّهانه إلى حيث سعادته و بناء حياته و حضارته الحرّة الكريمة، فلو لا القرآن لم يكن للحياة هدى، و لا للإنسان رشد، و لا علق في طرفه نور، و لو لا أهل البيت عليهم السّلام لم يكن للرشد مرشد، و لا للعلم معلم أو تعليم، و لا للنور شعاع أو مصباح. فالقرآن أصل العلم، و أهل البيت عليهم السّلام معرفته و معدنه و بيانه؛ و لذا كان أكثر ما نزل به القرآن ما يرتبط بهم عليهم السّلام من قريب أو بعيد، فبعضه في ولايتهم و مودّتهم و طاعتهم عليهم السّلام، و بعضه في فضح أعدائهم، و بعضه في الأحكام و الفضائل التي لا تصل غايتها و لا تقع مقبولة عند الخالق تبارك و تعالى إلّا إذا اقترنت بمحبّتهم، و وصلت من طرقهم.

فيمن نزل القرآن

1-

عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «نزل القرآن على أربعة أرباع، ربع فينا، و ربع في عدوّنا، و ربع في فرائض و أحكام، و ربع سنن و أمثال، و لنا كرائم القرآن»

«1».

2-

عن عبد اللّه بن سنان قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القرآن و الفرقان قال: «القرآن جملة الكتاب و أخبار ما يكون، و

الفرقان المحكم الذي يعمل به، و كلّ محكم فهو فرقان»

«2».

3- و

عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: «نزل القرآن أثلاثا، ثلث فينا و في عدونا، و ثلث سنن و أمثال، و ثلث فرائض و أحكام»

«3».

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 9، ح 1.

(2) تفسير العياشي: ج 1، ص 9، ح 2.

(3) تفسير العياشي: ج 1، ص 9، ح 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 29

4-

عن محمّد بن خالد بن الحجّاج الكرخي، عن بعض أصحابه رفعه إلى خيثمة قال: قال أبو جعفر: «يا خيثمة، القرآن نزل أثلاثا، ثلث فينا و في أحبّائنا، و ثلث في أعدائنا و عدوّ من كان قبلنا، و ثلث سنّة و مثل، و لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي ء، و لكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات و الأرض، و لكلّ قوم آية يتلونها و هم منها من خير أو شرّ»

«1».

و لا تنافي بين هذه الأخبار؛ لأنّ بناء هذا التقسيم ليس على التسوية الحقيقيّة، و لا على التفريق من جميع الوجوه، بل على أصل التصنيف، فإطلاقه لا ينفي ما عداه لكونه ليس في مقام البيان، و عليه فلا بأس باختلاف الأخبار بالتثليث و التربيع، و لا بزيادة بعض الأقسام على الثلث أو الربع أو نقصه عنهما، و لا دخول بعضها في بعض.

هذا و قد وردت أخبار جمّة عن أهل البيت عليهم السّلام في تأويل كثير من آيات القرآن بهم و بأوليائهم و أعدائهم، حتّى إنّ جماعة من أصحابنا صنّفوا كتبا في تأويل القرآن على هذا النحو، جمعوا فيها ما ورد عنهم عليهم السّلام في

تأويل آية آية، إمّا بهم أو بشيعتهم أو بعدوّهم على ترتيب القرآن، و قد روي في الكافي و في تفسيري العياشي و عليّ بن إبراهيم القمّي و التفسير المسموع من الإمام أبي محمّد الزكي أخبار كثيرة من هذا القبيل «2»، منها ما

رواه في الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (194) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (195) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «3». قال: «هي الولاية لأمير المؤمنين عليه السّلام»

«4».

و

في تفسير الصافي نقلا عن العيّاشي عن محمّد بن مسلم عن أبي

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 10، ح 7.

(2) انظر علوم القرآن عند المفسّرين: ج 1، ص 209.

(3) الشعراء 194- 196.

(4) أصول الكافي: ج 1، ص 412، ح 1. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 30

جعفر عليه السّلام قال: «يا أبا محمّد، إذا سمعت اللّه ذكر قوما من هذه الأمّة بخير فنحن هم، و إذا سمعت اللّه ذكر قوما بسوء ممّن مضى فهم عدوّنا»

«1».

و

فيه عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام سأله عن قول اللّه تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «2».

قال: فلمّا رآني أتتبّع هذا و أشباهه من الكتاب قال: «حسبك كلّ شي ء في الكتاب من فاتحته إلى خاتمته، مثل هذا فهو في الأئمّة عنوا به»

«3».

و قد أشار الفيض الكاشاني (قدّس سرّه) إلى بعض السرّ فيه في تفسيره، فقال: إنّه لمّا أراد اللّه أن يعرّف نفسه لخلقه ليعبدوه، و كان لم يتيسّر معرفته كما أراد على سنّة الأسباب إلّا بوجود الأنبياء و الأوصياء؛ إذ بهم تحصل المعرفة التامّة و العبادة الكاملة دون غيرهم، و كان لم يتيسّر وجود الأنبياء

و الأوصياء إلّا بخلق سائر الخلق ليكون أنسا لهم، و سببا لمعاشهم؛ فلذلك خلق سائر الخلق، ثمّ أمرهم بمعرفة أنبيائه و أوليائه و ولايتهم، و التبرّي من أعدائهم، و ممّا يصدّهم عن ذلك، ليكونوا ذوي حظوظ من نعيمهم، و وهب الكلّ معرفة نفسه على قدر معرفتهم بالأنبياء و الأوصياء؛ إذ بمعرفتهم إيّاهم يعرفون اللّه، و بولايتهم إيّاهم يتولّون اللّه، فكلّ ما ورد من البشارة و الإنذار و الأوامر و النواهي و النصائح و المواعظ من اللّه سبحانه فإنّما هو لذلك، و لمّا كان نبيّنا سيّد الأنبياء و وصيّه سيد الأوصياء لجمعهما كمالات سائر الأنبياء و الأوصياء و مقاماتهم مع مالهما من الفضل عليهم و كان كلّ منهما نفس الآخر صحّ أن ينسب إلى أحدهما من الفضل ما ينسب إليهم لاشتماله على الكلّ، و جمعه لفضائل الكلّ، و حيث كان الأكمل يكون الكامل لا محالة؛ و لذلك خصّ تأويل الآيات بهما، و بسائر أهل البيت عليهم السّلام الذين هم منهما ذرّيّة بعضها من بعض، و جي ء بالكلمة الجامعة التي هي الولاية فإنها مشتملة

______________________________

(1) تفسير الصافي: ج 1، ص 23- 24.

(2) الرعد: 44.

(3) تفسير الصافي: ج 1، ص 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 31

على المعرفة و المحبّة و المتابعة و سائر ما لا بدّ منه في ذلك.

و أيضا فإنّ أحكام اللّه سبحانه إنّما تجري على الحقائق الكلّيّة و المقامات النوعيّة دون خصائص الأفراد و الآحاد، فحيثما خوطب قوم بخطاب أو نسب إليهم فعل دخل في ذلك الخطاب و ذلك الفعل عند العلماء و أولي الألباب كلّ من كان من سنخ أولئك القوم و طينتهم، فصفوة اللّه حيثما خوطبوا بمكرمة أو نسبوا إلى أنفسهم مكرمة يشمل ذلك

كلّ من كان من سنخهم و طينتهم من الأنبياء و الأولياء و كلّ من كان من المقرّبين، إلّا مكرمة خصّوا بها دون غيرهم، و كذلك إذا خوطبت شيعتهم بخير أو نسب إليهم خير أو خوطب أعداؤهم بسوء و نسب إليهم سوء يدخل في الأوّل كلّ من كان من سنخ شيعتهم و طينة محبّيهم، و في الثاني كلّ من كان من سنخ أعدائهم و طينة مبغضيهم من الأوّلين و الآخرين؛ و ذلك لأنّ كلّ من أحبّه اللّه و رسوله أحبّه كلّ مؤمن من ابتداء الخلق إلى انتهائه، و كلّ من أبغضه اللّه و رسوله أبغضه كلّ مؤمن كذلك، و هو يبغض كلّ من أحبّه اللّه تعالى و رسوله، و كلّ مؤمن في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من شيعتهم و محبّيهم، و كلّ جاحد في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من مخالفيهم و مبغضيهم.

و قد وردت الإشارة إلى ذلك في كلام الصادق عليه السّلام في حديث المفضّل بن عمر، و هو الذي

رواه الصدوق طاب ثراه في كتاب علل الشرائع بإسناده عن المفضّل بن عمر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: بم صار عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قسيم الجنّة و النار؟ قال: «لأن حبّه إيمان، و بغضه كفر، و إنّما خلقت الجنّة لأهل الإيمان، و خلقت النار لأهل الكفر، فهو عليه السّلام قسيم الجنّة و النار لهذه العلّة، و الجنّة لا يدخلها إلّا أهل محبّته، و النار لا يدخلها إلّا أهل بغضه».

قال المفضّل: يا ابن رسول اللّه فالأنبياء و الأوصياء هل كانوا يحبّونه و أعداؤهم يبغضونه؟ فقال «نعم» قلت: فكيف ذلك؟ قال: «أما علمت أنّ

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 1، ص: 32

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ اللّه تعالى و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، ما يرجع حتّى يفتح اللّه على يده؟» قلت: بلى. قال:

«أما علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أوتي بالطائر المشوي قال: اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير و عنى به عليّا؟» قلت: بلى. قال:

«يجوز أن لا يحبّ أنبياء اللّه و رسله و أوصياؤهم عليهم السّلام رجلا يحبّه اللّه و رسوله، و يحبّ اللّه و رسوله؟» فقلت: لا. قال: «فهل يجوز أن يكون المؤمنون من أممهم لا يحبّون حبيب اللّه و حبيب رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنبيائه؟» قلت: لا. قال: «فقد ثبت أنّ جميع أنبياء اللّه و رسله و جميع المؤمنين كانوا لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام محبّين، و ثبت أنّ المخالفين لهم كانوا له و لجميع محبّيه مبغضين» قلت: نعم. قال: «فلا يدخل الجنّة إلّا من أحبّه من الأوّلين و الآخرين، فهو إذا قسيم الجنّة و النار».

قال المفضل بن عمر، فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فرّجت عنّي فرّج اللّه عنك فزدني ممّا علّمك اللّه تعالى، فقال: «سل يا مفضل» فقلت: أسأل يا ابن رسول اللّه فعليّ بن أبي طالب عليه السّلام يدخل محبّه الجنّة و مبغضه النار أو رضوان و مالك؟ فقال: «يا مفضّل، أما علمت أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث رسوله و هو روح إلى الأنبياء و هم أرواح قبل خلق الخلق بألفي عام؟» قلت: بلى. قال: «أما علمت أنّه دعاهم إلى توحيد اللّه و طاعته و اتّباع أمره،

و وعدهم الجنّة على ذلك، و أوعد من خالف ما أجابوا إليه و أنكره النار؟» فقلت: بلى. قال: «أ فليس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضامنا لما وعد و أوعد عن ربّه عزّ و جلّ؟» قلت: بلى. قال: «أ و ليس عليّ بن أبي طالب عليه السّلام خليفته و إمام أمّته؟» قلت: بلى. قال: «أ و ليس رضوان و مالك من جملة الملائكة و المستغفرين لشيعته الناجين بمحبّته» قلت: بلى. قال: «فعليّ بن أبي طالب عليه السّلام إذا قسيم الجنّة و النار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و رضوان و مالك صادران عن أمره بأمر اللّه تبارك و تعالى، يا مفضّل، خذ هذا فإنّه من مخزون العلم و مكنونه لا تخرجه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 33

إلّا إلى أهله»

«1».

عن تفسير الإمام العسكري عليه السّلام عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام أنّه قال

«من دفع فضل أمير المؤمنين عليه السّلام فقد كذّب بالتوراة و الإنجيل و الزبور و صحف إبراهيم و سائر كتب اللّه المنزّلة، فإنّه ما نزل شي ء منها إلّا و أهمّ ما فيه بعد الأمر بتوحيد اللّه تعالى و الإقرار بالنبوّة الاعتراف بولاية عليّ و الطيّبين من آله عليهم السّلام»

«2».

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: ما قبض اللّه نبيّا حتّى أمره أن يوصي إلى عشيرته من عصبته، و أمرني أن أوصي، فقلت: إلى من يا ربّ؟ فقال:

أوص يا محمّد إلى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فإنّي قد أثبتّه في الكتب السالفة، و كتبت فيها أنّه وصيّك، و على ذلك أخذت ميثاق الخلائق و مواثيق أنبيائي و

رسلي. أخذت مواثيقهم لي بالربوبيّة، و لك يا محمّد بالنبوّة، و لعليّ بن أبي طالب بالولاية

«3».

و

عن جابر الجعفي عن الباقر عليه السّلام في رواية طويلة قال: «فنحن أوّل خلق اللّه و أوّل خلق عبد اللّه و سبّحه، و نحن سبب خلق، و سبب تسبيحهم و عبادتهم من الملائكة و الآدميين، فبنا عرف اللّه، و بنا وحّد اللّه، و بنا عبد اللّه، و بنا أكرم اللّه من أكرم من جميع خلقه، و بنا أثاب من أثاب، و بنا عاقب من عاقب، ثمّ تلا قوله تعالى: وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (166) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ «4». و قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «5».

فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوّل من عبد اللّه تعالى، و أوّل من أنكر أن يكون له ولد و شريك، ثمّ نحن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»

«6».

فظهر من جميع ما ذكر أنّ حقيقة الدين و روح الأحكام معرفتهم

______________________________

(1) تفسير الصافي: ج 1، ص 24- 26.

(2) تفسير الإمام العسكري: ص 83، ح 46.

(3) بحار الأنوار: ج 26، ص 272، ح 11.

(4) الصافات: 166- 167.

(5) الزخرف: 82.

(6) بحار الأنوار: ج 25، ص 20، ح 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 34

و ولايتهم، و جميع الخلق راجع إليهم، فجميع آيات الكتاب تكون فيهم و ما يتعلّق بهم و بشؤونهم في دلالة اللفظيّة أو اللبيّة أو النقليّة، فتأمل.

لمحة تأريخيّة عن علوم القرآن

لقد أدركت الطلائع المؤمنة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهميّة العلم، و وعت أن الشخصيّة الإسلاميّة عمادها الأساس هو التوحيد، و أنّ طريق التوحيد هو العلم، فانبرت للعلم تنهله، و

ترتاد رياضه، و طلبت العلم ليهديها إلى حقائق الكون، و لتبلغ المراتب السامية في مدارج الرقي الحضاري، و تنافست في مصداق قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «1». و تسابقت كسبا للدرجات العليا عند اللّه تعالى، و نيلا للرفعة و المنزلة السامية لديه ... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «2».

و فهم المسلمون الأوائل البون الشاسع بين الجهل و العلم في اعتبارات القرآن حين ثقفوا قوله تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «3» في الوقت الذي أشاد اللّه تعالى بشهادة أهل العلم على وحدانيّته: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «4».

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النمير العذب و السلسل الرقراق لمختلف العلوم و المعارف، فأحاط به جمع من الصحابة الأجلّاء، يقتبسون منه سناء العلم، و يستضيئون بهداه.

غير أن هذه العلوم القرآنية لم تدوّن جميعها عند تدوين القرآن في العهد الرسالي؛ و ذلك لأسباب عديدة عدّ بعضهم منها ما يلي:

______________________________

(1) الزمر: 10.

(2) المجادلة: 12.

(3) الروم: 60.

(4) آل عمران: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 35

1- وجود الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين المسلمين يوضّح لهم ما أشكل عليهم فهمه، و يبصّرهم بحقائق التفسير، و يوجّههم نحو المقاصد القرآنيّة، فهو ... يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ .... «1».

2- قدرتهم على الفهم المباشر و الاستيعاب الصحيح، لفصاحتهم و بلاغتهم العربيّة الأصيلة؛ و لأنّ القرآن الكريم: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (194) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ

مِنَ الْمُنْذِرِينَ (195) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «2».

3- لعسر الكتابة و ندرة أدواتها و قلّة الكتّاب للتعلّم و التعليم، و بعد أن اختار اللّه سبحانه و تعالى الصادق الأمين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى جواره تباري المسلمون الغيارى على الدين في تدوين العلوم و تصنيفها حسبما توفّرت لديهم من الوسائل و الأدوات، و لعلّ من أهمّ الأسباب التي دفعتهم إلى التدوين:

أ- الرغبة في أن يكونوا مصاديق تتحقّق فيهم إرادة اللّه الأزلية في حفظ القرآن و تخليده بالبحث فيما احتواه من علوم و ما تضمّنه من معارف لما يترتّب على ذلك من هداية و تعليم و تربية.

ب- خدمة الأمّة الإسلاميّة جيلا بعد جيل بإشاعة العلم بينها، و نقله لها دون خطأ أو اشتباه بتدوينه، لا سيّما بعد أن اختلط العرب بغيرهم من الأعاجم.

ج- تزكية ما لديهم من العلم بنشره بين المسلمين، فإنّ في نشره زكاة له.

د- نيل الثواب العظيم في طلب العلم و نشره و ترويجه، حيث رفع اللّه سبحانه درجات العلماء في الدنيا و الآخرة، و جعل طلب العلم في أعلى مراتب المستحبات و المندوبات، و في بعض مراتبه من أهمّ الفرائض

______________________________

(1) آل عمران: 165.

(2) الشعراء: 194- 196.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 36

و الواجبات، كما ظلّل أهل العلم بأجنحة ملائكته، و سخّرهم للاستغفار عنهم و الدعاء لهم كما هو في متضافر الأخبار على تفصيل لا يسعنا المجال لبيانه.

هذا و قد كان مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الرجل الأوّل، و المحرز لقصب السبق في مضمار تدوين القرآن و تفسيره و بيان علومه.

قال في الإتقان: أخرج ابن أبي داود من طريق ابن سيرين قال: قال عليّ عليه السّلام: «لما

مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آليت ألا آخذ عليّ ردائي إلّا لصلاة جمعة حتّى أجمع القرآن».

و كذلك ابن الضريس في فضائله، و ابن أشتة في المصاحف من وجه آخر، و فيه أنّه كتب فيه الناسخ و المنسوخ «1».

و الجدير بالذكر أنّ جمع مولانا أمير المؤمنين القرآن لا يعني أنّه لم يكن مدوّنا، بل كان مدوّنا في الرقاع و العسب و نحوها، و قام أمير المؤمنين عليه السّلام بتدوينه مصحفا، و ذلك بترتيب (الجذاذات) المدوّن عليها و توحيدها.

و المشهور أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أمر أبا الأسود الدؤلي (ت 69 ه) بوضع بعض قواعد اللغة حفاظا على سلامتها، فكان عليه السّلام أوّل من وضع الأساس لعلم إعراب القرآن.

و أمّا في مضمار التفسير فقد جاء: أمّا الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم عليّ بن أبي طالب، و الرواية عن الثلاثة نزرة جدّا «2».

و

عن نصير بن سليمان الأحمسي عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنّه قال: «و اللّه ما نزلت آية إلّا و قد علمت فيما أنزلت و أين أنزلت، إنّ ربّي

______________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن: ج 1، ص 183.

(2) الإتقان في علوم القرآن: ج 2، ص 1227. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 37

وهب لي قلبا عقولا و لسانا سؤولا»

«1».

و

عن الأصبغ بن نباته أنّه عليه السّلام قال في خطبة له: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو الذي فلق الحبّة و برأ النسمة، لو سألتموني عن أيّة آية لأخبرتكم بوقت نزولها، و فيم نزلت، و أنبأتكم بناسخها من منسوخها، و خاصّها من عامّها، و محكمها من متشابهها، و مكيّها من مدنيّها»

«2».

و

عن ابن الطفيل قال: شهدت عليّا يخطب و هو يقول: «سلوني

...

فو اللّه ما من آية إلّا و أنا أعلم أ بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل»

«3».

و فتق الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام سائر العلوم القرآنية و صنّفها، فلقد أملى ستّين نوعا من أنواع علوم القرآن، و ذكر لكلّ نوع مثالا يخصّه، و هو في كتاب نرويه عنه من عدّة طرق موجود بأيدينا إلى اليوم، و قد أخرجه بتمامه العلّامة المجلسي «4» (قده) في الجزء الأربعين من بحار الأنوار.

و ليس عجبا أن ينال الإمام عليّ عليه السّلام هذه المرتبة، و أن يدّخر هذه الكنوز العلميّة، و أن يبلغ هذا الشأن؛ لأنّه العلم الهادي و الحجّة في الخلق.

و من هنا يرى البعض أنّه لا يصحّ فيه ما اشتهر قوله: إنّه عليه السّلام أوّل الصحابة إسلاما، و أقدمهم إيمانا- لأنّ عليّا عليه السّلام هو وصيّ رسول ربّ العالمين، و حجّة اللّه على خلقه، ولد مؤمنا مسلما معيّنا من قبل اللّه تعالى للوصيّة و الخلافة و الإمامة قبل أن يخلق اللّه الخلق- إلّا على نحو الإضافة أو المجاز على ما هو المستفاد من بعض الروايات، كما أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان

______________________________

(1) المصدر نفسه.

(2) الإرشاد: ج 1، ص 35.

(3) بحار الأنوار: ج 40، ص 179، ح 61.

(4) هو المحدث الكبير محمد باقر بن محمد تقي الأصفهاني المشهور بالمجلسي (1037- 1110 ه).

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 38

نبيّا قبل أن يخلق في الحياة الدنيا، و من تلك الأحاديث و الروايات التي ذكرت و هي صريحة في عموم أخذ الميثاق للجميع بالنبوّة و الولاية في عالم الذر «1».

الحديث الشريف: «كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين»

«2».

و في آخر: «كنت حيّا و

آدم بين الماء و الطين»

«3». و كذلك

الحديث القدسي: «لولاك لما خلقت الأفلاك»

«4». إلى غيرها من الروايات و الأحاديث المعتبرة.

و قد ورد في كتاب «إليا» و الذي نشرته دار المعارف الإسلامية في لاهور في باكستان في تموز عام 1951 م تحت عنوان «أسماء مباركة توسّل بها نوح عليه السّلام» حيث عثر العلماء السوفيت في منطقة «وادي قاف» على خشبة قديمة قالوا: إنها تعود إلى سفينة نوح عليه السّلام مكتوب عليها مجموعة من الحروف باللغة السامانيّة، و هي أقدم لغات العالم، و ترجم حروف هذه اللوحة إلى اللغة الإنجليزيّة العالم البريطاني «إيف ماكس» أستاذ الألسن القديمة في جامعة مانشستر، و لا يخفى أنّ «إيليا» و «شبر» و «شبير» هي أسماء باللغة السامانية، و معناها بالعربيّة «عليّ» و «حسن» و «حسين» و قد

جاء في دعاء النبيّ نوح عليه السّلام بعد ترجمته: «إلهي بلطفك و رحمتك و بالذوات المقدّسة محمّد إيليا شبّر شبير فاطمة خذ بيدي، فإنّ هؤلاء الخمسة عظماء يجب احترامهم، و من أجلهم خلق اللّه تعالى هذه الدنيا، إلهي فأمدّني ببركة أسمائهم و أنت قادر على هدايتنا جميعا»

«5».

إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان حافظا و مستودعا لعلوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث

قال عليه السّلام: «كنت أدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّ يوم دخلة، و كلّ ليلة دخلة، فيخليني فيها أدور معه حيثما دار، و قد علم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) انظر أصول الكافي: ج 2، ص 8، ح 1 و 2.

(2) عوالي اللآلئ: ج 4، ص 121، ح 200.

(3) عوالي اللآلئ: ص 124، ح 208.

(4) مفاتيح الغيب:

ص 14.

(5) موسوعة أهل البيت (ع) الكونية: ج 1، ص 233. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 39

أنّه لم يصنع ذلك بأحد غيري ... و كنت إذا سألته أجابني، و إذا سكتّ و فنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آية من القرآن إلا أقرأنيها و أملاها عليّ، فكتبتها بخطّي، و علّمني تأويلها و تفسيرها، و ناسخها و منسوخها و محكمها و متشابهها، و خاصّها و عامّها، و دعا اللّه أن يؤتيني فهمها و حفظها»

«1».

و

عن عبد اللّه بن مسعود قال: استدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام فخلا به، فلمّا خرج إلينا سألناه: ما الذي عهد به إليك؟ فقال عليه السّلام: «علّمني ألف باب من العلم، فتح لي كلّ باب ألف باب»

«2».

و لقد أبان القرآن الكريم عن منزلة أمير المؤمنين عليه السّلام و مقامه في آية المباهلة في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ «3».

فقد أجمع المفسّرون على أنّ المقصود من الأبناء في الآية الشريفة هم الحسنان عليه السّلام، و النساء فاطمة عليها السّلام، و الأنفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ عليه السّلام إلى غيرها من الآيات الشريفة و الروايات المتواترة كما في حديث الثقلين «4» و المنزلة «5».

______________________________

(1) الخصال: ج 1، ص 257.

(2) الإرشاد: ج 1، ص 34.

(3) آل عمران: 62.

(4)

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه

حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» انظر مسند أحمد: ج 3، ص 14.

(5)

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» انظر الكافي: ج 8، ص 107، ح 80. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 40

بعض مفسّري الشيعة

من الصحابة الأوائل في التفسير و التأويل عبد اللّه بن عبّاس بن عبد المطّلب (ت 68 ه). و هو أوّل من أملى في تفسير القرآن الكريم، و قد حكي عن أبي الخير قوله في طبقات المفسّرين عند ذكره ابن عبّاس: فهو ترجمان القرآن و حبر الأمّة، و رئيس المفسّرين «1».

و قال الزركشي: و صدور المفسّرين من الصحابة عليّ ثم ابن عبّاس، إلّا أنّ ابن عبّاس كان قد أخذ عن عليّ عليه السّلام «2».

و قال أيضا كان لعليّ عليه السّلام فيه- التفسير- اليد السابقة قبل ابن عبّاس، و

هو القائل: «لو أردت أن أملي وقر بعير عن الفاتحة لفعلت».

و قال ابن عطية فأمّا صدر المفسّرين و المؤيّد فيهم فعليّ بن أبي طالب، و يتلوه ابن عبّاس رضي اللّه عنهما «3».

و

قد ورد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا لابن عباس بقوله «اللهم فقّهه في الدين»

«4» فخرج بحرا في العلم و حبرا للأمّة.

و من المفسّرين جابر بن عبد اللّه الأنصاري (ت 74 ه) الذي عدّه أبو

______________________________

(1) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 322، الذريعة: ج 4، ص 233.

(2) البرهان في علوم القرآن: ج 2، ص 157.

(3) البرهان في علوم القرآن: ج 1، ص 8.

(4) مناقب آل أبي طالب: ج 1، ص 84.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1،

ص: 41

الخير في طبقات المفسّرين من الطبقة الأولى «1»، و منهم عبد اللّه بن مسعود، و منهم الصحابي الجليل أبي بن كعب، و هو أوّل من صنّف في فضائل القرآن، و هو سيّد القرّاء، و عدّه أبو الخير في الطبقة الأولى من المفسّرين، و هو ممّن جمع القرآن على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «2»، و منهم سعيد ابن جبير التابعي، و هو أعلم التابعين في التفسير، و قال قتادة: كان سعيد ابن جبير أعلمهم بالتفسير «3»، و قال خصيف فيه: كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيّب، و بالحجّ عطاء، و بالحلال و الحرام طاووس، و بالتفسير أبو الحجّاج مجاهد بن جبر، و أجمعهم لذلك كلّه سعيد بن جبير «4».

و ممّن اهتمّوا بعلوم القرآن و عنوا بها: أبان بن تغلب (ت 141 ه)، فهو أوّل من صنّف في القراءة، و دوّن علمها، و أوّل من صنّف في معاني القرآن، و أوّل من صنّف في غريب القرآن، و منهم طاووس بن كيسان (ت 106 ه)، و هو من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين عليهما السّلام، عدّه ابن تيميّة من أعلم الناس بالتفسير، و منهم محمد بن السائب الكلبي من أصحاب الإمام محمّد الباقر عليه السّلام، و هو أوّل من صنّف في أحكام القرآن (ت 146 ه)، و هو صاحب التفسير الكبير، و منهم أبو حمزة الثمالي صاحب الإمام زين العابدين عليه السّلام و قد ذكر تفسيره ابن النديم.

و من المشاهير المهتمّين بعلوم القرآن الفراء يحيى بن زياد فقد صنّف في معاني القرآن، و منهم عليّ بن إبراهيم القمّي، و له كتاب تفسير القرآن،

______________________________

(1) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 323.

(2)

انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 319- 323.

(3) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 322 فما بعدها؛ مجمع البيان: ج 1، ص 7؛ التفسير و المفسّرون: ج 1، ص 102- 103.

(4) التفسير و المفسّرون: ج 1، ص 102- 103.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 42

و عليه المعوّل إلى اليوم؛ لأنّه تفسير بالمأثور عن أهل البيت عليهم السّلام، عاصر الإمام الحسن العسكري عليه السّلام و هو من أعيان القرن الثالث.

و منهم محمد بن أحمد بن جنيد، و هو من الفقهاء الأعاظم، ألّف في الفقه المقارن، و هو أوّل من صنّف في أمثال القرآن. ذكر ابن النديم في الفهرست ما لفظه: كتاب الأمثال لابن الجنيد. و له مصنّفات كثيرة، و هو من معاصري والد الشيخ الصدوق، و منهم العيّاشي محمّد بن مسعود، فله ما يقرب من مائتي مصنّف، منها كتاب التفسير المعروف ب «تفسير العياشي».

و الحسن بن عليّ بن فضال، له كتاب «الناسخ و المنسوخ» و كان من خواصّ الإمام الرضا عليه السّلام، و توفّي سنة (224 ه) و محمّد بن العبّاس بن عليّ المعروف بابن الحجّام، له في كلّ علوم القرآن كتب مفردة، و له كتاب «ما نزل في أهل البيت عليهم السّلام من القرآن» و هو ألف ورقة.

و منهم أبو عليّ الكوفي (ت 346 ه) له كتاب «فضائل القرآن» و منهم ابن جرير الطبري (ت 310 ه) و تفسيره مشهور باسمه.

و منهم ابن عقدة أبو العبّاس، و هو وحيد دهره في حفظ الحديث (ت 333 ه) له كتاب في تفسير القرآن من طريق أهل البيت عليهم السّلام.

و في هذا القرن ازداد ازدهار المؤلّفات، و كثرت المصنّفات، فظهر منها «البرهان في علوم القرآن» و «البيان في

علوم القرآن» للشيخ المفيد محمّد بن النعمان (ت 409 ه) و قيل (ت 413 ه) و كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للسيد الشريف الرضي (ت 406 ه) و كتاب «التبيان في تفسير القرآن» للشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385- 460 ه) و منهم الشيخ رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب (ت 588 ه) له كتاب «أسباب النزول» و كتاب «متشابه القرآن»، و منهم الشيخ أبو الفتوح الرازي له كتاب «روض الجنان في تفسير القرآن» في عشرين مجلّدا، و منهم أمين الدين الطبرسي (ت 548 ه) و قيل (ت 561 ه) صاحب «مجمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 43

البيان في تفسير القرآن» «1».

ثم استمرّ العلماء في إغناء المكتبة الإسلاميّة بصنوف المؤلّفات و الأبحاث المتعلّقة بالقرآن الكريم أمثال زبدة البيان للمقدّس الأردبيلي، و كنز العرفان للفاضل المقداد، و تفسير الصافي للفيض الكاشاني، و الميزان للسيّد الطباطبائي، و غيرها الكثير الكثير المصنّف في هذا الشأن بنحو جامع شامل أو مختصّ بباب أو مجال من المجالات. و لا يزال البحث و التأليف مستمّرا في أصقاع العالم الإسلامي، و العلماء عاكفين على دراسة ما في القرآن الكريم من أصناف المعارف و العلوم، حيث ظهرت بدائع المؤلّفات و نفائس المصنّفات التي كشفت عمّا في القرآن الكريم من ذخائر و كنوز المعرفة و العلم، و هو يمدّ البشريّة بأنوار الهداية و الرشاد، و يدلّهم على الطريق المستقيم و الحياة الحرّة السعيدة الكريمة.

علم التفسير أساس علوم القرآن

التفسير في اللغة الكشف و الإظهار و الإبانة، و في الاصطلاح بيان معاني الآيات القرآنيّة و شأنها و ظروفها بلفظ يدلّ عليه دلالة ظاهرة «2».

و أما التفسير بوصفه علما فهو علم يبحث فيه عن

القرآن الكريم بوصفه كلاما للّه تعالى «3».

فالنظر في القرآن الكريم من حيث كونه كلاما له دلالة و معنى و لله تعالى فيه غرض و قصد، و من أجل بيان هذه الدلالة و شرح المعنى و إيضاح القصد و الإفصاح عن الغرض نشأ علم التفسير الذي تكفّل بتلك الغايات.

______________________________

(1) لمزيد الاطلاع راجع كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام؛ مجمع البيان لتفسير القرآن، مقدّمة الكتاب.

(2) أنظر لسان العرب: ج 5، ص 55، «فسر»؛ مجمع البيان: ج 1، ص 1، كلمة في التفسير؛ دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعية: ج 11، ص 47.

(3) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: ج 11، ص 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 44

و لعلّ على هذا المعنى جاء قوله سبحانه: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «1» و بذلك يختلف عن التأويل؛ لأنّ التأويل من الأول؛ أي الرجوع إلى الأصل كما في مفردات الراغب «2»، و التفسير أعمّ منه، كما و أنّ أكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ و التأويل في المعاني، كتأويل الرؤيا، كما أنّ التفسير أكثره يستعمل في المفردات بينما التأويل في الجمل، مضافا إلى أنّ التأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهيّة، بينما التفسير قد يستعمل في الأعمّ، و لا يخفى عليك أنّ تفسير القرآن و العلم بتأويله من أشرف الصناعات و أسمى المعارف، و ذاك لما ثبت في المنطق من أنّ الصناعات الحقيقيّة إنّما تتشرّف بأحد ثلاثة أمور:

الأول: شرف موضوعاتها، و هو المشهور الغالب في مختلف العلوم، كما قالوا بأشرفيّة علم الكلام على الفقه، و الثاني على الأصول؛ لكون الأوّل يبحث في موضوع المبدأ و المعاد، و هما يعودان إلى الخالق تبارك و تعالى، و في العرف يقولون: الصياغة أشرف

من الدباغة؛ لأنّ موضوعها الذهب و الفضّة، و هما أشرف من جلد الحيوان المذكّى أو الميتة الذي هو موضوع الدباغة.

الثاني: شرف أغراضها و غاياتها، كما شرّف علم الطب على غيره؛ لكونه يهدف إفادة صحّة الإنسان و سلامته، و الإنسان أشرف مخلوقات اللّه سبحانه، و كما شرّف علم الفقه على غيره؛ لكونه يهدف الرفعة بالإنسان إلى الكمالات المعنويّة العالية. و فيه قد قيل:

موضوعه فعل المكلفيناغايته الفوز بعليينا «3».

الثالث: شرف معلومه، و بعضهم أضاف شدّة الحاجة إليه؛ لوقوع مسائله كثيرا في محلّ حاجة العالم و استنفاد أغراضه.

______________________________

(1) الفرقان: 34.

(2) مفردات الراغب: ص 99، «أول».

(3) انظر الذريعة: ج 7، ص 213.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 45

و هذا ما حازه جميعا علم التفسير؛ و ذلك لأنّ موضوعه كلام اللّه سبحانه و تعالى الذي هو ينبوع كلّ حكمة، و معدن كلّ فضيلة، و مخزن العلوم و المعارف، و غرضه هداية الناس إلى التي هي أقوم في الدنيا و الآخرة.

كما أنّ معلومه ما أودعه اللّه سبحانه من قوانين و معان و أسرار في عالمي التكوين و التشريع، فعلم التفسير هو من أجلّ العلوم قدرا؛ لأنّه الموصل إلى فهم مراد الباري عزّ و جلّ في كتابه، و معرفة أحكامه في وحيه و تنزيله، و ما فرضه على عباده، و هذه الغاية من أشرف الغايات و أحسن الطرق لنيل السعادات.

هذا و قد نشأت للتفسير أساليب و مذاهب، و دوّنت للمفسّرين شرائط و آداب، و صار المفسّرون طبقات.

و لأهمّيّة الدور الذي يمارسه علم التفسير صار هذا العلم أساسا لكافة العلوم و أهمّها، و ما من علم إلا و يعوّل عليه، و لقد بيّن العلماء الشروط التي يجب توفّرها في العالم ليكون قادرا

على التفسير، و لعلّ من أهمّها ما يلي:

1- اللغة: ليعرف بها شرح المفردات و مدلولاتها بحسب الوضع، فلا يكفي معرفة اليسير منها.

2- النحو: بما أنّ المعنى يتغيّر و يختلف باختلاف الإعراب فلا بدّ من وجود الإعراب لتحديد المعنى المراد من التركيب بناء على معرفة إعرابه.

3- التعريف: و به يعرف المفسّر أبنية الكلم و موازينها و صيغها، فإذا وجد كلمة مهمة استطاع تصريفها، فاستطاع معرفة مادّتها و معناها.

4- الاشتقاق: و هو معرفة المصدر الذي صدرت عنه الكلمة، فالاسم إذا كان من مادّتين مختلفتين اختلف معناه باختلافهما، كالمسيح مثلا: أ هو من السياحة أم من المسح؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 46

5- علوم البلاغة: و بها يعرف المفسّر طريق المعاني، و خواصّ التراكيب.

6- علم القراءات: و به يعرف كيف ينطق بالقرآن، و به كذلك يرجّح بعض وجوه التفسير المحتملة على بعض آخر؛ لتواتر قراءة، أو شهرتها، أو شذوذها.

7- أصول الدين: و هي قواعده المتعلّقة بذات اللّه و صفاته و أفعاله و الإيمان به و ما إلى ذلك، و بهذا العلم يستدلّ المفسّر على ما يستحيل بحقه تعالى، و ما يجب، و ما يجوز.

8- أصول الفقه: و به يستطيع أن يدرك وجه الاستدلال على الأحكام فيه.

9- أسباب النزول: إنّ معرفة أسباب النزول توضّح إلى حدّ بعيد مرامي تلك الآية و مدلولها.

10- الناسخ و المنسوخ: يعلم به الآيات المحكمة و الآيات المنسوخة و ما بطل العمل به و ما بقي و هكذا.

11- الحديث النبوي: و ما حديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا تفسير للقرآن و الشريعة، فكم من حديث فسّر القرآن، و كم من مغلق فتحه.

12- علم الموهبة: و هو علم يورثه اللّه لمن عمل

بما علم، كما ربّما يستفاد من بعض الأخبار.

13- علم المنطق: و هو علم مهمّ للغاية يحتاجه المفسّر طريقا إلى الفهم الصحيح، لكونه ضابطا للتفكير.

إضافة إلى كلّ هذا يجب أن يكون المفسّر أديبا، ذكيا، واسع العقل، كبير القلب، تقيّا، صالحا، يخشى اللّه في السرّ كما يخشاه في العلانيّة؛ لأنّ هذه تهيئ في نفسه الاستعداد لشروق الروح و صفاء الضمير، فيفيض الباري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 47

عزّ و جلّ عليه من أنواره و عناياته و ألطافه.

أنواع التفسير

ربما ينقسم التفسير إلى نوعين أساسيين:

الأول: تفسير لفظي لا يتجاوز غالبا حلّ الألفاظ و إعراب الجمل و بيان ما يحتويه نظم القرآن من نكات بلاغيّة و إشارات فنّيّة، و هذا النوع أقرب إلى التطبيقات اللغويّة و البلاغيّة منه إلى التفسير و بيان مراد اللّه سبحانه من هداياته.

الثاني: تفسير المعنى و هو يجاوز اللغة، و يجعل هدفه الأعلى تجلية معاني القرآن و تعاليمه، و حكمة اللّه تبارك و تعالى فيما شرّع للناس في كتابه العزيز على وجه يزكّي الأرواح، و يفتح القلوب، و يرفع النفوس إلى الاهتداء بهديه، و هذا هو الأصل فيه.

هذا و للمفسّرين في مساعيهم مذاهب مختلفة ترجع إلى اختلاف الهدف أو الجهة التي أراد كلّ مفسّر أن يستنطق القرآن و يستهدي بهديه فيها، و لعلّ من أبرز هذه المذاهب ما يلي:

1- التفسير بالمأثور 2- التفسير بالدراية، و المراد بالدراية هنا الاجتهاد بعد معرفة المفسّر كلام العرب و أساليبهم في القول، و بعد وقوفه على أسباب النزول و الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه و نحوها من مسائل و فنون مختلفة.

3- التفسير الباطني 4- التفسير العقلي الفلسفي أو الكلامي 5- التفسير الفقهي 6- التفسير العلمي، و يقصد

به التفسير الذي يتحدّث عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 48

الاصطلاحات العلميّة في القرآن، و يجتهد في استخراج مختلف العلوم و الآراء القائمة على الأسس الفلسفيّة منها، أو العلوم التجريبيّة.

7- التفسير الاجتماعي 8- التفسير الأدبي 9- التفسير التدبري الذي يعتمد غالبا على الفهم العميق و الإدراك المركّز لمعاني الألفاظ القرآنيّة بعد إدراك مدلول العبارات القرآنيّة و فهم دلالاتها فهما عميقا و دقيقا، ثم ربطها بواقع الحياة البشريّة، و فهم أبعادها و جوانبها المختلفة في الآمال و الآلام و الطموحات و المشاعر و التفكّرات.

10- التفسير الشمولي، و هو الذي يجمع بين كلمات اللّه سبحانه و كلمات حججه الطاهرة عليهم السّلام بما لهما من ظلال و تطابق و تكامل في آن واحد، و يجعل من كلّ منهما ميزانا و مفسّرا للآخر؛ لأنّ القرآن و السنّة نور واحد و رسالة واحدة تجلّى أحدهما في كلمات الوحي الإلهي و الآخر في كلمات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة الطاهرين عليهم السّلام.

مضافا إلى اعتماده في ذلك على تجارب الحياة و عبقريّة البشر و طاقاته العقليّة و تدبّره في مختلف المسائل و الشؤون؛ و ذلك للتطابق الجوهري بين النقل و العقل لكونهما يرجعان إلى خالق واحد و نظام واحد و رؤية واحدة.

و بالتالي فإنّ ما يبينانه من مفاهيم و معان هي عين الحقّ و الصواب لا يخالجه خطأ أو جهل أو قصور، و لعلّ هذا أفضل أنواع التفسير و أكمله و أدقّه لما له من خصوصيّة فهم القرآن في أصل معناه أو حدوده أو مصداقه الأكمل على ميزان أهل البيت عليهم السّلام و رؤيتهم، كما أنّ القرآن الميزان الذي يميّز كلامهم عليهم السّلام من غيره

المشتبه على الناس في السند أو في الدلالة، و هذا ما قد نجده جليّا في تفسير المرجع الديني الإمام السيّد محمّد الحسيني الشيرازي (أعلى اللّه مقامه) حيث جمع بين اللغة و العقل و النقل الوارد عن المعصومين عليهم السّلام في فهم معاني الآيات و كشف مضامينها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 49

هذا و لا يخفى عليك أنّ إعجاز القرآن لا ينحصر بألفاظه و ظواهره، بل في رموزه و إشاراته و لطائفه و حقائقه، ففي كلّ سورة بحار من المعارف، و تتجلّى في كل آية منه أنوار من الحقائق و الهدايات، و كيف لا يكون كذلك و قائله عزّ و جلّ لا نهاية لعلمه و كماله، و لا حد لعظمته و جلاله، و ما حصل من التحديدات إنّما هو من مقتضيات الاستعدادات لطفا بالعباد، لا أن يكون تحديدا منه.

و ربّما يتوصّل من يراجع مختلف أنحاء التفاسير أنّه فسّر كلّ صنف من العلماء القرآن بما هو المأنوس عندهم، فالفلاسفة و المتكلّمون فسّروه بمذاهبهم من الآراء الفلسفيّة و الكلاميّة، و العرفاء و الصوفيّة على طريقتهم، و الفقهاء فسّروا ما يرتبط بغرضهم في فقه الأحكام و المسائل، و المحدّثون فسّروه بخصوص ما ورد من السنّة الشريفة من الآيات، كما أنّ الأدباء فسّروه من زاويتهم الأدبيّة، و هكذا أهل المعارف و العلوم الإنسانيّة و الطبيعيّة.

و مع كلّ ذلك يظهر العجب في أنّه كلّما كثر في هذا الوحي المبين و النور العظيم من هذه البيانات و التفاسير فهو على كرسي رفعته لا ينقص، و جماله يزداد على مر العصور تلألؤا و جلالا، فما نجده من مزايا و خصوصيّات لبعض التفاسير إنّما هي قضيّة نسبيّة تعتمد على ذكاء المفسّر وسعة اطّلاعه و

طول باعه في العلوم المختلفة، و هذا ما امتاز به الإمام الشيرازي (قدّس سرّه)؛ إذ له في كلّ فنّ معرفة، و له في مختلف مجالات الثقافة و الفكر رؤية و منهج، و من هنا كانت له إشراقات و إلماعات ربّما لم يصل إليها قبله مفسّر أو يسبقه إليها ذهن عالم أو أديب، كما ستجد ذلك جليّا من خلال مطالعتك لهذا السفر القيّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 50

الطريقة الجديدة في تفسير القرآن الكريم

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 99

إنّ مفسّري القرآن و بالأخصّ القدامى منهم أبلوا بلاء حسنا في تفسير الآيات الشريفة المتعلّقة بالعقائد و الأحكام، و خصوصا مواضيع التوحيد و الشرك و النبوّة و الإمامة و نحوها، و التي تشكّل جوهر الإسلام، و العنصر الذي اتّفقت عليه الشرائع الإلهيّة، لكن الملحوظ أنّ منهج القدماء قام على أساس التسلسل السوري في القرآن؛ إذ أخذوا في تفسيرهم سورة بسورة و آية بآية؛ لذلك لم يبحثوا مجموع الآيات الواردة حول موضوع واحد دفعة واحدة إلّا نادرا، مما أدّى إلى توزيع الكثير من المضامين و المعاني في الشي ء الواحد على مختلف السور و الآيات، فصار الطالب يحتاج إلى المزيد من الجهد و التتّبع حتّى يحصل على الحقيقة كاملة جليّة على الرغم من وجود نقاط قوّة عديدة في هذا النهج.

أمّا طريقة التفسير الجديدة فهي جاءت تكملة لجهود المتقدّمين و إغناء لتجاربهم و دراساتهم لتعطي لنا صورة بالغة الوضوح و مكمّلة لما أعدّه السابقون من المفسّرين، و هذا التفسير يسمّى «التفسير الموضوعي» و هو يعني بتفسير آيات القرآن الكريم حسب الموضوعات و المفاهيم، أي حسب التبويب و التقسيم الموضوعي للقرآن الكريم.

و تتلخّص هذه الطريقة في جمع الآيات المتعلّقة بالموضوع الواحد في مكان واحد، ثمّ

تصنيفها على حسب التسلسل الموضوعي، ثمّ القيام بعمليّة جمع بين الأصناف لاستنباط نظرة واحدة متكاملة و فكرة جامعة شاملة من مجموع هذه الآيات، خصوصا أنّ القرآن الكريم تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1» كما أنّنا نستفيد فائدة أخرى من هذا الجمع لمجموع الآيات المتعلّقة بموضوع معيّن بالإضافة إلى فائدة الوقوف على النظرة القرآنيّة المتكاملة، و هي أنّنا

______________________________

(1) النحل: 90.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 51

ربّما يصعب علينا فهم آية ما من الآيات، أو معرفة الهدف منها لابتعادنا عن عصر الوحي و عدم اطّلاعنا على ملابسات نزول تلك الآية بنحوها الكامل و القرائن الحاليّة أو المقاميّة و نحوها السائدة في المجتمع الإسلامي آنذاك، فيأتي أسلوب «جمع الآيات إلى جانب بعضها» ليساعدنا على رفع بعض الغموض و إزالة شي ء من الإبهام، و تنكشف لنا بسبب هذا الجمع ملامح الحقيقة من خلال غيوم الاحتمالات و سحب الأوهام التي قد تكتنف آية من الآيات؛ و لهذا

قيل: «إنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا»

«1» و

ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام تأكيد لذلك: «كتاب اللّه تبصرون به و تنطقون به، و تسمعون به، و ينطق بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض»

«2».

هذا و التفسير الشريف الذي نتحدّث عنه و إن كان قد جاري طرق القدامى في نهجه و طريقته إلّا أنّه حاول فيه المصنّف (أعلى اللّه مقامه) أن يقترب بعض الشي ء إلى الطريقة الجديدة، فسعى إلى إيجاد ربط بين الآيات المختلفة، و أشار إلى الجهات الأخرى المكمّلة لمعاني الآيات المفسّرة في موردها، و في بعضها أشار إلى عنوانها، و بذلك يكون قد سهّل على القارئ الوصول إلى بعض الحقيقة كاملة، و كان موفّقا في ذلك؛ لأنّ من أصعب ما يجده الكاتب في مثل

هذا النوع من الكتابات أن يجمع المعاني المتعدّدة في عبارة موجزة و مختصرة، خصوصا و أنّه يفسّر القرآن.

القرآن يفسّره الزمان

إنّ تطور الزمن و تقدّم العلوم أكسب المحقّقين و المفكّرين نمطا جديدا من الرؤية، حيث تتأكّد هنا أهمّيّة و ضرورة التفسير الموضوعي، فقد أصبح كلّ فريق من هؤلاء المفكّرين و المحقّقين و بالاعتماد على هذا النوع من التفسير يستخرج من القرآن الكريم مفاهيم و أمورا علميّة جديدة تطابق

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 54، ص 218، تبيين.

(2) نهج البلاغة: ص 192، الخطبة 133.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 52

اختصاصه، فالاستفادة من القرآن الكريم على الأصعدة الاجتماعيّة و السياسيّة و الأخلاقيّة في تصاعد و اتّساع مستمرّين.

و قد استخرج المحقّقون الإسلاميّون المعاصرون بفضل ما أوتوا من الطرق الحديثة المبتكرة في البحث العلمي و الدراسة و التحليل حقائق مهمّة من القرآن الكريم ربّما لم تخطر على بال المفكّرين و المحقّقين القدامى، فأضافوا على علوم القرآن الكثير، كما اكتشفوا من المعاني و المضامين الشي ء الكثير.

إنّ القرآن الكريم كتاب أبدي خالد ينطوي على أبعاد مختلفة، و بطون متنوّعة، بحيث يمكن للعقل البشري المتطوّر أن يكتشف في كلّ مرّة معنى جديدا فيه، و بحيث يمكن لدارسيه من أهل التحقيق أن يكتشفوا في كلّ عصر بعدا جديدا من أبعاده في شتى مجالات المعارف الإنسانية، و من هنا اتّفقت الكلمة على أنّ الاستفادة من القرآن الكريم لا تنحصر بالعرفاء و الفقهاء و الفلاسفة و أرباب العلوم القديمة و الإلهيّات خاصّة.

إنّ استنباط نكات دقيقة و جديدة من القرآن من قبل علماء الطبيعة و الرياضيين و رواد العلوم الإنسانية كعلم النفس و علم الاجتماع و علم فلسفة التأريخ خير دليل و أفضل شاهد على أنّ هذه المعجزة الخالدة

تنطوي على بطون عديدة و أبعاد متنوعة، و أنّها تتّسع لمفاهيم واسعة كثيرة يضيق عن استيعابها أو تحصيلها أيّ تصوّر بشري و ذهن إنساني و برنامج ثقافي عادي مهما ادّعى من الشموليّة و الغزارة و الإحاطة.

إنّ مرور الزمن و تقدّم العلوم لم يمنحا علماء الطبيعة وحدهم إمكانيّة استنباط حقائق و أبعاد مهمّة و جديدة عن القرآن في حقول علوم الطبيعة و خلقة الإنسان و الأرض و السماء و غيرها من الظواهر الطبيعيّة، بل و مكّنا المفسّرين أيضا من استخراج حقائق مهمّة و جديدة من هذا السفر الإلهي الخالد جنبا إلى جنب مع توسّع العلوم و اتّساع نطاق المعارف و تفتّحها و ظهور المناهج العلميّة الإنسانيّة الجديدة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 53

و الآن نحن نشاهد شروع التحقيقات العلمية حول القرآن من طريق أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) و قد كشفت للأجيال الحاضرة و القادمة الكثير من الحقائق و الآفاق التي عجز العقل و الذهن البشري العادي عن اكتشافها و التوصّل إليها بمجرّده، فبواسطة هذا الجهاز العجيب تمكّن العلماء من إزالة الكثير من نقاط الإبهام التي دارت سابقا حول مضامين بعض الآيات و الروايات بسبب قصور الناس عن دركها، و سيأتي زمان أيضا يفسّر لنا الكثير من الغوامض فيهما التي ربّما تصوّرها بعض الناس أنّها شي ء من الغريب أو المستهجن، فإنّ للقرآن الكريم معاني و درجات و صورا و حقائق، و حينما يتّصل عقل الإنسان بنور الوحي يزداد انشراحا و بهاء و تألّقا و معرفة، فتفتح له من العلم أبواب و أبواب.

قال سبحانه و تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1» و قال عزّ من قائل: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ

لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ «2» و

جاء في الحديث الشريف عن الصادق عليه السّلام «كثرة النظر في العلم يفتح العقل»

«3» و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «سلوني عن القرآن فإنّ في القرآن علم الأوّلين و الآخرين، لم يدع لقائل مقالا، و لا يعلم تأويله إلّا اللّه و الراسخون في العلم»

«4» و

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة إلّا أنزله في كتابه، و بيّنه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»

«5» لكن المشكلة في البشر أنفسهم لعجزهم و قصورهم أو تقصيرهم في الإمعان فيه و اكتشاف أسراره و غوامضه، لكن كلما سعى البشر في فهمه و دراسته وصل إلى

______________________________

(1) العنكبوت: 44.

(2) الجاثية: 21.

(3) بحار الأنوار: ج 1، ص 159، ح 32.

(4) بحار الأنوار: ج 24، ص 179، ح 11.

(5) بحار الأنوار: ج 89، ص 84، ح 16؛ تفسير الصافي: ج 1، ص 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 54

مطلوبه؛ لأنّ القرآن كتاب هدى و نور، و من الهدى الإيصال إلى المطلوب.

و لعلّ ممّا يؤيّد ذلك ما ورد في بعض الأخبار من أنّ القرآن الكريم يفسّره الزمان، و الذي قد يكون من معانيه أمور:

1- أنّ القرآن الكريم صالح لكلّ عصر و زمان، و يتناسب مع أيّ تطوّر حضاري و علمي و تأريخي، بل هو الأساس في دعم أيّ حضارة و أيّ مدنيّة مؤمنة بأهداف إنسانيّة، و يعطيها الروح و الديموميّة.

2- أنّ تطوّر العلم و التكنولوجيا الحديثة كشف الكثير من الحقائق القرآنيّة، و لعلّ من ذلك أنّ الشمس وردت في القرآن الكريم (33) مرّة و بمعان فلكية رائعة تحكي الحقيقة العلميّة بكلّ وضوح، و لعلّ

أهمّها تلك الآيات التي تتحدّث عن حركتها أو حركاتها الكثيرة و بأسلوب علمي جمالي يخلب الألباب ... و تلك الآيات التي تتحدث عن هرم الشمس و شيخوختها و موتها في آخر الأمر كبقيّة المخلوقات التي نشرها اللّه تعالى في كونه الكبير ... وردت الشمس كما وردت بقيّة الأجرام الكونيّة و الظواهر السماويّة الأخرى ضمن أسلوب و هدف القرآن ككلّ، و هو الهداية و إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم و الحياة؛ و لأنّ القرآن ليس كتابا علميّا خاصّا لم يتعرّض إلى قطرها، و لا إلى حجمها، و لا إلى كثافتها، و لا إلى درجة حرارتها أو جاذبيّتها، و لا لأي رقم علمي محدّد ممّا تتعرّض له الدراسات الكونيّة المعاصرة. و لكن يمكن لقارئ القرآن و الباحث في الآيات الكونيّة أن يحصل على معلومات ممتازة عن الشمس لكن في حدود، و يمكن أن يأتي باحث آخر و يلتقط معلومات أخرى و ضمن حدود معيّنة أخرى، و يبقى الباحثون الجادّون غائصين في بحر القرآن كلّ يلتقط ما يستطيع من لآلئه، مستفيدين من علوم عصرهم، فهي أضواء إضافيّة تنير الطريق للغوص في طرق الشمس و الآيات الكونيّة الأخرى الزاخرة في القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 55

الكريم «1». فإنّ ما يتوصّل إليه العلماء في مجال الفلك في هذا العصر الحديث الملي ء بالاكتشافات الباهرة حول هذا الجرم السماوي هو يؤكد و يؤيّد يوما بعد آخر ما ذكره ديننا الإسلامي حول الشمس في جميع خصوصيّاتها.

3- أنّ عقول البشر في تطوّر و نموّ، و الحياة سائرة نحو المزيد من العلم و المعرفة، و التجارب تتراكم على كشف الكثير من الأسرار، و كلّما تطوّر الإنسان توصّل إلى مراق و

آفاق جديدة في القرآن لم يكن قد وصلها من قبل، بل لم يكن يدركها لقصوره و عجزه، فكلّما تطوّر الزمن و تطوّر معه الإنسان توصّل إلى حقائق و أبعاد جديدة في فهم الآيات، و استنار بهديها، فكلّ جيل منهم يختلف عن السابق كما سيختلف عن اللاحق حتّى تكتمل العلوم باكتمال الإنسان في عصر ظهور ولي اللّه الأعظم (عجل اللّه فرجه الشريف)، فحينئذ يصل إلى درجات سامية من المعرفة و الفهم و الإدراك.

هذا التفسير

مهما كانت الدوافع الكامنة وراء كتابة التفسير و ضمن الشروط التي ذكرناها فيما تقدّم و التي يجب أن تتوفّر في المفسّر فإنّ ما كتب في هذا المجال يعدّ إنجازا علميّا له خصائصه و مميّزاته، حيث إنّ كلّ تفسير كتب- و ضمن الشروط الموضوعة و المقرّرة لذوي الاختصاص- يضيف معلومات جديدة و فنّا و ذوقا آخر لهذا العلم الذي لا ينضب، لكن تبقى لمن اتّخذ أهل البيت عليهم السّلام نهجا و طريقا و مدرسة و تألّقا و علوّا و ارتفاعا فيما يستنبط من آراء و يبني من أفكار و يؤسّس من رؤي السمة العليا في ذلك، و هذا ما اتّسم به السيّد الراحل أعلى اللّه مقامه، و تميّزت به كتبه الوفيرة، و خصوصا هذا

______________________________

(1) موسوعة أهل البيت الكونية: ج 2، ص 352.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 56

التفسير، حيث زانته من ضمن ما زانته اعتماده المطلق على ما ورد منهم عليهم السّلام، مسلّما لهم، منقادا إليهم فيما يقولون و يعملون و يهذّبون، و هذه سمة لا ينالها إلّا الفائزون الناجحون، و العالمون الصادقون؛ لأنّهم صلوات اللّه عليهم باب اللّه الذي منه يؤتى، و هم عيبة علمه، و حبلة المتين، و صراطه المستقيم، و عندهم

عليهم السّلام جوامع الكلم و العلم كما

ورد عن ابن عبّاس أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «أعطاني اللّه خمسا، و أعطى عليا خمسا، أعطاني جوامع الكلم، و أعطى عليا جوامع العلم»

«1».

و

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّا أهل بيت عندنا معاقل العلم و أبواب الحكم و ضياء الأمر»

«2».

و

عن الصادق عليه السّلام قال: «عندنا أهل البيت أصول العلم و عراه و ضياؤه و أواخيه»

«3» «4».

فالاعتماد عليهم صلوات اللّه عليهم يكشف الكثير من الحقائق و المعارف مع تطوّر الزمن و الاكتشافات؛ حيث أشاروا صلوات اللّه عليهم و بيّنوا جميع الأمور للبشريّة، و بقي علينا أن نجدّ أكثر و نسعى لإظهار هذه الحقائق و الاغتراف من منهلهم العذب، و هذا لا يأتي إلّا بالمعرفة التامّة لأهل البيت عليهم السّلام، معرفة المؤمنين بهم و بمقاماتهم السامية و المستسلمين في مدرستهم بكل خشوع و انقياد؛ و ذلك لأنّ العلم نور يقذفه اللّه سبحانه في قلب من يشاء، و ليس ذلك إلّا من تنوّر بمحبّتهم عليهم السّلام، و تواضع لعظمتهم، و اقتدى بهم، و تعلّم في مدرستهم، و

قد ورد عن الصادق عليه السّلام: «فمن عرف

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 8، ص 28، ح 31.

(2) بحار الأنوار: ج 26، ص 30، ح 42.

(3) الأخيّة و الآخيّة- بالمد و التشديد- واحدة الأواخي: عود يعرّض في الحائط، و يدفن طرفاه فيه، و يصير وسطه كالعروة تشدّ إليه الدابّة. أي بنا يشدّ و يستحكم أمر الدين و لا يفارقنا علمه. انظر لسان العرب: ج 14، ص 23، «أخا»؛ بحار الأنوار: ج 2، ص 214، ح 3.

(4) بحار الأنوار: ج 26، ص 31، ح 44. تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 1، ص: 57

من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم واجب حقّ إمامه وجد طعم حلاوة إيمانه، و علم فضل طلاوة إسلامه؛ لأنّ اللّه تبارك و تعالى نصب الإمام علما لخلقه، و جعله حجّة على أهل موادّه و عالمه، و ألبسه اللّه تاج الوقار، و غشّاه من نور الجبّار، يمدّ بسبب إلى السماء ... إلى أن قال: حجج اللّه و دعاته و رعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد، و تستهلّ بنورهم البلاد، و ينمو ببركتهم التلاد ... فليس يجهل حقّ هذا العالم إلّا شقي، و لا يجحده إلّا غوي، و لا يصدّ عنه إلّا جريّ على اللّه جلّ و علا»

«1».

و

في حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال «يا سلمان، من عرفهم حقّ معرفتهم و اقتدى بهم ... فهو و اللّه منّا، يرد حيث نرد، و يسكن حيث نسكن ...»

«2» و إلى ذلك

أشار الإمام الصادق عليه السّلام بقوله: «ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين و لم تعلموه و لم تفهموه فلا تجحدوه، و ردّوه إلينا»

«3».

و

عن الإمام الباقر عليه السّلام «هم و اللّه نور اللّه الذي أنزل، و هم و اللّه نور اللّه في السماوات و في الأرض»

«4».

و

عن أبي ذرّ (رضوان اللّه عليه) قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول

«خلقت أنا و عليّ بن أبي طالب من نور واحد»

«5».

و

في رواية أنّهم جميعا عليهم السّلام من نور اللّه الأعظم

«6».

كما أنّ علمهم عليهم السّلام و ورثوه من النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

فعن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إنّ

عليّ بن أبي طالب كان هبة اللّه

______________________________

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 203- 205، ح 2.

(2) إلزام الناصب: ج 2، ص 333.

(3) بحار الأنوار: ج 25، ص 364، ح 1.

(4) أصول الكافي: ج 1، ص 194، ح 1.

(5) بحار الأنوار: ج 15، ص 11، ح 12.

(6) انظر إرشاد القلوب: ج 2، ص 404. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 58

لمحمّد، و ورث علم الأوصياء و علم من كان قبله»

«1».

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث جاء فيه «و ربّ الكعبة و ربّ البيت- ثلاث مرّات- لو كنت بين موسى و الخضر عليهما السّلام لأخبرتهما أنّي أعلم منهما، و لأنبأتهما بما ليس في أيديهما؛ لأنّ موسى و الخضر عليهما السّلام أعطيا علم ما كان و لم يعطيا علم ما هو كائن، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطي علم ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، فورثناه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وراثة»

«2».

فمن هنا كانت مدرسة أهل البيت عليهم السّلام هي الأولى و الأخيرة في هداية البشر و نقلهم إلى شاطئ الأمان، و التأريخ هو خير دليل و شاهد على ذلك.

و أعظم مدرسة للإسلام كانت مدرسة الإمام الصادق عليه السّلام حيث كانت جامعة كبري شملت كلّ العلوم و الفنون و المعارف، و قد خرّجت الكثير من العلماء الذين قدّموا للبشريّة و الحضارة الإنسانيّة بكلّ إخلاص و تفان الشي ء الكثير.

و الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام هو سادس أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، و قد تهيّأت له عليه السّلام الظروف السياسيّة في نشر علومهم و تأسيس دعائم العلم في مختلف المجالات حتّى

أقام تلك الجامعة العظيمة التي لا زالت إلى يومنا هذا تخرّج الفطاحل من العلماء ممّن ينتسبون إليها.

فإنّ الذي يتتبّع كتب الرجال و تأريخ الأعلام يجد أنّ لعلماء الشيعة الذين ورثوا علوم أهل البيت عليهم السّلام دورا أساسيا و مهمّا في تأسيس فنون المعرفة، حيث تقدّموا في تأسيس العلوم في الصدر الأوّل، و برعوا، و سادوا في حضارتهم و علمهم على جميع المعاهد و الجامعات، و علومهم مبنيّة على أسس الأخلاق و مكارمها التي ورثوها عن آل محمّد صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين. و كما يقال: إنّ المحروم من حرم منهم عليهم السّلام.

______________________________

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 224، ح 2.

(2) بحار الأنوار: ج 17، ص 144- 145، ح 32.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 59

السيد صاحب التفسير أعلى اللّه مقامه

إنّ الأمم الحيّة و الشعوب اليقظة في كلّ عصر من عصور التأريخ و على امتداد الأرض المعمورة تعرف بتقديرها للعلم و احترامها للعلماء و الأخذ عنهم و الاغتراف من مناهلهم العذبة الرويّة، فهم المقياس الحقّ لحياة الأمم و الشعوب أو موتها. و أمّتنا الإسلاميّة أشرف الأمم، و يزخر تأريخها بالمكانة السامية التي يحتلّها العلماء في نفوس الناس، و المنزلة الرفيعة التي بلغوها في قلوبهم، و بالأخصّ العلماء الذين تخرّجوا من تلك المدرسة العظيمة التي بنى أساسها الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام، كما و نجد القرآن الكريم يعطي العلماء منزلة تجعلهم في مصافّ الملائكة المنزّهين فيقول:

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» كما نراه جلّ و علا يمنحهم منزلة الخشية منه سبحانه و تعالى على سبيل الحصر، فيقول جلّ و علا: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ

مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2».

و هو بعد هذا و ذاك يرفعهم درجات فيقول: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «3» إلى كثير من الآيات القرآنيّة التي تكشف عن مكانة العلماء عند اللّه سبحانه و تعالى.

و هكذا برز العلماء، و خرّجت الحوزات العلميّة المقدّسة الفطاحل منهم الذين تركوا آثارا و تراثا استقوه من فكر و نهج أهل البيت عليهم السّلام، ينير البشريّة جمعاء، و من بين هؤلاء النوادر الذين أثروا المكتبة الإسلاميّة بمؤلّفاتهم و علمهم صاحب هذا التفسير العظيم «تقريب القرآن إلى الأذهان» المرجع الديني الكبير الإمام السيّد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى اللّه

______________________________

(1) آل عمران: 19.

(2) فاطر: 29.

(3) المجادلة: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 60

درجاته)، المولود في عام 1347 ه و المتوفّى في شوال عام 1422 ه، فهو (رضوان اللّه عليه) من أجلى مصاديق

قول النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شي ء»

«1» و ما ذاك إلّا لأنّ العالم في الأمّة كالروح من الجسد، و ما هو إلّا المثل الصالح في زهده و ورعه و تقواه و السمات الإسلاميّة الفاضلة و الصفات الحميدة، جليل القدر، عالي المنزلة، جمع إلى جانب العلم الغزير الأخلاق الفاضلة، و السلوك الحسن، و السيرة العطرة، و حبّ الناس، و علوّ الهمّة، و مكارم الأخلاق.

و بعد ذلك كلّه فهو حامل هموم المسلمين و هدفيّة الإسلام، و قرنها بشجاعة و إقدام فائقين يعجز عن بلوغهما الأبطال الأشاوس في مختلف المجالات و الأصعدة. لقد تميّز الإمام الشيرازي (قدس سرّه) بفكره المعطاء الغني المختصر بالتجارب، و المفعم بالنضج و النظرة الواقعية إلى الأمور، و الأصيل المستلهم من الكتاب

الكريم و السنّة المطهّرة، و الذي يعالج شتى القضايا الحيوية و مشاكل العصر.

و رغم الحياة الصعبة و القاسية جدا التي كان يعيشها الإمام الراحل (قدس سرّه) طوال حياته الشريفة و الظروف التي ألمّت به من كلّ حدب و صوب من البعيد و ربّما القريب كان كما قالوا عنه: نادرة التأليف في التأريخ و سلطان المؤلفين «2»، حيث عرف بكثرة الإنتاج و العطاء الفكري و العلمي و التربوي، حيث تنوّعت مؤلّفاته من حيث المادّة العلميّة، و بلغت ألفا و ثلاثمائة كتاب و كتيب و موسوعة، فشملت الفقه و الأصول و الفلسفة و الكلام و البلاغة و النحو و سائر العلوم الحوزوية من جهة، و السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و النفس و الحقوق و الإدارة و القانون و البيئة و الأخلاق و التأريخ و الطبّ و إدارة

______________________________

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 38، ح 2.

(2) لقب أطلقه عليه الاتّحاد العامّ للكتّاب العرب بدمشق الشام خلال الحفل التأبيني الذي أقيم في سوريا في الحوزة الزينبيّة (مجلة النبأ العدد 66- 1423 ه ص 168).

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 61

الدولة الإسلاميّة و سائر العلوم الإنسانيّة المستحدثة من جهة أخرى، حتى عجزت أصابعه عن الإمساك بالقلم من كثرة ما كتب.

فكان أعلى اللّه مقامه يستعين أحيانا بجهاز التسجيل ليحفظ ما يريد كتابته، ثمّ بعد ذلك يكتب على الورق، و كان (طاب ثراه) لا يضيّع لحظة واحدة من عمره الشريف دون الاستفادة منها، و لا يبالغ من يقول: إنّه كان يعمل في اليوم أكثره، و من العمر كلّه أو جلّه؛ إذ كان طاقة متفجّرة من النشاط و الحيويّة و العمل، و لا يعرف الكلل أو الملل، و لا يعيقه عن ذلك

مرض أو همّ أو ألم، و أرقى ما في ذلك كلّه أنّه كان مجاهدا مخلصا، و أبيّا نزيها، لا يطلب فيما يقدّم أو يعطي و يجود إلّا رضا اللّه سبحانه و رضا أوليائه الطاهرين عليهم السّلام.

و في ذلك قال عنه أخوه المرجع الديني سماحة آية اللّه العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) الذي رافقه في جلّ حياته، و شاركه في همومه و مهامّه في كلمته التي ألقاها بعد رحيله: و كان رحمه اللّه يمتاز بخصائص جمّة أهمّها خصلتان بارزتان كانتا في حياته (رضوان اللّه عليه)، و كنت ألمسهما بشكل دقيق:

الأولى: هي إخلاصه التامّ و المطلق لله تعالى و لأهل البيت عليهم السّلام، و خير مثال للواقع العملي لذلك تأسيسه العشرات من المؤسّسات و المساجد و الحسينيّات و المدارس و المكتبات و دور النشر و في مختلف أنحاء العالم، و لم يسمّ أيا من هذه باسمه، و قد أصرّ الكثيرون من الذين تبرّعوا أن يذكروا اسمه، فكان يرفض ذلك رفضا شديدا و يقول: أنا ذاهب و اللّه سبحانه و أهل البيت عليهم السّلام باقون، فالأفضل أن تسمّى هذه المراكز جميعا باسمهم عليهم السّلام؛ و لذلك فإنّه قد سمّى جميع هذه المراكز و المؤسّسات و الحسينيّات و دور النشر و غيرها بأسماء اللّه سبحانه و أسماء أهل البيت عليهم السّلام.

الثانية: نشاطه المتواصل و روحيّته العالية، حيث إنّ المرحوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 62

الراحل (قدس سرّه) كان قبل وفاته بلحظات ملي ء بالحيويّة و النشاط رغم مرضه، و لم يتوان عن أيّ شي ء، و إذا أردنا تشبيهه بالبركان فإن ذلك فيه خطأ؛ لأنّ البركان ينفجر ثم يبرد و يهدأ، أمّا بالنسبة للمرحوم الإمام (قدس سرّه) فقد

كان لم يهدأ لحظة، فكان يمسك القلم حتّى إبان لحظات عمره الأخيرة، و يستفيد من أيّ فرصة تسنح له بالتأليف و الكتابة و تشجيع الآخرين على أعمال الخير و الاستفادة من فرص الحياة، و كان حتّى في كتابته يستخدم الدقّة في انتخاب نوع القلم الذي يسهل معه الكتابة اختصارا للوقت «1».

و كان (قدس سرّه) بارعا بعلوم التفسير، و مطّلعا على ما كتب في هذا المضمار، و قد نقل عن بعض تلامذته «2» أنّه كان حاضرا في مجلس مع الإمام الراحل (قدس سرّه) و وجّه إليه أحد الحاضرين سؤالا مفاجئا حول تفسير إحدى آيات كتاب اللّه العزيز، فأجابه الإمام الراحل (قدس سرّه) ذاكرا عشرة آراء لعشرة كتب من أشهر التفاسير الموجودة من دون استعداد أو تحضير مسبق، و قد حدث مثل هذا كثيرا للسيّد (قدس سرّه).

و هذا الكتاب الذي بين يديك هو حصيلة جهد مبارك قام به السيّد المؤلّف (قدس سرّه)، حيث ساهم به في إغناء التراث الحضاري و المكتبة الإسلاميّة، و لا يبالغ من يقول فيه: إنّه قليل النظير في خصوصيّاته و مزاياه، ممّا سيجعله مصدرا كبيرا، من أهمّ مصادر التفسير في مختلف شؤون المعرفة، و قد تحدّث السيّد (قدس سرّه) عن كتابه للمرحوم آية اللّه السيّد أحمد الإمامي (طاب ثراه) قائلا:

عند ما كنت في كربلاء و حينما كنت مشغولا في كتابة تفسيري هذا «تقريب القرآن إلى الأذهان» رأيت في المنام نورا يخرج من بيتنا، و يسطع في السماء، و حينما استيقظت أيقنت أنّ هذا النور هو تفسير القرآن الكريم،

______________________________

(1) مترجم عن كتاب قصص و خواطر (باللغة الفارسيّة): ج 1، ص 108.

(2) الناقل فضيلة الخطيب الشيخ علي حيدر المؤيد دام عزّه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1،

ص: 63

ففرحت و سألت اللّه عزّ و جلّ أن يتقبّل منّي العمل.

قلنا فيما تقدّم: لكلّ تفسير مزاياه و خصوصيّاته، لكن امتاز هذا التفسير الشريف بجملة أمور قلما حظي بها غيره منها:

أولا: أنّ السيّد المؤلّف (قدس سرّه) إضافة لكونه مرجعا و زعيما دينيّا متميّزا فإنّه يعدّ أحد رجالات الفكر المعاصرين الذين نظّروا للعالم البشري في مجالات مختلفة، و طابقت تنظيراته و رؤاه الواقع في العديد من الموارد و الحقول، و هذا ما يجده المتتبّع في كتبه القيّمة من رؤي حديثة تتناسب مع التطوّر الحضاري و الفكري المعاصر، حيث إنّه (طاب ثراه) جمع بين الفكر الجديد و القديم في التفسير، فانعكس ذلك على فهمه للآيات الشريفة في بيانه و شرحه لمضامينها، جامعا بين أصالة الأمس و حداثة اليوم و تطلّعات المستقبل، و قد وفّق في ذلك إلى حدّ كبير، و هذا أحد دواعي خلود هذا التفسير و عظمته التي ستكشفها الأيّام.

ثانيا: اعتمد السيّد المؤلّف (قدس سرّه) بشكل أساسي في تفسيره على منهجيّة أهل البيت عليهم السّلام، و على الأخبار و الآثار المرويّة عنهم عليهم السّلام، فنأى بعيدا عن شبهة التفسير بالرأي، و نزّه كلام اللّه عن آراء البشر.

ثالثا: وضوح في الرؤية و نضوج في الأفكار، و ردّ للشبهات التي أثيرت أو قد تثار بما يملأ الخافقين علما و يقينا هنا و هناك، و خصوصا ما يتعلّق بالآيات الواردة بشأن أهل البيت عليهم السّلام.

رابعا: أنّ أسلوب الكتاب و طريقة بحثه تمتاز بأنّها بعيدة عن العبارات المنمّقة و الاصطلاحات المعقّدة، حيث إنّه بيّن المعاني بأسهل الألفاظ و الكلمات، كما أنّه امتاز بالاختصار و شموليّة المطلب، و هذه الصفات جعلته سهل الفهم على جميع المستويات، فكان سهلا ممتنعا على ما

يعبّرون، ممّا سمح لكلّ بيت و أسرة مهما كان مستواها و مستوى أفرادها أن تتّخذه منارا و معلّما و مربّيا يغنيها عن الكثير من المصادر و الكتب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 64

خامسا: التعرّض في تفسير الآيات الكريمة إلى الدقائق العلميّة و الأحكام المتعلّقة بها و بيان مفرداتها بشكل دقيق و مفصّل، كما أنّه اعتمد على جانب التدبّر في الآيات و استنباط النتائج و قراءة ما وراء الألفاظ بالاعتماد على نهج أهل البيت عليهم السّلام، و هذه سمة هامّة قلّما أتّسم بها تفسير.

سادسا: الربط الوثيق بين القرآن و الحياة في مختلف المجالات الشخصيّة و العامّة و العباديّة و الاجتماعيّة و السياسيّة و الاقتصاديّة و غيرها، و هذه محاولة كبيرة تعيد الناس إلى القرآن، كما ترتفع بتعامل الناس معه إلى ما أراده اللّه سبحانه له أن يكون نورا و هدى و قائدا و مرشدا و مربّيا و معلّما في مختلف المجالات و الأصعدة، حيث دعا السيّد المؤلّف (قدس سرّه) إلى:

1- الأمّة الواحدة لتحرير بلاد المسلمين من التفرقة العنصريّة و القوميّة و الإقليميّة مستندا في ذلك إلى قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ «1» و قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «2» و علّل أفضليّة الأمّة الإسلاميّة و أسباب رقيّها بخصال ثلاث هي:

أ- الأمر بالمعروف ب- النهي عن المنكر ج- الإيمان بالله سبحانه إيمانا صحيحا.

بلحاظ أنّ المجتمع إذا خلا عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يهوي نحو السفل؛ لما جبل عليه من الفساد و الفوضى و الشغب، فإذا تحلّى

______________________________

(1) الأنبياء: 93.

(2) آل عمران: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 65

المجتمع بهذين الأمرين أخذ يتقدّم نحو مدارج الإنسانيّة و الحضارة

الحقيقيّة حتى يصل إلى قمّة البشريّة، و بلحاظ أنّ الصحيح رأس الفضائل لكونه إدراكا لأعظم حقيقة كونية من جهة، و لكونه محفّزا شديدا نحو جميع أنواع الخير، و منفّرا قويّا من جميع أصناف الشرّ من جهة أخرى، و هذه في مجموعها تكوّن أهمّ العناصر التي تقوم عليها سعادة البشريّة و أمنها و سلامها.

2- الأخوة الإسلاميّة ليزيد في أواصر المجتمع الواحد، و يرفع الحواجز الطبقيّة أو الفئويّة و نحوها، مستندا إلى قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1» و كذلك قوله سبحانه: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً «2».

3- الحرّيّة الإسلاميّة لكونها غاية البعثة و هدف الرسل و الأنبياء عليهم السّلام، و خصوصا خاتمهم و سيّدهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مستندا إلى قوله تعالى: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «3» فإنّ النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلّص الناس من أغلال الاستبداد و الجاهليّة بصورها المختلفة، و في هذا قال (قدس سرّه): أغلال: جمع غلّ، و هو ما يقيّد الإنسان يده أو رجله أو غيرهما، فإنّ من خواصّ الإسلام أنّه يطلق الحرّيّات المعقولة، فالسفر و الإقامة و التجارة و الزراعة و الصناعة و البيع و الاشتراء و الكلام و الكتابة و التجمّع و غيرها كلّها مباحة لا قيود لها إلّا بعض الشرائط الطفيفة التي هي في صالح المجتمع و الفرد، و لا يعلم مدى ذلك إلّا بالمقايسة إلى الأنظمة و المناهج الدنيويّة التي كلّها كبت و استعباد و استغلال «4».

4- الشورى على مختلف الأصعدة و المجالات ابتداء من الأسرة إلى

______________________________

(1) الحجرات: 11.

(2) آل عمران: 104.

(3) الأعراف: 158.

(4) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 9، ص 62، ذيل الآية 158 من

سورة الأعراف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 66

الدولة و نظام الحكم و بالنحو الإسلامي الخاصّ، مستندا إلى قوله تعالى:

وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ «1» و قد ردّ الطرق الغربيّة و نحوها القائمة على أساس غير عادل في الانتخاب «2».

5- اللاعنف طريقا و منهجا للتعامل مع الآخرين من أهل الإسلام أو غيره من الأديان و المذاهب، مستندا لقوله سبحانه: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «3» و قوله عزّ و جلّ: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ «4».

و من الواضح أنّ هذه هي الأسس البارزة لتكوين الحضارة الصحيحة و الدولة الناجحة و المجتمع السعيد. و الظاهر أنّ هذا الربط و التكامل و التطابق بين القرآن و الحياة العامّة قلّما يلحظ في كتب التفسير حتّى الجديدة منها.

سابعا: أنّ من خصائص هذا التفسير كذلك و التي تضفي عليه طابعا متميّزا آخر هو:

أ- في تفسيره للكلمات و الحروف المقطّعة في القرآن الكريم، حيث أجرى استقراء لهذه الحروف و قال في مستهلّ تفسيره عنها: يأتي زمان يدرك الناس هذا الكنز المعنوي، كما أنّه لا يمرّ زمان إلّا و يدرك الناس كنوزا كونيّة، فإنّ العلوم كلّها قوانين وضعها اللّه في الكون، مثل:

قانون جاذبيّة الأرض، و قانون أرخميدس في الماء، و قانون الأطياف في النور و غيرها، و إذا كان رمزا لم يلزم أن يعرفه الكلّ، فإنّ الرموز بين رؤساء الحكومات و كبار أعضاء الدولة في صلاح الناس و إن كان كلّ

______________________________

(1) الشورى: 39.

(2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 25، ص 47، ذيل الآية 39 من سورة الشورى.

(3) البقرة: 209.

(4) آل عمران: 160.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 67

الناس لا يعرفونها، و في ذلك يقول (قدس

سرّه): و هذا رمز بين اللّه و رسوله و الراسخين في العلم «1».

و على الرغم من ذلك فإنّه لم يقف عند هذا السرّ العظيم بين اللّه سبحانه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل حاول أن يظهر في كلّ مورد من موارده بعض غموضه، أو يسلّط الضوء على بعض لغزه، فمثلا في سورة يونس: فسّر حروفها المقطّعة بالتحدّي و الإعجاز؛ لكون «المر» التي تفتح بها السورة تركّب منها القرآن المعجز، فإنّه من جنس كلام البشر لكنه معجز لا يتمكّن أحد أن يأتي بمثله، كما أنّ من جنس المعادن و النبات يتركّب الإنسان لكن لا أحد يقدر على أن يأتي بمثله، و كذلك جميع صنع اللّه سبحانه ... على الاختلاف في أوائل السور «2».

و في سورة هود قال عنها أيضا: إنّها رموز بين اللّه و الخلق «3».

و في سورة يوسف فسّرها بالأخصّ من ذلك، فقال عنها: رمز بين اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالرموز بين رؤساء الحكومات و سفرائها «4».

و في سورة الرعد ذكر أنّ الأقوال في بيان معاني الحروف في فواتح السور تبلغ أربعة عشر قولا «5»، لكنّه قال (قدس سرّه): الظاهر أنّه يمكن الجمع بين كثير منها «6»، و لعلّ جامعها هو الرمزيّة التي مال إليها بين اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه المتيقّن من المعاني.

ب- امتاز تفسيره (قدس سرّه) بالترابط الموضوعي بين معاني الآيات،

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 26، ص 18، ذيل الآية 2 من سورة الأحقاف.

(2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 11، ص 64، ذيل الآية 2 من سورة يونس.

(3) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 11، ص 160،

ذيل الآية 2 من سورة هود.

(4) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 12، ص 110، ذيل الآية 2 من سورة يوسف.

(5) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 13، ص 70، ذيل الآية 2 من سورة الرعد.

(6) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 14، ص 14، ذيل الآية 2 من سورة الحجر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 68

و هذه ميزة قلّما فعلها مفسّر أو وردت في تفسير إلّا في موارد قليلة، فمثلا:

* الآيات (205- 254) من سورة البقرة، تعرّضت إلى مواضع عديدة بعضها يرتبط بأحكام الحجّ، و بعضها بصفات الجاهلين و تعصّبهم، و بعضها بالمنافقين، و بعضها بالمجاهدين، و بعضها بحركة الأنبياء عليهم السّلام في داخل المجتمع و علاقة الناس بهم، و بعضها تعرّض إلى وعود اللّه سبحانه و تعالى للمؤمنين بدرجات الآخرة، و بعضها إلى أسئلة وجّهها المشركون إلى رسوله الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعضها تضمّن السؤال عن جملة من المحرّمات، و بعضها تعرّض إلى جملة من أحكام الأسرة و أحكام النساء و أحكام الولادة و الإرضاع، و بعضها إلى حقيقة الموت و الحياة، و بعضها إلى القتال و الجهاد في سبيل اللّه، و بعضها إلى الإنفاق، و بعضها إلى غير ذلك. هذه العناوين و المواضيع المختلفة التي قد لا تتراءى للناظر بدوا بينها ترابط وثيق يجمعها السيّد (قدس سرّه) بسياق واحد، فيجمع سابقها بلاحقها و بالعكس حتى يحصل من الكلام حديث عن صورة واحدة بكلّ ما يحتفّ بها من قرائن و شواهد تكمّل المعنى و تثير الغرابة و الإعجاب. «1»* و الآيات (63- 65) من سورة المائدة، تعرّضت إلى صفات المنافقين و أهل الكتاب و آثارهم السلبية على المجتمع، و قد امتاز

في تفسيره لها، حيث يوضح ظاهرة الازدواجيّة الثقافيّة عندهم، و الصفات الانحرافيّة الأخلاقيّة الأخرى، و أوجه التشابه بينهم. و كذلك الربط بين قيام الدول و هزيمتها و قوّة التلاحم و التفاهم و ضعف التفرّق و الاختلاف في آيات سورة الأنفال كقوله سبحانه: وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ «2» قال (قدس سرّه): إنّ التنازع يوجب تبديد القوى المعنويّة بالإضافة إلى تبديده

______________________________

(1) و لمزيد الاطّلاع يمكنك ملاحظة الربط العميق في آيات سورة الحجرات و دور الإيمان في تكوين المجتمع المؤمن. انظر سورة الحجرات: الآية 2- 19.

(2) الأنفال: 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 69

و إضاعته للقوى الماديّة، و تذهب ريحكم أي دولتكم، فإنّ الريح بمعناها لغة، و شبّهت بها الدول؛ لأنّ الدولة تشبه الريح لهبوبها و سيطرتها على الأشياء و نفوذ أمرها. يقال: هبت ريح فلان إذا نفذ أمره، و التنازع ليس يقسّم القوى إلى سلب و إيجاب فقط، بل فوق ذلك يضعف القوى الإيجابيّة، فلو فرضنا أنّ طاقة زيد تقدّر بألف مقاتل فإذا خالفه عمرو قدّرت طاقته بخمسمائة حتّى إنّه لو كان وحده بدون مخالف لكان قدر على الألف؛ و ذلك لأنّ الخلاف يحدّ من النشاط، و يضعف من القوى، بخلاف التجمّع فإنّه يزيد الطاقة الألفية إلى الألفين؛ و لذا ثبت في علم النفس أنّ الإنسان إذا رأى خلافا فالأفضل أن يصمّ عن المخالف حتّى يبقى على قواه الذاتيّة، و لا تحدّ من نشاطه الطاقة المناوئة «1».

و مضافا إلى ذلك كلّه أوجد ترابطا موضوعيّا بين تفسير أوّل سورة و آخر سورة من القرآن الكريم، و الترابط بين السور المتسلسلة و الآيات المتسلسلة يجعل سور القرآن و آياته منظومة واحدة مترابطة كجملة واحدة نظّمت

في غاية الإعجاز في اللفظ و المعنى و الإحكام و الإتقان «2».

ثامنا: أورد السيّد المؤلّف (قدس سرّه) أسباب تسمية السور قبل الشروع في تفسيرها، ثمّ بيّن الجو العامّ للسورة و المحور الكلّي الذي تدور حوله آياتها، فعبّر عن بعضها أنّها بشأن التوحيد، و أخرى بشأن الأسرة، و ثالثة بشأن العقيدة، و هكذا، ثم ذكر مائة و عشرين معنى للبسملة في تفسيره هذا، حيث يضيف إليه امتيازا بارزا آخر، فمثلا: في سورة الحمد فسّرها بالاستعانة، و في سورة البقرة علّلها بفرض التعليم و التربية على الابتداء في كلّ عمل أو نشاط بالاسم المبارك؛ لما له من الأثر البالغ في الصبر

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 10، ص 19، ذيل الآية 47 من سورة الأنفال.

(2) انظر التسلسل و الربط بين سور الممتحنة و الصفّ و الجمعة و المنافقون و التغابن و الطلاق و التحريم و الملك و القلم و الحاقّة، و هكذا بين سور النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و الأنفال و التوبة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 70

و الاستقامة و النجاح «1». و في سورة الأنفال شرحها بالعلاقة على إحكام ما قبلها و افتتاح ما بعدها من الآيات «2». و في سورة يونس علّلها بتلطيف الجوّ و إعطاء الإنسان الأمن و الطمأنينة؛ لأنّ الناس اعتادوا أن يروا الظلم و الجور من الكبراء فكيف بأكبر الكبراء؟ لكنه سبحانه ليس كذلك؛ لأنّه رحمان بعباده، رحيم بالمؤمنين منهم، فلا خوف من ظلمه، و لا خشية من جوره «3».

و في سورة النحل جعلها الحد الفاصل بين الإيمان و الكفر و المؤمن و الكافر، حيث يفتتح المؤمن باسم اللّه خالق كلّ شي ء، الجامع لجميع الصفات الكماليّة، خلافا للكفّار و

مواليهم، حيث يفتتحون كتبهم بشي ء في غير لونه، أو يفتتحون بأسامي الأصنام، و قد جرت عادة من بهرتهم المدنية الحديثة أن يقتدوا أثر أولئك، فلا يفتتحون الكتاب إلّا بالمقدّمة أو الإهداء أو الفصل بدون ذكر لاسم اللّه سبحانه إطلاقا «4».

و في سورة هود علّلها بما في الاسم المبارك من الخواصّ المعنويّة على نفس القارئ، و يجعله في حصن وثيق من مساوئ الشياطين و فضائل الأخلاق و محاسنها؛ و لذا نرى أنّ سماع اسم المحبوب يزيد الإنسان نشاطا، كما أنّ سماع اسم المكروه يزيد الإنسان انقباضا بالإضافة إلى أنّ اسم اللّه سبحانه يطرد الشياطين، و يوجب عناية اللّه عزّ و جلّ للذي ذكره، و تركيزا لصفة الرحمة في نفوس الناس، إنّه هو الرحمن الرحيم، فليتخلّق الإنسان بأخلاقه سبحانه «5».

______________________________

(1) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: تفسير سورة الحمد و البقرة.

(2) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 9، ص 109، تفسير سورة الأنفال.

(3) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 11، ص 63، تفسير سورة يونس.

(4) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 14، ص 65- 66، تفسير سورة النحل.

(5) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 11، ص 159، تفسير سورة هود.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 71

و في سورة الرعد علّل الابتداء بالاسم دون الذات؛ لأنّ اللّه سبحانه لا يبتدأ به و إنّما يبدأ باسمه. إنّه اللّه الرحمن الرحيم الذي أظهر صفاته الرحمة و التفضّل لا الانتقام و العقاب و القوّة و العذاب «1».

و في سورة الحجر قال عنها: نستعين بالله الرحمن الرحيم في أمورنا، و نجعله بدء أعمالنا؛ ليكون عونا لنا في ختم العمل، و أن يطبع بطابعه، فإنّ ما لمسته رحمة اللّه العظيم لا يكون إلّا صالحا

باقيا موجبا للسعادة، و لنستمطر شآبيب رحمته فيرحمنا بلطفه و إحسانه «2».

و هكذا يذكر معاني عديدة لأصل البسملة، أو بيانا لفوائدها و أغراضها، و هذه ميزة أخرى من مزايا هذا التفسير العظيم الذي قلّما يحظى بمثله تفسير، حيث يكتفى غالبا بذكر بعض معانيها في أول سورة الحمد ثمّ يوكل إليه في تفسير سائر السور.

تاسعا: تصدّى أعلى اللّه مقامه للإجابة عن جملة من الشبهات التي قد يثيرها البعض تجاه الإسلام في العقائد أو في الأحكام، و لم يتوقّف على بيان المعاني الظاهرة للآيات، و هذا نهج جديد قلّما نجده في التفاسير، و هو أن يتّخذ المفسّر نهج الدفاع و الذود عن الشبهات و إبطال الادّعاءات الباطلة؛ ليجعل من التفسير معلّما و مربّيا و محاميا في آن معا، فمن باب المثال: في بيان معنى قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «3» تعرّض إلى فلسفة الحكم بنجاسة الكفار، فبيّنها و اختصرها في أمور ثلاثة:

1- الوقاية الفكريّة من الخرافة.

2- الحماية الاجتماعيّة من التأثير بسلوكه.

______________________________

(1) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 13، ص 69، تفسير سورة الرعد.

(2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 14، ص 13، تفسير سورة الحجر.

(3) التوبة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 72

3- تحفيزه لترك عقيدة الكفر و الالتزام بالإسلام.

يقول (قدس سرّه): النجاسة في الشريعة هي القذارة التي توجب الغسل للشي ء الذي يباشره برطوبة، و هذه النجاسة قد تكون لأضرار خارجيّة كالبول و الغائط، و قد تكون لأضرار معنويّة كالكافر، فإنّه و إن كان نظيف الجسم إلّا أنّ معتقده السخيف أوجب الحكم بنجاسته، و ذلك خير وقاية للمسلمين من أن يعاشروه فيتلوّثوا بعقيدته الفاسدة، فإنّهم إذا عرفوه نجسا و إنّه مهما باشر شيئا برطوبة تنجّس فورا منه اجتنبوه

في المأكل و الملبس، فلا يتعدّى إليهم ما انطوى عليه من العقيدة الباطلة، و هو بدوره إذ يعرف أنّه عند المسلمين كذلك لا بدّ و أن يسأل عن السبب، و يريد إزالة هذه الوصمة، و لدى تحقيق ذلك تظهر له خرافة معتقدة ممّا يسبب تركه له و اعتقاده بالعقيدة الصحيحة.

و هناك بعض المتفلسفين يقولون: كيف يحكم بنجاسة إنسان و لزوم الاجتناب عنه لمجرد انحراف عقيدة و هذا مناف لحرية الآراء؟

و الجواب: أنّه كيف يحكم بالاجتناب عن إنسان لمجرد أنّه مصاب بالجذام و نحوه لمجرد انحراف مزاج، و هذا مناف لكرامة الإنسان. فإذا كان الخوف على الجسم يبيح الاجتناب فالخوف على الروح أولى بالإباحة «1».

و من ذلك أيضا ما أجاب به أعلى اللّه مقامه عن بعض مزاعم العامّة في فضل الأوّل استنادا إلى آية الغار من سورة التوبة، و أبطل الدعوى، و علّل تصدّيه لذلك بالدفاع عن حريم القرآن لكيلا يقحم فيه ما ليس منه، و جرّ الآيات إلى الأنظار و الأفكار جرّا بدون دلالة أو برهان بعد أن ورد الذمّ لمن فسّر القرآن برأيه «2».

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 10، ص 73، ذيل الآية 28 من تفسير سورة التوبة «بتصرف».

(2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 10، ص 89، ذيل الآية 40 من تفسير سورة التوبة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 73

و في سورة العلق ردّ مزاعم من نسب جمع القرآن إلى الأوّل و الثالث بما ينفي الشكّ و يزيل الإبهام بعد تصريح القرآن بأنّ الذي جمعه و رتّبه هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

عاشرا: و بعد ذلك كلّه فإنّ من سمات هذا التفسير الضخم هو التواضع و الإقرار بالعجز

أمام كتاب اللّه سبحانه، ابتداء من عنوانه إلى أخر ما ذكر مصنّفه الكبير (قدس سرّه) في هذا المجال.

فعنوانه تقريب القرآن إلى الأذهان و ليس تفسيره، و هو دالّ على إعظام و إجلال و إكبار للقرآن و تنزيه له من أن تناله عقول البشر؛ و لذا هم بحاجة إلى تقريب لما في التقريب من اعتراف بالقصور عن درك معانيه.

و قد تكرّر من السيّد المؤلّف نفسه (قدس سرّه) في أكثر من مرّة بأنّ ما يذكره من مضامين مجرّد معان محتملة و ليست بتفسير «2»، و هذا منطق من التزم الحقيقة العارف بقدرة الإنسان و حدوده و مداه، و العارف بكلام اللّه سبحانه اللامحدود في مضامينه و معانيه الذي يستحيل أن يحيط به المحدود، و في مقدّمة مصنّفه الشريف هذا قال (قدس سرّه) في توجيه ما ورد في بعض الأخبار: من أنّ القرآن الكريم له ظاهر و باطن، و لا يعلم تفسيره و لا ظاهره و لا باطنه و لا تأويله إلّا اللّه سبحانه ... إنّ فهم كلّ ظواهر الأشياء و بواطنها كذلك، فإنّ البشر لا يعلم إلّا بعض السطحيّات، مثلا ما هي حقيقة اللحم و الدم؟ و ما هي حقيقة الماء و الكهرباء؟ و إلى غير ذلك، فإذا رأى الإنسان سيّارة لا يعلم ما هي؟ فإنّه لا يعلم هل هي حديد أو نحاس (ظاهرها)، و لا يعلم ما ذا في ماكنتها (باطنها)، و لا يعلم ما نفعها (تفسيرها)، و لا يعلم إلى أيّ شي ء يكون أوّلها (تأويلها)، و كذلك القرآن لا يعرف المراد الكامل من

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 30، ص 187- 188، تفسير سورة العلق.

(2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 3، ص 49، تفسير

سورة آل عمران، حيث قال في معنى (آلم): «تقدّم ما يحتمل أن يكون تفسيرا له».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 74

ظاهره و لا من باطنه، كما لا يعرف الفائدة الكاملة منه حالا، و لا أوّل القرآن للمستمسك به و التارك له.

و السؤال هنا: إذا كان لا يعلم ظاهرها و لا باطنها و لا تفسيرها و لا تأويلها فما فائدة ذلك؟

و الجواب: الإشارة و التلميح و إن كانت الحقيقة مخفيّة.

مثلا: إنّك إذا سمعت من إنسان ما لاقاه من الأهوال في حرب ضروس، و أراك بعض التصاوير التي التقطها من تلك الحرب، فإنّ الكلام و الصورة لا شكّ يلمحان إلى حقيقة، لكن هل تدرك بذلك هول تلك الحرب و انفعالات أولئك المحاربين؟ إنّ نسبة ما نفهم من القرآن إلى حقيقته كنسبة الصور و الكلام إلى حقيقة تلك الحرب، و للحرب ظاهر هي المعركة، و باطن هو الاستعمار الذي يريد التسلّط مثلا، و تفسير هو ما تنتجه الحرب الآن من غلاء الأسعار و انسداد الطرق، و تأويل هو ما يترتّب من الأثر على هذه الحرب من سقوط إمبراطورية و دخول إمبراطورية أخرى إلى الحياة «1».

أقول: و في الختام فإنّ ما امتاز به تفسير التقريب (تقريب القرآن إلى الأذهان) عن غيره من التفاسير الشي ء الكثير. أشرنا نحن إلى بعض مزاياه و خصوصياته، و سيجد القارئ الكريم الكثير منها أثناء تتبّعه و قراءته.

و في الختام أشكر دار العلوم الموقّرة و القائمين عليها على اهتمامها بطباعته طباعة جديدة منقّحة، و أسأل اللّه سبحانه لها مزيد التوفيق و التسديد في ترويج معارف القرآن و الشريعة الغرّاء آمين يا ربّ العالمين.

كما و أسأله سبحانه و تعالى أن يتغمّد السيّد مؤلّف هذا السفر القيّم

برحمته الواسعة، و يجعل القرآن رفيقه و مؤنسه و نوره، و أن يتقبّله منه بقبول

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 1، ص 24- 26، المدخل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 75

حسن، و أن يدّخره له في ضمن الباقيات الصالحات التي قام بها في دنياه لأخراه، كما و نسأله سبحانه أن يعفو عن زلّاتنا، و يتقبّل ما كتبناه في هذه السطور أداء لبعض حقوقه الكثيرة و الكبيرة التي له طاب ثراه في رقابنا، و أن يهدي ثواب ما بذلناه إلى وليه الأعظم و حجّته على الأمم سيّدنا و مولانا صاحب العصر و الزمان عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، و أن يرضيه عنّا بحقّ محمّد و آله الطاهرين.

فاضل الصفّار 20- جمادى الثانية من عام 1423 هجرية في جوار عقلية الرسالة السيدة زينب عليها و على آبائها آلاف التحيات و الصلوات الحوزة العلميّة الزينبيّة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 76

المصادر

1- الإتقان في علوم القرآن: لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى 1407 ه- 1987 م.

2- اختيار معرفة الرجال المعروف ب «رجال الكشي»: للشيخ أبي جعفر الطوسي، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام، 1404 ه.

3- الإرشاد: لأبي عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث- بيروت، الطبعة الأولى 1416 ه- 1995 م.

4- إرشاد القلوب: لأبي محمد الحسن بن محمد الديلمي، مؤسسة الأعلمي- بيروت، الطبعة الرابعة 1398 ه- 1978 م.

5- إلزام الناصب: للشيخ علي اليزدي الحائري، مؤسسة الأعلمي- بيروت، الطبعة الخامسة 1404 ه- 1984 م.

6- الأصول من الكافي: لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، دار صعب و دار التعارف- بيروت، الطبعة الرابعة 1401 ه.

7- أقرب

الموارد: لسعيد الخوري الشرتوني اللبناني، دار الأسوة للطباعة و النشر، الطبعة الأولى 1374 ه ش- 1416 ه ق.

8- بحار الأنوار: للشيخ محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء- بيروت، الطبعة الثانية المصححة 1403 ه- 1983 م.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 77

9- البرهان في تفسير القرآن: للسيد هاشم البحراني، مؤسسة الوفاء- بيروت، الطبعة الثانية 1983 م- 1403 ه.

10- البرهان في علوم القرآن: لبدر الدين محمد بن عبد اللّه الزركشي، دار إحياء الكتب العربية- القاهرة، الطبعة الأولى. 1376 11- بين الجدران: للسيد محمد السويج، دار البيان العربي، الطبعة الأولى 1411 ه- 1991 م.

12- تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: للسيد حسن الصدر، شركة النشر و الطباعة العراقيّة المحدودة.

13- التبيان في تفسير القرآن: لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، دار إحياء التراث العربي- بيروت.

14- تجريد الاعتقاد: للشيخ أبي جعفر محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسي، مركز النشر- مكتب الاعلام الإسلامي، الطبعة الأولى 1407 ه ق.

15- تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان: لآية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة الوفاء- بيروت، الطبعة الأولى 1400 ه- 1980 م.

16- تفسير الصافي: للفيض الكاشاني، مؤسسة الأعلمي- بيروت، الطبعة الأولى 1399 ه- 1979 م.

17- التفسير و المفسّرون: للدكتور محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة، الطبعة الثانية 1396 ه- 1976 م.

18- تفصيل وسائل الشيعة: للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث- بيروت، الطبعة الأولى 1413 ه- 1993 م.

19- تهذيب الأحكام: لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، دار صعب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 78

و دار التعارف- بيروت، 1401 ه- 1981 م.

20- الجامع الصحيح «سنن الترمذي»: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، المكتبة الإسلاميّة.

21- خواطري عن القرآن: للشهيد

السيد حسن الشيرازي، دار العلوم- بيروت، الطبعة الأولى 1414 ه- 1994 م.

22- دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعية: لمحسن الأمين، دار التعارف- بيروت، الطبعة الثانية 1401 ه- 1981 م.

23- داستانها و خاطراتي: لآية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، انتشارات سلسلة، الطبعة الأولى 1381 ه.

24- الذريعة إلى تصانيف الشيعة: للشيخ آغا بزرگ الطهراني، مؤسسة إسماعيليان- قم.

25- علوم القرآن عند المفسرين: لمركز الثقافة و المعارف الإسلاميّة، مكتب الاعلام الإسلامي، الطبعة الأولى 1416 ق- 1374 ش.

26- عوالي اللآلئ العزيزية: لمحمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي، مطبعة سيد الشهداء- قم، 1405 ه- 1985 م.

27- الغدير: لعبد الحسين أحمد الأميني النجفي، دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة الثانية 1366 ه.

28- الفروع من الكافي: لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، دار صعب و دار التعارف- بيروت، الطبعة الثالثة 1401 ه.

29- كتاب التفسير: لأبي النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف «بالعياشي»، المكتبة العلمية الإسلاميّة- طهران.

30- كتاب الخصال: للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية- قم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 79

31- لسان العرب: لابن منظور، نشر أدب الحوزة- قم، 1405 ه- 1363 ق.

32- مجمع البحرين: لفخر الدين الطريحي، مؤسسة الوفاء- بيروت، الطبعة الثانية المصححة 1403 ه- 1983 م.

33- مجمع البيان: للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، دار إحياء التراث العربي- بيروت، 1379 ق- 1339 ش.

34- المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد اللّه الحاكم النيسابوري، دار المعرفة- بيروت.

35- مستدرك الوسائل: للميرزا حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث- بيروت، الطبعة الثالثة 1411 ه- 1991 م.

36- مسند أحمد بن حنبل: لأحمد بن حنبل، دار صادر- بيروت.

37- مفاتيح

الغيب: لصدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي، مؤسسة مطالعات و تحقيقات فرهنگى، الطبعة الأولى 1363.

38- مفردات ألفاظ القرآن: للراغب الأصفهاني، الدار الشامية- بيروت، و دار القلم- دمشق، الطبعة الأولى 1416 ه- 1996 م.

39- مناقب آل أبي طالب: لأبي جعفر رشيد الدين محمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني، مؤسسة انتشارات العلامة- قم.

40- موسوعة أهل البيت الكونية: لمجموعة من المؤلفين، بإشراف فاضل الصفّار، سحر للطباعة و النشر- بيروت، الطبعة الأولى 1423 ه- 2002 م.

41- نهج البلاغة: ضبط نصه و ابتكر فهارسه العلمية الدكتور صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني و دار الكتاب المصري، الطبعة الثانية 1980 م.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 81

مقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السّلام على محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. لعل سبحانه يوفقني لشرح ألفاظ من القرآن الحكيم، ليسبب تسهيلا على الطالب، و يفتح لي سبيل فهم كتابه، الذي هو سبب سعادة الدنيا و الآخرة. و يتقبله بقبول حسن، ليكون مصداقا ل: «كتب علم ينتفع بها» في الدنيا، و موجبا للأجر و الثواب في الآخرة.

هذا ما يرجوه «محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي» عند افتتاح كتابه التفسير، المسمى ب: «تقريب القرآن إلى الأذهان» و اللّه الموفق، و هو المستعان.

كربلاء المقدسة 29 ربيع الأول سنة 1383 هجرية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 82

المدخل

كتاب كل عصر و مصر

قد اشتهر عند أتباع المستعمرين من المسلمين الجدد أصحاب الثقافات الشرقية و الغربية، أن القرآن لا يلائم العصر من جهة وجود أحكام فيه تصلح لعهد البداوة، مثل قطع يد السارق و جلد الزاني و رجمه، و تقرير الاستعباد و القصاص و حرمة الربا و المكس و الحريات الكثيرة و الأحكام الخاصة بالمرأة، و من جهة عدم وجود أحكام فيه يتطلبها العصر، مثل أحكام السياسة و الاقتصاد و الأمن و ما أشبه ذلك، ثم قالوا بأن الإسلام حيث ينطلق من القرآن فالقرآن أيضا لا يصلح للعصر الحديث، فاللازم فصل الدين عن الدولة، و هذه الفكرة إن لم تعم كافة المثقفين فهي بلا شك تعم أكثرهم، و حيث أن الاستعمار الفكري يستتبع الاستعمار العسكري، فبلاد الإسلام تعيش في استعمار عسكري صريح أو مغلف، و الواجب الاهتمام لتغيير هذه الفكرة بمختلف وسائل التغيير، فإن اللّه سبحانه لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «1» وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً

فَلا مَرَدَّ لَهُ «2» فإنهم إذا لم يغيروا ما بأنفسهم من أسباب الضعف و الانحطاط أراد اللّه بهم سوءا إرادة تكوينية تابعة لخلق المسببات بعد أسبابها.

______________________________

(1) الرعد: 12.

(2) الرعد: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 83

و الكلام حول رد هذه الإشكالات طويل نكتفي بالتلميح إليه فنقول:

أما الجهة الأولى فيرد على إشكال قطع يد السارق، أن الإسلام لا يقطع يد السارق إلا بعد توفير أوليات العيش المتوسط له، و إذا وفر له أوليات العيش المتوسط فهل الأفضل أن يردعه- إذا سرق- بعقاب صارم يجعل المجتمع في أمن بعد توفر زهاء عشرين شرطا في السرقة يشترط بها القطع؟ أو أن يحبسه أو ما أشبه الحبس؟ مما لا يكون رادعا، بل أحيانا يكون مشجعا كما لا يخفى على من طالع أحوال المجتمعات الغربية و الشرقية.

و على إشكال جلد الزاني، إن الإسلام لا يجلد إلا إذا اضطر، و إذا عرفنا أن الإسلام يوفر المناخ الملائم للعفة برفع الاضطرار إلى اقتراف الجنس حراما، كان زنى الرجل أو المرأة خرقا للعفاف الاجتماعي و تعريضا له إلى الانهيار في أقدس روابطه و هدما للعائلة، و أيهما خير العقاب الصارم المناسب للذة الزنى- إذ الجلد إيلام يناسب ما اقترفه الزاني من الإثم- أو عقوبة خفيفة لا تسد هذا الباب الخطر؟

أما الرجم فهو للزاني المحصن، و كل إنسان عاقل يعترف بأنه إذا كانت له زوجة يشبعها جنسيا ثم خانته كان اللازم إنزال أشد العقوبات بحقها، و كذلك العكس و إلّا لزم انهيار المجتمع و انهدام العائلة و عدم الأمن و كثرة الطلاق و قلة النكاح و اختلاط الأنساب و كثرة الأمراض الجنسية و توسيع المجال للمستهترين، إلى غيرها من المفاسد التي وقع فيها الشرق

و الغرب و قد رفع عقلائهم أصواتهم بوجوب وضع حد لهذه الاستهتارات.

و على إشكال تقرير الاستعباد، إنه أفضل حل لمشكلة أسارى الحرب، بعد الوضوح أن الإمام مخير بين الأسر و بين السجن و بين الفدية و بين الإطلاق كل منها حسب ما يراه من المصلحة، فلنفرض أن المصلحة عدم القتل، لأنه تضييع لقوى بناءة يحتاج إليها المسلمون، و عدم السجن، لأنه إرهاق لكاهل الدولة، و عدم الإطلاق بمال أو بدون مال، لأنه يخشى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 84

من تآمرهم على الدولة الإسلاميّة، فما ذا يكون الحل المعقول غير استعبادهم بتسليمهم إلى سادة يكونون تحت إشرافهم دائما مع عدم إضاعة قدراتهم البناءة؟ و من السهل نقد الإسلام في تقريره قانون الرقة، لكن من المحال إيجاد حل أفضل منه، و لذا نرى أن الذين انتقدوا الإسلام في هذا القانون، لما جاء دور العمل أخذوا يقتلون مناوئيهم بالملايين لا الألوف، ففرنسا قتلت مليونا أو مليوني جزائري، و أمريكا قتلت خمسة ملايين فيتنامي، و إنكلترا قتلت عشرين مليون صيني، و ألمانيا قتلت ما يقارب الخمسين مليون في الحرب العالمية الثانية، و روسيا قتلت خمسة ملايين فلاح في نظام المزارع الجماعية- على ما ذكرت كل ذلك الكتب و الجرائد و الإذاعات-.

ثم نظام التعذيب الذي اخترعه الغرب و الشرق أبشع بكثير من نظام الرق بل هو نظام استعباد الشعوب الكامل تحت غطاء الاستعمار مما أوقع العالم كله في دوامة الثورات و الحروب.

و على إشكال القصاص، إنه أمر طبيعي، فهل يشفي غيظ من فقأ عينه عمدا أن يأخذ المال في قبال عينه التالفة؟ و هل من الإنصاف أن يترك مثل هذا الإنسان الجاني يعبث بالمجتمع بدون عقاب صارم يردعه و

يردع غيره من العابثين؟ خصوصا إذا كان الجاني غنيا لا يهتم بالمال، فقد أجاز الإسلام ذلك في صورة طلب المجني عليه، مع إنه أعطى الحق له في أن يعفو، و أن يأخذ الدية مع إعطاء الصلاحية للحاكم الإسلامي في تعزيره بما يؤلمه، لأنه خرق حق اللّه سبحانه. بما يسمى في الاصطلاح بحق الادعاء العام.

نعم قد لا يكون للقصاص مجال في الحي، أو في الميت، كما في من قطع عضو ميت، حيث أفتى الإمام الصادق عليه السّلام بأن ديته كدية الجنين، فيمن قطع رأس ميت- لوضوح اشتراكهما في أنهما إنسانان لا روح لهما-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 85

في قصة مشهورة «1» و حينذاك يرجع الأمر إلى الدية و التعزير إن صدرت الجناية عن عمد، و إلى الدية فقط، إن لم يكن عمد في البين.

و أما إشكال حرمة الربا، فإنه و إن أورد عليها أن الربا حق معقول، لأن أمر صاحب المال دائر بين أن يتاجر بماله فيربح، و بين أن يدفعه قرضا فيربح من ورائه، و لذا قالوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا «2» لكن هو إشكال غير وارد، لا لما أورد عليه الشيوعيون بأن تجارة غير الدولة سرقة لأتعاب العمال، إذ أي حق للتاجر أن يستربح ثم يأخذ لأجل ماله شيئا من أتعاب و جهود الكادحين؟ فكل من الربا و الاتجار المربح حرام.

و لا لما أورد عليه بعض الاقتصاديين الجدد بأن الاتجار مطلقا «سواء كان من الدولة، كما في الشيوعية، أو من غير الدولة، كما في الرأسمالية» حرام، إذ في كلا الحالين استفاد من لم يتعب ممن تعب فهو سرقة تحت اسم القانون، إذ يرد عليهما أنه لا بد من مخزون مالي للقيام بخدمات المجتمع،

و أفضل طريق الخزن هو جمع المال عند التجار لئلا يجتمع المال و السلاح و القوة في مكان، فيكون الظلم و الديكتاتورية كما نشاهدهما بأبشع صورهما في البلاد الشيوعية .. مع لزوم مراقبة الدولة لأجل إعطاء الناس ما يحتاجون من مسكن و أثاث، حتى لا يبقى فقير، و لأجل عدم إفساد الرأسمالي- كما في النظام الإسلامي-.

بل لأن الربا على إطلاقه ظلم، إذ ليس كل تجارة مربحة، و ليس كل إعطاء للمال يستحق المعطي أن يأخذ شيئا في مقابل الإعطاء و توضيح ذلك أن لمال التاجر أربع صور:

______________________________

(1) الكافي: ج 7 ص 349.

(2) إشارة إلى سورة البقرة: 276.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 86

الأولى: أن لا تكون هناك تجارة يتمكن ما له من التقلب فيها.

الثانية: أن تكون تجارة غير مربحة إطلاقا، أو مربحة بقدر أقل من التعب، أو بمقدار التعب.

الثالثة: أن يصرف المال في الحوائج الضرورية، لا في التجارة.

الرابعة: أن يصرف المال في تجارة مربحة ربحا أزيد من التعب، و الربا أخذ التاجر المال ممن أعطاه المال في كل الصور الأربعة، مع أنه في الثلاثة الأولى ظلم.

أما في الصورة الأولى: فلوضوح أن قول المستشكل «إن أمر صاحب المال دائر بين أن يتاجر بماله فيربح، و بين أن يدفعه قرضا فيربح» غير تام، إذ المفروض أنه لا يمكن الاتجار بالمال في هذه الصورة.

و أما في الصورة الثانية: فإن المال ربح بقدر التعب- على أحسن الفرضين- و الأحق بهذا الربح من تعب لا من لم يتعب.

و أما في الصورة الثالثة: فإن أخذ التاجر الربح خلاف الإنسانية، لأنه استغلال لحاجة الإنسان في تدميره، فالمفترض أخذ المال لأجل قوته، أو دواء مريضه، فهل يحق لصاحب المال أن يستغل هذه الحاجة

في إنماء ماله؟

و تبقى الصورة الرابعة فقط مما يحق لصاحب المال أن يأخذ بعض الربح «أخذا لأجل وجود المخزون المالي الذي هو لأجل المجتمع أيضا- كما تقدم-» و حل الإسلام له بالمضاربة التي هي أقرب إلى العدالة بالنسبة إلى التاجر و المضارب، أفضل من الربا الذي قد يكون الترجيح فيه لصاحب المال، و قد يكون الترجيح للعامل و كلاهما اعتباطا لا يقره العقل و المنطق.

و يرد على إشكال حرمة المكس، أن غاية ما يقال لتبرير المكس أمران:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 87

الأول: إنّه إذا رفع المكس أضر ذلك بالاقتصاد، إذ الدولة تجني من وراء المكس مقادير كبيرة من المال تساعدها في إدارة شؤون الدولة.

الثاني: إنّه إذا رفع المكس لزم تحطم الاقتصاد الوطني، لأن البضائع الأجنبية ترد في البلاد بما يوجب تحطم الاقتصاد، و لا يخفى أن هذين الأمرين و إن تمّا في الجملة، إلّا أن الحرمة الذاتية للمكس لا ترتفع بهما، بل اللازم للدولة الإسلاميّة أن تلاحظ الأهمية و تأخذ بالأهم في البين، فكل من المكس و تحطم الاقتصاد «المذكور في الأمرين» حرام، فإذا دار الأمر بين الحرامين يجب الأخذ بأقلهما حرمة من باب قاعدة الأهم و المهم.

و منه يعلم أن حرمة المكس ليست مطلقة حتى يستشكل على الإسلام بأنه حرم المكس، و أن الحرمة لا تلائم الدول الحديثة.

و يرد على إشكال الحريات الكثيرة، أن توهم أن الإسلام يعطي حريات تضر بالاجتماع باطل، وجه التوهم أن الإسلام يعطي حرية البناء و حرية الحركة، و حرية السكنى، و حرية التجارة، إلى غير ذلك، و بذلك يختل النظام، فكل أحد يبني ما يضر الطريق، و كل أحد يترك بدون ملاحظة قوانين المرور، و لمليون مسلم مثلا،

أن يأتوا للسكنى في بلد بحيث يضيق بهم هذا البلد، و للتاجر أن يصدر كل بضائعه بحيث يقع أهل البلد في ضيق، إلى غير ذلك.

و الجواب: أن الإسلام إنما يعترف بالحرية المسؤولة «أي غير الضارة» لا الحرية غير المسؤولة، فليس لأحد أن يستفيد من الحرية الضارة بالآخرين، و يجب على كل مسلم احترام قوانين الدولة الإسلاميّة الموضوعة تحت نظر المجتهد الجامع للشرائط و إن أضرت القوانين بمصالحه الخاصة، فإذا رأت الدولة أن استيراد هذه البضاعة مثلا تضر بالاقتصاد الإسلامي فمنعت عن ذلك ليس لأحد أن يستورد هذه البضاعة، إلى غير ذلك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 88

لا يقال: فأي فرق بين مثل قوانين أمريكا، و بين قوانين الدولة الإسلاميّة، إذ كل منهما توضع حسب المصلحة؟

لأنه يقال: الفرق أن قوانين الدولة الإسلاميّة توضع في الإطار الإسلامي، بخلاف قوانين مثل أمريكا، فالفرق بينهما كالفرق بين قوانين أمريكا، حيث توضع في الإطار الرأسمالي و قوانين روسيا، حيث توضع في الإطار الشيوعي، مع أن كلتا الدولتين تدعي أنها تلاحظ مصالح بلادها.

و يرد على إشكال الأحكام الخاصة بالمرأة أن المنطق و البرهان دلّا على صحة تلك الأحكام الخاصة، بحيث إنها لو تساوت مع الرجل في الأحكام كان خباله مثل تساويها معه في خصوصيات الجسم، فكما أنه لو كان كل البشر رجلا كان ذلك من أبشع الفساد، كذلك لو كان كل البشر متساوين في كل الحقوق و الواجبات كان ذلك من أبشع الفساد، و قد فصلنا بعض أسباب الاختلاف بينهما في جملة من الأحكام في كتاب «في ظل الإسلام» «1» و في «الفقه: الحكم في الإسلام» «2» و غيرهما.

و يرد على إشكال القصاص، أنه حكم إنساني رادع كما تقدم، و الإنسانية

و الردع لا توجدان في الغرامة و السجن، مع أن الإسلام جعل اختيار العفو و أخذ الغرامة بيد المجني عليه، رخص القصاص، بما إذا كان الجاني عامدا- كما هو واضح-.

أ ليس من الحق أن جانيا عامدا إذا قطع يد إنسان كان جزاءه أن تقطع يده، فيما إذا أراد المجني عليه ذلك؟ و إذا لم يكن هذا من الحق، لنا أن نسأل الفرق بين المال و النفس، فإذا أخذ السارق منك دينارا كان لك أن

______________________________

(1) للمؤلف.

(2) راجع موسوعة الفقه المجلد 99.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 89

تأخذ منه دينارا، و إن قيل فلما ذا لا يقتص في العرض؟ فإذا زنى زان بزوجة زيد كان لزيد أن يزني بزوجة الزاني، قلنا الفرق واضح، إذ يكون ذلك اعتداء على بري ء هو زوجة الجاني بخلاف القصاص، فإنه رد اعتداء على نفس المعتدي، هذا كله بالنسبة إلى الجهة الأولى.

أما الجهة الثانية فالقول بأن الإسلام ليس فيه اقتصاد و سياسة و أمن، كلام بلا دليل، فالاقتصاد الإسلامي ليس فيه مضار الاقتصاديات الثلاثة الرأسمالية و الشيوعية بفرعيها الاشتراكية و الفوضوية «التي تدعي أن لكل نتاجه، و من كل عمله» بينما فيه الاقتصاد المعتدل الذي يعطي كل ذي حق حقه، كما أن السياسة في الإسلام أفضل سياسة، حيث تجمع بين حكم اللّه سبحانه و الشورى في انتخاب الحاكم، و الأمن موجود في الإسلام لا للكبت بل لجمع المعلومات و إرصاد المخربين و إيقاف المفسدين عند حدهم، و قد ذكرنا طرفا من هذه المسائل الثلاثة «الاقتصاد و السياسة و الأمن» في كتاب «الفقه: الحكم في الإسلام» و لذا فلا نعيد التفاصيل.

و حيث أن القرآن مصدر لكل هذه الأحكام، حيث بين فيها الخطوط العريضة

للحياة السعيدة، فالقرآن هو الكتاب الوحيد الصالح لتطبيقه في العصر، و كل كتاب و قانون غير القرآن ليس له هذه الصلاحية، و الظاهر أن العالم أخذ أخذا حثيثا نحو السير إلى القرآن و أحكامه، لأنه الكتاب الوحيد الصالح للتطبيق بعد أن ظهر فشل ما عداه في تأمين الحياة السعيدة، فهو مثل الكهرباء بالنسبة إلى النفطيات، حيث إنها تعطي مكانها للكهرباء- تلقائيا- طال الزمان أو قصر، و لذا قال سبحانه لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «1».

______________________________

(1) التوبة: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 90

تطبيق الفكر و العمل على القرآن

يجب تطبيق الفكر و العمل على القرآن، و ذلك ببيان مقدمات:

الأولى: إن اللّه سبحانه خلق الكون الواسع بما فيه الدنيا و الآخرة و الحياة و غير الحياة على كيفية خاصة من الحقائق و الأبعاد و الحدود و المزايا و الخصوصيات و هذا واضح لا يحتاج إلى الدليل.

الثانية: إنّ القرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقي مما أنزله اللّه سبحانه في أيدي البشر، أما سائر الكتب المنزلة فقد حرفت و بدلت، كما قال سبحانه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «1» و فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ «2» بل قامت الضرورة منا على عدم تمامية الكتب الباقية، كالتوراة و الإنجيل، بالإضافة إلى فقدان بعض الكتب المنزلة من أساسها بحيث لم يبق منها عين و لا أثر، بالإضافة إلى أنه لم يعلم أن سائر الكتب المنزلة كانت لأجل الهداية الكاملة المستوعبة للفكر و العمل بصورة مطلقة.

الثالثة: إنّ القرآن نزل بقصد توجيه الفكر و توجيه العمل، و المراد بالعمل أعمال الجوارح كلها بما فيها اللسان، و قد دلت الأحاديث المتواترة على أن الهداية خاصة بالقرآن- أن من طلب الهداية في غير القرآن أضله اللّه- أي كان ضالا و النسبة

إلى اللّه سبحانه باعتبار أن الآلة منه سبحانه، و لذا نسب

______________________________

(1) المائدة: 14.

(2) المائدة: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 91

كل شي ء إلى نفسه.

قال سبحانه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ «1».

و قال: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ «2».

و قال: أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ «3».

و قال: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «4».

و قال: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ «5» على فرض أن يراد به كل عمل الإنسان حتى المعصية باعتبار أن الآلة منه سبحانه- و إنما كان يضل من طلب الهداية في غير القرآن، لأنه لا هداية فيما عداه، مثل أن يكون الطريق إلى البلد الفلاني خاصا بطريق واحد فيقال: أن من سلك غير هذا الطريق ضل، فإن وجهه أنه لا طريق غيره.

الرابعة: أن ظرفية البشر في عالم الدنيا ليست أكثر من القرآن، فإنه و إن احتمل أن يكون الكون- بمعناه العام- أكبر من المقدار المذكور في القرآن، إلا أن المقدار الذي يستوعبه الإنسان من الكون- استيعابا في فكره و في عمله- ليس أكثر مما أرشد إليه في القرآن، مثلا إذا كانت صحراء بمقدار مائة فرسخ، لكن زيدا لا يتمكن من عمران أكثر من عشرين فرسخا منها، كان مقتضى الحكمة أن يكون المنهاج الذي يضعه مربي زيد بقدر تعمير عشرين فرسخا فقط، إذ الزائد لغو لا يصدر من الحكيم، و يؤيد أوسعية الكون عن مقدار ظرفية الإنسان

قوله عليه السّلام «ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر»

إلا أن يقال أن هذا لا يدل على أوسعية الكون عن القرآن، لأن

______________________________

(1) الأنفال: 18.

(2) الرعد: 28.

(3) الواقعة: 65.

(4) النساء: 79.

(5) الصافات: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 92

للقرآن بطونا، و لأنه لا تفنى

غرائبه كما في الحديث، فلعله سبحانه جعله يتدرج في الظهور كما جعل حقائق كونه، في الدنيا و في الآخرة تتدرج في الظهور.

و كيف كان فيدل على المقدمة الرابعة عدم وجود الهداية في ما عدا القرآن كما نص بذلك متواتر الروايات، فلو كان البشر أوسع للزم وجود الهداية في ما عدا القرآن الأزيد من القرآن لا بد و أن يكون له طريق مستقيم و طريق غير مستقيم، و معرفة البشر الطريق المستقيم في المقدار الأزيد هداية، و المفروض أنه لا هداية في ما سوى القرآن.

إذا تحققت هذه المقدمات الأربع قلنا: ثبت أن فكر البشر في أحوال المبدأ و المعاد و المعاش بكل أصنافه من عبادة و معاملة بأقسام المعاملات، و أخلاق و غيرها لا يعدو القرآن كما ثبت أن أعماله بكل أنواعها لا تعدو القرآن، فاللازم تطبيق فكره و عمله في إطار القرآن إذ القرآن مرماة للكون و البشر مأمور بفهم هذا الكون و العمل على طبق ذلك الفهم، فمثلا إذا فرضنا أن المريض كان مأمورا بشفاء نفسه و وصف المرض و وصف الدواء كان مكتوبا بكتاب، و قال الآمر: أفهم داءك و دوائك و أعمل لشفائك، كان اللازم على المريض أن يفهم الكتاب و ألّا يبقى مريضا.

و عليه فإذا أفرغ البشر فكره و عمله في إطار القرآن هدى، و إلا ضل عن سواء السبيل، و للتوضيح نقول: حقيقة المبدأ و حقيقة المعاد و حقيقة المخلوقات، أي خلق السماوات و الأرض و الجبال و الرعد و البرق و الجنة و النار و الموت و الحياة و غيرها، شي ء ثابت مسلّم سواء فهمها البشر أم لا.

كما أن سعادة البشر في الصلاة و الصيام و الزكاة و البيع

و النكاح و الحرية و الحدود و القصاص و غيرها، و الواقع في باب الفهم و أسلوب العمل المسعد في باب العمل في القرآن الحكيم، فإن صب البشر فكره في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 93

قالب فهم القرآن أدرك الحقائق و إن صب البشر عمله في قالب العمل الذي أرشد إليه القرآن سعد، و إلّا أخطأ في فكره و شقي في عمله مثلا قال القرآن:

الإله واحد، و قال: أقيموا الصلاة، فإن لم يصب البشر فكره و عمله في هذين، لقال بأن الإله اثنان، و لم يصل، و الأول يوجب انحراف فهمه عن الواقع، و الثاني يوجب شقائه حتى في الدنيا، لأنه كما قال سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «1» و قال تعالى: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «2».

ثم أن هنا ثلاثة أمور:

الأول: إن للقرآن ظهرا و بطنا، و لبطنه بطن و هكذا، و إذا لا حظنا ذلك في التكوينات التي خلقها اللّه سبحانه ظهر نوع شبه لفهم المقصود بذلك، فمثلا التفاح له ظهر هو قشره، و بطن هو لبه، و لبطنه بطن هو نواته، و لنواته بطن هو مخه، و هكذا الإنسان له ظهر هو جلده المرئي منه، و له بطن هو لحمه، و لبطنه بطن هو القلب و الكبد و الكلية، و كل بطن بمنزلة مخ النواة، و في القرآن مثلا قال سبحانه: وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ «3» فظهره هؤلاء الثلاثة في قبال موسى عليه السّلام، و بطنه أمثالهم في قبال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم أمثالهم في قبال علي عليه السّلام و هكذا، و يؤيد هذا المعنى ما ورد من أن

القرآن كالشمس تجري كل يوم، فله انطباق في كل زمان على أفراد و أعمال و حالات.

ثم أن من الطبيعي أن يكون القرآن كذلك، لأنه كتاب اللفظ في قبال كتاب الكون، فاللازم انطباق هذا الكتاب على ذلك الكتاب، و إلا لم يكن كامل الانطباق.

______________________________

(1) الرعد: 29.

(2) طه: 15.

(3) القصص: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 94

الثاني: ورد بالنسبة إلى بعض أساميه سبحانه أنه لا يعلم ظاهرها و لا باطنها و لا تفسيرها و لا تأويلها إلا اللّه سبحانه، كما في دعاء السمات، و قد يظهر من بعض الروايات أن القرآن كذلك كما ذكر في قصة بلوهر مع يوذاسف.

و هنا سؤالان:

السؤال الأول: أنه ما معنى ذلك؟

و الجواب: أن فهم كل ظواهر الأشياء و بواطنها كذلك، فإن البشر لا يعلم إلا بعض السطحيات، مثلا ما هي حقيقة اللحم و الدم؟ و ما هي حقيقة الماء و الكهرباء؟ و إلى غير ذلك، فإذا رأى الإنسان سيارة لا يعلم ما هي؟ فإنه لا يعلم هل هي حديد أو نحاس «ظاهرها» و لا يعلم ماذا في ماكنتها «باطنها» و لا يعلم ما نفعها «تفسيرها» و لا يعلم إلى أي شي ء يكون أولها «تأويلها» و كذلك القرآن لا يعرف المراد الكامل من ظاهره و لا من باطنه، كما لا يعرف الفائدة الكاملة منه حالا و لا أول القرآن للمستمسك به و التارك له.

السؤال الثاني: إذا كان لا يعلم ظاهرها و لا باطنها و لا تفسيرها و لا تأويلها فما فائدة ذلك؟

و الجواب: الإشارة و التلميح و إن كانت الحقيقة مخفية، مثلا أنك إذا سمعت من إنسان ما لاقاه من الأهوال في حرب ضروس، و أراك بعض التصاوير التي التقطها من تلك الحرب،

فإن الكلام و الصورة لا شك يلمحان إلى حقيقة، لكن هل تدرك بذلك هول تلك الحرب و انفعالات أولئك المحاربين؟ إن نسبة ما نفهم من القرآن إلى حقيقته، كنسبة الصور و الكلام إلى حقيقة تلك الحرب، و للحرب «ظاهر» هي المعركة و «باطن» هي الاستعمار الذي يريد التسلط مثلا، و «تفسير» هو ما تنتجه الحرب الآن من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 95

غلاء الأسعار و انسداد الطرق و «تأويل» هو ما يترتب من الأثر على هذه الحرب من سقوط امبراطورية و دخول امبراطورية أخرى إلى الحياة.

الثالث: قد ورد في باب القرآن أنه لا تنقضي غرائبه و المراد بذلك، إما بعض حقائقه التي لا نعلم بها، أو أن الطريق الذي أرشد القرآن البشر إليه طريق لا تنقضي غرائبه، مثلا أرشد القرآن البشر إلى السير في الأرض و النظر و العبرة و هكذا يؤدي دائما إلى اطلاع البشر على معلومات جديدة غريبة و اكتشافات حديثة مدهشة، و اللّه سبحانه العالم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 96

فلسفة كاملة عن الحياة

حيث أن القرآن الحكيم فلسفة كاملة للحياة و لا فلسفة كاملة غيره، لا بد و أن يسيطر على الحياة، إن عاجلا أو آجلا، فإنه إنما يسيطر إذا عرف البشر هذين الأمرين:

إنه فلسفة كاملة و لا فلسفة كاملة غيره:

إذ البشر بحاجة إلى فلسفة كاملة ليسعد، و السعادة هي الغاية المتوخاة لكل بشر، و ليس وراءها مقصد، فإن الذاتي لا يعلل بغيره.

أما أن القرآن فلسفة كاملة، فلأنه يعطي شؤون الروح، و يعطي متطلبات الجسد و يستند إلى ما لا يتغير، و هذه العناصر الثلاثة هي التي تشكل السعادة الكاملة لأن الإنسان روح و جسد، و لكل واحد منهما متطلبات، ثم إذا كان

متطلباتهما غير مستندة إلى قوة أزلية لا تتغير، كانت محلّا للتغيير، مما يسلب الثقة، و سلب الثقة ينتهي إلى الشقاء، فهو مثل أن تراجع طبيبا لا تثق به أو تركب طائرة أو سفينة لا تثق بهما حيث أن في الكل احتمال العطب الذي يوجب الشقاء النفسي و شقاء النفس كسعادتها، تسريان إلى الجسد للتفاعل بين الروح و الجسد، و لذا كان القلق يوجب قرحة المعدة، و أمراضا أخر، و لذا كان أيضا المرض الجسدي يوجب اضطراب العقل، و منه قيل: «العقل السليم في الجسم السليم».

و على هذا فإذا لم تكن المتطلبات مستندة إلى قوة أزلية توجب الثبات و الاستقرار، كان الإنسان يعيش في ألم و عذاب، و حيث أن من طبيعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 97

الإنسان الفرار من الألم كان لا بد له أن يتطلب فلسفة صحيحة ليدفع بها ألمه، و ينتهي به المطاف إلى فلسفة القرآن، التي هي الفلسفة الصحيحة للكون و الحياة، بكلا شقي الحياة: الروح و الجسد، بالإضافة إلى أنها مستندة إلى اللّه سبحانه، الذي لم يزل و لا يزال و لا تتبدل قوانينه فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «1».

إذا ثبت هذا قلنا: أمهات الفلسفات الموجودة في عالم اليوم خمسة:

1- فلسفة الإسلام، 2- فلسفة اليهود، 3- فلسفة النصارى، 4- فلسفة الرأسمالية، 5- فلسفة الشيوعية، و ما عدا الإسلام من سائر الفلسفات ليست صالحة للحياة، فلا تبقى إلا فلسفة الإسلام، التي ينتهي البشر في آخر المطاف إليها.

و لذا قال سبحانه: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «2» فهو بالإضافة إلى كونه غيبيا، يؤيده المنطق و البرهان.

أما عدم تمكن الفلسفة اليهودية و النصرانية من الصمود أمام الحياة، فلوضوح أنهما

مشوبتان بأبشع أنواع الخرافة، و العقل إن سبت ساعة لا يسبت إلى قيام الساعة، و لذا بمجرد أن ترجم كتابيهما بعض المترجمين، و عرف الغرب و الشرق ما يحتويان من الخرافة لفظوهما، بالإضافة إلى أنهما كانا مصادر لمحاكم التفتيش و ما أشبهها، مما اصطدم بالعلم حين نهوض العلم، فانسحبا عن الميدان بعد مجازر بشرية رهيبة- هذا أولا- بالإضافة إلى أن اليهودية و النصرانية لا تشتملان على قوانين الإنسان في معاملاته و أحواله الشخصية و سائر شؤونه، بل منطقهما: «دعوا ما لقيصر لقيصر، و ما

______________________________

(1) فاطر: 44.

(2) التوبة: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 98

للّه للّه» الذي يعيش تحت مظلتهما، لا بد له من وضع قوانين لحياته، و حيث أنها ليست مستندة إلى قوة أزلية لا تصلح للإسعاد «كما تقدم بيان ذلك»، و هذا ثانيا.

و قد ظهرت آثار انهزام اليهودية و النصرانية في هذا القرن بما لا يرجى في بقائهما و إن حقنتا بآثار الحضارة الحديثة، فالخشبة اليابسة لا تحيى، و إن سقيت بألف كر من الماء.

و أما عدم تمكن فلسفة الشيوعية و الرأسمالية من الصمود أمام الحياة، فلأنهما أولا: ناقصتان من حيث عدم وفائهما بجانب الروح، و إنما تتعرضان لجانب الجسد فقط، و لذا كان الغرب القائل بالروح اضطر إلى التشبث باليهودية و المسيحية لأجل إملاء الروح، و لكنهما لم ينفعاه أيضا، لخواء ما فيهما من الروحيات، و أسوأ الاثنتين هي الشيوعية التي لا تعترف بالروح أصلا.

و ثانيا: لا يستمدان قوانينهما الجسدية من قوة أزلية، و قد عرفت أن القانون المستمد من الإنسان و نحو الإنسان، مترجرج، و لا ينفع استقرار الإنسان و ثقته.

أما أمثال القومية، و البعثية، و الوجودية، و الديمقراطية و الاشتراكية، و

نحوها، فهي ليست فلسفات أصلا، و إنما هي فكر منحرفة لبقعة صغيرة من بقع الحياة، فالقومية معناها جمع القوم، و البعثية معناها بعث القوم، و الوجودية إفراط في الفردية مقابل إفراط الماركسية في الدولة، و الديمقراطية حكم الشعب، و الاشتراكية توزيع قسم من الثروة، و من الواضح أن أيّا منها ليست فلسفة للحياة، هذا مع الغض مما سبب جملة منها من المآسي للإنسان، إذا .. لم يبق في الميدان إلا القرآن، ففي أي وقت اجتهد حملته في إيصاله إلى العالم، استقبله العالم بكل ترحاب، كما استقبله العالم بكل حفاوة إبان ظهوره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 99

1 سورة الفاتحة مكية- مدنية/ آياتها (7)

سميت السورة باسم «الفاتحة» لافتتاح المصاحف بكتابتها و لقراءتها في الصلاة فهي فاتحة لما يتلوها من السور و تسمى ب «الحمد» و من أسمائها «سبع المثاني» و «الواقية» و «الكافية» و ذكروا لها أسماء أخرى و هي مكية و قيل إنها مدنية و لعلها نزلت مرة في مكة و مرة في المدينة.

[سورة الفاتحة (1): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أي أستعين باللّه، و إنما لم يقل «باللّه» تعظيما، فكأن الاستعانة بالاسم، و اللّه علم له سبحانه، و الرحمن و الرحيم صفتان تدلان على كونه تعالى عين الرحمة، فلا يرهب جانبه، كما يرهب جانب الطغاة و السفاكين، و تكرير الصفة للتأكيد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 100

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 149

[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 6]

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فإنه هو الذي يستحق الحمد، لأن كل جميل منه،

و كل خير من عنده، و هو رب العالمين، الذي أوجدهم و رباهم.

و التربية تطلق على الإنشاء و الاستمرار، و العالمين إشارة إلى عوالم الكون، من جن و ملك، و إنسان و حيوان، و نبات و جماد، و روح و جسد، و غيرها.

[3] الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تكرار للتأكيد، لإفادة أن الرب ليس طاغيا، كما هو الشأن في غالب الأرباب البشرية.

[4] مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الدين هو الجزاء، فيوم الدين: «القيامة»، و اللّه مالك ذلك اليوم، لا يشرك فيه أحد (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1».

[5] إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي عبادتنا و خضوعنا لك، و قدم «إياك» لإفادة الحصر.

وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي نطلب الإعانة، فإنه هو الذي بيده كل شي ء، فالاستعانة منه، و الإتيان بالتكلم مع الغير، لإفادة كون المسلمين كلهم منخرطين في هذين السلكين: سلك العبادة للّه، و سلك الاستعانة به.

[6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ غير المنحرف، و الهداية هو إرشاد الطريق،

______________________________

(1) الأنبياء: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 101

[سورة الفاتحة (1): آية 7]

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

فإن الإنسان في كل آن يحتاج إلى من يرشده و يهديه، و إن كان مهديا، و حيث لم يذكر متعلق الصراط المستقيم، دلّ على العموم، فالمسلم يطلب منه سبحانه أن يهديه الصراط المستقيم، في العقيدة، و العمل، و القول، و الرأي، و غيرها.

[7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إنه تفسير ل: «الصراط المستقيم» أي إن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعمت عليهم، بهدايتهم من النبيين و الأئمة عليهم السّلام و الصالحين غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فإن من أنعم اللّه عليه بالهداية، لا يكون مغضوبا عليه وَ لَا الضَّالِّينَ أي الضال المنحرف عن الطريق، و الضال يمكن أن

يكون مغضوبا عليه إذا كان عن تقصير، و يمكن أن يكون غير مغضوب عليه إذا كان عن قصور، و المسلم يطلب من اللّه تعالى أن لا يكون من هؤلاء و لا هؤلاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 102

2 سورة البقرة مدنية/ آياتها (287)

[سورة البقرة (2): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1)

سميت السورة باسم «البقرة» لاشتمالها على قصة البقرة و هي مدنية.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتدأت السورة باسم اللّه تعالى، لتكرر الاستعانة به، و ليتعلم المسلم كي يبتدئ جميع أعماله بهذا الاسم المبارك، و ليتركز هذا الاسم الكريم في الأذهان، فإن للتكرار أثرا بالغا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 103

[سورة البقرة (2): الآيات 2 الى 4]

ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

[2] الم أي من جنس هذه الحروف المقطعة: «أ»، «ل»، «م».

[3] ذلِكَ الْكِتابُ و الإشارة بالبعيد، للإشارة إلى كون القرآن سامي المقام، عالي المنزلة لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس محلّا للريب، و إن ارتاب فيه الكفار، كما أن النهار لا ريب فيه، و إن ارتاب فيه السوفسطائيون، و «لا رَيْبَ فِيهِ» صفة للكتاب هُدىً لِلْمُتَّقِينَ صفة بعد صفة، أي أن هذا القرآن هداية لمن اتقى، و خاف من التردي، فإنه هو الذي يهتدي بالقرآن، و إن كان القرآن صالحا، لأن يهدي الكل.

[4] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ صفة للمتقين، و المراد بالإيمان الاعتقاد به، و الغيب هو الذي غاب عن الحواس الظاهرة، أي ما وراء الطبيعة، فالروح غيب، و أحوال القبر غيب، و اللّه سبحانه غيب، و هكذا وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ

إقامة الصلاة، الإتيان بها دائما على الوجه المأمور بها، و لذا تدل على معنى أرفع، من معنى «صل» وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ و الرزق أعم من المأكول، و الملبوس، و المسكون، و العلم و الصحة، و غيرها، و إنفاق كل شي ء بحسبه.

[5] وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الوحي و القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 104

[سورة البقرة (2): الآيات 5 الى 6]

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)

وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإن من شرائط الإيمان، الإيمان بكل الأنبياء عليهم السّلام (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) «1» وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ و اليقين بالآخرة هو الاعتقاد بها، و العمل بمقتضاها، و بعض هذه الأمور، و إن كانت داخلة في «الإيمان بالغيب»، لكنها ذكرت لزيادة الاهتمام بها، و ذكر الخاص بعد العام.

[6] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي على بصيرة، و هذه البصيرة أتت إليهم من ناحية اللّه سبحانه وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجحون، فهم في الدنيا على بصيرة، و في الآخرة في زمرة الناجين، ثم أن القرآن لما ذكر المؤمنين، ثنّاهم بذكر الكافرين، ثم ثلّثهم بذكر المنافقين، فإن كل دعوة، لا بد و أن ينقسم الناس أمامها إلى ثلاثة أقسام: مؤمن بها و كافر بها، و مذبذب بين ذلك يجامل الطرفين.

[7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا و الكفر هو الستر، كأن الكافر يستر الحقيقة، و لا يبديها سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و المراد ب «الذين كفروا» هنا هم المعاندون منهم، لأنهم المصداق الأجلى للكافر، و إلا فالذين آمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم من الناس كانوا كفارا ثم

______________________________

(1) البقرة: 286.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 105

[سورة البقرة (2): آية 7]

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

آمنوا، و من المعلوم أن المعاند يتساوى في حقه الإنذار و عدمه، نعم يجب إنذاره إتماما للحجة، و هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات.

[8] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ طبعها بالكفر، أي جعلها بحيث يصعب إيمانها، لأنها اعتادت الكفر، و عدم الاستماع إلى الحق، و إنما ختم اللّه، لأنها لم تقبل الهداية، كمن يطرد ولده عن داره بعد ما أرشده مرات، فلم يفد فيه النصح، كما قال تعالى طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ «1» أي بسبب كفرهم، و إنما فسرنا «الختم» ب «يصعب» لبداهة أن الإنسان و لو كان معاندا، لا يخرج عن قابلية القبول و الاهتداء وَ عَلى سَمْعِهِمْ بمعنى إنهم لا يستفيدون من السمع، كالأصم، لأن في سمعهم خلل وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ تشبيه للغشاوة المعنوية بالغشاوة الظاهرية، فكما أن من على بصره غشاوة، لا يرى المحسوسات، كذلك من يعاند يكون على بصره مثل الغشاوة، و هو تنزيل لفاقد الوصف منزلة فاقد الأصل، كما تقول لمن لا ينتفع بالعلم، هو جدار وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا و الآخرة، فإن من ينحرف عن قوانين اللّه تعالى، يكون لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى «2».

______________________________

(1) النساء: 156.

(2) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 106

[سورة البقرة (2): الآيات 8 الى 10]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ

الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)

[9] وَ مِنَ النَّاسِ المنافقون، و هم القسم الثالث، فهو مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ قولا باللفظ فقط وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ حقيقة، فلا يعملون أعمال المؤمنين، و إن كانت قلوبهم أيضا متيقنة بحقائق الإيمان.

[10] يُخادِعُونَ اللَّهَ أي يفعلون مع اللّه تعالى، فعل المخادع، الذي يريد الخديعة، فيظهر ما لا يريده، و يريد ما لا يظهره وَ الَّذِينَ آمَنُوا فيرونهم خلاف ما يضمرونه، لكن عملهم هذا ليس خدعة حقيقية للّه و للمؤمنين، فإنهما يعلمان نواياهم، فلا ينخدعان بهم، بل وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ يجري عليهم أحكام المؤمنين ظاهرا، و لا يشتركون معهم في أسرارهم، كما لا يشتركون معهم في آخرتهم، فهم مخدوعون من حيث ظنوا أنهم خادعين وَ ما يَشْعُرُونَ بأنهم خدعوا أنفسهم، لا أنهم خدعوا اللّه و المؤمنين، إذ لو شعروا بأنهم يخدعون أنفسهم، لم يقدموا على ما ظنوه خدعة لغيرهم، و الحال أنها خدعة لهم حقيقة و واقعا.

[11] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فإن قلب المنافق ملتو، و نفسه معوجة، لا تريد الاستقامة فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً إذ نزول الآيات، و نصب الرسول،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 107

[سورة البقرة (2): الآيات 11 الى 13]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)

أوجب أن يزيدوا في التوائهم، لئلا يسلط النور عليهم، فيعرفوا

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي بسبب كذبهم، بمخالفة ظاهرهم لباطنهم، فإنه نوع من الكذب، و إن كان كلامهم مطابقا للواقع، لكنهم حيث أخبروا عن إيمانهم- و لم يكونوا مؤمنين- كان ذلك كذبا.

[12] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي للمنافقين لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فإن النفاق يلازم الإفساد، إذ يعمل المنافق ضد الدعوة، و يؤلب عليها، و هو إفساد حينما تريد الدعوة الإصلاح و التقدم قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فإنهم يظنون أن الدعوة إفساد، و أنهم بوقوفهم ضدها يصلحون في الأرض.

[13] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ لأنهم بوقوفهم النفاقي ضد الإسلام، يكونون مفسدين إفسادا بالغا أكثر من إفساد الكفار، و لذا قال تعالى في آية أخرى هُمُ الْعَدُوُّ «1» على نحو الحصر وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ بذلك، بل يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

[14] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي للمنافقين، و القائل هم جماعة من المؤمنين

______________________________

(1) المنافقون: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 108

[سورة البقرة (2): الآيات 14 الى 15]

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

الذين لا يخافونهم آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ إيمانا لا يشوبه نفاق قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يعنون بالسفهاء المؤمنين الحقيقيين أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ و أية سفاهة أعظم من كون الإنسان حائد عن طريق الحق مع كونه متصفا بصفة النفاق الرذيلة وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ إنهم هم السفهاء، لأنهم يظنون أن طريقتهم النفاقية، أصلح الطرق.

[15] وَ إِذا لَقُوا من «لقى» أي التقى المنافقون ب الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا لهم آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ أي أشباههم من

المنافقين قالُوا لهم إِنَّا مَعَكُمْ يريدون بذلك إرضاء الجانبين إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بالمؤمنين، في إظهار الإيمان لهم، و هذا هو دليل نفاقهم، و إلّا لو كان الأمر بالعكس، بأن أظهروا الكفر تقية لم يزيدوا على إظهاره.

[16] اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يفعل لهم فعل المستهزئ، فيجري عليهم في الدنيا أحكام الإيمان، و في الآخرة يجازيهم بجزاء الكفار، و في بعض الأحاديث إنه يستهزئ بهم في الآخرة في النار وَ يَمُدُّهُمْ إمداد اللّه سبحانه و تعالى، بعدم الضرب على أيديهم كما يقال: الملك يمد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 109

[سورة البقرة (2): الآيات 16 الى 17]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)

قطّاع الطريق حيث لا يستأصلهم فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ الطغيان تجاوز الحد، و العمه التحير، فإن المنافق، كالشخص المتحير، و إنما يمدهم اللّه سبحانه، لأن الدنيا دار اختبار و امتحان، فلا جبر و لا إلجاء.

[17] أُولئِكَ المنافقون الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فكأنهم أعطوا الهداية، و أخذوا مكانها الضلالة، أو كأنهم أعطوا أنفسهم بدل الضلالة، بينما كان الذي ينبغي أن يعطوا أنفسهم بدل الهداية، كما قال الشاعر:

أنفاس عمرك أثمان الجنان فلاتشري بها لهبا في الحشر تشتعل

فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ المعنوية، بل خسروا رأس المال الذي هو أنفسهم وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ في هذه التجارة و الاشتراء.

[18] مَثَلُهُمْ أي مثل هؤلاء المنافقين كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً استوقد بمعنى أوقد، أو بمعنى طلب الوقود الذي هو الحطب و نحوه، و المعنى أشعل نارا ليستضي ء و يدفأ بها فَلَمَّا أَضاءَتْ النار ما حَوْلَهُ و انتفع بها

ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بأن أرسل ريحا فأطفأها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 110

[سورة البقرة (2): الآيات 18 الى 19]

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)

وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ما حولهم و إنما كان هذا مثلا لهم، لأن المنافق بإيمانه الظاهري، يعبّد لنفسه سبيل الحياة، و ينور في طريقه، فإن الإيمان نور، و سبب لهداية الإنسان إلى الحق و العدل و الخير، فإذا قبض اللّه أرواحهم تركهم، كسائر الكفار في نار و عذاب، حين يقبض اللّه أرواح المؤمنين، إلى نور أوسع و رحمة أكبر، فهؤلاء المنافقون:

[19] صُمٌ جمع أصم، لأنهم لا ينتفعون بالحق، فهم و الأصم سواء بُكْمٌ جمع أبكم، و هو الأخرس، لأنهم لا يقولون الحق فهم و الأبكم سواء عُمْيٌ جمع أعمى، لأنهم لا يبصرون الحق، فهم و الأعمى سواء فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ عن غيهم و ضلالهم، و «ف»، للإشارة إلى أنهم حيث صموا و أبكموا و عملوا لم يرج فيهم الخير، فإنه وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ «1».

[20] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ مثال آخر لحال المنافقين، و الفرق بين المثالين، إن المثال الأول، كان مثالا للمنافق نفسه، و هذا المثال مثال الحق الذي يغمر المنافق، لكنه لا ينتفع به و الصيب هو المطر، فالحق الذي يغمر هؤلاء كمطر ينزل من السماء فِيهِ ظُلُماتٌ ظلمة السحاب و ظلمة المطر، لأنه يحول بين الضياء و بين الأرض، و ظلمة

______________________________

(1) الأنبياء: 46.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 111

[سورة البقرة (2): آية 20]

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ

إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

سحاب فوق سحاب وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ من الأمور المخوفة يَجْعَلُونَ أي من ابتلى بهذا الصيب أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ خشية الصَّواعِقِ فإن الصاعقة إذا نزلت، قرعت الأسماع بصوتها الشديد حَذَرَ الْمَوْتِ فإن الصوت الشديد يوجب انخلاع القلب، فيموت الشخص، لكن هؤلاء المنافقين الذين هم كفار في الباطن لا يظنون أنهم يتمكنون الفرار من بأس اللّه تعالى وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ إحاطة علم و قدرة.

[21] يَكادُ الْبَرْقُ اللامع في السحاب يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ أي أبصار من ابتلى بالصيب، و خطف البصر كناية عن عماه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ بأن أبرق، و رأوا طريقهم مَشَوْا فِيهِ أي في البرق- بمعنى استفادتهم من نوره فيمشون وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بأن لم يبرق قامُوا في أماكنهم- أي وقفوا- وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ بسبب صاعقة قوية فتصمهم وَ أَبْصارِهِمْ بسبب برق قوي، إذ النور إذا قوي أوجب ذهاب البصر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يمنعه أن يحتمي الإنسان بإصبعه، أو بغمض بصره عن أن يذهب بسمعه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 112

[سورة البقرة (2): آية 21]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

أو بصره، و هذا توضيح المثال بتطبيقه على المورد أن «الصيب» هو الحق النازل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و «البرق» هو تقدم المسلمين، و ما يسبب لهم إنارة الطريق، و «الرعد و الصاعقة» إيعادات الرسل، و الأهوال المكتنفة بالدعوة، و المنافقون كمن ابتلى بهذا الصيب في الصحراء، فالحق كالمطر فيه الحياة، لكن فيه ظلمات غلبة

الكفار، و ذهاب الأنفس و الأموال و الثمرات، و فيه برق ينير طريق الحياة السعيدة، و فيه رعد و صاعقة مواعيد الرسول، و فضيحة المنافقين، و هؤلاء المنافقون تكاد سرعة تقدم المسلمين، تعميهم، فإن العين إذا نظرت إلى ما لا يسرها اضطربت و دمعت، كلما أضاء لهم، بأن غلبوا في الحرب، و حصلوا على الغنائم، اتبعوا الرسول، و إذا أظلم عليهم، بأن غلب عليهم الكفار، وقفوا و قاموا في مكانهم، لا يعلمون و لا يتقدمون و هم يخافون من الفضيحة، إن نزلت آية في شأن المنافقين، فيجعلون أصابعهم في آذانهم، حتى لا يسمعونها، أو يتغافلون عنها، كي لا يرى أثر الانهزام في وجوههم، فإن الإنسان المجرم إذا سمع ما يمس إجرامه ظهرت الصفرة و آثار الانهزام على وجهه، لكن اللّه قادر على إماتتهم، كما هو قادر على فضحهم و الذهاب بسمعهم و بصرهم، فليسوا هم في راحة من نفاقهم- كما زعموا- بل هم في أشد ابتلاء و محنة.

[22] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ خلق الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ و كان السبب في الخلق لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي خلقكم للتقوى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 113

[سورة البقرة (2): الآيات 22 الى 23]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)

و العبادة، كما قال تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1».

[23] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً كالفراش الذي يكون راحة للبدن

و زينة و جمالا وَ السَّماءَ بِناءً أي مبنيا، و هذا يلائم كون السماء طبقة تحطم القذائف إلى الأرض، فإن البناء ليس المراد منه أن يكون المبنى من جسم كثيف وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً و المراد من السماء هنا جهة العلو، أو المراد من تلك الناحية فَأَخْرَجَ بِهِ أي بسبب الماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فإذا كان الخلق و سائر النعم من اللّه سبحانه فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً شركاء من الأصنام أو غيرها وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنها باطلة، و أنه ليس للّه شريك.

[24] وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تزعمون أنه ليس من اللّه سبحانه فَأْتُوا بِسُورَةٍ واحدة مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل هذا المنزل، و لو كان قصر سورة نحو قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» أو إِنَّا أَعْطَيْناكَ «3» وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ الذين يشهدون

______________________________

(1) الذاريات: 57.

(2) الإخلاص: 2.

(3) الكوثر: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 114

[سورة البقرة (2): الآيات 24 الى 25]

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

معكم، أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس بنبي مِنْ دُونِ اللَّهِ أي كائن ما كان غير اللّه سبحانه، كما يقال ما دون اللّه مخلوق إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ريبكم و زعمكم، أن محمدا ليس بنبي، و أن

القرآن ليس منزلا من عند اللّه تعالى، إذ لو لم يكن محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيا، لكان إنسانا عاديا، فيمكن الإتيان بمثل كلامه.

[25] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا و لم تأتوا بسورة من مثل هذا القرآن وَ لَنْ تَفْعَلُوا هذا إخبار بأنهم لن يفعلوا ذلك أبدا، إذ القرآن معجز، فلا يمكن الإتيان بمثله فَاتَّقُوا عاقبة تكذيبكم، لرسول اللّه، و لكتاب اللّه، التي هي النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا أي حطبها، و ما يسبب إيقادها النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ جمع حجر و لعل المراد بها أصنامهم، كما قال تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» و تخصيص الحجارة بالذكر للتهويل، إذ الحجارة لا تفنى، فتكون النار دائمة أُعِدَّتْ هذه النار لِلْكافِرِينَ هذه عاقبة من يكذب.

[26] وَ بَشِّرِ يا رسول اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم و ألسنتهم

______________________________

(1) الأنبياء: 99.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 115

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بجوارحهم أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الجنة باعتبار كونها بستانا ذات أشجار و نخيل، تكون أرضها «من تحتها» فالأنهار جارية من تحت الجنة على أرضها كُلَّما رُزِقُوا أي رزق المؤمنون مِنْها أي من الجنات مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً بأن أتى لهم بفاكهة و ثمرة قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ فإنهم يألفون تلك الثمار لما رأوا منها في الدنيا، و ليسوا كأصحاب الجحيم الذين لا يألفون طعامهم الذي من ضريع، و لا شرابهم الذي من حميم وَ أُتُوا بِهِ أي بذلك الرزق مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا في الجودة و الجدة، لا كأثمار الدنيا، بعضها ناضج، و بعضها غير ناضج، و بعضها جيد، و بعضها ردي ء وَ لَهُمْ فِيها أي في الجنات أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من القذارات الخلقية،

كالأوساخ و الدماء، و القذارات الخلقية، كالسب و الشتم و الحسد، و نحوها وَ هُمْ فِيها أي في تلك الجنات خالِدُونَ أبدا لا يموتون، و لا يتحولون عنها، و حيث قسم اللّه الناس إلى أقسام ثلاثة، مؤمن و منافق و كافر، و مثل للمنافق، ثم أمر الناس عامة بالعبادة، و دعاهم إلى حضيرة الإيمان، و ذكر لهم فوائده، و احتج على من أنكر الرسالة، أجاب عن سؤال سأله الكفار و من إليهم تعنتا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 116

[سورة البقرة (2): آية 26]

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)

و هو: أن اللّه لما ذا يضرب المثل، كما مثل للمنافق هنا، و مثل في سور أخرى بالعنكبوت و نحوها؟ فإن المثال أوقع في النفوس، و موجب لتقريب المطلب إلى الأذهان.

[27] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما فإن الحياء من الأشياء القبيحة، أو نحوها، و ليس في تمثيل اللّه الكبير بالأشياء الصغيرة الحقيرة، في النظر حياء، أي مثل كان، و هذا معنى قوله «ما» أي شيئا من الأشياء، بَعُوضَةً و هي البقة فَما فَوْقَها و لعل ذكر البعوضة هنا لأنها أصغر حيوان متعارف يراه كل أحد فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي المثل الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ و أتى به لغرض التوضيح و التبيين وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ معترضين ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا و مثلا تمييز في معنى «بهذا المثل» و لماذا يأتي اللّه بهذا المثل-

غير المناسب لجلال اللّه- ف يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً و يوجب انقسام الناس، و من المحتمل أن يكون «يضل ...» جوابا عن اعتراضهم، أي أن المقصود من المثل الإضلال و الهداية، لكنه ينافي السياق، فإن المقصود بالمثل ليس ذلك، و إنما التوضيح و التقريب وَ ما يُضِلُّ بِهِ أي بالمثل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 117

[سورة البقرة (2): الآيات 27 الى 28]

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

إِلَّا الْفاسِقِينَ الذين فسقوا أي خرجوا عن طاعة ربهم و مقتضى عقولهم، ثم بين الفاسقين بإبراز سماتهم بقوله:

[28] الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ الميثاق ما وقع التوثيق به، و ميثاق اللّه هو ما أخذ عليهم في الكتب السالفة من الإيمان، أو هو ما أودع فيهم من الفطرة بعرفان الحق وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من صلة الأرحام، أو صلة الرسول و المؤمنين وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالكفر و النفاق و إتيان المحرمات أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أعمارهم، فذهبت دنياهم ضنكا و آخرتهم عذابا و نارا.

[29] ثم عاد سبحانه إلى حال الكافر، و وجه الخطاب إليه مستدلا على بطلان كفره بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً لا روح فيكم، فإن أصل الإنسان التراب، ثم يكون نباتا، ثم يكون حيوانا و ما أشبه، فيأكله الإنسان، فيتولد منه المني، ثم يصير إنسانا، ثم يموت و يرجع ترابا، ثم يعاد يوم القيامة إنسانا فَأَحْياكُمْ نباتا أو حيوانا أو إنسانا ثُمَّ

يُمِيتُكُمْ وقت موتكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يوم القيامة ثُمَ بعد الحياة الثانية إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لتساقون إلى المحاكمة الكبرى، و كون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 118

[سورة البقرة (2): الآيات 29 الى 30]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29) وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)

الرجوع إليه، مع إن الإنسان في جميع الأحوال، بدءا و ختاما، تحت سلطة اللّه و قدرته و علمه، باعتبار محاسبته تعالى للإنسان.

[30] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ لمنفعتكم ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فمن خلقها غيره، و كون الخلق للإنسان، لا يدل على تحليل كل شي ء، بل كل شي ء بحسبه، فالأسماك المحرمة، و الحيوانات المفترسة لتمتع السمع و البصر، لا للأكل و نحوه و هكذا ثُمَّ اسْتَوى أي توجه بالخلق و الأمر إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ مدارات للنجوم السيارة، فإن السماء في اللغة بمعنى المدار- هذا إذا قلنا بالنظر الفعلي حول السماوات- و يؤيده حديث عن الإمام الرضا عليه السّلام- كما في «الهيئة و الإسلام» «1»- وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فلا يغيب عنه شي ء، فمن كفر كان اللّه مطلعا عليه لا يفوته ذلك، و لا يخفى أن خلق الأرض كان أولا، ثم خلق السماء، ثم دحو الأرض، كما قال (وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) «2».

[31] و حيث ذكر سبحانه قصة خلق السماء و الأرض، و ثم البناء، توجه الحديث إلى من استخلف فيها وَ اذكر إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ الذين

هم مخلوقين في الملإ الأعلى لا يرون بالعين إلّا لمن شاء اللّه

______________________________

(1) للعلامة الشهرستاني.

(2) النازعات: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 119

[سورة البقرة (2): آية 31]

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يخلفني في الأمر و النهي و الإرشاد، و هذا الحوار إنما كان لأجل إظهار كوامن، و بيان حقائق قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها أي في الأرض مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ و هذا استفهام حقيقي، يريدون بذلك استيضاح السبب، و لعلهم إنما علموا بذلك، لما كانوا يدرون من كدرة الأرض و ثقلها الموجبة للفساد و التكدر، أو لما رأوا من فعل بني الجان سابقا وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ففينا الكفاية، و ليس هذا تزكية، بل كقول العبد المطيع لمولاه: إني أقوم بخدمتك فلما ذا تأتي بغيري الذي لا يقوم بالواجب، و معنى التسبيح التنزيه، و كان المراد من التسبيح بحمده، التنزيه المقترن بالحمد، مقابل التنزيه غير المقترن به، كتنزيه الجوهرة الثمينة عن النقائص، لكن التنزيه فيها لا يقترن بالحمد، إذ ليس ذلك باختيارها بخلافه تعالى المقترن أفعاله و أعماله بالإرادة وَ نُقَدِّسُ لَكَ أي أن تقديسنا و تنزيهنا لأجلك لا يشوبه رياء و سمعة قالَ اللّه تعالى في جواب الملائكة السائلين عن السبب إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فإن في استخلاف البشر، مصالح أهم من الفساد الواقع منهم، كما أن استخلافهم أهم من استخلافكم فإن منهم من الأخيار و الصالحين من لا يلحقه الملك المقرب، بالإضافة إلى أنه خلق يظهر من عظمة الصانع نوعا جديدا.

[32] و إذا أراد اللّه تعالى إعلام الملائكة ببعض مزايا البشر، و إنه من

جنس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 120

[سورة البقرة (2): آية 32]

قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

أرفع منهم، علّم آدم عليه السّلام، علوما يتمكن هو من فهمها و هضمها، بينما لا يقدر الملائكة على ذلك، ثم قال تعالى للملائكة: هل تتحملون مثل ذلك؟ فأبدوا عجزهم، و إذا رأوا من آدم التحمل و القدرة، اعترفوا بالتفوق، و إنه أحق بالخلافة، و توضيح ذلك بمثال أنه إذا كان لإنسان خادم لا يقدر فطرة على بناء دار جميلة، ثم أراد استخدام مهندس، فقال الخادم: لماذا تستخدم غيري و أنا حاضر؟

يقول له السيد: إني أعلم ما لا تعلم، ثم يستخدم المهندس، و يبين له ما يريده من الدار، فيقدر المهندس من بنائها، بينما لا يقدر الخادم على النزول عند رغبة السيد، و هناك يعترف بالعجز، و أن السيد كان عارفا حيث تركه إلى غيره وَ عَلَّمَ اللّه تعالى آدَمَ عليه السّلام الْأَسْماءَ كُلَّها أسماء الأشياء و علائمها، و ذلك يستلزم تعليم المسميات و المعلومات، فإذا علمت أحدا اسم زيد و عمرو و بكر، كان اللازم تعريفهم له أيضا، و لذا قال ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ بإتيان ضمير «هم» تغليبا للعقلاء على غيرهم، و العرض على الملائكة فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ صدقا خبريا يطابق كلامكم الواقع في أنكم كافين في الاستخلاف، و لعل تعليم آدم كان بالإلهام، و خلق العلم فيه، مما هو قابل له، دون الملائكة، فإنهم لم يكونوا قابلين لهذا العلم و الإلهام، فلا يقال لماذا لم يعلّم اللّه تعالى الملائكة.

[33] قالُوا سُبْحانَكَ أنت منزه عن القبيح و العبث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 121

[سورة البقرة (2):

الآيات 33 الى 34]

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا فليس لنا هذا العلم الذي لآدم مما هو قابل له، و لسنا قابلين له إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ و الحكيم هو الذي يفعل الأشياء عن حكمة، بمعنى وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها.

[34] قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أي بأسماء ما عرضهم على الملائكة فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ و عرفت الملائكة كون قابلية آدم فوق قابليتهم قالَ اللّه تعالى لهم أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ما غاب عن إدراككم وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي تظهرون وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من حسد بعضكم- و هو الشيطان- لآدم عليه السّلام: ثم أن مقتضى اللطف العام و الرحمة الواسعة أن يخلق اللّه تعالى أنواع المخلوقات الممكنة، التي لا يمنع عن خلقها مانع، و لذا خلق الملائكة دون البشر، و خلق بعض كل من الصنفين أرفع من البعض الأخر، فلا مجال للتساؤل، فلما ذا لم يجعل اللّه تعالى هذه القابلية البشرية في الملائكة؟ و ثم خلق آدم عليه السّلام، و انتهى كل شي ء.

[35] وَ أذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ إما بأن يكون هو قبلتهم و يكون السجود للّه سبحانه، و إما أن يكون السجود لآدم، و لا دليل عقلي على إنه لا يجوز لغير اللّه تعالى، نعم ورد الشرع بذلك بالنسبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 122

[سورة البقرة (2): آية 35]

وَ

قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

إلى المسلمين فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ هو الشيطان أَبى وَ اسْتَكْبَرَ أي امتنع و أنف وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ التفات، كما نقول نحن «كان أبو جهل كافرا» و ليس حكاية، عطفا على «أبى» حتى يستلزم كونه كافرا من قبل ذلك.

[36] وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حواء عليها السّلام، قال لهما ذلك، بعد ما خلق حواء أيضا، خلقا كخلق آدم ابتداء من غير أب و أم الْجَنَّةَ الجنة هو البستان، و قد كانت للّه تعالى جنة أسكنها آدم و حواء وَ كُلا مِنْها رَغَداً أكلا واسعا، بلا زحمة و تكلف حَيْثُ شِئْتُما من أطراف الجنة وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فقد نهوا عن شجرة واحدة، اختبارا و امتحانا، و كانت الشجرة على قول جمع «الحنطة» و قد كان النهي إرشاديا، كنهي الطبيب مريضه أن لا يأكل ما يضره، و قد كانت فائدة عدم أكلهما لها أنهما يبقيان في الجنة، كما قال سبحانه إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «1» فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فإن الإنسان إذا حرم نفسه من الخير، كان ظالما لها، إذ الظلم بمعنى وضع الشي ء في غير موضعه، كما إن العدل معناه وضع الشي ء موضعه.

______________________________

(1) طه: 119 و 120.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 123

[سورة البقرة (2): الآيات 36 الى 38]

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

[37] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي حمل الشيطان آدم و حواء على الزلة عن الجنة، بسبب إنه حملهما على الأكل من الشجرة فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم وَ قُلْنَا اهْبِطُوا الخطاب لآدم و حواء و الشيطان، و الهبوط إما حقيقي، إن كان محل أعلى إلى أسفل، أو رتبي بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فإن الشيطان عدوهما، و هما عدوان له وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ محل القرار وَ مَتاعٌ أي استمتاع إِلى حِينٍ إلى حين انقضاء الدنيا، أو موت كل أحد، و إذ ارتكب آدم خلاف الأولى بأكل الشجرة، و أهبطه اللّه تعالى من الجنة تداركته الرحمة.

[38] فَتَلَقَّى أي أخذ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ تسبب التوبة و الرجوع عن الزلة، و كان ذلك بتعليم اللّه تعالى له أن يجري تلك الكلمات على لسانه، فأجراها فَتابَ اللّه عَلَيْهِ أي على آدم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ أي كثير القبول للتوبة الرَّحِيمُ بعباده.

[39] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً إنما كرر الأمر بالهبوط توطئة لموضوع آخر، و هو أمر الهداية، بعد ذكر المقر و المتاع، كما يقال: قلت له اذهب تربح، قلت له اذهب تسلم فَإِمَّا أصله «إن» الشرطية، و «ما»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 124

[سورة البقرة (2): الآيات 39 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

الزائدة، دخلت عليها لتصحيح نون التأكيد، يعني فإن يَأْتِيَنَّكُمْ أيها البشر الذي في صلب آدم مِنِّي هُدىً يهديكم إلى

الحق فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدنيا و لا في الآخرة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ إذ الخوف الكامل، إنما يكون من أمر مكروه، و لا يعوض، و كذلك الحزن و مصائب المؤمنين تعوّض، فلا خوف كامل منها، و الفرق بين الخوف و الحزن: أن الأول لأمر مترقب، و الثاني لأمر حادث- غالبا- و لا مانع من الخطاب إلى المعدوم إذا كان المقصود منه الوصول إليه بعد وجوده، هذا مع الغض عن عالم الذر، كما لا مانع من الجمع بين «إن» و «نون التوكيد» إذ المعنى إن أتاكم إتيانا قطعيا مقابل الإتيان المظنون.

[40] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يؤمنوا بعد أن تمت عليهم الحجة، و لعل هذا سر قوله «كذبوا» بعد «كفروا» إذ الكفر لا يلازم التكذيب، إذا كان عن قصور أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أبدا و لا يخفى أن المقصر المعاند خالد أبدا أما غيره فيمتحن هناك.

[41] و لما أتم القرآن الكريم قصة «آدم» و استخلافه في الأرض، وجه الكلام إلى «بني إسرائيل» الذين هم نموذج للجنس البشري، و قد أتتهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 125

[سورة البقرة (2): آية 41]

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

الأنبياء عليهم السّلام «هدى» و أنعم عليهم اللّه تعالى، فكفروا بالنعم، و قتلوا الأنبياء، ليكون فذلكة لقصة آدم، و درسا لأمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا بَنِي إِسْرائِيلَ هم اليهود، و إسرائيل اسم يعقوب النبي عليه السّلام، نسبوا إلى أبيهم الأعلى، كما نسب البشر إلى أبيهم الأعلى، في قوله يا بَنِي آدَمَ

«1» اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ و حيث لم يذكر المتعلق أفاد العموم، فيشمل كل نعمة مادية أو معنوية وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي و حيث لم يذكر المتعلق أفاد كل عهد عهده، سواء كان ذلك وقت أخذ موسى عليه السّلام عنهم العهد بالإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أم كان وقت أخذ اللّه عنهم العهد في عالم الذر، ثم أودع فيهم الفطرة دليلا عليه أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بإعطائكم الدنيا و الآخرة، فإن اللّه سبحانه ضمن لمن و في بعهده، أن يعمر دنياه و آخرته وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة هي الخوف، يعني يجب أن يكون الخوف من اللّه، لا من الناس.

[42] وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة، فإن التوراة الأصلية، كانت مصدقة، حتى في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا ما نسخ منها، و النسخ ليس إبطالا لها، كما أن نسخ بعض الأحكام في

______________________________

(1) الأعراف: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 126

[سورة البقرة (2): آية 42]

وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

القرآن- على القول به- ليس إبطالا له وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي أول من يكفر بما أنزلت، و إنما كانوا أول كافر، لأنهم بسبب علمهم كانوا مرجعا للجهال، فيكون كفر الجهال بمرتبة ثانية وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي بمقابل آياتي، بأن تعطوا الآيات- بمعنى عدم الإيمان بها- في مقابل ثمن قليل، هو رئاسة الدنيا و كونها قليلا لانقطاعها وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ فالتقوى يجب أن تكون منه تعالى، لا أن يكون الاتقاء من غيره، لأن اللّه بيده النفع و الضر دون غيره، كما قال تعالى قُلْ

كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1».

[43] وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ اللبس هو التعمية، أي لا تخلطوا الحق بالباطل، فتأخذوا ببعض التوراة الذي هو في نفعكم، و تتركوا بعضها الذي يضركم و هو بعض الأحكام التي تركوها، و منها التبشير بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا تَكْتُمُوا الْحَقَ الذي هو أوصاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعض الأحكام الأخر، كما قال سبحانه قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بصنعكم و أنه تلبيس المحق بالباطل، و كتمان الحق.

______________________________

(1) النساء: 79.

(2) آل عمران: 94.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 127

[سورة البقرة (2): الآيات 43 الى 45]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44) وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)

[44] وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ كما يأمر الإسلام وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ الذين هم المسلمون.

[45] أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ استفهام إنكاري، أي لم تأمرون الناس بالأعمال الخيرية وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فلا تعملون بها و النسيان كفاية عن عدم العمل لشبهه به في النتيجة، كما قال سبحانه نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «1» فقد كان اليهود يخالفون أحكام التوراة، و يرتشون و يفسدون و يكذبون وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ جملة حالية، أي و الحال أنتم تقرءون كتاب اللّه، فاللازم أن تكونوا أول العاملين به أَ فَلا تَعْقِلُونَ أي ألا تعلمون أن ما تأتون به قبيح؟.

[46] وَ اسْتَعِينُوا في رجوعكم عن دينكم و إلغائكم لرؤسائكم- بما يجر ذلك عليكم من سلب بعض دنياكم- بِالصَّبْرِ فإنكم

إذا صبرتم على ما تكرهون من اتباع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عاد ذلك عليكم بخير مما أنتم فيه وَ الصَّلاةِ فإن الصلاة توجب تهدئة النفس، و اطمئنان الخاطر أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «2» وَ إِنَّها أي الاستعانة بالصبر و الصلاة

______________________________

(1) التوبة: 67.

(2) الرعد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 128

[سورة البقرة (2): الآيات 46 الى 47]

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)

لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فإن الصبر ليس أمرا هينا، و الصلاة الكاملة ليست عملا سهلا، و إنما قيدنا الصلاة بالكاملة، لأنها هي التي يستعان بها، أو أن المراد الصلوات اليومية، و هي صعبة جدا إلا على الذين يخشون اللّه سبحانه.

[47] ثم فسر الخاشعين بأنهم الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ الظن إما بمعنى اليقين، و إما بمعنى الرجحان، و لعل السر في هذا التعبير دون اليقين، للإشارة إلى أدنى مراتب الرجحان يوجب الخشوع، فإن من يظن أنه يلاقي الملك لبعثه ذلك على التهيئة، فكيف بمن يظن أنه يلاقي مالك الملوك، و ملاقاة اللّه كناية عن الحضور للمحاسبة، و إلا فاللّه سبحانه ليس أدنى إلى الناس في القيامة منه إليهم في الدنيا وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ و الرجوع إليه معنوي كما تقدم.

[48] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تكرار للتركيز و الإلفات، فإن الإنسان ربما كان غافلا حين التذكير الأول، فيذكر ثانيا و ثالثا، بالإضافة إلى أن النفس، إذا كررت عليها الموعظة، رسخت فيها وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ التفضيل على عالم زمانهم لا على كل العوالم، فإن الظاهر من هكذا تفضيلات

هو الاختصاص، فلو قيل أن «الدولة الفلانية أقوى الدول» لم يفهم منه إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 129

[سورة البقرة (2): الآيات 48 الى 49]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

الإقوائية من الدول المعاصرة لها، لأكل دولة أتت أو تأتي، ثم أن تفضيلهم على العالمين إنما كان لأجل إيمانهم بموسى عليه السّلام، بينما كان العالم بين كافر به عنادا، كفرعون و من تبعه، أو جهلا كمن كان في البلاد البعيدة التي لم تبلغهم دعوة موسى فكانوا قاصرين.

[49] وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أي لا تغني، فلا تدفع نفس عن نفس مكروها، و إنما الأمر كله للّه، حتى أن الشفاعة تكون بإذنه، و المراد بذلك اليوم- القيامة- و معنى التقوى منه الاستعداد له وَ لا يُقْبَلُ مِنْها أي من النفس شَفاعَةٌ إلا إذا أذن اللّه للشفيع وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها أي من النفس عَدْلٌ أي فدية، و إنما سميت الفدية عدلا، لأنها تعادل المفدى وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ فإن طريق الخلاص في الدنيا إحدى هذه الأربعة، و ليست شي ء منها في الآخرة، إلا إذا أذن اللّه في الشفاعة، و عدم الاستثناء من «شفاعة» لأجل أن المراد منها الشفاعات الارتجالية، كما هو المعتاد في الدنيا.

[50] وَ اذكروا يا بني إسرائيل نعمة أنعمناها عليكم إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ و من المتعارف، أن ينسب الشي ء المرتبط ببعض الأمة إلى جميعها، إذ يجمعهم العطف و الهدى

و الانتصار، فيقال بنو تميم قتلوا فلانا، و إنما قتله بعضهم، أو عشيرة فلان شجعان، و إنما جماعة منهم كذلك، و لذا قال سبحانه «نجيناكم» و قد كانت التنجية بالنسبة إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 130

[سورة البقرة (2): آية 50]

وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

أسلافهم، و المراد بآل الرجل قومه و خواصه و إن لم تكن بينهم قرابة، كما يقال «آل اللّه» لأهل البيت عليهم السّلام يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ و سامه خسفا عذابا بمعنى ألقاه فيه، ثم فسر سوء العذاب بقوله يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ التذبيح هو التكثير في الذبح وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يدعونهن أحياء، فإن فرعون ملك القبط، لما علم من الكهان، أنه يولد في بني إسرائيل- الذين كانوا طائفة خاصة من آل يعقوب عليهم السّلام- أمر بذبح الأولاد و إبقاء النساء للاسترقاق و النكاح وَ فِي ذلِكُمْ «كم» خطاب فقط، و «ذا» إشارة، فإذا كان طرف الخطاب واحد يقال «ذلك» و إذا كان اثنين يقال «ذلكما» و إذا كانوا جماعة يقال «ذلكم» و «ذا» هنا اسم إشارة إلى سوء العذاب بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أنها كانت بالنسبة إلى اللّه تعالى، لأنه لم يحل بين فرعون، و بين هذا العمل، كما يقال، إن الأب أفسد ولده إذا لم يحل بينه و بين عمله الفاسد، و عدم حيلولة اللّه تعالى، لأجل الامتحان و الاختبار- كما تقدم- و الإنجاء، إنما كان بإهلاك فرعون و قومه.

[51] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أي جعلنا فواصل في البحر، حتى صارت بين الماء شوارع، و كان عملنا هذا بسببكم و لأجلكم، و المراد بالبحر- البحر الأحمر في

مصر- و قد كان طول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 131

[سورة البقرة (2): آية 51]

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)

الشوارع التي أسفرت عنها الماء ما يقرب من أربعة فراسخ، فإن موسى عليه السّلام و بني إسرائيل فروا من فرعون فوصلوا إلى البحر و عقبهم فرعون و قومه، فأمر اللّه موسى عليه السّلام أن يضرب بعصاه البحر، فضرب فانحسر الماء عن الشوارع حتى عبر بنوا إسرائيل، و أتبعهم فرعون و جنوده و لما توسطوا الماء، و خرج موسى عليه السّلام و قومه، رجع الماء إلى حالته الأولية، فأغرق فرعون و قومه فَأَنْجَيْناكُمْ من عدوكم وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ مع فرعون، و لم يذكر تغليبا للآل عليه وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ كيف أغرقناهم لأجلكم، و لا يخفى أن الإعجاز هين بالنسبة إلى اللّه سبحانه، فتأويل بعض الناس للمعاجز انهزام مادي غربي.

[52] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً واعد بمعنى وعد، و إن موسى عليه السّلام قبل، و لذا جي ء بصيغة المفاعلة، و لا ينافي كون الوعد هنا أربعين ليلة، و في آية أخرى ثلاثين، فإن هذه الآية بالنسبة إلى الوعدين، و في الآية الأخرى بالنسبة إلى الوعد الأول، فقد كان اللّه سبحانه وعد موسى أولا ثلاثين، ثم مدده و أضاف عشرا، و الوعد كان لإعطاء الثروة التي فيها أحكام اللّه، و تنظيم أمور بني إسرائيل الذي هو نعمة عظيمة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موسى عليه السّلام أي وقت ذهابه إلى الطور للوعد، فإنهم بعد ما ذهب موسى عليه السّلام، لميقات ربه صنعوا عجلا من ذهب، و جعلوه إلها لهم و

سجدوا له، فقابلوا نعم اللّه عليهم بالكفران، و عبادة العجل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 132

[سورة البقرة (2): الآيات 52 الى 54]

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ جملة حالية، و المراد ظلمهم بأنفسهم.

[53] ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ عبادتكم للعجل مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الاتخاذ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمنا عليكم، فتعملوا بأوامرنا.

[54] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ آتَيْنا مُوسَى نبيكم الْكِتابَ و هو التوراة وَ الْفُرْقانَ أي الفارق بين الحق و الباطل، فهو أهم من الكتاب لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ و لعل ليس ترجيا من اللّه سبحانه بل بمعنى عاقبة الترجي.

[55] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين عبدوا العجل وقت ذهاب موسى إلى الطور لتلقي التوراة و الأوامر من اللّه سبحانه يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إلها فإن اتخاذه موجب للغضب و الذلة في الحياة الدنيا و الآخرة فَتُوبُوا توبة إِلى بارِئِكُمْ الذي برءكم و خلقكم و هو إلهكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بأن يقتل من لم يعبد العجل من عبده و لو كان قريبا له، فإنه كفارة للقاتل حيث سكت و لم يتكلم، و للمقتول حيث عبد العجل ذلِكُمْ القتل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 133

[سورة البقرة (2): الآيات 55 الى 56]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

خَيْرٌ لَكُمْ إذ الألم

القليل خير من عذاب النار الدائم عِنْدَ بارِئِكُمْ متعلق بخير، أي إن هذا العمل خير عند اللّه تعالى، و في حكمه و إرادته، و ذلك مقابل الخير عند الناس الذي هو بالبقاء و العيش في الدنيا فَتابَ عَلَيْكُمْ بعد ما سمعتم الأمر بأن تبتم، و قتل بعضكم بعضا، و معنى تاب عليكم، قبل توبتكم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ بكم، فلم يغضب حتى لا يقبل توبتكم أبدا.

[56] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ بأن لنا إلها خلقنا و بيده أمورنا، أو لن نؤمن لك بأنك نبي مبعوث من قبل اللّه سبحانه حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً أي علانية و عيانا، فيخبرنا بذلك، و ذلك أن موسى عليه السّلام اختار من قومه سبعين رجلا يحضرون معه إلى الميقات، لما طلبت بنو إسرائيل منه ذلك، و لما جاءوا طلبوا رؤية اللّه تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ و هي نار تنزل من السماء، أو مادة مذابة من المعدن و نحوه، فتصيب الإنسان فتقتله، فإنهم لما طلبوا رؤية اللّه سبحانه، نزلت صاعقة من السماء فقتلتهم جميعا وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ حال نزولها، و سبب موتكم، فكان ذلك دليلا لكم على ذنبكم و خطإكم و لم يكن موتا لم يعرف سببه حتى تقولوا إنه أمر طبيعي.

[57] ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أي أحييناكم لما طلب موسى عليه السّلام ذلك لئلا يقول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 134

[سورة البقرة (2): الآيات 57 الى 58]

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً

وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

الباقي من بني إسرائيل، إنه عليه السّلام قتلهم في الطور مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ بسبب الصاعقة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمنا عليكم.

[58] وَ اذكروا يا بني إسرائيل، إذ كنتم في «التيه» حين أمرتم بحرب العمالقة فعصيتم فبقيتم في الصحراء مدة مديدة، و كنتم تتأذون من حر الشمس، و لم يكن لكم مأكل ف ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ بأن جعلناه سترة لكم تقيكم حر الشمس و برد القمر وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى المن شي ء يشبه «الترنجبين» مادة حلوة، كانت تقع على أشجارهم فيأكلوها و السلوى طير السماني، و إنزال السماني، إما بكون هذا الطير، كان كثيرا في التيه، فكانوا يصطادونه، أو بأنه كان ينزل عليهم الطير المشوي، و قلنا لكم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ طيب مذاقا، و حقيقة لكونه حلالا، لكنهم كفروا بعد كل هذه النعم وَ ما ظَلَمُونا بكفرانهم، فإنهم لن يضروا اللّه شيئا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأنهم أورثوا لأنفسهم ذلة في الدنيا و عذابا في الآخرة.

[59] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قُلْنَا لكم بعد أن خرجتم عن التيه ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس، أو «أريحا» و هي بلدة قريبة من بيت المقدس فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ من الأماكن أو المآكل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 135

[سورة البقرة (2): الآيات 59 الى 60]

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

رَغَداً

واسعا وَ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية سُجَّداً جمع ساجد، أي في حال كونكم ساجدين وَ قُولُوا حِطَّةٌ أي سجودنا للّه حطة لذنوبنا، و محو لسيئاتنا، فإن فعلتم ذلك نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ السالفة وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ منكم من خير الدنيا و خير الآخرة على ما يستحقون، كما قال سبحانه لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «1».

[60] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فقالوا «حنطة حمراء خير لنا» عوض «حطة» كما إنهم دخلوا بأستاهم عوض أن يدخلوا سجدا فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فيما فعلوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ الرجز العذاب بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب عصيانهم.

[61] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ أي سأل موسى عليه السّلام من اللّه تعالى أن يسقيهم، و ذلك حين كانوا في التيه،

______________________________

(1) فاطر: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 136

[سورة البقرة (2): آية 61]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)

و لم يكن لهم ماء فظمئوا فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ و عصاه هي التي صارت ثعبانا، و الحجر، إما كان حجرا خاصا، أو مطلق الحجر فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد أسباط بني إسرائيل، فإنهم كانوا اثنتي عشرة قبيلة، فكانت تجري لكل قبيلة عين قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي كل قبيلة مَشْرَبَهُمْ

أي موضع شربهم كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أكلهم المن و السلوى، و شربهم ماء العين المنفجر وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ الفساد مُفْسِدِينَ حالة مؤكدة.

[62] وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى حين كنتم في التيه، و ينزل عليكم المن و السلوى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ أي قسم واحد من الطعام، و لو كان ذي لونين، فالمراد بالوحدة التكرر في كل يوم فَادْعُ أي فاسأل لَنا أي لأجلنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ أي من نباتها مِنْ بَقْلِها البقل أنواع الخضر وَ قِثَّائِها الخيار وَ فُومِها الحنطة وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها حتى نتقوت بها و نأكلها عوض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 137

المن و السلوى قالَ لهم موسى عليه السّلام أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ أي تتركون ما هو الأفضل مما اختاره اللّه لكم، إلى ما هو الأدون مما ترغبون إليه، و كونها أفضل و أدون، أما باعتبار السهولة و الصعوبة، أو باعتبار الطعم و اللذة، أو باعتبار التقوية و التغذية، و على أي حال، دعا موسى و استجاب اللّه دعاءه، و قال لهم اهْبِطُوا مِصْراً من الأمصار فَإِنَّ لَكُمْ في المصر ما سَأَلْتُمْ من الأطعمة وَ لكن اليهود بسبب تمردهم و عصيانهم و لجاجتهم المستمرة ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فهم أذلاء في الأرض لا حكومة لهم مستقلة و لا عزة لهم عند الناس وَ الْمَسْكَنَةُ فإنهم مع ثروتهم أحيانا لا يفارقون المسكنة، حيث إنهم دائمو التشكّي لمخافتهم من الفقر، و هذه الآية من معاجز القرآن الكثيرة، فإن اليهود لم تقم لهم حكومة من تاريخ القرآن إلى هذا اليوم، إلا بحبل من الناس، و اتصال بالحكومات القوية وَ باؤُ بِغَضَبٍ

مِنَ اللَّهِ باء أي رجع، و المراد أنهم بعملهم السيئ غضب اللّه عليهم ذلِكَ المذكور من ضرب الذلة و المسكنة، و الرجوع بالغضب بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على موسى عليه السّلام حيث لم يكونوا يطيعون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 138

[سورة البقرة (2): الآيات 62 الى 63]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ فإن الأنبياء تواترت إليهم لكثرة لجاجتهم، فكانوا يقتلونهم، و قوله تعالى بِغَيْرِ الْحَقِ قيد توضيحي، إذ لا يكون قتل النبي حقا أبدا، و ذلك بخلاف ما لو قيل يقتل البشر بغير الحق ذلِكَ المذكور من كفرانهم و قتلهم الأنبياء بِما عَصَوْا أي بسبب عصيانهم للأوامر العقلية و الشرعية وَ كانُوا يَعْتَدُونَ فإن عصيانهم و اعتداءهم صار سببا للقتل و الكفر، و هما سببا ضرب الذلة و المسكنة و الغضب.

[63] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا من المسلمين وَ الَّذِينَ هادُوا أي صاروا يهودا باليهودية وَ النَّصارى المؤمنين بعيسى عليه السّلام وَ الصَّابِئِينَ و فيهم غموض و خلاف، و ربما قيل أنهم عبدة النجوم مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ حقيقة وَ عَمِلَ صالِحاً مما أمر به اللّه سبحانه فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لا في الدنيا و لا في الآخرة- كما تقدم- وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ فلا ييأس أحد من روح اللّه ما دام في الدنيا، و إنما قيدنا «من آمن» ب

«حقيقة» لئلا ينافي ما في صدر الآية «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا».

[64] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ العهد الشديد، و قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 139

[سورة البقرة (2): الآيات 64 الى 65]

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)

تقدم مكان أخذ العهد وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ و ذلك أن موسى عليه السّلام لما جاءهم بالتوراة لم يقبلوها، فقطع جبرائيل عليه السّلام قطعة من جبل طور و رفعها فوق رؤوسهم مهددا، إنهم إن لم يقبلوا التوراة قذفها على رؤوسهم، فقبلوا قبول التوراة مجبرين، و قلنا لكم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي بجد و يقين و شدة لا تحيدوا عنه وَ اذْكُرُوا أي احفظوا و اعملوا ب ما فِيهِ أي في «ما آتيناكم» و هو التوراة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي كي تخافون، فإن العامل بأوامر اللّه سبحانه يكون خائفا متقيا.

[65] ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم أيها اليهود مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الميثاق الأكيد، فلم تعملوا بما في التوراة، و لم تتمثلوا أوامرنا فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حيث تفضل عليكم بالتوبة وَ رَحْمَتُهُ بأن رحمكم فلم يؤاخذكم بسيئات عملكم لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ في الدنيا و الآخرة، فإن من ينسلخ عنه الإيمان يكون من أخسر الناس.

[66] وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ أي عرفتم أيها اليهود الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ أي جاوزوا حدود اللّه فيه، و ذلك أنهم حرم عليهم اصطياد السمك في السبت فكانت الأسماك تأتي و تتجمع في هذا اليوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 140

[سورة البقرة (2): الآيات 66 الى 67]

فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها

وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)

لشعورها بأمنها في هذا اليوم، فكان اليهود يحتالون لأخذها بإيصال الماء إلى أحواضهم، فلما تأتي إليها الأسماك يوم السبت سدوا طريقها، ثم يصطادونها يوم الأحد، و كان هذا خرقا لحرمات اللّه فَقُلْنا لَهُمْ أي للمعتدين كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي مبعدين عن الخير دنيا و آخرة، فإنكم أيها اليهود الذين شاهدتم هذا المسخ بالنسبة إلى المعتدي منكم كيف تعملون خلاف أوامر اللّه سبحانه.

[67] فَجَعَلْناها أي جعلنا المسخة التي مسخوا بها، و العقوبة التي عوقبوا فيها نَكالًا أي عبرة لِما بَيْنَ يَدَيْها أي من كان في زمانهم من سائر اليهود و الأمم وَ ما خَلْفَها الذين يأتون من بعدهم مما يسمعون بأخبارهم، أو يكون معنى «نكالا» «عقوبة» فالمعنى جعلنا المسخة عقوبة للمعاصي التي ارتكبوها مما كانت بين يدي المسخة، و هو «الاعتداء» و ما خلف المسخة من سائر المعاصي التي كانوا يرتكبونها بعد اعتدائهم في السبت وَ جعلناها مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ لئلا يرتكبوا خلاف أمر اللّه سبحانه.

[68] وَ اذكروا أيها اليهود قصة البقرة، و هي أنهم وجدوا قتيلا لم يعرفوا قاتله، فرجعوا إلى موسى عليه السّلام، فأمرهم اللّه تعالى، أن يذبحوا بقرة، ثم يضربوا القتيل بها ليحيي القتيل و يخبرهم بالقاتل، و كان هذا اختبارا لإيمانهم، حيث أن كون ضرب ميت بميت موجبا للحياة مما لا يصدقه ضعفاء الإيمان، و لهذا جعلوا يسألون أسئلة تافهة من موسى عليه السّلام حول البقرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 141

[سورة البقرة (2): الآيات 68 الى 69]

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما

هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً لإحياء القتيل قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً أي أ تسخر منا و تتخذنا سخرية، فما الربط بين القتيل، و بين ذبح البقرة، أو كيف تكون البقرة الميتة سببا لإحياء القتيل قالَ موسى عليه السّلام أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين يستهزئون بالناس، فإن السخرية من شأن الجهال و السفهاء.

[69] قالُوا ادْعُ لَنا أي اطلب من أجلنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي ما هي البقرة، من حيث سنها و عمرها قالَ موسى عليه السّلام إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها أي البقرة يلزم أن تكون بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ الفارض الكبيرة الهرمة و البكر الصغيرة عَوانٌ أي وسط العمر بَيْنَ ذلِكَ أي المذكور بين الصغير و الكبير فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ من ذبح هكذا بقرة.

[70] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ أي اسأل من ربك لأجلنا يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها أي ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها قالَ موسى عليه السّلام إِنَّهُ تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 142

[سورة البقرة (2): الآيات 70 الى 71]

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ اللون فاقِعٌ لَوْنُها أي حسنة الصفرة

لا تضرب إلى السواد لشدتها، و لا إلى البياض لقلتها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إليها إي تعجب الناظرين و تفرحهم بسبب حسن لونها.

[71] و لما بين سبحانه سن البقرة، و لونها سألوا عن صفتها قالُوا يا موسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ البقرة، أ تكون من العوامل، أو من السوائم التي لا تعمل، ف إِنَّ الْبَقَرَ الذي أمرتنا بذبحه تَشابَهَ أي اشتبه عَلَيْنا و إنه كيف ينبغي أن يكون وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ إلى صفة البقرة بتعريف اللّه سبحانه لنا كيف يجب أن يكون، و في الحديث

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنهم لما شددوا على أنفسهم، شدد اللّه عليهم، و لو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد

«1».

[72] قالَ موسى عليه السّلام إِنَّهُ سبحانه يَقُولُ إِنَّها أي البقرة التي أمرتم بذبحها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ يذلها العمل تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تعمل و تكرب لإثارة الأرض وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ الحرث الزرع، فلا

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 16 ص 54، باب حكم الحلف على ترك الطيبات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 143

[سورة البقرة (2): الآيات 72 الى 73]

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

تسقيه بالناعور، و الدلاء، و المعنى أن لا تكون عاملة مُسَلَّمَةٌ أي سالمة لا نقص فيها فهي بريئة من العيوب لا شِيَةَ من الوشي بمعنى اللون فِيها أي لا لون فيها يخالف لونها، و هذا ليس تأكيد لما سبق، إذ كونها صفراء، لا تدل على عدم الوشي فيها قالُوا لموسى عليه السّلام الْآنَ و بعد هذه التوضيحات لصفات

البقرة جِئْتَ بِالْحَقِ الواضح، أو بما هو حق الكلام مقابل الإجمال الذي قاله عليه السّلام سابقا بقوله «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» فَذَبَحُوها أي ذبح اليهود تلك البقرة المأمور بذبحها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ أي كاد، أن لا يذبحوا تلك البقرة لغلاء ثمنها، فإنها انحصرت في بقرة واحدة، لم يعطها صاحبها إلا بثمن فاحش.

[73] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ادارأتم بمعنى اختلفتم، و أصله تدارأتم وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من أمر القاتل، و إنه من القاتل، و لماذا قتل.

[74] فَقُلْنا اضْرِبُوهُ أي اضربوا القتيل بِبَعْضِها أي ببعض البقرة المذبوحة التي أمروا بذبحها كَذلِكَ أي مثل هذا الإحياء يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى في يوم القيامة، فإن القتيل لما ضرب بالبقرة قام حيا و أوداجه تشخب دما، و أخبر بسبب قتله، و بالذي قتله وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 144

[سورة البقرة (2): آية 74]

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

الكون و في أنفسكم، أو بمعنى يريكم معجزاته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي كي تستعملوا عقولكم، و لعل وجه تأخير آية «و إذ قتلتم» على الآيات السالفة، مع إن النظم يقتضي تقديمها، أن السياق لبيان لجاجة اليهود، و عدم إطاعتهم الأوامر، فكان المقتضى تقديم ما يدل على ذلك.

[75] ثُمَ من بعد ما رأيتم هذه الآيات أيها اليهود قَسَتْ قُلُوبُكُمْ أي غلظت مِنْ بَعْدِ ذلِكَ المذكور من آيات اللّه تعالى، أو من بعد ذبح

البقرة، و ما رأيتم من إحياء اللّه الميت فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في القسوة للمعقول بالمحسوس أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً و بين سبب أشديتها قسوة، بقوله وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما اللام للتأكيد، و «ما» موصولة، أي الحجر الذي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فيكون مبعثا للخير نافعا، بخلاف قلوبكم التي لا يأتي منها إلا الشر وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ أصله تشقق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ فيكون عينا، و إن لم يجر، و بهذا يفترق عن السابق، و هو ما يتفجر منه الأنهار وَ إِنَّ مِنْها أي من الحجارة لَما يَهْبِطُ أي ينزل من الجبل و يسقط مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فإن كل حجارة تسقط، لا بد و أن تكون سقطتها بإذن اللّه، و من خشيته خشية واقعية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 145

[سورة البقرة (2): الآيات 75 الى 76]

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76)

أو تشبيه، كالذي يخشى كثيرا فيسقط على وجهه، و قلوبكم أيها اليهود أقسى من تلك الحجارة، إذ لا تخشى من اللّه سبحانه، و لا تتواضع لعظمته وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أيها اليهود، فيجازيكم بسيئات أعمالكم.

[76] أَ فَتَطْمَعُونَ أيها المسلمون أَنْ يُؤْمِنُوا أي يؤمن اليهود لَكُمْ أي لنفعكم، إذ كل من آمن يكون في نفع المؤمنين السابقين، أو بمعنى الإيمان بمبادئكم، و هذا استفهام إنكاري، أي لن يؤمن هؤلاء اليهود بالإسلام وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي من هؤلاء، و هم

أسلافهم، و إنما صحت النسبة إليهم، لأن الأمة الواحدة، و القبيلة الواحدة، تكون متشابهة الأعمال و الأفعال و الأقوال يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ الذي يتلوه الأنبياء عليهم ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ بالزيادة و النقصان لفظا أو معنى، كما هو المتعارف عند من يريد نقل كلام لا يرضيه، فإنه إما أن ينقص فيه أو يزيد- لو وجد إلى ذلك سبيل- و إما أن يفسره بغير ما أراد المتكلم مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ و فهموه وَ هُمْ يَعْلَمُونَ فكيف يؤمن هؤلاء الذين كانوا يعملون بكلام اللّه بعد تعقل هذا العمل.

[77] وَ إِذا لَقُوا من الملاقاة، أي لقي اليهود و كانت هذه خصلة بعضهم نسبت إلى الجميع، كما هو المتعارف من نسبة ما يقوم به البعض إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 146

[سورة البقرة (2): آية 77]

أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77)

الجميع الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بأن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا موجود في كتبنا بوصفه و حليته، و لم يقصدوا الإيمان الحقيقي كسائر المسلمين، و لا الإيمان الظاهري كالمنافقين، و إنما أريد الإيمان بمعناه اللغوي، و هذا ذم لهم، حيث إنهم اتصفوا بصفات المنافقين وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ و جمع هؤلاء اليهود و غيرهم من سائر اليهود، مجلس خال من المؤمنين قالُوا أي قال من لم يكن يظهر الإيمان لمن أظهره أَ تُحَدِّثُونَهُمْ أي لماذا تحدثون المسلمين بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي بما عرفكم اللّه في كتابكم، بأن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حق، يقال فتح عليه باب العلم إذا أرشده إليه و علمه به لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي إذا أظهرتم أنتم

أيها اليهود للمسلمين، أن في كتابكم صفات محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاجوكم يوم القيامة عند اللّه فيقول المسلمون لليهود المظهرين أنتم ذكرتم أن في كتابكم صفات النبي، فلم لم تؤمنوا به أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيها اليهود المظهرون للمسلمين، أن إظهاركم سبب لغلبة المسلمين عليكم في الحجة عند اللّه.

[78] أَ وَ لا يَعْلَمُونَ يعني اليهود المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ يسر بعضهم إلى بعض وَ ما يُعْلِنُونَ و ما الفائدة في أن لا يظهروا صفات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 147

[سورة البقرة (2): الآيات 78 الى 79]

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

النبي، فإن اللّه يعلم أنهم يعلمون صفاته، و لا يؤمنون به عنادا.

[79] وَ مِنْهُمْ أي من اليهود أُمِّيُّونَ منسوب إلى الأم، بمعنى من لا يقرأ و لا يكتب كأنه نشأ تحت تربية أمه، لا تحت تربية المعلم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ الأماني جمع أمنية، كالأغاني جمع أغنية، و الأماني الأحاديث المختلفة، أي أنهم لا يعرفون ما في التوراة من صفات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و غيرها، و إنما هم جهلاء، يأخذون أمور الكتاب عن علمائهم محرفة مختلفة، فلا يميزون بين الحق و الباطل وَ إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا يَظُنُّونَ بصحة ما يسمعون، و لا يتيقنون لأنهم لم يطالعوا الكتاب بأنفسهم، حتى يعرفون ما فيه.

[80] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ أي لعلمائهم الذين يَكْتُبُونَ الْكِتابَ أي التوراة بِأَيْدِيهِمْ كناية عن أنها غير

منزلة، و إنما مكتوبة مبعثها الأيدي لا الوحي و الإلهام ثُمَّ يَقُولُونَ هذا المكتوب مِنْ عِنْدِ اللَّهِ و إنه منزل منه لِيَشْتَرُوا بِهِ أي بما يكتبونه ثَمَناً قَلِيلًا لأنهم لو كانوا يظهرون ما في التوراة حقيقة رجع مقلدوهم إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلم يكونوا يبذلون لهم الأموال و الاحترام فَوَيْلٌ لَهُمْ أي للذين يكتبون الكتاب بأيديهم مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فإنه يوجب عذابا، لأنه تحريف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 148

[سورة البقرة (2): الآيات 80 الى 81]

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)

لكلام اللّه تعالى وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من الأموال إزاء تحريفاتهم، فإن ثمن الحرام حرام آخر، و ذلك موجب للعذاب فإنه أكل للأموال بالباطل، و الويل أصله الهلاك و العذاب، ثم استعمل في كل واقع في الهلكة.

[81] وَ قالُوا أي قال قسم من اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً فلن نعذب في جهنم إلا سبعة أيام أو ما أشبه، على تقدير كفرنا و عصياننا، فلما ذا نترك رئاسة الدنيا خوفا من عذاب قليل قُلْ يا رسول اللّه لهم أَتَّخَذْتُمْ أي هل اتخذتم عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً بذلك فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ كذبا و زورا ما لا تَعْلَمُونَ و من أدراكم أن العذاب أيام معدودة.

[82] بَلى ليس الأمر كما قالوا و لكن مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ لم ينقلع عنها بل أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ كالإنسان الذي يقع في دخان حيث يحيط به

الدخان، حتى لا يتنفس و لا يبصر و لا يسمع إلا في الدخان، و كذلك المشرك المنحرف في الخطيئة فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 149

[سورة البقرة (2): الآيات 82 الى 83]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

[83] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم و ألسنتهم وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ التي أمر بها الإسلام أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ بها لا انقطاع لها و لا زوال.

[84] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ عهدهم الأكيد على لسان أنبيائهم، بأن لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وحده وَ بأن أحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً و لا تسيئوا إليهما وَ أحسنوا إلى ذِي الْقُرْبى أقربائهم وَ الْيَتامى الذين مات والدهم وَ الْمَساكِينِ الفقراء وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً و ذلك يشمل جميع أنواع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الإرشاد ورد الاعتداء بالحسن وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و هما في سائر الأمم، لم يكونا بهذا الشكل الموجود فعلا في هذه الأمة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ الذين عملوا بأوامرنا وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ تأكيدا لقوله «توليتم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 150

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 199

[سورة البقرة (2): الآيات 84 الى 85]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ

تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

[85] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ عهدكم الأكيد على لسان الأنبياء لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ أي لا يسفك بعضكم دماء بعض وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرج بعضكم بعضا من الديار، بأن يسفرهم و يبعدهم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بذلك الميثاق، بأن أعطيتمونا العهود بذلك وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أيها اليهود، بوقوع هذا الميثاق بيننا.

[86] ثُمَ بعد ذلك الميثاق أَنْتُمْ هؤُلاءِ الذين تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ مخالفة لأوامرنا تَظاهَرُونَ أنتم أي يتعاون بعضكم مع بعض في إخراجكم لهم تظاهرا عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ لا إخراجا بالحق وَ الحال إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أي كيف يخرج بعضكم بعضا، و يقتل بعضكم بعضا، مع أنكم إذا وجدتم بعضكم أسيرا في أيدي غيرهم، تعطون الفدية لخلاصهم، فإن كان بينكم عداء، فما هذه الفدية، و إن كان بينكم وداد فما هذا القتل و الإخراج. روي عن ابن عباس: أن قريظة و النضير، كانا أخوين، كالأوس و الخزرج، فافترقوا فكانت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 151

[سورة البقرة (2): آية 86]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

النضير مع الخزرج، و كانت قريظة مع الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها تصديقا

لما في التوراة «1»، و روي عن آخر أن اليهود كانوا إذا استضعفوا جماعة آخرين أخرجوهم من ديارهم أَ فَتُؤْمِنُونَ أيها اليهود بِبَعْضِ الْكِتابِ أي التوراة القائل بوجوب إعطاء الفدية لأسراكم وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ القائل بحرمة القتل و الإخراج و التظاهر بالإثم و العدوان فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ احكموا أنتم بأنفسكم إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالتفرقة و الضعف و المهانة عند سائر الأمم وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ بمخالفتهم أوامر اللّه سبحانه وَ مَا اللَّهُ أي ليس اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فإنه يعلم أعمالكم، فيجازيكم عليها.

[87] أُولئِكَ اليهود الذين خالفوا الأوامر بتلك الأفعال الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فباعوا الآخرة، و أخذوا الدنيا بدلها

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 20 ص 166.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 152

[سورة البقرة (2): الآيات 87 الى 88]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)

فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ يوم القيامة وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ هناك.

[88] وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أعطينا التوراة إياه وَ قَفَّيْنا أي أردفنا و أتبعنا بعضهم خلف بعض مِنْ بَعْدِهِ أي بعد موسى بِالرُّسُلِ رسول يتبع رسولا وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ جمع بينة، أي الدلالة الواضحة، و هي المعجزات التي أعطيت لعيسى عليه السّلام من إبراء الأكمه و الأبرص، و إحياء الموتى وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ التأييد التقوية، و روح القدس، إما جبرئيل عليه السّلام، أو روح قوية من اللّه

سبحانه فيه تقوية على التبليغ و الإرشاد مع كثرة أعدائه أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ أيها اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ و لا يمثل إليه من الأحكام اسْتَكْبَرْتُمْ و تكبرتم عن قبول أحكام اللّه سبحانه فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ كعيسى و محمد صلوات اللّه عليهما وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ كزكريا و يحيى عليها السّلام؟ و هذا استفهام إنكاري عليهم.

[89] وَ قالُوا أي قالت اليهود للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع أغلف، بمعنى إنها في غطاء و غلاف عن هدايتكم، فلا تصل الهداية إليها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 153

[سورة البقرة (2): آية 89]

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)

كما في آية أخرى وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ «1» بَلْ ليس كذلك، و إنما لَعَنَهُمُ اللَّهُ و أبعدهم عن الخير بسبب كفرهم فإنهم لما كفروا و لم يمتثلوا أوامر اللّه، أبعدهم اللّه عن الخير، كمن لا يسمع شخصا أمره فيتركه و لا يعتني به فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ لما ران على قلوبهم، و أظلمت نفوسهم بالكفر.

[90] وَ لَمَّا جاءَهُمْ أي اليهود كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي الكتاب الذي مع اليهود، و هو التوراة، فإن القرآن يصدق التوراة الحقيقي المنزل على موسى عليه السّلام إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ «2» وَ كانُوا أي اليهود مِنْ قَبْلُ أي قبل أن يأتي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو ينزل القرآن يَسْتَفْتِحُونَ أي يطلبون الفتح من اللّه عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فإنهم كانوا يدعون اللّه، أن يبعث الرسول، حتى

يكونوا أرجح كفة من الكفار فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي عرفوه بصفاته و مزاياه كَفَرُوا بِهِ و أخذوا يحاربوه، بل فوق ذلك أنهم كانوا يرجحون الكافرين على

______________________________

(1) فصلت: 6.

(2) المائدة: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 154

[سورة البقرة (2): آية 90]

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

الرسول و المؤمنين قائلين (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) «1» فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليهود الْكافِرِينَ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالقرآن، و هم يعرفون ذلك.

[91] بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي بئس الشي ء الذي باع اليهود بذلك أنفسهم، فأعطوا أنفسهم للعذاب الأبدي، و اشتروا الكفر أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بدل «ما» أي بئس الكفر الذي أخذوه مقابل أنفسهم، و ذلك تشبيه، فكأن الكفر و الإسلام، سلعتان فمن أختار أحدهما باع نفسه بذلك الشي ء، إذ يصرف نفسه في سبيل ذلك، فإذا باع نفسه مقابل الإسلام كان نعم ما اشترى به نفسه، و إذا باع نفسه مقابل الكفر كان بئسما اشترى به نفسه، و اشترى هنا بمعنى البيع، كما قال (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) «2» بَغْياً أي حسدا، و هو علة لاشترائهم السيئ، أي كان سبب شرائهم الكفر الحسد، الذي كان فيهم لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حيث أنه من ولد إسماعيل، لا من ولد جدهم إسحاق عليهما السّلام أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ الدين مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و أن ينزل، متعلق ب «بغيا»

أي أن الحسد من جهة نزول القرآن

______________________________

(1) النساء: 52.

(2) البقرة: 208.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 155

[سورة البقرة (2): آية 91]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون غيره فَباؤُ أي رجع اليهود بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ فإنهم كانوا مغضوب عليهم من جهة تعدياتهم في زمان موسى و عيسى، و سائر الأنبياء عليهم السّلام، فغضب اللّه عليهم مرة أخرى من جهة كفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لِلْكافِرِينَ الذين من أظهر مصاديقهم اليهود عَذابٌ مُهِينٌ و هو العذاب الذي يذل صاحبه و يهينه.

[92] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي لليهود آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا من التوراة وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أي وراء ما نزل عليه من كتاب عيسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هُوَ أي ما وراء كتابهم الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ و الجملة حالية قُلْ إنكم تكذبون في قولكم «نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» فإنكم لستم بمؤمنين، حتى بالتوراة و إلا فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ في السابق إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالتوراة، فإن كتابكم حرم قتل الأنبياء، فأنتم لستم بمؤمنين، لا بكتابكم، و لا بما بعد كتابكم من الإنجيل و القرآن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 156

[سورة البقرة (2): الآيات 92 الى 93]

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ

(92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

[93] وَ كيف تقولون «نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» و عملكم، يدل على خلاف ذلك، ف لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الواضحة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلها لكم مِنْ بَعْدِهِ أي بعد رواحة إلى الطور وَ الحال أَنْتُمْ ظالِمُونَ لأنفسكم في عبادة العجل، فلو كنتم مؤمنين بما نزل عليكم، لم تتخذوا العجل إلها؟.

[94] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ عهدكم الشديد، بالعمل بالتوراة وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ أي قطعة من جبل الطور- كما تقدم- و قلنا لكم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي بشدة، بمعنى العمل، بكل ما في الكتاب عملا مستمرا قويا وَ اسْمَعُوا أوامر اللّه سبحانه قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا حكاية حالهم، و يحتمل أنهم قالوه بلفظهم استهزاء وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ فكما أن من شرب الماء يدخل الماء في جوفه، كذلك اليهود، دخل العجل- أي حبه- في قلوبهم بسبب كفرهم باللّه سبحانه قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ الذي قلتم «نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» فإن الإيمان الذي يأمر باتباع العجل، ليس إيمانا، و إنما هو كفر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 157

[سورة البقرة (2): الآيات 94 الى 95]

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و هذا استهزاء لهم، ثم إنه إنما كرر «رفع

الطور» للدلالة، على أنهم عكسوا الميثاق الذي أخذ منهم، حال الرفع، بل اتخذوا العجل إلها.

[95] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء اليهود، الذين يقولون أن الآخرة هي لهم وحدهم لا يشركون فيها غيرهم من النصارى و المسلمين و غيرهما إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ عند اللّه صفة للدار الآخرة، أي الدار التي هي عند اللّه، و من دون الناس صفة لخالصته، أو لقوله «لكم» فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لأن من يدري أن مصيره الجنة، لا بد و أن يتمنى الموت، حتى يخلص من آلام الدنيا و أتعابها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالكم و كنتم تعتقدون ما تقولونه بألسنتكم.

[96] ثم أخبر سبحانه بأنهم ليسوا صادقين وَ الدليل على ذلك أنهم لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أي الموت أَبَداً في حين من الأحيان بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي و المنكرات و الكفر، و إنما نسب التقديم إلى اليد لأنها الآلة الظاهرة في تقديم الأشياء المحسوسة غالبا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فلا يغترون بمقالهم، أن لهم الآخرة، و أنهم أحباء اللّه دون سواهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 158

[سورة البقرة (2): الآيات 96 الى 97]

وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

[97] وَ كيف يتمنون الموت، و الحال أنك يا رسول اللّه لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ فإنهم أشد حرصا من سائر الناس على البقاء في الدنيا، لأنهم يعلمون أن آخرتهم إلى النار و

العذاب وَ حتى أنهم أحرص مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إذ المشرك، يزعم أنه لا شي ء وراءه، فيكون حريصا على البقاء لئلا يفنى، و هؤلاء حيث يعلمون العقاب، فهم أحرص من المشركين يَوَدُّ أي يحب أَحَدُهُمْ أي كل واحد منهم لَوْ يُعَمَّرُ و يطول عمره أَلْفَ سَنَةٍ حتى لا يذوق العذاب عاجلا وَ الحال ما هُوَ أي ليس التعمير ألف سنة بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ زحزحه أي نحاه، و قوله أَنْ يُعَمَّرَ بدل «هو» أي ما التعمير بمزحزحه من العذاب، فما الفائدة في البقاء ألف سنة لمن عاقبته النار وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ من الكفر و السيئات، فيجازيهم عليها يوم القيامة بالنار و العذاب.

[98] قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لليهود الذين جاءوك و قالوا لك لو أن الملك الذي يأتيك ميكائيل لآمنّا بك فإنه ملك الرحمة يأتي بالسرور و الرخاء و هو صديقنا و جبرائيل ملك العذاب ينزل بالقتل و الشدة و الحرب و هو عدونا فإن كان ينزل عليك جبرائيل لا نؤمن بك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 159

[سورة البقرة (2): الآيات 98 الى 99]

مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)

مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ ليس سببا فيما يعمل حتى تتخذونه عدوا بل إنه نَزَّلَهُ أي القرآن عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ لا من عند نفسه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي للكتاب الذي قبله و هو التوراة وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فأي ذنب لجبريل عليه السّلام حتى تتخذونه عدوا و لا تؤمنون بالكتاب الذي يأتي به.

[99]

مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ أي يفعل فعل المعادي من الإتيان بما يكرهه سبحانه وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ و إنما خصهما بالذكر لأنهما موضع البحث مع اليهود فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ إذ كل من يعادي أحد هؤلاء يكون كافرا و اللّه عدو لمن كفر أي يفعل معه فعل المعادي من الإهانة و التعذيب و العقاب.

[100] وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ الفاسق هو الخارج عن طاعة اللّه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 160

[سورة البقرة (2): الآيات 100 الى 102]

أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)

[101] أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا أي اليهود عَهْداً نَبَذَهُ أي نقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي جماعة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و هذا إنكار عليهم في نقضهم عهود الأنبياء السابقين بإطاعتهم و نقضهم عهود رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قصة نضير و قريضة و المراد بالإيمان: إما الإيمان بالعهود و إما الإيمان باللّه و رسله و إما الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنما قال أكثرهم لأن بعضهم آمن كعبد اللّه بن سلام.

[102] وَ لَمَّا جاءَهُمْ أي اليهود رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كعيسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة نَبَذَ فَرِيقٌ أي جماعة مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود الذين آتاهم اللّه التوراة كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ و تركوا أوامره باتباع الأنبياء عليهم السّلام من بعد موسى عليه السّلام كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي من أحكام التوراة الإيمان بالأنبياء و اتباع الرسل.

[103] وَ اتَّبَعُوا عوض الكتاب- السحر- فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم و راحوا يتعلقون ب ما تَتْلُوا و تقر الشَّياطِينُ و السحرة عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ بن داود عليهم السّلام حيث أن الشياطين على لسان السحرة على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 161

زمان سليمان كانوا يتلون السحر للناس و «على» بمعنى «في» كما قال ابن مالك «على للاستعلاء و معنى في و عن» أي أن اليهود أخذوا يتعلقون بالسحر الذي كان في زمان سليمان يريدون بذلك جلب الأموال و التقرب إلى الناس و كانوا يقولون أن سليمان عليه السّلام إنما أوتي الملك العظيم بسبب أنه كان يعمل بالسحر فرد اللّه عليهم بقوله وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ فإن السحر موجب للكفر و لا يخفى أن الكفر على نوعين: كفر في العقيدة و كفر في العمل، فالكفر في العقيدة هو إنكار أصول الدين، و الكفر في العمل هو ترك واجب أو فعل، و لذا

شاع استعمال الكفر على ترك الأوامر و فعل النواهي كقوله تعالى وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «1» في قصة الحج و قوله وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «2» في باب الشكر و

قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كفر باللّه العظيم من هذه الأمة عشرة»

و عدّ منها النمام و نحوه و على أي حال فسليمان ما كان ساحرا و لم ينل ما نال بالسحر و إنما بالنبوة و الموهبة الإلهية.

وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا بعملهم بالسحر و تعليمهم للناس إياه و الشياطين أرواح شريرة تلقي الشر في النفوس كما ثبت في العلم الحديث أيضا و غيره في باب التحضير و التنويم المغناطيسي يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ و السحر أمور غير طبيعية تأتي بعلاج خفي و منه التصرف

______________________________

(1) آل عمران: 98.

(2) إبراهيم: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 162

في العين و في النفس و في العقل فيوجب عداوة بين الناس و مرضا و ما أشبه وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ عطف على قوله «ما تتلوا» أي أن اليهود تركوا الكتاب و اتبعوا سحر الشياطين و سحر الملكين و من قصتهما أن بعد نوح عليه السّلام كثرت السحرة فأنزل اللّه ملكين في «بابل» على نبي ذلك الزمان حتى يعلمان الناس إبطال السحر فكانا يقولان للناس «هذا السحر و هذا إبطاله» كالطبيب الذي يكتب كتاب الطب فيصف الداء و ما يسببه و الدواء المزيل له فيقول مثلا إن الشي ء الفلاني سم و دواؤه كذا فكان الملكان يعلمان السحر و إبطاله و يحذران الناس أن يعملوا بالسحر و إنما يصران أن يبطلوا السحر فإذا تعلم منهما الناس أخذ بعضهم بالسحر كما أن الشخص يقرأ

كتاب الطب فيسقي الناس السم لم يكن ذلك من ذنب المؤلف للطب و إنما هو من العامل بما يضر الناس.

فقد ترك اليهود كتاب اللّه و أخذوا بالعلم الذي أنزل- أي أنزل اللّه- على الملكين الذين نزلا بِبابِلَ و هما هارُوتَ وَ مارُوتَ و لا يظن أحد أنهما كيف يعلمان السحر للناس و هما ملكان من قبل اللّه تعالى وَ ذلك لأنه ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ أي ما يعلمان أحد السحر حَتَّى يَقُولا له إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ و امتحان لك و كان تعليم للعلاج لا للإضرار فَلا تَكْفُرْ بأعمال السحر فَيَتَعَلَّمُونَ أي الناس مِنْهُما أي من الملكين ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ و ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 163

يوجب العداوة و البغضاء بين الزوجين مما يؤول إلى الفراق و الطلاق وَ لا يتوهم أن الأمر خرج من يد اللّه سبحانه كلا بل إنما شاء اللّه أن يختبر عباده كما أنه حين يخلق العنب و يعطي القدرة للبشر فيعصره خمرا لا يخرج الأمر من يده سبحانه بل إنما ذلك للامتحان و الابتلاء و لهذا قال سبحانه ما هُمْ أي الملكان و متعلم السحر منهما بِضارِّينَ بِهِ أي بسبب السحر مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن شيئا لا يؤثر في شي ء إطلاقا إلا بإذن اللّه و معنى إذنه أنه يخلي بين المؤثر و المتأثر و لو لم يخل كان عالم الجبر و بطل الامتحان و الاختبار و المراد بهذه الجملة أن شيئا لا يخرج من إرادة اللّه سبحانه حتى أن يتمكن من الردع لكنه لا يردع.

وَ يَتَعَلَّمُونَ أي يتعلم الناس من الملكين ما يَضُرُّهُمْ أي الشي ء الذي يضرهم في دنياهم و دينهم وَ لا يَنْفَعُهُمْ

أكد بذلك ردّا لزعمهم أن السحر ينفعهم حيث يوصلهم إلى أغراضهم وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ أي علم المتعلمون للسحر أن من اشترى السحر و باع دينه ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي من نصيب وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فإنهم أعطوا أنفسهم للنار مقابل اشتراء السحر الذي زعموا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 164

[سورة البقرة (2): الآيات 103 الى 104]

وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

إنه ينفع دنياهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ نزل العالم بالشي ء منزلة الجاهل حيث لم يعمل بعلمه فإن من لا يعمل بعلمه هو و الجاهل سواء.

[104] وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي اليهود بدل اتباع السحر آمَنُوا حقيقة وَ اتَّقَوْا عن فعل المعاصي لَمَثُوبَةٌ أي ثواب مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لهم في دنياهم و آخرتهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لكنهم حيث لا يعملون بذلك فكأنهم لا يعلمونه.

[105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا للرسول حين كلامكم معه راعِنا فإن راعنا في اللغة العربية من المراعاة و الرعاية، و لكنها في لغة اليهود بمعنى «أسمعت لا سمعت» فهو سب و دعاء على المخاطب و قد كانت اليهود اغتنمت هذه الكلمة المتشابهة لسب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا العنوان فكانوا يأتون إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون له «راعنا» يريدون بذلك سبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنهى اللّه المسلمين عن هذه اللفظة حتى لا يتمكن اليهود من التكلم بهذه الكلمة وَ قُولُوا عوض ذلك انْظُرْنا أي انظر

إلينا بنظرتك الرحيمة وَ اسْمَعُوا أيها المؤمنون أوامرنا و أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لِلْكافِرِينَ من اليهود الشاتمين للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحت ستار لفظة «راعنا» عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم في الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 165

[سورة البقرة (2): الآيات 105 الى 106]

ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106)

[106] ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من اليهود و النصارى و المجوس وَ لَا من الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ قبل رَبِّكُمْ سواء كان خيرا معنويا كالنبوة و الإرشاد و الوحي أو ماديا كالغلبة و النصر و المال وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ فليس إرادة اللّه تبعا لإرادة الكفار و المشركين وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فليس فضله خاصا بقوم من الكفار كما كانت اليهود تزعم أن النبوة فيهم دون غيرهم.

[107] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ بأن نرفع حكمها و نجعل مكانه حكما آخر أَوْ نُنْسِها بأن نرفع رسمها و نبلي عن القلوب حفظها، و النسيان لا يقع بالنسبة إلى القرآن الكريم و إنما بالنسبة إلى الكتب السالفة و لذا لا يوجد كثير منها فعلا، أما النسخ فإنه وقع بالنسبة إلى القرآن- على الأشهر- و إلى غيره نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها و إنما يقع النسخ و الإنساء فيما يؤتى بالمثل لأن المثل أصلح من المنسوخ و المنسي، فمثلا إذا

سقطت ورقة مالية عن الاعتبار فيأتي الحاكم بورقة أخرى مثلها في القيمة، كما أنه قد يأخذ درهما من زيد ليعطيه بدله دينارا أَ لَمْ تَعْلَمْ أيها اليهودي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 166

[سورة البقرة (2): الآيات 107 الى 108]

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)

المنكر للنسخ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فإن اليهود كانوا يلقون الشبهة بأنه كيف يمكن نسخ كتابهم بالقرآن و أنه إن كان كتابهم صالحا فلما ذا ينسخ و إن لم يكن صالحا فلما ذا أنزله اللّه تعالى، و قد كان الجواب إن عدم النسخ إما لعدم مثل أو أصلح و إما لعدم قدرة اللّه تعالى على النسخ و كلا الأمرين مفقودان، فالمثل و الأصلح موجودان و اللّه على كل شي ء قدير.

[108] أَ لَمْ تَعْلَمْ أيها المنكر للنسخ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فيتصرف فيما يشاء من الأوضاع و الأحكام كيف يشاء وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير اللّه مِنْ وَلِيٍ يلي أموركم وَ لا نَصِيرٍ ينصركم فهو سبحانه يرى صلاحكم في النسخ و الإنساء فإن المصالح تختلف حسب اختلاف الأعصار و الأشخاص، و لقد كان شأن آيات اللّه أن تنهض بالبشر مرتبة فمرتبة حتى وصلت النوبة لرسالة الإسلام و هذه بدلت بعض جزئياتها قبل تمامها و كمالها تحقيقا للتناسق بين الرسالة و بين العصر، حتى إذا كملت لم يبق مبرر أو تحوير بل تبقى إلى الأبد.

[109] أَمْ تُرِيدُونَ أيها المعاصرون

للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مسلم و كتابي و مشرك أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ أسئلة تعنت و لجاجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 167

[سورة البقرة (2): آية 109]

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109)

كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ حيث كانوا يقترحون عليه اقتراحات و يسألونه محالات كقولهم لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة، فإن المعاصرين كانوا يسألون ما لا يعنيهم أو ما أشبه كقولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «1» فقد زجرهم اللّه سبحانه لهذه الأسئلة التي لا ترتبط بمقام الرسول و الرسالة من بعد ما تبين لهم الهدى، و قوله «رسولكم» لا يختص بالمؤمنين إذ يكفي في الإضافة أدنى ملابسة وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ بأن يأخذ الكفر و يترك الإيمان الذي من مصاديقه الأسئلة التعنتية إذ إنها من سمات الكفر و الانحراف فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي وسطه الموصل إلى المطلوب.

[110] وَدَّ أي أحب كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ اليهود و النصارى و المجوس لَوْ يَرُدُّونَكُمْ أيها المسلمون مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً فتكونون مثلهم حَسَداً لكم كيف صرتم إلى حضرة الإيمان و تقدمتم في الحياة و هذا الحب ليس من جهة أنهم متدينون فيأسفون عليكم لماذا تركتم الإيمان بل الحب مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ تشبيها

______________________________

(1) الإسراء: 93.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 168

[سورة البقرة (2): الآيات 110 الى 111]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَ قالُوا

لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111)

و حسب أهوائهم أي أن مبدأ الحب هوى النفس لا الدين مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ فليس ذلك لجهلهم بدينكم و حقيقتكم فَاعْفُوا أيها المسلمون عنهم وَ اصْفَحُوا عن أعمال الكفار و لا تقابلوا إساءتهم بالمثل حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فيأذن لكم في المبارزة و المقاتلة و المقابلة بالمثل إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيأتي يوم يجعلكم أقوياء فتتمكنوا من محاربة هؤلاء الكفار فيأذن لكم في المبارزة معهم.

[111] وَ أما إذا لم يأت اللّه بأمره ف أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و لا تبارزوا وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من إعطاء الزكاة و سائر الخيرات التي هي لأنفسكم لأنها تعود إليكم في الدنيا بالألفة و في الآخرة بالثواب مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة و إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يضيع شي ء يصرف في وجهه و لا عمل يؤتى لأجله.

[112] وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى قالت اليهود: لن يدخلها إلا اليهود، و قالت النصارى: لن يدخلها إلا النصارى، و هود جمع هائد، كعود جمع عائد تِلْكَ المقالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 169

[سورة البقرة (2): الآيات 112 الى 113]

بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

أَمانِيُّهُمْ جمع أمنية أي رغبتهم الكاذبة

قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم هاتُوا أي احضروا و جيئوا بُرْهانَكُمْ و دليلكم على ما تدّعون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالتكم.

[113] بَلى جواب سؤال تقديره أ فليس يدخل الجنة أحد و من هو؟ فقيل مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ و خص الوجه لأنه أشرف الأعضاء فإذا أسلمه الشخص فقد أسلم جميع جوارحه وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ فهو يدخل الجنة سواء كان يهوديا في زمان موسى أو نصرانيا في زمان عيسى أو مسلما في زمان محمد أو من سائر الأمم في زمان أنبيائها عليهم السّلام.

و هذا كلام معه دليله إذ معيار الدخول في الجنة الإيمان و العمل الصالح فلا يقال لمن يقول ذلك: هات برهانك.

[114] وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ من دين و إيمان و تقوى فكل طائفة تجعل نفسها الناجية و غيرها الهالكة وَ الحال إن هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ و التالي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 170

[سورة البقرة (2): آية 114]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)

للكتاب لا يحق له أن يقول مثل هذه المقالة إذ كل منهم يعلم أن صاحبه على بعض الشي ء، فإن اليهود يعرفون أن النصارى لهم إيمان في الجملة و كذلك النصارى يعرفون أن اليهود لهم إيمان في الجملة كَذلِكَ القول قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من الكفار مِثْلَ قَوْلِهِمْ و هذا تأنيب للطائفتين حيث صاروا

كمن لا كتاب له و هو جاهل فإن الجاهل يمكن إن يقول ليس اليهود أو النصارى على شي ء لأنه يزعم بطلان كليهما فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ جميعا يَوْمَ الْقِيامَةِ و هناك يتبين لكل طائفة إنه على شي ء أم لا فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ و لعل تخصيص الحكم بهناك لأن هناك لا تبقى شبهة في الحكم بخلاف حكمه سبحانه في الدنيا فإن من لا يؤمن بالإسلام لا يعترف بحكمه.

[115] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ و هي عامة لكل مانع و إن كان ينطبق على أهل مكة الذين منعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن المسجد الحرام و بخت نصّر الذي منع عن بيت المقدس أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أي لا أحد أظلم من هكذا شخص و الحصر المستفاد من الآية إضافي و إلا فمن قتل الأنبياء أظلم وَ سَعى فِي خَرابِها خرابا معنويا بمنع المصلين عنها أو خراب العمارة و البناء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 171

[سورة البقرة (2): الآيات 115 الى 116]

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)

أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ من عذاب اللّه سبحانه، فمن يسعى في خراب المساجد كيف يدخلها آمنا أو خائفين من المسلمين أن يعاقبوهم لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ بالعقاب الإسلامي لمن فعل ذلك أو إخبار بخزي عن اللّه سبحانه ينزل بمن يسعى في خراب المساجد وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ حيث يذوق النار مهانا و لعل هاتين الآيتين أيضا تلميح إلى فعل اليهود بمنعهم عن المساجد.

[116]

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فكلتا الجهتين له سبحانه خلقها و هما ملك له وحده فَأَيْنَما تُوَلُّوا وجوهكم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وجه اللّه جانبه أي أن اللّه سبحانه محيط بالعلم و القدرة على كل ناحية فإذا توجه الإنسان إلى المشرق فقد توجه إلى اللّه و إذا توجه إلى المغرب فقد توجه إلى اللّه، و ليس اللّه جسما حتى يكون له مكان معين يلزم التوجه إليه إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ علما و قدرة لأنه محيط بجميع الجهات عَلِيمٌ بما يفعله الإنسان من التوجه إلى أية ناحية، و ربما قيل بأنها نزلت في رد اليهود الذين قالوا كيف انصرف محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة.

[117] وَ قالُوا اليهود عزير ابن اللّه و النصارى قالوا المسيح ابن اللّه و المشركون قالوا الملائكة بنات اللّه اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أما بأن أولده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 172

[سورة البقرة (2): الآيات 117 الى 118]

بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

كما زعم بعضهم أو أتخذ بعنوان التبني سُبْحانَهُ أي أنزهه عن ذلك تنزيها بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكيف يكون المملوك ولدا إذ الولد ليس ملكا للوالد، ثم إن المملوك تحت التصرف فالتبني لماذا ...؟ كُلٌ أي كل من السماوات و الأرض لَهُ تعالى قانِتُونَ أي خاضعون و مطيعون.

[118] بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي مبدعهما و منشئهما و خالقهما و هذا تأكيد لما في الآية السابقة من

أنه «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» وَ إِذا قَضى أَمْراً و أراده فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ أي لذلك الأمر المراد كُنْ أي يأمره بأن يوجد فَيَكُونُ أي فيوجد عقيب أمره فالكون بهذا النحو طوع إرادته و أمره.

[119] وَ بعد ذكر اختلاف أهل الكتاب و منعهم و سائر المشركين عن المساجد، و شركهم في باب التوحيد، تعرض القرآن الحكيم حول كلامهم بالنسبة إلى الرسالة، فقال، و قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ موازين الوحي و الرسالة لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلّا يكلمنا ربنا، بأن يأمرنا بأوامره، بدون احتياج إلى وسيط، أو يكلمنا بأنك نبي أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ و معجزة حسب اقتراحنا كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لأنبيائهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 173

[سورة البقرة (2): الآيات 119 الى 120]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120)

مِثْلَ قَوْلِهِمْ لموسى عليه السّلام أرنا اللّه جهرة تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ في الإنكار و في الاقتراح و التعنت قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ فلا حاجة إلى تكليم اللّه، و لا إلى الإتيان بخوارق اقترحوها، إذ لو كان مرادهم بيان الحق و البرهان، فقد فعلنا ذلك، و إن كان مرادهم غير ذلك فليس على اللّه إلا إتمام الحجة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إنما خصهم لأنهم الذين يستفيدون منها و ينتفعون بها.

[120] إِنَّا أَرْسَلْناكَ يا رسول اللّه بِالْحَقِ تأكيد للإرسال، إذ كل إرسال اللّه تعالى بالحق بَشِيراً تبشر المؤمنين المطيعين وَ نَذِيراً تنذر الكافرين و العاصين، فأنت

رسولنا، و إن كانوا يشكون في رسالتك، و يسألونك عن أشياء تافهة وَ لا تُسْئَلُ أنت عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ فلست أنت مكلفا عنهم، و إنما عليك التذكير فقط.

[121] وَ حيث أن من طبيعة الحال أن كل صاحب مبدأ ليستميله الخصماء إلى ناحيتهم، و يعدونه الرضا عنه، إذا مال نحوهم بيّن اللّه تعالى لنبيه، أن ذلك سراب خادع و يجب أن لا يغتر به الإنسان، إذ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى إلى الأبد حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ و تدخل في طريقتهم، إذ كل ذي طريقة لا يرض عن شخص إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 174

[سورة البقرة (2): الآيات 121 الى 122]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122)

بدخوله في طريقته تماما و كمالا قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى فقط دون ما سواه من اليهودية و النصرانية وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ إشارة إلى أن دينهم ليس إلا هوى أنفسهم، و ليس من عند اللّه سبحانه بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بالإسلام و شرائعه و بطلان اليهودية و النصرانية ما لَكَ أي ليس لك مِنَ اللَّهِ أي من طرف اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ أي فلا يلي اللّه تعالى أمورك و لا ينصرك.

[122] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة و الإنجيل الموصوفين بكذبهم يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ بالعمل بما في الكتاب أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بالقرآن أو بالإسلام أو بكتابهم إيمانا صحيحا،

لا كإيمان المعاندين الذين يأخذون ببعض الكتاب دون بعض وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في الدنيا و في الآخرة، أما في الدنيا، فلأن منهاج اللّه سبحانه هو المنهاج المسعد في الحياة، فإذا عرض عنه الإنسان، كانت معيشته ضنكا، و أما في الآخرة، فللعذاب المعد للكافرين.

[123] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ من إرسال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 175

[سورة البقرة (2): الآيات 123 الى 124]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

الرسل إليكم، و إهلاك عدوكم، و جعلكم ملوكا و توسيع الدنيا لكم وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ في زمانكم، التي هي من أعظم النعم- و قد تقدم الكلام في مثل هذه الآية-.

[124] وَ اتَّقُوا يَوْماً أي يوم القيامة، الموصوف بأنه لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً هناك و إنما ترى كل نفس جزاؤها العادل، فلا يحمل أحد وزر أحد وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ أي فدية تعادله، فيفك نفسه بالفدية و المال وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ بدون رضى اللّه سبحانه وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ فلا ينصر أحد أحدا، و قد تقدمت مثل هذه الآية، لكن أريد الانتقال إلى موضوع آخر كرر المطلب السابق تذكيرا و تركيزا.

[125] وَ حيث تم بعض الكلام عن اليهود و النصارى و المشركين، انتقل السياق للكلام حول إبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام و بناء البيت مما يشترك فيه الجميع، و إن تاريخهم قبل تاريخ اليهودية و

النصرانية، و قد اعتاد أن يتكلم المتكلم عن الظروف المعاصرة، ثم ينتقل إلى التواريخ الغابرة، و اذكر يا رسول اللّه إِذِ ابْتَلى امتحن إِبْراهِيمَ عليه السّلام رَبُّهُ فاعل ابتلى، أي امتحن اللّه إبراهيم بِكَلِماتٍ أي بأمور، فإن الكلمة تقال للأمر، و لا يبعد أن يكون المراد بالكلمة نفس معناها العرفي، فالمعنى ابتلاه بكلمات تكلم اللّه أو الملك معه عليه السّلام حولها لينفذها، و يأتي بمعناها، و لعل الكلمات كانت حول ذبح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 176

[سورة البقرة (2): آية 125]

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

إسماعيل عليه السّلام، أو حول مجابهة نمرود الطاغي فَأَتَمَّهُنَ بأن أطاع الأمر كاملا غير منقوص قالَ اللّه تعالى بعد إتمام الكلمات إِنِّي جاعِلُكَ يا إبراهيم لِلنَّاسِ إِماماً و الإمام هو المقتدى، و حيث أن «الناس» كالجمع المحلى باللام أفاد العموم، و لا منافاة بين كونه عليه السّلام سابقا نبيا و رسولا، و لم يكن إماما عاما، ثم صار كذلك جزاء إتمام الكلمات قالَ إبراهيم عليه السّلام سائلا اللّه تعالى وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي هل تجعل يا رب إماما؟ و هذا طلب المتأدب يأتي به في لسان الاستفهام قالَ لا يَنالُ عَهْدِي بالإمامة الظَّالِمِينَ و هذا جواب مع زيادة، إذ المفهوم منه، نعم أجعل بعض ذريتك، لكن غير الظالم منهم، و إنما خص هذا بالذكر، لبيان عظم مقام الإمامة.

[126] وَ اذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ الحرام بمكة المكرمة مَثابَةً بمعنى مرجعا فإن الناس يرجعون إليه كل عام، و

الرجوع بمناسبة مجموع الناس، و إن لم يرجع إليه كل فرد لِلنَّاسِ وَ أَمْناً فلا يحل القتال فيه، و إن من التجأ إليه يكون آمنا، فلا يجري عليه الحد، ثم صار في الكلام التفات إلى الخطاب قائلا وَ اتَّخِذُوا أيها المسلمون مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ و هو الحجر الذي كان يضعه إبراهيم عليه السّلام تحت رجله لبناء أعالي الكعبة، الذي هو الآن بالقرب من الكعبة مُصَلًّى أي محل للصلاة، فإنه تجب الصلاة للطواف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 177

[سورة البقرة (2): آية 126]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

حول مقام إبراهيم في الحج وَ عَهِدْنا أي ذكرنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ عليهما السّلام: الأب و الابن أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ طهارة معنوية، بعدم السماح لنصب الأصنام فيه و طهارة ظاهرية بالنظافة لِلطَّائِفِينَ أي الذين يطوفون حول البيت وَ الْعاكِفِينَ الذين يعتكفون في المسجد الحرام، و للاعتكاف مسائل و أحكام مذكورة في كتب الفقه «1» وَ الرُّكَّعِ جمع راكع السُّجُودِ جمع ساجد، أي المصلين.

[127] وَ اذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ في دعائه للّه تعالى رَبِّ اجْعَلْ هذا البلد و هو مكة، التي بنى فيها البيت بَلَداً آمِناً عن الأخطار، أو محكوما بحكم الأمن حكما شرعيا، و إن كان السياق يؤيد الأول وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإن دعاء إبراهيم عليه السّلام كان خاصا بهم قالَ اللّه سبحانه في جواب إبراهيم عليه السّلام

ما يدل على استجابة دعائه مع الزيادة، و هي وَ مَنْ كَفَرَ من أهل هذا البلد، لا نقطع عنه الثمار بل فَأُمَتِّعُهُ أي أعطيه المتاع من الحياة و الرزق و الأمن، و سائر الأمور قَلِيلًا فإن

______________________________

(1) راجع موسوعة الفقه ج 77 ص 151، في أحكام الاعتكاف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 178

[سورة البقرة (2): الآيات 127 الى 128]

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

عمر الدنيا قصير، و أمدها قليل ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي أدفعه إلى النار باضطرار منه، فما من أحد يرضى بالنار إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المأوى و المرجع.

[128] وَ أذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ أي كان يبني أساس البيت الحرام، و يرفعه من الأرض، و يعاونه في ذلك وَ إِسْماعِيلُ ابنه، و هما يقولان في حال البناء رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا بناء البيت إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ دعاءنا الْعَلِيمُ بما نعمله و نقصده.

[129] رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ في جميع أمورنا، و الدعاء بالإسلام، لا ينافي كونهما كذلك قبل الدعاء إذ الإسلام كسائر العقائد، و الأعمال بحاجة إلى الاستمرار، مما لا يكون إلا بهداية اللّه و توفيقه، فكما أن الابتداء لا يكون إلا بعونه سبحانه، كذلك الاستمرار، كما في اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» وَ اجعل مِنْ ذُرِّيَّتِنا و أولادنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ و الإسلام هو تسليم الأمور إلى اللّه سبحانه في الاعتقاد و القول و العمل وَ

أَرِنا أي عرفنا مَناسِكَنا جمع منسك، أي المواضع التي

______________________________

(1) الفاتحة: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 179

[سورة البقرة (2): آية 129]

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

تتعلق النسك بها، و النسك العبادة، يقال رجل ناسك، أي عابد، و قد استجاب اللّه دعاءهما، حيث أراهما جبرائيل عليه السّلام موضع الصلاة، و الوقوف، و غيرها وَ تُبْ عَلَيْنا أي أرجع إلينا بالمغفرة و الرحمة، فإن التوبة بمعنى الرجوع، و لذا يقال اللّه «التواب» أي كثير الرجوع إلى عبيده، و من ذلك تعرف أنه لا دلالة للآية، على أنهما عليهما السّلام، كانا قد أذنبا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ بعبادك الرَّحِيمُ بهم.

[130] رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ أي في الأمة المسلمة- التي طلبناها منك- رَسُولًا مِنْهُمْ من نفس الأمة، لا من سائر الأمم، حتى يكون لهم الشرف بكون الرسول منهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ دلائلك، و براهينك، و أحكامك وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ إما المراد: القرآن، أو المراد:

«كتابك» على نحو الكلي وَ الْحِكْمَةَ هي وضع كل شي ء موضعه و المراد بتعلمهم إياها، تعليمهم العلوم الكونية و التشريعية، فإن الجاهل لا يتمكن، من وضع الأشياء مواضعها لجهله بها وَ يُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الأدناس و القذارات الأخلاقية و الأعمالية إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ حقيقة، فإن العزة لا تكون إلا بقلة الوجود، و كثرة الاحتياج، و اللّه واحد لا شريك له، و جميع الاحتياجات إليه و تخصيص العزة هنا بالذكر، للتلميح إلى كون الاحتياج إليه الْحَكِيمُ فأفعالك صادرة عن حكمة، و ما طلباه إنما كان عين الحكمة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 180

[سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 132]

وَ مَنْ يَرْغَبُ

عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

[131] هذه هي طريقة إبراهيم عليه السّلام وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ أي من يعرض عن هذه الطريقة في التوحيد و التسليم و سائر ما ذكر مما يدل على أنها من أفضل الطرق إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي لا يترك هذه الملة، إلا من ضرب نفسه بالسفاهة و الحمق، و هل هناك طريقة أفضل من هذه الطريقة؟ و الاستفهام في قوله «من يرغب» استنكاري وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ جملة حالية، أي إنا بسبب هذه الطريقة المستقيمة، التي كانت لإبراهيم عليه السّلام اخترناه نبيا فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ الفائزين بالدرجات الرفيعة.

[132] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ هذا متعلق بقوله «اصطفيناه» أي اخترناه لما قلنا له أَسْلِمْ في جميع أمورك للّه قالَ إبراهيم عليه السّلام أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وحده لا شريك له، و معنى أسلم استقم على الإسلام، و اثبت على التوحيد، كقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ «1» و كما يقول أحدنا لمن كان جالسا في مكان: أجلس هنا حتى الساعة العاشرة- مثلا-.

[133] وَ وَصَّى بِها أي بالملة و الطريقة التي كانت لإبراهيم عليه السّلام

______________________________

(1) محمد: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 181

[سورة البقرة (2): آية 133]

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ

وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أولاده، و خصهم بالذكر، مع أن دعوة إبراهيم عليه السّلام كانت عامة، إشارة إلى لزوم دعوة الأهل بصورة خاصة إلى الحق، كما قال سبحانه قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً «1» وَ وصى بها يَعْقُوبُ حفيد إبراهيم من إسحاق، بنيه أيضا و خص يعقوب لأنه جد اليهود، و كانت الوصية يا بَنِيَ أي يا أبنائي، فهو جمع ابن، و أصله بنيني إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى أي اختار لَكُمُ الدِّينَ حتى تكونوا متدينين، و معنى اختار اللّه الدين لهم، أنه سبحانه أعطاهم الدين، و أراد ذلك منهم مقابل بعض الأمم الوحشية الذين تركوا و شأنهم، فلم تبلغهم دعوة الأنبياء فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي لا تتركوا الإسلام، فيصادفكم الموت على تركه، و إنما خص الموت، لأنه لو كان غير مسلم قبل ذلك، ثم أسلم و مات مسلما لم يكن عليه بأس.

[134] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أيها المدعون إن الأنبياء كانوا يهودا أو نصارى، فإن اليهود كانوا يقولون أن يعقوب النبي عليه السّلام أوصى بنيه باليهودية، فأنكر اللّه تعالى عليهم ذلك بأنكم لم تكونوا حضورا إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ و اقترب من الوفاة إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي على طريقة الاستفهام التقريري

______________________________

(1) التحريم: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 182

[سورة البقرة (2): الآيات 134 الى 135]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إبراهيم جد يعقوب و

إسماعيل عمه و إسحاق أبوه، و قدم إسماعيل لأنه كان الأكبر سنا، و الأعلى منزلة، و سمى العم أبا تغليبا، و لأن العرب تسمي العم أبا و الخالة أما إِلهاً واحِداً بغير شريك وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فكان دينهم الإسلام، و الإسلام هو دين جميع الأنبياء عليهم السّلام، لأن معناه التسليم للّه في أوامره و نواهيه و نفي اللّه سبحانه كون دين الأنبياء اليهودية أو النصرانية، يراد به نفيها بالمعنى المتداول عند أهل الكتاب، و إلا فلا يهم الاسم، كما لا يخفى.

[135] ثم بين اللّه حقيقة هي أن الأمة الماضية ليست تهمكم، أيها المعاصرون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنما المهم أعمالكم، فكيف كانت تلك الأمم، فإنها قد ذهبت و فنت تِلْكَ أي إبراهيم و أولاده عليهم السّلام أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أي ذهبت و مضت لَها ما كَسَبَتْ فإن أعمالها ترتبط بها لا بكم وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ فإن أعمالكم ترتبط بكم لا بهم وَ لا تُسْئَلُونَ أنتم عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فأصلحوا أعمالكم.

[136] وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى أي قالت اليهود كونوا يهودا و قالت النصارى كونوا نصارى تَهْتَدُوا للحق و ترشدوا قُلْ يا رسول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 183

[سورة البقرة (2): آية 136]

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَلْ نتبع مِلَّةَ أي دين إِبْراهِيمَ الصافي من شوائب اليهودية و النصرانية، و إنما هي الإسلام

المصفى، و إن كان فرق بين الإسلام و بين دين إبراهيم عليه السّلام في بعض الخصوصيات التشريعية، فالمراد نفي النصرانية و اليهودية حَنِيفاً أي مستقيما عن الاعوجاج وَ ما كانَ إبراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما أنتم أيها اليهود و النصارى مشركون، إذ تقولون عزير ابن اللّه، أو المسيح ابن اللّه، و على هذا فالمراد بإتباع ملة إبراهيم عليه السّلام إتباعها في التوحيد.

[137] قُولُوا أيها المسلمون، ما يجب عليكم أن تعتقدوا به، و ما هي خلاصة الأديان السابقة و اللاحقة، التي تعين زيف العقائد النصرانية و اليهودية و غيرهما آمَنَّا بِاللَّهِ وَ آمنا ب ما أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن الحكيم وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ أحفاد يعقوب فإن كثيرا منهم كانوا أنبياء عليهم السّلام نزلت عليهم الصحف وَ آمنا ب ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ آمنا ب ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ قاطبة مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي من الأنبياء عليهم السّلام، فإنا نعترف بالجميع وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه سبحانه مُسْلِمُونَ فإن دين الأنبياء، عليهم السّلام كلهم يتلخص في أصول و فروع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 184

[سورة البقرة (2): الآيات 137 الى 138]

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)

و أخلاق فالأصول: التوحيد، و العدل، و النبوة، و الإمامة، و المعاد، فإن كل نبي كان يصدّق من سبقه و يبشّر بمن يلحقه، كما إن الإمامة بمعنى الوصاية، فإن كل نبي كان له أوصياء، و الفروع: الصلاة و

الصوم و الزكاة و ما أشبه من العبادات، و أحكام المعاملات- بالمعنى الأعم- و كل الأديان كانت مشتركة فيها مع تفاوت يسير حسب اقتضاء الزمان و الأمة، فمثلا كان صوم الصمت في بعض الأمم و ليس في الإسلام و هكذا، و الأخلاق: الصدق و الأمانة، و الوفاء، و الحياء، و ما أشبه و كلها فطريات نفسيه كانت الأنبياء عليهم السّلام تأمر بها و تنهى عن أضدادها.

[138] فَإِنْ آمَنُوا أي آمن غير المسلمين من سائر الأديان و الفرق بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أي كما تؤمنون أنتم أيها المسلمون فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى الحق وَ إِنْ تَوَلَّوْا عن مثل هذا الإيمان، و لزموا طريقتهم المنحرفة فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي في خلاف فهم في شق و أنتم في شق فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ فإن اللّه يكفيك يا رسول اللّه و ينصرك عليهم وَ هُوَ السَّمِيعُ كلامهم الْعَلِيمُ بأعمالكم و نواياكم.

[139] اتبعوا صِبْغَةَ اللَّهِ و اصبغوا أنفسكم بها، و هي الإسلام، فإن كل طريقة يتبعها الإنسان لون له، لكنه لون غير محسوس، تشبيها بالألوان المحسوسة وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً و هذا استفهام إنكاري، أي لا أحد أحسن من اللّه صبغة و دينا وَ نَحْنُ المسلمون لَهُ عابِدُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 185

[سورة البقرة (2): الآيات 139 الى 140]

قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

لا لغيره

من الشركاء الذين أنتم تعبدونها مع اللّه، أو من دون اللّه، و ربما يقال إن وجه التسمية ب «الصبغة» أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم بماء أصفر يعمدونهم فيه، و الآية من المشابهة كقوله سبحانه تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «1».

[140] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء اليهود و النصارى و غيرهم أَ تُحَاجُّونَنا أي تباحثون معنا فِي دين اللَّهِ و إنه لم أنسخ أديانكم، و لم أختر من العرب رسولا، و لم أفعل كذا و كذا؟ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ أي أن اللّه ليس ربا لكم فقط حتى يكون معكم وحدكم إلى الأبد وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ فليس عملنا غير منظور إليه عند اللّه، و عملكم منظور إليه، كما كانوا يزعمون قائلين نحن شعب اللّه المختار، و نحن أبناء اللّه و أودائه وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ إذ لا نشرك به أحدا بخلافكم حيث جعلتم له شريكا.

[141] أَمْ تباحثون معنا في أمر الأنبياء عليهم السّلام و تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ أحفاد يعقوب الذين كانوا أنبياء عليهم السّلام كانُوا هُوداً أي يهودا أَوْ نَصارى و هذا اشتباه منهم إذ اليهودية و النصرانية، تولدتا بعد إبراهيم عليه السّلام، فكيف يكون إبراهيم

______________________________

(1) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 186

[سورة البقرة (2): آية 141]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

أحدهما، كما قال سبحانه وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ «1» قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهؤلاء المدعين بيهودية هؤلاء الأنبياء، أو نصرانيتهم أَ أَنْتُمْ

أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ فاللّه سبحانه يقول لم يكونوا يهودا و لا نصارى، و أنتم تقولون كانوا وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أظلم ممن يكتم الشهادة التي عنده من اللّه سبحانه، فإن اليهود كانوا يكتمون ما أنزل إليهم من البينات و الهدى حول الأنبياء السابقين و حول نبي الإسلام وَ مَا اللَّهُ أي ليس اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فإنه يعلم أعمالكم التي منها كتمانكم للشهادة، ثم يجازيكم عليها.

[142] تِلْكَ الأنبياء عليهم السّلام و ما كانوا يعملون و يتدينون لا يرتبطون بكم أيها المعاصرون للرسول، فإنها أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ و مضت لَها ما كَسَبَتْ من الأعمال و الأفعال وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ من الخير و الشر وَ لا تُسْئَلُونَ أنتم عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فلم هذه المباحثة و المحاجة و المجادلة.

______________________________

(1) آل عمران: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 187

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثّانى سورة البقرة من آية (143) إلى (253)

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 188

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 189

[سورة البقرة (2): الآيات 142 الى 143]

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ

لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

[143] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ جمع سفيه، و هو الغر و الجاهل، و ناقص العقل مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ أي أيّ شي ء صرف المسلمون عَنْ قِبْلَتِهِمُ السابقة الَّتِي كانُوا عَلَيْها يتوجهون في صلاتهم، و هي بيت المقدس، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمون كانوا يصلون إلى بيت المقدس، و هو قبلة اليهود، ثم في المدينة حولت القبلة إلى الكعبة، و كان السبب الظاهر لذلك أن اليهود عابوا النبي بأنه يصلي إلى قبلتهم، فحوله اللّه عنها إلى الكعبة، فأخذ اليهود يهرجون حول تحويل القبلة قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فمتى شاء وجه عبيده إلى حيث يشاء، و ليست القبلة احتكارا حتى لا يمكن تحويلها يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و كما كان الصراط المستقيم قبلا بيت المقدس حال التوجه، كذلك صار الصراط المستقيم، فعلا الكعبة.

[144] وَ كَذلِكَ أي كما أن للّه المشرق و المغرب، و أنه لا مناقشة في ذلك جَعَلْناكُمْ أيها المسلمون، و في التأويل، إن المراد بالخطاب الأئمة عليهم السّلام أُمَّةً وَسَطاً متوسطا، و الإطلاق و إن كان يفيد الوسطية في كل شي ء في العقيدة، فلا جمود و لا إلجاء، و في المكان فهم متوسطون بين شرق الأرض و غربها، و في التشريع، فليس ناقصا و لا مغاليا، و هكذا إلا أن ظاهر قوله سبحانه بعد ذلك لِتَكُونُوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 190

شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً يفيد أن المراد بالتوسط الوسيطة بين الرسول و بين سائر الناس، فالأمة تأخذ من الرسول- و يشهد الرسول عليهم بأنهم أخذوا منه، حتى لا يقولوا ما عرفنا-

و سائر الناس يأخذون من الأمة- و تشهد الأمة عليهم بأنهم أخذوا منها، حتى لا يقول الناس لم نعرف- و هذا هو الظاهر من «لام» العلة في قوله «لتكونوا .. و يكون» و لعل ارتباط هذه الآية بما سبقها من حكم القبلة، و ما لحقها بيان أن المسلمين لهم مكان القيادة، لأنهم الآخذون عن الرسول المبلغون للناس فالذي ينبغي أن تكون لهم سمة خاصة في شرائعهم، حتى لا يرمون بالذيلية، و الإتباع لقبلة الآخرين، ثم رجع السياق إلى حكم القبلة فقال سبحانه وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها و هي بيت المقدس الذي كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتوجه نحوه في الصلاة، طيلة كونه في مكة المكرمة، و مدة بعد الهجرة إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ معنى «لنعلم» أن يتحقق علمنا في الخارج، بأن يظهر المتبع من المخالف، فإنه قد يقال لنعلم، و يراد به حصول العلم للمتكلم، و قد يقال لنعلم، و المراد به وقوع المعلوم في الخارج، و في بعض التفاسير أن قوما ارتدوا على أدبارهم لما حولت القبلة «1»، فظهر

______________________________

(1) مجمع البيان: ص 418.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 191

[سورة البقرة (2): آية 144]

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

إنهم لم يكونوا يتبعون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حقيقة و إنما حسب الأهواء، و العقب مؤخر القدم، و المعنى التشبيه لمن يرتد كافرا، بمن يرجع القهقرى وَ إِنْ كانَتْ

مفارقة القبلة الأولى إلى قبلة أخرى لَكَبِيرَةً إذ هو خرق لاعتياد قديم متركز إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ إياهم بأن قوى قلوبهم بالإيمان وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أيها المسلمون الراسخون الذين اتبعتم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هذا تقدير لهم في ثباتهم، و وعد لهم في الجزاء على إيمانهم الكامل، و يحتمل أن يكون جوابا عن سؤال وقع من بعضهم، و هو إنه كيف تكون حال صلواتهم السابقة التي صلوها إلى بيت المقدس، و إن كان الظاهر من كلمة «إيمان» المعنى الأول إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يضيع أتعابهم و أعمالهم.

[145] و بعد ما بين الحكم، و أن القبلة تحولت، بيّن اللّه سبحانه قصة التحويل، فإنها كالعلة للحكم المتقدم، و العلة دائما تأتي متأخرة في الكلام، و إن كانت سابقة في التحقيق، كما يقال إنه إنسان طيب لأن تربيته حسنة قَدْ نَرى «قد» هنا للتحقيق نحو قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ «1» و إن كان الغالب في «قد» الداخلة على المضارع، أن تكون بمعنى التقليل، و لعل سر دخولها، إشراب الفعل معنى التقليل، حيث لا يريد المتكلم

______________________________

(1) النور: 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 192

إظهار العلم بالبت، مثله وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً «1» تَقَلُّبَ وَجْهِكَ يا رسول اللّه فِي السَّماءِ أي في ناحية السماء، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقلب وجهه في أطراف السماء، فينتظر الوحي حول القبلة، و إن اليهود عيروه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلين له أنك تابع لقبلتنا فلما كان في بعض الليل خرج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يقلب وجهه في آفاق السماء،

فلما أصبح صلى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين، جاء جبرائيل عليه السّلام بهذه الآية، ثم أخذ بيده فحول وجهه إلى الكعبة، و حول من خلفه وجوههم، حتى قام الرجال مقام النساء، و النساء مقام الرجال فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها إذ الرسول كان يحب الكعبة التي هي بناء جده إبراهيم عليه السّلام و عندها موطنه فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الشطر الجزء، أي حول وجهك نحو جزء من المسجد الحرام، و المسجد لكونه محيطا بالكعبة يكون المتوجه إليه متوجها إليها إذا كان من بعيد وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أيها المسلمون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و ذكر «الوجه» في المقامين، لأنه الشي ء الذي يتوجه به في جسد الإنسان وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى الذين يستشكلون عليكم قائلين إن كانت القبلة

______________________________

(1) سبأ: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 193

[سورة البقرة (2): آية 145]

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

السابقة حقا، فهذه باطلة، و إن كانت هذه حقا، فتوجهكم في السابق إلى بيت المقدس باطل لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي تحويل القبلة أو هذه القبلة حق من قبل اللّه، فإن اللّه سبحانه يعبده عباده كيف يشاء، فمن الجائز أن يعبد الأمة بتشريع إلى مدة، ثم يعبدهم بتشريع آخر وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ أي يعمل أهل الكتاب من الإرجاف و بث الأباطيل حول تحويل القبلة و سائر الأمور المرتبطة بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[146] وَ لَئِنْ أَتَيْتَ يا رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى بِكُلِّ آيَةٍ من الآيات الدالة على أن قبلتك حق ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنهم معاندون، و المعاند لا ينفع معه الدليل وَ ما أَنْتَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ بعد ما تعلم أن قبلتهم منسوخة، كقوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ* وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ «1» وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، و النصارى لا يتبعون قبلة اليهود وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَهْواءَهُمْ في باب القبلة و سائر التشريعات مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بأن

______________________________

(1) الكافرون: 3- 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 194

[سورة البقرة (2): الآيات 146 الى 147]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

طريقتهم باطلة إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ و هذه الجملة، و إن كانت موجهة إلى الرسول، لكن المقصود منها العموم، و لا تنافي العصمة، فإن الاشتراط يلائم المحال، كقوله تعالى إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «1» و قد تقرر في المنطق أن صدق الشرطية إنما هو بوجود العلية و نحوها، لا بصدق الطرفين.

[147] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ من اليهود و النصارى يَعْرِفُونَهُ أي الرسول، أو هذا الحكم، أعني كون تغيير القبلة بأمر اللّه سبحانه، و إن كان الأول أقرب إلى سياق التشبيه كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ ممن لم يؤمن بالرسول لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ فليس عذر هؤلاء جهلهم، حتى يرجى زواله،

و إنما العناد الذي لا علاج له.

[148] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي هذا هو الحق من عند اللّه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين فيه، فإن المحق إذا كثرت عليه التهجمات و رمي بأنه على غير حق، يكاد يشك فيه، و لذا يثبت اللّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما قال تعالى وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا «2».

______________________________

(1) الزخرف: 82.

(2) الإسراء: 75.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 195

[سورة البقرة (2): الآيات 148 الى 149]

وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

[149] وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ أي لكل أمة من الأمم طريقة هُوَ أي اللّه سبحانه مُوَلِّيها أي أمرهم بالتوجه إليها، فلا غرابة أن يكون للمسلمين وجهة خاصة في قبلتهم فَاسْتَبِقُوا أي سارعوا إلى الْخَيْراتِ تنافسوا فيها، فإن اللّه موليكم هذه الطرائق، و لا تبقوا جامدين على طريقة منسوخة، فإن ذلك انصراف عن الخير إلى الشر، و من المحتمل أن يكون «هو» راجعا إلى «كل» أي لكل فرد أو أمة، طريقة في العمل و التفكير فذلك الشخص مولي و موجه نفسه إياها، فليكن هم كل فريق و فرد أن يسابق غيره في الخيرات أَيْنَ ما تَكُونُوا من بقاع الأرض يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يوم القيامة، حتى يجازيكم على أعمالكم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيتمكن من جمعكم، و لا يفوته شي ء [150] كان لتحويل

القبلة نحو الكعبة أسباب و علل، العلة الأولى: رغبة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن تحول القبلة لما عيرته اليهود، العلة الثانية: أن التحويل كان للحق، و أن يكون للمسلمين ميزة خاصة يمتازون بها عن سائر الأمم، حتى في اتجاه الصلاة، العلة الثالثة: أن التحويل كان لقطع حجة الناس، الذين كانوا يتعجبون من كون المسلمين، يدعون دينا جديدا، و مع ذلك يتوجهون إلى قبلة بني إسرائيل، و تبعا لهذه العلل، تكرر الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام، و قال سبحانه وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ للسفر من البلاد فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 196

[سورة البقرة (2): آية 150]

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

فإنه قبلة في السفر كما هو قبلة في الحضر، و في هذا فائدة ثانية للتكرار وَ إِنَّهُ أي توجيه الوجه نحو المسجد الحرام لَلْحَقُ الذي جاء مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فمن أعرض عن هذه القبلة كان جزاءه سيئا، و من اتبعها كان جزاءه حسنا.

[151] وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ للسفر من البلاد فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هذا للسفر وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و هذه الآية، جمع بين الآيتين السابقتين «وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ، الآية: 150» «وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ الآية:

145» و قد عرفت إنه كرر لفائدة العلة المذكورة في الآية لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ أي إن تحويل القبلة، إنما هو لنقطع احتجاج الناس

عليكم حيث يقولون: كيف إن المسلمين يدعون إلى دين جديد و قبلتهم هي قبلة أهل الكتاب إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فإن هؤلاء لا ينفعهم المنطق، فالمعاند لا تفيده الحجة فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي فالخشية، إنما تكون ممن بيده النفع و الضر، و هؤلاء ليس بيدهم شي ء منهما، و إنما كل ذلك بيد اللّه سبحانه، و لا يخفى أن الاستثناء منقطع كقولك: إنما فعلت الفعلة الفلانية ليعرف الناس بالأمر، إلا من يريد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 197

[سورة البقرة (2): آية 151]

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

العناد وَ بعد ذلك فتحويل القبلة إنما كان لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بتميزكم عن أهل الكتاب و قطع تعيير اليهود، و إرجاعكم إلى بناء جدكم إبراهيم الذي هو إحياء لذكراكم وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى الحق اهتداء كاملا، فإن في تشريف الإنسان بشرف سببا لتقريبه إلى الهداية الكاملة.

[152] و قد أتممنا النعمة عليكم بتحويل القبلة كَما أنعمنا عليكم قبل ذلك بنعمة عظمي ف أَرْسَلْنا فِيكُمْ أيها المسلمون رَسُولًا مِنْكُمْ لا من غيركم، فاخترتكم لأن تكون رسالتي بيد واحد منكم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا و قرآننا تلاوة وَ يُزَكِّيكُمْ يطهركم من أدناس الجاهلية و القذارات الخلقية، و النجاسات البدنية- بإرشاده إياكم إليها- وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ و من المعلوم أن التلاوة غير التعليم، فرب تال غير معلم، بالإضافة إلى أن التعليم فيه معنى التركيز و التثبيت وَ الْحِكْمَةَ يرشدكم بمواضع الأشياء و مواقع الخطأ و الصواب، فالحكمة- كما عرفت- وضع كل شي ء موضعه وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بصورة عامة، فيشمل القصص و التواريخ المفيدة و أحوال الأنبياء،

و أحوال المعاد مما ينفعهم في دينهم و دنياهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 198

[سورة البقرة (2): الآيات 152 الى 154]

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)

[153] فَاذْكُرُونِي أيها المسلمون بالطاعة و العبادة، و تنفيذ الأوامر أَذْكُرْكُمْ بالنعمة و الإحسان و الجنان وَ اشْكُرُوا لِي بإظهار النعمة و الحمد عليها وَ لا تَكْفُرُونِ كفرا في الاعتقاد، أو كفرا في العمل بأن لا تعملوا بأوامري.

[154] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا في أموركم التي تريدونها سواء كانت تحت اختياركم، أم لم تكن كالصحة و الغنى بِالصَّبْرِ و تحمل النفس، فإن كثيرا من الأمور تتنجز بعد حين، فإذا صبر الإنسان تنجزت أموره و نعم براحة البال، و اطمئنان النفس، و إذا لم يصبر جرى القدر، و هو مضطرب البال كئيب وَ الصَّلاةِ فإن الصلاة توجب توجه الإنسان إلى اللّه سبحانه، و الانصراف عن الدنيا مما يشع في النفس الهدوء و السكينة، و عدم الاهتمام بمكاره الدنيا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ باللطف و العناية و الرحمة و الأجر و الثواب، و هكذا يهذب الإنسان و الأمة و يرشدهم إلى مهمتهم العظيمة، و يمرّنهم على الصبر و التحمل، و لذا يخطوا القرآن الحكيم خطوة أخرى معهم بعد الصبر و الصلاة، قائلا: إنكم لا بد و أن تتحملوا مشاق القيادة من القتل و سائر أنواع المصائب التي تتعرض لمن أراد الإصلاح و الإرشاد، و لذا يقول سبحانه:

[155] وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ فالميت من لا تأثير

له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 199

[سورة البقرة (2): الآيات 155 الى 156]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)

في الحياة و لا امتداد، و هؤلاء ليسوا كذلك بَلْ أَحْياءٌ حياة واقعية في الدنيا بتأثيراتهم و امتداداتهم، و في الآخرة، لأنهم في نعيم مقيم، وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ أنتم بحياتهم، إذ الحياة في نظركم الحس و الحركة، مع إنها معنى سطحي للحياة.

[156] وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نمتحنكم أيها المسلمون بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ و كونه شيئا، إما باعتبار أنه لا يمتد، و إنما الخوف في زمان يسير، و إما باعتبار أنه لا يبلغ الخوف- غالبا- أشده وَ الْجُوعِ و لم يذكر العطش لأن الماء غالبا متوفر وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ المبذولة في الحرب، أو ما ينهب منها في التصادم، أو الضيق الاقتصادي، أو ما أشبه وَ نقص من الْأَنْفُسِ ممن يقتل في سبيل اللّه وَ نقص من الثَّمَراتِ بسبب النهب، أو الحصاد قبل أوانه من أجل الأعداء، كما وقع في قصة الخندق حيث أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلمين أن يحصدوها، لئلا ينتفع بها المشركون- كما في بعض التواريخ- أو بأسباب أخر وَ بَشِّرِ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصَّابِرِينَ في هذه المكاره.

[157] الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ أي إنا مملوكون له سبحانه وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فهو مرجعنا و معه حسابنا و جزاؤنا، و في هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 200

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 249

[سورة البقرة

(2): الآيات 157 الى 158]

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

الجملة تسلية للمصاب، إذ اعتراف الإنسان بأن كل شي ء له إنما هو للّه، يهوّن ذهاب بعضها، فإن صاحب المال أخذه، كما أن اعتقاد الشخص، بأن اللّه هو الذي يجازي يهوّن الأمر، فإن ما فقده سوف يعوّض و لذا من كرر هذه الجملة في المصيبة عارفا معناها متوجها إلى اللّه سبحانه، في التسليم و الرضا، يجد برد الاطمئنان في قلبه.

[158] أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ و الصلوات هي العطف، فإن صلى بمعنى عطف، و هي من اللّه التوجه بالبركة و الإحسان وَ رَحْمَةٌ ترحم في الدنيا و الآخرة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ الذين اهتدوا إلى واقع الأمر مما ينفع دنياهم و عقباهم، فبذلوا ما بذلوا في سبيل اللّه راضين مرضين.

[159] و حيث ألمع سابقا إلى الجهاد، أتى الإلماع إلى الحج، فإنهما صنوان في التعداد و المشقة- في الجملة- فقال سبحانه إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ و هما جبلان قرب المسجد الحرام مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ جمع شعيرة، و هي مشتقة من اللباس الملتصق بشعر البدن، فكل شي ء مرتبط بشي ء ارتباطا وثيقا يدل عليه يكون من شعائره، فالمراد أن هذين الجبلين من الأمور المرتبطة باللّه سبحانه، حيث جعلهما محلا لعبادته بالسعي بينهما فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أي قصد البيت الحرام، و الحج القصد أَوِ اعْتَمَرَ و العمرة هي الزيارة أخذ من العمارة، لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 201

[سورة البقرة (2): آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا

مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)

الزائر يعمر المكان بزيارته، و الحج و العمرة عملان من أعمال الحج فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي يسعى بينهما، و إنما عبر ب «لا جناح» لأن المسلمين تحرجوا من الطواف بهما ظنا منهم أنه من عمل المشركين، حيث كان على الصفا صنم يسمى «أساف» و على المروة صنم يسمى «نائلة» فهو ترخيص في مقام توهم الحصر، و من المعلوم أن الإباحة في مقام توهم الحصر، و النهي في مقام توهم الوجوب، لا يدلان على مفادهما الأولية، لأنه لإثبات أصل الطرف الآخر، لا خصوصيته الإباحية و التمويمية وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي أتى بخير من الأعمال و الأفعال تطوعا، و التطوع التبرع بالشي ء من الطوع بمعنى الانقياد فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ لعملهم و معنى شكره تقديره و جزائه للعامل عَلِيمٌ بأعمالهم، فلا يفوته شي ء منها.

[160] لعل ارتباط هذه الآية بما ورد قبلها، أن اليهود و النصارى لم يفعلوا مثل ما فعل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حول الصفا و المروة، فالرسول أبطل كل شي ء حول الحج، و أقام كل حق فيه، فالصفا و المروة، حيث كانا حقا أثبتهما الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن ظن الناس أنهما من الباطل، لكن أهل الكتاب حشروا كل ما أتى به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- مما عرفوه حقا- في زمرة الباطل، و لذا صار الكلام السابق، فاتحة للتعريض بهم، فهو مثل أن يقول أحد أنا اعترفت بالحق، لكنه لم يعترف بما علم من الحق، و اللّه أعلم بموارده إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ

ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ فيخفون الأدلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 202

[سورة البقرة (2): الآيات 160 الى 161]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

الدالة على حقية الإسلام، مما نزلت في الكتب السالفة وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أي يكتمون الهدى الذي يرونه، و إن لم يكن منزلا و بيّنا أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ يبعدهم عن الخير في الدنيا و في الآخرة، بتضييق الأمور عليهم هنا و العذاب هناك وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ الذين يأتي منهم اللعن من الناس و الملائكة و الجن.

[161] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم و اتبعوا الحق و أظهروه وَ أَصْلَحُوا ما فسد من عقائدهم و أعمالهم وَ بَيَّنُوا للناس ما أنزله اللّه من الهدى و البينات فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ فالتوبة معناها الرجوع، و رجوع اللّه بمعنى إعادة الإحسان و الرحمة عليهم بعد انقطاعها عنهم بسبب كفرهم و كتمانهم وَ أَنَا التَّوَّابُ أي كثير الرجوع، فإن العاصي إذا عصى ألف مرة و رجع ألف مرة قبلت توبته، إذا تاب توبة نصوحا الرَّحِيمُ بالعباد.

[162] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا و لم يتوبوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ بالعقائد الصحيحة أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فإن الكل يلعنون الظالم، و الكافر ظالم، فإنه و إن لم يقصده اللاعن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 203

[سورة البقرة (2): الآيات 162 الى 164]

خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ

السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

بالذات، لكنه داخل في عموم اللعن.

[163] خالِدِينَ فِيها أي في تلك اللعنة، إذ لعنة الدنيا تتصل بلعنة الآخرة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ إذ لا أمد لعذاب اللّه بالنسبة إلى الكافرين وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ فلا ينظر أحد إليهم نظرة رحمة و إحسان، أو لا يمهلون للاعتذار، أو لا يؤخر عنهم العذاب.

[164] و لما تقدم حال الكافر صار السياق لبيان التوحيد، و الأدلة على الوحدانية وَ إِلهُكُمْ أيها الناس إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الموصوف ب الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ لا كما يصور الإله بعض الكتب السماوية من أنه إله انتقام و غضب و عذاب.

[165] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ بهذا النظام البديع و الترتيب الرائع وَ الْأَرْضِ بهذا الأسلوب المنظم المتكامل وَ في اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ يأتي أحدهما عقب الأخر خليفة، لتنظيم الحياة على الأرض بأجمل صورة وَ في الْفُلْكِ السفينة الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ في أسفارهم و تجارتهم وَ في ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ جهة العلو مِنْ ماءٍ ببيان «ما» فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 204

[سورة البقرة (2): آية 165]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)

بالإنبات

بَعْدَ مَوْتِها أي جمودها و ركودها وَ بَثَ أي نشر و فرق فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ تدب و تتحرك على وجه الأرض، و كلمة «بث» عطف على «أحيا» أي كان المطر سببا لإحياء الأرض، و انتشار الحيوانات فيها، إذ لو لا المطر لم يكن للحيوان ماء، و لا طعام فيهلك، و لم يبق له نسل وَ في تَصْرِيفِ الرِّياحِ أي صرفها و نقلها من مكان إلى مكان لتروح و تذهب بالأمراض و العفونات، و تنقل السحاب من هنا إلى هناك، و لو كانت الريح راكدة لم تنفع أي شي ء وَ في السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ فإنه بما يكونه من أطنان من الماء، يبقى معلقا بين الجهتين، و يسير إلى كل ناحية لَآياتٍ و علامات دالة على اللّه، و وحدته و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و يعملون عقولهم في استفادة النتائج من المقدمات و المسبب عن الأسباب، و ينتقلون من العلم بالمعلول إلى العلم بالعلة.

[166] وَ مِنَ النَّاسِ أي بعضهم مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير اللّه أَنْداداً جمع ند، بمعنى الأشباه، و المراد بذلك آلهة يجعلها شبيهة للّه في أنه يعبدها، و هي الأوثان يُحِبُّونَهُمْ أي يحب هؤلاء الناس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 205

[سورة البقرة (2): آية 166]

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)

تلك الآلهة، و إنما أتى بجمع العاقل لكونها ردفت مع اللّه سبحانه، و القاعدة تغليب الرديف على رديفه كقوله تعالى مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ «1» و قوله وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ «2» كَحُبِّ اللَّهِ أي كحبهم للّه، أو حبا شبيها بما يستحق اللّه، و على الأول،

فالمراد بهم المشركون الذين يعتقدون باللّه وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من حب هؤلاء لأوثانهم، فالمؤمنين حيث يعرفون أن كل خير من اللّه يحبونه حبا بالغا وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعني لو يرون هؤلاء المشركين يوم القيامة كون القوة جميعا لرأوا مضرة فعلهم، و سوء عاقبة شركهم، و حذف جواب لو، تهويلا للأمر، كما تقول لعدوك: لو ظفرت بك وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ عطف على «أن القوة».

[167] إن الرؤية من الظالم للعذاب، إنما يكون إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من القادة مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا و هم التابعون لهم وَ رَأَوُا جميعا

______________________________

(1) النور: 46.

(2) آل عمران: 44.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 206

[سورة البقرة (2): الآيات 167 الى 168]

وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ أي فيما بينهم الْأَسْبابُ فما كان في الدنيا يسبب وصلة بعضهم لبعض من المال و الرئاسة و القرابة و الحلف و أشباهها، تنقطع هناك، فلا داعي لنصرة الرؤساء أتباعهم الذين كانوا يتبعونهم في الدنيا.

[168] وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا إي التابعين لرؤسائهم لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي يا ليت لنا عودة إلى دار الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الرؤساء كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا هنا في القيامة حال حاجتنا إلى العون كَذلِكَ أي هكذا يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أعمال كل من التابعين و المتبوعين حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ فإن صلاتهم و أعمالهم، كلها ذهبت أدراج

الرياح، فيتحسرون لماذا لم يعملوا بأوامر اللّه سبحانه وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ فإن المشرك يبقى في النار إلى الأبد، إن تمت عليه الحجة و عاند.

[169] و إذ تم الكلام حول العقيدة، توجه إلى الحياة التي هي مقصد الإنسان، و إليها يرجع كثير من حركته و سكونه يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ من نباتها و حيوانها و مائها و معدنها حَلالًا طَيِّباً أي في حال كون المأكول حلالا طيبا، إلا ما حرم منه، و في قوله «طيبا»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 207

[سورة البقرة (2): الآيات 169 الى 170]

إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170)

إشارة إلى أن كل حلال طيب، و ليس فيه خبث يوجب انحراف الصحة، أو انحراف الخلق وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فكأن الشيطان يخطو نحو الآثام، و من أثم كأنه تتبع خطواته إذ مشى خلفه إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي عدوا ظاهرا.

[170] إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ أي الأعمال السيئة وَ الْفَحْشاءِ و هي الأعمال السيئة للغاية، فهو مشتق من الفحش، بمعنى التعدي وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ أي تنسبوا إلى اللّه ما لا تَعْلَمُونَ من العقائد و الأحكام، و عدم العلم هنا أعم من العلم بالعدم، كما قال سبحانه أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ «1».

[171] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام و سائر الوحي قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي وجدنا عليه آباءنا من التقاليد، فأنكر اللّه

ذلك عليهم بالاستفهام الإنكاري، بقوله أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من أمور الدين و الدنيا وَ لا يَهْتَدُونَ إلى الحق فإذا

______________________________

(1) الرعد: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 208

[سورة البقرة (2): الآيات 171 الى 173]

وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

ظهر لكم أن آباءكم لا يعلمون، فكيف تتبعونهم.

[172] ثم بين اللّه سبحانه، أن هؤلاء الكفار لعنادهم و تعصبهم، قد غلقت منافذ السمع و البصر عنهم، فلا يفيد فيهم وعظ و لا تذكير وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد ما يروا الآيات، و يسمعوا نداءك يا رسول اللّه كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أي يرفع صوته بِما أي بالحيوان الذي لا يَسْمَعُ و لا يفهم الكلام، و إنما يسمع إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً فالحيوان، إذا صحت به، لا يفهم من كلامك إلا مجرد الدعوة و النداء، فهؤلاء الكفار كذلك، إذ لا ينتفعون بكلامك أبدا، فهم صُمٌ جمع أصم بُكْمٌ جمع أبكم عُمْيٌ جمع أعمى، فإنهم و لو كانت لهم آذان و ألسنة و عيون، لكنها كالمعطلة، لأنها لا تؤدي وظيفتها فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [173] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ تكرارا لما تقدم لإلحاق مسألتي الشكر و المحرمات به وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ و لا تشكروا سائر الآلهة، كالمشركين

الذين يزعمون أنهم يمطرون بالأنواء، و يرزقون بالآلهة المزعومة.

[174] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ و هي التي لم تذبح على النحو الشرعي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 209

[سورة البقرة (2): آية 174]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)

وَ الدَّمَ و هو و إن كان مطلقا، إلا إنه مقيد بالمسفوح لقوله سبحانه إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «1» وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ و خص اللحم بالكلام، و إن كانت جملته محرمة، لأن اللحم هو المعظم المقصود في الغالب وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الإهلال في الذبيحة رفع الصوت بالتسمية، و قد كان المشركون عند ذبحهم، يرفعون أصواتهم بتسمية الأوثان، فنهى اللّه سبحانه عن أكل ذبيحة ذكر غير اسم اللّه عليها فَمَنِ اضْطُرَّ بصيغة المجهول، فإن «اضطر» متعد من باب الافتعال، و حيث لم يكن المقصود، سبب الاضطرار، ذكر مجهولا غَيْرَ باغٍ أي لم يكن باغيا و طالبا للذة في أكله و شربه وَ لا عادٍ أي متعد في الأكل و الشرب، عن حد الضرورة، أو غير باغ على إمام المسلمين، و لا عاد بالمعصية طريق المحقين فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تناول هذه المحرمات إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر العصيان إذا اضطر إليه، فغفر بمعنى ستر، و ستر العصيان، عدم المؤاخذة به رَحِيمٌ بكم، و لذا جاز تناول المحرم في حال الاضطرار.

[175] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ و هم اليهود و النصارى الذين كانوا يكتمون العقائد الحقة الموجودة في كتابهم، و ينسبون إلى

______________________________

(1) الأنعام: 146.

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 210

[سورة البقرة (2): آية 175]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

الكتاب أحكاما لم توجد فيه، كما قال سبحانه قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» و لعل ارتباط هذه الآية بما قبلها من جهة الأمور التي كانوا يحرمونها، و لم يكن في كتبهم تحريم لها وَ يَشْتَرُونَ بِهِ أي بهذا الكتاب ثَمَناً قَلِيلًا من رئاسة الدنيا و أموالها، فإنها قليل بالنسبة إلى الآخرة أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي لا يجرون إلى بطونهم و لعل ذكر في بطونهم للاحتراز عن الأكل في بطن الغير، فإن العرب تقول شبع فلان في بطنه، إذا أكله بنفسه، و تقول شبع فلان في بطن غيره، إذا أكله من يتعلق به إِلَّا النَّارَ فإن ما أكلوه ينقلب نارا تحرق بطونهم في جهنم وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيهملهم ليذوقوا الهوان جزاء ما فعلوا وَ لا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم عن الآثام، فإن البطن إذا ملي ء حراما يقسو، فلا يهتدي حتى يتزكى الإنسان و يتطهر وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.

[176] أُولئِكَ الذين يكتمون ما أنزل اللّه هم الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي عوض الهداية، فكأن نفس الإنسان ثمن لأحد أمرين الضلالة و الهداية، فهم أعطوا أنفسهم، و اشتروا الضلالة عوض أن

______________________________

(1) آل عمران: 94.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 211

[سورة البقرة (2): الآيات 176 الى 177]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى

الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

يشتروا الهداية وَ اشتروا الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فعوض أن يشتروا المغفرة لأنفسهم اشتروا العذاب فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب عن صبرهم على النار التي هي عاقبة عملهم، أي كيف أنهم يصبرون على النار حينما فعلوا ما عاقبته النار.

[177] ذلِكَ العذاب، إنما توجه إليهم بسبب أن اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ أي التوراة بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ بكتمان بعضه و إظهار بعض لَفِي شِقاقٍ و خلاف عن الحق بَعِيدٍ فهم إنما استحقوا العذاب، لأنهم خالفوا الحق، و كتموا ما لزم إظهاره، و من المحتمل أن يكون المراد بالكتاب «القرآن» أي أن عذابهم بسبب كتمانهم كون القرآن حقا و اختلافهم فيه، بأنه سحر و كهانة أو كلام بشر.

[178] لَيْسَ الْبِرَّ كل البر أيها اليهود المجادلون حول تحويل القبلة الصارفون أوقاتكم في هذه البحوث العقيمة أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ فإن ذلك أمر فرعي مرتبط بتكليف اللّه سبحانه، و قد كلفنا أن نصرف الوجوه إلى الكعبة وَ لكِنَّ الْبِرَّ فعل، أي و لكن ذا البر مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فذلك هو الأصل الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 212

يتفرع عليه أحكام الصلاة و غيرها وَ آمن ب الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ المنزل من عند اللّه على أنبيائه وَ آمن ب النَّبِيِّينَ كلهم أولهم و أوسطهم و أخرهم وَ آتَى الْمالَ أي أعطاه و أنفقه عَلى حُبِّهِ أي مع أنه يحبه،

أو على حب اللّه تعالى ذَوِي الْقُرْبى أي قراباته و أرحامه وَ الْيَتامى الذين مات أبوهم وَ الْمَساكِينَ الذين لا يجدون النفقة لأنفسهم و أهليهم وَ ابْنَ السَّبِيلِ الذي انقطع في سفره، فلا مال له يوصله إلى أهله و مقصده، و سمي ابن السبيل، لعدم معرفة أبيه و عشيرته وَ السَّائِلِينَ من الفقراء الذين يسألون الناس وَ آتى المال فِي فك الرِّقابِ أي اشتراء العبيد أو إعتاقهم، حتى يتحرروا عن ربق العبودية وَ أَقامَ الصَّلاةَ أي أداها على حدودها وَ آتَى الزَّكاةَ الواجبة و المستحبة وَ الْمُوفُونَ الذين يفون بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا سواء كان عهدا مع اللّه كالنذر و البيعة، أو مع الناس كالعقود، و هذا عطف على قوله «من آمن» وَ الصَّابِرِينَ عطف على من آمن على طريق القطع بتقدير المدح، كما قال ابن مالك:

و اقطع أو اتبع أن يكن معينابدونها أو بعضها اقطع معلنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 213

[سورة البقرة (2): آية 178]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)

و ارفع أو انصب إن قطعت مضمرامبتدءا أو ناصبا لن يظهرا

فإن عادة العربي أن يتفنن بالقطع رفعا و نصبا إذا طالت الصفات تقليلا للكلل و تنشيطا للذهن بالتلون في الكلام فِي الْبَأْساءِ البؤس الفقر وَ الضَّرَّاءِ و المضر الموجع و العلة و كل ضرر وَ حِينَ الْبَأْسِ أي الصابرين حين القتال أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات هم الَّذِينَ صَدَقُوا في نياتهم و أعمالهم، لا من يجادل في

أمر كتحويل القبلة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الخائفون من اللّه سبحانه، و في هذه الآية الكريمة إلماح إلى حال كثير من الناس حيث يتركون المهام و يناقشون في أمر غير مهم عنادا و عصبية.

[179] و حيث ذكر سبحانه ما هو البر عقبه ببعض الأحكام التي ينبغي لأهل البر المؤمنين باللّه و اليوم الآخر المتصفين بتلك الصفات أن يلتزموا بها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ و معنى كتابته تشريعه إذ الشرائع تكتب فِي الْقَتْلى جمع قتيل، فقد ورد أنها نزلت في حيين من العرب لأحدهما طول على الأخر، و كانوا يتزوجون نساء بغير حلال، و أقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، و بالمرأة منا الرجل منهم، و بالرجل منا الرجلين منهم، و جعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك، حتى جاء الإسلام، و أبطل تلك الأحكام، ف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 214

[سورة البقرة (2): آية 179]

وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

الحر بمقابل الحر يقتل لا مقابل العبد وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى تقتل بمقابل الأنثى لا الذكر يقتل في قبال الأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ قبل أَخِيهِ شَيْ ءٌ بأن عفى الأخ الولي للمقتول عن قتل القاتل، و بدله بالدية، أو عفى عن بعض الدية، و بقي بعضها الأخر فالواجب على الطرفين، مراقبة اللّه في الأخذ و الإعطاء، فمن طرف الولي للمقتول فَاتِّباعٌ للقاتل بِالْمَعْرُوفِ بأن لا يشدد في طلب الدية، و من طرف القاتل وَ أَداءٌ إِلَيْهِ أي إلى العافي بِإِحْسانٍ من غير مطل و تصعيب ذلِكَ الحكم في باب القتيل بالمماثلة، أولا، و التخيير بين القتل و الدية و العفو ثانيا تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ عليكم وَ رَحْمَةٌ

منه بكم، و في المجمع أنه كان لأهل التوراة القصاص أو العفو، و لأهل الإنجيل العفو و الدية فَمَنِ اعْتَدى عن الحكم المقرر بَعْدَ ذلِكَ الذي قررناه من الأحكام فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في الدنيا و الآخرة.

[180] وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ في باب القتل، بأن يقتل القاتل عمدا حَياةٌ للمجموع، لأن كل من افتكر إنه لو قتل قتل ارتدع إلا النادر، و أيضا إن القصاص يوجب عدم تعدي أولياء المقتول على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 215

[سورة البقرة (2): آية 180]

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

أقرباء القاتل، بأن يقتلوا منهم عددا كثيرا، كما كان هو المتعارف في زمان الجاهلية، حتى ربما فنيت القبيلة لأجل قتيل واحد يا أُولِي الْأَلْبابِ جمع لب، بمعنى العقل، أي يا أصحاب العقول لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ القتل، أي شرع القصاص، حتى تتقون من القتل.

[181] و حيث ألمح القرآن الحكيم إلى حكم القتل، أشار إلى ما يرتبط به من الوصية، فقال كُتِبَ عَلَيْكُمْ كتابة راجحة، فإن الكتابة تشمل الواجب و المندوب، و الوصية مندوبة، إلا إذا وجبت بالعارض إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بأن رأى مقدماته من مرض و هرم و نحوهما إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا فإذا لم يترك الخير، لا داعي للوصية و إن كانت مستحبة أيضا، لكنها ليست مثل تأكيد من ترك الخير الْوَصِيَّةُ نائب فاعل «كتب» لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ أي الأقرباء بِالْمَعْرُوفِ بأن يوصي لوالديه و أقربائه، و لو كانوا وراثا، شيئا من الثلث، و هذا يوجب نشر الألفة و المحبة أكثر فأكثر، و إنما قيده بالمعروف، حتى لا يوصي بما يوجب إثارة الشحناء، كأن يترك الأقرب،

و يوصي للأبعد، أو يفضل بعضا على بعض بما يورث البغضاء، و المراد بالمعروف، الذي يعرف أهل التميز، إنه لا جور فيه و لا حيف، و هذه الوصية تكون حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ الذين يؤثرون التقوى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 216

[سورة البقرة (2): الآيات 181 الى 182]

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

[182] فَمَنْ بَدَّلَهُ أي بدل الإيصاء و غيّره و زوّره بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي علمه، فالسماع يستعمل بمعنى العلم فَإِنَّما إِثْمُهُ أي إثم التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ و ليس إثم على الذي يأكل المال إرثا بغير علم، و الذي يأكله زيادة على حصته، من غير علم فإن الغالب، أن يبدل الجيل الأول، و يتصرف سائر الأجيال، بلا علم منهم بالتبديل إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لوصاياكم و أقوالكم عَلِيمٌ بنواياكم و تبديلكم، أو تنفيذكم للوصية، و لعل هناك نكتة أخرى في قوله «فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» هي أن كثيرا من الناس لا يوصون خوفا من أن يلحقهم إثم التبديل من بعدهم، لأنهم بوصيتهم أعانوا من بدل و مهدوا الطريق له، كما رأيت ذلك متعارفا في كلام كثير من الناس، حيث يقولون من أوصى ألقى ورثته في المعصية، فيكف بعضهم عن الوصية، فأشار سبحانه إلى كون هذا الحكم غلطا، فإن الموصي فعل خيرا، و إنما المغير هو الذي يتحمل الإثم.

[183] ثم استثنى سبحانه عن حرمة تبديل الوصية، بأنه إنما يكون حراما، إذا كان تغيرا من حق إلى باطل، أما إذا كان من باطل إلى حق، فلا إثم في التغيير فَمَنْ

خافَ و خشي مِنْ مُوصٍ أي الذي يوصي جَنَفاً أي ميلا عن الحق إلى الباطل، بأن أوصى أزيد مما يحق له الإيصاء به أَوْ إِثْماً بأن حرم ورثته بإيصائه، و في الحديث أن الإثم الخطأ عن عمد، و الجنف الخطأ لا عن عمد فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أي بين الورثة و الموصي، و الموصى له، بأن رد الزائد إلى الورثة، و أبطل ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 217

[سورة البقرة (2): الآيات 183 الى 184]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

فيه الإثم فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي على المبدل للوصية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بمن يأثم، فكيف بمن لا يأثم، و قد ثبت في الشريعة إن الوصية بما زاد على الثلث لا تنفذ إلا برضى الورثة «1».

[184] ثم انتقل السياق إلى حكم آخر من أحكام الإسلام- لما ذكرنا من أن القرآن الحكيم، بعد بيان أصول التوحيد، ذكر جملة من الأحكام- فقال سبحانه، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ فإنه مفروض عليكم، فيجب عليكم أن تصوموا كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فلستم أنتم وحدكم أمرتم بالصيام، بل كان الصوم شريعة في الأديان السابقة أيضا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ النار بصيامكم، فالصائم حيث يحس بالجوع و العطش و الضعف يتذكر اللّه سبحانه فيخبت قلبه و تضعف فيه قوى الشر، و ترق نفسه و تصفو روحه، و كل ذلك سبب للتقوى و ترك المعاصي.

[185] أَيَّاماً أي إن

الصيام في أيام مَعْدُوداتٍ أي محصورات، فليست أيام كثيرة لا تعد، و إنما هي ثلاثون يوما فقط- و فيه تسلية للصائم- و ليس الصيام على كل أحد فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً مرضا

______________________________

(1) راجع موسوعة الفقه: ج 82 و 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 218

يضره الصوم أَوْ عَلى سَفَرٍ فقد شبه السفر بمركوب لغلبة الركوب فيه، و حد السفر معين في الشريعة فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فليصم في أيام أخر غير شهر رمضان، قضاء لما فاته بالمرض أو السفر وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي يطيقون الصيام، بأن يكون آخر طاقاتهم و ذلك موجب للعسر، كما لا يخفى، إذ آخر الطاقة عسر، أو أن الذي يطيق الصوم كان في أول الشريعة مخيرا بين الصيام و الإطعام، ثم وجب الصوم وحده، و ذلك للتدرج بالأمة فِدْيَةٌ أي الواجب عليهم الفداء بدل الصوم طَعامُ مِسْكِينٍ واحد و هو مد من الطعام فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن زاد على طعام المسكين فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا أيها المطيقون، الذي يبلغ الصوم طاقتكم خَيْرٌ لَكُمْ من الإطعام، فالإنسان إما أن يضره الصوم ضررا بالغا، و هو الذي تقدم أن يفطر و يأتي بعدة من أيام أخر، و إما أن يشق عليه إلى حد العسر، و هو الذي يبلغ منتهى طاقته، و هذا يخير بين الصيام و الإطعام و إن كان الصيام خير، و إما أن لا يشق عليه و هو الذي يجب عليه الصيام معينا مما بين في الآية التالية إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لعلمتم أن الصيام خير لما فيه من الفوائد التي ليست في الإطعام، و ليس مفهومه، إن لم تكونوا تعلمون، فليس الصوم خير، بل المفهوم إن لم

تكونوا تعلمون، لم تعلموا إن الصوم خير.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 219

[سورة البقرة (2): آية 185]

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

[186] الأيام المعدودات المفروض فيها الصيام هي شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ مما زاد في عظمته و حرمته، إذ صار زمانا للنزول أعظم دستور للبشرية إلى الأبد في حال كون القرآن هُدىً لِلنَّاسِ يهديهم إلى الحق و إلى صراط مستقيم وَ بَيِّناتٍ أي أمور واضحات مِنَ جنس الْهُدى فليس هدى غامضا يحتاج إلى إثبات و دليل، بل واضح لائح، و من الهدى بيان لبينات، إذ يمكن أن يكون شيئا بينا من حيث الشهادة، أو المعاملة أو نحوها وَ من الْفُرْقانِ أي يفرق بين الحق و الباطل و الضلال و الرشاد فَمَنْ شَهِدَ أي حضر و لم يغب بالسفر مِنْكُمُ الشَّهْرَ أي شهر رمضان فَلْيَصُمْهُ إيجابا، و لما كان الحكم عاما استثنى منه بقوله وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ و إنما كرر تمهيدا لقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و لذا أمركم بالإفطار في السفر و المرض وَ إنما شرع عدة من أيام أخر لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أي عدة الشهر، فإن في صيامه فوائد لا يدركها إلا من أكملها، فإن لم يتمكن من إكمالها في نفس شهر رمضان أكملها خارجه وَ إنما شرع الصوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1،

ص: 220

[سورة البقرة (2): آية 186]

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي تعظموه بسبب هدايته لكم إلى دينه و شريعته، فالصيام سبب قرب النفس إلى اللّه سبحانه، فيأتي منها التكبير عفوا، و في التأويل، المراد به تكبير ليلة الفطر وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فالصوم نعمة تستحق الشكر لما فيه من صلاح الدنيا و الدين.

[187] و حيث أن من عادة القرآن الحكيم أن يخلل الأحكام نفحة موجهة نحو اللّه تعالى، ليرتبط الحكم بالخالق، و ليشع في النفس النشاط و العزيمة، أتت أية استجابة الدعاء هنا، بعد طول من بيان الأحكام، ثم يأتي بعدة آيات ترتبط بالأحكام ثانية، بالإضافة إلى أن استجابة الدعاء تناسب شهر رمضان، فإنه شهر دعاء و ضراعة، و

قد ورد أن سائلا سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف ندعوا، فنزلت وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ

إليهم، قرب العلم و الإحاطة و السمع و البصر، لا قرب الزمان و المكان و الجهة، فإنه سبحانه منزه عن كل ذلك أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ الذي يدعوني إِذا دَعانِ و لعل في هذا القيد إفادة أن الإجابة وقت الدعوة مباشرة فإن «إذا» ظرف، و يفيد تكرار كلمة «دعا» لتتركز في الذهن تركيزا فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي يطيعوني في أوامري و نواهي، إذ من يجيب الدعاء، يستحق أن يستجيب له الإنسان وَ لْيُؤْمِنُوا بِي إيمانا بذاتي و صفاتي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي لكي يصيبوا الحق و يهتدوا إليه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 221

[سورة البقرة (2): آية 187]

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ

لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

[188] أُحِلَّ لَكُمْ الطيبات أيها الصائمون لَيْلَةَ الصِّيامِ التي تصومون غدها الرَّفَثُ أي الجماع إِلى نِسائِكُمْ و إنما عدى ب «إلى» لتعليم معنى الإفضاء، أي الانتهاء إلى زوجاتكم بالجماع. و قد

روي عن الصادق عليه السّلام في سبب نزول هذه الآية أنه قال: كان الأكل محرما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، و كان النكاح حراما بالليل و النهار في شهر رمضان، و كان رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقال له مطعم بن جبير، أخو عبد اللّه بن جبير الذي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة، و فارقه أصحابه و بقي في أثنى عشر رجلا، فقتل على باب الشعب، و كان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخا ضعيفا، و كان صائما فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه، فرآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرق له، و كان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان، فأنزل اللّه هذه الآية، فأحل النكاح بالليل في شهر رمضان و الأكل بعد النوم إلى

طلوع الفجر «1».

هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ فكما أن اللباس يقي البدن و كما أنه ملاصق بالبدن و محرم عليه، كذلك كل من الزوجين بالنسبة إلى الآخر عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ أيها الصائمون كُنْتُمْ تَخْتانُونَ من الخيانة

______________________________

(1) عوالي اللآلي: ج 2 ص 82.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 222

أَنْفُسَكُمْ أي كنتم تخونونها بارتكاب المعصية فكأن المرتكب لها يخونها إذ يسبب لها خسارة، و كل خائن كذلك يسبب لمن خانه خسارة فَتابَ عَلَيْكُمْ ما كنتم تأتون به من المحرم في جماع أهليكم ليلا وَ عَفا عَنْكُمْ بالنسبة إلى هذا الحكم فمن الآن بَاشِرُوهُنَ أي يجوز لكم جماعهن ليلا و الأمر في مقام نفي لا يفيد إلا الجواز وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من الأولاد و اللذة المحللة الموجبة للثواب، و هذا بالنسبة إلى نسخ الحكم بتحريم الجماع وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا أي يباح لكم الأكل و الشرب من أول المغرب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ بيان الخيطين أي يتضح الفجر الصادق الذي هو في وسط الظلام كخيط أبيض قرب خيط أسود ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ بالكف عن المفطرات المذكورة في الشريعة، من أول الفجر الصادق إِلَى اللَّيْلِ و هو المغرب الشرعي، و هذا بالنسبة إلى نسخ الحكم بتحريم الأكل و الشرب لمن نام قبل أن يفطر وَ لا تُبَاشِرُوهُنَ أي لا تجامعوا النساء وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ليلا أو نهارا و الاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد العبادة و يشترط فيه الصوم، و أقله ثلاثة أيام بتفصيل مذكور في الفقه، و من أحكام الاعتكاف حرمة مباشرة النساء ليلا و نهارا تِلْكَ التي ذكرنا من أحكام

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 1، ص: 223

[سورة البقرة (2): آية 188]

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

الصيام «1» و غيرها حُدُودُ اللَّهِ التي جعلها لأفعال العباد من الفعل فلا يجوز تركه، و الترك فلا يجوز إقحامه كحدود المدينة و الدار و نحوهما فَلا تَقْرَبُوها نهى عن الاقتراب، مبالغة في النهي عن الاقتحام و المخالفة كقوله تعالى وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» كَذلِكَ أي مثل هذا البيان الواضح الذي بين أحكام الصيام و غيره يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ دلائله و أحكامه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يتقوا معاصيه.

[189] ثم انتقل السياق إلى تشريع آخر له مناسبة ما ب «الأكل» الذي دار الحديث حوله في مسألة الصيام وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بالغصب و ما أشبه، و كان وجه ذكر كلمة «بينكم» أن الآكلين للغصب و نحوه يتآمرون بينهم في خفاء حتى يبرروا أكلهم وَ تُدْلُوا الإدلاء أي الإلقاء و الإفضاء أي تلقوا بِها أي بتلك الأموال إِلَى الْحُكَّامِ جمع حاكم، بمعنى القضاة بعنوان الرشوة و الهدية ليأخذوا جانبكم في أكل المال بالباطل لِتَأْكُلُوا علة لتدلوا أي علة إعطائكم الرشوة أن تأكلوا فَرِيقاً

______________________________

(1) راجع موسوعة الفقه: ج 37 ص 251.

(2) الأنعام: 153.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 224

[سورة البقرة (2): آية 189]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

أي قسما مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ بدون حق وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بأن أكلكم و إرشاءكم باطل و إثم.

[190] مرت

أحكام كلها تحتاج إلى التوقيت من صيام و اعتكاف و محاكمات و غيرها فناسب أن يأتي تشريع الأهلة هنا مع الغض عما تقدم من أن المقصود بيان جملة من الأحكام بعد بيان أصول التوحيد يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَنِ الْأَهِلَّةِ و عن سبب اختلاف الهلال في كل شهر من الهلال إلى البدر ثم إلى الهلال حتى المحاق أو عن فائدة هذا الاختلاف و لماذا لم يكن القمر كالشمس في الانتظام قُلْ يا رسول اللّه في جوابهم هِيَ مَواقِيتُ جمع ميقات بمعنى الوقت و الزمان لِلنَّاسِ في عباداتهم و معاملاتهم وَ ل الْحَجِ فمن أقرض إلى شهر أو باع ليقبض الثمن، أو يدفع الثمن بعد شهرين، أو أراد الصيام و الإفطار أو الحج في أشهره لا بد و أن يكون له معلم يستند إليه و لذلك جعل اللّه الأهلة، و هذا الجواب ينطبق على السؤال بناء على الوجه الثاني في معنى «يسألونك» و أما بناء على الوجه الأول و سؤالهم كان عن سبب اختلاف الأهلة، فإن القرآن أعرض عن جوابهم لأن عقولهم ما كانت تتحمل الجواب الفلكي، و لذا عبر عن ذلك إلى فائدة الأهلة التي هم أحوج إليها، كما في آية أخرى يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ «1» حيث أعرض عن جواب ماهية

______________________________

(1) البقرة: 216.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 225

[سورة البقرة (2): آية 190]

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

المنفق أي محل الإنفاق لأن هذا هو الذي يترتب عليه الفائدة و هم بحاجة إليه، و حيث ذكر الحج في الكلام انتقل السياق إلى

ما كان يفعله الجاهليون من أنهم إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت من أبوابها و إنما يدخلونها من ظهورها، فنهى عن ذلك، و في هذا تلميح بأن السؤال عما لا يهمكم من الأهلة، مثل إتيان البيوت من ظهورها و كالأكل من القفا وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا تدخلوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها بأن تنقبوا البيوت و تدخلونها من النقب وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى من اللّه سبحانه بإتيان أوامره و اجتناب نواهيه وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و لو في حال الإحرام وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره و نواهيه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفلحوا بالوصول إلى السعادة الدنيوية و الأخروية.

[191] و هنا حكم آخر من أحكام الإسلام الكثيرة و هو القتال و الجهاد، و لقد كان بين هذا الحكم و بين «الحج» المتقدم مناسبة، إذ المشركون قد منعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الحج عام الحديبية، فكان على المسلمين أن يستعدوا للجهاد إن اقتضت الظروف وَ قاتِلُوا أيها المسلمون فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا لحب السيطرة و الغلبة كما هو شأن ملوك الدنيا و زعمائها بل في سبيل إعلاء كلمة اللّه التي فيها سعادة البشر الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 226

[سورة البقرة (2): آية 191]

وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191)

لا كل آمن، فمن ألقى سلاحه، و سكن إلى محله، فإن في قتاله إيجاد فوضى و اضطراب لا داعي إليهما وَ لا تَعْتَدُوا إذا قاتلتم من قاتلكم فإن القتال قتال دفاع، فلا معنى للاعتداء و أنتم مرتبطون باللّه

الذي تقاتلون لأجله فلا يصح الاعتداء من أمثالكم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فهو الذي يأمر بالعدل و الإحسان، فكيف يحب من اعتدى و بغى؟.

[192] وَ اقْتُلُوهُمْ أي الذين يقاتلونكم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها، فمن قاتلكم قتلتموه و من أخرجكم من دياركم أخرجتموه جزاء وفاقا وَ الْفِتْنَةُ التي أثارها الكفار بتفتين المسلمين عن دينهم و إلقاء الارتياب و الشك في قلوبهم ليجلبوهم إلى حظيرة الكفر بعد أن هداهم اللّه أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فالقتل يوجب ذهاب الدنيا و الفتنة توجب ذهاب الدين، فمن تقاتلونهم لا يستحقون عليكم أن يهرجوا بأن المسلمين يشهرون السلاح فإنهم يستحقون القتل لأنهم بدأوا بالقتال لأنهم فتنوا، و

روي أنها نزلت في مسلم قتل كافرا في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك «1»

، فبين سبحانه أن الفتنة التي تصدر من الكفار أشد من القتل وَ لا تُقاتِلُوهُمْ أي لا تقاتلوا

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 2 ص 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 227

[سورة البقرة (2): الآيات 192 الى 193]

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

الكافرين أيها المسلمون عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي في الحرم حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ و يبدءوا بالقتال فَإِنْ قاتَلُوكُمْ بدءوكم بالقتال في الحرم فَاقْتُلُوهُمْ هناك كَذلِكَ الذي مر من وجوب قتال الكفار حيث وجدوا إلى آخر ما ذكر جَزاءُ الْكافِرِينَ [193] فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بأن أسلموا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر سيئاتهم حتى التي ارتكبوها قبل إسلامهم من القتال فالإسلام يجب ما قبله رَحِيمٌ بعباده المؤمنين.

[194] وَ قاتِلُوهُمْ أي الكفار الذين يقاتلوكم لا

لأجل القصاص فقط بل حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ بأن لا يفتن المسلمون عن دينهم وَ يَكُونَ الدِّينُ و الطريقة لِلَّهِ فلا يبقى منهج لسواه بأن ينتصر الحق على الباطل و هذان هما الغاية من إيجاب الدفاع فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَلا عُدْوانَ أي تعدي بالدفاع و القتال إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ الباقين على كفرهم، أي إذا انتهى المعتدون عن الفتنة و التعرض لدين اللّه و التعرض للمسلمين بالأذى و القتال فلا قتال معهم لأن القتال لا يكون إلا مع الظالمين، و سمي «عدوانا» تشبيها كما قال سبحانه في الآية المقبلة: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 228

[سورة البقرة (2): الآيات 194 الى 196]

الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)

[195] الشَّهْرُ الْحَرامُ و هو ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب سميت هذه الأشهر حراما لتحريم القتال فيها بِالشَّهْرِ الْحَرامِ

أي بمقابل الشهر الحرام فمن انتهك حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه لم يحرم قتاله بل يقاتل وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ كما أن الجروح قصاص فمن انتهك حرمة اقتص منه في نفس الشهر أو المكان الذي انتهكت حرمته و لذا يحارب المحارب في الحرم و في الشهر الحرام فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ لا أزيد من ذلك و سمي اعتداء لأنه مثل الاعتداء فالتسمية إنما هي بالمجانسة وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تتجاوزوا الحدود و لا تبالغوا في القسوة و الانتقام وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فيأخذ بأيديهم في الدنيا و يسعدهم في الآخرة.

[196] وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن الجهاد يحتاج إلى الإنفاق في تجهيز الجيش و هو من أعظم السبل وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إِلَى التَّهْلُكَةِ بترك الإنفاق للجهاد حتى يتسلط عليكم العدو وَ أَحْسِنُوا في إنفاقكم و جهادكم و سائر أموركم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

[197] ثم يرجع السياق إلى أحكام الحج الذي ألمح إليه فيما سبق، لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 229

الحج كان في مقام صلح الحديبية و حج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي ائتوا بها تماما و كاملا بإتيان مناسكهما قربة إلى اللّه تعالى لا لأجل رياء أو سمعة أو نحوهما فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بأن منعكم مانع عن الحج بعد ما أحرمتم فعليكم إذا أردتم التحلل عن الإحرام أن تقدموا أو تذبحوا ما اسْتَيْسَرَ أي ما أمكنكم مِنَ الْهَدْيِ الذي قدمتموه إلى اللّه، و الهدي هو البقر أو الإبل أو الغنم وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ و هو كناية عن التحلل عن الأجسام

أي لا تحلقوا حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ الذي قرر في الشريعة من محل الحصى أو مكة أو منى كما فصل في الفقه فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً لا يتمكن من أن لا يحلق أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كأن قمل رأسه فيتأذى من هوائه فلا يتمكن من عدم الحلق فعليه إذا حلق قبل أن يبلغ الهدي محله فدية يقدمها بدل حلقه مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ لستة مساكين أَوْ نُسُكٍ أي شاة يذبحها لأجل تعجيله في الحلق فَإِذا أَمِنْتُمْ من العدو الصاد و كذلك شفيتم من المرض و زال المانع فَمَنْ تَمَتَّعَ أي استمتع بالطيب و النساء و سائر الملذات التي يحرمها الإحرام بسبب إتيانه الْعُمْرَةَ فإن العمرة تنتهي سريعا فتحل المحرمات إِلَى الْحَجِ أي يكون تمتعه بالملذات إلى أن يحرم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 230

للحج فعليه ما اسْتَيْسَرَ أي ما تمكن عليه مِنَ الْهَدْيِ إبل أو بقر أو شاة يجب عليه ذبحها في منى أيام العيد فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي فعليه صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي أيام الْحَجَ من ذي الحجة وَ سَبْعَةٍ أيام إِذا رَجَعْتُمْ إلى بلادكم تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ تكون بدلا عن الهدي ذلِكَ التمتع الذي يكون عمرته مقدمة على حجه فرض لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من كان في أطراف الحرم من كل جانب أثني عشر ميلا أو نحوه على خلاف، أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام بأن كان محله عند أقل من ذلك ففرضه القرآن أو الإفراد و في كليهما يقدم الحج على العمرة، و الفرق بينهما أن القارن يعقد إحرامه بسوق الهدي دون المفرد وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أحكامه أيها المسلمون وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ

شَدِيدُ الْعِقابِ فلا تخالفوا أوامره و نواهيه. و الحج يشتمل على فرضين: (عمرة) هي:

«الإحرام و التلبية»، «و الطواف بالبيت»، «صلاة الطواف»، «و السعي بين الصفا و المروة»، «و التقصير». و (حج) هو: «الإحرام»، «و الوقوف بعرفات»، «الوقوف بالمشعر»، «الإفاضة إلى منى»، «رمي جمرة العقبة»، «نحر أو ذبح»، «حلق أو تقصير»، طواف الحج و صلاته و سعي و تقصير و طواف النساء و صلاته «طواف النساء»، «صلاة طواف النساء»، «السعي بين الصفا و المروة»، «طواف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 231

[سورة البقرة (2): آية 197]

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)

الزيارة»، «صلاة طواف الزيارة»، «المبيت بمنى ليلة الحادي عشر و الثاني عشر»، «رمي الجمار الثلاث يومي الحادي عشر و الثاني عشر»، و قد أشار الشيخ البهائي إلى هذه الأعمال في بيته المشهور

أطرست للعمرة اجعل نهج أو و أرنحط رسطر مر: لحج «1»

[198] الْحَجُ في أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أو أشهر الحج أشهر معلومات و هو شوال و ذو القعدة و ذو الحجة فلا يجوز تأخيره منها كما كان الجاهلون

______________________________

(1) الالف: الإحرام لعمرة التمتّع عن حجّة الإسلام.

الطاء: طواف العمرة.

الراء: ركعتان صلوات طواف لعمرة التمتّع.

السين: السعي بين الصّفا و المروة عن عمرة التمتع.

التاء: التقصير عن عمرة التمتع لحجّة الإسلام فهناك اعمال العمرة لحجّ التمتع.

الألف: الإحرام لحجّ التمتّع.

الواو الأول: الوقوف بعرفات في 9 من ذيحجة لحجّ التمتّع.

الواو الثاني: الوقوف في مشعر الحرام ليلة العيد الى الصبح لحج التمتع.

الالف: الإفاضة إلى منى يوم العيد.

الراء: رمي جمرة للعقبة في يوم العيد لحج

التمتّع.

النون: نحر إبل أو ذبيحة لحج التمتّع.

الحاء: الحلق في يوم العيد لحج التمتّع.

الطاء: الطواف عن حجّة الإسلام.

الراء: رمي الجمرات الثلاثة في يوم الحادي عشر من ذي حجة عن حج التمتّع.

السين: السعي بين الصفا و المروة لحج التمتّع.

الطاء: طواف النساء.

الراء: رمي الجمرات الثلاثة في يوم الثاني عشر من ذي حجة عن حج التمتّع.

الميم: المبيت في منى ثلاثة ليال عن حج التمتّع.

و لا يخفى أنّ جملة (مر لحج) التي أتى بها البهائي (رحمه الله) تكون لتكملة الشعر فلا تدخل فيما أردناها من المناسك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 232

[سورة البقرة (2): آية 198]

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

يفعلون حيث يؤخرون الحج، و نزل فيهم إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ «1» فَمَنْ فَرَضَ على نفسه فِيهِنَ أي في هذه الأشهر الْحَجُ فليعلم أنه لا رَفَثَ و هو الجماع وَ لا فُسُوقَ و هو السباب و المفاخرة وَ لا جِدالَ قول لا و اللّه و بلى و اللّه فِي الْحَجِ أي في حال الإحرام وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ في الحج و غيره يَعْلَمْهُ اللَّهُ و لعل ذكره هنا لكثرة احتياج الحجاج بعضهم إلى بعض في مختلف الشؤون فأريد التنبيه بأن كل خير يصدر من الإنسان إنما هو بعلم اللّه سبحانه فيجازيه على ذلك وَ تَزَوَّدُوا من الحج زادا للروح فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى و هو يحصل بكثرة هائلة في الحج حيث التجرد و الكف عن الملذات و مقامات الشدائد و الصعوبات، و يحتمل أنها نزلت فيمن لم يكن يأخذ الزاد للحج بادعاء أنه ضيف اللّه

ثم ليستعطي في الطريق فأمر بأخذ الزاد فإنه قرين بالتقوى دون الاستعطاء الذي فيه منقصة و ذلة و حرمة أحيانا وَ اتَّقُونِ أي خافوني في أعمالكم فلا تغفلوا و لا تتركوا واجبا يا أُولِي الْأَلْبابِ أي يا أصحاب العقول.

[199] كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فنزلت

______________________________

(1) التوبة: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 233

[سورة البقرة (2): الآيات 199 الى 200]

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ بالاتجار فإنه ليس بمحرم فَإِذا أَفَضْتُمْ منها كما يندفع الماء نحو الوهاد فإن الحجاج يندفعون كالسيل مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ و هو الموقف الثاني و وقته بين طلوع الفجر و طلوع الشمس من يوم العيد وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي بإزاء هدايته سبحانه إياكم لدينه و ما يسعدكم في الدنيا و الآخرة وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أي قبل الهدي لَمِنَ الضَّالِّينَ عن دينه.

[200] ثُمَّ أَفِيضُوا من المشعر إلى منى مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ من قبلكم إبراهيم عليه السّلام و ذريته وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ اطلبوا غفرانه و عفوه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هكذا يقتضي نظم الآية، لكن ورد أن قريشا لا يقفون بعرفات و لا يفيضون منه و يقولون نحن أهل حرم اللّه فلا نخرج منه فيقفون بالمشعر و يفيضون منه، فأمرهم اللّه أن يقفوا بعرفات و يفيضوا منه كسائر الناس.

[201] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي أديتم أعمالكم فالمناسك جمع منسك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص:

234

[سورة البقرة (2): الآيات 201 الى 202]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)

و هو مصدر ميمي بمعنى العمل فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فإن أهل الجاهلية كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك و يعدون مفاخر آبائهم و مآثرهم و يذكرون أيامهم القديمة و أياديهم الجسيمة فأمرهم اللّه أن يذكروه عوض ذكرهم آبائهم، بل يجب أن يذكروه أكثر و أحسن من ذكر آبائهم فهو المنعم الحقيقي الذي بيده كل شي ء و منه كل خير، و هنا يكون المجال واسعا لبيان نموذجين من الناس منهم من يريد الآخرة و منهم من يريد الدنيا و لذا قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا أي أعطنا من نعيمها و رفاهها و سعادتها و لا يسأل نعيم الآخرة لأنه غير مؤمن بها إذ كان الحج قبل الإسلام عامّا للمعتقد و المنكر وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي نصيب.

[202] وَ مِنْهُمْ أي من الناس مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا من وقى يقي أي احفظنا من عَذابَ النَّارِ فهو يسأل نعيم الدنيا و نعيم الآخرة و يتعوذ باللّه من النار.

[203] أُولئِكَ يسألون خير الدنيا و الآخرة لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا لأنهم يستحقون ثواب أعمالهم بخلاف الطائفة الأولى فإن كفرهم يمنع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 235

[سورة البقرة (2): الآيات 203 الى 204]

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا

اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204)

عن ثوابهم وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فلا يظن الإنسان أن الآخرة بعيدة فإنه لا تمر الأيام و الليالي إلا و الشخص دفين في التراب و إن طال عمره في الدنيا.

[204] وَ اذْكُرُوا اللَّهَ أيها الحجاج فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ و هي أيام التشريق في منى فَمَنْ تَعَجَّلَ النفر إلى مكة من منى فِي يَوْمَيْنِ بأن نفر يوم الثاني عشر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فإنه يجوز النفر بعد زوال الثاني عشر وَ مَنْ تَأَخَّرَ في النفر فنفر في الثالث عشر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فيجوز كل من الأمرين لِمَنِ اتَّقى الصيد في إحرامه و إلا فإن صاد وجب عليه النفر الثاني فلا يجوز أن ينفر في الثاني عشر وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم و نهاكم وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الحشر هو الجمع و المعنى تجمعون إلى حكم اللّه و جزائه يوم القيامة.

[205] ثم يلتفت السياق إلى الإنسان طالحه و صالحه، و يبين خصائص البشر، ليعطي درسا لمن أراد الصلاح و الرشاد فيقول سبحانه: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ للباقته و فصاحته و كلامه المعسول فتستحسن كلامه و تصغي إلى بيانه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أما متعلق ب «قوله»، أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 236

[سورة البقرة (2): الآيات 205 الى 206]

وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ (206)

قوله في شؤون الدنيا معجب، أو متعلق

ب «يعجبك» أي أن إعجابك إنما هو في الدنيا، و الأول أقرب وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ كما هو شأن المنافقين أبدا فإنهم حيث يرون نفاقهم يظنون أن الناس مطلعون على سرائرهم فيؤكدون بأنهم مخلصون و أن ما في قلبهم يطابق ما على لسانهم وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ الألد هو شديد الخصومة و الخصام جمع يعني أنه من أكبر خصمائك في الباطن.

[206] وَ إِذا تَوَلَّى و أدبر و ذهب من عندك سَعى فِي الْأَرْضِ من هنا إلى هناك كما هو شأن المشاغب المفسد لِيُفْسِدَ فِيها بإثارة الفوضى و الاضطراب وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ أي الزراعة وَ النَّسْلَ أي الأولاد و الذرية فإن إثارة الفوضى يوجب خراب الزراعات لاشتغال أهلها بالكفاح، و فناء النسل إذ الشباب دائما يقدمون على الحرب و الجلاء وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ.

[207] وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في عملك فلا تفسد أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي حملته عزة و حمية الجاهلية بأن يأثم لأنه لا يرضخ للحق و لا يعتني به فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي تمكينه جهنم جزاء له وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ أي محل القرار، و هذه الآيات نزلت في المنافقين أو في فرد خاص منهم يسمى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 237

[سورة البقرة (2): الآيات 207 الى 208]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

الأخنس بن شريق، كان يظهر المحبة للنبي و يبطن الفساد و النفاق، و لعل وجه ارتباط هذه الآيات بالحج أن الكلام انتهى هناك حول من يفتخر بالآباء اعتزازا بالنفس و هذا

مثلهم في الاعتزاز و الاغترار.

[208] وَ مِنَ النَّاسِ أي بعض الناس مَنْ يَشْرِي أي يبيع فإن كلا من البيع و الشراء يجي ء بمعنى الآخر نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لأجل طلب رضاه سبحانه وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يرأف بهم فيجازيهم لعملهم الحسن، و لعل ذكر الرأفة لأجل أن هذا البيع يحتوي على أخطاء و أضرار، ففيه تنبيه إلى أن اللّه رؤف يجنب البائع الأخطار و الإضرار، و هذه الآية نزلت في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام حين نام في فراش الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الهجرة.

[209] و حين ذكر أن من الناس من هو منافق ناسب الإرشاد العام فقال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللسان ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ مع اللّه و رسوله في جميع أموركم كَافَّةً أي جميعا فاستسلموا للدين في جميع شؤونكم وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بأن تخالفوا أمر اللّه سبحانه و تتبعوا أمر الشيطان و ما يوحي اليه الهوى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي عدو ظاهر لأنه يأمر بالمفاسد التي ترجع إلى ذهاب دينكم و دنياكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 238

[سورة البقرة (2): الآيات 209 الى 211]

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)

[210] فَإِنْ زَلَلْتُمْ تشبيه للذنب بمن يزل له قدم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحة على الحق فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ

فلا يمتنع عليه العذاب و العقاب بمن زل حَكِيمٌ في فعله ليعفوا عمن يشاء و يعذب من يشاء.

[211] و هنا يعود السياق إلى من تأخذه العزة فيقول سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ النظر بمعنى الانتظار أي هل ينتظر هؤلاء المنافقون إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ حتى يؤمنوا و يقلعوا عن نفاقهم و كفرهم فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ظلل جمع ظلة و هي ما يستظل به من الشمس و سمي السحاب ظلة لأنه يستظل به من الشمس، و الغمام هو السحاب و قد كانت اليهود تزعم أن اللّه ينزل في ظلل من الغمام و كذلك الملائكة معه و لذا قال:

وَ الْمَلائِكَةُ عطفا على «اللّه» وَ قُضِيَ الْأَمْرُ أي يوم تغيير الكون عن وضعه لا يبقى بعد مجال للتكليف إنما هو يوم القيامة وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ و يكون ذلك اليوم يوم حساب و عقاب و ثواب، لا يوم عمل و شغل، فالآية تشير إلى أساطير أهل الكتاب متهكما ساخرا، ثم يهدد و يوعد بأن الأمر يقضي فلا مجال بعد التكليف.

[212] و حيث أشير إلى أسطورة إسرائيلية، توجه السياق إلى تأنيب بني إسرائيل الذين كانوا يعاندون في إنكارهم للآيات سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي أعطيناهم أدلة واضحة و مع ذلك عاندوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 239

[سورة البقرة (2): الآيات 212 الى 213]

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ

بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

و لم يؤمنوا وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ كفرا فلا يؤمن بآياته مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فليهيئ نفسه لعقابه.

[213] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الحياة القريبة مقابل الحياة البعيدة و هي الآخرة و التي زينها لهم هي مجموعة عوامل بعضها حق و بعضها باطل فإن الحياة التي خلقها اللّه جميلة تزين نفسها كما أن الشيطان و النفس و الهوى تزين الحياة لتصرف الناس عن الآخرة وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا حيث يرونهم منصرفين عنها مقبلين إلى الآخرة- التي لا يعتقد هؤلاء الكفار بها- وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا من المؤمنين فَوْقَهُمْ أي فوق هؤلاء الكفار منزلة و مقاما و رتبة يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنهم عملوا لها فأدركوا خيرها و الكفار لم يعملوا فيبقون هناك سائلين وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فالرزق في الدنيا ليس بالكفر و التوجه إليها حتى يحرم أهل الآخرة منها بل الرزق يصيب الكافر و المؤمن، فالمؤمن منعم في الدنيا و فوق الكافر في الآخرة.

[214] إن كل حركة إصلاحية لا بد و أن تشق صفوف الناس المتصافقة على الفساد و هكذا كان بعث الأنبياء عليهم السّلام فقد كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 240

اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ لمن آمن و أصلح وَ مُنْذِرِينَ لمن كفر أو عصى وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ قيد توضيحي إذ كل إنزال من اللّه بالحق و إنما أكد لمقابلته لسائر الكتب التي ترسلها رؤساء الحكومات إلى رعاياها فإن منها ما هو حق و منها ما

هو باطل لِيَحْكُمَ ذات الكتاب بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من أمور معاملاتهم و سائر معاشراتهم و الاختلاف هنا لا ينافي كون الناس أمة واحدة إذ وحدة الأمة تجتمع مع هذا النوع من الاختلاف ثم صار نفس الكتاب محلا لاختلاف الأمة فيه، لكن هذا الاختلاف ليس عن واقع و شك، لأن الكتاب واضح بل عن حسد و بغي و طمع وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الكتاب بأن فسره كل حسب نظره و هواه إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي الأمة التي أعطيت الكتاب مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الأدلة الواضحة على معاني الكتاب بَغْياً بَيْنَهُمْ أي الاختلاف إنما نشأ من البغي و الظلم و الحسد الحاصل بينهم فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا حقيقة و أرادوا اتباع أحكام اللّه واقعا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ أي للشي ء الذي اختلفت الأمة فيه بِإِذْنِهِ أي بلطفه بهم حيث هداهم وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 241

[سورة البقرة (2): الآيات 214 الى 215]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

معناه الإيصال إلى المطلوب و هو ليس بواجب بالنسبة إلى الجميع و إما معناه إرائة الطريق و معنى من يشاء إنه لو لم يشأ لا يهدي أحد، إذ الهداية لا تكون إلا بإرسال الرسل، و الأول أنسب

بالسياق.

[215] ثم يسأل اللّه المؤمنين الذين وقعوا في متاعب هذا الخلاف حيث يحاربونهم الكفار لأجل أنهم اهتدوا بهدي اللّه أَمْ حَسِبْتُمْ أي بل حسبتم و ظننتم أيها المسلمون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ اعتباطا و بلا مشقة و حرج وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا أي مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ أي لم يأتكم بعد امتحان مثل امتحان الأمم المؤمنة السالفة الذين ثبتوا و صبروا تجاه الأحزان و الكوارث و إنما قال «مثل» لأنهم صاروا مثلا للصبر و تحمل المكاره مَسَّتْهُمُ أي لمستهم الْبَأْساءُ الفقر وَ الضَّرَّاءُ المرض و الحرج و أشباههما وَ زُلْزِلُوا أي حركوا بأنواع المحن و البلايا حَتَّى وصل الحال إلى أن يَقُولَ الرَّسُولُ لتلك الأمم وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ استعجالا للنصر الموعود و تمنيا للخلاص من الشدائد و المحن، فاستدرك الأمر و أجيب سؤالهم بأنه أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ و هذا جواب طبيعي يقوله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنون كلما رأوا البلاء و المحن، و في الآية تعبير المؤمنين و أنهم إنما يفوزون بسعادة الدنيا و الآخرة بعد مثل هذه الكوارث و المتاعب.

[216] و يأتي هنا دور أسئلة وجهت إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أجاب عنها القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 242

[سورة البقرة (2): آية 216]

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)

الكريم يجمعها الإقلاع عن الملذات و الصبر على الطاعة و بهذا يرتبط السياق بما قبله حيث كان الكلام في معرض التضحية في سبيل

العقيدة و الإيمان و ما يأتي نوع من التضحية يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه ما ذا يُنْفِقُونَ في سبيل اللّه من أقسام الأموال قُلْ ليس لهم الإنفاق فإنه أي شي ء كان يقبل إذا كان المنفق عليه أهلا كما أنه لا يقبل إذا كان المنفق عليه غير أهل فمعيار الإنفاق ليس ماهية المنفق و إنما شخص المنفق عليه ف ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فاللازم أن يكون للوالدين وَ الْأَقْرَبِينَ أقربائكم وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ و أشباه ذلك مما يقصد به وجه اللّه سبحانه وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ إنفاق أو غيره فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بالخير خيرا. و

روي أنها نزلت في عمرو ابن الجموح، و كان شيخا كبيرا كثير المال فقال يا رسول اللّه بما ذا أتصدق؟ و على من أتصدق فأنزل اللّه هذه الآية «1».

[217] ثم رجع السياق إلى الآية السابقة التي فيها ذكر التضحية و الزلزال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ مع من تعدى عليكم أو على العقيدة الصحيحة أو على الناس وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ تكرهونه وَ عَسى

______________________________

(1) فقه القرآن: ج 1 ص 239.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 243

[سورة البقرة (2): آية 217]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217)

بمعنى «قد» و ما بعده فاعله أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ

خَيْرٌ لَكُمْ و القتال من ذلك فإنه يوجب سيادتكم و سعادتكم وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ و ترك القتال كذلك لما فيه من راحة الجسم و عدم اضطراب القلب لكنه شر لما فيه من زوال السيادة و العزة و تسلط الكفار و الأجانب وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه خيركم و شركم وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ

[218] بعث رسول اللّه بسرية فاتفق أن قاتلت في شهر رجب و هي تترد في أن اليوم الذي حاربت فيه من جمادى أو رجب، و شهر رجب من الأشهر الحرم، و لذا كثر صخب المشركين و إنه كيف يقاتل الرسول في شهر حرام و أتى وفدهم إلى المدينة يسألون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ بدل شهر أي يسألونك يا رسول اللّه عن القتال في الشهر الحرام قُلْ قِتالٌ فِيهِ أي في الشهر الحرام كَبِيرٌ في نفسه لا يجوز وَ لكن ليس كبر ذنبه مثل عظم ذنب ما تفعلونه أنتم أيها المشركون ف صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي المنع عنه بأن لا يسلم أحد وَ كُفْرٌ بِهِ أي باللّه سبحانه وَ صد عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لئلا يحج المسلمون وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ أي أهل المسجد الحرام مِنْهُ كما فعل المشركون بالنبي و المسلمين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 244

[سورة البقرة (2): آية 218]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ فكيف تؤاخذون المسلمين بذنب مهما عظم و تنسون ذنوبكم التي هي أعظم منه وَ الْفِتْنَةُ التي أنتم تقيمون عليها

من تفتين المسلمين عن دينهم و إغرائهم بالكفر بعد الإسلام أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ الذي صدر من المسلمين، فالقتل يفسد دنيا المقتول و الفتنة تفسد دين المفتتن و أخراه وَ لا يَزالُونَ أي لا يزال الكفار يُقاتِلُونَكُمْ أيها المسلمون حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إلى الكفر إِنِ اسْتَطاعُوا أن يردوكم وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ أيها المسلمون عَنْ دِينِهِ إلى الكفر فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ في مقابل من ارتد و رجع حتى مات مؤمنا فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و الحبط هو الإبطال و الإفناء فلا حسنة لهم و لم ينتفعوا بإيمانهم السابق على الكفر فِي الدُّنْيا فليس لهم احترام المسلم و حقوقه وَ الْآخِرَةِ فلا يجزى بالجنة و الثواب وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد.

[219] و هناك ظن أناس أن القاتل في رجب إن سلم من الإثم لم يكن له أجر لأنه انتهك حرمة الشهر الحرام فأنزل اللّه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا بأن قطعوا ديارهم و أهليهم و خلفوا أموالهم لأجل أن يكونوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 245

[سورة البقرة (2): آية 219]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ جاهَدُوا أي أوقعوا أنفسهم بالجهد و التعب، و أوضح أفراده المقاتلة فِي سَبِيلِ اللَّهِ لكسب مراضيه أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ يأملونها في الدنيا و الآخرة وَ اللَّهُ غَفُورٌ يغفر لمن زل و رَحِيمٌ بعباده المؤمنين فلا ينقص أجورهم و إنما قال:

«يرجون» لأن الإنسان لا يدري ما حاله في المستقبل و إنه

هل يبقى على الإيمان و الصلاح حتى يثاب أم يفتن في دينه حتى يحبط عمله.

[220] يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه عَنِ الْخَمْرِ و هي كل مسكر و أظهر أفراده المسكر المتخذ من العنب وَ الْمَيْسِرِ و هو القمار بجميع أصنافه و السؤال كان عن حكمهما قُلْ يا محمد فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أي وزر عظيم لما فيهما من الفساد الكبير وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ فإن الخمر تفيد اللذة و الطرب و في الاتجار بها ثمن و ربح و القمار فيه لذة للاعب و ربح للفائز وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما إذ الفساد الذي يسببانه في البدن و العقل و المال أكبر من اللذة و الربح الذي يحصل بسببهما بالإضافة إلى العقوبة الأخروية التي تصيب الإنسان من جرائها.

وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه ما ذا يُنْفِقُونَ و هنا جاء الجواب طبق السؤال و إنه «ماذا» لا إنه «لمن» فقال قُلْ يا محمد الْعَفْوَ أي الزائد من المال على النفقة فإن ما بقدر نفقة النفس و الأهل لا ينفق تقديما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 246

[سورة البقرة (2): آية 220]

فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

لواجبي النفقة على غيره و هذا الإنفاق مستحب لما دل على حصر الحقوق الواجبة في أمور معدودة كَذلِكَ أي هكذا يا رسول اللّه فإن كذا تشبيه و إشارة و الكاف الملحق بها اللام للخطاب يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الأدلة المرتبطة بالتشريعات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي لكي تتفكروا.

[221] فِي أمر الدُّنْيا وَ أمر الْآخِرَةِ فتجمعوهما في التفكير ثم ترون جمال الأحكام إذ التفكير

في الدنيا فقط يوجب شلل قسم من الأحكام فلما ذا ينفق الإنسان- مثلا- و هو بحاجة إلى المال، كما إن التفكير في الآخرة فقط يوجب شلل قسم آخر من الأحكام فلما ذا لا ينفق الإنسان جميع أمواله لتحصيل أجر الآخرة و هكذا سائر الأحكام فلا يعرف جمالها إلا إذا افتكر الإنسان في كلتا الحياتين و عرف المصلحتين وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى كيف يعاشروهم فقد ورد أنه لما نزل وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1» ذهب كل من عنده يتيم ليعزل اليتيم في مأكله و مشربه عن نفسه لئلا يبتلي بماله و اشتد ذلك عليهم فسألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزلت قُلْ يا رسول اللّه إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ بأن يصلح الإنسان أموال اليتيم و يعاشره معاشرة المصلحين بدون أجرة و عوض خير من عزلهم و طردهم وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ بأن تخلطوا أموالهم

______________________________

(1) الأنعام: 153.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 247

[سورة البقرة (2): آية 221]

وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

بأموالكم و تشاركون معهم بالنسبة و حفظ المقدار فهم إخوانكم في الإيمان و الأخ يعاشر الأخ بالإصلاح و الغبطة وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فهو عارف بنية المخالطين للأيتام و إنهم يريدون بالمخالطة الإفساد و أكل مال اليتيم أو الإصلاح و التحفظ على اليتيم حتى يبلغ و يرشد وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي أوقعكم

في العنت و المشقة بالنسبة إلى اليتيم بأن يوجب الاجتناب عن أموالهم و اعتزال أموالكم عن أموالهم فحيث أنه لم يفعل ذلك رحمة بكم فلا تأكلوا أموالهم فسادا و طمعا إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ فهو يقدر- بعزته- من إعناتكم حَكِيمٌ لا يفعل إلا الصلاح و ما تقتضيه الحكمة.

[222] ثم انتقل السياق إلى فئة من أحكام الأسرة في النكاح و الطلاق و شؤونها و لعل الارتباط العام بين هذه الآيات و الآيات السابقة أنها انتهت إلى حكم اليتيم، فاللازم بيان العش الذي يتربى فيه فراخ الإنسان، و إنه كيف يلزم أن يكون لينشأ الأولاد صالحين أصحاء جسما و عقلا و عاطفة وَ لا تَنْكِحُوا أيها الرجال المسلمون النساء الْمُشْرِكاتِ سواء كن أهل كتاب أم لا فأهل الكتاب أيضا مشركون كما قال سبحانه فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «1» حَتَّى يُؤْمِنَ و يدخلن في الإسلام وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ تلك

______________________________

(1) النمل: 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 248

[سورة البقرة (2): آية 222]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

المشركة لجمالها أو مالها أو حسبها أو نسبها وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ بناتكم أيها المسلمون حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ تزوجوه بنتكم خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ ذلك المشرك أُولئِكَ المشركات و المشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ إما بالتبليغ إلى الشرك و إما بحكم دينهم فإن جليس الإنسان إذا كان غير متدين لا بد و أن يسري إلى جليسه وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ أي غفران الذنوب بِإِذْنِهِ فالمسلمات و

المسلمون حين أخذوا مبادئهم عن اللّه سبحانه لا بد و أن يدعون بلسانهم أو بحكم دينهم إلى الجنة وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ أحكامه و دلائله لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي لكي يتذكروا و يتعظوا و يرشدوا.

[223] وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه عَنِ الْمَحِيضِ الحيض و المحيض بمعنى واحد و أنه هل يجوز مقاربة النساء في حالة الحيض أم لا قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هُوَ أي المحيض أَذىً قذر نجس أو مشقة فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ و الاعتزال هو الابتعاد عنهن وَ لا تَقْرَبُوهُنَ بالجماع حَتَّى يَطْهُرْنَ و ينظفن عن الدم فَإِذا تَطَهَّرْنَ عن الدم فَأْتُوهُنَ جامعوهن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 249

[سورة البقرة (2): آية 223]

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بمقاربتهن من الفرج الذي هو محل الدم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ الذين يرجعون كثيرا عن ذنوبهم إلى الندم و الاستغفار بمعنى أنهم كلما أذنبوا تابوا و رجعوا و استغفروا و لعل ذكر التواب بمناسبة أن من زل فقارب في المحيض يقبل اللّه توبته و إن تكرر منه إذا ندم ندما حقيقيا و تاب توبة نصوحا وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بالماء عن الأقذار الباطنية و الظاهرية أو بالاستغفار عن الذنوب.

[224] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي مزرعة و محترث فكما يحرث الحارث البذر في الأرض كذلك يحرث الرجل في زوجته فَأْتُوا حَرْثَكُمْ و زرعكم أَنَّى شِئْتُمْ «أنى» إما زمانية بمعنى أي وقت شئتم، باستثناء أيام الحيض التي سبق أنها لا يجوز و سائر ما استثنى من حال الصوم و الإحرام و شبههما، و إما مكانية

أي إتيانها في قبلها من خلفها أو قدامها أو جانبيها، أو بمعنى الكيفية باركة و نائمة و قائمة، أما أن يراد سياق السبيلان فبعيد عن سياق الآية وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بالولد فإنه يبقى ذخرا لكم، أو قدموا لأنفسكم بالطاعة حيث ذكرت أوامر و نواهي وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره و نواهيه وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ و الملاقاة هنا بمعنى أنه عليكم حساب الملاقي لملاقيه وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بأنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 299

[سورة البقرة (2): الآيات 224 الى 225]

وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

يفوزون بكل كرامة.

[225] و ناسب قصة النساء حلف بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه و لا يكلمه و لا يصلح بينه و بين امرأته فكان يقول: إني حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله، فنزلت الآية مما ناسب قصة العائلة و النساء التي سبقت، و تأتي، فقال سبحانه: وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً أي معرضا لِأَيْمانِكُمْ بأن تحلفوا به أَنْ تَبَرُّوا أي لئلا تبروا، أي تريدون بالحلف عدم البر وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ أي و عدم التقوى و عدم الإصلاح، فإن هذه اليمين فاسدة لا تنعقد وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم و أقوالكم عَلِيمٌ بأحوالكم و نياتكم.

[226] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ و لا يعاقبكم بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ جمع يمين، و يمين اللغو هو ما يجري على عادة الناس من قول: لا و اللّه و بلى و اللّه من غير عقد

على يمين يقتطع بها مال و لا يظلم بها أحد وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي بحنث يمين نويتم اليمين الحقيقية حين إجرائها وَ اللَّهُ غَفُورٌ يغفر الذنب حَلِيمٌ يحلم عن العصاة لعلهم يتوبوا، و تكرار كلمة غفور في كثير من الآيات لفتح باب التوبة أمام العصاة الذين هم كثيرا ما يعصون عن شهوة و نزوات و هوى، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 251

[سورة البقرة (2): الآيات 226 الى 228]

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

اللّه سبحانه لا يسد عليهم باب التوبة و إن تكررت منهم المعاصي و الذنوب.

[227] ثم يرجع السياق إلى أحكام الأسرة مع مناسبة للحكم مع الحلف فيقول سبحانه: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ و الإيلاء هو الحلف على ترك وطي المرأة على وجه الإضرار بهن تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مبتدأ لقوله «للذين» أي توقف أربعة أشهر جائز للذين يؤلون من نسائهم و ذلك لأن للرجل أن لا يطأ زوجته أربعة أشهر و بعد ما تم أربعة أشهر خيره الحاكم بين الوطي و الكفارة و بين الطلاق و إن امتنع عن الأمرين حبسه فَإِنْ فاؤُ و رجعوا إلى زوجاتهم بالوطي بعد الأشهر الأربعة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لهم بهذا الحلف رَحِيمٌ بهم.

[228] وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فطلقوا

فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ للطلاق عَلِيمٌ بالضمائر و النيات.

[229] وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ أي يصبرن بِأَنْفُسِهِنَ أي يحفظنها عن الزواج و نحوه ثَلاثَةَ قُرُوءٍ جمع قرء و هو من ألفاظ الضد يطلق على الحيض و على الطهر و المراد هنا الطهر فإذا طلقت المرأة في طهر لم يواقعها فيه الرجل كان هذا الطهر و طهران آخران بينهما حيض موجبا لانتظار العدة فإذا رأت الدم الثالث انقضت عدتها وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 252

يَكْتُمْنَ أي يخفين ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَ من الولد و دم الحيض حتى يبطلن حق الرجعة في الطلاق الرجعي أو يستعجلن العدة إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يوم القيامة، فمن آمن بهما لا بد و أن تستقيم حركاته و سكناته و أقواله و أفعاله، لأنه يعلم أن اللّه مطلع عليه و أنه سوف يحاسبه وَ بُعُولَتُهُنَ أي أزواج المطلقات الرجعيات أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ إلى أنفسهم فِي ذلِكَ أي زمان التربص إِنْ أَرادُوا أي البعولة بردهن إِصْلاحاً لا إضرارا، و ذلك أن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة و تركها، حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها و تركها مدة ثم طلقها أخرى و تركها مدة كما فعل في الأولى ثم راجعها و تركها مدة ثم طلقها أخرى، و هذا العمل حرام و إن كان يثبت حكم الرجعة به وَ لَهُنَ أي حق النساء على أزواجهن مِثْلُ الَّذِي للأزواج عَلَيْهِنَ فلكل على الآخر حقوق تتكافأ بِالْمَعْرُوفِ من العشرة و سائر الأمور وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَ زيادة دَرَجَةٌ فإن بيده الطلاق و له عليها الطاعة وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ينفذ أوامره حَكِيمٌ جعل أحكامه على طبق المصلحة و الصلاح، و

من المحتمل أن يكون قوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ بيان حال العدة أي أن لكل من الزوج و الزوجة حقا على الآخر في حال العدة مع أن الرجل له فضيلة على المرأة بأن الاختيار إلى الزوج فقط.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 253

[سورة البقرة (2): آية 229]

الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

[230] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فإن للرجل أن يطلق زوجته تطليقتين فالواجب إذا راجعها بعد التطليقتين إمساك و حفظ لها في حبالته بِمَعْرُوفٍ بالعشرة الحسنة أَوْ تَسْرِيحٌ و طلاق ثالث بِإِحْسانٍ بإعطائها حقوقها و عدم التعدي، و فوق ذلك إنه يحسن إليها جبرا لخاطرها المكسور.

وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أيها الأزواج أَنْ تَأْخُذُوا في حال الطلاق و الاستبدال مِمَّا أي من الذي آتَيْتُمُوهُنَ و أعطيتموهن من المهور شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أي الزوجان أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ من حقوق الزوجية فَإِنْ خِفْتُمْ أيها الحكام أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ من حقوق الزوجية فَلا جُناحَ و لا حرج عَلَيْهِما أي على الزوجة في البذل و على الزوج في قبول البذل فِيمَا أي في الذي افْتَدَتْ الزوجة بِهِ من المال تِلْكَ الأحكام المذكورة هي حُدُودَ اللَّهِ و أوامره و نواهيه فَلا تَعْتَدُوها و لا تجاوزوها بالمخالفة وَ مَنْ يَتَعَدَّ منكم و يتجاوز حُدُودَ اللَّهِ و يخالف أوامره و نواهيه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 254

[سورة البقرة (2): الآيات 230 الى 231]

فَإِنْ

طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231)

[231] فَإِنْ طَلَّقَها طلاقا ثلاثا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الطلاق الثالث فإنها تحرم عليه حَتَّى تَنْكِحَ المرأة المطلقة ثلاثا زَوْجاً غَيْرَهُ و يسمى هذا الزوج محللا فَإِنْ طَلَّقَها أي طلق المرأة الزوج الثاني و انقضت عدتها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوجة و الزوج الأول الذي طلقها ثلاث طلقات أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أي الزوجان أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ في حسن الصحبة و المعاشرة و إن لم يظنا صح الرجوع لكنه سبب للمعصية، و الحاصل أن الحكم الوضعي الصحة و إن كان الحكم التكليفي الحرمة كمن يغسل يده النجسة بالماء المغصوب الذي يوجب طهارة يده لكنه فعل حراما وَ تِلْكَ المذكورات في باب الطلاق و النكاح حُدُودَ اللَّهِ أوامره و نواهيه يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الأمور فإنهم هم الذين ينتفعون بهذه الأحكام.

[232] وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي قاربن تمام العدة و إنما عبر بهذا التعبير لأن انقضاء العدة يعبر عنه بانقضاء الأجل فما يقابله بلوغ الأجل إذا قاربه، إذ البلوغ الدقي خارج عن محاورة العرف فَأَمْسِكُوهُنَ أي احفظوهن في حبالتكم بالرجوع إليهن في عدة الرجعة بِمَعْرُوفٍ الذي يعرفه

العقلاء و المشرعون من القيام بحقوق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 255

[سورة البقرة (2): آية 232]

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)

الزوجة أَوْ سَرِّحُوهُنَ أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن بِمَعْرُوفٍ بإعطاء حقوقهن كاملة من غير إيذاء لهن وَ لا تُمْسِكُوهُنَ بأن ترجعوا إليهن ضِراراً بقصد الإضرار بهن لتطويل العدة أو التضييق في النفقة- كما تقدم- لِتَعْتَدُوا عليهن و تظلموهن وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الإمساك بقصد الإضرار فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لأنه أساء بسمعته عند الناس و عرض نفسه لعذاب اللّه و سخطه وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ أحكامه و أوامره و نواهيه هُزُواً سخرية بأن تستخفوا بها وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حيث أنعم عليكم بكل نعمه، التي منها نعمة الزوجة التي تسكنون إليها و تقضون مآربكم بسببها وَ اذكروا ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ فشرفكم بتعلمكم الأحكام و إرشادكم إلى ما يصلحكم و يهيئ لكم حياة سعيدة يَعِظُكُمْ بِهِ أي بذلك الكتاب، و هذا إما صفة للكتاب أو جملة مستأنفة وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره و نواهيه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فلا يفوته عملكم و نيتكم فلا تتعرضوا لسخطه و غضبه.

[233] وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي انقضت عدتهن- و ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 256

[سورة البقرة (2): آية 233]

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا

تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

بقرينة: أن ينكحن- فَلا تَعْضُلُوهُنَ أي لا تمنعوهن ظلما أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ إلى الزوج السابق أو من تريد الزواج به فعلا و سمى زوجا للأول و ربما قيل في وجه النزول أن معقل بن يسار عضل أخته جملاء أن ترجع إلى الزوج الأول و هو عاصم بن عدي حين طلقها و خرجت من العدة ثم أراد أن يجتمعا بنكاح جديد فمنعهما من ذلك، و لو كان كذلك كان المراد بأزواجهن بالمعنى الأول فإنه لا يحق لأحد أن يمنع المرأة الثيبة في الرجوع إلى زوجها بنكاح جديد إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ مما أباحه شرع الإسلام من شروط النكاح و آداب العشرة ذلِكَ المذكور من تحريم العضل يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإن المؤمن يجتنب سخط اللّه و يبتغي رضاه ذلِكُمْ الذي ذكرنا في باب الزواج أَزْكى لَكُمْ أنمى لكم وَ أَطْهَرُ لنفوسكم فإن في الزواج النسل و التحصن و سير الحياة إلى الأمام وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فاتبعوا أوامره و انتهوا عن زواجره.

[234] وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فإن الأم ترضع ولدها سنتين تامتين أربعة و عشرين شهرا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 257

ندب إليها الإسلام و من العلماء من أوجب ذلك وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي الأب، و إنما عبر بهذا

التعبير إثارة للعاطفة، له فإن الأب قد ولد له الولد فاللازم أن يحنو عليه رِزْقُهُنَ الإدام و الطعام وَ كِسْوَتُهُنَ اللباس بِالْمَعْرُوفِ لدى الشرع و العرف من اللائق بحالها فإن على الأب أن يقوم بهذه الشؤون ما دامت الأم في الرضاع، و قد استفاد أكثر المفسرين من هذه الجملة كون الكلام حول الأم المطلقة و إلا فالرزق و الكسوة على الزوج لأجل النكاح لا لأجل الرضاع لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها فكل من الأب و الأم يؤدي واجبه في حدود طاقته فلا تتحمل الأم الرضاع بلا بدل و لا ينتفع الأب بولده في المستقبل مجانا فسعة هذه أن ترضع ببدل، و سعة ذاك أن يدفع الأجر لما يعود نفعه إليه لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها بأن ترضع مجانا و بلا عوض باستغلال الأب عاطفة الأم للولد فلا ينفق عليها، أو بمعنى أن الوالدة لا يؤخذ منها الولد ليعطي للأجنبية غيظا من الأب عليها فتضر بفراق ولدها وَ لا يضار مَوْلُودٌ لَهُ أي الأب بِوَلَدِهِ بأن تستغل الأم عاطفة الأب نحو الولد فتكلفه أكثر من الكسوة و الرزق قبال رضاعها، أو لا يضر الأب بولده بأن يأخذه من الأم و يعطيه للأجنبية، فإن لبن الأم أوفق بالولد، و الأول أقرب إلى السياق وَ عَلَى الْوارِثِ للأب إذا مات الأب مِثْلُ ذلِكَ الرزق و الكسوة للأم في حال رضاعها للولد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 258

[سورة البقرة (2): آية 234]

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

و لا يخفى أن أجر رضاع الصبي مما يرثه الصبي

من أبيه لدى موت الأب فَإِنْ أَرادا أي الأب و الأم فِصالًا للولد عن الرضاع بأن يفطماه قبل الحولين عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ بأن تشاور الأبوان و تراضيا في فطام الولد قبل العامين و ذلك لئلا يتضرر الصبي إذا استقل أحدهما بالفطام فإن الرضا المتعقب للمشورة لا يكون إلا إذا كان الانفصال صلاحا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الأبوين في هذا الفطام وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أيها الآباء أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ بأن تستأجروا لهم مرضعات غير أمهاتهم فَلا جُناحَ و لا حرج عَلَيْكُمْ في ذلك إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المرضعات ما آتَيْتُمْ و وعدتم لهن من الأجر بِالْمَعْرُوفِ أي تسليما بالمعروف بدون نقصان و مطل و من، و هذا شرط تكليفي لا وضعي، كما هو كثير في القرآن الحكيم، لغاية الإلفات إلى لزوم كون الأعمال عن صدق و إخلاص و تقوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أعمالكم التي منها الأحكام السالفة حول الرضاع وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يغيب شي ء عنه و لا تخفى عليه خافية، فلتكن أعمالكم حسب مراضيه و أوامره.

[235] وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي الرجال الذين يموتون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 259

[سورة البقرة (2): آية 235]

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً أي يخلفون زوجاتهم يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ أي يحفظن أنفسهن عن الزواج و لعل في قوله إشارة إلى أن النفس و

لو كانت تطمح نحو الزواج لكن الواجب اصطبارها و التحفظ عليها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً ففي هذه المدة يجب عليها الحداد بترك الزينة و الخطبة فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ و انقضت المدة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها المسلمون فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ من الزينة أو الخطبة أو النكاح فإنها ترجع إلى نفسها و الناس مسلطون على أنفسهم بِالْمَعْرُوفِ بأن لا تعمل منكرا ينافي الإسلام وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيطلع على أعمالهم، و لا يفوته شي ء من إطاعتكم و مخالفتكم.

[236] وَ إذا كانت المرأة في العدة ف لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الراغبون في الزواج منهن فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ بأن تلمحوا إلى رغبتكم في الزواج منهن و تعرضوا على ذلك تعريضا و إشارة من طرف خفي، لا تصريحا فإن ذلك خلاف الجو الذي يحيط بالمرأة المعتدة من الربط الباقي بينها و بين زوجها الأول أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ بأن أضمرتم إرادة زواجهن بدون أن تصرحوا أو تلمحوا بذلك فإن الكناية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 260

اللفظية و الإضمار القلبي لا جناح فيهما عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ أيها الرجال سَتَذْكُرُونَهُنَ و هن في العدة إرادة للزواج بهن وَ لكِنْ لا تصرحوا بالخطبة و لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا في الخلوة فتبدوا رغبتكم في الزواج بهن في منأى من الناس إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً بالكناية و التلميح لا بالتصريح و ذكر ما يقبح ذكره كما كانت عادة بعض الناس.

وَ لا تَعْزِمُوا أي لا تقصدوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي إجراء الصيغة التي هي كعقدة تعقد النكاح بين الجانبين، و قد نهى عن العزم على ذلك مبالغة، كقوله: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «1» حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ الذي كتبناه في باب العدة

من أربعة أشهر و عشرا «2» أَجَلَهُ أي أمده، بأن تنقضي العدة وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من عزم النكاح فكيف بما تسرون به من نكاح المعتدة سرا فَاحْذَرُوهُ أن تخالفوه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر عاجلا فلا يغرنكم ستره حَلِيمٌ عليم فلا يعجل بالعقوبة فلا يسبب ذلك جرأتكم على انتهاك حرماته.

______________________________

(1) الأنعام: 153.

(2) راجع موسوعة الفقه: ج 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 261

[سورة البقرة (2): الآيات 236 الى 237]

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

[237] و بعد بيان حكم موت الزوج، يأتي حكم الطلاق، و الطلاق إن كان قبل الدخول و لم يذكر في العقد مهر فللمرأة المتعة، و إن كان قبل الدخول و ذكر المهر فللمرأة نصف المهر لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأزواج إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ بالدخول أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً «أو» بمعنى الواو، أي لم يكن شي ء من الأمرين لا المس و لا المهر، و يسمى المهر فريضة لأنه يجب إذا سمي، و المعنى أنه يباح الطلاق قبل المس و الفرض، فلا يتوهم أحد أن النكاح لأجل الوطي فكيف يصح الطلاق قبله وَ مَتِّعُوهُنَ أي أعطوهن المتعة و هي ما تتمتع به المرأة و يوجب تعويضا يجبر خاطرها الكسير عَلَى الْمُوسِعِ أي الغني

يقال أوسع الرجل إذا كثر ماله قَدَرُهُ من دار أو خادم أو نحوهما وَ عَلَى الْمُقْتِرِ أي الفقير يقال أقتر الرجل إذا افتقر قَدَرُهُ كخاتم أو درهم أو نحوهما مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ ليس فيه إسراف و لا تقصير حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون طاعة الأوامر و الانتهاء عن الزواجر.

[238] وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ طلاقا قبل الدخول وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً بأن عينتم في النكاح المهر فعليكم أن تدفعوا إلى المرأة نصف ما فَرَضْتُمْ نصف المهر، هذا هو الحكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 262

[سورة البقرة (2): آية 238]

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238)

الواجب إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي تعفي المرأة عن نصفها فلا تأخذ شيئا و تهب مالها إلى الزوج أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ يمكن أن يراد به الزوج بأن يعفو عن نصفه فيعطي للمرأة جميع مهر المرأة، و روي أن المراد عفو ولي الزوجة، فيما إذا كان لها ولي مفروض كالصغيرة، أو موكل من قبلها في الكبيرة وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن من يترك حق نفسه تبرعا أقرب إلى التقوى بأن تبقى معصية اللّه فلا يطلب ما ليس له وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ بأن يتفضل بعضكم على بعض فيتنازل عن حقوقه لأجل صاحبه و لعل الفرق بين العفو و الفضل أن العفو هبة جميع حقوقه و الفضل هبة بعضها إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على أعمالكم إن حسنا و إن سيئا.

[239] إن القرآن الحكيم دائما يلطف أجواء الأحكام بتلميح إلى قدرة إله الكون و عظمته و رحمته و غفرانه و نحوها ليسمو بالنفس و يربط الحكم بالخالق حتى يكون أقرب إلى

التنفيذ، و لما طالت آيات الأحكام و بالأخص ما له جو كابت حزين من طلاق و موت و نحوهما أتت آيات الصلاة متداخلة بينها لتشع في النفس الطمأنينة و الهدوء أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «1» مع مناسبة لهذه الآيات مع الجو العام لما قبلها

______________________________

(1) الرعد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 263

[سورة البقرة (2): الآيات 239 الى 240]

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

و بعدها حيث تعرضت لصلاة الخوف و المطاردة، هذا ما أحتمله أن يكون سببا لذكر هذه الآيات هنا متوسطة أحكام الموت و الطلاق حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ كلها وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى خاصة و هي صلاة الظهر لأنها تتوسط بين النهار فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصليها بالهاجرة في مسجد مكشوف فكانت أثقل صلاة عليهم و لذا لم يكن يحضرها إلا الصف و الصفان فقط، كما ورد عن بعض الصحابة وَ قُومُوا أيها المسلمون لِلَّهِ قانِتِينَ أي داعين فإن القنوت هو الدعاء، و منه القنوت في الصلاة و المراد إما القنوت في الصلاة أو مطلقا.

[240] فَإِنْ خِفْتُمْ فلم تتمكنوا من المحافظة على الصلاة بشرائطها و آدابها، حيث ابتليتم بالعدو الذي لا يسمح لكم بالصلاة الكاملة فصلوا رجالا جمع راجل أي مشاة أَوْ رُكْباناً جمع راكب أي على ظهور دوابكم فَإِذا أَمِنْتُمْ من الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ صلاة كاملة كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ من أمور دينكم و دنياكم.

[241]

ثم رجع السياق إلى تتمة الأحكام السابقة، بعد ما أشعّت في النفس الاطمئنان و ندى الجو بذكر الصلاة وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً «يتوفون» مجازا بالمشارفة، فإنه كثيرا ما يعبر عمن شارف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 264

[سورة البقرة (2): آية 241]

وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)

أمرا بالداخل فيه، كما يعكس كثيرا فيعبر عن الداخل بالمشارف، نحو «لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ» و «لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ» فالمراد الذين يقاربون الوفاة، و لهم زوجات فمن الأفضل أن يوصوا وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ بأن يمتعهن الوصي مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ فيعطي النفقة و الكسوة إليهن إلى سنة كاملة غَيْرَ إِخْراجٍ أي في حال كونهن غير مخرجات إخراجا عن بيوت أزواجهن فَإِنْ خَرَجْنَ عن رغبتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأولياء فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ بالزواج و الزينة بعد انقضاء عدة الوفاة- و هي أربعة أشهر و عشرا- فإن قبل ذلك لا يكون معروفا، بل منكرا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ فيحكم بمقتضى عزته و سلطته حَكِيمٌ لا يحكم اعتباطا بل عن مصالح و علل، و هذه الآية حسب ما ذكرنا لها من المعنى لا تكون منسوخة بآية «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً».

[242] وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ يمتعهن الأزواج بشي ء سواء كن واجبة النفقة أم لا بِالْمَعْرُوفِ فإن ذلك يسبب رفع الغضاضة حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ الذين يتقون مخالفة أوامر اللّه سبحانه إيجابا كانت أو ندبا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 265

[سورة البقرة (2): الآيات 242 الى 243]

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى

النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)

[243] كَذلِكَ الذي بين اللّه لكم الأحكام يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعقلوا آياته و أحكامه.

[244] و من جو الأسرة و امتدادها و انقطاعها ينتقل السياق إلى قصة الحياة و الموت التي تشبه قصة الأسرة في كونها امتدادا للحياة العائلية و انقطاعا لها في قصة عجيبة هي: أن أهل مدينة من مدائن الشام كانوا سبعين ألف بيت هربوا من الطاعون فمروا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها و أفناهم الطاعون فنزلوا بها فأماتهم اللّه من ساعتهم جميعا و صاروا رميما يلوح، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له «حزقيل» فبكى و استعبر و قال: يا رب لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتهم، فعمروا بلادك و ولدوا عبادك و عبدوك مع من يعبدك، فأوحى اللّه إليه أن يقول الاسم الأعظم فقاله عليهم فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض يسبحون اللّه و يكبرونه و يهللونه أَ لَمْ تَرَ استفهام تقريري أي ألم تعلم فإن الرؤية تأتي بمعنى العلم كقول الشاعر: «رأيت اللّه أكبر كل شي ء» و قد يستفهم بمثل هذا الاستفهام لإيجاد العلم إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ سبعون ألفا كما تقدم حَذَرَ الْمَوْتِ و فرارا من الطاعون فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فأماتهم حيث ظنوا الهرب ثُمَّ أَحْياهُمْ بدعاء النبي حزقيل عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 266

[سورة البقرة (2): الآيات 244 الى 245]

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ

كلهم بخلقهم و رزقهم و تدبير أمورهم وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ نعمه و فضله عليهم بل يقللون فضله بالعصيان.

[245] وَ إذ علمتم أن الهروب من الموت لا ينفع ف قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لا تهربوا خوف الموت وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بنياتكم و أعمالكم.

[246] إن القتال بإعطاء المال و النفس في سبيل اللّه ليس هدرا و إنما المقاتل و العامل للبر، يقرض اللّه بما يذهب منه ثم يرجعه سبحانه إليه ف مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي أيّ شخص ذاك الذي يقرض اللّه و ينفق نفسه و ماله في سبيله قرضا حسنا لا لرياء و سمعة و لا بمنّ و إكراه و سائر ما يشين القرض فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ربما بلغت الملايين و عما ذا تخافون في قرض أموالكم هل من الفقر؟ وَ اللَّهُ يَقْبِضُ فيفقر وَ يَبْصُطُ فيغني فلا ينفعكم البخل و لا يضركم القرض و السخاء، أم تخافون في قرض أنفسكم للّه من الموت؟ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيعطيكم أفضل مما أخذ منكم،

قال الإمام أمير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 267

[سورة البقرة (2): آية 246]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

المؤمنين عليه السّلام لأحد أولاده «أعر اللّه جمجمتك» «1».

[247] و هنا قصة حياة أو موت أخرى تناسب القصة السابقة أَ لَمْ تَرَ

أي ألم تعلم- كما تقدم- إِلَى الْمَلَإِ أي الجماعة مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى النبي إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو أشموئيل و بالعربية إسماعيل ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي سلطانا نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تحت لوائه حيث أذلهم الجبابرة و أخرجتهم من بلادهم و قتلتهم و سبيت ذراريهم و نسائهم و كان النبي في ذلك الزمان ينظم أمور الدين و الملك و ينظم أمور الجيش و السلطة قالَ النبي هَلْ عَسَيْتُمْ أي لعلكم إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أراد بذلك أخذ العهد عليهم في المقاتلة إن عيّن ملك لهم قالُوا أي قال الملأ في جواب النبي عليه السّلام وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ليس بإمكاننا أن نترك القتال وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا أخرجنا الأعداء من بلادنا وَ أَبْنائِنا أي إخراجنا من أبنائنا حيث قتل بعضهم و سبي البعض،

______________________________

(1) نهج البلاغة: ص 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 268

[سورة البقرة (2): آية 247]

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)

فسأل النبي عليه السّلام من اللّه ذلك، فاستجاب اللّه دعاءه و عين لهم ملكا و كتب عليهم القتال فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا أدبروا و كرهوا القتال إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين فروا من الجهاد بعد طلب منهم و إلحاح.

[248] وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ أشموئيل إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ و عين عليكم طالُوتَ مَلِكاً

و كان من أبناء «بن يامين» أخي يوسف عليه السّلام و لم يكن من سبط النبوة و لا من سبط المملكة، فإن النبوة كانت في أولاد «لاوي» ابن يعقوب عليه السّلام، و المملكة كانت في أولاد «يهوذا» ابن يعقوب عليه السّلام قالُوا أَنَّى أي كيف يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا و يجعل سلطانا و ملكا لنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ لأنا من أسباط النبوة و المملكة وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ فهو فقير لا مال له و الملك يحتاج إلى المال ليدير شؤون السلطة قالَ النبي عليه السّلام في جوابهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ و اللّه لا يصطفي إلا من هو الأصلح بحال عباده وَ زادَهُ بَسْطَةً أي سعة و زيادة فِي الْعِلْمِ و المملكة تحتاج

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 269

[سورة البقرة (2): آية 248]

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

إلى علم الملك ليتمكن به من إدارتها وَ الْجِسْمِ فهو رجل سمين يهابه الناس، شجاع يخافه الأعداء و هذه الأمور هي مقومات الملك لا المال فإن العلم و الشجاعة و الهيبة تأتي بالمال، و ليس بالعكس وَ ليس كونه من «بن يامين» نقصا فكما جعل اللّه الملك في بيت «يهوذا» سابقا يجعله في «طالوت» حالا فإن اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ و ليس احتكارا على أحد وَ اللَّهُ واسِعٌ قدرة و عطاء فيهب الملك لمن يشاء عَلِيمٌ بمصالح العباد فلا يجعل شيئا إلا إذا كان صالحا.

[249] وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ أشموئيل زيادة في الدلالة على

جعل اللّه «طالوت» ملكا عليهم إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ و أن اللّه تعالى جعله ملكا أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ و هو تابوت أنزله اللّه على أم موسى فوضعت موسى فيه حين ألقته في البحر و كان بنوا إسرائيل يتبركون به فلما حضر موسى الموت وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آيات النبوة و أودعه يوشع وصيه فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات فلم يزل بنوا إسرائيل في عز و شرف ما دام التابوت بينهم فلما عملوا بالمعاصي و استخفوا بالتابوت رفعه اللّه عنهم ثم جعل رد التابوت عليهم دليلا على أنه جعل اللّه طالوت ملكا فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ تسكنون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 270

[سورة البقرة (2): آية 249]

فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

إليه و تعلمون أنكم منصورون بسببه و يكون دليلا على ملك طالوت وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ عصا موسى عليه السّلام و الألواح و طست خاص بالأنبياء عليهم السّلام و أشياء أخر، فإنها وصلت بالإرث إلى آل هذين النبيين المعظمين و هم جعلوها في التابوت تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ حملا واقعيا أو حملا ظاهرا بأن رأى بنوا إسرائيل الملائكة بين السماء و الأرض أتت بالتابوت إِنَّ فِي ذلِكَ التابوت

الذي رجع إليكم بعد فقده لَآيَةً لَكُمْ على كون طالوت ملكا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين، أي إن كنتم مؤمنين قلبا، تصدقون ذلك.

[250] فَلَمَّا رأى بنوا إسرائيل التابوت صدقوا و انضووا تحت لواء طالوت، و تحركوا نحو الجهاد مع أعدائهم و لما فَصَلَ خرج و انفصل عن المدينة طالُوتُ بِالْجُنُودِ الذين كانوا معه قالَ طالوت ممتحنا للجنود حتى يتبين مقدار صبرهم و ثباتهم على المكاره و أنهم إن جازوا من نهر الماء عطاشا يوثق بهم في الحرب و إن لم يسمعوا و لم يتمكنوا من الصبر على عطش قليل فهم أحرى بأن لا يصبروا أمام السيوف و الرماح إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ ممتحنكم بِنَهَرٍ من ماء في طريقكم فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ممن يتبعني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 271

و لينصرف وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي لم يذق طعم ذلك الماء فَإِنَّهُ مِنِّي و يتبعني إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً واحدة بِيَدِهِ فشربها فقط لا أكثر من ذلك فَشَرِبُوا مِنْهُ من النهر إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ الذين أطاعوا أمر طالوت فلم يشربوا إلا غرفة واحدة و هؤلاء الذين أطاعوا هم الذين اتبعوا طالوت إلى الحرب أما من عصاه فلم يتبعه فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ أي جاوز طالوت النهر وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ممن تبعه و لم يشرب الماء إلا غرفة قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ و هو رئيس الكفار وَ جُنُودِهِ لما رأوا من كثرتهم قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ من أصحاب طالوت، و في قوله «يظنون» إشارة إلى أن الظن بالمعاد كاف في تحفيز الإنسان نحو الجهاد و الأعمال الصالحة، و ملاقاة اللّه كناية عن القيامة لأنهم يلاقون جزاء اللّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ أي جماعة

قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ أي بنصره وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ الذين يصبرون على المكاره و يثبتون عند ملاقاة الكفار، و بهذا الكلام شجعوا أنفسهم و أصحابهم لمقابلة جالوت و جنوده.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 272

[سورة البقرة (2): الآيات 250 الى 251]

وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)

[251] وَ لَمَّا بَرَزُوا أي ظهروا في محل الحرب لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ الكثيرة قالُوا أي قال طالوت و المؤمنون رَبَّنا أَفْرِغْ أي أصبب عَلَيْنا صَبْراً لنكون صابرين في الحرب وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا حتى لا نفر وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فاستجاب اللّه سبحانه دعاءهم.

[252] فَهَزَمُوهُمْ أي هزم طالوت و المؤمنون، جالوت و الكفار بِإِذْنِ اللَّهِ و نصره وَ قَتَلَ داوُدُ النبي عليه السّلام و هو أبو سليمان عليه السّلام جالُوتَ رئيس الكفار فإن داود أخذ حصاة و رماها بالمقلاع نحو جالوت فأصابت جبهته و كانت فيها ياقوتة فانتشرت و وصلت إلى دماغه و خر ميتا و هزم الكفار وَ آتاهُ أي أعطى اللَّهِ داود عليه السّلام الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ فصار نبيا و ملكا وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من العلوم الدنيوية و الأخروية وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بأن يدفع الكافرين المفسدين بسبب المؤمنين المصلحين لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لما يوجدون فيها من القتل و الحرق و السبي و الإفساد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 273

[سورة البقرة (2):

آية 252]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فيدفع الفاسد بالصالح لتبقى الأرض عامرة و ينمو الزرع و الضرع.

[253] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي تلك التي ذكرت من إماتة الأحياء دفعة و إحياء الموتى دفعة و تمليك طالوت و نصرة المؤمنين على أعدائهم دلالات اللّه على وجوده و قدرته و علمه و سائر صفاته نَتْلُوها نقرؤها عَلَيْكَ يا رسول اللّه بِالْحَقِ أي بالصدق فلا كذب فيها و أنزلت لأجل الصدق لا لأجل الباطل و الكذب و الغش وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث تخبر بهذه الأخبار عن غيب بدلالة اللّه لك و وحيه إياها إليك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 275

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثّالث من آية (254) سورة البقرة إلى (93) سورة آل عمران

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 276

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين، و الصلاة و السّلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمّد المصطفى و عترته الطّاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 277

[سورة البقرة (2): آية 253]

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)

[254] تِلْكَ الرُّسُلُ الذين أشير إليهم في قوله «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فهم و إن اشتركوا في أصل الرسالة إلا أنهم مختلفين في الفضيلة مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ إياه و هو

موسى عليه السّلام و حيث أن هناك محل سؤال: هل يمكن للإنسان أن يرتقي هذا المرتقى العظيم حتى يكلمه اللّه سبحانه؟ ألمحت الآية إلى ذلك قائلة: وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ لا درجة واحدة، حتى سببت تلك الرفعة أن يتمكن من مكالمة اللّه مباشرة وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ و أنه لمن تفنن القرآن الحكيم في التعبير حيث لم يصرح باسم موسى و صرح باسم عيسى عليه السّلام و البينات هي الدلالات الواضحات على نبوته من إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص وَ أَيَّدْناهُ أي قويناه فإن التأييد بمعنى التقوية بِرُوحِ الْقُدُسِ أي روح مقدسة، كما مر سابقا فلم يكن إنسانا عاديا و لا خالقا و ربا و إنما نبي مؤيد من عند اللّه سبحانه، و حيث كان هنا مجال سؤال هو أن الأنبياء عليهم السّلام حيث أتوا بالدلالات لم يكن مجال لتشكيك الناس فيهم فكيف تقع الحروب بين الناس حول الأنبياء إثباتا أو نفيا أو إثباتا لنبي دون نبي؟ أتى السياق مشيرا إلى جواب ذلك وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ بأن ألجأ الناس و اضطرهم على الانقياد و الاهتداء مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الرسل أي بعد مجي ء كل واحد منهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 278

[سورة البقرة (2): آية 254]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي جاءت الناس الأدلة الواضحة وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا أي الناس فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بالرسول وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا تكريرا للتأكيد و أن المشيئة الإلجائية

لم تتعلق حول التشريع و إن تعلقت حول التكوين وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إعطاء الاختيار بيد الإنسان ليؤمن من آمن عن اختيار و يكفر من كفر عن اختيار ليثبت الجزاء و الحساب و لم يذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأن الخطاب موجه إليه «وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

[255] و حيث أن القتال يحتاج إلى الإنفاق يزاوج القرآن الحكيم في آياته بين الأمرين كثيرا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ من مختلف أنواع الرزق، و لعل عمومه يشمل مثل التعليم و الشفاعة و نحوها فإن العلم و الوجاهة من رزق اللّه سبحانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ حتى يشتري الإنسان نفسه بشي ء فينجيها من عذاب اللّه سبحانه وَ لا خُلَّةٌ أي صداقة فيراعى الصديق المذنب لأجل صديقه، أو صداقة بين اللّه و بين أحد حتى يراعيه و يغفر ذنبه لصداقته وَ لا شَفاعَةٌ كشفاعات الدنيا حيث أن الشفيع ينبعث من نفسه فيشفع للمذنب، فإن هناك لا يشفعون إلا لمن ارتضى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 279

[سورة البقرة (2): آية 255]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فليس حرمان الكافر في ذلك اليوم لأجل الظلم من قبل اللّه سبحانه بل الكافر هو الظالم الذي استحق العقاب بكفره و ظلمه نفسه حيث حرمها

من نيل المثوبة.

[256] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فالأمور في يوم القيامة كلها بيده لا يشارك فيما يفعل و لعل هذا هو وجه الارتباط بين هذه الآية و الآية السالفة الْحَيُ الذي لا يموت فلا يمكن التخلص منه الْقَيُّومُ القائم على الأمور يعلمها جميعا فلا يمكن الاختفاء منه.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ و هي النوم الخفيف المسمى بالنعاس وَ لا نَوْمٌ و قدم الأول لتقدمه في الخارج لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهو الخالق و المالك الوحيد الذي لا يشاركه أحد، و الظرف هنا يتبع المظروف فليست السماوات و الأرض خارجتين عن الملكية مَنْ ذَا أي أي شخص الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ يوم القيامة إِلَّا بِإِذْنِهِ استفهام إنكاري فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ أي ما يقدمون من أعمال خير و شر و ما يخلفون من بعدهم كبناء مدرسة أو مخمر يبقيان بعده وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي بما يعلمه من الماضي و الحاضر و الآتي إِلَّا بِما شاءَ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 280

[سورة البقرة (2): آية 256]

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

بما أراد من اطلاع الناس عليه فإن علم الشخص حتى بالضروريات مما تتعلق به مشيئة اللّه سبحانه فإنه هو الذي جعل الإنسان بحيث يعلم الأمور في الجملة وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الكرسي كناية عن السلطة و الملكية يقال: كرسي فلان يسع العراق إذا كان ملكا عليها، أي أن سلطة اللّه سبحانه تشمل جميع الكون، فإنه لا يخلو من سماء

و أرض وَ لا يَؤُدُهُ أي لا يشق عليه تعالى، من آده يأده، إذا أثقله و جهده حِفْظُهُما أي حفظ السماوات و الأرض بالتربية و التنمية و الإصلاح وَ هُوَ الْعَلِيُ أي الرفيع مقاما الْعَظِيمُ الشأن.

[257] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فإن اللّه لم يلجأ الخلق إلى اعتناق الدين بل جعل فيهم الاختيار و الإرادة فإن شاءوا دانوا و إن لم يشاءوا لم يدينوا قَدْ تَبَيَّنَ أي وضح الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ أي الهداية من الضلالة و الإيمان من الكفر و الحق من الباطل فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ و هو كل ما يعبد من دون اللّه وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وحده، و قدم نفي الكفر لأن النفي مقدم على الإثبات كما قدم في كلمة «لا إله إلا اللّه» فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أي تمسك و اعتصم و أخذ بِالْعُرْوَةِ و هي «المسكة» لمثل الكوز الْوُثْقى أي الوثيقة التي لا تنفصل فقد شبه الخير بإناء للسقي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 281

[سورة البقرة (2): الآيات 257 الى 258]

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

أو الطعام له عروة فالإيمان باللّه عروة وثقى للخير لأنه لَا انْفِصامَ لَها و لا انقطاع بل تدوم الاستفادة من الخير بسبب الإيمان في الدنيا و الآخرة بينما الإيمان بالطاغوت عروة

واهية تنفصم إذا فارق الإنسان الحياة الدنيا ينقطع الخير الذي يناله الإنسان- فرضا- بسبب الكفر وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بنياتكم و أعمالكم.

[258] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يلي أمورهم و ينصرهم و يعينهم يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الحياة و مشاكلها، من ظلمة العقيدة، و ظلمة القول و ظلمة الدنيا كلها إِلَى النُّورِ نور الهداية، و نور الآخرة وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي أن جنس الطاغوت يكون أولياء لهم، فإن الطواغيت من الجن و الإنس يتولون أمورهم و ضلالهم و حيث أن الطاغوت أريد به الجنس جاز الإتيان بصيغة الجمع في «أوليائهم» صفة له يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ الكامن في فطرتهم، و من نور الدنيا إِلَى الظُّلُماتِ ظلمات الكفر و الظلال في الدنيا و عذاب اللّه في الآخرة أُولئِكَ الذين كفروا أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد فلا منجي لهم و لا مخلص [259] سبق الحديث عن الإيمان و الكفر، فلتناسب المقام قصة حوار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 282

حول هذا الموضوع بين إبراهيم عليه السّلام و نمرود أَ لَمْ تَرَ أي ألم تعلم، و قد تقدم أن هذه العبارة تذكر لإفادة العلم إِلَى الَّذِي حَاجَ من المحاجة بمعنى المجادلة و المخاصمة إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أي في باب رب إبراهيم عليه السّلام الذي كان يعبده، أو رب الذي حاج و إن كان الأول أقرب أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي حيث أن اللّه أعطى نمرود الملك و السلطة بطر فأنكر وجود الخالق و جعل يجادل نبيه إبراهيم عليه السّلام حول وجود اللّه سبحانه فقد قابل الإحسان بالإساءة إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ في جواب نمرود حيث قال له: من ربك؟ و المراد بالإحياء

إحياء الجماد فإن كل حي أصله التراب و الماء إذ التراب بسبب الماء ينقلب عشبا و العشب ينقلب نطفة إنسانا أو حيوانا قالَ نمرود أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ فأخرج نفرين من حبسه و ضرب عنق أحدهما و أطلق الآخر و كان هذا مغالطة من نمرود إلا أن إبراهيم عليه السّلام أراد أن يلزمه بحجة لا يتمكن حتى من المغالطة فيها ف قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ هكذا يظهر للأبصار سواء دارت هي أو دارت الأرض كما يقوله بعض علماء الفلك فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ إن كنت إلها خالقا فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي تحير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 283

[سورة البقرة (2): آية 259]

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259)

نمرود و لم يحر جوابا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بتعاميهم عن الحق فإنه سبحانه لا يلطف لطفه الخاص بمثل هؤلاء و إن أتم عليهم الحجة و أراهم الطريق.

[260] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ أي ألم تر إلى الذي مر على قرية، و المعنى إن شئت فانظر إلى الذي حاج و إن شئت فانظر إلى الذي مر على قرية و هو عزيز النبي عليه السّلام أو أرميا وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة

حيطانها على سقوفها و أهلها موتى و السباع تأكل الجيف ففكر في نفسه ساعة قالَ أَنَّى أي كيف يُحْيِي هذِهِ الأموات اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها و كان ذلك منه تعجبا لا إنكارا فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ حتى بلي و نخرت عظامه ثُمَّ بَعَثَهُ أحياه كما كان قالَ اللّه سبحانه له بإيجاد صوت في الجو كَمْ لَبِثْتَ في مبيتك و منامك قالَ النبي لَبِثْتُ يَوْماً ثم نظر فإذا هو نام صباحا و الآن قبل غروب الشمس فأضرب قائلا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ اللّه سبحانه بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ و قد كان معه طعام و شراب و حمار، فكان الطعام و الشراب باقيين كما هما و كان الحمار قد مات و تفرقت عظامه و نخرت دلالة على كمال قدرة اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 284

[سورة البقرة (2): آية 260]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

سبحانه فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لم تغيره السنون، و الإتيان بلفظ المفرد باعتبار كل واحد منهما وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف مات و نخرت عظامه وَ لِنَجْعَلَكَ أيها الرسول آيَةً لِلنَّاسِ أي حجة حيث أحييناك بعد مائة عام حتى يعرف الناس أن اللّه قادر على بعث الأموات وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ لحمارك المتفتتة كَيْفَ نُنْشِزُها أي كيف نرفع بعضها إلى بعض لنركب منها الهيكل العظمي للحمار ثُمَّ نَكْسُوها أي نلبس العظام لَحْماً حتى يستوي حمارا حيا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي وضح

له إحياء الأموات عيانا قالَ النبي عليه السّلام أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ أي علما عيانا و إلا فقد كان يعلم ذلك قبل السؤال.

[261] وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى فإنه عليه السّلام رأى جيفة تمزقها السباع فيأكل منها سباع البر و سباع الهواء و دواب البحر فسأل اللّه إبراهيم عليه السّلام فقال: يا رب قد علمت أنك تجمعها من بطون السباع و الطير و دواب البر فأرني كيف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 285

تحييها لأعاين ذلك قالَ اللّه سبحانه أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ على نحو استفهام التقرير، ليقول آمنت، كقولهم: «ألستم خير من ركب المطايا» قالَ إبراهيم عليه السّلام بَلى أنا مؤمن وَ لكِنْ أسأل ذلك لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و يكون يقيني عين اليقين فإن الإنسان الذي يعلم أن النار- مثلا- حارة، يسمى ذلك علم اليقين، فإذا رآها سمي حق اليقين، فإذا أدخل يده فيها فاحترقت سمي عين اليقين، و ورد أنه عليه السّلام علم أن اللّه يتخذ عبدا له خليلا إذا سأله إحياء الموتى أحياها فأراد أن يطمئن أنه هو قالَ اللّه سبحانه فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الطاووس و الحمام و الغراب و الديك فاذبحهن و قطعهن و اخلطهن بعضا ببعض فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ من صرته بمعنى قطعته و «إليك» إنما هو من مستلزمات القطع، فإن الإنسان إذا أراد أن يقطع شيئا قطعا جيدا و يخلطه لا بد و أن يجذبه إليه و لعله كناية عن القطع الجيد و التخليط البالغ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ من عشرة جبال مِنْهُنَّ جُزْءاً و إنما ذلك يدل على أن الأجزاء الميتة تجتمع من محلات متباعدة وقت الحشر

ثُمَّ ادْعُهُنَ بأن تأخذ بمنقار كل واحد من الطيور الأربعة في يدك و تدعوه باسمه يَأْتِينَكَ تجتمع الأجزاء من الجبال سَعْياً مسرعات وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يمتنع عليه شي ء حَكِيمٌ فيما يفعل فلا يفعل شيئا اعتباطا و عبثا، ففعل إبراهيم عليه السّلام ذلك فتطايرت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 286

[سورة البقرة (2): الآيات 261 الى 262]

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

الأجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان و جاء كل بدن حتى نظم إلى رقبته و رأسه فأطلقها إبراهيم عليه السّلام فطرن فالتقطن الحب و شربن الماء ثم دعون لإبراهيم عليه السّلام.

[262] تقدم الكلام في الآيات السابقة عن من يقرض اللّه قرضا حسنا، ثم تخلل الكلام دليل التوحيد و الرسالة و المعاد و الآن يرجع السياق إلى الإنفاق مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا رياء أو سمعة و شهرة و نحوها كَمَثَلِ حَبَّةٍ من الحنطة أو الشعير أو نحوهما أَنْبَتَتْ أي أخرجت سَبْعَ سَنابِلَ جمع سنبلة و هي مجمع الحبات فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ فتكون النفقة في سبيل اللّه بسبعمائة ضعف وَ اللَّهُ يُضاعِفُ أي يزيد كل سبعمائة لِمَنْ يَشاءُ من عباده من المنفقين وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يسع علمه و قدرته فيعلم المنفق و الإنفاق، و قد مثل الإنفاق بهذا ليكون أوقع في النفس و أكثر في التأثير و

التشويق.

[263] ثم ذكر شرطا آخر للإنفاق المثمر الموجب للأجر بقوله تعالى:

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ أي لا يعقبون ما أَنْفَقُوا مَنًّا على المعطى له بأن يمن عليه في إنفاقه كأن يقول له: إني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 287

[سورة البقرة (2): الآيات 263 الى 264]

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)

أعطيتك فكن شاكرا وَ لا أَذىً بأن يؤذى المعطى له، كأن يقول:

ابتليت بفلان الفقير لَهُمْ أَجْرُهُمْ و جزاء إنفاقهم عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب لأن من ينفق هكذا يكون مخلصا في جميع أعماله، أو لا خوف عليهم من فوت الأجر وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و هو يحتمل الأمرين مثل- لا خوف-.

[264] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ بأن يرد به السائل، نحو اللّه يعطيك وَ مَغْفِرَةٌ أي تجاوز عن السائل فيما إذا أساء خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً لأن الصدقة كذلك تجرح قلب السائل دونهما، و لأنها تتبع العقاب، لأن هكذا صدقة محرمة، بخلافهما وَ اللَّهُ غَنِيٌ فلا يحتاج إلى صدقاتكم أيها المعطون، و إنما أنتم تحتاجون إليها، فحث اللّه بالإنفاق لكم، لا له حَلِيمٌ حليم عن عقابكم بسبب صدقاتكم التي يتبعها الأذى.

[265] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِ على السائل وَ الْأَذى له فإن فيها إبطالا للصدقة من حيث الثواب فلا ثواب لها عند العرف لأن مثل

هذه الصدقة لا تحسب جميلا و إنما قبيحا بشعا، فإن من يبطل صدقته بالمن و الأذى فهو كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ لأجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 288

أن يراه الناس فيمدحوه وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ بأن يكون الداعي له إلى التصدق أمر اللّه سبحانه أو ثواب الآخرة فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً الصفوان: الحجر الأملس، و الوابل: المطر الشديد الوقع، و الصلد من الأرض ما لا ينبت شيئا لصلابته، فإن الإنسان الكافر كالحجر الصلب الذي لا يرجى منه خير، و ما يتحفظ به ظواهره بمنزلة تراب على الحجر يظن الناس أنه محل قابل للنبت، و الصدقة التي يرائي بها كالمطر الشديد، فإنه إذا نزل بأرض صالحة كان مبعث الخير و النبات لكنه إذا نزل على الحجر المغطى بالتراب أزال ترابه و أظهر صلادته و عدم قبوله لأي إنبات أو عشب، و كذلك الكافر الذي يظن به الناس بعض الخير إذا أنفق رياء ظهر على الناس حقيقته المنحرفة فتكون الصدقة- التي هي بذاتها سبب الخير و الرحمة- معرية لحقيقة الكافر البشعة، و من ناحية أخرى أنها توجب سخط اللّه عليه أكثر من ذي قبل فتكون مذهبة لما يظن أنها حسنة له من بعض أعماله الخيرية السابقة لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا من مكاسبهم السابقة لأن الصدقة برياء ذهاب بها كما أن المطر يذهب بالتراب فلا يمكن إرجاعه و جمعه وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فلا يلطف بهم اللطف الخاص لأنهم أسقطوا أنفسهم عن القابلية لجحودهم بعد أن عرفوا الحق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 289

[سورة البقرة (2): الآيات 265 الى 266]

وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ

ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

[266] وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لأجل طلب رضى اللّه سبحانه وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي لأجل تثبيت أعمالهم الحسنة و تركيزها، تثبيتا ناشئا من أنفسهم فأنفسهم هي التي توصي بذلك، لا كالمرائي الذي يحمله على الصدقة رؤية الناس، فهذه الجملة «من أنفسهم» مقابل جملة «رئاء الناس» في الآية السابقة كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أي بستان مرتفع أَصابَها وابِلٌ مطر غزير فَآتَتْ أي أعطت أُكُلَها و ثمرها ضِعْفَيْنِ فإن الإنسان المؤمن كالبستان الواقع في مرتفع يزهو للناس و يكون أقرب إلى الاستفادة من الهواء و الشمس و المطر، فإن المؤمن أقرب إلى الخير فإذا تصدق تكون صدقته كالمطر الذي إذا نزل بالبستان يوجب نمو ثمارها و ازدهار أشجارها فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ مطر غزير فيكفي لإثمارها و إنضارها طل رذاذ من مطر قليل وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على أعمالكم إن رياء و إن قربة.

[267] و لما مثل سبحانه لصدقة كل من المؤمن و الكافر، مثل لصدقة المؤمن الذي يمن بصدقته فيبطلها أَ يَوَدُّ أي هل يحب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 290

[سورة البقرة (2): آية 267]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ

مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تحت أشجارها لَهُ فِيها أي في تلك الجنة مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ أي الشيخوخة وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ عاجزون عن كسب المأكل و الملبس فَأَصابَها أي أصاب الجنة إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كلا لا يحب أحد ذلك إنه في أشد أوقات حاجته، فهل يرضى إصابة النار بأثمن ما يملك؟ إن مثل من ينفق عن إيمان و اعتقاد مثل تلك الجنة، فإذا امتن بعد ذلك أو آذى السائل، يكون ذلك نارا تحرق جنته في أشد أوقات حاجته، فالإنسان في أشد الحاجة إلى خيره في الآخرة، فإذا امتن بقي صفر اليدين هناك كَذلِكَ أي كهذا البيان الذي بين أمر الصدقة و غيرها يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ بضرب الأمثال و المشوقات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فتستقيموا على الصراط المستقيم.

[268] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ طيبا واقعيا بكونه حلالا و ظاهريا بكونه جيدا و مِنْ طيبات ما أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 291

[سورة البقرة (2): آية 268]

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)

طيب مكسبكم و طيب ثماركم، فلا تنفقوا من الربا و لا من الماء الآجن و لا من حشف التمر- مثلا- وَ لا تَيَمَّمُوا أي لا تقصدوا الْخَبِيثَ الحرام الردي ء مِنْهُ تُنْفِقُونَ للناس وَ الحال أنكم لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فإن أراد أحد إعطائكم من ذلك ما كنتم تأخذونه إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أي تغمضوا عيونكم كراهة له، فالإنسان إذا

استبشع شيئا غمض عينه حتى لا يراه، فكيف تنفقون مثل هذا الشي ء الذي إذا أردتم أخذه غمضتم عينكم استبشاعا له وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌ عن صدقاتكم فلا يأخذ إلا الطيب و لا يقبل إلا الحسن حَمِيدٌ أي مستحق للحمد على نعمه، و من حمده أن يعطي الإنسان الشي ء الطيب في سبيله، فالإنسان إذا أراد تقدير شخص دفع إليه أحسن ما يتمكن، لا أنه يدفع الردي ء الخبيث.

[269] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ إذا أردتم الإنفاق في سبيل اللّه وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ إذا أردتم الإنفاق يقول لكم: أنفقوا من الردي ء الخبيث، و هو قسم من الفحشاء، أو المراد به الأعمال القبيحة مطلقا، وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ فإنه يغفر ذنوبكم بسبب الصدقة و سائر المبرات وَ فَضْلًا فيخلف ما أنفقتموه وَ اللَّهُ واسِعٌ ليس ضيق المقدرة حتى لا يتمكن من التعويض عَلِيمٌ بما تعطون فيجازيكم بالحسن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 292

[سورة البقرة (2): الآيات 269 الى 271]

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

حسنا و بالسيئ سيئا.

[270] إنّ الإنفاق في سبيل اللّه من الطيب بلا رياء و لا منّ و لا أذى من الحكمة التي هي وضع الأشياء موضعها اللائق و اللّه سبحانه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ممن له قابلية بما سبق أن أخذ بالشريعة وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً

كَثِيراً و أي خير أعظم من أن يعمر الإنسان دنياه و عقباه بأخذه بأوامر اللّه سبحانه و انتهاجه المنهج المستقيم الموجب لسعادة النشأتين وَ ما يَذَّكَّرُ أي ما يتذكر و لا يفهم ذلك إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول فصاحب العقل هو الذي يتبع ما ينفعه و يذر ما يضره.

[271] وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة أي أية صدقة تصدقتم بها أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ أي ما أوجبتموه على أنفسكم للّه بسب النذر فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فيجازيكم عليه و يكون ذلك سببا للإحسان إلى النفس وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالشح و منع الصدقات الواجبة و حنث النذر و المن و الأذى و الرياء في الصدقة مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم و يخلصونهم من عقاب اللّه سبحانه.

[272] إِنْ تُبْدُوا أي تظهروا الصَّدَقاتِ حين إعطائها، بأن تعطوها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 293

[سورة البقرة (2): آية 272]

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)

جهرا، بقصد القربة لا بقصد الرياء فَنِعِمَّا هِيَ أي فنعم الشي ء الصدقة الظاهرة فإنها توجب دفع التهمة و اقتداء الناس وَ إِنْ تُخْفُوها أي الصدقات وَ تُؤْتُوهَا أي تعطوها سرا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنه أقرب إلى القربة و أبعد عن الرياء و أحفظ لصون ماء وجه الآخذ وَ يُكَفِّرُ أي يغفر عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أي بعض ذنوبكم بواسطة إعطاء الصدقة فإن صدقة السر تطفي غضب الرب وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم على أعمالكم، فليس التصدق سرا غائبا عن اللّه سبحانه بل هو بكل شي ء عليم.

[273]

امتنع بعض المسلمين عن التصدق إلى غير المسلم فنزلت لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ فإنك لست مجبورا بأن تهديدهم و إنما عليك الإرشاد و البلاغ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى الصراط المستقيم، بإراءته الطريق، أو بإيصاله المطلوب وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ فإن نفعه الدنيوي و الأخروي يعود إليكم وَ ما تُنْفِقُونَ أي ليس إنفاقكم إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي لأجله سبحانه، و أي شي ء أحسن من أن ينفق الإنسان في سبيل خالقه و منعمه و المتفضل عليه وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 294

[سورة البقرة (2): آية 273]

لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

أي يوفر عليكم جزاءه و ثوابه وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ فتعطون جزاء إنفاقكم كاملا غير منقوص، فالإنفاق لأنفسكم، و ثوابه يعود عليكم، و هو في سبيل اللّه و ما أجمل أن يعطي الإنسان شيئا يعود نفعه إليه ثم يثاب به في الآخرة، و يرضى اللّه سبحانه عنه بذلك.

[274] و لما بين اللّه سبحانه فضل الصدقة عقبه بأحسن مصارفها بقوله سبحانه: لِلْفُقَراءِ أي أن النفقة لهؤلاء الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوا و الذي منعهم هو أنفسهم، لأجل سبيل اللّه و إطاعته، فقد نزلت الآية في أصحاب الصفة الذين تركوا كل شي ء لأجل الإسلام و أحصروا أنفسهم للعبادة و الجهاد بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي ذهابا فيها و عدم الاستطاعة اختيارية لا اضطرارية يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أي

يظنهم الذي يجهل حالهم و باطن أمرهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ الامتناع من السؤال فإن الناس إذا رأوا تعففهم ظنوهم أغنياء لما عهدوا من سؤال الفقراء تَعْرِفُهُمْ أي تعرف إنهم فقراء بِسِيماهُمْ أي من وجوههم و أحوالهم يكون الفقر عليها باد لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي كما هو شأن كثير من الفقراء، بمعنى أنه ليس منهم سؤال فيكون إلحافا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 295

[سورة البقرة (2): الآيات 274 الى 275]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)

لا إنهم يسألون من غير إلحاف وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ كل شي ء يطلق عليه الخير من دار أو عقار أو درهم أو دينار أو غيرها فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ لا يفوته شي ء فيجازيكم جزاء حسنا.

[275] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً بالليل سرا و علانية و بالنهار سرا و علانية فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ إن الآية و إن كانت عامة إلا إنها نزلت في علي عليه السّلام حيث كانت له أربعة دراهم فتصدق باثنين منها نهارا سرا و علانية و باثنين ليلا سرا و علانية «1»، و قد تقدم معنى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ

[276] و حيث كانت الآيات حول

الإنفاق، ناسب السياق ذكر الربا، فإنه عكس الإنفاق إذ هو استيلاء على أموال الناس من غير مبرر، بخلاف الإنفاق الذي هو إعطاء ماله للناس من غير مكسب و تجارة الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا و أكله كناية عن أخذه و إن لم يتصرف فيه لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ الرجل الذي مسه

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 288.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 296

الشيطان فصرع و تغير حاله و دارت عينه و زال توازن جسده و زبد فمه إذا أراد أن يقوم لبقية ما فيه من الشعور يقوم بعض القيام بكل انحراف و تأرجح ثم يسقط على الأرض، و هكذا الإنسان الذي يأكل الربا حتى اعتاد ذلك يكون أشبه شي ء في عملية انتهاب أموال الناس بمن تخبطه الشيطان الذي يريد أن يقوم فإن تفكيره تفكير منحرف كتفكير المطروح و عينه تنظر بزيغ إلى أموال الناس كعين المصروع و فيه يلهج حول المال بانحراف كفم المصروع و إذا أراد أن يقوم من كبوته و يترك الربا و يأخذ بالجادة المستقيمة حول المال لا يلبث أن يسقط في الربا كما اعتاد من أكله و صار الابتزاز لمال الناس ملكته، و هذا تشبيه رائع مفزع و هكذا يكونون هؤلاء يوم القيامة.

فقد روى الإمام الصادق عليه السّلام عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: لما أسري بي إلى السماء رأيت أقواما يريد أحدهم أن يقوم و لا يقدر عليه من عظم بطنه فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس «1»

، و قد ثبت في العلم أن

الأرواح الشريرة قد تدخل في الإنسان فتسبب له صرعا ذلِكَ الأكل للربا الذي اعتادوه بسبب أنهم قالُوا ليس في أكل الربا بأس ف إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا كلاهما تعامل برضى الطرفين وَ ليس كذلك فمنطقهم غلط فقد أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ لما فيه من الفوائد وَ حَرَّمَ الرِّبا لما فيه من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 100 ص 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 297

المضار، و يكفي أن نلمح إلى ضرر واحد هو أن معطي الربا إما ساقته الضرورة إلى الاقتراض كمرض أو نحوه مما ألجأ للاقتراض برباء فما أقبح أن يستغل الإنسان أخيه في مثل هذا الموقع مما يجدر به أن يساعده و يسعفه، و إما اقترض للتجارة و هذا لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة:

الأول أن يخسر و الثاني أن لا يربح و لا يخسر و ما أقبح في هاتين الصورتين أن يأخذ صاحب المال زيادة بينما خسر العامل في الأول و لم يربح في الثاني و الثالث أن يربح، و قد قرر الإسلام المضاربة و الاشتراك في المربح فيما يجبر المقترض أن يدفع بمقدار خاص إلى المقرض بينما قد ربح بمقداره و قد ربح أقل و قد ربح أكثر.

فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ في تركه أخذ الربا فَانْتَهى و تاب فَلَهُ ما سَلَفَ فكل ربا أكله الناس بجهالة و عدم علم بحرمته أو قبل الإسلام لا يسترد منهم وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ سبحانه لا إلى الناس حتى يقول من أعطاه الربا: ردّ عليّ ما أخذت مني، أو أمره في قبول اللّه توبته إليه سبحانه وَ مَنْ عادَ إلى الربا بعد النهي و الإسلام فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أبد الآبدين إلا أن يدركهم

اللّه برحمته كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1».

______________________________

(1) النساء: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 298

[سورة البقرة (2): الآيات 276 الى 278]

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)

[277] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي ينقصه و يتلفه و يهلكه فما ظن المرابي أنه سبب زيادة أمواله يكون سببا لهلاكه و نقصانه فإن الربا يسبب غضب الناس و سخطهم على المرابي مما يثير حربا أو نهبا من الناس أو الحكومات لأمواله فيذهب الأصل و الفرع وَ يُرْبِي أي يزيد و ينمي الصَّدَقاتِ فإنه و إن ذهب جزء من المال بالصدقة لكنها تسبب حب الناس و التفافهم و تعاونهم مع المتصدق مما ينجر إلى زيادة أمواله، و هذا مع الغض عن المحق و النماء الخارجين عن الطبيعة مما يشأهما اللّه سبحانه بلا واسطة عادية وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ كثير الكفر أَثِيمٍ أي مذنب و في هذا دلالة على أن آكل الربا كفار أثيم.

[278] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالأصول الاعتقادية وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن أتوا بالواجبات و تركوا المحرمات وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ تخصيص بعد التعميم لأهميتهما لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و قد مر تفسير عدم الخوف و عدم الحزن.

[279] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ خافوا من عقابه

وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 299

[سورة البقرة (2): آية 279]

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279)

مما كنتم تطلبونه قبل الإسلام و قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: إن الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية و قد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالإسلام حقا فإن المؤمن هو الذي يأتمر بالأوامر و ينزجر بالزواجر.

[280] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا و لم تنقادوا إلى هذا النهي بل أكلتم الربا بعد النهي فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي اعملوا القتال مع اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأكل الربا يكون كمن أعلن الحرب مع الإله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك من أفظع الجرائم، و عاقبته خسران الدين و الدنيا، و

حكم آكل الربا إنه يؤدب مرتين ثم يقتل في الثالثة كما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام «1»

وَ إِنْ تُبْتُمْ و لم تأخذوا الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ دون الزيادة التي حصلتموها بالربا و لا مفهوم للآية بأنهم إن لم يتوبوا فليس لهم رأس المال، بل المراد أن لكم رأس المال فما تبغون بالزيادة لا تَظْلِمُونَ الناس بأخذ الزيادة منهم وَ لا تُظْلَمُونَ بالنقصان من رأس المال.

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 300

[سورة البقرة (2): الآيات 280 الى 282]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 349

وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا

خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282)

[281] وَ إِنْ كانَ فيمن تطلبون منه- ممن ذكر أنه يرجع رأس المال- ذُو عُسْرَةٍ بأن كان رأس مالكم الذي تطلبونه عند ذي عسرة لا يتمكن من أدائه لعسره و ضيقه فاللازم نظرة إلى انتظار و تأخير إِلى مَيْسَرَةٍ أي إلى حال يسار المديون و الجملة خبرية معناها الأمر، أي فأنظروه إلى وقت يساره وَ أَنْ تَصَدَّقُوا على المعسر بما عليه من الدين بأن تجعلوا طلبكم صدقة له خَيْرٌ لَكُمْ في الدنيا يجلب المحبة و البركة من اللّه سبحانه و في الآخرة بالثواب الجزيل

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون الخير من الشر و تميزون ما ينفعكم مما يضركم لعلمتم أن هبة الدين للمعسر خير لكم.

[282] وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فلا تأكلوا الربا و لا تؤاخذوا المعسرين بل تصدقوا عليهم، فإن إتيان الحرام موجب للعقاب و التصدق موجب للثواب ثُمَّ تُوَفَّى أي تعطى وافيا كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير أو شر وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا فلا ينقص من أجورهم شي ء كما لا يزاد في عذابهم أكثر من استحقاقهم، و معنى الرجوع إلى اللّه الرجوع إلى حكمه و أمره و قضائه و جزائه.

[283] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ أي تعاملتم بالدين و دان بعضكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 301

بعضا في بيع أو غيره بِدَيْنٍ إما تأكيد و إما لدفع توهم أن يكون المراد من المداينة المجازاة كما قال الشاعر «و لا أنت دياني فتجزيني» إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة قد سميت في العقد كما لو دائنه إلى سنة أو باعه نسيئة إلى ستة أشهر مثلا فَاكْتُبُوهُ أي اكتبوا ذلك الدين في صك و أنه إلى أية مدة لئلا يقع فيه نسيان أو جحود أو خلاف وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كتاب الدين كاتِبٌ بِالْعَدْلِ بالحق لا يزيد في المقدار و الأجل و الوصف و لا ينقص منها وَ لا يَأْبَ أي لا يمتنع كاتِبٌ أي شخص كان من المتعاملين أو غيرهما أَنْ يَكْتُبَ الصك كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ بأن يبخل فلا يكتب، فالتكليف من اللّه سبحانه و هو في مقابل أن علمه تعالى الكتابة و العلم فلا يثقل أو يبطئ أو يبخل فَلْيَكْتُبْ الكاتب وَ لْيُمْلِلِ بمعنى ليملأ فإن الإملال و الإملاء بمعنى واحد

يلقي صيغة الكتابة على الكاتب الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ أي المديون حتى يقر على نفسه أولا، حتى لا يقول زائدا على الحق ثانيا، فالذي له الحق لو أملى كان معرضا لأن يقول الزيادة وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ الكاتب أو المديون رَبَّهُ فإنه رب له فكيف يخالف أمره وَ لا يَبْخَسْ أي لا ينقص الكاتب أو المديون مِنْهُ أي من الحق شَيْئاً أما نقص الكاتب فواضح و أما نقص المديون كأن يجعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 302

الدينار و الذي هو مقابل ثوب في مقابل ثوبين فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً بحيث لم يتمكن من الإملاء أَوْ ضَعِيفاً لجنون أو كبر أو صغر أو نحوها أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لخرس أو عذر آخر مع عدم السفاهة و الضعف فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أي ولي من عليه الحق بِالْعَدْلِ بلا إفراط أو تفريط وَ اسْتَشْهِدُوا أي اطلبوا شهادة شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ على المكتوب لينفع ذلك عند الترافع و المخاصمة لدى التخالف، و لعل قيد من رجالكم لإخراج الكفار فَإِنْ لَمْ يَكُونا أي لم يكن الشاهدين رَجُلَيْنِ لعدم حضورهما أو عدم إرادة المستشهد فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ يشهدون على الكتابة، أو فليشهد رجل و امرأتان مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ لوثاقتهم أو عدالتهم إذ لا تقبل شهادة من عداهم لدى المخالفة و التراخ، و إنما جعلت المرأتان مكان رجل واحد لأن المرأة لضعف ذاكرتها كما ثبت في العلم الحديث يتطرق إليها من النسيان ما لا يتطرق إلى الرجل، و لذا قال سبحانه: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما من الضلال أي تخطأ و تشتبه و تنسى فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا التي لم تضل الْأُخْرى التي نسيت و ضلت، و «أن» إما بمعنى «لئلا» و تكون

جملة «فتذكر» منقطعة، أي إن ضلّت تذكر الثانية الأولى، و أما أصلها «إن» بالكسر، صفة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 303

لامرأتان، و الأول أقرب وَ لا يَأْبَ أي لا يمتنع الشُّهَداءِ الذين يراد إشهادهم للدين- و سموا شهداء بمجاز المشارفة- إِذا ما دُعُوا لتحمل الشهادة و هذا أمر إيجابي أو استحبابي، أو المراد الأعم من التحمل و الأداء.

وَ لا تَسْئَمُوا أي لا تضجروا أيها المتداينون أَنْ تَكْتُبُوهُ أي تكتبوا الدين أو تكتبوا الحق صَغِيراً كان الحق و الدين أَوْ كَبِيراً و هذا تأديب لمن يترك كتابة الصغير لعدم الاهتمام به، فكثيرا ما يقع التنازع في الصغير إِلى أَجَلِهِ أي إلى أجل الدين و مدته، و فيه تنبيه إلى أن الكتابة تبقى إلى الأجل فتنفع هناك، أو المعنى كتابة تتضمن إلى الأجل، فيعين في المكتوب أجل الدين.

ذلِكُمْ ذا إشارة إلى الكتاب الذي يكتب في المداينة «و كم» خطاب إلى الذين آمنوا أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل، بمعنى أقرب إلى العدل و إلا فليس في العدل مفاضلة حقيقية وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ فيه تقوم الشهادة التي تؤمن عن الزيادة و النقصان وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى عدم الريب في المبلغ و الأجل فاللّه يريده و أنتم لا تشكون، و الشهادة تستقيم، بسبب الكتابة و الصك و ما ذكر من الكتابة عامة لكل مكان إِلَّا أَنْ تَكُونَ المعاملة- المفهوم من الكلام- تِجارَةً حاضِرَةً معجلة غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 304

مؤجلة كغالب التجارات النقدية التي تجري في الأسواق تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ إدارة يد بيد، و معنى الإدارة المناقلة، فينقل هذا ماله إلى ذاك و ينقل ذاك عنه إلى هذا فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و حرج أَلَّا تَكْتُبُوها فلا مانع

من عدم كتابة التجارة النقدية إذ الكتابة للوثيقة و هنا لا يحتاج إلى الوثيقة وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ فإنه يستحب للإنسان الذي يريد المبايعة أن يأخذ الشاهد، ففي المعاملة كثيرا ما يقع من نزاع و خصام فإذا كان هناك شهادة يقل وطئ النزاع، و الآية و إن كانت عامة لفظا لكن لا يعد أن لا يراد بها الإطلاق من المعاملات الجزئية اليومية لعدم تعارف الأشهاد منذ زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ بأن يكلف الكاتب الكتابة و يكلف الشاهد الشهادة في حال يكون حرجا عليهما و ضررا، كما تعارف الآن عند الحكومات المنحرفة فإنه يحضر الشاهد و يعنت و يضار فإن في مضارتها زهادة للناس عن الكتابة و الشهادة وَ إِنْ تَفْعَلُوا المضارة بها فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي خروج عن أمر اللّه سبحانه لسببكم أيها المضارون وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم و نهاكم وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ مصالحكم فاتبعوه وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و أنتم لا تعلون و ما أجدر بالجاهل أن يتبع العالم، عن علي بن إبراهيم أن في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 305

[سورة البقرة (2): آية 283]

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

سورة البقرة خمسمائة حكم و في هذه الآية الكريمة وحدها خمسة عشر حكما و الآية كما تقرر في العلم الحديث من أعجب الآيات في باب المعاملة.

[284] وَ إِنْ كُنْتُمْ أيها المتداينون المتبايعون عَلى سَفَرٍ أي مسافرين و

التعبير بلفظ «على» لركوب المسافر غالبا وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب الدين و المعاملة فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ تقوم مقام الصك و رهان جمع رهن، و هو اسم للوثيقة و لذا جاءت الصفة بالتأنيث و القبض شرط في صحة الرهن، و لذا وصفه بالقبض فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ و هو صاحب الحق بَعْضاً و هو من عليه الحق بأن وثق به و أنه يؤدي الدين بدون صك و لا رهن، فأعطاه الدين مجردا عن الأمرين فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أي المديون أَمانَتَهُ فلا ينكر و لا يمطل، كفاء لما رآه أهلا وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فإن اللّه شهيد و يجازي فإن أنكر أو مطل أو بخس كان معرضا نفسه لعقوبة اللّه سبحانه وَ لا تَكْتُمُوا أيها الشهود الشَّهادَةَ التي تحملتموها وَ مَنْ يَكْتُمْها أي يخفي الشهادة فلا يحضر لأدائها أو يؤديها على خلاف الواقع فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فقد عزم القلب على الكتمان و أطاعته الجوارح و اللسان و لأن الكتمان أنسب إلى القلب لكونه في محل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 306

[سورة البقرة (2): آية 284]

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284)

مكتوم وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من إخفاء الشهادة و إبدائها عَلِيمٌ فلا تفعلوا ما يوجب عقابه و سخطه.

[285] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فما تعاطونه من الأملاك ليست لكم إلا مجازا و إنما هي ملك له سبحانه فاعملوا فيها حسب ما أمركم و لا تخالفوا أمر المالك الحقيقي وَ إِنْ تُبْدُوا أي تظهروا ما فِي أَنْفُسِكُمْ بما تعلمونه

و يخفى على غيركم أَوْ تُخْفُوهُ فتكتموه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فإن جميع الأعمال و الأقوال و الأفكار تحت المحاسبة، أو أن الإبداء و الإخفاء لما في النفس محسوب عليهما، و هذا العموم للتناسق مع إبداء الشهادة و كتمانها فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ حسب ما تقتضيه الحكمة البالغة فالغفران و الشفاعة ليسا اعتباطا و إنما ينصبان على المحل القابل وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من المغفرة و العقاب و لا يخفى أن العذاب على ما في النفس لا ينافي ما دل على عدم العقاب، على العزم على المعصية لاختلاف المعاصي، و اختلاف أنواع العقاب فلا شبهة في أن من يعزم على المعاصي و إن لم يفعلها أبعد عن قرب الحلال ممن لا يعزم إطلاقا، و هذا البعد هو نوع من العذاب أو يجمع بنحو ذلك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 307

[سورة البقرة (2): الآيات 285 الى 286]

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

[286] و هنا يرجع السياق إلى ذكر التوحيد و النبوة و الشرائع جملة في لباس أنها لا تكلف الناس فوق الطاقة و سؤال المغفرة و العفو

لتكون فذلكة للسورة آمَنَ الرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ فهو أول مؤمن بما أنزل إليه و ليس كرؤساء الأديان المفتعلة و الملوك و الحكام الذين لا يشملهم القانون وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌ أي كل واحد منهم آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ فليس المؤمن أن يقتنع بجانب واحد من جوانب الإسلام كما هو كثير في تابعي الأحزاب و المبادئ حيث أن ذا النشاط المتفايض منهم يقتنع منه بجانب واحد و إن ترك سائر الجوانب فإن لسان حال المؤمنين لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فلسنا كاليهود الذين لا يعترفون بالمسيح عليه السّلام و نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا كالنصارى الذين لا يعترفون بنبي الإسلام، فلا تكون كمن يؤمن ببعض و يكفر ببعض وَ قالُوا سَمِعْنا آيات اللّه و أحكامه وَ أَطَعْنا أوامره و نواهيه لا كاليهود الذين قالوا سمعنا و عصينا، يقولون غُفْرانَكَ أي نطلب مغفرتك رَبَّنا نعلم أن إِلَيْكَ الْمَصِيرُ فاغفر لنا حتى نكون في ذلك اليوم سعداء.

[287] إن الأحكام التي سلفت في السورة و في غيرها ليست مما لا يطاق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 308

فإنه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فإن أوامره و نواهيه مستطاعة للمكلف و ليس في الدين من حرج، فلا يظن أحد أن الإيمان السابق ذكره في «وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ» يوجب مشقة و عنتا و إرهاقا لَها أي للنفس ما كَسَبَتْ من الحسنات فالجزاء الحسن يجزى به من أحسن وَ عَلَيْها أي على النفس ضرر مَا اكْتَسَبَتْ من الآثام و السيئات و لعل في مجي ء الكسب من بابين «كسب»

و «أكتسب» إفادة أن الطاعة طبيعية و المعصية تؤتي بالتكلف إذ للفظة الاكتساب ظلالا يفيد التعب و الغضب بخلاف الكسب و تؤيده قاعدة «زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى» و هناك يتوجه المؤمنون إلى اللّه داعين سائلين رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا بلا نسيان و إنما تصح المؤاخذة فيهما لغلبة كون مقدماتهما اختيارية و ما ينتهي إلى الاختيار يكون بالاختيار رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي ثقلا فإن بعض التكاليف قد توجب ظروفها ثقلا و عنتا، فالمؤمن يسأل أن يجنبه اللّه سبحانه مثل هذا الثقل كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا فإنهم بلجاجتهم استحقوا تحميل الثقل كما تقدم في قصة بقرة بني إسرائيل و كما قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1»

______________________________

(1) النساء: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 309

رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ و إن كان مقدورا لنا فإن عدم الطاقة ليس بمعنى عدم القدرة حتى يقال: إن اللّه لا يكلف غير المقدور فما وجه هذا الدعاء؟ وَ اعْفُ عَنَّا ذنوبنا وَ اغْفِرْ لَنا خطايانا أي استرها و لا تبدها وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا سيدنا و الأولى بالتصرف فينا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ حتى نغلب عليهم في الحكم كما نغلب عليهم في الحجة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 310

3 سورة آل عمران مدنية/ آياتها (201)

[سورة آل عمران (3): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1)

سميت بذلك لاشتمالها على لفظة آل عمران و قد نزلت بالمدينة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مرّ تفسيرها في أول سورة الحمد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 311

[سورة آل عمران (3): الآيات 2 الى 4]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ

مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)

[2] الم تقدم ما يحتمل أن يكون تفسيرا له.

[3] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فليس له شريك و هو الحي الذي لا يموت و إن كانت الحياة بالنسبة إليه تعالى تخالف الحياة بالنسبة إلينا فإن حياتنا غير ذواتنا و إنما هي صفة قائمة بنا بخلاف الحياة فيه سبحانه فإنه عين ذاته و القيوم هو القائم على كل نفس بما كسبت و على كل شي ء [4] نَزَّلَ عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ أي القرآن بِالْحَقِ لا بالباطل فإن الإنزال قد يكون بالباطل و قد يكون بالحق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ على موسى عليه السّلام وَ الْإِنْجِيلَ على عيسى عليه السّلام.

[5] مِنْ قَبْلُ إنزال القرآن عليك، و كل هذه الكتب هُدىً لِلنَّاسِ فإنها تهديهم من الظلمات إلى النور و من الباطل إلى الحق و من الضلال إلى الرشاد وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ الفارق بين الحق و الباطل و هو أعم من الكتب السابقة و سائر ما أنزل على أنبياء اللّه و رسله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بحجج اللّه و دلالاته لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الدنيا بالفوضى و الهرج و المرج و المشاكل كما قال تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 312

[سورة آل عمران (3): الآيات 5 الى 7]

إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ

هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «1» و في الآخرة بالعقاب وَ اللَّهُ عَزِيزٌ له العزة و القدرة بأن يفعل ما يشاء ذُو انْتِقامٍ ينتقم ممن حادّه و عصاه.

[6] إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ فلا يظن عاص أنه يخفى على اللّه سبحانه، فإنه يعلم كل شي ء في الكون حتى وساوس القلوب و هواجس الصدور.

[7] هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ أي يعطيكم الصورة في بطون أمهاتكم كَيْفَ يَشاءُ من رجل و امرأة و جميل و قبيح و قصير و طويل و غيرها فكيف يخفى عليه شي ء و هو يفعل مثل هذا الفعل الدقيق في ذلك المحل المظلم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو وحده إله الكون و خالقه الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ فما يفعل شيئا عبثا بل يفعل ما يفعل بالحكمة.

[8] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ أي القرآن مِنْهُ أي قسم من الكتاب آياتٌ مُحْكَماتٌ غير متشابهات فالمفاد منها واضحة لا يخفى على أهل اللسان كقوله سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2»

______________________________

(1) طه: 125.

(2) الإخلاص: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 313

هُنَ أي تلك الآيات المحكمات أُمُّ الْكِتابِ أي أصله الذي يرجع إليه لدى الشك و الخصام و الجدال.

وَ أُخَرُ أي آيات أخر مُتَشابِهاتٌ و المتشابه هو الذي يحتمل وجهين أو وجوها مما سبب عدم إدراك الناس كلهم لها، من تشابه،

و إنما يؤتى به إما امتحانا حتى يعرف المؤمن من المنافق أو لتقريب المطلب إلى أذهان الناس الذين لا يدركون الحقائق ككثير من آيات الصفات و نحوها كقوله سبحانه: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» حيث أريد التفهيم من أن المؤمنين ينظرون إلى رحمة اللّه، أو كقوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «2» أو لأن المطلب دقيق لا تتحمله بعض العقول كآيات الجن و الشيطان مما لا يتحملها عقل من إلف المادة فيشتبه الأمر عليه أو لأنه جي ء به لاعتبار كلامي فاشتبه الأمر نحو نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «3» أو غير ذلك، و المتشابه مما لا بد منه في الكلام الراقي كما لا يخفى بأدنى تأمل فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق و انحراف إما جهلا أو عنادا فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اتباعا على خلاف المراد منه و يوجهون المتشابه حسب أهوائهم و مشتهياتهم كما يقول القائل

______________________________

(1) القيامة: 24.

(2) البقرة: 30.

(3) التوبة: 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 314

بالتجسم من «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» و بالجبر من وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ «1» و بمعصية الأنبياء عليهم السّلام من وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «2» و يكون الإسلام خاصا بالعرب من وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ «3» و هكذا ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي لأجل تفتين الناس و إضلالهم وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي لأجل أن يكون له مجال في تأويل الكلام على غير المراد منه ليطابق هواه و مشتهاه وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ التأويل هو ما يؤول و ينتهي إليه الكلام فمثلا ظاهر «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» إنهم ينظرون إلى اللّه لكن هذه الجملة تؤوّل إلى معنى أنهم ينظرون إلى رحمة اللّه و لطفه و

ثوابه، كما يقال في العرف «إني أنظر إلى العقل و هو يسيّر الإنسان» إنه لا يريد النظر بالعين و إنما عرفان ذلك إِلَّا اللَّهُ فهو سبحانه يعلم المراد من كلامه وَ الرَّاسِخُونَ أي الثابتون فِي الْعِلْمِ الذين لهم اطلاع على المعلومات و بأساليب الكلام و بما يدل عليه العقل و الشرع و هذا ليس ببدع فإن القوانين المدنية لا يعرفها إلا من درسها و أتقنها و أساليب الكلام العربي لا يعرفها إلا من أتقن الأدب و البلاغة و هكذا، إن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه في حال كونهم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه كما آمنا بالمحكم كُلٌ من المحكم و المتشابه

______________________________

(1) الرعد: 34.

(2) طه: 122.

(3) الزخرف: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 315

[سورة آل عمران (3): آية 8]

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)

مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فإذا لم يظهر المعنى في بادئ النظر لا ينكرون و لا يقولون بالتناقض، فإنهم جمعوا بين فضيلتي العلم بالتأويل و الإذعان بصحة المتشابه بخلاف الجهال فإنهم يعترضون على المتشابه أولا و يفسرون حسب أهوائهم ثانيا، و هكذا نجد الآن في العرف العالم الورع يجمع بين الفضيلتين و الجاهل يشتمل على الرذيلتين وَ ما يَذَّكَّرُ أي يتذكر و يرد المتشابه إلى المحكم و إلى ما دل من العقل و النقل إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول الحصيفة، ثم إنه ورد في الأحاديث أن المراد بالراسخين النبي و الأئمة عليهم السّلام و لا يخفى أنهم من أجلّ مصاديق الراسخين و ذلك هو المراد لا الانحصار.

[9] إن الراسخين في العلم يلتجئون إلى اللّه سبحانه قائلين رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي لا تملها عن

الحق و إنما نسب الزيغ إليه سبحانه لأنه هو الذي هيأ الأسباب ليمتحن عباده فترك الإنسان- و عدم اللطف به- حتى يقع فريسة الشيطان من صنع اللّه سبحانه كما يقال أن الملك أفسد الرعية لا يراد أنه أفسدهم و إنما يراد تركهم حتى يفسدوا، و لا يخفى الفرق بينه سبحانه و بين الملك لرعيته فإن اللّه حيث خلق الدنيا للاختبار لا بد و أن يهيئ الوسيلتين ليظهر المطيع من العاصي كما قال: (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ) «1» بخلاف الملك فإنه لا يحق له أن يفسد الرعية حتى بتركهم و ما يشاءون فإنه يأمر بالصلاح و الإصلاح كما أن اللّه تعالى يسبل النعم على الجنات و لا يعاقبهم عقوبة ظاهرة في

______________________________

(1) الإسراء: 21.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 316

[سورة آل عمران (3): الآيات 9 الى 10]

رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

الدنيا، و ذلك ليس جائز للملوك فإنه يجب إيقاف الجاني عند حده و إجراء العقاب عليه ثم إن الإنسان مهما كان من الرسوخ في العلم فإنه معرض للزلة كما زل «بلعم» قال سبحانه نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ «1» و لذا يدعو الراسخون ربهم سبحانه أن لا يقطع عنهم لطفه الخاص و لا يتركهم ليلعب بهم الشيطان كما يشاء، إذ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى دينك وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ من عندك رَحْمَةً و لطفا نثبت بها على دينك و طاعتك إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ الكثير الهبة لمن تشاء بما تشاء.

[10] رَبَّنا إِنَّكَ

جامِعُ النَّاسِ تجمعهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ هو يوم القيامة الذي لا شك فيه عند ذوي العقول و إن شك فيه أناس لا نصيب لهم من العلم و المعرفة و قد تقدم وجهه في أول سورة البقرة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي الوعد الذي وعده أنبياءه و البشر بيوم القيامة، فلا تزغ قلوبنا حتى نكون ذلك اليوم من المطرودين أو هذا إظهار من الراسخين بالاعتراف بالبعث و إنهم جمعوا بين فضيلتي الاعتراف بالمبدأ و المعاد.

[11] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون المتشابه و غيرهم

______________________________

(1) الأعراف: 176.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 317

[سورة آل عمران (3): آية 11]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)

من سائر الكفار لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ كي يعطوها فينجون من عذاب اللّه سبحانه كما تنفع الفدية في الدنيا وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذاب اللّه و سخطه شَيْئاً فلا يتمكن أولادهم أن يقفوا ليمنعوا عنهم العذاب وَ أُولئِكَ الكفار هُمْ وَقُودُ الوقود الحطب و كل ما يوقد به النار النَّارِ يوم القيامة تتقد النار بأجسامهم كما تتقد النار بالحطب و النفط و نحوها.

[12] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدأب العادة، أي عادة هؤلاء الكفار في التكذيب بك و بما أنزل إليك كعادة آل فرعون الذين كذبوا الرسل وَ كعادة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من سائر الكفار الذين كانوا يكفرون بآيات اللّه و يكذبون أنبياءه كَذَّبُوا جميعا بِآياتِنا أي بدلائلنا الدالة على التوحيد و سائر الأصول فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي بسبب عصيانهم و معاصيهم، و معنى الأخذ العقاب أي عاقبهم، كقوله وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ

ظالِمَةٌ «1» وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فليس عقابه كعقاب سائر الناس، و إنما ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ «2».

______________________________

(1) هود: 103.

(2) الكهف: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 318

[سورة آل عمران (3): الآيات 12 الى 13]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)

[13] قُلْ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ أي بعد قليل يكونون مهزومين إما في الدنيا بغلبة الإسلام، كما صار و كما أخبر حيث إن الإسلام غلبهم و أخذ بلادهم وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ يوم القيامة، و إما في الآخرة بمعنى أنكم بعد قليل تهزمون أمام أمر اللّه سبحانه، و يقبضكم ملك الموت الذي و كل بكم، و بعد ذلك تحشرون إلى جهنم يوم القيامة وَ بِئْسَ الْمِهادُ أي بئسما مهد لكم أو ما مهدتم لأنفسكم.

[14] و لما بين سبحانه أن الكفار سيغلبون بين لذلك شاهدا محسوسا في قصة بدر حيث كان المسلمون ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و الكفار ألف رجل و لم يكن للمسلمين من العتاد إلا شيئا ضئيلا بينما كان الكفار بأكمل السلاح و مع ذلك فقد غلب المسلمون عليهم بنصر اللّه سبحانه قَدْ كانَ لَكُمْ أيها المسلمون أو أيها الكفار آيَةٌ أي علامة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن اللّه ينصره و يهزم الكفار فِي فِئَتَيْنِ أي جماعتين جماعة المسلمين و جماعة الكفار الْتَقَتا من الملاقاة إذ اجتمعتا في بدر فِئَةٌ

تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هم المسلمون وَ فئة أُخْرى كافِرَةٌ و هم المشركون الذين أتوا من مكة يَرَوْنَهُمْ أي يرى المسلمون الكفار مِثْلَيْهِمْ أي ضعف أنفسهم رَأْيَ الْعَيْنِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 319

[سورة آل عمران (3): آية 14]

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

فلم يكن ذلك خيالا و إنما واقعا فإن الكفار في الواقع كانوا أكثر، و مع ذلك فقد غلب المسلمون، و لعل النكتة في ذكر ذلك بيان أن المسلمين غلبوا مع أنهم كانوا يعلمون بزيادة الكفار عليهم و إن ذلك يدل أن اللّه نصرهم و إلا فإن الجيش إذا علم أن العدو أكثر منه و هن في عضده و يسبب ذلك انهزامه في أكثر الأحيان، و في الآية أقوال أخر مذكورة في التفسيرات وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أي يقوي بنصره فلا يضرهم قلة عددهم و عدتهم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور و هو غلبة المسلمين على المشركين مع أن الكفار كانوا ثلاثة أضعافهم لَعِبْرَةً أي اعتبار و هي بمعنى الآية و إنما سميت الآية عبرة لأنها تعبر بالإنسان من الجهل و الغفلة إلى العلم و التذكير لِأُولِي الْأَبْصارِ أي أصحاب العقول، و ليس المراد بالبصر النظر بالعين و إنما النظر بالقلب كما يقال فلان بصير بالأمور أي يعرفها و يدركها.

[15] و هنا يتساءل الإنسان ماذا صرف الكفار عن الحق و هم يرونه؟ و يأتي الجواب إن الذي صرفهم هو جمال الدنيا و مالها كما

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «لكنهم حليت الدنيا في أعينهم و

راقهم زبرجها» «1»

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أي أن حب الإنسان للمشتهيات و الملذات سبب لهم أن تتزين الدنيا في نفوسهم فيطلبون اللذائذ و لو

______________________________

(1) نهج البلاغة: خطبة 3- 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 320

في المحرمات و لم يذكر الفاعل، لأنه ليس بمقصود و قد تقرر في علم البلاغة أن مقتضاه أن لا يذكر الفاعل أو المفعول حيث لم يكن مقصودا مِنَ النِّساءِ بيان «الشهوات» وَ الْبَنِينَ فإن حب الأولاد يسبب إطاعتهم و التحفظ عليهم و لو بذهاب الدين وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ القناطير جمع «قنطار» و هو مل ء مسك ثور ذهبا و إنما سمي قنطارا لأنه يكفي للحياة فكأنه قنطرة يعبر بها مدة الحياة، و المقنطرة بمعنى المجتمعة المكدسة كقولهم دراهم مدرهمة و دنانير مدنرة مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ فإن الإنسان بحبه للأموال يعصي اللّه في جمعه و في عدم إعطاء حقوقه وَ الْخَيْلِ عطف على النساء، و الخيل الأفراس الْمُسَوَّمَةِ من سوم الخيل التي علمها و لا تعلم إلا الجيد الحسن منها وَ الْأَنْعامِ جمع نعم و هي الإبل و البقر و الغنم وَ الْحَرْثِ أي الزرع فهذه كلها محببة للناس، لكن ذلِكَ كله مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يستمتع به في الدنيا و لا تنفع الآخرة إلا إذا بذلت في سبيل اللّه- كل حسب بذله- وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ المرجع أي أن المرجع الحسن في الآخرة منوط باللّه سبحانه فاللازم أن يتزهد الإنسان في الملذات و لا يتناول المحرم منها رجاء ثواب اللّه و نعيمه المقيم الذي لا زوال له و لا اضمحلال، فلا تسبب هذه المشتهيات عدول الإنسان عن الحق إلى الباطل و عن الرشاد إلى الضلال.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1،

ص: 321

[سورة آل عمران (3): الآيات 15 الى 16]

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (16)

[16] قُلْ يا رسول اللّه للناس الذين زين لهم حب الشهوات أَ أُنَبِّئُكُمْ أي هل تريدون أن أخبركم بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أي بأحسن من هذه الشهوات، و «كم» خطاب للناس لِلَّذِينَ اتَّقَوْا المحرمات و عملوا حسب أوامر اللّه سبحانه عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها و نخيلها و قصورها خالِدِينَ فِيها فإنهم يسكنون الجنة أبد الآبدين لا زوال لهم و لا تحويل وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي نساء طاهرة من الأقذار الظاهرية كالحيض و الوساخة، و الأقذار الباطنية كسوء الخلق و الحقد و العداوة وَ أكبر من كل ذلك رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ فإن اللّه راض عنهم و متى شعر الإنسان برضى اللّه سبحانه منه تنعم بأفضل نعمة نفسية كما لو علم فرد من الرعية أن الملك يحبه و يرضى عنه وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ خبير بأفعالهم و أعمالهم فيجازيهم حسب ما يفعلون.

[17] ثم وصف سبحانه المتقين الذين سبق ذكرهم بقوله «للذين اتقوا» فالمتقون هم الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا أي صدقنا بك و برسلك و بما أمرت و وعدت فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي تجاوز عما صدر منا من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 322

[سورة آل عمران (3): الآيات 17 الى 18]

الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ

أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

الخطايا وَ قِنا أي احفظنا من «وقى» «يقي» بمعنى حفظ عَذابَ النَّارِ حتى لا نكون من أهلها.

[18] الصَّابِرِينَ صفة أخرى للمتقين فأولئك هم الصابرون في المصائب و عند الطاعة، و لدى المعصية وَ الصَّادِقِينَ في نياتهم و أقوالهم و أفعالهم وَ الْقانِتِينَ من القنوت بمعنى الإطاعة و الخضوع وَ الْمُنْفِقِينَ لأموالهم في سبيل اللّه سبحانه وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ الذين يطلبون غفران ذنوبهم بِالْأَسْحارِ جمع سحر و هو ما يقرب من طلوع الفجر آخر الليل.

[19] و يناسب السياق هنا الإشارة إلى صفات الباري عز اسمه حيث تقدم ذكر من اتقى و أوصاف المتقين الذين يعملون للّه سبحانه شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و شهادة اللّه لفظية و واقعية فإن الشهادة إظهار المطلب باللسان و قد أظهر اللّه سبحانه وحدته و سائر صفاته بما هو أقوى و أثبت و أولى من اللفظ، و هو خلق المصنوعات التي تشهد جميعها بصفاته كما قال الشاعر

«و في كل شي ء له آية ..* .. تدل على أنه واحد» و إنما تشهد المصنوعات على الوحدة لأنه لو كان فيهما آلهة غير اللّه لفسدتا فعدم الفساد دليل الوحدة- كما تقرر في علم الكلام- وَ الْمَلائِكَةُ شهدوا بالوحدانية شهادة لفظية و حقيقية وَ أُولُوا الْعِلْمِ أصحاب العلم الذين يدركون، لا كل من يدعي العلم، فإنه من ينظر إلى الكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 323

نظر عالم معتبر لا بد له من الإذعان بالوحدانية قائِماً بِالْقِسْطِ أي في حال كونه سبحانه قائما بالعدل، فإن القسط بمعنى العدل، و معنى قيامه سبحانه بالعدل أنه يفعل ما يفعل بالعدل فخلقه، و تقديره، و تشريعه، كل

بالعدل و معنى العدل الاستواء، مقابل الظلم الذي هو الاعوجاج و الانحراف، فمثلا جعل الشمس في السماء عدل لأنها تنير و تشرق و تقيم المجموعة الشمسية بينما عدمها انحراف و ظلم، و كذلك تقدير هذا غنيا و ذاك فقيرا، و هذا رئيسا و ذاك مرءوسا بالعدل، و ما يشاهد في ذلك من الانحراف فإنه ليس من التقدير و إنما من سوء اختيار الناس، و كذلك تشريع الصلاة واجبة، و الخمر محرمة بالعدل.

يقال أن رجلا سأل كسرى عن سبب عدله قال: لعدة أسباب منها أني رأيت في الصحراء يوما كلبا كسر رجل غزال، فما لبث أن رماه إنسان بحجر فكسر رجله فلم يمض على الرجل إلا برهة إذا بفرس رفسه فكسر رجله، فلم تمض على ذلك لحظات إلا بالفرس عثر فانكسرت رجله، و هناك علمت أن الظلم عاقبته و خيمة .... و الإنسان إذا لم يعرف الصلاح و العدل في بعض الأشياء فليس له أن يعترض، و الحال أنه يجهل أكثر الأشياء، فهو كمن يعترض على أدوية وصفها الطبيب و هو لا يعرف من الطب شيئا، و لفظة «قائما» فيها إيماءة لطيفة، فإن القائم يشاهد ما لا يشاهده القاعد، إذ هو مسيطر مشرف لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تكرار للتأكيد، فإن العالم قبل الإسلام كان مرتطما في أو حال الشرك حتى جاء الإسلام فأظهر التوحيد و جدد ما محي من سنن الأنبياء عليهم السّلام و إرشادهم حول المبدأ تعالى الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شي ء عن حكمة و علم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 324

[سورة آل عمران (3): آية 19]

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ

بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)

[20] و بعد ما تقرر التوحيد و العدل أتى دور الدين الذي أرسله اللّه سبحانه إلى العباد إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ و الدين هي الطريقة التي تؤمن السعادة للبشر دنيا و آخرة، إنه عند اللّه الإسلام، و إن كان عند غيره اليهودية و النصرانية و المجوسية و غيرها، فإن اللّه سبحانه لم يرسل إلا الإسلام و الإسلام هو دين الأنبياء جميعا فإنه عبارة عن تسليم منهج الأعمال إلى اللّه الذي خلق الكون و هو أعلم بالنظام السماوي له الذي إن تبعه البشر عاش سعيدا و مات حميدا، و قد ذكرنا سابقا أن الاختلاف بين الأديان السماوية الواقعية في شرائط و مزايا لا في الجواهر و الأصول وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ليس اختلاف أهل الكتاب بعضهم مع بعض و جميعهم مع المسلمين إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فعرفوا الصحيح من السقيم و الحق من الباطل، و إنما اختلفوا بَغْياً أي حسدا بَيْنَهُمْ فلم يقبل اليهود أن يرضخوا لعيسى عليه السّلام حسدا، و لم يقبل النصارى أن يؤمنوا بنبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسدا، كما قال سبحانه أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1» وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فلم يؤمن بها فلا يظن أنه ربح و تهنأ بدنيا باقية بل خسر و ذهبت دنياه و آخرته فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب الكفار

______________________________

(1) النساء: 55.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 325

[سورة آل عمران (3): آية 20]

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا

فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

في الدنيا بأنواع من البلايا و المصائب كما قال وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «1» و في الآخرة بما اقترفوا من الكفر و الآثام، و الآخرة قريبة جدا فإن «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» قال الشاعر:

ألا إنما الدنيا كمنزل راكب أناخ عشيا و هو في الصبح راحل

[21] فَإِنْ حَاجُّوكَ يا رسول اللّه و جادلوك في أمر التوحيد بعد وضوح الحجة فَقُلْ لهم أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فأنا لا أعبد إلا اللّه سبحانه لا أتخذ له شريكا، و إسلام الوجه كناية عن الإسلام المطلق إذ تسليم الوجه إلى نحو يدل على تسليم القلب و سائر الجوارح وَ مَنِ اتَّبَعَنِ أي الذين اتبعوني هم أيضا أسلموا وجوههم للّه فقط دون غيره وَ قُلْ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوا الكتاب السماوي من اليهود و النصارى و المجوس وَ قل لل الْأُمِّيِّينَ من المشركين الذين لا كتاب لهم و سموا أميين إما لجهلهم نسبة إلى الأم و إما لأنهم من أهل مكة- أم القرى- أَ أَسْلَمْتُمْ أي هل أسلمتم وجوهكم للّه وحده- بلا جدال و لا نقاش معهم بعد ما تمت عليهم الحجة- فَإِنْ أَسْلَمُوا و تشرفوا بدين الإسلام فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 326

[سورة آل عمران (3): آية 21]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21)

الحق و إلى طريق مستقيم وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أن تبلغهم الإسلام و ليس عليك إجبارهم حتى لا يتولوا و حتى لا يعرضوا

وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ لا يفوته شي ء من أعمالهم فهو يجازيهم بكفرهم و ميثاقهم كما يجزيهم على إيمانهم و إطاعتهم.

[22] ثم بين سبحانه أن أهل الكتاب كفروا باللّه قديما و قتلوا الأنبياء عليهم السّلام، تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يضيق صدره بتكذيبهم و لجاجتهم إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فلا يقبلونها بعد وضوحها و علمهم بها وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ فإن قتل النبي مطلقا ليس بحق و إنما يأتي القيد إفادة لأنه لا حجة لهم في قتل الأنبياء عليهم السّلام حتى أنه ليس هناك حق مدعى أيضا وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ أي بالعدل مِنَ النَّاسِ فإن أهل الظلم و الباطل الذين تتمثل فيهم القوة غالبا يقتلون من ينهاهم عن ذلك و يأمر بالقسط و العدل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ و كلمة البشارة استهزاء أو بعلاقة استعمال الضد في الضد كتسمية الزنجي بالكافور و الأعمى بالبصير، أو للمقابلة نحو فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «1»، فإن

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 327

[سورة آل عمران (3): الآيات 22 الى 23]

أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

المؤمن يبشر بالثواب و الكافر يبشر بالعقاب.

[23] أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الخيرية فإن لكل إنسان أعمال خيرية و إن كان كافرا، و معنى حبط العمل بطلانه و عدم إفادته فِي الدُّنْيا فإن كفرهم سبب هدر دمهم فعملهم الخير لم ينفعهم

في حقن دمهم أو أعمال الخير التي تدفع البلايا و الآفات لا تنفع مع الكفر و الانحراف وَ الْآخِرَةِ فلا تفيدهم أعمالهم الحسنة ثوابا كما قال سبحانه وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «1» وَ ما لَهُمْ أي ليس لهم مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من عذاب اللّه و سخطه.

[24] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، و معناه إفادة العلم بهذا الاستفهام إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا أعطوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي بعضا منه لأنهم بتحريفهم الكتاب قد فقدوا بعضه كما قال سبحانه وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ «2» يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ يدعوهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى كتاب اللّه ليجعل حكما بينهم و أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حق أم لا فقد كان في التوراة و الإنجيل صفاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لذا كان يدعوهم إلى تحكيم كتابهم في هذا الأمر لكنهم لم يقبلوا

______________________________

(1) الفرقان: 24.

(2) المائدة: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 328

[سورة آل عمران (3): الآيات 24 الى 25]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)

ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يعرض عن تحكيم الكتاب و إنما قال فريق لأن بعضهم دخل في الإسلام بعد ما تمت له الدلالة و الإرشاد كعبد اللّه بن سلام و غيره وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن الحق و عن كتابهم و في بعض الأحاديث أن الآية نزلت في مسألة زنا وقعت بين يهودي و يهودية و

كان حكمهما الرجم في التوراة و رجعوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعله يحكم بغير ذلك فحكم الرسول بينهم بما في التوراة فكرهوا ذلك.

[25] ذلِكَ الإعراض عن كتابهم و عن أوامر اللّه سبحانه بسبب أنهم أمنوا العقوبة بما لفقوه من الكذب حيث قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أي نار جهنم على فرض كفرنا و عصياننا إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ سبعة أيام أو أربعين يوما و هذه المدة القليلة فلا ينبغي ترك الشهوات و الرئاسة لأجلها وَ غَرَّهُمْ أي خدعهم فِي باب دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الذي افتروا و نسبوه إلى الدين من أن النار أيام معدودة فقط خدعهم و غرهم.

[26] فَكَيْفَ حالهم إذا انكشف غرورهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ القيامة الذي لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس محل ارتياب و شك وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 329

[سورة آل عمران (3): الآيات 26 الى 27]

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

أي يعطى كل إنسان جزاءه وافيا غير منقوص وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بل يجزون على حسب أعمالهم.

[27] و هنا يتوجه السياق إلى كون الملك للّه فليس لأهل الكتاب أن يحسدوا الرسول و المسلمين فيما أوتوا من حول و طول و عزة و ملك، و في بعض الأحاديث أن الآية نزلت بعد ما بشر الرسول المسلمين بأنهم يفتحون ملك فارس و الروم،

فاستهزأ الكفار بذلك و قالوا أنى يكون لمثل هؤلاء أن يسيطروا على تلك الدولتين العظيمتين قُلِ يا رسول اللّه اللَّهُمَ أي يا اللّه، و الميم بدل عن حرف النداء مالِكَ الْمُلْكِ مالك منصوب على أنه مناد مضاف أي يا مالك الملك فكل شي ء لك وحدك لا شريك و ملك من عداك إنما هو مجازي اعتباري تُؤْتِي أي تعطي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أن تعطيه وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ أن تنزعه من غير فرق بين أن يكون الملك سلطانا أو ملكا لشي ء كالدار و العقار وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ أن تعزه عزة ظاهرية أو باطنية بالإيمان و الطاعة وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ أن تذله بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فتقدر على الإعطاء و المنع و أن تعز و تذل.

[28] تُولِجُ أي تدخل اللَّيْلَ فِي النَّهارِ فيأخذ الليل مكان النهار، فيما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 330

[سورة آل عمران (3): آية 28]

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

ينقص اليوم و يزيد الليل، أو فيما إذا جاء الليل و ذهب النهار، و هو كناية، إذ ليس الإدخال حقيقة وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بأحد المعنيين السابقين وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كما يخرج النبات الحي من الحب الميت و الأرض الميتة، أو يخرج الجنين الحي من الأم الميتة كما قد تموت الأم و يخرج الولد منها حيا وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ كما يخرج الحب الميت من النبات الحي و البيضة الميتة من الدجاجة و الولد الميت من المرأة الحية إذا مات الجنين

في بطنها، و في التأويل إخراج المؤمن من الكافر، و الكافر من المؤمن وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ من عبادك و خلقك بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تقتير كما يقال فلان ينفق بغير حساب، أو بلا حساب من المنفق عليه و إن كان كل شي ء عنده تعالى بحساب.

[29] و حيث ثبت أن الملك بيد اللّه و العزة و الذلة منه ف لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ بأن يصادق المؤمن الكافر بزعم أنه ينفعه لأن بيد الكافر الملك أو أنه يسبب عزته و شوكته مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي من دون أن يتخذ المؤمنين أولياء بل اللازم أن يتخذ المؤمن المؤمن وليا، و يتخذ من الكافر عدوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاتخاذ للكافر وليا فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ أي ليس ذا قدر عند اللّه سبحانه إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 331

[سورة آل عمران (3): الآيات 29 الى 30]

قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)

تخافوا من الكفار فلا بأس باتخاذهم أولياء تقية وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يخوفكم اللّه من نفسه فإن من يتخذ الكافر وليا يشمله عقاب اللّه سبحانه وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المرجع فمن عصاه يجازيه بالنار و العذاب.

[30] قُلْ يا رسول اللّه للمسلمين إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أي نواياكم و ما في قلوبكم، كما لو اتخذتم الكافر وليا

في قلبكم مما لم يعلم به الناس أَوْ تُبْدُوهُ أي تظهروه يَعْلَمْهُ اللَّهُ فإنه العالم بالنوايا و ما في الصدور وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهو العالم بكل شي ء فكيف لا يعلم ما في صدوركم وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو العالم بالنوايا و القادر على العقاب فمن الجدير بالمسلم أن لا يتخذ الكافر وليا أو المؤمن عدوا حتى في قلبه إذ يعلمه اللّه و يقدر على عقابه.

[31] اذكروا أيها الناس يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً أي تجد كل أعماله الخيرية حاضرة كما قال سبحانه وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً «1» و معنى حضور العمل حضور حساباتها و ثوابها و عقابها أو

______________________________

(1) الكهف: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 332

[سورة آل عمران (3): الآيات 31 الى 32]

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

تجسم الأعمال كما ذهب إلى ذلك بعض وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أي تجد أعماله السيئة حاضرة تَوَدُّ تلك النفس العاصية لَوْ أَنَّ بَيْنَها أي بين النفس وَ بَيْنَهُ أي بين ما عملت من سوء أَمَداً بَعِيداً أي مكانا بعيدا تشبيه بالأمر المحسوس فكما أن المتباعدين لا يتلاقيان فعلا كذلك لو كان العمل السيئ بعيدا عن عامله وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ حتى تخافوا من عقابه فتتقوه وَ اللَّهُ رَؤُفٌ ذو رأفة و رحمة بِالْعِبادِ و من رأفته يحذركم عن المعاصي حتى لا يأخذكم و بالها و عاقبتها.

[32] قُلْ يا رسول اللّه إِنْ كُنْتُمْ أيها المسلمون، أو يا أهل الكتاب تُحِبُّونَ اللَّهَ حقيقة

و تصدقون في مقالتكم هذه فَاتَّبِعُونِي فيما أمر اللّه و أنهى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فإن اللّه لا يحب إلا من اتبع رسوله في أوامره و نواهيه و إلا مجرد دعوى حب اللّه بلا شاهد و حقيقة لا يكفي في حب اللّه تعالى للمدعي وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فإن من أحسن و اتبع الرسول يغفر ذنبه و يمحي سيئته وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعباده.

[33] قُلْ يا رسول اللّه أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ و إطاعة اللّه سبحانه هي إطاعة الرسول لكن ذكر ذلك تعظيما للأمر و إردافا لإطاعة الرسول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 333

[سورة آل عمران (3): آية 33]

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33)

بذلك كما قال فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ «1» مع أن خمس اللّه إنما هو للرسول و يحتمل أن يكون ذكر اللّه و الرسول لإفادة وحدة الجهة أي إن اللّه و الرسول لهما إطاعة واحدة فهو من قبيل أطع العلماء لا من قبيل أطع العالم أو أطع أباك فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا فلم يطيعوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ الذين يعرضون عن أوامر اللّه و رسوله و معنى لا يحبهم أنه يبغضهم لا النفي للحب فقط المجامع لعدم البغض.

[34] و حيث كان الكلام حول وحدة الدين و أنه هو الإسلام و التعريض بالكفار و أخيرا انتهى المطاف إلى ميزان حب اللّه سبحانه ناسب السياق ذكر بعض الأفراد الذين اختارهم اللّه سبحانه أ ليسوا هم جميعا قادة دين واحد المنتهي إلى المسلمين فمن اللازم أن يعرفوهم و يقدروهم، فقال سبحانه إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى أي اختار لرسالته و وحيه و جعلهم أنبياء مرشدين آدَمَ وَ نُوحاً وَ

آلَ إِبْراهِيمَ الأنبياء الذين من نسله إسحاق و إسماعيل و يعقوب و يوسف و عيسى و محمد «صلوات اللّه عليهم أجمعين» وَ آلَ عِمْرانَ موسى و هارون عليهما السّلام عَلَى الْعالَمِينَ و إنما خصص هؤلاء الأنبياء، لكون آدم أبو البشر، و نوح و آل إبراهيم بما فيهم إبراهيم- فإنه يقال آل فلان للأعم منه و من آله- و آل عمران الذين فيهم الأنبياء، أولوا العزم هم مدار الرسالات العالمية.

______________________________

(1) الأنفال: 42.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 334

[سورة آل عمران (3): الآيات 34 الى 35]

ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

[35] حال كون نوح و آل إبراهيم و آل عمران ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ في أداء الرسالة و مناصرة الدين و إرشاد الناس، فإن من خرج عن دين آبائه ليس منهم كما قال سبحانه إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «1» بخلاف من اتبع آباءه وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لما تقوله الذرية عَلِيمٌ بضمائرهم و أعمالهم و لذا فضلهم على من سواهم إن هؤلاء الأنبياء كلهم ذووا خصائص واحدة موروثة من جدهم آدم عليه السّلام مما تؤهلهم لحمل الرسالة الواحدة التي هي رسالة الإسلام.

[36] و في هذا الجو يأتي ذكر والدة عيسى عليهم السّلام و أنها كيف كانت طاهرة زكية بحيث أهلت لإيداع النبي العظيم عندها، اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ و هي حنّة جدة عيسى عليه السّلام من الأم رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً و ذلك حين حملت لم تكن تعلم أنها أنثى فنذرت أن تجعل ما في بطنها لخدمة المسجد و

معنى المحرر الفارغ من الأعمال الدنيوية الصارف جميع أوقاته في خدمة بيت اللّه سبحانه، و هكذا كان قلب أم مريم عامرا بالإيمان جاعلة أعز شي ء لديها للّه و في خدمة عباد اللّه فَتَقَبَّلْ مِنِّي نذري إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائي الْعَلِيمُ بما في ضميري من صدق و إخلاص.

______________________________

(1) هود: 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 335

[سورة آل عمران (3): الآيات 36 الى 37]

فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

[37] فَلَمَّا وَضَعَتْها أي وضعت امرأة عمران جنينها خاب ظنها و رأت أنها أنثى ف قالَتْ في يأس و تبتل رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى و الأنثى لا تصلح للخدمة وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فإن اللّه كان يعلم ذلك منذ كانت جنينا في بطنها بينما هي لا تعلم إلا بعد الوضع وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فالذكر يأتي منه الخدمة و لا بأس بحشره في مكان العبادة في المسجد بخلاف الأنثى إذ لا تلائم الرجال و لا تلائم عادتها النسائية المسجد، ثم قالت وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ أي جعلت اسمها «مريم» و هي في لغتهم بمعنى العابدة وَ إِنِّي أُعِيذُها أي أجعلها في حفظك و حراستك بِكَ وَ أعيذ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي المرجوم باللعن و المطرود عن الخير.

[38] فَتَقَبَّلَها رَبُّها أي تقبل اللّه سبحانه مريم مع أنوثتها

بِقَبُولٍ حَسَنٍ حيث قدر لها السعادة و أن يجعل منها عيسى المسيح عليه السّلام وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أي جعل نشوءها نشئا حسنا بالفضيلة و الأخلاق و العفة و الطهارة وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا أي جعل اللّه سبحانه كفيلها زكريا و كان زوج خالة مريم، و هو من أنبياء اللّه سبحانه فإن أم مريم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 336

[سورة آل عمران (3): آية 38]

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)

ذهبت بها إلى المسجد و سلمتها إلى الأحبار فتنازعوا في كفالتها حتى اقترعوا عليها و خرجت القرعة باسم زكريا فكانت مريم تخدم في صغرها المسجد حتى إذا بلغت مبلغ النساء انفصلت عنهم في غرفة خاصة بها بناها لها زكريا في وسط المسجد عالية لا يمكن الوصول إليها إلا بسلم و كان يأتي بحوائجها كل يوم و كان من غريب أمرها أن كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ و هي غرفتها و سمي محرابا لأنه محل محاربة النفس و الشيطان وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً فاكهة في غير حينها قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك هذا الرزق قالَتْ مريم هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أرسله إلي اللّه تعالى من الجنة كرامة لي إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تقتير أو محاسبة من المرزوق.

[39] هُنالِكَ الذي رأى زكريا إكرام اللّه سبحانه لمريم نحو خرق العادة من إرسال الفاكهة إليها دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي نسلا صالحا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ و كان زكريا يائسا من الأولاد حيث كبر و شاخ و كانت امرأته عاقرا لكن طلب و

دعا مريدا على وجه الإعجاز و خرق العادة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 337

[سورة آل عمران (3): الآيات 39 الى 40]

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40)

[40] فَنادَتْهُ أي نادت زكريا الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ إما المراد المحراب أو نفس المسجد و سمي محرابا لأنه محل محاربة الشيطان و النفس حيث يريدان صرف الإنسان إلى الدنيا و المسجد يصرفه إلى الآخرة أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى سماه سبحانه بهذا الاسم قبيل الولادة في حال كونه مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ و المراد بالكلمة عيسى عليه السّلام أي أن يحيى يصدق نبوة عيسى، و إنما سمي عيسى عليه السّلام كلمة اللّه لأنه كان بإلقاء اللّه إياها إلى مريم، كما تلقى الكلمة من الفم وَ سَيِّداً أي ذو سيادة و شرافة وَ حَصُوراً يحصر نفسه عن الملذات، أو عن النساء خاصة بمعنى أنه عليه السّلام كان زاهدا، و كون حصور مدحا ليحيي عليه السّلام لأسباب خاصة لا ينافي استحباب الزواج في الشرائع وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ الذين يصلحون و لا يكن فيهم فساد كما هو شأن جميع الأنبياء.

[41] فاستفسر زكريا عليه السّلام عن كيفية حصول الولد هل يرزقه و هما على ما هما عليه من الحالة أم تتبدل حالتهما قالَ زكريا في جواب الملائكة سائلا عن اللّه سبحانه رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف يكون لي ولد وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي الشيخوخة وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 1، ص: 338

[سورة آل عمران (3): الآيات 41 الى 42]

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (41) وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)

ليس لها قابلية الولادة قالَ الملك في جوابه كَذلِكَ أي كالحال الذي أنتما عليه من الكبر و العقر اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ فإنه قادر على كل شي ء.

[42] قالَ زكريا عليه السّلام رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعرف بها وقت الحمل لأزيد شكرا و سرورا أو علامة أعرف بها استجابة دعائي ليطمئن قلبي و أجده محسوسا ملموسا بعد ما وجدته سماعا بالبشارة قالَ الملك، أو اللّه سبحانه بخلق الصوت في الفضاء آيَتُكَ أي الدليل على ذلك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي لا تقدر على التكلم معهم كلما توجهت إليهم بالكلام يعقد لسانك ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً بالإشارة باليد و الرأس وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً فإن لسانك لا ينعقد عن الذكر و التسبيح للّه سبحانه وَ سَبِّحْ أي نزه الباري تعالى بِالْعَشِيِ آخر النهار وَ الْإِبْكارِ أول النهار، من أبكر فهو اسم مفرد لا جمع.

[43] ثم رجع السياق إلى بقية قصة مريم عليها السّلام حيث كانت قصة زكريا عليه السّلام توسطت في الموضوع لمناسبة وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ اختارك لعبادته و إطاعته و أن تكوني وعاء لنبيه وَ طَهَّرَكِ من الآثام و الذنوب و الأدناس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 339

[سورة آل عمران (3): الآيات 43 الى 44]

يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ

مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

و العادات النسائية وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ و كرر الاصطفاء تأكيدا و مقدمة لذكر نساء العالمين فليس الاختيار لها في جملة مختارات و إنما هي مختارة على سائر نساء زمانها و عوالمها لأكل العالمين فإن فاطمة عليها السّلام هي المختارة المطلقة على جميع النساء و قد تقدم أن مثل هذه العبارة تقال مرادا بها العوالم المعاصرة لأكل العوالم كما يقال إن الدولة الفلانية أقوى جميع الدول يراد الدول المعاصرة لها لا كل دولة في العالم أتت أو تأتي.

[44] يا مَرْيَمُ اقْنُتِي القنوت الخضوع و الإخلاص في العبادة لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي في جملة الذين يركعون للّه سبحانه.

[45] ذلِكَ الذي تقدم من قصص مريم و زكريا و يحيى مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي الأخبار الغائبة عن الحواس فإن كل شي ء غاب عن الحواس يسمى غيبا نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نلقيه عليك ليدل على أنك من المرسلين فإن الإخبار عما لم يحضره الإنسان و لم يعلمه من طريق التاريخ يدل على كونه بالإعجاز و خارق للعادة وَ ما كُنْتَ يا رسول اللّه لَدَيْهِمْ أي عند الأحبار و المعاصرين لمريم عليها السّلام إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ التي بها كانوا يكتبون التوراة أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ فإن زوجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 340

[سورة آل عمران (3): الآيات 45 الى 46]

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصَّالِحِينَ (46)

عمران لما أتت بمريم

إلى المسجد اختلفت الأحبار في من يكفلها لأنها كانت بنت إمامهم و صاحب قربانهم فقال لهم زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقال له الأحبار: إنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها و لكن نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا و هم تسعة و عشرون رجلا إلى نهر جار فألقوا أقلامهم في الماء فأبرز قلم زكريا و ارتفع فوق الماء و رسبت أقلامهم و لذا أخذها زكريا وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأنها و أن أيهم يكفلها.

[46] و اذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ مخاطبة لمريم عليها السّلام يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي بولد هو كلمة اللّه تلقى عليك و يخرج منك بصورة عيسى المسيح عليه السّلام اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قيل سمي مسيحا لأنه كان يمسح الأرض و يسير فيها، و ذكر في الكلام أمه دحضا لمن يفتري قائلا: أنه ابن اللّه، في حال كونه وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ أي ذا جاه و قدر و شرف وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ للّه تعالى قرب شرف و جاه لا زمان و مكان.

[47] وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي في حال كونه صغيرا قبل أوان تكلم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 341

[سورة آل عمران (3): الآيات 47 الى 48]

قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48)

الأطفال و المهد هو الموضع الذي يوضع فيه الطفل و يهز من خشب أو حديد

أو ثوب أو نحوها وَ كَهْلًا أي يكلمهم كهلا بالوحي و الكهل ما بين الشاب و الشيخ أو يراد الإخبار عن بقائه إلى ذلك الوقت وَ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين فيهم الصلاح دون الفساد.

[48] قالَتْ مريم لما سمعت هذا النبأ المدهش رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ أي كيف يمكن أن ألد ولدا وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي لم يقترب مني على نحو النكاح فإنها كانت دون زوج قالَ الملك في جواب مريم كَذلِكِ أي هكذا بدون المس و الزوج اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ فإنه ليس بخارج عن قدرة اللّه سبحانه إِذا قَضى أَمْراً أراد خلقه و تكوينه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ قولا أو إرادة بدون تلفظ فَيَكُونُ في الخارج، فإن اللّه يوجد الأشياء بصرف الإرادة.

[49] وَ يُعَلِّمُهُ أي يعلم اللّه سبحانه المسيح الْكِتابَ أي الكتابة أو مطلق الكتاب المنزل من السماء وَ الْحِكْمَةَ حتى يكون حكيما يعرف مواضع الأشياء أو المراد بالحكمة علم الشرائع من الحلال و الحرام و سائر الأحكام وَ التَّوْراةَ و هو كتاب موسى عليه السّلام وَ الْإِنْجِيلَ و هو الكتاب الذي أنزل على المسيح بنفسه و قد ذكروا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 342

[سورة آل عمران (3): آية 49]

وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

أن معنى التوراة «التعليم و البشارة» و معنى الإنجيل «البشارة و التعليم».

[50] وَ نجعله رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ لإرشادهم من الضلالة إلى الحق، و

انتقل السياق إلى كلام عيسى عليه السّلام الذي كان يتكلم به بعد النبوة، فكان يقول لبني إسرائيل أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمعجزة و علامة تدل على صدق دعواتي للنبوة و أني رسول إليكم أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ أي أصنع لأجلكم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي على صورة الطائر فَأَنْفُخُ فِيهِ أي في الطائر المصنوع من الطين فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ و إرادته و قدرته، فصنع صورة خفاش من الطين و نفخ فيه فطار وَ أُبْرِئُ أي أشفي الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى، أو مطلق الأعمى وَ الْأَبْرَصَ الذي أصيب بمرض البرص و هو الوضح وَ أُحْيِ الْمَوْتى كل ذلك بِإِذْنِ اللَّهِ فكان يقف على القبر و يقول للميت قم بإذن اللّه فيقوم ينفض عن جسمه الغبار كأنه لم يمت أصلا وَ أُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِما تَأْكُلُونَ إخبارا عن الغيب وَ ما تَدَّخِرُونَ من الادخار فِي بُيُوتِكُمْ فكان يقول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 343

[سورة آل عمران (3): الآيات 50 الى 51]

وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

للشخص تغذيت بكذا أو حفظت لليل كذا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت من المعجزات لَآيَةً معجزة دالة على صدقي لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و إنما يقيد بالإيمان لأن من لا يؤمن باللّه سبحانه لا يمكن أن يفرق بين المعجزة و السحر.

[51] وَ ذلك في حال كونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ أي ما تقدم علي و أنزل قبلي مِنَ التَّوْراةِ فإنه من أسباب لزوم تصديقي حيث لا أبطل كتاب بني إسرائيل

وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ يا بني إسرائيل بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى عليه السّلام و هذا التحليل إنما كان لانقضاء ظرف التحريم وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بحجة تشهد بصدقي و أني من قبل اللّه سبحانه، و هي إما إجمال لما فصل في الآية السابقة، جمعا لأعماله عليه السّلام في الأمور الثلاثة، التصديق، و التحليل، و الإعجاز، و إما يراد به آية أخرى لم تذكر في القرآن فَاتَّقُوا اللَّهَ و صدقوا برسالتي وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به و أنهاكم عنه.

[52] إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فلست أنا ابنا له، قال ذلك ردا على النصارى الذين اتخذوه إلها فَاعْبُدُوهُ وحده و لا تعبدوا من دونه الشركاء كما عبدت اليهود عزيرا، و عبدت النصارى المسيح هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 344

[سورة آل عمران (3): الآيات 52 الى 53]

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

لا اعوجاج له و لا انحراف بخلاف سائر الطرائق التي هي طرق معوجة منحرفة زائغة.

[53] و بعد هذه الحجج لم يزدد بني إسرائيل إلا عنادا و استكبارا فَلَمَّا أَحَسَ من الحس أي وجد عِيسى عليه السّلام مِنْهُمُ الْكُفْرَ و أنه لم تنفعهم الحجة و الدليل قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ الذين ينصرون ديني للوصول إلى ثواب اللّه تعالى إذ المسلم يقطع طريق الوصول إلى اللّه لينتهي إلى ثوابه قالَ الْحَوارِيُّونَ هو جمع حواري من الحور بمعنى شدة البياض و سمي خاصة الإنسان بالحواري لنقاء قلبه و صفاء باطنه نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ الذين ننصر

دينه و نتابعك على ما أنت عليه آمَنَّا بِاللَّهِ إيمانا لا يشوبه شرك وَ اشْهَدْ يا عيسى بِأَنَّا مُسْلِمُونَ في أدياننا.

[54] ثم توجهوا إلى اللّه سبحانه داعين قائلين رَبَّنا أي يا ربنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ على رسولك عيسى عليه السّلام وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فيما أمر و نهى فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ الذين يشهدون على الأمم كما قال سبحانه لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «1» فالرسل

______________________________

(1) البقرة: 144.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 345

[سورة آل عمران (3): الآيات 54 الى 55]

وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

شهداء على أصحابهم و هم شهداء على سائر الناس.

[55] ذلك كان قول أنصار عيسى و المؤمنين به أما الكفار الذين جحدوه و أنكروه فلم يؤمنوا وَ مَكَرُوا لعيسى عليه السّلام بأن يقتلوه وَ مَكَرَ اللَّهُ بإنقاذه منهم و قتل كبيرهم عوضه، و المكر لغة بمعنى تطلب العلاج لأمر ما و الغالب يستعمل في الشر، و لعل نسبة المكر هنا إلى اللّه سبحانه للمقابلة نحو قوله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «1» مع أن اللّه سبحانه ليس له نفس وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ لأنه أعرف بطرق العلاج، و في بعض التفاسير أنه لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السّلام دخل خوخته و فيها كوة فرفعه جبرائيل من الكوة إلى السماء و قال الملك لرجل خبيث من الكفار ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى

اللّه عليه شبه عيسى عليه السّلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه بظن أنه عيسى و كان قتله على نحو الصلب و كلما صاح أنه ليس بعيسى لم يفد.

[56] و اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ اللَّهُ أو ذاك إذ قال، أو و مكر اللّه إذ قال يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي آخذك وافيا فإن معنى توفاه أخذه وافيا و يقال توفى اللّه فلان حين يأخذ روحه وافية من الوفاء و هو في أخذ الروح و الجسد أقرب إلى الحقيقة من أخذ الروح فقط فإنه

______________________________

(1) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 346

[سورة آل عمران (3): آية 56]

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)

بعلاقة الكل و الجزء أي آخذك وَ رافِعُكَ إِلَيَ فإنه عليه السّلام رفع إلى السماء الرابعة كما في بعض الأحاديث و قد يظن أن ذلك ينافي ما اشتهر في العلم الحديث من عدم وجود سماوات ذات حجوم لكنه ظن غير تام إذ السماء حتى لو كان يراد بها المدار- كما هو معناه لغة- تكون هناك سماوات و للتوضيح راجع «الهيئة و الإسلام» تأليف «العلامة الشهرستاني» وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فإنهم أرجاس أنجاس فكما أن الجسم المحاط بالنجاسة إذا غسل يطهر عنها كذلك إن الإنسان الطيب في أناس كفرة عصاة إذا أخرج من بينهم كان تطهيرا له في المعنى عن لوثهم و كفرهم وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ من النصارى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك من اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ و هذا من معاجز القرآن الحكيم فإن النصارى دائما فوق اليهود إلى يومنا هذا و سيكونون كذلك إلى يوم القيامة ثُمَّ إِلَيَّ

مَرْجِعُكُمْ جميعا أنت و أصحابك الكفار، و ذلك يوم القيامة فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من التوحيد و الشرك و من كونك نبيا و سائر الأصول و الفروع التي كنت تنادي بها و تبشر من أجلها و كان اليهود يكفرون بها.

[57] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بك و بما جئت به فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 347

[سورة آل عمران (3): الآيات 57 الى 58]

وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

بضرب الذلة و المسكنة عليهم و إنهم دائما تحت حكم أصحابك و أنه لا تقوم لهم دولة إلا بحبل من اللّه و حبل من الناس و إنهم مكروهون منفورون أبد الآبدين وَ الْآخِرَةِ بإدخالهم نارا أحاطت بهم سرادقها و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من بأس اللّه و عذابه.

[58] وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بك و بما بشرت به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مما أمرناهم به و اجتنبوا عن المحرمات، فإنه لا يقال يعمل فلان الصالحات إلا إذا اجتنب الآثام إلى جنب إتيانه بالواجبات فَيُوَفِّيهِمْ أي يعطيهم اللّه أُجُورَهُمْ كاملة غير منقوصة فإن الوفاء إعطاء المطلوب كاملا وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا بالكفر أو بعدم العمل الصالح.

[59] ذلِكَ المذكور هنا من أخبار زكريا و عيسى و يحيى و مريم عليهم السّلام نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي نقرأه عليك بسبب الوحي مِنَ الْآياتِ أي من جملة الآيات و الحجج الدالة على صدقك و أنك نبي يوحى إليه وَ من الذِّكْرِ إي القرآن الْحَكِيمِ المحكم الذي لا يتطرق إليه بطلان أو زيغ.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 1، ص: 348

[سورة آل عمران (3): الآيات 59 الى 61]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)

[60] و هنا تتهيأ النفوس لإدراك حقيقة عيسى هل كان بشرا و كيف ولد من غير أب فقال سبحانه إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ فليس ولادة عيسى من غير أب عجيبا و بدعا و لا يدل ذلك على أنه رب، فآدم أعجب منه أ ليس اللّه سبحانه خَلَقَهُ أي خلق آدم مِنْ تُرابٍ صنعه و جسده ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ إنسانا حيا فَيَكُونُ كما قال و مقتضى القاعدة أن يقال «فكان» إلا أن هذه الجملة أخذت صيغة المثالية نحو الصيف ضيعت اللبن، و لذا يؤتى بها على لفظها و قد تقدم أن كلمة «كن» تعبر عن الإرادة الأزلية لا أن في اللفظ خصوصية.

[61] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يا رسول اللّه أي أن قصة عيسى هكذا أو خلقه كذلك حق من ربك فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين فإن امترى بمعنى شك و الخطاب و إن كان للرسول لكنه عام لكل أحد، و من المعلوم أن توجيه الخطاب لا يلازم احتمال وجود الصفة، و إنما أكد البيان بجملة «فلا تكن» لكثرة الشك و التشكيك لدى الناس في مختلف شؤون عيسى عليه السّلام.

[62] فَمَنْ حَاجَّكَ و جادلك يا رسول اللّه فِيهِ أي في عيسى قائلا أنه ليس بشرا و إنما هو رب

انفصل عن الرب، و نزلت الآية في وفد نجران من المسيحيين الذين جاءوا للمجادلة مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم تنفعهم الحجة و الدليل فقرر الطرفان أن يخرجوا إلى الصحراء ليدعو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 349

[سورة آل عمران (3): آية 62]

إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)

كل من الطرفين على الكاذب فخرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الموعد مع علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام فلما رأتهم النصارى أحجموا و قال كبيرهم: إني لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة و

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة و خنازير و لاضطرم الوادي عليهم نارا، و لما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا

مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ حول قصة عيسى عليه السّلام فَقُلْ لهم يا رسول اللّه تَعالَوْا أي هلموا إلى حجة أخرى ليست محل نقاش و جدال نَدْعُ أي يدعو كل طائفة منا أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا أي من هو بمنزلة أنفسنا وَ أَنْفُسَكُمْ أي من هو بمنزلة أنفسكم، و المراد دعوة كل طرف خواصه و من يقترب إليه من الأبناء و النساء و من هو بمنزلة نفسه ثُمَّ نَبْتَهِلْ الابتهال طلب اللعنة من اللّه سبحانه أي تدعو كل طائفة على الأخرى قائلين: لعن الكاذب، و قد يستعمل الابتهال بمعنى مطلق الدعاء خيرا كان أو شرا فَنَجْعَلْ في ابتهالنا

لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ و قد أجمع المفسرون أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يخرج معه إلا ابنيه الحسن و الحسين و بنته فاطمة و ابن عمه عليا عليهم السّلام.

[63] إِنَّ هذا الذي أوحينا إليك في أمر عيسى و غيره لَهُوَ الْقَصَصُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 399

[سورة آل عمران (3): الآيات 63 الى 64]

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

جمع قصة الْحَقُ الذي لا كذب فيه و لا زيغ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ فليس عيسى إلها كما يزعم النصارى وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ في أفعاله فلا يتخذ البشر ابنا له كما يقول اليهود و النصارى.

[64] فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا مصرين على عقائدهم الفاسدة فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون عقائد الناس و أعمالهم فإنهم لا يفوتونه سبحانه بل هم بعلمه و سيجازيهم بأعمالهم و أفعالهم.

[65] و حيث انتهى السياق من قصص عيسى عليه السّلام تناول الحديث حول أهل الكتاب و انحرافاتهم للعلاقة الوثيقة بين الموضوعين فقال سبحانه قُلْ يا رسول اللّه يا أَهْلَ الْكِتابِ و المراد بهم اليهود و النصارى تَعالَوْا أي هلموا نجتمع جميعا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أي إلى كلام عدل لا ميل له و نحن جميعا نعترف به و ندع ما سوى ذلك ما لم يدل عليه دليل أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ فإن العبادة لا تجوز

إلا له إذ هو الذي خلق الكون وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من إنسان أو حيوان أو جماد كما يصفه المشركون وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أي بعض البشر أَرْباباً و آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ كاتخاذ النصارى المسيح إلها أو المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 351

[سورة آل عمران (3): الآيات 65 الى 66]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)

اتخاذ الأحبار و الرهبان آلهة في الإطاعة فيما خالف اللّه سبحانه كما قال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً «1» فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن ذلك فَقُولُوا لهم اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ للّه وحده نتبع طريقه و لا نبتغي غير الإسلام دينا.

[66] و قد كان أهل الكتاب يقولون أن إبراهيم كان على ديننا فاليهود منهم كانوا يقولون أنه عليه السّلام كان يهوديا و النصارى منهم كانوا يقولون أنه عليه السّلام كان مسيحيا فقال سبحانه في ردهم يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ أي لماذا تُحَاجُّونَ و تجادلون فِي إِبْراهِيمَ عليه السّلام و تنسبوه إلى اليهودية و النصرانية وَ الحال أنه متقدم زمانا على كلا الدينين، فإبراهيم جد موسى و عيسى و هو سابق عليهما بقرون فإنه ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ على موسى وَ الْإِنْجِيلُ على عيسى إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد إبراهيم أَ فَلا تَعْقِلُونَ أ ليس لكم عقل حتى تعرفون التاريخ.

[67] ها تفيد التنبيه أَنْتُمْ هؤُلاءِ يا معشر أهل الكتاب حاجَجْتُمْ و جادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مما تعلمون كالقبلة

______________________________

(1) التوبة: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 1، ص: 352

[سورة آل عمران (3): الآيات 67 الى 68]

ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

و نحوها فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ إذ لا تعلمون تاريخ إبراهيم و تجادلون في أنه كان يهوديا أو نصرانيا وَ اللَّهُ يَعْلَمُ تاريخ إبراهيم و دينه وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فما هذه المخاصمة و المجادلة.

[68] ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا فإنهما طريقتان متأخرتان انحرفتا عن سنن الأنبياء حتى أن المسيح و موسى عليهما السّلام لم يكونا متصفين بهاتين الملتين وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مستقيما في دينه لا منحرفا مُسْلِماً لما تقدم من أن الإسلام دين الأنبياء جميعا وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كشرك اليهود الذين جعلوا عزير ابن اللّه و شرك النصارى الذين جعلوا المسيح إلها أو ابن اللّه.

[69] كانت اليهود تقول نحن أولى بإبراهيم لأنه على ديننا و كانت النصارى تقول مثل ذلك فنزلت إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الذي يحق أن يفتخر به و يقول أنا على طريقته و أنه رئيس الملة لي لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في زمانه و بعده إذ التابع يحق له أن يفتخر برئيسه و متبوعه لا من يتبع غيره كاليهود و النصارى الذين خالفوا إبراهيم وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على «الذين اتبعوه» فإن هذا النبي و المؤمنين هم الذين اتبعوا إبراهيم و هم على ملته فإن ملته التوحيد و خلع الأنداد وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 353

[سورة آل عمران (3): الآيات 69 الى 71]

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ

الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

يلي أمورهم و ينصرهم على عدوهم.

[70] وَدَّتْ أي أحبت و رغبت طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي جماعة منهم فإن كثيرا من أهل الكتاب لم يكن يعنيهم هذه الأمور لَوْ يُضِلُّونَكُمْ عن دينكم حتى تدخلوا في دينهم أو ترجعوا كفارا وَ ما يُضِلُّونَ هؤلاء إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فإنهم بتركهم الإسلام و التزامهم أديانهم المنحرفة سببوا ضلالا لأنفسهم، أو المراد أنه لا يرجع و بال إضلالهم إلا على أنفسهم حيث يوجب ذلك لهم خزيا في الدنيا و عذابا في الآخرة وَ ما يَشْعُرُونَ أي ما يعلمون أنهم أضلوا أنفسهم أو ما شعروا بأنه رجع وبال إضلالهم إلى أنفسهم.

[71] يا أَهْلَ الْكِتابِ هم اليهود و النصارى، و المجوس و إن كانوا أهل الكتاب إلا أن هذه المباحثات كانت مع الطائفتين فقط كما يستفاد من سياق الآيات لِمَ أي لماذا تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بدلائله و حججه التي أقامها على التوحيد و الرسالة و سائر الأمور وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بلزوم الإقرار بها شهادة فيما بينكم، أو شهادة حسب كتبكم الدالة على التوحيد و رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سائر الأمور المختلف فيها.

[72] يا أَهْلَ الْكِتابِ و خطابهم بهذا الخطاب إشعار بأنهم ينبغي أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 354

[سورة آل عمران (3): آية 72]

وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

لا يكونوا كذلك إذ هم أهل العلم و

الدراية و فيهم نزل كتاب اللّه سبحانه لِمَ أي لماذا تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي تخلطون الحق بالباطل ففي أعمالكم قسم من الحق و قسم من الباطل فالإيمان بموسى و عيسى حق و الكفر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باطل و هكذا بعض كتابهم حق و بعضه الذي حرفوه باطل وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون أنه حق فقد كان علماؤهم يكتمون صفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى لا يميلوا نحوه و تذهب رئاستهم.

[73] و قد صدرت مكيدة من أهل الكتاب لتضليل الناس و أن لا يتعلقوا بدين الإسلام، حيث يظهرون عملا يصورهم عند الناس في صورة المنصف و أنهم إنما لم يتبعوا الإسلام لأنهم لم يجدوه حقا وَ قالَتْ طائِفَةٌ أي جماعة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بعضهم لبعض آمِنُوا أي أظهروا الإيمان بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي بالقرآن وَجْهَ النَّهارِ أي أول الصبح، فقولوا إنا آمنا بمحمد و كتابه لأنا وجدناه في كتبنا وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ أي آخر النهار فقولوا بعد أن آمنا رجعنا إلى صفات محمد ثانيا فوجدناها ليست كما ذكر في كتابنا، فإن هذا العمل يريكم في أعين الناس منصفين حيث آمنتم بمحمد بمجرد علمكم بحقيقته، و إنما رجعتم حيث ظهر لكم عدم الحقيقة، فتوهمون الناس أنكم منصفون صادقون تريدون الحق لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 355

[سورة آل عمران (3): آية 73]

وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)

العمل الخداعي يسبب رجوع المسلمين

عن إسلامهم حيث يوجب ذلك تشكيكا لهم.

[74] وَ لا تُؤْمِنُوا أي لا تظهروا الإيمان إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ فإيمانكم وجه النهار يكون عند أهل الكتاب لا عند المسلمين، أو لا تؤمنوا إيمانا صادقا من قلوبكم إلا لأهل الكتاب، فلا تؤمنوا للمسلمين، و معنى الإيمان لمن تبع دينهم أنهم يؤمنون بمثل ما آمن أهل الكتاب قُلْ لهم يا رسول اللّه إِنَّ الْهُدى الحقيقي هُدَى اللَّهِ لا هذا الهدى الاصطناعي الذين تريدون به خداع أصحابكم و المسلمين فلسنا في حاجة إلى هداكم كما لا نخاف من إضلالكم فإن اللّه إذا هدى شخصا لا يرجع بخداعكم، ثم يرجع السياق إلى كلام اليهود بعضهم لبعض، و لا تؤمنوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ فإنما أوتيتم أيها اليهود هو خير مما أوتي غيركم فلا يكن إيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيمانا عن قلب أو صدق أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي لا تؤمنوا أن يحاجكم المسلمون عند ربكم بمعنى أنه لا يمكن أن يكون ذلك إذ المحاجة لا تكون من المبطل- و المسلم مبطل بزعمهم- قُلْ يا رسول اللّه ردا على قولهم «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ فأي مانع من أن يعطي المسلمين مثل ما أعطى اليهود و أفضل منه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ الفضل لا ينفد فضله بإعطائه لأحد عَلِيمٌ بمصالح الخلق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 356

[سورة آل عمران (3): الآيات 74 الى 75]

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)

يعلم حيث يجعل رسالته.

[75] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ من عباده وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فإن فضله يبتدئ بالخلق و ينتهي إلى حيث لا قابلية فوقه.

[76] و قد جمع بعض أهل الكتاب إلى تلك الرذائل السابقة رذيلة الخيانة وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي بعض أهل الكتاب- و المراد به من آمن منهم كعبد اللّه بن سلام- مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ أي تجعله أمينا على قنطار من مال لا يخونه بل يؤديه إليك عند المطالبة، و قد ورد أن عبد اللّه بن سلام أودعه رجل ألفا و مائتي أوقية من ذهب فأداه إليه فمدحه اللّه بهذه الآية وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ أي تجعله أمينا على مال قليل كدينار لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ عند المطالبة فإن رجلا من قريش استودع «فخاص» دينارا فخانه و لم يرده إليه إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً بالضغط و الإلحاح و المراقبة ذلِكَ الاستحلال و الخيانة منهم لأموال الناس بسبب أنهم أي الخائن من أهل الكتاب قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي لا سبيل و لا غضاضة علينا في استحلالنا أموال الأميين أي العرب حيث أنهم خرجوا عن دينهم أي غير الشرك و قد أودعونا حال شركهم فإذا رفضوا طريقتهم إلى الإسلام سقط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 357

[سورة آل عمران (3): الآيات 76 الى 77]

بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا

يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)

حقهم كذا كانوا يقولون و ينسبونه إلى كتبهم وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فإنه ليس ذلك في كتبهم، بل اللازم أداء الأمانة إلى البر و الفاجر وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم يكذبون على اللّه و أن عدم الأداء خيانة و رذيلة.

[77] بَلى فيه نفي لما قبله و إثبات لما بعده أي لم يجز اللّه الخيانة بل أوجب الأداء ف مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ و أدى الأمانة التي عنده وَ اتَّقى من عذاب اللّه في الخيانة و غيرها فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ لا الخائنين الكاذبين.

[78] إِنَ من يأكل الأمانة و يكذب على اللّه فقد باع دينه بثمن قليل و الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بمقابل عهد اللَّهِ الذي هو الكتاب و الدين وَ ب أَيْمانِهِمْ أي أقسامهم الكاذبة التي يحلفون بها لأجل الباطل ثَمَناً قَلِيلًا و قد تقدم أن الأمور الدنيوية مهما عظمت فإنها قليلة بالنسبة إلى الآخرة أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم من رحمة اللّه و جنته في الآخرة وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ كلام لطف و حنان و هو كناية عن غضب اللّه عليهم كما أن من غضب على شخص لا يكلمه وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أي لا يعمهم بلطفه و إحسانه و هو كناية أخرى عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 358

[سورة آل عمران (3): آية 78]

وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78)

الغضب كالذي يغضب على شخص فلا ينظر إليه يَوْمَ الْقِيامَةِ ذلك اليوم الذي يحتاج كل أحد إلى فضله

و إحسانه تعالى وَ لا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من الدنس فإن قلب الخائن الكاذب أقذر ما يكون فلا يشمله اللّه سبحانه بلطفه الخاص الذي يلطف به على المؤمنين وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع.

[79] وَ إِنَّ مِنْهُمْ أي بعض أهل الكتاب لَفَرِيقاً أي جماعة يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي يطوون ألسنتهم عند قراءة الكتابة و طي لسانهم إنما هو بالزيادة و النقيصة فكما أن ليّ الشي ء يخرجه عن الاستقامة بالزيادة في جانب و النقيصة في جانب كذلك ليّ اللسان بالكتاب، فإنهم أضافوا على التوراة و الإنجيل في مواضع و نقصوا منهما في مواضع لِتَحْسَبُوهُ أيها المسلمون مِنَ الْكِتابِ فيكون شاهدا لأباطيلهم المخترعة وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ بل من إضافاتهم و تحريفاتهم وَ يَقُولُونَ هُوَ ما يتلونه باسم الكتاب مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تعالى وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بل من مخترعاتهم الكاذبة وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في نسبتهم ذلك التحريف إليه سبحانه وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنه ليس من الكتاب و أنهم كاذبون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 359

[سورة آل عمران (3): آية 79]

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

[80] و حيث أنه كان من أظهر تلك التحريفات تحريفهم حول المسيح عليه السّلام و ادعائهم أنه شريك مع اللّه و أن ذلك موجود في كتابهم، ردهم اللّه سبحانه بأن ذلك مستحيل في حق المسيح، لأن اللّه سبحانه لا يعطي النبوة لرجل كاذب يدعي لنفسه الربوبية فإنه ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ أي يعطيه الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ بين

الناس وَ النُّبُوَّةَ و الرسالة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أي اعبدوني دونه سبحانه، أو المراد اعبدوني معه، فإن عبادة الشريك عبادة لمن دون اللّه، و لأن الشرك معناه عدم عبادة اللّه إطلاقا إذ اللّه لا شريك له، فمن له شريك ليس هو بإله، و في بعض التفاسير أن سبب نزول هذه الآية أن يهوديا سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك و نزلت الآية وَ لكِنْ اللازم على الرسول أن يقول للناس كُونُوا رَبَّانِيِّينَ منسوبين إلى الرب ترشدون الناس إلى التوحيد و تعبدون إلها واحدا بسبب ما كُنْتُمْ أي كونكم تُعَلِّمُونَ للناس الْكِتابَ الذي أخذتموه من نبيكم وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أي بسبب درسكم إياه يعني أن الرسول يقول للناس إنكم بسبب كونكم علماء معلمين مدرسين يجب أن تكونوا ربانيين منسوبين إلى الرب فقط لا إلى غيره من الأنداد و الشركاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 360

[سورة آل عمران (3): الآيات 80 الى 81]

وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

[81] وَ لا يكون للنبي أن يَأْمُرَكُمْ عطف على «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ» أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً فإن ذلك محال إذ من يختاره اللّه للرسالة لا يأمر بالكفر أَ يَأْمُرُكُمْ أي هل يأمركم النبي بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أسلمتم بإيمانكم بالنبي، و هذا استفهام

إنكاري أي لا يكون ذلك أبدا فقد أخرجكم النبي من الكفر إلى الإسلام فكيف يأمركم بالكفر ثانيا بأن تتخذوه شريكا للّه.

[82] و إذ تم الكلام حول عيسى و أنه ليس بشريك للّه سبحانه رجع السياق إلى نبي الإسلام و أنه النبي بعد عيسى عليه السّلام، وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ عهدهم المؤكد لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ «ما» بمعنى «مهما» أي أخذ اللّه عهد النبيين أنه مهما أعطاه اللّه الكتاب و الحكمة و الرسالة ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ يراد به نبي الإسلام، أو كل نبي يأتي بعدهم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هذا جواب «مهما» فاللّه سبحانه كان يأخذ من النبيين الميثاق أنه مهما أعطى أحدهم الرسالة فإن عليه أن يؤمن برسول الإسلام، أو عليه أن يؤمن بالرسول الذي يتلوه و أن يناصره و يعاضده، و في الوجه الأول إفادة أن الأنبياء جميعا أقروا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و اعترفوا به و آمنوا به و في الوجه الثاني إفادة أن كل رسول كان يؤمن بالرسول الذي يأتي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 361

[سورة آل عمران (3): آية 82]

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)

من بعده حتى أن الأنبياء كلهم كسلسلة واحدة يؤمن سابقهم بلاحقهم و يصدق لاحقهم سابقهم وَ لَتَنْصُرُنَّهُ و معنى نصرة النبي السابق للاحق أن يأخذ له العهد من أمته قالَ اللّه تأكيدا لأخذ الميثاق أَ أَقْرَرْتُمْ أي هل أقررتم أيها الأنبياء باستعدادكم للإيمان بالرسول و نصرته وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ الإيمان بالرسول و نصرته إِصْرِي أي عهدي الأكيد من أممكم حتى يؤمنوا بالرسول و ينصروه قالُوا أي قالت الأنبياء في جواب اللّه

سبحانه أَقْرَرْنا بذلك و أخذنا الأمر قالَ اللّه سبحانه لهم فَاشْهَدُوا بذلك على أممكم أي كونوا شهداء عليهم حتى نحتج على المخالف يوم القيامة بشهادتكم وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فإني أيضا شهيد عليهم بأنهم أقروا بأن يؤمنوا بالرسول و ينصروه، و

قد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه لم يبعث اللّه نبيا آدم و من بعده إلا أخذ عليه العهد بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمره بأخذ العهد بذلك من أمته «1».

[83] فَمَنْ تَوَلَّى و أعرض عن الإيمان و النصرة بَعْدَ ذلِكَ العهد الذي أخذه نبيه منه فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن إطاعة اللّه سبحانه حيث نقضوا العهد و خالفوا الوعد.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 362

[سورة آل عمران (3): الآيات 83 الى 84]

أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

[84] إن عدم الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلاف عهدهم أولا و خلاف الواجب عليهم ثانيا أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ أي يطلبون و يريدون غير دين اللّه و دين الإسلام الذي ثبت بالآيات و الحجج وَ لَهُ أي للّه أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكل شي ء في الكون خاضع له سبحانه منقاد لأمره فما بال هؤلاء يخالفون دين اللّه الذي أذعن له كل الكون طَوْعاً

وَ كَرْهاً فإن ذوي العقول من الملائكة و نحوه أسلم للّه طوعا و الجمادات أسلمت كرها بمعنى أنها مستمرة حسب مشيئة اللّه سبحانه وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي إلى حكمه و أمره و ثوابه و عقابه يرجعون عند الموت أو في القيامة.

[85] هنا يأتي دور إظهار الأمة المسلمة إيمانها بجميع الأنبياء، فإنه مقتضى وحدة الرسالات و مقتضى ما سلف من إيمان كل سابق باللاحق و تصديق كل لاحق للسابق قُلْ يا رسول اللّه صيغة الإيمان التي يجب الاعتراف بها على كل أمتك آمَنَّا بِاللَّهِ إلها واحدا وَ ب ما أُنْزِلَ عَلَيْنا من القرآن الحكيم و سائر الأحكام وَ ب ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ أولاد يعقوب الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 363

[سورة آل عمران (3): الآيات 85 الى 86]

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)

كانوا أنبياء وَ ب ما أُوتِيَ أي أعطي مُوسى من التوراة وَ عِيسى من الإنجيل وَ بما أعطي النَّبِيُّونَ مِنْ قبل رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الأنبياء لا كاليهود الذين لم يؤمنوا بعيسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا كالنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه مُسْلِمُونَ منقادون فيما أمرنا و نهانا.

[86] وَ مَنْ يَبْتَغِ يطلب و يريد غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً من الأديان السماوية أو المفتعلة فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ أبدا في الدنيا

بل تجري عليه أحكام الكفار وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم و أموالهم و أهليهم جميعا.

[87] إن الذين أدركوا حقيقة وحدة الرسالات و حقيقة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دين الإسلام ثم أنكروا و عاندوا فقد ظلموا أنفسهم و أبعدوها عن لطف اللّه و هدايته فلا يلطف بهم اللّه لطفا خاصا و لا يهديهم بل يتركهم في ظلمات كفرهم كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ و المراد بالإيمان علمهم بحقيقة الرسول الإيمان في الظاهر، إلا إذا أخذنا بما ورد في بعض التفاسير و الروايات من أنها نزلت في رجل آمن ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من يسأله عن قبول توبته فأجاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 364

[سورة آل عمران (3): الآيات 87 الى 89]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

بالإثبات فتاب و حسن إسلامه، و لذا استثنى في آخر الآيات «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ شهادة واقعية و إن لم يظهروها و لم يلتزموا بلوازمها وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حقيقة ما جاء به وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يلطف بهم اللطف الخاص الذي يلطف به بمن استقام و لم يظلم نفسه.

[88] أُولئِكَ الذين كفروا بعد إيمانهم جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ بإبعادهم عن

رحمته و مغفرته و ثوابه وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فإنهم يدعون عليهم بالعذاب و يلعنونهم.

[89] خالِدِينَ فِيها أي يخلدون في اللعنة و الطرد أبد الآبدين لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي لا يسهل عليهم لأنهم بكفرهم استحقوا العقاب الدائم وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت، أو لا ينظر إليهم.

[90] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن كفرهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر بأن آمنوا وَ أَصْلَحُوا في أعمالهم أي عملوا الصالحات فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 365

[سورة آل عمران (3): الآيات 90 الى 91]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)

لكفرهم و ذنوبهم رَحِيمٌ بهم فلا يؤاخذهم بسيئاتهم.

[91] هذا حال من آمن بعد ارتداده و تاب، أو آمن بعد علمه بالحق و كفره، أما من بقي على كفره بعد الإيمان فجزاؤه ما يأتي إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ بالنبي و بما جاء به ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً فإن الكافر ببقائه على الكفر يزداد كفرا فإن كل ساعة يكون كافرا فيها يكون أكثر كفرا من الساعة المتقدمة، أو المراد ازدياد الكفر باستحكامه فإن الإنسان كما يزداد إيمانا كلما رأى آيات اللّه كذلك يزداد كفرا كلما أعرض عما يراه من الآيات لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ التي تأتي منهم حال الاحتضار فإن المحتضر حيث يرى حقيقة الإيمان يتوب في قلبه و يندم و لكن لا تقبل توبته كما قال سبحانه وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا

حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «1» وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ الذين ضلوا طريق الحق في الدنيا و عذبوا في الآخرة.

[92] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ ممن لم يتب حتى في حال الاحتضار كما قال سبحانه وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ «2» بعد الآية

______________________________

(1) النساء: 19.

(2) النساء: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 366

[سورة آل عمران (3): آية 92]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

السابقة: «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ» أو المراد التعقيب على «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» أي أن أولئك الذين لم تقبل توبتهم في الدنيا لا ينجون من عذاب اللّه يوم القيامة بإعطاء الفدية فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً أي مقدار ما يملأ الأرض من الذهب وَ لَوِ افْتَدى بِهِ لا ينفعه أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم و موجع وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من عذاب اللّه و سخطه.

[93] و حيث جرى حديث الإنفاق و أنه لن يقبل من الكافر يوم القيامة ناسب السياق بيان حكم الإنفاق و أنه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تدركوا النفع الذي تأملونه من رضى اللّه و ثوابه و الجنة و خير الدنيا و غيرها حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ لا أن تنفقوا ما لا تحبون كإنفاق ما تعانيه النفس كما قال سبحانه وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا «1» وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ قليل أو كثير في مختلف أصناف الأشياء فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم على قدره.

______________________________

(1) البقرة: 268.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 367

تقريب القران الى الأذهان الجزء الرّابع من آية (94) من سورة آل عمران إلى (24) من سورة النساء

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 368

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 369

[سورة آل عمران (3): الآيات 93 الى 94]

كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)

[94] يرجع السياق هنا إلى ما كانت الآيات بصدده من أحوال أهل الكتاب في أصولهم و فروعهم و عنادهم و جدالهم، و في بعض التفاسير أنهم أنكروا على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحليل لحم الجزور و ادعوا تحريمه على إبراهيم عليه السّلام و أن ذلك مذكور في التوراة فأنزل الله سبحانه ردا عليهم هذه الآية كُلُّ الطَّعامِ أي كل المأكولات، و المراد ب «الكل» الإضافي في مقابل ما أدعوا تحريمه كانَ حِلًّا أي حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ اليهود إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أي يعقوب عليه السّلام عَلى نَفْسِهِ و هو لحم الإبل كان إذا أكله هيّج عليه «الخاصرة» فحرمه على نفسه. و كان ذلك مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ على موسى عليه السّلام فليس تحريمه على إسرائيل دليلا على بقائه على الحرمة فإن التوراة لما نزلت لم تحرمه فلما ذا تقولون أيها اليهود بحرمته قُلْ يا رسول اللّه لهم: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها حتى يظهر أنه لم تحرمه التوراة كما ذكرت لكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أن التوراة حرمت الإبل، لكنهم لم يأتوا بالتوراة، فتبين كذبهم، و قد كان اليهود يظنون أن الرسول- لأنه أمي- لا علم

له بالتوراة فلهذا كانوا ينسبون إلى التوراة أشياء، لكن الوحي كان يفضحهم.

[95] فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ البرهان الدال على عدم تحريم التوراة فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم بمنعها عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 370

[سورة آل عمران (3): الآيات 95 الى 96]

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96)

الهداية و ظلموا غيرهم بمنعهم عن الحق.

[96] قُلْ يا رسول الله لليهود صَدَقَ اللَّهُ فيما نقلت لكم من عدم تحريم الجزور و كذبتم أنتم، بل تبيّن أن كل الطعام كان حلّا فَاتَّبِعُوا أيها اليهود مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي مستقيما، و ملة إبراهيم تحلّل كل الطعام وَ ما كانَ إبراهيم عليه السّلام مِنَ الْمُشْرِكِينَ دحض لافتراء آخر من أهل الكتاب حول إبراهيم عليه السّلام، حيث كانوا يقولون أنه كان يهوديا أو نصرانيا- و كلاهما مشرك- ففي السابق نقل افتراءهم بالنسبة إلى الله في قصة الطعام، و هنا نقل افتراءهم على أنبيائه بالشرك.

[97] إن أهل الكتاب دحضت حجتهم في باب التحليل و التحريم، و دحضت حجتهم في باب دين إبراهيم، كما دحضت حجتهم من ذي قبل في سائر الشؤون التي ناقشوا فيها، و بقيت الآن لهم حجة أخرى هي: أن بيت المقدس أشرف من الكعبة، و أنه محل الأنبياء، فالقرآن يدحض حجتهم هذه بأن الكعبة هي أشرف لأنها أول بيت وضع للناس، و لأن إبراهيم عليه السّلام الذي تنتسبون إليه هو الذي بناها، و لأن الحج شرّع إليها إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي بني لأجل انتفاع الناس دينا و دنيا، فإن الأرض دحيت من تحته، و

لم يكن قبله بيت مبنيّ لَلَّذِي اللام للتأكيد أي هو البيت الذي بِبَكَّةَ و هو اسم آخر لمكة، و سميت بكة لازدحام الناس في الطواف و نحوه هناك، فإن بكّ يبكّ بمعنى «زحم يزحم» مُبارَكاً أي كثير البركة و الخير فإن فيه خير الدنيا، حيث الألفة و الاجتماع و الاقتصاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 371

[سورة آل عمران (3): آية 97]

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)

و غيرها، و خير الآخرة حيث غفران الذنوب و رفع الدرجات وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ أي سببا لهدايتهم فإنه مذكّر بالله سبحانه و فيه ذكريات أنبيائه و معالم عبادته.

[98] فِيهِ أي في ذلك البيت آياتٌ بَيِّناتٌ أي دلالات واضحات على التوحيد و النبوة و نصرة الإسلام مَقامُ إِبْراهِيمَ أي موضع قدمه حيث كان هناك حجر يضعه إبراهيم و يصعد عليه لبناء أعالي الكعبة حتى رسخت قدماه في ذلك الحجر، فإنه آية واضحة من آيات الله سبحانه، و خصّ بالذكر لأهميته و تقديرا لإبراهيم الذي ضحّى بكل ما لديه في سبيل الله سبحانه وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً إما ابتداء، أو عطف أي أن من آيات البيت أنه سبحانه جعله حرما آمنا فمن دخله فهو آمن على عرضه و ماله و دمه لا يمسّ بسوء و إن كان مجرما يستحق العقاب و الحد وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي يجب على الناس أن يحجوا إلى البيت مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي من وجد إليه طريقا و ذلك بأن يكون له ما يكفيه ذهابا و إيابا لنفسه و لعائلته و

يرجع إلى الكفاية، مع أمن الطريق و صحة الجسم، إلى غير ذلك من الشروط المذكورة في الفقه «1» وَ مَنْ كَفَرَ فلم يحج مع الاستطاعة، و قد تقدم أن الكفر قسمان: كفر في الاعتقاد و هو إنكار أصل من أصول الدين، و كفر في

______________________________

(1) راجع موسوعة الفقه/ ج 38.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 372

[سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 99]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

العمل و هو ترك واجب أو فعل محرّم. و قد كثر في القرآن و الحديث استعمال الكفر بهذا المعنى فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فلا يظن العاصي أن كفره يضر الله شيئا.

[99] و يرجع السياق إلى أهل الكتاب قُلْ يا رسول الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أدلته الواضحة الدالة على نبوة نبي الإسلام و ما جاء به، الذي هو منه شؤون بيت الله الحرام وَ اللَّهُ شَهِيدٌ أي يشهد و يعلم عَلى ما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليها.

[100] قُلْ يا رسول الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي تمنعون الناس عن الإيمان باللّه، فإن أهل الكتاب كانوا يرصدون لمن يريد الإيمان فيمنعونه، و كانوا يلقون الشكوك حول الإيمان و المؤمنين مَنْ آمَنَ مفعول «تصدون» أي تمنعون من آمن عن سبيل الله، و على هذا فالصد هنا خاص بالمؤمنين إلا أن يراد ب «من آمن» الأعم من المؤمن و من يريد الإيمان تَبْغُونَها أي تطلبون السبيل عِوَجاً منحرفا لا سبيلا مستقيما، أو تطلبون سبيل

الله عوجا، أي تريدون أن تكون السبيل عوجا بإدخال الشكوك عليها، و العوج مفرد بمعنى الميل و الانحراف وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ في واقع الأمر و إقرار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 373

[سورة آل عمران (3): الآيات 100 الى 101]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

نفوسكم على عملكم الباطل وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل مطّلع عليه عالم به، و سيعاقبكم عليه.

[101] و حيث تقدم أن أهل الكتاب يصدّون من آمن عن سبيل الله، خاطب سبحانه المؤمنين أن لا يسمعوا إلى أهل الكتاب حتى يضلوا بتشكيكاتهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً جماعة مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أعطوا التوراة و الإنجيل يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ أي يرجعونكم كفارا بعد أن آمنتم، و إنما خصّ فريقا لأن أهل الكتاب لم يكونوا جميعهم سبب إضلال المؤمنين و إرجاعهم عن الإيمان.

[102] وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ أيها المؤمنون بعد الإيمان وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ فإنكم قد عرفتم آيات اللّه و دلائله و علمتم ذلك و مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يكفر وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ الذي يدعو إليه بالبراهين و المعاجز، و هذا استفهام إنكاري تعجبي، جي ء به إبعادا لهم عن الكفر و إلفاتا لهم إلى الرصيد الإيماني الموجود عندهم وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي يتمسك بآيات اللّه و كتابه و دينه و رسوله، فلا ينخرط إلى الشرك و الكفر و العصيان فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في الدنيا حيث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 374

[سورة

آل عمران (3): الآيات 102 الى 103]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

يوصله إلى حياة حرة كريمة مرفهة المرافق، و في الآخرة حيث يسعده في جنات النعيم.

[103] كانت الجماعات المنضوية تحت لواء الإسلام بما فيهم الأوس و الخزرج معرضة للتطاحن و التشاحن و قد كان الكفار و أهل الكتاب يستغلون سوابق هؤلاء و طبيعة النفس البشرية في إلقاء الفتن و التفرقة بينهم ليفتحوا ثغرة للنزاع بين أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لذا نصحهم القرآن بأن يبقوا على وحدتهم و أن لا يتفرقوا و يتقوا اللّه فيما أمر و نهى و لا يطيعوا أهل الكتاب في أقوالهم المفرّقة و دسائسهم المشتتة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه فأطيعوه فيما أمركم و نهاكم حَقَّ تُقاتِهِ من «وقيت» أي كما يحق أن تتقوه، فإن التقوى من اللّه سبحانه أمر صعب جدا، إذ يلازم الإنسان في جميع شؤونه و أحواله وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فلا يغرنكم الشيطان بأن يخرجكم من الإيمان حتى تموتوا كافرين. و لعل المناسبة بين الجملتين أن من لا يتقي ينجر آخر أمره إلى الكفر كما قال سبحانه: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1».

[104] وَ اعْتَصِمُوا أي تمسكوا بِحَبْلِ اللَّهِ و حبل اللّه دينه و قرآنه، شبّه بالحبل لمناسبة أن من يتمسك بالحبل لا

بد و أن يرتفع به إلى الأعلى، و كذلك من يتمسك بالإيمان يصعد به في الدنيا إلى المراتب الراقية و في

______________________________

(1) الروم: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 375

الآخرة إلى جنات خالدة جَمِيعاً أي جميعكم لا بعضكم دون بعض.

وَ لا تَفَرَّقُوا بأن يتمسك البعض بحبل اللّه و البعض بحبل الشيطان، و هذا تأكيد لقوله «جميعا» وَ اذْكُرُوا أي تذكروا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قبل الإسلام يعادي بعضكم بعضا فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ جعلها قريبة بعضها إلى بعض، حيث أدخل الإيمان فيها فخرج ما كان فيها من الضغينة و الإحن و الحسد و العداوة فَأَصْبَحْتُمْ أيها المسلمون بِنِعْمَتِهِ أي بسبب نعمة الألفة التي وهبها اللّه إليكم إِخْواناً أحدكم أخ الآخر في الإيمان، له ما لأخيه و عليه ما عليه.

و أن هذه النعمة قد خرقت المقاييس الجاهلية القبلية و العشائرية و العرقية و ما أشبهها.

وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ الشفا: الطرف، و الحفرة المكان المحفور من الأرض، أي كنتم أيها المسلمون على طرف حفرة من النار، نار الدنيا و هي العقوبات و الاضطرابات، و نار الآخرة التي أوقدت لكم فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإسلام الذي نظّم أمور دنياكم و أخراكم، حتى لا تقعوا فيها كَذلِكَ أي كما بين لكم هذه الأمور واضحة و جلية يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ دلالاته و حججه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 376

[سورة آل عمران (3): الآيات 104 الى 105]

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)

إلى الحق و إلى

طريق مستقيم.

و ما ورد في بعض الأحاديث أن المراد من حبل اللّه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أو الأئمة عليهم السّلام أو القرآن «1»، فإنما هي مصاديق جلية.

[105] و حيث أنقذكم اللّه من الهلاك، و هداكم فمن الجدير أن تهدوا سائر الناس وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ أي يجب أن يكون منكم جماعة يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ كل خير من الإسلام و الدين و الأحكام و غيرها وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ و المعروف كل فعل استحسنه الشرع أو العقل سواء وصل إلى حد الوجوب أم إلى حد الندب، و إنما سمي معروفا لأن الناس يعرفونه وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هو بعكس المعروف، كل ما استقبحه الشرع أو العقل، و سمي منكرا لأن الناس ينكرونه وَ أُولئِكَ الذين يتصفون بهذه الصفات الثلاثة هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون الناجون.

[106] وَ لا تَكُونُوا أيها المسلمون بعد الألفة و الأخوّة كَالَّذِينَ من قبلكم تألفت قلوبهم بسبب الأنبياء ثم تَفَرَّقُوا شيعا و أحزابا و مذاهب و مبادئ وَ اخْتَلَفُوا فأخذ كل فريق منهم جانبا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحة على وحدة العقيدة و المبدأ و أركان الإيمان

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1 ص 194 و بحار الأنوار: ج 36 ص 15 باب 27، أنه (صلوات اللّه عليه) حبل اللّه و العروة الوثقى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 377

[سورة آل عمران (3): الآيات 106 الى 107]

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)

وَ أُولئِكَ الذين اختلفوا و خالفوا الحق منهم لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ حيث بدّلوا و غيّروا و حرّفوا.

[107]

ثم بين سبحانه أن ذلك العذاب العظيم في أي وقت يكون؟ إنه يكون في يَوْمَ هذه صفته تَبْيَضُ فيه وُجُوهٌ هي وجوه المؤمنين الذين آمنوا و عملوا الصالحات و ابيضاض الوجه كناية عن فرحه و نضارته و تنعّمه وَ تَسْوَدُّ فيه وُجُوهٌ هي وجوه الكافرين، و اسودادها حقيقة، فإن الوجه عند الهمّ الكبير يميل لونه إلى السواد و الكدرة لتهاجم الدم و نحوه، أو كناية عن كلوحه و بؤسه و همومه فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يقال لهم: أَ كَفَرْتُمْ على نحو الاستفهام التوبيخي بَعْدَ إِيمانِكُمْ إما أن يراد ب «الإيمان» الإيمان الحقيقي بأن يكون المراد منهم الذين اختلفوا و تفرقوا و ارتدوا بعد الإيمان، و إما أن يراد به الإيمان الفطري فإن كل إنسان مؤمن فطرة كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة و إنما أبواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه» «1»

فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم.

[108] وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ و هم المؤمنون الذين عملوا

______________________________

(1) عدة الداعي: ص 332.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 378

[سورة آل عمران (3): الآيات 108 الى 110]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)

الصالحات فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ ثوابه و رضوانه و جنته هُمْ فِيها خالِدُونَ أبد الآبدين.

[109] تِلْكَ الأمور التي ذكرت في أحوال المؤمنين و الكافرين و غيرها آياتُ اللَّهِ علائمه و دلائله

و حججه نَتْلُوها عَلَيْكَ يا رسول اللّه بِالْحَقِ فإن التلاوة قد تكون بالباطل إذا كان المتلوّ أو الغرض من التلاوة باطلا وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أي لا يريد أن يظلم أحدا. فقد تقرر في علم الكلام أن إرادة الظلم- كالظلم نفسه- قبيحة، فما يصير إليه حال الكافرين من اسوداد الوجه ليس ظلما لهم، و إنما يكون بالعدل و جزاء لعملهم.

[110] وَ كيف يريد اللّه ظلما و الحال أنه لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و الظلم ينشأ من الافتقار و هو الغني المطلق وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أمور الخلق فإن اللّه سبحانه يعيد المخلوق ليجازيه، و هذا تشبيه بالرجوع المادي «في الدنيا» الذي يكون بين الحاكم و المحكوم حيث يساق المحكوم نحو الحاكم ليحكم عليه، و حيث أن الأمر يرجع إلى اللّه فلا يظن الكافر أنه يتمكن من الفرار عنه سبحانه حتى لا يعاقب بما عمل من السيئات.

[111] و يرجع السياق هنا إلى ما تقدم من لزوم الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كُنْتُمْ أيها المسلمون، و «كان» لمجرد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 379

الربط، لا بمعنى الماضي خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي خير جماعة ظهرت للناس فإن كل أمة تظهر للناس في فترة ثم تختفي و تغيب لتأخذ مكانها أمة أخرى. و إنما كان المسلمون خير أمة لخصال ثلاثة بها تترقى الأمم إلى أوج عزّها هي: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فإن المجتمع إذا خلا من هذين الواجبين أخذ يهوي نحو السّفل لما جبل عليه من الفساد و الفوضى و الشغب، فإذا تحلّى المجتمع بهذين الأمرين أخذ يتقدم نحو الكمال بمدارج الإنسانية و الحضارة

الحقيقية حتى يصل إلى قمة البشرية وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا لا كإيمان أهل الكتاب و المشركين، و الإيمان الصحيح باللّه رأس الفضائل فإنه مع قطع النظر عن كونه إدراكا لأعظم حقيقة كونية فإنه محفّز شديد نحو جميع أنواع الخير و منفّر قوي عن جميع أصناف الشر وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ إيمانا صحيحا بعدم الشرك و قبول قول اللّه سبحانه في نبوة نبي الإسلام محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَكانَ إيمانهم خَيْراً لَهُمْ في دينهم و دنياهم حتى تنظم دنياهم على ضوء الإسلام فتخلو من الجهل و المرض و الفقر و الرذيلة و يكونون في الآخرة سعداء ينجون من عذاب اللّه، و ليس المراد ب «خير» معنى التفضيل بل هو تعبير عرفي، حيث يظهر للناس أنهم في خير في الجملة، و على هذا يكون إيمانهم أكثر خيرا و أفضل.

ثم بين سبحانه أن ليس كل الذين كانوا من أهل الكتاب بقوا على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 380

[سورة آل عمران (3): الآيات 111 الى 112]

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112)

طريقتهم فإن مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بالله و بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بما جاء به كالنجاشي و ابن سلام و غيرهما وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه باتباع أهوائهم المضلّة و طرائقهم الزائفة.

[112] و لقد كان كفار أهل الكتاب يؤذون المؤمنين

منهم خاصة و سائر المؤمنين عامة و كان المؤمنون من حيلهم و مؤامراتهم في قلق و اضطراب، و لذا هدأ اللّه سبحانه من روع المؤمنين بقوله: لَنْ يَضُرُّوكُمْ أي لن يضر أهل الكتاب إياكم أيها المؤمنون إِلَّا أَذىً يسيرا فإن مؤامراتهم تفشل و حيلهم تخسر و لا تبقى إلا تشويشات و إشاعات و هي مما لا تضر ضررا معتدا به، أما ما يظن المسلمون أن أهل الكتاب يتمكنون من اقتلاع جذورهم و إبادة دينهم فلن يكون ذلك أبدا بل المسلمون هم المنصورون وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ جمع دبر و هو الظهر، أي ينهزمون فارين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي لا تنصرهم أقوالهن، لما ألقي في قلوبهم من رعب الإسلام و خوف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان مصب الآية الكريمة اليهود فهم المعنيون بهذا الكلام بقرينة الآية التالية.

[113] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي ضربها اللّه عليهم فهم أذلاء إلى الأبد و هي ثابتة لهم و محيطة بهم، و أية ذلة أعظم من أنه ليست لهم دولة مستقلة و هم مهانون دائما، و جميع الدول تطاردهم إلا في ظرف مصلحتها الخاصة فهم كالعبيد المسخرين إن استفاد مولاهم أطعمهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 381

و إلا طردهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي وجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أي إلا إذا تمسكوا بحبل اللّه تعالى بالإيمان به و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بما جاء به حتى يكونوا كالمسلمين لهم ما لهم و عليهم ما عليهم وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي تمسكوا بحبل دولة قوية تحميهم، و «الواو» للتقسيم- نحو: الكلمة اسم و فعل و حرف- لا للجمع وَ باؤُ رجعوا

بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فكأن الناس جاءوا للاغتراف من مناهل الإسلام و كانت اليهود فيهم فالناس رجعوا بالإسلام و حب اللّه سبحانه و هؤلاء رجعوا بالكفر و غضب اللّه تعالى وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي الفقر الروحي الذي هو أعظم أقسام المسكنة فإن أرواحهم تهفو إلى المادة أكثر من روح أي فقير مسكين و هم على ثروتهم الظاهرة من أفقر الخلق نفسا و روحا ذلِكَ العقاب الدنيوي لهم بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فموسى عليه السّلام نبيهم كان منهم في نصب و تعب فإنهم ما خرجوا من البحر إلا قالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، و اتخذوا العجل، و آذوا موسى إلى غير ذلك وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ أي كانوا يقتلونهم، و «بغير حق» تأكيد، إشارة إلى أنه لم يكن لهم حق في قتلهم حتى ظاهرا، فإنهم يقتلون الأنبياء لمجرد الدعوة إلى اللّه و الإرشاد و الوعظ، لا لأنهم قتلوا منهم أحدا أو نهبوا مالا أو نحو ذلك- و إن كان الأنبياء لو فعلوا ذلك كان بأمر اللّه و بالحق- لكن الأنبياء عليهم السّلام لم يكونوا فعلوا ذلك- كما

قال الإمام الحسين عليه السّلام: «فبم تستحلون دمي ..؟ أعلى قتيل قتلته منكم

- إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 382

[سورة آل عمران (3): الآيات 113 الى 114]

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)

آخر كلامه-» «1».

ذلِكَ أي كفرهم بآيات اللّه و قتلهم الأنبياء بسبب ما عَصَوْا أي عصيانهم لأوامر اللّه سبحانه سبب الكفر

و القتل و هما سببا نقمة اللّه و لعنته وَ كانُوا يَعْتَدُونَ يتجاوزون الحدود الدينية و البشرية.

[114] و لمرة أخرى استثنى القرآن الحكيم من آمن من أهل الكتاب، و أنه ليس كغيره ممن بقي على كفره و عناده و قد نزلت- كما قيل- حين أسلم جماعة من أهل الكتاب فقال الكفار منهم أنهم أشرارنا.

لَيْسُوا سَواءً أي ليس أهل الكتاب متساوين في ما تقدم من أوصافهم، ثم ابتدأ قوله سبحانه: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ على الحق لا زائفة زائلة، و هم الذين آمنوا بالإسلام يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ المنزلة في القرآن المجيد آناءَ اللَّيْلِ ساعاته و أوقاته، فإن لقراءة القرآن في الليل أثرا كبيرا حيث إن هدوء النفس و هدوء الجو يوجبان وقوع الآيات في النفس أكثر منه في النهار وَ هُمْ يَسْجُدُونَ لله سبحانه و يخضعون له بالصلاة و التعفير.

[115] يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا وَ يؤمنون ب الْيَوْمِ الْآخِرِ عن حقيقة فإن من آمن حقيقة بالحساب انقلع عن الكفر و المعاصي

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 44 ص 316.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 383

[سورة آل عمران (3): الآيات 115 الى 116]

وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)

وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فإن المعتقد بيوم الحساب يسارع في الخير حيث لا يدري أي يوم يموت فينقطع عمله و لا يتمكن من المزيد «و كان الإتيان بباب المفاعلة للإشارة إلى تسابق بعضهم بعضا» وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين يصلحون و لا يفسدون، و بتعبير آخر

أعضاء صالحين في المجتمع، و ليسوا كما ذكر الكفار من أهل الكتاب أنهم أشرارهم، بل هم من أفضل الأخيار و الصلحاء.

[116] وَ ما يَفْعَلُوا أي ما يفعله هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب مِنْ خَيْرٍ من طاعة و عبادة فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يمنع عنهم جزاؤهم بخلاف سائر الكفار الذين تحبط أعمالهم لكفرهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ يعلم أحوالهم و أعمالهم فيجازيهم على حسناتهم.

[117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لن تفيدهم و لن تدفع العذاب عنهم أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ فالمال و الولد إنما ينفعان في الدنيا حيث يدفعان المكروه بالرشوة و الهدية و الصلة، و المدافعة و المناصرة مِنَ اللَّهِ أي من عقاب اللّه و عذابه شَيْئاً و لو ضئيلا وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الذين يلازمونها كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 384

[سورة آل عمران (3): آية 117]

مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

يقال: صاحب فلان لمن يلازمه هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد.

و قد تكرر أن الخلود للمعاند كما

في دعاء كميل «من المعاندين»

أما القاصر فإنه يمتحن هناك كما دلّ العقل و الشرع.

[118] و حيث تقدم حال المؤمن و حال الكافر، ذكر حال إنفاق الكافر مقابلة لما تقدم من خير المؤمن في قوله: وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ أي ينفقه الكفار فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا و كان ذكر «هذه» الخصوصية مع وضوحها للإشارة إلى أن الحياة التي هي مزرعة و من المقتضي أن تنمو و يبقى أثرها للانتفاع به في الآخرة، لا ينفع

الكافر كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ الصرّ هو البرد الشديد، أو السموم الحارة أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ فإنفاقهم كالحرث، و كفرهم الموجب لبطلانه كالريح السامة ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن زرعوا في غير موقع الزراعة في مهب الرياح أو في غير أوانه كالشتاء مثلا لو زرعوا بذور الصيف، أو المراد ظلموا أنفسهم بالمعصية فسلط اللّه عليهم الريح كما قال: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «1» و إنما أوتي بهذه الجملة لظلم الكفار أنفسهم كظلم صاحب الحرث فَأَهْلَكَتْهُ أي أهلكت الريح الحرث- و هو الزرع- وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ في إبطال نفقاتهم، أو

______________________________

(1) الأعراف: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 385

[سورة آل عمران (3): آية 118]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

في إهلاك الريح حرثهم وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بكفرهم أو بظلمهم، و لا يخفى أن قوله: «مثل ما ينفقون» «كمثل ريح» ليس المراد أن الإنفاق كالريح، بل يضرب المثل فيما كان المجموع من «الأصل و الشبه» مرتبطين و إن كانت مفردات الشبه لم تذكر حسب السياق اللفظي، كما تقول: «مثل زيد في تكلمه كمثل صوت الحمار» فالجملة شبهت بالجملة لأن الصوت شبّه بزيد، و الحمار بالتكلم، كما يقتضيه السياق اللفظي في الترتيب.

[119] و في سياق الكلام عن أحوال أهل الكتاب و بيان أنهم مختلفون مع المسلمين في العقيدة و العمل يأتي دور أن المسلم لا ينبغي له أن يتخذ صديقا من هؤلاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ أي لا تتخذوا الكفار الذين هم غير المسلمين بطانة، و هي خاصة الرجل الذي يسرّ إليه بأمره و يستبطن خبره، من «بطانة الثوب» الذي يلي البدن لقربه منه، و «من» للتبيين كأنه قال: بطانة من المشركين، فقد كان المسلمون يواصلون رجالا من أهل الكتاب لسابق صداقة أو قرابة أو جوار أو نحوها فنهوا عن ذلك.

ثم بين سبحانه سبب ذلك، و يحتمل أن يكون المراد ب «دونكم» المنافقين، كما في بعض التفاسير بدليل قوله: «قالوا آمنا» فإنهم لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لا يألونكم أي لا يقصّرون بالنسبة إليكم، و الخبال الفساد، أي هؤلاء البطانة لا يقصرون في فساد أمركم و لا يتركون جهدهم في مضرتكم وَدُّوا أي أحبوا ما عَنِتُّمْ أي عنتكم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 386

[سورة آل عمران (3): آية 119]

ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)

و العنت المشقة، و هذه كلها من صفات الأعداء قَدْ بَدَتِ أي ظهرت الْبَغْضاءُ و العداوة مِنْ أَفْواهِهِمْ فإن فلتات كلامهم تدل على عداوتهم الكامنة وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من الحقد لكم و العداوة أَكْبَرُ مما يظهر من ألسنتهم قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ أيها المؤمنون الْآياتِ و الحجج التي تميزون بها الصديق من العدو إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إن كان لكم عقل و إدراك.

[120] ثم بيّن سبحانه أنه كيف يمكن أن يحب المؤمن هؤلاء مع أنهم أعداؤه و مع الاختلاف بينهم في العقيدة ها تنبيه أَنْتُمْ أُولاءِ أي الذين تُحِبُّونَهُمْ أي تحبون أولئك الكفار وَ لا يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يريدون لكم الكفر و

الضلالة وَ تُؤْمِنُونَ أنتم بِالْكِتابِ كُلِّهِ و هم لا يؤمنون إلا ببعض الكتاب، أما البعض الآخر الذي فيه أوصاف محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإيمان به فلا يؤمنون به، أو المراد ب «كله» أي جنس ما نزل على أنبياء اللّه، بخلافهم فإنهم لا يؤمنون بكتاب محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ إِذا لَقُوكُمْ من الملاقاة أي رأوكم قالُوا آمَنَّا نفاقا منهم لا أن الإيمان دخل قلوبهم، و يحتمل أن يراد الكفار، فإن من يتظاهر بالصداقة كثيرا ما يظهر قبول ما عليه صديقه مع أنه ليس بصبغة صديقه، و هذا بناء على قوله: «من دونكم» للكفار لا للمنافقين وَ إِذا خَلَوْا أي خلا بعضهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 387

[سورة آل عمران (3): آية 120]

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

مع بعض عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ أي يعضون أطراف أصابعهم مِنَ الْغَيْظِ عليكم كيف تقدّمتم و قوي دينكم.

قُلْ يا رسول اللّه لهم مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فإن الغيظ لا يبرحكم لأن المسلمين يتقدمون و يستمرون في أعمالهم. أو هو دعاء عليهم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ التي تضمن النفاق و الكيد للمسلمين، فيجازيهم بما اقترفوه من الآثام و الذنوب و «بذات الصدور» بمعنى:

بتلك الصدور.

[121] و كيف تتخذونهم بطانة و الحال أن صفتهم هكذا إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ أي يصبكم خير، من «المس» بمعنى الإصابة تَسُؤْهُمْ أي تحزنهم وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي بليّة و مصيبة بإصابة العدو منكم أو فقر أو موت أو نحوها يَفْرَحُوا بِها أي بسببها- كما هو حال العدو مع عدوه- وَ

إِنْ تَصْبِرُوا على أذيتهم، و على مقاطعتكم إياهم التي تجر إليكم عداءهم الظاهري، فإن كثيرا من الناس يخافون من مقاطعة المنافقين لئلا يبتلوا بعدائهم في الظاهر وَ تَتَّقُوا اللّه سبحانه حتى يكون هو نصيركم لا يَضُرُّكُمْ أيها المؤمنون كَيْدُهُمْ و مكرهم و حيلتهم ضدكم شَيْئاً لأنه سبحانه ينصركم إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ هم جميعا المؤمنون و المنافقون مُحِيطٌ أي عالم بجميع أعمالهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 388

[سورة آل عمران (3): آية 121]

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)

كالمحيط من الأجسام الذي لا يخلو منه طرف من المحاط، فيجازيهم بأعمالهم.

[122] و هنا يستعرض القرآن الحكيم قصة واحدة تدل على مدى تطبيق أحوال المنافقين التي سبقت على الواقع الخارجي، و أن اللّه كيف ينصر المسلمين في أحرج الساعات و أحلك الظروف، و

ذلك في غزوة أحد حين خرجت قريش من مكة يريدون حرب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانتخب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موضعا للقتال و عبّاد أصحابه الذين بلغوا سبعمائة رجل فجعل عبد اللّه بن جبير في خمسين من الرماة على باب شعب في الجبل ليحفظوه حتى لا يهاجم العدو من خلف المسلمين فقال لهم:

«لا تبرحوا من هذا المكان و الزموا مراكزكم، إن غلبنا أو غلبنا».

فلما انهزمت قريش و أخذ المسلمون ينهبون ثقلهم قال أصحاب ابن جبير له:

قد غنم أصحابنا و نحن نبقى بغير غنيمة. فقال لهم: اتقوا اللّه فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهانا أن نبرح أماكننا. فلم يقبلوا منه و أخذوا ينسل الرجل منهم فالرجل حتى خلت المراكز و بقي عبد اللّه في اثني عشر رجلا،

و اغتنم الكفار هذا الأمر فجاء خالد بن الوليد مع أصحابه و فرقوا من تبقّى من المسلمين و قتلوهم على الشعب و هجموا على المسلمين من خلفهم و هم مشتغلون بالنهب و رجع الكفار فطوقوا المسلمين من جوانبهم ففر المسلمون و لم يبق مع الرسول إلا علي عليه السّلام و أبو دجانة، و قتل من المسلمين جمع كثير بلغوا السبعين و فيهم حمزة عم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسد اللّه و أسد رسوله.

وَ إِذْ غَدَوْتَ أي خرجت مِنْ أَهْلِكَ أي من المدينة غدوة، يا رسول اللّه تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ أي تهيئ لهم مراكز لِلْقِتالِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 389

[سورة آل عمران (3): الآيات 122 الى 124]

إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)

في قصة أحد وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالك عَلِيمٌ بما تنويه من حب الخير و الهداية للناس عامة.

[123] إِذْ هَمَّتْ و عزمت طائِفَتانِ أي جماعتان مِنْكُمْ أيها المسلمون، و هما بنو سلمة و بنو حارثة أَنْ تَفْشَلا و تجبنا و ترجعا عن القتال و ذلك لأن ابن أبي سلول المنافق جبّنهما عن لقاء العدو فهمّا بالرجوع لكنهما لم يفعلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما ناصرهما فلم الفشل و الخوف وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و التوكل معناه تفويض الأمر إليه سبحانه وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «1».

[124] وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ أيها المسلمون بِبَدْرٍ في وقعة بدر و هي اسم بئر كانت هناك فسميت

الغزوة باسمها وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل لأن عددهم و عددهم كانت قليلة لا تقوى على المقاومة فَاتَّقُوا اللَّهَ و لا تتوانوا عن الجهاد بعد ما رأيتم نصرة اللّه في بدر و هذا لأجل تقوية قلوبكم في «أحد» و تصديق لقوله: «و اللّه وليهما» لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نصركم لتقوموا بشكر نعمه عليكم.

[125] إِذْ تَقُولُ يا رسول اللّه لِلْمُؤْمِنِينَ في غزوة بدر

______________________________

(1) الطلاق: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 390

[سورة آل عمران (3): الآيات 125 الى 126]

بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)

أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ و ذلك لتقوية قلوب المؤمنين، و بيان أن اللّه أرسل ملائكة لتقويتهم و تعزيز مركزهم، و هذا تذكير للمسلمين في أحد بسابق نصر اللّه لهم مُنْزَلِينَ أنزلهم اللّه سبحانه لنصرة المسلمين و لقد حاربوا الكفار و قتلوا منهم.

[126] بَلى ليس الإمداد في يوم بدر بثلاثة آلاف فقط، بل قال لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر- تقوية لقلوبهم-: إِنْ تَصْبِرُوا على الجهاد وَ تَتَّقُوا المعاصي وَ يَأْتُوكُمْ الكفار مِنْ فَوْرِهِمْ أي فورانهم مندفعين عاجلا نحوكم هذا الذي شاهدتموه إذ أتوكم كالسيل، فإن المسلمين خذلوهم عند مجيئهم لما رأوا من كثرتهم يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ و الإمداد إرسال المدد بِخَمْسَةِ آلافٍ أخر- غير الثلاثة آلاف- مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ من سوم الخيل إذا علّمه بعلامة، أو علّموا أنفسهم بعلامة حيث كانت عليهم عمائم بيض و أرسلوا أذنابها على أكتافهم، و هناك قول آخر

هو أن قوله تعالى: «بلى» لموضوع أحد، فإن الكفار هموا بالرجوع مرة ثانية بعد أن نالوا من المسلمين ما نالوا و خالف المسلمون فوعدهم اللّه تعالى أنهم إن رجعوا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة، لكن السياق يؤيد المعنى الأول، و اللّه أعلم.

[127] ثم بيّن سبحانه أن إنزال الملائكة و الوعد به ليس لأجل أنهم السبب في نصر المسلمين، بل لأجل البشارة و أما النصر فإنه من قبل اللّه وحده و لو بدون الملائكة، حتى تتقوى قلوب المسلمين في الجهاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 391

[سورة آل عمران (3): الآيات 127 الى 128]

لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي ما جعل إنزال الملائكة و الوعد به إِلَّا بُشْرى لَكُمْ أي بشارة لكم أيها المسلمون وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي بهذا الإنزال و الوعد وَ مَا النَّصْرُ أي ليس العون إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ في سلطانه الْحَكِيمِ في أموره.

[128] أما حكمة نصر المسلمين على أعدائهم في هذه الغزوة و سائر الحروب فهي لِيَقْطَعَ أي يفصل طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الطرف من الأنفس بالقتل، و من الأراضي بالفتح و من الأموال بالغنيمة أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي يخزيهم حتى يرغموا و تقل شوكتهم فَيَنْقَلِبُوا إلى أهليهم خائِبِينَ لم ينالوا بغنيمتهم بل انعكس الأمر فكبتوا و أرغموا.

[129] لَيْسَ لَكَ يا رسول اللّه مِنَ الْأَمْرِ المرتبط بهؤلاء الكفار شَيْ ءٌ فإن النصر و الهزيمة و الكبت كلها مرتبطة بإرادة اللّه سبحانه كما قال سبحانه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» و قال:

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ

مِنْ دِيارِهِمْ «2» ثم رجع السياق إلى تتميم قوله في الآية السابقة «أو يكبتهم» أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بأن تكون نصرة المؤمنين على الكفار سببا لهداية جماعة منهم إلى

______________________________

(1) الأنفال: 18.

(2) الحشر: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 392

[سورة آل عمران (3): الآيات 129 الى 130]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)

الإيمان فيتوب اللّه سبحانه عليهم فيما فعلوا سابقا من الكفر و العصيان أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بأن تظفروا عليهم فتأسروهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فتعذيبهم ليس ظلما من اللّه عليهم بل لظلمهم أنفسهم فالأمر ليس بيدك يا رسول اللّه، و إنما ينصر اللّه المؤمنين لأحد أغراض أربعة: قطع طرف منهم، أو هزيمتهم و إرغامهم، أو هدايتهم، أو تعذيبهم. و الاعتراض بجملة «ليس لك» لتركيز كون النصر من عند اللّه، فإن اعتراض جملة في وسط جملة متسقة توجب إلفات الذهن و تركيز المطلب أكثر من بيان الجملة في موقعها الطبيعي.

[130] ليس لك شي ء وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فيفعل ما يشاء بمن يشاء فإنه تصرّف في ملكه لحكمة و غاية يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ممن استحق الغفران بالطاعة و التوبة وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن استحق العذاب بالكفر و العصيان وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فتعذيبه أقل من غفرانه فقد سبقت رحمته غضبه.

[131] و يرجع السياق هنا إلى الربا و الإنفاق مما مر بنا سابقا، لمناسبة أن الربا من أسباب العذاب، و الإنفاق، من أسباب الغفران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً فإن من شأن الربا

أن يتضاعف مرات و مرات فإن ربا الألف لو كان خمسينا يصبح ربا الألف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 393

[سورة آل عمران (3): الآيات 131 الى 133]

وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

و الخمسين- في سنة ثانية- ألفا و مائة و اثنين و نصف، و هكذا يتضاعف الربا، و يمتص مال الفقراء و عملهم الذي يؤدون به الدين و الربا معا وَ اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالثواب و النعيم.

[132] وَ اتَّقُوا النَّارَ فلا تفعلوا ما يوجبها الَّتِي أُعِدَّتْ و هيّأت لِلْكافِرِينَ الذين يكفرون في الاعتقاد أو في العمل، أو المراد الكفار العقائديون، و التخصيص بهم من أن العصاة أيضا يذهبون إلى النار، و أن دوامها و بقاءها عليهم، أو أنهم معظمهم أهلها.

[133] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فيما يأمركم و ينهاكم، و ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للتعظيم و إفادة أمره أمر اللّه سبحانه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي ترحموا في الدنيا و الآخرة.

[134] وَ سارِعُوا أي بادروا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سبب المغفرة و هو الأعمال الصالحة الموجبة لغفرانه سبحانه وَ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا أي سعتها- لا العرض مقابل الطول- السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ فهي واسعة وسع السماوات و الأرض التي لا نهاية لها في التصور- فإن الفضاء الذي يعبّر عنه بالسماء مما لا يصل الفكر إلى آخره و نهايته- أُعِدَّتْ و هيّأت لِلْمُتَّقِينَ أي الذين يتقون المعاصي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 394

[سورة آل عمران (3): الآيات 134 الى 135]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ

وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135)

[135] ثم بيّن المتقين بقوله سبحانه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أموالهم فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ أي في حالتي اليسر و العسر، أو حالتي السرور و الاغتمام وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الذين يكظمون غيظهم وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ يعفون عنهم إذا ظلموهم وَ من فعل ذلك فهو محسن إلى نفسه و إلى الناس و اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و لا يخفى أن المتقي هو الذي يجمع الصفات الحميدة كلها لكنها نثرت في القرآن الحكيم بمناسبات.

و سوف نفسّر «المتقي» في كل مكان ببعض صفاته.

[136] وَ الَّذِينَ عطف على «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ» أي أن المتقين هم الذين إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي معصية تفحش، أي تتجاوز الحد أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بما لا يبلغ حد الفاحشة، من سائر أقسام المعاصي، فالفاحشة أخذ من مفهومها كون المعصية كبيرة ذَكَرُوا اللَّهَ أي تذكروا نهي اللّه و عقابه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي طلبوا غفران اللّه و ندموا على ما فعلوا وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ و هو استفهام استعطافي فالقرآن الحكيم يستعطف المذنبين نحو التوبة و الاستغفار وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا من المعاصي، بل أقلعوا و ندموا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أي يعلمون كون الفعل خطيئة، فلا يصرون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 395

[سورة آل عمران (3): الآيات 136 الى 138]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ

فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)

على الذنب مع علمهم به.

[137] أُولئِكَ المتقون الذين هذه صفاتهم جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ يغفر ذنوبهم في الدنيا بسترها، و في الآخرة بالعفو عنها وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت نخليها و أشجارها خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فإن الغفران و الثواب من أفضل أجر العامل فإنّ أيّ أجر لا يبلغ مثل هذا الأمر الدائم الوارف.

[138] قَدْ خَلَتْ أي مضت و سبقت مِنْ قَبْلِكُمْ أيها المخاطبون سُنَنٌ جمع سنة بمعنى الطريقة، فقد كانت في الأمم السالفة طرائق، طريقة الحق و طريقة الباطل، طريقة الخير و طريقة الشر ..

و هكذا فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ اذهبوا إلى البلاد التي كانت فيها تلك الأمم المنقرضة فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي تعرفوا على أخبارهم حتى تعلموا أنهم لم يربحوا و إنما أتوا و كذبوا الرسل و تأمروا ثم ماتوا و دفنوا و لم يبقى لهم ذكر طيب في الدنيا و لم تدم لهم النعمة التي من أجلها عملوا ما عملوا و إنما انتقلوا إلى عذاب اللّه سبحانه، ليكون في ذلك عبرة لكم فلا تكونوا من المكذبين بل من المؤمنين المصدقين.

[139] هذا القرآن، أو هذا الذي ذكرنا من أحوال المؤمن و الكافر، و ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 396

[سورة آل عمران (3): الآيات 139 الى 140]

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

قدمنا من العظة و

الإنذار بَيانٌ لِلنَّاسِ دلالة و حجة و توضيح لهم كيف ينبغي أن يسلكوا و يعملوا وَ هُدىً يهديهم إلى الحق وَ مَوْعِظَةٌ وعظ و إرشاد لِلْمُتَّقِينَ فإنهم هم الذين يستفيدون منه، و إن كان بيانا للناس عامة.

[140] و هنا يرجع السياق إلى ذكر غزوة أحد، لتشجيع المؤمنين و تصبيرهم على تحمّل المكاره، بعد ما بيّن أحوال المؤمن و الكافر، حتى تقوى عزيمتهم، و تطمئن قلوبهم وَ لا تَهِنُوا من الوهن أي لا تضعفوا عن قتال الأعداء وَ لا تَحْزَنُوا مما نالكم من القتل و الجرح و الهزيمة وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الظافرون الغالبون فإن الظفر يذهب بحرارة الخسارة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن من كان مؤمنا لا يهن و لا يحزن فإن طاقة الإيمان تؤمّن الإنسان بالقوة و الفرح أما القوة فهي مستمدة من اللّه سبحانه و أما الفرح فللغلبة أو لثواب اللّه سبحانه فيما لو غلب.

[141] ثم بيّن سبحانه أن ما أصابهم من المكاره ليس خاصا بهم بل أصاب الكافرين مثل ما أصابهم فهم في ذلك سواء، لكن المؤمنين يرجون ثواب اللّه سبحانه مما لا يترقّبه الكافرون فهم أجدر بالصبر و الثبات و عدم الوهن و الحزن إِنْ يَمْسَسْكُمْ أي يصبكم أيها المسلمون في غزوة أحد قَرْحٌ جرح و ألم في أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ الكافرين قَرْحٌ مِثْلُهُ في أحد حيث أصيب الكفار بالألم و الجرح أيضا، أو المراد مسّهم القرح في بدر حيث قتل المشركون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 397

و هزموا وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ أيام النصر و الهزيمة و أيام القرح نُداوِلُها أي نصرّفها بَيْنَ النَّاسِ فيوم لهؤلاء على أولئك، و يوم لأولئك على هؤلاء، فإذا نصرنا المؤمنين كان ذلك لإيمانهم و إذا

هزموا كان امتحانا لهم.

وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي أن صرف الأيام ليتميز المؤمن الحقيقي من غيره فإنه

«عند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال»

«1» و

«عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان»

«2»، و معنى «ليعلم» أن معلومه سبحانه يقع في الخارج، لا أنه كان جاهلا- سبحانه- ثم علم، فإن العلم لما كان أمرا إضافيا بين العالم و المعلوم، يقال علم باعتبارين، أما باعتبار العالم فيما كان جاهلا ثم علم، و أما باعتبار المعلوم فيما كان المعلوم غير خارجي ثم صار خارجيا وَ ل يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي أن مداولة الأيام لفوائد و من جملة تلك الفوائد أن يتخذ اللّه سبحانه منكم مقتولين يستشهدون في سبيل اللّه و يبلغون الدرجات الراقية بالشهادة، أو ليكون جماعة شهداء على آخرين بالصبر أو الجزع، بالثبات أو الهزيمة، فإن إيصال جماعة قابلة إلى مرتبة أن يكونوا شهداء نعمة و غرض رفيع، لكن المعنى الأول أقرب وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالكفر، أو بالهزيمة.

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 71 ص 163.

(2) غرر الحكم: ص 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 398

[سورة آل عمران (3): الآيات 141 الى 143]

وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

[142] وَ من فوائد تداول الأيام بين الناس أنه لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي يخلّصهم من المنافقين فيتبين المؤمن من المنافق، أو يخلصهم من الذنوب، فإن بالأهوال تذاب الذنوب، و بالشدائد تكفّر الخطايا وَ ل يَمْحَقَ الْكافِرِينَ يهلكهم، فإن الكفار ينقصون شيئا فشيئا حتى يهلكوا

جميعا.

[143] ثم يبين سبحانه فائدة أخرى لتداول الأيام و هي أن المؤمن لا يدخل الجنة بمجرد إظهار الشهادتين و إنما اللازم أن يجاهد و يعمل و في تداول الأيام يحصل هذا العمل و هذا الامتحان المؤهل لدخول الجنة، لكنه جاء الكلام في صورة الاستفهام تلوينا في الكلام، و تفنّنا في التعبير أَمْ حَسِبْتُمْ أي هل حسبتم و ظننتم أيها المسلمون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بمجرد الإيمان بدون الامتحان وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أي لم يقع منكم جهاد حتى يتعلق علم اللّه به وَ لما يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ فلم يقع منهم صبر حتى يتعلق به علم اللّه سبحانه و دخول الجنة بدون الجهاد و الصبر لا يكون، فتداول الأيام يوجب جهاد المؤمنين و صبرهم حتى يتأهلوا لدخول الجنة.

[144] ثم يشير القرآن الحكيم إلى تأنيب المؤمنين في موقفهم يوم أحد، حيث أن جماعة منهم قبل الغزوة كانوا يتطلعون إلى الجهاد و يتمنون الاستشهاد ثم فروا منهزمين، و فوق ذلك أن إيمان بعضهم كان بدرجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 399

[سورة آل عمران (3): آية 144]

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

من الوهن حتى أنهم لما سمعوا بموت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كادوا أن يرتدوا وَ لَقَدْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ و لقاء الموت كناية عن لقاء مقدماته و الوقوع في الأهوال المنتهية إليه فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ في الغزوة إذ رأيتم غلبة الكفار و قتل جماعة من المؤمنين وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي تشاهدون المعركة، و

هذا تأكيد لمعنى «رأيتموه» حتى لا يتوهم أحد أن الرؤية كانت بالقلب، فإن «رأى» يستعمل بمعنى «علم».

[145] وَ ما مُحَمَّدٌ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا رَسُولٌ أي ليس هو إلها لا يموت إنما هو بشر اختاره اللّه للرسالة فيجري عليه ما يجري على البشر من الموت و القتل، و ليس بدعا من الرسل بل قَدْ خَلَتْ أي مضت و تقدمت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الذين جرت عليهم سنة اللّه من الموت و مفارقة الحياة أَ فَإِنْ ماتَ موتا اعتياديا أَوْ قُتِلَ و استشهد انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ استفهام إنكاري توبيخي أي لم يكن حالكم هكذا، حتى ترتدّوا بموت النبي، و كنى عن الارتداد بالمشي القهقرى «الانقلاب على الأعقاب» الذي هو رجوع نحو الوراء وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أي من يرتد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً إذ اللّه سبحانه غني مطلق لا يحتاج إلى إيمان أحد حتى يضره ارتداده وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ الذين يشكرون نعمة الإيمان و يثبتون عليه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 400

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 449

[سورة آل عمران (3): آية 145]

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

فإن الارتداد من أعظم أقسام الكفر، كما قال سبحانه: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ «1».

[146] و هنا تلميح إلى عتاب آخر موجّه للمسلمين لانهزامهم يوم أحد خوف الموت، فلم الفرار؟ أمن خوف الموت، و ليس الموت إلا بإذن اللّه تعالى، و ما قدّر من أجل للإنسان، فالفرار و عدمه سيان بالنسبة إلى الوقت المحدد لحياة الإنسان

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إن النفوس ليست هملا حتى تموت من تموت و تبقى من تبقى بأسباب عادية من غير توسط مشيئة الباري سبحانه، فإن الموت لا يكون إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ و مشيئته كِتاباً مُؤَجَّلًا أي كتب اللّه ذلك الوقت في اللوح المحفوظ كتابا ذا أجل و مدة محدودة معلومة وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا و خيرها و تعب و عمل لأجل المنافع الدنيوية نُؤْتِهِ مِنْها فإن الذي عمل يرى اللّه نتيجة عمله وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ و خيرها و عمل لأجل ثواب الآخرة نُؤْتِهِ مِنْها بقدر ما عمل، فارغبوا أيها المسلمون في ثواب اللّه و أجره الأخروي بالجهاد و الثبات و لا تفروا كما فررتم في أحد وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ جزاء حسنا، و من الشكر يعرف الإنسان قيمة ما خوّله اللّه سبحانه من الإسلام و وفقه للجهاد بين يدي رسوله لإعلاء كلمة اللّه، فمن شكر ذلك يجزى جزاء الشاكرين.

______________________________

(1) الحجرات: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 401

[سورة آل عمران (3): الآيات 146 الى 147]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)

[147] و ما لكم أيها المسلمون وهنتم في غزوة أحد و فررتم؟ ألم يمكنكم الاقتداء بالمؤمنين السابقين الذين كانوا مع الأنبياء يصمدون في وجه الباطل؟ وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فإن كثيرا من الأنبياء عليه السّلام قاتلوا، و جاهد معهم و تحت لوائهم أناس من المؤمنين ربانيين

منسوبون إلى الرب تعالى بالطاعة و العبادة و الإيمان، أو بمعنى أخيار فقهاء فَما وَهَنُوا أي ما فتروا لِما أَصابَهُمْ من القتل و السلب و الجروح و القروح فِي سَبِيلِ اللَّهِ للتنبيه على شدائدهم التي كانت في سبيل اللّه سبحانه وَ ما ضَعُفُوا عن عدوهم وَ مَا اسْتَكانُوا أي ما خضعوا و لا تضرعوا لعدوهم وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ الذين يصبرون في الشدائد و في الحروب.

[148] وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ أي قول أولئك الربانيون عند الجهاد و ملاقاة الأعداء إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فكانوا يستغفرون عند اللقاء مما فات منهم من الذنوب استعدادا للقاء اللّه سبحانه طاهرين وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي تجاوزنا الحدود و تفريطنا و تقصيرنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا حتى لا تزل أمام الأعداء فننهزم وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فهم جاهدوا و جلين من ذنوبهم لم يطلبوا إلا العفو في تواضع و خشوع، و لم يقصدوا إلا نصرة الدين على القوم الكافرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 402

[سورة آل عمران (3): الآيات 148 الى 149]

فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149)

[149] فجزاء على ما سلف منهم من الصبر و الثبات و الجهاد في خشوع و تواضع آتاهم اللَّهُ أي أعطاهم اللّه سبحانه ثَوابَ الدُّنْيا بالفتح و الغلبة و العزة و الرفاه وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ بجنات تجري من تحتها الأنهار، أي ثواب الآخرة الحسن، و الإتيان بكلمة «حسن» هنا دون «ثواب الدنيا» لعله للإشارة إلى أن ثواب الآخرة هو الذي يوصف بالحسن، أما الدنيا فإنها زائلة فلا قيمة لثوابها، أو

المراد «أحسن» أقسام ثواب الآخرة الذي لا يعطى إلا للمجاهدين، بخلاف الدنيا فإن ثوابها عام للبرّ و الفاجر وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و محبة اللّه سبحانه فوق كل ثواب كما قال: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ «1».

[150] لما اشتد الأمر يوم أحد أخذ جماعة من المنافقين يدعون الناس إلى الارتداد عن دينهم حتى يستريحوا فأنزل اللّه فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا من المنافقين، أو من اليهود و النصارى الذين أخذوا يشيعون أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قتل فارجعوا إلى دينكم و عشائركم يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ كفارا كما كنتم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قد خسرتم الدنيا و الدين، فإن دنيا الجاهلية كانت فوضى و فقرا و رذيلة.

______________________________

(1) آل عمران: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 403

[سورة آل عمران (3): الآيات 150 الى 152]

بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

[151] بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي هو أولى بكم من الكفار و المنافقين، و هو ينصركم على أعدائكم وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لأن في نصرته خيرا للدارين بخلاف نصرة غيره.

[152] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي نقذف الخوف و الفزع في قلوبهم حتى تغلبوهم و هكذا ينصركم اللّه تعالى بِما

أَشْرَكُوا بِاللَّهِ أي بسبب شركهم ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي برهانا و حجة، فإن شركهم كان تقليدا لا عن دليل و حجة وَ مَأْواهُمُ أي محلهم و مستقرّهم النَّارُ في الآخرة وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أي أن النار بئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر. و قد ورد أن الآية نزلت حين همّ المشركون- يوم أحد- بالرجوع إلى المسلمين لاستئصالهم عن آخرهم فلما عزموا ذلك ألقى اللّه في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به، و لا يخفى أن إلقاء الرعب في قلب الكافر أمر طبيعي فإن المسلم يستمد القوة من اللّه سبحانه أما الكافر فحيث لا يعتقد به سبحانه يكون قلبه هواء فيتسرب إليه الخوف.

[153] ثم بيّن سبحانه أن هزيمتهم يوم أحد لم تكن إلا بسبب مخالفتهم أوامر اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إلا فالله سبحانه نصرهم كما وعد، حتى هزموا المشركين وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ و في لكم بما وعد من نصرتكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 404

على الكفار إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ أي تقتلونهم، فإن «حسّه» بمعنى قتله و أبطل حسّه و حياته، و معنى «بإذنه»: بأمره، فإن اللّه أذن لهم في القتال كما قال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «1»، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ جبنتم و كففتم و خالفتم أمر الرسول وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ هل يبقى الرماة الخمسون في الشعب كما أمرهم الرسول أم يخرجوا يجمعون الغنائم؟- كما تقدم- وَ بالآخر عَصَيْتُمْ أمر الرسول في لزوم أماكنكم فتخليتم عن الشعب، فقد تخلى من الخمسين سبع و ثلاثون مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ اللّه سبحانه ما تُحِبُّونَ من هزيمة الكفار و نصرة المسلمين مِنْكُمْ أيها

المسلمون مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا و هم الذين خالفوا الرسول طلبا للغنيمة وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ و هم: عبد اللّه رئيس الرماة في الشعب و اثني عشر من أصحابه الذين ثبتوا في أماكنهم ثُمَّ صَرَفَكُمْ أيها المسلمون عَنْهُمْ أي عن الكفار، بل توجهتم إلى الغنائم عوض أن تحتفظوا بأماكنكم، فإن في حفظ المكان كان توجها نحو الكفار لئلا يرجعوا إلى المسلمين من ورائهم، بخلاف التوجه نحو الغنيمة فإنه كان صرفا عن الكفار، و إضافته إليه سبحانه كسائر الإضافات نحو «و من يضلل» أو باعتبار أن الصرف كان عقوبة لهم على إرادتهم للدنيا

______________________________

(1) الحج: 40.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 405

[سورة آل عمران (3): آية 153]

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)

لِيَبْتَلِيَكُمْ أي يمتحنكم و يختبركم، حتى يظهر ما أنتم عاملون وَ لَقَدْ عَفا اللّه سبحانه عَنْكُمْ خطيئتكم بمخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ينصرهم على أعدائهم و يعفو عن ذنوبهم، و معنى الفضل: المن و النعمة، فإنه يعطيهم فضلا أي فوق استحقاقهم.

[154] و لقد عفا عنكم إِذْ تُصْعِدُونَ أي تذهبون في وادي أحد للانهزام، فإن الإصعاد الذهاب في الأرض وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي لا تلتفتون إلى أحد من ورائكم بل كل همكم السرعة في الفرار حتى لا يأتيكم الطلب وَ الرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَدْعُوكُمْ يناديكم فِي أُخْراكُمْ أي من ورائكم، يقال: جاء فلان في آخر الناس أي من ورائهم فَأَثابَكُمْ أي جازاكم اللّه على فراركم غَمًّا

متصلا بِغَمٍ غمّ الهزيمة و غمّ القتلى الذين قتلوا منكم- و يحتمل في اللفظين أمور- لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الخير وَ لا ما أَصابَكُمْ من الضرر، فإن الإنسان إذا وقع في الشدائد و جرّبها و مارسها تصلب نفسه و تقوى روحه فلا تتزحزح بمصيبة و لا تهتز بكارثة، و هكذا كانت هزيمة أحد درسا و عبرة حتى يصغر في نفوس المسلمين كل ما يفوتهم من خيرات و كل ما يصيبهم من شرور و آلام وَ اللَّهُ خَبِيرٌ ذو خبر و اطلاع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 406

[سورة آل عمران (3): آية 154]

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)

بِما تَعْلَمُونَ فيجازيكم على حسب أعمالكم.

[155] ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِ الذي غشيكم لهزيمتكم أَمَنَةً أي أمنا نُعاساً أي نوما، و هو بدل اشتمال ل «أمنة» فإنهم ناموا من شدة التعب و النصب بعد ما ذهب خوفهم و ذهب الكفار، و «أمنة» مصدر كالعظمة و الغلبة. لكن هذا النعاس كان يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ فقط الذين كانوا يعلمون أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حق و أن اللّه لا يتركه و أن ما أصابهم يوجب الثواب و الفائدة لهم

وَ هناك طائِفَةً ثانية كانوا مع النبي منافقين قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يفكّرون في هزيمتهم لا ينامون من الحزن و الخوف حين انتشر بينهم أن الكفار عازمون على الرجوع و كانوا يشكّون في نصرة اللّه و لذا لم يتمكنوا أن يناموا خوفا يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ و أنه لا ينصر نبيه ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ من الكفار المكذبين بوعد اللّه سبحانه يَقُولُونَ ما في نفوسهم من ظنون الجاهلية: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ أمر الغلبة و النصرة مِنْ شَيْ ءٍ في مقام الاستنكار و التعجب أن ينتصروا على الكفار إذا رجعوا قُلْ لهم يا رسول اللّه: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ينصر من يشاء، فللمسلمين النصر و الغلبة بإعطاء اللّه لهم إياها يُخْفُونَ هؤلاء المنافقين فِي أَنْفُسِهِمْ النفاق و الكفر ما لا يُبْدُونَ لَكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 407

[سورة آل عمران (3): آية 155]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

أي لا يتجرءون على إظهاره يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ أي من النصرة و الغلبة شَيْ ءٍ و كنا حقيقة منصورين ما قُتِلْنا أي ما قتل أصحابنا هاهُنا في غزوة أحد قُلْ يا رسول اللّه في جوابهم: إن كون الأمر لنا لا يلازم أن لا يقتل منا أحد فإن الإنسان يموت إذا جاء أجله و لو كان في داره و منزله لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي خرج الذين كتب عليهم القتل- بأن رقم موتهم في اللوح المحفوظ- إلى مصارعهم. و «مضاجع» جمع مضجع بمعنى محل النوم وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ يختبر اللّه ما في صدوركم، فإن

ما في الصدور من الإخلاص و النفاق، و الثبات و الوهن، إنما يظهر عند الشدائد و المحن، و هذا عطف على قوله:

«ليبتليكم» أو مستأنفة، أي فعل اللّه سبحانه ما فعل ليبتلي وَ لِيُمَحِّصَ أي يخلص ما فِي قُلُوبِكُمْ بأن يكشفه للناس و لكم، حيث أن الإنسان يظن أشياء فإذا حدث الحادث يظهر له خلاف ما كان يظن بنفسه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فليس الامتحان لأن يعلم هو تعالى، بل لأن يظهر ما يعلمه.

[156] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا أدبروا و انهزموا مِنْكُمْ أيها المسلمون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 408

[سورة آل عمران (3): آية 156]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يوم أحد الذي التقى فيه جمع المسلمين بقيادة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجمع المشركين بقيادة أبي سفيان إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ طلب زلتهم و عصيانهم بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي بسبب بعض المعاصي التي كانوا يعملونها فأخذتهم عاقبتها و شؤمها وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بعد ما ندموا و رجعوا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر للمذنب إذا تاب حَلِيمٌ لا يعجل بالعقوبة بل يمهل المذنب كي يتوب و يئوب.

[157] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا اعتقادا، و هم الكفار الذين لا يدينون بما وراء الغيب، أو كفروا عملا و هم المنافقون و من أشبههم وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في العقيدة، أو في الإنسانية، حتى يشمل قول الكافرين للمؤمنين و قوله: «لإخوانهم» أي قالوا بالنسبة إلى

الإخوان الذين سافروا فماتوا، أو حاربوا فقتلوا إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي ذهبوا لأجل التجارة و نحوها، يقال: ضرب فلان في الأرض إذا سافر، و تخصيص الأرض بالذكر، لكون السفر غالبا عن طريق البر أَوْ كانُوا غُزًّى جمع «غاز»، أي حاربوا الأعداء: لَوْ كانُوا عِنْدَنا مقيمين في أوطانهم ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا فقد حسبوا أن الموت و القتل إنما هما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 409

بالأسباب الطبيعية بما وراء المادة و الإحساس. مع أن الموت و القتل لا يكونان إلا بتقدير و قضاء و ليس يفيد في ذلك البقاء، و في هذا رد لإرجاف المنافقين الذين كانوا يلقون تبعة قتل المؤمنين في أحد على النبي و أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخرجهم فقتلوا، و معنى القضاء و القدر في الأمور التكوينية: التخطيط و تهيئة الأسباب، فكما أن المهندس الذي يريد بناء دار يخطط شكل الدار المراد بنائها ثم يحضر مواد البناء من آجر و جص و حديد و خشب، كذلك ما في العالم من الأمور التكوينية خططت و علمها اللّه سبحانه و أحضرت موادها. لكن ليس معنى ذلك أن الأمور خارجة عن أيدي البشر و إنما جعل الدعاء و الصدقة و الأسباب الظاهرة مستثنيات للتخطيط و الآلات و الأسباب و كل ذلك أيضا بعلمه سبحانه، و على كلّ فليس الموت و القتل مما يكون سببهما السفر و الغزو كما زعمه الكفار بل هناك أسباب خفية تدير هذين الأمرين إلى جنب الأسباب الظاهرية، فليس كل سفر و غزو موجبا للموت كما ليس كل إقامة موجبا للبقاء، و الكفار إنما قالوا ذلك يريدون تثبيط الناس عن الجهاد لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ الاعتقاد- المفهوم من

الكلام- حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ لما حصل لهم من الخيبة حيث رأوا رجوع إخوانهم من السفر و الجهاد بالربح و الظفر، و من الطبيعي أن يحزن و يخسر الشخص الجامد لما ناله الشخص المتحرك من الخير و التقدم المحتومين، و اللام في «ليجعل» إما لام الأمر، لبيان التأكيد، أو لام العاقبة، أي كانت عاقبة هذا الاعتقاد الحسرة و الحزن وَ اللَّهُ يُحْيِي الأرض و الجماد و الإنسان وَ يُمِيتُ فليس السفر و الغزو تمام سبب الموت وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فارغبوا في الطاعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 410

[سورة آل عمران (3): الآيات 157 الى 159]

وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

و الجهاد، و احذروا من المخالفة و الفرار، فإن اللّه سبحانه يعلم أعمالكم، و يبصر صنعكم.

[158] ثم لنفرض أن السفر و الغزو سبب الموت فهل الموت مع المغفرة خير أم الحياة لجمع الأموال التي يحياها الكافر الذي يبقى في بلده وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ و جهاد أعدائه أَوْ مُتُّمْ في سبيل اكتساب الرزق و التجارة و الضرب في الأرض لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ حيث يغفر لكم و يرحمكم حيث كنتم مطيعين له ممتثلين أمره خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي يجمع هؤلاء الكفار الباقون في بلدهم خوفا من الخروج، فإن من يبقى يكتسب و يجمع مالا.

[159] ثم أن الموت

و القتل لا يسببان انقطاع الحياة حتى يخشاهما الإنسان و يرفع اليد عن مقاصده العالية من خشيتهما وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم على أعمالكم فخير لكم أن تطيعوه حتى تكونوا مرادا لثوابه و فضله.

[160] و هنا يلتفت السياق ليثير في النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عاطفته الكامنة نحو المؤمنين حتى يعفو عن خطأهم في أحد، حيث أخلوا الشعب حتى سيطر المشركون على المعركة، و فعلوا تلك الأفاعيل بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه من جرح و قتل و تمثيل فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ «ما» زائدة أي بسبب رحمة من اللّه سبحانه على المؤمنين لِنْتَ لَهُمْ أي كنت لينا رحيما بهم فقد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 411

[سورة آل عمران (3): آية 160]

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

جعله اللّه سبحانه رحيما بهم لينا عليهم وَ لَوْ كُنْتَ يا رسول اللّه فَظًّا جافي اللسان قاسي القلب غَلِيظَ الْقَلْبِ غلظا معنويا و هو الذي لا يلين و لا يحنو لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي تفرقوا عنك فَاعْفُ عَنْهُمْ إذا أخطئوا وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي اطلب لهم من اللّه الغفران لما صدر من ذنوبهم، و اللّه سبحانه و إن كان أرحم بهم لكن ذلك لزيادة عطف النبي، فإن من يطلب المغفرة لأحد لا بد و أن يزول من قلبه ما علق به من الكراهية، و لتكثير محبة المؤمنين له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث يعلمون بأنه يستغفر لهم وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ لتأليف قلوبهم و لتعليمهم المشورة في أمورهم، فإن النبي صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم كان في غنى عنهم بما كان يسدّده اللّه سبحانه بالوحي فَإِذا عَزَمْتَ بعد المشورة على فعل فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و لا تهتم بمن يخالف رأيه رأيك يا رسول اللّه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ الواثقين به المعتمدين عليه الذين يوكلون أمورهم إليه.

[161] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ أيها المؤمنون، و ذلك إذا استحققتم ذلك بإيجاد أسباب النصر و إطاعة أوامره سبحانه فَلا غالِبَ لَكُمْ أي لا يقدر أحد على أن يغلبكم وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ و خذلان اللّه سبحانه أن يكلهم إلى أنفسهم و لا يعينهم في أمورهم فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ استفهام استنكاري، أي لا يكون ناصر لكم ينصركم من بعده سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 412

[سورة آل عمران (3): الآيات 161 الى 162]

وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يثقون به و يعتمدون عليه.

[162] لقد كان من أسباب تخلّي المسلمين عن مكانهم من الجبل- يوم أحد- خوفهم ألا يقسّم لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الغنائم، و قد تكلم بعض المنافقين في وقعة بدر حول قطيفة حمراء فقدت فقالوا بأن الرسول أخذها، و لذا نزلت الآية نافية أن يغلّ الأنبياء و يخونوا وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ أي لا يجوز للأنبياء الغلول أي الخيانة، و الخيانة محرمة مطلقا لكن المورد أتى خاصا حيث أن الكلام كان حوله وَ مَنْ يَغْلُلْ شريفا كان أو وضيعا

قليلا كان غلوله أو كثيرا يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ و

في الحديث «يأتي به على ظهره»

«1». ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي تعطى جزاء كسبها كاملا غير منقوص وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص من أجورهم شي ء و لا يعذبون فوق استحقاقهم.

[163] أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ باتباع أوامره و اجتناب نواهيه كَمَنْ باءَ أي رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ فكأنه رجع إلى أعماله الدنيئة بعد أن ذهب إلى اللّه سبحانه فعلم ماذا يريد، فقد رجع مع السخط بينما رجع غيره مع الرضوان وَ مَأْواهُ أي مرجعه و مصيره جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 68.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 413

[سورة آل عمران (3): الآيات 163 الى 164]

هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

أن المحل الذي صار إليه محل سيئ، فعلى الإنسان أن لا يفرّ من الحرب و لا يتخلف عن أمر اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى يبوء بالغضب و السخط و يكون مصيره النار.

[164] هُمْ أي هؤلاء الذين باءوا بالسخط و الذين اتبعوا رضوان اللّه، ذوو دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ فللمؤمنين درجات رفيعة و لغيرهم درجات بذيئة، أو أن لكل فريق درجات من حيث القرب و البعد، و حذف كلمة «ذوو» لما تعارف من المجاز في هذه التعبيرات بعلاقة الحال و المحل فيقال عند العد: زيد الدرجة الأولى، عمرو الدرجة الثانية، و هكذا وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم حسب أعمالهم

فلا يزهد الإنسان في الإحسان لأنه لا يقدّر، و لا يجري العاصي في المعصية لأنه لا يرى.

[165] إن النعمة التي أنعم اللّه بها على المسلمين مما يوجب شكرها و التضحية في سبيلها فهي نعمة كبيرة جدا لا تماثلها نعمة و لا يبلغ شأنها إحسان و منّة لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ أي أنعم اللّه، فإن المنّ القطع، و تسمى النعمة منّة لأنها تقطع الإنسان عن البلية و الفاقة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إنما خصوا بالذكر مع أن المنة عامة لأنهم هم الذين استفادوا منها دون سواهم إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا فإنه أعظم النعم، و لذا لم يمن اللّه على الإنسان بأية نعمة سواها، فإن في الإرسال صلاح الدين و الدنيا و الآخرة و إكمال البشر حسب قابلياتهم مِنْ أَنْفُسِهِمْ تذكير بنعمة أخرى، إذ كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جنس البشر-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 414

[سورة آل عمران (3): آية 165]

أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165)

لا الملائكة و الجن- تشريف لهم و إظهار لفضل هذا النوع، و حيث أن السياق حول مؤمن الأنس لا يستشكل بأن المؤمنين أعم من الجن و ليس الرسول من أنفسهم يَتْلُوا الرسول عَلَيْهِمْ آياتِهِ تلاوة، كما يتلو المعلم الدرس على التلميذ وَ يُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الأدناس الظاهرية بأوامر النظافة و ما أشبه، و الأقذار الخلقية و الاعتقادية بإرشادهم إلى الحق و الفضيلة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يفهمهم معانيه، و هو غير التلاوة وَ الْحِكْمَةَ و هو علم الشريعة، أو مطلقا، بمعنى أنه يعلمهم مواضع الأشياء خيرها و شرها فإن الحكمة كما قالوا: «وضع الشي ء

موضعه».

وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي قبل أن يأتيهم الرسول لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح في عقائدهم و أخلاقهم و أعمالهم، فعلى المؤمنين أن يضحوا في سبيل هذه النعمة بكل غال و رخيص، فما فعلوا يوم أحد كان خلاف الشكر، و ما ضحوا فيه لم يكن كثيرا مقابل هذه النعمة العظمى.

[166] أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي هل أنتم بحيث لما أصابتكم مصيبة في أحد و الحال أنكم في بدر قَدْ أَصَبْتُمْ من الكفار مِثْلَيْها فإنه قتل منكم في أحد سبعين، و قد أصبتم من الكفار مائة و أربعين إذ قتلتم منهم سبعين و أسرتم منهم سبعين في واقعة بدر قُلْتُمْ أَنَّى هذا أي من أي وجه أصابنا هذا و نحن مسلمون، و هذه الجملة «أو لما ..» استنكارية أي كيف تستنكرون إصابتكم بأحد و الحال أنكم قد أصبتم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 415

[سورة آل عمران (3): الآيات 166 الى 167]

وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)

في بدر مثلي ما أصابكم، ثم أن هذه الإصابة كانت لضعف نفوسكم حيث أغراكم المال و أخليتم أماكنكم في الجبل قُلْ يا رسول اللّه:

هُوَ أي ما أصابكم مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ الجشعة إلى حب الغنيمة و المال إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر أن ينصركم على أعدائكم كما يقدر أن يخذلكم حين تتركون أوامره، و

في بعض الأحاديث أنهم في بدر خيروا بين أخذ الفدية من

الأسرى على أن يقتل منهم في العام القابل سبعون بعدد الأسرى، و بين أن يقتلوا الأسرى و لا يأخذون الفدية.

فطلبهم للمال أوجب اختيار الأول، و على هذا كان ما أصابهم في أحد «من عند أنفسهم».

[167] وَ ما أَصابَكُمْ أيها المسلمون يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي حين تلاقى المسلمون و الكفار في يوم أحد فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي بعلمه، أو بأنه لم يحل بين الكفار و بينكم حتى أصابوا منكم. و هذا كالإذن تكوينا، و قد أذن سبحانه لفائدة التمييز بين المؤمن و المنافق وَ لِيَعْلَمَ أي يتحصّل علمه في الخارج الْمُؤْمِنِينَ الذين جاهدوا.

[168] وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا أظهروا الإسلام و أبطنوا النفاق و هم ابن أبي سلول و جماعته حيث أنهم انخذلوا يوم أحد نحوا من ثلاثمائة رجل قالوا: علام نقتل أنفسنا؟! وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن عمرو بن حزام الأنصاري قال لهم هذه المقالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 416

[سورة آل عمران (3): آية 168]

الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)

أَوِ ادْفَعُوا عن حريمكم و أنفسكم فإن الكفار إذا غلبوا نكّلوا بكم قالُوا أي قال أولئك المنافقون في جواب المؤمنين: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فإن هذا الذي تخوضونه ليس بقتال إذ لو كان قتالا لأخذتم برأينا فيه، أو تريدون إلقاء النفس في التهلكة فليس هذا قتالا يتكافأ فيه الجانبان، هُمْ أي هؤلاء المنافقون لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ فكلما عمل المنافق بالخلاف كان أقرب إلى الكفر و كلما عمل بالوفاق كان أقرب إلى الإيمان يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فأفواههم تنطق بالإيمان و قلوبهم تضمر الكفر و العصيان وَ اللَّهُ أَعْلَمُ

بِما يَكْتُمُونَ في قلوبهم فيجازيهم حسب نفاقهم المضمر.

أقول: الظاهر أن قوله: «و ليعلم» إلى آخره، ليس عطفا على «بإذن اللّه» إذ يكون المعنى حينئذ أن الإصابة علة للتمييز، و الحال أن إعلان الجهاد كان علة ذلك، فقوله: «ليعلم» جملة مستأنفة، أي أن حرب أحد كانت لأجل التمييز بين المؤمن و المنافق، في جملة فوائدها الأخرى.

[169] ثم ذكر سبحانه صفة أخرى للذين نافقوا بأنهم هم الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي قالوا حول إخوانهم الذين ذهبوا إلى ساحات الجهاد فقتلوا وَ قَعَدُوا أي قعد هؤلاء المنافقون عن القتال لَوْ أَطاعُونا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 417

[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 170]

وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

في تركهم الخروج ما قُتِلُوا جملة «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» مقول قولهم. قُلْ لهم يا رسول اللّه: فَادْرَؤُا أي ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالكم أن البقاء في البيت موجب لعدم موت الإنسان، فمن أين لكم أن من يبقى في بيته لا يموت، فكم من الذين بقوا في بيوتهم و ماتوا و كم خرجوا في القتال و رجعوا سالمين؟! [170] و لو فرضنا أن الخارج إلى الجهاد قتل، فما يضره ذلك، فإن من استشهد في سبيل اللّه لا تنتهي حياته بل يبقى حيا يرزق وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً فكما أن هذه الحياة المادية ذات مراتب، فمرتبة منها كاملة فيمن كان سعيدا فرحا، و مرتبة منها ناقصة فيمن كان شقيا حزينا. كذلك من مات

يكون على قسمين- بعد بقاء كليهما في حياة من لون آخر- قسم يكون حيا هناك أي سعيدا فرحا، و قسم يكون ميتا هناك أي شقيا حزينا، فليس للآية الكريمة مفهوم أن غير المقتول لا حياة له هناك بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ حياة غير مادية بل حياة عند ربهم و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا.

[171] في حال كونهم فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الحياة الباقية و السعادة و الخير وَ يَسْتَبْشِرُونَ أي يسرّ هؤلاء المقتولون في سبيل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 418

[سورة آل عمران (3): الآيات 171 الى 172]

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

اللّه بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ من المؤمنين الذين بقوا في الحياة و بقوا مِنْ خَلْفِهِمْ و استبشارهم بهؤلاء من جهة أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إذ اللّه سبحانه يتولى أمورهم وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ بالنسبة إلى من خلفهم، فهؤلاء المقتولون جمعوا بين خيرين خير أنفسهم حيث تنعموا بنعمة اللّه سبحانه و خير إخوانهم الذين من خلفهم حيث علموا بأنهم لا خوف عليهم، و ذلك بخلاف من بقي و لم يجاهد فإنهم جمعوا بين شرين مشاكل حياة أنفسهم و مشاكل حياة إخوانهم، حيث لا يعلمون ماذا تكون عاقبة أمر أنفسهم و أمر إخوانهم.

[172] يَسْتَبْشِرُونَ أي هؤلاء المقتولون يسرّون و يفرحون بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ينعمها عليهم في الآخرة وَ فَضْلٍ أي الزيادة على قدر استحقاقهم أو على ما يترقبون وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ فإن من علم أن حقه و أجره مضمون فرح و

استبشر، فهؤلاء يرون عيانا أن حقهم محفوظ بخلاف الإنسان في الدنيا فإنه يعلم ذلك دون أن يراه.

و في تكرار المطلب زيادة تمكين المعنى في النفس، و مثله كثير في التحذيرات و الترغيبات المستقبلة و بالأخص إذا لم يشاهد الإنسان أمثاله بل كان غيبا محضا فإن في التكرار تركيز المطلب في النفس حتى تعمل تلقائيا كالذي شاهد و حضر.

[173] لما انصرف أبو سفيان و أصحابه من «أحد» و بلغوا «الروحاء» ندموا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 419

[سورة آل عمران (3): آية 173]

الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

على انصرافهم عن المسلمين و تلاوموا فيما بينهم قائلين بعضهم لبعض: لا محمدا قتلتم و لا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد و تركتموهم، فارجعوا فاستأصلوهم. فبلغ ذلك الخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأراد إرهابهم فخرج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه من به جرح من أحد حتى بلغ «حمراء الأسد» و بلغ الخبر المشركين فخافوا خوفا شديدا و ولوا منهزمين.

و وجه اتصال الآية أنه سبحانه بعد ما بين أجر الشهداء و أنهم يستبشرون بالأحياء ذكر وصف الأحياء الذين يستبشر بهم المقتولون أنهم أولئك الذين لم تزلزلهم المحنة و لم تقعدهم الجراحات عن مواصلة الكفاح و لم يرهبهم تجمع الأعداء و إرجافهم بهذا التجمع و هم مثخنون بهذه الجراحات الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ أطاعوهما في أمرهما، و قد ذكرنا سابقا أن ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للتشريف و أن بيان أمره أمر اللّه سبحانه و إلا فالأمر واحد مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ

الْقَرْحُ أي نالتهم الجراحات يوم أحد لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بعد الاستجابة وَ اتَّقَوْا معاصي اللّه سبحانه أَجْرٌ عَظِيمٌ لأنهم أطاعوا في ثلاث دفعات حضورهم في أحد و استجابتهم ثانيا و إحسانهم و تقواهم ثالثا.

[174] ثم وصفهم سبحانه بوصف آخر أنهم هم الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فقد قال الناس لأصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 420

[سورة آل عمران (3): آية 174]

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)

رجوعهم من أحد: إن «الناس» و هم أبو سفيان و المشركون قد جمعوا لكم، أي جمعوا المشركين لأجل محاربتكم فَاخْشَوْهُمْ أي خافوا منهم لأنهم إذا رجعوا إليكم و أنتم- أيها المسلمون- مثخنون بالجراح من أحد لن يبقوا منكم باقية فَزادَهُمْ تجمع الناس عليهم إِيماناً فإن عند كل كارثة يتذكر المؤمن اللّه سبحانه فتقوى نفسه بمعونته و تشتد عزيمته بنصره وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا اللّه يكفينا شر أعدائنا وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ فإنه خير من جعله الإنسان وكيلا لعلمه بمواقع النفع و الضرر و قدرته على جلب النفع و دفع الضرر عن الموكل.

[175] فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ أي رجع هؤلاء المؤمنون الذين استجابوا لله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، تصحبهم نعمة اللّه و فضله لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ فهم بعد ما خرجوا في طلب أبي سفيان، هرب أبو سفيان فرجع المسلمون و هم مرهوبو الجانب أشداء النفوس وَ قد اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ باتباع أمره في تعقب المشركين وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على من اتبع أمره فهو يسعده في الدنيا

و الآخرة.

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ» فإني سمعت اللّه يقول بعقبها: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ»

«1».

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 392.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 421

[سورة آل عمران (3): الآيات 175 الى 176]

إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)

[176] إِنَّما ذلِكُمُ «كم» للخطاب، و «ذا» إشارة إلى التخويف من الأعداء أي أن التخويف الذي صدر عن بعض الناس بالنسبة إلى المسلمين من عمل الشيطان فإنه الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فإن المؤمنين لا يخافون و إنما أولياء الشيطان يخافون لأنهم بانقطاع صلتهم من اللّه سبحانه يخافون من كل شي ء كما قال سبحانه في وصف المنافقين: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ «1»، فَلا تَخافُوهُمْ أي لا تخافوا الناس الذين جمعوا لكم، أو لا تخافوا الشيطان و أولياءه وَ خافُونِ و الخوف من اللّه سبحانه بمعنى إطاعته و ترك عصيانه فإن في ترك ذلك، النار و العقاب إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يوجب أن لا يخاف الإنسان إلا من اللّه سبحانه، و ليس المراد عدم الخوف مطلقا فإنه قهرا للإنسان و إنما المراد ترتيب الأثر على الخوف.

[177] وَ لا يَحْزُنْكَ يا رسول اللّه الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يتسابقون في أعمالهم الكافرة كأنهم في سباق من كثرة نشاطهم إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ فإن دعوتك التي هي مرتبطة بالله سبحانه لا بد و أن تنجح و تتقدم

و هذه المسارعات الكافرة لا تضرها، فقد نسب موقف الدعوة إلى اللّه سبحانه، إفادة لعلوها و قوة المدافع و المتولي لها شَيْئاً أصلا لا صغيرا و لا كبيرا، بل إنهم يضرون بذلك أنفسهم فإن

______________________________

(1) المنافقون: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 422

[سورة آل عمران (3): الآيات 177 الى 178]

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)

إعطاء اللّه القدرة لهم في أن يفعلوا ما يشاءون لأنه يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ و إنما أراد ذلك لأنهم أعرضوا عن الحق كما أنك إذا أديت إلى عبدك مالا ليتاجر به، ثم ذهب يقامر به، و أمهلته فلم تضرب على يده تقول: أريد أن أبدي سوءته و أعاقبه بعقاب كبير وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بكفرهم و مسارعتهم و نشاطهم ضد الإسلام.

[178] إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أي بدّلوا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بتبديلهم الكفر بالإيمان شَيْئاً أيّ شي ء أبدا وَ لَهُمْ أي للذين بدلوا الكفر بالإيمان عَذابٌ أَلِيمٌ بما بدلوا.

[179] وَ لا يَحْسَبَنَ أي لا يظن الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ الإملاء الإمهال، أي أن إطالتنا لأعمارهم و إمهالنا إياهم و توفير المال و الجاه لهم ليس خيرا لهم فإن الخير هو الذي لا يسبب شرا و عقابا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ نطيل أعمارهم و نعطيهم ما نعطيهم لِيَزْدادُوا إِثْماً و معصية، فإنهم بإعراضهم عن الحق و خبث بواطنهم استحقوا العقاب و العذاب لكن حيث لا عقاب على الخبث الباطني فقط كان الإمهال مظهرا لذلك الخبث، فبقاؤهم موجب لزيادة عقوبتهم

وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم علاوة على ألمه و كربه و ربما يقال: إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 423

[سورة آل عمران (3): آية 179]

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

«اللام» في قوله «ليزدادوا» لام العاقبة كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «1».

[180] ثم يرتد السياق إلى قصة أحد حيث انكشف هناك المؤمن الذي تبع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الحرب من المنافق الذي تخلّف عن الجهاد كعبد اللّه ابن أبي سلول بمن تخلف معه ما كانَ اللَّهُ أي ليس من سنته سبحانه أن لا يمتحن لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ أي يدعهم و يتركهم عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من ظاهر الإيمان الذي يتساوى فيه المؤمن و المنافق حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ لكي يظهر ما يضمره كل فريق. و في بعض التفاسير: أن المشركين قالوا لأبي طالب: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا و من يكفر؟ فإن وجدنا خبره صدقا آمنا به. فنزلت الآية. «2» و على هذا فمعنى «عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» أي حالكم قبل الإيمان، فلا يترك سبحانه المؤمن على كفره بين سائر الكفار وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حتى تعلموا أن هذا مؤمن و هذا منافق، بدون الاختبار الخارجي المظهر للضمائر وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أي يختار لاطلاعه على الغيب مِنْ رُسُلِهِ و أنبيائه مَنْ يَشاءُ و هذا كقوله

______________________________

(1) القصص: 9.

(2) مجمع البيان: ج 2 ص

456.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 424

[سورة آل عمران (3): آية 180]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1» و لا ينافي ذلك اطلاع بعض الملائكة و الأئمة و بعض المؤمنين على بعض المغيبات إذ الملائكة خارج عن المستثنى منه و الباقون إما بتعليم النبي أو بإلهام منه سبحانه و عدم استثنائه لندرته خارجا، و القضايا الطبيعية- كما نحن فيه- لا تنافيها النوادر.

و حيث عرفتم قيمة الإيمان فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ إيمانا حقيقيا لا يشوبه نفاق و خبث ضمير وَ إِنْ تُؤْمِنُوا إيمانا صادقا وَ تَتَّقُوا المعاصي و تعملوا الصالحات فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ يبقى إلى الأبد في جنة عرضها السماوات و الأرض و رضوان من اللّه.

[181] و حيث تقدم الكلام حول الجهاد و التضحية عقبه سبحانه بذكر المال فهما يذكران غالبا مقترنين إذ الجهاد يحتاج إلى بذل المال و الدين إنما يقام ببذل النفس و بذل المال معا، فقال سبحانه: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أعطاهم سبحانه فضلا و إحسانا فإن المال و إن اجتهد الإنسان و كدّ في جمعه إنما هو فضل من اللّه سبحانه لأنه من خلقه و صنعه فالنقدان مثلا معدنان مخلوقان له و سائر الأموال من نبات الأرض و ما أشبه كله له، هذا بالإضافة إلى أن أجهزة الإنسان التي بها يتمكن من كسب المال كلها منه سبحانه. و المراد بالبخل هنا هو الحرام منه مما يجب إعطاؤه

فيمنع

______________________________

(1) الجن: 27- 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 425

هُوَ خَيْراً لَهُمْ حيث يزعمون أن البخل يوفر عليهم المال فيبقى عندهم و لا يخرج من أيديهم و «خيرا» مفعول «يحسبن» بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ إن ذلك البخل شر لهم يعود عليهم في الدنيا بالشر حيث أن ذلك موجب لسوء السمعة الذي بدوره يوجب عدم التمكن من اكتساب المزيد من المال و يوجب ذهاب الكائن منه بمصادرات الحكام و ثورات الفقراء، و الأسوأ من ذلك أنهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ أي يجعل المال الذي بخلوا به طوقا في أعناقهم يَوْمَ الْقِيامَةِ و هذا كناية عن لزوم تبعة المال، كما يقال: المرأة طوق في عنق الإنسان، و الدّين طوق في عنق المدين، و هكذا، و في الأحاديث الواردة

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام أنه «ما من أحد يمنع من زكاة ماله شيئا إلا جعل اللّه ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوقا في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب»

«1» و في بعضها تفسير الآية الكريمة بذلك.

ثم ما بال هؤلاء يبخلون؟ فإنه لا يبقى المال عندهم إلى الأبد، بل يذهبون و يذرون المال وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكل من يموت فيهما و يخلف شيئا فلا بد و أن يرثه اللّه سبحانه حيث تبقى الأموال له وحده بعد فناء الجميع فما بخل به عنه سبحانه و لم يصرف في سبيله لا بد و أن يرجع إليه، و ليس للبخيل إلا الإثم

______________________________

(1) الكافي: ج 3 ص 502.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 426

[سورة آل عمران (3): آية 181]

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ

أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فما أنفقتم من نفقة يعلمها اللّه سبحانه فيجازيكم عليها جزاء حسنا.

[182] و قد كان من بخلاء اليهود من لا ينفق مما آتاه اللّه، ثم يزيد على ذلك فيقول: إن اللّه فقير لأنه يستقرض- تعريضا بقوله سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ «1»- و أنا غني لما لدي من الأموال لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ و يكفيه تهديدا أن اللّه سمع قوله فلينتظر الجزاء العادل و العقاب الأليم سَنَكْتُبُ ما قالُوا حتى يكون كتابا مسجلا عليهم لا مجال لإنكاره يوم يعطى كل امرئ كتابه، و قد كان منطق اليهود منحرفا إلى أبعد الحدود، و كيف يكون اللّه سبحانه فقيرا و هو الذي يملك كل شي ء حتى روح هذا القائل؟! و إنما استقراضه امتحان و طلبه المال ابتلاء و اختبار، و كيف يكون هو غنيا و الحال أنه لا يملك روحه فكيف بماله؟! وَ سنكتب قَتْلَهُمُ أي قتل هؤلاء اليهود الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ و إنما عيّرهم اللّه سبحانه مع أن آباءهم هم الذين فعلوا، لرضاهم بذلك أولا و لبيان أن هؤلاء خلفا عن سلف مجرمون فلا عجب أن يقول الخلف كفرا بعد ما عمل السلف أفظع من ذلك ثانيا، و دخول «السين» في سنكتب، لعله لبيان أن الكتابة لا تثبت إلا بعد أن يموتوا غير مؤمنين بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلا فالكتابة لا تضر إذا محيت

______________________________

(1) البقرة: 246.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 427

[سورة آل عمران (3): آية 182]

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ

بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)

بالإيمان، و هذا يصح بالنسبة إلى قولهم، أما بالنسبة إلى قتل أسلافهم، و قد كتب قتلهم، فلأن كتابة ذلك عائد على الأخلاف إذا بقوا على الكفر، و لعل العطف على المعنى أي «و كتبنا قتلهم الأنبياء» من قبيل «نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض» و قوله: «علفته تبنا و ماء باردا».

وَ نَقُولُ حين عقابهم في الآخرة ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ الذي يحرق أجسادكم بفعلكم و قولكم.

[183] ذلِكَ العذاب إنما يكون بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من الكفر و العصيان، و إنما عبّر بتقديم الأيدي لأن الإنسان غالبا يقدّم الأشياء بيده، فيكون ذلك من باب التشبيه للمعقول بالمحسوس وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأنتم عبيده خالفتم أوامره فاستحققتم هذا العقاب، و «ظلّام» ليست لفظة مبالغة على غرار «علّام» و إنما للنسبة نحو «تمّار» بمعنى ذي تمر، كما قال ابن مالك:

و مع فاعل و فعّال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل

و لعل اختيار هذه الكلمة لردّ التوهّم و هو أن الإحراق بالنار إنما يصدر من إنسان كثير الظلم، فيكون الإتيان به للمجانسة اللفظية كقوله:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخةقلت اطبخوا لي جبة و قميصا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 428

[سورة آل عمران (3): الآيات 183 الى 184]

الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)

[184] إن الذين قالوا إن اللّه فقير و نحن أغنياء، و الذين قتلوا أنبياءهم، هم الذين لم يؤمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم بحجة مكذوبة، فقد قالوا: يا محمد إن اللّه عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن زعمت أن اللّه بعثك إلينا فجئنا بالقربان حتى نصدقك، فنزلت الآية الَّذِينَ قالُوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و «الذين» في موضع الجر عطفا على «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ»: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أمرنا و وصّانا في الكتب المنزلة أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ بأن لا نصدق بنبوته حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ أي ما يتقرّب به إلى اللّه سبحانه تَأْكُلُهُ النَّارُ تأتي نار من الغيب فتحرقه، و قد كان ذلك علامة لصدق نبوة أنبياء بني إسرائيل قُلْ يا رسول اللّه في جوابهم: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ الأدلة الواضحة وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان الذي أكلته النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ فإنهم قتلوا ذكريا و يحيى و غيرهما إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أنكم تؤمنون بالرسول إذا جاءكم بقربان تأكله النار؟ و إنما ينسب فعل الأسلاف إلى الأخلاف لأن الطبيعة فيهم واحدة و الاتجاه واحد فلا يمكن أن يقال: إن معاصري الرسول لم يكونوا يظهرون الرضا بفعل أسلافهم في قتل الأنبياء.

[185] فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا رسول اللّه و لم يؤمنوا برسالتك فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فلست بدعا في ذلك و لا يضيق صدرك بتكذيبهم، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 429

[سورة آل عمران (3): آية 185]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)

الناس قد كذبوا رسلا قبلك و الحال أنهم جاؤُ بِالْبَيِّناتِ الأدلة الواضحة وَ الزُّبُرِ أي الصحف التي فيها الأحكام و

الشرائع وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ و هو الكتاب الجامع للأحكام. و الفرق بينهما أن الزبر صحائف متفرقة فيها أحكام متشتتة بخلاف الكتاب الذي هو الجامع المتسلسل، كما أنه نزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأحاديث القدسية و القرآن الحكيم ..

و هنا سؤال هو: إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم لم يأت بقربان تأكله النار؟ و الجواب:

إنهم سألوا ذلك تعنّتا لا استرشادا، و إلا فقد كان يكفيهم سائر الأدلة، و ليس شأن الأنبياء أن يفعلوا فوق اللازم من المعجزة لكل متعنت و مجادل، و هذا هو السر في رد كثير ممن سأل المعجزة.

[186] إن عدم الجهاد لخوف الموت، و عدم الإيمان لخوف ذهاب الرئاسة، و عدم الإنفاق لخوف الفقر، مما له عاقبة سيئة هي النار، فكل إنسان يموت و تذهب حياته و رئاسته و ماله، فما أجدر أن يفعل ما يسبّب له حسن العاقبة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ تذوقه و تلاقيه وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أيها الناس أُجُورَكُمْ الحسنة أو السيئة يَوْمَ الْقِيامَةِ فهنا عمل و لا حساب و غدا حساب و جزاء بلا عمل فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ أي بوعد عنها وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ لأنه سرور و راحة لا انقطاع لهما و لا تكدّر فيها وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا بلذاتها و شهواتها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 430

[سورة آل عمران (3): الآيات 186 الى 187]

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ

وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)

إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ تسبب غرور الإنسان و غفلته عن الخير الدائم الباقي. فمن الجدير بالإنسان أن يحصل بحياته و رئاسته و ماله تلك الدار الباقية لا أن يغتر بالدنيا و يعصي اللّه سبحانه حتى يدخل النار.

[187] إن الدنيا دار محنة و ابتلاء لا دار راحة و سعادة فاعلموا أيها المسلمون لَتُبْلَوُنَ أي تقع عليكم المحن و البلايا بكل تأكيد فِي أَمْوالِكُمْ بذهابها و نقصانها و وجوب الإنفاق منها وَ في أَنْفُسِكُمْ بالأمراض و الشدائد و القتل في الجهاد و نحوه وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ اليهود و النصارى و المجوس وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا من سائر أقسام الكفار أَذىً كَثِيراً سبا و شتما و تهمة و وقيعة و استهزاء وَ إِنْ تَصْبِرُوا في البلايا و الأذى وَ تَتَّقُوا فلا تحملنّكم البلية و الأذية على الابتعاد عن الدين و عمل المحرّم فَإِنَّ ذلِكَ الصبر و التقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي الأمور التي يجب العزم عليها و المضي فيها. و في الكلام مجاز إذ نسب العزم الذي هو للإنسان إلى الأمر، مثل نسبة الإصرار إلى الأمر في قولك: «أصرّت الأمور عليّ» لبيان أن الأمر قد صار عزما، من شدة لزومه، و فرض وجوبه.

[188] ثم يأتي السياق إلى ذكر صفة أخرى من أهل الكتاب مناسبة للمقام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 431

[سورة آل عمران (3): آية 188]

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)

حيث أنهم يعلمون رسالة الرسول و هي موجودة في كتبهم، لكنهم بدل أن يؤمنوا و يظهروا ذلك

للناس يصرّون على الجدال و العناد و يخفون الكتاب على الناس وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أخذ عهدهم الأكيد بواسطة الأنبياء عليهم السّلام لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ أي تبينون الكتاب الذي فيه الأحكام و البشارة برسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا تَكْتُمُونَهُ أي لا تخفونه فَنَبَذُوهُ أي طرحوا الميثاق وَراءَ ظُهُورِهِمْ كناية عن إهمالهم له و عدم اعتنائهم به كما أن الذي يريد إهمال متاع يلقيه وراء ظهره وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي بدلوا بأحكام الكتاب رئاسة قليلة في الدنيا و أموالا قليلة كانوا يتقاضونها من سائر اليهود فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ من الثمن حيث يستحقون بذلك العذاب الدائم.

[189] و من الناس من لا يدخل في عمل الخير مع العاملين، فإذا خسر العاملون ما أرادوا وصفوا أنفسهم بالحصانة و التعّقل، و إذا ربحوا جعلوا أنفسهم من المؤيدين لهم، و توقعوا أن يثنى عليهم ثناء العاملين، إن أمثال هؤلاء الذين لا يشتركون فيما يجب الاشتراك فيه، لا بد و أن ينالهم العذاب لتركهم الواجب، و غالبا يكونون من المنافقين، و من الذين يقعدون عن الجهاد، و عن واجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لهؤلاء ميزة أخرى و هي أنهم يفرحون بما يأتون من الأعمال حقا كان أو باطلا، بخلاف المؤمنين الذين إذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 432

[سورة آل عمران (3): الآيات 189 الى 190]

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)

عصوا استغفروا، و إذا أحسنوا خافوا، كما قال سبحانه: وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا

وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ «1».

لا تَحْسَبَنَ يا رسول اللّه الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا من الأعمال صالحة كانت أو طالحة وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا أي يحمدهم الناس بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الأعمال الخيرية فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ يا رسول اللّه بِمَفازَةٍ من الفوز، أي النجاة مِنَ الْعَذابِ فإنهم يعذبون بكل تأكيد لهذه الأفعال و الصفات وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم. و هذه الآية كما تراها عامة، فتفسيرها بالمنافق أو نحوه من باب ذكر المصداق.

[190] أين المفر لهؤلاء من عذاب اللّه وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فلا يمكن لأحد الفرار من حكومته وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يفوته ما يريد و يفعل ما يشاء.

[191] و هنا ينتهي السياق بأدلة الإيمان و أحوال المؤمنين و أن أعمال الكافرين في انهيار، مناسبة للجو العام من السورة الذي كان في الإيمان و العقيدة و أحوال المؤمنين و الكافرين، و مرتبطة بالآية السابقة

______________________________

(1) المؤمنون: 61.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 433

[سورة آل عمران (3): آية 191]

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)

«وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ» إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي في إيجادهما بما تشتملان عليه من العجائب و مختلف صنوف الخلق و الإبداع وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ تعاقبهما و مجي ء أحدهما خلف الآخر بكل إتقان و انتظام لَآياتٍ دلالات و براهين على وجود اللّه سبحانه و صفاته لِأُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول فإن كل من نظر إلى الأثر لا بد أن يعقل وجود المؤثر و كلما كان الأثر أتقن و أجمل دلّ على كمال علم المؤثر و قدرته و إرادته

و غيرها من الصفات الجمالية.

[192] ثم بين صفات أولي الألباب بقوله سبحانه: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ذكرا بالقلب، أي تذكرا له سبحانه قِياماً في حال القيام وَ قُعُوداً في حال القعود وَ عَلى جُنُوبِهِمْ في حال الاضطجاع، يعني أنهم دائما في التفكّر باللّه سبحانه و ذكره سواء كانوا قائمين أو قاعدين أو مضطجعين وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كيف خلقتا بهذا النحو المتقن المدهش، و كيف جريتا، و كيف كانتا، و كيف ستكونان، و في حال التفكر و الدهشة لسان حال هؤلاء يقول: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا الكون، و الخلق باطِلًا عبثا و لغوا، بلا غاية و مقصود سُبْحانَكَ أي أنت منزّه عن الباطل و اللغو، و هو مفعول لفعل مقدر، أي نسبحك سبحانك فَقِنا أي احفظنا من عَذابَ النَّارِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 434

[سورة آل عمران (3): الآيات 192 الى 194]

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)

و لعل دخول الفاء في «فقنا» لبيان أنهم يطلبون جزاء تصديقهم و إيمانهم و تفكّرهم.

[193] و يقولون أيضا: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فضحته و أهلكته وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم في دار الدنيا بالكفر أو العصيان مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم من عذاب اللّه سبحانه.

[194] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كل من نادى الناس للإيمان بالله سبحانه، فإن

أولي الألباب يعترفون لله سبحانه بأنهم استجابوا لمنادي الإيمان و لم يلووا عن نداء الحق فقد سمعوا المنادي ينادي: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ و لا تكفروا و لا تشركوا فَآمَنَّا بك يا سيدنا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا التي صدرت منا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا و ربما يقال بأن الفرق أن الذنوب هي الكبائر لأنها ذات أذناب و تبعات، و السيئات هي الصغائر لأنها تسي ء إلى الإنسان و إن لم تكن ذات تبعة لأنها مكفّرة لمن اجتنب عن الكبائر، و هناك في الفرق أقوال أخرى، و لعل التكرار للتأكيد إظهارا لكمال الخوف من الذنوب وَ تَوَفَّنا أي اقبضنا إليك عند موتنا مَعَ الْأَبْرارِ في جملتهم، و الأبرار جمع «برّ» و هو الذي يبرّ اللّه بطاعته إياه.

[195] رَبَّنا وَ آتِنا أي أعطنا ما وَعَدْتَنا من الخير و السعادة في الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 435

[سورة آل عمران (3): آية 195]

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)

عَلى لسان رُسُلِكَ و أنبيائك وَ لا تُخْزِنا أي لا تفضحنا يَوْمَ الْقِيامَةِ على رؤوس الأشهاد إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ الذي وعدته للمؤمنين بسعادة الدنيا و خير الآخرة.

[196] فَاسْتَجابَ لَهُمْ أي لهؤلاء المؤمنين الذين دعوا بالأدعية السابقة رَبُّهُمْ أي لبّى دعوتهم و قبل كلامهم، قائلا: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى فكل مؤمن محفوظ عمله ليعطي جزاءه بَعْضُكُمْ أيها المؤمنون مِنْ بَعْضٍ فكلكم من

جنس واحد في نصرة بعضكم و لستم كالكافرين الذين ليس بعضهم من بعض بل بعضهم يباين بعضا فلكل فئة منهم لون و صبغة فَالَّذِينَ هاجَرُوا إلى المدينة وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أخرجهم المشركون من مكة. و الآية عامة لكل مهاجر عن دياره، و مخرج من بلاده وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي لأنهم آمنوا و أطاعوا وَ قاتَلُوا لأجل اللّه سبحانه وَ قُتِلُوا قتلهم الكفار لَأُكَفِّرَنَ أي أمحونّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ فلا آخذهم بها وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تحت نخيلها و قصورها- كما تقدم- ثَواباً أي جزاء لهم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ على أعمالهم و مشاقهم في سبيله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 436

[سورة آل عمران (3): الآيات 196 الى 198]

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)

وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أي الجزاء الحسن، و ليس كغيره ممن لا يقدر و لا يملك الثواب الحسن.

[197] و هنا يتأمل الإنسان كيف يكون الكفار في هذه النعمة و الراحة و السياحة و الأسفار و الثمار، و المسلمون مضطهدين يخرجون من بلادهم و يؤذون، مع أن اللّه سبحانه ناصرهم و ظهيرهم؟ و يأتي الجواب: لا يَغُرَّنَّكَ و أصل الغرور إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه، فالمعنى لا يوهمنك يا رسول اللّه أن الكفار في سرور تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فإن تقلبهم لا يعود إليهم بنفع.

[198] فإن ذلك مَتاعٌ قَلِيلٌ أي يتمتعون بذلك في زمان قليل ثُمَّ مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ أي ساء

ذلك المستقر لهم.

[199] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن آمنوا و أطاعوا فإنهم و إن كانوا في أذية و ضغط فعلا لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الجارية خالِدِينَ فِيها أبدا لا متاع قليل كمتاع الكفار في الدنيا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ النزل ما يعدّ للضيف من الكرامة و البرّ و الطعام و الشراب وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب و الكرامة خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ من تقلب الكفار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 437

[سورة آل عمران (3): الآيات 199 الى 200]

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

[200] ثم يرجع السياق إلى أهل الكتاب الذين تقدّم أنهم يكفرون و يمكرون وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يصدّق بوحدانيته و يعترف بما يعترف به المؤمنون وَ ب ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن الحكيم وَ ب ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بخلاف سائر أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بما أنزل إليهم إذ أنهم يحلّون و يحرمون و يخالفون كتابهم في أحكامه، في حال كونهم خاشِعِينَ خاضعين لِلَّهِ سبحانه فيما أمر و نهى لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بمقابل آيات اللّه و دلائله و براهينه ثَمَناً قَلِيلًا كما كان يفعل ذلك رؤسائهم الذين كانوا يرتشون و يخفون الكتاب لئلا تزول رئاستهم أُولئِكَ الذين لهم هذه الصفات الخيرة من أهل الكتاب لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يجازيهم بما فعلوا من الخيرات و آمنوا و صدقوا إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فليس أجرهم بعيدا

عنهم فإن أمد الدنيا و لو طال قليل كما قال الشاعر:

ألا إنما الدنيا كمنزل راكب أناخ عشيا و هو في الصبح يرحل

[201] و أخيرا يتوجه الخطاب للمؤمنين و تنتهي السورة بهذه العظة البليغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على الإيمان و المكاره وَ صابِرُوا أي غالبوا في الصبر، و لعل المراد مصابرة الأعداء فكلما صبر الكفار زاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 438

المؤمنون صبرا على صبر أولئك حتى يغلبوا و يأخذوا المعركة وَ رابِطُوا و هو المرابطة في ثغور المسلمين للتطلّع على أحوال الكفار وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أعمالكم فلا تأتوا بالمعاصي لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي كي تفوزوا و تنجحوا في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 439

4 سورة النساء مدنية/ آياتها (177)

نزلت كلها في المدينة على المشهور و سميت بهذا الاسم، لأنها بينت كثيرا من حقوق النساء في الشريعة الإسلامية.

[سورة النساء (4): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقدم تفسيرها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 440

[سورة النساء (4): آية 2]

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)

[2] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ بإطاعة أوامره و نواهيه، و هذه الفاتحة تلائم خاتمة سورة آل عمران حيث قال سبحانه: «وَ اتَّقُوا اللَّهَ» الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي نفس آدم أبي البشر عليه السّلام وَ خَلَقَ مِنْها أي من تلك النفس، إما بالخلق من فضلة طينته، أو المراد من

جنس تلك النفس زَوْجَها و هي حواء عليها السّلام، فإن هذا الإله الخالق القادر حقيق بالتقوى، و لا يخفى أن ذلك لا ينافي خلق زوجتين جديدتين لهابيل و قابيل حتى نشأ منهما أبناء عمّ- كما عن الأئمة عليهم السّلام- إذ الكلام في ابتداء الخلقة وَ بَثَ أي نشر و فرق مِنْهُما أي من هاتين النفسين رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً و هذا أيضا لا ينافي إذ أصل البث منهما، و لعل عدم ذكر لفظة «كثير» هنا لمعلومية ذلك، أو للتفنن في العبارة و الذي هو من أساليب البلاغة وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي يسأل بعضكم بعضا بسببه فتقولون: أسألك بالله إلّا ما فعلت كذا، و صنعت كذا وَ الْأَرْحامَ أي اتقوا الأرحام، و تقوى اللّه عدم مخالفته، و تقوى الأرحام عدم قطعها، و هذا مناسب لما سبق من خلقهم جميعا من نفس واحدة، فهم متشابكون من أسرة واحدة، فلا ينبغي لبعضكم أن يقطع بعضا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً يرقب أعمالكم و أقوالكم و نياتكم، فلا تفعلوا ما يوجب سخطه و عذابه و عقابه.

[3] وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ أي أعطوا اليتامى الذين فقدوا آباءهم أو أمهاتهم و ورثوا منهم أموالهم التي بأيديكم أيها الأوصياء، أو كل من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 441

[سورة النساء (4): آية 3]

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)

كان مالهم بيده، و المراد عدم أكل أموالهم، و «الإتيان» في حال صغرهم الصرف عليهم، و في حال كبرهم إعطاؤهم إياها وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ

أي لا تعطوهم الردي ء في مقابل الجيد كأن تأخذوا أراضيهم الجيدة و تعطوهم أراضي رديئة و هكذا وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي بضمها إلى أموالكم بأن تخلطوا بعضها مع بعض و تأكلوها جميعا إِنَّهُ أي أن كل واحد من التبديل و الأكل كانَ حُوباً أي إثما كَبِيراً.

[4] و قد كانت تحت وصاية الرجل يتيمة فيأخذها طمعا في مالها، فنهى اللّه عن ذلك بقوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أي لا تعدلوا فِي الْيَتامى أي لا تعملوا بالعدل في زواجهن فتظلموهن- بإبقائها معلقة- تريدون بذلك أكل أموالهم بحجة الزواج فَانْكِحُوا غيرهن من ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فإن اليتيمة لعدم كفيل لها معرضة للظلم و الحيف أما غيرها فليست كذلك، ثم بمناسبته حكم النكاح يمتد الكلام إلى موضوع تعدد الزوجات مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ أي انكحوا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، و المراد تزويج نوع الرجل هكذا لا تزويج كل فرد لذلك العدد، إذ لا يجوز تزويج ثلاثة و ثلاثة- مثلا- في وقت واحد، و ذلك مثل: باع القوم أمتعتهم لأهل البلد، يراد أن ذلك وقع في الجملة لا أن كل فرد فعل ذلك سواء في طرف البيع أو الشراء.

و لا يخفى أن خوف عدم القسط لا يوجب حرمة النكاح وضعا بمعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 442

[سورة النساء (4): آية 4]

وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)

بطلانه إذا نكح بل النهي عنه تكليفا، و هل هو حرام أو إرشاد احتمالان، كما لا يخفى أن جواز النكاح مثنى و ثلاث و رباع لمن أمن من نفسه و أنه يتمكن من

أن يعدل فيما فرض اللّه لهن من الحقوق فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بينهن في ما فرض اللّه تعالى فَواحِدَةً و هذا من باب المثال و إلا فمن علم أنه يتمكن أن يعدل بين اثنتين فله أن ينكح اثنتين لا أزيد و هكذا بالنسبة إلى الثلاث.

و هذه الآية لا تنافي قوله تعالى: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ «1» إذ المراد بها العدل في كل شي ء حتى الميل القلبي أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي اقتصروا على الإماء فإنهن لا يحتجن إلى القسم و نحوه من الحقوق الواجبة على الرجال في مقابل الحرائر، و الملك نسب إلى اليمين لأن اليد هي الغالبة في العمل، و اليمنى من اليدين أكثر عملا من اليسرى ذلِكَ الزواج من الواحدة أو الاقتصار على ما ملكت اليمين أَدْنى أقرب أَلَّا تَعُولُوا أي لا تميلوا عن الحق و لا تجوروا.

[5] وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ أي مهورهن نِحْلَةً أي عطية فإن اللّه سبحانه أعطاها إياهن في مقابل الاستمتاع بهن لا على نحو الابتياع و نحوه و لعل في كلمة «نحلة» إشارة إلى تقدير المرأة و رفعها عن مستوى المعاملة فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ أيها الأزواج

______________________________

(1) النساء: 130.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 443

[سورة النساء (4): الآيات 5 الى 6]

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)

عَنْ

شَيْ ءٍ مِنْهُ أي من المهر نَفْساً تمييز ل «طبن» أي أعطين عن طيب نفس لا بالجبر و الإكراه فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً الهني ء الطيب المستساغ، و المري ء المحمود العاقبة.

[6] و لما تقدم الأمر بدفع أموال الأيتام، عقب ذلك بعدم الدفع إلى السفيه وَ لا تُؤْتُوا أي لا تعطوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ و إنما أضاف المال إليهم لأن المال إنما هو للمجتمع بصورة عامة فإذا دفع إلى السفيه أتلفه و كان نقصا بالنتيجة لمال المجتمع. و ليس المراد بكون المال للمجتمع عدم الملكية الفردية بل المراد أن هذا المجموع من الأموال لانتفاع المجموع فإذا تلف منه شي ء كان نقصا على المجموع الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً فإن بالمال يقوم أمر البشر إذ لو لا المال لم تستقم أمور الناس و معايشهم و المعاملة بينهم وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها أي في تلك الأموال، و لعل عدم ذكر «منها» بدل «فيها» مع أنه الأنسب، لإفادة لزوم أن لا يقتطع من المال قطعة ثم قطعة حتى تفنى بل يكون الرزق في المال بأن يبقى المال على أصله، و ذلك لا يكون إلا بتدبيره باتجار و نحوه حتى لا ينقص منه وَ اكْسُوهُمْ و ذكر هذين من باب المثال و إلا فاللازم القيام بجميع نفقاتهم وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً بأن تتلطفوا لهم في القول، و ذلك لأن اليتيم و السفيه معرضان للمخاشنة و النهر.

[7] وَ ابْتَلُوا أي امتحنوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي السنّ الذي يتمكنون من النكاح و المواقعة فيه و هو سن البلوغ الشرعي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 444

فَإِنْ آنَسْتُمْ أي وجدتم مِنْهُمْ رُشْداً و الرشد عبارة عن تمكّن الشخص من إصلاح أمواله بلا سرف و لا

تبذير و لا سفه فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ المودعة عندكم وَ لا تَأْكُلُوها أي لا تأكلوا أموال اليتامى إِسْرافاً أي زيادة على قدر أجرتكم في حفظها فإن الإسراف التعدي عن الحد وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أي لا تأكلوا أموالهم سريعا من جهة خوف أن يكبروا فيأخذوها منكم فقد كان بعض الأولياء يتلف مال اليتيم قبل أن يكبر حتى إذا كبر قال له: أنفقته عليك وَ مَنْ كانَ من الأولياء غَنِيًّا يجد مؤونة سنة كاملة فَلْيَسْتَعْفِفْ يقال: استعفف من الشي ء إذا امتنع منه، و المعنى: أن الولي الغني لا يأخذ شيئا لنفسه من مال اليتيم بعنوان الأجرة و العوض وَ مَنْ كانَ من الأولياء فَقِيراً لا يملك مؤونته لا قوة و لا فعلا فله الحق في أن يأكل من مال اليتيم بِالْمَعْرُوفِ الذي هو قدر أجرته على حفظ أمواله لا أزيد من ذلك فَإِذا دَفَعْتُمْ أيها الأولياء إِلَيْهِمْ أي إلى الأيتام الذين بلغوا و رشدوا أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ حتى لا ينكروا في المستقبل فإن الشهود حينئذ يكونون في جانبكم لدى الإنكار وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي محاسبا و شاهدا، فارقبوه في أعمالكم، فإنه يعلم ما تفعلونه بأموال الأيتام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 445

[سورة النساء (4): الآيات 7 الى 9]

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)

[8] و قد كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، فكان

الولي يدفع المال كله إلى أولاد الميت دون بناته فنهى اللّه عن ذلك بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ أي أقرباء الرجال، فلا يعطى الرجل أكثر من حظه و نصيبه وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ فلا تحرم من نصيبها كما لا تعطى أكثر من حصتها مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أي مما ترك أَوْ كَثُرَ فالمهم أن يعطى كل واحد نصيبه على أن لا يكون ما يعطى كثيرا أو قليلا نَصِيباً مَفْرُوضاً فرضه اللّه سبحانه و أوجبه فلا يزاد عليه و لا ينقص منه.

[9] وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي شهد وقت قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى أقرباء الميت الذين لا يرثون وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ من غير أقربائه فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم شيئا من المال الموروث وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا غير خشن حتى يطيب خاطرهم و يجبر كسر عدم إرثهم و كسر يتمهم و مسكنتهم.

[10] ثم بيّن سبحانه أن من يأكل مال اليتيم أو يظلمه لا بد و أن يفعل ذلك بذريته اليتامى من بعده وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 446

[سورة النساء (4): آية 10]

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

أي يجب أن يخاف ولي اليتيم من أكل ماله فإن الولي لو خلف يتيما من بعده كيف يخاف أولياء يتيمه أن يأكلوا أمواله كذلك فليجتنب هو عن ذلك، و الحاصل أن من كان في حجره يتيم فليفعل به ما يحب أن يفعل بذريته. و لا يرد على هذا المعنى أنه كيف يزر وازرة وزر أخرى، إذ الجواب أن معنى ذلك أن

اللّه سبحانه لا يرعى يتيمه حتى لا يقع في مخالب أولياء ظلمة، بل يتركهم يفعلون به ما فعل أبوه بأيتام الناس، و هكذا يفسّر ما ورد من عقوبة الأبناء بفعل الآباء، و «ضعاف» جمع ضعيف فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في أمر الأيتام فلا يأكلوا أموالهم و لا يؤذوهم وَ لْيَقُولُوا للأيتام قَوْلًا سَدِيداً صحيحا موافقا للعدل و الشرع، فلا ينهروا الأيتام و لا يخشنوا معهم في الكلام كما جرت عادة كثير من الأولياء.

[11] ثم هددهم سبحانه بعذاب الآخرة بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً بلا مبرّر و استحقاق و القيد توضيحي، لإفادة أن أكل أموالهم ظلم و جور إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي يملئون بطونهم ناراً فإن مال اليتيم ينقلب نارا وَ سَيَصْلَوْنَ يقال: صلي الأمر إذا قاسى شدته و حرّه سَعِيراً أي نارا مسعّرة مؤجّجة، و الأكل في الآية كناية عن التصرف في المال و لو كان مثل الدار و اللباس فإن الأكل يستعمل بهذا المعنى كثيرا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 447

[سورة النساء (4): آية 11]

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)

[12] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ و الوصية منه سبحانه فرض، كما قال سبحانه: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ

بِهِ «1» و معنى «في أولادكم» أي في ميراث أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فإن الابن يرث ضعف البنت و قد كان هذا التقدير دقيقا جدا حيث أن كلفة الرجل أكثر من كلفة البنت لوجوب نفقة المرأة على الرجل غالبا و في كثير من الأحيان هو يقوم بالنفقة و إن لم تجب عليه فَإِنْ كُنَ المتروكات الوارثات للميت نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي اثنتين فما فوقها، فإن ذلك يعبر غالبا بمثل هذه العبارة، يقال: من له فوق العشرة يؤخذ منه و من له دونها لا يؤخذ منه، يراد العشرة فما فوقها فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فإذا كان للميت بنتان فما فوقهما و كان هناك وارث آخر في طبقتهن كالأم و الأب كان لهن الثلثان و البقية لسائر الورثة وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً أي أولاد الميت منحصرة في بنت واحدة فَلَهَا النِّصْفُ من التركة وَ لِأَبَوَيْهِ أي الأب و الأم للميت اللذين اجتمعا مع الأولاد لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فنصيب كليهما الثلث مِمَّا تَرَكَ الميت إِنْ كانَ لَهُ أي للميت وَلَدٌ سواء كان الولد واحدا أو

______________________________

(1) الأنعام: 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 448

متعددا، ذكرا أو أنثى، أو بالاختلاف. و أما تفصيل ميراثهم فموكول إلى كتب الفقه «1» فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أي للميت وَلَدٌ لا صلبيا و لا حفيدا وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ الأب و الأم للميت فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ و الثلثان الباقيان للأب فَإِنْ كانَ لَهُ أي للميت الذي خلف الأبوين بدون الأولاد إِخْوَةٌ من الأبوين أو الأب، و المراد بالأخوة اثنين فما فوق، و الأختان تقومان مقام الأخ، فلو كان للميت أب و أم و أخوان أو أخ و أختان أو أربع أخوات، فما فوق فَلِأُمِّهِ

السُّدُسُ و ذلك لأن الأخوة يمنعون الأم عن السدس و يوفرونه للأب فلا ترث الأم الثلث مع وجود الأخوة. و تقسيم التركة هكذا إنما هو مِنْ بَعْدِ إنفاذ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها الميت أَوْ دَيْنٍ على الميت، فأولا يؤخذ الدين من التركة ثم تنفذ الوصية من التركة- إلى حد الثلث- ثم يقسم الباقي بين الورثة كما ذكر، فلو كان للميت عشرة دنانير، و كان عليه دين قدره أربعة دنانير، و وصّى بالإنفاق في الخيرات، مقدار ثلثه، كان للوارث مقدار أربعة دنانير فقط، لأن أربعة خرجت دينا، و دينارين ثلثا، فلم يبق إلا أربعة آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فلا تميلوا إلى توريث الآباء أكثر من الأبناء بظن أنهم أحق من جهة الأبوة و لا إلى العكس بظن أنهم أحق من جهة الضعف الفطري الموجود في الأبناء

______________________________

(1) موسوعة الفقه: ج 82 و 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 449

[سورة النساء (4): آية 12]

وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

فإنكم لا تعلمون أيهم أقرب نفعا، و اللّه الذي هو يعلم الأشياء يقرر الحق كما تقدم فلا تخالفوا

تحديده في أنصبة الميراث جريا وراء العاطفة و الأوهام، فإنكم لا تعلمون أنكم بأيهما أسعد في الدنيا و الآخرة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض اللّه هذه الأنصبة فريضة واجبة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فهو عالم بالمصالح حكيم فيما يفعل و يقرر.

[13] وَ لَكُمْ أيها الأزواج نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ أي زوجاتكم، فإن ماتت زوجة أحدكم فللزوج النصف إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَ أي للزوجات وَلَدٌ سواء كان من هذا الزوج أو من غيره فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ واحد أو متعدد فَلَكُمُ أيها الأزواج الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ من ميراثهن مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ فأولا يخرج الدين ثم تخرج الوصية إلى حد الثلث ثم تقسّم التركة فللزوج الربع و البقية للأولاد وَ لَهُنَ أي للزوجة التي بقيت بعد وفاة زوجها الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ أيها الأزواج وَلَدٌ و قد دلت الشريعة أن الزوجة لا ترث من الأرض فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ واحد أو متعدد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 450

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 499

ذكر أو أنثى، من تلك الزوجة الباقية أو من غيرها فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أيها الأزواج أَوْ دَيْنٍ و لعل تقديم الوصية في الآيات- مع أن الدين مقدم في الإخراج- أن الغالب وجود الوصية بخلاف الدين. وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً الكلالة هم: الأخوة سواء كانوا من الأب أو الأبوين أو الأم، و المعنى أنه إن كان الوارث كلالة بأن لم تكن المرتبة الأولى موجودة، فإن الأبوين و الأولاد في المرتبة الأولى، و الأخوة و الأجداد في المرتبة الثانية، و الأعمام و الأخوال و العمات

و الخالات في المرتبة الثالثة، و الزوجان يرثان مع كل مرتبة. و «كلالة» في الإعراب منصوب على الحالية، فالمعنى إن وجد رجل يرثه قريب له في حال كون ذلك القريب كلالة له أَوْ إن كان امْرَأَةٌ تورث كلالة، أي وجدت امرأة يرثها قريب لها في حال كون ذلك القريب كلالة لها، و الحاصل أنه لو مات رجل أو امرأة وَ لَهُ أي لكل واحد من الرجل و المرأة الذين ماتا أَخٌ أَوْ أُخْتٌ و المراد هنا كلالة الأمّي خاصة بأن كان الوارث شريكا مع الميت في الأم فقط، بأن بقي أخوه أو أخته الأميان فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ من تركة الميت فَإِنْ كانُوا أي كانت الكلالة أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ الواحد، بأن كانت الكلالة اثنين فصاعدا فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ يقسمونه بينهم بالسوية فإن الكلالة الأمي يرثون متساوين،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 451

[سورة النساء (4): آية 13]

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)

للذكر مثل حظ الأنثى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها من قبل الميت أَوْ دَيْنٍ فإن الدين و الوصية يخرجان من المال ثم يعطى للواحد من الكلالة السدس و للاثنين فصاعدا الثلث غَيْرَ مُضَارٍّ أي لا يضار الكلالة بأن يحرموه من الثلث، أو يكون المعنى: إنما تنفذ الوصية إذا كان الموصي غير مضار بأن لم يوصي بأكثر من الثلث و إلا لم تنفذ الوصية فيما زاد على الثلث وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ أي هذه الأنصبة يوصيكم اللّه بها وصية وَ اللَّهُ عَلِيمٌ فيقدر الأنصبة حسب ما يعلم من المصالح حَلِيمٌ لا يعاجل العصاة بالعقوبة فمن خالفه في الإرث و لم

ير عقوبة عاجلة فذلك لحلمه سبحانه فلا يغرّه ذلك.

[14] تِلْكَ التي بيّنت في أمر الإرث حُدُودُ اللَّهِ أي الحدود التي جعلها اللّه سبحانه لمقادير الإرث فلا يجوز التجاوز عنها وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بتطبيق أوامرهما و الاجتناب عن مخالفتهما يُدْخِلْهُ اللّه سبحانه جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت قصورها و أشجارها خالِدِينَ فِيها فلا زوال لهم عنها بالموت أو الإخراج أو ما أشبه وَ ذلِكَ أي نيل الجنة و الخلود فيها الْفَوْزُ و الفلاح الْعَظِيمُ الذي لا يماثله شي ء فلا يحسب أحد أن الفوز ببعض التركة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 452

[سورة النساء (4): الآيات 14 الى 15]

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) وَ اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)

ظلما شي ء يعتدّ به فإنه لا فوز كفوز الجنة الدائمة.

[15] وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بمخالفة أوامرهما و ارتكاب نواهيهما وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ فيتجاوز ما حدّ له من الطاعات يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها أي دائما. و من المعلوم أن ذلك لمن خالف جميع الأوامر لا بعضها التي دل الدليل على عدم خلوده، و لعل عموم «حدوده» حيث أنه جمع مضاف، يدل على ذلك وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ فيهان في العذاب حتى يجتمع عليه عذاب الروح و عذاب الجسد.

[16] و حيث بيّن سبحانه حكم الرجال و النساء في باب النكاح و الميراث بيّن حكم الحدود فيهن إذا ارتكبن الحرام فقال سبحانه: وَ اللَّاتِي جمع «التي» أي النساء اللاتي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي الزنا، و

إنما سميت بالفاحشة لأنه أمر يفحش و يتجاوز الحد مِنْ نِسائِكُمْ سواء كنّ ذوات أزواج أو لا فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي اطلبوا شهادة أربعة رجال رأوا الزنا كالميل في المكحلة فَإِنْ شَهِدُوا أربعة عدول على ذلك فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أي فاحبسوهن فيها. و قد كان ذلك حكم الإسلام بالنسبة إلى الزانية ابتداء حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 453

[سورة النساء (4): الآيات 16 الى 17]

وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)

أي حتى تموت أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أي يجعل لهن أمرا آخر غير الحبس. و قد نزلت آية الحدود و هي قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «1» فارتفع حكم الحبس في البيت. و ما ورد في الأخبار من أن آية الحد ناسخة لآية الحبس، يراد به أن حكم الحبس ارتفع لانقضاء أمده، لأنه كان مؤقتا بجعل السبيل.

[17] وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ لعل المراد ب «اللذان» اللائط و الملوط به فالضمير يرجع إلى الفاحشة لا بمعناها الأول بل بالمعنى المنطبق، أما تفسيره بالزانيين- فإن لم يرد بذلك حديث عن المعصوم عليه السّلام- فبعيد.

فَآذُوهُما الأذية أعم من الحد فلا حاجة إلى القول بنسخ الحكم- إن لم يرد بذلك حديث معتبر- فَإِنْ تابا من فعلهما وَ أَصْلَحا و المراد بالإصلاح الإتيان بالأعمال الصالحة فَأَعْرِضُوا عَنْهُما و لا تتعرضوا لهما بسوء إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً.

[18] ثم بيّن سبحانه ممن تقبل التوبة و ممن لا تقبل؟

لمناسبة قوله: «فإن تابا» فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي أن قبول التوبة حق عليه سبحانه- جعله على نفسه- أو المراد توبة اللّه أي رجوعه عن المعاصي، فإن كلّا من اللّه و العبد توّاب بمعنى راجع إلى الآخر، فإن رجوع العبد بمعنى إقلاعه عن الذنب و رجوع اللّه بمعنى لطفه و إحسانه

______________________________

(1) النور: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 454

[سورة النساء (4): آية 18]

وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)

و إعادة نظره إلى العبد لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ العمل المحرّم بِجَهالَةٍ الظاهر أنه ليس المراد بالجهالة الجهل مقابل العلم، بل المراد مطلق العصيان، فإنها و إن صدرت عن عمد، لكن حيث أنها يدعو إليها الجهل بما يترتب عليه الذنب، يصح أن يقال: أنها عن جهل، و ليس القيد احترازيا حتى يقال: فما هو السوء بغير جهالة؟ بل فائدته أن السوء لا يصدر إلا عن جهل ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قبل أن يروا علائم الموت فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يرجع عليهم بمحو ذنوبهم و إعادة لطفه عليهم وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بمصالح العباد فيحكم بمقتضى علمه حَكِيماً يضع الأشياء في مواضعها حسب ما تقتضيه الحكمة.

[19] وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ المقبولة النافعة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ المعاصي، و إنما سميت سيئة لأنها تسي ء إلى صاحبها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ بأن رأى آثاره من مشاهدة ملك الموت و نحوه قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فإنها توبة المضطر الذي يريد الخلاص من العقاب لا توبة النادم المطيع، كما قال سبحانه في قصة فرعون:

آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ

الْمُفْسِدِينَ «1»

______________________________

(1) يونس: 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 455

[سورة النساء (4): آية 19]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)

وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ فقد انقطعت الحياة التي هي محل العمل و جاءت دار الحساب التي فيها حساب و لا عمل أُولئِكَ الطائفتان أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي هيّأنا لهم عذابا يؤلمهم بسبب ما فعلوا من المعصية، و لا يخفى أنه بالنسبة إلى من عمل السيئات حتى جاءه الموت لا يكون العصيان سببا موجبا للعقاب، فإن ذلك معلق بعدم الشفاعة و العفو.

[20] ثم انتقل السياق إلى حكم آخر من الأحكام المرتبطة بالعائلة، و هو حكم المهر، فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا و الحكم و إن كان عاما للمؤمن و غير المؤمن لكن الإصغاء حيث كان خاصا بالمؤمنين توجه الخطاب إليهم لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فقد كان أهل الجاهلية إذا مات بعض ذويهم حبسوا زوجته حتى تموت عندهم و يرثونها أي يأخذون ميراثها و لم تكن المرأة تريد ذلك بل تريد الزواج من رجل آخر فيمنعونها عن ذلك وَ لا تَعْضُلُوهُنَ العضل: هو إمساك المرأة في البيت دون تزويج، فإنه لغة بمعنى المنع لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ فقد كان أهل الجاهلية إذا لم يرغبوا في زوجاتهم لم يطلقوهن و تركوهن و منعوهن عن الزواج حتى تفتدي ببعض مهرها أو سائر أموالها إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي بمعصية ظاهرة من زنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 456

[سورة النساء

(4): آية 20]

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20)

أو غيره فإنه يحق حينئذ لكم أن تضيقوا عليهن حتى يفتدين ببعض ما آتيتموهن وَ عاشِرُوهُنَ أي عاشروا النساء- مطلقا- بِالْمَعْرُوفِ الذي يعرفه أهل العقل و الدين فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ فلا تعجلوا بالطلاق فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً من ائتلاف و حب في المستقبل، أو أولاد صالحين، أو نحو ذلك. فإنه كثيرا ما تقع نفرة بين الزوجين و تنتهي بوئام و سلام و وداد و حب و ألفة.

[21] وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ بأن أردتم طلاق امرأة و أخذ امرأة أخرى مكانها وَ آتَيْتُمْ أي أعطيتم من باب المهر إِحْداهُنَ و هي المرأة السابقة قِنْطاراً مل ء جلد ثور ذهبا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي من ذلك المعطى لها مهرا، فقد كان الرجل في الجاهلية إذا أراد طلاق امرأة و أخذ أخرى مكانها ضيّق على زوجته الأولى أو بهتها بفاحشة حتى يجبرها أن تفتدي نفسها فيجعل فداءها مهرا للزوجة الثانية أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً هو مصدر في مكان الحال، و هذا استفهام استنكاري، أي هل تأخذون بعض مالها بالبهتان؟! وَ إِثْماً مُبِيناً أي بالإثم الواضح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 457

[سورة النساء (4): الآيات 21 الى 23]

وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ

الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

[22] وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ تعجّب من أخذ بعض مهر المرأة بهذا النحو المشين وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ هو كناية عن الجماع، أي و الحال أنكم اقتربتم منهن فذهب المهر لما حصلتم عليه من البضع، و الإفضاء هو الوصول إلى شي ء بالملامسة وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً و الميثاق هو العهد الذي أخذته الزوجة من الزوج بالعقد لأن العقد معناه مقابلة المهر بما تستحل من نفسها له، و قد كان لازم العقد الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان.

[23] وَ لا تَنْكِحُوا أيها المؤمنون ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ فقد كان أهل الجاهلية ينكحون زوجات آبائهم بعد وفاتهم، فنهى اللّه سبحانه عن ذلك سواء دخل الأب بها أم لا إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ قبل إسلامكم فلا تؤاخذون بذلك الذنب، فإن الإسلام يجبّ ما قبله، يعني أن ذنب أخذكم نساء آبائكم قبل الإسلام معفوّ عنه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي زنا فإن زوجة الأب من محارم الابن فمقاربتها زنا وَ مَقْتاً أي موجبا لمقت اللّه و غضبه وَ ساءَ سَبِيلًا فإنه سبيل الكفار و العصاة.

[24] ثم ذكر سبحانه سائر أصناف المحرمات من النساء، و من المعلوم أن التحريم يقوم بالطرفين فكما تحرم المرأة على الرجل كذلك يحرم الرجل على المرأة، و قد كانت هذه المحرمات، محللات عند بعض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 458

الناس كالمجوس، و لذا

صرح القرآن الكريم بتحريمها، فقال:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ و هي كل امرأة يرجع نسبك إليها بالولادة كالأم و الجدة من الطرفين وَ بَناتُكُمْ و هي كل امرأة يرجع نسبها إليك بالولادة بنتا أو بنت أولادك الذكور أو الإناث وَ أَخَواتُكُمْ و هن اللاتي جمعك و إياهن رحم أمّ أو صلب ذكر وَ عَمَّاتُكُمْ و هن أخوات لذكر يرجع نسبك إليه من طرف الأب، كأخت الأب و أخت الجد الأبي، أو من طرف الأم كعمة الأم التي هي أخت لأب الأم وَ خالاتُكُمْ و هنّ اللاتي يكن أخوات لأنثى يرجع نسبك إليها من طرف الأم كأخت الأم و أخت الجدة الأمية، أو من طرف الأب كأخت أم الأب التي هي خالة أبيك وَ بَناتُ الْأَخِ بلا واسطة أو مع الواسطة كحفيدة الأخ وَ بَناتُ الْأُخْتِ بلا واسطة أو مع الواسطة كحفيدة الأخت. و هذه السبعة هي أصناف المحرمات بالنسب.

ثم بين سبحانه المحرمات بالسبب فقال: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ بلا واسطة كأمك بالرضاع، أو مع الواسطة كالأم بالرضاع للأب، و الأم بالرضاع للأم و هكذا وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ و لم يذكر الأصناف الأخرى من المحرمات بالرضاع كالعمة و الخالة، إما لفهم ذلك من السياق أو لدخولهن في «أخواتكم» فإن العمة أخت الأب و الخالة أخت الأم، و إذا تحققت حرمة الأخت تحققت حرمة بنت الأخ و بنت الأخت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 459

وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أم الزوجة مباشرة كانت أو لا، كأم أب الزوجة، و أم أم الزوجة، و حيث أطلق سبحانه، تبيّن أنه بمجرد العقد على المرأة تحرم أمها سواء دخل بالزوجة أو لا وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ الربائب: جمع «ربيبة» و هي بنت

زوجة الرجل من غيره سواء كانت قبل هذا الزوج أم بعد هذا الزوج، و قيد «اللاتي» للغلبة فإن الغالب أن الرجل إذا تزوج بامرأة لها بنت رباها في حجره، و الحجور جمع حجر. ثم إنه لا فرق في الربيبة بين أن تكون بلا واسطة كبنت الزوجة، أم مع الواسطة كبنت الربيبة، أو بنت ابنها، أو أخت بنتها مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ أي حصل منكم جماع لهن، فإن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على أمها، و إنما تحرم لو دخل بأمها، فلو تزوج بامرأة و لم يدخل بها، ثم فارقها بطلاق أو فسخ أو انقضاء مدة في العدة أو نحو ذلك، حل له أن يأخذ ربيبتها. و هذا هو الفارق بين «أم المرأة» و بين «بنت المرأة» فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ في نكاح بناتهن، بعد خروج الأمهات عن حبالتكم وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ حلائل: جمع حليلة، و هي الزوجة، أي زوجات أبنائكم، سواء كان الابن بلا واسطة، أو مع الواسطة كابن الابن، و ابن البنت الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ و ذلك مقابل «الدعي» و هو من يتبناه الإنسان،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 460

فإنه لا يحرم على الأب المتبني زوجة الابن الذي تبناه، لقوله سبحانه:

وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ «1» أما الابن الرضاعي فإنه بمنزلة الابن النسبي

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «الرضاع لحمة كلحمة النسب»

«2».

وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي يحرم الجمع بين الأختين بأن تكونا في حبالته معا، و يجوز أخذ واحدة ثم إخراجها عن حبالته و نكاح الأخرى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فإن أعمالكم في الجاهلية بالنسبة إلى نكاح المحرمات غير مؤاخذين عليها في الإسلام، لأن الإسلام

يجبّ ما قبله إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً يغفر ذنوبكم السابقة رَحِيماً يرحم بكم فلا يجازيكم بسيئاتكم.

______________________________

(1) الأحزاب: 5.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: ص 301.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 461

تقريب القران الى الأذهان الجزء الخامس سورة النساء من آية (25) الى (148)

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 462

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 463

[سورة النساء (4): آية 24]

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

[25] وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ أي النساء اللاتي أحصنّ بالأزواج، أي حرمت عليكم النساء ذوات الأزواج، يقال: أحصن الرجل زوجته، أي حفظها من الفجور إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و هن الإماء ذوات الأزواج التي يسبيهن المسلمون، فإن السبي يقطع عصمتهن بأزواجهن الكفار و يحل للمسلم إيقاعهن كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب اللّه- تحريم النساء المذكورات- عليكم كتابا، فهو منصوب على المصدر بفعل محذوف وَ أُحِلَّ لَكُمْ أيها المؤمنون ما وَراءَ ذلِكُمْ المذكور فإن كل امرأة لا يقع عليها أحد العناوين المذكورة سابقا قريبة كانت أو لا، فهي محللة على الشخص أن يتزوجها أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ أي تطلبوا بأموالكم- التي تجعلونها مهرا لهن- نكاحهن في حال كونهم مُحْصِنِينَ أي تحصنون إياهن بالزواج غَيْرَ مُسافِحِينَ السفاح هو الزنا، بأن لا تبتغوا بالأموال السفاح كما يفعله الزانون حيث يسافحون بالنساء في مقابل المال، ففي

ما وراء ذلك التحريم المتقدم حلال أن تبتغوا النساء بالمال لكن من طريق الزواج لا عن طريق السفاح فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ «ما» موصولة يراد بها المرأة، و الضمير في «به» عائد إلى «ما» أي النساء اللاتي استمتعتم بهن مِنْهُنَ أي من النساء، و هذا بيان «ما» و المراد الاستمتاع طلب المتعة أي اللذة فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي: فالنساء اللاتي استمتعتم بهن من طريق الإحصان و الزواج يجب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 464

عليكم إعطاؤهن أجورهن. و هذه الآية وردت في نكاح المتعة، و المعبّر عنه بالنكاح المنقطع، كما ورد بذلك الروايات «1»، و الفرق بينه و بين الدائم أنه محدّد بمدة طالت أو قصرت، فإذا انتهى أمده انفسخ من نفسه، بخلاف الدائم الذي يحتاج فسخه إلى الطلاق أو نحوه، و يؤيد كون الآية في النكاح المنقطع لا الدائم، ذكر كلمة الاستمتاع التي هي ظاهرة في المتعة، و ذكر الأجور فإن المنصرف من الأجر ما يعطى لقاء الاستمتاع لا النكاح الدائم، و لا ينافي أن يكون السابق على هذه الجملة عاما يشمل الدائم و المنقطع، و هذه الجملة خاصة للمنقطع، فإنه كثيرا ما يذكر الخاص بعد العام، فالمنقطع مصداق من مصاديق «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» و في ذلك فائدة لطيفة، حيث تنبّه الآية على عدم الاحتياج إلى الزنا و الحال أن النكاح المنقطع بمكان من الإمكان فَرِيضَةً أي فرضت و وجبت الأجور فريضة فلا يجوز للرجل عدم إعطاء الأجور للمستمتع بها.

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها المستمتعون فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ أي في المقدار الذي تراضيتم به مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي المقدار السابق من المهر، فإذا تراضيتم بزيادة المدة بعقد جديد أو إنقاصها بالهبة، بزيادة المهر أو نقصانه جاز

لكما ذلك، و الحاصل أن ما تبانيا عليه سابقا فريضة، لا يجوز العدول عنها إلا برضا جديد إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمصالح حَكِيماً فيما شرع من الأحكام، التي منها المتعة التي تفيد

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 449 ج 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 465

[سورة النساء (4): آية 25]

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

المسافرين و الغرباء و من لا يتمكن من الدائم، فإن ذلك وقاية للمجتمع من فتح أبواب الزنا و السفاح و اللواط و السحق و ما أشبه إذا ما سد باب المتعة.

[26] وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ أيها المسلمون طَوْلًا أي من جهة الغنى و الثروة، بأن لم يكن له مال يكفيه أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ أي الحرائر الْمُؤْمِناتِ و إنما قيل لهن محصنات لإحصانهن أنفسهن عن البغاء كما قال سبحانه: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «1» فالمرأة العفيفة «محصنة» بالكسر، و «محصنة» بالفتح، بالاعتبارين، و المعنى:

أن الرجل لو كان فقيرا لا يقدر على مهر الحرة و نفقتها فلينكح مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ينكح أمة ملكتها يمين أخيه المسلم مِنْ فَتَياتِكُمُ جمع فتاة و هي المرأة الشابة، و المراد بها هنا الأمة،

فقد ورد «أن الرسول نهى- تنزيها- أن يقول أحد: عبدي و أمتي بل يقول: فتاي و فتاتي»

«2» جبرا لخاطرهما الْمُؤْمِناتِ فإن مهر الأمة

أقل و تكاليفها أيسر وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فليس المراد التنقيب عن حقيقة إيمان الأمة المراد تزوّجها بل يكفي الظاهر، أما الإيمان الراسخ القلبي فليس إلى ذلك سبيل بل اللّه أعلم به.

______________________________

(1) التحريم: 13.

(2) كنز العمال: ج 3 ص 656.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 466

بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فليس الرجل الحر بأعلى إيمانا من الأمة المؤمنة بل المؤمنون سواء كانوا أحرارا أو عبيدا أمّة واحدة بعضهم من بعض، من طبقة أعلى من طبقة الآخرين، و إنما شرعت أحكام العبيد و الإماء لمصالح خاصة، كما شرعت أحكام الرجال و النساء مختلفة لمصالح خاصة فَانْكِحُوهُنَ أي تزوجوا بالفتيات المؤمنات بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ أي سادتهن و مواليهن فإنه لا يجوز نكاحهن بدون رضى السادة وَ آتُوهُنَ أي أعطوا الفتيات المؤمنات أُجُورَهُنَ أي مهورهن، و إعطاء الفتيات لا يراد به إلا الدفع إلى تلك الجهة، و إن كان المولى يستحق المهر بِالْمَعْرُوفِ من دون عطل و إضرار، و ليكن نكاحكم إياهن بإذن أهلهن في حال كونهن مُحْصَناتٍ عفيفات غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي غير زانيات، و إنما قيد بذلك لأن «النكاح» يطلق على الوطء، كما يطلق على العقد الشرعي، قال سبحانه: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ «1» أي لا يزني بها، و لا تزني به، و قد كان في الجاهلية من يجبر إمائه على الزنا، فكان نكاحا- أي جماعا- بأجر، بإذن الأهل كما قال سبحانه: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «2» و لعل ذلك لمقابلة قوله سبحانه بالنسبة إلى الحرائر: «محصنين غير مسافحين».

______________________________

(1) النور: 4.

(2) النور: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 467

وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أي لتكن

الفتاة عفيفة غير متخذة لصديق، فإن الأخدان جمع خدن و هو الصديق، و الحاصل أن تكون الأمة التي تريدون الزواج بها غير زانية و لا صديقة لأحد، و قد كنّ بعض الإماء في الجاهلية كذلك، فنهى اللّه سبحانه عن التزوّج بهن فَإِذا أُحْصِنَ أي تزوجن فأحصنهن أزواجهن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ أي بالزنا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أي إن حدّهن نصف حدّ الحرة الزانية و هو خمسون جلدة، و قد كان من حكمة الإسلام أن جعل المحاربين مع المسلمين- إذا غلبوا عليهم- عبيدا و إماء، لا أن يقتل الجميع أو يسجنهم، ثم جعل العبودية تمشي في أعقابهم، حتى لا يجرأ أحد على محاربة المسلمين خوفا من ذلك، أو على الأقل يحدّ من نشاط الحروب، فأيّ إنسان يسوّغ العبودية؟ مع العلم أن كثيرا من الناس يستسيغون القتل و السجن. ثم بعد ذلك جعل للعبيد أحكاما خاصة تشديدا تارة و تخفيفا تارة أخرى ليقابل التخفيف التشديد، ثم ليكون لهم بصورة عامة ميزة خاصة يعرفون بها عن الأحرار، و تفصيل فلسفة الأمرين يطلب من الكتب الخاصة بهذا الشأن «1».

ذلِكَ النكاح للإماء لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ العنت هو

______________________________

(1) في بعض الاعداد من نشرة «الأخلاق و الآداب» الكربلائية تفصيل للجهة الأولى اي فلسفة تشريع العبد و الإماء و انه بمعناه الاسلامي- لا الغربي السائد في الأذهان- لم يلغ و لا يلغى الى يوم القيامة، كسائر احكام الإسلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 468

[سورة النساء (4): الآيات 26 الى 27]

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ

تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)

الجهد و الشدة، أي خاف أن يقع في جهد و شدة من جهة ترك الزواج، أو خاف الوقوع في الزنا لشدة رغبته الجنسية وَ أَنْ تَصْبِرُوا فلا تتزوجوا بالإماء خَيْرٌ لَكُمْ فإنه لو اعتاد نكاح الإماء بقيت الحرائر بلا أزواج لقلة الكلفة بالنسبة إلى الأمة، و كثرة الكلفة بالنسبة إلى الحرة، فيقبل الناس على تزوّجهن، و ليس أمر العبيد و الإماء و الفروع المتصلة به قصة تاريخية لظروف خاصة، كما يقوله بعض من بهرته الثقافة الغربية، و لو جاز ذلك في هذا الحكم لجاز في كل حكم إسلامي، و لم يبقى للإسلام اسم و لا رسم. وَ اللَّهُ غَفُورٌ لذنوبكم رَحِيمٌ بكم فلا تيأسوا من رحمته لما اقترفتم من المحرمات المرتبطة بهذا الباب بعد عزمكم على التوبة منها.

[27] ثم بيّن سبحانه أن هذه المحرمات إنما حرمت لمصلحة البشر لا اعتباطا فقال: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أحكام دينكم و دنياكم وَ يَهْدِيَكُمْ يرشدكم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ السنن جمع سنة، و هي طريقة الأنبياء عليهم السّلام و المرسلين و عباد اللّه الصالحين وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يرجع عليكم بلطفه و منّه حيث أنكم تعملون بطاعته- بعد ما كنتم في زمان الجاهلية تعملون بالمعاصي و الآثام- فبين لكم الأحكام لتعملوا بها فيتوب عليكم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بمصالحكم حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهى.

[28] وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرّر لفائدة المقابلة بقوله سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 469

[سورة النساء (4): الآيات 28 الى 29]

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ

إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)

وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ في مواقعة كل امرأة من غير نظر إلى الحلّ و الحرمة و المصلحة و المفسدة أَنْ تَمِيلُوا عن الحق مَيْلًا عَظِيماً أي انحرافا، فإن اقتراف محرمات النكاح من أكبر الآثام.

و الآية و إن كانت عامة لكل باطل و لكل ميل إلا أن قرينة السياق تخصّصها بما ذكرنا.

[29] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في أمور دينكم و دنياكم و لذا أحلّ كل النساء إلا ما فيه مضرة، و يقبل توبتكم، و لو أراد التشديد لم يقبل توبتكم، و حرم عليكم أقساما أخرى من النساء كما قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «1» و فيه إفادة أن تحريم ما ذكر ليس تثقيلا و إنما هو تخفيف، فإن التخفيف قد يكون بالنسبة إلى الشي ء و قد يكون بالنسبة إلى نتائجه، و تحريم المحرمات المذكورة تخفيف بالنسبة إلى النتائج لما تشتمل عليه المحرمات من وخامة العاقبة في الدنيا و الآخرة التي منها ضعف النسل بالنسبة إلى نكاح المحرمات كما ثبت في الطب الحديث وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً فهو لا يصبر على شهواته و يريد اقتراف آثام الزنا مما يضره في دنياه و آخرته [30] و لما بيّن سبحانه محرمات النساء مما يتعلق ب «الفرج»، بيّن محرمات

______________________________

(1) النساء: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 470

الأموال مما يتعلق ب «البطن»

فقد ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن «من وقى شر لقلقه و قبقبه و ذبذبه فقد وقى الشر كله»

«1»، و المراد بلقلقه:

لسانه و قبقبه: بطنه، و ذبذبه: فرجه. فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تقدم أن الحكم و إن كان عاما للمؤمن

و غيره إلا أن إصغاء المؤمن فقط أوجب توجيه الخطاب إليه فقط لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ و المراد بالأكل مطلق التصرف، و أتي بلفظ الأكل لشيوع هذا النوع من التصرف، فهو من استعمال الخاص و إرادة العام، و كلمة «بينكم» إنما أتي بها لإفادة أن الأكل بالباطل إنما يعود ضرره إليهم أجمع فليس الأكل لمال غيرهم، و إنما أكل لأموالهم فيما بينهم، و يعود ضرره إلى مجتمعهم، و الباطل هو خلاف الحق الذي لا يقرّه الشرع و العقل، أما أخذ الخمس و الزكاة و سائر الحقوق المالية و الواجبات فليس أكلا بالباطل إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ الاستثناء منقطع لأنه ليس أكلا للمال بالباطل. و كثيرا ما يأتي مثل هذا الاستثناء في الكلام فيقال:

لا تجالس الأشرار إلا الأخيار، و لا تأكل المضر إلا المفيد، و قوله «عن تراض» يفيد عدم جواز أكل المال مقابل التجارة الجبرية بدون الرضا وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا فإن القتل مهما وقع على العدو فإنه واقع على الجنس البشري، و المناسبة بين القتل و أكل المال، أن اللّه سبحانه حرم انتهاك الأعراض، و أكل الأموال و إراقة الدماء،

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 63 ص 337.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 471

[سورة النساء (4): الآيات 30 الى 31]

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)

فحيث ذكر الأولين، أشار إلى الثالث إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً و من رحمته بكم أن جعل أموالكم و أعراضكم و دماءكم محترمة لا يجوز لأحد أن

يتصرف فيها.

[31] وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل، أو أكل المال و القتل، أو انتهاك العرض و أكل المال و القتل، و السياق يؤيد المعنى الثالث، و إن كان قرب اللفظ يؤيد المعنى الأول عُدْواناً وَ ظُلْماً فإنه تعدّ للحدود و ظلم للنفس و للغير، و في ذلك إخراج للسهو و النسيان و الخطأ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ من أصلاه أي أدخله، ناراً في الآخرة وَ كانَ ذلِكَ الإدخال في النار لمن فعل ذلك عَلَى اللَّهِ يَسِيراً فلا يمنعه مانع و لا يسأل عما يفعل.

[32] إن الإنسان لا بد و أن تقع منه مخالفات، و حيث أن المخالفات مختلفة: من كبيرة، كقتل النفس، و صغيرة ككذبة عفوية و نحوها.

لذا يختم اللّه سبحانه تلك الآيات المحذرة عن المحرمات المذكورة بقوله سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ كانتهاك الأعراض و أكل أموال الناس بالباطل و إراقة دماء الأبرياء نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ و معنى التكفير: الستر و الغفران، أن نغفر سائر سيئاتكم، و لا نؤاخذكم بما لا بد و أن يقع في الحياة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 472

[سورة النساء (4): آية 32]

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32)

وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً أي مكانا حسنا طيبا يكرم صاحبه فيه، و «كريم» صفة الإنسان، يطلق على المحل بعلاقة الحال و المحل، و المراد ب «المدخل الكريم» الجنة.

[33] و حيث سبق الكلام حول أكل الأموال بالباطل، جرى السياق في موضوع أدق و هو تمنّي بعض الناس أن يكون نصيبهم كنصيب الآخرين، و التمني قد يكون مقرونا بزوال النعمة

من الآخر، و هذا هو الحسد المذموم الذي نهي عنه في هذه الآية، و قد يكون طلبا لأن يكون للإنسان مثل ما لأخيه و هذه هي الغبطة، و هذه و إن كانت خلاف الأدب- بالنسبة إلى الأمور الدنيوية- لأنها تكشف عن ضعة في النفس، لكنها ليست بمحرمة.

و ذكر صاحب «مجمع البيان» في سبب النزول ما لفظه: «قيل:

جاءت وافدة النساء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه! أ ليس اللّه رب الرجال و النساء و أنت رسول اللّه إليهم جميعا، فما بالنا يذكر اللّه الرجال و لا يذكرنا، نخشى أن لا يكون فينا خير و لا لله فينا حاجة. فنزلت هذه الآية. و قيل: إن أم سلمة قالت: يا رسول اللّه يغزوا الرجال و لا تغزوا النساء. فنزلت الآية. عن مجاهد، و قيل: لما نزلت آية المواريث قال الرجال: نرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. و قالت النساء: إنا نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا. فنزلت الآية» «1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 473

و على أي حال فقد كان هناك تمني من أحد الجانبين فنهى اللّه عن ذلك بقوله: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فإن التمني مع قطع النظر عن عدم جدواه يكشف عن ضعف النفس و عدم تبصر الإنسان بالأمور إذ التفضيل لم يقع اعتباطا، و إنما خلقة كل واحد من الرجال و النساء، و سائر الملابسات الاجتماعية، أوجبت

هذه المفاضلة من عليم حكيم، فلا يقل أحدكم: ليت ما أعطي فلانا من المال و الجاه و التشريع كان من نصيبي لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من المال و الجاه و العمل وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ من الأمور المذكورة. ثم ليس كل ما اكتسبه الرجل له، بل قسم منه لله سبحانه يجب صرفه في سبيله من مال أو جاه أو طاقة، و لذا قال: «مما اكتسبوا» و كذلك بالنسبة إلى النساء. فهذا النصيب الذي قدره سبحانه هو الذي ينبغي لكل منهما أن يقنع به و لا يتوقع أن يكون له مثل ما للصنف الآخر وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أن يعطيكم ما تريدون لا أن تحسدوا و تتمنوا زوال نعمة الآخرين و انتقالها إليكم فإنه سبحانه هو القاسم و المعطي إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيعلم ما تضمرونه من التمني و الحسد، أو ما تنوون في قلوبكم من الالتجاء إليه سبحانه في أن يوفر عليكم الناقص الذي تريدون كماله.

ثم إن ظاهر قوله سبحانه: «للرجال .. إلخ» أن التمني كان بالنسبة إلى الأمور الاكتسابية لا الأمور التكوينية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 474

[سورة النساء (4): آية 33]

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33)

[34] ذكر سبحانه أن للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن، أما القسم الآخر من الكسب أي بعض ما اكتسب الرجال و بعض ما اكتسبن النساء، فإنه من نصيب الوارث، و ليس ذلك على وجه الفريضة و إنما على نحو القضية الطبيعة الغالبة جرت على أن يتنعم الإنسان بقسم مما اكتسبه و يخلّف قسما آخر

من كسبه للوارث وَ لِكُلٍ من الرجال و النساء جَعَلْنا مَوالِيَ هو جمع مولى، من ولي الشي ء يليه ولاية، و هو اتصال الشي ء بالشي ء من غير فاصل، يعني جعلنا للصنفين أشخاصا وارثين هم أولى في التصرف فيما تركا إرثا، و هؤلاء الموالي الوارثون يرثون مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ كلّ حسب تشريع اللّه له قسما خاصا من الإرث، فلكلّ من الرجال و النساء حق في الكسب و حق في الإرث فلا يتمنى أحد ما لغيره فإن اللّه سبحانه جعل ذلك.

وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ لعل المراد أن الذين تعاقدتم معهم بالأيمان لإعطائهم حصة من تركتكم فاللازم إعطاؤهم نصيبهم المشروع من دون الثلث إذا كان عقد اليمين غير ملزم، و ما زاد عن الثلث إذا كان العقد ملزما، و على أي حال فليس لهؤلاء إرث، إذ لكل موالي خاصة فلا يزاد عليهم بعقد الأيمان إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً أي حاضرا شاهدا، فلا تخالفوا أوامره بجعل غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 475

[سورة النساء (4): آية 34]

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَ اللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)

الوارث وارثا بعقد اليمين، أو عدم إعطاء «الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» نصيبهم المقرّر في الشريعة.

[35] و حيث تقدم إن لكلّ من الرجال و النساء نصيب، أراد سبحانه أن يبيّن علة زيادة الرجل في نصيب الإرث، و نصيب الأمر و النهي، على المرأة، فقال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ جمع قوّام و هو القائم بالأمر المسلّط على الشي ء

عَلَى النِّساءِ و من المعلوم أن المراد قوامة الرجل في الجملة، لا أن كل رجل قريب قوام على كل امرأة قريبة بِما فَضَّلَ اللَّهُ أي أن القوامة بسبب تفضيل اللّه سبحانه بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فإن اللّه سبحانه فضّل الرجل على المرأة عقلا و جسما و تحمّلا- كما هو واضح و قد ثبت في العلم الحديث- و لم يكن تفضيل اللّه سبحانه اعتباطا فقد خلقت المرأة لغاية غير ما خلق لها الرجل فمثلهما مثل «مركبتين» صغيرة تحمل الركاب، و كبيرة تحمل الحديد و الأخشاب وَ بسبب ما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فإن نفقة الزوجة واجبة على الزوج، و من المعلوم أن هذا الواجب يلزم أن يعوّض بحق فأعطي للزوج القوامة في قبال ما وجب عليه من النفقة، و كذلك بالنسبة إلى المهر.

فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ و إذ ثبتت هذه القوامة، فالنساء الصالحات الخيرات سيحافظن على الهدوء و السكون و الموافقة لأزواجهن و يتجنبن الشغب و التمرد و الاستعلاء و تجاوز الحدود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 476

و النشوز، و القنوت بمعنى الإطاعة، أي فهن مطيعات للأزواج يحفظنهم في حضورهم و غيابهم كما أن ذلك مقتضى كونهن مولّى عليهن، و المراد بالغيب حالة غيبوبة الزوج بخروج أو سفر أو نحوهما، فلا يخنّهم في أنفسهم أو أموالهم أو نحو ذلك، و يكون هذا الحفظ منهن لهم بسبب ما حَفِظَ اللَّهُ لهن من الكرامة و الحقوق، أو مستعينات بحفظ اللّه تعالى فإن الإنسان لا يتمكن من حفظ شي ء إلا إذا شاء اللّه حفظه، أو بمقابلة حفظ اللّه، كأن يكون حفظ اللّه عوضا لحفظهن إياهم، فالباء سببية، أو استعانة أو مقابلة.

أما المرأة التي لا تقنت و تريد الاستعلاء على الزوج، و

لا تراعي حقوق الرجل، فلها حكم خاص بيّنه سبحانه في قوله: وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ من نشز إذا ارتفع، أي عصيانهن، فكأنها ارتفعت عن حدّها فَعِظُوهُنَ من الوعظ، بالنصح و الإرشاد، و ما أشبهها وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ إن لم يفد الوعظ، و «المضاجع» جمع مضجع، و هو محل النوم و فراشه، و ذلك بتحويل الظهر، أو بعزل فراشه عن فراشها وَ اضْرِبُوهُنَ و في بعض الأخبار أن الضرب بالسواك، و لا يخفى أن هذه المراتب بالتدريج و إن كانت الواو العاطفة لا تفيد ذلك- كما قالوا- كما أن المرأة كثيرا ما تتأدب بالهجر و الضرب الخفيف لأنهما يبعثان فيها العاطفة نحو الزوج و يتطلبان منها تحسين سلوكها ليرجع إليها قلب الزوج فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ و من المقرّر في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 477

[سورة النساء (4): آية 35]

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)

الشريعة أن الإطاعة الواجبة على المرأة ليست إلا عدم خروجها بدون إذنه و مطاوعتها له في الاستمتاع بها متى أراد فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي لا تطلبوا لضررهن طريقا، بإيذائهن و عدم القيام باللطف و العطف المترقب من الزوج، بل سامحوهن،

فقد قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إن من حق المرأة على الرجل أن يغفر لها إذا جهلت»

«1»، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا فلا يتعال عليه أحد بقوته كَبِيراً فلا أكبر منه.

[36] وَ إِنْ خِفْتُمْ أيها الناس المحيطون بالزوجين شِقاقَ بَيْنِهِما أي المخالفة و العداوة بين الزوجين، كأن كل واحد منهما في شق و جانب، غير شق الآخر و جانبه فَابْعَثُوا

حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها فإن الحكمين حيث يعرفان ملابسات الزوجين يتمكنان من فصل الأمر على أحسن الوجوه، و للحكمين الإصلاح و ليس لهما الطلاق إلا برضى الزوج أو وكالة سابقة إِنْ يُرِيدا يعني الحكمين إِصْلاحاً بينهما يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما و الضمير عائد إلى الحكمين لقرب اللفظ، و ربما يقال: عائد إلى الزوجين. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد خَبِيراً بما يضمره الحكمين و يفعلانه في أمر

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 31 ص 147.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 478

[سورة النساء (4): آية 36]

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)

الإصلاح و الإفساد.

[37] ثم يتوجه البيان إلى العلاقات الإنسانية العامة بما فيها الأقربون و غيرهم، بعد ما فرغ من نظام الأسرة، و ربطها بعبادة اللّه سبحانه الذي أمر بذلك، و يبيّن ما يجب على الإنسان تجاه الخالق و تجاه المخلوق، فقال: وَ اعْبُدُوا اللَّهَ و معنى العبادة منتهى الخضوع مما يطلب من العبد قبال سيده، فإن العبادة و العبد من مادة واحدة وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ أي بالله شَيْئاً أي لا تجعلوا له شريكا من حجر أو مدر، أو جماد أو نبات، أو ملائكة أو بشر، فإنه هو الإله الواحد الذي لا شريك له وَ أحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فإنهما واسطة خلقكم، و كثيرا ما يقرن الإحسان إليهما بعبادة اللّه سبحانه في القرآن الكريم، لإفادة تأكيد لزوم الإحسان إليهما وَ أحسنوا بِذِي الْقُرْبى القربى كاليسرى من اليسر، أي أصحاب

القرابة، و هذا تعميم بعد التخصيص وَ الْيَتامى و هم الذين مات آباؤهم، أو الأعم منهم و ممن ماتت أمه وَ الْمَساكِينِ هم الفقراء بصورة عامة وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى و لمثله حقان: حق الجوار، و حق القرابة وَ الْجارِ الْجُنُبِ جنب بضم الأولين كعنق، صفة بمعنى الغريب، و كأنه باعتبار أن كلّا من الطرفين في جنب وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ أي صاحبك الذي بجنبك، سواء كان في مدرسة أو دكان أو سفر أو حضر، أو غيرها وَ ابْنِ السَّبِيلِ أي المنقطع عن بلده سواء كان ثريا أو لا، و يسمى «ابن السبيل» لأنه لا يعرف شيئا من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 479

[سورة النساء (4): آية 37]

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)

ملابساته إلا السفر، يقال ابن البلد و ابن السبيل و ابن العمل لمن يرتبط بهذه الأمور وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد و الإماء.

و قد أطلق سبحانه الإحسان إلى هؤلاء ليشمل مطلق صنوف الحفاوة و الإكرام، و قد كان تأكيد الإسلام بالإحسان إلى هؤلاء تمشيا مع روحه العامة في توثيق صلة البشر بعضهم مع بعض، و جمعهم في رباط الود و الحب و الوئام إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً المختال: المتبختر المتكبر، و الفخور: الذي يفخر بمناقبه كبرا و اعتزازا و تطاولا. ذكر هذه الجملة هنا بمناسبة أن من أمره سبحانه بالإحسان إلى الأصناف المذكورة كثيرا ما يتطاول و يتكبر، فلا يخضع للإحسان، كما هو المشاهد إلى الآن، فنهى سبحانه عن ذلك بعد ما أمر بالإحسان ليؤكده إثباتا و نفيا.

[38] و حيث أن الإحسان إلى هؤلاء كثيرا

ما يحتاج إلى بذل المال، ذم سبحانه الذين لا يبذلون أموالهم في سبيل اللّه بقوله: الَّذِينَ صفة «مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» يَبْخَلُونَ فلا ينفقون الأموال في سبيله سبحانه وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ و كأن هذا ملازم لصفة البخل فإن البخيل حيث جبل على حب المال لا يتمكن أن يرى غيره ينفق ماله، و قد تشتد هذه الصفة في البخيل حتى يبخل على نفسه، فلو أنفق عليه غيره نهاه و أمره بالكف. وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 480

[سورة النساء (4): آية 38]

وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)

البخلاء يكتمون أموالهم لئلّا يعرفون فيذمّهم الناس بعدم إنفاقهم في سبل المعروف، أما ما اشتهر من «استر ذهبك و ذهابك و مذهبك» فإنه في محل الخوف لا مطلقا وَ أَعْتَدْنا أي هيّئنا لِلْكافِرِينَ الذين يكفرون بنعم اللّه سبحانه و لا يعملون بما أمرهم اللّه سبحانه من إنفاق أموالهم عَذاباً مُهِيناً يهينهم و يكسر كبرياءهم، كما تكبّروا في الدنيا و لم يحسنوا إلى من وجب الإحسان إليه، اختيالا و افتخارا، كما قال سبحانه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «1» [39] و هناك صفة أخرى ملازمة لعدم الإحسان إلى الأصناف السابقة، فإن المختال الذي لا يحسن و يبخل، لا بد و أن يكون إنفاقه رئاء و سمعة، لأن كبرياءه يجبره على أن يشوب إنفاقه بما يلائم صفته. فقال سبحانه: وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ و هذه الجملة عطف على قوله «الذين يبخلون» يعني أن إنفاقهم لأجل أن يراهم الناس، حتى يعظمون في نفوسهم، و يمدحونهم

بأنهم أهل خير و إنفاق، و المراد بالرئاء المثال، و إلا فالسمعة كذلك وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ حتى يكون حافزهم على الإنفاق أمر اللّه سبحانه و رضاه وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ حتى يكون باعثهم على البذل رجاء الثواب و خوف العقاب.

ثم إنه كثيرا ما يعبر بهذا التعبير عن عدم الإيمان الكامل، لا مطلق الإيمان، أو عدم الإيمان من هذه الجهة، و إن كان هناك إيمان من سائر

______________________________

(1) الدخان: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 481

[سورة النساء (4): الآيات 39 الى 40]

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)

الجهات، إذ أن الإيمان الكامل و الإيمان من جميع الجهات، يقتضي أن يكون باعث كل حركة و سكون هو الإيمان لا غيره، و ذلك كما يقال: فلان لا يطيع أباه، إذا لم يطعه إطاعة كاملة، أو إطاعة من جميع الجهات، فإنه لا يراد بذلك عدم الإطاعة مطلقا، بل عدم الإطاعة الكاملة من جميع النواحي.

وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً مقترنا، بأن صاحبه و لازمه و أتمر بأوامره في البخل و الرياء و عدم الإيمان فَساءَ قَرِيناً لأنه يدعوه إلى المعصية الموجبة لذهاب دينه و دنياه.

[40] وَ ما ذا عَلَيْهِمْ أي: أي شي ء يكون عليهم و أي ضرر يتوجه إلى هؤلاء الذين لا يؤمنون و لا ينفقون لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ! فإنه بالعكس مما يظنون من أن الإيمان و الإنفاق يسببان أضرارا و مشاكل، إذ الإيمان يوجب الهدوء و السكينة

و الاطمئنان و خير الدارين، و الإنفاق يوجب تقدم المجتمع و ازدهاره مما يعود إلى المنفق بأكثر مما أنفقه وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ أي بهؤلاء، سواء أنفقوا و آمنوا، أم لا عَلِيماً فيجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير، و إن شرا فشر.

[41] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ المثقال الثقل، و الذرة هي واحدة «الهباء» التي يرى إذا دخل شعاع الشمس من الكوة، فمن أنفق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 482

[سورة النساء (4): الآيات 41 الى 42]

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)

فلا يظن أن إنفاقه يذهب هباء، فإن اللّه سبحانه يجازيه على إنفاقه و لا يظلمه قدر مثقال ذرة وَ إِنْ تَكُ الذرة التي أتى بها العبد حَسَنَةً عملا خيرا يُضاعِفْها فإن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وَ يُؤْتِ لمن أحسن مِنْ لَدُنْهُ دلالة على صدق الوعد و عظمه حيث أنه من لدن صادق كريم أَجْراً عَظِيماً و هو الثواب الباقي أبد الآبدين.

[42] و إذا كان اللّه تعالى بهذه المثابة من العلم و العدل فَكَيْفَ بحال الناس الذين انحرفوا عن الجادة، و كفروا و بخلوا و عصوا إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد على أعمالهم، و هم أنبياؤهم و من جعله اللّه سبحانه واسطة بينه و بينهم في التبليغ و بلاغ الأحكام وَ جِئْنا بِكَ يا رسول اللّه عَلى هؤُلاءِ القوم الذين أنت فيهم شَهِيداً تشهد على أعمالهم في ذلك الموقف الرهيب.

[43] يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ «الواو» إما للتقسيم، أي يود

كل واحد منهما، أو للجمع أي يود الكافر العاصي لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يجعلون متساوين مع الأرض كما قال سبحانه: وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1»

______________________________

(1) النبأ: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 483

[سورة النساء (4): آية 43]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)

وَ في ذلك اليوم لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ أي لا يخفون عن اللّه حَدِيثاً بل تشهد عليهم ألسنتهم و جوارحهم بكل ما عملوا من الكفر و السيئات و الشرور، ففي مقابل تكبّرهم في الحياة يتمنون بلع الأرض لهم هناك، و في مقابل كتمانهم الحق في الدنيا لا يتمكنون من الكتمان هناك.

[44] قد تقدم الأمر بعبادة اللّه سبحانه فارتد السياق هنا إلى بعض مصاديق العبادة و هي الصلاة و الغسل فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى و النهي عنه «الاقتراب من الصلاة حال السكر» كالنهي عن نفس الشي ء «الصلاة حال السكر» لكن للمبالغة في التنزيه، كما قال سبحانه: لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «1» و «سكارى» جمع سكران.

و من المعلوم أنه لا منافاة «تكوينا لا شرعا» بين السكر الخفيف و الصلاة، و إنما السكر الشديد المزيل للعقل تماما لا يجتمع مع الصلاة حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فإن الصلاة إنما شرعت للإقبال و السكران لا يعلم ما يقول و لا يحضر قلبه فيما ينطق به لسانه، و «حتى» هنا تصلح

علة للحكم كما تصلح غاية فإذا شرب أحد الخمر- و العياذ بالله- فلا يقبل على الصلاة إلا و قد زال أثرها بحيث يعلم ما يقول وَ لا تقربوا الصلاة جُنُباً بالإدخال أو الإنزال إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي في حال

______________________________

(1) الأنعام: 153.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 484

السفر فإن الغالب أن المسافر- قديما- كان لا يجد الماء فيصلي جنبا بتيمم إذ التيمم لا يرفع جميع أثر الجنابة و لذا لو وجد الماء بطل تيممه و يلزم عليه الغسل حَتَّى تَغْتَسِلُوا أي لا تقربوا الصلاة جنبا حتى تغتسلوا. و الاغتسال: غسل للرأس و الرقبة ثم الطرف الأيمن ثم الأيسر مع النية، أو الارتماس في الماء دفعة واحدة مع النية وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى جمع مريض، و المراد به المرض الذي يضر معه الماء و إن كان جرحا أو نحوه أَوْ كنتم عَلى سَفَرٍ أي مسافرين و كان الإتيان بلفظة «على» لما يكون المسافر عليه من الركوب على شي ء و قد تقدم أن الكون على السفر لا يبيح بنفسه التيمم، و إنما لغلبة صعوبة الماء فيه- في السابق- أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أيها المريدون للصلاة مِنَ الْغائِطِ الغائط هو المكان المنخفض من الأرض، و سمّي «البراز» به لعلاقة الحال و المحل، و المراد أن أحدكم لو قضى حاجته ثم أراد الصلاة أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي جامعتم معهن فإن الملامسة كناية عن الجماع فَلَمْ تَجِدُوا ماءً مرتبط بالثلاثة المتقدمة المسافر و المحدث و المجامع فَتَيَمَّمُوا أي اقصدوا صَعِيداً أي أرضا، سواء كان عليها تراب أو لا طَيِّباً أي طاهرا حلالا إذ كل واحد من النجس و المغصوب خبيث غير طيب. و التيمم هو معناه التقصد ثم غلب في

الشريعة على الأعمال المخصوصة حتى إذا قيل: «تيمم» لا يتبادر منه إلا الأعمال المخصوصة شرعا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 485

[سورة النساء (4): آية 44]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)

دلت الشريعة على أن كيفيته أن يضرب الإنسان بيديه معا وجه الأرض- ما لم يخرج عن اسم الأرضية لكونه معدنا أو نحوه- ثم يمسح بهما جبهته من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى، ثم يمسح بباطن الكف اليسرى ظهر الكف اليمنى من الزند إلى رؤوس الأصابع، ثم يمسح بباطن الكف اليمنى ظاهر الكف اليسرى من الزند إلى رؤوس الأصابع. و هناك احتياط بالضرب ثانيا و مسح اليدين. و قد ثبت في الطب الحديث أن الأرض تطهر الجراثيم في مرتبة أدنى من تطهير الماء، فقد كان من حكمة الشارع أن جعلها مطهرة في المشي عليها و التعفير بها، في النجاسة الخبثية، و التيمم بها في النجاسة الحدثية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا يعفو عن الذي له حرج في استعمال الماء، و يظهر جمال العفو إذا قايس الإنسان أحكامه سبحانه بأحكام الملوك و الحكومات و السادة الذين لا يبالون بالناس فهم يطلقون أوامرهم مهما كلف الأمر غَفُوراً يغفر الذنوب التي يتعرض لها الإنسان في تكاليفه، و هذا كالتسلية لمن أفلت منه ذنب لئلا ييأس من مغفرته سبحانه.

[45] ثم يعود السياق إلى الذين كفروا و عصوا الرسول و أن قسما من أهل الكتاب يبيعون أنفسهم بالضلالة و يحرفون الكلم و يؤذون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَ لَمْ تَرَ أي ألا تتعجب يا رسول اللّه و تنظر إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا

نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي قسما منه، و هم اليهود الذين أعطاهم اللّه التوراة و إنما ذكر «نصيبا» لأنهم لم يعطوا الكتاب- أي الأحكام- كاملا، و إنما أعطوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 486

[سورة النساء (4): الآيات 45 الى 46]

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)

قسما من الأحكام، و البقية الباقية للمسيح عليه السّلام و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يبيعون أنفسهم بالضلالة فعوض أن يصرفوا أعمارهم و طاقاتهم ليشتروا الهداية بالإيمان بالرسول و العمل الصالح يبيعون أنفسهم و طاقاتهم مقابل الكفر و الأعمال السيئة، و الحال أنهم من أهل الكتاب و يعلمون الحق وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أنتم المسلمون السَّبِيلَ فتنحرفوا عن جادة الهداية إلى السبل الملتوية المؤدية إلى الهلاك و الدمار.

[46] وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ منكم فلا تتخذوا هؤلاء أولياء ظنا منكم أنهم أحباؤكم و اغترارا بظاهرهم و زعما بأنهم ظهركم و سندكم وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا أي أن ولاية اللّه لكم تغنيكم عن ولاية الكفار وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً فنصرته إياكم تكفي عن نصرة الكفار.

[47] ثم ذكر سبحانه بعض صفات هؤلاء الكفار الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» مِنَ الَّذِينَ هادُوا و اتخذوا اليهودية دينا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جمع كلمة، و المراد بها أحكام اللّه

سبحانه عَنْ مَواضِعِهِ فيضعون الحلال مكان الحرام و الحرام مكان الحلال و هكذا وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا كلامك و احتجاجك يا محمد و عَصَيْنا أوامرك لأنا لا نعتقد بك نبيا صادقا. و ربما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 487

يحتمل أن يكون المراد عصيانهم عملا لا قولا فإن «القول» يراد به تارة الكلام و تارة العمل، يقال: «قال بيده كذا» أي أشار.

وَ يقول هؤلاء اليهود للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ يقصدون الدعاء على الرسول بأنه لا يسمع، كما يقال: اسمع لا أسمعك اللّه. فإنهم كانوا يقصدون بهذا الكلام السبّ و الدعاء عليه و يظهرون أنهم يريدون معنى آخر و هو: اسمع غير مأمور بالسمع، فإنه يقال: الكلام للرجل العظيم احتراما و إشعارا بأن أمره ب «اسمع» ليس أمرا فهو لا يؤمر بالاستماع لأنه أجلّ من الأمر.

وَ يقول هؤلاء اليهود للرسول: راعِنا يقصدون بذلك السبّ باطنا و يظهرون أنهم يتأدبون حيث أن ظاهر لفظة «راعنا» طلب المراعاة لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ من «لوى يلوي» إذا حرف و أمال، و الألسنة جمع لسان، وليّ اللسان قد يكون ظاهريا بأن يحرف لسانه، و قد يكون باطنيا بأن يقول شيئا ظاهره أمر، و هو لا يريد ظاهره وَ طَعْناً فِي الدِّينِ فإن الطعن في رئيس الدين طعن في الدين، لوهنه بسبب وهن رئيسه.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي أن هؤلاء اليهود قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ما جئت به، بأن صاروا متدينين بالإسلام وَ اسْمَعْ بدون أن يضيفوا «غير مسمع» وَ انْظُرْنا عوض قولهم «راعنا» مما فيه إيمان و أدب و استقامة لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في دنياهم حيث ينعمون براحة المسلمين و رفاههم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 488

[سورة

النساء (4): آية 47]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)

و تقدمهم، و في آخرتهم حيث يسعدون بجنات النعيم وَ أَقْوَمَ أي أكثر عدلا و استقامة.

وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته و لطفه و فضله بِكُفْرِهِمْ فإن الإنسان إذا لم يقبل الإيمان بعد ما عرفه طرده اللّه سبحانه عن فضله، كما أن الأب إذا رأى ولده لا يقبل نصحه طرده عن ألطافه فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد اللّه بن سلام و أصحابه.

و هذا ليس استثناء من قوله سبحانه «لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» بل من أصل الكتاب. و قد ذكرنا سابقا أن الاستثناء قد يراعى فيه أصل المطلب من دون النظر إلى قيوده، كقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «1»، وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ «2» و من المحتمل مراعاة القيد في «إلا قليلا» أي أن إيمان هؤلاء ممكن تقبله حتى بعد لعن اللّه لهم إذا تيقظ ضميرهم و رجعوا عن الغفلة إلى الحق.

[48] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي نزل على نبيهم الكتاب السماوي و التزموا به، و تخصيص الخطاب بهم مع أن الأمر بالإيمان عام، لكونهم محل الحوار و البحث آمِنُوا بِما نَزَّلْنا من الفرقان على رسولنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حال كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ فإن القرآن

______________________________

(1) النساء: 30.

(2) الأنعام: 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 489

[سورة النساء (4): آية 48]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ

ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)

يصدّق بالكتب السماوية السابقة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً طمس الشي ء إذهاب أثره فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها جمع «دبر» و هو الخلف، و الظاهر من الآية أنه في يوم القيامة إذ تطمس فيه الوجوه من بعض الناس حتى تتساوى جميع أجزاء الوجه فلا نتوء فيها، ثم يجعل الوجه إلى الخلف، كما ورد في بعض الأحاديث. و

في بعض الروايات

طمسها عن الهدى وردها على أدبارها في ضلالتها

«1» أَوْ نَلْعَنَهُمْ عاجلا قبل يوم القيامة فنجعل منهم القردة و الخنازير كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ و هم اليهود الذين اعتدوا في السبت باصطياد السمك فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «2» و

في بعض الأحاديث أنه في آخر الزمان يبتلى بعض الفساق بالمسخ

«3»- و العياذ بالله- وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا كائنا فلا تظنوا أنه لا يكون ذلك و إنما هذا مجرد تهديد و توعّد.

[49] و لا يظن أهل الكتاب أنهم إن بقوا على شركهم حتى ماتوا يشملهم غفران اللّه سبحانه فيبقوا على كفرهم و شركهم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فإن الإنسان إذا مات مشركا لم يكن له الخلاص وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي دون الشرك من المعاصي لِمَنْ يَشاءُ ممن يكون أهلا للغفران، فلا يقاس الشرك بسائر المعاصي و الذنوب

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 141.

(2) البقرة: 66.

(3) راجع تأويل الآيات الظاهرة: ص 528.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 490

[سورة النساء (4): الآيات 49 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)

وَ

مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي يجعل له شريكا فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً فإنه افتراء على مقام الألوهية بأن له شريك، و أي إثم أعظم من ذلك.

[50] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه و هو استفهام تعجبي إِلَى اليهود الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ أي يمدحونها و يصفونها بالطهارة و الزكاة و النزاهة فقد كانوا يقولون عن أنفسهم أنهم نزيهون و أنهم أبناء اللّه و أحباؤه بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ فإن الطهارة بيد اللّه فمن شاء غفر ذنوبه و برّأه من العيوب و من شاء لم يغفر ذنبه فيبقى في أدران المعصية، إنه سبحانه هو الذي يختار أمة ما و لا يختار أخرى وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا الفتيل هو ما في شق النواة من خيط ضعيف، و المعنى أنه سبحانه بعدم تطهيرهم لا يظلمهم و إنما ذلك بسبب عدم إيمانهم و عصيانهم.

[51] انْظُرْ يا رسول اللّه- و ليس المراد النظر بالعين بل ملاحظتهم، فإن النظر كما يقع بالعين كذلك يقع على ملاحظة الأشياء بسائر القوى و الحواس- كَيْفَ يَفْتَرُونَ أي يفتري هؤلاء اليهود عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في قولهم: نحن أبناء اللّه و شعبه المختار و أحباؤه و لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، و إنهم المزكون من عنده، و في تحريفهم أحكامه وَ كَفى بِهِ أي بكذبهم عليه سبحانه إِثْماً معصية مُبِيناً واضحا و أي عصيان أعظم من التجرؤ على ساحة اللّه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 491

[سورة النساء (4): الآيات 51 الى 53]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ

لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)

[52] كانت اليهود تفضل المشركين على المسلمين و قد قال كعب- و هو أحد رؤسائهم- لأبي سفيان: أنتم و اللّه أهدى سبيلا مما عليه محمد، فنزل قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه و هو استفهام تعجبي إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا أي أعطوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ و هم اليهود الذين أنزل اللّه على نبيهم الكتاب فبقي بعضه في يدهم يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ هما صنمان لقريش، فقد سجد كعب للصنمين استمالة لقلوب المشركين وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي أبو سفيان و أصحابه هؤُلاءِ المشركون أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أي أن سبيل المشركين أحسن من سبيل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، فقد أوجب حقده على الإسلام أن يفضّل الكفار الذين لا يعترفون حتى بموسى عليه السّلام على المسلمين الذين يشتركون معهم في كثير من الأصول و الفروع.

[53] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته و طردهم عن الخير وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ينصره فيدفع اللعنة عنه و ينجيه من عقاب يوم القيامة.

[54] إن اليهود الذين حكموا بأن المشركين أهدى من الذين آمنوا سبيلا، لا قيمة و لا وزن لحكمهم هذا، فإنهم لا يملكون تفضيلا حتى يفضلوا الكفار على المؤمنين، و لو فرض أنهم ملكوا أتفه شي ء من الأمور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 492

[سورة النساء (4): الآيات 54 الى 55]

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ

سَعِيراً (55)

المادية لحرموا الناس جميعا من أقل الأشياء و أبخسها أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ استفهام إنكاري، أي هل لهم شي ء من ملك التفاضل حتى يهبوا من يشاءون فضلا؟ كلا إنهم لا يملكون ذلك، و إذا فرض أنهم ملكوا شيئا فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً النقير هو النقرة الصغيرة التي تكون في ظهر النواة.

[55] ثم إن تفضيل هؤلاء اليهود للمشركين ليس إلا حسدا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الرسول و أصحابه المؤمنين عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ حيث اختار الرسول للرسالة و هدى المؤمنين إلى الإيمان فلا موقع للحسد، فإن الفضل قد يؤتيه من يشاء و قد منّ سابقا على إبراهيم عليه السّلام و آل إبراهيم لا بالنبوة فحسب بل بالملك و النبوة فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ و قد ذكرنا سابقا أنه قد يقال: «آل فلان» و يراد الأعم منه و من آله- تغليبا- الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ علم الشرائع مما يفيد الدنيا و الآخرة فهو أعم من الكتاب وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً حيث جعل بأيديهم أزمة الحياة و جعلهم ملوكا و أنبياء.

[56] فَمِنْهُمْ أي من الناس، المعلوم من الكلام كقوله: لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «1» أو من آل إبراهيم عليه السّلام مَنْ آمَنَ بِهِ أي

______________________________

(1) النساء: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 493

[سورة النساء (4): آية 56]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)

بإبراهيم عليه السّلام و صدق نبوّته. و المراد من آل إبراهيم «مرجع الضمير» إما قومه الذين بعث إليهم، أو عشيرته و أحفاده وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي

أعرض عن الإيمان أو عن إبراهيم عليه السّلام، و هؤلاء اليهود كأولئك في أن بعضهم آمن بالرسول و بعضهم صد عنه. وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي يكفي هؤلاء الصادين سعير جهنم، و المراد بالسعير: الاشتعال و اللهب.

[57] ثم ذكر سبحانه عاقبة كل واحد من المكذب و المصدق إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا التي أقمناها على رسولنا و ما جاء به سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً من «أصلى يصلي» يقال: أصلاه النار إذا ألقاه فيها كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ و احترقت بالنار بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي جعلنا لهم جلودا جديدة مكان الجلود المحترقة لِيَذُوقُوا الْعَذابَ و لا ينقطع عنهم، و الجلود الجديدة هي الجلود القديمة التي خلقت من جديد، إذ الشي ء المحترق تتفرق أجزاؤه في الفضاء فيجمعها سبحانه و يعطيها الصورة الجلدية من جديد، هذا بالإضافة إلى أنه لو خلقت جلود جديدة لم يكن بذلك بأس إذ المتألم هو الروح فلا يقال: بما استحق الجلد الجديد العذاب؟ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً فلا يفوته شي ء و لا يمتنع عليه شي ء فإن العزة تلازمها الغلبة و القدرة حَكِيماً يصنع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 494

[سورة النساء (4): الآيات 57 الى 58]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)

كل شي ء بحكمة و يضع الأشياء في مواضعها، فليس تعذيب هؤلاء بهذه الكيفية خارجا عن نطاق قدرته و لا مخالفا للحكمة و المصلحة.

[58] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله

و ما جاء به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة سَنُدْخِلُهُمْ و لعل دخول ل «س» هنا و «سوف» هناك للدلالة على أن الجنة أقرب إلى المؤمنين من النار إلى الكافرين، فإن الكفار حيث أنهم يقضون برزخا مؤلما يطول عليهم الأمد بخلاف المؤمنين الذين يقضون برزخا مريحا، فإن الإنسان إذا كان في راحة زعم أن الوقت انقضى بسرعة بخلاف من كان في تعب و أذية فإنه يطول عليه الوقت جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ البساتين ذات القصور التي تجري من تحت أشجارها أنهار الماء خالِدِينَ فِيها أَبَداً كما أن الكفار خالدون في النار و كلما نضجت جلودهم بدلت بغيرها لَهُمْ فِيها أي في الجنات أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من القذارات الخلقية و القذارات الخلقية وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا هو الوقاية من نور الشمس و نحوه ظَلِيلًا أي ليس فيه حرّ و لا برد، و هو مبالغة حسن الظل كقولهم:

ليل أليل.

[59] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أيها الناس أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها تامة غير ناقصة، و لعل الارتباط بين هذه الآية و ما سبقها أن أهل الكتاب خالفوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 495

[سورة النساء (4): آية 59]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)

ما أمروا به و خانوا الأمانة الإلهية كما قال سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ «1» في حين أن اللّه تعالى يأمر بأداء الأمانة المادية، فكيف بأعظم الأمانات الروحية؟! كما أنهم حكموا بالجور حين قالوا: إن المشركين أهدى من الذين آمنوا سبيلا، بينما يحكم اللّه

تعالى الحكم بالعدل وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ في أمور دينهم أو دنياهم أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فلا تميلوا إلى ناحية دون ناحية لمجرد الهوى أو الرشوة أو العاطفة أو ما أشبه إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشي ء الذي يعظكم به و هو أداء الأمانة و الحكم بالعدل و ضمير «به» راجع إلى «ما» إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً يسمع كلامكم بَصِيراً يبصر حركاتكم و أعمالكم، فإنكم إذا خنتم الأمانة أو حكمتم بالجور فإنه لا يذهب ذلك على السميع البصير.

[60] و حيث بيّن سبحانه ما يجب على الحاكم من العدل، بيّن ما يجب على الأمة تجاه الحاكم العادل من الطاعة و السمع، و بيّن الحاكم الذي يحق له أن يحكم، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بالائتمار بأوامره و الانزجار عن زواجره وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ قد تقدم سابقا أن إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي إطاعة اللّه و إنما يذكران معا تبجيلا للرسول و لإفادة أن أوامره كأوامر اللّه سبحانه وَ أطيعوا أُولِي الْأَمْرِ أي أصحاب

______________________________

(1) الأحزاب: 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 496

السلطة الذين بيدهم الأمر مِنْكُمْ و قد عيّن أولو الأمر

في غير واحد من الأحاديث أنهم الأئمة الهداة الاثني عشر عليهم السّلام و هم: علي أمير المؤمنين، و الحسن، و الحسين، و علي، و محمد، و جعفر، و موسى، و علي، و محمد، و علي، و الحسن، و المهدي

«1». أما إطاعة العلماء المراجع فهي طاعة لأولي الأمر، إذ هم نوّابهم.

أما من زعم أن المراد بأولي الأمر كل حاكم فهذا يستلزم التناقض، فكيف يمكن الجمع بين من يبيع الخمر، و اللّه سبحانه الذي يحرمها؟ و هكذا ...

و لذا اشترطت الشيعة في النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام العصمة، و في العلماء العدالة.

فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أي حدثت بينكم المنازعة و المخاصمة فِي شَيْ ءٍ من أمور دينكم فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ حتى ترون أن القرآن و السنة مع أي جانب. و من حسن الحظ أنه ليس هناك شي ء تحتاج إليه الأمة في أي دور أن مصير يخلو منه الكتاب و السنة، إما بالخصوص أو بالعموم. و من المعلوم أن «الرد» الرجوع إلى أحاديث أهل البيت عليهم السّلام رجوع إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما أن الرجوع إلى العلماء النواب لهم، رجوع إليهم كما

قال عليه السّلام «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه»

«2».

إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أما الرجوع إلى غيرهما

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 283.

(2) وسائل الشيعة: ج 27 ص 140.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 497

[سورة النساء (4): آية 60]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)

فذلك من مقتضيات الكفر كما قال سبحانه: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1»، ذلِكَ الرجوع إلى اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صورة التنازع خَيْرٌ لكم لأن إرشاداتهما لصلاح دينكم و دنياكم وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي من جهة الأول و العاقبة، فإن عاقبة الحق خير من عاقبة الباطل. و العاقبة تسمّى تأويلا لأنها مآل الأمر و مرجعه، و

يحتمل أن يكون المراد: أنه أحسن من تأويلكم إياه.

[61] و لما بيّن سبحانه وجوب الرجوع في موارد النزاع إلى حكم اللّه و الرسول أبدى التعجّب من الذين يدّعون الإيمان ثم يرجعون في قضاياهم إلى أحكام مخالفة لأحكام اللّه و الرسول بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ليعدّوا أنفسهم في زمرة المسلمين وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإنهم يظهرون الإيمان بكل رسل اللّه و كتبه اتباعا لقوله: وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ .. «2»، و هذا لتأكيد أنهم في سمات المؤمنين بكل مقوماتها يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا أي يرفعوا مشاكلهم و قضاياهم المتنازع فيها إِلَى الطَّاغُوتِ مبالغة في الطغيان و كل حكم غير

______________________________

(1) المائدة: 45.

(2) البقرة: 137.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 498

[سورة النساء (4): آية 61]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)

حكم اللّه سبحانه، فإنه للطاغوت، لأن حكم اللّه هو العدل و ما سواه زيغ و انحراف و طغيان، فهم ينتحلون الإيمان و يسلكون غير طريق الإيمان يريدون بذلك أن يوفروا على شهواتهم فيظهرون الإيمان ليحقن دماءهم و أعراضهم و أموالهم، و يرجعون إلى الطاغوت ليعطي الحكم لهم حينما علموا أن العدل لا يعطيهم الحكم- إذ هم على الباطل- وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ كما قال اللّه سبحانه: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها «1»، وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ بما يزيّن لهم أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق فإن مراجعة الطاغوت ضلال و زيغ.

جاء في «مجمع البيان»: أنه كان بين رجل من اليهود و رجل

من المنافقين خصومة فقال اليهودي: أحاكم إلى محمد، لأنه علم أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يقبل الرشوة و لا يجوز في الحكم، فقال المنافق: لا، بيني و بينك كعب بن الأشرف، لأنه علم أنه يأخذ الرشوة «2». فنزلت الآية.

[62] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا أي ائتوا للمحاكمة إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَ إِلَى الرَّسُولِ ليحكم بيننا رَأَيْتَ يا رسول اللّه الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ أي يعرضون عَنْكَ صُدُوداً أي إعراضا.

______________________________

(1) البقرة: 257.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 499

[سورة النساء (4): الآيات 62 الى 63]

فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)

[63] فَكَيْفَ يكون حال هؤلاء المنافقين إِذا اضطروا للرجوع إليك، و كيف لا يخجلون في مراجعتك لتخليصهم من مصائبهم، بعد ما أعرضوا عنك في منازعاتهم؟! فيما إذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب أعمالهم، فإن الأعمال السيئة قد تورث المصائب و النكبات ثُمَّ جاؤُكَ يا رسول اللّه يريدون منك إسعافهم في مصيبتهم معتذرين عن مراجعتهم إلى الطاغوت من قبل يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا في مراجعتنا إلى الطاغوت إِلَّا إِحْساناً إليك حتى لا نزاحمك و نأخذ من وقتك وَ تَوْفِيقاً بين أمورنا، و لم يكن لنا غرض في الإعراض عنك.

[64] أُولئِكَ المنافقون الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ و إن قصدهم لم يكن الإحسان و التوفيق و إنما الإعراض عنك لأنك تحكم بالحق و لا تقبل الرشوة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و لا تظهر لهم

القبول حتى يتمادوا في غيهم و يظنون أنهم تمكنوا من إغوائك وَ عِظْهُمْ بأن تبين لهم خطأ طريقتهم وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي قل لهم قولا يبلغ قرارة نفوسهم، فإن من الأقوال ما يقال و لا ينفذ إلى القلب لعدم وجود حرارة و حماس في القول ليعيه القلب، و من الأقوال ما يقال و ينفذ في النفس فكأن النفس محل إيداع القول قَوْلًا بَلِيغاً يبلغ نفوسهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 500

[سورة النساء (4): الآيات 64 الى 65] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 549

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)

[65] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ فليس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمجرد الوعظ حتى يراجعه الناس مهما شاءوا و يراجعوا غيره إذا لم يشاءوا مراجعته، بل إن الرسول أرسل لإطاعة الناس له في جميع شؤونهم فهو المأذون من قبل اللّه سبحانه في أن يطاع، أي ليس لأحد أن يطيع أحدا جبرا إلا إذا كانت السلطة ناشئة من قبل اللّه و إذنه، و إلا فأية سيطرة لأحد على أحد، مع العلم أن الأشياء كلها ملك اللّه سبحانه.

ثم إن اللّه سبحانه لا يقطع صلته بهؤلاء المنافقين بل يفتح لهم مجال الرجوع و الإنابة وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي هؤلاء المنافقون و العصاة إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالنفاق و المعصية، فإن العصيان يعود ضرره إلى العاصي جاؤُكَ تائبين معتذرين

فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ أي طلبوا غفرانه و عفوه وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بأن وجدهم أهلا لطلب المغفرة من اللّه لهم لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً أي كثير التوبة. و قد تقدم أن معنى كون اللّه توابا: أنه كثير الرجوع على عبده العاصي كلما تاب العبد و رجع رَحِيماً يرحمهم و يغفر ذنوبهم.

[66] و هنا يتردد سؤال هو أنه: كيف يقال عن هؤلاء أنهم «يزعمون أنهم آمنوا بك»؟ أ ليس إيمانهم حقيقيا، فإنهم آمنوا بالله و رسوله و اليوم الآخر و التزموا بشرائع الإسلام من صلاة و زكاة و صيام؟ و الجواب:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 501

فَلا وَ رَبِّكَ أي ليسوا بمؤمنين- قسما بربك- يا رسول اللّه لا يُؤْمِنُونَ إيمانا مرضيا أمر به اللّه و رتب عليه الجنة و الثواب حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حاكما فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما وقع بينهم من الخصومة ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً أي لا يجدوا في قلوبهم صعوبة من قضائك، كما هو شأن المغلوبين في القضاء حيث لا يتقبلون الحكم بسهولة بل يظنون أن الحاكم بخسهم حقهم مِمَّا قَضَيْتَ و حكمت وَ يُسَلِّمُوا أي ينقادوا لقضائك و حكمك تَسْلِيماً مطلقا بلا صعوبة و لا حرج يجدونه في نفوسهم.

فعن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال «لو أن قوما عبدوا اللّه و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و صاموا شهر رمضان و حجوا البيت ثم قالوا لشي ء صنعه رسول اللّه: ألا صنع خلاف ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم، لكانوا مشركين، ثم تلا هذه الآية»

«1».

و في بعض التفاسير: إن الآية نزلت في الزبير و ابن أبي بلتعة حيث تنازعا فحكم الرسول للزبير فخرجا و قال ابن أبي بلتعة متهما

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنه قضى لابن عمته، و عيّرهم بذلك يهودي فقال: كيف تعتقدون أنه رسول اللّه ثم تتهمونه في قضاء قضاه «2»؟

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 398.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 121.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 502

[سورة النساء (4): الآيات 66 الى 67]

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67)

[67] كيف أنهم يجدون حرجا من قضاء قضاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحال أنه يجب إطاعة الرسول في كل شي ء حتى لو أمر بأن يقتلوا أنفسهم، كما أمر موسى قومه: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» فتابوا و فعلوا ما أمرهم به وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا أي أوجبنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الذين يجدون حرجا في أنفسهم مما قضيت أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بأن يقتل بعضكم بعضا أو يقتل الشخص نفسه أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ بأن تهجروا مساكنكم إلى بلاد الغربة، كما خرج قوم موسى إلى التيه من منازلهم التي كانت في مصر ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ لما في ذلك من إهلاك النفس و المشقة وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من عدم الحرج في قضاء رسول اللّه و اتباع أوامره و أحكامه لَكانَ فعلهم ذلك خَيْراً لَهُمْ في دنياهم و آخرتهم وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً فإن الإنسان كلما أطاع ثبّت دينه و قوّى ملكة عقيدته، فإن العقيدة بتكرار التعقّل و تكرار التذكّر و الاستسلام تقوى و تشد، فما أمروا به

ليس فيه جهد قتل النفس و إخراجها من الديار، و مع ذلك فهو خير لهم و تثبيت لعقيدتهم المؤدية لكل سعادة.

[68] وَ إِذاً أي إذا فعلوا ما يوعظون به لَآتَيْناهُمْ أي أعطيناهم مِنْ لَدُنَّا أي لدن أنفسنا. و هذه الكلمة تفيد تأكيد الوعد، إذ أن اللّه تعالى

______________________________

(1) البقرة: 55.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 503

[سورة النساء (4): الآيات 68 الى 69]

وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69)

ليس عاجزا لا يتمكن من إنجاز وعده و لا بخيلا أو مخلفا لوعده حتى لا يفي بما قال أَجْراً عَظِيماً أي كبيرا. و

في الأحاديث: إن نعيم الجنة بنحو «لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر» «1».

[69] وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ثبّتناهم، و قد تقدم في سورة الحمد اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أن المعنى «ثبتنا»- بالتقريب الذي سبق- أو المراد هدايتهم صراط يوم القيامة الذي هو جسر على جهنم.

[70] ثم ينتهي السياق إلى القاعدة العامة التي توجب خير الدنيا و الآخرة وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ باتباع أوامرهما و نواهيهما بصورة عامة فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الدنيا في المكانة الرفيعة في القلوب و الذكر الرفيع و النصرة، كما قال سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «2» مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ الصديق هو الملازم للصدق في أقواله و أعماله، أو هو المداوم على التصديق بما يوجبه الحق وَ الشُّهَداءِ الذين استشهدوا في سبيل اللّه، و يسمى الشهيد شهيدا لشهادة الملائكة و الناس له

بأنه من أهل الجنة وَ الصَّالِحِينَ الفاعلين للصلاح الملازمين له وَ حَسُنَ أُولئِكَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 8 ص 92.

(2) غافر: 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 504

[سورة النساء (4): الآيات 70 الى 72]

ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72)

الأشخاص رَفِيقاً أي مرافقين لمن يطع اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[71] ذلِكَ التوفيق للإطاعة المعقب لكون رفقاء الإنسان النبيين و سائر من ذكر الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ أي تفضّل منه سبحانه لمن اهتدى بمثل هذه الهداية وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً أي يكفي اللّه سبحانه عالما بما يفعله الإنسان من خير و شر، فإنه إذا علم شيئا رتّب عليه الأثر.

[72] و إذا انتهى الكلام حول الإطاعة المطلقة لله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلتفت السياق إلى حكم شاق من أحكام الإسلام هو القتال لتدريب المؤمنين على هذا العمل الجهادي العظيم، و تقرير الواجب عليهم فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- ذكرنا سابقا أن أحكام الإسلام عامة لكل شخص، و تخصيص المؤمنين بالخطاب لأنهم المستفيدون من ذلك- خُذُوا حِذْرَكُمْ يقال: خذ حذرك، أي احذر و تأهب لملاقاة الأمر بالمكروه، أو المراد بالحذر: الأسلحة- مجازا- لأنه آلة الحذر فيكون من باب المجاز فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي أخرجوا إلى الجهاد. و «ثبات» جمع مفرده «ثبة» الجماعة في فرقة، أي ليكن خروجكم فرقة بعد فرقة، كما تخرج السرايا سرية إلى هنا و سرية إلى هناك، أو جماعة إثر جماعة أَوِ انْفِرُوا

و اخرجوا جَمِيعاً في عسكر واحد.

[73] وَ إِنَّ مِنْكُمْ أيها المسلمون لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ أي يتأخر عن الخروج استثقالا من الجهاد، و إرادة للفرار، كما كان ذلك حال المنافقين فإنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 505

[سورة النساء (4): الآيات 73 الى 74]

وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)

كانوا لا يريدون الجهاد، و لذا كانوا يستثقلونه رجاء الفرار فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من هزيمة أو قتل لبعض أفرادكم قالَ ذلك المنافق المبطئ و هو مسرور جذلا: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي شاهدا حاضرا في القتال، حتى يصيبني ما أصابهم، و هذا دائما عادة المنافقين في كل حركة، أنهم يبطّئون حتى يذهب الناس، و يترقبون الأنباء حتى إذا وجدوا في الذاهبين كسرا سرّوا بأنهم كانوا بعداء عن المعركة.

[74] وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ في جهادكم فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ بالفتح و الغنيمة لَيَقُولَنَ ذلك المبطئ متحسّرا- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة معترضة ليست مقولة للقول، و إنما هي حكاية حال المنافق الذي لا يريد إلا النفع و المادة، و لا يخلص للدين و الدعوة-: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ حاضرا في الجهاد، لأنال مالا و فخرا فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فإنه يتمنى الحضور لا لنصرتكم بل لأن يفوز هو بشرف الجهاد و غنيمة الفاتحين.

[75] لما تقدم ذكر المنافقين الذين يبطّئون عن القتال، بيّن سبحانه ما هو واجب المسلم بالنسبة إلى هذا الأمر المهم فقال: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ

اللَّهِ أي لأجل أمره و إعلاء كلمته الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 506

[سورة النساء (4): آية 75]

وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)

أي يبيعون الحياة القريبة الفانية بالحياة الآخرة الباقية، فإن من أقدم على الحرب، كان كمن باع نفسه و كل ما يملك لأجل الآخرة وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأن تكون مقاتلته لأجل إعلاء أمر اللّه و تنفيذ حكمه فَيُقْتَلْ يستشهد أَوْ يَغْلِبْ يظفر على الأعداء فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً فهو بين إحدى الحسنيين، الاستشهاد و الجنة، أو الغلبة و الفتح.

[76] وَ ما لَكُمْ أيها المسلمون لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته و تطبيق حكمه في البلاد وَ في سبيل نصرة الْمُسْتَضْعَفِينَ بإنقاذهم من براثن الحكّام الجائرين و السادة الظالمين مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الذين بقوا محصورين في أيدي الجائرين، فإنه يحق للمسلم أن يقاتل لأجل أحد هذين الأمرين، و لا يحق له أن يقاتل لأجل نشر السيطرة و الاستثمار و السيادة- كما هي العادة عند غير المسلم من المحاربين- و الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها أي المدينة التي هم فيها مما لا يجدون محيصا عنها، فلا يتمكنون من الخروج عنها لضعفهم و منع الظالمين لهم من الخروج، و لا لهم حول لدفع ظلم الظالمين عن أنفسهم وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 507

[سورة النساء (4): الآيات 76 الى 77]

الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ

فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)

وَلِيًّا يلي أمورنا و يسير بنا بالعدل و الإحسان وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ عندك نَصِيراً ينصرنا على الظالمين.

[77] ثم شجع سبحانه المجاهدين بأنهم أقوى من أعدائهم فإن الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لمرضاته و إعلاء كلمته وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ الذي هو طاغ متجاوز للحد، فإن الذين كفروا لا يريدون بقتالهم إلا الظلم و الطغيان و إبقاء الأنظمة الفاسدة و العادات و التقاليد الزائفة فَقاتِلُوا أيها المؤمنون أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ و أحبّاءه الذين يتولّونه إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ و مكره و حيلته في سبيل إبقاء أمره و تقوية جيشه كانَ ضَعِيفاً فيغلبه نصر اللّه و ولاية للمؤمنين.

و لا مجال لأن يقال: فكيف نرى غلبة الكفار في كثير من الأحيان؟ فإن الجواب: إن ذلك لعدم توفر شروط المقاتلة في المؤمنين، إذ أن اللّه سبحانه لم يعد النصر مطلقا بل مشروطا بأن يعدّوا لهم ما استطاعوا من قوة، و أن يصدقوا في الجهاد و المثابرة إلى غير ذلك، نعم مع توفر الشروط لا يفيد الأعداء جمعهم و كثرتهم، كما دلت التجارب على ذلك و صدّق الخبر الخبر.

[78] كان المسلمون و هم بمكة يطلبون من الرسول صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم الإذن لهم في قتال الكفار حينما كانوا يلاقون منهم الأذى و لما جاء دور القتال في المدينة تولى بعضهم، كما هو العادة عند الناس غالبا حيث أنهم يحرّضون الرؤساء على الإقدام فلما أن أقدموا كانوا أول المنهزمين أَ لَمْ تَرَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 508

يا رسول اللّه استفهام تعجبي إِلَى المسلمين الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ بمكة- و القائل هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أي أمسكوها و اقبضوها عن القتال وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فإنه لا يجب عليكم الجهاد الآن، و كان النهي عن الجهاد لقلّتهم و عدم تمكنهم من مقابلة العدو، و أنهم إن قاتلوا أبيدوا و اجتثّت جذور الإسلام، بالإضافة إلى إرادة رسوخ الإيمان في قلوبهم، فإن الإنسان مهما ابتلي بالمشقات و الشدائد يصفو جوهره و تصقل نفسه فَلَمَّا أتوا إلى المدينة و كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي فرض عليهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي من هؤلاء المسلمين الذين كانوا يطلبون الإذن بالقتال يَخْشَوْنَ النَّاسَ الكفار أن يقتلوهم إذا بارزوا كَخَشْيَةِ اللَّهِ كما يخافون من اللّه سبحانه أن يميتهم أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً إذ خوف الإنسان من الموت غالبا أقل من خوفه من القتل، إذ القتل يكتنف في الأغلب بالأهوال و المرعبات بخلاف الموت.

وَ قالُوا أي قال هؤلاء الفريق: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ أي لأي علة فرضت علينا أن نقاتل فعلا؟! لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي لماذا لم تؤخر الأمر بالقتال إلى زمان آخر قريب، حتى نستعد للحرب. فقد ورد في بعض التفاسير: أنه كان بالنسبة إلى «حرب بدر» حيث كان بعض المسلمين يكرهون ذلك لأنهم لم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص:

509

[سورة النساء (4): آية 78]

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

يستعدوا و يطلبون التأخير إلى أجل قريب ليستعدوا.

قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء: إن كان خوفكم من الحرب لأجل احتمال القتل فما فائدة البقاء في الدنيا؟ إذ مَتاعُ الدُّنْيا أي ما يستمتع به في الدنيا قَلِيلٌ الأمد يفنى بعد مدة وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى المعاصي و عمل بالواجبات وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي مقدار فتيل، و هو ما في شق النواة فإذا قتلتم، لا تهدر أتعابكم و أعمالكم.

[79] ثم لماذا الفرار من القتال، الخوف الموت؟ فإن الموت لا محالة يدرك الإنسان أَيْنَما تَكُونُوا من الأماكن يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أي يلحقكم و ينزل بكم وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ البروج جمع برج، و هو القصر أو البناء المستحكم الذي يرصد فيه للأعداء و يشرف منه على القادم و الذاهب، و ال «مشيدة» هي التي شيدت و بنيت بإحكام، أي أن الموت لا يهاب البروج و القلاع و الحصون و المراصد.

ثم وصف سبحانه حالة هؤلاء الضعاف الإيمان من المسلمين الذين قالوا: «لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ» فإن دخائل نفوسهم تتلوّن و لا تبقى في جهة واحدة و إيمان راسخ وَ ذلك لأنه إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ من نماء و زرع و بركة و تقدم في الحرب و صحة و ما أشبه يَقُولُوا هذِهِ الحسنة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فإنه المتفضل المحسن وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من غلاء و قحط و تأخر و مرض و ما أشبه

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 510

[سورة النساء (4): آية 79]

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)

يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يا رسول اللّه، فإنه أصابنا بسببك، كما حكى اللّه سبحانه عن قدم ذلك، حيث قال سبحانه: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ «1».

قُلْ يا رسول اللّه لهم: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فهو الذي يجدب و هو الذي يخصب و هو الذي يمرض و هو الذي يشفي ... و هكذا، فليس مصدر الكوارث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ أي ما شأن هؤلاء الضعاف الإيمان؟ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أي بعداء عن فهم ما نحدّثهم به من القرآن الحكيم.

[80] و حيث تبين أن مصدر الخير و الشر هو اللّه سبحانه يبقى السؤال: ما هو سبب الشر؟ و لماذا يبتلي اللّه تعالى الإنسان بالشر، و الحال أنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير؟ و يأتي الجواب: ما أَصابَكَ أيها الإنسان مِنْ حَسَنَةٍ كالزرع و الرّخص و الصحة و الغنى فَمِنَ اللَّهِ إنه يتفضل عليك بلا سبب، و إن كان قسم منها أيضا بسبب الأعمال الصالحة وَ ما أَصابَكَ أيها الإنسان مِنْ سَيِّئَةٍ قحط و غلاء و مرض و ما أشبه فَمِنْ نَفْسِكَ فإن أعمالك الشريرة هي التي سببت ابتلاءك بالسيئات و المصائب وَ أَرْسَلْناكَ يا رسول اللّه لِلنَّاسِ رَسُولًا فمهمتك تخصّ التبليغ و لا يرتبط وجودك بالمصائب و الآفات- كما

______________________________

(1) الأعراف: 132.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 511

[سورة النساء (4): الآيات 80 الى 81]

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ

حَفِيظاً (80) وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)

يزعم هؤلاء- بل العكس، إنك منبع الخير و مبعث الهداية و الصلاح وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي يكفي كون اللّه شاهدا على رسالتك و أنك لا ترتبط بالشرور، لا يقال: كيف يمكن إثبات أن اللّه يشهد على رسالته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحال أن أحدا لم يسمع من اللّه ذلك؟ الجواب: لأنا نقول: إن الشهادة التكوينية بإجراء المعجزة على يديه الكريمتين من أكبر أقسام الشهادة.

[81] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ في أوامره و زواجره، التي منها أمره بالجهاد- كما سبق في بعض الآيات- فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأن أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو أمر اللّه سبحانه وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» وَ مَنْ تَوَلَّى و أعرض عن أوامر الرسول، فلا يهمك ذلك يا رسول اللّه و لا تذهب نفسك عليهم حسرات فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم عن المخالفة و التولي، كما قال تعالى في آية أخرى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ «2».

[82] ثم حكى سبحانه حال المنافقين الذين تقدم بعض أحوالهم من أنهم يبطّئون عن الجهاد، و يقولون: لو لا أخرتنا إلى أجل قريب، و ما أصابتهم من سيئة يطيروا بالرسول وَ يَقُولُونَ هؤلاء: أمرك طاعَةٌ إنا مستعدون لتنفيذه و مستسلمون له فَإِذا بَرَزُوا أي خرجوا

______________________________

(1) النجم: 4 و 5.

(2) الغاشية: 22 و 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 512

[سورة النساء (4): آية 82]

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ

عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)

مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ أي قدّر ليلا طائِفَةٌ أي جماعة مِنْهُمْ أي من هؤلاء المنافقين غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ فيتشاورون بينهم بالليل ليخالفوك و ينقضوا أمرك وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي ما يتواطئون عليه ليلا، من نقض أمرك، فيجازيهم على المخالفة و العصيان فَأَعْرِضْ يا رسول اللّه عَنْهُمْ فلا تؤاخذهم بأعمالهم حتى تنشق صفوف المسلمين، فإنهم إن ظهرت خباياهم شقوا الصفوف و خالفوا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فهو الذي ينصرك و يعينك في جهادك الأعداء وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فمن و كل إليه سبحانه أمره أنجزه أحسن إنجاز و أكمله أحسن إكمال.

[83] فهل يظن هؤلاء العصاة الذين يخالفون الرسول و يبيتون غير ما يقول، أن الرسول يأمر و ينهى عن نفسه، دون أن يكون كلامه من الوحي، و أن القرآن من كلامه لا من كلام اللّه سبحانه، و لذا يسهل مخالفته؟

فإن كان هذا ظنهم فهو خطأ محض، إذ القرآن الذي يقرأه الرسول إنما هو من عند اللّه، لا من كلام الرسول أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ تدبرا عميقا حتى يعرفوا أنه فوق كلام البشر و لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثله وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ حتى لو كان من عند الرسول- على عظمته- لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً لأن البشر مهما أوتوا من الموهبة لا بد و أن تختلف تعبيراتهم و تتفاوت أفكارهم حسب الأزمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 513

[سورة النساء (4): آية 83]

وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ

الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)

و الظروف، فعدم الاختلاف في القرآن من جهة من الجهات، أدل دليل على أنه ليس من كلام البشر و إنما هو من عند إله حكيم.

[84] و يعود السياق إلى حالة هؤلاء المنافقين الذين تقدمت بعض صفاتهم، فقال سبحانه: وَ إِذا جاءَهُمْ أي جاء هؤلاء أَمْرٌ أي شي ء مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ من ظهور المؤمنين على عددهم الموجب للأمن، أو انهزام المسلمين الموجب للخوف، و نحو ذلك من كل شي ء يوجب أمنا أو خوفا أَذاعُوا بِهِ أي أفشوه في الأوساط، فقد كانت الأخبار المختلفة تذاع و تنشر في المدينة لغرض الدعاية للمسلمين أو عليهم، فكان هؤلاء الضعاف الإيمان يتلقفونها فورا و يأخذون في إشاعتها، من دون نظر إلى عاقبة الأمر، و إلى أن الخبر هل هو صحيح أو لا. و من الأمور الضرورية بالنسبة إلى الحركات أن تكون أخبارها طي الدرس عند القادة، ليروا هل من الصلاح إشاعتها أم لا إذ كثيرا ما يكون الخبر مكذوبا و كثيرا ما تكون إشاعة خبر الأمن، ضد المصلحة- و لو كان صحيحا- حينما يقتضي الحال الحذر و الاستعداد، و كثيرا ما تكون إشاعة خبر الخوف ضد الصلاح- و لو كان صادقا- حينما يقتضي الحال الأمن و الأمان، لئلّا يجبن الناس عن الاستعداد و الحركة.

وَ لَوْ رَدُّوهُ أي أرجعوا ذلك الخبر الذي سمعوه إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ و المراد به الأئمة عليهم السّلام، و الذين هم معيّنون من قبل الرسول و الأئمة، فإنه لا أولي أمر إلا هؤلاء كما تقدم ذلك لَعَلِمَهُ أي: لعلم ذلك الأمر صدقه و كذبه و كون الصلاح في نشره أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 514

[سورة النساء (4): آية

84]

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)

كتمانه الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ أي يستخرجونه مِنْهُمْ أي من أولي الأمر فلا يبقى الخبر مردّدا بين الصدق و الكذب، و لا بين الصلاح في إشاعته و عدمه، و لم يكن محل للظنون و الأوهام و لم ترج- بعد- الأكاذيب لأنها تحت الرقابة. و لم يقل «لعلموه» للإشارة إلى علة علمهم و أنهم بسبب استنباطهم يعلمونه.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ أيها المسلمون، حيث يرشدكم إلى مواقع الزلل و مهاوي الخطأ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ في ما يلقيه عليكم مما يوجب بلبلة صفوفكم و انشطار كلمتكم إِلَّا قَلِيلًا من الذين قويت عقولهم فلا يتبعون خطوات الشيطان، حتى إذا لم يكن رسول، كما كان ذلك في زمن الجاهلية حيث أن بعضهم لم يكن يتبع الشيطان بما أوتي من قوة في العقل و سداد في الرأي فليس المراد- لو لا فضل اللّه إطلاقا- بل المراد الفضل الخاص.

[85] و عند ما بيّن القرآن سلوك القوم في الجهاد و أن اللّه هو الذي يتفضل على المؤمنين، يتوجه السياق إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا: فَقاتِلْ يا أيها الرسول فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لإعلاء كلمته و تنفيذ حكمه لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ فإنك لا تضرّر بفعل المنافقين و إرجافهم و ما يبدو منهم، فإنك لست مكلفا بأفعالهم و أعمالهم كما أنك لست مسئولا عن المؤمنين إلا بقدر نطاق التبليغ و الإرشاد وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي حثّهم على القتال عَسَى اللَّهُ أي لعلّ اللّه أَنْ يَكُفَ و يمنع بسبب قتالك بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 1، ص: 515

[سورة النساء (4): الآيات 85 الى 86]

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85) وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86)

أي شدة الكفار و قوتهم بأن يغلّبك عليهم فيعودوا خائبين وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً فأنتم بقوة اللّه و شدته تتقدمون و هو أشد من الكفار قوة وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا أي أشد من حيث العقوبة و النكال.

[86] و حيث تقدم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يكلّف إلا نفسه، استدرك الأمر بأن ليس المراد بذلك أن الإنسان الوسيط لا يكون له شي ء بالنسبة إلى ما توسط فيه بل مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً أي يكون قد شفع صاحبه في الأمور الخيرية، و ذلك إما بالتوسط، أو بالتحريض أو بالإرشاد يَكُنْ لَهُ أي للشفيع نَصِيبٌ و حصة مِنْها أي من تلك الحسنة فإن الدال على الخير كفاعله وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً بأن توسط في الأمر السيئ أو حرّض أو دلّ على ذلك يَكُنْ لَهُ أي للشفيع كِفْلٌ أي نصيب مِنْها لأنه قد تعاون على الإثم و العدوان وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً أي مقتدرا فهو القادر في أن يعطي الشفيع نصيبا من الحسنة أو كفلا من السيئة. أو معنى المقيت: المجازي، أي يجازي على الأمرين.

[87] و قد ناسب الكلام الذي هو حول القتال و الجهاد، الكلام حول السلام و الكف عن القتال، لتقابل الضدين بين الأمر، و يأتي الجو عاما لا يخص سلام الحرب، بل السلام المطلق، فقال سبحانه: وَ

إِذا حُيِّيتُمْ أيها المسلمون بِتَحِيَّةٍ و التحية: السلام، يقال: «حيّ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 516

[سورة النساء (4): الآيات 87 الى 88]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)

يحيي» إذا سلم فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أي من تلك التحية. و الآية عامة تشمل كل تحية. قال في «المجمع»: «فلما أمر سبحانه بقتال المشركين عقبه بأن قال: من مال إلى السلم و أعطى ذاك من نفسه و حيّ المؤمنين بتحية فاقبلوا منه» «1». أَوْ رُدُّوها بمقدارها فإذا قال أحد لك:

«السلام عليكم» فالرد الأحسن أن تقول: «السلام عليكم و رحمة اللّه» و الرد المساوي أن تقول: «السلام عليكم» إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً أي حفيظا محاسبا، فيحسب ردّكم إن كان بالأحسن أو بالمساوي ليجازيكم عليه.

[88] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو المالك المطلق ذو الصفات الكمالية لَيَجْمَعَنَّكُمْ ببعثكم بعد الممات و يحشرنكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي إلى موقف الحساب ليجازيكم بأعمالكم فما عملتم في دنياكم من حرب و سلم أو غيرهما لا بد و أن تجازوا عليه هناك لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس محلا للريب و إن ارتاب فيه المبطلون، أو أنه بالنظر إلى الواقع ليس فيه ريب و شك، فهو أمر واقع لا محالة منه وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً فحديثه صادق لا خلف فيه، و ليأتينكم يوم القيامة و تجازون بما عملتم في الدنيا.

[89] ثم يرتد السياق إلى الجهاد و ما يتخلله من الاختلاف و

الانشقاق و يذكّر

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 148.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 517

اللّه سبحانه المؤمنين بأنه لا ينبغي لهم أن يختلفوا في جهاد الكفار و المنافقين لأعذار واهية، فقال سبحانه: فَما لَكُمْ أيها المسلمون صرتم فِي الْمُنافِقِينَ أمر المنافقين فِئَتَيْنِ فئة تؤيد محاربتهم لأنهم كفار واقعا، و فئة لا تؤيد لأنهم أظهروا الإسلام في يوم ما وَ الحال أن اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أي ردّهم إلى حكم الكفر بِما كَسَبُوا أي بسبب كسبهم للنفاق و الشقاق أَ تُرِيدُونَ أي هل تريدون أيها المسلمون أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي: أ تطمعون في هداية هؤلاء المرتدين، و قد أضلهم اللّه؟ و قد تقدم أن معنى إضلال اللّه تركهم و ضلالهم، بعد أن عرفوا الحق فأعرضوا عنه وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فيتركه على كفره و ضلاله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا لإنقاذه، و كيف يمكن إنقاذه و هو معاند يتعامى عن الحق عمدا.

و

قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام: «أن هذه الآية نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة، لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال بعضهم: لا نفعل فإنهم مؤمنون، و قال آخرون: إنهم مشركون. فأنزل اللّه فيهم هذه الآية» «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 143.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 518

[سورة النساء (4): آية 89]

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (89)

و هذا الأمر عام دائما في كثير من الحركات فإن قسما من الذين

يؤمنون لا بد و أن ينقلبوا ثم يختلف فيهم الباقون، هل أنهم خارجون حقيقة أم لا، و الآية تبين وجوب وحدة الصف أمام هؤلاء بعد ما ظهر منهم الارتداد. ثم لا يخفى أن تعبير الآية بالمنافقين لا يدل على أنهم لم يكفروا إذ النفاق أعم من الكفر، و من المحتمل أن الآية تريد بيان وجوب وحدة الصف أمام المنافقين، حتى يكون التجنب عنهم عاما و ليقروا بالعزلة، و هذا أقرب إلى ظاهر الآية بمناسبة ما سبق من أحكام المنافقين كما أن صريح الرواية و ظاهر الآية اللاحقة «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» يدل على المعنى الأول، و أنه أريد بالنفاق الكفر.

[90] وَدُّوا أي أحبّ هؤلاء المنافقين الذين ارتدوا عن الإسلام و أظهروا الشرك لَوْ تَكْفُرُونَ أنتم أيها المسلمون كَما كَفَرُوا هم فَتَكُونُونَ سَواءً في الكفر و مثل هؤلاء لا ينبغي أن ينقسم المسلمون بالنسبة إليهم قسمين فَلا تَتَّخِذُوا أيها المسلمون مِنْهُمْ أَوْلِياءَ أحبّاء و أخلاء، فإن المسلم لا يصادق الكافر كما قال سبحانه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ «1» حَتَّى يُهاجِرُوا من دار الكفر إلى دار السلام فِي سَبِيلِ اللَّهِ و ذلك يلازم الإيمان، إذ الهجرة لا تكون إلا بعد الإيمان فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن الإيمان الملازم للهجرة

______________________________

(1) المجادلة: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 519

[سورة النساء (4): آية 90]

إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)

فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي أينما أصبتموهم من

حلّ أو حرم، و لا إشكال في محاربة الجاني في الحرم، أو المراد أينما كانوا من الأرض وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا أي صديقا خليلا وَ لا نَصِيراً أي ناصرا ينصركم على أعدائكم، فإن الكافر لا ينصر المسلم و لو نصره في الظاهر فإنه لا يؤمن شره.

[91] ثم استثنى سبحانه عن وجوب مقاتلة هؤلاء من كان داخلا في حلف قوم بينهم و بين المسلمين معاهدة، فإن دخوله في ذلك الحلف يحقن دمه، و من لا يريد محاربة المسلمين و إنما يريد معاهدتهم، فقال سبحانه- مستثنيا من قوله «فخذوهم ..»-: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ أي لهم مواصلة و أحلاف مع قوم بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ أي بين أولئك القوم مِيثاقٌ و

في الحديث: «أن هلال بن عويمر السلمي واثق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يتعرض هو لأحد أتاه من المسلمين، و لا يتعرض الرسول لمن أتى هلال بن عويمر. فأنزل اللّه هذه الآية ناهيا أن يمس من يأتي هلال من الكفار بسوء» «1».

أَوْ الذين جاؤُكُمْ أي أتوا إليكم أيها المسلمون حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت صدورهم- و السبب أن من يهمه أمر تنتفخ رئته لتجلب أكبر قدر من الهواء، ليرفّه على القلب الذي حمي بواسطة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 145.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 520

غليان الدم، فيضيق الصدر لتوسع الرئة- أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي تضيق صدورهم من قتالكم و قتال قومهم فلا يكونون لكم و لا عليكم.

و

في «المجمع»، قال: «إنما عنى به بني أشجع، فإنهم قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن دخيلة فأخرج إليهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحمال التمر ضيافة، و قال: نعم

الشي ء الهدية أمام الحاجة و قال لهم: ما جاء بكم؟ قالوا: لقرب ديارنا منك، و كرهنا حربك و حرب قومنا- يعنون بني حمزة الذين بينهم و بينهم عهد- لقلّتنا فيهم، فجئنا لنوادعك، فقبل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك منهم و وادعهم فرجعوا إلى بلادهم» «1».

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ أي سلط هؤلاء الكفار عَلَيْكُمْ بأن لم يلق في قلوبهم رعبكم أيها المسلمون حتى يخافوكم فيسالموكم، فقد كان هذا من فضل اللّه سبحانه أن يجعلكم محل هيبة و منعة، مع أن عددكم و عددكم لا يقتضيان ذلك، و لو لم يلطف بكم فَلَقاتَلُوكُمْ لكن حيث أنعم اللّه عليكم بذلك فلا تمدوا إليهم يد المحاربة فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ هؤلاء الذين ذكروا و هم «الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ ..» أو «جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ..» فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ أيها المسلمون السَّلَمَ يعني صالحوكم و استسلموا لكم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 153.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 521

[سورة النساء (4): آية 91]

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)

فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فلا تباح دماؤهم، و لا أموالهم، و لا أعراضهم.

و ما في بعض التفاسير من أن الآية منسوخة، لم يظهر وجهه، إذ الجملة الأولى لا تقبل النسخ فإن المعاهدات تبقى إلى أمدها، و الجملة الثانية في مورد خاص، و مثله لا يقبل النسخ.

[92] سَتَجِدُونَ أيها المسلمون جماعة آخَرِينَ ممن يبطنون الكفر و يظهرون الإسلام يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ أي يأمنوا من طرفكم

وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ أي يأمنوا من طرف قومهم الكافرين، و هؤلاء كُلَّما أتوكم أظهروا الإسلام و إذا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ بأن رجعوا إلى قومهم و دعوهم إلى الكفر- و هو المراد بالفتنة هنا- أُرْكِسُوا فِيها أي وقعوا فيها و ارتدوا عن إسلامهم و الإسلام لا يعترف بهكذا أناس، فإن مثلهم خطرون على سلامة المسلمين فلا بد و أن يحدد هؤلاء موقفهم، إما أن يعلنوا سلمهم العام و اعتزالهم- حياديا- عن المشاركة في التحركات ضد المسلمين، و لا يشتركوا في حرب عليهم، فهم في أمان من جانب الدولة الإسلامية، و إما أن يحاربهم المسلمون كسائر الكفار، لا فضل لهم و لا حرمة فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ أي لم يعتزل هؤلاء الكفار عن المؤمنين وَ لم يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ بأن يسالموكم و يصالحوكم وَ لم يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 522

[سورة النساء (4): آية 92]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)

بأن لا يشاركوا في حرب و تحرك ضدكم فَخُذُوهُمْ أي فأسروهم، و لا تراعوا نفاقهم في إظهارهم الإسلام إذا جاءوكم وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي أينما وجدتموهم وَ أُولئِكُمْ أي هؤلاء المذبذبون جَعَلْنا لَكُمْ أيها المسلمون عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي برهانا واضحا، فإنه لا وسط بين الحرب و الحياد، فإن أخذوا جانب الحياد

فهو، و إلا فالحرب حالهم حال سائر الكفار.

و من المحتمل أن لا يكون المراد من «يأمنوكم» إظهارهم الإسلام، بل إظهارهم الموادعة و المسالمة، و سوق الآية إلى آخرها- على هذا المعنى واضح- و هذا هو الذي يؤيده

ما في بعض التفاسير من «أن الآية نزلت في عيينة بن حصين الفزاري، أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول اللّه و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له، و كان منافقا ملعونا، و هو الذي سماه رسول اللّه الأحمق المطاع».

و على هذا يكون الفرق بينه و بين ما تقدم في قوله سبحانه: «أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» أن الأولين جاءوا بحسن نية و صدق طوية، بخلاف هؤلاء حيث جاءوا نفاقا و مكرا، فقبل من أولئك دون هؤلاء.

[93] هذا ما كان حول معارك المسلمين مع غيرهم، و حكم إراقة الدماء بالنسبة إلى الطرفين. أما المسلمون بعضهم مع بعض فلا يحق لأحد أن يريق قطرة من دم أحد وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 523

الاستثناء منقطع، أي لا يجوز لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا أن يخطأ في قتله، كما لو أراد قتل حيوان فأخطأ و أصاب الرمي مؤمنا، أو نحو ذلك وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فعليه أن يكفّر عن خطأ ب تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي أن يعتق إنسانا عبدا مؤمنا، و يقال للعبد: رقبة، بعلاقة الجزء و الكل، من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، كما يقال للجاسوس: عين. وَ عليه دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ الدية من «ودى يدي»، أي أعطى المال المقابل للدم، و يجب أن تكون «مسلمة» أي يسلمها إلى أهل المقتول كاملة غير منقوصة، و

المراد بكون الدية عليه، وجوب الدية في الجملة، لا أنها عليه بالذات، فإنها في الخطأ على «العاقلة» و هذه الدية تقسم بين أولياء المقتول إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلم يأخذوها منه، و لا يخفى أن أصل «يصدقوا» يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد لقرب مخرجهما على ما هو المعروف في باب التفعّل.

فَإِنْ كانَ المقتول مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي كان من طائفة هم أعداء للمسلمين، بأن كانوا كفارا محاربين وَ هُوَ أي القتيل مُؤْمِنٌ و كان قتله له خطأ- كما يقتضيه العطف على الجملة الأولى- فعلى قاتله كفارة هي تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أما الدية فلا تجب إذ ليس للمقتول أهل مسلمون. و من المعلوم أن الحربي لا يرث المسلم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 524

[سورة النساء (4): آية 93]

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

وَ إِنْ كانَ المقتول كافرا ليس بمسلم و لكنه كان مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ و معاهدة و قتله المسلم خطأ فعلى القاتل دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي أهل المقتول وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ و ذلك لأنه لا يجوز قتل المعاهد كما لا يجوز قتل المؤمن فَمَنْ لَمْ يَجِدْ العبد و لا ثمنه فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي متواليين فلا يصح التفريق في أيام الشهرين، لكن إذا صام شهرا و يوما كفاه في التتابع، و جاز أن يصوم البقية بعد زمان غير متصل بالأول تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي شرع ذلك في القتل لأجل التوبة و الرجوع من اللّه سبحانه على العبد القاتل، و القاتل و إن كان مخطئا مما يوجب

عدم الذنب عليه، إلا أن بعده الطبيعي بسبب هذا العمل القبيح يعدّ ذنبا، فإن بعض الأعمال لها آثار وضعية، كمن شرب الخمر جهلا، فإنه يسكر و تصيبه الأمراض الملازمة للخمر وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً يعلم مصالحكم حَكِيماً فيما يأمر و ينهى.

[94] قد تقدم حكم القتل الخطأ وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ظاهر الآية أن القتل وقع عمدا مقابل قتل الخطأ فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها أبد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 525

[سورة النساء (4): آية 94]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)

الآبدين، إلا أن تدركه شفاعة أو عفو، و هذا الاستثناء بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ و المراد في مثل هذه الصفات نتائجها، و إلا فالله سبحانه ليس محلّا للحوادث وَ لَعَنَهُ أي طرده عن رحمته وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً و في آية أخرى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «2».

[95] ثم أشار القرآن الحكيم إلى بعض الاحتياطات اللازمة على المجاهدين، لئلّا يقتلوا مسلما خطأ، و ذلك إثر وقوع حادثة و هي

أن أسامة بن زيد و أصحابه بعثهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سرية فلقوا رجلا قد انحاز بغنم له إلى الجبل و كان قد أسلم فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، فبدر إليه أسامة فقتله

و استاقوا غنمه، فلما رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبره بذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أ فلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت و لا ما في نفسه علمت» «3»،

و نزلت الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي خرجتم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، فإن الضرب بمعنى السفر، لأن المسافر يضرب برجله الأرض فَتَبَيَّنُوا أي ميزوا بين الكافر و المؤمن ليكون أمركم واضحا مبينا و لا تفعلوا شيئا بدون التثبّت و التبيّن و التأني وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ

______________________________

(1) النساء: 49.

(2) المائدة: 33.

(3) بحار الأنوار: ج 65 ص 234.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 526

[سورة النساء (4): آية 95]

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)

أي حياكم بتحية الإسلام و أظهر لكم أنه مسلم و اعتزلكم فلم يقاتلكم: لَسْتَ مُؤْمِناً حقيقة و إنما إيمانك صرف لقلقة لسان خوفا من القتل تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي هل تطلبون الغنيمة و المال، حيث تنكرون إسلام من ألقى إليكم السلام؟ فيكون الكلام على الاستفهام التوبيخي، أي لماذا تقتلون مظهر الإسلام لغنيمته الزائلة التي هي عرض الحياة الدنيا؟ أو أن الاستفهام ليس توبيخيا بل على ظاهره، أي إن كنتم تطلبون المال فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ جمع «مغنم» و هي الغنيمة في الدنيا بما ستحوزونه من الكفار، و في الآخرة، و فسرت الغنيمة لغة بأنها الفائدة كَذلِكَ الذي

ألقى إليكم السلام كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فإنكم كنتم كفارا كما كان هو كذلك فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن هداكم إلى الإيمان، فكما لم يصح لأحد أن يقول: إن إيمانكم عن خوف، كذلك لم يصح لكم أن تقولوا: إن إيمان من ألقى إليكم السلام عن خوف، و إذا علمتم خطإكم في هذه المرة فَتَبَيَّنُوا من بعد. و قد كرّر اللفظ تأكيدا، و لكي يقع الكلام موقع القبول بعد قيام الحجة، فكان «تبينوا» في الأول مجرد أمر و «تبينوا» هنا بعد الدليل و البرهان على لزوم التبيّن عقلا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فهو يعلم أعمالكم و بواعثها، فراقبوا اللّه في كل عمل تقومون به.

[96] ثم يأتي السياق ليبين فضل المجاهدين تحريضا على الجهاد و تحفيزا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 527

للقاعدين على النهوض لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين يقعدون في محلّهم و لا ينهضون لمقاتلة الأعداء غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ يعني القاعدين الذين ليس بهم ضرر يمنعهم عن الجهاد كالأعمى و الأعرج و نحوهما، أما من بهم ضرر فهم معذورون ليس عليهم حرج. و لعل المفهوم من الآية أن من به ضرر، و كان مستعدا نفسيا أن يجاهد لو لا الضرر، كان له أجر المجاهدين حسب

الحديث المأثور: «نية المؤمن خير من عمله» «1».

و عليه فإن هؤلاء القاعدون لا يستوون وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ بأن أنفقوا أموالهم للجهاد و قدموا أنفسهم للقاء الكفار في سبيل إعلاء كلمة الإسلام. و سمي الجهاد جهادا لما يستلزمه من الجهد و المشقة، فإن في بذل المال و النفس أعظم المشقات فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً إذ المجاهد يفضل على القاعد بالجهاد، و

لكن لكلّ منهما فضل الإيمان و الصلاة و الصيام و سائر شرائع الإسلام وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المجاهد و القاعد، فإن الجهاد فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين، و لذا فكلاهما موعود بالصفة الحسنى من الخير و السعادة و إن كان المجاهد أفضل.

______________________________

(1) الكافي: ج 2 ص 84.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 528

[سورة النساء (4): آية 96]

دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)

و في تفسير «الأصفى» ورد: «لقد خلفتم في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا و لا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، و هم الذين صحت نياتهم و نضجت جيوبهم و هوت أفئدتهم إلى الجهاد، و قد منعهم من المسير ضرر أو غير ضرر». أقول: كان هذا في غزوة تبوك.

وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً

فقد ورد: «إن فوق كل برّ برّ إلا الجهاد في سبيل اللّه» «1»

، كما

ورد: «إن الأجر على قدر المشقة»

«2»، و

ورد: «ما أعمال البر كلها ... إلا كنفثة في بحر لجي»

«3» و كان قوله «أجرا عظيما» لدفع و هم ربما يتوهم من قوله «درجة» فيقال: أنه لا فرق بين المجاهد و القاعد إلا درجة، فيقال في الجواب: أنه لا أهمية للدرجة في مقابل تعب الجهاد و مشقته فقد جعل اللّه له أجرا عظيما.

[97] ثم بيّن سبحانه الأجر العظيم بقوله: ذلك الأجر هو دَرَجاتٍ مِنْهُ أي من قبل اللّه سبحانه، و هذا تعظيم للأمر، فإن الدرجة لو كانت من غيره لكانت هينة، إذ الدنيا عرض زائل أما التي منه سبحانه فإنها شي ء عظيم باق. و

في الحديث «إن اللّه فضل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة، بين كل درجتين مسيرة سبعين خريفا

للفرس الجواد المضمر».

«4» وَ مَغْفِرَةً أي غفرانا لذنوب المجاهد وَ رَحْمَةً أي يرحم اللّه

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 71 ص 83.

(2) بحار الأنوار: ج 70 ص 275.

(3) نهج البلاغة: حكمة رقم 373.

(4) كنز الدقائق: ج 2 ص 583.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 529

[سورة النساء (4): آية 97]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (97)

المجاهد بإعطائه النعم الكثيرة وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيغفر للمجاهد ذنوبه السابقة و يرحمه برحمته الواسعة. قال البعض: إن المراد بالدرجة الأولى علو المنزلة، كما يقال: فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان، و أراد بالثانية الدرجات في الجنة التي بها يتفاضل المؤمنون.

[98] ثم يأتي السياق إلى طائفة أخرى من القاعدين الذين لم يعدهم اللّه الحسنى، بل وعدهم العذاب لأنهم هم السبب في ظلم الكفار لهم و سلبهم حقوقهم إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تقبض الملائكة أرواحهم، فإن لملك الموت أعوانا، كما ورد في السنة، و دلت عليه هذه الآية ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي في حال كونهم ظالمين لأنفسهم، لأنهم بقوا في دار الهوان حيث يسومهم الكفار العذاب و يمنعوهم من الإيمان بالله و الرسول، و قد كان بإمكان هؤلاء أن يهاجروا إلى دار الإيمان و يؤمنوا. و لعل الآية أعم منهم و من المؤمنين الذين بقوا في دار الكفر و لا يتمكنون من إظهار واجبات الإسلام و العمل بما أوجبه اللّه سبحانه قالُوا أي قالت الملائكة لهم عند قبض أرواحهم: فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شي ء كنتم من أمر دينكم، و هو استفهام تقريري توبيخي قالُوا كُنَّا

مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ يستضعفنا أهل الشرك في بلادنا فلا يتركوننا لأن نؤمن، أو لا يتركوننا نعمل بالإسلام قالُوا أي قالت الملائكة لهم: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها حتى تخرجوا من سلطة الكفار، و تتمكنوا من العمل بالإسلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 530

[سورة النساء (4): الآيات 98 الى 99]

إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)

و بشرائعه. فَأُولئِكَ الذين سبق وصفهم مَأْواهُمْ مرجعهم و محلهم جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً أي أنها مصير سيئ لعذابها و أهوالها.

[99] ثم استثنى سبحانه من هؤلاء من لا يتمكن من المهاجرة فإنه ليس مكلفا، و إنما أمره إلى اللّه تعالى إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ الذين استضعفهم الكفار في بلادهم مِنَ الرِّجالِ العجزة وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ و هاتان الطائفتان في طبيعتهم العجز عن الفرار و الهجرة لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي علاجا لأمرهم و فكّا لأنفسهم من سلطة المشركين وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا للفرار و الهجرة.

[100] فَأُولئِكَ العاجزون من المستضعفين عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ أي لعلّ اللّه سبحانه يغفر لهم ذنبهم، و دخول «عسى» في مثل هذه الآية للدلالة على كون الأمر بيد اللّه سبحانه، و أنه كان قادرا أن يأمرهم بما يحرجهم من وجوب خروجهم و إظهار دينهم، و إن بلغ بهم الأمر ما بلغ، و لا يقال: إن كان المراد بالمستضعفين الكفار فكيف يعفى عن الكفر؟ لأن الدليل العقلي و النقلي قد دلّ على امتحان الضعفاء و العجزة و البله و من إليهم في الآخرة، و ذلك بخلاف الكافر المعاند الذي مصيره النار حتما وَ كانَ

اللَّهُ عَفُوًّا يعفو عمن يشاء غَفُوراً يغفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 531

[سورة النساء (4): آية 100]

وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)

الذنوب. و لعلّ الفرق بين العفو و الغفران: أن العفو غفران بلا ستر، و الغفران عفو مع الستر، فإن عدم العقاب لا يلازم الستر.

[101] و قد يمنع عن الهجرة خوف أن لا يجد الإنسان في محلّه الجديد ما يلائم مسكنه و مكسبه، و لكنه ليس إلا توهما، فإن الأرض واسعة و الكسب ممكن في كل مكان وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأمره سبحانه و من أجله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً «المراغم» مصدر بمعنى «المتحوّل» و أصله من الرغام و هو التراب وَ سَعَةً أي في الكسب و سائر شؤون الحياة وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً يهجر وطنه و محله، و ينقطع عنه إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ و الهجرة إلى اللّه بمعنى: إلى محل أمره، و الهجرة إلى الرسول إما حقيقية كما في زمان حياته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إما مجازية كما إذا هاجر إلى بلاد الإسلام حسب أمر الرسول ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ أي يموت في طريقه فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ لأنه خرج في سبيله و حسب أمره فأجره و ثوابه عليه سبحانه وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يغفر ذنوب المهاجر رَحِيماً يرحمه بإعطائه الثواب.

و في الحديث «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض و إن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة، و كان رفيق إبراهيم و

محمد عليهما السّلام»

«1».

و قد ورد في بعض التفاسير: أن السبب في نزول هذه الآية أنه لما

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19، ص 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 532

[سورة النساء (4): آية 101]

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)

نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين كان بمكة يسمى «جندب بن حمزة» فقال: و اللّه ما أنا مما استثنى اللّه إني لأجد قوة، و إني لعالم بالطريق، و كان مريضا شديد المرض فقال لبنيه: و اللّه لا أبيت بمكة حتى أخرج منها، فإني أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتى إذا بلغ التنعيم مات، فنزلت الآية «1».

[102] و لما أمر سبحانه بالجهاد و الهجرة، بيّن كيفية الصلاة في السفر و الخوف إشفاقا على الأمة و رحمة بهم و تفضلا عليهم، و الآية و إن كانت ظاهرة في الخوف فقط لأنه سبحانه قال: «إن خفتم» لكن القيد على الغالب في ذلك الزمان عند نزول الآية، و إنما الاعتبار بالضرب في الأرض، و قد، كثر في القرآن الحكيم «القيد الغالبي» كقوله تعالى:

وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ «2» مع أن كونهن «في حجوركم» ليس بشرط، و كقوله: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «3» و غيرهما.

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ أي سافرتم أيها المسلمون فِي الْأَرْضِ و من المعلوم أن السفر مشروط بأمور أخرى مذكورة في الكتب الفقهية فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ليس لفظ «ليس عليكم جناح» للإباحة كما هو الظاهر منه، بل في مقام دفع توهم «الحضر»، كقوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ

عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «4» فقد كان التمام واجبا، و في السفر، حيث يتوهم بقاؤه على الوجوب،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 171.

(2) النساء: 24.

(3) النور: 34.

(4) البقرة: 159.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 533

[سورة النساء (4): آية 102]

وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)

نفى سبحانه وجوبه و أجاز القصر، و ذلك لا ينافي وجوب القصر، على ما دل الدليل عليه، و المراد بالقصر تنصيف الرباعية بأن يصلي الظهر و العصر و العشاء ركعتين، فإذا تشهد التشهد الوسط سلم و لم يقم للركعتين الباقيتين، أما الصبح و المغرب فتبقيان على ما كانتا عليه إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي خفتم فتنة الذين كفروا، و الفتنة:

العذاب و القتل و ما أشبه، فإنهم إذا أرادوا الصلاة أربعا، طال الأمد عليهم و أمكن أن يهجم عليهم الكفار و يعذبوهم أو يقتلوهم، فمنّ اللّه عليهم بالقصر ليقل الأمد و لا يبقى للكفار- في ساحة الحرب- مهلة ينتهزونها للهجوم. و لصلاة السفر و الخوف و المطاردة تفصيل مذكور في الكتب الفقهية.

إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا ليس معنى «كان» الماضي، بل مجرد الربط كما في مثل: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا «1» و ما أشبهها لَكُمْ أيها المسلمون عَدُوًّا مُبِيناً أي واضحا لظهور عداوتهم للمسلمين، فإذا لم تقصروا من

الصلاة انتهزوا مدة انشغالكم بها فرصة للعدو أن يفتنكم.

[103] ثم بيّن سبحانه صلاة الخوف إذا أرادوا أن يصلوها جماعة فإن المجاهدين ينقسمون إلى طائفتين، طائفة تقتدي بالإمام، و طائفة تبقى في الميدان، فإذا سجد الإمام السجدتين من الركعة الأولى، تقوم الطائفة المقتدية للركعة الثانية و تأتي بها فرادى و تتشهد و تسلم و الإمام بعد

______________________________

(1) النساء: 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 534

لم يركع، فتذهب هذه الطائفة إلى الميدان و تأتي الطائفة الثانية و تقتدي بالإمام في الركعة الثانية، حتى إذا جلس الإمام للتشهد قامت و أتت بالركعة الثانية فرادى و لحقت بالإمام في التشهد و أتمت الصلاة معه فتطول صلاة الإمام بمقدار صلاتيهما وَ إِذا كُنْتَ يا رسول اللّه فِيهِمْ فيمن ضرب في الأرض لأجل الجهاد- و من المعلوم أن الحكم لا يخص الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل هذا عام لكل إمام في المجاهدين يريدون الصلاة جماعة- فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يقتدون بك في الصلاة، و تقوم طائفة ثانية من المجاهدين في وجه العدو وَ لْيَأْخُذُوا أي الطائفة الذين يصلون معك أَسْلِحَتَهُمْ لئلا يستسهل أمرهم العدو فيهجم عليهم، و يكونون عزلا فيحرج موقفهم. و قد استثنى من كراهية حمل السلاح في الصلاة هذا الموضع، و لم يبين أخذ الطائفة المقاتلة أسلحتهم لوضوح ذلك. فَإِذا سَجَدُوا و قمت أنت للركعة الثانية، أتموا صلاتهم فرادى و ذهبوا مكان الطائفة المقاتلة، و هذا هو المراد بقوله سبحانه: فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ و إنما قال بصيغة الجمع و لم يقل: «من ورائك» باعتبار صلاة الطائفة الثانية مع الإمام، و هذا لا ينافي قوله بعد ذلك «وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى إذ المراد كونهم

وراء المصلين باعتبار الأول وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا و هم الذين كانوا في الميدان فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 535

ليكونوا حذرين متأهبين للقتال آخذين أسلحتهم، و لعل إضافة كلمة «حذرهم» هنا بخلاف الجملة الأولى، أن هجوم العدو على هؤلاء أقرب من هجومهم على الطائفة الأولى، لأنه بمجرد الانقسام إلى طائفتين و انسحاب طائفة من الحرب لأجل الصلاة لا يدرك العدو الأمر، و لذا لا يأخذ استعداده الكامل للهجوم- بظن كون الجميع في حال القتال- بخلاف الأمر إذا طال الأمد و تبين الأمر، و أن قسما من المسلمين رفعوا أيديهم عن الحرب لأجل الصلاة. و إنما حكم بانقسام الجيش طائفتين لما بينه سبحانه بقوله: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من المحاربين لكم، أي تمنوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ فلا تحملوها وَ أَمْتِعَتِكُمْ فتبتعدون عنها فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً أي يحملون عليكم حملة واحدة و أنتم متشاغلون بأجمعكم بالصلاة فيقضون عليكم قضاء مبرما حيث أصابوكم على غرّة بلا سلاح يقيكم و لا متاع يمدكم، و لذا فقد أمروا بأن ينقسموا طائفتين حالة الصلاة و يحملوا أسلحتهم و هم في الصلاة وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا حرج و لا إيجاب لحمل السلاح إِنْ كانَ بِكُمْ أيها المجاهدون الذين تريدون الصلاة جماعة أَذىً و صعوبة مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ فلا تحملوها في حال الصلاة للاستراحة بقدر الصلاة من ثقل السلاح، أما المريض فواضح أذية السلاح له، و أما المطر فلأن هطوله يثقل على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 536

[سورة النساء (4): آية 103]

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا

اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)

الإنسان، فإذا اجتمع مع السلاح كان أثقل و أتعب و هكذا بالنسبة إلى حمل الدرع الموحل حال السجود و نحو ذلك وَ لكن إذا وضعتم سلاحكم لجهة الأذى ف خُذُوا حِذْرَكُمْ أي احترسوا عن هجوم الكفار حتى إذا هاجموكم تكونون على استعداد لا أن تكونوا غافلين إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ أي هيأ لهم عَذاباً مُهِيناً أي يذلهم، عذابا في الدنيا بأيديكم و في الآخرة بالنار و الجحيم.

قال في «المجمع»: و في الآية دلالة على صدق النبي و صحة نبوته و ذلك أنها نزلت و النبي بعسفان و المشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي و أصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع و السجود فهمّ المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: إن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه يعنون صلاة العصر، فأنزل اللّه عليه هذه الآية فصلى بهم العصر صلاة خوف «1».

[104] فَإِذا قَضَيْتُمُ أي أديتم أيها المجاهدون الصَّلاةَ المأتى بها على نحو الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً أي في حال كونكم قائمين و قاعدين، و هما جمعان ل «قائم و قاعد» وَ عَلى جُنُوبِكُمْ أي في حال الاضطجاع فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ و ذهب الخوف فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ كاملة بحدودها و شروطها

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 177.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 537

[سورة النساء (4): آية 104]

وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)

إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً أي كتبت كتابا، بمعنى فرضت فريضة مَوْقُوتاً أي ذات وقت محدد لأدائها.

[105] ثم كرر سبحانه الحث على لزوم الجهاد فقال: وَ

لا تَهِنُوا من «وهن يهن» بمعنى ضعف، أي لا تضعفوا و لا تكاسلوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي طلب الكفار و محاربتهم إِنْ تَكُونُوا أنتم أيها المسلمون تَأْلَمُونَ مما ينالكم من الجرح و المشقة في الحرب فَإِنَّهُمْ أي القوم الكفار يَأْلَمُونَ مما ينالهم من الجرح و المشقة كَما تَأْلَمُونَ فكلاكما سواء في التألم وَ تَرْجُونَ أنتم أيها المؤمنون مِنَ اللَّهِ أي من قبل اللّه سبحانه الفتح و الظفر و الثواب ما لا يَرْجُونَ هم، فأنتم أولى و أحرى أن تطلبوهم و تجدّوا في قتالهم من أولئك، حيث ليس لهم وعد بالنصر و لا بالثواب وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بكم فأنتم بعلم اللّه سبحانه- كما تعتقدون- و هم و إن كانوا بعلم اللّه لكنهم لا يعتقدون بذلك حَكِيماً فأوامره و نواهيه عن تدبير و تقدير.

و

ورد أن المسلمين قالوا يوم أحد للمشركين: لا سواء، قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: نحن لنا العزى و لا عزى لكم، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للمسلمين: قولوا اللّه أعلى و أجل.

و

روى القمي أن الآية نزلت بعد رجوع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من واقعة أحد، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما رجع إلى المدينة نزل جبرائيل عليه السّلام فقال:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 538

[سورة النساء (4): الآيات 105 الى 106]

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)

يا محمد إن اللّه يأمرك أن تخرج في أثر القوم و لا يخرج معك إلا من به جراحة، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم

و يداوونها فخرجوا على ما بهم من الألم و الجراح

«1».

[106] و بعد ذكر جملة من الأحكام المتعلقة بالحرب و الجهاد يرجع السياق إلى ما تقدم من لزوم العدل في الحكم كما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «2» فإن الجهاد لم يشرع إلا للعدل، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يبعث إلا لإقامة العدل إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ بِالْحَقِ أي إنزالا مقارنا بكونه بالحق فإن الإنزال قد يكون بالباطل إذا كان من غير المستحق، أو إلى غير المستحق، و بما هو باطل لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ من الشريعة العادلة وَ لا تَكُنْ يا رسول اللّه لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أي لأجل الخائنين خصيما على الأبرياء بمعنى لا تأخذ جانب الخائن على البري ء فتعطي الحكم للمجرم.

[107] وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي اطلب غفرانه، و هذا تنبيه للأمة حيث يريدون القضاء، فإن القضاء يحتاج إلى ستر اللّه سبحانه حتى لا يزل القاضي إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً يستر العيوب و يرحم المسترحم.

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 124.

(2) النساء: 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 539

[سورة النساء (4): آية 107]

وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)

و قد ورد في سبب نزول هاتين الآيتين و ما بعدهما ما مجملة: أن بني أبيرق المسمون بشيرا و مبشرا و بشرا و كانوا منافقين نقبوا على عم قتادة بن النعمان فأخرجوا طعاما و سيفا و درعا، فشكا قتادة ذلك إلى مؤمنا فخرج عليهم بالسيف، و قال: أ ترمونني بالسرقة و أنتم أولى بها مني

و أنتم المنافقون تهجون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تنسبون الهجاء إلى قريش، فداروه، ثم جاء رجل من رهط بني أبيرق و كان منطقيا بليغا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إن قتادة عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف و حسب و نسب فرماهم بالسرقة، فاغتم رسول اللّه و عاتب قتادة عتابا شديدا فاغتم قتادة و كان بدريا. فنزلت الآيات تبرّئ قتادة و تدين بني أبيرق، فبلغ بشير ما نزل فيه من القرآن- و أنه الخائن- فهرب إلى مكة و ارتد كافرا

«1».

[108] وَ لا تُجادِلْ يا رسول اللّه، و كون النهي للرسول لا ينافي مقام العصمة إذ النواهي تتوجه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما تتوجه إلى سائر المسلمين، و الأوامر تعنيه كما تعني غيره عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ اختان بمعنى خان، أي لا تخاصم عن طرف الخائنين الذين يخونون أَنْفُسَهُمْ فإن الإنسان إذا صرف نفسه في المعصية فقد خانها، لأنها وديعة يجب أن ترد، و ردّها بصرفها في الطاعة شيئا فشيئا حتى ينتهي الأمد و يأتي الأجل إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً هو «فعّال» من الخيانة أَثِيماً أي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 540

[سورة النساء (4): الآيات 108 الى 109]

يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)

عاصيا، و معنى «لا يحب» يكره، لأنه لا

واسطة، فالعاصي مكروه و المطيع محبوب.

[109] يَسْتَخْفُونَ من «استخفى» بمعنى كتم، أي يكتمون أعمالهم السيئة مِنَ النَّاسِ فإن السرّاق في قصة ابن أبيرق كانوا يكتمون عملهم من الناس خوف الفضيحة وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ أي لا يكتمون عملهم الإجرامي من اللّه، و معنى الاستخفاء من اللّه عدم العمل، لا العمل مكتوما عنه، إذ لا يخفى عليه سبحانه خافية، و إنما جاءت لفظة يستخفون للمقابلة نحو: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «1» وَ هُوَ مَعَهُمْ أي و الحال أن اللّه تعالى معهم بالإحاطة و العلم فهو يعلم أقوالهم و أعمالهم إِذْ يُبَيِّتُونَ أي يدبرون بالليل ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ فإن أبناء أبيرق دبروا بالليل أقوالا و طبخوها ليتظاهروا بتلك الأقوال عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمين وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً فهو مطلع على أقوالهم محيط بأعمالهم، و معنى الإحاطة: العلم الشامل بحيث لا يفوته شي ء كالمحيط بالشي ء الذي لا يخرج منه جانب من جوانب الشي ء المحاط.

[110] ها أَنْتُمْ «ها» للتنبيه هنا و في هؤلاء هؤُلاءِ أي أنتم الذين دافعتم و جادَلْتُمْ عَنْهُمْ أي عن أولئك المجرمين الذين سرقوا

______________________________

(1) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 541

[سورة النساء (4): الآيات 110 الى 111]

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا هنا حيث يمكن الإخفاء و المجادلة بما يظن الناس أنه حق و هو في الواقع باطل فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ استفهام إنكاري، أي ليس هنالك من يجادل عنهم

في محضر عدل اللّه سبحانه الذي يطلع على السرائر و الواقعيات أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا يتوكل عنهم في إنقاذهم من عملهم الذي صنعوه خفية.

و الاستفهام في معنى الإنكار، أي ليس هناك وكيلا يدافع عنهم، و لعل الفرق بين «من يجادل» و «من يكون» أن المجادل لا يلزم أن يكون وكيلا فقد يوكل الإنسان من يدافع عنه، و قد يدافع عنه شخص تبرعا.

[111] ثم بيّن سبحانه أن لا يأس من روح اللّه، و أن الآثم لا يظن أنه قد انقطعت الصلة، بل باب التوبة مفتوح وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً بإتيان معصية تتعداه إلى غيره كالزنا و السرقة أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بمعصية لا تتعداه، كشرب الخمر و ترك الصلاة. و من المعلوم أن كل ظلم للنفس و كل سوء ظلم، لكن حيث تقابلا في التعبير فرقنا بينهما بما لعله المستفاد من السياق ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يطلب غفرانه بما أمر من التوبة و التدارك، إن كان للعصيان له تدارك يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً يغفر ذنبه و يتفضل عليه بالرحمة و المنّ.

[112] وَ لا يظن الآثم أنه أضر الغير و ربح نفسه، بل بالعكس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 542

[سورة النساء (4): الآيات 112 الى 113]

وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)

فإنه مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ إذ كل خير يفعله الإنسان

يعود إلى نفسه، و كل عصيان يأتي به يعود إلى نفسه، و إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بما يكسبه الإنسان حَكِيماً في عقابه و ثوابه يضع الأشياء مواضعها، فلا يظن أحد أنه يعصي ثم يفرّ من عدل اللّه، أو أنه ما الفائدة من الخير الذي لا يعود نفعه إليه؟ إنه سبحانه حكيم، و قد تقدم أن الحكمة وضع الأشياء مواضعها.

[113] وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً لعلّ الفرق بينهما كون الأول لا عن عمد، و الثاني عن عمد، و هذا الفرق إنما هو في المقام حيث تقابلا، و إلا فالخطيئة تطلق على كل إثم. ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً من «رمى يرمي» أي ينسب ذنبه إلى إنسان بري ء، كما سبق في قصة ابن أبيرق فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً أي إثم البهتان، و هو رمي الناس بالذنب كذبا وَ إِثْماً مُبِيناً أي معصية واضحة، فهو يتحمل إثمين إثم العمل و إثم البهتان.

و هذا لا ينافي ما احتملنا في الخطيئة إذ الخطأ ينقلب إثما إذا تمادى الإنسان في توابعه، و لم يتداركه.

[114] في بعض التفاسير: أن وفدا من ثقيف قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قالوا: يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا، و على أن نمتّع بالعزى سنة. فلم يقبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طلبهم، و إنما قبل منهم

______________________________

(1) الطور: 17.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 543

الإسلام بجميع شرائطه «1»، فأنزل اللّه سبحانه: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ بتأييدك من لدنه و تثبيتك على الصحيح الحق لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي قصدت و أضمرت جماعة من هؤلاء-

و الضمير عائد إلى المقدّر، نحو: وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «2»- أَنْ يُضِلُّوكَ بأن تجيز لهم ما أرادوا. و قيل إن الآية من تتمة قصة ابن أبيرق و ما أراده المزكي من تزكية السرّاق و إلقاء التهمة على البري ء.

وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ وبال كلامهم يعود إلى أنفسهم فهم يزيلون أنفسهم عن الحق و يهلكونها، لا أنهم يزيلونك و يهلكونك، ثم المراد بقوله «لو لا» نفي تأثير ما همّ به أولئك في الرسول لا نفي همّهم، فالمراد: أنه لو لا فضل اللّه لأضلوك، لا أن المراد: لو لا فضل اللّه لهمت طائفة .. وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ فإنهم لا يضرونك- بكيدهم- في الدنيا لأن اللّه ناصرك، و لا في الآخرة وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ أي علم وضع الأشياء مواضعها و تقدير الأشياء بأقدارها، فأنت العالم بالأشياء الحكيم في التطبيق، فكيف يمكن إضلالك- كما همّ أولئك- فإن الإضلال يحصل لمن لا يعرف الأشياء أو لا يتمكن من وضع الأشياء مواضعها

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 188.

(2) النساء: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 544

[سورة النساء (4): آية 114]

لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)

وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ من الأمور الخارجة عن نطاق الكتاب، فإن الكتاب خاص بعلم بعض الأشياء- حسب الظاهر- وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ يا رسول اللّه عَظِيماً و ارتباط الآية بما قبلها على القول الأول- أي كونها حول وفد ثقيف- كون القصتين من واد واحد حيث حفظ اللّه الرسول في

قصة السرقة و في قصة الوفد حتى لا يقول و لا يعمل إلا بالحق.

[115] و بمناسبة الحديث عن المؤامرات التي تجري في السر، و يتناجى في شأنها المبيّتون، و حيث أن في مثل هذه القضايا لا بد و أن تكثر النجوى و غالبها حول النقد و الرد و الطعن، يذكر القرآن حكم النجوى، و أنه لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي حديث بعضهم مع بعض سرّا و ذكر «كثير» إما من باب المورد، فإنه في مثل الموارد السابقة يكثر النجوى، و إما أن المراد: الكثير من النجوى لا خير فيه، أما القليل الذي لا بد لكل أحد حيث عنده بعض الأسرار التي يجب الإعلان عنها فلا بأس به، لكن الظاهر المعنى الأول، و أن المفهوم المطلق للنجوى كما قال سبحانه:

إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ «1» إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ بأي قسم منها من المال على الفقراء، أو الوقف، أو الإحسان أَوْ أمر ب مَعْرُوفٍ من أبواب البر الذي يعرفه الناس- و منه سمي المعروف معروفا مقابل المنكر

______________________________

(1) المجادلة: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 545

[سورة النساء (4): آية 115]

وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (115)

الذي هو ما ينكره الناس- أَوْ أمر ب إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فإن الحاجة غالبا تدعو إلى الإسرار بهذه الأمور لتكمل و لا يمنع عنها مانع وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي النجوى في هذه الأمور، أو المراد: من فعل أحد هذه الأمور ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضاه سبحانه فَسَوْفَ في القيامة نُؤْتِيهِ أي نعطيه أَجْراً عَظِيماً مما لا عين رأت و لا أذن

سمعت و لا خطر على قلب بشر- كما هو كذلك في كل طاعة-.

[116] و حيث تقدم في القصتين مخالفة الجماعتين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما أرادوا، بيّن سبحانه أن عاقبة المخالفة و خيمة وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالفه، و معنى المشاقة أي يكون كل واحد في شق غير شق الآخر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي ظهر له الحق و أن الرسول لا يقول و لا يعمل إلا بالحق- أما من قبل التبيين فالمشاقّ معذور لعدم تمام الحجة عليه- وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير طريقهم الذي هو دينهم، و هذا أعم من الأول، و إن كان في مخالفة الدين مشاقة للرسول بالنتيجة نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نخلي بينه و بين معتقده و عمله فلا نجبره على الرجوع، لأن الدنيا للاختبار و الامتحان و الجبر ينافي ذلك، كما قال سبحانه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ «1» وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ من «أصلاه

______________________________

(1) البقرة: 257.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 546

[سورة النساء (4): الآيات 116 الى 117]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117)

يصليه» أي أدخله النار، أي نتركه في الدنيا على حاله و ندخله يوم القيامة النار وَ ساءَتْ جهنم مَصِيراً أي محلّا يصير إليه المجرمون.

[117] و بمناسبة ذكر مشاقة الرسول، يبيّن سبحانه أنه لا يأس من رحمة اللّه تعالى، فمن تاب كان اللّه غفورا، فإذا أخطأ أحد فليرجع إلى اللّه تعالى، ليغفر ذنبه و يتوب عليه إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ

أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إذا مات مشركا كما دل الدليل وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي دون الشرك لِمَنْ يَشاءُ إن تاب و إن لم يتب فذلك رهن إرادته سبحانه، و الإرادة ليست اعتباطا، بل حسب النفسيات و الأعمال و القابليات و ما أشبه وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي يجعل له شريكا فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أي عن طريق الحق.

[118] ثم يبيّن سبحانه وجه ضلال المشركين بصورة فردية قبيحة فقال تعالى:

إِنْ يَدْعُونَ أي ما يدعون و يعبدون مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه إِلَّا إِناثاً جمع أنثى، فإنهم كانوا يعبدون اللات و العزى و مناة و أساف و نائلة، و كان لكل قبيلة صنم تعبده، و كانوا يسمون الأصنام أنثى فيقولون: أنثى قريش و أنثى تميم، و كان الشيطان يكلمهم منها أحيانا، كما أن قسما منهم كان يعبد الملائكة و يقول: إنها بنات اللّه، كما حكى سبحانه عنهم: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «1»

______________________________

(1) الزخرف: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 547

[سورة النساء (4): الآيات 118 الى 119]

لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)

وَ إِنْ يَدْعُونَ أي ما يدعون إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً أي ماردا، فإن «المريد و المارد و المتمرد» بمعنى واحد، و هو العاصي العاتي، و كانت عبادتهم للشيطان عين عبادتهم للأصنام إذ هي من صنع الشيطان و أمره فلا يستشكل بأنه كيف يجمع بين النفيين؟

[119] لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرد اللّه الشيطان عن رحمته و قربه، فهؤلاء يعبدون و يطيعون المطرود عن

رحمة اللّه وَ قالَ الشيطان لله سبحانه حين طرده: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ أي عبيدك نَصِيباً مَفْرُوضاً أي معلوما، و المراد من اتخاذه لهم: إضلالهم و إغوائهم عن الإيمان و العمل الصالح، و قد كان الشيطان يعلم ذلك حين قال له سبحانه:

فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ «1» و لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ «2».

[120] وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ عن طريق الهداية، و هذا إما عطف بيان لقوله «اتخذن» أو المراد من الاتخاذ الاختصاص أي أختص بجملة من عبادك فأضلهم وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ من الأمنية أي أمنينهم طول البقاء في الدنيا و حب الرئاسة و المال حتى يعصون وَ لَآمُرَنَّهُمْ بالوسوسة و الإلقاء في قلوبهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ من «بتك يبتك» بمعنى «قطع يقطع» فقد كان المشركون يقطعون آذان الأنعام علامة على حرمة

______________________________

(1) الإسراء: 64.

(2) ص: 86.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 548

[سورة النساء (4): آية 120]

يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)

ركوبها و أكلها و شرب لبنها، و كان ذلك حراما إذ هو من المثلة و

قد قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إياكم و المثلة و لو بالكلب العقور»

«1» كما أن تحريمهم كان بدعة و تشريعا محرما وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ من التغييرات المحرمة كإخصاء العبد و فق ء عين الدابة و التمثيل بالأحياء و الأموات و ما أشبه ذلك. و يستفاد من الآية أن كل تغيير في الخلق حرام إلا ما دل عليه الدليل.

و بعد ما ذكر سبحانه بعض أقسام وساوس الشيطان التي كانت دارجة في ذلك الزمان و إلى زماننا هذا، جعل الكل في إطار عام، و أعطى القاعدة الكلية المنطبقة على كل جزئي بقوله سبحانه: وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا يلي

أموره و يطيع أوامره مِنْ دُونِ اللَّهِ قيد توضيحي للتهويل، لا أنه من الممكن الجمع بين تولي الشيطان و تولي اللّه سبحانه فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي خسرانا ظاهرا.

[121] يَعِدُهُمْ أي يعد الشيطان أولياءه النصر و السعادة إن اتبعوه وَ يُمَنِّيهِمْ بالأماني الكاذبة الباطلة حتى يركنوا إلى الدنيا و يتركوا الآخرة و يرجّحوا الشهوات على الأعمال الصالحة وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً فكل و عوده غرور و كذب يغرّ به البسطاء الغافلين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 29 ص 128.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 549

[سورة النساء (4): الآيات 121 الى 122]

أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)

[122] أُولئِكَ الذين اتخذوا الشيطان وليا و ناصرا مَأْواهُمْ أي مرجعهم و محلهم جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها أي عن جهنم، فإنها «مؤنثة سماعية» مَحِيصاً أي مخلصا و مهربا، من «حاص» بمعنى عدل و انحرف.

[123] هذا لمن اتخذ الشيطان وليا، أما من اتخذ الرحمن وليا وَ الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به من أصول الدين وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الحسنة سَنُدْخِلُهُمْ قيل: إن «السين و سوف» بمعنى واحد، و قيل: إن السين للمستقبل القريب، و تستعمل الكلمتان بالنسبة إلى الجنة باعتبارين: فباعتبار أن كل آت قريب تستعمل السين، و باعتبار فصل البرزخ الطويل تستعمل سوف جَنَّاتٍ جمع «جنة» و هي البستان، سمي بها لكونها مستورة بالأشجار من «جن» بمعنى ستر، و منه «الجنّ و الجنين و الجنّة» تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها و قصورها خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا

انقطاع لها و لا زوال وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعد اللّه ذلك وعدا في حال كونه حقا، أو متصفا بكونه حقا، لا خلف فيه و لا كذب وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي من حيث القول، فهو أصدق القائلين، خبيرا و مخبرا، و الاستفهام في معنى النفي، أي لا أصدق من اللّه، و السبب أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 550

[سورة النساء (4): آية 123]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 599

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (123)

الإنسان مهما أوتي من الصدق، فإنه قد يجهل و قد لا يقدر و قد يشتبه، و اللّه منزّه عن جميع ذلك.

[124] ثم يبين السياق القاعدة الكلية للعمل و الجزاء، بعد ما بيّن ما لمن أشرك و ما لمن آمن؟ فقال سبحانه: لَيْسَ أمر الثواب و العقاب و السعادة و الخسران بِأَمانِيِّكُمْ جمع «أمنية» بمعنى رغبة النفس، فلا ينال الإنسان خيرا بالأماني فيما إذا كان عمله خلاف ذلك، و الخطاب للمسلمين وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ في «المجمع» قيل: تفاخر المسلمون و أهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم و كتابنا قبل كتابكم، و نحن أولى بالله منكم. فقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، و كتابنا يقضي على الكتب، و ديننا الإسلام. فنزلت الآية، فقال أهل الكتاب: نحن و أنتم سواء. فأنزل اللّه الآية التي بعدها «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ..» ففلح المسلمون «1».

مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فإن الذي ينفع عند اللّه هو العمل الصالح، أما الأنساب و الأحساب و ما أشبه فلا تنفع إلا بقدر ما يرجع

إلى العمل أيضا كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «المرء يحفظ في ولده»

«2» و لذا من عمل عملا سيئا يجز به. و بما ذكرنا تبين أن حفظ نسب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما يرجع إلى أتعاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام.

وَ لا يَجِدْ العامل للسوء لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ غير اللّه

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 197.

(2) البحار: ج 28 ص 302.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 551

[سورة النساء (4): الآيات 124 الى 125]

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)

وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً فلا أحد يتولى أمره و ينصره.

[125] و لما كان الأمر محتملا لأن يشمل أهل الكتاب إذا لم يعملوا سوءا طبقا للمفهوم من الآية السابقة، ذكر سبحانه أن من شروط قبول الأعمال الخيرة الإيمان الكامل وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي بعض الصالحات فإن الصالحات كلها لا يمكن أن يؤتى بها مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى و لعل التنصيص هنا لإفادة العموم، و لدفع و هم جري التقاليد الجاهلية، التي كانت تقضي بأكل الرجال ثمار الأعمال الطيبة للنساء، و حرمان النساء من الحقوق وَ هُوَ مُؤْمِنٌ بما في الكلمة من معنى- لا إيمان ببعض الأصول دون بعض فَأُولئِكَ العاملون المؤمنون يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً أي قدر نقير، و هو النكتة الصغيرة المنخفضة في ظهر النواة التي منها تنبت.

[126] ثم بيّن سبحانه فوائد الإيمان

و مزاياه و أنه أحسن من جميع الطرق و المذاهب وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً الدين هو الطريقة التي يسلكها الإنسان في حياته لأجل نيل السعادة، و الاستفهام في معنى الإنكار أي ليس أحد أحسن طريقة مِمَّنْ أَسْلَمَ و أخضع وَجْهَهُ لِلَّهِ و المراد بالوجه: الذات و النفس، و إنما ذكر الوجه لأن خضوع الوجه كاشف عن خضوع الذات، و معنى إسلام الوجه الإيمان بالله حيث أنه اعترف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 552

[سورة النساء (4): آية 126]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً (126)

به و خضع له وَ هُوَ مُحْسِنٌ أي يحسن العمل فيتبع الأوامر و النواهي، و إنما لم يكن أحد أحسن دينا من هذا الإنسان لأن الإيمان اعتراف بالحقيقة الكبرى، و الإحسان، عمل بما هو الأصلح، إذ ما يقرره الإله العليم الحكيم أحسن مما يقرّره الإنسان الجاهل ذو الطيش و السفه وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي طريقته حَنِيفاً أي في حال كون إبراهيم عليه السّلام مستقيما في الطريق عقيدة و عملا فإيمان و إحسان و اتباع طريقة صحيحة. و قد تكرر في الكتاب و السنة لزوم اتباع إبراهيم عليه السّلام لأن دينه لم يكن يتطرّق إليه التحريف الذي تطرق إلى كتابي الكليم و المسيح عليهما السّلام بالإضافة إلى أن موسى و عيسى عليهما السّلام كانا بعد إبراهيم عليه السّلام و أنه عليه السّلام بصفته أب المسلمين العرب، كان ذكره محفّزا لهم على الإيمان، إنه طريقة جدهم كما قال سبحانه: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «1» وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا من الخلة، بمعنى الحب و الود لإبراهيم عليه السّلام بإطاعته لله صار خليل

اللّه، فما يمنع الناس أن يتبعوا طريقة إبراهيم، كي ينالوا حب اللّه و رضاه.

[127] و أخيرا فمن الأحسن اتباع طريقة الإله الذي له كل شي ء و هو العالم بكل شي ء وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهو المالك لكل شي ء، و إذا أراد الإنسان اتباع طريقة للنفع فليتبع طريقة من له كل نفع وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً أي إحاطة علمية لا يعزب عنه شي ء،

______________________________

(1) الحج: 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 553

[سورة النساء (4): آية 127]

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)

و إحاطة بالقدرة، إذ المحيط بالشي ء يقدر عليه.

[128] قد سبق قوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ «1» و قد سبق الكلام في الآيات التالية حول هذا الموضوع مع شي ء من الاستطراد. ثم يأتي السياق ليبين بعض أحكام النساء، فإنه من الحكم بين الناس بما أراه اللّه سبحانه وَ يَسْتَفْتُونَكَ يا رسول اللّه فِي النِّساءِ أي يسألونك الفتوى- و هو تبيين المشكل من الأحكام- فقد سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الواجب لهن و عليهن و كيفية معاشرتهن قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ أي في النساء و إنما نسب الجواب إلى اللّه سبحانه لتقوية إفادة أن الحكم لا يصح إلا من اللّه سبحانه، فليس لأحد أن يحكم إطلاقا، و قد سئل مثل هذه الأسئلة في غير الأحكام فجاء الجواب بدون

النسبة إليه تعالى، نحو: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «2» يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ «3» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ «4» و هكذا.

وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ عطف على «اللّه» أي أن الفتوى في باب النساء تأخذونه من اللّه سبحانه بما سيأتي، و تأخذونه بما تلي عليكم في القرآن سابقا، فقد سبق في ابتداء السورة وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «5»،

______________________________

(1) النساء: 106.

(2) الإسراء: 86.

(3) البقرة: 216.

(4) البقرة: 190.

(5) النساء: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 554

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «1» و الحاصل أن الفتوى- أي تبيين مسائل النساء- يأتي فيما يقول اللّه و فيما سبق. فِي يَتامَى النِّساءِ أي البنات الصغيرات اليتيمات اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَ أي لا تعطوهن ما كُتِبَ لَهُنَ من الصداق فقد كان أهل الجاهلية لا يعطون اليتيمة صداقها لتمنع هذه العادة فقوله «في يتامى» متعلق ب «ما يتلى»، أي تأخذون الفتوى في أمر النساء من اللّه و مما تلي عليكم سابقا في باب النساء اليتامى اللاتي تحرمونهن من مهورهن وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ أي تريدون نكاحهن لأكل أموالهن. ثم إن قوله «و ما يتلى» بصيغة المضارع للاستمرار لا الاستقبال. وَ ما يتلى عليكم في الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ أي ما تقدم في باب أمر الأيتام، و هو قوله سبحانه: وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فإنه عام يشمل اليتيمات أيضا وَ ما يتلى عليكم في أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي بالعدل كما تقدم في قوله «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى و على هذا فقوله «و ما يتلى» إلى «بالقسط» جملة

واحدة، عطف على «اللّه».

و الحاصل أن اللّه يفتيكم، و ما تقدم في القرآن من آيات اليتامى

______________________________

(1) النساء: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 555

[سورة النساء (4): آية 128]

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)

يفتيكم به أيضا، ثم جمع سبحانه الكل في إطار عام فقال: وَ ما تَفْعَلُوا أيها المؤمنون مِنْ خَيْرٍ عدل و إحسان بالنسبة إلى النساء فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً يعلمه و يجازيكم عليه بحسن الثواب.

[129] ثم توجه السياق إلى بعض أحكام النساء إيفاء لقوله سبحانه: «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» و ذلك حكم خوف النشوز، فقد كانت بنت محمد بن سلمة عند رافع بن خديج و كانت قد دخلت في السن و كانت عنده امرأة شابة سواها فطلقها تطليقة حتى إذا أبقى من أجلها يسيرا، قال إن شئت راجعتك و صبرت على الأثرة، و إن شئت تركتك. قالت: بلى راجعني و أصبر على الأثرة فراجعها، فنزلت وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها أي من زوجها نُشُوزاً ارتفاعا عليها بأن لا يعاملها معاملة الأزواج، بل يعاملها و كأنه أرفع منها أَوْ إِعْراضاً أي يعرض عنها إطلاقا، أو طلاقا، و قد خافت لظهور أمارات ذلك فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوجين أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما الضمير في «يصلحا» راجع إلى الزوجين، أي يصطلحا فيما بينهما صُلْحاً أي نوع من أنواع الصلح الجائز، فتتنازل هي عن بعض حقوقها ليبقى النكاح على حاله و لا تحصل الفرقة، أو نحوها وَ الصُّلْحُ بينهما ببقاء عقد الزواج و الألفة خَيْرٌ من

الافتراق و الشقاق وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ الشح البخل و عدم التنازل عن الحقوق، أي أن الأنفس يخالطها الشح، فلا هي ترغب أن تتنازل عن بعض حقوقها لتبقى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 556

[سورة النساء (4): آية 129]

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)

الألفة، و لا الزوج مستعد لأن يعاشرها معاشرة صالحة لئلّا ينتهي الأمر إلى الطلاق وَ إِنْ تُحْسِنُوا يحسن أحد الزوجين إلى الآخر وَ تَتَّقُوا فلا تفعلوا ما يوجب سخط اللّه، فإن الغالب أن يرتكب أحد الطرفين الحرام، فيما إذا حدث بينهما صدام فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليه. و لا مفهوم للآية بأنه «إن لم تحسنوا فلا يعلم اللّه» كما هو واضح، بل الشرط أتي به للتحريض و الترغيب.

[130] ثم ذكر سبحانه حكم تعدّد الأزواج، و أنه لا يمكن التسوية بينهن في الحب و الود، فإذا كان الميل القلبي يميل كليّا إلى جهة، فاللازم حفظ العدالة بين الزوجات، لئلّا يبقى بعضهن كالمعلقة وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أيها الرجال أبدا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ عدالة في المودة و الحب، فإنه ليس بأيديكم، و لا بد أن تكون بعض النساء أقرب إلى قلوبكم من بعض وَ لَوْ حَرَصْتُمْ في العدالة القلبية فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إلى جانب امرأة من زوجاتكم المتعددات فَتَذَرُوها أي المرأة التي لا تميلون إليها كَالْمُعَلَّقَةِ التي علقت فلا هي مستريحة بالزوج و لا هي مستريحة بعدم الزوج، فتكون في عذاب و شقاء، و إذا لم يكن باستطاعتكم العدالة فباستطاعتكم عدم الميل الكلي.

و

قد روي عن الرسول صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم أنه كان يقسم بين نسائه و يقول:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 557

[سورة النساء (4): آية 130]

وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)

«اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك و لا أملك»

«1».

و

قد ورد أنه سئل الصادق عليه السّلام عن الجمع بين هذه الآية و بين قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً «2» فقال أما قوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا» فإنه عني في النفقة، و أما قوله: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا» فإنه عني في المودة، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة

«3».

وَ إِنْ تُصْلِحُوا بالتسوية في القسمة و النفقة الواجبتين وَ تَتَّقُوا باجتناب المحرمات، و ذلك بترك الميل الكلي الذي نهى اللّه عنه فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً يغفر ما صدر منكم من الذنوب رَحِيماً يرحمكم بلطفه و يسبغ عليكم فضله.

[131] وَ إِنْ يَتَفَرَّقا فيما إذا لم يصطلح الزوجان، بل طالبت هذه بكل حقوقها و أراد الرجل الميل، فخيّرها بين الطلاق و التنازل عن بعض حقوقها، فاختارت الطلاق، فتفرقا و وقع الافتراق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا من الزوجين مِنْ سَعَتِهِ أي سعة فضله و رحمته، فليس بابه مرتجا في وجه أي من الطرفين، بل الرجل يستغني عن هذه المرأة بامرأة أخرى و عيشة أخرى، و المرأة تستغني عن هذا الرجل برجل آخر و سعادة هنيئة. و في هذه الجملة لفتة مشرقة لجبر انكسار قلبي الطرفين، إذ من المعلوم أن كلّا منهما ينكسر قلبه حين الافتراق، و لو كان هو السبب

______________________________

(1) تفسير التبيان: ج 3 ص 349.

(2) النساء: 4.

(3) بحار الأنوار: ج 10 ص 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 558

[سورة

النساء (4): الآيات 131 الى 132]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)

في الفراق وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً في فضله حَكِيماً فيما يأمر و ينهى و يفعل و يريد، و نسبة السعة إليه يراد به السعة في فضله «مجازا».

[132] ثم ذكر سبحانه أنه يملك كل شي ء فهو يقدر على إغناء الزوجين من فضله وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ قد تقدم أن المراد ب «ما في» الأعم من الظرف و المظروف وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود و النصارى و المجوس و غيرهم مِنْ قَبْلِكُمْ إشارة إلى كون الوصية لم تزل من القديم وَ إِيَّاكُمْ أي وصيناكم أيها المسلمون أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه، فاعملوا بالأوامر و النواهي وَ إِنْ تَكْفُرُوا كفرا في العقيدة بإنكار الأصول، أو كفرا في الفروع بالعصيان فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فلا يضره كفركم و لا ينفعه إيمانكم و عملكم وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا لا يحتاج إلى إيمانكم و لا إلى أعمالكم و إنما أنتم تحتاجون إلى ذلك حَمِيداً أي مستوجبا عليكم الحمد له لصنائعه الحميدة.

[133] ثم يؤكّد غناه سبحانه و أن له كل شي ء بقوله: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ليس شي ء لغيره، فإذا قطع عنكم رحمته لا تحصلون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 559

[سورة النساء (4): الآيات

133 الى 134]

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)

على ما تريدون من غيره وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي أنه أحسن وكيل و أكفى وكيل، فلا يحتاج الإنسان إلى وكيل آخر إذا وكله سبحانه في أمره. و قد قيل في وجه التكرار في الآيتين ثلاث مرات أن الأولى:

لإيجاب طاعته، حيث له كل شي ء و المالك تجب طاعته على المملوك، و الثانية: لأن الخلق محتاجون إليه و هو الحميد المطلق، فن ذلك لا يكون إلا لمن له كل شي ء، و الثالثة: لبيان أنه يكفي توكيله مطلقا، فإن ذلك لا يكون إلا لمن يملك كل شي ء.

[134] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إنه في غنى عنكم، و قدرته تعمّكم فناء و إيجادا، فإن أراد أذهبكم و أفناكم و أهلككم وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ أناسا آخرين يوجدهم من العدم وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً يقدر على إنفاذه.

[135] و لقد كان المنافقون يتبعون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للغنيمة و للتحفظ على دنياهم، و حيث تقدم أن لله ما في السماوات و الأرض، ذكّرهم بأن الإطاعة توجب خير الدنيا و الآخرة، فلم لا يسلكون أنفسهم في سلكها مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا أي منافعها، فإن الثواب من «ثاب» بمعنى رجع، لأن الثواب جزاء العمل الصادر من الإنسان، يرجع إليه فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ إذ يملك الجميع و بيده أزمة الكل، فلم لا يطيعون حتى ينالوا الأمرين وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً لأقوالهم بَصِيراً بأعمالهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 560

[سورة النساء (4):

آية 135]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)

[136] و لما ذكر سبحانه أن عنده ثواب الدنيا و الآخرة، عقّبه بالأمر بالعدل و عدم الجور كي ينالوا الثوابين، و قد سبق الأمر بالعدل في قوله: وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «1» فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قد تقدم أن الخطاب إنما خصص بالمؤمنين لأنهم المنتفعون السامعون، و إلا فالأوامر و النواهي عامة للجميع كُونُوا قَوَّامِينَ جمع «قوّام» و هو كثير القيام بِالْقِسْطِ هو العدل، أي كونوا دائمين في القيام بالعدل، بأن تكون عادتكم على ذلك قولا و عملا، و لعلّ في ذلك إشارة تنبيه إلى ما اعتاده الناس من أنهم لا بد و أن يزيغوا عن العدل إذا تمادت بهم الأزمان، و لذا نرى من الحكام من يتنزّه عن الجور في أول أمره ثم إذا امتد به الزمان زاغ و انحرف شُهَداءَ جمع شهيد لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي اشهدوا بالحق- لأجل أمر اللّه و رضاه- و لو كانت الشهادة في ضرركم و نفع الغير أَوِ على الْوالِدَيْنِ أي في ضررهما لنفع الغير، إذا كان الحق مع الغير وَ على الْأَقْرَبِينَ أي من يتقرب إليكم بنسب، فلا تميلوا عن الحق لنزوات أنفسكم، أو ملاحظة مصلحة الوالدين، أو رعاية الأقربين إِنْ يَكُنْ المشهود له أو المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تشهدوا للغني أو للفقير باطلا، مراعاة لغناه أو شفقة عليه لفقره فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما إنه

______________________________

(1) النساء:

59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 561

[سورة النساء (4): آية 136]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

سبحانه أولى بالغني و الفقير و أنظر لحالهما من سائر الناس، و مع ذلك فقد أمركم بالشهادة على الحق فلا بد من ملاحظة أمره، لا مراعاة الغني لغناه و الفقير شفقة عليه فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أي هوى النفس في الحكم الجائر أَنْ تَعْدِلُوا أي لأن تعدلوا، قالوا: و ذلك كقولهم:

«لا تتبع هواك لترضي ربك»، أو المعنى: «لا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا من الحق» وَ إِنْ تَلْوُوا من «لوى يلوي»، بمعنى الانحراف، أي أن تنحرفوا أيها المؤمنون- في حال الحكم- عن الحق أَوْ تُعْرِضُوا عن الحق إطلاقا. و لعل الفرق أن «اللّيّ» الانحراف اليسير، و «الإعراض» الانحراف مطلقا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيعلم الانحراف و الإعراض و يجازيكم عليهما، كما يعلم إقامتكم للحق.

[137] ثم أنه سبحانه بعد أن ذكر لزوم القيام بالقسط، بيّن لزوم الإيمان الحقيقي عن قلب و عقيدة، و لا يكون ذلك القيام بالقسط إلا إذا توفر في الإنسان ذلك الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر، فإن الخطاب موجّه إلى كل من أظهر شهادة أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، و من المعلوم أن كثيرا منهم كانوا مؤمنين لفظا فقط آمَنُوا إيمانا راسخا و عقيدة في الجوارح و الجوانح بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ آمنوا ب الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ و

هو القرآن الكريم وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 562

[سورة النساء (4): آية 137]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)

أي جنس الكتاب، فإن من شرائط الإيمان، الإيمان بكتب اللّه جميعا وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ بأن يجحدهم أو يعاديهم أو ينزلهم عن المنزلة اللائقة بهم وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ و إن كان بجحد أحد من الرسل أو أحد من الكتب وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ بأن جحد أو شك في الميعاد فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق كمن يضل الطريق و يبعد عنه كثيرا، و ذلك في قبال من يعمل محرما أو ما أشبه، فإنه قد ضل ضلالا، لكن لا بذلك البعد.

[138] و بعد ما ذكر سبحانه لزوم الإيمان واقعا، بيّن حالة أولئك الذين لا يؤمنون إلا إيمانا سطحيا، و لذا يميلون مع كل جانب قوي، فإذا قوى الإسلام آمنوا و إذا ضعف كفروا، و هكذا يراوحون بين الإيمان و الكفر حتى يموتون و هم كفار لتغلّب الطبيعة الكافرة فيهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا إما كفر باللفظ أو بالقلب، فإن كثيرا من الأشخاص الذين يقدمون على الإيمان يقدمون عليه سطحيا، و بمجرد هبوب ريح الكفر يكفرون قلبا، و إن بقوا في الظاهر مؤمنين ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا و هذا من باب المثال، و إلا فليس للتكرار أربع مرات مزية لا توجد في المرتين، أو في الست، أو ما أشبه ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بأن تطبّعت قلوبهم بالكفر فلم يؤمنوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لأنهم بقوا كافرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 563

[سورة النساء

(4): الآيات 138 الى 139]

بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)

و إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي طريقا إلى الجنة و الخلاص، كما قال سبحانه: وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ «2» و يحتمل أن يكون المعنى: «أنه يخذلهم في الدنيا و لا يلطف بهم عقوبة لهم على كفرهم، فلا يهتدون إلى الحق بعد ما تكرر منهم الإيمان و الكفر».

[139] بَشِّرِ يا رسول اللّه الْمُنافِقِينَ الذين هم يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر- خلافا لما تقدم من قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» و البشارة هنا مجاز للاستهزاء، كما يقال للزنجي: كافور بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يؤلمهم جسديا و نفسيا. و لعلّ هذه الآية تدل على كون الآية المتقدمة في شأن المنافقين، و أن المراد بالكفر، الكفر القلبي الذي كانوا يراوحون فيه بين الإذعان و الكفر، مع التحفظ على ظاهرهم في الإيمان.

[140] و بمناسبة النفاق، ذكر اللّه سبحانه أظهر ميزات المنافق، فقال:

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ و أحباء من صميم القلب مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي لا يتخذون المؤمنين أولياء، بل يعاملونهم معاملة ظاهرية فقط لتأمين حياتهم، و إنما قلوبهم مع الكفار و ميلهم إليهم أَ يَبْتَغُونَ أي هل يطلبون عِنْدَهُمُ أي عند الكفار الْعِزَّةَ

______________________________

(1) النساء: 49.

(2) النساء: 169 و 170.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 564

[سورة النساء (4): آية 140]

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ

جَمِيعاً (140)

الدنيوية، فإن الغالب أن المنافق إنما ينافق تحفظا على دنياه، أي على عزته المزعومة التي يجدها في ضلال الكفر و بمؤاخاة و صداقة الكافرين فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً إذ بيده الدنيا بجميع ما فيها، فلو آمنوا حقيقة لكان لهم من العزة ما ليس للمنافقين، لأن دنياهم بالإضافة إلى عزتهم الظاهرية حاصلة عند المؤمنين، فإن المنافق منبوذ لا عزة له بين المؤمنين.

[141] ثم ذكر سبحانه خصلة أخرى للمنافقين، فقد كانوا يجالسون أهل الكتاب، فيسخر أولئك من القرآن و الرسول، و المنافقون ساكتون حيث يوافقونهم قلبا، بخلاف المؤمنين الذين لم يكن أهل الكتاب يجرءون لمثل ذلك أمامهم، و هذه صفة المؤمن و المنافق في كل زمان وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي في القرآن في قوله: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «1» بمعنى أنه إذا خاضوا في غيره حال مجالستهم أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ أيها المسلمون آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها و الفرق بينهما واضح فإن الكفر بها إنكارها، و الاستهزاء بها السخر و الاستهانة بها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ بل قوموا و اذهبوا حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ الخوض في الحديث

______________________________

(1) الأنعام: 69.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 565

[سورة النساء (4): آية 141]

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)

الدخول فيه كالخوض في الماء، و «حتى» للغاية، و هي

غير داخلة في المعنى، يعني يجوز لكم مجالستهم إذا خاضوا في حديث غير الكفر بالآيات و الاستهزاء بها إِنَّكُمْ أيها المسلمون إذا جالستم الكفار و هم يكفرون و يستهزءون إِذاً مِثْلُهُمْ حيث لم تنكروا عليهم، مع قدرتكم على الإنكار، و من رضي بعمل قوم قلبا أو تظاهرا فهو منهم إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ الذين أبطنوا الكفر وَ الْكافِرِينَ الذين أظهروا الكفر فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً لأن كليهما كافر، و إن كان في الظاهر تجري أحكام الإسلام على المنافق.

[142] ثم وصف سبحانه المنافقين بما هي السمة الظاهرة لهم في كل حال و زمان الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ التربّص الانتظار و الترقّب، يعني أنهم ينتظرون لأموركم و يراقبون أحوالكم فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ بالظفر و الغلبة و الغنيمة قالُوا أي أولئك المنافقون: أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أيها المؤمنون، فإنا آمنا و غزونا و صلينا و عملنا تحت لواء الإسلام، يريدون بذلك التحفظ على أنفسهم في مستوى المؤمنين جاها و غنيمة وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ بأن تقدم الكفار أو دارت الدائرة على المؤمنين قالُوا أولئك المنافقون للكافرين الذين كان لهم نصيب: أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي نسيطر عليكم و نرشدكم مواقع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 566

[سورة النساء (4): آية 142]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142)

صلاحكم وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ بأس الْمُؤْمِنِينَ بدلالتكم على مواقع الهلكة، و كنا نلقي الرعب في قلوب المؤمنين منكم، حتى نلتم أيها الكافرون ما نلتم بسببنا، و لذا فلنا ما لكم، يريدون بذلك إشراك أنفسهم في جاه الكفار و أرباحهم فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

و يعطي كلّا جزاءه، ثم لا يظن المسلمون أن المنافقين يتمكنون بنفاقهم أن يحدثوا ثغرة بينهم، فإن الكافر لا يسلّط على المؤمن أبدا لا في الحجة و لا في غيرها، ما دام المؤمنون ملتزمين بشرائط الإيمان عقيدة و عملا وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ أبدا لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا نعم إذا خرج المؤمنون عن شرائط الإيمان عقيدة أو عملا، صار للكفار عليهم سبيل. و قد نرى في طول التاريخ أنه لم يتغلّب الكفار على المؤمنين إلا إذا خرج المؤمنون عن طاعة اللّه و رسوله، كما رأينا في قصة أحد حين ترك الرماة مواقعهم، و هذا لا ينافي تسلط بعض أفراد الكفار على بعض أفراد المؤمنين قتلا و نحوه، لأن قضية «لن يجعل» طبيعية كسائر القضايا الواردة في مثل هذا المقام.

[143] و لما ذكر سبحانه أن المنافقين يراوحون بين المؤمنين و الكافرين لإرضاء كليهما و لأن يهيئوا لهم حياة سعيدة مهما تقلبت الظروف و الأحوال، بيّن أن خداعهم هذا لا ينطلي على اللّه سبحانه إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ حيث يظهرون الإيمان لحقن دمائهم و حفظ أموالهم و أعراضهم، بينما هم كفار غير مؤمنين وَ هُوَ خادِعُهُمْ إذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 567

[سورة النساء (4): آية 143]

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)

يلزمهم أحكام المسلمين في الدنيا و يجازيهم جزاء الكافرين في الآخرة وَ من صفاتهم الظاهرة أنهم إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى جمع «كسلان» أي متثاقلين، لأنهم لا يعتقدون بالصلاة حتى يقوموا إليها قيام نشاط و فرح كما يقوم المؤمنون إليها يُراؤُنَ النَّاسَ أي أن أصل عملهم لأجل الرياء و أن يظهروا للمؤمنين

أنهم مسلمون لا لأجل اللّه، و لذا لو تمكنوا من تركها تركوها وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا في مواقع الشدة و المحنة كما قال سبحانه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ «1» بخلاف المؤمنين الذين يعتقدون بالله فإنهم ذاكرون له دائما.

[144] مُذَبْذَبِينَ يقال: «ذبذبته» أي حركته، أي أن المنافقين مترددين بَيْنَ ذلِكَ المجتمع المنقسم إلى المؤمن و الكافر لا إِلى هؤُلاءِ المؤمنين، أي لا مع هؤلاء تماما وَ لا إِلى هؤُلاءِ الكافرين، و دخول كلمة «إلى» باعتبار أن من يكون مع قوم ينتهي إليهم في حركاتهم و سكناتهم، بخلاف المنافق الذي هو في الوسط لا ينتهي إلى أحد الجانبين وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ و إضلاله بترك لطفه الخاص به، بعد ما أراه الطريق فلم يسلكه، و قد تقدم معنى الإضلال من اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الحق لأنه قد ران على قلبه ما كسبه من السيئات و الإعراض عن الإيمان بالله و العمل الصالح.

______________________________

(1) العنكبوت: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 568

[سورة النساء (4): الآيات 144 الى 145]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)

[145] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أي أنصارا و أخلاء يتولّون شؤونكم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بأن تتركوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً السلطان: الحجة و المبين، بمعنى الواضح، فينكّل بكم حيث انحرفتم عن طريقته إلى طريقة الكفار، إن المنافقين قد اتخذوا الكافرين أولياء، فأنتم أيها المؤمنون لا تكونوا مثلهم، لتتم عليكم الحجة

فيصحّ عقابكم لأنه جاء بعد البيان و الإنذار، و الاستفهام بمعنى الإنكار، أي لا تجعلوا لله سلطانا عليكم.

[146] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في الطبقة السفلى، و ذلك لأن المنافق شرّ من الكافر، إذ هو كافر بإضافة أنه في المسلمين فيطّلع على عوراتهم و يعين الأعداء عليهم. و في آية أخرى قال تعالى بالنسبة إلى المنافقين: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ «1» على نحو الحصر، و لعلّ السبب في قبول المنافق بعد العلم بباطنه رجاء زوال نفاقه، و أنه لو وكل الأمر إلى الناس لأخذوا كثيرا من المؤمنين بأنهم منافقين وَ لَنْ تَجِدَ يا رسول اللّه لَهُمْ أي للمنافقين نَصِيراً من بأس اللّه و عقابه.

______________________________

(1) المنافقون: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 569

[سورة النساء (4): الآيات 146 الى 147]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

[147] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من نفاقهم وَ أَصْلَحُوا نياتهم و أعمالهم كسائر المؤمنين وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أي تمسكوا به و أخلصوا طريقهم لله، بخلاف المنافق الذي يبعّض في طريقته، فبعضها لله و بعضها للأصنام فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في دنياهم و آخرتهم وَ سَوْفَ في الآخرة يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً هو النعيم المقيم الذي لا زوال له و لا اضمحلال.

[148] و لما ذكر سبحانه أن المنافقين في الدرك الأسفل، بيّن أنه ليس من حاجة له إلى عذاب أحد، و إنما ذلك لسوء صنيعهم، فلو بدّلوا صنيعهم لكان خيرا لهم ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أيها الناس، و

الاستفهام في معنى الإنكار، أي لا حاجة إلى عذابكم إذ لا ينتفع اللّه بذلك كما لا يتضرر بتركه إِنْ شَكَرْتُمْ نعمه سبحانه وَ آمَنْتُمْ إيمانا صحيحا وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً لمن شكره، و معنى كونه شاكرا: أنه يفعل فعل الشاكر من الحفاوة إلى المشكور له عَلِيماً بكم و بأعمالكم، فلا يفوته شي ء منها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 571

تقريب القران الى الأذهان الجزء السّادس من آية (149) من سورة النساء إلى (83) من سورة المائدة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 572

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 573

[سورة النساء (4): الآيات 148 الى 149]

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)

[149] و حيث تقدم الكلام حول النفاق و هو شي ء ربما اشتبه فيه الناس، و لذا نراهم يرمي بعضهم بعضا بالنفاق، بيّن سبحانه أنه لا يجوز أن يجهر الإنسان بالقول السيئ بالنسبة إلى أحد إلا إذا كان الإنسان الجاهر مظلوما فإنه يحق له أن يجهر بظلامته فلا يحق لأحد أن يبدي عورة غيره حتى فيما إذا علم، فكيف بما لو ظن أو توهم؟ و في آية أخرى:

اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ «1» لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ بأن يقول القول السيئ بالنسبة إلى غيره جهرا أمام الناس، و معنى «لا يحب» أنه يكره ذلك إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فإنه يحق له أن يذكر ظلامته أمام الناس وَ كانَ

اللَّهُ سَمِيعاً يسمع ما يجهر به الإنسان من القول السيئ في غيره عَلِيماً بصدق الصادق و كذب الكاذب فيجازي كلّا حسب جزائه.

[150] و إذ ذكر تعالى جواز الجهر بالسوء لمن ظلم، بيّن أن إبداء الخير و إخفاء السوء أحسن، فإن ذلك من صفات اللّه سبحانه العفوّ القدير، الذي يعفو مع قدرته إِنْ تُبْدُوا أي تظهروا خَيْراً أي عملا حسنا جميلا لمن أحسن أَوْ تُخْفُوهُ أي تتركوا إظهار الخير، أو المعنى:

تعزموا عليه أي تنووه. و لعل الثاني أقرب أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فلا تنتقموا ممن أساء إليكم مع قدرتكم على الانتقام، ففي المقام

______________________________

(1) الحجرات: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 574

[سورة النساء (4): الآيات 150 الى 151]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)

لا تجهروا بالقول السيئ بالنسبة إلى من ظلمكم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا كثير العفو عن خلقه ممن أساء و ظلم قَدِيراً على الانتقام منهم، فما أجدر أن يتصف الخلق بصفة الخالق.

[151] و لما ذكر سبحانه في الآيات السابقة حال المنافقين، أتم الكلام في الآيات التالية حول حال الكافرين و المؤمنين، فالناس ينقسمون أمام الدعوة الجديدة إلى مؤمن و كافر و منافق بين أولئك إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ و إن كان كفرا برسول واحد، و الكفر إما بالإنكار أو نحو ذلك وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ لعلّهم طائفة أخرى حيث أنهم يؤمنون بالله و يكفرون بالرسل، فبهذه الصفة أنهم يفرقون بين اللّه بالإيمان و بين الرسل بالكفر

وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ فإن هناك المنكر المطلق و الذي لا ينكر اللّه و لكن ينكر الأنبياء جملة، و الذي يبعّض في الأنبياء وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ الحق الواقع سَبِيلًا طريقا لا الإنكار المطلق و لا الإذعان المطلق، و إنما يفعلون ذلك لأغراض نفسية و تقاليد بالية.

[152] أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي حقيقة، فلا يخرج إيمانهم ببعض عن كونهم كافرين، كما قد ينطبق على البعض الذين لا يعرفون معيار الكفر و الإيمان، فإن الكفر هو إنكار أحد الأصول و الإيمان هو الإقرار بها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 575

[سورة النساء (4): الآيات 152 الى 153]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)

أجمع وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ أي هيّئنا لهم عَذاباً مُهِيناً يهينهم و يذلهم.

[153] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ جميعا وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لفظ «أحد» إذا دخل عليه النفي أو كان في معناه أفاد العموم، و لذا صحّ إدخال «بين» عليه و ليس كذلك إذا كان للإثبات أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ اللّه أُجُورَهُمْ في الآخرة وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يغفر ما صدر منهم من ذنب رَحِيماً يرحم بلطفه و رحمته.

[154] و إذ تقدم الكلام عن الذين يؤمنون ببعض و يكفرون ببعض، و من أظهر مصاديق أولئك أهل الكتاب الذين آمنوا بالأنبياء السالفة و لم يؤمنوا

بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحجج واهية، انتقل السياق إلى هؤلاء مبيّنا أنهم كاذبون في زعمهم الإيمان بموسى عليه السّلام بأسئلة و أعمال بشعة، يَسْئَلُكَ يا رسول اللّه أَهْلُ الْكِتابِ و المراد بهم هنا اليهود أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ كما نزل على موسى التوراة، مكتوبا جملة، لا أن تأتي الآيات على نحو الوحي.

و في بعض التفاسير: أن كعب الأشرف و جماعة من اليهود قالوا: يا محمد إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة جملة «1»

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 228.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 576

[سورة النساء (4): آية 154]

وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)

فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فهل آمنوا بموسى عليه السّلام لما آتاهم الكتاب من السماء؟ كلا بل سألوه شيئا أكبر من ذلك فَقالُوا له عليه السّلام:

أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً حتى نشاهده بأعيننا فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بسبب ظلمهم و تجرّؤهم على ساحة قدس اللّه و جلاله، فقد جاءت صاعقة و أماتتهم جميعا- كما تقدم في سورة البقرة «1»- ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها عبدوه من دون اللّه سبحانه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الأدلة الواضحة على الربوبية و النبوة، من نجاتهم من بني إسرائيل، و تفريق البحر لهم، و ما رأوا من معجزات العصا و غير ذلك فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ بما تقدم في سورة البقرة من أمرهم بقتل بعضهم بعضا، و لكن لم ينفعهم ذلك أيضا بل بقوا معاندين قساة جفاة وَ آتَيْنا مُوسى أي أعطيناه سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة واضحة تبين صدقه و

نبوته، و مع ذلك لم يؤمنوا.

[155] وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ أي جبل الطور حيث اقتلع جزء منه و رفع فوق رؤوس بني إسرائيل تخويفا لهم حتى يأخذوا الأحكام و يقبلوا التعاليم بسبب ميثاقهم أي عهدهم، و لعل المراد: حين إرادة

______________________________

(1) البقرة: 56.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 577

[سورة النساء (4): آية 155]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)

أخذ الميثاق منهم وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية سُجَّداً أي في حال السجود، اسجدوا و ادخلوا الباب وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا أي تعتدوا فِي السَّبْتِ باصطياد السمك، فقد كان ذلك محرما عليهم وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ أي من أهل الكتاب المتقدم ذكرهم مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا أكيدا بأن يسمعوا الأوامر و ينزجروا عن النواهي. و قد تقدم بعض الكلام حول الأمور المذكورة في سورة البقرة.

[156] ثم ذكر سبحانه أن اليهود بأعمالهم القبيحة استحقوا عقاب الدنيا و عقاب الآخرة أما عقاب الدنيا فتحريم الطيبات عليهم و أما عقاب الآخرة فالنار المهيأة لهم، فقوله سبحانه: «فَبِما نَقْضِهِمْ .. إلى آخر الآيات» متعلق بقوله: «حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ ..» فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي بسبب نقض اليهود معاهدتهم مع اللّه بأن يعملوا بكل ما في التوراة من الأحكام فإنهم لم يعملوا بغالب أحكامها أصولا و فروعا وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ التي أقامها على صدق أنبيائه ككفرهم بأدلة نبوة عيسى عليه السّلام وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ فإنهم كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا يقتلون و فريقا يكذبون و كلمة «بغير حق» للتوضيح لا للتأكيد إذ قتل الأنبياء لا

يكون بالحق أبدا وَ بسبب قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع «أغلف» أي في غلاف من دعوتك يا محمد، فلا نفهم ما تقول، كالشي ء المغلف الذي لا يصل إليه شي ء من الخارج، فقد كانوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 578

[سورة النساء (4): آية 156]

وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)

يقولون ذلك للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى لا يدعوهم إلى الهدى. ثم جاء سبحانه بجملة معترضة في الكلام ردا لقولهم «قلوبنا غلف» بقوله:

بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فإن الإنسان إذا رأى الحق فأنكره و تكرر منه العصيان يكون قلبه في معزل عن الحق، و صار الإنكار كالملكة له فإنه يعرف الحق كلما رآه لكنه ينكره، لا لأنه لا يرى الحق- لأن قلبه في غلاف- و على هذا يكون معنى بكفرهم: لسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا إذ قلّما يرتدع من صار الإنكار ملكة له بسبب غيه و ضلاله، ثم إن نسبة الطبع إلى اللّه تعالى إما حقيقة لأنه خلق القلب كذلك، بحيث يصير الأمر المتكرر ملكة له، و إما مجازا يراد بذلك: تركهم و شأنهم.

[157] وَ بسبب كفرهم بعيسى المسيح عليه السّلام أو المراد: الكفر المطلق، كرّر تأكيدا أو هو إرهاص لقوله «وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ» يريد بذلك أنهم صاروا كفارا بسبب هذه التهمة لعظمتها وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ الصديقة المعصومة أم المسيح عليها السّلام بُهْتاناً عَظِيماً حيث نسبوها إلى الزنا لما ولد عيسى عليه السّلام منها من غير أب.

عن «الكلبي» أن عيسى عليه السّلام مر برهط فقال بعضهم لبعض:

جاءكم الساحر ابن الساحرة. فقذفوه بأمه فسمع ذلك عيسى فقال:

اللهم أنت ربي و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم العن من سبّني و

سبّ والدتي فاستجاب اللّه دعوته فمسخهم خنازير

«1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 340.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 579

[سورة النساء (4): الآيات 157 الى 158]

وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)

[158] وَ بسبب قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ و هذا القول موجب لسخط اللّه تعالى لأنه عليه السّلام رسوله، و قوله: رَسُولَ اللَّهِ إما قول اليهود على وجه الاستهزاء، و إما قول اللّه تعالى، فليس «مقول قولهم» و إما أنه اعتراف منهم بأنه الرسول، كما اعترف أهل الكوفة بأن الحسين إمام و قتلوه لهوى النفس. ثم ردهم اللّه سبحانه بقوله: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ لأنهم كانوا يقولون: قتلناه صلبا وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ بأن ألقى اللّه شبه عيسى على بعض اليهود، فقتلوا ذلك الشبيه لعيسى عليه السّلام لا أنهم قتلوا نفس المسيح وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في المسيح عليه السّلام هل أنه قتل أم لم يقتل؟ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ فإنهم صاروا فريقين: قسم يقولون قتلناه، و قسم يقولون لم نقتله و إنما قتلنا شبيها له، و لم يكن قولهم عن يقين و إنما عن شك و تردد ما لَهُمْ بِهِ أي لهؤلاء القائلين بقتله مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ هذا الاستثناء منقطع، فإنه كثيرا ما يستثني من أصل الكلام لا من قيوده، فكأنه قال هنا: «ما لهم من حالة نفسية حول هذا الموضوع إلا اتباع

الظن» فمن يقول قتلناه يظن ذلك لا أنه يستيقن. و لا يخفى أن الشك بمعناه اللغوي يلائم الظن، و ليس الشك بمعنى تساوي الطرفين حتى ينافي الظن الذي بمعنى ترجيح أحد الطرفين. وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي: باليقين و القطع لم يقتلوا عيسى.

[159] بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أي إلى محل تشريفه و هو السماء، فإنه قد ثبت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 580

[سورة النساء (4): الآيات 159 الى 160]

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160)

في علم الكلام أنه سبحانه لا محلّ له. ثم إن رفعه له إلى السماء يمكن أن يكون في بعض الكواكب فإنها- كما

في الحديث «مدن كمدنكم»

«1» وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً ذا عزة و سلطة يتمكن مما أراد و أمر حَكِيماً يضع الأشياء مواضعها و تقديراته عن حكمة و بصيرة.

[160] وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي ما من أحد من أهل الكتاب من اليهود إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أي بالمسيح عليه السّلام قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت المسيح عليه السّلام ينزل من السماء و يصلي خلف الإمام المهدي عليه السّلام فيؤمن به كل يهودي «2». و من المعلوم أن المراد بكل يهودي من كان في ذلك الوقت، لا كل يهود العالم الذين ماتوا من قبل. و هذه العبارة عرفية فيقال: يعرف أهل البلد الفلاني جميعهم حتى إذا خرجت منها، يريد بذلك: من كان منهم فيها، لا كل من مات أو خرج قبل رحلته وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ المسيح عليه السّلام عَلَيْهِمْ أي على اليهود شَهِيداً بأنه قد

بلغ رسالات ربه، و أنهم آذوه و طردوه و لم يقبلوا منه.

و هناك احتمال أن يعود الضمير «به» إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي هو محل البعث مع الكفار، و ضمير «موته» إلى الكتابي، أي كل كتابي يؤمن بالرسول قبل أن يموت حين الاحتضار حيث ينكشف له الواقع.

[161] و لما ذكر سبحانه اليهود قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي بسبب

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 2 ص 219.

(2) العمدة: ص 438.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 581

[سورة النساء (4): الآيات 161 الى 162]

وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)

ظلم اليهود لأنبيائهم و لأنفسهم و لغيرهم. بما تقدم من أقسام الظلم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فقد أحلّ قسم من الطيبات لهم، لكنهم لما ظلموا حرّم عليهم تلك الطيبات جزاء على أعمالهم. و المحرمات هي ما بيّن في قوله تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ .. «1»، وَ بِصَدِّهِمْ أي بمنعهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً عطف على قوله: «فبظلم» فإنهم كانوا يصدون عن سبيل اللّه و يمنعون الناس عن التدين بدين المسيح و محمد عليهما السّلام كما كانوا يحرفون التوراة حسب رغباتهم و أهوائهم.

[162] وَ ب أَخْذِهِمُ الرِّبَوا و هو أخذ الزيادة من المقترض، فقد كان حراما حتى في شريعتهم و لكنهم لم يكونوا يأبهون بالشريعة وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ

أي و الحال أنهم كانوا قد نهوا عن أخذ الربا وَ ب أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ فقد كانوا يأخذون الرشوة في الحكم و يسيطرون على أموال الآخرين بالمكر أو القوة وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ الذين لم يؤمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَذاباً أَلِيماً يؤلم أجسامهم و أرواحهم.

[163] و لما ذكر سبحانه «للكافرين منهم» فهم أن بعضهم ليس كذلك، و قد

______________________________

(1) الأنعام: 147.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 582

بيّن ذلك سبحانه بقوله: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ كعبد اللّه بن سلام و أصحابه الذين رسخوا في العلم و ثبتوا فيه و عرفوا العلم حق المعرفة وَ الْمُؤْمِنُونَ يعني أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المحتمل أن المراد بهم: المؤمنون بموسى حقيقة، مقابل سائر اليهود الذين كان إيمانهم مزيفا كاذبا يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا رسول اللّه من القرآن الحكيم وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من كتب موسى و عيسى عليهما السّلام بخلاف اليهود الذين لم يؤمنوا إطلاقا، و كان إيمانهم بالتوراة كذبا، كما قال سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «1».

و هنا قد يتساءل البعض: أن اليهود إن كان في طبيعتهم الانحراف كما هو المشهور بين الناس و الظاهر من قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «2» و قوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ «3» و من أعمالهم مع أنبيائهم و بالأخص موسى عليه السّلام، فكيف يمكن لهم التخلّي عن هذه الطبيعة؟ و كيف يقبلون بالإسلام إذا أسلموا؟

و كيف يمكن التفريق بين من كفر منهم و بين من قال سبحانه عنه «لكن الراسخون ..»؟

و الجواب: أن اليهود لهم جهتا

انحراف: الأولى طبيعتهم المتحجرة، و الثانية دينهم الباطل الذي يأمرهم بكل منكر، و تقاليدهم

______________________________

(1) الجمعة: 6.

(2) البقرة: 75.

(3) المائدة: 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 583

البالية السخيفة. و من المعلوم أن اليهودي إذا أسلم روضت طبيعته و صقلت بالإسلام، كالجبان الذي يشجع نفسه حتى تصبح له ملكة الشجاعة، و الفاسق الذي يسلك الصلاح حتى تحصل له ملكة العدالة.

و كذلك تذهب تقاليده و دينه المحرّف فلا يكون حافز له على الاجرام و الرذيلة، بالإضافة إلى أن الانحراف ليس من طبيعة الكل مطلقا بل الأغلب، كما لا يخفى.

وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ عطف على «الراسخون» أي الذين يقيمون الصلاة من اليهود فإن لكل دين صلاة، و إنما عطف بالنصب و القاعدة الرفع أي «المقيمون» لأنه نصب على المدح، و هذا تفنّن في الكلام لإزالة الضجر النفسي الذي يحصل من سبك واحد. و قد كانت إقامة الصلاة الدائمة من أقوى العوامل للإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنها مذكرة مستمرة توجب ملكة طيبة وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ فقد كان كل دين يأمر بالزكاة بمعناها الأعم وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا حقيقيا لا صوريا- كما كان عند غالب اليهود- أُولئِكَ المتصفون بهذه الصفات سَنُؤْتِيهِمْ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً في جنات النعيم التي فيها ما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين و هم فيها خالدون.

و يمكن أن يكون الكلام من قوله: «و المقيمين» استئنافا إلى أن الراسخين في العلم من اليهود و المؤمنين الذين يقيمون الصلاة- من المسلمين- أولئك نعطيهم الأجر العظيم، فلا يكون «المقيمين .. إلخ» من صفات اليهود الراسخين في العلم، و ربما يؤيد هذا الوجه نصب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 584

[سورة النساء (4):

آية 163]

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)

«المقيمين» كأنه أراد بيان الانقطاع عما قبله و أنه في حكم الضمير في «سنؤتيهم» أي سنؤتي المقيمين .. سنؤتيهم أجرا عظيما، كباب الاشتغال.

[164] ثم ذكر سبحانه أن مجادلات اليهود باطلة و أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوحي إليه كما أوحي من قبله إلى سائر الأنبياء، و قولهم بإنزال الكتاب عليهم بحيث قد كثر في الأنبياء السابقين من أوحي إليه، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه «الوحي» هو الإلقاء في القلب بواسطة ملك، أو ابتداء بدون ملك في اليقظة أو المنام كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح عليه السّلام. ثم ذكر بعض الأنبياء بالاسم تعظيما و إن كانوا داخلين في عموم النبيين وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ و قدّم إسماعيل لأنه أرفع شأنا في الإيمان، و إن كان الثاني أكبر سنا- كما هو المشهور- وَ يَعْقُوبَ و هو حفيد إبراهيم ابن إسحاق جدّ اليهود، كما أن إسماعيل جد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْأَسْباطِ أي: الأنبياء المبعوثون من أولاد يعقوب، و يسمّون الأسباط لأنهم أحفاد يعقوب كيوسف و غيره عليهم السّلام وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ و لم يذكر موسى عليه السّلام لأنه نزل عليه الكتاب من السماء الذي كان محل احتجاج اليهود- كما تقدم- وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً جمع «زبر» أي شيئا فشيئا،

و لم ننزل على هؤلاء الأنبياء كتابا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 585

[سورة النساء (4): الآيات 164 الى 166]

وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)

كاملا بل إما وحيا و إما جزءا، كداود عليه السّلام.

[165] وَ أرسلنا رُسُلًا بالوحي إليهم قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ كيونس عليه السّلام مِنْ قَبْلُ في سائر القرآن وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ فقد كان عدد الأنبياء- على المشهور- مائة و أربعة و عشرين ألفا «1» وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً فلم يكن كل ما أتاه بشكل الكتاب، فموسى عليه السّلام الذي هو محل احتجاج اليهود كان اللّه قد كلمه، و الكلام قسم من الوحي، و لا يخفى أن كلام اللّه سبحانه إنما هو بخلق الصوت في الفضاء لأنه سبحانه منزّه عن الجسمية و لوازمها.

[166] رُسُلًا مُبَشِّرِينَ لمن آمن و أطاع بالثواب وَ مُنْذِرِينَ لمن كفر و عصى بالعقاب لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ إرسال الرُّسُلِ بل لله الحجة البالغة، و المراد بالناس الغالب لا الكل إذ بعضهم لم تدركه الدعوة كما هو معلوم بالضرورة، و صرحت بذلك بعض الأحاديث وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً مقتدرا للعقاب و الثواب حَكِيماً يفعل الأفعال عن مصلحة و حكمة.

[167] إن اليهود إن لم يشهدوا لك يا رسول اللّه بالنبوة بحجة مختلقة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 586

[سورة النساء (4): الآيات 167 الى 168]

إِنَّ الَّذِينَ

كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168)

لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ و شهادة اللّه هي إجراء المعجزة على يد الرسول و لا يكون ذلك إلا لله وحده، و الفرق بين السحر و المعجزة أن السحر يوصل بالأسباب إلى مسبباتها و لو كانت الأسباب ختوما و أورادا، و المعجزة خرق لنواميس الطبيعة بمجرد إرادة الرسول و من آتاه اللّه ذلك. و لا يفرق بين الأمرين إلا أهل المعرفة، فالرسول يتمكن من إحياء الميت بينما لا يتمكن الساحر من ذلك و هكذا. أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي بعلمه أنك أهل للنبوة، أو أنزله مقترنا بالعلم الذي من لدنه، أو أن الإنزال كان معلوما لله تعالى لا كما يأمر الآمر و هو غافل أو جاهل أو ناس أو ساه، و الأول أقرب وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ بما أنزل إليك، و لعل ذكر الملائكة تشريعي، أي بشهادة واقعية و إن لم يكن لها أثر، أو أن الأثر نصرة الملائكة كما رأوا في يوم بدر و كما ظهر بعض الآثار لنزول الملائكة وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً يشهد بأنك رسوله.

[168] ثم ذكر سبحانه جزاء الكافرين بالرسول بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوا الناس عن الإيمان و منعوا الإسلام عن التقدم قَدْ ضَلُّوا طريق الحق ضَلالًا بَعِيداً متباعدا عن الطريق السوي.

[169] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسله و ما جاءوا به وَ ظَلَمُوا أنفسهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 587

[سورة النساء (4): الآيات 169 الى 170]

إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)

بالعصيان و الناس بالحرمان عن طريق الهداية لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إذا ماتوا على الكفر، كما يظهر القيد من سائر الآيات وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً و المراد طريق الجنة.

[170] إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ جزاء لما فعلوا من الكفر و الظلم خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا زوال للعذاب و لا انقطاع. و قد يتساءل البعض: و لم العذاب الدائم مقابل العمل الذي كانت له مدة محدودة له؟ و الجواب: أن العذاب للشر الكامن الذي كان له مظهر، و ذلك باق أبدا، و لذا قال سبحانه: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1»، وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لقدرته الكاملة و سلطانه المطلق.

[171] ثم خاطب سبحانه جميع الناس بوجوب الإيمان و التنكّب عن طريق الكفر بقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْحَقِ أي مجيئه بالحق، أو بالدين الذي ارتضاه اللّه لعباده مِنْ رَبِّكُمْ أي من طرفه و جانبه، فربكم هو الباعث له. و فيه تأكيد لوجوب القبول فَآمِنُوا بما أتى به من الأصول، و أتوا خَيْراً لَكُمْ أي خيرا تعود فائدته إلى أنفسكم وَ إِنْ تَكْفُرُوا فلا تظنوا أن ذلك يضر اللّه تعالى

______________________________

(1) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 588

[سورة النساء (4): آية 171]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا

تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)

فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فلا ينقصه كفركم شيئا وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بمصالحكم و مفاسدكم، فالرسول آت بما هو الصلاح لكم حَكِيماً في أمره و نهيه و تدبيره و تقديره.

[172] ثم توجه السياق إلى أهل الكتاب الذين تقدم الكلام عنهم، لكن هنا يراد بهم النصارى فقط، فقال سبحانه: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الغلو: هو مجاوزة الحد و الارتفاع، و منه «غلا في دينه» أي تجاوز الحد إلى الارتفاع، فقد كان المسيحيون يقولون بتعدد الآلهة:

الأب و الابن و روح القدس، و يريدون بالأول هو اللّه، و بالثاني المسيح، و بالثالث جبرائيل عليه السّلام وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ أي لا تفتروا على اللّه بأن تقولوا: إن اللّه أمرنا بعبادة آلهة ثلاثة، أو المعنى: لا تقولوا بالنسبة إلى اللّه ما ينافي عظمته من قولكم إن له شريكا إِلَّا الْحَقَ و هو أنه لا شريك له و لم يأمر إلا بذلك إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ قيل: إنما سمي بالمسيح لأنه كان يمسح الأرض و يسيح في البلاد، و «عيسى ابن مريم» بيان لقوله «المسيح» يعني أنه ابن مريم، لا أنه ابن اللّه، و «رسول اللّه» خبر لقوله «المسيح» وَ كَلِمَتُهُ أي كلمة اللّه، و هذا تشبيه، فكما أن المتكلم إذا قال القول، حدث منه في الخارج شبه إلقاء، كذلك اللّه سبحانه يلقي الأشياء إلى الخارج فهي كلماته، و لذا يقال للمخلوقات «كلمات اللّه» و «إنما» هنا للحصر الإضافي مقابل النبوة و الألوهية.

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 1، ص: 589

أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي أوجدها في رحمها الطاهرة بدون زواج و اقتراب من رجل وَ رُوحٌ مِنْهُ سبحانه و «الروح» هي القوة- الطاقة- التي تتحرك و تحرك، و المعنى: أن عيسى روح من قبل اللّه سبحانه، و لذا يقال له: «روح اللّه»، و من المعلوم أن الإضافة تشريفية نحو:

بيت اللّه.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ إيمانا صحيحا بالإذعان لوحدانيته، و أنه لا شريك له و لا ولد، و أن المسيح رسوله الكريم وَ لا تَقُولُوا أيها النصارى أن الإله ثَلاثَةٌ أب و ابن و روح القدس انْتَهُوا عن هذا الكلام البشع، و أتوا خَيْراً لَكُمْ في دنياكم و آخرتكم من التوحيد و التنزيه إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فليس المسيح شريكا له في الألوهية، فإن من كان له شريك لا يصلح أن يكون إلها إذ الشركة تلازم التركيب، و التركيب يلازم الحدوث، فإن كل مركّب لا بد له من مركّب و أجزاء سابقة- و لو رتبة- و ما سبقه غيره ليس بإله سُبْحانَهُ أي أسبّحه سبحانه، بمعنى: أنزهه تنزيها أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كما قال المسيحيون من أن المسيح ابن اللّه، فإنه لو أريد بالولد المعنى المتعارف مما يستلزم الولادة، فإن ذلك من صفات الممكن لا من صفات الإله، إذ لا يعتري الإله التغيير، و إلا كان حادثا، و لو أريد المعنى التشريعي كما يقول الشخص الكبير لبعض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 590

[سورة النساء (4): آية 172]

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)

الناس- إذا أراد تشريفهم-: «فلان ولدي» فإن ذلك لا يجوز بالنسبة إلى

اللّه سبحانه إذ شؤونه كلها توقيفية، فقد أذن أن يقال: «فلان خليله» و لم يأذن أن يقال: «ابنه أو ولده». و المراد بالآية هو المعنى الأول.

لَهُ أي اللّه تعالى ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و من يكون كل شي ء ملكه، لا يمكن أن يكون شي ء ولدا له، إذ الولد من جنس الوالد، و هو جسم فعل لله فليس له نظير و لا شبيه وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نفاذ أمره، و هو وعيد للقائلين بالتثليث.

[173] ثم ذكر سبحانه أن المسيح عليه السّلام يعترف بأنه عبد اللّه فلم يقول هؤلاء بأنه ابن اللّه أو شريك اللّه؟ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أي لن يأنف عيسى عليه السّلام أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ بل اعترف هو عليه السّلام حين ولادته بذلك قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا «1»، وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ الذين قربهم سبحانه من ساحة لطفه. و لعل هذا إشارة إلى رد من زعم أنهم أولاد اللّه كما حكى سبحانه بقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2»، وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ يأنف و يمتنع عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فيرى نفسه أكبر و أعظم من أن يعترف لله بالعبودية

______________________________

(1) مريم: 31.

(2) الزخرف: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 591

[سورة النساء (4): الآيات 173 الى 174]

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)

فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً الحشر

هو الجمع، أي يجمعهم يوم القيامة جميعا ليجازيهم باستكبارهم. و «إليه» ليس للمكان لأنه سبحانه منزّه عنه، بل المراد: المحل المعدّ لقضائه و جزائه.

[174] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صحيحا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أي يعطيهم عطاء كاملا تاما أُجُورَهُمْ التي وعد اللّه لهم وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يزيدهم على ما كان قد وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الحسنة تفضّلا منه و كرما وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا عن عبادته و طاعته فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يتولى أمورهم و ينجيهم من عذاب اللّه وَ لا نَصِيراً ينصرهم.

[175] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي حجة و دليل يدلّكم على الحق وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً أي نورا واضحا و هو القرآن، فكما أن النور يهدي الإنسان إلى طريقه في ظلمات الليل و نحوه، كذلك القرآن يهدي الإنسان إلى طريقه في ظلمات الحياة، و بهذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 592

[سورة النساء (4): الآيات 175 الى 176]

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176)

المعنى يعني اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1».

[176] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ إيمانا صحيحا كما أمر العقل و الشرع وَ

اعْتَصَمُوا بِهِ أي تمسكوا بالله في أمورهم، أو أن الضمير «به» يرجع إلى النور فَسَيُدْخِلُهُمْ يوم القيامة فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ سبحانه يرحمهم بها و يتفضل عليهم بالجنة وَ فَضْلٍ أي زيادة على ما استحقوا وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي يرشدهم إلى نفسه، كما قال سبحانه: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «2»، صِراطاً مُسْتَقِيماً أي جادة مستقيمة، فهم يصلون إلى الحقائق و السعادة في صراط مستقيم، حيث أنهم اتبعوا الدعوة و لبّوا الداعي. و مفهوم الآية: أن الذين كفروا بالله و اعتصموا بسواه فسيدخلهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا و يضلهم ضلالا بعيدا. و ما في بعض الأخبار من تفسير «النور» بأمير المؤمنين و الأئمة الطاهرين عليهم السّلام فإن ذلك من باب أظهر المصاديق، كما قد تكرّر بيانه.

[177]

في حديث أن جابر بن عبد اللّه الأنصاري كان مريضا فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسأل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا: إن لي كلالة- أي أخوات- فكيف أصنع في مالي بالنسبة إلى ميراثهن؟ فنزلت الآية

«3» يَسْتَفْتُونَكَ أي يطلبون منك الفتوى يا رسول اللّه، و لهذه الآية ربط بما سبق في حكم

______________________________

(1) النور: 36.

(2) محمد: 18.

(3) راجع كتاب فقه القرآن: ج 2 ص 338.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 593

الكلالة وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً «1»، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ أي يبيّن لكم الحكم فِي مسألة الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ أي مات، و ليس معنى «الهلاك» ما يتبادر غالبا من كونه هلاكا سيئا بل مطلقا، كما قال في قصة يوسف عليه السّلام حَتَّى إِذا هَلَكَ «2»، لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ و لا أبوان حتى لا يكون هناك من في الطبقة الأولى كما

دل عليه النص و الإجماع وَ لَهُ أُخْتٌ واحدة فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ فرضا، و النصف الآخر ردّا وَ هُوَ يَرِثُها أي الأخ يرث الأخت، لو كانت الأخت ميتة و الأخ حيا يرث جميع أموالها فرضا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ و لا والدان، و هذا مع قطع النظر عن الزوجين، و إلا فهما يرثان نصيبهما الأعلى و الباقي للكلالة.

فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ أي كان للرجل الميت أختان فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ فرضا و الثلث الآخر قرابة وَ إِنْ كانُوا أي الكلالة التي ترث الميت إِخْوَةً أي جماعة أكثر من الاثنين رِجالًا وَ نِساءً بعضهم أخوان و بعضهم أخوات فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لكل أنثى سهم واحد و لكل ذكر سهمان اثنان، و هذا كله في الأخوة من الجانبين

______________________________

(1) النساء: 13.

(2) غافر: 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 594

أو من جانب الأب، أما الأخوة من جانب الأم فقد سبق حكمهم في أول السورة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الأحكام أَنْ تَضِلُّوا أي لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا. بمعنى: تخطئوا الحكم في مسألة الكلالة وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم الصالح و الفاسد و لذا يكون أمره و نهيه و تقديره عن حكمة و صلاح.

قال في «المجمع»: و قد تضمنت الآية التي أنزلها اللّه في أول هذه السورة بيان ميراث الولد و الوالد، و الآية التي بعدها بيان ميراث الأزواج و الزوجات و الأخوة و الأخوات من قبل الأم، و تضمنت هذه الآية التي ختم بها السورة بيان ميراث الأخوة و الأخوات من الأب و الأم، و الأخوة و الأخوات من قبل الأب عند عدم الأخوة و الأخوات من الأب و الأم. و تضمن قوله سبحانه: وَ

أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «1»، أن تداني القربى سبب في استحقاق الميراث فمن كان أقرب رحما و أدنى قرابة كان أولى بالميراث من الأبعد، و اللّه العالم «2».

______________________________

(1) الأنفال: 76.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 255.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 595

5 سورة المائدة مدنية- آياتها 121

سميت السورة بالمائدة لاشتمالها على كلمة «المائدة»، و حيث ختمت السورة المتقدمة ببيان الحكم بين الميت و الحي، تبتدئ هذه السورة ببيان الحكم بين الأحياء، فقال سبحانه:

[سورة المائدة (5): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و قد كان لتكرار البسملة أول كل سورة تعليما للناس أنهم إذا أرادوا أن يبتدءوا بعمل أن يقولوا هذه الجملة المباركة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 596

[2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا سبق أن الأحكام عامة، و إنما يخاطب المؤمنون بها لكونهم المستفيدين منها أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «الجمع المحلّى بأل» يفيد العموم، أي كل العقود و «عقود» جمع عقد، و هو كل التزام و ميثاق بين جانبين، فتشمل عقود الناس بعضهم مع بعض و المعاهدات الدولية و المواثيق التي بين اللّه و بين خلقه، و حيث كانت المواثيق بين اللّه و الخلق أولى العهود بالوفاء، ابتدأ بها بقوله سبحانه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ فإن الحلال و الحرام و سائر الأحكام عقود بين اللّه و الخلق، أن يعمل الخلق بالأوامر و يجزيهم اللّه عوض ذلك الجنة، كما قال سبحانه: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ «1»، و البهيمة من «الإبهام» يراد بها كل دابة، و الأنعام هي الإبل و

البقر و الغنم و ما أشبهها كالظبأ و اليحمور، و سميت بهيمة لأنها لا تميّز، و الأنعام من «النّعم» لأنها من نعم اللّه على الخلق، و المراد ب «الحلية» الحلية ذبحا و أكلا و انتفاعا.

إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي يقرأ عليكم مما هو محرم و هو قوله سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ «2»، غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ حال من «أحلت» أي أن التحليل في حال كونكم لا تحلّون الصيد في حال الإحرام، و هذا الحال استثناء يأتي بهذه الصورة كما تقول: «يجوز لك أن تتصرف في أموالي في حال

______________________________

(1) التوبة: 111.

(2) المائدة: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 597

[سورة المائدة (5): آية 2]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لا الْهَدْيَ وَ لا الْقَلائِدَ وَ لا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)

كونك لا يجوز لك التصرف في النفائس منها» تريد أن الجواز في غيرها إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل و تحريم و سائر الأحكام مما يراه صلاحا.

[3] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الشعائر جمع شعيرة، و هي الأمر المرتبط بشي ء كأنه من علائمه و مزاياه، فشعائر الحج: الأمور المرتبطة بالحج، و شعائر اللّه الأمور المرتبطة بالله، و لعل اشتقاقها من «الشعر» بمعنى ما ينبت من الإنسان، كأن الشعيرة تلازم الشي ء تلازم الشعر، أو تلازم الشعار- الذي هو

الثوب الذي على الجسد مقابل الدثار الذي هو الثوب الفوقاني- لبدن الإنسان. و الشعائر في الآية- لكونها مطلقة- تشمل كل شي ء كان أو أصبح من الأمور المرتبطة بالله مما لم ينه عنه، فمعالم الحج من الشعائر، كما أن تشييد القباب على أضرحة الأئمة الطاهرين من الشعائر. و المراد من عدم إحلال الشعائر:

خرق حرمات اللّه.

و

قد ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال «نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم، و قيل أنه أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سأله عن معالم الإيمان، ثم أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه دخل بوجه كافر و خرج بعقب غادر، و لما وصل إلى سرح ساقه معه بها و أقبل في القابل حاجا قد قلد هديا، فلما قصد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معاقبته نزلت الآية»

«1» يريد بذلك «آمّين البيت الحرام».

______________________________

(1) البحار: ج 19 ص 148.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 598

وَ لَا تحلوا الشَّهْرَ الْحَرامَ بأن تقاتلوا فيه، و الأشهر الحرم هي: رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم وَ لَا تحلوا الْهَدْيَ و هو الشي ء الذي يهديه الحاج إلى بيت اللّه الحرام للذبح من إبل أو بقر أو غنم، و المراد: لا تحولوا دون بلوغ ذلك إلى محله وَ لَا تحلوا الْقَلائِدَ و هي جمع قلادة، ما يقلد به الهدي من الإبل، و هو أن يقلد في عنقها شي ء ليعلم أنه هدي لا يجوز تحليتها إذ بعد تقليدها تكون لله و لا يجوز الرجوع فيها وَ لَا تحلوا حال كونكم آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ جمع «آمّ» على وزن «مادّ» من «أمّ»

بمعنى قصد أي لا تتعرضوا لمن قصد البيت الحرام لأداء الحج يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً أي يطلبون بقصدهم الحج الفضل- أي الزيادة في الثواب أو المال أو غيرهما- من اللّه و رضاه مقابل من قصد الحج للإفساد فإن صده جائر.

وَ إِذا حَلَلْتُمْ عن الإحرام فَاصْطادُوا الصيد الذي حرمه الإحرام، و الأمر هنا للجواز لأنه في مقام توهم الحضر، و هذا دفع لما تقدم من قوله سبحانه: «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ» فقد كان السياق لبيان المحرمات، و لذا أتت الآية الثانية لبيان سائر المحرمات مما أشير إلى بعضها في الآية الأولى و هو «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ».

ثم إنه لما أنهى سبحانه عن تحليل تلك الحرمات، بيّن أن هذه الحرمات لا فرق فيها بين من اعتدى عليكم و بين من لم يعتد عليكم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 599

[سورة المائدة (5): آية 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

بقوله: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنّكم من «جرمني فلان على أن صنعت كذا» أي حملني شَنَآنُ أي بغضاء و عداوة قَوْمٍ لكم ب أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي منعوكم عنه كما في عام الحديبية.

أَنْ تَعْتَدُوا عليهم بتحليل المحرمات المذكورة بالنسبة إليهم وَ تَعاوَنُوا أيها المسلمون عَلَى

الْبِرِّ أي الخير واجبا كان أو غير واجب وَ التَّقْوى و هو اجتناب المحرمات، بأن يعين بعضكم بعضا في الأعمال الخيرية و ترك الآثام وَ لا تَعاوَنُوا أيها المسلمون عَلَى الْإِثْمِ فإذا أراد أحد منكم أن يعمل إثما فلا تعينوه وَ الْعُدْوانِ أي الظلم و التعدي، و هذا مرتبط بقوله: «أن تعتدوا» فقد جرت العادة أن يتعاون الناس على الإثم و الظلم، و لذا نهى اللّه المسلمين عنه وَ اتَّقُوا اللَّهَ اجتنبوا مخالفته و عصيانه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه و عصاه.

[4] و في سياق المحرمات المرتبطة بالحج- غالبا- ذكر سبحانه قسما آخر من المحرمات و هو ما استثناه سبحانه في الآية السابقة بقوله: «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أيها المسلمون الْمَيْتَةُ و هي التي لم تمت بسبب شرعي من ذبح و نحر و غيره، و ذلك مختلف ففي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 600

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 649

الأنعام مثلا تحتاج التذكية إلى فري الأوداج و سائر الشرائط، و في الصيد رميه، و في السمك موته خارج الماء، و هكذا .. و المراد بالتحريم: أكلها، فإن التحريم الشرعي يراد منه: بحسب الأمر المتوقع منه، فتحريم الحرير يراد به لبسه، و تحريم الأم يراد به اقترابها، و تحريم المسكن يراد به سكناه وَ الدَّمُ و هو ما بيّنه سبحانه في آية أخرى بقوله: دَماً مَسْفُوحاً «1»، أما المقدار المتبقي في اللحم فلا حرمة فيه وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ و خصّص بالذكر مع كثرة تحريم اللحوم لاعتياد الناس أكله و ظنهم طيبه.

ثم لا يخفى أن المحرمات تنقسم إلى قسمين: قسم لما فيه من الإضرار.

أما ما يذكره بعض الناس- الآن من العلم

الحديث- من إمكان التخلص من أضرار لحم الخنزير بالتعقيم، فليس بمحرم إذا عقّم.

فالجواب عنه: أنه أي دليل لعدم وجود أضرار أخرى فيه بعد التعقيم لم يكشف عنها العلم إلى الآن، كما لم يهتد العلم طيلة أربعة عشر قرنا لهذا الضرر الذي اكتشف الآن.

و قسم حرم لجهة معنوية، كالذي لم يسمّ عليه اسم اللّه سبحانه، و هذا لا يتوقف تحريمه على الضرر الجسدي بل يحرم لانحرافه عن الميزان المستقيم.

وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ الإهلال بالشي ء الابتداء به بِهِ أي

______________________________

(1) الأنعام: 146.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 601

الذبيحة التي ذكر اسم غير اللّه عليها عند الذبح- كما تقدم في سورة البقرة «1» وَ الْمُنْخَنِقَةُ و هي ما خنقت بأي نحو كان وَ الْمَوْقُوذَةُ الوقذ هو الضرب، أي التي ضربت حتى ماتت وَ الْمُتَرَدِّيَةُ التردي:

الوقوع من مكان عال، و المراد بها: التي وقعت من مكان عال فماتت، و قد كان أهل الجاهلية يقتلون الحيوان بهذه الكيفيات وَ النَّطِيحَةُ و هي التي ينطحها غيرها فتموت وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ فريسة السبع: و هي التي أكل الحيوان المفترس بعضها و أبقى بعضا، فإنه يحرم أكل الباقي إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ التذكية لغة هي «تمام الشي ء» و المراد بها هنا: تحليل الحيوان بإجراء السنن الشرعية عليه من كون الذابح مسلما، و التوجه إلى القبلة بالذبيحة، و كون آلة التذكية من حديد، و ذكر اللّه حالة الذبح، و فري الأوداج الأربعة، و المراد:

الاستثناء من «ما أَكَلَ السَّبُعُ» و إن كان الحكم عاما أي أنه لو أدركتم ما أكله السبع فذكيتموه فهو حلال.

و إدراكها ما

عن الباقرين عليهما السلام حيث قالا: «إن أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو

تطرف عينه»

«2».

وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جمع «نصاب» و هي الحجارة التي كانوا يعبدونها، أي التي تذبح باسم الأوثان تقرّبا إليها

______________________________

(1) البقرة: 174.

(2) بحار الأنوار: ج 62 ص 107.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 602

وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ الاستقسام طلب القسمة، و الأزلام جمع «زلم» و هو القدح أي السهام، فقد كان أهل الجاهلية يشترون جزورا ثم يكتبون على سهام عشرة أسماء خاصة، فلسهم حصة واحدة، و لسهم حصتان، و هكذا إلى سبعة حصص، و يتركون ثلاثة أسهم لا حصة لها، ثم يجتمعون عشرة أشخاص فيخرج سهم باسم شخص و يعطى بمقدار حصة السهم لذلك الشخص و هكذا .. بعد ما كانوا يقسمون الجذور ثمانية و عشرين قسما، أما ثمن الجزور فقد كان على من يخرج باسم السهام التي لا حصة لها. و هذا نوع من القمار فحرمه الإسلام.

ذلِكُمْ أي الاستقسام بالأزلام أو جميع ما سبق من المحرمات، إتيانها فِسْقٌ و الفسق هو الخروج عن الطاعة و ارتكاب المعصية الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ قال في «مجمع البيان»: ليس يريد يوما بعينه، بل معناه: «الآن يئس الكافرون من دينكم» «1». و روى القمي: إنه يوم نصب الإمام عليه السّلام «2» و هذا هو الأوفق بما تواترت به النصوص و ذكره المفسرون من شأن نزول آية الإكمال، فقد كان الكفار يترقبون أن يترك الرسول الأمر سدىّ حتى إذا قبض و لم يقم له خلف انقضوا على الإسلام يهدمونه، فلما نصب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الإمام يئسوا من ذلك حيث كانوا يعلمون كفاية الإمام و قدرته العظيمة، و لذا لما مات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علم الكفار

و المنافقين باغتصاب الخلافة انقضوا على الإسلام يريدون

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 273.

(2) تفسير القمي: ج 1 ص 162.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 603

اقتلاع جذوره و قد علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك حين وصى الإمام بالصبر و إلا قامت حروب داخلية و خارجية تذهب بالإسلام.

و هنا يتساءل البعض: كيف أن الإمام لما نهض بالأمر نكثت طائفة و مرقت أخرى و قسط آخرون؟ و الجواب: أن الظروف التي تقدمت على نهضة الإمام غيّرت معالم الإسلام، و لذا احتاج الإمام إلى إرساء قواعد الدين من جديد، و ذلك مما يوجب اضطرابا و اختلافا شأن الأنبياء حين يدعون أممهم إلى الخير، لكن الخطر الخارجي كان حين ذاك بعيدا حيث أن الكفار انكمشوا و قوي الإسلام- و لو الصوري منه- و الحروب الداخلية لم تكن تؤثر شيئا بالنسبة إلى انعكاس كفة الإسلام و الكفر، لتميل الكفة الثانية على حساب خفة الكفة الأولى.

فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا على دين الإسلام كما كنتم تخشونهم من قبل وَ اخْشَوْنِ في أن ترتكبوا العصيان و تخالفوا أمر اللّه و الرسل. الْيَوْمَ أي يوم الغدير أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بنصب علي عليه السّلام خليفة من بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فإن نعمة الإسلام دون نعمة الإيمان بالولاية ناقصة وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فإن الإسلام ذو درجات، و اليوم رقيتم الدرجة القصوى فرضي اللّه عن المسلمين بالحال التي و صلوا إليها، و «الرضى» هنا ليس في مقابل السخط بل في مقابل النقص الأثري، كما أن من يريد بناء دار إذا بلغ منتصفها يقول: لم أرض بعد، أي لم يكمل رضاي،

و إنما يقول:

رضيت الآن، إذا تم بناء الدار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 604

[سورة المائدة (5): آية 4]

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)

و قد كان ذلك عند نصب الرسول للإمام أمير المؤمنين خليفته الرسمي بعد منصرفه من حجة الوداع بمحضر مائه و عشرين ألف من الأصحاب من الرجال و النساء،

فصعد المنبر و خطب خطبة طويلة ثم قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله» «1» و هو آخذ بكف علي.

و نزل عن المنبر و أمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين، و بقوا هناك ثلاثة أيام حتى تمت البيعة ثم قفلوا راجعين إلى المدينة.

فَمَنِ اضْطُرَّ إلى أكل المحرمات المذكورة فِي مَخْمَصَةٍ و هي «القحط» يسمى بذلك لإيجابه خمص البطون جوعا غَيْرَ مُتَجانِفٍ أي في حال كون المضطر لم يمل لِإِثْمٍ فإن «الجنف» بمعنى الميل، فلا يفرط في الأكل، كأن يكون محتاجا إلى شرب نصف رطل من الخمر- مثلا- فيشرب رطلا، و كذا بالنسبة إلى الميتة و سائر المحرمات فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر هذه السيئة الذاتية بمعنى عدم العقاب عليها رَحِيمٌ يرحم الناس فلا يجبرهم على الترك حتى عند أشد الضرورات.

[5] و بعد بيان قسم من المحرمات، يأتي السياق لبيان قسم من المحللات لتتعادل الكفتان، و قد ورد في سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر بقتل الكلاب «2»، فسئل عن الاستثناء، فنزلت الآية

تحلل ما يصطاده

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 295.

(2) فقه القرآن: ج 2 ص 245.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 605

الكلاب المعلمة و التي فيها نفع، و نهت عن إمساك ما لا نفع فيه و أمرت بقتل الكلب العقور و ما يضر و يؤذي يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ من المأكولات بقرينة السياق قُلْ يا رسول اللّه: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و الطيب هو الشي ء الذي لا خبث فيه مما لا ينفر منه الطبع، و إذن الشارع في بعض المأكولات دون بعض لهذا الميزان، و إن لم يعرف العرف أن هذا طيب و هذا خبيث، فما أباحه الشارع فهو طيب و إن ظنّه العرف خبيثا، و ما حرمه الشارع فهو خبيث و إن ظنّه العرف طيبا.

وَ أحل لكم صيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ و حذف المضاف أي «صيد» لدلالة قوله: «مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ»، و «الجوارح» جمع جارحة، سمي بذلك الكلب و سائر السباع لأنها تجرح الصيد، ثم خصّص سبحانه عموم الجوارح بقوله: مُكَلِّبِينَ أي في حال كونكم أصحاب كلاب معلّمة، يقال: «كلّب الكلب» إذا علّمه الصيد تُعَلِّمُونَهُنَ أي الكلاب الجارحة.

مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فإن اللّه قد علمكم تعليمهن، و لعل الإتيان بضمير «هن» الذي هو للمؤنث العاقل لانسجام سياق التعليم و التعلم مع ذلك، و إلا فالقاعدة «تعلموها» كما أن فائدة «مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ» لإيقاظ الضمير و توجيهه إلى اللّه سبحانه، فإن القرآن الحكيم يربط الأحكام و القصص بذاك الرباط العام و هو معرفة اللّه و سوق النفس إليه في كل مقام و مناسبة فَكُلُوا أيها الصائدون مِمَّا أَمْسَكْنَ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 606

حفظن و اصطدن تلك الكلاب عَلَيْكُمْ أي لأجلكم

لا لأنفسهن، فإن ذلك حرام وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي على «ما أمسكن» حين إرسال الكلب. و لا يخفى أن بهذا القيد أي «مكلبين» خرج صيد سائر الجوارح إذا لم يدرك الإنسان ذكاته.

روى الحضرمي عن الإمام الصادق عليه السلام قال سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهود و الكلاب؟ فقال: «لا تأكل إلا ما ذكيت إلا الكلاب». فقلت: فإن قتله؟ قال: «كل، فإن اللّه يقول: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» ثم قال عليه السلام: «كل شي ء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب المعلمة فإنها تمسك على صاحبها»

«1» و إنما تعدى الإمساك ب «على» لإفادة الإمساك ثقلا و مشقة، أو يتضمن معنى «الرد» فالكلب يرد بعض الحيوان لصاحبه و قد أكل بعضه، كما قال سبحانه: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ «2».

وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم و نهاكم فلا تتناولوا ما حرمه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فإن الإنسان و إن ظنّ طول المدة في الدنيا و أنه بعيد جزاؤه، لكن لا تمض إلا مدة يسيره و إذا به يرى نفسه أمام الحساب.

قال أمير المؤمنين عليه السلام «فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا و كأن الآخرة لم تزل لهم دارا»

«3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 23 ص 333.

(2) الأحزاب: 38.

(3) نهج البلاغة: خطبة 186 ص 385.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 607

[سورة المائدة (5): آية 5]

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ

بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)

[6] الْيَوْمَ الذي تمّ فيه بيان كل الأحكام، و نوجز المحللات فنقول:

أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و هذا عام يشمل الطيب من المآكل و المناكح و المساكن و الملابس و غيرها بقرينة «و المحصنات» بخلاف الآية السابقة التي كانت خاصة بالمأكل بحكم السياق، و هذه الآية تدل على كون الأصل في كل الأشياء الحلّ إلا ما خبث، و من المعلوم أن الخبث لا يميّز إلا بالشرع أو بالعقل نادرا وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي الذين أرسل لهم الكتاب السماوي كاليهود و النصارى و المجوس حِلٌّ لَكُمْ و الطعام إما المراد به الحبوب، كما هو المروي و المتعارف إلى اليوم، فإن كلمة «باعة الأطعمة» أو ما أشبهها تنصرف إلى باعة الحبوب، أو المراد به العام لكل طعام، و قد استثني من ذلك الذبائح، لقوله سبحانه: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ «1»، و ألحق به غيره إجماعا، كما استثني ما لامسة الكتابي برطوبته لأنهم مشركون لقوله سبحانه: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «2»، و في آية أخرى حكم بنجاسة المشرك بقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «3»، و تفصيل البحث في الفقه «4».

و هنا سؤال يفرض نفسه و هو: ما الفائدة من هذا التنصيص و الحال أن طعام غير أهل الكتاب حلّ أيضا؟ و الجواب: إنه من باب المورد و القيد الغالب لابتلاء المسلمين به غالبا، كما يدل على ذلك وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ و من المعلوم أن طعام المسلم حلّ حتى

______________________________

(1) البقرة: 174.

(2) الأعراف: 191.

(3) التوبة: 28.

(4) موسوعة الفقه: ج 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 608

للمشرك الوثني، ثم لو قلنا: إن الجملة عامة لكل طعام، فهل

معنى حلية طعامنا لهم الحلّية بالنسبة إلينا أي أن طعامهم حل لنا، أو الحلية بالنسبة إليهم أي يجوز لهم أن يطعموه؟ الظاهر الثاني، و إن كان لا يبعد الأول لأن قاعدة «ألزموهم بما التزموا به» تقتضي كون الحرام عندهم من أطعمتنا كذبائحنا بالنسبة إلى اليهود مثلا، لا يجوز لهم أن يطعموه. و في الكلام مناقشة.

وَ أحلت لكم الْمُحْصَناتُ أي العفيفات اللاتي أحصن أنفسهن عن الحرام مِنَ النساء الْمُؤْمِناتِ بأن تنكحوهن، أما الزانيات غير العفيفات فالمشهور بين العلماء جواز نكاحهن بالسّنّة، و لا مفهوم للآية حتى يمنع عن ذلك، لما ثبت في الأصول من عدم حجية مفهوم اللقب و إنما خصّصن لأنهن من «الطيبات».

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوا الكتاب مِنْ قَبْلِكُمْ و هم اليهود و النصارى و المجوس- و المجوس أهل كتاب على الأصح- و قد اختلف العلماء في جواز نكاحهن نكاحا دائما بعد كون المشهور جواز نكاحهن منقطعا، و لو قلنا بعدم جواز الدائم فهو تخصيص بالسنّة، و قد ثبت جواز تخصيص الكتاب بالسنة الواردة إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي أعطيتموهن مهورهن، و ليس معنى «الإعطاء» الإعطاء الفعلي بل ذلك و إن كان في المستقبل، و لا مفهوم للآية بالنسبة إلى الحكم الوضعي حتى يكون: «من لا يريد الإعطاء إطلاقا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 609

و لم يعط تحرم عليه المرأة المزوجة» بل المراد: الحكم التكليفي، أي أن ذلك حرام لا يجوز و هذا تحريض للإعطاء.

في حال كونهم مُحْصِنِينَ بالمسلمة أو الكتابية، بأن كان اقترابكم منهن بالإحصان و النكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ تأكيد لقوله «محصنين» و السفاح هو الزنا وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ الخدن هو الصديق، و هو أن ينفرد الرجل بالمرأة يزني بها

دائما فهي و هو خدنان، أي أنه لا يجوز للرجل بالنسبة إلى المسلمة و الكتابية ذلك كما لا يجوز العكس. و قد تقدم شبه هذا في سورة النساء، و معنى الآية جملة: أن مقاربة المرأة المسلمة العفيفة و الكتابية العفيفة يجوز لكم و يطيب، و أعطوا مهورهن، لكن اللازم أن يكون الاقتراب بالنكاح لا بالسفاح أو باتخاذهن أخدانا كما يكثر الأمران عند غير المسلمين.

ثم إن ما ذكرناه من المحرمات و المحللات كلها من مقتضيات الإيمان الواجب التمسك به وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ تعبير آخر عن المعصية و الخروج عن الطاعة، و لعل الإتيان بهذه اللفظة هنا لإفادة أن الكفر- في باب المحللات و المحرمات- ليس بالأصول و إنما هو بالفروع، و قد تقدم في بعض الآيات أن الكفر قسمان: كفر بالأصول هو الموجب لخروج الإنسان عن كونه مسلما، و كفر بالفروع، كما قال سبحانه: وَ مَنْ كَفَرَ «1»، و قال وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ «2»، و هو الموجب لكون

______________________________

(1) النور: 56.

(2) إبراهيم: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 610

[سورة المائدة (5): آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

الإنسان فاسقا فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ معنى «الحبط» عدم استحقاق الثواب على العمل كما قال سبحانه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1»، وَ هُوَ

الكافر بالإيمان فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ اللذين خسروا أنفسهم حيث استحقوا العقاب حين استحق سائر المطيعين الثواب.

[7] و في سياق ذكر الطيبات و الملاذ الجسدية يأتي دور الطيبات و الملاذ الروحية التي من أكثرها طيبا و لذة الصلاة بما لها من طهارة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي أردتم إياها فان المريد لشي ء يقوم إليه ليأتي به، ألا ترى أن الناس يقعدون إلى أشغالهم فإذا أذّن المؤذن قاموا إلى الصلاة ليأتوا بها فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ من قصاص الشعر إلى الذقن طولا، و ما اشتملت عليه الإبهام و الوسطى عرضا، بالماء الطاهر المباح، غسلا طبيعيا، من الأعلى إلى الأسفل وَ اغسلوا أَيْدِيَكُمْ و لما كان المنصرف من «اليد»: تمام اليد إلى الكتف، أخرجه بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ فإن الغسل يستثني منه غسل العضد و لذا لا يستفاد من «إلى» هذه كونها غاية للغسل بل المستفاد كونها غاية للمغسول، فإنك لو قلت لمصاب بالمرض: ادهن رجلك إلى الركبة.

لم يستفد عرفا منه لزوم كون التدهين من الإصبع إلى الركبة بل استفيد كون الفخذ خارجا عن التدهين، و على هذا فاللازم الابتداء من الأعلى لأنه الغسل الطبيعي الذي وردت به السنة وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ

______________________________

(1) المائدة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 611

«الباء» للتبعيض أي: بعض رؤوسكم، و هو الربع المقدم من الرأس من المفرق إلى قصاص الشعر وَ امسحوا أَرْجُلَكُمْ و المراد بهما ظهرهما إِلَى الْكَعْبَيْنِ و هما قبتا القدمين، و إنما قرء بالنصب مع أنه معطوف على المجرور باعتبار المحل، و قد كان الترتيب المجزي قطعا في باب الوضوء غسل الوجه ثم اليد اليمنى ثم اليسرى ثم مسح الرأس ثم الرجل اليمنى ثم اليسرى، و المسح

ببقية بلل الوضوء.

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً «الجنب» لفظ يقع على المفرد و المثنى و الجمع، و المذكر و المؤنث، بلفظ واحد، هو من «البعد»، كأن الإنسان إذا اعترته هذه الحالة يبتعد من النظافة، و حصول الجنابة بالإنزال أو الإدخال فَاطَّهَّرُوا من «تطهر» ثم أدغمت التاء في الطاء و جي ء بهمزة الوصل لامتناع الابتداء بالساكن، و التطهير هو الاغتسال بالارتماس في الماء مرة واحدة، أو الترتيب بغسل الرأس و الرقبة ثم الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى لا تتمكنون من استعمال الماء للوضوء أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين- و قد سبق أن ذكر السفر لغلبة عدم وجود الماء فيه- أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ و «الغائط» هو المحل المنخفض من الأرض و سمي البراز به بعلاقة الحال و المحل و ذلك كناية عن الحدث أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ و هو كناية عن الجماع فَلَمْ تَجِدُوا ماءً هذا مرتبط بالسفر و الحدث و اللمس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 612

فَتَيَمَّمُوا معنى الآية بالجملة: إن مريد الصلاة يلزم عليه الوضوء و الغسل إن كان جنبا. و إن كان مريضا يضره الماء أو مسافرا أو مجامعا، و لم يجد الماء للغسل أو الوضوء فليتيمّم و يبقى قوله: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» فإنه ليس في مرتبة تلك الأمور، و لعل الإتيان به لمراعاة غلبة التخلي عند إرادة الصلاة.

و قد سبق أن التيمم مصدر باب التفعل بمعنى القصد، أي اقصدوا صَعِيداً أي أرضا طَيِّباً ليس بنجس و لا مغصوب فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ الباء للتبعيض، أي بعض وجوهكم، و هو من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى وَ أَيْدِيَكُمْ من الزند إلى رؤوس الأصابع مِنْهُ أي مبتدءا

بالمسح من ذلك الصعيد، فاللازم أن يضرب باليدين على الأرض ثم يمسح بها ليصدق «منه».

ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ من ضيق فأمره بالوضوء و الغسل و التيمم ليس لأجل التضييق عليكم وَ لكِنْ يُرِيدُ اللّه سبحانه لِيُطَهِّرَكُمْ و ينظفكم من الأدران و الأوساخ الظاهرية و الباطنية، أما تطهير الغسل و الوضوء من الأدران فظاهر، و أما تطهير التيمم فقد ثبت في العلم الحديث أن التراب يقتل الجراثيم بمرتبة أضعف من مرتبة الماء وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بإرشادكم إلى مصالحكم كلها بعد ما أرشدكم إلى أكبر النعم و هو الإيمان لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إياه بما أنعم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 613

[سورة المائدة (5): الآيات 7 الى 8]

وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)

عليكم و أرشدكم إلى مصالحكم و ما يقربكم منه سبحانه.

[8] وَ إذ أتم سبحانه نعمته عليكم ف اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ اذكروا مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أي عهده الذي عاهدكم به من الإيمان و السمع و الطاعة، فقد أخذ سبحانه ميثاق الأمم على يد الأنبياء إِذْ قُلْتُمْ بعد ما آمنتم: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا فعليكم حسب المعاهدة السمع و الطاعة و على اللّه الإسعاد في الدنيا و الآخرة، و اللّه سبحانه فعل ما عليه فعليكم أن تفعلوا ما عليكم وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تخالفوا أوامره و نواهيه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ في «ظلال

القرآن» قال: و «ذات الصدور» أي صاحبة الصدور الملازمة لها اللاصقة بها، و هي كناية عن النيات المقيمة و الأسرار الدفينة و المشاعر التي لها صفة الملازمة للقلوب و الاستقرار في الصدور و هي على خفائها هناك مكشوفة لعلم اللّه و اللّه بها عليم.

[9] ثم يرجع السياق إلى لزوم الجادة و عدم الاعتداء- كما سبق- في قوله:

وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ «1»، كما تجد مثل ذلك كثيرا في القرآن الحكيم حيث يلطف الجو بذكر الصلاة و نحوها ثم يرجع إلى المطلب السابق بعد ما لطف الجو و ربطه بالطابع الإلهي العام و أخرج الكلام عن كونه مملّا. ثم إن ما يأتي هو من الميثاق الذي واثق اللّه

______________________________

(1) المائدة: 3

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 614

[سورة المائدة (5): آية 9]

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9)

عباده به يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي كثيري القيام لأمر اللّه سبحانه و رضاه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أي بالعدل في كل أمر من الأمور وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي: عداؤهم لكم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا في الحكم عليهم و عند مخالطتهم، فإن الإنسان إذا عادى شخصا لا يعدل بالنسبة إليه- غالبا- انتقاما و شفاء لما في صدره من الضغينة عليه، و لذا كان من أسس الإسلام قول الحق في الرضى و الغضب اعْدِلُوا هُوَ أي العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى و ليس المفهوم: أن الجور قريب إلى التقوى، فإن التفضيل في مثل المقام ينسلخ عن معناه اللغوي وَ اتَّقُوا اللَّهَ باجتناب نواهيه و الإتيان بأوامره إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير و إن شرا

فشر.

[10] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسله و ما جاءوا به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ و ذلك يلازم ترك السيئات لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ و جملة «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» في موضع نصب مفعولا ل «وعد» و لعلّ سر الإتيان بالجملة، إفادة أن المطلب مقطوع به، فإن الجملة الاسمية تفيد اليقين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 615

[سورة المائدة (5): الآيات 10 الى 11]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

[11] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فلم يؤمنوا إيمانا صحيحا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا براهيننا و أدلتنا التي أقمناها على التوحيد و سائر الأصول أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ الذين يصاحبون النار و يخلدون فيها.

[12] ثم ذكّر المؤمنين بنعمة من نعمه سبحانه و أنه كيف و في لهم بميثاقه حيث أنقذهم من كيد أعدائهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَ أي قصد و أراد قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ و المراد ب «بسط اليد» إيذاؤهم و قتلهم و استئصالهم. قال القمي يعني: أهل مكة من قبل فتحها، فكف أيديهم بالصلح يوم الحديبية «1». و قيل: إن المراد بذلك العموم، أي من أراد السوء بالمسلمين. و قيل: المراد بالقوم خصوص بني النظير حيث أرادوا قتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبر بذلك فنجى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كيدهم. و قيل غير ذلك فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي منعهم من الفتك بكم بل نصركم عليهم وَ اتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره و اجتناب زواجره

وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يكلون إليه سبحانه أمورهم و يجعلونه نصيرا و ظهيرا لهم.

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 163.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 616

[سورة المائدة (5): آية 12]

وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)

[13] لو كانت الآية السابقة حول بني النظير- و هم من اليهود- لكان الارتباط بين الآيتين واضحا، إذ بيّن سبحانه هنا أنهم خانوا الأنبياء مع ما تفضل اللّه عليهم بكل خير و نعمة، فكيف لا يريدون خيانة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟! و يحتمل أن يكون الارتباط من جهة الميثاق فيريد سبحانه أن يذكر المسلمين حتى لا يكونوا كاليهود الذين خانوا و نقضوا الميثاق بعد أخذه منهم إذ قد سبق قوله: وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ «1» وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ العهد الأكيد الذي أخذه اللّه منهم على لسان أنبيائه وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً من «النقب» و هو الكشف، فكأن النقيب- و هو كفيل القوم- ينقب عن أسرارهم و يكشف ضمائرهم ليسير بهم نحو الخير و الصلاح في المجتمع. أي أمرنا موسى بأن يبعث من الأسباط الاثني عشر، اثنى عشر رجلا كالطلائع يتحسّسون و يأتون بني إسرائيل بأخبار أرض الشام و أهلها الجبارين، فاختار من كل سبط رجلا يكون لهم نقيبا- أي أمينا كفيلا- فرجعوا يثنون قومهم عن قتالهم لما رأوا من شدة بأسهم

و عظم خلقهم إلا رجلين منهم، بن يوقنا و يوشع بن نون وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أي قال لبني إسرائيل، و كونه معهم بمعنى أنه يؤيدهم و ينصرهم و يهديهم لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ يا معشر بني إسرائيل وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ أي أعطيتموها

______________________________

(1) المائدة: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 617

[سورة المائدة (5): آية 13]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي الذين يأتون من بعد موسى عليه السّلام و لذا أخّر الإيمان عن إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ أي عظمتموهم، أو نصرتموهم وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي أنفقتم في سبيله، فإنه كالقرض الذي يعطى ثم يؤخذ، و المراد بكونه «حسنا» أن لا يكون فيه منّ و لا أذى و لا دواع غير اللّه سبحانه لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ أي أذهبن، و معنى «التكفير» التغطية، أي أغطي بالغفران سَيِّئاتِكُمْ التي صدرت منكم، و هو جواب «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ» وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت قصورها و بساتينها فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد أخذ الميثاق مِنْكُمْ يا بني إسرائيل فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي أخطأ وسط الطريق، فإن سواء كل شي ء وسطه.

[14] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي بسبب نقض اليهود ميثاقهم الذي كان بيني و بينهم حيث أنهم تركوا الصلاة و منعوا الزكاة و كذبوا بالرسل و قتلوهم لَعَنَّاهُمْ أي طردناهم عن ساحة القرب و قطعنا رحمتنا عنهم حيث جعلنا بعضهم قردة و خنازير و جعلناهم مشردين مطرودين دائما لا

تقوم لهم قائمة وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 618

و تميل نحو الظلم و الكفر. و جعله سبحانه قلوبهم قاسية، بمعنى: تركه اللطف بهم حتى تردّت ملكة أخلاقهم، كمن يعصي أستاذه في أوامره فيترك تدريسه و تهذيب أخلاقه حتى يصبح جاهلا ذا أخلاق سيئة.

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جمع كلمة عَنْ مَواضِعِهِ و تحريفهم الكلم على قسمين: قسم بمحو بعض التوراة، و قسم بتأويله على غير المعنى المقصود منه.

وَ نَسُوا حَظًّا أي قسما مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي من الأحكام التي ذكّرناهم بها في التوراة فإنه قد فقد بعض التوراة مما لا يعلّمونه للناس، أو المراد من «النسيان» أنه صار كالمنسي عندهم من جرّاء عدم العمل، فإن النسيان يطلق على ما أهمله الإنسان يقال: «نسيني» أي أهملني، و قال سبحانه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «1»، وَ لا تَزالُ يا رسول اللّه تَطَّلِعُ باستمرار عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي طائفة خائنة، أو نفس خائنة، إذا قالوا قولا خالفوه و إذا عاهدوا عهدا نقضوه- كما أراد بنو النظير الغدر به و الخيانة بعد الميثاق- إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ إما استثناء من الجميع أو من الجملة الأخيرة، فإن «قليلا منهم» ليسوا كذلك كعبد اللّه بن سلام، أو إن «قليلا منهم» لا يخون فَاعْفُ عَنْهُمْ أي عن

______________________________

(1) التوبة: 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 619

[سورة المائدة (5): آية 14]

وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)

هؤلاء وَ اصْفَحْ أي تجاوز، فإنك لست منتقما، و أن ذلك ليس من شأنك إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فإن

العفو و الصفح إحسان، و الإحسان محبوب حتى بالنسبة إلى المجرم.

[15] هذا كان شأن اليهود، أما النصارى فليسوا أحسن حالا من اليهود في بعض الجهات وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى قولا باللفظ لا اعتقادا بالقلب، كما تقول: فلان يقول إني مسلم، تريد بذلك أنه ليس بمسلم حقيقة بل مسلم قولا أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ من إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الإيمان بالرسل و اتباع أوامر اللّه فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كما نسي اليهود ذلك من ذي قبل فَأَغْرَيْنا التسليط و التحرّش و التحريض بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فإنهم انقسموا إلى أقسام و أخذ بعضهم يعادي بعضا عداء لا مثيل له، حتى إن عداء بعضهم بلغ إلى حد لم يبلغ عداؤهم لليهود و المسلمين و الوثنيين، و قد شهد التاريخ قديما مذابح في فرق النصارى و معاداة الكاثوليك و البروتستانت و الأرثوذكس فعلا لا يحتاج إلى برهان، و هذه إحدى معجزات القرآن الحكيم، كإخباره عن ذلّة اليهود ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ «1».

______________________________

(1) البقرة: 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 620

[سورة المائدة (5): آية 15]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15)

و هنا سؤال و هو: كيف يكون إلى يوم القيامة، و في زمان المهدي عليه السّلام الكلّ يسلم وجهه إلى اللّه؟ ثم إن يوم القيامة إنما يكون بعد موت الناس عشرات السنوات؟

و الجواب: إن هذا معناه: بقاء العداوة ما بقوا، يعبّر عن استمرار الشي ء إلى الآخر بمثل هذا التعبير.

وَ سَوْفَ في يوم القيامة يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ أي يخبرهم

سبحانه بِما كانُوا يَصْنَعُونَ و يقف التعبير إلى هذا الحد ليرسم صورة من التهديد، كما تقول للمجرم: غدا أنبئك بما عملت اليوم، تريد بذلك تهديده بالعقاب القاسي.

[16] ثم خاطب سبحانه أهل الكتاب بصورة عامة لهدايتهم سواء السبيل:

يا أَهْلَ الْكِتابِ أيها اليهود و النصارى- و لعل المجوس أيضا داخلون في الخطاب- قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ من أحكام اللّه سبحانه التي عارضت مصالحهم فأخفوه عن الناس إبقاء على كيانهم و انحرافهم وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ممّا استوجبوه من العقاب، أو يعفو عن بعض الأحكام التي أوجبت عليهم العقوبة، كما قال سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 621

[سورة المائدة (5): آية 16]

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1»، فالفرصة سانحة الآن لتتداركوا ما فات منكم.

قَدْ جاءَكُمْ يا أهل الكتاب مِنَ اللَّهِ نُورٌ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكما أن النور الخارجي يهتدى به إلى الأمور المحسوسة في الظلمة، كذلك النور المعنوي يهتدى به إلى دروب الحياة في ظلمات الأهواء و الجهل وَ كِتابٌ مُبِينٌ هو القرآن، فإنه واضح لا لبس فيه و لا غموض.

[17] يَهْدِي بِهِ أي بكل واحد من «النور و الكتاب»، كما قال سبحانه:

فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ «2» أي كل واحد منهما اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي من اتبع رضوان اللّه- أي رضاه- بقبول القرآن و نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سُبُلَ السَّلامِ أي طرق السلامة في

كل شي ء، السلامة في الدين، و السلامة في الدنيا، و السلامة في الآخرة للفرد و المجتمع وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فإن الحياة ظلمات لا يدري الإنسان كيف يسير في دروبها، و بالقرآن و النبي يهتدي إلى الحق و ينير طريقه بِإِذْنِهِ بإذن اللّه و لطفه وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يوصلهم إلى

______________________________

(1) النساء: 161.

(2) البقرة: 260.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 622

[سورة المائدة (5): آية 17]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17)

سعادة الدنيا و الآخرة.

[18] إنه يهدي إلى الصراط المستقيم في العقيدة لا الاعتقاد بأن المسيح هو اللّه أو الاعتقاد بأن لله أبناء لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فإنه سواء جعلوه إلها واحدا أو شريكا له، فقد كفروا، إذ إنكار اللّه سبحانه و التشريك معه كلاهما كفر قُلْ يا رسول اللّه في إبطال قولهم: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من يقدر على أن يدفع أمرا من أوامر اللّه و إرادة من إرادته إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إن النصارى يعترفون بذلك، و أنه بإمكان اللّه أن يهلك كل أولئك، فكيف يجتمع هذا الاعتراف مع الاعتقاد بألوهية المسيح؟ إن الإله لا يمكن لأحد مخالفة أمره التكويني فكيف يتمكن أحد إهلاكه؟

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فكيف يمكن أن يكون له شريك مع أن

كل شي ء يتصور فهو ملك لله؟ و هل يمكن أن يكون إله مملوك؟ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إن شاء خلق من غير ذكر و لا أنثى كآدم و حواء عليهما السّلام، و إن شاء خلق من ذكر و أنثى كسائر الناس، و إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 623

[سورة المائدة (5): آية 18]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)

شاء خلق من أنثى دون ذكر كالمسيح عليه السّلام، فليس في خلقه دلالة على ألوهيته كما زعمت النصارى وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ليست قدرته منحصرة في شي ء أو أشياء خاصة حتى إذا كان قد خلق بذلك الشكل «بشكل عيسى» دل على أنه ليس من خلقه.

[19] وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما حذّرهم نقمة اللّه و عذابه قالوا: نحن أبناؤه، و الابن الحبيب لا يخاف من نقمة الأب الودود قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء المفترين: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ اللّه بِذُنُوبِكُمْ حيث تعترفون بما حكى القرآن عنهم:

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1»، فإن كنتم أبناء أحباء لم يكن معنى للعذاب، و لعل المراد من «المستقبل»: الماضي، أي لم عذبكم سابقا بذنوبكم حيث جعل منكم القردة و الخنازير و أشباه ذلك؟ بَلْ أَنْتُمْ أيها اليهود و النصارى بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ تعالى إن أحسنتم جوزيتم و أن أسأتم جوزيتم كما يجازى غيركم من الناس يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ من العاصين وَ يُعَذِّبُ

مَنْ يَشاءُ منهم، لأنه لا بنوّة و لا عواطف خاصة بين اللّه و بينكم وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فليس

______________________________

(1) البقرة: 81.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 624

[سورة المائدة (5): الآيات 19 الى 20]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)

شي ء من نفس اللّه حتى لا يملكه سبحانه- كما تدعون أنتم من كونكم أبناءه- وَ ما بَيْنَهُما من سائر المخلوقات و المراد بالسماء هنا:

الكواكب و ما يرى في ناحيتها- كما هو المنصرف- حتى يتصور ما بينهما، لا جهة العلو وَ إِلَيْهِ سبحانه الْمَصِيرُ المرجع و المآل، فليس هناك غيره يملك شي ء أو يرجع إليه في أمر.

[20] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ الأصول و الفروع عَلى حين فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي انقطاع منهم، فلم يكن قرب بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبي، و قد كنتم في جهالة و ضلالة، و الآن جاء المعلم المنقذ الهادي. و لعل سر «تبيين الأمر» و بوضوح أن الدنيا لا تستقيم إلا بهدى السماء، فإنه لما انقطع الوحي في الفترة ساد العالم خراب و فوضى لا مثيل لها، و بذلك يكون تجربة عملية، و إنما جاء الرسول لئلّا تحتجوا و أَنْ تَقُولُوا يوم القيامة: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ

لا نَذِيرٍ حتى نهتدي و نصلح فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ لمن آمن و اتقى بالجنة وَ نَذِيرٌ لمن كفر أو عصى بالنار وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر على أن يرسل الرسول، فليس لشخص أن يقول: كيف يكون هذا رسول؟

[21] و يرجع السياق إلى قصة بني إسرائيل الذين نقضوا كل المعاهدات و المواثيق و لم يفوا لموسى نبيهم المعترف به، فكيف يفون لغيره ممن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 625

لا يعترفون به عنادا و حسدا؟! وَ اذكر إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فقابلوها بالإطاعة و اتباع الأحكام إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فقد كان سبعون نبيا في عهد موسى عليه السّلام. و لعل سر كثرة الأنبياء عليهم السّلام في تلك الأزمنة كون البشر في مثل حال الأطفال الذين يحتاجون إلى عدد من المربين، بخلاف عهدي عيسى عليه السّلام و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث نضج البشر أكثر فأكثر، كالكبار الذين لا يحتاجون إلّا إلى مرشد واع.

و هنا نكتة لا بد من ذكرها و هي أن الانهزامية الغربية التي غزت نفوس المسلمين جعلتهم يفكرون فيما يخص الأنبياء عليهم السّلام و الأمم كما فكر «دارون» و تلاميذه القائلون ب «نظرية التطور» مع العلم أن القرآن و السنة يكذّبون ذلك و أن أول بشر على وجه الأرض كان نبيا أوتي النبوة من بين جميع أولاده و زوجته الذين بعث إليهم نبيا. و هكذا تسلسلت الأمم كلما ابتعدوا عن النبي توحشوا و كلما اقتربوا إليه ارتقوا في مدارج الإنسانية. و بنو إسرائيل كانوا أمة بعيدة عن الإنسانية و الفضيلة- بأنفسهم- لا أن من هم قبلهم كانوا أكثر توحشا كما يقول

أصحاب «نظرية التطور» و يتصورون كذبا و اختلافا و تقليدا أن إنسان الغاب و قبله تطور من القرد، و من حسن الحظ أن علماء الغرب نقدوا رأي «دارون» و أقاموا أدله على بطلانه، لكن المنهزمين عندنا لا زالوا في هزيمتهم النكراء يلعقون قصاع «دارون».

وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً فقد كان فيهم الملوك و الساسة و القادة وَ آتاكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 626

[سورة المائدة (5): الآيات 21 الى 22]

يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)

أي أعطاكم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من إنزال المنّ و السلوى و التفضيل على سائر الأمم الذين في زمانهم، بجعلهم من نسل الأنبياء، و لبث الأنبياء فيهم، و جعلهم ملوكا، و إغراق أعدائهم إلى غيرها.

[22] يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ و هي أرض الشام التي قدست و طهّرت من الشرك و بوركت بكثرة الأشجار و الأنهار و طيب الهواء و كثرة الأنبياء فيها، و قد كانوا في مصر عبيدا و ها هم قد نجوا من أعدائهم، و يريد اللّه بهم أن يدخلوا الشام ليكونوا فيها سادة و ملوكا الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فيها السيادة و السعادة وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ سعادة الدنيا و ثواب الآخرة، بسبب تخيّركم الأمكنة المريحة لكم في الدنيا، و عدم سماع أمر اللّه الموجب لحرمانكم من الثواب في الآخرة.

[23] قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها في الأرض المقدسة قَوْماً جَبَّارِينَ شديدي البأس و البطش وَ

إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أي الأرض المقدسة حَتَّى يَخْرُجُوا أي يخرج الجبارون مِنْها هم بأنفسهم بدون تعب أو نصب أو قتال فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ فيها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 627

[سورة المائدة (5): آية 23]

قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)

قال في «المجمع»- بتخليص-: قال المفسرون: لمّا عبر موسى و بنوا إسرائيل البحر و هلك فرعون، أمرهم سبحانه بدخول الأرض المقدسة، فلما نزلوا على نهر الأردن خافوا من الدخول، فبعث موسى من كل سبط رجلا و هم الذين ذكرهم اللّه في قوله: وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «1»، فعاينوا من عظم شأنهم و قوتهم شيئا عجيبا فرجعوا إلى بني إسرائيل فأخبروا موسى عليه السّلام بذلك، فأمرهم أن يكتموا ذلك فوفى اثنان منهم يوشع بن نون و كالب بن يوقنا و عصى العشرة و أخبروا بذلك و فشا الخبر في الناس، فقالوا: إن دخلنا عليهم تكون نساؤنا و أهالينا غنيمة لهم، و هموا بالانصراف إلى مصر و هموا بيوشع و كالب أن يرجموهما بالحجارة، فاغتاظ لذلك موسى و قال: «إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي»، فأوحى اللّه إليهم: «إنهم يتيهون في الأرض أربعين سنة و إنما يخرج منهم من لم يعص اللّه في ذلك». فبقوا في التيه أربعين سنة في ستة عشر فرسخا و هم ستمائة ألف مقاتل لا تتخرّق ثيابهم و تثبت معهم و ينزل عليهم المن و السلوى، و مات النقباء غير يوشع و كالب، و مات أكثرهم و نشأت ذريتهم فخرجوا إلى حرب أريما و فتحوها «2».

[24] قالَ رَجُلانِ هما يوشع و كالب مِنَ

الَّذِينَ يَخافُونَ اللّه تعالى فيتبعون أوامره و زواجره أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالدين و العقل ادْخُلُوا يا بني إسرائيل عَلَيْهِمُ أي على هؤلاء الجبارين الْبابَ أي باب

______________________________

(1) المائدة: 13.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 308.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 628

[سورة المائدة (5): الآيات 24 الى 25]

قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)

المدينة فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ أي الباب فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ فقد كان أخبرهم موسى عليه السّلام بالنصر وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا في نصرة اللّه لكم على الجبارين إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إيمانا حقا، فإن من توكل على اللّه كفاه.

[25] قالُوا أي قال بنو إسرائيل لموسى عليه السّلام: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أي لن ندخل المدينة أَبَداً ما دامُوا فِيها أي ما دام الجبارون في المدينة، فقد خافوا منهم و لم يثقوا بوعد اللّه النصر لهم فَاذْهَبْ يا موسى أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا الجبارين. و لعل مرادهم ليس ما ينافي نزاهة اللّه عن التجسيم، بل قصدوا أن الرب يدفع عنهم، كما قال سبحانه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى «1»، و قال: وَ جاءَ رَبُّكَ «2»، و لذا لم ينكر موسى عليه السّلام مقالتهم، أو أنهم قصدوا التجسيم و أنكر موسى لكن القرآن لم يحك ذلك لأنه ليس بصدد بيان الواقعة بكل مزاياها إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ننتظر تطهير المدينة من الجبارين حتى ندخلها، أما أن نحارب الجبارين فلا طاقة لنا بذلك و لا نقدم عليه.

[26] قالَ موسى عليه السّلام معتذرا لله عن مخالفة قومه مخاطبا اللّه

سبحانه:

______________________________

(1) الأنفال: 18.

(2) الفجر: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 629

[سورة المائدة (5): الآيات 26 الى 27]

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)

رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي هارون فأنا وحدي الذي أطيع أوامرك و كذلك أخي هو الذي يطيعني و يسمعني إذا أمرته بشي ء، أما هؤلاء فليسوا كذلك، أما يوشع عليه السّلام و من كان على شاكلته فلعلهم لم يكونوا حاضرين إذ ذاك عند هذا الحوار فَافْرُقْ أي افصل اللهم بَيْنَنا أنا و أخي وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الذين لا يطيعون الأوامر.

و المراد ب «الفرق» عدم إجراء حكم واحد عليهم في الدنيا و الآخرة، فإنهما عليهما السّلام قد باينا قومهما بالإطاعة حين عصى أولئك.

[27] قالَ اللّه تعالى لموسى عليه السّلام: و إذ عصوني و لم يؤمنوا بوعدي فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ دخولها، أي نمنعهم عنها أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ من «تاه» إذا ضلّ و لم يهتد الطريق إلى مقصده فِي الْأَرْضِ فإنهم كانوا يمشون إلى الليل فإذا أرادوا في اليوم الثاني السفر رأوا أنفسهم في مكانهم السابق فَلا تَأْسَ أي لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ و أنهم كيف تاهوا أربعين سنة و وقعوا في هذه الصعوبة.

[28] إن حال اليهود في نقض العهود و ارتكاب الفواحش بلا مبرر حال ابني آدم عليه السّلام هابيل و قابيل، فإن اللّه أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية و اسم اللّه الأعظم إلى هابيل و كان قابيل أكبر، فبلغ قابيل فغضب

فقال: أنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 630

[سورة المائدة (5): آية 28]

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28)

أولى بالكرامة و الوصية. فأمرهما أن يقرّبا قربانا بوحي من اللّه إليه ففعلا، فتقبّل قربان هابيل حيث أخلص و قدم خير ماله، و لم يتقبّل قربان قابيل حيث أساء النية و قدم شر ماله. و لما رأى قابيل أن قربانه لم يقبل حسد و عمد إلى هابيل و وضع رأسه بين حجرين فشدخه فمات، و لم يدر ماذا يصنع بجثته، فجاء غرابان فقتل أحدهما الآخر و دفن جثته، فتعلم قابيل فدفن جثة هابيل وَ اتْلُ أي أقرأ عَلَيْهِمْ أي على اليهود يا رسول اللّه نَبَأَ أي خبر ابْنَيْ آدَمَ هابيل الصالح و قابيل الطالح بِالْحَقِ أي تلاوة بالحق و الصدق، فليس فيه كذب إِذْ قَرَّبا قُرْباناً القربان هو ما يقصد به التقرّب إلى اللّه تعالى فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما و هو هابيل وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ و هو قابيل، قالوا:

و كانت علامة القبول أن تأتي نار من السماء فتأكل ما تقبل، فأكلت النار قربان هابيل و لم تأكل قربان قابيل قالَ قابيل الذي لم يتقبّل قربانه لهابيل عليه السّلام: لَأَقْتُلَنَّكَ حسدا و عنادا قالَ هابيل عليه السّلام: و ما ذنبي؟ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ و لعل هذا كان تنبيها له لأن يتقي اللّه حتى يحبوه بكرامته، و لم يكن تبجّحا قطعا.

[29] ثم قال هابيل عليه السّلام لقابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ أي مددت إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي أي تريد قتلي ما أَنَا بِباسِطٍ أي ماد يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 631

[سورة المائدة (5): الآيات 29

الى 30]

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)

من يريد قتل إنسان ظلما لا يجوز للمظلوم إلا المدافعة لا قتل الظالم، إلا إذا توقف الدفاع عليه. أو المراد: إن أردت قتلي ظلما فإني لست أريد قتلك كذلك إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ في أن أقتل أحدا ظلما.

[30] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ أي ترجع أنت يا قابيل بِإِثْمِي أي إثم قتلي وَ إِثْمِكَ أي وزرك الذي عليك من غير جهة القتل، و معنى «الإرادة» هنا مجازي لأنه إرادة الفاعل، فإن الإنسان إذا أراد شيئا يقول: أردت، و إذا لم يرد أن يفعله و أراد غيره فعله يقول: أردت أن يفعله غيري.

فالتعبير بالإرادة هنا للمقابلة نحو قوله: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «1»، فقولنا: «أريد أن تذنب» يراد به «أني لا أذنب بل أنت تحمل الذنب» لا أنه إرادة حقيقية من المتكلم لذنب المخاطب، فلا يقال: كيف يصح أن يريد هابيل عليه السّلام أن يأثم قابيل؟! فَتَكُونَ أنت يا قابيل مِنْ أَصْحابِ النَّارِ الملازمين لها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم.

[31] فَطَوَّعَتْ أي شجعت لَهُ أي لقابيل نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ هابيل فَقَتَلَهُ قالوا: قتله غيلة فَأَصْبَحَ قابيل مِنَ الْخاسِرِينَ الذين

______________________________

(1) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 632

[سورة المائدة (5): آية 31]

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

خسروا الدنيا و الآخرة.

[32] و حين قتله لم يدر كيف يصنع بجثته لأنه لم

ير من قبل ذلك ميتا فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي يطلب و يفتش و يثير التراب ليدفن غرابا آخر قد قتله، إذ جاء غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فدفنه لِيُرِيَهُ أي يري الغراب قابيل كَيْفَ يُوارِي أي يستر سَوْأَةَ أي جثة أَخِيهِ و إنما سمي البدن «سوءة» لأنه ساءه و كره أن يرى بدنه المقتول قالَ قابيل لما رأى فعل الغراب: يا وَيْلَتى أي يا ويلي و «الويل» بمعنى الهلاك، أي: يا هلاكي احضر فهذا أوانك، نحو: يا عجبا أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ في العلم بكيفية الخلاص من جثة الميت فَأُوارِيَ أي استر بالتراب سَوْأَةَ أَخِي ثم دفنه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله، و لم يكن ندم توبة، و إنما ندم فعل، فلا يقال: كيف يعاقب و قد تاب؟

قال ابن عباس: لما قتل قابيل هابيل أشاك الشجر، و تغيرت الأطعمة، و حمضت الفواكه، و أمرّ الماء، و اغبرّت الأرض، فقال آدم: قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل، فانشأ يقول:

تغيرت البلاد و من عليهافوجه الأرض مغبرّ قبيح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 633

[سورة المائدة (5): آية 32]

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

تغير كل ذي لون و طعم و قلّ بشاشة الوجه الصبيح

[33] و لما حكى سبحانه قصة ابني آدم و أظهر بشاعة الجريمة، ذكر جملة من الحدود على الجرائم، و ابتدأ بالقتل للمناسبة، فقال تعالى: مِنْ أَجْلِ

ذلِكَ «أجل» في اللغة بمعنى الجناية- على أحد الوجوه- يقال:

«أجل عليهم شرا» أي جنى. أي من ابتداء تلك الجناية. ف «من» ابتدائية و ذلك إشارة إلى قتل قابيل هابيل أي من وقت تلك الجناية قررنا الحكم الآتي و هو أن «من قتل نفسا» الآية. و بعض المفسرين يفسر «أجل» بالمعنى المتعارف، فالمعنى: من أجل الاعتداء الذي لا موجب له و لا مبرر على المسالمين المتورعين الذين لا يريدون شرا و لا مدافعة كَتَبْنا أي فرضنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و ليس الحكم خاصا بهم و إنما أتى بذكرهم لأنهم مورد البحث و الكلام، و أنهم الذين عاكسوا أحكام اللّه و قتلوا أنبيائه.

أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً أي إنسانا قتلا ظلما بِغَيْرِ نَفْسٍ أي:

لا بمقابل نفس حتى يخرج قتل القاتل نفسا من موضوع الحكم أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي لم يكن المقتول مفسدا حتى يستحق بذلك أن يقتل فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً أنه باعتدائه على حياة نفس واحدة بلا مبرر كان كمن اعتدى على الحياة كلها وَ مَنْ أَحْياها لا إحياء من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 634

[سورة المائدة (5): آية 33]

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)

العدم، بل إحياء بمعنى التحفظ على حياتها و إنقاذها من الهلاك فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً حيث أن تحفظه على حياة نفس واحدة يكون كتحفظه على الحياة كلها، لأن الحياة كلّ سار في كلّ حي، فالتعدي على فرد تعدي على الكل، كما أن التحفّظ على فرد تحفّظ على الكل

وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ أي أتت إلى بني إسرائيل- الذين يدور الكلام حولهم- رُسُلُنا أنبياؤنا إليهم بِالْبَيِّناتِ أي الأدلة الواضحة الدالة على صدق نبوتهم.

ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل بَعْدَ ذلِكَ أي بعد مجي ء الرسل إليهم فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي يجاوزون الحد، فقد كانوا يستحلون المحارم و يسفكون الدماء.

[34] و بمناسبة قتل النفس بغير حق، ذكر سبحانه حكم من يسعى في الأرض فسادا. و

قد ورد في شأن نزول هذه الآية: أن قوما من بني ضبة قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرضى فبعثهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها و يأكلون من ألبانها فلما برءوا و اشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل و ساقوا الإبل، فبعث إليهم عليا عليه السّلام فأسرهم، فنزلت هذه الآية، فاختار رسول اللّه القطع، فقطع أرجلهم و أيديهم من خلاف.

«1»

______________________________

(1) الكافي: ج 7 ص 245.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 635

و

في بعض الروايات: أنها نزلت في قطاع الطرق.

و لا منافاة بين الأمرين إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ أي يحاربون أوليائه فإن محاربة المتعلقين بشخص هو محاربة ذلك الشخص، كقوله تعالى:

(يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ) «1»، وَ رَسُولَهُ أي يحاربون رسوله. و هذا أيضا كذلك فإن محاربة أولياء الرسول محاربة للرسول وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بالإفساد و شهر السلاح للإخافة. و لا يخفى أنه لو لم نقل بعموم الآية لكل من صدق عليه هذا الموضوع، كان اللازم أن يحمل على قطاع الطريق، لما ورد به الروايات، و كأنه اعتبر محاربة الناس و إخافتهم محاربة لله و الرسول.

أَنْ يُقَتَّلُوا تقتيلا، و إنما عدّى ب «التفعيل» لأن المراد منه قتلهم كلهم، و باب «التفعيل» يدلّ على التكثير

كما قال تعالى: وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ «2»، أي غلقت كل باب أَوْ يُصَلَّبُوا بالمشنقة و «أو» هنا للتخيير، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام، و الاختيار إلى الإمام في ذلك أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ بأن تقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى، فيكون قطع كل واحدة خلاف الجهة التي يقع فيها قطع الأخرى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي من بلد إلى بلد حتى يتوب

______________________________

(1) الأحزاب: 58.

(2) يوسف: 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 636

[سورة المائدة (5): الآيات 34 الى 36]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)

و يرجع و قوله سبحانه «إنما» معناه: أن جزاءه ذلك فحسب، لا جزاء له سواه ذلِكَ الذي ذكر أنه يفعل بهم لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أي عقوبة و فضيحة وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ في النار.

[35] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فإن التوبة قبل الوقوع في يد حاكم الشرع تقبل، أما لو وقع ثم تاب فإنه لا تقبل توبته بالنسبة إلى درء الحد، بل يجري عليه الحد فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر ذنبهم رَحِيمٌ لا يعاقبهم لا في الدنيا و لا في الآخرة.

[36] ثم يتوجه القرآن الحكيم إلى تربية الوجدان إلى جنب تربية الخارجين عن طاعته بالسيف و العقاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بإتيان أوامره و اجتناب زواجره وَ

ابْتَغُوا أي اطلبوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ السبب الذي يقرّبكم إليه سبحانه: من فعل الخيرات و الأعمال الصالحة وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ الخارجين عن طاعته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي رجاء أن تفلحوا، فإن الرجاء قائم في الفوز و الفلاح ما دمتم تتقون و تجاهدون.

[37] و لا تكونوا كالذين كفروا، الذين لم يتقوا و لم يجاهدوا و لا طلبوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 637

[سورة المائدة (5): الآيات 37 الى 38]

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

رضاه سبحانه و الوسيلة إليه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من المال و الجاه وَ مِثْلَهُ مَعَهُ بأن كان لهم ضعف ما في الأرض، و هذا من باب المثل، و إلا فالمراد كل شي ء، فإن اللفظ قد يأتي للكثرة لا للتحديد نحو: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «1»، لِيَفْتَدُوا بِهِ بما في الأرض و مثله، بمعنى: أن يجعلوه فداء لهم و بدلا مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ حتى ينجوا كما اعتادوا الفداء و الخلاص في الدنيا ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ الفداء وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[38] يُرِيدُونَ أي يريد الذين كفروا و يتمنون أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها حيث أن عذابهم دائم لا انقطاع له و لا مدة وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم ثابت لا يزول.

[39] و هنا يرجع السياق إلى بيان الحدود التي افتتحت بقصة ابني آدم وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ ذكر سبحانه كلّا على حدة حتى لا يظن أن

______________________________

(1) التوبة: 80.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 638

[سورة

المائدة (5): الآيات 39 الى 40]

فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40)

الحكم لا يشمل السارقة، و قدم السارق لأنه الغالب، و في آية الزنا قدّم الزانية لامتهان بعض النساء للزنا فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما الأربع أصابع من اليد اليمنى، و اليد تطلق على مجموع العضو، و إلى المرفق، و إلى الزند، و على الأصابع فقط. و لم يقل «يداهما» لما استحسن في العربية من أنه متى اجتمع تثنيتان و هو قوله «أيديهما» مضافة إحداهما إلى الأخرى جي ء بالأول بلفظ الجمع، كقوله سبحانه: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1»، و لعل الأصل أن الجوارح في الإنسان أكثر من واحد فتكون في إنسانين جمعا، و «الفاء» إنما أتت في «الخبر» دلالة على الترتب و الجزاء. و للقطع شروط مذكورة في الفقه جَزاءً بِما كَسَبا من السرقة نَكالًا مِنَ اللَّهِ أي عقوبة على ما فعلاه وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يأخذ بعزته و يحكم بذلك بحكمته.

[40] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ بأن ندم عن السرقة وَ أَصْلَحَ صار صالحا فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ و يغفر ذنبه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لمن تاب و يرحم عباده العصاة إذا ندموا و أقلعوا.

[41] إن ما ذكر من عقاب اللّه و غفرانه مقتضى سلطته المطلقة أَ لَمْ تَعْلَمْ

______________________________

(1) التحريم: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 639

[سورة المائدة (5): آية 41]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ

لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)

أيها الإنسان أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له التصرف في الجميع كما يشاء يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن استحق العقاب وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ حسب حكمته البالغة وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يعجزه شي ء.

[42] و في سياق بيان الحدود و ذكر مساوئ اليهود يتعرض القرآن الحكيم إلى قصة زنا وقعت في اليهود و راجعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حكمها. فقد

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام ما ملخصه «أن امرأة شريفة من خبير زنت و قد كان حكم زنى المحصن في التوراة الرجم، لكنهم راجعوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجاء أن يخفّف عنهم و يأخذوا بذلك، فأفتاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالرجم، و ذكر أنه حكم التوراة أيضا، لكن جماعة من علمائهم أنكروا ذلك فجعل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «ابن صوريا» أعلمهم حكما فاعترف هو أن الحكم في التوراة هو الرجم و أنهم حرّفوا حكم التوراة فوضعوا مكانه أن يجلد أربعين جلدة ثم يسوّد وجهه و يطاف على حمار مقلوبا، تشهيرا به!»

«1».

و في بعض التفاسير: أنه كان بين بني النضير و قريضة معاهدة في باب القتل على خلاف حكم التوراة، فقد كان حكم التوراة القتل للقاتل، و لكن كانت معاهدة بين القبيلتين أنه إن قتل بنو

قريضة من بني النضير قتل القاتل، و إن قتل بنو النضير من بني قريضة أخذت الدية،

______________________________

(1) راجع فقه القرآن: ج 2 ص 375.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 640

فأراد بنو قريضة المراجعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الحكم ليحكم لهم بحكم التوراة و قال «ابن أبي» المنافق الصديق لهم: إن حكم محمد بما ترضون- يريد خلاف حكم التوراة- فارضوا به و إلا فلا تقبلوه «1».

أقول: و من المحتمل كون الآية إشارة إلى القصتين، و على أي حال فالله سبحانه يسلّي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مخالفة المنافقين و اليهود له فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ أي لا يوجب حزنك و غمك الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يسرعون للدخول فيه بالقيام على خلافك و عدم قبول حكمك مِنَ المنافقين الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ جمع «فوه» بمعنى «الفم» أي أن إيمانهم لفظي و بمجرد الشهادتين، لا عن قلب و عقيدة، و المقصود ابن أبي كما تقدم وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ بل بقيت على كفرها و ضلالها.

وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي اليهود و المراد بمسارعة اليهود في الكفر تركهم لأحكام التوراة و تمسكهم بالأحكام المخالفة لما أنزل اللّه فإنه كفر في مرتبة اليهودية و إن كان اليهود كفارا من أصلهم و بمقتضى بقائهم على اليهودية سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي هؤلاء اليهود- أو مع المنافقين- مبالغون في سماع الكذب و قبول ما يفتريه أحبارهم

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 3 ص 336.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 641

و شياطينهم سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يا رسول اللّه، إنهم خاضعون لقول غيرك ممن لم يأتوك لتحكيمك في قصة الزنا أو

في قصة القتل يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جمع «كلمة» أي كلام اللّه تعالى مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضعه اللّه سبحانه في مواضعه، كما حرفوا حكم زنا المحصن الذي هو الرجم إلى الجلد، و كما حرفوا حكم القتل قصاصا إلى الدية يَقُولُونَ أي يقول المنافقون و اليهود بعضهم لبعض إِنْ أُوتِيتُمْ أي أعطاكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا و هو الجلد في الزنا و الدية في القتل فَخُذُوهُ و اقبلوه وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ هذا الحكم، بل حكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما في التوراة من رجم الزاني و قتل القاتل فَاحْذَرُوا عن قبول قوله.

ثم توجه الخطاب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسلية له عن نفاق المنافقين و تحريف اليهود قال سبحانه: وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي امتحانه، فقد أراد اللّه سبحانه اختبار اليهود و المنافقين في هذه القضية ليتبيّن عنادهم و غيّهم و أنهم لا يرجعون إلى حكم اللّه، و يظهر كذبهم في قولهم أنهم متدينون فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لن تستطيع يا رسول اللّه أن تدفع عنه من أمر اللّه شيئا، بل إرادته نافذة و حكمه ماض أُولئِكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 642

[سورة المائدة (5): آية 42]

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

المنافقون و اليهود الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر، فلم يلطف بهم اللطف الخاص- كما يلطف بسائر المؤمنين- حتى تتطهر قلوبهم من أدران الكفر، إن اللّه سبحانه بيّن

لهم الدلائل و نصب لهم الحجج لكنهم أبوا من الرضوخ و لذا قطع اللّه تعالى لطفه عنهم.

لَهُمْ أي للمنافقين و اليهود فِي الدُّنْيا خِزْيٌ فضيحة و ذلة، أما المنافقون فلظهور نفاقهم عند المؤمنين مما يوجب التنفّر منهم، و أما اليهود فبضرب الذلة عليهم إلا بحبل من اللّه و حبل من الناس وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، و اليهود معلوم حالهم هناك.

[43] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ تكرار لتصوير واقعهم البشع فإن الإنسان إذا أراد أن يؤكد شيئا قاله أكثر من مرة حتى يقع في نفس السامع موقع القبول أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ جمع «أكال» مبالغة ل «آكل» أي كثير و الأكل للرشوة و سائر أقسام الحرام، فَإِنْ جاؤُكَ يا رسول اللّه ليجعلوك حكما فيما بينهم في قصة الزنا و القتل فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بحكم اللّه سبحانه أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ و قد جاز الإعراض لأنهم كانوا يعلمون بالحكم حيث كان مثبتا في التوراة فلم يكن الإعراض يسبب سحق حكم اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 643

[سورة المائدة (5): الآيات 43 الى 44]

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)

سبحانه و جهالة المجتمع به وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فلم تحكم بينهم فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً إذ النفع و الضرر بيد اللّه سبحانه لا بيد غيره

وَ إِنْ حَكَمْتَ يا رسول اللّه فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي هو إجراء حكم اللّه من رجم الزاني المحصن و قتل القاتل شخصا ما إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين الذين يعدلون في حكمهم.

[44] إن أمر هؤلاء اليهود عجيب فإنهم لا يعترفون بك رسولا و مع ذلك يحكمونك في قضيتهم و ذلك ليس إلا أنهم يريدون فرارا من حكم التوراة إلى حكم يطابق أهواءهم وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ أي يجعلونك حكما يا رسول اللّه وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ أي و الحال أن لديهم التوراة التي يعترفون بها كتابا فِيها حُكْمُ اللَّهِ بالنسبة إلى الزنا و القتل ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التحكيم، أو من بعد حكمك فلا يقبلون حكمك أيضا وَ ما أُولئِكَ اليهود و المنافقون الذين حكّموك، ثم تولوا بِالْمُؤْمِنِينَ بالتوراة أو بحكمك، و إنما يظهرون الإيمان كذبا و اختلاقا.

[45] ثم بيّن سبحانه أن التوراة التي أعرض عن حكمها في قصة الزنا و القتل كتاب سماوي يجب العمل به، و من المعلوم أنه ليس المراد بذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 644

التوراة المحرّفة التي بأيدي اليهود اليوم، فقد كان قسم من التوراة محفوظا عن التحريف إلى زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما أن المعلوم أن المراد كون التوراة في وقتها هدى و نور، أما إذا جاء أهدى منها و أكثر نورا و نسخ قسما من أحكامها لم يعمل بالمنسوخ منها، و ذلك كما لو قلنا:

أن القرآن هدى و نور، يراد المجموع من حيث المجموع، لا أنه يعمل به حتى بالنسبة إلى الآيات المنسوخ حكمها على تقدير تسليم النسخ في القرآن.

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً يهتدي به الناس إلى سبل الحق

وَ نُورٌ ينير دروب الحياة المظلمة- و لعل العطف للبيان- يَحْكُمُ بِهَا أي بالتوراة النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لله و أذعنوا لحكمه، و من جملة أولئك الأنبياء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي حكم على طبقها في قصة الزاني و القاتل لِلَّذِينَ هادُوا أي أن الحكم إنما كان للذين هادوا أما غيرهم من النصارى و المسلمين فإنما يحكم بينهم حسب معتقدهم.

و قد ثبت في الشريعة جواز الحكم لكل أهل كتاب بكتابهم.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام «و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور بزبورهم، و بين أهل القرآن بقرآنهم»

«1»، كما

ثبت قولهم عليهم السّلام «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»

«2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 30 ص 672.

(2) تهذيب الأحكام: ج 9 ص 322.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 645

لكن من المعلوم أنه ليس كل الأحكام كذلك، بل من الأحكام ما لا يجوز أن يحكم بها، و القاعدة الكلية: أنه كل ما أجاز الإسلام أن يحكم به الحاكم على طبق دياناتهم جاز ذلك، و كل ما لم يجز كان اللازم الرجوع إلى حكم الإسلام.

وَ يحكم بالتوراة الرَّبَّانِيُّونَ و هم المتدينون فإن «رباني» منسوب إلى «الرب» من غير قياس وَ الْأَحْبارُ جمع «حبر» بالكسر و «حبر» بالفتح، و هو العالم، أي أن الأنبياء و الأتقياء و العلماء يحكمون بالتوراة، و إنما يحكم هؤلاء بالتوراة بسبب ما اسْتُحْفِظُوا أي استدعوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ أي حيث أن اللّه سبحانه جعلهم حافظين للكتاب و ائتمنهم عليه في أن يحكمون بموجبه وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أي أن النبيين و الربانيين و الأحبار كانوا شهداء على أن ما في الكتاب حق

و صدق. و الحاصل أن هؤلاء يحكمون بالتوراة لأنه وديعة عندهم و هم يشهدون بصدقه.

و حيث بيّن سبحانه أن التوراة يحكم بها أولئك الصفوة و أنهم محل وديعة و الشهداء على صحته، بيّن أن مقتضى ذلك أن يكون الإنسان المتصف بهذه الصفات شجاعا في إظهار أحكامه فلا يخون و لا يكتم و لا يخشى الناس فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ في إظهار أحكام التوراة و منها مسألة رجم الزاني و قتل القاتل وَ اخْشَوْنِ في ترك أمري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 646

[سورة المائدة (5): آية 45]

وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

و تحريف حكمي فإن النفع و الضرر بيدي وَ لا تَشْتَرُوا بمقابل آياتي و أحكامي ثَمَناً قَلِيلًا حيث أنكم إذا كتمتم الأحكام لأجل الرشوة و الرئاسة كنتم كمن يعطي السلعة ليأخذ المال، و كل شي ء من المال و الرئاسة في مقابل حكم اللّه ثمن قليل لأنه يزول و ينتقل و تبقى تبعة التحريف و الكتمان و الحكم بخلاف ما أنزل اللّه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ لعلّ وجه الإتيان بالنفي دون أن يقول «و من حكم بغير ما أنزل اللّه» ليشمل الحاكم بالخلاف و الساكت الكاتم، فإن من يعلم حكم اللّه و يسكت و يكتم يكون مصداقا ل «مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ و من المعلوم أن عدم الحكم كفر عملي لا كفر اعتقادي، إلا إذا رجع إلى الجحود لأصل من أصول الدين، و إنكار ضروري

من ضروريات الإسلام، و يسمى كافرا لأنه ستر الحق، فإن الكفر لغة بمعنى الستر.

[46] وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أي على بني إسرائيل فِيها أي في التوراة أَنَّ النَّفْسَ تقتل بمقابل النفس فإذا قتل الإنسان شخصا عمدا، قتل القاتل في قبال ذاك، و لعل هذه الآية تؤيد كون الآيات السابقة كانت بشأن قصة بني النضير و بني قريضة- كما تقدم- وَ الْعَيْنَ مفقوءة بِالْعَيْنِ أو معمية بها وَ الْأَنْفَ مجدوعة بِالْأَنْفِ أما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 647

ذهاب حاسة الشم فلعله خلاف الظاهر و إن كان الحكم كذلك إذا أمكن وَ الْأُذُنَ مصلومة بِالْأُذُنِ و في ذهاب السمع ما تقدم وَ السِّنَ مقلوعة بِالسِّنِ و لذلك كله شرائط مذكورة في كتب الفقه «1».

وَ الْجُرُوحَ فيها قِصاصٌ فمن جرح إنسانا جرح كما جرح، و يدخل فيه الشفة و الذّكر و البيضتان و اليدان و الرجلان و سائر أقسام الجروح. و «القصاص» مشتق من «قص» بمعنى اتّباع الأثر، كأن المجروح يتبع أثر الجارح فيجرحه فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص بأن عفا عنه و أسقطه و تنازل عن حقه فَهُوَ أي التصدّق كَفَّارَةٌ أي حط عن الذنوب لَهُ أي للمتصدق المجروح.

قال الإمام الصادق عليه السّلام: «يكّفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره»

«2».

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ تقدم الكلام فيه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الظلم هو ظلم النفس و ظلم الغير، و قد اختلف التعبير هنا عن الآية السابقة «الكافرون» و الآية الآتية «الفاسقون» لإفادة أن من لم يحكم بما أنزل اللّه يتصف بصفات ثلاث لأنه قد ستر حكم اللّه و كتمه فهو «كافر» إذ الكافر بمعنى الساتر، كما تقول: الزارع كافر، لأنه يستر

______________________________

(1) موسوعة الفقه:

ج 89.

(2) الكافي: ج 7 ص 358.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 648

[سورة المائدة (5): آية 46]

وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)

الحبة تحت الأرض، و لأن الكافر قد ظلم نفسه لأنه عصى اللّه سبحانه في كتمان حكمه و ظلم المترافعين و المجتمع لأن حكم اللّه هو الحق و سواه انحراف و زيغ فهو «ظالم» و أنه قد خرج بحكمه ذاك أو سكرته عن الحق عن الجادة المستقيمة فهو «فاسق» إذ الفسق بمعنى الخروج و المروق.

[47] و لما ذكر سبحانه اليهود، اتجه الكلام إلى ذكر النصارى مبيّنا أن الأنبياء من سلسلة واحدة و أن كتبهم كلها هدى و نور، و أن بعضها يصدّق بعضا وَ قَفَّيْنا من «التقفية» أصله «القفو» بمعنى اتباع الأثر يقال: قفيته بكذا أي اتبعته به عَلى آثارِهِمْ أي آثار الأنبياء حيث قال سبحانه: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ» بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي أتبعنا على آثار النبيين عيسى ابن مريم فقد بعثناه رسولا من بعدهم مُصَدِّقاً أي في حال كون المسيح عليه السّلام يصدّق لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي ما تقدمه مِنَ التَّوْراةِ بيان «ما» و يقال للسابق الزماني: «بين يديه» تشبيها بالسابق المكاني الذي هو «بين يدي الإنسان» أي في قباله وَ آتَيْناهُ أي أعطينا عيسى عليه السّلام الْإِنْجِيلَ أي أنزلناه عليه فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ تقدم معنى ذلك وَ مُصَدِّقاً أي في حال كون الإنجيل مصدقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ فقد كان عيسى عليه السّلام يصدق التوراة، و كتابه الإنجيل يصدقها أيضا وَ هُدىً أي أن

الإنجيل كتاب هداية و إرشاد وَ مَوْعِظَةً أي واعظا لِلْمُتَّقِينَ الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 649

[سورة المائدة (5): الآيات 47 الى 48]

وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

يتقون الآثام، فهو يحذّرهم من العقاب و يرشدهم و يحرضهم على الثواب. و قد كرر التصديق و الهداية، تأكيدا و تركيزا.

[48] وَ لْيَحْكُمْ أي يجب أن يحكم أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ من الأحكام و الدلالات التي منها التبشير بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وجوب اتّباعه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي أن الديانات كلها من عند اللّه، و أن الأنبياء كلهم سفراء له وحده، و أن الكتب كلها منزلة من عند اللّه، فمن الضروري أن يحكم الأنبياء بالكتب المنزلة و يتبع الناس الأنبياء و الكتب، أما ما حرّف منها فليس من اللّه، كما أن ما نسخ منها فاللازم تركه و اتباع الناسخ عوضه.

[49] و لما أتم الكلام حول التوراة و الإنجيل- و هما الكتابان المتداولان في أيدي الناس- ذكر سبحانه القرآن الحكيم وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ أي القرآن الحكيم بِالْحَقِ كتابا بالحق لأنه ليس فيه باطل، أو إنزالا بالحق، حيث كان المنزل

و المنزل عليه لهما الحق في ذلك، فالمنزل إله يحق له التنزيل و التشريع، و المنزل إليه رسول يحق له الأخذ و القبول مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ اللام للجنس أي أن القرآن يصدق ما سبقه من كتب الأنبياء وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي أن القرآن مهيمن على الكتاب المتقدم، و معنى الهيمنة السيطرة، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 650

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 679

القرآن الحكيم كشاهد مسيطر يدل على مواقع الخطأ و الصواب من الكتب السابقة، كل ما حرفوه دل عليه و كل ما زادوا أو أنقصوا منهما أشار إليه، و ذلك لأن القرآن يبيّن كليات العقائد و أصول العبادة و المعاملة و الأخلاق، و في الكتب السابقة مواقع كثيرة قد زاغت عن الحق بأيادي أثيمة، يدل عليها القرآن و يشير إليها فَاحْكُمْ يا رسول اللّه بَيْنَهُمْ أي بين أهل الكتب السالفة، أو بين اليهود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام، و منها في رجم زنا المحصن، و قتل القاتل وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي ما يشتهون من خلاف حكم اللّه، فقد أحبوا أن يحكم الرسول بخلاف الحق، فيفتي بجلد المحصن الزاني، ودية القاتل عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ أي لا تزغ عما جاءك، فإن معنى اتباع أهوائهم: الزيغ عن الحق. و كثيرا ما يشبه فعل معنى فعل آخر فيتعدى الفعل الأول بما يتعدى به الفعل الثاني، كما ذكره «المغني».

و لما كان المقام يوهم اتحاد الديانات من جميع الحيثيات حيث أن الآيات السابقة أفادت تصديق كل نبي و كتاب لما سبقه، فأية حاجة إذا لإيمان اليهود و النصارى بالنبي و القرآن، تعرّض السياق إلى اختلاف الشرائع و المناهج في الخصوصيات و المزايا

و إن اتحد الجميع في الأصول و الجوهر لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أي لكل أمة منكم أيها اليهود و النصارى و المسلمون جميعا جعلنا شِرْعَةً أي طريقة وَ مِنْهاجاً «الشرعة» أول الطريق، و «المنهاج» الطريق المستقيم الذي يلزمه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 651

[سورة المائدة (5): آية 49]

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)

الإنسان في حياته ليسير عليه، و كأن وجه تقديم «جعلنا» على «منكم» أن المقام مقام الجعل، لا مقام ذكر الأمم. و قد تقرر في علم البلاغة أن المقدم من الألفاظ هو الذي سيق له الكلام، يقال: «زيد جاء» إذا كان المقام مقام ذكر زيد و أعماله، و يقال: «جاء زيد» إذا كان المقام مقام ذكر الجائين. وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أيها الأمم الثلاث أُمَّةً واحِدَةً بأن لا ينزل عليكم إلا كتابا واحدا و لا يرسل إلا رسولا واحدا وَ لكِنْ جعلكم على شرائع مختلفة لِيَبْلُوَكُمْ أي يمتحنكم فِي ما آتاكُمْ أي فيما فرضه عليكم و أعطاكم و شرع لكم حتى يتبين من يقبل الرسول اللاحق و من لا يقبل، و من يعمل بأوامره عملا تاما و من لا يعمل فَاسْتَبِقُوا أيتها الأمم الْخَيْراتِ أي ليبادر بعضكم بعضا في تحصيل الخيرات و العمل بما أمر اللّه إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ و مصيركم جَمِيعاً أيتها الأمم. و إنما سمي «مرجعا» تشبيها للمعقول بالمحسوس، و إلا فلا مكان لله سبحانه حتى يكون مبدءا و مرجعا فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمور

دينكم.

و في الإجمال ما لا يخفى من التهويل- كما يقول الملك لبعض رعيته:

أعلمك بما صنعت- ثم يجازيكم حسب أعمالكم و عقائدكم.

[50] ثم كرر سبحانه وجوب الحكم بين اليهود بما أنزل اللّه، و قد كرر ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 652

لأنهم حكّموه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قصتين قصة الزنا و قصة القتل وَ أَنِ احْكُمْ عطف على قوله في الآية السابقة «فاحكم» أو عطف على «الكتاب» أي أنزلنا إليك الكتاب و أنزلنا إليك «أن احكم» بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ و ما يشتهون من خلاف الحكم وَ احْذَرْهُمْ يا رسول اللّه، أي احذر اليهود أَنْ يَفْتِنُوكَ أي يضلوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ بأن تفتي بغير ما أنزل اللّه. فقد ورد أن اليهود عرضوا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام خاصة، منها حكم الرجم في الزاني المحصن، و هذا التحذير للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس معناه أنه كان يعمل على الخلاف، و إنما هو لبيان الحكم، كما يخاطب بقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ «1»، و نحوه فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الحق و لم يقبلوا قولك و حكمك فَاعْلَمْ يا رسول اللّه أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فإن التمرد على اللّه و رسوله يوجب نكال اللّه سبحانه، و تمردهم عن حكمك موجب لأن يسخط اللّه عليهم فيأخذهم ببعض ما سلف من ذنوبهم، أو نفس التمرد نكال سببه بعض ذنوبهم السابقة.

روي أن رجلا قال للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إني حرمت صلاة الليل؟ قال الإمام: «أنت رجل قيدتك ذنوبك»

«2».

______________________________

(1)

هود: 115.

(2) عوالي اللآلي: ج 2 ص 51.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 653

[سورة المائدة (5): الآيات 50 الى 51]

أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)

وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعة اللّه، و هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يغتم لعدم نفوذ حكمه.

[51] أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ استفهام إنكاري، أي هل يبغي هؤلاء اليهود حكم الجاهلية، و المراد بها جاهلية البشر التي لا يرجع حكمهم فيها إلى قانون ثابت بل تحكم الأهواء و القبليات و العصبيات و ما أشبه، فكل من يبتغي حكما غير حكم اللّه فإنه يبتغي حكم الجاهلية، حتى إذا كان الحكم أكثرية «برلمانية» وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً أي ليس هناك حكما أحسن من حكم اللّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بالله و اليوم الآخر، فإنهم يعلمون أن حكم اللّه أحسن الأحكام لأنه خال من جميع الانحرافات التي تصيب حكم البشر.

[52] و بعد ما بيّن سبحانه انحراف اليهود و ضلالهم، ذكر سبحانه هنا عدم جواز اتخاذ اليهود أو النصارى أولياء. و قيل في سبب النزول: أنه لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس فقال رجل من المسلمين: أنا ألحق بفلان اليهودي و آخذ منه أمانا، و قال آخر: أنا ألحق بفلان النصراني فآخذ منه أمانا، فنزلت الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ فلا تصادقوهم مصادقة الولي لوليه و الحميم لحميمه بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فإن

بعضهم ينصر بعضا و يعينه عليكم، و قد ظهر انطباق كلامه سبحانه على الخارج طيلة أربعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 654

[سورة المائدة (5): آية 52]

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)

عشر قرنا فإن اليهود و النصارى لم يزالا ينصر أحدهما الآخر على المسلمين على ما بينهما من العداء و البغضاء وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ أي يصادقهم و ينتصر بهم و يجعلهم أولياء له فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فإنه كافر عملا، من أهل النار، و هو خطر على المسلمين، فالذين تولّوا الكفار كانوا من أخطر الناس على المسلمين، و كانوا في زمرة الكفار ينصرونهم و ينتصرون بهم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بعد ما علموا و عرفوا، فإنه سبحانه لا يلطف بهم ألطافه الخفية.

[53] و بعد هذا القرار الجازم، الذي دل عليه منطق التاريخ السابق على الإسلام، حيث أن كل موال لا بد و أن يكون هواه مع من يوالي، لا مع مجتمعة، و الذي قد نهي عنه صريحا فَتَرَى يا رسول اللّه الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك و نفاق. قال ابن عباس: إن المراد بذلك عبد اللّه بن أبي، أن عبادة بن الصامت الخزرجي أتى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إن لي أولياء من اليهود، كثير عددهم، قوية أنفسهم، شديدة شوكتهم، و أنا أبرأ إلى اللّه و رسوله من ولايتهم و لا مولى لي إلا اللّه و رسوله. فقال عبد اللّه بن أبي: لكن لا أبرأ من ولاية اليهود لأني

أخاف الدوائر و لا بد لي منهم.

ثم أنه شبّه النفاق بالمرض لأن كليهما موجب لانحراف الإنسان، فالمرض يوجب انحراف مزاجه، و النفاق يوجب انحراف سلوكه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 655

المنبعث من انحراف روحه يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في تولي أهل الكتاب و اتخاذهم أولياء، و لعل الإتيان بلفظة «يسارعون» لإفادة أنهم يوالونهم قبل ظهور علائم الاحتياج إليهم «من هزيمة المسلمين» فإنهم يحتاطون باتخاذهم أولياء لئلا يأتي يوم يحتاجون إليهم، و ذلك أسوأ حالا ممن يوالونهم إذا ظهرت علامة هزيمة في المسلمين يَقُولُونَ أي قائلين لتبرير موقفهم نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ أي دوران الفلك الموجب لغلبة الكفار على المسلمين فإنا نتخذهم من الآن أولياء لنكون في أمان إذا دارت الدائرة فَعَسَى اللَّهُ أي لعل اللّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ للمسلمين بأن يفتحوا بلاد الكفار و يكون الغلب لهم على الكفار أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ غير الفتح من إعزاز المسلمين و تكثير عددهم و جلاء الكفار فَيُصْبِحُوا أي يصبح هؤلاء المنافقون الذين والوا الكفار خوف غلبتهم و دوران الدائرة على المسلمين عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من موالاة اليهود و تمني الغلبة لهم. و لعل ذكر «أسروا» مع أنهم أعلنوا عن ولائهم خوف الدائرة، لإفادة أنهم كانوا قد أسروا أشياء كثيرة في أنفسهم، كما هو شأن النفاق و المنافقين نادِمِينَ و ليس ندمهم من جهة الحق، بل من جهة أنهم خسروا الطرفين، طرف المسلمين لأنهم عرفوا نفاقهم، و طرف الكفار لأنهم هزموا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 656

[سورة المائدة (5): الآيات 53 الى 54]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ

مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)

[54] وَ إذ قسم اللّه الفتح للمؤمنين، أو أتاهم بأمر من عنده يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صادقا، يقولون متعجبين من نفاق المنافقين و اجترائهم على اللّه بالأيمان الكاذبة: أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ أي: هل هؤلاء المنافقون الذين انكشفت حقائقهم هم الذين حلفوا بالله جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي جهدوا جهد أيمانهم، بمعنى: حلفوا بأغلظ الأيمان إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي مع المؤمنين في صدق الإيمان و المناصرة؟ كيف حلفوا بتلك الأيمان المغلظة، و قد ظهر نفاقهم خلال المعركة الحاسمة الموجبة لترجيح كفة المسلمين؟ فإن النفاق لا يظهر جيدا إلا في المعارك و المخاوف. و هناك حيث عرف المسلمون حقيقتهم تعجبوا من إيمانهم المزيف، و أيمانهم المغلظة الكاذبة التي أرادوا بها دعم إيمانهم و إدخال أنفسهم في زمرة المؤمنين حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ جملة مستأنفة، أي أن المنافقين ضاعت أعمالهم الإيمانية بسبب النفاق، أو: أنهم ضاعت مساعيهم في مصانعة الطرفين بسبب انهزام الكفار فلا ظهر لهم، و كشف باطنهم للمسلمين فيتجنبون عنهم فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ دنيا و آخرة.

[55] ثم بعد ما بيّن مضرّة النفاق، توجه السياق إلى المؤمنين مبيّنا لهم أنهم إن ارتدوا فلا يظنوا أن ذلك يضر دين اللّه سبحانه فقد و كلّ اللّه بدينه في كل دور أناسا يقومون بشرائط الإيمان، فالمرتد إنما يضر نفسه لا أنه يضر دين اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 657

ارتدادا إلى الكفر، أو إلى النفاق، فإن انقلاب الباطن

عن الإسلام هو نوع من الارتداد أيضا فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ فهو ذو صلة بهم و هم ذووا صلة به سبحانه. و لعل الإتيان بكلمة «سوف» لئلّا يظنون أن في تأخير الأمر انقطاعا و انفصاما للإيمان، بل قد يتأخر مجي ء الصلحاء بعد ارتداد قسم من الناس عن الإيمان أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أذلة من «الذّل» بكسر الذال: ضد الصعوبة، و قد يكون من «الذّل» بضم الذال: ضد العزة أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أي يكونون ليّنين على المؤمنين، غلاظ شداد على الكافرين. و إنما كان ذلك مدحا لأن اللّين مع الكافر موجب لبقاء الكفر، بخلاف إظهار الشدة الذي يوجب حصر الكفر على نفسه و انكماشه، و عدم تعديه إلى المؤمنين الضعاف، كما قال سبحانه في آية أخرى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «1»، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فإن الجهاد يلازم لوم اللائمين من المؤمنين و من الكافرين، أما «من الكافرين» فواضح، و أما «من المؤمنين» فلأن الآراء غالبا ما تختلف بسبب لوم بعضهم لبعض كما هو المشاهد المحسوس، و كثيرا من الناس يمنعه الجهاد و الإقدام لوم اللائمين لا صعوبة الجهاد.

و قد نزلت هذه الآية في علي أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه الأكرمين، و إن كانت عامة بحسب اللفظ، كما هو شأن آيات القرآن غالبا.

______________________________

(1) الفتح: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 658

[سورة المائدة (5): آية 55]

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55)

و لعل وجه قوله: «يأتي» مع أن الإمام عليه السّلام كان حاضرا وقت النزول، اعتبار الوصف أي قوله «يجاهدون». تقول: «سوف آتي بشخص يفعل

كذا» تريد أن الفعل «سوف» يأتي لا الشخص.

ذلِكَ المذكور في أوصاف القوم من محبة اللّه لهم و محبتهم لله و لينهم مع المؤمنين و شدتهم على الكافرين و جهادهم بدون خوف اللوم فَضْلُ اللَّهِ حيث تفضل عليهم بهذه الصفات و هداهم إلى الحق يُؤْتِيهِ أي يعطي هذا الفضل مَنْ يَشاءُ ممن كان قابلا و أهلا وَ اللَّهُ واسِعٌ فضله فلا يخاف نفاده إن أعطى أحدا عَلِيمٌ بموضع فضله وجوده.

[56] و لما ذكر سبحانه أنه لا يجوز أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء، بيّن ولي المؤمنين و أن اللازم أن يتخذوا اللّه و رسوله و من نصبه اللّه وليا.

و قد أجمع المفسرون بأن هذه الآية نزلت في علي أمير المؤمنين عليه السّلام «1». و قد يقال أن الأئمة الأحد عشر عليهم السّلام ليسوا بمشمولين للآية، لدلالة «إنما» على الحصر؟ و الجواب من وجهين:

الأول: إن الآية حصرت الأمر في وقت النزول، و كانت ولايتهم عليهم السّلام بعد ذلك.

و الثاني: و هو الأصح أن ولاية الأئمة من ولاية علي عليه السّلام، كما لو قال: والي بلدكم فلان، فإن من عينه الوالي للأمور كان امتدادا لولاية فلان.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 361 و تفسير العياشي: ج 1 ص 327.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 659

[سورة المائدة (5): آية 56]

وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ فالله له الولاية المطلقة و السلطنة الكاملة من جميع الجهات عليكم وَ رَسُولُهُ محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الَّذِينَ آمَنُوا المتصفون بكونهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي الصدقة وَ هُمْ راكِعُونَ

و قد روت العامة

و الخاصة أن هذه الآيات نزلت في علي أمير المؤمنين عليه السّلام لما تصدّق بخاتمه و هو في الركوع. و في بعض الأخبار أنه كان تصدق قبل ذلك أيضا في صلاة أخرى بحلّة قيمتها ألف دينار أرسلها النجاشي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأهداها إلى علي عليه السّلام. «1» [57] ثم ذكر سبحانه أنه في تولي هؤلاء النجاح و الغلبة، فمن ظن أن في تولي غيرهم النجاح فقد اشتبه، و دل التاريخ أنه كلما التزم المسلمون بهؤلاء نجحوا و تقدموا، و كلما تولوا غيرهم خسروا و تأخروا وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ أي يتخذه اللّه سبحانه وليا يأتمر بأوامره و ينتهي عن زواجره وَ رَسُولَهُ يقتدي به في أعماله و أقواله وَ الَّذِينَ آمَنُوا علي و الأئمة من ولده عليهم السّلام- حسب النزول- أو كل مؤمن حسب العموم، في مقابل اتخاذ الكفار أولياء فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ جنده و جماعته هُمُ الْغالِبُونَ على من سواهم من الأحزاب و الجنود، و في قطع قوله:

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 288.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 660

[سورة المائدة (5): الآيات 57 الى 58]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)

«فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ» عن الجملة السابقة، إذ لم يقل «فإنهم الغالبون»، إفادة أن المتولي يعدّ من حزب اللّه و جماعته، فليس الأمر من ناحية العبد فقط، بل من ناحية اللّه أيضا.

[58] قد نهي المسلمون عن اتخاذ اليهود و النصارى أولياء، ثم الآن

يأتي السياق لينهى عن اتخاذ أي كافر أو كتابي- و لو لم يكن يهوديا أو نصرانيا- وليا. و قد ورد في سبب النزول أن زيد بن التابوت و سويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم كان رجال من المسلمين يوادّونهما فنزلت هذه الآية، و لو كان الأمر كذلك فالمراد، بمن ذكر في الآية أعم من المنافق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً أي سخرية و تلاعبا، و ذلك بأن أظهروا الإسلام باللسان و أبطنوا الكفر بالجنان، أو المراد جعله سخرية و لعب يستهزئون به مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أنزل عليهم الكتاب مِنْ قَبْلِكُمْ و هم أهل الأديان السابقة على الإسلام وَ من الْكُفَّارَ المراد بهم الأعم من المنافقين- كما سبق- و لا يخفى أن الكفار أعم من أهل الكتاب، لكن إذا ذكروا في كلام كان المراد بالكفار غيرهم أَوْلِياءَ تتولونهم كاتخاذ المؤمنين لله و رسوله أولياء وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تخالفوه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و بما أمر به.

[59] وَ إِذا نادَيْتُمْ أيها المؤمنون إِلَى الصَّلاةِ إي دعوتم إليها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 661

[سورة المائدة (5): الآيات 59 الى 60]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)

اتَّخَذُوها أي اتخذوا الصلاة هُزُواً وَ لَعِباً مهزلة و تلاعبا فيتضاحكون و يتغامزون بينهم- كما هي عادة منافقي اليوم أيضا- ذلِكَ

بِأَنَّهُمْ أي ذلك الاستهزاء بالصلاة بسبب أن الكفار قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ منافع الصلاة و أنها موجبة للنجاة من النار.

[60] و جاء قوم من اليهود يسألون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عمن يؤمن به من الرسل؟

فقال: أؤمن بالله و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق .. إلى أن ذكر عيسى عليه السّلام فلما سمعوا ذلك منه جحدوا نبوته و قالوا: ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا و الآخرة منكم، و لا دينا شرّا من دينكم، فنزلت قُلْ يا رسول اللّه لأهل الكتاب: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي تسخطون علينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ إيمانا لا يشوبه كفر- كإيمانكم- وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعني القرآن الحكيم وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ على جميع الأنبياء وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ فإن فسقكم- أي خروجكم- عن دين اللّه هو سبب نقمتكم علينا. و هذا كقولهم: «هل تنقم مني إلا أني عفيف و أنك فاجر»، أو: «إلا أني كريم و أنت بخيل»، فهو من باب الازدواج يحسن في الكلام لتعميم المقابلة، فهو عطف على قوله: «أن آمنا».

[61] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء المستهزئين: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ أي إن كان إيمانا شرا عندكم فأنا أخبركم بشر من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 662

[سورة المائدة (5): آية 61]

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)

ذلك مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أي جزاء من عنده سبحانه، و سمّي «مثوبة» استهزاء بهم، و إنما سمّي ما عند المؤمنين شرا- و إن لم يكن ما للمؤمنين إلا الخير- للمقابلة في الكلام

مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرده عن رحمته، فلعنة اللّه لكم من شر إيماننا نحن وَ غَضِبَ عَلَيْهِ بسبب عصيانه و تمرده عن الحق وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ جمع «قرد»، كما قال سبحانه: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «1»، وَ الْخَنازِيرَ بأن مسخهم على صور هذين الحيوانين النجسين وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ عطف على قوله: «لعنه اللّه» و الطاغوت هو العجل الذي عبدوه أُولئِكَ اليهود الذين هذه صفاتهم شَرٌّ مَكاناً أي أن مكانهم في سقر الذي هو شر من مكان المؤمنين الذين نقموا منهم، و قد ذكرنا أن هذا الكلام من باب المشاكلة اللفظية و إلا فليس في مكان المؤمنين شر وَ أَضَلُ أي أكثر ضلالا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي وسط الطريق.

[62] و حيث ابتدأ الكلام بعرض المنافق و أهل الكتاب في صف واحد، ذكر سبحانه صفة من صفات المنافقين، و أنهم كيف لا يؤثّر فيهم الوعظ و الإرشاد وَ إِذا جاؤُكُمْ أي جاءكم المنافقون قالُوا آمَنَّا إيمانا كإيمانكم وَ لكنهم في دعواهم تلك كاذبون، إذ

______________________________

(1) البقرة: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 663

[سورة المائدة (5): الآيات 62 الى 63]

وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي بالكفر، كأن «الكفر» مادة يحملونها معهم فهم قد دخلوا بهذه المادة حينما دخلوا في المجلس، ثم خرجوا بهذه المادة كما دخلوا، لم تؤثر فيهم الموعظة و البلاغ، حيث كانت قلوبهم مع إخوانهم الكافرين لا معكم حتى تؤثر فيهم الموعظة وَ اللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِما كانُوا يَكْتُمُونَ

أي يخفون من الكفر و النفاق.

[63] ثم إن هؤلاء الكفار يجمعون مع كفرهم صفات أخرى ذميمة هي من مستلزمات الانحراف، أشار إليها بقوله تعالى: وَ تَرى يا رسول اللّه كَثِيراً مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار و هم الرؤساء و ذووا الجاه و المنصب يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ فيسابق بعضهم بعضا في فعل الإثم و التعدي على الناس، إنهم حيث لم يؤمنوا بالله و كانت ديانتهم- المزعومة- صورية كان همّهم تحصيل أكثر ما يمكن من المال و الجاه، لذا يتسابق بعضهم بعضا في ذلك، إن الإثم لا أهمية له في نظرهم إذ لم يعمر قلوبهم الإيمان، و التعدي من شأن من يريد إعمار دنياه وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ كل مال حرام من رشوة و ربا و أكل أموال اليتامى و أكل أموال الناس بالباطل لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فإن أعمالهم توجب خزي الدنيا و الآخرة.

[64] و هنا يتوجه السياق إلى العلماء و المتدينون منهم، كيف يسكتون على هذه المنكرات البشعة التي ظهرت في اليهود؟ و ما شأنهم إذا سكتوا عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 664

[سورة المائدة (5): آية 64]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

كل تلكم الجرائم لَوْ لا كلمة تحضيض بمعنى «هلّا» أي: لماذا لا يَنْهاهُمُ أي ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم و العدوان الرَّبَّانِيُّونَ جمع «رباني» و هو منسوب إلى الرب على

غير القياس، أي الإلهيون الذين يتورعون من خوف اللّه سبحانه وَ الْأَحْبارُ جمع «حبر» بالفتح و الكسر، و هو العالم عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ و هو ما يقوله الإنسان بغير حق من كذب و غيبة و نميمة و تحريف و غيرها وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ من الربا و الرشوة و غيرهما، و «السحت» هو أشد أنواع الحرام لَبِئْسَ ما كانُوا أي كان هؤلاء الربانيون و الأحبار يَصْنَعُونَ فإن سكوتهم عن الباطل و مجاملتهم لأهله نوع من الصنع.

[65] ثم بيّن سبحانه مثلا ل «قولهم الإثم» بقوله: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ لا ينفق رزقا و لا يعطي شيئا، كأنهم قالوا ذلك تبريرا لبخلهم، فإن اللّه لو كان لا ينفق فأجدر بهم أن لا ينفقوا، و قيل: إن سبب نزول هذه الآية: أن اليهود كانوا من أكثر الناس مالا وسعة، فلما جاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذبوه ضيق اللّه عليهم فقال أحد اليهود: إن يد اللّه مغلولة، فرد اللّه عليهم غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بأن تغل أيديهم عن الخير، أو إخبار عنهم بأن اليهود بخلاء لؤماء، أي أنهم غلت أيديهم، لا اللّه سبحانه وَ لُعِنُوا بِما قالُوا لعنهم اللّه و طردهم عن رحمته بسبب هذه المقالة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 665

بَلْ يَداهُ أي يدا اللّه سبحانه مَبْسُوطَتانِ كناية عن جوده و عطائه، و إنما جاء بذكر اليد للمقابلة، و ذكر «يداه» لإفادة تمام معنى الجود يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ فليس في تضييقه على اليهود دليل على أنه مغلول اليد بل إنما ينفق سبحانه كيف يشاء حسب الحكمة و المصلحة.

ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن و فضحهم يزيد كثيرا من اليهود انحرافا وَ لَيَزِيدَنَّ

كَثِيراً مِنْهُمْ أي كثيرا من اليهود، و إنما لم يذكر كلهم لأن بعضهم لا يعنيه الأمر، و بعضهم يسبب القرآن هدايتهم ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً «ما» فاعل «يزيدن» و «كثيرا» مفعول مقدم أي طغيانهم و كفرهم يزداد بسبب القرآن، أما أن كفرهم يزداد فلأنه كلما أنكروا آية و حكما ازدادوا كفرا و سترا للحق و أما أن طغيانهم يزداد، فلأنهم يقاومون الدعوة أكثر فأكثر كلما رأوا تقدمها أكثر.

وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أي بين اليهود الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فإن طبيعتهم المتخمرة بحب الذات و اعتقاد أنهم شعب اللّه المختار و بخلهم في الأموال، لا بد و أن توجد بينهم العداوة و الحزازة- ما داموا يهودا يعتقدون بهذه الاعتقادات السخيفة- فإن أسباب النزاع في العالم يدور حول المنصب و المادة غالبا، و هذان كامنان في كل يهودي، و قد دل التاريخ على صدق ذلك، فاليهود دائما متحاربون متباغضون، حتى في فلسطين اليوم تقوم الأحزاب اليهودية و المنظمات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 666

[سورة المائدة (5): آية 65]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)

بأبشع أنواع العداوة و البغضاء فيما بينها و قد مر سابقا تفسير «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» و أنه كناية عن بقاء الحكم ما دام اليهود موجودين كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي كلما أرادوا محاربة المسلمين هزمهم اللّه و نصر المسلمين عليهم، و قد دل التاريخ على ذلك، فقد غلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على يهود بني «قريضة» و «النضير» و «خيبر» و «فدك» و غيرهم مع كثرة عددهم و عددهم، و بعد ذلك لم

يتمكن اليهود من محاربة المسلمين، حتى في يومهم هذا في فلسطين إنما يستندون إلى «حبل من الناس». ثم ما هي إلا فترة حتى تراها قد انقشعوا انقشاع الضباب وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً فهم المفسدون دائما، حيث يريدون العلو على الناس، و جمع الأموال، و من المعلوم أن ذلك لا يتهيأ لهم إلا بالفساد وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي يكرههم، لملازمة «كراهته» ل «عدم حبه»، فإن كل مصلح محبوب و كل مفسد مكروه.

[66] وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا إيمانا بما أنزل اللّه و تقوى من معاصي اللّه لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي سترنا سيئاتهم الماضية، لأن الإسلام يجبّ ما قبله وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي التي فيها أنواع النعم و الكرامة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 667

[سورة المائدة (5): الآيات 66 الى 67]

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)

[67] وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي أهل الكتاب أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ أي عملوا بما فيهما بدون تحريف و زيادة و نقيصة وَ أقاموا ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ أي القرآن، و كونه منزلا إليهم باعتبار نزوله بين أوساطهم و في زمانهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ أي السماء، فإنه سبحانه ينزل «السماء مدرارا» لمن آمن و اتقى وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ بإعطاء الأرض خيرها و بركتها، كما قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا

وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ «1»، مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي من هؤلاء «أهل الكتاب» جماعة معتدلون في العمل لا غلو عندهم و لا تقصير، كما نجد أن كل أمة بعضهم معتدلون، و بعضهم متطرفون، أو المراد بهم: الذين آمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إطلاق «منهم» على أولئك باعتبار الماضي وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي أن أكثرهم متطرفون يعملون الأعمال السيئة.

[68] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هذه الآية نزلت بمناسبة استخلاف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا خليفة من بعده- كما أجمع عليه المفسرون- و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخشى المنافقين من ذلك، فبين

______________________________

(1) الأعراف: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 668

[سورة المائدة (5): آية 68]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)

سبحانه عظم الأمر بقوله: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ أي لم تبلغ خلافة علي عليه السلام فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ لأن كل الرسالة رهن هذا التبليغ، و ذلك واضح إذ عدم الاستخلاف معناه ذهاب جميع الأتعاب سدى، و قد أمنه اللّه سبحانه مما كان يخشى منه فقال: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ أي يحفظك مِنَ النَّاسِ فلا يتمكنون من الفتنة و الانقلاب و الإيذاء مما كان يخشاه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و حين ذاك،

و عند منصرف الرسول من حجة الوداع في وسط الصحراء، أمر بنصب منبر له و خطب خطبة طويلة بليغة،

ثم أخذ بكف علي عليه السّلام و قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله»

، و أنشد حسان:

يناديهم يوم الغدير نبيهم بخمّ و أسمع بالرسول مناديا

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ الذين يكفرون ببلاغك، و معنى «لا يهديهم» أنه لا يلطف بهم اللطف الزائد بعد ما أعرضوا عن الحق عنادا و استكبارا، و لعل الارتباط بين الآية و طرفيها أنه كما أن الناس مأمورون بالقبول، فالرسول مأمور بالبلاغ، مع تلطيف جو الكلام، بتغيير الأسلوب في وسط المطلب، تفنّنا في البلاغ، و تنشيطا للأذهان، كما تقدم في آيات أخرى مشابهة.

[69] قُلْ يا رسول اللّه لأهل الكتاب:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 669

[سورة المائدة (5): آية 69]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ من الدين الصحيح الذي ارتضاه اللّه لعباده حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ بالعمل بما فيهما بدون تحريف أو تحوير وَ تقيموا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن، و قد سبق وجه قوله: أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ و أنه لجهة نزول القرآن في أوساطهم وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فعوض أن يهتدوا بالقرآن يزيدهم طغيانا حيث كلما رأوا القرآن صمموا على مقابلته و كفروا بكل ما ينزل منه، و لا يخفى أن نسبة الزيادة إلى القرآن مجازا، و إلا فهوى أنفسهم هو الذي يزيدهم كفرا فَلا تَأْسَ أي فلا تحزن يا رسول اللّه عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الذين كفروا بعد

ما علموا الحق، و أعرضوا عن الهدى بعد أن رأوه و عرفوه.

[70] و حيث تقدم أن اللّه لا يهدي القوم الكافرين، مما كان يوهم أن الكفار غير قابلين للهداية، ذكر سبحانه أنهم إن آمنوا- الملازم لإمكان الإيمان منهم- كان لهم ما لغيرهم من المؤمنين من الأجر و المثوبة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا ظاهرا بالشهادتين وَ الَّذِينَ هادُوا أي اليهود وَ الصَّابِئُونَ و هم قسم من المسيحيين أو غيرهم- كما تقدم في سورة البقرة- و رفع «الصابئون» مع أنه عطف على المنصوب ب «إن» للإلفات إلى أن الصابئ الذي لا يرجى فيه خير إن آمن قبل، فكيف بغيره؟! فهو معطوف على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 670

[سورة المائدة (5): آية 70]

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)

محل اسم «إن» حيث كان مبتدأ قبل دخول الناسخ وَ النَّصارى ليس اعتبارا بأسمائهم و صبغتهم العامة في النجاة و الثواب، بل مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا حقيقيا من القلب، لا يشوبه شرك و نحوه وَ عَمِلَ صالِحاً أي عمل عملا صالحا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لا في الدنيا و لا في الآخرة، أما في الآخرة فواضح، و أما في الدنيا فلأن الخوف الحقيقي و الحزن الواقعي هو الذي لا يرجى دفعه و تداركه، بينما خوف هؤلاء و حزنهم ليس كذلك، فإن خوف المؤمن ليس كخوف الكافر، و كذلك بالنسبة إلى الحزن.

[71] إن اليهود لم يكن لهم إيمان صادق من يومهم الأول، فكيف تأس عليهم يا رسول اللّه إن لم يؤمنوا بك؟! ف لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ

عهدهم الأكيد حول الإيمان بالله و أنبيائه و اتباع أوامره وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا يهدونهم إلى الحق، لكنهم نقضوا الميثاق و خالفوا الأوامر و تجرءوا على أبشع جريمة ف كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ و لا تميل إلى ما جاء به، بأن لم يكن يوافق مرادهم فَرِيقاً من الرسل كَذَّبُوا كالمسيح عليه السّلام، حيث نسبوهم إلى الكذب و أنهم ليسوا من قبل اللّه سبحانه وَ فَرِيقاً من الرسل يَقْتُلُونَ كزكريا عليه السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 671

[سورة المائدة (5): الآيات 71 الى 72]

وَ حَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)

[72] وَ حَسِبُوا أي ظن هؤلاء اليهود الذين كذبوا الأنبياء عليهم السّلام و قتلوهم أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يسبب قتل الأنبياء عليهم السّلام و تكذيبهم فتنة، كما هو شأن كل من يقدم على جرم كبير يظن أن الأوضاع تبقى على ما يشتهي، منتهى الأمر أن ما صدر عن بعض شهواته يزول و يمحى عن الوجود مع أن الأمر بالعكس، فإن بقاء المجتمع سليما من الأخطار و الآفات إنما هو بانتهاج تعاليم الأنبياء، فإذا أزيح النبي عن القيادة و التوجيه إما بقتله أو تكذيبه، فإنه سوف تحل بالمجتمع أشد الكوارث، و تقع أعظم الفتن فَعَمُوا وَ صَمُّوا عن مناهج الرشد، بقتلهم الأنبياء و تكذيبهم، فإن الإنسان يبصر طريقه

و يسمع الحق الذي ينفعه ما دام هناك نور يضي ء، و مرشد يدعو، أما إذا أزال النور، و أزاح المرشد، فإنه يعمى عن طريقه حتى يقع في المهالك، و يصم عن الحق حتى تحلّ به الكوارث ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بإرسال أنبياء آخرين، و المراد «التوبة» على هذا الجنس لا خصوص من قتل منهم الأنبياء ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا أيضا عن الحق، بأن تركوا تعاليم الأنبياء و أخذوا يتيهون في الضلالة كَثِيرٌ مِنْهُمْ إذ بعضهم آمن و اهتدى، و لفظة «كثير» بدل «بعض» عن «كل» لا فاعل ثان وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على ما اقترفوا من الآثام و احتقبوا من الاجرام.

[73] هكذا كان حال اليهود، حيث كفروا بعد أن أرشدهم اللّه الطريق، أما النصارى فإنهم كإخوانهم اليهود في العمى عن الحق بعد الرشاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 672

[سورة المائدة (5): آية 73]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ و هؤلاء قالوا: إن اللّه اتحد بالمسيح فصار شيئا واحدا، و لا يخفى أن الاتحاد غير معقول إذ لو بقي الشيئان اثنين بعد الاتحاد لم يكن اتحاد و إن عدم أحدهما، كان اللّه، بينما المسيح بنفسه اعترف بأنه عبد اللّه وَ الحال أنه قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده رَبِّي وَ رَبَّكُمْ فإنا جميعا عبيده إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ و يجعل له شريكا، سواء اعترف به و بالشريك، أم اتخذ إلها غيره، فإنه أيضا من جعل الشريك لله فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ

الْجَنَّةَ فلا يدخله فيها أبدا وَ مَأْواهُ أي مصيره النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالشرك مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم من بأس اللّه و عذابه.

[74] و هناك قسم آخر من النصارى جعلوا الآلهة ثلاثة لَقَدْ كَفَرَ النصارى الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي أحد آلهة ثلاثة، و هم: «الأب» أي اللّه، و «الابن» أي المسيح، و «روح القدس»، قالوا: هذه الثلاثة واحد، و ذاك الواحد ثلاثة، و حين يسألون: كيف يمكن ذلك و هو تناقض؟ يقولون: إنه فوق مستوى عقولنا، و لا يلزمنا معرفة الكيفية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 673

[سورة المائدة (5): آية 74]

أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

و هناك سؤال هو أنه ما الفرق بينكم أنتم المسلمون حيث تقولون بأن اللّه لا يدرك كنهه، و بين الذين قالوا إن مشكلة التوحيد و التثليث فوق مستوى عقولنا؟

و الجواب: إن الفرق من أوضح الواضحات، إذ أولئك يقولون بما لا يمكن و لا يعقل، و ما لا يدرك وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أي ليس للكون إلا إله واحد هو اللّه سبحانه وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا أي لم يرجع هؤلاء النصارى القائلون بالتثليث عَمَّا يَقُولُونَ أي عن مقالتهم، و قولهم بالتثليث لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا و الآخرة، و إنما لم يقل «ليمسنهم» لإفادة أنهم بمقالتهم هذه يكونون كفارا، تأكيدا لما سبق من قوله: «لقد كفر» و هذا من أساليب البلاغة، يقال: «اترك هذا الأمر و إلا لسجنت الفاعل له» عوض أن يقول:

«لسجنتك» لإفادة أن علة السجن هو الإتيان بذلك العمل.

[75] ثم استفهم سبحانه استفهاما تعجبيا، و قد تقرأ في الأصول أن أمثال هذه

الاستفهامات و التعجبات إنما هي إنشاء مفهوم الاستفهام و التعجب و أمثالهما، لداعي آخر من ترغيب و إنكار و ما أشبه، فليس استفهامه و لا تعجبه عن جهل و تعجب كما هو عندنا أَ فَلا يَتُوبُونَ هؤلاء اليهود و المسيحيون إِلَى اللَّهِ و يرجعون عن عقائدهم السخيفة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 674

[سورة المائدة (5): آية 75]

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

و أقوالهم المفتعلة وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ لما مضى من كفرهم و عصيانهم وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم إن تابوا أو استغفروا، و يرحمهم بفضله إن رجعوا و آبوا.

[76] و بعد ما ذكر سبحانه أقوال المسيحيين حول المسيح، بيّن تعالى واقع المسيح و أنه ليس كما زعموا مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ أي ليس المسيح عليه السّلام و ذكر «ابن مريم»، لنفي كونه ابن اللّه- في العبادة- إِلَّا رَسُولٌ فليس هو بإله قَدْ خَلَتْ أي مضت و سبقت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فهو رسول كأحدهم، فكما ليس أولئك بآلهة، ليس هذا بإله وَ أُمُّهُ مريم عليها السّلام صِدِّيقَةٌ كانت كثيرة التصديق بالله و آياته، فليست هي إله كما زعم جماعة من المسيحيين فقالوا بالأب و الأم و الابن كانا المسيح و أمه يَأْكُلانِ الطَّعامَ و ذلك من صفات المخلوق لا الإله، إذ آكل الطعام محتاج إلى الطعام، و له جوف، و له أجزاء، و له حالات، و كل ذلك ينافي كونه إله انْظُرْ يا رسول اللّه كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ و نوضح لهؤلاء النصارى الْآياتِ الدالة على عدم كون المسيح إلها ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف

يصرفون عن الحق، يقال: «أفكه يأفكه إفكا» إذا صرفه، و «أنى» بمعنى «أين» أي أنهم أين يصرفون عن الحق الموضّح بالآيات؟!

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 675

[سورة المائدة (5): الآيات 76 الى 77]

قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)

[77] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء النصارى الذين يعبدون المسيح و يجعلونه إلها أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير اللّه ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً فإن شيئا في الوجود لا يملك ضر أحد و لا نفعه إلا بإذن اللّه، و من أضرّ أو نفع بالوسائل الطبيعية- كالقاتل و المعطي- أو بالوسائل الغيبية كالأنبياء و الأئمة، فإنما ذلك حيث جعل اللّه المسببات تابعة لأسبابها الخاصة، و سلط الفاعل على الأسباب، فهي ترجع أيضا إليه سبحانه وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بضمائركم و حركاتكم، فاحذروا مخالفته، كي لا تقعوا في عقوبته و نكاله.

[78] قُلْ يا رسول اللّه: يا أَهْلَ الْكِتابِ إما عام يشمل اليهود و النصارى، فالمراد بغلو اليهود: قولهم عزيز ابن اللّه، و قولهم أن المسيح ليس نبيا، فإنه غلوّ معكوس، أو المراد به النصارى فقط لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ بأن تقولوا: المسيح هو اللّه، أو ثالث ثلاثة، أو إنه ابن اللّه غَيْرَ الْحَقِ عطف بيان، إذ كل غلوّ هو غير الحق وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ فإن أسلافكم لو ضلوا في اعتقادهم و غلوا، فلما ذا تتبعونهم

أنتم، إنهم كانوا من قبل و قد مضوا، فما بالكم أنتم تقتفون أثرهم الباطل وَ أَضَلُّوا كَثِيراً من الناس فأوقعوهم في ضلال الكفر و الشرك وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 676

[سورة المائدة (5): الآيات 78 الى 79]

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)

أي الجادة المستقيمة. و التكرار إنما هو لاختلاف المتعلق، فقد تعدّى أحدهما إلى «من قبل» و تعدى الآخر إلى «عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» أو المراد ب «القوم» كبارهم الذين كانوا قبل النبي قائلين بألوهية عيسى، و أدركوا فلم يؤمنوا، فإنهم ضلوا من قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لقولهم بالتثليث، و ضلوا بعد بعثته لكفرهم به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[79] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ فاللعنة عليهم من قديم الزمان حيث لم ينفكّوا يعملون القبائح و يكفرون بالأنبياء و ينسبون إلى اللّه ما لا يليق به عَلى لِسانِ داوُدَ النبي عليه السّلام في الزبور وَ على لسان عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ في الإنجيل، فقد لعنهم داود عليه السّلام لما اعتدوا في السبت فصاروا قردة، و لعنهم عيسى عليه السّلام لما كفروا بعد فصاروا خنازير ذلِكَ اللعن إنما استحقوه بِما عَصَوْا أي بسبب عصيانهم وَ كانُوا يَعْتَدُونَ أي يتجاوزون حدود اللّه سبحانه.

[80] ثم بيّن سبحانه بعض عصيانهم و اعتدائهم بقوله: كانُوا أي كان بنو إسرائيل لا يَتَناهَوْنَ أي لا ينهى بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ فقد تفشت فيهم المنكرات و لم يكن ينهاهم علماؤهم، فاستحق الجميع العقاب، أولئك

بإتيان المنكر، و هؤلاء بسكوتهم عن فاعليه لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ من إتيان المنكر و عدم التناهي عنه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 677

[سورة المائدة (5): الآيات 80 الى 81]

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

[81] تَرى يا رسول اللّه أن تلك الطبيعة العاتية العاصية موجودة فيهم إلى الآن، فإن كَثِيراً مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل- اليهود- يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يتخذون الكفار أولياء لهم، فقد كان اليهود يتولون كفار مكة و يقولون: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا «1»، في حين يجب على المؤمن أن يعادي الكافر الذي لا يعترف بالله و قوانينه لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أي لهؤلاء اليهود أَنْفُسُهُمْ أي بئس ما قدموا لمعادهم من الأعمال السيئة أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ محله الرفع ب «بئس» فهو كزيد في قولك: «بئس رجلا زيد» أي بئس السخط الذي قدموه لأنفسهم وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ فالسخط يؤذي روحهم، كمن يعلم أن السلطان غاضب عليه، و النار تؤذي جسمهم كما قال سبحانه في عكس ذلك: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ «2»، فإن أهل النار يعذبون عذابين، و أهل الجنة ينعمون نعيمين.

[82] وَ لَوْ كانُوا أي هؤلاء اليهود يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا صادقا وَ يؤمنون ب النَّبِيِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من القرآن الحكيم

______________________________

(1) النساء: 52.

(2) آل عمران: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 678

[سورة المائدة (5): آية 82]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ

وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

مَا اتَّخَذُوهُمْ أي لم يتخذوا الكفار أَوْلِياءَ لهم، أو المراد: أنهم لو آمنوا بموسى و كتابه إيمانا صادقا، لم يتخذوا الكفار أولياء، إذ الإيمان بهما يمنع من ولاية الكافرين، فهم كاذبون في دعواهم أنهم مؤمنون بموسى و كتابه وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة اللّه و رسوله و كتابه، فإنما يدعون الإيمان باللسان، و قلوبهم خالية من الإيمان.

[83] ثم ذكر سبحانه فرقا بين اليهود و النصارى، و أن اليهود طبيعتهم العامة العناد و الاستكبار و العداوة، و أن النصارى ليسوا بتلك المثابة، إذ فيهم بعض المنصفين من العلماء، و ما أصدق قوله سبحانه، فإننا نرى ذلك إلى اليوم، فقد نجد كثيرا من المسيحيين يسلمون، و لا نجد إلا الشاذ النادر من اليهود يسلمون لَتَجِدَنَ يا رسول اللّه أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا أي للمسلمين الْيَهُودَ فإنهم من أعدى أعداء المسلمين وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي المشركين، فإنهم في صف اليهود- و بعدهم في الرتبة- عداوة للمسلمين.

وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ أقرب الناس مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا أي حبّا للمؤمنين الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى فإنهم و إن كانوا نصارى بصرف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 679

اللفظ قالُوا إِنَّا نَصارى «1»، لا أنهم على تعاليم المسيح و دينه حقيقة، لكنهم من أقرب الناس حبا للمسلمين ذلِكَ أي سبب كونهم أقرب بِأَنَّ مِنْهُمْ أي من النصارى قِسِّيسِينَ أي علماء من «القس» بمعنى نشر الحديث وَ رُهْباناً أي الزهاد أصحاب الصوامع من «رهب» بمعنى خاف وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتّباع الحق و الانقياد إليه إذا علموه.

و بهذه الصفة خرج من لم يكن كذلك من النصارى، فإن القيد يخصّص المطلق.

______________________________

(1) المائدة: 15.

الجزء الثاني

[تتمة سورة المائدة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 7

[سورة المائدة (5): آية 83]

وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)

[84] هذه الآية و طرفاها

وردت في قصة النجاشي ملك الحبشة، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أرسل جعفر بن أبي طالب عليه السّلام مع جماعة من المؤمنين إلى النجاشي فأكرمهم و أعزّ وفادتهم، ثم أنه بعث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثلاثة من القسيسين فقال لهم: انظروا إلى كلامه و مصلاه. فلما وافوا المدينة دعاهم رسول اللّه إلى الإسلام و قرأ عليهم القرآن: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إلى قوله- سِحْرٌ مُبِينٌ «1»، فلما سمعوا ذلك من رسول اللّه بكوا و آمنوا و رجعوا إلى النجاشي و أخبروه خبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قرءوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي و بكى القسيسون و أسلم النجاشي و لم يظهر للحبشة إسلامه و خافهم على نفسه و خرج من بلاد الحبشة يريد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما عبر البحر توفي، فنزلت هذه الآيات

: وَ إِذا سَمِعُوا أي هؤلاء النصارى ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ من القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي من البكاء مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ أي

لمعرفتهم أن المتلوّ عليهم حق، فإن الإنسان إذا عرف الحق، رأى الخارج على خلافه، أو رأى اضطهاد أهله، بكى رقة على الحق أو القائم به يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بدينك و رسولك فَاكْتُبْنا أي سجلنا، سواء كان كتابة حقيقية أو لا مَعَ الشَّاهِدِينَ الذين شهدوا

______________________________

(1) المائدة: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 8

[سورة المائدة (5): الآيات 84 الى 87]

وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)

بالحق، و المراد بهم المسلمون هنا.

[85] وَ ما لَنا أي يقول هؤلاء النصارى: لأي عذر لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ إيمانا حقيقيا كإيمان المسلمين وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِ من القرآن و الإسلام وَ الحال أنّا نَطْمَعُ أي نرجو و نأمل أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا في الجنة مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ

[86] و قد حقق الله لهم الرجاء الذي رجوه فَأَثابَهُمُ اللَّهُ أي جازاهم و أعطاهم الثواب بِما قالُوا أي بسبب قولهم ذاك المنبثق عن عقيدتهم الراسخة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي بساتين تجري من تحت أشجارها و قصورها الأنهار خالِدِينَ فِيها أي لهم الخلود فلا انقضاء للنعيم و لا زوال لهم وَ ذلِكَ الثواب جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون العقيدة و القول و العمل.

[87] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا كاليهود و سائر المسيحيين و المشركين وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يقبلوها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ الذين يلازمون النار، كما خلد

أصحاب الجنة فيها.

[88] و في سياق ذكر الرهبان و هم يحرمون الطيبات على أنفسهم، يأتي النهي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 9

للمسلمين عن تحريم ما أحلّ الله، كما ينهى عن الإسراف و الاعتداء، فإن كلا الطرفين منهي عنه مذموم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي لا تجعلوها بمنزلة المحرمات فتجتنبوا عنها اجتنابكم عن المحرمات و لفظة «ما» موصولة، أي طيبات الأشياء التي أحلها الله لكم، و لعلّ الإتيان بها لإفادة العموم، إذ لو قال: «طيبات أحل الله لكم» كان المتبادر منه طيبات خاصة، و ليست إضافة طيبات إلى «ما» تفيد التقييد، بل هو من باب «قطيفة خز».

و قد نزلت هذه الآية في الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و بلال و عثمان ابن مظعون،

فأما علي عليه السّلام فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله، و أما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، و أما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا- كل ذلك بقصد الامتناع عن شهوات الدنيا رجاء ثواب الله- فدخلت امرأة عثمان على عائشة و كانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لي أراك متعطلة؟ فقالت: و لمن أتزيّن، فو الله ما قربني زوجي منذ كذا و كذا فإنه قد ترهّب و لبس المسوح و زهد في الدنيا. فلما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبرته عائشة، فخرج فنادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات؟! إني أنام بالليل و أنكح و أفطر بالنهار فمن رغب عن سنتي فليس مني، فقام هؤلاء فقالوا:

يا رسول اللّه فقد حلفنا على ذلك، فأنزل الله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ «1» «2»

، و لا يخفى أن مثل ذلك لا يضر مقام عصمة الإمام لأنه:

أولا: قيّد ب «إلا ما شاء الله».

______________________________

(1) البقرة: 226.

(2) وسائل الشيعة: ج 23 ص 243.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 10

[سورة المائدة (5): الآيات 88 الى 89]

وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

و ثانيا: أنه من قبيل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ «1»، و لعل السر في المقامين أن الأمر كان جائزا قبل النهي، و لفظة «لم» ليس للتقريع، بل للإرشاد و إعطاء الحكم.

وَ لا تَعْتَدُوا حتى تسرفوا في تناول الطيبات، أو تتعدوها إلى الخبائث إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قد تقدم أن معنى «لا يحب» في هذه المقامات: أنه يكرههم و يبغضهم.

[89] وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي في حال كون الرزق حلالا- أي مباحا- طيبا، أي لا ضرر فيه و لا خبث وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ أي بالله مُؤْمِنُونَ فلا تخالفوا أوامره و لا ترتكبوا زواجره.

[90] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اليمين التي أجازها الله سبحانه هي التي تكون منعقدة و تترتب على حنثها الكفارة، أما اليمين اللفظية- التي تتداول على ألسنة الناس حيث يحلفون على كل صغيرة و كبيرة-

و اليمين التي لم يعط الله الرخصة في متعلّقها كيمين تحريم الطيبات على النفس زهدا، فهي لغو من اليمين لا تترتب عليها كفارة، و لا يكون نقضها حنثا وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ عن قصد و تعمّد مع

______________________________

(1) التحريم: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 11

صلاحية المتعلّق للانعقاد، فقول الإنسان: «لا و الله» و «بلى و الله» لغو لم يقصد به عقد اليمين، كما يعقد العقد، بل هو من قبيل التأكيد كما أن عقده بدون صلاحية المتعلق لا يفيد شيئا. و قد سبق ذلك في سورة البقرة، لكن التكرار هنا فذلكة للحكم المتقدم و تمهيد للكفارة.

فَكَفَّارَتُهُ أي كفارة ما عقّدتم من الأيمان، و سميت الكفارة كفارة لأنها تكفّر الذنب و تستره، و إنما تجب الكفارة إذا حنث الإنسان مقتضى يمينه إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ جمع مسكين، و المراد به الفقير، يعطي كل واحد مدا من الطعام، و هو ما يقرب من ثلاثة أرباع الأوقية- بحقة كربلاء- أو ثلاثة أرباع الكيلو، أو يطعمهم إطعاما مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ فلا يجب في إطعامهم الحد الأعلى و هو الأرز مثلا، و لا يجوز الأدنى كإطعامهم بالدخنة مثلا أَوْ كِسْوَتُهُمْ أي يكسي كل واحد من العشرة بثوبين «المئزر و القميص» بأي جنس كان أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي عتق عبد أو أمة لوجه الله سبحانه، و إنما عبر عن الإنسان بالرقبة، لعلاقة الكل بالجزء فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أحد الأمور الثلاثة للكفارة فكفارته صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ متتابعات- كما ذكر الفقهاء- و ذلِكَ المتقدم من الأمور الثلاثة ثم الصيام كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ جمع يمين و هو الحلف إِذا حَلَفْتُمْ ثم حنثتم وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ فلا تحنثوها بل

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 2، ص: 12

[سورة المائدة (5): الآيات 90 الى 91]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

أوفوا بها كَذلِكَ البيان، أي مثل هذا البيان الذي بيّن به الكفارة، و حكم اللغو في اليمين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ واضحة لا لبس فيها و لا غموض لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله سبحانه حيث أرشدكم إلى مصالحكم.

[91] و بعد ذكر تحليل الطيبات يأتي بيان تحريم الخبائث يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ و هي كل ما أسكر سواء كان من العنب أو غيره وَ الْمَيْسِرُ هو القمار بجميع أنواعه وَ الْأَنْصابُ و هي الأصنام كانوا يذبحون لها الذبائح و يلطخونها بدمائها وَ الْأَزْلامُ قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة و ذلك نوع من أنواع القمار خصّص بالذكر لاشتهاره في زمن الجاهلية، و قد مر تفسير هذه الكلمات سابقا رِجْسٌ أي خبيث مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فإن الشيطان هو الذي أمر بتعاطيها، مقابل عمل الرحمن، بمعنى: هو الذي أمر به و عمله، فإن الشيطان هو الذي عمل هذه الأشياء إما حقيقة كما يظهر من بعض الأحاديث، و إما مجازا باعتبار وسوسته و إلقائه في قلوب الفاسقين فَاجْتَنِبُوهُ أي اجتنبوا تعاطي هذه الأشياء فلا تشربوا الخمر و لا تضربوا الميسر و لا تعبدوا الأصنام و تستقسموا بالأزلام لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي كي تفوزوا بخير الدنيا و سعادة الآخرة.

[92] إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ بوسوسته و أمره بشرب الخمر و لعب الميسر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 13

أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ أيها المسلمون

الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ و الفرق بينهما أن أصل التعدي من فعل الجوارح، و أصل البغضاء من فعل الجوانح فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ أي بالنسبة إليهما، فإن «في» تستعمل بمعنى «النسبة» كما قالوا في قولهم: «الواجبات الشرعية في الواجبات العقلية» أن «في» بمعنى النسبة، أي بالنسبة إلى الواجبات العقلية.

في المجمع: أن سعد بن أبي وقاص و رجلا من الأنصار كان مؤاخيا لسعد دعاه إلى طعام فأكلوا و شربوا نبيذا مسكرا فوقع بين الأنصاري و سعد مراء و مفاخرة فأخذ الأنصاري لحى جمل فضرب به سعدا ففزر أنفه. فأنزل الله ذلك فيهما «1».

أقول: إن إيقاع العداوة بواسطة الخمر ظاهر، إذ السكر الموجب لذهاب العقل يوجب كل شي ء، و إيقاعه بسبب القمار، من جهة الاختلاف بينهما فيمن له الغلب أولا و بغض المغلوب للغالب ثانيا.

وَ يَصُدَّكُمْ كل واحد من الخمر و الميسر عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إذ الإسكار يوجب عدم الالتفات إلى الله سبحانه، و القمار بإشغاله الحواس، منسي له اللّه تعالى وَ عَنِ الصَّلاةِ لما هو واضح مما تقدم فَهَلْ أَنْتُمْ أيها المسلمون مُنْتَهُونَ عنهما، فتتركونهما لهذه المضار، و صيغة الاستفهام بمعنى النهي كما هو واضح.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 411.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 14

[سورة المائدة (5): الآيات 92 الى 93]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

[93] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في الأوامر و النواهي، و من المعلوم أن طاعتهما واحدة، و

إنما يذكر الله لأنه الأصل في الإطاعة، و يذكر الرسول لأنه المبلغ الذي بيّن الأمر و النهي وَ احْذَرُوا من مخالفتهما فإن ذلك موجب لخزي الدنيا و الآخرة فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن إطاعتهما فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فانتظروا العقوبة حيث قد بلّغكم الرسول فلم ينفعكم البلاغ و تجاوزتم الحد.

[94] و لما نزل تحريم الخمر و الميسر قال بعض الصحابة: يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين مضوا و هم يشربون الخمر و يأكلون الميسر- يريدون هل من إثم على الذين قتلوا أو ماتوا قبل التحريم، و هم يتعاطونهما؟- فنزلت هذه الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم و حرج و عصيان فِيما طَعِمُوا سابقا قبل التحريم من الخمر و تعاطوا من الميسر و غلّب أحد اللفظين تخفيفا كما قال الشاعر: «علفتها تبنا و ماء باردا» إِذا مَا اتَّقَوْا «ما» زائدة، وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي إذا كان طعامهم مصاحبا للتقوى و الإيمان و العمل الصّالح، ثمّ إنّ الإنسان قد يكون مؤمنا و عاملا للصالحات لكنّه ليس متّقيا، أي ليس في نفسه حالة رادعة و ملكة الخوف من الله سبحانه، و لذا ذكر سبحانه التقوى في عداد الإيمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 15

و العمل الصالح. ثمّ كرر سبحانه الجملة السابقة أي «اتّقوا و آمنوا و عملوا الصّالحات» بتعبير ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا بلا ذكر العمل الصالح و ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا بلا ذكر الإيمان، و لا يخفى أن الإحسان هو عبارة عن العمل الصالح. و لعل الوجه في التكرار إفادة الدوام في الصفات الثلاثة، أي أن عدم الجناح مشروط «بالإيمان و التقوى و العمل الصالح»

سابقا، «و بالإيمان و التقوى و العمل الصالح» مستمرا فيما بعد، و قد كررّ «التقوى» في الجملة الثانية لتأكيد أن كلّا من الإيمان و العمل الصالح لا ينفع بدون التقوى، و الذي يقرّب إرادة الدوام من الجملة الثانية دخول «ثمّ» فيها، فاستمرار التقوى مع الإيمان، و استمرار التقوى مع العمل الصالح، شرط في عدم الجناح.

و هنا سؤال: إن ظاهر الآية «اشتراط عدم الجناح بالطعام، بالإيمان و التقوى و العمل الصالح» و إذا فرضنا أن الطعام كان محللا- كما عرفت في شأن النزول، إذ كانت الخمر لم تحرم بعد- فما معنى هذا الشرط؟ فقد كان شرب الخمر- قبل تحريمها- مباحا حلالا للمسلم و الكافر، فأي معنى لتقييد التحليل بالإيمان؟

و الجواب: أن الشرط لا مفهوم له، فليس المعنى «الجناح إذا لم يؤمنوا» إذ الشرط كما يساق غالبا لبيان المفهوم، نحو «إن جاءك زيد فأكرمه» المفهوم منه «إن لم يجئك فلا تكرمه» يساق أحيانا لبيان تحقق الموضوع، نحو: «إن رزقت ولدا فاختنه» فإنه لا مفهوم له ب «إن لم ترزق ولدا فلا تختنه» إذ أن «لم يرزق ولدا» يكون من السالبة بانتفاء الموضوع، و إنما الجملة «إن رزقت» معناها: «يجب الختن للولد» ..

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 16

[سورة المائدة (5): آية 94]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)

و هنا كذلك، إذ الآية مسوقة لبيان «أن المؤمنين الذين شربوا و هم متقون عاملون بالصالحات ليس عليهم جناح» في مقابل توهم الأصحاب أن عليهم الجناح، لا أنه سيق للمفهوم حتّى يقال بعدم استقامة مفهومه ... ثم إنه من المحتمل أن

يكون في تناول الكفار للمباح حضر، كما دلّ الدليل أن في تناول المباح للنصّاب حضر، فمن شرب من نهر الفرات من أعداء الصديقة الطاهرة عليها السلام كان شربه محرما، و على هذا فللمفهوم مجال واسع في الآية.

وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في أمورهم، و كأنه حث على الإحسان و إن لم يكن المحسن من أهل الإيمان. و لا يخفى أن من طعم محرما و تذرّع لرفع الحد عنه بهذه الآية، فهو مخطئ إذ الآية تشترط في عدم الجناح الإيمان و التقوى و العمل الصالح، و من المعلوم أن التقوى و العمل الصالح يتنافيان مع عمل المحرم.

[95] و في سياق التحليل و التحريم، و تتميما لما تقدم في أول السورة من قوله سبحانه: «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ» و قوله: «إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» يأتي ذكر الصيد في حال الإحرام و كفارته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ من «بلا» بمعنى اختبر، يعني ليختبركم الله و يمتحنكم بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي ببعض الصيد المحرّم على المحرم تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ فيكون في طريقكم إلى الحج بعض أقسام الصيد سهل التناول حتى أن أحدكم لو مدّ يده لتمكن من أخذه، و لو شرع رمحه لتمكن من صيده، و بالأخص فراخ الطير و صغار الوحش و بيض الطير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 17

[سورة المائدة (5): آية 95]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ

اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)

المحرم، فقد ابتلي المؤمنين في عمرة الحديبية بكثرة الصيد في طريقهم إلى مكة و قد كان ذلك اختبارا من الله لهم، أيّهم يطيع فيتجنب و أيّهم يعصي فيصيد؟! و إنما كان ذلك الاختبار لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي بالسر و الخلوة، و بعيدا عن أعين الناس، و قد تقدّم سابقا أن اختبار الله ليس لأنه لا يعلم، و إنما لأجل أن يظهر معلومه، و يتم الحجة كما أن «ليعلم» يراد به «ظهور معلومه» فإن العلم حيث كان من الأمور ذات الإضافة صح أن يكون السبب له انكشاف المعلوم للعالم، و أن يكون وجود المعلوم في الخارج، و المراد بالغيب ما غاب عن الحواس، و هو إما بالنسبة إلى الله، أو بالنسبة إلى سائر الناس أي في حال عدم رؤيتكم لله سبحانه، أو عدم رؤية الناس لكم فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي بعد النهي- المستفاد من الكلام- بأن صاد و خالف أوامر الله فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[96] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ أي في حال كونكم محرمين، و المراد بالصيد كل وحش أكل أم لم يؤكل إلّا ما استثني، و «حرم» جمع «محرم»، يقال: أحرم الرجل إذا دخل في الحرم أو في الإحرام، فالآية تدل على حرمة الصيد الحرمي، و الصيد الإحرامي، كما أن ذلك، عام للحج و العمرة وَ مَنْ قَتَلَهُ أي قتل الصيد مِنْكُمْ أيها المحرمون مُتَعَمِّداً و هذا القيد لا مفهوم له، لأنه من مفهوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 18

اللقب الذي ثبت عند العلماء عدم المفهوم له، فإن للخطأ أيضا كفارة، كما ثبت في السنة، و لعل فائدة القيد كونه

الغالب الذي يتناوله الإنسان، بالإضافة إلى أنه يترتب على ما يأتي من قوله: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ» فَجَزاءٌ عليه كفارة مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ «من» بيان لجزاء، أن جزاءه أن يكفر بإحدى النعم الثلاث المشابهة لذلك الصيد المقتول.

فمثلا: الظبي شبيه بالشاة، و حمار الوحش و بقرته شبيهان بالبقرة، و النعامة شبيهة بالجزور يَحْكُمُ بِهِ أي بالمثل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي رجلان عادلان، فيحكمان أن الحيوان الفلاني الذي اصطيد هو مثل الحيوان الفلاني من الأنعام الثلاثة- الشاة و البقرة و الإبل- فكلما حكما بأنه مثل الصيد أخذ كفارة له.

و قد ورد في الأحاديث: أن المراد بذوي العدل هم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمام عليه السّلام «1» فما وجد من النصوص في مورد المماثلة وجب الحكم به، و ما لم يرد فالظاهر عدم المانع في التمسك بظاهر الآية من كفاية إخبار عادلين عارفين بالمماثلة، إن لم يوجد نص بالخلاف بالقيمة أو ما أشبه.

هَدْياً أي في حال كون الكفارة تهدى هديا بالِغَ الْكَعْبَةِ أي يذهب بها إلى صوب الكعبة فإن أصاب الصيد و هو محرم بالعمرة ذبح جزاءه بمكة و إن كان محرما بالحج ذبحه بمنى أَوْ يكون جزاء الصيد كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ فإذا لم يجد الأنعام أخذ بقيمتها الطعام

______________________________

(1) الكافي: ج 4 ص 397.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 19

[سورة المائدة (5): آية 96]

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

و تصدق به على المساكين أَوْ يكون جزاء الصيد عَدْلُ ذلِكَ أي معادل الإطعام صِياماً فلكل مدّين صوم يوم، و تفصيل هذه الأمور تطلب

من الفقه في كتاب الحج.

و إنما شرعت الكفارة لِيَذُوقَ الصائد وَبالَ أي عقوبة أَمْرِهِ أي عمله و هو الاصطياد المنهي عنه عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من الصيد فمن صاد متعمدا و كفّر عفا سبحانه عن ذنبه وَ مَنْ عادَ إلى الصيد متعمدا مرة ثانية فلا كفارة عليه من عظم ذنبه، فإنه لا يغسل بالكفارة بل ينتقم اللَّهُ مِنْهُ في الآخرة انتقاما لهتكه حرمة الإحرام أو حرمة الحرم.

هذا ما فسّرت به الآية الكريمة في الأحاديث، و إن كان لا يبعد انصراف الآية الكريمة إلى «ما سلف» قبل التحريم و العفو باعتبار أنه غير جائز حتى عند الجاهليين، و ما أعيد بعد التحريم، فيكون العفو عما سلف من قبيل «الإسلام يجبّ عما قبله» و المراد بالانتقام الكفارة و العقاب وَ اللَّهُ عَزِيزٌ قادر غالب ذُو انْتِقامٍ ينتقم من كل من عصاه و خالفه.

[97] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ و المراد من البحر الأعم من النهر، فإن العرب تسمي النهر بحرا، فإن صيده مباح في حال الإحرام، و لو في الحرم- لو صار فيه بحر، أو أتى بصيده إليه- هذا بالنسبة إلى صيده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 20

[سورة المائدة (5): آية 97]

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (97)

وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 97 جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ وَ أما بالنسبة إلى أكله ف طَعامُهُ أي طعام البحر، قد متعتم به مَتاعاً و المتاع ما يتمتع

به الإنسان لَكُمْ أيها المحرمون وَ لِلسَّيَّارَةِ أي القوافل السيارة التي تسير كثيرا، فإن السمك يجفّف للسفر، و إنما خصص بالسفر مع أنه طعام للحضر أيضا، لكثرة انتفاع المسافر، إذ لا يمكن غالبا ذبح الأنعام في السفر، فينتفع المسافر بالسمك المجفف انتفاعا كثيرا وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ الأعم من الوحش و الطير ما دُمْتُمْ حُرُماً جمع «محرم»، أي ما دمتم في الإحرام و ما دمتم في الحرم- كما تقدم- يقال: رجل حرام، إذا كان محرما أو كان في الحرم وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه، فلا ترتكبوا نواهيه الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الحشر هو الجمع، أي يكون مصيركم و حشركم إليه، فيجازيكم بما اقترفتم من الذنوب و الآثام.

[98] و في سياق حكم الصيد في حال الإحرام، يأتي الكلام حول ما جعله سبحانه حراما من المكان و الزمان، ليهدي الناس في فترات معينة و أماكن معينة عن الخصام و الانتقام، الذي يكدّر الحياة البشريّة جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ سمّيت الكعبة «كعبة» لتربيعها و إنّما قيل للمربّع: كعبة لنتوء زواياه الأربع، مقابل المدوّر، و الكعب هو النتوء و الارتفاع الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على الكعبة، و إنّما جي ء بهذا العطف، لأنّه كانت لدى الجاهليين، كعبات متعدّدة و كانوا يحجّون إليها و يطوفون بها، فهدمها النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و سمّى البيت الحرام، لحرمته

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 21

و لأنّه يحرم فيه القتال و الصّيد و غيرها قِياماً لِلنَّاسِ مفعول ثان ل «جعل» أي جعل الله الكعبة لقيام النّاس، بأن تقوم أمورهم، و تستقيم أحوالهم، اقتصاديّا و اجتماعيّا، و غيرهما، كما ذكر في فلسفة الحجّ «1».

وَ جعل الله الشَّهْرَ الْحَرامَ قياما للناس، فأشهر

الحرم:

و هي ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب، تقوم أمور الناس و اجتماعهم، إذ تخفّف عن كواهلهم عب ء الحروب، و المخاصمات و تسبب الأمن و الهدوء، مما يروّج الاقتصاد، و يهيئ الجوّ الملائم للتفاهم و غيرها، فالبيت الحرام أمن في المكان، و الشهر الحرام أمن في الزمان، و قد جعل سبحانه الأمن متعديا إلى خارج هذه الحدود فجعل وَ الْهَدْيَ أي محترما لا يمس بسوء، و هو ما يهدى إلى الكعبة بإشعار أو تقليد وَ الْقَلائِدَ جمع قلادة أي ما تقلّدها- بعلاقة الحال و المحل- أي جعل القلائد محترمة لا تمس بسوء. و المراد بالقلائد إما الحيوان الذي يقلّد، أو الإنسان الذي يحرم فيقلد نفسه. قالوا: كان الرجل يقلّد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف.

و لا يقال: أن غير الهدي و القلائد أيضا محترم لأنه لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره أو بدن غيره فما معنى الاختصاص هنا؟

لأن الجواب ظاهر: فإن الهدي لا يجوز أن يمس، و إن جاز مسّه لو لا كونه هديا بسبب الاقتصاص و الإفلاس و نحوهما، كما أنه لا يجوز أن يتعدّى على المحرم بما يجوز التعدي عليه في غير حال الإحرام، فلا يجوز أخذ المحرم و حبسه و لو كان بحق- إذ الواجب إتمام العمرة

______________________________

(1) راجع كتاب «عبادات الإسلام» للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 22

[سورة المائدة (5): الآيات 98 الى 99]

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (99)

و الحج لله- فكما لا يجوز لنفسه الإبطال لا يجوز لغيره الإبطال.

ذلِكَ أي إنما جعل سبحانه

هذه المحرمات لِتَعْلَمُوا أيها الناس أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنه عالم بأحوال الإنسان و ما يكتنفه من العداء و الشر و أنه يحتاج إلى هدوء و سكينة في المكان و في الزمان، و أن الناس يحتاجون إلى ما يقيم معاشهم و معادهم، و لذا جعل هذه المحرمات للاستراحة و الاستجمام، و لعل ذكر السماوات استطراد، فإنّ ما ذكر مرتبط بالأرض، لكن لو ذكرت وحدها لأوهم عدم علمه سبحانه بما في السماوات وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ من أحوال الإنسان و الحيوان و الأزمان و الأماكن و غيرها.

[99] و لمّا تقدّم بعض الأحكام عقّبه سبحانه بذكر الوعد و الوعيد اعْلَمُوا أيها النّاس أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه و خالفه وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و آمن و عمل صالحا، فإنّه يغفر ذنوبكم و يرحمكم بفضله و سعته.

[100] ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أي أداء الرسالة و بيان الشريعة، أما القبول من الناس فليس من شأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يرتبط به وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي تظهرون من الأقوال و الأعمال وَ ما تَكْتُمُونَ من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 23

[سورة المائدة (5): الآيات 100 الى 101]

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

النيات و الأعمال، فإنه لا يخفى عليه شي ء و يجازيكم بكل ذلك، فأحسنوا و لا

تخالفوا.

[101] و لما بين سبحانه الحلال و الحرام ذكر أنهما لا يستويان، فلا يتناول أحد خبيثا مدعيا أنه لا فرق بين هذا و غيره، كما نرى اليوم كثيرا من الناس يتناولون المحرمات مدّعين عدم الفرق بينها و بين المحللات قُلْ يا رسول الله: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ المحرم وَ الطَّيِّبُ المحلل، فإنهما ليسا متساويين وَ لَوْ أَعْجَبَكَ أيها السامع كَثْرَةُ الْخَبِيثِ و زيادته على الطيب، كما نرى من أن أنواعا من الحيوان المحرم أكثر من المحلل، فإن كثرة الخبيث لا تسبب طيبه و لعل قوله «و لو» لدفع استبعاد بعض الناس: أنه كيف يمكن أن يكون هذا الشي ء الكثير حراما؟: فَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عصيانه و لا تخالفوه يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي كي تفوزوا بالثواب العاجل و الآجل.

[102] قلنا سابقا قد جرت عادة القرآن الحكيم، بعدم إطالة أمر واحد، فيمل السامع فهو إذا أراد الإطالة، ذكر في الأثناء ما يلطّف الجو، و يرفع الملل من السامع، ببيان حكم جديد منبّه، و هكذا أتت آية السؤال هنا في وسط الحرام و الحلال، بالإضافة إلى ارتباط الآية بالحج، حيث أنها وردت في باب السؤال عن الحج.

فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطب فقال: إن الله كتب عليكم الحج. فقام سراقة بن مالك فقال: في كل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 24

عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ويحك و ما يؤمنك أن أقول: نعم، و لو قلت: نعم، لوجبت، و لو وجبت ما استطعتم، و لو تركتم

لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه «1». فنزلت

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ متصفة بأنها إِنْ تُبْدَ لَكُمْ أي تظهر لكم تَسُؤْكُمْ أي تسبب سوءا أو حزنا و صعوبة عليكم وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها أي عن تلك الأشياء حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي في فترة الوحي و وجود النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أظهركم تُبْدَ لَكُمْ لأن الوحي يأتي إليه بالجواب فيكون موجبا للصعوبة عليكم بتشريع أحكام جديدة أنتم في غنى عنها.

و هنا سؤال: كيف يمكن عدم السؤال إن كان من الأمور المرتبطة بالدين؟ و هل أن أحكام الله اعتباطيّة حتّى يشرّعها السؤال؟ أليس كلّ حكم تابع للمصلحة و المفسدة، و يبيّن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك لإيصال الناس إلى مصالحهم و مفاسدهم؟ و ما خصوصية «حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ» فإن الأئمة عليهم السّلام أيضا بتلك المثابة حيث أنهم يعلمون جميع الأحكام؟

و الجواب: أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد التي منها مصلحة التسهيل على المكلفين، فكثيرا ما لا يشرع حكم- كعدم وجوب السواك- لمصلحة التسهيل، و من المعلوم أن هذه المصلحة قد

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 25

عَفَا اللَّهُ عَنْها ترتفع إذا كان هناك لجاج و عناد و ظلم، كما قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1»، و بهذا ظهر الجواب عن السؤال الثاني.

و أما السؤال الأول: فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا كان في مقام بيان جميع

الأحكام، و ليست القضية شخصية، كابتلاء بإرث لا يعلم تقسيمه، أو زوجة لا يعرف حقها، أو ولد عاص لا يدري كيف يعاشره أو أشباه ذلك، لم يكن وجه للسؤال، لأنه تعنّت و إرهاق.

و أما السؤال الثالث: فلأن المصالح التشريعية قد كملت في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى أنه لا تشريع جديد بعده، و لذا فلم يكن الأئمة عليهم السّلام بمثابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في إمكان تشريع الحكم، و إن كان من الممكن التشريع لو حدث في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شي ء، و هذه المصلحة و هي انسداد باب التشريع حتى لا يكون لأحد ذلك- بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و إن كان مفوّتا لمصالح واقعية- مثلا- لكنها أقوى في الاعتبار من مراعاة مصالح لأحكام جديدة.

و لعل الجواب على الإشكال الثاني يستفاد من حديث

ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قال «إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، و حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها» «2».

عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عن تلك الأشياء فلا تتكلفوها، أنه سبحانه

______________________________

(1) النساء: 161.

(2) وسائل الشيعة: ج 15 ص 260.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 26

[سورة المائدة (5): الآيات 102 الى 103]

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)

رجّح مصلحة التسهيل عليكم على مصلحة تلك الأحكام،

فإن تسألوا عنها و تعاندوا ترفع تلك المصلحة التسهيلية فتبتلون بها وَ اللَّهُ غَفُورٌ يغفر ما سلف حَلِيمٌ يمهلكم فلا يعجل في عقابكم.

[103] قَدْ سَأَلَها أي سأل عن تلك الأشياء التي إن تبد تسي ء السائل قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم السابقة، كما سأل اليهود عيسى عليه السّلام المائدة، ثم كفروا، و سأل بنو إسرائيل القتال، فلما أجيبوا ولّوا إلا قليلا منهم، و سأل قوم صالح الناقة ثم عقروها، أو «من المشركين» حيث سألوا من النبي أشياء ثم لما بدت لهم كفروا و لم يؤمنوا ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ فازدادوا عذابا على عذابهم، و هذه الآية كالتعليل للنهي في الآية السابقة.

[104] ثمّ يرجع السياق إلى ذكر بعض الأمور المحللة التي حرمها أهل الجاهلية ما جَعَلَ اللَّهُ أي لم يحرم الله- كما يزعم أهل الجاهلية- مِنْ بَحِيرَةٍ هي الناقة إذا شقّت أذنها، من «البحر» بمعنى الشق وَ لا سائِبَةٍ من «ساب الماء» إذا جرى، أي الناقة السائبة التي تجري على الأرض بدون أن يمسها أحد- كما سيأتي- وَ لا وَصِيلَةٍ من «الصلة» ضد القطيعة و هي قسم من الناقة و الشاة كانوا يحرمونها وَ لا حامٍ من «حمى يحمي» إذا حفظ، و هو قسم من الإبل كانوا يحرمونه لأنه حمى نفسه، فقد كان أهل الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن خامسها أنثى بحروا أذنها أي شقوها و حرموها على النساء فإذا ماتت حلّت، و إذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 27

[سورة المائدة (5): آية 104]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (104)

ولدت عشرا جعلوها سائبة

لا يستحلون ظهرها و لا أكلها، و ربما تسيّب بنذر، فكان ينذر أحدهم إن برئ مريضه أو جاء مسافره فناقته سائبة، و إذا ولدت ولدين في بطن واحد، أو الشاة ولدت في السابع ذكر أو أنثى في بطن واحد قالوا: وصلت فلم تذبح و لم تؤكل و حرّموا ولدي الشاة على النساء حتى يموت أحدهما فيحل. و الحام الفحل إذا ركب ولد ولده أو نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب و لا يمنع من كلأ و ماء، فأنزل الله عزّ و جلّ أنه لم يحرم من هذه الأمور شي ء.

وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فينسبون تحريم هذه الأشياء إلى الله سبحانه كذبا و بهتانا وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي ليس لهم عقل يميزون به بين الحرام و الحلال و الحق و الباطل.

[105] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي لهؤلاء الذين يحرمون أشياء افتراء تَعالَوْا أي هلمّوا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام في القرآن وَ إِلَى الرَّسُولِ كي تصدقوه و تتبعوا سنته قالُوا في الجواب حَسْبُنا أي يكفينا لمصالحنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من العقائد و الأقوال و الأعمال و العادات.

و هنا يسأل سبحانه سؤال إنكار و تعجب بقوله: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الحق و الباطل وَ لا يَهْتَدُونَ إلى الحق، أي:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 28

[سورة المائدة (5): الآيات 105 الى 106]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ

إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

فهل يتبعونهم و لو كانوا جهالا ضالين؟

[106] و لما بيّن سبحانه أحوال الكفار و أنهم ضالون أمر المسلمين باتباع الحق، و أنهم لا يضرهم ضلال من ضل، بينما هم مهتدين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ «عليك» اسم فعل بمعنى: الزم و احفظ، أي احفظوا أَنْفُسَكُمْ عن الضلال و الانحراف لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ من الناس إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أي إذا كنتم مهتدين. و من المعلوم أن من شروط الاهتداء الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإرشاد و سائر الواجبات التي هي من هذا القبيل.

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أيها الناس جَمِيعاً فإن مصير الضال و المهتدي إليه سبحانه فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الأعمال الحسنة و القبيحة، و ليس كالدنيا يختلط فيها الحابل بالنابل فتؤخذون أنتم بذنوب الضالين اشتباها و تعمدا، أو يشتبه أمر الضالين، فلا يجازون بالعقاب.

[107] ثم تعرّض سبحانه لبيان تشريع جديد ورد في قصة خاصة، يرجع إلى سنّ بعض الأحكام، بعد ما فرغ من بعض أقسام الحلال و الحرام.

فقد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أن ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجارا إلى الشام: تميم بن أوس الداري و أخوه عدي، و هما نصرانيان، و ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص السهمي و كان مسلما، حتّى إذا كانوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 29

ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية فكتب وصيته بيده و دسها في متاعه و أوصى إليهما و دفع المال إليهما و قال: أبلغا هذا

إلى أهلي. فلما مات فتحا المتاع و أخذا ما أعجبهما منه ثم رجعا بالمال إلى الورثة، فلما فتش القوم المال فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم فنظروا إلى الوصية فوجدوا المال فيها تاما فكلموا تميما و صاحبه فقالا: لا علم لنا به و ما دفعه إلينا، أبلغناه كما هو، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

فنزلت الآية

، و ستأتي تتمة القصة.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ «شهادة» مرفوع بالابتداء خبره «اثنان» أي الشهادة المعتبرة شرعا فيما بينكم شهادة نفرين إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بأن ظهرت عليه آثار الموت حِينَ الْوَصِيَّةِ أي في وقت الوصية اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي رجلان عادلان من المسلمين أَوْ آخَرانِ أي شخصان آخران لتحمل الشهادة مِنْ غَيْرِكُمْ أي من غير المسلمين، و «أو» هنا للترتيب لا للتخيير إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم و لم تجدوا مسلمين للإشهاد على الوصية فأشهدوا نفرين آخرين فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ بأن ظهرت علائمه، و الجملة الشرطية لتقييد قوله «آخران» فإن إشهادهما مشروط بالضرب في الأرض، و هذا من باب المورد، و إلا فالمعيار عدم وجود مسلمين، و إن كان في الحضر، فإذا تحملا الشهادة، و أرادا الإدلاء بها

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 30

فهو بهذه الكيفية تَحْبِسُونَهُما أي تقفونهما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي صلاة العصر و ذلك لاجتماع الناس و تكاثرهم في ذلك الوقت، و لعله ليكون أردع للكذب إذ الاجتماع يسبب الهيبة في قلب المدلي للشهادة فَيُقْسِمانِ أي الشاهدان غير المسلمين بِاللَّهِ و هذا دليل على أن الشاهد يجب أن يكون معترفا بالله كأهل الكتاب إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم

في شهادتهما و احتملتم التبديل و التغيير و التزييف في الأمر، و هذا شرط للقسم، أي أنهما يقسمان في حال شكّكم، و إلا فيدليان بالشهادة بدون القسم لا نَشْتَرِي بِهِ أي بما ندلي من الشهادة ثَمَناً و هذا هو المقسم به، فلا نغيّر الشهادة و لا نبدّل و لا نزيّف الواقع، ابتغاء تحصيل ثمن، أي مال وَ لَوْ كانَ المشهود له ذا قُرْبى أي من أقربائنا، و خصص بالذكر لأن الناس دائما يميلون إلى أقربائهم فيشهدون بالباطل لنفعهم، و هذا كالتأكيد، و إلا فليس هنا مشهودا له.

و المعنى: أن لا ندلي شهادة باطلة حتى لأقربائنا وَ لا نَكْتُمُ أي لا نخفي شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها. و الإضافة تعظيمية إِنَّا إِذاً لو كتمنا شهادة الله لَمِنَ الْآثِمِينَ أي العاصين.

و حاصل الحكم أن الإنسان إذا أراد أن يوصي فعليه أن يشهد على وصيته شاهدين مسلمين عادلين، فإن كان في سفر و ظهرت عليه أمارات الموت، و لم يكن هناك مسلمون لتحمل الشهادة، يشهد على وصيته شاهدين كتابيّين، و تقبل شهادتهما بدون اليمين إن لم يشك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 31

[سورة المائدة (5): آية 107]

فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)

الوارث بهما، أما إذا شك بهما و احتمل أنهما يكذبان في الشهادة، فالحاكم الشرعي يحضرهما بعد صلاة العصر، و يحلفهما أولا بهذا الحلف: «و الله إنا لا نبتغي بالشهادة مالا و لا نبدل الشهادة حتى لأقربائنا و لا نكتم الشهادة التي ألزمها الله إيمانا و لو فعلنا ذلك لكنا آثمين» و

بعد أداء هذا القسم أو شبهه في المعنى، يدليان بشهادتهما حول الوصية، و تقبل شهادتهما حينئذ.

[108] لما نزلت الآية الأولى صلّى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلاة العصر و دعا بتميم و عدي فاستحلفهما عند المنبر بالله ما قبضنا غير هذا و لا كتمنا فخلّى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سبيلهما، ثم اطلعوا على إناء من فضة منقوش بذهب و قلادة من جوهر معهما من مال الميت فقال أولياء الميت: هذا من متاع الميت. فقال النصرانيان: اشتريناه منه و نسينا أن نخبركم، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزل قوله «فإن عثر» فقام رجلان من أولياء الميت عمرو بن العاص و المطلب بن أبي وداعة فحلفا بالله أن النصرانيين خانا و كذبا، فدفع الإناء إلى أولياء الميت، و بعد مدة أسلم تميم الدارمي فكان يقول: صدق الله و صدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله و أستغفره.

فَإِنْ عُثِرَ يقال: «عثر الرجل على الشي ء» إذا اطلع عليه، ف «عثر» مبني للمجهول بمعنى: «ظهر» عَلى أَنَّهُمَا أي الوصيين غير المسلمين اسْتَحَقَّا أي استوجبا إِثْماً أي ذنبا، بأن ادّعى الأولياء أنهما كذبا في اليمين و الشهادة بل خانا الوصية فشاهدان آخران مسلمان يَقُومانِ مَقامَهُما أي مقام غير المسلمين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 32

[سورة المائدة (5): آية 108]

ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)

عَلَيْهِمُ أي من أولياء الميت الذين استحقت عليهما الوصية، و كان المال لهم الْأَوْلَيانِ تثنية «أولى»، بدل

من قوله «آخران» أي يقوم شاهدان كل واحد منهما أولى بالميت، أي من أقربائه و ذي ولايته، و هذان ينقضان شهادة الوصيين الكاذبين غير المسلمين فَيُقْسِمانِ أي وليا الميت بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا نحن أولياء الميت- في تكذيب الوصيين- أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي من شهادة الوصيين الكاذبين، و كلمة «أحق» جرّدت من معنى التفضيل- كما سبق- وَ مَا اعْتَدَيْنا أي ما تجاوزنا الحق بل نطلب مال الميت إِنَّا إِذاً لو اعتدينا كنا لَمِنَ الظَّالِمِينَ لنفوسنا حيث قسمنا كذبا، و إذا حلف وليّا الميت كذلك نقض حلف الوصيّين، و أخذ المال منهما و أعطي إلى ولي الميت.

[109] ذلِكَ الذي تقدم من كيفية إحلاف الوصيين بعد الصلاة أَدْنى أي أقرب أَنْ يَأْتُوا أي يأتي الوصيان بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها فإن اليمين رادعة لكثير من الناس عن الكذب أَوْ يَخافُوا إذا علموا بأنهم إن حلفوا كاذبين أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ إلى أولياء الميت فيحلفان على كذبهما و يكون الحق لهما دون الوصيين بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فيجمعون بين فضيحة الكذب و السرقة، و فضيحة الحلف الكاذب وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تحلفوا به كذبا وَ اسْمَعُوا هذه الموعظة وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 33

[سورة المائدة (5): الآيات 109 الى 110]

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ

بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

يفسقون بالخروج عن طاعته، و ارتكاب معصيته، فإنه لا يلطف بهم اللطف الخاص بالمطيعين.

[110] قد سبق جانب من قصص اليهود و النصارى، و يأتي هنا جانب آخر من قصة النصارى في ثوب بديع يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ أي اتقوا يوم الحشر الذي يجمع الله فيه الأنبياء المرسلين جميعا فَيَقُولُ لهم:

ما ذا أُجِبْتُمْ أي بماذا أجابكم الأمم هل بالإيمان و التصديق أم بالكفر و التكذيب؟ قالُوا أي قال الرسل في جوابه: سبحانه لا عِلْمَ كامل لَنا فإنا لم نر منهم إلا الظواهر، أما البواطن و الخفايا فأنت العالم بها وحدك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي الأشياء الغائبة عن الحواس، و قصد الآية هنا الإجمال، أو ذلك في موقف من مواقف القيامة، إذ لها مواقف كل موقف منها يخالف الموقف الآخر في الخصوصيات و المزايا- هذا جواب الأنبياء بصورة عامة- أما جواب عيسى عليه السّلام ففيه تفصيل و سيأتي بعد آيات من قصة عيسى عليه السّلام.

[111] إِذْ قالَ اللَّهُ أي «يقول» فإن المضارع المتحقق الوقوع ينزّل منزلة الماضي، و محل «إذ» النصب على «اتقوا» أي: اتقوا زمان يقول الله:

«يا عيسى»، أو على تقدير «اذكر» يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ و ذكر «ابن مريم» استنكار لقول النصارى إنه «ابن الله». اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ و المراد بالنعمة جنسها، لا نعمة واحدة، و معنى ذكر النعمة شكرها، و الإتيان بما يستحق المنعم بها. و من المعلوم أن النعمة على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 34

الوالدة بالعفاف و الطهارة و غيرهما، من أعظم النعم

على الولد، فهي مما تستحق الشكر. ثم فسر سبحانه بعض نعمه بقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ أي قويتك و نصرتك بِرُوحِ الْقُدُسِ أي الروح المنزّه عن الأدران، و هو جبرئيل عليه السّلام أو ملك آخر، أو روح منفوخة فيه تحفظه عن الزلل فإن الأنبياء و الأئمة مزوّدون بروح طاهرة تحفظهم و ترشدهم بأمر الله سبحانه تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي في حال كونك صبيا فإنه عليه السّلام، قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا* وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ... «1» وَ كَهْلًا أي في حال كونك كهلا، و هو قبل سن الشيخوخة، و هذا من تتمة الكلام، يعني أنك تكلم الناس في الحالين، لا كسائر الناس الذين لا يتكلمون إلا في حالة واحدة.

وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ أي جنس الكتاب المنزل من السماء، فإنه كانت كتب نازلة على الأنبياء السابقين و قد كان عليه السّلام تعلمها بتعليم الله سبحانه وَ الْحِكْمَةَ و هي معرفة الأشياء على واقعها، فإن معرفة الكتب غير معرفة الحكمة، و أن يكون الإنسان بحيث يعلم الأمور و مواضعها وَ التَّوْراةَ و هي الكتاب المنزل على موسى عليه السّلام وَ الْإِنْجِيلَ و هو الكتاب المنزل على المسيح نفسه عليه السّلام وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي على قالب الطير و هيكله. و من المعلوم أن هذا النحو من

______________________________

(1) مريم: 31 و 32.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 35

[سورة المائدة (5): آية 111]

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)

التجسيم لم يكن حراما لأنه كان بأمر الله، و ليس التحريم عقليا حتى

لا يمكن التخصيص فيه بِإِذْنِي و لعل «بإذني» إشارة إلى ذلك، أو أن الخلق إنما كانت بقدرته، إذ لو لم يأذن الله لم يتمكن أحد من خلق شي ء و صنعه فَتَنْفُخُ فِيها أي في تلك الهيئة التي خلقتها. و لا يخفى أن الروح جسم لطيف فيمكن أن ينفخ المسيح عليه السّلام بإذن الله ذلك الجسم في الهيكل المصنوع فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي أي طيرا حقيقيا كسائر الطيور، بأمري و إرادتي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي تشفي الذي ولد أعمى وَ الْأَبْرَصَ الذي به البرص بِإِذْنِي أي بأمري و إرادتي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى من القبور فتجعلهم أحياء بِإِذْنِي و إرادتي، فإنك تدعوني لهذه الحوائج و أنا أستجيب دعاءك وَ إِذْ كَفَفْتُ أي منعت بَنِي إِسْرائِيلَ اليهود عَنْكَ فلم يقدروا على قتلك إِذْ جِئْتَهُمْ أي حين أتيت إليهم بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة القاطعة على صحة نبوتك و صدق كلامك فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك و جحدوك و لم يؤمنوا بما جئت به مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل إِنْ هذا أي ما هذا الذي نرى من خوارقك إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي سحر واضح.

[112] وَ اذكر نعمتي عليك يا عيسى ابن مريم إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ «الوحي» هنا بمعنى الإلقاء إليهم، و لو كان ذلك بواسطة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 36

[سورة المائدة (5): آية 112]

إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)

نفس عيسى أو يحيى عليهما السّلام أو المراد الإلهام إلى قلوبهم، بواسطة العقل الذي هو حجة باطنة. و المراد بالحواريين أصحابه الخاصون به، و سبق وجه تسميتهم بالحواريين أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي المسيح عليه

السّلام، فإن الإيمان بالله نعمة على المسيح، كما أن تصديقه عليه السّلام نعمة عليه، إذ الأمران موجبان لقربه عليه السّلام إلى الله سبحانه حيث تمكن من هدايتهم، بالإضافة إلى لزوم ذلك الاحترام الظاهري قالُوا أي الحواريون:

آمَنَّا أي بالله و رسوله وَ اشْهَدْ يا ربنا، أو المراد الاستشهاد بعيسى عليه السّلام بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ لله فيما يأمر و ينهي.

[113] و اذكر نعمتي عليك يا عيسى ابن مريم حينما جرى الحوار بينك و بين الحواريين حول إنزال الله المائدة فطلبت من الله فاستجاب لك و أنزل المائدة إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ و لعلهم ذكروا اللفظ بتأدّب. و إنما نقل سبحانه المعنى، أو كان مثل هذا الخطاب بأمر عيسى عليه السّلام نفسه، أو كان لديهم متعارفا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ إما المراد: الاستطاعة بحسب القدرة، و كان ذلك حين عدم كمال إيمانهم، و إما المراد: الاستطاعة بحسب الإرادة، أي: هل يريد؟ و كان سؤال استعطاف، و «المائدة» مشتقة من «ماد يميد» إذا تحرك، فهي فاعلة، سمّي بها الخوان، لأنه يميد و يتحرك من مكان لآخر وقت البسط و الجمع، و قد أرادوا إتيان عيسى بهذه المعجزة ليروها و يلمسوها و يأكلوا منها، فلا يبقى محل ريب عندهم في صدق الدعوة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 37

[سورة المائدة (5): الآيات 113 الى 114]

قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

و لعل ذلك كان قبل

سائر الآيات من إبراء الأكمة و الأبرص، و لذا قالَ لهم عيسى عليه السّلام: اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوه فلا تسألوا سؤال جاهل ذي ريب إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله بما له من صفات الكمال التي منها الاستطاعة على مثل هذا الأمر الهّين.

[114] قالُوا أي قال الحواريون: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أي من المائدة وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا إما الاطمئنان بأصل المبدأ و أنك رسوله، أو الاطمئنان بالرؤية، كما قال الخليل عليه السّلام: قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا بما أخبرت من الشريعة. و هذا محتمل أيضا لإرادة العلم العياني، و لإرادة أصل العلم لكونهم في شك وَ نَكُونَ عَلَيْها أي على المائدة مِنَ الشَّاهِدِينَ الذين يشهدون لمن لم يحضر بأنه قد نزلت المائدة و رأيناها عيانا.

[115] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ داعيا الله سبحانه: اللَّهُمَّ رَبَّنا- و كان الإتيان بلفظ الرب، للمبالغة في الدعاء- أنت الذي ربّيتنا، فتفضل علينا بإتمام التربية أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أي خوانا عليه طعام، يأتي من طرف العلو تَكُونُ المائدة لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا أي نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا، فإن الأعياد في الأمم،

______________________________

(1) البقرة: 261.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 38

[سورة المائدة (5): آية 115]

قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)

إنما هي بمناسبة ذكريات انتصاراتهم. و من المعلوم أن تكريم جماعة بنزول المائدة عليهم من قبل الله سبحانه من أعظم الذكريات التي ينبغي أن يحتفل بها،- أول القوم- الذين نزلت عليهم، و- آخر القوم- أي من يأتي من بعدهم من أبنائهم.

وَ آيَةً مِنْكَ أي دليلا و علامة من قبلك على

التوحيد و النبوة و ما أشبههما وَ ارْزُقْنا من المائدة وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإنك تتفضل بالنعم كرما وجودا و لا تريد عوضا تنتفع به بخلاف الناس إذا أعطوا شيئا فإنهم يريدون بدلا عنه يصل إليهم.

[116] قالَ اللَّهُ سبحانه في جواب عيسى عليه السّلام: إِنِّي مُنَزِّلُها أي أنزّل المائدة عَلَيْكُمْ أيها السائلون لها فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أي بعد إنزالها عليكم فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً شديدا لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي لا أعذب مثل ذلك العذاب أحدا من العصاة الذين هم في ذلك الزمان، فإن إطلاق «العالمين» غالبا، يكون على عالم زمان واحد. و السبب في شدة العذاب أنهم كفروا بعد ما آمنوا و طلبوا المعجزة، و قبل منهم و لبّى طلبهم.

ورد عن أهل البيت عليهم السّلام أن المائدة كانت تنزل عليهم فيجتمعون عليها و يأكلون منها ثم ترتفع فقال كبراؤهم و مترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا. فرفع الله المائدة ببغيهم و مسخوا قردة و خنازير

«1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 248.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 39

[سورة المائدة (5): آية 116]

وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)

[117] تقدم أن الله سبحانه يسأل الأنبياء عن جواب الأمم لهم، ثم ذكر جملة من معجزات عيسى المقتضية لإيمان الناس به إيمانا عادلا، لكن النصارى رفعوه فوق مقامه إذ جعلوه إلها، و لذا يتوجه السؤال إليه عليه السّلام في مشهد القيامة حول هذا

الافتراء الذي نسب إليه عليه السّلام حتى تظهر براءته من ذلك، فيكون المجال فسيحا أمام عقاب من ادّعى ذلك كذبا و بهتانا، في يوم يجمع الله الرسل فيقول: «ماذا أجبتم»؟

وَ إِذْ قالَ اللَّهُ أي «يقول» فإن المستقبل المتحقق وقوعه ينزل منزلة الماضي يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ أي: هل أنت، على نحو الاستفهام التوبيخي لمن ادعى ذلك، و التقريري بالنفي بالنسبة إلى المسيح عليه السّلام قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سوى الله، لا أنهم لا يعتقدون بألوهية الله تعالى قالَ عيسى عليه السّلام في جواب ذلك: أسبحك سُبْحانَكَ أي أنزهك يا رب تنزيها عن مثل هذا الكلام ما يَكُونُ لِي أي ليس يجوز بالنسبة لي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ فآمر الناس باتخاذي إلها إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ أي قلت للناس: اتخذوني و أمي إلهين فَقَدْ عَلِمْتَهُ لكن لا تعلم ذلك- على نحو السالبة بانتفاء الموضوع- فلست قائله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي أي سريرتي، فكيف بأقوالي العلانية؟ وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ و هذا على جهة المقابلة، و إلا فليس لله سبحانه نفس، و قوله «و لا أعلم» لبيان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 40

[سورة المائدة (5): الآيات 117 الى 118]

ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

ضراعته عليه السّلام إليه سبحانه و إلا فلم يكن الكلام مسوقا إليه إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي تعلم كل غيب عن الحواس،

و لست أنا كذلك، فأنت تعلم أني لم أقل «اتخذوني و أمي إلهين» للناس.

[118] ثم بين عليه السّلام ما قاله لقومه زيادة في التبرّي من هذا القول المختلق المنسوب إليه ما قُلْتُ لَهُمْ أي للناس إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ من الإقرار لك بالعبودية، فقد قلت لهم: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ فأنا و أنتم متساوون في عبادة الله و كونه ربنا و خالقنا وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً شاهدا أرى أقوالهم و أعمالهم ما دُمْتُ كنت فِيهِمْ أي في وسطهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي أخذتني مستوفى كاملا إلى السماء- و قد سبق وجه ذلك- كُنْتَ أَنْتَ يا إلهي الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي المراقب لهم فيما يعملون و يعتقدون و يقولون وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أي شاهد حاضر.

[119] إن مبدأ القوم هو أنت «ربي و ربكم» و معادهم بيدك وحدك إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ لا يقدرون على رفع شي ء من أنفسهم و لا يقدر غيرك على نجاتهم وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر الْحَكِيمُ الذي لا يفعل شيئا إلا طبق الحكمة و المصلحة، و في هذا تسليم الأمر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 41

[سورة المائدة (5): الآيات 119 الى 120]

قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (120)

لمالكه و تفويض الأمر إلى مدبره، و هذا التعبير لا ينافي علم عيسى عليه السّلام بأنهم معذبون، فإنه كما يقول أحدنا لمالك الأمر: «إنه بيدك إن شئت فعلت و إن شئت تركت» حتى مع علمنا

أنه يفعل أحدهما لا محالة. هذا بالإضافة إلى أن بعضهم- و هم القاصرون- قابلون للغفران.

[120] قالَ اللَّهُ بعد ذلك الحوار، في مشهد القيامة هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فلا الكاذب المغالي القائل «المسيح ابن الله»، أو «هو الله»، ينفعه كذبه، و لا الكاذب المغالي القائل «بأن المسيح بشر غير نبي» ينفعه كذبه، إنه يوم الصدق، و ينفع الصادق صدقه لَهُمْ أي للصادقين جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً مما لا نهاية له رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بما عملوا في دار الدنيا وَ رَضُوا عَنْهُ بما أعطاهم من الجزاء و الثواب ذلِكَ المقام الذي حصلوه بما عملوا الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز بعده أعظم منه.

[121] إن النصارى كذبوا في جعل الشريك لله، ف لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا شريك له فيهن، و لا ملك غيره وَ ما فِيهِنَ مما يوجد فيهما من إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد أو غيرها وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يمتنع عليه شي ء، و من هذه صفته لا يكون له شريك في الملك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 42

6 سورة الأنعام مكيّة- مدنية/ آياتها (166)

سميت بذلك لاشتمالها على كلمة «الأنعام».

و في حديث: أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة، و شيعها سبعون ألف ملك لعظمتها

«1».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد و يعطف عليهم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 6 ص 230.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 43

[سورة الأنعام (6): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً

وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)

[2] و لما كان ختام السورة السابقة أن «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» ابتدأت هذه السورة بمثل ذلك الختام الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و اللام في الحمد للجنس، أي أن جنس الحمد لله إذ جميع المحامد راجعة إليه، و «السماوات» غالبا تأتي بصيغة الجمع بخلاف الأرض التي تأتي مفردة إشعارا بأكثرية السماوات على الأرض، و إلا فالأرضون أيضا سبعة كما قال سبحانه: وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ «1» وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ أي كوّنهما، و «الظلمة» إن كانت عدم ملكة، فمكوّن الملكة مكون العدم لأن أعدام الملكات لها حظ من الوجود كما قالوا. و قد أتى بالظلمات جمعا بخلاف النور، للتناسب مع الجملة السابقة «السماوات و الأرض» و لعل سر الإتيان بصيغة الجمع انقسام الظلمات حوالي النور فإن النور يشق طريق الظلمة، كلما قرب النور كان أرق.

ثم أظهر سبحانه التعجب من الذين يتخذون من دون الله أندادا بينما كان كل شي ء لله سبحانه ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد كل هذه الآيات و الدلائل بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يسوونه بغيره و يجعلونه عدلا و شريكا و مثيلا لأشياء أخرى مما لا أثر لها و لم تخلق شيئا.

[3] و حيث أن الجو العام في هذه السورة حول العقيدة مبدءا و معادا، و الأمور الكونية التي خلقها سبحانه تنتقل بالآيات من عقيدة إلى

______________________________

(1) الطلاق: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 44

[سورة الأنعام (6): آية 3]

وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)

عقيدة، و من خلق إلى خلق هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ إما باعتبار أبينا آدم عليه السّلام و إما

باعتبار خلق كل فرد من التراب و الماء، فإن الإنسان من النطفة و هي من النبات و الحيوان و هما من الأرض و الماء ثُمَّ قَضى أي قدّر و كتب أَجَلًا أي مدة للإنسان عامة، حتّى تنقضي الدنيا، أو لكل فرد حيث أن لكل فرد مدة لا يتجاوزها وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ إما تفصيل ل «أجلا» أي أن الله سبحانه هو مصدر الأجل المسمّى الذي سمي لكل شخص فليس بيد غيره الآجال، و إما المراد أن البعث الذي هو أجل و مدة لبقاء الإنسان في الدنيا حيا و ميتا عِنْدَهُ فبيده قيام الساعة ثُمَّ أَنْتُمْ أيها البشر تَمْتَرُونَ أي تشكّون في الله سبحانه. إنه بيده الخلق و الموت و البعث لا بيد غيره، فكيف تشكون فيه و تتخذون غيره شريكا له؟! [4] وَ هُوَ اللَّهُ لا إله غيره فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ أي أن الخالق و المتصرف في هذا الكون ليس إلا الله، خلافا لمن كان يجعل للسماء إلها خاصا، و للأرض إلها غيره. و معنى «في» الظرفية المجازية، و إلا فليس لله سبحانه مكان، إذ المكان يوجب التحديد، و التحديد يوجب التجزئة، و التجزئة من صفات المصنوع لا الصانع يَعْلَمُ سِرَّكُمْ الخفي المكتوم، أعم مما في الصدور، أو من الأسرار وَ جَهْرَكُمْ مقابل ذلك بالمعنيين وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي ما تعملون من الأعمال، فإن العمل من كسب الإنسان. و في هذه الآيات ردّ على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 45

[سورة الأنعام (6): الآيات 4 الى 6]

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)

الدهرية القائلين بقدم السماوات و الأرض، و الثنوية القائلين بإلهين:

نور و ظلمة، و المشركين الذين يجعلون له سبحانه شريكا، و الجهّال من الفلاسفة الذين يقولون بعدم عموم علمه أو قدرته، و من أشبههم من أصحاب العقائد الزائفة حول إله الكون.

[5] ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين تقدم ذكرهم في أول السورة، قال:

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ أي معجزة و دليل و برهان و حجة مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الدالة على وجوده و صدق رسالتك يا رسول الله إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لا يقبلونها و لا ينظرون إليها نظر منصف معتبر.

[6] فَقَدْ كَذَّبُوا أي الكفار بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ من القرآن و الرسول و سائر الآيات فَسَوْفَ في القيامة، أو في الدنيا حين ظهور الرسول و وضوح صدقه بالسيطرة و الغلبة- كما أخبر- يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ أي أخبار ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الحق. و في الآية تهديد، كما تقول للمجرم: «سوف تعلم إجرامك» تريد أنه يلاقي جزاءه، إن كان المراد ب «سوف» القيامة.

[7] ثم حذرهم سبحانه أن يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة حيث كذبوا و عصوا و عتوا عن أمر ربهم أَ لَمْ يَرَوْا استفهام تذكيري توبيخي، أي «ألم يعلموا»- فإن الرؤية تستعمل بمعنى العلم- كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي من الأمم، و «القرن» أهل كل عصر، و سمّوا بذلك لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 46

بعضهم يقترن ببعض، و لذا اختلف في المدة المراد به، لاختلاف الاعتبار مَكَّنَّاهُمْ أي

تلك الأمم فِي الْأَرْضِ بأن جعلناهم ملوكا و قادة و ساسة ذا عدد و عدد و إمكانيات ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ حيث كانوا هم أكثر تمكنا منكم. و الظاهر أن الخطاب خاص بالكفار في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث كان السابقون أكثر تمكنا منهم. لا يقال: إن من المحتمل كون بعض الأمم السالفة أكثر تمكنا من جميع من يأتي إلى يوم القيامة حتى يكون الخطاب عاما؟ لأن الجواب ظاهر، إذ قوله: «ألم يروا» ينافي ذلك فإن الناس لم يعلموا أخبار هكذا أمة- كما تقولون- بل ما رواه إنما هو أخبار الأمم التي كانت أقوى من الكفار في زمانه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً هو من «درّ إذا هطل»، و «مدرار» صيغة مبالغة، أي كثيرة الهطول، حتّى عمّهم الخير و البركة و الثروة. و المراد بالسماء: المطر، بعلاقة الحال و المحل، كما قال الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه و إن كانوا غضابا

وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ أي مياهها بعلاقة الحال و المحل تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي تحت قصورهم و أشجارهم، أو باعتبار أن الماء تحت سطح الأرض التي يمشون عليها. و كل ذلك لم يفدهم في بقائهم و حسن ذكرهم فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ و المراد: هلاكهم بذهاب أثرهم و انقطاع نسلهم و عقبهم، و فناء حضارتهم، بسبب عصيانهم و كفرهم مقابل الأنبياء عليهم السّلام و الصالحين الذين بقوا إلى يوم الناس هذا، و إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 47

[سورة الأنعام (6): الآيات 7 الى 8]

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَ قالُوا

لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8)

صلاحهم و حسن أعمالهم سبب بقاء آثارهم و بقاء ذكرهم و بقاء مناهجهم وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أي خلّفنا من بعدهم أمة أخرى و جماعة آخرين.

[8] ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء الكفار معاندون في كفرهم، لا لأنهم لم يعملوا الحق وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا رسول الله كِتاباً فِي قِرْطاسٍ أي مكتوبا في ورق يشهد لك بصدقك فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أي مسّوه بيدهم، حتى يتيقنوا بأن ذلك ليس من الشعوذة و ستر العيون لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي ما هذا الكتاب إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي سحر ظاهر، فلا يصدقونك.

قالوا: نزلت هذه الآية في جماعة من الكفار قالوا: يا محمد لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله و أنك رسوله.

[9] وَ قالُوا أي قال هؤلاء الكفار لَوْ لا أي هلّا، و لماذا ما أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي على الرسول، ملك نشاهده فنصدق به، ثم رد الله عليهم مقالتهم بأنه وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً كما اقترحوه لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي انتهى أمدهم و أجلهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي يهلكون و يموتون، و ذلك لما جرت سنة الله أن لا تنزل الملائكة بالنسبة إلى المعاندين، إلا وقت موتهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 48

[سورة الأنعام (6): آية 9]

وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)

و هنا سؤال: إن هذا لا يكون جوابا للكفار- على هذا المعنى- إذ لهم أن يقولوا: فليغيّر الله سنته، بأن ينزل الملك و يبقينا حتى نؤمن؟

و سؤال ثان: لماذا جرت سنة الله على

ذلك، أليس هداية الناس غاية الخلقة، فما المانع من توفر أسباب الهداية بإنزال الملك؟

و الجواب عن الأول: إن سنة الله جرت على الهلاك عقب مجي ء الملائكة، كما جرت سنته على الإحراق عقيب الإلقاء في النار، و ليس للكفار أن يشكلوا بهذا الإشكال، إذ يقول النبي: و لماذا تريدون نزول الملائكة؟ أ للعناد؟ فلا داعي إلى إجابتكم، أم لأنه خارق و الإتيان بالخارق موجب للتصديق؟ فقد أتيت بالخوارق، أم لأنه خارق خاص؟

فالخارق الخاص لا يلزم إجابته لدى العقل و العقلاء، و هذا كما إذا حمل الطبيب شهادة الكلية فيقول له المريض: ائتني بشهادة رئيس الحكومة، إنه سؤال سخيف لدى العقلاء ..

و الجواب عن الثاني: إنه سبحانه علم عنادهم و أنه لا يفيد معهم إنزال الملك، كما بيّن ذلك في قوله وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً «1»، و ما كان يمنعهم أن يقولوا أن ما يشاهدونه من صورة الملك إنما هو سحر مبين! [10] ثم بيّن سبحانه وجها آخر لعدم إجابة اقتراحهم وَ لَوْ جَعَلْناهُ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَلَكاً منزلا من السماء لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي في صورة رجل، فإن خلقة البشر غير مستعدة لرؤية الملك في صورته، إلا إذا بدّلت صورته إلى صورة إنسان و واقع ملك، و ذلك لا يفيد اقتراحهم، فإن الملك جرم لطيف لا تراه أعين البشر، كما لا يرى

______________________________

(1) الأنعام: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 49

[سورة الأنعام (6): الآيات 10 الى 11]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

الإنسان الهواء وَ لَلَبَسْنا من اللبس بمعنى الاشتباه عَلَيْهِمْ

أي على هؤلاء المقترحين إنزال الملك ما يَلْبِسُونَ أي كما يلبسون اليوم على أنفسهم أمر النبي لأنه إنسان مثلهم، فكان إنزال الملائكة في صورة بشر موجبا لأن نلبس نحن عليهم الأمر- مثل لبسهم هذا اليوم- و حاصل جواب الاقتراح:

أولا: أن الملك لا ينزل إلا لأمور خاصة، كما نزل في قصة إبراهيم عليه السّلام و لوط عليه السّلام.

ثانيا: إن الملك إذا نزل، نزل في صورة بشر، فيبقى شكّهم على حاله.

[11] ثم قال سبحانه على سبيل التسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ استهزأت بهم أممهم و سخروا منهم، فلست أنت بأول رسول يستهزأ بك و يقترح عليك اقتراحات عن عناد و سخرية فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي: فحلّ و أحاط بالساخرين بالرسل ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء سخريتهم، أو المراد أن الأنبياء كانوا يتوعدونهم بالعذاب فكانوا يسخرون بوعيدهم، فحاق بهم العذاب المستهزأ به.

[12] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها ثُمَّ انْظُرُوا إذا مررتم ببلدان الأنبياء، و تفكروا كَيْفَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 50

[سورة الأنعام (6): آية 12] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 99

قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)

كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي الأمم التي كذبت أنبياءهم، كيف أبيدت و لم تبق منهم باقية، فإن ديار الأمم السابقة حوالي سوريا و لبنان و الأردن و فلسطين و مصر كانت باقية و آثار الخسف و الهلاك على بعضها، و أخبار الهلاك و التدمير كانت عند

الناس مشهورة، فإذا سافروا و سألوا علموا ذلك، و كان ذلك سببا لردعهم عن تكذيب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاستهزاء بالقرآن.

[13] ثم احتج سبحانه على المكذبين بحجة أخرى فقال: قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المكذبين: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إذ لا يتمكنون أن يجيبوا بأنها لهم، و لا أنها لأصنامهم، و إذ يتحيرون بالجواب قُلْ أنت: إنما هي كلها لِلَّهِ فلما ذا تتخذون إلها غيره؟ و إذ سبق التهديد و الوعيد جاء هنا بالتبشير كي تلين القلوب القاسية بالتهديد مرة و التبشير أخرى كَتَبَ أي أوجب سبحانه عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ على الخلق و اللطف بهم، و إيجاب ذلك من مقتضيات الحكمة لكي تطلبوا أيها الناس رحمته الواسعة بالإطاعة و الامتثال، لأنه إله الكون و راحمهم في هذه النشأة و لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي جمعا ينتهي إلى ذلك اليوم، فإن الناس يجتمعون تدريجا لا دفعة، فكل إنسان يولد فولادته مقدمة للموت الذي- بدوره- يجمع الناس فردا فردا حتى ينتهي الجمع في يوم القيامة، فبيده سبحانه المعاد أيضا لا رَيْبَ فِيهِ أي محل ريب، و إن ارتاب المبطلون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 51

[سورة الأنعام (6): الآيات 13 الى 14]

وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)

و إذا كان المبدأ و الوسط و المعاد بيده تعالى ف الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي أن غير المؤمنين يكونون قد خسروا أنفسهم حيث باعوها و

اشتروا عوضها العذاب، بينما باع المؤمنون أنفسهم و اشتروا بها الجنة و الثواب.

[14] وَ لَهُ أي الله سبحانه ما سَكَنَ و هدأ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أو المراد ب «ما سكن» مطلق الأشياء الساكنة و المتحركة، من قولهم: فلان يسكن بلد كذا، أي يستقر فيه، فلله كل ما استقر و حلّ في هذين الزمانين «الليل و النهار»، أما على الثاني فوجه الكلام واضح، و أما على الأول فلعل التخصيص بالساكن- مقابل المتحرك- لإلقاء الرهبة في النفس حيث أن الساكن يلقي ظلال الموت الرهيب، و لذا يرى الإنسان نفسه تهدأ و تسكن إذا صار في محل ساكن لا حسّ فيه و لا حركة وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد و لكل صوت الْعَلِيمُ بكل شي ء.

[15] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ غَيْرَ اللَّهِ أي هل غير الله سبحانه أَتَّخِذُ وَلِيًّا أي مالكا و مولى و ربا؟! و هو المتصف بكونه فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي خالقهما و مبدعهما و منشئهما، إنه من السخافة أن يترك الإنسان الخالق و يتمسك بذيل المخلوق وَ هُوَ أي الله سبحانه يُطْعِمُ فإن الأطعمة و الأرزاق من عنده وَ لا يُطْعَمُ أي لا يرزقه أحد، فهل من المنطق أن يترك الإنسان الخالق الرازق و يتخذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 52

[سورة الأنعام (6): الآيات 15 الى 16]

قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

المخلوق المرزوق وليا من دون الله، الذي ليس بيده أي شي ء؟

قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: إِنِّي أُمِرْتُ أمرني الله أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لله و صدّق بكلماته و اتبع أوامره، و كوني أول

من أسلم لعلمي التّام بالخالق سبحانه، كما قال: «إني أول من يجاهد»، «و إني أول من يسافر» دلالة لامتلاء النفس بذلك الشي ء وَ أمرني الله بأن لا تَكُونَنَ التأكيد للنفي مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يجعلون مع الله شريكا. و الظاهر أن المراد بالشرك أعم ممن يجعل مع الله شريكا مع الاعتقاد به سبحانه، أو بدون الاعتقاد به، و المعنى: إني أمرت بالأمرين، الإسلام، و عدم الشرك.

[16] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بمخالفة أوامره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي عذاب يوم القيامة، و إنما قال «أخاف» مع أنه متيقن إما من جهة التعبير بالخوف حتى عن المتيقن، كما يقول من حكم عليه بالإعدام: «إني أخاف الموت» أي أرهبه، و إما لاحتمال النجاة لأن رحمته وسعت كل شي ء، فمعنى الخوف على هذا الاحتمال رجاء العفو و الرحمة.

[17] مَنْ يُصْرَفْ العذاب عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم العظيم فَقَدْ رَحِمَهُ إذ لا أحد- باستثناء المعصومين- إلا و يكون مستحقا للعذاب، و لذا كان الصرف عنه بمقتضى الرحمة وَ ذلِكَ الصرف، أو الرحمة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 53

[سورة الأنعام (6): الآيات 17 الى 19]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

الْفَوْزُ و الفلاح الْمُبِينُ الواضح الذي لا فوز مثله.

[18]

و يستطرد السياق بذكر بعض صفاته سبحانه في مقابل المعاندين المنكرين وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ من «مسّ أي أمسك» بما هو ضرر من فقر أو مرض أو ما أشبههما فَلا كاشِفَ لَهُ أي دافع له إِلَّا هُوَ فلا أحد مؤثر في الكون، و إنما العلل تؤثر في المعلولات بإذن الله سبحانه وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ غنى أو صحة أو ما أشبههما فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ إنه القادر المطلق على الخير و الشر، أما من سواه فقدرته من قدرته، مع أنه ليس له إلا قدرة ناقصة لبعض الأشياء.

[19] وَ هُوَ تعالى الْقاهِرُ أي الذي يقهر و يغلب فَوْقَ عِبادِهِ أي الجميع تحت تسخيره و سيطرته، لا الفوقية المكانية، فإنه أجل من الزمان و المكان وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أعماله، فليس كونه قاهرا موجبا للخوف من ظلمه، كسائر الجبابرة القاهرين الْخَبِيرُ بما يصدر من العباد، فلا يأخذ أحدا بجرم أحد كما هو شأن القاهرين من البشر، حيث يشتبهون كثيرا لجهلهم.

[20] في بعض التفاسير: أن أهل مكة أتوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: أما وجد الله رسولا غيرك، ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول، و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فأرنا من يشهد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 54

أنك رسول الله كما تزعم «1»، فنزلت هذه الآية: قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً أي أعظم من حيث الشهادة، حتى آتيكم به دليلا على صدقي و صحة نبوتي، إنهم يتحيرون في الجواب طبعا، و يفكرون في الناس العظماء بنظرهم ليقولوا: «فلان»، لكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقطع تحيرهم

و تفكرهم بما علمه الله سبحانه قُلْ يا رسول الله: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي هو شاهد يشهد بصدق نبوتي. و قد مرّ سابقا أن شهادة الله هي إجراء الإعجاز على يده الكريمة وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ أنزله تعالى عليّ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ أي لأخوفكم بهذا العقاب، و أخوّف من كفر و عصى وَ مَنْ بَلَغَ عطف على «كم» أي أنذر به من بلغه هذا القرآن إلى يوم القيامة.

و روي عن الباقر و الصادق عليه السّلام أن «من بلغ» معناه: من بلغ أن يكون إماما من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله «2».

و عليه فهو عطف على الضمير المرفوع في «أنذر» أي أنذر أنا الرسول و الأئمة- الذين هم مصداق «من بلغ»- الناس أَ إِنَّكُمْ أي: هل إنكم أيها السامعون الكفار لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى استفهام إنكاري، أي: كيف تشهدون بذلك بعد وضوح أدلة التوحيد و قيام

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 22 و تفسير القمي: ج 1 ص 195.

(2) الكافي: ج 1 ص 416.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 55

[سورة الأنعام (6): الآيات 20 الى 21]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)

الحجة و البرهان على بطلان كل شريك؟ و المراد الشريك مطلقا و لو كان واحدا، و ذكر «آلهة» من باب المورد قُلْ أنت يا رسول الله، إذا لم يعترف أولئك بالتوحيد: لا أَشْهَدُ أنا بمثل شهادتكم بالشريك، و إنما أنا لا أعتقد إلا إلها واحدا قُلْ يا رسول الله: إِنَّما هُوَ إِلهٌ

واحِدٌ لا شريك له وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أي من الأوثان التي تشركون بسببها، و تدخلون أنفسكم في زمرة المشركين من أجلها.

[21] ثم ذكر سبحانه أن أهل الكتاب كسائر المشركين يعلمون الحق لكنهم يتجاهلونه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ يراد به جنس الكتاب الأعم من التوراة و الإنجيل و غيرهما يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون الرسول كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فكما يعرف الشخص ابنه بحيث لا يمكن أن يشتبه بغيره، كذلك لا يشتبه أهل الكتاب بمعرفة الرسول بوصفه و مزاياه الموجودة في كتبهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن باعوها بالكفر، الذي عاقبته فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إن عدم الإيمان مترتب على الخسران، فالخاسر لا يؤمن و الرابح يؤمن.

[22] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي من يكون أكثر ظلما و تعديا عن الحق مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟! بأن جعل له شريكا و زعم أن الله أمره بذلك، كأهل الكتاب و قسم من المشركين الذين كانوا يقولون: إن الله أمرنا باتخاذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 56

[سورة الأنعام (6): الآيات 22 الى 23]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)

الأنداد و الشركاء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كما لو كذب بالقرآن أو بالرسول أو بالمعجزات، فإنها كلها من آيات الله سبحانه، لكن الكتاب آية صامتة، و الرسول آية ناطقة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ إنهم لا يفوزون بخير الدنيا، و لا سعادة الآخرة.

[23] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً و هو يوم القيامة الذي يجمع فيه هؤلاء المشركون و سائر المكذبين ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا و جعلوا لله شريكا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي الشركاء

لله الذين زعمتم أنهم كذلك. و الإضافة إلى «كم» باعتبار أنهم اتخذوها، كما تضاف إلى «الله» باعتبار أنه سبحانه المجعول في رديفهم فيقال «شركائي» الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء الله سبحانه؟ و الاستفهام إنكاري للتوبيخ و التقريع.

[24] ثُمَ بعد هذا السؤال منهم لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي معذرتهم، فإن الفتنة على معان، منها: المعذرة، أو هو على سبيل المجاز، أي: لم تكن نتيجة فتنتهم بالأصنام، إلا التبرؤ منها، كما يقال: «لم يكن درسهم و قضاؤهم إلا رشوة و خيانة» يراد أن عاقبتهما كانت الرشوة و الخيانة إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فيحلفون بالله كذبا أنهم ما كانوا مشركين، كما اعتادوا في الدنيا أن يحلفوا كذبا حينما يقعون في المشاكل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 57

[سورة الأنعام (6): الآيات 24 الى 25]

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

[25] انْظُرْ يا رسول الله إلى حلف هؤلاء كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بأنهم ما كانوا مشركين، و هذا أمر يقصد به التعجّب و الاستغراب وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، و يفترون الكذب على الله بقولهم: هذه شفعاؤنا عند الله، فلم يجدوها و لم ينتفعوا بها و إنما الأمر لله وحده.

[26] قيل: إن نفرا من مشركي مكة جلسوا إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقرأ القرآن، فقال بعضهم

لبعض: ما يقول محمد؟ قال: أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. فنزلت هذه الآية وَ مِنْهُمْ أي من الكفار و المشركين مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ أي إلى كلامك يا رسول الله وَ لكن حيث أنهم أعرضوا عن الحجة بعد ما بيّنت لهم جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً هي جمع «كنان» و هي ما ستر شيئا، فإن الإنسان إذا أعرض عن الحق غشيت على قلبه غشاوة، إذ صار الإعراض له ملكة و عادة، و نسبته إلى الله سبحانه باعتبار أنه سبحانه هو الذي جعل الإنسان هكذا، فإنه علة كل شي ء، و إن كان السبب المباشر هو الشخص أَنْ يَفْقَهُوهُ أي حتى لا يفقهوه بمعنى لا يفهموه وَ جعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً «الوقر» هو الثقل في الأذن، فهم كمن لا يسمع، حيث أنهم لا يستفيدون من سماعهم وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ و معجزة خارقة على نبوتك و صدقك لا يُؤْمِنُوا بِها أي بتلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 58

[سورة الأنعام (6): الآيات 26 الى 27]

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (26) وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)

الآيات، إذ قد ران على قلوبهم ما كانوا يعملون حَتَّى إِذا جاؤُكَ لا يطلبون الحق بل يُجادِلُونَكَ و يناقشونك يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «أساطير» جمع أسطورة، بمعنى الخرافة، من سطر إذا كتب، يعني: ما في القرآن من القصص و الأحكام و غيرها ليست إلا أخبار الأقوام السابقة و ترّهاتهم.

[27] وَ هُمْ أي هؤلاء الكفار الذين سبق

ذكرهم يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي عن النبي، أو القرآن، يعني: ينهون الناس عن اتباع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو القرآن، وَ يَنْأَوْنَ من «نأى» بمعنى تباعد، أي يتباعدون عَنْهُ أي عن الرسول أو القرآن، فهم يجمعون بين رذيلتي الكفر و الأمر بالمنكر وَ إِنْ أي: و ما يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فإنهم لا يضرون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل يضرون أنفسهم بخزي الدنيا و عذاب الآخرة وَ ما يَشْعُرُونَ أي لا يعلمون أنهم بذلك يهلكون أنفسهم.

[28] وَ لَوْ تَرى يا رسول الله أحوالهم في الآخرة و كيف أنهم يندمون على ما فرّطوا في دار الدنيا إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أي أشرفوا و اطلعوا و وقفوا على حافتها لدخولها فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ أي يرجعوننا إلى الدنيا وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا دلائله و براهينه وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بالله و الرسول و ما جاء به. و جملتا «لا نكذب» و «نكون» من مدخول التمني،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 59

[سورة الأنعام (6): الآيات 28 الى 30]

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

و التقدير: «يا ليت لنا انتفاء التكذيب، و الكون من المؤمنين».

[29] بَلْ بَدا لَهُمْ أي ظهر لهؤلاء الكفار الحق جليا بحيث لا مجال لإخفائهم له ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا حيث كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. و لعل

وجه الإضراب ب «بل» بيان أنه ليس الأمر على ما قالوه من أنهم: لو ردّوا إلى الدنيا لآمنوا، فإن التمني الواقع منهم يوم القيامة ليس لأجل كونهم راغبين في الإيمان، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي يعاينوه وَ لَوْ رُدُّوا إلى الدنيا كما تمنوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ أي لرجعوا إلى كفرهم و عصيانهم وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في أنهم لو ردّوا لعملوا صالحا كما في آية أخرى: رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ «1»، و لا يخفى أن الإنسان إذا كان ذا طبع عنادي لا ينفك عن طبيعته حتى و لو رأى المشاهد العظيمة من عناده كما هو المشاهد المجرّب.

[30] و قد كان هؤلاء الكفار ينكرون المعاد و هم في دار الدنيا وَ قالُوا إِنْ هِيَ أي ما هي إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي الحياة القريبة التي نحن فيها و ليس ورائها شي ء وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت. و «البعث» هو الإرسال و الإحياء.

[31] وَ لَوْ تَرى يا رسول الله أحوال هؤلاء الكفار يوم القيامة إِذْ وُقِفُوا

______________________________

(1) سورة المؤمنون: 100 و 101.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 60

[سورة الأنعام (6): آية 31]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)

عَلى رَبِّهِمْ أي في معرض خطابه و حسابه، كالشخص الذي يقف عند الملك و هو مجرم، فإنه في حال يأس و اضطراب ممّا ينطق الملك في حقه من العقاب. و من المعلوم أن الله لا يرى، و ليس بجسم، و لا له مكان، فالمعنى على سبيل المجاز قالَ ربهم لهم أَ لَيْسَ هذا اليوم الذي

كان يخبر به الأنبياء و كنتم تنكرونه بِالْحَقِ و هو استفهام توبيخ و تقريع قالُوا مقرّين مذعنين بَلى هو حق وَ رَبِّنا و إنما حلفوا خوفا، فإن الخائف يردف كلامه بالحلف استمالة لقلب المخوف منه و إظهارا بأنه يوافق كلام المتكلم قالَ الله سبحانه فَذُوقُوا الْعَذابَ و المراد ب «الذوق» ليس الذائقة اللسانية، بل ذوق الجسد فإنه يطلق عليهما بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم، و كان السؤال للإهانة و الإذلال.

[32] ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفار بقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ المراد بِلِقاءِ اللَّهِ جزاؤه و عقابه، كما يقال: فلان لقي عمله، أي جزاء عمله، و إلا فليس لله مكان يرى حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ أي يوم القيامة بَغْتَةً أي فجأة من «بغت يبغت» بمعنى فاجأ، و إنما ذكر ذلك لأنهم في دار الدنيا كانوا لا يحسبون حساب يوم القيامة حتى يستعدوا له. و هل المراد ب «الساعة» الموت- كما

ورد: من مات قامت قيامته

«1»- حتى يلائم ما بعده، أم المراد القيامة و يكون المراد

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 58 ص 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 61

[سورة الأنعام (6): آية 32]

وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)

العذاب الشديد لأن عذاب الآخرة أشد من عذاب القبر، احتمالان.

قالُوا أي قال هؤلاء الكفار عند معاينة الأهوال و العذاب: يا حَسْرَتَنا الحسرة شدة الندم يعني: أيتها الحسرة احضري فهذا وقتك عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي على ما تركنا و ضيّعنا في الدنيا من أعمارنا و لم نقدم عملا صالحا ننتفع به في هذا اليوم وَ هُمْ أي هؤلاء الكفار يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ «الوزر» الثقل، و

حيث إن للذنوب ثقلا تسمى أوزارا عَلى ظُهُورِهِمْ هذا من باب التشبيه، فكما أن من يحمل ثقلا على ظهره يكون في تعب و حرج، كذلك من يحمل ذنبا، و منه: «عليه دين» أَلا للتنبيه ساءَ أي بئس ما يَزِرُونَ أي ما يحملون من وزر، بمعنى: إثم و حمل خطأ.

[33] وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي ليست الحياة القريبة التي اغتر بها الكفار فعملوا لها و تركوا آخرتهم إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ «اللهو» هو ما يلهي الإنسان عن الجدّ إلى الهزل، فإن الدنيا ليست إلّا ألعابا و ملهيات و إنما كانت كذلك لأنه لا حقيقة لأعمالها فهي فانية زائلة، و إذا بالإنسان يرى نفسه و لم يحصّل شيئا. و غير خاف أن ذلك بالنسبة إلى الأعمال التي لا تعقب ثمرة صالحة، و إلّا فالدنيا مزرعة الآخرة. و نعم متجر العقلاء وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ «اللّام» للتأكيد، أي أن الدار الثانية التي هي الجنة و نعيمها خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ معاصي الله، و قد جرد «خير» عن معنى التفضيل، أو بملاحظة أن في الدنيا أيضا خيرا في الجملة، ثم إنها خير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 62

[سورة الأنعام (6): آية 33]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)

للمتقين، أما غيرهم فالدنيا خير لهم. و لذا

ورد: «إن الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر»

«1» أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيها البشر، فإن من عقل و أدرك علم أن الباقي السرمدي الذي لا يشوبه حزن و همّ خير من الفاني الممزوج بأنواع المصائب و الرزايا.

[34] ثم سلّى سبحانه نبيه على تكذيبهم إياه و عدم انصياعهم لأوامره و إرشاده بقوله: قَدْ نَعْلَمُ يا رسول الله، و «قد» تستعمل

في المضارع للتحقيق إلّا أن الغالب أنها فيه للتقليل إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ مما ينسبونه إليك من أنك شاعر و كاهن و مجنون، و ما أشبه ذلك من السباب و الاستهزاء الذي كانوا يكيلونه للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَإِنَّهُمْ أي الكفار لا يُكَذِّبُونَكَ يا رسول الله في قرارة نفوسهم، لعلمهم أنك صادق، و هذا نوع من التسلية إذ الإنسان إذا علم أن عدوه يجلّه في قرارة نفسه، كان ذلك سلوة له لما علمه من الاحترام الكامن.

قالوا التقى الأخنس بن شريف و أبو جهل بن هشام فقال الأخنس:

يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد غيري و غيرك يسمع كلامنا فقال أبو جهل: ويحك! و الله إن محمدا لصادق و ما كذب قط، و لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء و الحجابة و السقاية و الندوة و النبوة فما ذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16 ص 17.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 63

[سورة الأنعام (6): آية 34]

وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

و روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام معنى آخر للآية حاصله

«إنهم لا يكذبونك بحجة و لا يتمكنون من إبطال ما جئت به من برهان»

«1».

وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ و هم الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، و غيرهم بالمنع عن الإسلام بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي ينكرون آيات الله، كما قال سبحانه وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «2».

[35] ثم ذكر سبحانه تسلية للنبي أنه ليس بأول رسول يكذّب، بقوله:

وَ لَقَدْ

كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ليس تنكير «الرسل» لأنه ليس هناك رسول يكذّب، حتّى ينافي قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «3»، المفيد لتكذيب كل رسول، و إنما الكلام حيث جرى مجرى التسلية كان يكفي ذلك الإلماع إلى أن هذا الجنس أيضا في معرض التكذيب و الازدراء فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا أي على تكذيب الناس لهم وَ أُوذُوا إما عطف على «كذبوا» أو على «كذبت» حَتَّى أَتاهُمْ أي جاءهم نَصْرُنا إياهم على المكذبين، فاصبر أنت يا رسول الله حتّى يأتيك النّصر وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا أحد يقدر على تغيير ما أخبر الله به من نصر الرسل، و إهلاك

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 86.

(2) النمل: 15.

(3) يس: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 64

[سورة الأنعام (6): آية 35]

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)

أعدائهم وَ لَقَدْ جاءَكَ يا رسول الله مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي بعض أخبار الرسل السّابقين كيف نصرناهم على أعدائهم.

[36] ثمّ بيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفّار لا يؤمنون فلا تتعب نفسك لأجلهم، و لا تحزن. و هنا نكتة بلاغيّة لا بأس ببيانها، و هي أنّ الألفاظ و الجمل وضعت للمعاني الخاصّة، لكنّها كثيرا ما تستعمل لإنشاء مفهومها الموضوع له، لكن يراد غير ذلك، كما يستعمل الاستفهام و التعجّب بالنّسبة إليه سبحانه، مع العلم أنه لا يجهل شيئا، و لا يتعجب من شي ء، و إنما استعمال الاستفهام و التعجب بداعي التحريض أو الردع أو نحوهما، و هكذا الخطاب الغليظ أو

الرقيق لأحد، قد يراد به المعنى الموضوع له، و قد يراد به داع آخر يفرغ في مثل هذا القالب، فإنك إذا أردت تنبيه أحد من جيرانك، تغلظ لولدك في الخطاب مع أنك لا تريده بالذات، فمثلا تقول: «لو أنك ألقيت النفاية بباب الدار لحبستك» فإنك لا تريده بل تنشئ هذا الكلام بداعي زجر الجار عن القيام بمثل هذا العمل، بل قد يكون عمل يستفاد منه شي ء- حسب المتعارف- يأتي به الإنسان لغرض آخر، كما لو أردت تأديب ولدك لما اقترفه من عمل سيئ، فإنك تعمل إلى خادمك و ترفسه برجلك- في هدوء- قائلا: لماذا فعلت هذا الفعل، و إنك لا تريده إطلاقا، و إنما تريد إفهام ولدك أن هذا العمل له هذا الجزاء.

و على هذا الوجه جرى الكلام في هذه الآية الكريمة وَ إِنْ كانَ كَبُرَ إنه سبحانه يريد بيان غلظة قلوب الكفار و عنادهم، لكنه يصوغه في أسلوب خطاب للنبي، بأنك توسلت بكل الوسائل من الصعود في السماء، و جعل النفق في الأرض- مما يتوسل الناس بهما في مآربهم-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 65

فإن الكفار لا يؤمنون .. كما أن قصة موسى عليه السّلام وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ «1»، من هذا القبيل أيضا.

وَ إِنْ كانَ يا رسول الله كَبُرَ أي عظم و اشتد عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ أي إعراض هؤلاء الكفار عن الإسلام فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أي قدرت أَنْ تَبْتَغِيَ أي تطلب و تتخذ نَفَقاً أي سربا فِي الْأَرْضِ تشبيه للمعقول بالمحسوس، فكما أن من يريد فتح مدينة، يتخذ الإنفاق من خارج المدينة إلى داخلها ثم يدخلها فجأة ليستولي عليها، فكذلك إن تمكنت أن تصنع مثل ذلك للسيطرة على أرواح هؤلاء و قلوبهم أَوْ

تبتغي و تطلب سُلَّماً أي مصعدا و مرقاة فِي السَّماءِ لتصعد عليه فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي حجة و برهان، غير ما أنزلنا عليك. و جواب «إن» محذوف، أي «فافعل» حذف لدلالة الكلام عليه، كما تقول: «إن تمكنت أن تتصدق» و تحذف قولك: «فافعل».

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ أي الناس عَلَى الْهُدى بأن يلجئهم إلى قبول الإيمان، لكنه لا يشاء ذلك لأنه حينئذ يبطل الامتحان و الاختبار فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فإنّ الجاهل هو الّذي يظنّ أنّ بالإمكان العادي اجتماع النّاس كلّهم على أمر، أمّا العاقل المجرّب فيعلم أنّه ما من شي ء إلا و فيه خلاف و خصام حتّى البديهيّات الأوليّة

______________________________

(1) الأعراف: 151.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 66

[سورة الأنعام (6): آية 36]

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

كنور الشّمس، فإنّ السفسطائيين ينكرونه، و لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في معرض الجهل حتّى يكون الكلام ردعا له، و إنما صيغ الكلام لداعي تأنيب الكفّار حتّى أن قصد هدايتهم يكون من أعمال الجاهلين.

و هنا سؤال: كيف تقولون في الآيات النازلة بالنسبة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمثل هذه المحامل، و لا تقولون في ما أشبهها من الآيات في غيره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمثل ذلك؟

و الجواب: القرينة الخارجية- و هي أن النبي معصوم- أوجبت ذلك، كما أن القرينة الخارجية أوجبت حمل «الاستفهام» من الله تعالى على معنى آخر، بينما الاستفهام من غيره سبحانه يحمل على معناه الحقيقي.

[37] إن الذين يستجيبون لك يا رسول الله هم الأحياء الذين لم يمت الضمير في جوفهم، و الذين يكفرون فهم الأموات، فكما أن الميت لا

يسمع و لا ينتفع كذلك هؤلاء إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أي يقبل الإيمان من كان حيا يسمع وَ الْمَوْتى لا سماع لهم حتّى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ في الآخرة فيسمعون، إنهم لا علاج لهم، يقول الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حياو لكن لا حياة لمن تنادي

ثُمَ بعد البعث و الحساب إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي يرجعون إلى حكمه و قضائه، و هذا لتأكيد أن الكفار أموات،

كقول الإمام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 67

[سورة الأنعام (6): الآيات 37 الى 38]

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)

علي عليه السّلام «يا أشباه الرجال و لا رجال»

«1»، فإن «و لا رجال» لتأكيد الجملة الأولى.

[38] وَ قالُوا أي قال الكفار: لَوْ لا أي هلّا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ أي معجزة خارقة مِنْ رَبِّهِ فإنهم بعد ما عجزوا عن مقابلة القرآن قالوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنزل علينا مثل عصا موسى و ناقة صالح و أشباههما حتى نؤمن بك، فردهم سبحانه بقوله: قُلْ يا رسول الله: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً كما تقترحون وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قدرة الله، بل إنه ليس في إنزالها مصلحة، فإنهم معاندون و المعاند لا تفيده ألف آية، كما لم تفد مع فرعون عصا موسى عليه السّلام و مع قوم صالح عليه السّلام الناقة، و لو لم يكن هؤلاء معاندون لكفاهم الكتاب الحكيم. ثمّ إن إتيان آية موسى عليه السّلام أو ما

أشبهها أبعد لقبولهم، إذ القرآن الذي هو على لسانهم ينسبونه إلى السحر، فكيف بالعصا التي ليست من مهنتهم؟! [39] و حيث أن جو هذه السورة حول التوحيد و شؤونه و الآيات الكونية و ردع الكفّار بمختلف أصنافهم عن عقائدهم الباطلة، بيّن سبحانه بعض مخلوقاته الدالة على وجوده و صفاته الكمالية بقوله: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ من «دبّ يدبّ» إذا تحرك، ثم عمّ كل حيوان و لو لم يتحرك،

______________________________

(1) نهج البلاغة: خطبة 27 ص 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 68

[سورة الأنعام (6): آية 39]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

كما أنه يشمل حيوانات البر، لمقابلته بالطائر، و ذكر «في الأرض» للتعميم، وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ كما أن ذكر «يطير بجناحيه» للتعميم أيضا، و السر أنه كثيرا ما يعبّر بمثل هذا التعبير و يراد به العموم مبالغة، فإذا جاء القيد أفاد العموم الاستغراقي إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أيها البشر فإن كل نوع منهما أمة مستقلة و هي مثلكم في الإبداع و لطف الصنع و دقة التركيب ما فَرَّطْنا أي ما تركنا فِي الْكِتابِ أي كتاب الكون، فإن الكون كتاب الله و الموجودات كلماته، و إنما سمّي الكون كتابا، لأن الكتاب بمعنى الجمع، من كتب بمعنى جمع، و هذا الكون قد جمع الأشياء فهو كتاب الله التكويني مِنْ شَيْ ءٍ فهذا الكتاب قد اشتمل على جميع الأشياء و مختلف الأصناف، فهل بعد ذلك يطلب أحد دليلا على وجود الله؟ ثُمَ هذه الأمم كلها بعد الممات إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي يجمعهم يوم القيامة جميعا، كما قال: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ «1»، فمنه سبحانه

بدؤها و إليه عودها.

[40] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا الدالة على وجودنا و سائر صفاتنا، بعد هذه الدلائل الواضحة صُمٌ جمع «أصم» و هو الذي لا يسمع وَ بُكْمٌ جمع «أبكم» و هو الذي لا يتكلم، فهم كالذي لا يسمع و لا يتكلم حتّى يكتسب العلم و يدركه فإن العلم يأتي من الأذن و يخرج

______________________________

(1) التكوير: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 69

[سورة الأنعام (6): آية 40]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40)

من اللسان فِي الظُّلُماتِ فلا يبصر حتّى يرى الأشياء، فإن الكافر مثل هذا الشخص لأنه قد عطّل جوارحه فلا يدرك شيئا كما لا يدرك الأعمى الأبكم الأصم شيئا مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي يتركه و لا يجبره على الهداية حتى يضل الطريق و ذلك بعد ما بين له الحجة فلم يقبل بل أعرض عنها- و قد تقدم معنى ذلك- وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ باللطف الخفي به، كما قال سبحانه: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «1»، وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «2».

[41] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ رَأَيْتَكُمْ أي أخبروني؛ فإن «أ رأيت» بمعنى «أخبر»، و «كم» للخطاب، و هو يتغير حسب إفراد المخاطب و تثنيته و جمعه، كقوله سبحانه: أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ «3»، إِنْ أَتاكُمْ أي جاءكم عَذابُ اللَّهِ بأن نزلت صاعقة أو خسفت بكم الأرض أو ما أشبههما- كما حدث في الأمم السابقة- أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أي القيامة بأهوالها و عذابها أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ لكشف العذاب و الأهوال عنكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن هذه الأصنام آلهة؟! و هم

بفطرتهم يجيبون بالنفي، و أنهم لا يدعون غير الله، بل يدعون الله وحده، و في ذلك دلالة على بطلان الأصنام و عبادتها.

______________________________

(1) محمد: 18.

(2) العنكبوت: 70.

(3) الإسراء: 63.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 70

[سورة الأنعام (6): الآيات 41 الى 43]

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43)

[42] و لذا قال سبحانه بَلْ إِيَّاهُ أي الله سبحانه تَدْعُونَ و تقبلون عليه في شدائدكم فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي يرفع الضر الذي دعوتموه من أجله إِنْ شاءَ الكشف عنكم وَ تَنْسَوْنَ في وقت الشدة ما تُشْرِكُونَ من دون الله.

[43] ثم بيّن سبحانه أن الأمم الماضية لما أتتهم الرسل و لم يؤمنوا بهم أصابهم أنواع البلاء، و أن حال هؤلاء كحال أولئك إن لم يؤمنوا وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله فلم يؤمنوا فَأَخَذْناهُمْ أي أخذنا تلك الأمم بِالْبَأْساءِ أي الفقر و البؤس وَ الضَّرَّاءِ أي الأوجاع و الأسقام لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي كي يتضرعوا إلى الله سبحانه، فإن الإنسان إذا ابتلي بالبلاء كان أقرب إلى الله سبحانه، و في ذلك لطف بالنسبة إليه.

[44] لكنهم لم يتضرعوا و حتى في هذه الحالة ركبوا العناد و سلكوا سبيل اللّجاج فَلَوْ لا أي هلّا- و هي كلمة توبيخ- إِذْ جاءَهُمْ أي جاء تلك الأمم بَأْسُنا تَضَرَّعُوا و خضعوا لله وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ بسبب استمرارهم في الكفر و العصيان فلم تجد الهداية إلى قلوبهم سبيلا وَ زَيَّنَ لَهُمُ

الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فرأوا أعمالهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 71

[سورة الأنعام (6): الآيات 44 الى 46]

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)

حسنة، و لذا لم يتركوها.

[45] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما ذكّرناهم من أوامرنا و لم يعملوا بما دعاهم الرسل إليه فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ من النّعم حيث قد أقبلت الدنيا عليهم من جميع النواحي بعد تلك البأساء و الضراء.

و ذلك لأجل احتمال إفادة التذكير بالنعم حتى يشكروا بارئها و المتفضل بها عليهم حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أي بما أعطاهم الله من النعم و اشتغلوا بالتلذذ و لم يقبلوا أمر الرسل، بل صار ذلك سببا لزيادة طغيانهم و كفرهم أَخَذْناهُمْ بالهلاك و النكال بَغْتَةً أي فجأة فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ من «بلس» إذا تحسّر، أي أنهم متحيّرون آيسون من النجاة.

[46] فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «الدابر» الأصل، أي استؤصل و قطع أصل القوم بسبب العذاب وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي أهلك الكفار و أراح البلاد و العباد منهم.

[47] ثم احتج الله على الكفار بحجة أخرى تدل على بطلان أصنامهم و أن الأمر لله وحده قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يشركون بالله سبحانه: أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني، فقد تقدم أن «أ رأيت» بمعنى أخبرني إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ أي أذهب بها فصرتم

صمّ و عمي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 72

[سورة الأنعام (6): الآيات 47 الى 48]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)

وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي سلب عقولكم حتى صرتم لا تعقلون، أو المراد الطبع عليها حتى تبتعد عن الخير مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك الشي ء المأخوذ منكم، فإنهم يعترفون بأن الأصنام لا تتمكن من إعادة الأشياء المذكورة انْظُرْ يا رسول الله كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نبيّن لهم في القرآن الآيات الدالة على التوحيد، و «تصريف الآيات» توجيهها، من «صرف» إذا أرسل ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ من «صدف» بمعنى أعرض، أي يعرضون عن الحق و عن القائل في الآيات.

[48] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ رَأَيْتَكُمْ أي أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بعد ما أنذرتكم و لم تؤمنوا بَغْتَةً أو مفاجأة خفية، فإن الفجأة تلازم الخفية أَوْ جَهْرَةً علانية بلا فجأة هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الكافرون الذين ظلموا أنفسهم، و العاصون، و المراد بالهلاك ما يسبب خسارة الدارين، أما المؤمن لو هلك، فإنه لا يخسر إلّا الدنيا، و يعوّض عنها بأنواع الإنعام، و في هذا الاستفهام إيقاظ و تنبيه و ردع لهم من الظلم، فأي أحد يجب أن يهلك إذا أتى العذاب.

[49] وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالجنة و الثّواب لمن آمن و أصلح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 73

[سورة الأنعام (6): آية 49]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)

وَ مُنْذِرِينَ بالنار و العقاب لمن كفر أو

عصى فَمَنْ آمَنَ بما أمر الله الإيمان به وَ أَصْلَحَ أعماله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لا في الدنيا و لا في الآخرة، أما في الآخرة فواضح، و أما في الدنيا فلأن الخوف و الحزن الحقيقيين ما كانا مع الانقطاع عن العوض و الثواب و ما أشبهها، و ليس المؤمن كذلك فإنه يعلم أن ما يصيبه يعقبه الثواب و الأجر. و لذا

قال الإمام الحسين عليه السّلام يوم عاشوراء: «هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله»

«1»، و الارتباط بين هذه الآية و الآية السابقة واضح فإن العذاب لما وعد به الكفار بيّن أن الرسل شأنهم التبشير و الإنذار.

[50] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ أي يصيبهم العذاب بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم و خروجهم من طاعة الله سبحانه.

ثم لا يخفى أن الغالب تفسير الآيات الدالة على العذاب بعذاب الآخرة، مع أن الإطلاق خلاف ذلك، فإن من أعرض عن ذكره سبحانه يصيبه العذاب في الدنيا و في الآخرة، كما قال سبحانه: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «2»، و سببه واضح فإن المناهج التي يتبعها الإنسان مما وضعها غير الله سبحانه لا بد و أن تكون منحرفة، و هذا الانحراف يسبب الفوضى و الاستبداد و ما أشبه،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 45 ص 45.

(2) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 74

[سورة الأنعام (6): آية 50]

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)

مما يؤذي الإنسان و ينغّص عيشه.

[51] إن الكفار كانوا يستعظمون كيف يمكن أن يكون

الإنسان رسولا بدون أن يكون له مال عريض أو علم غيب ذاتي يعينه في أموره و حوائجه، و يردّ الله سبحانه عليهم ذلك، بأن الرسالة لا ترتبط بهذه الأمور، و إنما هي هداية و نور قُلْ يا رسول الله: لا أَقُولُ لَكُمْ أيها الناس عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ التي يهب منها لمن يشاء ما يشاء. و من المعلوم أنه ليس لله سبحانه خزائن بالمعنى المتعارف لدينا، بل خزائنه الأرض و الشمس و المعادن و ما أشبه، مما تفيض ثروة و مالا.

و في الحديث القدسي «إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون»

«1».

و المراد ب «عدم القول» عدم الوجود، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع وَ لا أقول أَعْلَمُ الْغَيْبَ كما يعلم الله سبحانه، بل إنما أعلم بما يوحي إليّ بإذن الله سبحانه، كما قال عيسى عليه السّلام: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ «2»، و في الآية الكريمة: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «3»، وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ كما أنكم تتوقعون أن يكون الرسول ملكا إِنْ أَتَّبِعُ أي ليس لي شأن إلّا أن أتبع، و «إن» بمعنى «ما» إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ من الأوامر و النواهي لأجل الإرشاد و الإصلاح قُلْ يا رسول الله لهم: إن مثل المؤمن و الكافر كمثل البصير الذي يبصر الأشياء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 135.

(2) آل عمران: 50.

(3) الجن: 27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 75

[سورة الأنعام (6): الآيات 51 الى 52]

وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ

بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

و الأعمى الذي لا يبصر هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ؟ كلّا، إن كل أحد يعلم بأنهما ليسا متساويين. و لعل تقديم الأعمى لأن الخطاب كان مع الكفار الذين هم بمنزلة الأعمى أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ في الأمر و أن مقام الرسالة لا يرتبط بما ذكرتم من الأشياء.

[52] وَ أَنْذِرْ يا رسول الله بِهِ أي بالقرآن، فإنه قد تقدّم ذكره بلفظ «ما يوحى إليّ» الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ و الخوف هنا ليس بمعنى الاحتمال، كقولك: «أخاف أن يهدم البناء»، بل بمعنى الخوف القطعي، فهو كقولك: «أخاف من الجلاد» و هو يريد القتل. و المراد ب «الذين يخافون» المعترفون بالبعث، و إنما قد أنذر هؤلاء مع أن الإنذار عام، لأن هؤلاء هم المنتفعون بالإنذار، أما من أعرض فلا ينتفع به لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله تعالى وَلِيٌ يلي أمورهم هناك وَ لا شَفِيعٌ و ليس المراد أن الله يشفع إذ لا معنى لشفاعته، بل المراد أن الشفاعة بيده، فلا يشفع أحد إلّا بإذنه، كما قال سبحانه: لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1»، لَعَلَّهُمْ أي هؤلاء الذين أنذرتهم يَتَّقُونَ معاصي الله، و يأتمرون بأوامره.

[53] إن من يخاف الحساب، أنذره يا رسول الله و لا تطرده من عندك و إن طلب الأشراف ذلك وَ لا تَطْرُدِ من مجلسك الَّذِينَ يَدْعُونَ

______________________________

(1) الأنبياء: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 76

[سورة الأنعام (6): آية 53]

وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ أي

صباحا وَ الْعَشِيِ طرف العصر يُرِيدُونَ بالدعاء و الضراعة وَجْهَهُ أي ذاته سبحانه خالصا مخلصا. و قد ورد أنه مرّ ملأ من قريش على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده صهيب و خباب و بلال و عمار و سلمان و غيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أ فنحن نكون تبعا لهم؟ أ هؤلاء الذين منّ الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم تبعناك. فنزلت الآية.

و في بعض التفاسير أنه طعن أولئك الأشراف في سيرة هؤلاء الفقراء و أعمالهم، كي يدفعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لإبعادهم عنه، فرد عليهم سبحانه بقوله: ما عَلَيْكَ أي ليس عليك مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فأنت لا تتحمل تبعة سيرتهم وَ ما مِنْ حِسابِكَ يا رسول الله عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فإنهم لا يطالبون بحسابك، بل كلّ و عمله، فسيرتهم لو كانت كما يقولون لا تضرك فَتَطْرُدَهُمْ فإن الشخص إنما يطرد من تضره سيرته، أما من كان قلبه عامرا بالإيمان و صلاته دائمة طرفي النهار فإن فقره و سيرته لا يوجبان طرده- لو فرض أن في سيرته ميل- فَتَكُونَ بسبب طردهم مِنَ الظَّالِمِينَ لهم، أو لنفسك، فإن الإنسان إذا ظلم غيره فقد ظلم نفسه أيضا، و سيقت هذه الجملة مبالغة في ردع من طلب طرد أولئك.

[54] وَ كَذلِكَ أي هكذا فَتَنَّا أي ابتلينا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ حيث ابتلينا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 77

[سورة الأنعام (6): آية 54]

وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

الأشراف و الفقراء

لِيَقُولُوا أولئك الأشراف: أَ هؤُلاءِ أي هل هؤلاء الفقراء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا حتى عمّهم النبي بلطفه، و جعلهم ندماءه و موضع سره؟ نعم، ليس الإسلام ينظر للناس كما ينظر أهل الدنيا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أنهم شاكرون، و الشاكر أفضل من غيره عند الإسلام، و إن كان غيره في نظر الناس شريفا، فإن الميزان عند الإسلام التقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1».

[55] و الإسلام لا يسد الأبواب على العاصي، و إنما يفتح له باب التوبة.

و قد ورد أن جماعة جاءوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما، فلم يرد عليهم شيئا فانصرفوا، فنزل قوله تعالى وَ إِذا جاءَكَ يا رسول الله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا أي بدلائلنا و براهيننا فَقُلْ لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي أنتم في سلام لا في عذاب و عقاب، يقبل عذركم و يغفر ذنبكم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أنه فرض على نفسه- حسب حكمته- أن يرحم العباد و يشملهم بلطفه و إحسانه أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ و المراد بالجهالة هنا ليس الجهل مقابل العلم، بل عدم المبالاة، و إنما سمي بذلك لأن العالم التارك

______________________________

(1) الحجرات: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 78

[سورة الأنعام (6): الآيات 55 الى 56]

وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)

لعلمه هو و الجاهل سواء، و كأنه للجهل بالنتائج و العواقب المرتبة على العمل، و إلا فالآية تشمل العمل، بل هو موردها.

ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد العمل وَ

أَصْلَحَ أي عمل صالحا فَأَنَّهُ أي الله سبحانه غَفُورٌ لذنبه رَحِيمٌ به. و كان الإتيان ب «رحيم» بعد «غفور» غالبا، لإفادة الفضل في لطفه و إحسانه.

[56] وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما سبق نفصل الأدلة و البراهين الدالة على التوحيد و سائر شؤون المبدأ و المعاد، و نشرحها و نبيّنها، حتى يتضح سبيل المهتدين وَ لِتَسْتَبِينَ أي تظهر سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ المعاندين، فإن في بيان الحق وضوح الأمرين؛ سبيل المحق و سبيل المبطل. و لفظة «سبيل» مما يجوز التذكير و التأنيث، و لذا قال: «تستبين» بالتأنيث.

[57] ثم أمر سبحانه رسوله بالبراءة مما يعبد المشركون بقوله: قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها، و المراد ب «من دون الله» ما خلا عبادة الله، فإن النهي أعم من عبادة الأصنام وحدها أو بالاشتراك مع عبادة الله، فإن عبادة الأصنام إنما أتت من هوى النفس لا من دليل عقلي أو منطقي قُلْ يا رسول الله لهم: لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ في عبادة الأصنام قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً إذا فعلت أنا ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 79

[سورة الأنعام (6): الآيات 57 الى 58]

قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ لو عبدت الأصنام.

[58] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ أي أمر واضح بيّن لا غموض فيه مِنْ رَبِّي أي أن تلك البينّة أتتني من جانب الله

سبحانه، لا مثلكم أتبع هوى النفس وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ أي بما أنا عليه من الدليل و البيّنة، و قد كان الكفّار يطلبون من الرسول- استهزاء- أن ينزل عليهم العذاب الذي يعدهم، كما قال سبحانه: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «1»، فرد عليهم بقوله: ما عِنْدِي أي ليس باختياري و أمري ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي الذي تطلبون سرعته إِنِ الْحُكْمُ أي ليس الحكم في باب العذاب إِلَّا لِلَّهِ فهو وحده يَقُصُّ الْحَقَ أي يبيّنه وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ الذي يفصّل الأمور، فإذا اقتضت المصلحة أتاكم بالعذاب و يفصل الأمر و تنتهي المشكلة، و من المعلوم أن إنزال العذاب له مقاييس خاصة، و أوقات محددة، فليس كل من طلب العذاب يجاب فورا و إن كان من أكثر الناس إجراما.

[59] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يطلبون سرعة العذاب لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي بأمري و إرادتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من إنزال العذاب

______________________________

(1) الحج: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 80

[سورة الأنعام (6): آية 59]

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)

بكم لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إذ أهلككم فأستريح منكم، لكن ذلك بإذن الله و مشيئته وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ و بمقتضى عمله يقدم العذاب تارة و يؤخره أخرى.

[60] و حيث ذكر علمه سبحانه بالظالمين يأتي السياق ليذكر الكافرين بعلمه سبحانه و قدرته و أعماله، في أنفسهم و في الآفاق، إنها أقوى الأدلة على وجوده و سائر صفاته الكلامية، و هل من حاجة بعدها إلى الخوارق التي

كانوا يقترحونها لإثبات كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ عِنْدَهُ أي عند الله سبحانه مَفاتِحُ جمع «مفتح» بمعنى المفتاح الْغَيْبِ أي ما غاب عن الحواس و المشاعر، فكأن الغيب قد سدّت أبوابه و أقفلت فلا يتمكن الإنسان أن يرى ما ورائها، و ليس بيد أحد مفاتيح تلك الأبواب ليفتحها و يرى الغيب، و إنما هي بيد الله سبحانه وحده، فهو الذي يعلم الغيب كله و يتمكن أن يفتح تلك الأبواب لمن أراد من خلقه، كما قال: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1»، لا يَعْلَمُها أي لا يدري ما هي تلك المفاتيح إِلَّا هُوَ أي إلّا الله سبحانه، و حيث أن كشف الغيب يحتاج إلى العلم بالكشف و القدرة على الكشف، و كان المقام مقام بيان عمله سبحانه، قال سبحانه «لا يعلمها» فلا يقال أن الأنسب أن يقول: «لا يقدر عليها» لا أن يقول «لا يعلمها». فالأرزاق و الآجال و ما أشبههما، التي تأتي في المستقبل، لا يعلمها إلّا الله سبحانه وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ

______________________________

(1) الجن: 27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 81

[سورة الأنعام (6): آية 60]

وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)

وَ الْبَحْرِ المراد بالبر: الأعم من المدن، و البحر: الأعم من الأنهار، بقرينة المقابلة وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ من أوراق الأشجار إِلَّا يَعْلَمُها، وَ لا من حَبَّةٍ كامنة فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ أي جوفها، أو لا تسقط حبة في باطن الأرض مما تزرع أو غيره. و قد كان التقابل بين «ما تسقط من ورقة» و

بين «و لا حبة» لطيفا جدا، حيث أن الأول حركة الحياة إلى الموت، و السقوط الثاني حركة الموت إلى الحياة و الارتفاع وَ لا من رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ من جميع الأشياء و الأصناف. و هذا و إن كان أخص من الموجودات، لأن من الأشياء ما لا يتصف برطوبة لا يبوسة كالعقل، إلّا أن العموم يشمله الفحوى، و كثيرا ما يقال اللفظ الأخص و يراد الأعم حيث أن الأخص صار مثلا، كقوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «1»، فإن الأكثر داخل بالفحوى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي إن جميع الأشياء محفوظة عند الله سبحانه في كتاب واضح جليّ، و هو اللّوح المحفوظ، أو المراد بالكتاب علمه الشامل. و لعلّ التعبير بالكتاب لأجل بيان أنه محفوظ لا يزول، كما أن الكتاب كذلك.

[61] وَ هُوَ سبحانه كما يعلم الأشياء كذلك تجري الأشياء بقدرته و إرادته، فأنتم أيها البشر في قبضته و طوع أمره، فإنه الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أيها البشر بِاللَّيْلِ أي يقبض أرواحكم عن التصرف، و «التوفي» أخذ

______________________________

(1) التوبة: 80.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 82

[سورة الأنعام (6): آية 61]

وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)

الشي ء كاملا و منه الوفاة، فإن الإنسان إذا نام أخذ الله روحه المتصرفة التي تبصر و تسمع و تذوق و تلمس و تشم، و هذه الآية كقوله سبحانه:

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «1»، و إنما الفرق أن الموت توف بمعنى أتم من التوفي، بمعنى النوم وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ أي ما كسبتم و فعلتم، أي عملتم بجوارحكم بِالنَّهارِ و هذا التفصيل خارج مجرى الغالب، و إلا فهو يتوفى بالنهار

لمن نام فيه، و يعلم ما جرح الإنسان بالليل لمن عمل فيه ثُمَ بعد توفيكم بالليل يَبْعَثُكُمْ أي يوقظكم و ينبهكم من نومكم فِيهِ أي في النهار لِيُقْضى أي لينهى أَجَلٌ مُسَمًّى أي أمدكم الذي سماه سبحانه في اللوح المحفوظ، يعني أنه إنما يوقظكم في النهار حتّى لا يموت الإنسان قبل وقته ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ بعد تمام المدة و انتهاء الأمد، ترجعون إليه سبحانه في الآخرة، و المراد: إلى حسابه، و إلا فليس له سبحانه محلّ، فإنه منزّه عن الزمان و المكان ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم- بعد رجوعكم إليه- بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ليعطي كلّ ذي جزاء جزائه، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر.

[62] وَ هُوَ سبحانه الْقاهِرُ أي القادر الذي يقهر و يجبر كما يشاء فَوْقَ عِبادِهِ أي مستعل عليهم، فإن من يتصرف في الإنسان يكون

______________________________

(1) الزمر: 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 83

[سورة الأنعام (6): آية 62]

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)

فوقه رتبة، و ليس المراد الفوقية الحقيقية، فإنه منزه عن المكان وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً جمع حافظ، و هم الملائكة الذين يبعثهم الله تعالى لحفظ الإنسان عن العطب، و حفظ أعماله في دفاتر سجلات ليجزي كلّا حسب ما عمل حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ و صار وقت أن يموت تركه الحافظ له و أسلمه إلى حتفه تَوَفَّتْهُ أي قبضت روحه كاملة رُسُلُنا أي الملائكة المرسلة لأجل هذه الغاية وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ بأن يقدموا أخذ الروح أو يؤخروها، أو يشددوا في النزع أو يخفّفوا، بل يفعلون ما يؤمرون، و إنما أتي بلفظ «رسلنا» جمعا، لأن لملك الموت أعوانا، كما ثبت من السنة، و

لعل في قوله: الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «1»، دلالة عليه.

[63] ثُمَ بعد ما أخذت الملائكة أرواحهم رُدُّوا أي رجعت أرواحهم إِلَى اللَّهِ أي في المكان المهيأ لهم من قبله سبحانه مَوْلاهُمُ الْحَقِ أي سيدهم بالحقيقة، لا مثل سيادة الأصنام عليهم أَلا فلينتبه الناس أن الله لَهُ وحده الْحُكْمُ في جميع الأمور الكونية، حتى قبض أرواحهم و محاسبتهم هناك وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ و حسابه سريع لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه حساب المحاسبين من الوقت و نحوه، فليس هناك بطء في الحساب حتّى يكون للمحاسب مجال

______________________________

(1) النساء: 98.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 84

[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 65]

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

واسع لكي يتمّ حسابه.

[64] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفّار، دلالة على قدرته سبحانه الكاملة:

مَنْ يُنَجِّيكُمْ و يخلصكم مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ أي من شدائدهما و أهوالهما، فإنّهم يقولون لليوم الشّديد: «يوم مظلم» تشبيها، فكما أنّ الإنسان لا يهتدي طريقه في الليل و الظلمة، كذلك لا يهتدي طريقه في الشّدائد تَدْعُونَهُ أي تدعون الله تعالى إذا وقعتم في الشّدّة و الظلمة تَضَرُّعاً ضراعة و استكانة بلسانكم وَ خُفْيَةً و سرا في نفوسكم، فتتوافق الظواهر و البواطن في الضراعة و المسألة لكي ينجيهم الله سبحانه، قائلين: لَئِنْ أَنْجانا ربنا مِنْ هذِهِ الشّدّة و الكارثة لَنَكُونَنَّ مِنَ

الشَّاكِرِينَ الذين يشكرون نعمائه عليهم معترفين به و بفضله و إحسانه.

[65] قُلِ يا رسول الله لهؤلاء: اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها أي من هذه الشدّة وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ أي يخلّصكم من كلّ غمّ و همّ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ به غيره، و ترجعون إلى شرككم و عصيانكم، كما قال سبحانه: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ «1».

[66] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: الله هُوَ الْقادِرُ عَلى

______________________________

(1) العنكبوت: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 85

[سورة الأنعام (6): آية 66]

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)

أَنْ يَبْعَثَ أي يرسل عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كالصواعق أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كالخسف أَوْ يَلْبِسَكُمْ من «لبس عليه الأمر» إذا خلط بعضه ببعض أي يخلطكم شِيَعاً جمع «شيعة» أي فرقا، مختلفي الأهواء لا تكونون أمة واحدة، بل أحزابا و أهواء وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فهم في عداء مستمر و حروب دائمة، و إنما ينسب ذلك إليه سبحانه، لأنه يكلهم إلى أمرهم بعد أن أعرضوا عن طريقه، و تركوا منهاجه انْظُرْ يا رسول الله. و المراد بالنظر التأمل و التفكر كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نردّد الدلائل على التوحيد و نكررها مرة بعد مرة لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ أي يفهموا الحق، و يذعنوا للخالق و يتجنبوا الكفر و الباطل.

[67] وَ كَذَّبَ بِهِ أي بما نصرّف من الآيات قَوْمُكَ يا رسول الله، و المراد بهم إما قريش، و إما العرب، و إما الناس المبعوث إليهم بصورة عامة، و المراد بالتكذيب: تكذيب أغلبهم لا جميعهم، لوضوح إيمان بعض من كلّ من الطوائف الثلاث به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين نزول الآية وَ هُوَ الْحَقُ أي ما نصرفه من

الآيات حق لا مرية فيه قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي موكل إليّ أمركم حتى يضرني تكذيبكم، بل أنا مبلّغ، و قد بلغت ما أمرت بتبليغه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 86

[سورة الأنعام (6): الآيات 67 الى 68]

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

[68] ثم بيّن سبحانه أن ما أخبر به الرسول من وعيد المكذبين بشر الدنيا و الآخرة لا بد و أن يظهر، و هناك يعلم المكذبون أنهم خسروا، و أن تكذيبهم عاد بالوبال عليهم لِكُلِّ نَبَإٍ أي لكل خبر مُسْتَقَرٌّ أي محل استقرار يظهر هناك صدقه، فما كان في الدنيا يظهر أثره في الدنيا و ما كان في الآخرة يظهر أثره في الآخرة وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ أيها المكذبون عاقبة أمركم.

[69] إن أول حركة لا بد و أن يختلط المؤمنون بها و المناوئون لها، و لا بد و أن يكون ضعاف النفوس من المؤمنين يكتسبون من المعاندين بعض الأفكار المعادية، و لا أقل من أن يجبنوا عن الاستمرار و التظاهر، و لذا فمن اللازم أن يجنّب القادة أتباعهم عن الاختلاط خصوصا حالة التهجم من المعاندين وَ إِذا رَأَيْتَ يا رسول الله الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا خوض المناقشة و الاستهزاء، و الخطاب و إن كان موجها إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا أنه عام لجميع المسلمين فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي فاتركهم و لا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي غير ما خاضوا فيه أولا، بأن يتكلموا في سائر المواضيع فلا بأس

حينئذ من مجالستهم و التكلم معهم وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن نسي المسلم و جلس مع الخائضين في آيات الله، و الجملة شرطية، أي: و إن أنساك، و «ما» زائدة، و من المعلوم أن الشرط لا ينافي العصمة، فإن الجملة الشرطية تأتي حتّى مع استحالة طرفيها نحو:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 87

[سورة الأنعام (6): آية 69]

وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «1»، فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى أي بعد التذكر، لكون مجالستهم محرمة منهي عنها مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين يخوضون في الآيات.

[70] وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أي هل على المؤمنين المتقين مِنْ حِسابِهِمْ أي حساب الكفار الخائضين في آيات الله مِنْ شَيْ ءٍ؟

فإنهم ليسوا بمسؤولين عن خوضهم في الآيات وَ لكِنْ قيامهم عن المجالس إذا خاضوا ذِكْرى أي تذكير للخائضين بأنهم يعملون عملا سيّئا، و إنما قال «ذكرى» لأن الخائض يعلم سوء فعله في قرارة نفسه، لكنه يغفل غالبا حين الخوض، فأمر المسلم أن يقوم من مجلسه ليتذكر لَعَلَّهُمْ أي لكي ينتهي الخائضون و يَتَّقُونَ و يتورعون عن الخوض.

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال لما نزلت «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» قال المسلمون: كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا و تركناهم فلا ندخل المسجد الحرام و لا نطوف بالبيت الحرام؟ فأنزل الله سبحانه: «وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ» أمرهم بتذكيرهم و تبصيرهم ما استطاعوا

«2».

______________________________

(1) الزخرف: 82.

(2) مستدرك الوسائل: ج 12 ص 312.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 88

[سورة الأنعام (6): آية 70]

وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً

وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

[71] وَ ذَرِ أي اترك يا رسول الله الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً المراد من «دينهم»: الذي يتدينون به من عبادة الأصنام، و المسيحية و اليهودية و ما أشبه، و المراد باتخاذه لعبا و لهوا: أنهم كالأطفال الذين يتخذون آلة للعب و اللهو فلا علاقة لهم بها إلا علاقة التلاعب، لا أنه دين وصل إلى أعماق قلوبهم و أخذ يوجه حياتهم، و أما دينهم الذي يجب أن يتدينوا به- أي الإسلام- و نسبته إليهم لأجل وجوب اتخاذه دينا، و اتخاذه لعبا و لهوا استهزاؤهم به كأنه لعب و لهو وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا زاعمين أنه ليس ورائها شي ء، و شغلتهم الدنيا عن الدين وَ ذَكِّرْ يا رسول الله هؤلاء الكفار بِهِ أي بالدين أَنْ تُبْسَلَ من «بسل» بمعنى استسلم، أي لكي لا تسلم نَفْسٌ للهلكة بِما كَسَبَتْ أي بسبب عملها، فإنك إن ذكّرت لعلها تعود إلى الرشد و تنقذ من الهلكة حيث لَيْسَ لَها أي للنفس مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله وَلِيٌ ناصر ينصرها وَ لا شَفِيعٌ يشفع لها، فإن الشفاعة بيد الله وحده وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي تفدي بكل ما يمكن جعله فدية، لتنقذ نفسها من العذاب لا يُؤْخَذْ مِنْها إذ ليس الميزان هناك إلا العمل وحده أُولئِكَ الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا هم الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا أي أهلكوا «ب» سبب «ما كسبوا» من

الأعمال و العقائد الباطلة لَهُمْ شَرابٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 89

[سورة الأنعام (6): آية 71]

قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)

مِنْ حَمِيمٍ أي: الماء الذي يشربون إنما هو من حميم جهنم، و هو الماء المغلي الحار وَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم.

[72] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا أي هل ندعو الأصنام التي لا تنفعنا إن عبدناها وَ لا يَضُرُّنا إن تركنا عبادتها وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي نرجع القهقرى، فإن من أتى إلى مكان ثم رجع إلى محله الأول كان خاسرا، و «الأعقاب» جمع «عقب» بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى دينه و صراطه كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ أي استغوته الشَّياطِينُ أي الغيلان فِي الْأَرْضِ أي البيداء، بأن أخرجته الشياطين من الجادة إلى المهلكة حَيْرانَ لا يدري أ يتبع أصحابه أم يتبع الشياطين لَهُ أي لهذا الذي استهوته الشياطين أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى إلى الجادة، و أن لا يتبع الشياطين، قائلين له:

ائْتِنا أي جئنا و كن معنا. فإن قسما من الغول- و هم سحرة الجن- يكونون في الصحراء، يؤذون بعض المارة، فإذا رأى الشخص جماعة منهم يستهوونه قائلين له: من هنا الجادة- و يدلّونه إلى المفاوز المهلكة- فهو يتحير بين أن يسير مع هذه الجماعة التي تصبغ نفسها بصبغة أدلاء الطريق و أنها من أهل البادية تعرف الطريق الموصل من

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 2، ص: 90

[سورة الأنعام (6): الآيات 72 الى 73]

وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

غيره، أم يسير مع رفاقه الذين خرج معهم، حيث أنهم رفاقه، لكنهم- بزعمه- يمشون على غير الطريق و يصيبهم العطب أخيرا. و هناك قسم من الناس ينكرون الجن و الغول و الشيطان، لكنه من ضيق الأفق، فإن العلمين القديم و الحديث أيّدا الدين و القصص المؤكدة لوجود ذلك «1».

قُلْ يا رسول الله: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى الذي ينبغي للإنسان أن يتبعه و يترك غيره وَ أُمِرْنا أي أمرنا الله و أرشدنا العقل لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ في جميع شؤوننا.

[73] وَ أمرنا أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أي بإقامة الصلاة، فإن حذف حرف الجر، مع أن «و أن» مطرد شائع، كما قال ابن مالك:

و الخوف مع أن و إن يطردمع أمن لبس كعجبت أن يدو

وَ اتَّقُوهُ أي احذروا عقاب الله تعالى وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تجمعون يوم القيامة ليحاسبكم على ما عملتم من خير و شر.

[74] وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و المراد بالسماوات: إما الأجرام هناك، أو المدارات للكواكب بِالْحَقِ أي ليس بالباطل فإن

______________________________

(1) أنظر كتاب «على حافة العالم الاثيري» لفريد وجدي، مادة «اسبرتزم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 91

من يصنع شيئا قد يصنعه عبثا و باطلا و قد يصنعه لغاية و حكمة، فمعنى بالحق: أن الخلق ليس عبثا، كما قال سبحانه: ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ «1»، وَ يَوْمَ يَقُولُ

سبحانه لشي ء كُنْ و اخرج من العدم إلى الوجود فَيَكُونُ و يوجد قَوْلُهُ الْحَقُ الظاهر أنه العامل في «يوم» أي أن قوله تعالى يكون و يتحقق في أي يوم قال لشي ء «كن» فهو سبحانه خلقه بالحق، و قوله حق، أي متحقق ثابت لا خلف فيه، و ليس كأقوال من تذهب أقواله باطلة.

وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الصور هو الآلة التي ينفخ فيها لأجل هلاك الناس جميعا، و هو في آخر يوم من أيام الدنيا، أو لأجل أحيائهم جميعا، و هو في أول يوم من أيام الآخرة، يعني أنه سبحانه الملك الوحيد الذي لا يوجد ملك غيره، في ذلك اليوم. و الفقرات الثلاثة في الآية لبيان الأحوال الثلاثة، الخلق للأشياء، و التصرف في الكون بما يشاء الله، و كون المعادلة له سبحانه، و هو عالِمُ الْغَيْبِ أي يعلم ما غاب عن الحواس، لعدم إدراك الحواس له، أو لكونه من الأمور المستقلة وَ الشَّهادَةِ أي ما يشاهده الناس، و أتى بهذه الجملة هنا، ليتناسق العلم مع القدرة، وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أفعاله الْخَبِيرُ بالأشياء، فلا يعمل شيئا اعتباطا و عبثا

______________________________

(1) آل عمران: 192.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 92

[سورة الأنعام (6): الآيات 74 الى 75]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

[75] و بعد ما بيّن سبحانه الأدلة حول التوحيد، أتى بقصة إبراهيم عليه السّلام الذي كان يدعو إلى التوحيد، ليمثل الأدلة في قصة حوارية جذابة وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ و المراد بالأب هنا العم، كما

ورد، فإن العرب تسمي العم أبا، كما تسمي الخالة أما،

و قد ورد في زيارة الشهيد على الأكبر عليه السّلام «السلام عليك يا بن الحسن و الحسين»

أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً على وجه الاستنكار و التوبيخ، أي كيف تعبد الأصنام و تجعلها إلها من دون الله؟ إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي واضح، فإن الإله يجب أن يكون خالقا رازقا فكيف تكون الأصنام آلهة؟

[76] وَ كَذلِكَ أي بمثل هذه الفطرة المستقيمة التي رأى بها إبراهيم بطلان عبادة الأصنام نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي آثار الملك الموجودة في السماوات و الأرض من الشمس و القمر و النجوم و الجبال و البحار و الأشجار و الدواب و غيرها، مما تدل كلها على وجود إله حكيم عليم خالق قادر، و إنما نسب الإراءة إلى نفسه تعالى لأنه هو الذي فتق بصيرة إبراهيم عليه السّلام للتأمل في الآيات الكونية. و في الأحاديث أنه عليه السّلام كان يرى أغوار الأرض و آفاق السماء فقد كشف عن عينه الحجاب و كان يرى ما لا يدركه البصر الإنساني.

وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي المتيقنين بأن الله سبحانه هو الخالق و الإله، أريناه الملكوت، فجملة «و ليكون .. إلخ» مستأنفة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 93

[سورة الأنعام (6): الآيات 76 الى 78]

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)

[77] إن إبراهيم عليه السّلام اصطدم بأصناف ثلاثة

يعبدون من دون الله الكواكب، فكان بعضهم يعبدون «الزهرة» و بعضهم يعبد «القمر» و بعضهم يعبد «الشمس» فأراد الاحتجاج عليهم فلما جن عليه الليل رأى الزهرة فقال لعبّادها مستنكرا: هل هذا ربي؟ ثم رد عليهم بأنه آفل ذاهب متحرك، و هذا من شأن المخلوق لا الخالق فإن الخالق لا يتغير و لا يتحرك، و بعد ما طلع القمر، قال لعباده على وجه الاستنكار: هل هذا ربي؟ ثم أبطل ألوهيته بما سبق و بيّن أن إلهه هو الله وحده لا شريك له.

فَلَمَّا جَنَ أي أظلم عَلَيْهِ اللَّيْلُ و ستر بظلامه كل شي ء رَأى إبراهيم عليه السّلام كَوْكَباً و جماعة يعبدونه قالَ مستنكرا عليهم: هل هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ و غرب النجم قالَ إبراهيم: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي لا أحب أن أتخذ الشي ء الذي يغرب إلها.

[78] فَلَمَّا رَأَى إبراهيم عليه السّلام الْقَمَرَ بازِغاً أي طالعا منيرا و جماعة يعبدونه قالَ مستنكرا عليهم: هل هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ و غرب القمر قالَ إبراهيم على سبيل التّعريض بأولئك لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى الطّريق المستقيم لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ الذين ضلّوا الطّريق، و اتّخذوا آلهة باطلة.

[79] فَلَمَّا أصبح إبراهيم عليه السّلام و رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً طالعة و جماعة يعبدونها قالَ مستنكرا عملهم طاعنا في حجّتهم: هل هذا رَبِّي هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 94

[سورة الأنعام (6): الآيات 79 الى 80]

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)

أَكْبَرُ؟، فكأنّهم كانوا يستدلّون

بكبرها على أنها الرّب دون سواها فَلَمَّا أَفَلَتْ الشّمس و غربت قالَ إبراهيم عليه السّلام: يا قَوْمِ العبّاد لغير الله تعالى إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أي ما تجعلونه من الكواكب شريكا لله سبحانه.

[80] إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ و المراد بالوجه الذات، لكن حيث أن الإنسان حينما يخلص لشي ء و يريد استقباله، يوجّه وجهه إليه، و استعمل الوجه في الذات مجازا لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أي خلقها و أوجدها حَنِيفاً أي مائلا عن الشرك إلى الإخلاص وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يشركون بالله غيره.

[81] و لما جادل إبراهيم حول الأصنام و الكواكب التي يعبدها قومه، فشي أمره فجاء إليه الناس يحاجّونه وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ أي خاصموه و جادلوه في باب الألوهية قالَ إبراهيم أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي تجادلونني بالنسبة إلى الله تعالى وَ قَدْ هَدانِ إلى الحق بلطفه و إحسانه وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي لا أخاف من آلهتكم أن يسببوا لي ضررا، فإنه ليس الصنم و النجم يضران الإنسان إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أي ضررا بي، و الاستثناء منقطع، و قد مر سابقا أن هذه الاستثناءات إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 95

[سورة الأنعام (6): الآيات 81 الى 82]

وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)

هي لأجل إفادة تمام الطلب بعد جعل المستثنى منه الإطلاق، فالأصل مثلا، و لا أخاف ضررا إلا من الله سبحانه.

و لست أعلم ما يشاء ربي من ضرري أو نفعي بل وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ

عِلْماً أي سبحانه المحيط بالأشياء بعلمه الواسع و اطلاعه الشامل أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ أيها المشركون و تتدبرون لتعرفوا أن الأمر كما قلت لكم.

[82] وَ كَيْفَ أَخافُ أنا المعتقد بالله سبحانه الضرر من قبل ما أَشْرَكْتُمْ من الأصنام و النجوم و هي لا تملك شيئا من الضرر و النفع وَ الحال أنكم لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ الذي بيده كل ضرر و نفع ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي جعلتم النجوم و الأصنام شركاء لله و التي لم يدل دليل من قبل الله سبحانه على صحتها، فإن «ما» موصولة مصداقها «الأصنام و النجوم» فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ نحن و أنتم أَحَقُّ بِالْأَمْنِ بأن لا يخاف الضرر إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تستعملون عقولكم و علومكم فتميزون الحق من الباطل؟

[83] ثم بيّن سبحانه من له الأمن بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى وَ لَمْ يَلْبِسُوا أي لم يخلطوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ بأن لم يشركوا فإن الشرك ظلم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 96

[سورة الأنعام (6): الآيات 83 الى 84]

وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)

كما قال سبحانه: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ فإنهم لا يخافون عقاب الآخرة، و لا ضرر الدنيا بلا عوض وَ هُمْ مُهْتَدُونَ أي مهديون إلى الحق. و هذه الآية و إن كان موردها قصة إبراهيم عليه السّلام و الإيمان و الشرك إلا أنها عامة تشمل كل إيمان لم يلبس بظلم،

و لذا ورد في مصداقها الولاية لأهل البيت عليهم السّلام «2».

[84] وَ تِلْكَ الحجة التي احتج بها إبراهيم عليه السّلام في ما سبق حُجَّتُنا أي الأدلة التي آتَيْناها إِبْراهِيمَ أعطيناها لإبراهيم عليه السّلام، و لقنّاه إياها عَلى قَوْمِهِ المشركين حتى تمكن من إيرادها عليهم و أن يغلبهم نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ كما رفعنا إبراهيم عليه السّلام درجات حيث كان مؤمنا موحدا مجاهدا إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فبحسب حكمته البالغة يرفع الدرجات، و بحسب علمه الشامل يعلم الأشياء.

[85] وَ وَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم عليه السّلام إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ إسحاق هو ابن إبراهيم من سارة، و يعقوب ابن اسحق عليهم السّلام، و لم يذكر إسماعيل و هو ابنه من هاجر لإرادة ذكره مستقلا حتى يظهر له من الشأن ما لا يظهر لو أدرج في جملة «وهبنا» و قد ذكر سبحانه الشجرة النبوية من إبراهيم عليه السّلام و من نوح عليه السّلام فلا يفوت ذكره حيث يذكرون

______________________________

(1) لقمان: 14.

(2) بحار الأنوار: ج 36 ص 114.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 97

[سورة الأنعام (6): الآيات 85 الى 86]

وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86)

كُلًّا من الثلاثة هَدَيْنا إلى الحق و الى صراط مستقيم وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ هؤلاء وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أي من ذرية إبراهيم، أو من ذرية نوح عليه السّلام أو المراد كلّا منهما، فإنه يجوز ذلك بإرجاع الضمير إلى كل واحد، كما قال سبحانه: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ «1» داوُدَ وَ سُلَيْمانَ و هو ابن داود وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ ابن يعقوب بن

إسحاق بن إبراهيم وَ مُوسى بن عمران وَ هارُونَ أخو موسى عليه السّلام وَ كَذلِكَ أي هكذا يجعل النبوة في ذريته، تكريما له نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في أعمالهم، فإنا نكرمهم بما يستحقون.

[86] وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى ابن زكريا وَ عِيسى ابن مريم وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي أن كل واحد منهم من الذين أصلحوا.

[87] وَ إِسْماعِيلَ ابن إبراهيم عليه السّلام جد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من المحتمل أن يراد به إسماعيل صادق الوعد الذي أشير إليه في قوله سبحانه: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ «2»، وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ ابن متّى صاحب الحوت وَ لُوطاً و الكلام في «اللام» في «اليسع»،

______________________________

(1) البقرة: 260.

(2) مريم: 55.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 98

[سورة الأنعام (6): الآيات 87 الى 88]

وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)

و المنصرف و غير المنصرف من الأسماء مرتبط بالمفصلات وَ كلًّا أي كل واحد منهم فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ أي عالم زمانهم، فإن كل نبي كان أفضل من جميع الناس، باستثناء النبي الذي في عهده، فلوط كان في عهد إبراهيم و لم يكن أفضل منه.

[88] وَ كذلك فضلنا جماعة مِنْ آبائِهِمْ أي من آباء هؤلاء الأنبياء وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ أي أولاد هؤلاء الأنبياء وَ إِخْوانِهِمْ أي إخوان هؤلاء الأنبياء وَ اجْتَبَيْناهُمْ أي اصطفيناهم و اخترناهم للرسالة وَ هَدَيْناهُمْ إلى الحق، و ذلك لا يلازم سبق الضلالة، كما لا يخفى إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في كل شي ء؛ العقيدة و السلوك

و القول.

[89] ذلِكَ الهدى الذي هدينا به الأنبياء هُدَى اللَّهِ و إرشاده الذي يأتي بأكمل السعادة و أوفر الخير يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و المراد إما الهدى الخالص، و من المعلوم أنه لا يلزم في الحكمة بالنسبة إلى كل أحد، و إما الهدى العام و ذلك و إن لزم بالنسبة إلى كل أحد لكن المراد هنا الإيصال إلى المطلوب لا إراءة الطريق، أو يقال: إن الذي دلّ عليه الدليل أن العقاب لا يجوز بلا بيان، أما الهداية فلا دليل عقلي على إيجابها بالنسبة إلى كل أحد، نعم في لزوم خروج الخلق عن العبث يلزم الإرشاد في الجملة وَ لَوْ أَشْرَكُوا أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء لَحَبِطَ أي لبطل عَنْهُمْ فإن الحبط لما أشرب معنى الزوال و الذهاب عدّي ب «عن»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 99

[سورة الأنعام (6): الآيات 89 الى 90]

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)

ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال السابقة على الشرك. ثم إن الآية في مقام بيان أن الشرك موجب لحبط الأعمال مهما كانت سوابق الشرك، إذ من المعلوم الضروري عدم شرك الأنبياء، فإن الشرط يأتي حتّى في مستحيل الطرفين، كقوله: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «1»، و من هذا القبيل أيضا قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2».

[90] أُولئِكَ الذين ذكرناهم من الأنبياء عليهم السّلام، هم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ المراد به الجنس وَ الْحُكْمَ أي منصب الحكم بين الناس، فإن هذا المنصب ليس إلّا

لله و لمن أعطاه إياه وَ النُّبُوَّةَ حيث كانوا أنبياء، و ذكر النبوة بعد الكتاب، لدفع توهم أن إعطاء الكتاب ليس من قبيل إعطاء الكتاب للاسم، كقوله سبحانه: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ «3»، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بالكتاب و الحكم و النبوة هؤُلاءِ الكفار الذين جحدوا نبوتك يا رسول الله فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي بالإيمان بها، و المراد إيكال أمر دعاية النبوة و الإيمان بها، و الجهاد في سبيلها، كالوكيل الذي يراعي أمور الموكل قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ فهم يقومون بواجب أمر النبوة خير قيام.

[91] أُولئِكَ الأنبياء عليهم السّلام الذين سبق ذكرهم الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي

______________________________

(1) الزخرف: 82.

(2) الزمر: 66.

(3) البقرة: 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 100

[سورة الأنعام (6): آية 91]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 149

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

هداهم الله، و التكرار هنا مقدمة لقوله سبحانه فَبِهُداهُمُ يا رسول الله اقْتَدِهْ في أسلوب الدعوة و الصبر على الأذى و الاهتمام بالأمر، و هذا كتسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إشارة إلى أن الأنبياء السابقين ابتلوا بما ابتلي به، بالإضافة إلى أن الاقتداء بهم في هدى الله سبحانه، لا فيما هو من عند أنفسهم، حتى يقال: كيف يؤمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالاقتداء بمن هو دونه في الفضيلة.

إنه قيام بالوظيفة لأمر الله سبحانه و لحسابه الخاص، فالأجر منه

وحده قُلْ يا رسول الله لمن تبلغهم: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أي لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة و أداء الوحي ثمنا و أجرة إِنْ هُوَ أي ما تبليغ الوحي إِلَّا ذِكْرى أي تذكيرا لِلْعالَمِينَ الذين هم في زماني و بعد زماني. و كونه تذكيرا باعتبار ما أودع في الإنسان من الفطرة الدالة على توحيده سبحانه.

و هنا سؤال: كيف يمكن الجمع بين هذه الآية و بين قوله: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1».

و الجواب: إن إطلاق الأجر على المودة مجاز، و قد كان إرجاع الناس إليهم لصالح الناس، حيث إنهم الهداة المصلحون.

[92] و حيث ذكر سبحانه أنه أعطى الأنبياء الكتاب، ردّ على من زعم أنه سبحانه لم ينزل كتابا.

فقد ورد أن حبرا من أحبار اليهود جاء إلى

______________________________

(1) الشورى: 24. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 101

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن اللّه سبحانه يبغض الحبر السمين- و كان اليهودي سمينا- فغضب و قال: ما أنزل الله على بشر من شي ء. فقال له أصحابه: ويحك و لا موسى؟ فأنزل الله هذه الآية

«1» وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه سبحانه حق تعظيمه الذي يليق به إِذْ نسبوا إليه الكذب ف قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ أي لم ينزل على رسول كتابا من السماء، كما قال ذلك اليهودي. إن معنى عدم إرسال الرسل، و إنزال الكتب أن الله خلق الخلق عبثا و اعتباطا. و من المعلوم أن نسبة العبث إلى شخص عادي موجب لإهانته و عدم تقديره، فكيف بالله الحكيم العليم؟! قُلْ

يا رسول الله لإبطال كلامهم ف مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى عليه السّلام أ ليست التوراة من إنزال الله تعالى، و إنما ذكرها لكون طرف الكلام يهوديا نُوراً وَ هُدىً أي في حال كون كتابه عليه السّلام نور يهدي الناس إلى مناهج الحياة الصحيحة، و هداية لِلنَّاسِ إلى الحق تَجْعَلُونَهُ أي تجعلون ذلك الكتاب قَراطِيسَ أي تكتبونه، و هذا لزيادة التأكيد، أي: فكيف تنكرون ما تلقيتموه أنتم بالقبول، و كنتم تكتبونه في قراطيس باعتبار أنه كتاب سماوي منزل من عند الله سبحانه؟

تُبْدُونَها أي تظهرون بعضها، حيث كانوا يكتبون بعض الأحكام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 89.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 102

[سورة الأنعام (6): آية 92]

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)

الموجودة في التوراة في أوراق و يعطونها بيد الناس وَ تُخْفُونَ كَثِيراً من التوراة لأجل كونها خطرا على أموالهم أو جاههم، أو فيه دلالة على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ عُلِّمْتُمْ أيها اليهود ببركة التوراة المنزلة على موسى ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ فإنكم لو لا كتاب الله المنزل لم تكونوا تعلمون شيئا، فكيف تنكرون إنزال الله الكتاب، و تقولون: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ»؟ قُلْ يا رسول الله: اللَّهَ أنزل الكتاب على موسى ثُمَّ ذَرْهُمْ أي دعهم فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ فهم و ما خاضوا فيه من الباطل و الكذب، إنهم يلعبون بالدين، فذرهم و ما هم فيه [93] وَ كما أنزلنا الكتاب على موسى كذلك هذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إليك يا رسول

الله مُبارَكٌ يوجب البركة و السعادة مُصَدِّقُ الكتاب الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي قبله، من التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماوية، و من المعلوم أن تصديق أصل الكتاب لا يلازم تصديق التحريفات التي طرأت عليه، وَ لِتُنْذِرَ يا رسول الله أُمَّ الْقُرى أي مكة، و إنما سميت بها لأن الأرض دحيت من تحتها وَ مَنْ حَوْلَها من سائر أهل الأرض وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ من أهل الكتاب و غيرهم يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن المنزل عليك، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 103

[سورة الأنعام (6): آية 93]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

الإيمان بالآخرة يوجب خوفا في القلب، ينبعث منه اتباع الحق أينما وجد، و فيه تعريض بمن لا يؤمن من أهل الكتاب، فإنه غير مؤمن بالآخرة وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فيؤدونها لأوقاتها، فمن يترك الصلاة ليس بمؤمن بالآخرة و القرآن، و إن ادّعى الإيمان.

[94] و حيث كان الكلام حول الوحي، و من قال بعدم الوحي إطلاقا، ناسب ذلك التنديد بمن قال بالوحي كذبا، وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً

نزلت في ابن أبي سرح الذي استعمله عثمان على مصر و قد هدر رسول الله دمه و كان حسن الخط من كتابة الوحي فإذا قال له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اكتب: «أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» كتب: «إن الله عليم حكيم»

و

هكذا، و كان يقول للمنافقين: إني أقول من نفسي مثل ما يجي ء به. ثم ارتد كافرا إلى مكة و صار من الطلقاء يوم فتح مكة. ثم لا يخفى أن قوله سبحانه «و من أظلم» على سبيل الحصر الإضافي، كقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ «1»، و غيره.

أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ كمسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة كذبا، و كغيره ممن ادّعى هذا المنصب افتراء، نحو:

وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الآيات أو الأحكام.

في «المجمع»: قيل: المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح،

______________________________

(1) البقرة: 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 104

أملى عليه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله- ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ «1»، فجرى على لسان ابن أبي سرح: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» فأملاه عليه و قال: هكذا أنزل فارتد عدو الله و قال: لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إليّ كما أوحي إليه و لئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال «2».

وَ لَوْ تَرى يا رسول الله إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ أي في شدائد الموت عند النزع، كأن الموت بشدائده يغمرهم مرة فمرة، كما يغمر الماء الغريق وَ الْمَلائِكَةُ القابضة لأرواحهم باسِطُوا أَيْدِيهِمْ لقبض أرواحهم بأبشع الوسائل يضربون وجوههم و أدبارهم، قائلين لهم: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ من أجسادكم، و هذا للإذلال و الإهانة، و إلا فليس خروج أنفسهم بإمكانهم، بل بقدرة الله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ أيها الظالمون عَذابَ الْهُونِ فإنه ليس عذابا جسديا فقط بل معه ذلة و هوان بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ أي جازاكم بعذاب

الهون بسبب مقالتكم الكاذبة على الله حيث كنتم تقولون: «أوحي إلينا و لم يوح إليكم» و معنى «على الله» أي بالنسبة إليه سبحانه وَ بما كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ و دلائله

______________________________

(1) المؤمنون: 13- 15.

(2) مجمع البيان: ج 4 ص 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 105

[سورة الأنعام (6): الآيات 94 الى 95]

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)

تَسْتَكْبِرُونَ فلا تخضعون لأحكامه و أنبيائه، و جواب «لو» محذوف للتهويل، أي: لو رأيت ذلك لرأيت أمرا فظيعا مريعا.

[95] و هنا يوجّه الباري سبحانه كلامه إليهم وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا أيها الظالمون فُرادى أي في حال كونكم وحدانا لا مال لكم و لا مدافع، بل واحدا واحدا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ حين جئتم إلى الدنيا وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي ما أعطيناكم من المال و الأقرباء و الخدم وَراءَ ظُهُورِكُمْ في دار الدنيا، فإن الإنسان باعتبار إقباله على الآخرة تكون الدنيا وراء ظهره وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الذين اتخذتموهم لأنفسكم شفعاء يشفعون لكم يوم القيامة الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي الأصنام التي كان المشركون يزعمون أنها شركاء الله سبحانه في الخلق و الرزق و قضاء الحوائج، و قد كان المشركون يقولون: إنّ هذه الأصنام تشفع لنا يوم القيامة. و ورد أن سبب نزول هذه الآية أن النضر قال: سوف يشفع لي اللّات و العزّى.

لَقَدْ تَقَطَّعَ أيها الظالمون بَيْنَكُمْ و بين

الأصنام فلا مواصلة تنفع للشفاعة وَ ضَلَّ عَنْكُمْ أي ضاع و تلاشى ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ من الآلهة المزعومة فلا تجلب نفعا و لا تدفع خيرا.

[96] إن أصنامكم لا تشترك مع الله في الخلق و لا في أي شي ء من الشؤون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 106

[سورة الأنعام (6): آية 96]

فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

بل إِنَّ اللَّهَ وحده فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى أي يشق الحب اليابس الميت و يخرج منه النبات و يشق نواة التمر فيخرج منها النخل يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فالنبات حي يخرجه من الحبة التي لا حياة فيها، و الفرخ حيّ يخرجه من البيض الميت، و الولد الحيّ يخرجه من الأم الميتة، و البعوض و أشباهه يخرجه من الماء الميت، و هكذا وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ كالحبة من النبات، و البيض من الدجاج، و الجنين الميت من الأم الحية، و الفضلات الميتة من الحيّ، و كأن التغيّر في العبارة «يخرج» و «مخرج» للتفنّن في العبارة الذي هو نوع من أنواع البلاغة ذلِكُمُ اللَّهُ أي ذلك الذي يفعل كل ذلك- أيها البشر- هو الله وحده فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي تصرفون عن الحق إلى الباطل.

[97] فالِقُ الْإِصْباحِ أي يشق عمود الصبح عن ظلمة الليل، و يخرج الضياء من الظلمة وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً تسكنون فيه و تهدؤون عن العمل إذا أظلم وَ جعل الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً تجريان في أفلاكهما بحساب دقيق، و «حسبان» مصدر، و كونهما حسبانا أي مصدري حساب و توقيت، نحو: «زيد عدل»، مما حمل المصدر على الذات مبالغة، فمن الشمس تتولد الأيام، و من القمر تتولد الشهور و الأعوام

ذلِكَ المذكور من فلق الإصباح و جعل الليل سكنا و الشمس و القمر حسبانا تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في سلطانه الْعَلِيمِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 107

[سورة الأنعام (6): الآيات 97 الى 99]

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

بمصالح العباد، فأي شي ء يرتبط بأصنامكم أيها الضالون.

[98] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ أيها البشر النُّجُومَ في السماء لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ فإن الإنسان يعرف طريقه من النجم في الليالي، فمن قصد مدينة نحو المشرق جعل النجم المشرقي أمامه، و من قصد مدينة نحو المغرب، جعله خلفه، و هكذا قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ الدالة على الخالق و صفاته لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لهم علم و معرفة بالأوضاع.

[99] وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم و أبدعكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي آدم عليه السّلام و من فضل طينته خلقت حواء عليها السّلام، إنه سبحانه القادر لمثل هذا الأمر العظيم فلكم مستقر في بطون الأمهات وَ مُسْتَوْدَعٌ في أصلاب الآباء، و إنما سمي ذلك مستودعا لأن المني يبقى قليلا في الصلب حتى ينزل، فهو أشبه بالوديعة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي الأدلة و الحجج لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ أي يفهمون الأدلة، كي يعلمون

أن الله سبحانه هو الذي صنع كل ذلك.

[100] وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر، و المراد بالسماء جهة العلو، فإن ما علاك فأظلك هو السماء- في لغة العرب- فَأَخْرَجْنا بِهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 108

نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ أي أخرجنا بسبب الماء نبات كل شي ء قابل للإنبات من مختلف أقسام النباتات فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أي من الماء، و التكرار، لأنه أجمل أولا، ثم أريد التفصيل، أو الضمير عائد إلى النبات، فإن النبت أولا ليس أخضر، و إنما أبيض صغير ثم يصير أخضر خَضِراً هو بمعنى أخضر، أي نخرج من ذلك زرعا رطبا أخضر نُخْرِجُ مِنْهُ من ذلك الزرع الأخضر حَبًّا مُتَراكِباً قد تركّب بعضه على بعض كحب الحنطة و الشعير وَ يخرج مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها بدل «من النخل» قِنْوانٌ أي أعذاق الرطب، فإن «قنوان»: جمع «قنو» بكسر القاف و ضمها، و هو «العذق» بالكسر دانِيَةٌ أي قريبة التناول وَ أخرجنا منه جَنَّاتٍ أي بساتين مِنْ أَعْنابٍ جمع «عنب» وَ أخرجنا منه الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ أي شجريهما مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ فبعض الأشجار و الأثمار و الأوراق و الأزهار و الحبات متشابهة و بعضها غير متشابهة، في اللون و الطعم و الحجم و الخاصية و غيرها. و الاختلاف بين لفظي «مشتبه و متشابه» من أحسن أنواع البلاغة، لتطابق اللفظ و الخارج انْظُرُوا أيها الناس إِلى ثَمَرِهِ أي ثمر كل واحد من المذكورات إِذا أَثْمَرَ فإن في ذلك دلالة عجيبة على الصانع تعالى وَ انظروا إلى يَنْعِهِ أي نضجه إذ نضج، فإن من نظر إلى ذلك نظر تأمل و اعتبار، عرف عظيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 109

[سورة الأنعام (6): الآيات 100

الى 101]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (101)

الصنعة و جليل الخلقة، و دقيق الحكمة، و «ينع» في اللغة بمعنى «النضج» و قيل: جمع «يانع»؛ كصحب و صاحب إِنَّ فِي ذلِكُمْ أي فيما تقدم من الخلقة لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالحقائق، و يتجنبون السخافة.

[101] إن الله هو خالق كل شي ء و هو الإله الواحد الذي لا شريك له وَ لكن الكفار جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ فقالوا بأن لله شركاء في الألوهية هم من الجن وَ الحال أنه سبحانه هو الذي خَلَقَهُمْ أي خلق الجن، فكيف يكون المخلوق شريكا مع الخالق في الألوهية وَ خَرَقُوا أي جعلوا، و لا يخفى ما في التعبير بلفظ «خرقوا» من اللطافة. لَهُ تعالى بَنِينَ وَ بَناتٍ فقد قال اليهود: عزير ابن الله، و قالوا: نحن أبناء الله، و قالت النصارى: المسيح ابن الله، و جعل المشركون الملائكة بنات الله، كما قال سبحانه: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «1»، بِغَيْرِ عِلْمٍ فإن ذلك منهم كان ظنا و توهما سُبْحانَهُ منصوب بفعل محذوف، أي: «أنزهه تنزيها له» وَ تَعالى أي تقدس و ترفع عَمَّا يَصِفُونَ أي الأوصاف التي يلصقونها بساحة قدسه، من جعل الشريك و الأولاد.

[102] إنه وحده هو بَدِيعُ أي مبدع السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و خالقهما بلا

______________________________

(1) الزخرف: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 110

[سورة الأنعام (6): الآيات 102 الى 103]

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ

عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

شريك أو ظهير، و هذا ردّ على من جعل له شريكا أَنَّى أي كيف يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ الحال أنه تعالى لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أي زوجة؟

و هذا رد لمن جعل له أولادا وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فهو الخالق المطلق، وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فهو العالم المطلق.

[103] ذلِكُمُ أي ذلك المذكور له الصفات المتقدمة هو اللَّهُ تعالى، و «كم» للخطاب إلى السامعين رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فلا شي ء خارج من خلقه، حتى يكون له شريكا فَاعْبُدُوهُ وحده وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي حفيظ و مدبّر و قائم، فلا حافظ غيره، و لا قائم بالأمر أحد سواه.

[104] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فإنه سبحانه ليس بجسم حتى يكون مرئيا، و هذا لا فرق فيه بين الدنيا و الآخرة، فهو لا يبصر في الدنيا و لا يبصر في الآخرة وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ روعي في الكلام التجانس اللفظي، و إلا فهو يدرك كل شي ء الأبصار و غيرها وَ هُوَ اللَّطِيفُ لا يراد به اللطف بالمعنى في الأجسام، المراد به النافذ في الأجسام، و الرقيق، و ما أشبه، بل من باب «خذ الغايات و اترك المبادئ» فعلمه نافذ في الأشياء، و قدرته سارية في الأكوان الْخَبِيرُ العالم بكل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 111

[سورة الأنعام (6): الآيات 104 الى 106]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ

مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)

[105] قَدْ جاءَكُمْ أيها البشر بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ «بصائر» جمع «بصيرة» و هي الدلالة البيّنة التي يبصر بها الشي ء، أي جاءتكم دلالات من قبل الله سبحانه، على الأصول، و الأحكام فَمَنْ أَبْصَرَ أي من تبيّن هذه الدلالات و نظر فيها نظر معتبر بصير فَلِنَفْسِهِ فإنه يعود خير ذلك إلى ذاته و شخصه وَ مَنْ عَمِيَ عنها فلم ينظر فيها و أعرض عنها فَعَلَيْها أي أن وبال الإعراض يعود على نفسه وَ ما أَنَا المراد بالضمير الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَيْكُمْ أيها الناس بِحَفِيظٍ أحفظكم عن الخطأ و الانحراف، و إنما أنا مبلغ مرشد، من آمن فلنفسه و من ضل فعليها.

[106] وَ كَذلِكَ أي مثل تصريفنا الآيات من ذي قبل نُصَرِّفُ هذه الْآياتِ نرسلها و نبيّنها وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ أي يقول الكفار:

درست هذه الآيات و تعلمتها من غيرك، كما كانوا ينسبون القرآن إلى تعلمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الراهب في طريق الشام، أو من سلمان، أو من بعض اليهود وَ لِنُبَيِّنَهُ أي نوضّح ما تقدم من الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي للعلماء الذين يعلمون الآيات، فإن هؤلاء هم المنتفعون بالآيات، و لذا خصّهم بالذكر.

[107] اتَّبِعْ يا رسول الله ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و هو لا إِلهَ إِلَّا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 112

[سورة الأنعام (6): الآيات 107 الى 108]

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ

بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)

هُوَ و ذر الأصنام و الأوثان، فإن صاحب الدعوة لا يبالي بما قاله المغرضون، و لا يضره انحراف المنحرفين وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تتعرض لهم، و ليس المراد عدم دعائهم إلى الإسلام، أو عدم القتال معهم، بل معناه: «أعرض عن أقوالهم و طريقتهم»، و هذا كما يقال: «أعرض عن فلان» يراد عدم الاهتمام بقوله و الاعتناء بشأنه، و أنه لا بد من سلوك الطريق المستقيم أحبّ أم كره.

[108] وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أن يكرههم على عدم الشرك ما أَشْرَكُوا و لكن الدنيا دنيا اختبار و امتحان، و إنما يريهم الله سبحانه الطريق، فمن شاء آمن و من شاء أشرك وَ ما جَعَلْناكَ يا رسول الله عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم عن الشرك، حتى يكون إثم الشرك عليك وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي لست بموكل عليهم في ذلك، و إنما عليك البلاغ و الإنذار، و لعل الفرق بين الحفيظ و الوكيل، أن الحفيظ هو الذي يحفظ الشي ء عن الضرر، و الوكيل هو الذي يناط به أمره، فيجب عليه دفع الضرر عنه و جلب النفع إليه، فهو أعم من الحفيظ.

[109] وَ لا تَسُبُّوا أيها المسلمون الآلهة الَّذِينَ يَدْعُونَ ها الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سوى الله فَيَسُبُّوا اللَّهَ مقابلة بالمثل عَدْواً أي ظلما، بمعنى التعدي عن الحق بِغَيْرِ عِلْمٍ فإنهم جاهلون بالله، و إلا لماذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 113

[سورة الأنعام (6): آية 109]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)

كانوا يسبونه، و يتخذون آلهة سواه؟ كَذلِكَ الاعتقاد بالآلهة الباطلة زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فإن كل إنسان

يرى عمله حسنا، و لو تفكر و قارن رأى الصحيح من عمله و أباطيله. و نسبة التزيين إلى الله سبحانه لأنه هو الذي يخالف الخلق و سبب الأسباب، و ذلك للامتحان، و ليتبين من يخالف نفسه و من يتبع هواها ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فإن الجميع يرجعون إلى حساب الله سبحانه، و ثوابه و عقابه فَيُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال الحسنة و القبيحة، و معنى ذلك أنه يجازيهم بأعمالهم، كما تقول لابنك العاصي: «أخبرك بما عملت ...» تريد التهديد و الوعيد.

و هنا سؤال: كيف نهى الله عن سبّ الأصنام، و في القرآن كثير من القدح فيهم؟

و الجواب: إن الفرق بين سبّ الحكيم و سبّ الجاهل أن الأول يعرف موقع السب، بخلاف الثاني، كما لو نهى القاضي عن ضرب الناس، و رأينا أنه يضرب بنفسه لحدّ أو قصاص، فإن الأمرين لا يتنافيان.

[110] وَ أَقْسَمُوا أي حلف الكفار بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي أيمانهم الغليظة لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ أي معجزة خارقة حسب ما طلبوا من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها أي بتلك الآية قُلْ يا رسول الله لهم:

إِنَّمَا الْآياتُ الخارقة عِنْدَ اللَّهِ و من لدنه، و ليس لدي منها شي ء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 114

[سورة الأنعام (6): آية 110]

وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

فإن عرف الله الصلاح في الإتيان بها أظهرها، و إن عرف الصلاح في عدم الإتيان لم يأت بها وَ ما يُشْعِرُكُمْ أيها المؤمنون أَنَّها أي الآيات إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ كما جاءت الآيات من قبل فلم يؤمنوا.

و السر أن المعاند لا تفيده الآية، و الطالب للحق تكفيه ما تقدم من الآيات، فإنزال

الآيات المقترحة لا فائدة فيها.

[111] وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ جمع «فؤاد» و هو القلب وَ أَبْصارَهُمْ جمع «بصر» و هو العين كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أَوَّلَ مَرَّةٍ فإنهم جوزوا بإنكارهم أول الأمر الذي استلزم عنادهم و تماديهم في غيهم، بأن أزعجت نفوسهم، فجعلت قلوبهم تخفق، و أبصارهم تتحرك زائغة، كما هو شأن كل مبطل أمام الحق أنه لا يدري ما يصنع، و عينه تتلفت هنا و هناك تبحث في الأرض و السماء عن طريق المهرب و الخلاص من الأزمة التي وقع فيها وَ نَذَرُهُمْ أي ندعهم فِي طُغْيانِهِمْ الذي طغوا و تعدوا فيه الحق يَعْمَهُونَ يتردّدون في الحيرة.

و

قد روي أنهم لما طلبوا الآيات، أراد النبي أن يسأل ربه بتلك الآيات، فجاء جبرئيل و قال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا، و لكن إن لم يصدقوا، عذّبوا، و إن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل أتركهم حتى يتوب تائبهم «1». فأنزل الله تعالى هذه الآية.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 91.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 115

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثّامن من آية 112 من سورة الأنعام إلى آية 88 من سورة الأعراف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 116

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 117

[سورة الأنعام (6): الآيات 111 الى 112]

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ

عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112)

[112] ثم بيّن سبحانه أنّ هؤلاء معاندين لا يريدون بالآيات إلا الاقتراح، و لو أنزلت إليهم لم يكونوا مؤمنين وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ حتّى يرونهم مشاهدة، و يشهدون لك بالرسالة وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى أي أحيينا الأموات حتّى تكلّمهم وَ حَشَرْنا أي جمعنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا أي مقابلة و معاينة، بأن جئنا لهم بما طلبوا من الآيات، أو المراد:

جمعنا حواليهم الأشياء الكونية، بأن يأتيهم الشجر و الحجر و الماء و الحيوان، و كان ذلك لبيان حشر صور مدهشة مرعبة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لعنادهم و إصرارهم إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن يجبرهم على الإيمان، و لكن الله لا يشاء ذلك لأنه خلاف الحكمة وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا، بل يزعمون أنهم يؤمنون إن رأوا، لجهلهم بعنادهم الكامن في نفوسهم، الذي لا ينفع معه كل آية.

[113] وَ كَذلِكَ أي كما جعلنا لك يا رسول الله أعداء معاندين جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا و معنى «الجعل» التخلية بينهم و بين اختيار العداوة، و ذلك اختبار لهم، و رفعا لدرجات الأنبياء. و قد سبقت الإشارة إلى أن الأمور الاختيارية للناس تنسب إلى الله سبحانه باعتبار جعله الأسباب و التخلية بين الناس و بينها، كما تنسب إلى فاعليها لأنهم السبب المريد لها شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِ نصب «شياطين» لأنه بدل «عدوا»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 118

[سورة الأنعام (6): آية 113]

وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

و المراد به الجنس لا الواحد،

و المراد بشياطين الإنس، إما الشياطين الموكلة بالإنسان التي تغويه و تأمره بالقبائح، و إما من قبيل «خاتم فضة» أي المردة من أفراد الإنسان، فإن الشيطان بمعنى المارد من «شطن»، قال الشاعر:

أيا شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن و الأغلال

و هكذا يقال بالنسبة إلى شياطين الجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي يوسوس خفية زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي: القول المزخرف، الذي يستحسن ظاهره و لا حقيقة له و لا أصل غُرُوراً أي لأجل الغرور و الإضلال وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ أي لو أراد جبرهم على عدم هذه الأعمال العدوانية ضد الأنبياء، لتمكّن من ذلك، لكنه لم يشأ، لأنه خلاف الحكمة فَذَرْهُمْ أي دعهم وَ ما يَفْتَرُونَ أي افتراؤهم، فأعرض عنهم، و لا تتعرّض لهم، بل خذ طريقك، و بلّغ رسالات ربك.

[114] إن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول لأجل الغرور وَ لِتَصْغى لأجل أن تميل إِلَيْهِ أي إلى هذا الوحي بزخرف القول أَفْئِدَةُ أي: قلوب الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فإنهم يوسوسون ليغروا الناس و ليستميلوا أفئدة الكفار إلى مكائدهم وَ لِيَرْضَوْهُ أي يرضى من لا يؤمن بالآخرة، بالوحي و الوسوسة، بمعنى إرضاء الكفار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 119

[سورة الأنعام (6): الآيات 114 الى 115]

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

بمنهجهم فلا يميلوا إلى الحق وَ لِيَقْتَرِفُوا أي يرتكبوا من الكفر و المعاصي ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي الشي ء الذي يرتكبون. و جملة المعنى أن وسوسة الشياطين لأجل أن

يغروا الناس، و يستميلوا قلوبهم، و يرضون عن طريقتهم، و يرتكبون الآثام.

[115] إنّ هناك شخصين متعاديين الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الذي لا يؤمن بالآخرة، فمن الحكم بينهما؟ و هنا يأتي الجواب أن الحكم هو الله وحده، قل يا رسول الله لهؤلاء: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً أي أطلب سوى الله حاكما وَ هُوَ أعلم الحكّام الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا فيه ما يحتاج إليه الإنسان، يفصل بين الحقّ و الباطل، و معنى التفصيل: تبيين المعاني بما يوجب رفع الاشتباه. و من المعلوم أن القادر على تنزيل الكتاب، هو الذي يتخذ حكما وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ من اليهود و النصارى يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي الكتاب و هو القرآن مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ و ليس كلام الآدميين، و تخصيص أهل الكتاب، لأن علمهم يقتضي أن يعرفوا ذلك، فإنه «إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه» فَلا تَكُونَنَ يا رسول الله مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين. و من المعلوم أن النبي لا يشك و إنما المراد به السامع، و إن كان الخطاب موجها إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[116] وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بالقرآن الكريم، فما أراده الله سبحانه من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 120

[سورة الأنعام (6): آية 116]

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)

البشر، تم بإنزال هذا الكتاب، فليس وراءه كتاب آخر و كلمة أخرى صِدْقاً وَ عَدْلًا فما فيه من الأخبار صدق لا يشوبه كذب، و عدل لا يشوبه انحراف و زيغ، فكل خبر يخالف إخباره عن المبدأ و عن المعاد و

عن الرسالة و عن العدل و عن الخلافة و عن غيرها، فهو كذب، و كل حكم يخالف حكمه فهو زيغ و باطل لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فإن كلمات الله سبحانه هي الميزان لكل شي ء فلا أحد يبدّل كلماته تعالى بالزيادة و النقصان، تبديلا صحيحا، و من بدّل فهو المنحرف الضال وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال الناس الْعَلِيمُ بكل ما يفعلون فيجازيهم حسب أعمالهم و أقوالهم.

[117] إن الميزان هو كلمات الله سبحانه، فليس هناك حق فيما عدا ذلك وَ لذا إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأن غالب الناس كفّار أو ضالين، فاتّباعهم موجب للكفر و الضلال، نعم هناك قلة لم يخل منهم زمان، هم الآخذون بأحكام الله تعالى، فإطاعتهم هي إطاعة الله، و لا يوجب اتباعهم ضلالا و زيغا إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتّبع هؤلاء الكثرة من الناس إِلَّا الظَّنَ فليس لهم حجة و برهان في كفرهم و ضلالهم، و إنما يرجّحون ظنّا ما يعتقدونه، أو يعملون به وَ إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ «الخرص» هو التخمين، أي يقولون تخمينا لا اعتقادا و جزما.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 121

[سورة الأنعام (6): الآيات 117 الى 119]

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

[118] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ أي أعلم من سائر الناس بمن يسلك

سبيل الضلال، فقوله: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» صادر عن علم و معرفة، فإذا قال قائل: إن الكفار يعتقدون اعتقادا جازما بما أشركوا، و يقولون ما يقولون عن قطع و جزم. فذلك غير عارف بأحوالهم، و ربك أعلم منه بهم وَ هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الذين يسلكون سبيل الهدى و الرشاد.

[119] إذا فالحكم كله لله صغيرا كان أو كبيرا، و قد كان الضّالّون يجادلون المسلمين في شؤون كثيرة، و منها أمر الذبائح، فقد كانوا يأكلون الميتة، و يتركون المذبوح، و كانوا يحتجون على المسلمين قائلين:

أ تأكلون أنتم ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل ربّكم؟ يريدون الاعتراض على المسلمين في عدم أكلهم للميتة فَكُلُوا أيها المسلمون مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عند الذبح، و اجتمع فيه سائر الشرائط، و الأمر للإباحة لأنه في مقام توهم الحضر إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ بأن آمنتم بالله و رسوله و صدّقتم بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[120] وَ ما لَكُمْ أيها المسلمون أَلَّا تَأْكُلُوا أي شي ء لكم في أن لا تأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي لم لا تأكلونه، هل أن ذلك بزعم التحريم لأنكم تقتلونه؟ وَ قَدْ فَصَّلَ الله سبحانه لَكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 122

[سورة الأنعام (6): الآيات 120 الى 121]

وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

على لسان رسوله ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ و ليست الذبيحة منها إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فإنكم إذا

اضطررتم إلى ما حرّم جاز لكم أكله بقدر الضرورة وَ إِنَّ كَثِيراً من الناس لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ فإلى حيث مال هواهم ساقوا الناس إليه، فذلك يسبب إضلال الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ يهديهم إلى الحق، و إن تحريم المشركين للمذكى من هذا القبيل، فإنه من الهوى، لا من علم و صلاح إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ الذين يتجاوزون الحق، و يتعدونه إلى الباطل.

[121] و في عداد ذكر الحرام و الحلال، ينهى سبحانه عن كل محرم وَ ذَرُوا أيها المسلمون ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ أي ما ظهر من المعاصي و ما بطن مما يؤتى به سرّا.

قيل: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إذا زنا الإنسان علنا كان آثما، و إن زنا سرا لم يكن به بأس، و بهذه المناسبة نزل هذا التعميم.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ أي يعملون بالمعاصي سَيُجْزَوْنَ أي يعاقبون بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي يرتكبون، يقال: «اقترف الإثم» أي ارتكبه.

[122] وَ لا تَأْكُلُوا أيها المسلمون مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 123

[سورة الأنعام (6): آية 122]

أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)

اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ من الذبائح التي تذبح بدون التسمية وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ و خروج عن طاعة الله تعالى وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ أي يلقون خفية إِلى أَوْلِيائِهِمْ أي: في قلوب الذين اتبعوهم من الكفّار لِيُجادِلُوكُمْ قائلين: كيف تأكلون أيها المسلمون مما تقتلونه أنتم و لا تأكلون مما قتله الله، و قتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم؟ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في أكل الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لأنّ استحلال الميتة يوجب الكفر، أو المراد: أنكم

مثلهم، لا مثل المؤمنين، و هذا تعبير خطابي، و لعل هذا أقرب لأن الاستحلال يوجب الكفر لا الشرك.

[123] ثم ذكر سبحانه مثل الفريقين، المؤمنين و الكفار أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً بالكفر فَأَحْيَيْناهُ بالإيمان، فإن الكفر شبه الموت حيث أن الكافر لا يأتي منه العمل الصالح، و الإيمان شبيه بالحياة لذلك وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً منهاجا ينير به دروب الحياة يَمْشِي بِهِ أي بذلك النور فِي النَّاسِ فيعرف كيف يمشي و كيف يعاشر، لا كالأعمى الذي يصطدم بهذا و ذاك كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ أي كالكافر الذي هو مثل الشخص الذي لا نور له بل يمشي في الظلمات، فمن في الظلمة شبّه بالكافر، لأن ظلمة الكفر أشد من ظلمة عدم النور، و إن الكافر لا يعرف سبيل الحياة السليمة و لذا فهو دائم المشاكل و المصادمات لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها إذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 124

[سورة الأنعام (6): آية 123]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (123)

الخروج من الظلمة لا يكون إلّا بانتهاج منهاج الإيمان، و إلا فمن ظلمة إلى ظلمة، و هذا سرّ ما يشاهد من ازدياد مشاكل العالم يوما بعد يوم، و كلّما عدّلوا القوانين، و بدّلوا المناهج لم يزدهم إلا مشكلة و إعضالا.

و الاستفهام إنكاري، يراد أنهما ليسا بمتساويين، بل الحي ذو النور أفضل من الميت في الظلمة كَذلِكَ أي كما زيّن للمؤمن الإيمان كذلك زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و الذي زيّن لهم هو الشيطان و النفس الأمّارة بالسوء، أو هو الله سبحانه بالمعنى المتقدم في قوله: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ «1»، أي خلّينا بينهم و بين ما يزيّن

لهم عملهم.

[124] وَ كَذلِكَ أي كما تركنا الكفار في ظلمتهم يعمهون، أو كما زيّنا لهم أعمالهم، كذلك جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها فتركنا المجرمين على حالهم لِيَمْكُرُوا فِيها أي في القرية، و «اللام» للعاقبة، أي أن عاقبة تركنا إياهم مكرهم في القرية، كقوله تعالى:

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «2»، أو المراد: كما جعلنا ذا النور من المؤمنين، كذلك جعلنا ذا الظلمة من المجرمين وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ فإن عاقبة مكرهم و وبال طغيانهم لا يرجع إلا إلى أنفسهم وَ ما يَشْعُرُونَ أي لا يدرون أن مكرهم يعود بالوبال

______________________________

(1) الأنعام: 109.

(2) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 125

[سورة الأنعام (6): آية 124]

وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)

السيّئ إلى أنفسهم.

[125] وَ إِذا جاءَتْهُمْ أي جاءت هؤلاء المجرمين آيَةٌ دلالة من الله على التوحيد و الرسالة قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ بهذه الآية و بما جاءت من أجله حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ أي تأتي على أيدينا المعجزة، و يوحى إلينا حتّى نكون كالرسل. قالوا: نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة حيث قال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الله لو كانت النبوة حقّا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنّا و أكثر منك مالا. و قيل:

نزلت في أبي جهل حيث قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرس رهان قالوا: منّا نبي يوحى إليه، و الله لا نؤمن به و لا نتبعه أبدا إلّا أن يأتينا

وحي كما يأتيه.

اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فإنه سبحانه أعلم من جميع الخلق بموضع الرسالة، و ليست هي بالمال و الكبر و السن، بل بالفضائل النفسية و القابلية المحلية سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي عملوا الجرائم و الموبقات صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ أي يكونوا أذلاء في الآخرة، أو المراد: الأعم من الدنيا و الآخرة، و معنى «عند الله» أن ذلك الصغار من عنده سبحانه وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ أي بسبب مكرهم، فإن الصغار و العذاب جزاء لأعمالهم القبيحة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 126

[سورة الأنعام (6): آية 125]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)

[126] إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا جاء بالإسلام، فمن حكّم عقله و آمن كان له من الله اللطف الخفي و شرح الصدر، و من أعرض و بقي على كفره أعرض سبحانه عنه و خلّى بينه و بين ما يفعل الشيطان به من تضييق الصدر فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إلى الإيمان يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «الشرح» هو: التوسعة، و هذا من باب التشبيه، فكما أن الشي ء الواسع له مجال أن ينفذ فيه شي ء، كذلك القلب المنشرح له محل أن ينفذ فيه الإسلام وَ مَنْ يُرِدْ الله أَنْ يُضِلَّهُ لأنه ترك الإيمان و عاند، فاقتضت المشيئة أن يخلى بينه و بين الضلال حتى تكون عاقبة أمره خسرا، و يذوق و بال إعراضه يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً لا ينفذ فيه الإسلام حَرَجاً هو أضيق الضيق- كما قالوا- كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ فإن الإنسان إذا جرّ إلى السماء جرّا،

أحس بضيق شديد في صدره، من جهة أن الهواء كلما لطف، كان التنفس فيه أصعب، و معنى «في السماء» الولوج في طبقات السماء، ليعطي معنى الشدة أكثر من «إلى» و كذاك التشديد في «يصّعّد». كَذلِكَ أي كما ذكر من تضييق الصدر يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ و هو العذاب، و الصعوبة، أو المراد به المعنى الظاهري له، فإن للكفر رجسا عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فالعقوبة لمن لا يؤمن أن يجعل صدره ضيقا حرجا، فليس ذلك ابتداء منه سبحانه، كما قد يزعم الناظر في أول الآية، و هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 127

[سورة الأنعام (6): الآيات 126 الى 128]

وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

كقولك: «إن من يريد خيره من أبنائي أعطه المال، و إنّ من يريد شره أقطع عنه المال، و هكذا أعمل بمن لا ينصاع إلى أوامري».

[127] وَ هذا أي الإسلام صِراطُ رَبِّكَ يا رسول الله مُسْتَقِيماً لا اعوجاج فيه و لا انحراف، فمن لم يقبله لم يفرّ من الانحراف، و إنما زاغ و انحرف قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي بيّناها و شرحناها لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أصله «يتذكّرون» ثم أدغمت التاء في الذال، و المراد: أنه لمن يتذكّر ما أودع فيه من الفطرة الآمرة باتباع الطريق القويم.

[128] لَهُمْ أي للذين تذكروا و عرفوا الحق دارُ السَّلامِ و هي: الجنة، فإنها دار

السلامة التي لا حرب فيها، و لا بغضاء، و لا مرض، و لا همّ، و لا ما ينغّص العيش عِنْدَ رَبِّهِمْ أي أن تلك الدار عند كرامة الله و لطفه، و في ضمانه و عهده وَ هُوَ أي الله سبحانه وَلِيُّهُمْ الذي يتولّى أمورهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم الصالحة و اتّباع أوامره.

[129] وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي يجمعهم، و الضمير عائد إلى الجن و الإنس، الذين تقدم الكلام عنهم، بأنهم يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، و أنه جعل لكل نبي عدوّا منهم، و إذ يجمعون يقال لهم: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي اتّخذتم أتباعا كثيرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 128

[سورة الأنعام (6): آية 129]

وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)

منهم و احتشدتم حشدا عظيما من التابعين الذين اتبعوكم في وساوسكم و غروركم. و لفظة «يوم» منصوبة، ب «يقال» المقّدر، وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ أي أتباع الجن مِنَ الْإِنْسِ الذين اتبعوهم و أخذوا بوساوسهم و إيحاءاتهم: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فلقد كان الإغواء نأخذه متاعا و استمتاعا، فإن الإنسان الذي لم يملأ فراغ قلبه الحقّ يطلب متعة يستمتع بها، و ما أجدر بالإغواء و الإيحاء أن يملأ ذلك الفراغ، و هذا كالاعتذار من الأتباع الإنسيين، كما يقول أحد الناس إذا سئل عن عمله الباطل؟ أنه اتخذه وسيلة للتسلية و سد الفراغ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا أي الموت الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي وقّتّه و جعلته مدة، فقد أدركنا الموت و نحن في الاستمتاع قالَ الله تعالى: النَّارُ مَثْواكُمْ أي مقامكم، و «الثواء»: الإقامة، و الضمير عائد إلى الجن و الإنس خالِدِينَ فِيها أي في النار أبد الآبدين

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن تنقطع النار و ذلك بالنسبة إلى عصاة المؤمنين إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله حَكِيمٌ و بمقتضى حكمته جعل النار مثوى لهم عَلِيمٌ يعلم الصالح من الفاسد.

[130]- وَ كَذلِكَ أي كما تقدم من الخلة بين الجن و الإنس، ليغوي بعضهم بعضا، نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً فنجعل الظالم وليا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 129

[سورة الأنعام (6): الآيات 130 الى 131]

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ (131)

للظالم في الدنيا و في الآخرة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كسبهم الأعمال السيئة و إعراضهم عن الحق.

[131] ثم يخاطب الجن الذين أوحوا إلى الإنس و أضلوهم بهذا الخطاب:

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و «المعشر» هو الجماعة أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ على وجه الاستفهام الإنكاري، و «منكم» باعتبار أن الإنس و الجن من مادة سفلية، فبعضهم من بعض، أو باعتبار أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أرسل رسلا من الجن إليهم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ أي يتلون عليكم آياتِي أي حججي و دلائلي وَ يُنْذِرُونَكُمْ أي يخوفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي يوم القيامة قالُوا أي قالت الجن في جواب هذا الاستفهام: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا بما تستحق من العقاب حيث خالفنا و عصينا، فإنّا معترفون بالجرائم، ثم يقول سبحانه: وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي تزيّنت لهم و أغوتهم وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في الآخرة أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ في الدنيا فاستحقوا العقاب.

[132] إن هؤلاء الجماعة الذين حكم

عليهم بالنار لم يكن اعتباطا، و إنما كان بعد الإنذار و التبليغ و ذلِكَ الإرسال و الإنذار لأجل أَنْ لَمْ يَكُنْ أي لأنه ليس رَبُّكَ يا رسول الله مُهْلِكَ الْقُرى أي يهلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 130

[سورة الأنعام (6): الآيات 132 الى 134]

وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)

و يعذب أهل المدن بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ عن الدين و الطريق، بل إنما يهلكهم إذا أتمّ الحجة عليهم، ثم خالفوا و عصوا.

[133] ثم إنه ليس التعذيب اعتباطا بأن يحشرون جميعا في درجة واحدة- كما قد ينساق من الآيات السابقة- بل وَ لِكُلٍ من المجرمين، أو الأعم منهم و من المطيعين دَرَجاتٌ أي مراتب خاصة بهم مِمَّا عَمِلُوا «من» للإنشاء، أي: تنشأ تلك الدرجات من أعمالهم في الدنيا وَ ما رَبُّكَ يا رسول الله بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فلا يدري من عمل و ما عمل، بل كل شي ء عنده محفوظ بقدره و خصوصياته.

[134] إن هذه الأوامر و تلك العقوبات، ليست لاحتياج الله سبحانه إلى هذه أو تلك وَ رَبُّكَ يا رسول الله الْغَنِيُ الذي لا يحتاج إلى شي ء إطلاقا ذُو الرَّحْمَةِ و من رحمته جعل الأوامر ليرحم العباد بها إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي يهلككم أيها البشر وَ يَسْتَخْلِفْ أي يجعل خليفة لكم و في محلكم مِنْ بَعْدِكُمْ أي بعد الإذهاب بكم ما يَشاءُ من أنواع المخلوقات كَما أَنْشَأَكُمْ و أوجدكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ حيث أذهبهم و أتى بكم، فإن ذلك

عليه يسير.

[135] إِنَّ ما تُوعَدُونَ أيها البشر من القيامة و الحساب و الثواب و العقاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 131

[سورة الأنعام (6): الآيات 135 الى 136]

قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)

لَآتٍ أي يأتي لا محالة وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي لستم تقدرون أن تسبّبوا عجزه سبحانه حتى لا يتمكن من إعادتكم و الإتيان بكم لساحة الحساب.

[136] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي منزلتكم و مقدار تمكّنكم من الدنيا، و هذا الأمر للتهديد، أي: اعملوا الكفر و المعاصي بما تتمكنون إِنِّي عامِلٌ بما أمرني الله سبحانه- فلكم دينكم ولي دين- فَسَوْفَ في الآخرة تَعْلَمُونَ جزاء أعمالكم مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في دار السلام، هل أنتم أم أنا؟ لكن اعلموا أن عاقبة الدار لي ف إِنَّهُ لا يُفْلِحُ و لا يفوز بالسعادة الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و المعاصي.

[137] ثم يعود السياق إلى معالجة العقيدة في بعض نواحيها فيحكي سبحانه ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقسيم ما ينفقوه من الزرع و الأنعام بين الله و بين الأصنام وَ جَعَلُوا أي جعل الكفار لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أي خلق مِنَ الْحَرْثِ أي الزرع وَ الْأَنْعامِ أي المواشي من الإبل و البقر و الغنم نَصِيباً أي حظا و قسما، و جعلوا للأصنام نصيبا فَقالُوا هذا القسم لِلَّهِ تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 132

بِزَعْمِهِمْ و إنما نسبهم إلى الزعم لأنه لم يكن لله، فإن الله لا يقبل الشي ء الذي أشرك معه فيه وَ هذا القسم لِشُرَكائِنا أي الأوثان، الشركاء الذين نحن أشركناهم مع اللّه- و في الإضافة تكفي أدنى ملابسة، ككوكب الخرقاء- فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ من الأنعام و الحرث فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي أن الله لا يقبله، و كنّى بالإيصال لتشبيه المعقول بالمحسوس تقريبا للمعنى إلى الأذهان وَ ما كانَ لِلَّهِ بزعمهم فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ و هذا مجاز، أي أن الأصنام تنتفع بهذا النصيب من خلال ما يترسخ لها في قلوب المشركين من المكانة و الاحترام، أو المراد أنهم كانوا إذا خصصوا نصيبا للشركاء لا يأخذون منه لله شيئا، أما الحصة المخصصة لله سبحانه فقد يأخذون منها ليوفروا المأخوذ مع حصة الأصنام.

روي عن أهل البيت عليهم السّلام أن المشركين كانوا يعيّنون قسما من الحرث و الأنعام لله و ينفقونه على الضيوف و المساكين و قسما منهما لآلهتهم و ينفقونه على سدنتها و يذبحون عندها ثم إن رأوا أن ما عيّنوا لله أزكى بدّلوه بما لآلهتهم، و إن رأوا أن ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم و عللوا ذلك بأن الله غنيّ.

و روي أيضا: أنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله ردّوه، و إذا اختلط ما جعل لله بما جعلوه للأصنام تركوه، و قالوا: الله غني، و إذا انخرق الماء الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه، و إذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 133

[سورة الأنعام (6): آية 137]

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما

فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (137)

انخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه و قالوا: الله غني ..

فرد عليهم سبحانه بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي أن حكمهم بالتشريك أو عند الاختلاط، و التزكية، سيّئ، فإن الله و إن كان غنيا، لكن هذا العمل مخالف لجلال شأنه و عظيم كبريائه.

[138] وَ كَذلِكَ أي كما جعل المشركون في الحرث و الأنعام ما لا يجوز، كذلك فعلوا بالنسبة إلى أولادهم ما لا يجوز زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فاعل «زين» «شركاؤهم» أي أن الشياطين الذين اتخذهم المشركون شركاء لله زينوا لهم قَتْلَ أَوْلادِهِمْ مفعول «زين» شُرَكاؤُهُمْ فقد كان كثير من المشركين يعبدون الجن، و هي توحي لهم بالأعمال السيئة. فقد كانوا يقتلون البنات خوفا من العار، كما قال سبحانه: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ* ..

أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ «1»، و قال: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ «2»، و كانوا يقتلون البنين خوف الفقر، كما قال سبحانه: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ «3»، لِيُرْدُوهُمْ من «أراده» بمعنى:

«أهلكه» أي أنه كانت غاية الشياطين- الشركاء- الذين زينوا للمشركين قتل أولادهم، إرادة إهلاك الأولاد بالقتل، و إهلاك الآباء بالذنب وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي يخلطوا عليهم الحق بالباطل حتى

______________________________

(1) النحل: 59 و 60.

(2) التكوير: 9 و 10.

(3) الأنعام: 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 134

[سورة الأنعام (6): آية 138]

وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)

لا يعرفوا أحدهما من الآخر، و في الغالب يأتي أهل الباطل بضغث من الحق و

ضغث من الباطل، حتى لا يصغر الحق، فيتبعه الناس وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ أي ما قتلوا أولادهم، و مشيئة الله إنما هي بجبرهم على الهدى، لكنه لا يشاء لأن الدنيا خلقت للاختبار فَذَرْهُمْ أي دعهم و اتركهم يا رسول الله وَ ما يَفْتَرُونَ أي افتراؤهم على الله سبحانه، فقد كان المشركون ينسبون أباطيلهم إليه سبحانه، و «ذرهم» تهديدا لهم، لا أن معناه عدم وجوب ردعهم و نهيهم.

[139] وَ قالُوا أي قال المشركون في قسم آخر من خزعبلاتهم: هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ أي مواش و زرع حِجْرٌ أي حرام لا يَطْعَمُها أي لا يأكلها إِلَّا مَنْ نَشاءُ و هي التي خصّصوها لأصنامهم فقد كانت خاصة للسدنة لا يشركهم فيها أحد بِزَعْمِهِمْ أي قد كان هذا التحريم زعما منهم، إذ لم ينزل الله به من سلطان وَ عمدوا إلى قسم ثان من الأنعام فحجروها و قالوا: هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها أي لا تركب، لأنها نذرت للآلهة، أو لأنها ولدت كذا ولدا، أو لأنها حمت ظهرها، من السائبة و أخواتها، كما تقدم في سورة المائدة وَ عمدوا إلى قسم ثالث من الأنعام فهي أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عند الركوب، أو عند الذبح، أو لا يحجون عليها، و قد كانوا ينسبون كل ذلك إلى الله سبحانه افْتِراءً عَلَيْهِ فقد كانوا كاذبين في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 135

[سورة الأنعام (6): الآيات 139 الى 140]

وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى

اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

هذه النسب سَيَجْزِيهِمْ الله سبحانه بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أي بسبب افترائهم على الله سبحانه كذبا و زورا.

[140] وَ قالُوا أي قال المشركون في قسم آخر من أباطيلهم: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ من الأجنة خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أي نسائنا، إن كانت حية وَ إِنْ يَكُنْ ما في بطون الأنعام مَيْتَةً بأن خرج الجنين ميتا فَهُمْ رجالا و نساء فِيهِ شُرَكاءُ يجوز للنساء أكله كما يجوز للرجال سَيَجْزِيهِمْ الله تعالى وَصْفَهُمْ أي هذا الوصف الذي كانوا يصفون به الجنين بالتحليل و التحريم و «وصف» منصوب بنزع الخافض، أي «بوصفهم» إِنَّهُ سبحانه حَكِيمٌ يحكم عن حكمة و مصلحة عَلِيمٌ بما يصدر من هؤلاء، فيجازيهم حسب المصلحة و الحكمة.

[141] ثم يجمع ذلك كله بقوله سبحانه: قَدْ خَسِرَ الكفار الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ خوف العار أو الفقر أو للنذر- فقد كانوا ينذرون قتل الأولاد- سَفَهاً أي جهلا و سفاهة، فإنهم اشتروا بذلك النار بِغَيْرِ عِلْمٍ بما يعملون، فإنهم كانوا يزعمون صحة عملهم هذا وَ حَرَّمُوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 136

[سورة الأنعام (6): آية 141]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي خسروا بتحريمهم قسما من الأنعام و الحرث الذي زعموا أنه حجر لأصنامهم افْتِراءً عَلَى اللَّهِ حيث كانوا ينسبون ذلك إليه سبحانه قَدْ ضَلُّوا الطريق المستقيم وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ في تلك الأعمال.

[142] وَ هُوَ الله الَّذِي أَنْشَأَ أي خلق و أبدع جَنَّاتٍ

أي بساتين مَعْرُوشاتٍ أي مجعولات لها عروش من الكروم وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ من الأشجار التي لا تحتاج إلى العروش بل هي قائمة على ساقها وَ أنشأ النَّخْلَ للتمر وَ الزَّرْعَ من مختلف المزروعات في حال كون جميع ذلك مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي ثمره الذي يؤكل، و الاختلاف في اللون و الطعم و الشكل و الخواص وَ أنشأ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ و ذكرهما لكثرتهما في هذه البلاد في حال كون ذلك كله، أو الأخيرين مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ من حيث اللون و الورق و الشجر و غيرها كُلُوا أيها البشر مِنْ ثَمَرِهِ أي ثمر هذا المنشأ إِذا أَثْمَرَ فإن ذلك مباح لكم وَ آتُوا حَقَّهُ أي الحق المجعول عليه، و هو إعطاء الفقراء منه شيئا، حفنة حفنة، أو كفا كفا يَوْمَ حَصادِهِ أي جنيه و قطعه وَ لا تُسْرِفُوا في باب ما رزقناكم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 137

[سورة الأنعام (6): الآيات 142 الى 143]

وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143)

بأن تعطوا الجميع، أو تصرفوه فيما لا يعني، أو ما أشبه إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي يكرههم.

[143] وَ أنشأ مِنَ الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم حَمُولَةً هي الإبل التي يحمل عليها، أو كل ما يحمل من الخيل و البغال و الحمير و الإبل وَ فَرْشاً أي ما يفترش من جلودها كالغنم، أو المراد بالفرش صغارها قبل أن تكون صالحة للحمل، كُلُوا أيها البشر مِمَّا

رَزَقَكُمُ اللَّهُ و لا تحرموا شيئا منها كما كان أهل الجاهلية يحرمون بعض الطيبات وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ كأن العاصي يضع قدمه حيث وضع الشيطان قدمه إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي واضح العداوة، لأنه يسبب ذهاب دنياكم و آخرتكم.

[144] ثم بيّن سبحانه أن ليس في شي ء من الأنعام محرما، و إنما ذلك اختلاق من الجهال، إنه سبحانه أنشأ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ من الأنعام الثلاثة، و «الزوج» يقع على الواحد الذي يقع معه الآخر، و على الاثنين، فالرجل زوج و المرأة زوج، كما أن كليهما زوج مِنَ الضَّأْنِ و هي الشاة اثْنَيْنِ ذكر و أنثى و «اثنين» بدل من «ثمانية» وَ مِنَ الْمَعْزِ و هي السخل اثْنَيْنِ ذكر و أنثى قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يحرمون بعض هذه الأقسام: آلذَّكَرَيْنِ دخلت همزة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 138

[سورة الأنعام (6): آية 144]

وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

الاستفهام على همزة الوصل و فصل بينهما بالألف، و لم تسقط همزة الوصل لئلّا يلتبس الاستفهام بالخبر و إن جاز الحذف لقرينة «أم» أي:

هل أحد الذكرين من الضأن و المعز حَرَّمَ الله أَمِ إحدى الْأُنْثَيَيْنِ منها أم حرّم سبحانه ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي الجنين الذي اشتمل عليه رحم الضأن و المعز، فإنهم كانوا يقولون: إن ما في بطون هذه الأنعام محرم على الإناث و خالص للذكور نَبِّئُونِي أي: أخبروني أيها الكفار المحرمون لبعض هذه الأقسام بِعِلْمٍ أي: عن دليل عملي،

لا الأوهام و الظنون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في تحريم الله سبحانه لهذه الأقسام.

[145] وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ذكر و أنثى، و هو عطف على «مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ» وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ذكر و أنثى، و هذا تمام الثمانية قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: آلذَّكَرَيْنِ أي: هل أن واحدا من الذكرين حَرَّمَ الله سبحانه أَمِ إحدى الْأُنْثَيَيْنِ من الإبل و البقر؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من الجنسين- كما تقدم- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أي:

حضورا- مقابل «نبئوني بعلم»- أي: هل علمتم أو حضرتم التحريم؟

إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم، و إذ لا دليل لكم لا سماعا و لا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 139

[سورة الأنعام (6): آية 145]

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

حضورا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فإن من ينسب إلى الله سبحانه حكما بالكذب هو أظلم الناس لنفسه. و قد تقدم أن التفضيل هنا نسبي لا واقعي لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فيوقع الناس في الضلالة، و لا علم له بصحة عمله، بل يعلم بطلانه أو يظن ما يقوله ظنا إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بل يتركهم و شأنهم حتى يتمادوا في غيهم و ضلالهم.

[146] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ أي ما أوحى به الله سبحانه في باب تحريم هذه الأشياء التي تتناولونها أنتم و التي تحرمونها مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي على آكل يأكله، فكل ما تذكرون تحريمه باطل، بل هو

حلال طيب إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً غير مذكّى شرعا أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أي مصبوبا، و إنما خص المسفوح بالذكر، لأن ما اختلط باللحم مما يعسر تخليصه منه محلل مباح أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ و من المعلوم أن ذكر اللحم من باب المثال، و إلا فشحمه و سائر أجزائه أيضا حرام فَإِنَّهُ أي كل واحد من هذه المحرمات، أو خصوص لحم الخنزير رِجْسٌ أي قذر منفور منه أَوْ فِسْقاً عطف على «ميتة» أي لحما يكون أكله فسقا، لأنه خلاف إباحة الله، و ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 140

[سورة الأنعام (6): آية 146]

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (146)

فيما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: ذكر عليه اسم الأصنام حين القتل، و لم يذكر عليه اسم الله فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول أحد هذه المحرمات غَيْرَ باغٍ في أكله وَ لا عادٍ من التعدي، بأن لم يكن طالبا لأكل الحرام، و متعديا حد سدّ الرمق- و قد تقدم المعنى في سورة المائدة- فَإِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله غَفُورٌ يغفر لمن تناول مضطرا رَحِيمٌ بالعباد حيث رخّص لهم ذلك، و قد تقدم عدم المنافاة بين عدم المعصية و الغفران.

[147] كان هذا الحكم بالنسبة إلى غير اليهود وَ أما عَلَى الَّذِينَ هادُوا فقد حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ من دابة ليست مشقوقة الرجل كالإبل و النّعام، أو الطير كالإوز و البط وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما كل شحم في بدنهما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي الشحم الذي كان على ظهرهما أَوِ ما

حملته الْحَوايا من الشحم، و هي: جمع «حاوية»، و المراد به الأمعاء، و هو الشحم الملتف بالأمعاء أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ كشحم الجنب و الإلية و نحوهما ذلِكَ التحريم عليهم لم يكن لأجل ضرر في المحرمات عليهم بل جزيناهم بسبب بغيهم أي ظلمهم حيث كانوا يكفرون بآيات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 141

[سورة الأنعام (6): الآيات 147 الى 148]

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)

الله و يقتلون الأنبياء بغير حق وَ إِنَّا لَصادِقُونَ في إخبارنا عن بني إسرائيل و ما فعلوا و ما فعلنا بهم، و ذلك بخلاف كثير من الأعداء حيث يلفّقون أخبارا مكذوبة على أعدائهم لحطّهم في أعين الناس.

[148] فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا رسول الله فيما ذكرت للمشركين من التحريم و التحليل، حيث قالوا: إن حرام الله و حلاله كما نقول، أو فيما ذكرت عن اليهود من تحريم الله عليهم المذكورات بسبب بغيهم فَقُلْ لهم:

رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يرحم جميع ذوي الروح، و لذا لا يعاجلكم بالعقوبة لكي تتوبوا وَ لكن مع ذلك لا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي: لا يدفع عذابه إذا جاء وقته عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين ارتكبوا الجرائم.

[149] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا و اتخذوا شريكا لله سبحانه، للدفاع عن أنفسهم، و تبرير شركهم لَوْ شاءَ اللَّهُ أن لا نشرك ما أَشْرَكْنا نحن وَ لا أشرك آباؤُنا من قبل وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ فإذا

أشركنا و حرمنا و سكت الله عنا فهو يرضى بذلك و يريد شركنا و تحريمنا كَذلِكَ أي كتكذيب هؤلاء لك يا رسول الله في قولك:

إن الله لا يرضى بالشرك و لم يحرّم ما حرّمتموه كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي: حتى نالوا عذابنا و نكالنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 142

[سورة الأنعام (6): الآيات 149 الى 150]

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

قُلْ يا رسول الله لهم، ردّا على حجتهم هَلْ عِنْدَكُمْ أيها المشركون مِنْ عِلْمٍ بأن الله يريد شرككم و تحريمكم للمحللات فَتُخْرِجُوهُ لَنا و إذ ليس لكم دليل فكلامكم خال عن الحجة إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون في أقوالكم و أعمالكم إِلَّا الظَّنَ فإنكم تظنون ما تقولونه لما اعتدتم عليه وَ إِنْ أَنْتُمْ أي: ما أنتم إِلَّا تَخْرُصُونَ الخرص، هو: التخمين.

[150] قُلْ يا رسول الله لهم: إنكم إذا عجزتم عن إقامة الدليل على عقيدتكم و مدّعاكم فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ التي بلّغتكم، بأنه لا يريد الشرك، و لم يحرّم المذكورات فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بالجبر و الإكراه، لكنه لا يشاء ذلك حتّى يجري الاختيار و الاختبار.

[151] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين حرموا الأمور المذكورة: هَلُمَ أي: أحضروا شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا الذي ذكرتم حرمته من أقسام الحيوان و الزرع، إنه طالبهم بالعلم فلم يكن عندهم، ثم طالبهم بالشاهد، لكنه لا شاهد عندهم، و لكنهم قد يأتون بشهود زور فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ يا رسول

الله مَعَهُمْ فإن شهادتهم باطلة.

و إن قيل: كيف دعاهم إلى الشهادة، ثم لم يقبل شهادتهم؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 143

[سورة الأنعام (6): آية 151]

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

قلنا: إنه دعاهم إلى أن يأتوا بالشهود العدول لا من أنفسهم، و إلّا فالمدعي لا يكون شاهدا، فإن شهدوا بأنفسهم لم تقبل شهادتهم.

وَ لا تَتَّبِعْ يا رسول الله أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي هوى أنفسهم، فإن من لا يعمل بالحق لا بد و أن يكون متبعا لهواه، و حيث يرشده الهوى إليه وَ لا تتبع أهواء الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كالكفار الذين كانوا ينكرون البعث. و من المعلوم أن الكفار كانوا على قسمين: منهم من يؤمن بالآخرة كأهل الكتاب، و منهم من لا يؤمن بها كالدهرية وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي: يجعلون له عدلا و شريكا.

[152] و بعد استنكار ما حرمه المشركون على أنفسهم، و استنكار استحلالهم لبعض المحرمات، يأتي السياق لبيان المحرمات الواقعية التي حرّمها الله سبحانه قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين:

تَعالَوْا أي أقبلوا و احضروا أَتْلُ أي أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ «ما» مفعول «أتل» أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ أي بالله شَيْئاً أي لا تجعلوا له سبحانه شريكا. و الجملة في تأويل المصدر، فيكون بدلا من «ما حرم» أي أتل تحريم الشرك. فلا يقال: إن النفي في النفي يفيد الإثبات.

وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أوصاكم بهما إحسانا، إذ في «حرّم» معنى الإيصاء،

و «إحسانا» منصوب بفعل مقدّر، تقديره: «أحسنوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 144

بالوالدين إحسانا». و من المعلوم أن ترك كل واجب حرام، و لذا صحّ تعداده في جملة «ما حرم» وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ بنين و بنات مِنْ إِمْلاقٍ هو الفقر، أي من جهة الفقر، فقد كان المشركون يقتلون أولادهم، خوف أن يفتقروا فلا يجدوا مؤونتهم. نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ أنتم أيها الآباء وَ إِيَّاهُمْ أي الأبناء، فليس رزقهم عليكم، ثم إن من المعلوم أن الرزق يحتاج إلى جدّ و تعب فليس المراد برزقه إياهم أنه ينزله من السماء في الدلو وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ جمع فاحشة، صفة للمقدر أي «الصفة الفاحشة» ما ظَهَرَ مِنْها للناس وَ ما بَطَنَ أي أتي به سرا، و هذا يشمل جميع المحرمات غير المذكورة بالنص وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ من المسلم و المعاهد إِلَّا بِالْحَقِ و قد تقدم أن مثل هذه الاستثناءات من أصل الكلام، لا من قيده، أي لا تقتلوا النفس إلّا بالحق، و الحق في القتل في موارد خاصة، كالجهاد، و الزاني المحصن، و المرتد الفطري، و المهاجم و القصاص، و ما أشبه. ذلِكُمْ المذكور في الآية من المحرمات وَصَّاكُمْ الله بِهِ أي أمركم به، فإن الوصية بمعنى الأمر لَعَلَّكُمْ أيها البشر تَعْقِلُونَ أي تحكّمون عقولكم في المحرم و المحلل، فلا تقولوا شيئا اعتباطا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 145

[سورة الأنعام (6): آية 152]

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)

[153] وَ

لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ و هو من فقد الأب و الجد، أو الأعم منه و من فقد الأم، و كلمة «لا تقربوا» للمبالغة في الاجتناب، و تخصيص اليتيم بالذكر، مع عدم جواز التصرف في مال كل أحد بدون رضاه، لأجل أن اليتيم لا يقدر على الدفاع عن نفسه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالطريقة التي هي أحسن من سائر الطرق، بأن يحفظ له ماله إلا بمقدار ضروري لمعاش اليتيم حيث ينفق عليه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ «الأشد»: جمع «شد» نحو: أضر، جمع: ضر، و الشد: القوة، و هو استحكام قوة الشباب، أي حتى يبلغ إلى قوة شبابه، و هو إنما يحصل بالبلوغ و الرشد، و البلوغ في الولد كمال خمس عشرة سنة، أو الإنبات، أو الاحتلام، و في البنت غالبا كمال التسعة و الدخول في العاشرة وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ فلا تنقصوا الكيل و الميزان عند البيع، و لا تزيدوهما عند الشراء بِالْقِسْطِ أي بالعدل، فلا إفراط و لا تفريط.

لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي بالمقدار الذي يسعها، و لا يوجب ضيقا و حرجا عليها، فهذه التكاليف السابقة، لا حرج فيها على النفس، أو المراد أن الوفاء بالكيل و الوزن حسب المتعارف، لا الدقة العقلية حتى يوجب عسرا و حرجا.

و لا يقال: فكيف كلّف الإنسان بالجهاد؟

لأنا نقول: إن الجهاد خارج عن هذا العموم، فإنه لإرساء قواعد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 146

[سورة الأنعام (6): آية 153]

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

الإسلام، و العموم إنما هو في مقابل التكاليف في سائر الشرائع- المنحرفة- و القوانين المرهقة، فإنه يريد بيان سهولة أحكام الإسلام

و سماحتها.

وَ إِذا قُلْتُمْ شيئا فَاعْدِلُوا في القول، و العدل فيه أن لا يميل القائل نحو الباطل. فالغيبة، و السبّ، و القضاء بغير الحق، و ما أشبهها، ظلم، ليس بعدل وَ لَوْ كانَ المقول فيه ذا قُرْبى فإن الناس غالبا يقولون الباطل لصالح ذوي قرباهم، و لذا يأمرهم سبحانه بالعدل بالنسبة إليهم وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا و المراد جميع معاهداته، كما قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1»، فالمراد الإتيان بالواجبات و ترك المحرمات ذلِكُمْ الذي تقدم ذكره من الأحكام وَصَّاكُمْ بِهِ على طريق اللزوم و الحتم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لكي تتذكروا و تأخذوا به، و التذكّر باعتبار ما هو كامن في الفطرة من حسن هذه الأشياء، كما سبق.

[154] وَ وصّاكم سبحانه أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً أي أن الأحكام التي أنزلتها توصل إلى السعادة، فهي طريق إليها بالاستقامة، لا كسائر الطرق الملتوية، التي قد لا توصل، و قد توصل بالتواء و عناء فَاتَّبِعُوهُ أي سيروا عليه و انتهجوه وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الأخرى من سبل الكفر و البدع

______________________________

(1) البقرة: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 147

[سورة الأنعام (6): الآيات 154 الى 155]

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)

و الشبهات فَتَفَرَّقَ أي تتفرق تلك السبل بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فتشتّتكم، و تلهيكم عن طريقه سبحانه ذلِكُمْ الاتباع لسبيله وَصَّاكُمْ الله بِهِ إلزاما لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تتقوا عقابه و تحذروا الخسران.

[155] إن هذا الصراط كان قديما قبل موسى و عيسى و محمد عليهم السّلام، و إن الجميع كانوا مأمورين باتباعه ثُمَ بعد

سبق هذا الصراط عند الأنبياء السابقين آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي أعطيناه التوراة تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي لأجل إتمام عمل موسى عليه السّلام الحسن الذي أدّاه؛ من القيام بالتبشير و الهداية، أو لأجل إتمام النعمة على موسى الذي أحسن الخدمة لله سبحانه، فإن إنزال الكتاب على النبي من أعظم المفاخر بالنسبة إليه وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ مما يحتاج إليه الناس وَ هُدىً أي دلالة على الحق وَ رَحْمَةً يرحم الله بسببه على عباده حيث ينقذهم من الشقاء إلى السعادة لَعَلَّهُمْ أي لعل الناس بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي بملاقاة جزائه و ثوابه و عقابه يُؤْمِنُونَ فيسعدون.

[156] وَ هذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ له بركة يأتي منه الخير الكثير فَاتَّبِعُوهُ أيها الناس وَ اتَّقُوا معاصي الله سبحانه، و مخالفة كتابه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي تشملكم الرحمة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 148

[سورة الأنعام (6): الآيات 156 الى 157]

أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)

[157] و إنما أنزلنا هذا الكتاب أَنْ تَقُولُوا أي لئلّا تقولوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ من قبل الله سبحانه عَلى طائِفَتَيْنِ اليهود و النصارى مِنْ قَبْلِنا و لم يرتبط الكتاب بنا حتى نؤمن به وَ إِنْ كُنَّا «إن» مخففة من المثقلة، أي أنه كنّا نحن العرب عَنْ دِراسَتِهِمْ أي دراسة أولئك الطوائف المنزلة عليهم الكتب، أي لغتهم لَغافِلِينَ فلم نعرف ما في كتبهم حتى نؤمن بها، فقد أنزلنا

إليكم الكتاب حتى لا يكون لكم عذرا في عدم الإيمان.

[158] أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ الذي نفهمه لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ أي أكثر هداية في التمسك و العمل على طبق الكتاب لأنا ألين عريكة، و أكثر تمسكا بالمعتقدات فَقَدْ جاءَكُمْ أيتها الأمة المعاصرة للرسول بَيِّنَةٌ أي دلالة واضحة مِنْ رَبِّكُمْ و هو القرآن وَ هُدىً يهتدى به إلى الحق وَ رَحْمَةٌ يرحم بها الله من تمسّك به، إذ يسعده في الدنيا و الآخرة.

فَمَنْ أَظْلَمُ أي من يكون أكثر ظلما لنفسه مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ ! و هو القرآن وَ صَدَفَ أي أعرض عَنْها أي عن الآيات سَنَجْزِي في الآخرة، أو الأعم منها و من الدنيا الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 149

[سورة الأنعام (6): آية 158]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ أي العذاب الشديد بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي بسبب إعراضهم عن الحق و الآيات.

[159] ما ينتظر هؤلاء الكفار بعد نزول القرآن؟ هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظرون للإيمان إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ و ذلك لا يمكن في دار التكليف أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ و ذلك مستحيل لأن الله لا مكان له و لا حركة أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أي العذاب، حتى يروا العذاب فيؤمنوا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يا رسول الله لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ فإن العذاب إذا نزل لا تقبل التوبة، لأن العذاب لا ينزل إلا بعد تمام الحجة و المخالفة،

و حين ذاك قد تم الاختبار و صار موعد المجازاة أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على «لم تكن آمنت»، و المعنى: أنه لا ينفع في ذلك اليوم إيمان نفس إذا لم تكن آمنت قبل ذلك اليوم، أو ضمت إلى إيمانها أفعال الخير، فإنها إذا آمنت فقد نفعها إيمانها، و كذلك إذا ضمت إلى الإيمان طاعة لنفعها أيضا، فلا ينفع إيمان الكافر، و لا طاعة المؤمن عند حلول العذاب، و إنما النافع الإيمان السابق، و الطاعة السابقة قُلِ يا رسول الله لهؤلاء: انْتَظِرُوا إتيان بعض آيات الله ف إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 150

[سورة الأنعام (6): آية 159]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 199

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)

حتى يرى كل واحد منّا جزاءه العادل و ما قدم لنفسه.

[160] ثم يقرّر سبحانه أن الإسلام إنما هو دين واحد لا تفرقة فيه، فالذين يتفرقون ليسوا من الإسلام، كما أن من أشرك ليس من الإسلام إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ تفريقا بالأهواء كالكفار المختلفين، أو بالأديان كاليهود و النصارى و فرقهم، أو بالضلالة و الشبهات و لو في دين الإسلام، كالفرق المبتدعة، فإن الذين يفعلون ذلك وَ كانُوا شِيَعاً جمع «شيعة» أي طوائف مختلفة لَسْتَ يا رسول الله مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ فلا ربط بينكما أبدا، و إنما هم في جهة و أنت في جهة.

و ليس معنى أن الجميع على باطل، بل المعنى أن ما ليس فيه الرسول باطل، و إلّا فالحق دائما مع إحدى الطوائف إِنَّما أَمْرُهُمْ أي أمر هؤلاء الذين فرّقوا دينهم و كانوا شيعا إِلَى اللَّهِ

فهو الذي يجازيهم لسوء أفعالهم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الأعمال. و هذا تهديد، كقولك: «لأعلمنك غدا» لمن خالف أمرك، تريد أنك تعاقبه بفعله.

و هنا سؤال: إذا علمنا نحن المسلمين بطلان سائر المذاهب و الطوائف، فما ذا نفعل بهذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم؟

و الجواب: إن الكتاب و السنّة يأمراننا باتباع علي و أهل بيته الأئمة الأحد عشر عليهم السّلام، و بعد ذلك فقد عيّن الفقهاء الراشدون لمرجعية الأمة، في

قوله عليه السّلام: «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 151

[سورة الأنعام (6): آية 160]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)

مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه» «1».

و

قوله عليه السّلام: «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله» «2».

أما الاختلاف بين الفقهاء في بعض الفروع فليس ذلك اختلافا يذكر، بل هو كالاختلاف بين كل مهندسين، أو طبيبين، أو حاكمين، مع إخلاص كل منهما و اتحاد منهجهما.

ثم إنه قد يستغرب: كيف يكون مصير هذه الكثرة من الناس الذين ليسوا بمسلمين، و كثير من المسلمين المنحرفين، النار، و من يبقى للجنة إذا؟

و الجواب: إن ما يستفاد من الآيات و الروايات أن الخلود في النار إنما هو للمعاند، و لا دليل على أنه لا يمتحن القاصر من البشر في الآخرة ليدخل الجنة، بل دلّ الدليل على ذلك، كما هو مذكور في علم الكلام. و من المعلوم عدم كون أكثر الناس مقصرين معاندين، إذا فليس بالبعيد دخول كثرة هائلة من البشر الجنة، للإيمان و حسن العمل في الدنيا، أو حسن الامتحان

في الآخرة.

[161] و إذ تقدم الكلام حول الجزاء يقرر السياق القاعدة العامة له و أنه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ التاء إما للمبالغة، و إما للتأنيث أي طاعة حسنة فَلَهُ من الثواب عَشْرُ أَمْثالِها على الأقل و إلا فقد يبلغ الثواب إلى سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «3»، وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ في التاء القولان، و إذا كانت للتأنيث فهي صفة «خصلة» فَلا

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري: ص 299.

(2) وسائل الشيعة: ج 27 ص 140.

(3) البقرة: 262.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 152

[سورة الأنعام (6): الآيات 161 الى 162]

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162)

يُجْزى إِلَّا مِثْلَها سيئة واحدة و إن كانت عظيمة جدا، فلا يقال: ما فائدة «الواحدة» فيما لو كانت أعظم من المعصية ككذبة واحدة جزاؤها سنة في النار- مثلا-؟ فمثلا جزاء من يسب الملك بلفظة مائة سوط، و هو جزاء واحد، و إن كان عظيما في نفسه وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ في مقدار ما استحقوا من السيئات بل جزاء وفاقا.

[162] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي أي أرشدني إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و المراد: الصراط الموصل للإنسان إلى الحقائق و السعادة في الدنيا و الآخرة، بالنسبة إلى كل شي ء من الأمور دِيناً منصوب على تقدير هداني، أي هداني دينا، أو على الحال أي أن الصراط في حال كونه دينا قِيَماً أي مستقيما، و هو مصدر، ك «الصغر و الكبر» مِلَّةَ إِبْراهِيمَ بدل من «دينا» و الملة: هي الشريعة، مأخوذة من «الإملاء» لأن

الشرع يمليه الرسول على أمته، و إنما نسب الدين إلى إبراهيم عليه السّلام لاتفاق جميع الأديان على جلالته عليه السّلام و صحة دينه، و قد كانت الأديان كلها دينا واحدا فلا مانع أن ينسب اللاحق إلى السابق حَنِيفاً أي في حال كون تلك الملة مائلة عن الباطل إلى الحق، من «حنف» بمعنى «مال» وَ ما كانَ إبراهيم عليه السّلام مِنَ الْمُشْرِكِينَ فلم يكن مشركا كمشركي مكة و لا يهوديا و لا نصرانيا، فكلاهما مشركان.

[163] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: إِنَّ صَلاتِي و هي الصلوات التي يأتيها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 153

[سورة الأنعام (6): الآيات 163 الى 164]

لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

الإنسان واجبة أو مندوبة وَ نُسُكِي النسك: العبادة، يقال: رجل ناسك أي متعبد، و يقال للأضحية: النسكية، للتقرب بها إلى الله، فهي عبادة وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي أي حياتي و موتي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فإن عبادتي له وحده بلا شريك، و أموالي ملكه و بقدرته لا بشركة أحد معه.

[164] لا شَرِيكَ لَهُ لا أشرك أحدا به في العبادة، و لا أزعم أن له شريكا في حياتي و موتي وَ بِذلِكَ أي بالتوحيد أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمة، أو المراد رتبة إسلامي من أول الرتب.

[165] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي أي أطلب رَبًّا و إلها وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ الاستفهام للإنكار، أي كيف أتخذ غير الله إلها-

بالاستقلال أو بالشركة- و الحال أنه تعالى رب كل شي ء لا رب سواه و لا إله إلا هو؟

وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فإذا اكتسبت المعصية بالشرك، لحقني جزائي السيئ، وَ لا تَزِرُ أي لا تحمل من «وزر» بمعنى حمل الإثم وازِرَةٌ أي نفس حاملة وِزْرَ أي معصية نفس أُخْرى بل عصيان كل أحد على نفسه و هو يحمل تبعته.

قيل: إن الكفار قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اتبعنا و علينا وزرك إن كان خطأ، فأنزل الله هذه الآية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 154

[سورة الأنعام (6): آية 165]

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي إلى حسابه مصيركم أيها المشركون، أو أيها البشر فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما أي بالشي ء الذي كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ليجازي كل إنسان و ما عمله من إحسان و إساءة.

[166] وَ هُوَ الله وحده الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ فإنكم تخلفون أهل العصر السابق في إرث الأرض و ما عليها، كما أن من بعدكم يخلفكم و يرثكم في أرضكم و أموالكم وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ذكاء، و علما، و مالا، و منصبا، و من سائر الجهات، فإن الأمور التكوينية و التقديرية كلها بيده لا شريك له لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي استخلفكم و أعطاكم عطاء متفاوتا ليختبركم، و يظهر سرائركم، و هل أنكم تطيعون أم تعصون إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ فلا يظن الكافر و العاصي، أن العقاب بعيد، فإن أمد الدنيا قصير مهما طال، أو المراد سرعة العقاب في الدنيا، و قبل الآخرة، إذ المعاصي

توجب آثار وخيمة فورا في الدنيا وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ لمن تاب و آمن رَحِيمٌ يرحم العباد، و يتفضل عليهم من واسع فضله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 155

7 سورة الأعراف مكية/ آياتها (207)

سميت السورة بهذا الاسم لوجود كلمة «الأعراف» فيها. و لما ختم سبحانه «الأنعام» بالرحمة، افتتح هذه السورة بأنه أنزل كتابا فيه معالم الدين و الحكمة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أبتدئ بها السورة، و أجعل الإله الرحمن الرحيم، قدام قراءتي لها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 156

[سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)

[2] المص قد تقدم تفسير فواتح السور المقطعة، و أنها رموز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو أن من جنس هذه الحروف.

[3] كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ و هو القرآن فليس حروفه أمرا خارقا، و إنما التركيب أمر خارق فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ يا رسول الله حَرَجٌ و ضيق مِنْهُ أي من هذا الكتاب، حيث ترى أن قومك يكذبوك و يؤذوك في سبيله، بل اطمئن بنصر الله سبحانه و حسن ثوابه، و إنما أنزل الكتاب إليك لِتُنْذِرَ بِهِ أي بهذا الكتاب، الكافرين و العصاة، بعقاب الله تعالى وَ ليكون ذِكْرى و تذكرة لِلْمُؤْمِنِينَ فيتذكرون به الدين و الأصول و الفروع، ليعملوا بما فيه.

[4] اتَّبِعُوا أيها الناس ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من القرآن و الأحكام وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي غير ربكم تعالى

أَوْلِياءَ كالأوثان، و الكفار قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي قليل- أيها البشر- تذكركم و اتعاظكم.

[5] وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أي كثيرا من أهل القرى أَهْلَكْناها عبّر بالقرية و أريد أهلها بعلاقة الحال و المحل، و المراد بالإهلاك إرادته، فإنه كثيرا ما يقال الفعل و يراد مقدماته- كما قرّر في علم البلاغة- فَجاءَها بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي بالليل أَوْ هُمْ قائِلُونَ أي في وقت القيلولة و هي نصف النهار، من «أقال» بمعنى «أراح»، و من المعلوم أن العذاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 157

[سورة الأعراف (7): الآيات 5 الى 8]

فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)

في هذين الوقتين أشد وقعا لغفلة الناس و راحتهم.

[6] فَما كانَ دَعْواهُمْ أي دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم، و كلامهم إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا وقت مجي ء العذاب إِلَّا الاعتراف بذنبهم ب أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فاعترفوا بما كان منهم حين رأوا العذاب.

[7] لكن الاعتراف لم ينفعهم فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل، يسألهم عن أعمالهم، و ما أجابوا به الرسل لما بعثوا إليهم وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ أي الأنبياء، فإن كل واحد من الرسل و الأمم لا بد و أن يحضر في محضر الحساب.

[8] و ليس السؤال لجهلنا بما صدر من الطرفين فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أي نقص ما كان من الطرفين قصة صادرة عن علمنا بأحوالهم، فليس السؤال إلا التقرير و التأكيد على أنفسهم وَ ما كُنَّا غائِبِينَ عن أعمالهم حين عملوها بل كنّا

شهودا عليهم حاضرين- علما- عند أعمالهم.

[9] وَ الْوَزْنُ للأعمال يَوْمَئِذٍ يوم القيامة الْحَقُ فلا ينقص حق و لا يزاد على حق، و إنما توزن الأعمال بموازين عادلة فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ الصالحة، و إنما جمع «الميزان»، باعتبار كل عمل عمل فَأُولئِكَ الذين ثقلت موازينهم هُمُ الْمُفْلِحُونَ الذين فازوا بالسعادة الأبدية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 158

[سورة الأعراف (7): الآيات 9 الى 10]

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)

[10] وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ الصالحة بأن ثقلت موازين سيئاته فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فإن النفس كانت لتحصيل الجنة، فقد حصل الإنسان بها النار بِما كانُوا أي بسبب كونهم بِآياتِنا يَظْلِمُونَ أي بسبب جحودهم بما جاء به الرسل من الآيات.

و هنا سؤال: ما هي طبيعة «الموازين» في الآية؟

و الجواب: من المحتمل أن يراد بها الموازين المعقولة لا المحسوسة، كما يقال: و زنت فلان، أو فلان خفيف الوزن، أو فلان له وزن، و هكذا. و الله سبحانه يعلم قيمة الأعمال، كما أنّا نعرف قيم بعض الأعمال، فنقدر المهندس و عمله أكثر مما نقدر العامل. كما أن من المحتمل أن يراد بها الموازين المحسوسة بأن تتجسّم الأعمال، فللصلاة صورة و وزن، و هكذا لسائر الأعمال الخيرية و الشرية، ثم توزن في موازين كموازين الدنيا.

[11] وَ كيف لا تخضعون لله سبحانه، و الحال أنه بالإضافة إلى نعمة إرسال الرسل و الهداية، ابتدأ عليكم بنعمة الحياة؟ ف لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ أيها البشر فِي الْأَرْضِ بأن جعلنا الأرض تحت إرادتكم تبنون و تزرعون و تخرجون كنوزها وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي ما تعيشون به

من أنواع الرزق قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أن شكركم للنعم قليل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 159

[سورة الأعراف (7): الآيات 11 الى 12]

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)

[12] وَ قبل ذلك لَقَدْ خَلَقْناكُمْ أي أوجدنا أصلكم الذي هو التراب، أو المني، أو الدم، بعد العدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أفضنا عليكم الصورة الإنسانية، في رحم الأمهات ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ إن أريد ب «ثم» معناها الظاهر، كان المراد من «خلقناكم» خلقنا أسلافكم، أي آدم عليه السّلام، و من البلاغة أن ينسب الإنسان ما للآباء إلى الأبناء، كما قال: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ «1»، بالنسبة إلى اليهود المعاصرين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن أريد بها الترتيب في الكلام، نحو «إن من ساد ثم ساد أبوه» كان الخطاب في «خلقناكم» على ظاهره.

و قد كان أمرنا بالسجود لآدم- جدكم- نعمة و تشريفا لكم فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ الشيطان، و يسمى إبليسا لأنه «أبلس» و حرم من رحمة الله سبحانه لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فإنه أبى و استكبر، و هو لم يكن من الملائكة، و إنما كان معهم فشمله الخطاب.

[13] قالَ الله تعالى لإبليس ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «لا» زائدة في الكلام، أي ما منعك أن تسجد، و إنما يؤتى بها لنكتة بديعة، هي قطع الكلام عما سبقه و الابتداء بالكلام التالي، ليتكرر التوبيخ كأنه قال «ما منعك»؟ و حذف المتعلق ثم سكت هنيئة، و ابتدأ «أن لا تسجد». و مثل هذا في

المحاورات كثير إِذْ أَمَرْتُكَ بالسجود قالَ إبليس:

______________________________

(1) البقرة: 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 160

[سورة الأعراف (7): الآيات 13 الى 15]

قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)

أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي من آدم، فلا ينبغي للأرفع أن يسجد و يتواضع للأخفض، ثم علل كونه خيرا بقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ أي خلقت آدم مِنْ طِينٍ و النار مضيئة و الطين كدر. لكن قياسه كان باطلا إذ مجرد الإضاءة لا تكون سبب الأفضلية، و إنما الأشياء بالكسر و الانكسار، و إعدام النار للأشياء بعكس الأرض المحيية لها جهة نقص فيها، سبب لرفعة الأرض عليها، بالإضافة إلى أن التواضع كان للآمر لا لآدم، فمن أمر عبده بأن يحمل طبقا من طين على رأسه كان عمل العبد امتثالا للسيد لا تواضعا للطين.

[14] قالَ الله سبحانه لإبليس: فَاهْبِطْ أي اخرج خروجا انحداريا- إما منزلة أو حقيقة- مِنْها أي من الجنة فَما يَكُونُ لَكَ أي ليس لك حق أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي في الجنة لأنها ليست موضع المتكبرين فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ من «الصغار» و هو «الذلة»، فإنك ذليل في مقام قربنا، حقير عندنا.

[15] قالَ إبليس لله سبحانه: أَنْظِرْنِي أي أمهلني لأن أبقى حيا إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة الذي يبعث فيه الخلق للجزاء.

[16] قالَ الله سبحانه: إِنَّكَ يا إبليس مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من الذين يمهلون و لا يعجل لهم بالموت، و لعلّ المراد بسائر المنظرين «الملائكة»- أي أنت أيضا مثلهم في الإمهال- و لكن من المعلوم أنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 161

[سورة الأعراف (7): الآيات 16 الى 17]

قالَ

فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)

ليس الإنظار إلى يوم القيامة بل «إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ».

[17] قالَ إبليس بعد إمهال الله سبحانه له فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي بسبب إغوائك لي، و ليس المراد إغواءه سبحانه، بل المراد الإتيان بسبب، و أمره بأمر سبب غوايته، و قد ذكرنا سابقا أن الأفعال إنما تنسب إليه سبحانه لأنه الخالق المهيئ للأسباب و الوسائل لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي للبشر صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي أقعد في طريقك لأغوي البشر عنه إلى الضلال و الانحراف، فإن إغوائي للبشر مقابل إغوائك لي، و قد كان هذا القياس من الشيطان أيضا باطلا، و هو مثل أن يعطي الأب و لديه رأس مال، فيأخذ أحدهما رأس المال و يذهب به نحو الفساد، ثم لما أتم ماله، و بقي رأس مال أخيه يقول لأبيه، كما سببت فسادي أسبب فساد أخي، و هذا الكلام خارج عن المنطق، إذ الأب لم يسبب فساده و إنما أراد صلاحه، بخلاف عمله في فساد أخيه فإن الفاسد يسبب فساده.

[18] ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي من قدامهم وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، فكما يجلس اللص في طريق المسافرين، ثم يهاجمهم من جميع جوانبهم الأربعة ليسرق ما معهم، كذلك الشيطان يطوّق الإنسان ليضله عن طريق الله سبحانه وَ لا تَجِدُ يا رب أَكْثَرَهُمْ أي أكثر البشر شاكِرِينَ لك و لنعمك، بل يتبعون طريق الكفران، فإن من عصى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 162

[سورة الأعراف (7): الآيات 18 الى 19]

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً

مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

الله سبحانه فقد كفر بنعمه و فضله.

و هنا سؤال: لم أطلق الله سبحانه إبليس ليضل البشر؟

و الجواب: لأن الدنيا وضعت للاختبار، و لو لم يكن الآمر بالشر كانت دنيا جبر و إكراه، و لم يكن للمطيع فضل يستحق به الجنة.

و سؤال ثان: أليس من الممكن أن يتفضل الله بالجنة على البشر بدون اختبار؟

و الجواب: كلّا، إن الإنسان بالإطاعة يكون قابلا للدرجات، كالتلميذ الذي يكون قابلا للتعليم- بالقراءة و الامتحان- فلو لم تكن إطاعة لم تكن قابلية، و من المعلوم أن حرمان القابل لأجل غيره ظلم، ألا ترى لو أن الحكومة لم تفتح المدرسة لتهذيب النفوس المستقيمة الذكية، إشفاقا على البليد الذي يرسب، كان ظلما للذكي النابه.

و الكلام طويل مذكور في كتب الكلام و الفلسفة.

[19] قالَ الله تعالى لإبليس: اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة مَذْؤُماً من «ذأم يذأم» فهو «مذءوم» بمعنى: عاب، فإن الذأم و الذيم أشد العيب مَدْحُوراً أي مطرودا، من «دحر» بمعنى: طرد لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي: أؤكد أن من تبعك من البشر لَأَمْلَأَنَ أي أملأ بالتأكيد جَهَنَّمَ مِنْكُمْ من التابع و المتبوع أَجْمَعِينَ بلا استثناء.

[20] و بعد تمام الكلام مع الشيطان توجه الخطاب إلى آدم عليه السّلام الذي خلقه سبحانه للاستخلاف في الأرض وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حواء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 163

[سورة الأعراف (7): آية 20]

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا

مِنَ الْخالِدِينَ (20)

الْجَنَّةَ هو أمر من «السكن» دون السكون، و التقدير «و لتسكن زوجك» فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما من ثمار الجنة وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ بالأكل، و النهي عن الاقتراب مبالغة في عدم الأكل، نحو قوله سبحانه: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «1»، و قد تقدم الكلام حول ماهية الشجرة، في سورة البقرة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ لأنفسكما، و الظلم كان لأجل أن الأكل يسبب خروجهما.

[21] فَوَسْوَسَ لَهُمَا أي لآدم و حواء، و معنى الوسوسة: الإلقاء في الذهن إلقاء مردّدا، هل يفعل أو لا يفعل الشَّيْطانُ في أكل الشجرة لِيُبْدِيَ لَهُما أي ليظهر لهما، و «اللام» للعاقبة، نحو: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «2»، ما وُورِيَ أي ما ستر من «وارى» على وزن «فاعل» عَنْهُما أي عن آدم و حواء مِنْ سَوْآتِهِما أي عورتيهما، فقد كان آدم و حواء مستورين بألبسة الجنة و كان لازم إخراجهما إذا أكلا من الشجرة أن ينزع عنهما اللباس، فكان عاقبة أكلهما إظهار عورتيهما، و سميت العورة «سوءة» لأنها يسوء الإنسان ظهورها.

وَ قالَ الشيطان في وسوسته لهما ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ

______________________________

(1) الإسراء: 35.

(2) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 164

[سورة الأعراف (7): الآيات 21 الى 22]

وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

الشَّجَرَةِ أي عن أكلها إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ فليس النهي لأجل تحريم الأكل عليكما، بل لأجل أن تبقيا في صورة البشر- المحببة إليكما- أما إذا لم تشاءا فلا مانع لله

سبحانه عن أكلكما من الشجرة، و الحاصل أنه أوهمهما أن النهي ليس وراءه لوم، و إنما هو نهي صلاح أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ فمن أكل من الشجرة إما أن يصبح ملكا، أو يكون إنسانا خالدا.

[22] وَ قاسَمَهُما أي حلف لهما بالله تعالى، فإن «قاسم» و «أقسم» بمعنى الحلف إِنِّي لَكُما يا آدم و حواء لَمِنَ النَّاصِحِينَ فإني أنصحكم بالأكل لتكونا كسائر الملائكة، أو تبقيا مخلدين في الجنة.

[23] فَدَلَّاهُما أي دلّى الشيطان آدم و حواء، من «تدلية الدلو» و هو أن ترسلها في البئر، بمعنى دلاهما من الجنة إلى الأرض بِغُرُورٍ أي بما غرّهما من الكلام و القسم فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بأن أكلا منها شيئا يسيرا انتزعت ملابسهما و بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي ظهرت عورتاهما وَ طَفِقا أي شرعا يَخْصِفانِ أي يجمعان من «الخصف» بمعنى الجمع عَلَيْهِما أي على أنفسهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ فقد أخذا من أوراق شجرة التين، و جعلا يلفان على عورتيهما وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 165

[سورة الأعراف (7): آية 23]

قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)

أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي عن تناول هذه الشجرة، فلما ذا أكلتما منها؟ وَ ألم أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ أي عدو ظاهر، فلم سمعتما كلامه؟

و هنا سؤال: كيف يمكن لمثل آدم النبي المعصوم عليه السّلام أن يترك قول الله سبحانه: لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ «1»، و يأخذ بقول الشيطان القائل: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ

و الجواب: إن الظلم هو وضع الشي ء في غير موضعه، و لعل آدم و حواء ظنا أن المراد بالظلم

أن يكونا ملكين و بالأخص لما حلف الشيطان لهما، فإنهما لم يكونا يحتملان أن أحدا يحلف بالله كاذبا- كما في الحديث-.

و قد تكرر استعمال الظلم لوضع الشي ء غير موضعه، و إن لم يكن فيه غضاضة أصلا، كما قال سبحانه حكاية عن موسى: ظَلَمْتُ نَفْسِي «2»، و لعلهما ظنا أن الأصلح بحالهما أن يبقيا بشرا- حسب كلام الله- لكنهما شاءا الجائز، كما يترك الإنسان كثيرا ما الأصلح لما يجده أوفق بحاله، و هذا مما لا ينافي مقام العصمة إطلاقا.

[24] قالا أي قال آدم و حواء عليهما السّلام: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بارتكاب

______________________________

(1) البقرة: 36.

(2) القصص: 17.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 166

المنهي عنه و أكل الشجرة وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا أي تستر علينا، و هو كناية عن العفو عما صدر وَ تَرْحَمْنا أي تتفضل علينا برحمتك لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا بعض درجاتهم. و حيث تقرر عقلا و نقلا أن الأنبياء معصومون، كان اللازم القول بعدم كون أكل الشجرة معصية إطلاقا، و إنما كان النهي للإرشاد، كما يقول الطبيب للمريض:

«لا تشرب هذا المائع فيطول مرضك»، فإنه نهي للإرشاد، و يكون ارتكابه موجبا لطول المرض فقط، و ليس هذا مما يوجب العقاب.

و كذلك كان النهي بالنسبة إلى أكل الشجرة، لأنه كان لإرشادهما إلى البقاء في الجنة أبدا، كما قال سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «1»، و كان الأكل موجبا للخروج من الجنة، و لقاء مشاكل الدنيا، و الظلم- كما تقدم- هو وضع الشي ء في غير موضعه و يلائم ارتكاب المنهي إرشادا، كما يلائم القبيح، كما أن الغفران هو الستر، و هو يلائم العصيان و

يلائم ارتكاب المنهي الإرشادي، و الخسران يلائم عدم الربح المتوقع، و لذا يقول التاجر: «خسرت» فيما إذا لم يربح المتوقع.

ألا ترى أن المريض إذا ارتكب ما يسبب طول مرضه، يقول للطبيب: «اشتبهت، فتدارك الأمر، و إلا خسرت صحتك في هذه المدة» و لم يكن ذلك عصيانا إطلاقا. و من هنا اشتهر في تسمية هذا النوع من الخلاف ب «ترك الأولى» أي أن الأولى كان عدم الارتكاب، و هنا سؤالان:

______________________________

(1) طه: 119 و 120.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 167

[سورة الأعراف (7): آية 24]

قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)

الأول: كيف يصدر مثل هذا الترك من الأنبياء و لهم المقام الرفيع؟

الثاني: إن هذا فتح لباب التأويل و ارتكاب خلاف الظاهر و لا داعي له؟

و الجواب عن الأول: أن ذلك لئلّا يعتقد البشر ألوهية الأنبياء، فإن من عادة البشر الغلو بالنسبة إلى القديسين، و ذلك ضد الغلو، و إن غالى بعض الضعاف أيضا.

و الجواب عن الثاني: إن فتح هذا الباب مما لا بد منه، فإن الكلام مشتمل على المجاز و الكناية و ما أشبه- حتّى بالنسبة إلى كلام البشر العادي، فكيف بالبلغاء- و إلّا لزم القول بالتجسيم لقوله سبحانه: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1»، و الظلم لقوله: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ «2»، و الكذب لقوله:

وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ «3»، إلى غير ذلك. و قد جرت قوانين البلاغة على أن يصرف الكلام إلى المراد منه، و إن كان خلاف الظاهر اللفظي، إذا دل دليل من العقل و النقل على المراد، أما إذا لم يكن هناك دليل، أخذ بظاهر الألفاظ.

[25] قالَ الله سبحانه لآدم و حواء و إبليس: اهْبِطُوا من الجنة هبوطا

نحو الأسفل حيث كانت الجنة أعلى من الأرض، أو هبوطا رتبيّا، إن كانت من جنان الدنيا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فالشيطان عدوّ لهما و هما عدوّان له، و بين المرأة و الرجل تنافس و تجاذب وَ لَكُمْ جميعا فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي محل قرار وَ مَتاعٌ تتمتعون به من المأكل

______________________________

(1) القيامة: 24.

(2) النساء: 89.

(3) الأنفال: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 168

[سورة الأعراف (7): الآيات 25 الى 26]

قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

و الملبس و غيرهما إِلى حِينٍ الموت أو حين البعث.

[26] قالَ الله تعالى ثانيا: فِيها أي في الأرض تَحْيَوْنَ أي تعيشون، أو المراد يحيى لك نسل وَ فِيها تَمُوتُونَ جميعا وَ مِنْها أي من الأرض تُخْرَجُونَ يوم القيامة للحساب و الجزاء.

[27] ثم خاطب الله سبحانه البشر، بمناسبة نزع الشيطان لباس أبويهم، و بمناسبة ما وعد من أن لهم في الأرض متاع، بقوله: يا بَنِي آدَمَ و الخطاب بهذا اللفظ للتذكير بجدّهم آدم عليه السّلام- لمناسبة الموضوع- قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً إما المراد «الإنزال» حقيقة، بأن أنزل اللباس من الجنة، أو «الإنزال» مجازا بنزول المطر الذي هو سبب نبات القطن و ما أشبه، و رعي الحيوانات ذات الأصواف، أو المراد «التعظيم» لعظم المعطي، كما يقال: «رفعت عريضتي إلى القاضي» تعظيما لمقامه و أنه أرفع منزلة من صاحب العريضة، و مثله وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1»، وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «2»، أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولًا «3»، يُوارِي أي يستر سَوْآتِكُمْ أي عوراتكم وَ أنزلنا عليكم

رِيشاً أي أثاثا مما تحتاجون إليه، و «الريش» ما فيه الجمال، و منه ريش الطائر وَ لِباسُ التَّقْوى أي الاجتناب عن معاصي الله سبحانه، و سمي لباسا لأنه يستر الشر الكامن في نفس الإنسان، كما يستر اللباس

______________________________

(1) الزمر: 7.

(2) الحديد: 26.

(3) الطلاق: 11 و 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 169

[سورة الأعراف (7): آية 27]

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)

مواضع القبح من بدن الإنسان، فمثلا من يغتاب غيره يظهر قبح نفسه، فإذا اتقى سترت هذه التقوى قبحه النفسي ذلِكَ خَيْرٌ من جميع أنواع اللباس الظاهرة، إذ القبائح النفسية أكثر و أبشع من القبائح البدنية، لأن القبائح الكامنة إذا ظهرت توجب النار و الخزي بخلاف قبائح الجسد ذلِكَ أي لباس التقوى مِنْ آياتِ اللَّهِ «من» إما للإنشاء، أي أن لباس التقوى ينشأ من الآيات و الحجج التي أنزلها الله سبحانه، و إما تبعيضية أي أن التقوى من جملة آيات الله و علاماته، لأنه هو الذي أمر بالتقوى لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي جعل الله التقوى آية لكي يتفكر الإنسان، و يتذكر فيما أودع في فطرته، فيسعد.

[28] يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ أي لا يضلنّكم بأن يدعوكم إلى المعاصي فتجيبوه فيحرمكم من السعادة و الجنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ آدم و حواء مِنَ الْجَنَّةِ و نسبة الإخراج إليه لأنه كان بإغوائه و وسوسته، إخراجا بصورة بشعة حيث كان يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما و النزع و إن كان من فعله سبحانه، إلّا أنه حيث كان بسبب الوسوسة، صح الانتساب إليه، كما قال سبحانه

عن فرعون: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ «1»، مع أن الذبح كان من فعل جنود فرعون لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أي عورتيهما. و لعل السر في تكرار هذه اللفظة تركيز البشاعة في نفس السامع، فمن يرغب في أن تبدو سوءته؟

______________________________

(1) القصص: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 170

[سورة الأعراف (7): آية 28]

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)

و حيث كان هنا محل سؤال: أنه كيف يفتن الشيطان الإنسان و لا يراه؟ قال سبحانه: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ أي نسله، فإن للشيطان نسلا كما للإنسان، كما قال سبحانه أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ «1»، مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ فإنهم من جنس لطيف لا يرى بالعين المجردة، كالهواء اللطيف الذي لا يرى، و إن أحس به الإنسان.

و من قال: إنه كيف يأمر بذلك؟

فالجواب: إن هذه الإلقاءات في القلب بالشر، كلها منه، كما أن الإلقاءات الخيرة من الملائكة- كما في الأحاديث- و إلا فمن أين هذه الإلقاءات؟! إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ و معنى «جعله» سبحانه: التخلية بينهم و بين الشياطين، و معنى كونهم أولياء: أنهم يتبعونهم، و يتخذونهم محل الولي الحميم في التصادق معهم دون المؤمنين.

[29] و الذين لا يؤمنون بالإضافة إلى أنهم اتخذوا الشيطان وليا، إنهم مقلّدون تقليدا أعمى، كاذبون في أقوالهم، عالمون بالفحشاء، فهم مجمع الرذائل حيث تركوا الإيمان وَ إِذا فَعَلُوا أي فعل الذين لا يؤمنون فاحِشَةً أي خصلة فاحشة، متعدية عن الحق، فإن «فحش» بمعنى «تعدّى»، و هذا عام شامل لجميع المعاصي قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها

______________________________

(1) الكهف: 51.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 171

[سورة الأعراف (7): آية

29]

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

أي على هذه الفاحشة آباءَنا فإنا نقلّدهم في عملهم هذا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها أي بهذه الفاحشة- و كان قولهم هذا كذبا- قُلْ يا رسول الله لهم: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ثم ردّ عليهم من وجه آخر هو: أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ على نحو الاستفهام الإنكاري.

و قد ورد في التفسير: أن الآية نزلت بمناسبة ما كان يفعله المشركون، فإنهم كانوا يبدون سوءاتهم في طوافهم، فكان يطوف الرجال و النساء عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا و لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، و كانت المرأة تضع على قبلها النسعة في الطواف و تقول:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه و ما بدا منه فلا أحلّه

تعني «العورة»، فكان التذكير بذلك بمناسبة إنعام الله على بني آدم باللباس، و في سياق نزع إبليس لباس آدم و حواء عليهما السّلام.

[30] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين إذا فعلوا الفاحشة قالوا إن الله أمرنا بها: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي بالعدل و الحق، لا بالفحش و التجاوز وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فلا تتخذوا الشيطان وليا، كالمشركين، و هذا إما عطف على «أمر ربي» أي قل: أقيموا، و إما عطف على «لا يفتننكم الشيطان». و لعله المناسب للمعنى، و هو أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 172

[سورة الأعراف (7): الآيات 30 الى 31]

فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا

إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

الله يأمر بالقسط، و بالإخلاص، أو للقصة، و هو أن اللازم إقامة الوجه، لا إقامة الفرج- كما كانوا يطوفون عراة-.

و ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية هدم لما كان أهل الجاهلية يلتزمون به من اختصاص الشعائر بقبيلة دون قبيلة، فكان لهذا صنم و لذاك صنم و لهذه كعبة و لتلك كعبة، فإن الإسلام يرى المساجد كلها لله، و اللازم على المسلم أن لا يفرق بينها، أو أنه في قبال المسيحيين الذين كان لكل طائفة منهم كنيسة.

وَ ادْعُوهُ أي ادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي ليكن دعاؤكم في حال كونكم أخلصتم له دينكم كَما بَدَأَكُمْ أي خلقكم تَعُودُونَ فهو وحده الذي خلق و يعيد، فلا معنى لأن يشرك به غيره.

[31] إنكم ستعودون فريقين فَرِيقاً هَدى أي هداه الله سبحانه وَ فَرِيقاً حَقَ أي ثبت عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ لأنهم أعرضوا عن الهداية و سلكوا سبيل الغواية، و إنما ضلوا بسبب إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فكانوا يتبعون أوامر الشياطين لا أوامر الله سبحانه، و لذا ضلوا وَ من اللطيف أنهم يَحْسَبُونَ أي يظنون و يزعمون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ و أن طريقتهم حق.

[32] و بمناسبة ذكر المسجد يأتي الحكم حول أمر مرتبط بالمسجد كما أن بمناسبة ذكر المحرمات سابقا يأتي بيان الحرام و الحلال، و بيان أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 173

الطيب غير محرم و إنما حرّم الخبيث لمصلحة الإنسان يا بَنِي آدَمَ خطاب لكل مكلف من أبناء آدم و حواء خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي ثيابكم التي تتزيّنون بها، خذوها و ألبسوها إذا أردتم الذهاب إلى المسجد.

روي أن الحسن بن علي عليهما السّلام كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود

ثيابه. فقيل له: يا بن رسول الله! لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي، و هو يقول: خذوا زينتكم عند كل مسجد، فأحب أن ألبس أجود ثيابي» «1».

و الظاهر أن الآية عامة تشمل غير الثياب أيضا و لذا

روي عن الصادق عليه السّلام تفسيرها ب «التمشيط» «2».

وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا أي مباح لكم المأكول و المشروب، فإن الأمر هنا للإباحة وَ لا تُسْرِفُوا في الأكل و الشرب، أو في كل شي ء، و الإسراف هو التجاوز، فقد يصل إلى حد المكروه، و قد يصل إلى حد الحرام إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي يكرههم و يبغضهم.

و لعل التعبير ب «لا يحب» لبيان أن الله سبحانه لعلوّ مقامه و عظمته فيجب على الإنسان أن يجتنب ما لا يحبّه، فكيف بما يكرهه، و قد جرى ديدن العظماء أن يعبروا ب «لا أحب» فيما لا يريدونه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 4 ص 455.

(2) وسائل الشيعة: ج 2 ص 122.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 174

[سورة الأعراف (7): آية 32]

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

[33] قُلْ يا رسول الله: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ جميع أنواع الزينة من المساكن و المتنزهات و الحليّ و الملابس و المراكب و غيرها وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المأكل الحلال، أو المراد: كل رزق، و الاستفهام على سبيل الإنكار، أي أنها ليست بمحرمة و لا حق لأحد في تحريمها، فما يفعله الرهبان ليس صحيحا.

قُلْ يا رسول الله هِيَ أي الزينة و الطيبات- باعتبار كل واحد منهما- لِلَّذِينَ آمَنُوا

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فما يتناوله الكفار منها حرام لا يجوز، في حال كونها خالِصَةً للمؤمنين بلا مشاركة الكافرين لهم إطلاقا- حتى على وجه الحرام- يَوْمَ الْقِيامَةِ فإن الطيبات للمؤمنين في الدنيا و في الآخرة، لكن الكفار يشاركون المؤمنين زورا في الدنيا، و لا يقدرون على ذلك في الآخرة، و هناك احتمال آخر: أي أن الطيبات خالصة في الآخرة لمن آمن في الدنيا، فتكون جملة واحدة، لا جملتان، ثم لا يخفى أن كون الطيبات للمؤمن في الدنيا- على المعنى الأول- لا يقتضي جواز تناولها من يد الكافر غير الحربي، بحجة أنها ليست له، فإن الله سبحانه جعل في الدنيا لغير الحربي حرمة، لأجل استقامة أمور العالم.

كَذلِكَ أي كما فصلنا الأمور السابقة، واضحة لا لبس فيها نُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على الأصول و الفروع لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإن العلماء هم الذين يستفيدون من هذه الآيات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 175

[سورة الأعراف (7): الآيات 33 الى 34]

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

[34] و لما بيّن سبحانه المحللات عطف عليها المحرمات، فقال: قُلْ يا رسول الله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ جمع «فاحشة» أي الخصلة الفاحشة، المتعدّية عن الحق، من «فحش» بمعنى تعدّى، و المراد بها:

كل منكر ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ أي ما أعلن أو أخفي.

ثم بيّن سبحانه بعض أفراد الفاحشة لأهميتها وَ الْإِثْمَ أي الخمر، فإنه من أسمائها قال الشاعر:

شربت الإثم حتى زال عقلي كذاك الإثم

يفعل بالعقول

وَ الْبَغْيَ أي الظلم بِغَيْرِ الْحَقِ هذا قيد توضيحي، لإفادة أن البغي ليس بحق، كقوله سبحانه: وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ «1»، وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ أي حرّم سبحانه الشرك ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي لم يقم له دليل، و كل شرك كذلك، فالقيد توضيحي لبيان أن الإشراك ليس بأمر الله، خلافا لما كان المشركون ينسبون شركهم إليه سبحانه وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي أنه تعالى حرم نسبة ما لا تعلمون إليه، خلافا للكفار حيث أنهم كانوا يفعلون المعاصي و يقولون: «أمرنا الله بها».

[35] ثم سلّى سبحانه نبيه، بأن لا يضيق صدره بما يفعله الكفار، من

______________________________

(1) آل عمران: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 176

[سورة الأعراف (7): آية 35]

يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)

اقتراف هذه الجرائم كلها بقوله تعالى: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي لكل جماعة و أهل عصر و مصر مدة لا يتجاوزونها، و لهؤلاء مدة، ثم يلفّهم الموت، و ينسيهم البلى، و ستطهر الأرض منهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ بأن توجه الأجل إليهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً أي لا يتأخرون مقدارا من الزمن، فإن «الساعة» في اللغة بمعنى: مقدار الزمان قصر أم طال وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ أي لا يتقدمون على موعدهم، فإذا قدّر هلاك أمة في الساعة الرابعة من يوم الجمعة، فإذا توجه الأجل إليهم في الصباح لا يتأخرون إلى الساعة الخامسة، و لا يتقدمون إلى الساعة الثالثة. و الظاهر أن الفعلين بمعنى «الاستفعال»، أي لا يطلبون- طلبا مفيدا- التقديم و التأخير، و ليس «جاء» بمعنى «وقع» حتى يقال: إن التقديم

و التأخير لا يعقل بالنسبة إلى الأمر الواقع، و ليس في الكلام مجاز المشارفة، إذ «جاء» لفظ يقع بالنسبة إلى الواصل، و بالنسبة إلى من في الطريق.

[36] يا بَنِي آدَمَ خطاب لعموم المكلفين إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ أي إن أتاكم، فإن «إما» مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة رُسُلٌ مِنْكُمْ لا يقال:

لا رسول بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما معنى ذلك؟ قلت: إن الشرط قد يصاغ لإفادة التحقيق، فهو إنشاء مفهوم الشرط لغرض آخر، كما ينشأ مفهوم التعجب و الأمر و الاستفهام، لأغراض أخرى، فالمراد- هنا- أن الرسل تأتي لتبين للناس، فمن أطاع سعد، و من خالف شقي يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ أي يخبرونكم آياتِي و أحكامي فإن «قص» بمعنى «اتبع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 177

[سورة الأعراف (7): الآيات 36 الى 37]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)

الأثر»، فالنقل عن الله سبحانه قصة عنه فَمَنِ اتَّقى إنكار الرسل و الآيات، أو اتقى المعاصي وَ أَصْلَحَ عمل صالحا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ كخوف سائر الناس وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ كحزنهم، فإن أهل التقوى يعلمون أن ما يصيبهم إنما هو بإذن الله، و أن الله أعدّ لهم أعظم الجزاء، و لذا لا يكون للكوارث عليهم وقع، كما أنهم يكونون مطمئنين بثواب الله في الآخرة و رحمته، و لذا لا يكون لهم خوف من العقاب كخوف غيرهم.

[37] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا

بِآياتِنا أي حججنا و دلائلنا، و أنكروا الأنبياء و الرسل وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها بأن رأوا أنفسهم فوق الرسل، و فوق الإذعان لآيات الله أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها، فإن الملازم للشي ء يقال له الصاحب هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد.

[38] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أظلم منه، فهو إخبار في صورة استفهام، ليكون أبلغ، إذ السامع يعدّ نفسه ليجيب بجواب يرضي المتكلم، فهو إخبار مع أخذ الموافقة من السامع أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ الدالة على الألوهية، أو الرسالة، أو المعاد، أو سائر الشؤون الحقة أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ فينالهم جميع ما كتب لهم من الخير و الشر، و الرزق و العمر، في دار الدنيا، فلا يقطع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 178

[سورة الأعراف (7): آية 38]

قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38)

عنهم ما كتب لهم، بسبب كفرهم حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملائكة الموت لتقبض أرواحهم، بعد أن أتموا مدّتهم المكتوبة لهم يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي يقبضون أرواحهم قالُوا أي الملائكة، لهم: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين ذهبت أصنامكم التي تجعلونها شريكة لله؟ و هذا الاستفهام للتوبيخ و التقريع، و بيان أنها لم تنفعكم في دفع العذاب الآن قالُوا يعني الكفار: ضَلُّوا تلك الأصنام عَنَّا فقد افتقدناهم فلا يقدرون على دفع العذاب عنا وَ شَهِدُوا أي الكفار عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ و أخذ بإقرارهم ليجزون بكفرهم.

[39] و إذا كان يوم القيامة

قالَ الله سبحانه لهم: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أي جماعات و طوائف من الكفار السابقين قَدْ خَلَتْ أي مضت و سبقتكم مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ و هذا نوع من عذاب آخر لأن الإنسان بحشره مع المجرمين يعذّب نفسيا، كما يعذب جسديّا بإدخاله النار، و هؤلاء لا صفاء بينهم، فاجتماعهم في الدنيا على الكفر لا يسبب ارتياح بعضهم مع بعض هناك، بل بالعكس، ف كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ من تلك الأمم الكافرة، النار لَعَنَتْ أُخْتَها أي الأمة السابقة التي هي أختها في الكفر، فإن النار محل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 179

خصام و تضارب بعكس الجنة التي دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ «1»، إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «2».

حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا أي تلاحقوا و اجتمعوا، أصله «تدارك» قلبت التاء دالا، و أدغمت الدال في الدال، و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن فِيها أي في النار جَمِيعاً أي جميع الأمم الكافرة قالَتْ أُخْراهُمْ أي الطائفة التي دخلت النار متأخرة و هم الأتباع لِأُولاهُمْ أي بالنسبة إلى الرؤساء الذين دخلوا أولا: رَبَّنا هؤُلاءِ الطائفة الأولى أَضَلُّونا حيث أغرونا لنتخذ معك شريكا و نخالف أوامر رسلك فَآتِهِمْ أي أعطهم عَذاباً ضِعْفاً أي مضاعفا: عذابا لكفرهم، و عذابا لإغوائهم إيانا مِنَ النَّارِ و بهذا يريدون الانتقام من القادة المغوين.

قالَ الله تعالى في جوابهم: لِكُلٍ منهم و منكم ضِعْفٌ أي عذاب مضاعف، فللرؤساء الضعف للكفر و الإغواء، و للتابعين الضعف للكفر و تقوية مكانة الرؤساء، فإنه لو لا التابعين لم يتمكن المتبوعون من السيطرة و إقصاء الحق، كما

قال الإمام عليه السّلام لتابعي بني أمية «لو لا أنتم لما غصبوا حقنا»

وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ أيها الضالون

______________________________

(1) يونس: 11.

(2) الحجر: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 180

[سورة الأعراف (7): الآيات 39 الى 40]

وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)

و المضلون مقدار عذاب كل واحد منكم، و لا الفرق بين الضعف في المتبوع، و بين الضعف في التابع.

[40] و حينما يسمع القادة جواب الله سبحانه للتابعين، يتوجهون إليهم بالشماتة، قائلين: لسنا أولى منكم بالعذاب ليكون لنا ضعف، فكلنا سواء في الكفر وَ قالَتْ أُولاهُمْ القادة لِأُخْراهُمْ التابعين: فَما كانَ لَكُمْ أيها التابعون عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ و تفاوت في الكفر، بأن يكون كفركم أخف من كفرنا، حتى تستحقون عذابا أقل فَذُوقُوا أيها التابعون الْعَذابَ بسبب ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من الكفر و المعاصي.

[41] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يقبلوها وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أي تكبروا عن الخضوع لها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: «أما المؤمنون فترفع أعمالهم و أرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها، و أما الكافر فيصعد بعمله و روحه حتى إذا بلغ السماء نادى مناد اهبطوا به إلى سجين»

وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ أي يدخل البعير فِي سَمِّ الْخِياطِ أي ثقب الإبرة، فكما يستحيل دخول الجمل في ثقبها، كذلك يستحيل دخول الكافر في الجنة، و هذا تمثيل بديع للاستحالة، و قيل المراد ب «الجمل» الحبل الغليظ وَ كَذلِكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 181

[سورة الأعراف (7): الآيات 41 الى 43]

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ

وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

أي كما جزينا هؤلاء المكذبين نَجْزِي سائر الْمُجْرِمِينَ و إن كان اختلاف بين أنواع الجزاء، فكل إجرام له جزاء خاص، و عقوبة مخصوصة.

[42] لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش و مضجع وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ جمع «غاشية»، أي لحف من نار، فالنار محيطة بهم سفلا و علوا وَ كَذلِكَ أي كما جزينا المكذبين نَجْزِي الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم باتباع أوامر الشيطان، و ترك عبادة الرحمن.

[43] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن صحّت عقيدتهم و عملهم، و لا يراد بأنهم عملوا كل الصالحات، بل قدر طاقتهم و وسعهم، لأنّا لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا مقدار وُسْعَها و الوسع دون الطاقة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ الملازمون لها أبد الآبدين هُمْ فِيها خالِدُونَ

[44] و هناك لا تنازع و لا تخاصم- كما كان عند أهل النار- وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ أي: أخرجنا ما في قلوبهم من حقد و حسد و عداوة حتى لا يحسد بعضهم بعضا، فإن الإنسان مهما كان تقيا لا يخلو قلبه من شي ء من الصفات الذميمة، و هناك تصفّى قلوبهم، ليكونوا إخوانا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 182

[سورة الأعراف (7): آية 44]

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ

حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)

قلبا و قالبا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ أي من تحت قصورهم و بساتينهم الْأَنْهارُ هذه جملة مستأنفة، أي أنهم يكونون هكذا في الجنة في قبال الكفار الذين «لهم من جهنم مهاد» وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي أوصلنا إلى هذا النعيم، بما هدانا سابقا في الدنيا للعقيدة الصحيحة، و العمل الصالح وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ أي لم نقدر على الهداية بأنفسنا لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ فإن الإنسان لا يهتدي إلا بإرسال الله الرسل، و تبليغه الأحكام، و هذا شكر من أهل الجنة، و تقدير لنعم الله عليهم، في الدنيا بالهداية، و في الآخرة بالجنة لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ و أنهم أرسلوا من قبله سبحانه، و كان ما قالوه حقا، و ها نحن نرى صدق ما قالوا وَ نُودُوا أي أهل الجنة ينادون من قبل الله سبحانه: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ التي وعدتموها في الدنيا، هي هذه التي دخلتموها، و يحتمل أن يراد كون النداء قبل دخولها- فإن الواو لمطلق العطف أُورِثْتُمُوها أي أعطيتم إياها إرثا، و صارت إليكم كما يصير الميراث لأهل الميت بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء لأعمالكم الصالحة في الدنيا.

[45] و حيث يستقر كلّ فريق من المؤمنين و الكافرين، في مقرّه من الجنّة و النّار، يقع بينها الحوار على النّحو الآتي وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 183

[سورة الأعراف (7): آية 45]

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)

أي أهل الجنّة، أهل النّار، و الإتيان بلفظ الماضي «نادى» لأنّ المستقبل المتحقّق الوقوع ينزّل منزلة الماضي: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا

رَبُّنا حَقًّا فقد أعطينا الثواب و الجنة كما كنا نوعد في الدنيا فَهَلْ وَجَدْتُمْ أنتم يا أهل النار ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العقاب حَقًّا و الوعد و إن كان بالنسبة إلى كلتا الطائفتين إلا أن انحراف العاصين و إعراضهم، و اهتداء المطيعين إلى الطريق، أورث توجه الوعد إلى أهل الجنة، و الوعيد إلى أهل النار قالُوا أي قال أصحاب النار:

نَعَمْ وجدنا وعد ربنا حقا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي نادى مناد بَيْنَهُمْ أي بين أهل الجنة و أهل النار أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ و

في الأحاديث أن المؤذن هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام

«1»-، و المراد ب «لعنة الله» غضبه و انتقامه و طرده و عذابه، و إنما ينادي المنادي بهذا النداء ليذكرهم بما كانوا يفعلون، و من أجله استحقوا العقاب.

[46] و من هم الظالمون؟ إنهم هم الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس عن السير في الطريق الذي جعله الله لعباده، ليسعدوا بسلوكه في الدنيا و الآخرة وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون الطريق المعوج، فلا يسيرون في الطريق المستقيم، فالضمير في «يبغونها» راجع إلى المضاف و هو «السبيل» لا المضاف و المضاف إليه، و قيل:

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 426.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 184

[سورة الأعراف (7): آية 46]

وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ (46)

معناه يطلبون لطريق الله العوج بالشّبه التي يلتبسون بها و يوهمون أنها تقدح فيها وَ هُمْ بالدار الآخرة كافِرُونَ لا يعتقدون بها.

[47] وَ بَيْنَهُما أي بين أهل الجنة و أهل النار حِجابٌ أي فاصل و ستر وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ الأعراف: هي الأمكنة

المرتفعة، أخذ من «عرف الفرس» و منه «عرف الديك» و كل موضع مرتفع من الأرض عرف، لأنه بظهوره أعرف مما انخفض، و هؤلاء الرجال يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة و أهل النار بِسِيماهُمْ «السيماء» العلامة، و هو فعل من «سام إبله» إذا أرسلها في المرعى معلّمة، و إنما يعرفون كلا بسيماهم لأن أهل الجنة معلّمون ببياض الوجه و الجلال و الحفاوة، و أهل النار معلّمون بعلامة على أنوفهم- كما قال سبحانه: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ «1»-، و الهيئة المنكرة، و الغبار على الوجوه كما قال سبحانه: وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ «2»، و غيرها.

وَ نادَوْا هؤلاء الذين على الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ الذين يرونهم من هناك آخذين في الذهاب إلى الجنة، أو المستقرين فيها أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ تهنئة لهم بفوزهم بالجنة لَمْ يَدْخُلُوها أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة بعد وَ هُمْ يَطْمَعُونَ كما قال

______________________________

(1) القلم: 17.

(2) عبس: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 185

[سورة الأعراف (7): الآيات 47 الى 48]

وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)

سبحانه عن لسان إبراهيم عليه السّلام: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي «1»، فإنه يستعمل لليقين و الرجاء.

[48] وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ توجهت أنظار أصحاب الأعراف تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ الذين أخذوا في الذهاب إلى جهنم، أو المستقرين فيها قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فلا تدخلنا النار، و لا تجعلنا من أهلها. و قد وردت أحاديث متعددة أن المراد بأصحاب الأعراف الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و ظاهر الآية لا يأباه «2».

[49] وَ

نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ الذين عليها رِجالًا من أصحاب النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلاماتهم، و أنهم من رؤساء المشركين، و المراد بالعلامات، إما العلامات التي كانوا معلّمين بها في الدنيا، أي صورهم التي كانوا يعرفونهم بها، و إنما عبر بلفظ «سيماهم» لأنهم تغيروا هناك فلا يعرفون إلا السحنة و سائر العلامات، و إما العلامات التي و سموا بها في الآخرة، من الزرقة، و غبار الوجه و تشوية الخلقة.

قالُوا أي قال أصحاب الأعراف لأولئك المجرمين: ما أَغْنى

______________________________

(1) الشعراء: 83.

(2) ورد كلمة الأنبياء عن العلامة المجلسي في بحار الأنوار: ج 8 ص 331، و كما ورد كلمة الأئمة

في رواية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال نحن أصحاب الأعراف: راجع بصائر الدرجات ص 499. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 186

[سورة الأعراف (7): الآيات 49 الى 50]

أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50)

عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أي اجتماعكم و كثرتكم، أو جمعكم الأموال و الأولاد و الخدم و الأصدقاء وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي استكباركم على الله و الرسول، ما أغنى عنكم كل ذلك، فلم يدفع العذاب عنكم.

[50] ثم يقول أصحاب الأعراف لأهل النار: أَ هؤُلاءِ المراد ب «هؤلاء» أهل الجنة الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ فقد كان الكفار يحلفون- في الدنيا- أن الله لا ينال المؤمنين برحمة منه، و هناك يريهم أصحاب الأعراف أن المؤمنين دخلوا الجنة، و أنالهم الله رحمته.

ثم يتوجه أصحاب الأعراف إلى المؤمنين قائلين لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا

أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ و بهذا النحو يقرع أهل النار، في قبال ما كانوا يقرعون المؤمنين في الدنيا.

[51] و حينما يستقر الفريقان في مقامهما من الجنة و النار يقع حوار بين الجانبين بهذه الكيفية: وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي «ينادون»، و إنما أتى بلفظ الماضي، لأن المستقبل المتحقق وقوعه ينزّل بمنزلته- كما سبق-: أَنْ أَفِيضُوا أي صبّوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ لنسكن به حر النار، أو نروي به العطش و الظمأ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الطعام و اللباس و غيرهما، لننتفع به في محلنا الحار الفاقد لكل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 187

[سورة الأعراف (7): آية 51]

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)

شي ء من وسائل الراحة قالُوا أي قال أهل الجنة في جواب أهل النار: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما أي حرّم الماء و الرزق عَلَى الْكافِرِينَ فلا يباح لنا إعطاؤكم منهما شيئا.

[52] ثم وصف الكافرين بأنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً فدينهم الذي اختاره الله لهم- و هو الإسلام- اتخذوه أداة تلهّي و لعب، فكانوا به يستهزءون، أو المراد أن دينهم كان لهوا و لعبا، فيكون التبكيت لاتخاذهم أصل الدين- الكفري- لا اتخاذه لهوا. و ظاهر الكلام المعنى الأول، كما تقرر في علم البلاغة أن القيد إذا كان في الكلام توجه النفي و الإثبات إليه.

وَ غَرَّتْهُمُ أي خدعتهم الْحَياةُ الدُّنْيا فظنوا أنهم يبقون فيها إلى الأبد، و أن نعيمها يكفيهم عن نعيم الجنة فَالْيَوْمَ في الآخرة نَنْساهُمْ أي نتركهم في العذاب، كفعل الناسي الذي لا يعتني بالمنسي، و إن أصابه ما أصابه كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا أي

كما نسوا في الدنيا التأهّب ليوم القيامة وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ «ما» مصدرية، أي لسبب نسيانهم، و بسبب جحودهم، و إنكارهم لآيات الله و أحكامه. و من هذه الجملة يعلم أن قوله: «الذين اتخذوا» من كلام الله استئنافا، لا من تتمة كلام أهل الجنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 188

[سورة الأعراف (7): الآيات 52 الى 53]

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

[53] إن أهل النار وقعوا فيها بعد البيان و إتمام الحجة، فلم يكن هذا العذاب ظلم بالنسبة إليهم وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ و هو القرآن فَصَّلْناهُ تفصيلا فلم يكن مجملا لا يستفاد منه المطلب عَلى عِلْمٍ أي كنا عالمين بما أنزلنا، فلم يكن الكتاب كتاب جاهل لا يدري المصالح و المفاسد، و يحكم اعتباطا هُدىً أي جئنا به لأجل الهداية وَ رَحْمَةً و لأجل الرحمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إنما اختص بهم لأن الفائدة تعود إليهم وحدهم، و إن كان الكتاب للكل.

[54] هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء الكفار الذين لم يؤمنوا بالكتاب إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي مآل الكتاب، بمعنى: المآل الذي أخبر به الكتاب، من العذاب و العقاب النازل بالكفار. و هذا تهديد كما يقال للعاصي أمر المولى: «هل تنتظر عقابه؟» يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ و ما حذّر منه يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي تركوه، و فعلوا به فعل الناسي مِنْ قَبْلُ في الدنيا:

قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ و هناك

يعترفون بما أنكروه في الدنيا، حيث لا فائدة في الاعتراف فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا حتى نتخلص من العقاب أَوْ نُرَدُّ إلى الدنيا فَنَعْمَلَ عملا صالحا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ سابقا من المعاصي و الآثام؟ لكن ليس لهم شفيع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 189

[سورة الأعراف (7): آية 54]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)

و لا يردون، ف قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أهلكوها بالعذاب و العقاب، و أعطوها بمقابل النار، حيثما أعطى أهل الإيمان نفوسهم في مقابل الجنان، و ربحوا أكبر ربح وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أي ذهب و غاب ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي افتراؤهم على الله بالشرك، فإن الأصنام التي جعلوها شريكة لله، و كانوا يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1»، ضلت عنهم فلم يجدوها، و لا شفعت لهم هناك.

[55] ثم بيّن سبحانه أن الله واحد لا شريك له، و أنه الذي خلق و كوّن، لا شريك له في شي ء من الأمور الكونية إِنَّ رَبَّكُمُ أيها الناس اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أنشأها و كوّنها وَ الْأَرْضَ أوجدها. و لعل ذكر «السماوات» غالبا بلفظ الجمع، و «الأرض» بلفظ المفرد، مع أن كلتيهما متعددة، كما قال سبحانه: وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ «2»، أن تعدد السماوات كان مألوفا لديهم، لما يخبر به المنجمون، من أفلاك الكواكب السيارة، بخلاف تعدد الأرض، و من البلاغة أن يكلم الإنسان المخاطبين قدر عقولهم فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، و إن لم

تكن أيام ذلك الوقت، حيث لا شمس و لا قمر و لا حركة، أما مصلحة خلقها في ستة أيام مع قدرته سبحانه في

______________________________

(1) الزمر: 4.

(2) الطلاق: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 190

إنشائهما دفعة، فهي كمصلحة خلق الجنين و النبات تدريجا، مع قدرته على الإيجاد دفعة.

ثُمَ بعد خلق السماوات و الأرض اسْتَوى أي استولى عَلَى الْعَرْشِ و المراد: جعل تدبير الأمر من هناك، كما يقال:

«استوى الملك على العرش» يراد استيلائه على الملك، و «العرش» محل تشريفي خلقه سبحانه و أضافه إلى نفسه، كما خلق الكعبة في الدنيا، و جعلها بيته، و كان ذلك لألفة الأجسام بمصدر للأحكام و التوجه يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلبس النهار، و يمد رواق الليل المظلم على النهار المستنير، كما يغشي الإنسان العباءة على المصباح يَطْلُبُهُ أي يطلب الليل النهار طلبا حَثِيثاً سريعا بكل جد، كأن النهار يرفض الليل، لكن الليل يطارده مطاردة الطالب للمطلوب الهارب وَ خلق الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ في حال كونها مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فهي تسري و تدور و تشرق و تغيب حسب أمره سبحانه أَلا أي تنبهوا أيها البشر أن لَهُ سبحانه الْخَلْقُ للأشياء كلها وَ الْأَمْرُ النافذ فيها، فما يكون من تغيير و تبديل إلا بأمره و إرادته، و هكذا لا أمر صحيح في التشريعات إلا له، أما أمر سائر الآمرين، فليست لهم قيمة و اعتبار واقعي، إلا إذا كانوا تبعا لأمره تعالى تَبارَكَ اللَّهُ أي تعالى عن الشريك و سائر النقائص رَبُّ الْعالَمِينَ لا رب سواه، و لا إله إلا هو.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 191

[سورة الأعراف (7): الآيات 55 الى 56]

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَ

لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

[56] ادْعُوا رَبَّكُمْ أيها البشر تَضَرُّعاً أي تخشّعا، فإن التضرع هو التذلل و التخشّع، و هو في موضع الحال، أي في حال كونكم متضرعين وَ خُفْيَةً أي في حال الاختفاء، فإن الضراعة المخفية أقرب إلى تركيز التوحيد في النفس. و لا يخفي أن هذا في مورد، و في مورد آخر يستحب الإجهار.

فقد نزل جبرئيل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حال الحج قائلا: «إن ربك يأمرك بالعج و الثج» «1»

و «العج» من العجيج. كما أن في الروايات استحباب الإجهار بالصلوات على محمد و آله الطاهرين فإنه موجب لذهاب النفاق، و كأن الجهر و الإخفات في الدعاء، كالإعلان و الإسرار بالصدقة، الذي لكل واحد منهما مورد. و

قد روى علي بن إبراهيم أن المراد بالتضرع: العلانية،

أي: «ادعوه علانية و سرا» «2».

إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الذين يتجاوزون الحد، إنه سبحانه يحب الخشوع و الانكسار، لا التجاوز و الاعتداء.

[57] و بمناسبة كراهيته سبحانه للاعتداء يقول تعالى: وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها فإن الأنبياء و الأئمة أصلحوا الأرض بمنهاج السماء، و جعل كل شي ء في موضعه، فالتجاوز عن ذلك إفساد في الأرض و شقاء للبشر.

قال الباقر عليه السّلام: «إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله بنبيه» «3».

______________________________

(1) راجع معاني الأخبار: ص 224.

(2) نقلا عن مجمع البيان: ج 4 ص 271.

(3) الكافي: ج 8 ص 58.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 192

[سورة الأعراف (7): آية 57]

وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ

كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً أي في حال كونكم خائفين و طامعين، خوفا من عقابه و طمعا في ثوابه إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فإنكم إذا لم تفسدوا و دعوتموه خوفا و طمعا جعلكم الله من المحسنين، فتكون رحمته قريبة منكم، و ذلك يوجب استجابة دعائكم، و لطف الله بكم.

[58] وَ هُوَ الله وحده الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً أي يطلقها و يجريها لأجل البشارة بالمطر بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام رحمته- التي هي المطر- فإن الرياح إذا هبت في أيام السحاب، دلت على نزول المطر حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي حملت تلك الرياح سَحاباً ثِقالًا بالماء سُقْناهُ أي دفعنا السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ و موت البلد: تعفّي مزارعه و دروس مشاربه، لا نبات فيه، و لا عيون و أنهار فَأَنْزَلْنا بِهِ أي بالبلد، أو بالسحاب، و «الباء» على الأول بمعنى «في»، و على الثاني بمعنى «السبب» الْماءَ و هناك خلاف في تكوّن المطر، لكن ذلك لا يهم التفسير، و كيف كان فإنه بقدرة الحكيم القدير فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بسبب الماء مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ المتداولة هناك، لا أن المراد جميع أنواع الثمرات، إلا إذا أخذ الماء و السحاب بصورة عامة لا بالنسبة إلى بلد معيّن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 193

[سورة الأعراف (7): الآيات 58 الى 59]

وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)

كَذلِكَ أي كما أخرجنا بالماء الثمرات نُخْرِجُ الْمَوْتى من الأرض، فنحييهم.

و في بعض

الأحاديث «تمطر السماء ماء، فيسبب ذلك الماء إحياء الأموات، بقدرة الله سبحانه»

«1» لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ المعاد و الآخرة، و كأن «لعل» تفريع على إنبات الثمر من ماء السماء في الأرض الميتة، بأن يكون ذلك سببا لتذكيركم بالآخرة.

[59] وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ ترابه الصالح للزرع يَخْرُجُ نَباتُهُ «نبات» فاعل «يخرج»، أي يخرج زرعه حسنا ناميا بِإِذْنِ رَبِّهِ و أمره سبحانه، بلا نكد و لا عناء و لا تعب وَ البلد الَّذِي خَبُثَ ترابه بأن كان سبخا أو ما أشبه لا يَخْرُجُ النبات إِلَّا نَكِداً قليلا عسرا لا ينتفع به، و هكذا القلب الطيب ينمو فيه الخير و الفضيلة نموا سريعا ممرعا، و القلب الخبيث لا ينمو فيه الخير إلا قليلا عسرا كَذلِكَ أي كما بيّنا هذه الآية الدالة على كمال قدرة الله سبحانه نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نقلبها و نبيّنها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ أي للشاكرين الذين يشكرون نعم الله سبحانه، فإنهم المنتفعون بتصريف الآيات، فغاية التصريف لهم دون غيرهم.

[60] و إذ تمّ الدليل على وجوده سبحانه بما له من الصفات، و أنه لا شريك له، يأتي الكلام حول الأنبياء السالفين الذين بلغوا

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار ج 7 ص 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 194

[سورة الأعراف (7): الآيات 60 الى 62]

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)

رسالات ربهم، و لم يقبل قومهم منهم، فأخذوا بالعذاب، كما سبق في أول السورة «وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ حيث كان القوم يعبدون الأصنام

و الأوثان ما لَكُمْ أي ليس لكم مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فهو خالقكم الذي لا شريك له إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أيها القوم، إن لم تؤمنوا عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إما المراد يوم القيامة، أو عذابهم في الدنيا بالطوفان.

[61] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف، و سمّوا به لأنهم يملأون العيون و الصدور هيبة و جمالا: إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح حيث تذر الأصنام و تعبد الإله الذي لم تره.

[62] قالَ نوح لهم: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ فلم أضلّ طريق الحق وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي يملك كل شي ء فهو رب كل شي ء، و ما لشي ء سواه ملك، فلا شريك له.

[63] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي أي أؤدّي إليكم ما أمرني ربي بتبليغه، و إنما جمعت الرسالات، باعتبار كل وحي وحي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ أي أنصح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 195

[سورة الأعراف (7): الآيات 63 الى 64]

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)

لفائدتكم وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ من أمره و نهيه، و من صفاته و آثاره، و من ثوابه و عقابه ما لا تَعْلَمُونَ فاتبعوني حتى أهديكم إلى الحق.

[64] و قد كان القوم يبدون التعجب من أقوال نوح عليه السّلام، كيف يدّعي هذا المنصب الخطير؟ و كيف يخبر عن أشياء لم يعلموها؟ فكان يقول لهم: أَ وَ عَجِبْتُمْ الهمزة للاستفهام، أي هل تتعجبون أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي بشر من جنسكم لِيُنْذِرَكُمْ و يخوّفكم من عذاب الله إن

تمردتم و كفرتم وَ لِتَتَّقُوا أي جاءكم الذكر لتتقوا و تجتنبوا عقاب الله و الكفر و المعاصي وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي يرحمكم ربكم؟

[65] فَكَذَّبُوهُ أي كذب القوم نوحا عليه السّلام فيما دعاهم إليه، حتى أنهم كانوا يوسعونه ضربا، و كان الرجل يأتي بابنه إلى نوح، و يقول له: يا بني لا تؤمن بهذا فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ آمنوا مَعَهُ و في بعض الروايات: أنهم كانوا ثمانية- فِي الْفُلْكِ أي السفينة، حيث أمره الله سبحانه فعمل سفينة و ركب هو و المؤمنون فيها، ثم أمطرت السماء، و تفجرت العيون، حتى أخذ الماء وجه الأرض، و هلك الكفار بأجمعهم، ثم يبست الأرض و خرج نوح و المؤمنون، يعمرون الأرض بتقوى الله من جديد وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا الدالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 196

[سورة الأعراف (7): الآيات 65 الى 66]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66)

على التوحيد و النبوة و المعاد إِنَّهُمْ أي المكذبون كانُوا قَوْماً عَمِينَ يقال: «رجل عم» إذا كان أعمى القلب، و رجل أعمى إذا كان أعمى البصر، و ستأتي جوانب أخرى من قصة نوح عليه السّلام في بعض السور الآتية، كسورة هود و غيرها، و حيث كان المقصود في الكتاب تفسير الآيات- حسب ظواهرها- نطوي القصة طيا.

[66] وَ أرسلنا إِلى عادٍ أي قبيلة عاد، من أحفاد نوح عليه السّلام أَخاهُمْ في النسب هُوداً و هو من أحفاد نوح عليه السّلام، و قد كان هود النبي من نفس القبيلة ليكون أقرب إلى القبول،

فإن غالب النفوس تأبى عن إطاعة غير بني قومهم قالَ هود لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فإن الأصنام ليست بآلهة أَ فَلا تَتَّقُونَ استفهام إنكاري، أي لماذا لا تتقون الشرك و المعاصي؟

[67] قالَ الْمَلَأُ الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ و التعبير ب «كفروا» إما لتجريد الفعل عن معنى الحدوث، و إما باعتبار الفطرة الإيمانية، كما

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة»

«1»، و إما باعتبار المجموع فإن قومه- إذا اعتبروا من زمان نوح عليه السّلام- كان فيهم بعض المؤمنين إِنَّا لَنَراكَ أي نعلمك، يا هود فِي سَفاهَةٍ فأنت سفيه، و «السفيه» هو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 2 ص 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 197

[سورة الأعراف (7): الآيات 67 الى 69]

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

الذي ليس له ملكة إصلاح لنفسه أو ماله وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فتكذب في دعوى النبوة، و أنه ليس للعالم إلّا إله واحد.

[68] قالَ هود عليه السّلام في جوابهم: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ فإني لست سفيها و هل السفيه من ينطق بالحق الذي دلّ عليه العقل و الفطرة؟! وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ و كلام السفيه غير كلام الرسول العاقل.

[69] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي أؤدّي إليكم ما أوحى إليّ من الرسالات، و الجمع باعتبار كل رسالة

رسالة في مختلف الأصول و الفروع وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أنصحكم لئلّا تقعوا في العقاب و العذاب أَمِينٌ في تأدية الرسالة فلا أكذّب و لا أغيّر.

[70] و حيث كان القوم يظهرون عجبهم من رسالة هود عليه السّلام قال لهم:

أَ وَ عَجِبْتُمْ أي هل تتعجبون أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ و وحي مِنْ قبل رَبِّكُمْ عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ من قبيلتكم لِيُنْذِرَكُمْ و يخوّفكم من بأس الله سبحانه وَ اذْكُرُوا أيها القوم نعمة الله عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ في الأرض، أي تخلفون من سبقكم في أموالهم و مساكنهم مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فقد أهلكهم و أتى بكم مكانهم، أ فلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 198

[سورة الأعراف (7): الآيات 70 الى 71]

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

تخافون أن يصيبكم ما أصابهم، أم لا تشكرون ما وهب الله لكم من البلاد و الأموال وَ زادَكُمْ الله سبحانه فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً هيكلا و قوّة. فقد كانوا أقوياء ذوي هياكل كبيرة عظيمة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ آلاء جمع «إلى» بمعنى «النّعم» لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون بنعيم الدنيا و سعادة الآخرة.

[71] قالُوا أي قال قوم هود: أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ بلا شريك وَ نَذَرَ أي ندع عبادة ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، و كيف يكون هذا؟ فإنّا لن نترك الأصنام فَأْتِنا أي ادع ربك ليأتينا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنه إن لم نؤمن

نزل علينا العذاب.

[72] قالَ هود عليه السّلام لقومه: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي وجب أن يقع- فإن المستقبل المتحقق الوقوع ينزّل منزلة الماضي- مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ أي عذاب وَ غَضَبٌ حيث لم تؤمنوا بعد إتيان الحجة، و وضوح الأدلة، و حيث أن الله سبحانه منزّه عن الأحوال الزائدة، كان المراد ب «غضب» عاقبة الغضب، و هو العذاب، كما قيل: «خذ الغايات و اترك المبادئ».

و عليه فالفرق بين الرجس و الغضب أن الثاني أعم من الأول.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 199

[سورة الأعراف (7): الآيات 72 الى 73]

فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)

ثم ذكر هود عليه السّلام بطلان أصنامهم قائلا: أَ تُجادِلُونَنِي أي هل أنتم تناظرون معي و تخاصمونني فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ أي في أصنام سميتموها أنتم ربّا، و إلا فهي أحجار منحوتة، و إنما قال «في أسماء» إشارة إلى أن ربوبيتها مجرد اسم لا أكثر ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها أي بتلك الأصنام و الأسماء مِنْ سُلْطانٍ أي من دليل دال على كونها تصنع شيئا، أو كونها آلهة و أربابا. و قد كان الاحتجاج منه عليه السّلام قويا جدا، إذ مدعي الآلهة الزائدة يحتاج إلى دليل و برهان فَانْتَظِرُوا عذاب الله و نكاله إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزول العذاب بكم، و سترون صدق مقالتي.

[73] فجاء العذاب الموعود إليهم، و ذلك أنه سبحانه ساق إليهم سحابة

أمطرتهم بالعذاب حتى هلكوا جميعا و أنجيناه أي هودا عليه السّلام وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا فلقد كان عليه السّلام و المؤمنون في حظيرة لا يمرّ بهم العذاب وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا «الدابر» الأصل، أي قطعنا أصلهم، كما يقطع أصل الشجرة، و ذلك كناية عن إهلاكهم بأجمعهم وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ أي لم يكونوا ليؤمنوا من بعد، فقد عرفنا حالهم، و علمنا نواياهم و ضمائرهم و مستقبلهم.

[74] وَ أرسلنا إِلى ثَمُودَ و هي قبيلة من آل رجل يسمى «ثمود» من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 200

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 249

أحفاد نوح عليه السّلام أَخاهُمْ في النسب صالِحاً حيث كان صالح من نفس القبيلة قالَ صالح عليه السّلام لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده و لا تشركوا به شيئا ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فتعبدوه معه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي دلالة و معجزة مِنْ رَبِّكُمْ شاهدة على صدق ادعائي للنبوة هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة إلى الله تشريفية، كإضافة مكة إلى الله يقال: «بيت الله»، و إضافة دم الحسين عليه السّلام إلى الله، يقال: «ثار الله» لَكُمْ آيَةً دالة على صدق كلامي.

و قد كان من قصة صالح ما

ورد: أنه بعث إلى قومه و هو ابن ست عشرة سنة فلبث فيهم حتى بلغ عشرين و مائة سنة لا يجيبونه إلى خير، و كان لهم سبعون صنما، يعبدونها من دون الله، فقال لهم: إن شئتم فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم فيما سألتموني الساعة، و إن شئتم سألت آلهتكم، فإن أجابتني بالذي أسألها خرجت عنكم، فقد سئمتكم و سئمتموني، فقالوا: قد أنصفت، فدعاها كلها بأسمائها فلم يجبه منها شي ء فنحّوا بسطهم و فرشهم و

ثيابهم و تمرغوا على التراب و طرحوا التراب على رؤوسهم، و قالوا لأصنامهم: لئن لم تجيبوا صالحا اليوم لنفتضحنّ، ثم دعوه فقالوا: يا صالح ادعها، فدعاها فلم تجبه. قال صالح: فاسألوني حتى أدعو إلهي يجبكم الساعة، فقالوا: ادع لنا ربك يخرج لنا من هذا الجبل الساعة ناقة حمراء شقراء و براء عشراء بين جبينها ميل، فقال لهم: سألتموني شيئا يعظم عليّ و يهون على ربي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 201

[سورة الأعراف (7): آية 74]

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)

تعالوا، فسأل الله ذلك، فانصدع الجبل صدعا كادت تطير منه عقولهم لما سمعوا ذلك، ثم اضطرب ذلك الجبل اضطرابا شديدا كالمرأة إذا أخذها المخاض، ثم لم يفاجئهم إلا رأسها قد طلع عليهم من ذلك الصدع فما استتمّت رقبتها حتى اجترّت، ثم خرج سائر جسدها، ثم استوت قائمة على الأرض، فلما رأوا ذلك قالوا: يا صالح ما أسرع ما أجابك ربك، ادع لنا يخرج لنا فصيلها، فسأل الله ذلك فرمت به فدبّ حولها، فقال لهم: يا قوم أبقي شي ء؟ قالوا: لا، انطلق بنا إلى قومنا نخبرهم بما رأينا و يؤمنون بك. قال الراوي: فرجعوا فلم يبلغ السبعون إليهم حتى ارتد منهم أربعة و ستون رجلا، و قالوا: سحر و كذب.

قال: فانتبهوا إلى الجميع فقال الستة: حق، و قال الجميع: كذب و سحر، فانصرفوا على ذلك ثم ارتاب واحد فكان فيمن عقرها «1».

فَذَرُوها أي دعوها و اتركوها و شأنها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ من نبات الأرض وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ و أذية فَيَأْخُذَكُمْ

أي ينالكم و يصيبكم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[75] وَ اذْكُرُوا نعمة الله عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ في الأرض بأن أورثكم إياها و مكّنكم فيها مِنْ بَعْدِ عادٍ الذين أهلكوا حيث عصوا ربهم وَ بَوَّأَكُمْ أي جعل لكم بيوتا و مساكن فِي الْأَرْضِ بحيث

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 11 ص 377.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 202

[سورة الأعراف (7): آية 75]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)

تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها أي سهول الأرض قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً و هذه نعمة كبري إذ جعل لكم الأرض ذلولا سهولها و جبالها فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعم الله عليكم، و قد تقدم أن «آلاء» جمع «إلى» بمعنى النعمة وَ لا تَعْثَوْا أي: لا تطغوا و تسعوا، من «العثا» بمعنى شدة الفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فلا تثيروا الفساد في الأرض.

[76] قالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن قبول الحق، و رفعوا أنفسهم عن ذلك مِنْ قَوْمِهِ أي من قوم صالح لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي للمؤمنين الذين نظر إليهم المستكبرون بنظر الضعف و الضعة لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله: «لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا و إنما جي ء به لئلّا يظن أن المراد «المستضعف في الدين»-: أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ و أنه رسول من الله.

و كان هذا السؤال منهم مقدمة لكلامهم أنهم غير مؤمنين به قالُوا أي: المؤمنون: إِنَّا بِما أُرْسِلَ صالح بِهِ مُؤْمِنُونَ فنعتقد بإله واحد و برسالته و بما جاء به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 203

[سورة الأعراف (7): الآيات 76 الى 77]

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ

(76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)

[77] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا السائلون- بعد سماعهم لكلام المؤمنين-:

إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ من التوحيد و الرسالة كافِرُونَ جاحدون منكرون.

[78] فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي: قتلوها، و «العقر» الجرح الذي يأتي على أصل النفس.

ورد أن الله أوحى إلى صالح عليه السّلام: قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة من الماء شرب يوم، و لكم شرب يوم، فكانت الناقة إذا كان يوم شربها شربت ذلك اليوم، فيحلبونها فلا يبقى صغير و لا كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك، فإذا كان الليل و أصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم و لم تشرب الناقة ذلك اليوم، فمكثوا بذلك إلى ما شاء الله ثم أنهم عتوا على الله و مشى بعضهم إلى بعض و قالوا: اعقروا هذه الناقة و استريحوا منها لا نرضى أن يكون لها شرب يوم و لنا شرب يوم، فجعلوا حبلا لرجل أحمر أشقر أزرق من ولد الزنا لا يعرف له أب يقال له: «قدار» شقي من الأشقياء مشؤوم عليهم فقتلها و هرب فصيلها، و اقتسموا لحمها فيما بينهم، فأوحى الله إلى صالح: قل لهم: إني مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيام، فإن تابوا و رجعوا قبلت توبتهم عنهم، و إن لم يتوبوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث «1».

وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي تجاوزوا الحد في الفساد وَ قالُوا

______________________________

(1) الكافي: ج 8 ص 187.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 204

[سورة الأعراف (7): الآيات 78 الى 79]

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ

لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب على قتل الناقة و البقاء في الكفر إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ثم أخبر سبحانه بما حلّ بهم من العذاب.

[79] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ «الرجف» الاضطراب فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي في محلهم، يقول الحاضر: «أنا في داري» أي بلدي و محلتي جاثِمِينَ أي صرعى ميّتين ساقطين لا حركة لهم.

ورد أن صالح لما وعدهم بالعذاب و أمهلهم ثلاثة أيام، قال صالح عليه السّلام: إنكم تصبحون وجوهكم مصفرّة، و اليوم الثاني محمرة، و الثالث مسودة. فجاءهم ما قاله لهم فلم يتوبوا و لم يرجعوا، فلما كان منتصف الليل أتاهم جبريل فصرخ بهم صرخة خرقت أسماعهم و فلقت قلوبهم و صدعت أكبادهم.

و في بعض التفاسير: إن النار كانت تصحب الصيحة حيث أخذتهم. و لعل تسمية ذلك بالرجفة لأجل الاضطراب الحاصل للإنسان حينما يسمع صيحة مهولة «1».

[80] فَتَوَلَّى أي أعرض صالح عليه السّلام عَنْهُمْ حين رأى إصرارهم على الكفر وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ أدّيت النصح الذي يسعدكم في دنياكم و أخراكم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 296.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 205

[سورة الأعراف (7): الآيات 80 الى 81]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)

وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فلا تقبلون نصحي. و لعل سر تأخير هذه الجملة، عن جملة «فأخذتهم الرجفة» مع تقديمها في ظرف الوقوع عليها، إيهام السياق سرعة الخاتمة، حتى لا يكون فصل بين الإعراض و بين العذاب في اللفظ، و هذا من فنون البلاغة، لكن حيث

أن مصير صالح عليه السّلام لم يعلم مما قبل، استأنف السياق ذكر مصيره و أنه نفض يديه منهم، و تركهم ليلاقوا ما جلبوه على أنفسهم، دونه.

[81] وَ اذكر لُوطاً و لعلّ اختلاف السياق هنا عمّا سبقه، حيث كان يقول: «و إلى»، تنبيه عدم التعرض لمن توسطهما من الأنبياء، كإبراهيم عليه السّلام الذي كان معاصرا للوط، و إنما لم يذكر إبراهيم عليه السّلام لعله لعدم نزول عقاب على قومه كما نزل على قوم لوط، و قوم الأنبياء السابقي الذكر إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ؟

على نحو الاستفهام الإنكاري، و المراد ب «الفاحشة» المعصية المتجاوزة للحدود، و هي اللواط بالرجال ما سَبَقَكُمْ بِها أي بهذه الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ فإن قوم لوط أول من تعاطى هذا العمل الشنيع.

[82] إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً أي إتيانا شهويا، فإن لفظ «أتى» بدون هذا القيد «الشهوة» يكون بمعنى «جاء» مِنْ دُونِ النِّساءِ فلا تأتون المباح، و تأتون المحرّم، و لعلّ عدم الإتيان لهن كان أيضا محرما، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 206

[سورة الأعراف (7): الآيات 82 الى 84]

وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

أنه كذلك عندنا، بعد أربعة أشهر بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ متجاوزون في الظلم و الفساد، فإن الإسراف بمعنى التجاوز.

[83] وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي جواب القوم للوط عليه السّلام الذي كان ينهاهم عن اللواط إِلَّا أَنْ قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَخْرِجُوهُمْ أي أخرجوا لوطا و أهله مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي مدينتكم، و هي «سدوم» إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي

يتحرّجون عن هذا العمل، من أجل الطهارة و النزاهة.

[84] فَأَنْجَيْناهُ أي خلصنا لوطا وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ من العذاب النازل بقومه، حيث أمرناهم بالسير و الفرار من المدينة، ففروا جميعا إلا زوجته كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في قومه المتخلفين عن لوط، و إنما بقيت و هلكت لأنها كانت على طريقتهم، كما قال سبحانه في آية أخرى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما «1»، إذ لم تؤمنا بما آمن به زوجيهما.

[85] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي أرسلنا عليهم الحجارة كالمطر، كما قال

______________________________

(1) التحريم: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 207

[سورة الأعراف (7): آية 85]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

تعالى في آية أخرى: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «1»، ثم قلبت مدينتهم حتى جعل عاليها سافلها فَانْظُرْ أي فاعلم يا رسول الله، أو أيها الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ المرتكبين للسيئات.

[86] وَ أرسلنا إِلى مَدْيَنَ هم قبيلة سميت باسم جدّهم «مدين» حفيد إبراهيم عليه السّلام أَخاهُمْ شُعَيْباً و هو من أحفاد إبراهيم عليه السّلام، فهو أخ القبيلة قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ من الأصنام التي تبعدونها قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ دلالة واضحة تدل على صدقي. و الظاهر أن المراد «المعجزة»، فإن الأنبياء كانوا مزوّدين بالإعجاز فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ أخذا و عطاء، فلا تأخذوا زائدا و

لا تعطوا ناقصا وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ من «بخس» بمعنى «نقص» أَشْياءَهُمْ أي لا تعطوهم ناقصا حيث إن الشي ء المباع هو ملك المشتري، فيكون الشي ء للناس، و لذا أضيف إليهم وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بأن

______________________________

(1) الحجر: 75.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 208

[سورة الأعراف (7): آية 86]

وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

تعملوا بالمعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها لا يراد بذلك الإصلاح التام، بل المعنى أن لا تأتوا بالفاسد مكان الصالح، فإن الفساد إنما يتدرج إلى المجتمع، أو المراد: لا تفسدوا بعد ما أصلح الأنبياء الأرض.

ذلِكُمْ الذي أمرتكم به من إتيان الواجبات و ترك المحرمات خَيْرٌ لَكُمْ أي أنفع مما أنتم فيه، و كأن الإتيان بصفة التفضيل في أمثال المقام، للفضل المتوهم في الطرف الآخر، مثلا: كان هؤلاء يزعمون أن ما يعملونه في الفضل، فقيل لهم: إن ما تدعون إليه خير إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و هؤلاء و إن لم يكونوا مؤمنين لكن الشرط في أمثال المقام مرتبط بفعل مقدر، أي إن كنتم مؤمنين لعلمتم أنه خير لكم- كما ذكره أهل الأدب-.

[87] وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ فإنهم كانوا قطاع طرق، يقعدون في الطرق، يوعدون الناس بالقتل و الإيذاء إن لم يرضخوا للنهب و السلب وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي تمنعون عن إيمان الناس، فقد كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بشعيب مَنْ آمَنَ بِهِ أي من أراد الإيمان، أو المراد صد المؤمنين عن القيام بوظائف الإيمان وَ تَبْغُونَها أي تطلبون السبيل عِوَجاً أي تريدون الطريق المعوجّ، و لا تريدون الطريق المستقيم،

أو المراد تتصيدون الاعوجاج لسبيل الله تعالى، فإن أهل الباطل دائما يفكرون في نقد الحق، حتى يروه للناس أعوج.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 209

[سورة الأعراف (7): آية 87]

وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)

وَ اذْكُرُوا أيها القوم إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا في العدد فَكَثَّرَكُمْ الله فإن جدّهم «مدين» كان واحدا، ثم كثروا، كما هو شأن كل قبيلة، فاشكروا أيها القوم هذه النعمة وَ انْظُرُوا تفكروا و تدبروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم التي تقدمتكم، حيث أهلكت بعذاب الله سبحانه لما فسدوا و أفسدوا و خالفوا أوامر الله سبحانه، فخافوا أيها القوم نكال الله و عقابه.

[88] و لا يغرّنكم أيها القوم تفرق الناس عني بين مؤمن و كافر، فإن المصلحين يتفرّق الناس عنهم فرقتين دائما، و قبل شروعهم في الإصلاح، و يكون الناس حولهم فرقة واحدة موالية، و لا يخفى أن هذا لا يكون سببا لأن يزعم كل من تفرّق الناس عنه فرقتين أنه مصلح و على حق، فإن العاقبة للحق و الضمائر تشهد بالصدق و الكذب، و هاتان علامتان مميزتان بين المحق و المبطل، و لذا تمسك شعيب عليه السّلام بقوله: «فاصبروا».

وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ بأن صدقوني و قبلوا رسالتي وَ طائِفَةٌ أخرى لَمْ يُؤْمِنُوا بل جحدوا و بقوا على كفرهم فَاصْبِرُوا أيها القوم، المؤمن منكم و الكافر حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا في الدنيا بإعلاء كلمة الدين و إبطال كلمة الكافرين، أما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 210

الآخرة فهو شي ء واضح وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه لا يجور في الحكم، عن

عمد أو غير عمد، بل يعطي كل ذي حق حقه، وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ «1».

______________________________

(1) الأنبياء: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 211

تقريب القران الى الأذهان الجزء التّاسع من آية 89 من سورة الأعراف إلى آية 41 من سورة الأنفال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 212

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 213

[سورة الأعراف (7): الآيات 88 الى 89]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)

[89] قالَ الْمَلَأُ جماعة الأشراف الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا رفعوا أنفسهم فوق مقدارها و عتوا و طغوا مِنْ قَوْمِهِ أي من قوم شعيب لَنُخْرِجَنَّكَ بكل تأكيد يا شُعَيْبُ وَ لنخرجنّ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أي بلدنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا «الملّة» هي الطريقة، أي ارجعوا كفارا كما كنتم، و العود في الملة إما باعتبار الغالب، فأدخل فيه شعيبا عليه السّلام تغليبا، فإن المؤمنين به كانوا كفارا ثم آمنوا، أو لزعمهم أن شعيبا عليه السّلام كان منهم حيث كان أحدهم قبل ادّعاء النبوة، و إما بمعنى الصيرورة، فإن «عاد» يستعمل بمعنى «صار»، كما قال الشاعر:

تلك المكارم لا

ثعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

قالَ شعيب عليه السّلام لهم: أ تعيدوننا في ملتكم و تدخلوننا إليها أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ للدخول فيها؟ أي: أ تجبروننا على ذلك؟ و لعل القصد: إنكم لا تقدرون على ذلك في حين كراهيتنا لذلك، فإن العقائد لا تزول بالإكراه و الإجبار.

[90] ثم قال شعيب: إنه من المستحيل أن نتخذ طريقتكم، إذ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بأن نجعل لله شريكا، و نحلّل حرامه، و نحرّم حلاله و ننسب كل ذلك إليه بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 214

بأن أوضح الحق و أقام الحجة عليه وَ ما يَكُونُ لَنا أي لا يجوز لنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا و هذا من التعليق على المحال، لأن الله لا يشاء الكفر و العصيان، كما قال: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «1»، و قال: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «2»، أو المراد مشيئة الله بسلب التوفيق منهم، و هذا ممكن بالنسبة إلى بعض المؤمنين الذين لا رسوخ لإيمانهم، كما ارتد بعضهم بعد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و حيث أن العود بالنسبة إلى كل واحد واحد صح ذلك وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أي وسع علمه سبحانه كل شي ء، فهو أعلم بالصلاح و أعلم بالواقع و الحقيقة، فما كان من عبادتنا لتوحيده، بأمره و نهيه، هو الصحيح دون ما أنتم عليه من الشرك و العناد عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أمورنا، فلا نخاف من تهديدكم بإخراجنا.

ثم دعا شعيب عليه السّلام قائلا: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ و معنى «الفتح» النجاة و

وضوح الحق، إذ الواقع في المشكلة كأن الطريق مسدود أمامه، كما أن من يريد الهداية يرى الضلال حاجزا، فيطلب الفتح لهذا الحاجز و إزالته ليرى الحق، و قيد «بالحق» توضيحي، لإفادة أن فتحه سبحانه بالحق، أو احترازي لأن الفتح يطلق على الفتح بالباطل- كما يفتح الكافر مدينة ما- و الفتح بالحق وَ أَنْتَ يا إلهنا

______________________________

(1) الزخرف: 82.

(2) الأعراف: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 215

[سورة الأعراف (7): الآيات 90 الى 91]

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91)

خَيْرُ الْفاتِحِينَ فإن سائر الفاتحين قد يظلم عمدا أو خطأ أو جهلا، أما الله سبحانه فلا يحيد فتحه عن الحق، قيد شعرة.

[91] ثم بيّن سبحانه ما قالت جماعة شعيب بعضهم لبعض وَ قالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي من قوم شعيب، بعضهم لبعض: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً في دينه و طريقته إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ خسرتم منافعكم و طريقة آبائكم.

[92] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة، أو الصيحة، الموجبة للرجف و الاضطراب فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي محلهم و بلدهم جاثِمِينَ أي ميتين ملقين لا حراك فيهم.

في المجمع: قيل: أرسل الله عليهم رمدة «أي هلاكا جعلهم كالرماد» و حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت، فدخل عليهم البيوت، فلم ينفعهم ظل و لا ماء و أنضجهم الحرّ، فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح و طيبها و ظل السحابة فتنادوا: «عليكم بها» فخرجوا إلى البرية فلما اجتمعوا تحتها ألهبها الله عليهم نارا و رجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي و صاروا رمادا و هو عذاب يوم الظلّة «1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج

4 ص 309.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 216

[سورة الأعراف (7): الآيات 92 الى 93]

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

ثم

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه بعث الله عليهم صيحة واحدة فماتوا» «1».

[93] الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً و لم يؤمنوا به و برسالته كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا «غنى بالمكان» يعني: «أقام فيه» أي: كأن المكذبين لم يقيموا في دارهم أصلا، حيث ذهبت أخبارهم و آثارهم الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً عاد اللفظ تأكيدا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ فقد خسروا دينهم و دنياهم و آخرتهم، و هذا في قبال قولهم: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ

[94] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ شعيب، أي أعرض عنهم، إما قبل الهلاك- و تأخير هذه الجملة لما تقدم في قصة قوم صالح- و إما حين الهلاك إذ أخذهم العذاب وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي و جمع «رسالات» باعتبار كل رسالة من مختلف الشؤون وَ نَصَحْتُ لَكُمْ بأن تتبعوني حتى تكونوا في أمن و سلامة فَكَيْفَ آسى أي أحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ بعد أن قمت بواجب النصح و الإرشاد. و المراد بالاستفهام «كيف» النفي، أي: لا أحزن، فإنهم استحقوا العقاب بإعراضهم و استكبارهم و تمرّدهم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 383.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 217

[سورة الأعراف (7): الآيات 94 الى 95]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً

وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)

[95] ثم ذكر سبحانه أنه هكذا جرت عادة الناس بالنسبة إلى الأنبياء، و هكذا جرت سنة الله بالنسبة إلى المكذبين، تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إيقاظا لمن أراد القيام بالأمر و النهي في سبيل الله تعالى وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ المراد بها المدينة مِنْ نَبِيٍ لإرشادهم، فلم يؤمنوا به إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها أي أهل تلك القرية بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ البأساء: الشدة، و الضراء: سائر أنواع الضرر لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي يتضرعون، بأن يتنبهوا و يتوبوا عن شركهم و كفرهم و معاصيهم.

[96] ثُمَ بعد أخذهم بالبأساء و الضراء بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ بأن رفعنا عنهم الشدة و جعلنا الرفاه و الرخاء مكانها لعلهم يشكرون، كما قال سبحانه: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ «1»، فإن الله سبحانه يوقظ العصاة أولا بالشدة، فإن لم تنفع يوقظهم بالرفاه، فإن لم ينفع عذّبهم، حيث لم يفدهم لا الخوف و لا الإحسان حَتَّى عَفَوْا «العفو» هو:

الإغضاء عن الذنب، أي فعلوا الذنوب غاضّين عنها، تاركين أنفسهم و شهواتها.

وَ إذا قيل لهم: إن الشدة و الرخاء للابتلاء و الإيقاظ، لم يصدقوا، بل قالُوا: هذه عادة الدنيا دائما ف قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ

______________________________

(1) الأنعام: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 218

[سورة الأعراف (7): آية 96]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)

وَ السَّرَّاءُ ما يضر من الشدائد، و ما يسر من الرفاه، و ليسا للابتلاء و الإيقاظ فانسدت جميع أبواب الهداية في وجوههم، و لم ينفعهم إرشاد الأنبياء، و لا الضراء و لا السراء فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي فجأة بدون إمهال

وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بالعذاب إلّا حين يرونه، و ربما كان هناك احتمال إقلاع، و هنا يأتي العذاب تدريجيا، كما حصل لقوم يونس عليه السّلام، أو إبلاغا للحجة إلى أقصاها، كما صنع بقوم صالح عليه السّلام.

ثم إن المؤمن و الكافر كلاهما يبتليان بالضراء و السراء، لكن هناك فرق؛ فضراء المؤمن مع صبر و ارتياح، و ضراء الكافر مع جزع و كمد، و سراء المؤمن مع بركة و أمن و اطمئنان، و سراء الكافر مع محق و قلق و اضطراب.

[97] وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا بالله تعالى و بأنبيائه وَ اتَّقَوْا معاصيه و عملوا الصالحات لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ «البركات» الخيرات النامية، و فتح الخير من السماء بكثرة الأمطار، و طيب الهواء، و فتحه من الأرض بإخراج النبات و الثمار، و تفجّر العيون، إلى غيرهما من الخيرات المادية و المعنوية كاستجابة الدعاء و نحوها، و هذا إلى جنب كونه معنويا بلطفه سبحانه، كذلك يكون بالأسباب الظاهرة، فإن الإيمان و التقوى يوجبان سيادة مناهج الله تعالى و هي توجب الأخوة و التعاون مما يسببان ازدهار الحياة و تعميم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 219

[سورة الأعراف (7): الآيات 97 الى 99]

أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)

الرفاه و الأمن، كما أن الكفر و العصيان سببان لعكس ذلك وَ لكِنْ كَذَّبُوا الرسل و لم يؤمنوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كسبهم المعاصي و الآثام.

[98] ثم ذكر سبحانه أن أهل المعاصي لا بد لهم

أن يترقبوا العقاب و النكال أَ فَأَمِنَ أي هل يأمن أَهْلُ الْقُرى المكذبون للرسل العاصون لله سبحانه أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي ليلا وَ هُمْ نائِمُونَ في أمن و راحة و اطمئنان؟ و المعنى: أنهم يجب أن لا يأمنوا ذلك.

[99] أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى الهمزة للاستفهام، و الواو للعطف، أي و هل يأمن أهل البلاد أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا نكالنا و عقابنا ضُحًى نهارا عند ارتفاع الشمس وَ هُمْ يَلْعَبُونَ في أمن و اطمئنان، أنهم إن عصوا فلن يكونوا آمنين في أحسن أوقات أمنهم ليلا و لا نهارا.

[100] أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ المكر: العلاج الخفي، و إن غلب استعماله عرفا في معالجة الأشياء بالباطل، أي يجب أن لا يأمن أحد من مكر الله، و تسبيبه الأسباب للنكال به فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم، و لا ينكرون من أمرهم، و إلا فالمؤمنين يخافون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 220

[سورة الأعراف (7): الآيات 100 الى 101]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101)

سوء العاقبة الموجب للنكال و العقاب، و المعصومون خارجون عن العموم لأن مصب الكلام حول العصاة- فإنه عبارة أخرى عن وجوب حذر العصاة- أو داخلون باعتبار احتمال صدور ترك الأولى منهم، الموجب لعدم بلوغ بعض الدرجات الرفيعة، كما قال سبحانه: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «1».

[101] أَ وَ لَمْ

يَهْدِ أي: ألم ينبّه و يرشد لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي الذين صاروا خلفاء لآبائهم و أجدادهم، من بعد ما أفنينا أولئك، و أبحنا الأرض لهؤلاء، أي أليس يعرف الناس مما رأوه من عذاب الأمم السابقة- حينما عصوا- أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ و أخذناهم بِذُنُوبِهِمْ كما أهلكنا الأمم السابقة وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ بأن نعلمها بعلامة الكفر، أو نغفلها حتى لا تعقل شيئا، و ذلك بسبب اقترافهم الجرائم و الآثام- كما سبق- فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الوعظ و لا يقبلونه.

[102] تِلْكَ الْقُرى التي هلكت و اضمحلت نَقُصُّ عَلَيْكَ يا رسول الله مِنْ أَنْبائِها أي أخبارها لتنظر فيها بنظر الاعتبار، و تخبر بها المسلمين و غير المسلمين حتى يعتبروا وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي الأدلة

______________________________

(1) طه: 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 221

[سورة الأعراف (7): الآيات 102 الى 103]

وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

الواضحة الدالة على المرسل و الرسول فأهلكناهم لأنهم تمادوا في غيهم و لم يكن احتمال إقلاعهم عن كفرهم و عصيانهم إذ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ إنهم كانوا كذلك حسب علمنا بكامن قلوبهم كَذلِكَ أي كما طبع على قلوب هؤلاء، بمعنى أنها لم تكن قابلة للهداية بسوء صنيعها، كمن صارت المعصية ملكة له فلا يقدر عادة على تركها كذلك يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ و قد مرّ مرارا معنى «الطبع» و أنه بسوء اختيار الشخص، لا أنه ظلم من الله- تعالى عن ذلك- بالنسبة إلى الكافر.

[103] وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي أكثر الذين أهلكوا مِنْ

عَهْدٍ أي كانوا ينقضون العهود و المواثيق، يقال: «لا عهد لفلان»، أي لا يفي بعهده، و المراد ب «العهد»، إما ما أودع في فطرة كل أحد من الإيمان، و إما ما كان مأخوذا من الناس على لسان الأنبياء، و تصح نسبة عدم العهد إلى الأبناء، بملاحظة التعهد مع الآباء، و لذا من عاهد قبيلة أن لا يحاربها خمسين سنة، كان الأبناء ملزمين بما التزم به آباؤهم وَ إِنْ وَجَدْنا أي قد وجدنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ خارجين من الوفاء بالعهد، فإن الفسق بمعنى الخروج عن الطاعة.

[104] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد الرسل الذين تقدمت أسماؤهم، أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 222

[سورة الأعراف (7): الآيات 104 الى 105]

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105)

بعد هلاك الأمم السالفة مُوسى عليه السّلام بِآياتِنا أي مع دلائلنا و حججنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي قومه، أو الأشراف منهم، و إنما خصّوا لأنه عليه السّلام قصدهم أولا و بالذات فَظَلَمُوا أي ظلم فرعون و ملأه أنفسهم بِها أي بسبب تلك الآيات، فإن نزولها صار سببا لظلم أنفسهم، و لو لا أنها نزلت لم يظلموا، لأنه لم تكن حينئذ شريعة أصلا، و هذا مجاز في النسبة كقوله سبحانه: وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «1»، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر يا رسول الله، أو كل من يأتي منه النظر، و المراد ب «النظر» التدبر و التفكر، فيما آل إليه أمر المفسدين، من الهلاك و الغرق.

[105] وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي

إني رسول إليك، من الله تعالى، و قد كان فرعون يقول أنه الإله، كما قال سبحانه: فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «2».

[106] حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ أي واجب عليّ أن أقول الحق، و لا أنسب إلى الله إلّا الصدق، فإن الجدير بالنبي أن يقول ما قاله سبحانه، لا أن ينسب إليه تعالى الباطل و الكذب قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ

______________________________

(1) الإسراء: 83.

(2) النازعات: 24 و 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 223

[سورة الأعراف (7): الآيات 106 الى 108]

قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

مِنْ رَبِّكُمْ أي بحجة دالة على صدق كلامي، و المراد بها الجنس لا حجة واحدة فَأَرْسِلْ يا فرعون مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ فإن فرعون كان قد سخّر بني إسرائيل للأعمال كالبناء و نحوه. و المراد بإرسالهم:

التخلية بين بني إسرائيل و بين موسى عليه السّلام ليوجّههم حسب الشريعة.

و في بعض التفاسير أنه عليه السّلام أرادهم ليذهب بهم إلى الأرض المقدسة موطن آبائهم و أجدادهم.

[107] قالَ فرعون: إِنْ كُنْتَ يا موسى جِئْتَ بِآيَةٍ أي حجة تدل على صدق نبوتك فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنك رسول رب العالمين.

[108] فَأَلْقى موسى عليه السّلام عَصاهُ التي كانت بيده، و كانت من الجنة فَإِذا هِيَ تنقلب إلى ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي حية كبيرة عظيمة فتحت فاها لتلتقم قصر فرعون الذي كان طوله ثمانين ذراعا. و هنا خاف فرعون و الحاشية، و هربوا، و أحدث فرعون من الخوف، و التمس موسى أن يردّها، فردّها و إذا بها ترجع عصا كالسابق.

[109] وَ نَزَعَ موسى عليه

السّلام يَدَهُ أي جعلها تحت إبطه، ثم أخرجها فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي صارت اليد أكثر ضياء من الشمس، ثم أعادها إلى إبطه و أخرجها فإذا بها كحالتها السابقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 224

[سورة الأعراف (7): الآيات 109 الى 113]

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113)

[110] و لما رأوا هاتين المعجزتين العظيمتين تحيروا، و هنا تدخلت الحاشية في الأمر ليخفّفوا من روع فرعون قالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا أي موسى عليه السّلام لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسحر، و أنه صنع ما صنع سحرا لا معجزة.

[111] يُرِيدُ أي موسى عليه السّلام أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ باستمالة قلوب بني إسرائيل و سائر الناس إلى نفسه حتى يغلب عليكم. و من الواضح أن شخصا إذا غلب يهرب أعضاء الحكومة السابقة خوفا منه فَما ذا تَأْمُرُونَ أن نصنع لاتقاء خطر موسى عليه السّلام؟

[112] قالُوا أي قال الملأ في جواب فرعون الذي سأل «ماذا تأمرون»:

أَرْجِهْ أمر من «أرجأ» بمعنى «أخّر»، أي أخّره و اضرب معه موعدا، و لا تعجل في الحكم له أو عليه وَ أَخاهُ أي و أخّر أخاه هارون معه وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ التي حولك، جمع «مدينة» أي ابعث إلى البلدان الأخرى حاشِرِينَ أي أناسا جامعين للسحرة ليأتوا و يقابلوه بمثل سحره.

[113] يَأْتُوكَ أولئك المبعوثون بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فاستحسن فرعون رأيهم و أرسل في طلب السحرة.

[114] وَ جاءَ السَّحَرَةُ و في عددهم خلاف:

من سبعين، إلى ثمانين ألف فِرْعَوْنَ أي جاءوا إليه قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي عوضا على عملنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 225

[سورة الأعراف (7): الآيات 114 الى 117]

قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117)

إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ على موسى.

[115] قالَ فرعون: نَعَمْ لكم الأجر إن غلبتموه وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إليّ، فأكرمكم و أجعلكم في عداد المقربين إلي.

[116] قالُوا أي قال السحرة: يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أنت أولا وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لما معنا من السحر؟

[117] قالَ لهم موسى عليه السّلام: أَلْقُوا ما معكم أولا فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم و عصيّهم التي كانت آلة سحرهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ فقد احتالوا في تحريك العصي و الحبال بما جعلوا فيها من الزئبق حتى تتحرك بحرارة الشمس، و غير ذلك من أنواع التمويه، و خيّل إلى الناس أنها تتحرك، و قد ظن الناس أنها حيات تتحرك، و ما شعروا أنها حبال تحرّكها حرارة الشمس بما فيها من الزئبق وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ أي أرهبوهم، فإن الناس خافوا من حيّاتهم وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فإن الحبال الكثيرة المختلفة الألوان و الكيفية إذا صارت كلها حيات- في أعين الناس- تركب بعضها على بعض يكون عظيما لدى الناظر.

[118] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى عليه السّلام حين ذاك أَنْ أَلْقِ عَصاكَ التي هي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 226

[سورة الأعراف (7): الآيات 118 الى 121]

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا

يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121)

معك، فألقاها فصارت ثعبانا مدهشا فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تلقم و تأكل ما يَأْفِكُونَ أي إفكهم، و المراد به حيّاتهم و عصيّهم، فإن العصا أخذت تأكل الحبال ثم توجهت إلى الناس، فأخذوا في الهرب، و قتل تحت الأيدي و الأرجل جمع كثير، ثم أخذها موسى عليه السّلام فإذا بها عصا، و هناك قال السحرة: لو كان هذا سحرا لم تأكل حبالنا، فلا بد و أن يكون إعجازا من رب السماء.

[119] فَوَقَعَ أي ظهر الْحَقُ و هو أمر موسى عليه السّلام و نبوته وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من التمويهات، أي ظهر بطلانها.

[120] فَغُلِبُوا أي غلب موسى عليه السّلام فرعون و ملأه، و بهت أولئك هُنالِكَ أي من ذلك المكان وَ انْقَلَبُوا أي انصرف فرعون و ملأه صاغِرِينَ أذلّاء مقهورين.

[121] وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ فإن السحرة لما شاهدوا تلك الآيات، و علموا أن موسى عليه السّلام نبي من عند الله تعالى، لم يتمالكوا أنفسهم إلّا و سجدوا إذعانا لله سبحانه، و التعبير ب «ألقي» مبني للمجهول، لأجل إفادة معنى عدم تمالك النفس، و أن ما رأوا من الآيات هي التي سببت أن يسجدوا.

[122] قالُوا أي قال السحرة: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ صدّقناه و اعترفنا بوجوده، و كفرنا بألوهية فرعون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 227

[سورة الأعراف (7): الآيات 122 الى 124]

رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)

[123] رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ و

إنما خصّوهما بالذكر، بعد قولهم «رب العالمين» لأنهما دعيا إلى الإيمان بالله.

[124] قالَ فِرْعَوْنُ حين رأى إيمان السحرة: آمَنْتُمْ بِهِ أي بموسى عليه السّلام و الاستفهام للتوبيخ و الإنكار قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي قبل أن تحصلوا على إذني، فإنه كان يرى نفسه المستحق لأن يأذن بالإيمان، و أن الإيمان بدون إذنه موجب للعقوبة إِنَّ هذا أي هذا الإيمان بهذه الكيفية لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ فإنه أراد أن يلبس على الناس أن إيمان السحرة ليس على علم و اعتقاد، و إنما عن تواطؤ من موسى و السحرة لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي صنعتم هذا المكر لأن تسودوا أنتم في البلاد، و تخرجوا من المدينة أهلها، و المراد بهم فرعون و ملأه، فإنه إذا جاءت سلطة جديدة، تجبر أهل السلطة القديمة بالفرار وقاية لأنفسهم من السجن و القتل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيها السحرة عاقبة أمركم و جزاء عملكم.

[125] لَأُقَطِّعَنَ بكل تأكيد أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ أيها السحرة مِنْ خِلافٍ أي من كل شق طرفا، كاليد اليمنى و الرجل اليسرى، أو بالعكس. و كانوا يعملون ذلك لبقاء التوازن في الجملة للجسد، إذ لو كان القطع من طرف واحد، لم يكن لذلك الطرف رجل يمشي بها، و لا يد يتكئ بها على العصا ثُمَ بعد القطع لَأُصَلِّبَنَّكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 228

[سورة الأعراف (7): الآيات 125 الى 127]

قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ

قاهِرُونَ (127)

و «الصلب» هو الشد على الخشبة حتى يموت، و قد كان يطول بقاء المصلوب يوما و أكثر أَجْمَعِينَ فلا أدع منكم أحدا.

[126] قالُوا أي قال السحرة: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «الانقلاب» هو الرجوع، و المعنى: إنك إن صلبتنا فإنا إلى جزاء الله و ثوابه نرجع، فلا يضرنا شي ء. و غرضهم بيان صبرهم على ما ينزل بهم من الشدة، و أنهم مصممون على استمرارهم في الإيمان.

[127] وَ ما تَنْقِمُ «النقمة» الإنكار، أي: ما تكره مِنَّا و ما تطعن فينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا أي دلائله و حججه لَمَّا جاءَتْنا فليس لنا ذنب سوى ذلك رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي اصبب علينا الصبر عند ما يفعل بنا من القطع و الصلب وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي وفّقنا للثبات على الإسلام إلى وقت الوفاة حتى نموت على الإيمان و الإسلام. و في أن فرعون صلب هؤلاء أم لا، خلاف بين المفسرين.

[128] وَ قالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بعد أن رأوا غلبة موسى عليه السّلام و إيمان جمع به أَ تَذَرُ أي هل تبقي يا فرعون مُوسى وَ قَوْمَهُ و هم بنو إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بإظهار التوحيد، و أنك لست بإله وَ يَذَرَكَ أي يتركك موسى، فلا يعتني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 229

[سورة الأعراف (7): آية 128]

قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)

بك وَ يذر آلِهَتَكَ جمع «إله»، فقد كان يدّعي الربوبية، و جعل لهم آلهة أيضا، فكانوا يعبدون البقر و الأصنام. و قد كان الاستفهام منهم تحريضا لفرعون، حتى يقضي على موسى عليه السّلام قالَ فرعون في جوابهم: سَنُقَتِّلُ

أَبْناءَهُمْ أي سوف نكثر في أبناء قوم موسى القتل حتى لا يبقى منهم أحد يصلح للقتال و الإفساد وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي نستبقيهن أحياء للخدمة و الاستمتاع إذلالا لهم، و إماتة لكلماتهم وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ بيدنا القوة و الجند و السلاح و الملك فلا يتمكنون من مقاومتنا.

[129] قد كان فرعون يفعل ذلك ببني إسرائيل، لما علم أن زوال ملكه بيد أحدهم، و لما ظهر موسى عليه السّلام كفّ عن ذلك خوفا، و بعد ما حثه قومه على الانتقام، عزم على العودة إلى ما كان يفعله سابقا، و لما علم بذلك بنو إسرائيل شكوا إلى موسى عليه السّلام ف قالَ مُوسى عليه السّلام لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ في دفع بلاء فرعون عن أنفسكم وَ اصْبِرُوا على أذى فرعون أياما قليلة، فلا ترجعوا عن دينكم، و لا تظهروا الجزع إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ تعالى يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي ينقلها بإماتة السابقين أو إقصائهم، و يجعلها في أيدي الآخرين، كما أن الإرث كذلك في الجملة وَ الْعاقِبَةُ الحسنة لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون الله تعالى، فإنهم يجلبون بذلك خير الدنيا و سعادة الآخرة، مع رضا الله سبحانه عنهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 230

[سورة الأعراف (7): الآيات 129 الى 131]

قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)

[130] قالُوا أي قال بنو إسرائيل، لما

سمعوا جواب موسى بالصبر، و أنه لا يريد دفع فرعون عاجلا: أُوذِينا أي عذّبنا من قبل فرعون مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا و تبعث فينا بالرسالة وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا و بعثت إلينا رسولا، فلم ننتفع بك في دفع الأذى قالَ موسى عليه السّلام واعدا إياهم بالنجاة: عَسى رَبُّكُمْ أي لعل الله سبحانه أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون و ينقذكم منه وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي يجعلكم خلفاءه و القائمين مقامه في البلاد فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ بعد ما ملكتم الأرض، هل تفسدون كما أفسد فرعون أم تصلحون، فإن الله سبحانه يجازي البشر بعملهم لا بعلمه فيهم.

[131] ثم بيّن سبحانه ما فعله بآل فرعون من النكال و العقاب جزاء بما كانوا يقترفونه من المعاصي و الآثام وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ «السنين» الأعوام المقحطة، يقال: «أخذتهم السنة» إذا كانت سنة مقحطة مجدبة، أي عاقبناها بالجدب و القحط وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ فإن أشجارها كانت تحمل أثمارا قليلة، و هذا غير جدب أراضيهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لكي يذكروا عذاب الله فيرجعوا إلى الإيمان.

[132] فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أي أصابهم الخير كالخصب و السعة و الصحة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 231

[سورة الأعراف (7): آية 132]

وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)

و ما أشبه قالُوا لَنا هذِهِ أي إنا نستحق ذلك، و هذا من حسن حظنا، و علوّ طالعنا، فلم يكونوا يشكرون الله سبحانه على ما أنعم عليهم وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ كالجوع و القحط و المرض و نحوها يَطَّيَّرُوا أصله «يتطير» فأدغمت التاء في الطاء بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ من المؤمنين، فكانوا يقولون: هذا من شؤم موسى و سوء طالعه، و

الأصل في التطير ما كان العرب تزعمه من أن الطير إذا جاء من طرف شمال الإنسان كان شرا و إذا جاء من طرف يمينه كان خيرا، ثم غلب التطيّر في القسم الأول، فإذا قيل: «تطيّر» أريد أنه «تشاءم».

فكان آل فرعون يرون البلايا من موسى عليه السّلام و لم يكونوا يعلمون أنها من سوء أعمالهم أَلا أي تنبيه أيها المخاطب إِنَّما طائِرُهُمْ و الشؤم الذي كان يلحق بهم لم يكن من عند موسى و لأجله بل من عِنْدَ اللَّهِ فإنه كان يضربهم بالبلاء عقوبة لأعمالهم وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك بل كانوا يزعمون الشؤم من موسى عليه السّلام.

[133] وَ قالُوا أي قال فرعون و ملأه لموسى عليه السّلام: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا أي: أي شي ء من المعجزات لتموّه علينا بِها بسببها، تريد بذلك أن نؤمن بما تدعو إليه فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ و لا نصدّقك فيما جئت به من الألوهية و الرسالة و الوعد و الوعيد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 232

[سورة الأعراف (7): آية 133]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)

[134] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ هو الماء الغالب على أبنيتهم و أشجارهم حتّى خرّبها وَ الْجَرادَ حتّى أكل أشجارهم و زرعهم وَ الْقُمَّلَ هو السوس الذي يخرج من الحنطة و نحوها وَ الضَّفادِعَ جمع «ضفدع» حتى كان يثب في أوانيهم و قدورهم و يكثر في بيوتهم و محلاتهم حتّى عجزوا عنها وَ الدَّمَ فقد انقلب ماء النيل دما فكانوا لا يتمكنون من شرب و لا يهنؤون بأكل و طعام آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أي معجزات فصّلت بعضها عن بعض، ظاهرات واضحات فَاسْتَكْبَرُوا أي

تكبروا عن قبول الحق بعد كل ذلك وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ عاصين ذوي كفر و إجرام.

روي أن السحرة لما سجدوا و آمن بموسى جمع من آل فرعون قال هامان لفرعون- و كان وزيره-: إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه، فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل، فجاء إليه موسى، فقال له: خلّ عن بني إسرائيل، فلم يفعل، فأنزل الله عليهم في تلك السنة الطوفان، فخرّب دورهم و مساكنهم حتى خرجوا إلى البرية و ضربوا الخيام، فقال فرعون لموسى: ادع ربك حتى يكف عنا الطوفان فأخلّي عن بني إسرائيل و أصحابك، فدعا موسى ربه فكفّ عنهم الطوفان و همّ فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل، فقال له هامان: إن خليت عن بني إسرائيل غلبك موسى و أزال ملكك، فقبل منه و لم يخلّ عن بني إسرائيل، فأنزل عليهم في السنة الثانية الجراد فجردت كل شي ء كان لهم من النبت و الشجر حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 233

[سورة الأعراف (7): آية 134]

وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134)

كانت تجرد شعورهم و لحاهم، فجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا، و قال: يا موسى ادع ربك أن يكف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل و أصحابك، فدعا موسى ربه فكفّ عنهم الجراد.

فلم يدعه هامان أن يخلي عن بني إسرائيل فأنزل الله عليهم القمّل فذهب زرعهم و أصابتهم المجاعة فقال فرعون لموسى: إن دفعت عنا القمل كففت عن بني إسرائيل، فدعا موسى ربه حتى ذهب القمل، فلم يخلي عن بني إسرائيل، فأرسل

الله عليهم بعد ذلك الضفادع فكانت تكون في طعامهم و شرابهم، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا، فجاءوا إلى موسى فقالوا: ادع الله يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك و نرسل معك بني إسرائيل، فدعا موسى ربه فرفع الله عنهم ذلك، فلما أبوا أن يخلوا عن بني إسرائيل حوّل الله ماء النيل دما فكان القبطي يراه دما و الإسرائيلي يراه ماء فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء و إذا شربه القبطي كان دما، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا فقالوا لموسى: لئن رفع عنا الدم لنرسلن معك بني إسرائيل، فلما رفع الله عنهم الدم غدروا و لم يخلوا عن بني إسرائيل.

[135] وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ «الرجز» العذاب، فقد أصابهم ثلج أحمر و لم يروه قبل ذلك فماتوا فيه و جزعوا و أصابهم ما لم يعهدوا من قبل قالُوا أي فرعون و ملأه: يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما تقدم إليك أن تدعوه به، فإنه يجيبك كما أجابك سابقا لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا هذا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ بما جئت به من التوحيد و النبوة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 234

[سورة الأعراف (7): الآيات 135 الى 136]

فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)

وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فنطلق سراحهم من السجون و من تسخيرهم بالأعمال الشاقة.

[136] فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ بدعاء موسى عليه السّلام، و معنى «كشف الرجز» رفع العذاب إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي: إن رفعنا العذاب كان لأجل أن يبلغوا المدّة المحدودة المقدرة لهم، إذ لم يقدّر موتهم في ذلك الوقت الذي نزل بهم الرجز فيه

إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي يخالفون و ينقضون عهدهم فلا يؤمنون و لا يطلقون بني إسرائيل.

[137] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي عذّبناهم جزاء بما فعلوا من الكفر و المعاصي فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ أي في البحر بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها أي عن الآيات غافِلِينَ بمعنى أنهم كانوا يعملون عمل الغافل عن الآيات، إذ الملتفت العاقل لا يخالف و لا يكذب، أو المراد غافلين عن عواقب الآيات، كما يقال: «فلان غافل عن أمر السلطة» أي عن عواقبه السيئة فيما إذا خالف.

و في بعض الروايات: أنه بعد نزول الثلج خلّي عن بني إسرائيل فاجتمعوا إلى موسى في مصر و اجتمع إليه من كان هرب من مصر و بلغ فرعون ذلك، فقال هامان: قد نهيتك أن تخلّي عن بني إسرائيل فقد استجمعوا إليه، فجزع فرعون، و فرّ موسى إلى الخارج و اتبعهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 235

[سورة الأعراف (7): آية 137]

وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

فرعون، حتى وصلوا إلى البحر، فدخل موسى و من معه البحر بعد ما انشق لهم طرقا، و لما بلغوا منتصف البحر- و هو البحر الأحمر- دخل فرعون و جنوده البحر و لما بلغ موسى آخر البحر و خرجوا، كان فرعوا قد بلغ منتصفه- و عرضه أربع فراسخ تقريبا- و هناك أطبق الماء على أصحاب فرعون، و أغرقوا أجمعين.

[138] وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ يعني: أعطينا بني إسرائيل الذين كانوا مستضعفين، فإن القبط كانوا يستضعفونهم، فأورثهم الله مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ

مَغارِبَهَا أي مشارق الأرض التي كانوا فيها، و مغاربها يعني أرض الشام، فإن بني إسرائيل ملكوها بعد الفراعنة و العمالقة الَّتِي بارَكْنا فِيها بإخراج الزرع و الثمار و سائر صنوف النبات و الأشجار وَ تَمَّتْ و ثبتت كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى صفة «كلمة» أي الكلمة الحسنة التي وعدها الله عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ فإنه أنجز وعده بإهلاك أعدائهم و استخلافهم في الأرض و كان تمام الكلمة الحسنى بسبب ما صَبَرُوا على أذى فرعون متمسكين بدينهم، و قيل المراد ب «الكلمة الحسنى» ما بيّنه سبحانه في محل آخر بقوله:

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ إلى قوله- يَحْذَرُونَ «1».

______________________________

(1) القصص: 6 و 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 236

[سورة الأعراف (7): الآيات 138 الى 139]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139)

وَ دَمَّرْنا أي نسفنا و أهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ من الأبنية و القصور وَ ما كان يصنعه قَوْمُهُ من المنازل و المزارع وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ من الأشجار و الأعناب و الثمار، أي يجعلون له عريشا و سقفا.

[139] وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي قطعنا لهم بحر مصر الأحمر بأن جعلنا لهم فيه طرقا يابسة ليعبروا فلما عبروا فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ أي مرّوا على جماعة يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يقبلون عليها ملازمين لها مقيمين عندها قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً مجسما حتى نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها قالَ موسى عليه السّلام: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ربكم و

لا تعظّمونه فإنه لا يجوز أن تعبد الأصنام، لأنه شرك بالله سبحانه.

[140] إِنَّ هؤُلاءِ القوم الذين يعبدون الأصنام مُتَبَّرٌ أي مدمّر مهلك، من «التبار» بمعنى الهلاك ما هُمْ فِيهِ من عبادة الأصنام، أي أن هذه العبادة توجب الهلاك و الدمار وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أن عملهم باطل لا نصيب له من الحق و الحقيقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 237

[سورة الأعراف (7): الآيات 140 الى 141]

قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

[141] ثم قالَ موسى عليه السّلام لقومه على نحو الاستنكار و التوبيخ:

أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أي ألتمس و أطلب لكم إلها غير الله، إن هذا لا يكون أبدا وَ الحال أنه إلهكم الوحيد و هُوَ الذي فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم، فإنه هو المعطي المفضل، فكيف أتخذ إلها غيره؟! [142] ثم خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الموجودين في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعدّد نعمه عليهم، استدراجا لهم إلى الإيمان، و تذكيرا بما سبق لهم منه سبحانه من الإحسان وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خلّصناكم منهم، و المراد ب «آل فرعون» قومه و ذووا السلطة في ملكه، حين كانوا يَسُومُونَكُمْ أي يولونكم و يفعلون بكم- من «سام فلانا» إذا عذبه و أذّله- سُوءَ الْعَذابِ أي العذاب السيئ.

ثم بيّن سبحانه طرفا من ذلك العذاب بقوله: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ «التقتيل» تفعيل من القتل، أي يكثرون القتل في الذكور منكم. فقد كان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل، لئلّا

يولد فيهم مولود ذكر يذهب بملكه- حسب ما أخبره المنجّمون- ثم بعد ذلك و إن علم بموسى و أرسل إليه، أخذ يقتل الذكور ثانية، لئلّا يجتمعون حول موسى و تقوى شوكته فيعارضوه في سلطانه وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 238

[سورة الأعراف (7): آية 142]

وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

يستبقونهن أحياء للخدمة و الاستمتاع و الإذلال وَ فِي ذلِكُمْ أي في تخلية فرعون و ما يفعل بكم بَلاءٌ أي ابتلاء مِنْ رَبِّكُمْ من قبله سبحانه ليجازي الصابرين عَظِيمٌ أو المعنى: في طرف ما فعل بكم من النجاة «بلاء» أي نعمة، فإنه يأتي بمعناها «من» طرف ربكم «عظيم» حيث تفضل عليكم بنعمة النجاة من ذلك الشقي.

[143] ثم ذكر سبحانه تمام نعمه على بني إسرائيل فقال: وَ واعَدْنا أي وعدنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً فقد روي أن موسى عليه السّلام لما كان بمصر وعد بني إسرائيل أنه إذا أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون و ما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فوعد الله موسى أن يأتي إلى الطور و يصوم ثلاثين يوما ثم يعطيه الكتاب الذي فيه الشرائع. و لعل ذكر «ليلة» دون «يوم» لأجل أن الليل أقرب إلى المناجاة، فإن الظلمة تشع في النفس الانقطاع و الخوف و الرجاء، مما يجعل الإنسان أقرب إلى الله سبحانه من النهار، و لذا كان العبّاد يتخذونها ميقاتا لعبادتهم وَ أَتْمَمْناها أي أكملنا الثلاثين ليلة بِعَشْرٍ ليال حتى صار المجموع أربعين فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أي

الوقت المضروب لإعطاء الكتاب أَرْبَعِينَ لَيْلَةً و قد كان ذلك لأجل تهيئة موسى عليه السّلام لأهلية إعطاء الكتاب، و لئن يعرف الناس عظمة الكتاب حتى أن مثل موسى عليه السّلام لا يعطى له إلا بعد الصيام و القيام.

و لا يخفى أن الإتمام عشرا لا ينافي وعده ثلاثين، فإن المقرّر كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 239

[سورة الأعراف (7): آية 143]

وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

إعطاء الكتاب بعد إتمام الثلاثين، لا بمجرد إكمال الثلاثين، و إنما قال: «فتم ميقات ربه» لئلا يوهم أن المعنى: أكملنا الثلاثين بعشر حتى كملت ثلاثين، نحو: «أكملت العشرة بدرهمين».

وَ حين أراد موسى عليه السّلام الخروج إلى ميقات ربه أوحى إلى أخيه هارون عليه السّلام إذ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي أي كن خليفتي فِي قَوْمِي فإن هارون و إن كان نبيا لكنه لم يكن رئيسا، ففوض إليه موسى عليه السّلام منصب الرئاسة وَ أَصْلِحْ فيما بينهم و أصلحهم وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الذين يأمرون بالفساد و يفسدون الناس، و هارون عليه السّلام و إن كان منزّها عن ذلك، إلّا أن ذلك لتنبيه القوم و إرشادهم إلى عمل هارون، فإن الإنسان قد يوصي لأجل الوصيّ، و قد يوصي لأجل من يسمع.

[144] وَ لَمَّا جاءَ مُوسى عليه السّلام لِمِيقاتِنا «الميقات» هو الزمان أو المكان الذي قدّر ليعمل فيه، و لذا يقال: «ميقات الحج» للمكان المقدّر فيه الإحرام، و المعنى: أنه

لمّا انتهى موسى إلى المكان الذي وقّتنا له و أمرناه بالمسير إليه لننزل عليه التوراة، أو المراد الميقات الزماني، أي لمّا انتهى إلى زمان المواعدة وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ بأن خلق الكلام في الفضاء حتى سمعه موسى عليه السّلام، فإن الله سبحانه منزّه عن اللسان و اللهاة و سائر الأمور المرتبطة بالكلام الجسدي.

قالَ موسى: يا رَبِّ أَرِنِي نفسك أَنْظُرْ إِلَيْكَ نظر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 240

العيان. و قد كان هذا السؤال من موسى إجابة لطلب قومه،

فقد روي أنه لما كلّمه الله و قرّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم بذلك، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته، فاختار منهم سبعين فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل و صعد إلى الطور و سأل الله أن يكلمه و يسمعهم كلامه، فكلمه الله فسمعوا كلامه من فوق و أسفل و يمين و شمال و وراء و أمام، لأن الله أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن بأن هذا الذي سمعناه من جميع الوجوه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم و استكبروا و عتوا بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا. فقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم و قالوا إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله إياك؟

فأحياهم و بعثهم معه فقالوا: لو أنك سألت الله أن يريك تنظر إليه لأجابك فتخبرنا كيف هو و نعرفه حق معرفته، فقال: يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار و لا كيفية له و إنما يعرف بآياته و يعلم بعلاماته، فقالوا: لن نؤمن لك

حتى تسأله، فقال موسى: يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل و أنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله إليه: يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى: رب أرني انظر إليك

قالَ الله تعالى في جواب موسى: لَنْ تَرانِي أبدا، فإن «لن» لنفي الأبد، و ذلك لاستحالة رؤية الله سبحانه لا في الدنيا و لا في الآخرة، فإن للرؤية شرائط كلها مفقودة بالنسبة إليه سبحانه، و منها أن يكون المرئي جسما أو عرضا، و الله سبحانه ليس بجسم و لا عرض وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 241

الذي كان هناك فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ حال التجلّي فَسَوْفَ تَرانِي و قد كان هذا من باب التعليق بالمحال، فإن استقرار الجبل مكانه مع إرادة الله عدم الاستقرار له كان مستحيلا. فيكون التعليق على ذلك مثل قوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «1»، و قوله: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «2»، لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «3»، مما جرى العرف بالتعليق على شي ء لا يكون، في بيان أن الشي ء الفلاني لا يكون فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ أي رب موسى عليه السّلام لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أي مستويا مع الأرض، و المراد بالتجلي: خلق نور يشع على الجبل، أو إظهار قدرة و عظمة له وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً أي وقع مغشيا عليه من الرعب و الخوف فَلَمَّا أَفاقَ من غشيته و رجعت قواه إليه قالَ موسى عليه السّلام: سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها عما لا يليق بك من رؤية و غيرها من النواقص تُبْتُ إِلَيْكَ أي رجعت إليك في أموري، و لم يكن ذلك توبة عن ذنب بل إنه

على وجه الانقطاع و التخضّع، فإن الإنسان إذا رأى الأمور الجليلة يذكر الله بالتسبيح و التقديس و الاستغفار، و السر أن هذه الألفاظ صارت إعلاما للخضوع و الخشوع، لكثرة ما استعملت فيهما.

و منه الحديث: «كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستغفر الله من غير ذنب»

«4» و إن شئت قلت: إنه إنشاء مفهوم التوبة

______________________________

(1) الأعراف: 41.

(2) الزخرف: 82.

(3) الأنبياء: 23.

(4) راجع وسائل الشيعة: ج 7 ص 180.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 242

[سورة الأعراف (7): الآيات 144 الى 145]

قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)

بداعي التعظيم، كما أن أدوات الاستفهام في كلامه سبحانه هي لإنشاء مفهوم الاستفهام بداعي آخر، كالمفاضلة في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «1»، وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بك و بما يليق بك من الصفات.

[145] قالَ الله سبحانه: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ أي اخترتك عَلَى النَّاسِ و فضّلتك عليهم بِرِسالاتِي حيث ألقيت إليك أنواع الرسالة في الأصول و الفروع وَ بِكَلامِي حيث كلّمتك دون سائر خلقي.

و العطف إما للبيان، أو المراد من الرسالة غير ما كلّم فيه، بل كانت بالإلهام، و من الكلام غير ما أرسل به، بل كان لسائر الأمور فَخُذْ يا موسى ما آتَيْتُكَ أي أعطيتك من التوراة و تمسك به وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمتي، و الشكر إما بالجنان بأن يعرف الإنسان قدر المنعم و فضله، و إما باللسان بأن يعترف بجميله، و إما بالأركان بأن يأتي الإنسان

بما يستحق المنعم من التعظيم و الإجلال و الخضوع، قال تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «2».

[146] وَ كَتَبْنا لَهُ أي لموسى عليه السّلام فِي الْأَلْواحِ جمع «لوح»، و هي القطعة من الخشب أو نحوها، و قد نزلت على موسى عليه السّلام ألواح

______________________________

(1) الزمر: 10.

(2) سبأ: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 243

[سورة الأعراف (7): آية 146]

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (146)

مكتوب فيها التوراة مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم و دنياهم مَوْعِظَةً هذا تفسير لقوله «كل شي ء»، و هي عبارة عن التحذير عن القبيح، و التبصير بمواقع الخوف وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ أي بيانا و توضيحا لكل أمر كانوا محتاجين إليه. و من المعلوم أن المراد بيان الخطوط العامة للحياة الدينية، لا كل جزئي جزئي، و هذا هو المراد من قوله: لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1»، لو أريد بالكتاب القرآن، و هو المراد من

قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من شي ء يقربكم إلى الجنة، إلّا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يباعدكم عن النار إلّا و قد نهيتكم عنه»

«2»، فَخُذْها أي الألواح بِقُوَّةٍ أي بجدّ و اجتهاد، و المراد بأخذها: العمل بما فيها، كما قال سبحانه: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ «3»، وَ أْمُرْ قَوْمَكَ أي بني إسرائيل يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها و هذا تحريض بالأخذ بالفضائل، فإن الشريعة لها عرض كبير للأمور يبتدئ من

الواجبات و ينتهي إلى أكمل الفضائل و هذا من باب شدة الجذب بقصد الاعتدال، كما يشد الحمل من جانب كثيرا ليعتدل سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي جهنم، فاحذروا أن تخالفوا و تفسقوا حتى تكونوا منهم.

[147] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ أي أصرفهم عن الإيمان بها، أو أصرفهم عن

______________________________

(1) الأنعام: 60.

(2) راجع مستدرك وسائل الشيعة: ج 13 ص 30.

(3) مريم: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 244

النيل منها الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ فعلى المعنى الأول: أن ذلك لكونهم تكبروا، فلم يلطف بهم الله سبحانه لطفه الخفي بل صرفهم عن الإيمان و خلّى بينهم و بين إضلال الشيطان، كما يصرف الإنسان ولده العاصي عن لطفه فلا يعتني بشأنه. و على المعنى الثاني: يكون المعنى حفظ الآيات عن الزيادة و النقصان كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1»، و الأول أقرب، و قوله: بِغَيْرِ الْحَقِ ليس قيدا احترازيا، بل لبيان أن التكبر لا يكون إلا بغير الحق، نحو: يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ «2».

ثم وصف سبحانه أولئك بقوله: وَ إِنْ يَرَوْا أي يرى المتكبرين كُلَّ آيَةٍ و معجزة دالة على صدق الأنبياء و سائر الأمور الحقة لا يُؤْمِنُوا بِها حيث قد لجّوا في الفساد و استحوذ عليهم الشيطان وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي طريق الهدى و الحق، الموجب للرشد و النمو العقلي و المادي، فإن الرشد بمعنى النمو لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا فلا يسلكوه وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ أي طريق الغواية و الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لأنفسهم فيسلكوه ذلِكَ أي سبب صرفهم عن الآيات- على المعنى الأول- أو سبب اجتنابهم طريق الرشد و اتخاذهم طريق الغي

______________________________

(1) الحجر: 10.

(2) البقرة: 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 2، ص: 245

[سورة الأعراف (7): الآيات 147 الى 148]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148)

بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بحججنا و معجزات رسلنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ لا يتفكرون فيها و لا يتعظون بها، و المراد تشبيههم بالغافل الذي يغفل عن صلاحه فلا يعمل بمقتضاه.

[148] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي المعجزات و الحجج وَ كذبوا ب لِقاءِ الْآخِرَةِ بأن أنكروا القيامة و البعث و النشور حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي عملوها، فإن كل إنسان يعمل بعض الأعمال الخيرة، فإذا كان مؤمنا يثاب عليها، و إن كان كافرا لم يثب عليها، و هذا لا ينافي خفة العذاب، كما ورد في حاتم و أنو شروان و غيرهما هَلْ يُجْزَوْنَ أي لا يجزى هؤلاء المتكبرون، فإن الاستفهام للإنكار إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ فليس حبط أعمالهم ظلما لهم.

[149] ثم يبيّن سبحانه طرفا آخر من قصة بني إسرائيل، و هي قصة عبادتهم للعجل حين كان موسى عليه السّلام في الطور وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خروج موسى عليه السّلام إلى ميقات ربه مِنْ حُلِيِّهِمْ الذهبية التي كانت لهم، من سوار و خلخال و قلادة و غيرها عِجْلًا أي صبّوا الحلي في صورة العجل و هو ولد البقر جَسَداً أي لا روح فيه، فكان تمثال العجل و صورته، لا واقعه و حقيقته، و لعل هذا القيد لئلّا يتوهّم أن القوم ألبسوا الحلي عجلا حقيقيا، فإن موسى عليه السّلام لما أبطأ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2،

ص: 246

أشاع رجل من بني إسرائيل و اسمه «السامري» أن موسى قد مات ثم جمع حلي القوم و صاغها عجلا، و قال لبني إسرائيل: إن هذا إلهكم، و قد كان العجل من آلهة مصر، و كانوا يألفون عبادته، و لذا قبلوه، و قد طلبوا سابقا من موسى عليه السّلام أن يجعل لهم إلها.

و في بعض التفاسير: إن القوم الذين رآهم بنو إسرائيل على البحر كانوا يعبدون العجل، حين قالوا لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «1»، و كان العجل الذي صنعه السامري لَهُ خُوارٌ أي صوت كصوت العجل. و قد اختلف في ذلك، ففي بعض التفاسير أن السامري صنعه بحيث إذا هبّت عليه الريح دخلت في جوفه فأحدثت صوتا. و في تفسير آخر: إن «السامري» رأى جبريل عليه السّلام راكبا فرسا حين عبروا البحر، فأخذ من تحت حافر فرسه التراب، فأدخله جوف العجل، و كان منه الخوار، أو أن الخوار كان منه سبحانه حيث خلقه فيه للابتلاء.

و لا يستشكل: أنه كيف يخلق ذلك، و هو موجب لافتتان الناس؟

فإن الجواب واضح: إذ المحل لم يكن محل اشتباه فقد علموا جميعا أن الله سبحانه لا يرى و ليس بجسم، فكان ضلالهم بسوء اختيارهم.

أَ لَمْ يَرَوْا أولئك الذين عبدوا العجل أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ فمن هو عاجز عن أقل شي ء و هو الكلام كيف يكون إلها؟ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أي لا يرشدهم إلى خير ليأتوه و لا إلى شر ليجتنبوه

______________________________

(1) الأعراف: 139.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 247

[سورة الأعراف (7): الآيات 149 الى 150]

وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَ

لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)

اتَّخَذُوهُ أي اتخذوا العجل إلها، فإن كثيرا منهم أطاعوا السامري في عبادة العجل، و لم يطيعوا هارون فيما وعظهم و أنذرهم وَ كانُوا ظالِمِينَ لأنفسهم بهذه العبادة حيث حرموها من خير الدنيا و سعادة الآخرة.

[150] وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي سقط البلاء في يدهم، و هذا من باب التمثيل و التشبيه، فإن الإنسان إذا عمل عملا فندم، يقال: «سقط في يده» كأن الشي ء الذي اكتسبه لم يرج، و لم يذهب كما هو عادة المتاع الجيد، بل سقط في يده و بقي عنده، و كأن الأصل فيه أن المتاع يسقط من محله إلى مستقره، و هو الذي يصرفه لأجل حوائجه، فإذا بقي عند الواسطة- و هو التاجر- كان ساقطا في يده، دون يد المستهلك وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فإنهم بعد ما عبدوا العجل ندموا فيما أفرطوا، كما هو شأن غالب الحركات الاعتباطية فإن الناس يأتون بها من فورهم ثم يندمون حينما يتفكرون قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بقبول توبتنا وَ يَغْفِرْ لَنا ما فعلناه من عبادة العجل لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم باستحقاق العقاب، و فوت الثواب.

[151] وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى من الميقات إِلى قَوْمِهِ و عرف الأمر صار غَضْبانَ أَسِفاً أي حزينا على ما صدر منهم من عبادة العجل، أو المراد رجع غضبان آسفا، لما أعلمه الله سبحانه من عبادتهم العجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 248

قالَ

لهم: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي عملتم خلفي مِنْ بَعْدِي أي بعد ذهابي إلى الميقات، فإن عملكم بعدي كان عملا سيئا أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي استعجلتم قضاء الله و عقابه، فكأن العاصي لا بد و أن يلاقي العقاب، فإذا فعل فعلا شنيعا استعجل العقاب وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ المكتوب فيها التوراة من يده تضجرا من عملهم وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون يَجُرُّهُ إِلَيْهِ إما لينحّيه ناحية فيناجيه في أمر القوم، و إما إظهارا للغضب، و لم يكن ذلك إلا استنكارا عمليا لعمل القوم، كما يصيح الوالد على ولده البري ء، فيما إذا عمل بعض أهل البيت عملا مخالفا، يريد بذلك إظهار غضبه على عملهم.

قالَ هارون: يا ابْنَ أُمَ هذه الكلمة للاستعطاف لأن ذكر الأم يشع في النفس حنانا ولينا، و قد قصد هارون بهذا التعبير التسكين من غضب موسى عليه السّلام إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي أي اتخذوني ضعيفا، فلم يعملوا بكلامي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي أي همّوا بقتلي حين شددت عليهم في استنكاري عليهم عبادة العجل فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ فإن فعلك هذا يوهم أنك غاضب عليّ فيفرح الأعداء حيث يظنون أنهم ألقوا الخلاف بين الأخوين و جعلوني مغضوبا عليه في نظرك. و معنى الشماتة: إظهار الفرح بوقوع عدوهم في المحذور وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 249

[سورة الأعراف (7): الآيات 151 الى 152]

قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)

الذين عبدوا العجل، فلا تشملني معهم في الغضب علينا جميعا، فإن ذلك من عملهم.

إن هذا النحو من إظهار الغضب

على الحبيب البري ء، لتنبيه العدو الآثم، من أساليب البلاغة العملية حيث أن الحبيب لا يحمل موجدة على حبيبه بسبب هذا العمل، بخلاف ما لو عمل بالآثم فإنه يجعله أبعد من الصواب، إذ يسبب مثل ذلك في نفسه بغضا و عداوة زائدة، و مثل خطاب البري ء، ما يفعله الإنسان بنفسه عند إرادة إظهار الغضب من ضرب نفسه، أو نتف شعره، أو شق جيبه، أو ما أشبه ذلك.

[152] قالَ موسى عليه السّلام بعد ذلك: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي قال على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه، لا لأنه صدر منهما عصيان أو ذنب، و قد تقدم أن هذه الكلمة تقال عند إظهار الخضوع و الخشوع، و إن كان الأصل فيها طلب غفران الذنب وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ أي لطفك أو جنتك وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإن رحمتك أكبر من رحمة كل راحم، و هذا يذكر في آخر الدعاء استعطافا، كما يقال: «أنت أجود الأجودين» لاستدعاء الجود، لأنه اعتراف بالأفضلية.

[153] ثم قال موسى عليه السّلام، أو استئناف من الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها معبودا سَيَنالُهُمْ أي يلحقهم غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ في الآخرة، و هو موجب للنار وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 299

[سورة الأعراف (7): الآيات 153 الى 154]

وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

يصبحون أذلاء، يكثر فيهم القتل و الطرد، و يذكرون بسوء أبدا. و قد مر تفسير قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ

«1»، وَ كما جازينا اليهود بهذا الصنيع كَذلِكَ نَجْزِي سائر الْمُفْتَرِينَ الذين يفترون على الله سبحانه باتخاذ الأصنام شريكا له، فإنه افتراء على الحقيقة و الواقع.

[154] وَ لكن المعصية لا تسبب يأس صاحبها، فإن من تاب، تاب الله عليه ف الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي الشرك و المعاصي ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها أي بعد السيئات وَ آمَنُوا إيمانا صادقا إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله مِنْ بَعْدِها أي بعد السيئات، أو بعد التوبة، و لعل التكرار لإفادة عدم قبول التوبة مع الإصرار على المعصية، كما أنه لا توبة مع الإصرار لَغَفُورٌ يغفر الذنب رَحِيمٌ يرحم التائب بفضله و لطفه.

[155] وَ لَمَّا سَكَتَ أي: سكن، و فيه من البلاغة ما لا يخفى عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ بأن زالت فورته، فإن فورة الغضب تكون أول ملاقاة المكروه أَخَذَ الْأَلْواحَ التي كان عليه السّلام رماها إظهارا لضجره، مما فيها التوراة وَ فِي نُسْخَتِها أي ما نسخ و رقم فيها هُدىً يهدي إلى الحق وَ رَحْمَةٌ موجب ترحّم و تنعّم لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي

______________________________

(1) البقرة: 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 251

[سورة الأعراف (7): آية 155]

وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)

يخشونه و لا يعصونه.

[156] ثم بيّن سبحانه قصة سبق الإشارة إليها، و هي قصة طلب القوم أن يروا الله جهرة و قد كررت أولا لأجل ذكرها في قصة موسى، و ثانيا لأجل بيان أنها كانت من قومه، و

قيل: إنها قصة ثانية، ذهبوا معه عليه السّلام للاعتذار من عبادة العجل، فإنهم طلبوا من موسى أن يصحبهم ليسمعوا كلام الله سبحانه وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا ليسمعوا كلام الله سبحانه بأسماعهم، فيزدادون إيمانا، و لما سمعوا كلام الله سبحانه، لم يقنعوا و طلبوا من موسى عليه السّلام أن يروا الله جهرة، رؤية الأبصار، لا رؤية العلم بالقلب فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الصاعقة التي رجفت بسببها أبدانهم و قلوبهم و هلكوا جميعا لسؤالهم الشنيع و عنادهم في الأمر بعد ما نصحهم موسى عليه السّلام، إن ذلك غير ممكن كما تقدمت الإشارة إليه. و هنا خاف موسى عليه السّلام أن يتهمه بنو إسرائيل أنه هو الذي قتلهم، لمّا لم يتمكن من إسماعهم كلام الله سبحانه، فيرتدوا عن الدين، و لذا قالَ موسى عليه السّلام لله: يا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ هذا الموقف حين كانوا في بلادهم، لكن الآن ماذا أقول لبني إسرائيل إذا قالوا إنك قتلتهم؟ وَ إِيَّايَ و هذا للتخضّع و الاستكانة، و تسليم الأمر إليه سبحانه، فإنه تعالى لو شاء أهلك الجميع و أماتهم، فكلنا تحت إرادتك و في قبضتك.

أَ تُهْلِكُنا يا رب بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا و قد جاء الرجاء بصيغة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 252

الاستفهام، كما أنك إذا رجوت الأمير في سماع كلامك تقول: «هل يسمع الأمير كلامي»، أي أن الإهلاك بسبب ما طلبه السفهاء من الرؤية، خلاف رجائنا فيك، و إن كان بالاستحقاق، حيث أن مثل هذا الطلب من السفهاء و سكوت العقلاء عنهم- بعدم إنكار المنكر- موجب لاستحقاق العقوبة، و إضافة الهلاك إلى ضمير المتكلم مع الغير «نا» باعتبار كون موسى عليه السّلام

و من معه كتلة واحدة، فهلاك بعضهم هلاك للجميع- مجازا-.

ثم بيّن عليه السّلام أن ذلك الهلاك لم يكن اعتباطا، حتى لا يظن الظان أن موسى عليه السّلام في مقام الاعتراض إِنْ هِيَ ما هذه الرجفة التي أصابتهم إِلَّا فِتْنَتُكَ و اختبارك، إنك يا رب صنعت ذلك لأجل الامتحان، و الإهلاك امتحان للناس ليعتبروا، و لنفس الهالكين بعد حياتهم تُضِلُّ بِها أي بالفتنة مَنْ تَشاءُ ممن لم تنفعه الهداية، حيث تتركه و شأنه ليضل. و قد سبق أن الفعل ينسب إلى الله تعالى، لأن الأسباب و الآلات منه تعالى، كما يقال: «أفسد فلان ولده» إذا أعطاه المال و لم يؤاخذه بعمله الفاسد وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ لم يذكر هنا «بها» لأن الهداية تكون بدون الاختبار أيضا، فالهداية أعم من الابتدائية و مما تتعقب الاختبار أَنْتَ يا رب وَلِيُّنا مولانا و أولى بالتصرف فينا فلك ما تفعل و لا تسأل عن فعلك فَاغْفِرْ لَنا بستر ذنوب من أذنب منّا وَ ارْحَمْنا بفضلك و رحمتك وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ فإن غفرانك بلا منة و ذلة. ثم إنه سبحانه أحيى السبعين الذين هلكوا، كما تقدم في سورة البقرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 253

[سورة الأعراف (7): آية 156]

وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)

[157] وَ اكْتُبْ لَنا يا رب فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً الشي ء الحسن، و هو جنس شامل لأنواع الحسنات من أمن و صحة و رفاه و فضيلة و غيرها وَ فِي الْآخِرَةِ حسنة، بالجنة و الرضوان إِنَّا هُدْنا

إِلَيْكَ من «هاد» بمعنى «رجع» أي رجعنا بتوبتنا إليك، فكأن العاصي يبتعد عنه سبحانه، ثم إذا تاب يرجع إليه، تشبيها للبعد و القرب عن الرحمة، بالقرب و البعد الحسّيّين.

و موسى عليه السّلام و إن لم يكن داخلا في العصيان لكن العادة جرت على أن يتكلم الرؤساء عن جماعتهم قالَ الله سبحانه في جواب موسى و طلبه التوبة: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ممن استحق ذلك بالكفر و المعصية، فالمشيئة ليست باعتبار الزيادة عمّن استحق، بل باعتبار النقصان، فإنه تعالى لا يعذب بعض المستحقين، لا أنه يعذب المستحقين وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فإن الخلق و الرزق و غيرهما كلها رحمة منه سبحانه،

و في الدعاء: «يا من سبقت رحمته غضبه»

«1»، باعتبار أن الغضب لا يكون إلا بعد الخلق و الرزق و العصيان، فالرحمة سابقة.

و في هذا الجو الرقيق، الذي ترقّقت فيه قلوب بني إسرائيل يشير سبحانه إلى النبي الأمي، ليتركّز في قلوبهم، فإن الأمور تتركز في

______________________________

(1) مصباح الكفعمي: ص 667.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 254

[سورة الأعراف (7): آية 157]

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

القلوب أكثر إذا رقّت فَسَأَكْتُبُها أي اكتب رحمتي. و هذا على سبيل الاستخدام، فإن المراد بالرحمة أولا جميع أقسام الرحمة، و المراد بها من الضمير ثانيا: الرحمة الخاصة الزائدة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطونها وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا أي

بحججنا و دلالاتنا يُؤْمِنُونَ ثم بيّن أولئك بقوله:

[158] الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ أي أن الذين تكتب لهم الرحمة الكاملة هم التابعون لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْأُمِّيَ نسبة إلى أم القرى «مكة» و بمعنى الذي لم يتعلم عند معلم- و إن كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم كل شي ء بوحي الله و إرادته- و العرب تسمي من لم يتعلم ب «الأمي»، نسبة إلى الأم، كأنه بقي مثل ما ولدته أمه الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ فإن الكتابين بشّرا به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبرا بنعته، و إنما حرّفهما- بعد ذلك- اليهود و النصارى.

و للشيخ محمد صادق فخر الإسلام، في كتابه «أنيس الأعلام» قصة طويلة حول هذا الموضوع، و لم يكن هذا بدعا، فقد كان كل نبي سابق يبشر بالنبي اللاحق، كما أن كل نبي لا حق يصدّق النبي السابق، و نحن اليوم نرى صفة الإمام المهدي عليه السّلام في كتبنا، حيث وعدنا بظهوره «عجل الله فرجه».

ثم بيّن سبحانه سائر صفاته التي تجعل من دينه دين الفضيلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 255

و الحرية الصحيحة و السعادة يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فما يأمرهم به يكون معروفا يقبله عرف العقلاء و يرتضيه وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فما ينهاهم عنه يكون منكرا عند عرف العقلاء، فأمره و نهيه حسب الموازين العرفية العقلية، لا اعتباطا و اشتهاء وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ المستلذات الحسنة، من مأكل و مشرب و منكح و مسكن و مركب و غيرها وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ القبائح التي تعافها النفوس المستقيمة، فتحليله و تحريمه ليسا اعتباطين، بل لشي ء في ذات الحلال و الحرام، بخلاف تحليل

سائر الناس و تحريمهم، فإنهم قد يحرمون الطيب، كما حرمت الجاهلية السائبة و ما إليها، و قد يحللون الخبيث كما أن اليهودية و النصرانية و من إليهما يحللون الخمر و لحم الخنزير. ثم لا يخفى أن الأمر و النهي أعم من التحليل و التحريم، لكن حيث تقابلا، كان لكل منهما مصداق غير مصداق الآخر.

وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ أي ثقلهم، فإن الإصر هو الحمل الثقيل و معنى «وضعه» أن مناهجه سهلة سمحة لا ثقل فيها و لا صعوبة وَ يضع عنهم الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أغلال جمع «غلّ»، و هو ما يقيد يد الإنسان أو رجله أو غيرهما، فإن من خواص الإسلام أنه يطلق الحريات المعقولة، فالسفر و الإقامة و التجارة و الزراعة و الصناعة و البيع و الشراء و الكلام و الكتابة و التجمع و غيرها، كلها مباحة لا قيود عليها إلا بعض الشرائط الطفيفة التي هي في صالح المجتمع و الفرد، و لا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 256

[سورة الأعراف (7): آية 158]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

يعلم مدى ذلك إلا بالمقايسة إلى الأنظمة و المناهج الدنيوية التي كلها كبت و استعباد و استغلال فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي بالرسول محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ عَزَّرُوهُ أي عظّموه و وقروه وَ نَصَرُوهُ على أعدائه وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي القرآن، فإنه نور يهتدى به في مسالك الحياة المظلمة، كما أن الضياء يهتدى به في مسالك الليل المظلم،

أو المراد: علي و الأئمة عليهم السّلام كما في بعض الأحاديث، أو الجميع، لأنه لفظ عام، و كل واحد من هذه الأمور مصداق، و «الإنزال» بالنسبة إلى الأئمة ليس فيه محذور، لما سبق، أن التعبير بالإنزال في مثل هذه الموارد من جهة الله سبحانه الواهب لهذه الأشياء كما قال: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «1»، و كما قيل في قوله سبحانه: اهْبِطُوا «2»، أُولئِكَ الذين آمنوا بهذا النبي هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدنيا و الآخرة.

[159] و قبل أن يرجع السياق إلى تتميم قصة موسى عليه السّلام، تتميما لما سبق من وصف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيخاطبه سبحانه بقوله: قُلْ يا رسول الله للناس: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً أرسلني إليكم لأدعوكم إلى الله الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك لهما

______________________________

(1) الحديد: 26.

(2) البقرة: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 257

[سورة الأعراف (7): آية 159]

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159)

المتصرف فيهما لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له يُحيِي وَ يُمِيتُ فالجماد يجعله حيا نباتا أو إنسانا أو حيوانا، و الأحياء يميتهم، و لعل ذكر هذه الصفات لرد النصارى و اليهود الذين جعلوا لله شريكا و ولدا، و لرد المشركين الذين كانوا ينسبون الإحياء و الإماتة إلى الأصنام فَآمِنُوا أيها الناس بِاللَّهِ إيمانا صحيحا وَ رَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النَّبِيِّ الْأُمِّيِ و كأنه أتي بهذا الوصف للتناسب مع ما في الكتابين السابقين الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ فإنه آمن أولا ثم أمركم بالإيمان، لا مثل كثير من الرؤساء الذين هم أنفسهم لا يطبقون المبادئ التي يدعون إليها.

و لعل المراد

بالكلمات: الكتب السابقة و القرآن الكريم وَ اتَّبِعُوهُ فيما يأمركم و ينهاكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لتكونوا مهديين، فإن الفعل قد ينسلخ من معناه الزمني ليدل على أصل المعنى المادي، أو المراد تهتدون إلى الجنة و الرضوان، حتى يصح تعقّب الاهتداء لما تقدم.

[160] و حيث فرغ السياق عن الفذلكة المرتبطة بذكر النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجع إلى قصة موسى عليه السّلام و قومه، و لمّا أن وصف سبحانه قوم موسى عليه السّلام بالكفر و عبادة العجل و غير ذلك، ذكر أن منهم من بقوا على الإيمان و الطاعة وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ أي جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِ أي يدعون إلى الحق و يرشدون إليه وَ بِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ أي يحكمون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 258

[سورة الأعراف (7): آية 160]

وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

بالحق و يعدلون في حكمهم. و هذا واضح، فإن كل أمة انحرفت لا بد و أن يبقى فيها أناس معتدلون، و كذلك كان قوم موسى عليه السّلام في زمانه و بعده إلى زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فكانوا إذا رأوا عيسى نبيا آمنوا به، و إذا رأوا الرسول مبعوثا صدقوه و اتبعوه، لكن الكثرة الساحقة منهم لمّا كانت منحرفة، كانت «عمومات الخطاب القرآني» تنصب عليهم، فإن البلغاء غالبا يتكلمون حول الأمور بمراعاة الغالب، فيقال: «أهل مدينة

كذا حسان الوجوه، أو قباح، أو كرماء، أو بخلاء أو جبناء، أو ما أشبه» و هم يريدون الكثرة الغالبة، لا الجميع.

[161] وَ قَطَّعْناهُمُ أي فرّقنا بني إسرائيل تفريقا قبيليا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً كل فرقة منهم قبيلة تنتهي إلى سبط من أسباط يعقوب عليه السّلام فقد كان له اثني عشر ولدا، كل ولد ولّد قبيلة أُمَماً بيان لاثنتي عشرة أسباطا، فكل جماعة منهم أمة. و هذا من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل لأن القبائل المتعددة تمشي أمورها بيسر بخلاف ما لو كان الجميع قبيلة واحدة، فإن الرؤساء إذا تعددوا تنافسوا في المكارم، و سهل مراجعة المرؤوسين إليهم، كما قال سبحانه: وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا «1».

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أي طلبوا منه السقيا، و أن يسقيهم ماء، و ذلك حينما كانوا في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ و هو حجر كان معه فإذا أرادوا الماء وضعوه، و ضربه موسى

______________________________

(1) الحجرات: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 259

[سورة الأعراف (7): آية 161]

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)

بعصاه التي كانت تنقلب ثعبانا متى ما أراد فَانْبَجَسَتْ أي انفجرت. و لعل الفرق بينهما أن الانبجاس خروج الماء بقلّة، و الانفجار خروجه بكثرة. و في بعض التفاسير: إن الماء كان يخرج من الحجر أولا بقلّة ثم بكثرة.

مِنْهُ أي من الحجر اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً لكل سبط عين، حتى لا يزاحم بعضهم بعضا في الشرب قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من الأسباط مَشْرَبَهُمْ أي محل شربهم و أخذ الماء منه وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ حيث كان يؤذيهم حرّ

الشمس فتأتي سحابة تظللهم ليستريحوا تحت ظلها وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ هو شي ء حلو كالسكر وَ السَّلْوى هو الطير السماني- كما تقدم ذلك في سورة البقرة- كُلُوا يا بني إسرائيل مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و اتركوا خبائثه وَ ما ظَلَمُونا إذ كفروا و عصوا، فإن الله لا يضره كفر الكافر و عصيان العاصي وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث حرموها من خير الدنيا و سعادة الآخرة.

[162] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قِيلَ لَهُمُ أي لبني إسرائيل، و القائل هو الله سبحانه على لسان نبيه موسى عليه السّلام: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس أو أريحا وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ من أنواع المآكل و مختلف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 260

[سورة الأعراف (7): الآيات 162 الى 163]

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)

المزارع و المواضع وَ قُولُوا حِطَّةٌ إذ نطلب من الله سبحانه حطّ ذنوبنا وَ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية سُجَّداً جمع «ساجد»، أي: في حال السجود، بمعنى أنه إذا وصلتم إلى الباب اسجدوا و ادخلوا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ متعلق بقوله: «قولوا حطة» أي إن قلتم و سجدتم نغفر لكم و سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ على غفران الخطايا بالتفضّل و التكرّم. و بين سياق هذه الآية، و ما تقدم في سورة البقرة خلاف جزئي، و ذلك من فنون البلاغة، و أوجه الإعجاز.

[163] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي غيّر العاصون الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم

قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فبدلا من أن يقولوا:

«حطة» قالوا: «حنطة حمراء خير لنا» فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ من جهة العلو بِما كانُوا يَظْلِمُونَ أي بسبب ظلمهم.

[164] وَ سْئَلْهُمْ أي اسأل يا رسول الله اليهود، لأجل تذكيرهم بما كانوا يفعلون من المعصية فابتلوا بعذاب الله، حتى لا يتكرّر منهم ذلك عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي مجاورة للبحر و قريبة منه، من «حضر» ضد «غاب». و قد ذكر بعض المفسرين أنها كانت «إيلة».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 261

إِذْ يَعْدُونَ من التعدّي أي يتجاوزون حدود الله فِي أمر يوم السَّبْتِ فقد حرّم عليهم صيد الأسماك في هذا اليوم- اختبارا- و حلّل عليهم في سائر الأيام، و قد كانوا يتوصلون إلى حيلة ليحلوا بها ما حرم الله، فحفروا أخاديد تؤدي إلى حياض يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الأخاديد و لا يتهيأ لها الخروج، فإذا كان يوم السبت جاءت الحيتان جارية على أمان لها فدخلت الأخاديد و أصبحت في الحياض و الغدران، فلما كانت عشية اليوم همّت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن من صائدها، فلم تقدر فبقيت ليلها في مكان يتهيأ أخذها بلا اصطياد، و كانوا يأخذونها يوم الأحد و يقولون ما اصطدنا في السبت إنما اصطدنا في الأحد، و لكن كانوا كاذبين في ذلك، فإنهم قد أخذوها يوم السبت و إنما القبض كان يوم الأحد إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ جمع «حوت»، و العرب تسمي السمك حوتا و نونا يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء، من «الشرّع» بمعنى الظهور، جمع «شارع»، ك «كتّب جمع كاتب»، و إنما كانت تأتي في هذا اليوم لما علمت من كونها آمنة لا تؤخذ، و لما

كان من عادة الحيوان أن يألف محل الأمان وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي لا يكون السبت، و التعبير بذلك، لأنهم كانوا يعتدون في السبت لا تَأْتِيهِمْ لما عرفت من عدم أمنها، و لعل الأمر كان خارقا للامتحان، أو لعلة أخرى لا نعرفها كَذلِكَ أي بمثل ذلك الاختبار الشديد نَبْلُوهُمْ أي نختبرهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 262

[سورة الأعراف (7): الآيات 164 الى 165]

وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165)

بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم و عصيانهم، فإنه إنما حرّم عليهم الاصطياد في السبت، أو إنما كان تظهر يوم السبت دون غيره، بسبب فسقهم ليشتد الامتحان عليهم.

[165] و قد انقسم بنو إسرائيل أمام هذا العمل إلى ثلاثة فرق أحدها:

الصائدة، الثانية: الساكتة، الثالثة: الناهية عن ذلك وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ أي جماعة مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل، و هي الساكتة، قالوا للفرقة الثالثة الناهية عن المنكر: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي أية فائدة في وعظكم، فإن هؤلاء لا يرتدعون حتى يعذبهم الله أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً دون الهلاك قالُوا أي قال الواعظون في جواب المعترضين:

مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي أن موعظتنا لأجل أن يكون لنا عذر عند الله سبحانه، فنقول له يوم القيامة: «يا رب إنا نهيناهم فلم ينتهوا»، حتى لا يقول لنا سبحانه: لماذا لم تنهوا عن المنكر؟ وَ لَعَلَّهُمْ بالوعظ يَتَّقُونَ و يرجعون عن غيّهم و عملهم المحرم، فإن الإنسان لا يدري من يبقى إلى الأخير في عصيانه و

من يرجع عن طغيانه.

[166] فَلَمَّا نَسُوا أي نسي العاصون ما ذُكِّرُوا بِهِ ما ذكّرهم به الواعظون، بأن فعلوا فعل الناسي، فلم يبالوا بالنهي، بل استمروا على عادتهم في الاصطياد يوم السبت بتلك الحيلة أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 263

[سورة الأعراف (7): الآيات 166 الى 167]

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

و هم الواعظون وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا و هم الصائدون و الساكتون، فإن السكوت عن المنكر ظلم يرجع إلى الإنسان و باله بِعَذابٍ بَئِيسٍ هو «فعيل» من «بئس»، بمعنى الشديد البأس، أي: بعذاب شديد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم.

[167] فَلَمَّا رأينا أنه لم يفدهم الوعظ و لا العذاب الشديد الذي عذبناهم به- لعلهم يرجعون عن غيهم- و عَتَوْا أي تكبّروا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي عن قبول الوعظ قُلْنا و المراد بالقول هنا التكوين: لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي مسخناهم قرودا، و معنى «خسأ» ابتعد عن الخير.

ورد أن الواعظين خرجوا من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء، فنزلوا قريبا منها، فلما أصبحوا غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية، فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت، فدقوه فلم يجابوا و لم يسمعوا منها حس لأحد، فوضعوا سلما على سور المدينة ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قردة يتعاوون، لها أذناب، فكسروا الباب و دخلوا المدينة، قال الراوي: فعرفت القردة أنسابها من الإنس، و لم يعرف الإنس أنسابهم من القردة فقال القوم للقردة: ألم ننهكم؟

[168] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ

تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي أعلم ربك، فإن «تأذن و أذن» بمعنى واحد لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أي يرسلن على اليهود إِلى يَوْمِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 264

[سورة الأعراف (7): آية 168]

وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي من يذيقهم العذاب الشديد. و قد دل التاريخ على أن اليهود كانوا أذلاء مضطهدين، و ما تاريخ «هتلر» منّا ببعيد، و ما يرى أحيانا من دولتهم فهي مليئة بالقلق و الرعب حتى تأتيهم القاضية.

ثم أن إرساله سبحانه العذاب إنما هو بسبب عمل كل جيل جيل، لا لأعمال آبائهم إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَسَرِيعُ الْعِقابِ فإن العقاب اللاحق سريع و إن أمهل الله الظالم أياما.

روي أنه سئل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عن القريب و الأقرب؟

فقال: «كل آت قريب و الموت أقرب»

و لعله يريد عليه السّلام أن «الآتي» يحتمل فوته، بخلاف الموت.

وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فلا يأس للعاصي أنه إذا تاب و عمل صالحا غفر الله له ما أذنب و رحمه.

[169] وَ قَطَّعْناهُمْ أي فرّقنا اليهود في البلاد فرقا مختلفة فِي الْأَرْضِ أُمَماً في كلّ مكان و اتجاه، و ذلك إذلالا لهم، فإن الاجتماع و الوحدة يوجبان العزة و السعادة مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ هم الذين إذا رأوا الحق آمنوا به كعبد الله بن أبي و غيره وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي دون الصلاح يعني المفسدون وَ بَلَوْناهُمْ أي اختبرناهم بِالْحَسَناتِ تارة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 265

[سورة الأعراف (7): آية 169]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ

عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (169)

وَ السَّيِّئاتِ أخرى، أي بالنعم و النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا، فإذا جاءتهم الحسنات شكروا، و إذا أتتهم السيئات استغفروا، فإن كلّا من النعمة و البلاء، رحمة من جهة التذكير و الإيقاظ.

[170] أولئك اليهود الذين كان منهم الصالحون و منهم دون ذلك، ذهبوا و ماتوا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قام مقامهم وَرِثُوا الْكِتابَ يعني التوراة، و «الميراث» هو ما صار للخلف من السلف، لكن هؤلاء غير صالحين- إن وجد فيهم صالح فهو نادر- يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي ما وجدوه من الدنيا أخذوه بلا مراعاة للشريعة، و سمي «عرضا» لأن الدنيا فانية فما فيها عارض زائل، و سمي «أدنى» لأنه أقرب إلى الإنسان من الآخرة وَ إذا قيل لهم بأن فيه الإثم يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا و نتوب بعد ذلك وَ هم لا يستغفرون و لا يتوبون، بل يصرّون على تعاطي الحرام بدليل أنهم إِنْ يَأْتِهِمْ بعد ذلك عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أيضا.

ثم ينكر الله عليهم ذلك بقوله: أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ و لم يقل «منهم»، لإفادة أن الأخذ كان بإكراههم مِيثاقُ الْكِتابِ أي العهد الموجود في كتاب التوراة أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ فلا يحرّموا حلاله و لا يحلّلوا حرامه، فكيف يأخذون الرشوة و سائر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 266

[سورة الأعراف (7): الآيات 170 الى 171]

وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ

تَتَّقُونَ (171)

المحرمات و يقولون أنها محللة عليهم؟ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ أي قرءوا ما في الكتاب فهم عالمون بذلك، و لا مجال لهم أن يقولوا: ما كنا عالمين بالميثاق وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي أن الثواب الذي وعده الله خير من عرض هذه الدنيا الفانية، و هي و إن كانت خيرا لمطلق الناس إلّا أن تخصيص «المتقين» بلحاظ انتفاعهم به فقط دونه غيرهم أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيها اليهود أن الأمر على ما أخبرنا به و الاستفهام للإنكار.

[171] وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ أي يتمسكون بِالْكِتابِ بأن عملوا بما فيه من الميثاق و الأحكام وَ أَقامُوا الصَّلاةَ و تخصيصها بالذكر لأنها تنهى عن الفحشاء إذا أتي بها على وجهها، فكأنها جعلت علما لسائر الأعمال إِنَّا إلى آخر الجملة، خبر «و الذين» لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ الذين يصلحون أنفسهم و يقومون بما يجب عليهم، فنثيبهم بما عملوا و أصلحوا.

[172] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ نَتَقْنَا «النتق» قلع الشي ء من الأصل الْجَبَلَ أي قلعناه، و جعلناه فَوْقَهُمْ أي فوق بني إسرائيل كَأَنَّهُ أي كأن الجبل ظُلَّةٌ أي غمامة، أو سقيفة ذات ظلّ. و قد كان الجبل كبيرا حتى أن في بعض التفاسير أنه كان فرسخا في فرسخ وَ ظَنُّوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 267

[سورة الأعراف (7): آية 172]

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172)

بأن رجح في نفوسهم أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي واقع عليهم، و لعل الإتيان ب «الباء» لإفادة أن وقوعه عليهم يسبب وقوعهم أيضا، و حينما رفع الجبل فوقهم قيل لهم: خُذُوا

ما آتَيْناكُمْ من الأحكام بِقُوَّةٍ أي بشدة و جهد و اجتهاد. و ذلك أن موسى عليه السّلام لما جاءهم بالتوراة لم يقبلوها فقطع جبرئيل عليه السّلام قطعة من جبل الطور و رفعها فوق رؤوسهم، مهددا أنهم إن لم يقبلوا ألقاها عليهم حتى يهلكوا عن آخرهم، و لما رأوا ذلك خافوا و قبلوا بكل كره و إجبار وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ أي من العهود و المواثيق لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي يحصل منكم التقوى، أو لكي تخافوا عقاب الله، فتتجنبوا المعاصي، فإن من بنى على العمل بالكتاب يشع في نفسه جوّ من الرهبة يبعثه على التقوى.

[173] و حين انتهت قصص موسى عليه السّلام مع قومه يبدأ السياق ليفتح قصصا جديدة حول التوحيد، و إذ انتهى من الكلام السابق حول أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل، تأتي هنا قصة أخذ الله سبحانه الميثاق من البشر جميعا حول الوحدانية. و في الآية قولان:

الأول: ما

روي أنه أخرج الله من ظهر آدم عليه السّلام ذريته كالذّرّ يوم القيامة فخرجوا مثل الذر فعرّفهم نفسه و أراهم صنعه، و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربه فثبتت المعرفة و نسوا الموقف.

الثاني: إن الآية جارية مجرى الكلام العرفي البلاغي على طريقة التمثيل.

و من المعلوم أن القول الأول لا مانع فيه إطلاقا، فإن الله قادر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 268

على كل شي ء وَ اذكر يا رسول الله إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ أي أخرج من بني آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من «من بني آدم» أي أخرج من أصلاب الرجال ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم و ذراريهم وَ بعد ما أخرجهم و أكملهم أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي جعلهم شهداء على أنفسهم، فإن من اعترف بشي ء كان شهيدا

على نفسه، قائلا لهم: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ على نحو الاستفهام التقريري، و قد كان ذلك بلسان الأنبياء، كما في كثير من الآيات، مثل: وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ «1»، و المراد: القول لهم على لسان موسى عليه السّلام قالُوا بَلى أنت ربنا.

و هذا اعتراف بالفطرة، فإن الفطرة أذعنت بذلك، كما

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»

و من قبيل ذلك إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها «2»، و فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «3»، و إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «4»، و أشباه ذلك مما هو كثير في القرآن، و هو نوع من البلاغة، كقول الشاعر: «أيا جبلي نعمان بالله خليا»، و قوله: «أيا شجر الخابور ما لك مورقا» و قوله:

قال الحبيب و كيف لي بجوابكم و أنا رهين جنادل و تراب

______________________________

(1) الإسراء: 105.

(2) الأحزاب: 73.

(3) فصلت: 12.

(4) النحل: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 269

فإن الغالب أن يصوغ البليغ الكلام في قالب جذاب لبيان المراد.

شَهِدْنا فالغرض من الآية أن الفطرة تشهد على توحيد الله سبحانه بما أودع فيها من درك الحقيقة و فهم الواقع. و إنما أودعنا في الفطرة هذه الشهادة ل أَنْ لا تَقُولُوا أيها البشر يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يعاتب المشرك على شركه، و الجاحد على جحوده: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا الأمر و هو التوحيد غافِلِينَ فقد أودعنا فيكم ما يزيل غفلتكم.

لا يقال: فعل هذا يلزم صحة العقاب حتى بالنسبة إلى من لم تبلغه الدعوة؟

لأنه يقال:

هو كذلك، إلّا أن الله سبحانه بلطفه لا يعذب حتى يتمّ الحجة الظاهرة، كما قال سبحانه: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1»، و هذا التفسير للآية الكريمة إنما هو القول الثاني الذي يأخذ بالظاهر مع غض النظر عن أخبار «عالم الذر» و الذي أظن أنه لا مانع من الجمع بين الأمرين و دلالة الآية عليهما، فإنه لم يدل دليل على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل الذي يظهر في بعض الروايات أن بعض الآيات القرآنية تدل على أكثر من معنيين سواء كان المعنيان من باب المصداق أو لا، كما أن في الآيات السابقة «إنّا عرضنا ..» يمكن الأمران، و كان الظاهر اللفظي البلاغي يؤكد كون الألفاظ مسوقة للمعنى العرفي، لا الخارجي- و الله أعلم-.

______________________________

(1) الإسراء: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 270

[سورة الأعراف (7): الآيات 173 الى 174]

أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

[174] أَوْ تَقُولُوا أي: لئلّا تقولوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ شركنا وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فلم نكن نعرف الحق من الباطل، فقلدنا آباءنا باعتقاد أنهم أعقل منا و أدرى، فلا بد و أن يكون شركهم على علم و دراية فلا تقصير لنا أَ فَتُهْلِكُنا يا رب بِما لا جرم لنا فيه، فإنا قد اتّبعنا ما فَعَلَ آباؤنا الْمُبْطِلُونَ أي الذين هم على الباطل؟ فإنا قد جعلنا فيكم هذه الفطرة لتكون حاكمة و شاهدة على بطلان فعل الآباء، فلا يكون للمشرك عذر يوم القيامة بأنه لم يدر.

و هنا سؤال: إن الفطرة سواء جعلت في الإنسان أم لم تجعل،

لم يصح احتجاج المشرك، إذ لو لا الأنبياء لم يعذب المشرك، و مع وجود الأنبياء يكون احتجاج الله على المشرك بأنه لم لم يؤمن بالنبي، لا لم لم يسمع نداء فطرته؟ فكيف يعلّل العقاب بجعل الفطرة؟

و الجواب: إنه تعليل بجزء العلة، فإنه لو لا الفطرة لم يكن الإنسان عارفا بصحة كلام الأنبياء، إذ ما لم يدل الباطل على شي ء لا يؤخذ الإنسان بما قام عليه الدليل، و لذا

ورد أن لله حجتين: ظاهرة هي الأنبياء، و باطنة هي العقول.

و عليه فالتعليل إنما هو بجزء العلة، كما يقول القائل: «هيأت لك دارا لتسعد»، مع العلم أن الدار بعض من علة السعادة لا كلها.

[175] وَ كما بيّنا لكم هذه الآية الدالة على التوحيد كَذلِكَ نُفَصِّلُ سائر الْآياتِ و البراهين و نوضحها جلية، ليعرفها كل أحد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 271

[سورة الأعراف (7): آية 175]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175)

وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا عن غيّهم إلى الحق و الرشاد.

و الظاهر أن «الواو» في «و لعلهم» عطف على المعنى المستفاد من «نفصّل» أي «ليعرفونها» و «لكي يرجعوا».

[176] إنا جعلنا هذه الفطرة في الإنسان ليكون انحراف المشرك بلا عذر، و يكون انحراف من انحرف بلا مبرر، و قد وقع مثل هذا الانحراف في بعض الأفراد و هو «بلعم بن باعورا» فقد أعطي «الاسم الأعظم» الذي يستجاب به الدعاء، و كان يدعو به فيستجيب الله سبحانه له، فمال إلى فرعون، فلما مرّ فرعون في طلب موسى عليه السّلام و أصحابه، قال فرعون لبلعم: ادع الله على موسى و أصحابه ليحبسه الله علينا، فركب بلعم حمارته ليمرّ في طلب موسى، فامتنعت

عليه حمارته، فأقبل يضربها، فأنطقها الله عز و جل، فقالت: ويلك على ماذا تضربني، أ تريد أن أجي ء معك لتدعو على نبي الله و قوم مؤمنين، فلم يزل يضربها حتى قتلها و انسلخ الاسم الأعظم من لسانه فنسيه. و الآية و إن كانت في شأنه إلا أنها عامة لكل من انسلخ من آيات الله لترجيحه هوى نفسه، كما هو شأن الآيات القرآنية.

وَ اتْلُ أي اقرأ يا رسول الله عَلَيْهِمْ أي على الناس نَبَأَ أي خبر الَّذِي آتَيْناهُ أي أعطيناه آياتِنا أي حججنا و دلائلنا- و قد تقدم أن المراد من ذلك الاسم الأعظم- فَانْسَلَخَ مِنْها أي خرج من تلك الآيات، كالشي ء الذي ينسلخ من جلده، كأن الآيات كانت كالجلد الواقي له عن شرور الدنيا و الآخرة فأخرج نفسه منها، فتعرض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 272

[سورة الأعراف (7): آية 176]

وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)

للخطر و الهلاك فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي لمّا خرج عن الوقاية تبعه الشيطان ليضلّه عن طريقه فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أي الهالكين.

[177] وَ لَوْ شِئْنا أي اقتضت مشيئتنا أن نجبره على البقاء لَرَفَعْناهُ أي رفعنا «بلعم» بِها أي بتلك الآيات، فلو أردنا أن يبقى بالجبر لأمكننا ذلك، حتى ترتفع درجته وَ لكِنَّهُ أي «بلعم» و الضمير يرجع إلى «الذي آتيناه» كذلك الضمير السابق أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فركن إلى الدنيا و مال إليها، كأنه جعلها موضع خلده و إقامته و أعرض عن الدار الآخرة، أو «أخلد» بمعنى لصق وَ اتَّبَعَ هَواهُ عوض أن يتبع الحق

و يسير في طريق الرشد فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ من «الحملة» أي إن تطرده يَلْهَثْ يخرج لسانه من فمه يتنفس أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ بأن تركته فلم تتعرض له، فإن كل حيوان يلهث في حال الإعياء و الإكلال بخلاف الكلب فإنه يلهث في حال الراحة و الإعياء.

و المراد أنه ضال على كل حال سواء عارضته أم لم تعارضه، بخلاف كثير من الناس الذين يضلون لدى المعارضة و حينما يغضبون أو يرون أن مصالحهم مهددة. إن بلعم أخرج لسانه ليدعو على موسى- شبيها بلهث الكلب- حينما لم يعارضه موسى عليه السّلام و لم يهدد مصالحه، بل كانت أموره أحسن تحت لواء موسى حيث يجمعهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 273

[سورة الأعراف (7): الآيات 177 الى 179]

ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)

الدين، لكنه شبيه بالكلب اللاهث و إن لم تطرده.

ذلِكَ المثال بالكلب مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فإنهم بصفة الكلب في الإيذاء و اللهث و إن لم يتعرض لهم بسوء فَاقْصُصِ يا رسول الله الْقَصَصَ أي أخبار الماضين لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيرتدعوا عن غيهم، إذ يعلمون أن مصيرهم كمصير أولئك إلى الهلاك و الدمار، إن عاندوا الحق و عارضوا الدين.

[178] ساءَ مَثَلًا أي بئس مثلا مثل الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و المراد:

بئس الصفة المضروب لها المثل بصفة المكذبين، فإن سوء المثل يدل على سوء الممثل

له وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ أي أنهم بالعصيان ظلموا أنفسهم حيث حرموها من خير الدنيا و سعادة الآخرة.

[179] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ أي: يهديه الله سبحانه فَهُوَ الْمُهْتَدِي فإن هداية الله هي الهداية الحقة التي تورث خير الدنيا و الآخرة وَ مَنْ يُضْلِلْ أي يضله، بأن يقطع لطفه عنه حيث يراه في سبيل العصيان و الفساد فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم و ما ربحوا شيئا.

[180] وَ لَقَدْ ذَرَأْنا أي خلقنا و أنشأنا لِجَهَنَّمَ اللام للعاقبة، كما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 274

قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «1»، كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فإنه سبحانه خلقهم ليعبدوه و يدخلوا جنته كما قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2»، و قال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ «3»، لكنهم بسوء أعمالهم أوجبوا لأنفسهم الشقاء و دخول النار. و الكلام تعقيب لما تقدم في الآية السابقة من ضرب الأمثال للكفار، فكأنه قال: «مثلهم ذلك، و مصيرهم هذا». ثم إنه يدل على أن مصير «فلان» النار بهذه العلائم ف لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها أي لا يفهمون الحق بسببها، و المراد عدم إذعانهم للحق، لأن التارك و الجاهل سواء، فقد قال سبحانه: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها «4»، وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها الرشد، و إن رأوا بها الأمور المادية، فإن التارك للطريق و الأعمى سواء وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الوعظ و الإنذار سماعا مفيدا، و إن سمعوا ألفاظهما، فإن من لا يستجيب للوعظ هو و الأصم سواء.

أُولئِكَ الأشخاص كَالْأَنْعامِ من الإبل و البقر و الغنم، فكما أنها لا تفقه و لا تبصر

الرشد، و لا تسمع إلى الوعظ كذلك هؤلاء بَلْ هُمْ أَضَلُ من البهائم لأنها تهتدي إلى مصالحها و مفاسدها و تنبعث إذا

______________________________

(1) القصص: 9.

(2) الذاريات: 57.

(3) النساء: 65.

(4) النحل: 84.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 275

[سورة الأعراف (7): الآيات 180 الى 181]

وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181)

بعثت و تنزجر إذا زجرت، بخلاف هؤلاء فإنهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة و لا ينصاعون للأوامر و الزواجر أُولئِكَ الضالون هُمُ الْغافِلُونَ عن الحق و الواقع، فإنهم كالغافل في عدم الانتفاع بالأوامر و النواهي، و ليست الأنعام غافلة، فهم أسوأ من الأنعام.

[181] و حيث ذكر سبحانه مصير الكافرين و أنهم الذين لا يعقلون و لا يهتدون، بيّن ما يجب أن يكون عليه أهل القلوب الفاقهة من العقلاء فقال: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الحسنة المعنى كالكريم و الغفور و الجواد و الرحيم و العفوّ و غيرها فَادْعُوهُ بِها أي فادعوا الله بهذه الأسماء بأن يقال: يا كريم يا غفور و هكذا وَ ذَرُوا أي اتركوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي ينحرفون فيها بتسمية أصنامهم بأسمائه سبحانه، فقد كانوا يقولون لشي ء: هذا إله المطر، و هذا إله النبات، و هذا إله الأرض .. و هكذا، فكانوا يجعلون صفاته و أسمائه للأصنام أو الأوهام، أو المراد: يلحدون بأسمائه كما سموا صنما ب «اللات» مخفف «الله» و صنما ب «العزى» مخفف «عزيز»، أو المراد:

يلحدون بتسمية الله بأسماء لا تليق به كتسميته «أبا» و «زوجا» و ما أشبه ذلك. إنهم سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا بالشقاء و في الآخرة بالنار.

[182] ثم

بيّن سبحانه أن ليس كل الناس منحرفين في الشرك و الظلم وَ مِمَّنْ خَلَقْنا من البشر أُمَّةٌ يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِ و يرشدونهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 276

[سورة الأعراف (7): الآيات 182 الى 184]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)

إليه وَ بِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ أي يحكمون بالعدل لا يزيغون عن الحق و لا يميلون نحو الباطل.

[183] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يؤمنوا، بل بقوا على عنادهم، مصرّين على كفرهم سَنَسْتَدْرِجُهُمْ «الاستدراج» هو تقريب شي ء إلى المقصد درجة درجة، أي أن المكذبين نقرّبهم إلى العذاب و الهلاك درجة فدرجة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنهم آخذون في القرب من الهلاك، فإن المؤمن كلما زلت به قدم تذكّر و استغفر و ابتعد بنفسه عن الهلكة، أما المكذب فإنه حيث لا يبالي بما عمل يتقرب إلى الهلاك شيئا فشيئا و هو لا يعلم ذلك.

[184] وَ أُمْلِي لَهُمْ «الإملاء» التأخير، أي: أمهلهم و لا أعاجلهم بالعقوبة فإنهم لا يفوتون الله سبحانه، و الإمهال لهم موجب لكثرة عذابهم لازدياد معصيتهم إِنَّ كَيْدِي «الكيد» هو معالجة الأشياء خفية، إن عملي للانتقام منهم مَتِينٌ مستحكم لا يفوته شي ء.

[185] أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا أي هلّا يتفكر المشركون فيما يقولونه و يرمون به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الجنون، فإنهم كانوا يقولون أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مجنون ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ و كيف يكون مجنونا من يأتي بما يعجز عنه البشر، و كل أقواله و أعماله في غاية الصحة و الدقة؟!

إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 277

[سورة الأعراف (7): آية 185]

أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)

منذر للناس إن عملوا شيئا يعاقبوا عليه، فواضح كونه منذرا، و إنما ذكر «الإنذار» فقط لأنه في مقابل المشركين الذين كانوا يعملون السيئات.

[186] إنهم كيف لا يؤمنون و الكون كله يدل على وجود الله سبحانه؟ ثم كيف لا يؤمنون و من الجائز أن يموتوا عاجلا فيبتلوا بالعقاب و العذاب؟! أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا نظر اعتبار و تعقّل فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي آثار الملك، فإن الأثر يدل على المؤثر حتى يعترفوا بالإله الخالق و بما يليق به من الصفات وَ أولم يتفكروا و ينظروا في ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ من أصناف خلقه فيعرف أنه خالق الأشياء جميعا وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ حتى يعدوا للموت عدّته و يحتاطوا لما بعد الموت حتى لا يندموا و يخسروا، فإن مجرد احتمال ذلك كاف في أن يرتدع الإنسان، كما

أشار إلى ذلك الإمام علي عليه السّلام في الأبيات المنسوبة إليه: قال المنجم و الطبيب كلاهما* لم يحشر الأموات، قلت: إليكما إن كان قولكما فلست بخاسر* أو كان قولي فالخسار عليكما

إنهم لم يؤمنوا بالقرآن الكريم الذي تكتنفه كل شواهد الصدق و الحق فَبِأَيِّ حَدِيثٍ و مطلب و خبر بَعْدَهُ أي بعد القرآن يُؤْمِنُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 278

[سورة الأعراف (7): الآيات 186 الى 187]

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ

أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)

أو بعد «محمد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث تقدم قوله «ما بصاحبهم». و في الكلام مجاز سواء عاد الضمير إلى القرآن؛ لأن ليس كل القرآن حديثا و قصة و إنما فيه إنشاء، أو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؛ لأنه صاحب حديث.

[187] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يخلي بينه و بين الضلال، لما سبق منه من الإعراض عن الحق فَلا هادِيَ لَهُ إذ الهداية منحصرة بالله سبحانه، فإذا لم تشع الهداية من قبله فلم يكن للإنسان هاد سواه وَ يَذَرُهُمْ أي يترك هؤلاء المعرضين الذين لا يتفكرون و لا ينظرون إلى الحق فِي طُغْيانِهِمْ و ضلالهم، كأنهم طغوا عن الحق يَعْمَهُونَ أي يتحيّرون، فهم دائما متردّدون بين الحق و الباطل، حيث أن الضمير يناديهم لاتباع الحق، و شهواتهم تمنعهم. و قد تقدم أن العمى في العين، و العمه في القلب.

[188] و لما تقدم الوعيد بيوم القيامة، الذي يسمى ب «الساعة»، سأل جماعة عن وقت القيامة يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة أَيَّانَ مُرْساها أي متى وقوعها، من «رسا الشي ء يرسو» إذا ثبت.

و «المرسى» بمعنى المثبت، أي متى وقت ثبوتها؟ قُلْ يا رسول الله في جوابهم: إِنَّما عِلْمُها أي علم الساعة عِنْدَ رَبِّي فهو وحده يعلم وقتها لا يُجَلِّيها أي لا يكشفها. الظاهر أن المراد: لا يأتي بها لِوَقْتِها أي حين يكون وقتها إِلَّا هُوَ تعالى، فعلمها عنده، و وقتها عند إرادته، و إنما

لم يكشف الله سبحانه عن وقتها لخلقه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 279

ليكون أدعى لهم إلى الطاعة و اجتناب المعصية، فإن الإنسان إذا لم يعرف وقت البلاء يكون خائفا دائما، أما إذا عرف أخّر الطاعات و كان خوفه لقرب وقت الساعة.

و لا يقال: إن القيامة ليس مما يخاف منه الإنسان في الدنيا، إذ هي بعد القبر، فعلمها و عدمه سواء بالنسبة إلى الإنسان الحي، و إنما يصح هذا التعليل بالنسبة إلى الموت.

لأننا نقول: قيام القيامة بالنسبة إلى العاصين- و هم في القبر- من أكثر الأشياء خوفا، كما ورد في الأحاديث.

ثَقُلَتْ الساعة، أي وقوعها فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإن أهل السماوات و الأرض يخافونها خوفا عظيما لشدتها و ما فيها من المحاسبة و المجازاة لا تَأْتِيكُمْ أيها البشر، أيها الشاعرون إِلَّا بَغْتَةً أي فجأة يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي أن الناس يسألونك يا رسول الله عن الساعة و عن وقت قيامتها، كأنك عالم بها، فإن «الحفي» بمعنى المستقصي في السؤال، و يقال للعالم النحرير: «حفي» باعتبار أنه من كثرة سؤاله استوعب الأمر تماما و علم الواقع كما هو، فالمعنى: «كأنك عالم بالقيامة قد أكثرت المساءلة عنها» قُلْ يا رسول الله في جواب السائلين: إِنَّما عِلْمُها أي علم الساعة عِنْدَ اللَّهِ كرّر هذا ليصل بقوله: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ إن علمها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 280

[سورة الأعراف (7): آية 188]

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

خاص بالله لا يشترك معه في هذا العلم أحد.

[189] إن الساعة غيب

لا يعلمه إلا الله، و كذلك سائر الأمور الغائبة عن الحواس، و إن كنت أنا- الرسول- أعلم الغيب بذاتي، لكنت أعلم ما يضرّني فاجتنبه و ما ينفعني فارتكبه قُلْ يا رسول الله لهؤلاء السائلين: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا فإنني لا أقدر على جلب نفع و لا دفع ضرر إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فما شاء أن يملكني إياه؛ أتمكن منه، و ما لم يملكني إياه؛ لا أتمكن منه، و هذا كما ملّك سبحانه الرسول بعض المنافع و دفع عنه بعض المضارّ، نعم الرسول أكثر ملكا حيث أنه مزوّد بقسم من الحصانة و علم الغيب وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ علما مطلقا كما يعلمه الله سبحانه، فإن الرسول لم يكن يعلم الغيب بذاته، و إنما بمقدار علم الله سبحانه، كما قال سبحانه: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1»، لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي أكثر من الأشياء الخيرة كالشراء الرخيص أيام الرخص لأيام الغلاء، و غيره مما لو عرفه الإنسان لانتفع به كثيرا وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ الذي يمكن دفعه، فإن الإنسان إذا عرف أن هذا الغذاء يضره أو هذا الشخص يقتله، أو هذا السفر يؤذيه- مثلا- لأجتنبها.

و من الغريب أن بعض الناس يتمسكون بمثل هذه الآية لعدم معرفة الرسول بالأشياء المستقبلية إطلاقا، إنه ليس إلا كتمسك المجبرة بقوله

______________________________

(1) الجن: 27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 281

سبحانه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ «1»، و المجسمة بقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ «2»، و القدرية بقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «3»، و القائلين بحجية التوراة و الإنجيل بقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً «4»، وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ

بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ «5»، و القائلين بمعصية الأنبياء بقوله: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «6»، و القائل بجهل الله سبحانه و تعالى بقوله: قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ «7»، و القائل بتعدد الآلهة بقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «8»، حيث دلل على أن الآلهة مع الله لا توجب الفساد. و هكذا من أمثال هذه الاستدلالات التي إن دلت على شي ء فإنما تدل على عدم اطلاع القائل بأساليب الكلام، و عدم جمعه بين النص و الظاهر، و العام و الخاص، و المطلق و المقيد، و الحقيقة و المجاز، و معارض السياق.

إِنْ أَنَا أي ما أنا إِلَّا نَذِيرٌ أنذر الكافر و العاصي بالعقاب وَ بَشِيرٌ أبشر المؤمن المطيع بالثواب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اللام للعاقبة، أي أن فائدة إنذاري و بشارتي إنما هي للمؤمن، أما غيره فالرسول بشير نذير له، لكنه حيث لا ينتفع بقوله، فكأنه ليس مرسلا بالنسبة إليه.

و قد ورد في بعض التفاسير أن أهل مكة قالوا: يا محمد! ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه،

______________________________

(1) الأعراف: 187.

(2) القلم: 43.

(3) القمر: 50.

(4) المائدة: 45.

(5) المائدة: 48.

(6) طه: 122.

(7) يونس: 19.

(8) الأنبياء: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 282

[سورة الأعراف (7): آية 189]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)

و بالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى أرض قد أخصبت، فأنزل الله هذه الآية.

[190] و حيث انتهى السياق من قصة المعاد، و نبذ من يوم البعث، يأتي دور قصة أخرى من قصص

البشر الذي لا يزال ينحرف عن الفطرة و يتوجه نحو الشرك و الكفر، كما تقدمت قصة «بلعم» بهذا الصدد هُوَ الله وحده الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فابتداء الخلقة بآدم عليه السّلام وحده وَ جَعَلَ أي خلق مِنْها أي من جنس تلك النفس و نوعها و صورتها زَوْجَها حواء عليها السّلام لِيَسْكُنَ آدم عليه السّلام المفهوم من قوله «نفس واحدة» إِلَيْها أي إلى الزوجة، فيستريح بها و تكون موضع سكونه و اطمئنانه و راحته فَلَمَّا تَغَشَّاها أي قاربها، إذ الرجل حين المقاربة يكون كالغشاء و الغطاء لها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً هو الماء الذي يستقر في الرحم أول الأمر، و في هذا الحين لا يحسّان بالحمل حتى يعلّقا عليه آمالا، و ينذرا لأجل الجنين نذورا فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت بالحمل على الخفة فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت ذات ثقل، و تبيّن الحمل و ظهر أثره في الزوجة دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أي دعا الزوج و الزوجة، فإن الكلام حول الإنسان لا حول آدم و حواء عليهما السّلام، فإنه سبحانه يريد بيان الطبيعة البشرية التي تستقيم في أول الأمر ثم تنحرف لنوازع و رغبات، و الكلام في مثله حيث يبتدأ بجهة، ثم ينصرف لجهة أخرى، يسمى استخداما، فإن اللفظ خدم معنى، و الضمير معنى آخر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 283

[سورة الأعراف (7): الآيات 190 الى 191]

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (191)

كما قال: وَ الْمُطَلَّقاتُ إلى قوله- وَ بُعُولَتُهُنَ «1»، فإن الضمير يرجع إلى بعض المطلقات، و هنّ الرجعيات فقط. لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا صالحا كاملا صحيح الخلقة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

لك وحدك لا شريك لك، فنقدر فضلك و لطفك علينا، و نحمدك و نشكرك على ما أعطيتنا هذا الولد الصالح.

[191] فَلَمَّا آتاهُما أي أعطى الله الأبوين ولدا صالِحاً جَعَلا أي الأبوان لَهُ سبحانه شُرَكاءَ فِيما آتاهُما في الشؤون المرتبطة بالولد، فتشكر الأصنام كما يشكر الله في إعطاء الولد، و يسمياه بعبد العزى و عبد اللات و عبد مناة، و أحيانا كانا ينذرانه للأصنام ذبحا أو خدمة؛ كما ينذر لخدمة المسجد و نحوه فَتَعالَى اللَّهُ أي أن الله أعلى و أجل عَمَّا يُشْرِكُونَ أي يشرك البشر، إنه سبحانه ليس له شريك و لا مثيل.

[192] أَ يُشْرِكُونَ استفهام توبيخي، أي كيف يشرك هؤلاء مع الله شريكا ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً؟ فإن الأصنام لا تتمكن من خلق شي ء وَ هُمْ يُخْلَقُونَ أي أولئك الشركاء- كالأصنام- هي كلها مخلوقة، أو المراد أن الجميع من المشرك و الأصنام مخلوقون.

______________________________

(1) البقرة: 229.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 284

[سورة الأعراف (7): الآيات 192 الى 193]

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)

[193] وَ لا يَسْتَطِيعُونَ أي لا تستطيع تلك الأصنام لَهُمْ أي لعبّادها نَصْراً حيث يقعون في المشاكل وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ لا تستطيع الأصنام نصر أنفسها إذا تعدّى عليها متعدّ، كما قد رأى ذلك الشاعر أن الثعلب يبول على رأس صنمه، فكسره قائلا:

أرب يبول الثعلبان برأسه؟ لقدذلّ من بالت عليه الثعالب

و لا يخفى أن الإتيان بضمير العاقل للأصنام للتشاكل بما كان يعتقده عابدوها من أنها تعقل و تفهم و تضر و تنفع.

[194] وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أيها المسلمون إن تدعوا هؤلاء المشركين إِلَى الْهُدى

ليهتدوا و يتركوا أصنامهم لا يَتَّبِعُوكُمْ حيث استحوذ الشيطان عليهم سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ فإن دعاءهم إلى الإيمان و السكوت عنهم متساويان، كما قال سبحانه:

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «1».

و قد يستشكل بعض الملحدين: بأن الأمر إن كان بالنسبة إلى مرحلة الظاهر فالله «سبحانه» و الأصنام متساويان من هذه الجهة، فإنه لا يظهر أثر للنصرة و عدمها، و إن كان بالنسبة إلى مرحلة الواقع، فأي

______________________________

(1) البقرة: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 285

[سورة الأعراف (7): آية 194]

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194)

دليل على الفرق، و إن الأصنام تنصر في زعم عبادها كما أن الله ينصر في نظر المسلمين؟

و الجواب: إن الأدلة لما دلّت على وجوده سبحانه كانت كافية للفرق في مرحلة الواقع، فلو كان هناك شخصان أحدهما يملك شهادة الطب، و الآخر جاهل، و لم ينفع الدواء الذي وصفه صاحب شهادة الطب للمريض، لا يمكن أن يقال بالتساوي مع الجاهل، و إنما يجب أن يعلل بعلة أخرى، و إن شئت قلت: إن الدليل في قوله تعالى:

لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً خطاب في الظاهر، و إنما البرهان المقنع ما ذكرنا. و بهذا يجاب عن الإشكال بالنسبة إلى التوسل بالأنبياء و الأولياء مما دلّ الدليل عليه.

[195] إِنَّ الَّذِينَ أي الأصنام الذين تَدْعُونَ هم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تجعلونهم آلهة عِبادٌ أي مخلوقة لله، فإن العبد هو المطيع. و من المعلوم أن الجمادات تطيع الله تعالى، كما يطيعه الإنسان، كما قال سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1»، أَمْثالُكُمْ أيها البشر فليسوا بآلهة حتى تعبدونهم.

فَادْعُوهُمْ

في مهماتكم و كشف الضر عنكم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ الأمر هنا للتعجيز و التوهين، كما تقول للعاجز عن القيام: «قم إن صدقت أنك قادر» إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنها آلهة تنفع و تضر.

______________________________

(1) الإسراء: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 286

[سورة الأعراف (7): آية 195]

أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)

و من الوهابيين من يستدل بهذه الآية بعدم صحة التوسل بالأنبياء و الأئمة، قائلا: «فادعوهم فليستجيبوا لكم».

و الجواب: نقضا؛ «فادع الله فليستجب لك» فإن قال: يستجيب، قلنا: يستجيبون بأمر الله تعالى و إذنه. و حلا؛ بأن الفارق هو الدليل، و عدم الاستجابة العاجلة لا دلالة فيه لأحد الطرفين.

[196] ثم بيّن سبحانه أن الأصنام لا تقدر على شي ء حتى على ما يقدر الإنسان العادي عليه، فمن لا يقدر على أقل شي ء كيف يكون إلها معبودا؟ أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أي: هل لهذه الأصنام أرجل يمشون بها في مصالحكم، أو مشيا لأنفسهم، حتى يتساووا مع أقل حيوان أو إنسان؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها «البطش» هو الأخذ بشدة، أي يأخذون بأيديهم بشدة ما يريدون الانتقام منه، أو مطلق الأخذ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها الأشياء؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها الأصوات و الشكاوى و غيرهما؟ إنها لا تحس إطلاقا، فكيف تعبدون أنتم أيها البشر هذه الأشياء الفاقدة لكل حس؟

قُلِ يا رسول الله للمشركين: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي الشركاء الذين جعلتموهم مع الله سبحانه ثُمَّ كِيدُونِ أي امكروا بي بأجمعكم عابدا و معبودا فَلا تُنْظِرُونِ لا تأخروني، بل أسرعوا في الكيد، فإن ربي ينصرني عليكم جميعا. إن الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 287

[سورة الأعراف (7): الآيات 196 الى 199]

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)

يتحدّاهم، لبيان أن الله ناصر نبيه، لكن أصنامكم لا تنصركم.

[197] إِنَّ وَلِيِّيَ الذي يتولى أمري و ينصرني اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أي القرآن، فإنه كما أمرني بالرسالة ضمن لي النصرة وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ يتولى أمورهم و ينصرهم على أعدائهم، و هذا لا ينافي عدم الحيلولة بينهم و بين أعدائهم أحيانا لمصالح و جهات.

[198] وَ الأصنام الَّذِينَ تَدْعُونَ هم مِنْ دُونِهِ أي غير الله سبحانه من الآلهة لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ لا يقدرون على أن ينصروكم وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فإذا تعدّى عليهم متعدّ لا يتمكنون من الدفاع عن أنفسهم.

[199] وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إن تدعوا أيها المسلمون، المشركين إِلَى الْهُدى و الحق لا يَسْمَعُوا دعاءكم فإنهم معاندون، و قيل: المعنى إن تدعوا الأصنام لا يسمعوا لأنهم جماد وَ تَراهُمْ يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه الرؤية يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي المشركون، أو الأصنام، فإن الأصنام عيونها مفتوحة إلى الإنسان كالناظر وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ إبصارا نافعا؛ إذا كان وصفا للمشركين، أو أصل الإبصار؛ إذا كان وصفا للأصنام.

[200] و حيث أن الإنسان إذا ورد في خضم الاحتجاج و رأى عناد الخصم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 288

[سورة الأعراف (7): آية 200]

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ

بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

على الباطل يأخذه الغضب الموجب للخروج عن آداب المحاورة، أوصى الله سبحانه نبيه بمكارم الأخلاق- بمناسبة المقام- فقال: خُذِ الْعَفْوَ عن الناس أي لازم العفو عنهم، و أصفح عن السيئ منهم، أو المراد خذ الزائد من أموالهم، أي ما عفا و فضل من نفقاتهم، فإن الخمس و الزكاة و الخراج و الجزية كذلك- غالبا- و المعنى الأول أقرب إلى الظاهر، و المعنى الثاني وارد في الحديث، و لا يبعد إرادة الأمرين، فإن استعمال اللفظ في أكثر من معنى جائز إذا كان هناك دليل وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ أي ما يستحسنه العرف، و هو ما ليس بقبيح عند العقل، و هو ضد النكر وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلا تقابل جهلهم بجهل. إن المتكلم مع طبقات الناس المختلفة يحتاج إلى التزام هذه الأشياء إن أراد مراعاة الآداب، فاللازم أولا أن يعفو عمن يخشن في الكلام و يتنكب عن طريق الحق، ثم يأمره بالمعروف لعله يرجع و يسترشد، فإذا رأى منه جهلا و إصرارا، فليعرض عنه و لا يقابله بمثل عمله.

[201] وَ إِمَّا مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة تأتي لتجميل الكلام و فوائد أخر يَنْزَغَنَّكَ «النزغ» هو الإزعاج بالإغراء، و أكثر ما يكون ذلك عند الغضب، أي إن تالك مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ وسوسة و نيل و نخسه في القلب، و حركة و إزعاج بأن ثار القلب أمام الجاهل و غضب و احتد، حتى أراد الانتقام و السباب فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي سل الله سبحانه أن يعيذك و يحفظك من شر الشيطان إِنَّهُ سبحانه سَمِيعٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 289

[سورة الأعراف (7): الآيات 201 الى 202]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ

تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)

لقولك عَلِيمٌ بقصدك و ما عرض لك.

[202] ثم بيّن سبحانه أن هذه قاعدة المؤمنين كلما ألقى الشيطان في قلوبهم ميلا و زيغا، أدركتهم الفطنة، فلم يميلوا إليه إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا بأن جعلوا التقوى شعارهم، و ذاقوا حلاوتها و صارت ملكة و عادة عندهم إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ بأن أتاهم من يطوف من الشياطين على قلوب بني آدم، فأراد إغواءهم، و ميلهم عن الحق، و أعمى قلوبهم، و زين في نفوسهم الشهوات. و قد دلت الأدلة الشرعية و العلمية «1» على أن في الجو أرواح شريرة شأنها الإغراء و الإغواء، و لا يراها الإنسان.

تَذَكَّرُوا و أدركتهم ملكة التقوى الكامنة في نفوسهم فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ يبصرون الطريق و لا يعمهون عن الحق، و لا يتمكن الشيطان من تغشية قلوبهم بغشاء الشهوات و المغريات.

[203] هذا شأن المتقين الذين لا يسايرون الشياطين في إغوائهم و إغرائهم وَ أما إِخْوانُهُمْ أي إخوان الشياطين الذين لا تقوى لهم ليرتدعوا عن المعاصي و الآثام فإنهم يَمُدُّونَهُمْ أي يمدون الشياطين و يسايرونهم فِي الغَيِ و الضلال، فإذا مس العاصي طائف من الشيطان عمل بما يوحي إليه، و كان ذلك إمدادا للشياطين، لأنه مشى في ركابهم، و مسايرة لهم ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ بل يذهبون إلى آخر

______________________________

(1) المس الروحي/ عبد الرزاق نوفل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 290

[سورة الأعراف (7): آية 203]

وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

الشوط، بخلاف المتقين الذين لا يمدون الشياطين و يقصّرون في المسايرة، و لعل

جملة «ثم لا يقصرون» للإشارة إلى أن المتقي إذا غفل و أغري و مشى بعض الطريق مع الشيطان أدركته بصيرته فرجع و لا يسير إلى آخر الشوط، بخلاف إخوان الشياطين.

[204] و في سياق الكلام حول أدب الحوار مع الناس، و أن المتقي متأدب بالآداب يأتي دور المحاورة بين الرسول و الكفار حول القرآن كشاهد لأدب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كون الكفار إخوان الشياطين الذين يمدونهم في الغي وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا رسول الله بِآيَةٍ أي بمعجزة يقترحونها عليك، فإن الكفار كانوا يقترحون على الرسول الأمور الخارقة للعادة لمجرد المجادلة و المعاندة، لا لإرادة الاهتداء و الاسترشاد، فإذا لم يستجب الرسول لمطلبهم قالُوا أي الكفار: لَوْ لا اجْتَبَيْتَها أي لماذا لم تختر هذه الآية المقترحة؟ و لماذا لم تأت بها؟ كأنهم، يرون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفاعل لما يشاء، فمهما اجتبى آية و اختارها، أتى بها قُلْ يا رسول الله: إن الآيات ليست باختياري و اجتبائي، بل إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فاللازم اختيار الله للآيات، فما رآها صلاحا أرسلها و زودني بها، و ما لم يرها صلاحا لم يرسلها، إن كنتم تريدون الحق و الهدى- حقيقة- و قصدكم من طلب الآيات، إقامة الدليل و الحجة على صدقي ف هذا الذي جئت به من القرآن المعجز الذي لم تتمكنوا أن تأتوا بمثله بَصائِرُ و حجج و براهين مِنْ قبل رَبِّكُمْ وَ هُدىً يهدي من أراد الحق إلى الحق وَ رَحْمَةٌ يوجب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 291

[سورة الأعراف (7): الآيات 204 الى 205]

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205)

ترحّم الله سبحانه و لطفه بالعاملين به لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اللام للعاقبة، إذ المنتفع بهذه الآيات هم المتقون فقط.

[205] و إذ تقدم ذكر القرآن تلميحا بقوله «هذا بصائر» بيّن سبحانه لزوم الأدب أمام القرآن بقوله: وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ أي قارئ كان فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي أعيروا أسماعكم له وَ أَنْصِتُوا «الإنصات» هو السكوت. و من المعلوم أن الإنصات أخص من الاستماع، فإن الإنسان ربما يستمع إلى الكلام و هو يتكلّم، و لذا نص عليه، فإن الأدب أن يستمع الإنسان، و لا يتكلّم، و هذا الأمر للاستحباب، ككثير من أوامر القرآن الكريم كقوله:

فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً «1»، كما دلّت على ذلك الأحاديث لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي يرحمكم الله سبحانه بسبب تأدبكم أمام كتابه الكريم، أو بسبب اتعاظكم بمواعظه، حيث تستمعون لها.

[206] و بمناسبة الإنصات عند تلاوة القرآن، يأتي بيان كيفية دعوة الله سبحانه، فإن القرآن كلام الله للخلق، و الدعاء كلام الخلق مع الله سبحانه وَ اذْكُرْ يا رسول الله، أو كل من يأتي منه الذكر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أما المراد به حديث النفس، و أما المراد التذكر بالهمس و الإخفات، و لعل الأول أقرب، بقرينة ما يأتي بقوله: «و دون ...» تَضَرُّعاً أي بنحو الضراعة و الاستكانة وَ خِيفَةً أي مع الخوف من

______________________________

(1) النور: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 292

[سورة الأعراف (7): آية 206]

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ (206)

الله تعالى، فإن ذلك أقرب إلى الإجابة وَ اذكره سبحانه دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ فإن الكلام

المتوسط خير، و هذا لا ينافي استحباب الإجهار لدواعي أخر، كما

نزل جبرئيل على الرسول، و قال: «يأمرك ربك بالعج و الثج»

«1» في باب التلبية و ما ورد من أن الصلوات المجهر بها تذهب بالنفاق، و ما دل على الإتيان بالصلوات الثلاث جهرية، إلى غير ذلك، و القول بأن الله لا يحتاج إلى الإجهار تعليل تافه، فإنه ينقض بأن الله لا يحتاج إلى الكلام، فليكتف المستشكل بحديث النفس في قراءته و دعائه و أذكاره؟ بِالْغُدُوِّ أي الصباح وَ الْآصالِ جمع «أصل»، و أصل جمع «أصيل»، فهو جمع الجمع، و معناه «العشيات»، و هو ما بين العصر إلى غروب الشمس، و هذا كناية عن دوام الذكر، و التفريق بين «الغدو و الآصال» بالإفراد و الجمع، تفنن بلاغي لا يخفى لطفه.

وَ لا تَكُنْ يا رسول الله، أو المراد العموم، و المقصد العموم على أي حال، و إنما الكلام في مرجع الضمير مِنَ الْغافِلِينَ الذين يغفلون عن ذكر الله سبحانه. و في الآية الكريمة روايات كثيرة غالبها من باب بيان المصداق، فلا تضر بعمومها.

[207] ثم بيّن سبحانه أن الملائكة الذين هم أبعد عن النزوات، و هم دائمو الذكر، فأجدر بالإنسان أن يكون متذكّرا دائما إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 96 ص 286.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 293

أي الملائكة، و المراد بكونهم عنده سبحانه أنهم في قربه، قرب الجاه و المكانة، لا القرب المكاني لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ و لا يترفعون بأنفسهم عن الخضوع و الخشوع له سبحانه وَ يُسَبِّحُونَهُ أي ينزهونه عما لا يليق به، بذكر «سبحان الله» أو غيره وَ لَهُ تعالى يَسْجُدُونَ كسجودنا، أو المراد غاية الخضوع.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص:

294

8 سورة الأنفال مكية، مدنية/ آياتها (76)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الأنفال» و حكمها.

و الجو العام لهذه السورة حول السلم و الحرب و شؤونهما، و حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، و مناوئيهم، و أمثلة من آل فرعون و من كذّب بآيات الله سبحانه.

و لما كانت سورة الأعراف لبيان قصص الأنبياء، و ثم ختمت بقصة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتحت هذه السورة بذكره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما جرى بينه و بين قومه، فقال سبحانه:

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ دليلا على ابتداء هذه السورة، و اختتام السورة السابقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 295

[سورة الأنفال (8): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

[2] يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنِ الْأَنْفالِ هو جمع «نفل» بمعنى الزيادة، و المراد هنا: الغنيمة، و إنما سميت نفلا لأنها عطية و فضل من الله سبحانه للمسلمين، و قد اختلف التفسير حول الأنفال، و الذي نعتقده بعد الجمع بين الآيات و الروايات أن الأشياء التي ليست ملكا لأحد و غنائم دار الحرب تنقسم إلى قسمين:

الأول: الغنائم؛ و هي تقسم إلى خمسة أقسام: قسم يسمى «الخمس» لله و الرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل.

و الأربعة الباقية للمقاتلين.

الثاني: الأنفال؛ و هي ما سيأتي في الرواية، و تكون لله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمام، و قد أبيحت في حال الغيبة لمن يتولى الأئمة عليهم السّلام، أو لمطلق من حازها مؤمنا كان أو غير

مؤمن. و ظاهر سياق الآية أن المراد بالأنفال هنا هي مطلق الغنائم، فإن السورة نزلت في وقعة بدر، و لما هزم المسلمون الكفار، انقسموا ثلاث فرق.

روى عبادة بن الصامت قال خرجنا مع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فشهدت معه بدرا فهزم الله تعالى العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون و يقتلون، و أقبلت طائفة على العسكر يحوزونه و يجمعونه و أحدقت طائفة برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يصيب العدو منه غرّة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. و قال الذين خرجوا في طلب العدو:

لستم بأحق منا نحن منعنا عنه العدو و هزمناهم. و قال الذين أحدقوا برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خفنا أن يصيب العدو منه غرّة فاشتغلنا به. فنزلت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 296

الآية: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ»؟ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فقسمها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين المسلمين.

و هذا الحديث يدل على أن المراد بالأنفال مطلق الغنائم، كما هو ظاهر السياق، و هناك حديث يفسر الأنفال بما يحضر الإمام بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا منافاة بين الأمرين، فقد تكرر منا سابقا أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في أكثر من معنى واحد إذا كانت هناك قرينة.

فعن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب أو قوم صالحوا و أعطوا بيدهم»

«1».

و في حديث آخر عنه عليه السّلام: «الفي ء و الأنفال ما كان من

أرض خربة أو بطون أودية أو أرض لم يكن فيها مهراقة دم أو صولحوا أو أعطوا بأيديهم و لم تفتح بالسيف فهو يكون من الفي ء و الأنفال، فهذه لله و رسوله فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث يشاء و هو للإمام بعد الرسول» «2».

و في حديث آخر عنه عليه السّلام: «الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال، و كل أرض انجلى عنها أهلها بغير قتال و الأرضون الموات و الآجام و بطون الأودية و قطائع الملوك و ميراث من لا وارث له فهو لله و لرسوله و لو من قام بنصه و من مات و ليس له مولى فماله من الأنفال» «3».

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 539.

(2) وسائل الشيعة: ج 9 ص 527.

(3) بحار الأنوار: ج 19 ص 210.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 297

[سورة الأنفال (8): آية 2]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)

و على هذا فتسمية هذا الشي ء بالأنفال لزيادة الإمام بحصة دون سائر شركائه في الخمس.

قُلِ يا رسول الله في جواب السائلين عن الأنفال: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ ليس لأحد حتى يتنازع فيها، و إذا كانت لله و الرسول فلهما الخيار في أن يقسماها كيف شاءا فَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه في التنازع و طلب ما ليس لكم وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي ما بينكم من الخصومة و المنازعة، و إنما يؤتى بكلمة «ذات» لتشبيه الصلة التي بين الناس بأمر مجسّم فيما بينهم، تشبيها للمعقول بالمحسوس وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الغنائم و غيرها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين للرسول فيما يأتيكم به من قبل الله سبحانه.

قيل: إنه لما عرف المسلمين أنه لا حق لهم في الغنيمة و أنها لله و الرسول، قالوا: يا رسول الله سمعا و طاعة فاصنع ما شئت.

[3] ثم ذكر سبحانه صفات المؤمنين الكاملين ليكون درسا للمسلمين في مستقبل حياتهم و ليكون ميزانا يزن المسلم نفسه فيه فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي اضطربت و خافت من عظمته، و إن لم يكن خوفا من ذنب، فإن الإنسان إذا علم أنه سيحضر محضرا كبيرا و عظيما ارتجف قلبه خوفا من الفشل وَ إِذا تُلِيَتْ أي قرأت عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ الآيات إِيماناً فإن الإيمان ملكة في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 298

[سورة الأنفال (8): الآيات 3 الى 5]

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5)

القلب، كلما كرّر المطلب على الإنسان زادت الملكة قوة و ثباتا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أمرهم، فيفوّضون أمورهم إليه، في كل مرجو و مخوف.

[4] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بالإتيان بها مواظبين عليها، و الحث عليها بالنسبة إلى سائر الناس، فإن الإقامة غير الإتيان وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ سواء الواجب من الإنفاق أو غيره.

[5] أُولئِكَ المتصفون بهذه الصفات هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فهم الذين آمنوا بالله و رسوله، و هم الذين شعرت قلوبهم الإيمان و امتثلت جوارحهم لتطبيقه لَهُمْ دَرَجاتٌ رفيعة عِنْدَ رَبِّهِمْ فهم مكتوبون عنده أصحاب الدرجات الرفيعة، و سينالونها في الآخرة وَ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ فهم يرزقون بإكرام و إعظام لا بإهانة و إذلال.

[6] إن الأنفال لله و الرسول، و إن

كره المسلمون ذلك، فإن في كونها لله و الرسول حسن العاقبة و المصير، كما إن إخراجك يا رسول الله لوقعة بدر كان بالحق و لعاقبة حسنة، و إن كره المسلمون ذلك، فإن الله وحده يعلم العواقب، و يأمر بما هو خير كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ يا رسول الله مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ و المراد ب «البيت» هنا محل الإقامة، و هي المدينة المنورة، و معنى «الإخراج» أمره بذلك وَ الحال إِنَّ فَرِيقاً مِنَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 299

الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ للخروج.

و قصة بدر في الجملة هي

إن الكفار في مكة لما شرّدوا قسما من المسلمين إلى الحبشة، و طاردوا الرسول و أصحابه، حتى اضطروا للهجرة تحت جنح الظلام، أخذوا بعد ذلك يؤذون المسلمين الباقين في مكة، و يشيعون حول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه مختلف الإشاعات، فأراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يضع حدا لهذه التعديات التي لا مبرر لها إلّا الحقد و الحسد. و أخيرا عزم على قطع طريق تجارتهم التي تسير بين مكة و الشام، ليتأدبوا و يأخذوا بذلك حذرهم.

فخرجت عير لقريش إلى الشام فيها كثرة وافرة من أموالهم، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه بالخروج ليأخذوها، و أخبرهم أن الله قد وعده إحدى الطائفتين؛ غنيمة العير، أو مطاردة قريش و محاربتها و تبديدها، فخرج هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، فلما قارب «بدر» و هي بئر هناك أبلغ أبا سفيان ذلك، و كان في العير فخاف خوفا شديدا، و بعث إلى قريش فأخبرهم بذلك و طلب منهم الخروج و الدفاع عن العير

و أمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر، و تركوا الطريق و مروا مسرعين، و نزل جبرئيل عليه السّلام على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبر أن العير قد أفلتت و أن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها و أمره بالقتال، و وعده النصر، فأخبر به رسول الله أصحابه فجزعوا من ذلك و خافوا خوفا شديدا إذ لم يتهيئوا للحرب، فقال رسول الله: أشيروا عليّ. فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إنها قريش و خيلاؤها ما آمنت منذ كفرت و لا ذلت منذ عزّت و لم نخرج على هيئة الحرب. فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اجلس فجلس.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 300

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 349

[سورة الأنفال (8): آية 6]

يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (6)

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أشيروا عليّ. فقام عمر فقال مثل مقالة أبي بكر، فقال: اجلس، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش و خيلاؤها، و قد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق من عند الله و لو أمرتنا أن نخوض جو الفضاء و شوك الهراس لخضنا معك و لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» و لكنا نقول: «اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» و لكنا نقول: «اذهب أنت و ربك إنا معكما مقاتلون». فجزاه النبي خيرا ثم جلس ثم قال: أشيروا عليّ. فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟

قال: نعم قال: فلعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره. قال: نعم. قال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله، قد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمر بنا بما شئت و خذ من أموالنا ما شئت.

ثم قال: و الله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك. إلى أن قال: و لكن نعد لك الرواحل و نلقي عدونا فإنا صبّر عند اللقاء أنجاد في الحرب، و إنا لنرجوا أن يقرّ الله عينيك بنا. فقال رسول الله: كأني بمصرع فلان هاهنا و بمصرع فلان هاهنا و بمصرع أبي جهل و عتبة و شيبة فإن الله وعدني إحدى الطائفتين و لن يخلف الله الميعاد «1»، فنزلت الآية: كَما أَخْرَجَكَ فأمر بالرحيل حتى نزل ماء بدر و أقبلت قريش.

[7] يُجادِلُونَكَ يا رسول الله بعض المؤمنين فيما دعوتهم إليه من محاربة قريش فِي الْحَقِ فإن الحرب واجب و حق بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أنه حق،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 301

[سورة الأنفال (8): آية 7]

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7)

فإنهم كانوا يقولون: هلّا أخبرتنا لنعد عدتنا للحرب، و هم يعلمون أنك لا تأمرهم إلّا بأمر الله سبحانه كما قال سبحانه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1».

كَأَنَّما هؤلاء المجادلين يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ فيظنون أن سوقهم إلى الحرب موجب لهلاكهم حيث لم يعدوا لها العدة وَ هُمْ يَنْظُرُونَ أي ينظرون إلى الموت عيانا و يرونه بأبصارهم، فكيف يكون حال مثل

هذا الإنسان، كذلك حال هؤلاء المجادلين.

[8] وَ اذكروا أيها المسلمون إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ على لسان رسوله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ إما طائفة العير فتغنمونها، و إما قريش فتقتلونهم و تتخلصون من بعض أعدائكم وَ تَوَدُّونَ أي تحبون و ترغبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ فإنهم كانوا يحبون أن يغنموا العير لئلّا يلاقوا مشقة الحرب، و الحال أن الحرب كانت لهم أكثر شوكة إذ تركز في العدو خوفهم و شوكتهم، و كأن الشوكة مأخوذة من الشوك لأن في الحرب شوكا و ليس الأمر سهلا، فيكون تشبيها، أو المراد بالشوكة: السلاح.

وَ يُرِيدُ اللَّهُ حيث أمركم بالحرب أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي

______________________________

(1) النجم: 4 و 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 302

[سورة الأنفال (8): الآيات 8 الى 9]

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)

يظهر الحق، بما بيّنه و أوجبه عليكم من المقاتلة وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم، فإن «الدابر» هو الأصل، أي يجذ الكفر من أصوله، فإن وقعة بدر كانت أقوى الأسباب لنصرة المسلمين إلى الأبد و هزيمة الكافرين إلى الأبد.

[9] و إنما أراد الله ذلك لِيُحِقَّ الْحَقَ أي يظهر حقيقة الإسلام، و في التكرار تركيز و توطئة لقوله: وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ أي يظهر بطلانه بإهلاك الكفار وَ لَوْ كَرِهَ ذلك الْمُجْرِمُونَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان.

[10] و لما بلغ أصحاب رسول الله كثرة قريش و ما معها من السلاح و العتاد فزعوا و استغاثوا بالله و تضرعوا. «و» اذكروا أيها المسلمون إِذْ تَسْتَغِيثُونَ أي تطلبون الغوث و النصرة من رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ دعاءكم و تضرعكم أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي مرسل

إليكم مددا بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي بعضهم خلف بعض، فهم مترادفون متتابعون في النزول إليكم.

فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين هذه الآية و بين قوله: بِثَلاثَةِ آلافٍ «1» بِخَمْسَةِ آلافٍ «2»؟

______________________________

(1) آل عمران: 125.

(2) آل عمران: 126.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 303

[سورة الأنفال (8): آية 10]

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

فالجواب: إن الألف كانوا مقاتلين، و البقية للبشارة و تقوية القلوب، كما يقال: إن العاملين في المدينة عشرة، فإذا قيل: إنهم أكثر؟ أجيب بأن المائة مثلا إنما هي من حيث العدد و الحركة و العمل للعشرة. و

في الحديث: إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما نظر إلى كثرة عدد المشركين و قلة عدد المسلمين استقبل القبلة و قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض»

«1». فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأنزل الله الملائكة، و قد قاتلت الملائكة و أسرت بعض المشركين.

[11] ثم يذكر سبحانه أن إنزال الملائكة إنما كان لأجل تقوية قلوب المسلمين، و إلّا فنصر الله سبحانه لا يحتاج إلى مدد ملك أو غيره وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي ما جعل الله الإمداد بالملائكة إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بالنصر، فإن الإنسان يستبشر بكثرة الأعوان و إن كان علم أنهم للسواد و الكثرة فقط وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ أي بالإمداد قُلُوبُكُمْ فيزول الخوف و الوسوسة عنها وَ إلّا في الحقيقة و الواقع مَا النَّصْرُ أي ليس النصر إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ و لا تأثير للإمداد و الإعداد و إنما هي روابط

و وسائط إلّا من عند الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب بسلطانه حَكِيمٌ فيما يفعل، و هذا لا يدل على عدم تهيئة الأسباب، بل يدل على لزوم تهيئتها، فإن الملائكة و قوى ما وراء الطبيعة بشائر،

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 259.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 304

[سورة الأنفال (8): آية 11]

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)

و إلّا فالنصر من الله بأسبابه الظاهرية التي قررها هو سبحانه، كما قال تعالى: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ «1».

[12] و لما أمسى القوم المساء قبل الواقعة أخذ أصحاب الرسول النوم، من كثرة التعب و قد كان إلقاء الله النوم عليهم ليذهب خوفهم، و يتقووا على القتال غدا، فإن من استراح و نام لم يقلق كما يقلق الساهر، كما أن أعصابه تهدأ، و قواه تكثر فيتمكن مما لا يتمكن عليه الساهر، و احتلم كثير من المسلمين تلك الليلة، و كان موضع نزولهم كثير الرمل، مما سبب صعوبة الحركة، فوسوس إليهم الشيطان قائلا: كيف أنتم على حق، و قد أصابتكم الجنابة، و محلّكم غير صالح، و لا ماء عندكم، بينما المشركون على الماء، فأنزل الله المطر، حتى لبد الأرض، و اغتسلوا، و ارتووا. فاذكروا أيها المسلمون إِذْ يُغَشِّيكُمُ أي يستولي عليكم النُّعاسَ أي النوم أَمَنَةً أي أمانا مِنْهُ سبحانه، فإنه لم يفعل ذلك إلّا لأجل أمنكم و راحتكم و إزالة الخوف عنكم، و «الأمنة» الدعة التي تنافي المخافة وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من حدث الجنابة وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ

أي وسوسته فإنه كان يوسوس في قلوبهم: كيف يكونون على حق، و هم نجسون، و محلهم رمل، و هم ظماء وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي ليشد

______________________________

(1) الأنفال: 61.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 305

[سورة الأنفال (8): آية 12]

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)

قلوبكم و يقويها، فإن النوم و نزول المطر قوّيا قلوبهم حيث أزالا المخاوف و الوساوس و الأتعاب وَ يُثَبِّتَ بِهِ أي بالمطر الْأَقْدامَ أي أقدامكم في الحرب بتلبد الرمل، أو المراد تقوية القلب فإنه يكنى بذلك عنه، أو المراد ذهاب الحالات الخمسة بالأمرين؛ فالنوم للدعة، و المطر لتطهير البدن عن نجاسة المني، و الاغتسال لذهاب رجس الشيطان، و تقوية القلب عن وسوسته، و تثبيت الأقدام بتلبد الرمل.

[13] و اذكروا أيها المسلمون إِذْ يُوحِي و هم و إن لم يروا ذلك و لم يسمعوه بآذانهم إلّا أنهم علموه رَبُّكَ يا رسول الله إِلَى الْمَلائِكَةِ المنزلين في وقعة بدر أَنِّي مَعَكُمْ و هذا لتقوية قلوب المسلمين، و إلا فمن المعلوم أن الملائكة لا تفعل شيئا إلّا بأمر الله سبحانه فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بتقوية قلوبهم و دحر الشياطين عنهم، فإن في القلب لمّتان: لمّة من الملائكة و لمة من الشيطان، فالنوايا الحسنة و ما أشبه من الملائكة، و النوايا السيئة و ما أشبه من الشياطين.

سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الخوف من المؤمنين، و قد كان ذلك، فقد سلّط الله على الكفار رعبا عظيما، حتى أن أبا لهب قال لأبي سفيان- بعد الواقعة-: كيف كان أمر الناس؟

قال: لا شي ء و الله إلّا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا

يقتلوننا و يأسرونا كيف شاءوا، و أيم الله مع ذلك مالت الناس، رأينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض ما تليق شيئا و لا يقوم لها شي ء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 306

[سورة الأنفال (8): الآيات 13 الى 14]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)

فَاضْرِبُوا أيها الملائكة فَوْقَ الْأَعْناقِ أي الرؤوس أو المذابح، فإنهما فوق الأعناق، أو هو كناية عن ضرب القفا للإذلال و الإهانة وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ أي من الكفار كُلَّ بَنانٍ أي أصابع اليد و الرجل، أو المعنى: جزّوا أعناقهم و اقطعوا أطرافهم.

[14] ذلِكَ التعذيب و الضرب فوق الأعناق و البنان بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ أي خالفوا الله وَ رَسُولَهُ فكأنهم في شق و الله و الرسول في شق آخر وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و من المعلوم أنه يكتفي بذكر الله وحده أو الرسول وحده، و لكن ذلك لتعظيم الرسول حين يقرن باسم الله سبحانه، و أنه الشخص المقابل لهم في المشاقة فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ في الدنيا بعقوبة الكافرين على أيدي المسلمين، و في الآخرة بإخلادهم في النار.

[15] ذلِكُمْ «ذلك» إشارة إلى العذاب في الدنيا بالأسر و القتل، و «كم» خطاب للكفار فَذُوقُوهُ أي ذوقوا هذا العذاب. و «الفاء» دخلت لإفادة الترتب على الكفر وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ علاوة على هذا العقاب العاجل عَذابَ النَّارِ في الآخرة. و لا يخفى أن «الذوق» يستعمل كثيرا في غير الذوق باللسان، باعتبار إدراك الإنسان له كما يدرك باللسان المذوقات، و هو يستعمل بالنسبة إلى الألم الروحي، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 307

[سورة

الأنفال (8): الآيات 15 الى 16]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

يقال: «ذق الذل»، و بالنسبة إلى الألم الجسمي، كما يقال: «ذق السوط»، قال سبحانه: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ «1»، و قال:

ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «2».

[16] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الخطاب عام لكل مؤمن، و إن كان نزول الآية بمناسبة قصة بدر إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من اللقاء في الحرب زَحْفاً «حال» أي حال كونهم و إياكم زاحفين متدانين للقتال، فإن الزحف بمعنى الدنو فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أي لا تنهزموا بأن تجعلوا ظهوركم إليهم، فإن الإنسان لا يجعل ظهره إلى ساحة القتال إلّا إذا أراد الفرار.

[17] وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أي من يجعل ظهره إليهم يوم القتال، و إنما قال «يومئذ» لأنه فهم من قوله: إِذا لَقِيتُمُ إِلَّا إذا كان مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي تاركا موقفه إلى موقف آخر أصلح للقتال من موقفه الأول، و «التحرّف» الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف بمعنى الطرف، و اللفظ، حال، أي: في حال كونه قاصدا الطرف حتى يكون أمكن في الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ طلب حيزا غير حيزه السابق، أي مكان جديد، يقال: «فلان متحيز إلى فلان» أي

______________________________

(1) النحل: 113.

(2) الدخان: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 308

[سورة الأنفال (8): آية 17]

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)

منحاز نحوه، منضم إليه. فالمعنى: أنه

ولّى دبره لينضم إلى جماعة يستعين بهم في القتال، فإن الإنسان وحده يجترئ عليه العدو أكثر مما إذا كان مع جماعة فَقَدْ باءَ خبر «و من يولهم» أي أن المولي دبره يرجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فكأنه كان ذاهبا إلى الحرب برضى الله، و الآن بفراره رجع يحمل الغضب وَ مَأْواهُ أي مصيره جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ و بهذا يستدل على أن الفرار من الزحف كبيرة موبقة.

[18] ثم ذكر سبحانه أن السبب الحقيقي في انهزام الكفار إنما كان هو الله سبحانه فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي لم تقتلوا الكفار أنتم أيها المسلمون.

و «النفي عنهم» باعتبار كونهم السبب الأضعف، فلو لا تشجيع الله سبحانه بإنزال الملائكة و إنزال المطر و تقوية قلوبهم و مساعدة الملائكة لهم في القتل و الأسر لم يتمكنوا من الغلبة عليهم، و من المتعارف أن ينسب الفعل إلى أقوى السببين وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بتهيئة الأسباب و إلقاء الرعب في قلوب الكفار حيث انهارت أعصابهم وَ ما رَمَيْتَ يا رسول الله، أو أيها المسلم إِذْ رَمَيْتَ و المراد بالأول: الرمي المصيب، فإن الفعل ينفى عمن لم تكن نتيجة الفعل بقدرته، كما يقال لمن ألقى حجرا بدون معرفة فاصطاد طائرا: «فما صدت أنت و إنما صادته الصدفة». و لعل المراد ب «الرمي»، رمي القوم بالهلاك، كما يقال: «رماه الله بهلاك و نكال». وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى فإنه كان السبب الأقوى في هلاكهم و نكالهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 309

و ذكر جمع من المفسرين: أن المراد بذلك، رمي الكفار بالتراب،

فإن جبرئيل عليه السّلام قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر: خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فقال رسول الله صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم لما التقى الجمعان لعلي عليه السّلام: أعطني قبضة من حصى الوادي. فناوله كفا من حصى عليه تراب فرمى به في وجوه القوم و قال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلّا دخل في عينه و فمه و منخريه منه شي ء و تبعهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم و كانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم، و لما أن اصطف القوم برز عتبة و شيبة و الوليد للقتال و طلبوا المبارز فخرج إليهم بعض المسلمين فلم يرضوا بهم لما جرت العادة من عدم احتشام القرن إلّا بقرنه حتى برز إليهم عليّ عليه السّلام و حمزة و عبيدة، و دارت المعركة بنصرة هؤلاء، و قتل أولئك، و هنا حمي الوطيس و استعرت الحرب و لم تنكشف إلّا بهزيمة الكفار و قتل جماعة كبيرة منهم، و أخذ المسلمون يأسرونهم و الملائكة تعينهم في الأسر كما أعانتهم في القتل. فكان المسلم يشير بسيفه أو رمحه و لما يصل إلى الكافر فإذا به يخر قتيلا تقتله الملائكة، و كذلك الأسر. حتى أن العباس أسره أبو اليسر و كان العباس جسيما و أبو اليسر نحيفا، فقال له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كيف أسرت العباس يا أبا اليسر؟ فقال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك و لا بعده. فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد أعانك عليه ملك كريم «1».

و كل هذه كانت للبشرى و إنما النصر كان من عند الله.

وَ قد فعل الله سبحانه ما فعل لِيُبْلِيَ أي لينعم على الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ أي من عنده سبحانه بَلاءً حَسَناً أي نعمة جسيمة،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 227.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 2، ص: 310

[سورة الأنفال (8): الآيات 18 الى 19]

ذلِكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

ف «الواو» على هذا استئنافية متعلقة بفعل مقدّر، كما قدّرناه، أو المراد:

ليمتحن المؤمنين امتحانا حسنا، فإن البلاء يأتي بمعنى النعمة كما يأتي بمعنى الاختبار، و إنما يقال للنعمة: بلاء، لأن أصل البلاء ما يظهر به الأمر من الشكر و الصبر، فالنعمة بلاء لأنها تظهر الشكر، و المصيبة بلاء لأنها تظهر الصبر إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بضمائركم و نياتكم. و في الحرب تظهر أقوال، و تجول في الصدر نيات، فمن الأحرى أن يحفظ الإنسان قلبه و لسانه لئلّا ينحرفان عن نهج الصواب بمحضر من يسمع و يعلم كل شي ء.

[19] الأمر ذلِكُمْ أي أن الأمر كما ذكرنا من القصة، و هذا كما أن من يذكر قصة يقول بعدها: «هكذا» و هذا شبه تأكيد للكلام السابق، ف «ذلك» إشارة و «كم» للخطاب، أي: أخاطبكم أيها المؤمنون أن الأمر كذلك وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ هذا عطف على «ذلكم» أي أن الغرض كان بلاء المؤمنين و وهن كيد الكافرين. هذا بناء على رجوع «ذلكم» إلى البلاء المستفاد من قوله: «ليبلي المؤمنين»، و إلّا كان «و أن الله» استئنافية.

[20] و حيث بيّن سبحانه أن الله يوهن كيد الكافرين خاطب الكفار بقوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أيها الكفار فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ و هذا تهكّم، فإن أبا سفيان دعا قبل الواقعة بقوله: «اللهم أهلك أضل الفريقين و أقطعهما للرحم»، فقد استجاب الله دعاءه و أهلك أضل

الفريقين و أقطعهما للرحم. و المراد ب «الاستفتاح» طلب الفتح، كأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 311

[سورة الأنفال (8): الآيات 20 الى 21]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)

الذي يقع في مشكلة قد انسدت عليه الأبواب فيطلب فتحها ليتخلص من المشكلة.

ثم يرغّبهم سبحانه في الانتهاء عن كفرهم وَ إِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر و معاداة المسلمين فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في دنياكم و آخرتكم وَ إِنْ لم تنتهوا و تَعُودُوا إلى كفركم و مشاقتكم لله و الرسول نَعُدْ إلى ما رأيتم من إهلاككم و إذلالكم، و بأسنا لا يقف أمامه تجمع و كثرة وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً أي لا تفيد بكم جماعتكم شيئا وَ لَوْ كَثُرَتْ فإن النجاح ليس بالكثرة و إنما بالقوة التي هي متوفرة لدى المؤمنين وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ و من المعلوم انطباق هذه الآيات في كل زمان و مكان بشرط أن يعمل المسلمون على شرائط الإيمان.

[21] ثم خاطب سبحانه المؤمنين أن يلتزموا بما هو سبب نجاحهم بقوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و اختصاص الخطاب بالمؤمنين، مع أن الإطاعة واجبة على الجميع، لأنهم هم المصغون المنتفعون بالخطاب دون غيرهم وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي لا تعرضوا عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الحال أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ دعاءه لكم و أمره و نهيه إياكم، فإن المعرض بعد العلم أشد عقوبة عن المعرض بلا علم.

[22] وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا و هم اليهود و المنافقون وَ هُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 312

[سورة الأنفال

(8): الآيات 22 الى 23]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

لا يَسْمَعُونَ حقيقة، إذ لو سمعوا و وعوا لعلموا، فعدم علمهم دليل على عدم سماعهم سماع متعظ واع، فإنه يقال للعالم التارك لعلمه:

«إنه غير عالم»، كما يقال لمن سمع قول الرشد، فسلك سبيل الغي:

«أنه لم يسمع».

[23] و إذ أمر الله سبحانه المؤمنين بالسماع النافع المقترن بالعمل حذّرهم أن يكونوا كالدابة التي لا تسمع إلّا نداء من غير أن تعقل و تعمل حسب ما سمعت، و لا تنطق بالخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الكفار، إنهم أشر من الدابة، حيث إن الدابة لا تعقل، و هؤلاء يعقلون ثم يعرضون الصُّمُّ الْبُكْمُ «صمّ» جمع «أصم»: و هو الذي لا يسمع، و «بكم» جمع «أبكم»: و هو الذي لا يتكلم الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ عقلا مثمرا، و إلا فهم عقلاء، فإن هؤلاء شر ما دبّ على وجه الأرض من الحيوان حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من الحق، و لم يتكلموا به.

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام: «إنها نزلت في بني عبد الدار، لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير و حليف لهم يقال له:

سويبط» «1».

[24] وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً قبولا للحق و إذعانا به و إنصافا في الأمر لَأَسْمَعَهُمْ إسماعا نافعا، و لكنه علم أن ليس فيهم خير، و لا رجاء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 96.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 313

بهم، فلذا تركهم مغلقي القلوب، و هذا كما تقول: «لو علمت في هذه الأرض قابلية للزرع لحرثتها»، حيث

إنها لا تصبح قابلة للزراعة حتى بالحرث. و هكذا قلب الإنسان القابل و قلب الإنسان غير القابل، فإن أغشية الكفر قد شملتهما، لكن الله سبحانه يزيل الغشاء عن قلب القابل حيث يعرف فيه الخير، و لا يزيله عن قلب غير القابل حيث يعرف فيه عدم الخير.

و بهذا تحقق أنه لا مجال للإشكال بأنه إن أريد من «الإسماع» المعنى الظاهري، فقد أسمع الله سبحانه كل برّ و فاجر؛ فلا يناسبه التعليق على «لو» الامتناعية، و إن أريد منه تطهير القلوب تكوينا فإن الله لو فعل ذلك لكان فيه من الخير؛ فلا يناسبه ما يفهم من الآية من عدم إمكان الخير.

و حاصل الجواب: أن هناك ثلاث مراتب: الإسماع الظاهري، و إزالة الأغشية، و طهارة القلوب ذاتا. فإزالة الأغشية خاصة بالمؤمن، بينما الإسماع عام لكل واحد، فالمعنى: لو علم الله الطهارة الذاتية في قلوبهم لأزال الأغشية المظلمة عنها، علاوة على الإسماع، و لكن علم أن ذلك لا ينجح، فإن قلوبهم كالأرض السبخة التي لا ينفع معها الحرث، فلذا تركهم و شأنهم.

وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ بهذا النحو من الإسماع بإزالة الأغشية لَتَوَلَّوْا أي أعرضوا، لأن قلوبهم سبخة لا ينفعها حتى إزالة الأغشية وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن الحق.

و ربما أورد بأنه: كيف يمكن ذلك، و الحال أن لازم هذا النحو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 314

[سورة الأنفال (8): آية 24]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

من القياس المنطقي- بحذف الأوسط- «لو علم الله فيهم خيرا لتولوا»، مع وضوح أنه لو علم الله فيهم خيرا لم يتولوا؟

و الجواب: إن الكلام جار مجرى العرف،

فليس هذا قياسا واحدا بل قياس و زيادة تقديره «لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، لكنه علم فيهم عدم الخير فلم يسمعهم»، «و لو أسمعهم مع علمه عدم الخير فيهم لتولوا» و هذا كما تقول عن ولد لك غير قابل للكسب: «لو علمت أنه غير كاسب لزودته برأس مال»، «و لو زودته لأتلف» تريد: لو زودته و الحال أني أعلم عدم قابليته.

[25] و بعد ما ذكر سبحانه وجوب إطاعة الله و الرسول، ألمع إلى أن في الاستجابة كل الخير كما أراهم ذلك فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا أي أجيبوا. و لعل السر في الإتيان بباب «الاستفعال» المفيد للطلب، إفادة أن اللازم كون الجواب عن القلب و الضمير، لا بمجرد اللفظ و الظاهر، فإن طلب الإنسان لأن يجيب إنما بنبع من قلبه و باطنه لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ و قد تقدم أن ذكر الرسول تعظيما له، و لأنه الداعي الذي يراه الإنسان و يقابله إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ فإن الحياة الكاملة إنما هي بالإيمان، إذ الحياة بمعنى الحس و الحركة مرتبة ضعيفة من الحياة، و المرتبة الأعلى بمعنى السعادة الملازمة للعلم و الفضيلة و الرفاه و الأمن و الصحة، هذا بالنسبة إلى الدنيا و كذلك بالنسبة إلى الآخرة، فإن حياة الجنة هي الحياة الكاملة التي تستحق أن تسمى حياة، أما حياة النار فإنها لا تستحق اسم الحياة، و لذا قال سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 315

لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى «1».

و «إذا» ليست شرطا له مفهوم، بل المراد إفادة أن دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما تكون لما فيه حياة الناس. و توحيد الفعل مع أن الله و الرسول اثنان،

باعتبار أن دعوتهما واحدة، أو كان باعتبار كل واحد منهما، كما قال: طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ «2».

إنه سبحانه يريد أن تستجيبوا عن إرادة و طواعية و إن كان يقدر على كل شي ء وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ فمن هذه قدرته، أليس يقدر على جبركم أن تؤمنوا؟ و معنى «الحيلولة بين المرء و قلبه» أن لا تطيع الأعضاء القلب فيما يأمر و ينهى، بأن يريد قلبه شيئا فلا تطيعه الأعضاء بمنع الله سبحانه عن الإطاعة، و كذا العكس بأن تنقل الأعضاء- كالعين و الأذن و الذوق و الأنف و اللامسة- إلى القلب معلومات فلا يفهمها، فإن القلب كالسلطان يعطي و يأخذ، و الله قادر على أن يفصل بينه و بين رعيته و جيوشه وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي و اعلموا أنكم تجمعون إليه للجزاء و الحساب. و معنى «إليه» أي إلى الموضع المقرر للجزاء، كما يقال: «ذهب إلى الله» لمن يذهب إلى الحج، فيراد المكان المقرر لإتيان الأعمال. إن قلوبكم بين يديه و حشركم إليه، فأذعنوا له حتى تحيون حياة طيبة.

______________________________

(1) طه: 75.

(2) البقرة: 260.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 316

[سورة الأنفال (8): الآيات 25 الى 26]

وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

[26] وَ اتَّقُوا أي خافوا، إن لم تستجيبوا فِتْنَةً و بلاء عامّا لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فإن أفراد الأمة إذا سكتوا على المنكر عمّهم الله بالعقاب، أولئك بالعصيان و هؤلاء بالسكوت، كمن لا يأخذ بيدي

من يريد ثقب السفينة فإنه يقرن مع الثاقب. كما مثل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و من قرأ: «لتصيبن» أدخل الساكت في جملة الظالمين، لأنه ظالم بسكوته. و يكون المعنى على هذا: إن الفتنة تصيبكم أيها الظلمة فقط، فلا تقولوا: كيف تصيبنا الفتنة فقط و نحن في جملة غير الظالمين؟ تريدون بذلك عدم إصابتكم بالفتنة لأنكم بين أظهر غير الظالمين، فإن الله سبحانه قادر على إصابتكم فقط، كما أصابت الفتنة أصحاب السبت دون الذين نهوهم و وعظوهم.

هذا، و لكنا حيث نرجح عدم الزيادة و النقيصة في القرآن الحكيم، و أن ما بين دفتيه هو القرآن المنزل حتى أن النظم أيضا منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، نوجّه الروايات الواردة «الخاصة بالقراءات» بأنها تأويل و اجتهاد لا نزول و وحي.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فإذا أخذتم يكون أخذه أليما شديدا، فاستجيبوا لله و الرسول، فإن فيه حياتكم، و في غيره النكال و العقاب.

[27] و قد رأيتم كيف تفضّل الله عليكم حين استجبتم له و للرسول وَ اذْكُرُوا أيها المؤمنون إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ في العدد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 317

[سورة الأنفال (8): آية 27]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)

مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ يطلب الأعداء ضعفكم فينزلون بكم أنواع الإهانة و الأذى تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أي يأخذونكم فجأة، و «الاختطاف» إما لأجل السجن أو لأجل القتل أو لأجل الأذية، و المراد ب «الناس» الكفار فَآواكُمْ أي جعل الله سبحانه لكم مأوى تأوون إليه، و هي المدينة وَ أَيَّدَكُمْ قوّاكم بِنَصْرِهِ لكم على أعدائكم حتى صرتم أقوياء بفضله سبحانه وَ رَزَقَكُمْ مِنَ

الطَّيِّباتِ فإنهم في مكة كانوا فقراء لا يجدون طعاما و لا شرابا، حتى إذا صاروا في المدينة زرعوا و اتجروا فرزقوا من الطيبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا فضله سبحانه، و نعمته و إحسانه عليكم.

[28] و لما ذكر سبحانه وجوب استجابة المؤمن لله و رسوله، نهى عن الخيانة له و للرسول بقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ بترك أوامره وَ الرَّسُولَ بترك شريعته. و قد نزلت هذه الآية في أبي لبابة، و إن كانت هي عامة لكل من يريد الخيانة.

فقد ورد أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاصر يهود بني قريضة إحدى و عشرين ليلة- لما خانوا عهده- فسألوه الصلح على ما صالح عليه بنوا النظير بأن يصيروا إلى أذرعات و أريحا من أرض الشام فأبى إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة و كان مناصحا لهم لأن عياله و ماله و ولده كانوا عندهم، فبعثه رسول الله فقالوا: ما ترى يا أبا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 318

[سورة الأنفال (8): آية 28]

وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

لبابة أ ننزل على حكم سعد؟ فأشار بيده إلى حلقه «إنه الذبح» فلا تفعلوا، فأتى جبرئيل رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بذلك، قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله و رسوله. فلم يرجع إلى الرسول بل جاء إلى المسجد و شد نفسه بسارية من سواري المسجد و قال: لا و الله لا أذوق طعاما و لا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي.

فمكث أياما لا

يذوق طعاما و لا شرابا حتى خرّ مغشيّا عليه ثم تاب الله عليه، و نزلت: وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1»، فقيل له:

يا أبا لبابة قد تاب الله عليك. قال: لا و الله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب و أن انخلع من مالي. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يجزيك الثلث أن تصدّق به «2».

وَ لا تَخُونُوا أَماناتِكُمْ أي أمانة بعضكم عند بعض من مال، أو عرض، أو ما أشبه وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الخيانة محرّمة موجبة للعقاب و العذاب. و من الممكن أن تكون جملة «و تخونوا» استفهامية إنكارية، أي: «كيف تخونوا أماناتكم في حال العلم»، و سميت خيانة الله و الرسول خيانة الأمانة لنفس الإنسان.

[29] وَ اعْلَمُوا أي تيقنوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ امتحان و ابتلاء

______________________________

(1) التوبة: 102.

(2) راجع تفسير القمي: ج 1 ص 303.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 319

[سورة الأنفال (8): الآيات 29 الى 30]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)

ليختبر الله سبحانه من يرجّح أمر الله على ماله و ولده، و من يرجّحهما على أمره سبحانه، فإن أبا لبابة حمله على ما فعل أن أمواله و أولاده كانت عند اليهود فخاف

إن نصح لله و الرسول أن تذهب أمواله و أولاده. وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فمن رجّح أمره سبحانه على ماله و ولده أوجر بأعظم أجر.

[30] إن الأمانة حمل ثقيل لا يقوم بها إلّا من اتقى الله، و لذا يقول سبحانه:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً فإن من اتقى الله سبحانه صار ميزان الخير و الشر ملكة له، فيفرق بين الحق و الباطل بتلك الملكة الحاصلة بالتقوى، فإن عرفان الإنسان أن عليه مراقبا يحدّد موقفه من الأعمال و الأقوال. وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ التي عملتموها. و معنى «تكفير السيئات» سترها، فإن التكفير بمعنى الستر و التغطية وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم بإزالتها، فإن الستر غير الإزالة، و هما نعمتان و فضلان وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فإنه يتفضل عليكم بالتكفير و المغفرة و جعل الفرقان.

[31] و إذ تقدم الكلام حول نصرة المؤمنين في بدر بعد أن كانوا قليلا مستضعفين في مكة، بيّن سبحانه حالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل الهجرة وَ اذكر يا رسول الله إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يدبرون مؤامرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 320

لِيُثْبِتُوكَ أي يقيّدوك و يسبحونك فتثبت في مكة لا تقدر على الإرشاد و التبليغ أَوْ يَقْتُلُوكَ و يستأصلوا شأفتك أَوْ يُخْرِجُوكَ و يبعدوك، بإرسالك إلى بعض المحالّ النائية، حتى لا تتصل بأصحابك و بالناس وَ يَمْكُرُونَ تأكيد، تهيئة لقوله: وَ يَمْكُرُ اللَّهُ أي يدبر الله سبحانه الأمر خفية، فإن التدبير لا يكون إلّا خفية وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فإنه أعرف بطرق العلاج. و الفرق بين مكر الله سبحانه و مكر الناس أن الأول لا يكون إلّا بحق، و الثاني

لا يستعمل- غالبا- إلّا إذا كان بباطل.

إن هذه الآية الكريمة نزلت في قصة هجرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك أن قريشا اجتمعت فخرج من كل بطن أناس إلى دار الندوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإذا شيخ قائم بالباب و إذ ذهبوا إليه ليخرجوه قال: أنا شيخ من مصر «أو نجد» أدخلوني معكم. قالوا: و من أنت يا شيخ؟ فقال: أنا شيخ من مصر «أو نجد» ولي رأي أشير به عليكم.

فدخلوا و جلسوا فتشاوروا و هو جالس و أجمعوا أمرهم على أن يوثقوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال الشيخ: هذا ليس بالرأي، فإن فعلتم هذا ذهب أصحابه و فكّوا وثاقه، و محمد رجل حلو اللسان فإنه يفسد عليكم أبناءكم و خدمكم و ما ينفع أحدكم بهم بعد أن أفسدهم محمد. ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه من بلادهم، فقال الشيخ:

هذا ليس بالرأي؛ إنه إن خرج أحاط به الناس الأعراب لحلو منطقه و أفسد عليكم من الخارج. فاستصوبوا رأيه ثم سألوه الرأي قال:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 321

أخرجوا من كل بطن من العرب إنسانا يجتمعون عليه و يضربونه ضربة رجل واحد حتى يقتلوه، فيفرّق دمه في القبائل و لا تتمكن عشيرته من المطالبة بدمه و يجبرون على أخذ الدية، فتستريحون منه.

فأخذوا برأي الشيخ، و كان هو الشيطان «لعنه الله» تزيّ بزيّ البشر. و نزل جبرئيل على الرسول يخبره بمكر أهل الندوة، و يأمره بالفرار ليلا، و أن ينيم عليا عليه السّلام مكانه ليشتبه عليهم الأمر، فلما أمسى المساء جاء الفتيان مسلّحين، و أرادوا أن يدخلوا على الرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم لكن أبا لهب حال دون ذلك، و قال: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبيانا و نساء و لا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه. فناموا حول حجرة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمر رسول الله أن يفرش له و قال لعلي عليه السّلام: أفدني بنفسك. قال: نعم يا رسول الله. قال: نم على فراشي و التحف ببردتي. و كان الفتيان ينظرون من شقوق الباب فيرون في مكان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شخصا نائما فظنوه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و جاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخرجه من بين ظهراني الكفار و هم نيام و هو يقرأ عليهم: وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1».

و قال له جبرئيل: خذ على طريق «ثور» و هو جبل على طريق «منى» له سنام كسنام الثور فدخل غارا كان فيه، فلما أصبحت قريش و بثوا إلى الحجرة و قصدوا الفراش فقام علي عليه السّلام في وجوههم و قال:

ما شأنكم؟ قالوا له: أين محمد؟ قال: أ جعلتموني عليه رقيبا، ألستم

______________________________

(1) يس: 10. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 322

[سورة الأنفال (8): الآيات 31 الى 32]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32)

قلتم: نخرجه من

بلادنا؟ فقد خرج عنكم فأقبلوا يضربونه و يقولون:

أنت تخدعنا منذ الليلة، فتفرقوا في الجبال و كان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفوا الآثار، فقالوا: يا أبا كرز اليوم اليوم، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: هذه قدم محمد و الله إنها لأخت القدم التي في المقام، فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار ثم قال: ما جاوزوا هذا المكان، إما أن يكون صعد إلى السماء أو دخل تحت الأرض، و قد كان بعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار و جاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار ثم قال: ما في الغار أحد، فتفرقوا في الشعاب و صرفهم الله عن رسوله ثم أذن له بالهجرة «1».

[32] وَ قد كان بعض الكفار إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا من القرآن الحكيم قالُوا قَدْ سَمِعْنا بآذاننا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا المسموع، فإن العاجز المتكبر دائما يظهر القدرة، لكنه لا يظهر منه الأثر بخلاف القادر المتواضع الذي يعمل كثيرا و يقول قليلا إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع «أسطورة»، و المراد بها: أخبار الماضين و مختلقاتهم. قالوا: و قد كان قائل هذا النضر بن الحارث ابن كلدة و قد أسر يوم بدر و قتل.

[33] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالُوا أي بعض الكفار و هو أبو

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 19 ص 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 323

جهل: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا الذي جاء به محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ و كنا نحن على الباطل فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً المراد بها «جنس الحجارة» و ليست «التاء» للمفرد مِنَ السَّماءِ

أي من جهة العلو، كما أمطرت على قوم لوط أَوِ ائْتِنا أي صبّ علينا و جئنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.

فقد روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكون بها العرب و تدين لكم العجم. فقال أبو جهل: «اللهم إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» «1».

و

في بعض الروايات: أنها نزلت حين نصب الرسول عليّا خليفة له يوم غدير خم، فجاءه رجل يقال له الحارث بن عمرو الفهري فحاجّ النبي في شأن علي عليه السّلام ثم سأله: هل هذا من الله أو منك؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل من الله سبحانه. فأخذ يذهب و هو يدعو بهذا الدعاء «اللهم إن كان .. الى آخره»، حسدا و بغضا للإمام عليه السّلام. فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إما تبت و إما رحلت، فركب راحلته و خرج، و لما وصل إلى خارج المدينة أتته جندلة فرضّت هامته، و فيه نزلت: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «2»، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبعض المنافقين: انطلقوا إلى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 158.

(2) المعارج: 2.

(3) راجع بحار الأنوار: ج 35 ص 323.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 324

[سورة الأنفال (8): الآيات 33 الى 34]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَ ما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)

أقول:

و كأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمره بالرحيل حتى لا يمنع عن عذابه وجوده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنده حيث قال سبحانه: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ». كما أنه لا منافاة بين الحديثين، فقد كانت بعض آي القرآن و سوره ينزل مرتين و أكثر، فلعلها نزلت مرة في قصة أبي جهل و مرة في قصة الحارث.

[34] ثم بيّن سبحانه أنهم مع استحقاقهم العذاب لما كانوا يفعلونه، لكنه لا يعجّل لهم ما دام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيهم، فلعلهم يرجعون و يتوبون، و ما دام أنهم- مع كفرهم- يستغفرون الله سبحانه، كما روي أن أبا جهل بعد ما ذكر الدعاء قال: و استغفر الله، فقال سبحانه: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بإمطار الحجارة عليهم- كما طلبوا- أو غيره وَ أَنْتَ فِيهِمْ جملة حالية، أي: في حال كونك يا رسول الله بين أظهرهم، و المراد بذلك إما الرحمة بهم لأجلك، أو عدم عذابهم لاحتمال الإيمان، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما دام فيهم يحتمل رجوعهم و هدايتهم. وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ و لعل اختلاف التعبير في «ليعذبهم» و «معذبهم» لأجل أن كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أظهرهم له أمد و لذا جاء بالفعل، أما الاستغفار فإنه لا مدة له و لذا جي ء بالاسم الدال على الدوام.

[35] ثم بيّن سبحانه أنه و إن كان لا يعذبهم إلّا أنهم يستحقون العذاب بما يرتكبون من الآثام، فقال سبحانه: وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي لم لا يعذبهم و أي أمر يوجب ترك

تعذيبهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 325

[سورة الأنفال (8): آية 35]

وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

وَ الحال أن هُمْ يَصُدُّونَ و يمنعون الناس المؤمنين عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فقد أخرجوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين، و أجبروهم إلى الهجرة نحو الحبشة و الطائف و المدينة وَ الحال أنهم ما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي أولياء المسجد، أي لم يكن المشركون أصحاب ولاية على المسجد الحرام حتى يكون الصدّ عنه مشروعا، فإنهم حيث كفروا برب المسجد و خالفوا أوامره لوضع الأصنام فيه و هتكوا حرمته بالتصفيق فيه، لم تكن لهم ولاية عليه إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أي ليس أولياء المسجد إلّا الذين يتقون الله سبحانه و يطيعون أوامره و هم المؤمنون، فإنهم أولياؤه الشرعيون وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر هؤلاء المشركين لا يَعْلَمُونَ ذلك و يظنون- حيث أنهم ورثوا سدانة البيت من آبائهم- أنهم بذلك يكونون أولى بالمسجد.

ورد في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «كان في الأرض أمانان من عذاب الله، و قد رفع أحدهما، فدونكم الآخر، فتمسكوا به» «1». و قرأ الآية: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ....

[36] ثم بيّن سبحانه علّة عدم كونهم أولياء المسجد، و ذلك لأن صلاتهم هتك لحرمته و إنفاقهم لأجل الصدّ عنه، و هل يكون وليّ شي ء هاتكا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 90 ص 284.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 326

[سورة الأنفال (8): آية 36]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)

و صادا عنه؟ وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ أي

دعاء المشركين و عبادتهم عِنْدَ الْبَيْتِ الحرام إِلَّا مُكاءً وَ تَصْدِيَةً «المكاء» الصفير، يقال: «مكا يمكو مكاء» إذا صفّر بفيه. و «التصدية» التصفيق، و هو ضرب اليد على اليد. فقد كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يصفرون و يصفقون.

و

في حديث: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا صلّى قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران، و رجلان عن يساره يصفقان بأيديهما فيخلطان عليه صلاته، و قد قتلوا جميعا يوم بدر «1».

فَذُوقُوا أيها الكفار الْعَذابَ في الدنيا بالقتل و الأسر و غيرهما، و في الآخرة في نار حرّها شديد بسبب ما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بالله و رسوله.

[37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في قتال الرسول و المؤمنين و التأليف عليهم لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعوا الناس بذلك عن دين الله و طريقه المستقيم، فكيف يمكن أن يكون الصاد عن سبيل الله وليا لمسجد الله؟ فَسَيُنْفِقُونَها أي يقع منهم الإنفاق ثُمَّ تَكُونُ الأموال المنفقة للصد عن سبيل الله عَلَيْهِمْ حَسْرَةً موجبة للحزن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 87.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 327

[سورة الأنفال (8): آية 37]

لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)

و التحسّر يخسرونها بلا جدوى ثُمَّ يُغْلَبُونَ في الدنيا بظفر المسلمين عليهم، و في الآخرة بأنها تسبب لهم النار وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أي يجمعون، فإنهم يجمعون كلهم هناك جزاء لما فعلوا من الكفر و العصيان.

و في بعض التفاسير: إن الآية نزلت فيما أنفقه الكفار يوم بدر لقتال المسلمين، و قد أخبر الله عن العاقبة قبل وقوعها فكانت كما ذكر.

[38] إن ما تقدم

من إخلاء الله السبيل للكفار حتى ينفقوا أموالهم في سبيل الصدّ عن طريق الله سبحانه لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فتكون الأموال المنفقة في سبيل الله معلومة، و تكون الأموال المنفقة في سبيل الباطل معلومة، فقد كانت الأموال قبل الاحتكاك و حدوث الحادثة غير مميز خبيثها من طيبها، أما في الحادثة فسيتميز بعضها عن بعض وَ ل يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فإنه كان متفرّقا في أموال عدة، و بذلك تتجمع أجزاؤه فَيَرْكُمَهُ أي يجعله ركاما مجموعا جَمِيعاً كالنفايات و القاذورات التي تتجمع من البيوت، و يجعل بعضها على بعض في المزبلة فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كما تجتمع القاذورات في المنافي خارج المدينة. و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ليكون أوقع في النفس أُولئِكَ الذين أنفقوا هذه الأموال في سبيل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 328

[سورة الأنفال (8): الآيات 38 الى 39]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)

الباطل هُمُ الْخاسِرُونَ فقد خسروا الأموال، بل اشتروا بها العار و النار.

[39] قُلْ يا رسول الله لِلَّذِينَ كَفَرُوا لا تيأسوا من رحمة الله، فإن الإنسان مهما عصى، إذا تاب؛ تاب الله عليه إِنْ يَنْتَهُوا عن كفرهم و عصيانهم، بالإسلام و الطاعة يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من ذنوبهم و معاصيهم وَ إِنْ يَعُودُوا إلى كفرهم و أعمالهم، و «العودة» باعتبار أن كل يوم كفر جديد و معصية جديدة فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي عادة الله فيهم بالإهلاك، فإنها تنطبق على هؤلاء، و إضافة السنة إلى الأولين، باعتبار

كون سنة الله واقعة عليهم، و يكفي في الإضافة أدنى ملابسة- كما ذكروا- و يحتمل أن يكون المراد: إن ينتهوا عن قتال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تركوا و شأنهم و لم يعاقبهم الرسول بما فعلوا- فهو مغفرة لهم- و إن عادوا إلى القتال فقد مضت سنة الله في الأنبياء أن يكون المحاربون هم المغلوبون المنهزمون، و هذا تهديد إلى كل من تسوّل له نفسه قتال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[40] وَ قاتِلُوهُمْ أي قاتلوا الكفار أيها المسلمون حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا توجد فتنة- فإن «كان» تامة- فإن الكفار مهما وجدوا القوة و المنعة فتنوا المؤمنين عن دينهم، و أحدثوا الفتن و القلاقل، أما إذا قوتلوا و كسرت شوكتهم، ذهبت الفتن و تحطمت المؤامرات و المكايد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 329

[سورة الأنفال (8): آية 40]

وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (40)

وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ المراد ب «الدين» الطريقة، أي حتى تتجمع الطرائق على طريقة واحدة، هي طريقة الله سبحانه. و هذه الآية تدل على جواز المقاتلة إلى أن تتوحد الطرائق في طريقة ارتضاها الله سبحانه للعباد، فلا يكون دين سواه فَإِنِ انْتَهَوْا أي انتهى هؤلاء الكفار عن الكفر و العصيان و محاربة الرسول و المؤمنين فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فإنه يعلم السر و أخفى. و ما على المسلمين إلّا توحيد الصفوف ظاهرا أما البواطن و السرائر فليس عليهم، بل الله يعلم بها و يجازي كل واحد حسب ضميره و سرّه.

[41] وَ إِنْ تَوَلَّوْا أي أعرض الكفار عن الإيمان، و لم ينتهوا عن الكفر و العصيان فَاعْلَمُوا أيها المؤمنون

أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ سيّدكم و ناصركم، فلا تخشوهم، بل أقدموا على محاربتهم، فالله نِعْمَ الْمَوْلى حيث أنه عالم قادر و فيّ بما يعد وَ نِعْمَ النَّصِيرُ لا يغلبه أحد كما قال سبحانه: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ «1».

______________________________

(1) آل عمران: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 331

تقريب القران الى الأذهان الجزء العاشر من آية 42 من سورة الأنفال إلى آية 93 من سورة التوبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 332

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 333

[سورة الأنفال (8): آية 41]

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (41)

[42] و حيث سبق الكلام حول قصة بدر، يعود السياق ليذكر جوانب أخرى من القصة كما هو عادة القرآن الحكيم، حيث يبيّن من القصة جوانب معينة فقط، ثم يبيّن تلك الجوانب في ثنايا آيات أخرى، لتبقى للقصة ظرافتها، و لئلّا تكون مملّة ككتب التاريخ التي تسرد القصص، و لأن يكون للنفس شوق و تلهف إلى القرآن و إلى القصة يسوقان الإنسان إلى التملّي منها. و تبتدئ بذكر الغنيمة و الحكم فيها، كما ابتدأت السورة بذكرها في الجملة فقال سبحانه: وَ اعْلَمُوا أيها المسلمون أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ و الغنيمة: هي الفائدة مطلقا سواء حصلت من الحرب أو من غيرها، و إن كان مورد نزول الآية غنائم دار الحرب، و كلمة «من شي ء»

للتأكيد، أي سواء كانت الغنيمة قليلة أو كثيرة فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى أي قرابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو الإمام عليه السّلام، فالنصف من الخمس أي عشرة من المائة منه للإمام عليه السّلام، إذ حصة الله سبحانه للرسول و حصة الرسول للإمام، و في حال الغيبة يدفع هذا النصف إلى نواب الإمام و هم الفقهاء الجامعون للشرائط، و هم يصرفونه في ترويج الإسلام، حيث

قال الإمام عليه السّلام: «إن الخمس عوننا على ديننا» «1».

و إنما ذكر «الله» سبحانه تعظيما لأمر الرسول و الإمام و احتراما لهما، حيث قرنا به، و إلّا فالأموال كلها لله سبحانه وَ النصف الآخر من الخمس ل الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ممن ينتهي نسبه

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 547.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 334

[سورة الأنفال (8): آية 42]

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)

إلى هاشم جدّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من السادة. و يشترط في هؤلاء الفقر، و قد عوّضهم الله عن الزكاة التي جعلت لغير السادة- إذا كانت من غير السادة- ثم أن الأربعة أخماس الباقية من الغنيمة، تقسم بين المقاتلين في غنائم دار الحرب، و لصاحب المال في خمس سائر الغنائم، فإن الخمس يجب في سبعة أشياء: غنائم دار الحرب، و المكاسب مطلقا، و الغوص، و الكنز، و المعدن، و الحلال المختلط بالحرام، و الأرض المنتقلة إلى

الذمي إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي لا تطمعوا في كل الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله، فهو متعلق بقوله «و اعلموا» و ليس مفهوم الشرط:

أن الخمس ليس لهؤلاء إن لم تكونوا آمنتم، بل مفهومه إن كنتم آمنتم تؤمنون بذلك.

وَ إن كنتم آمنتم ب ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يعني الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَوْمَ الْفُرْقانِ أي يوم فرقنا بين الحق و الباطل و هو يوم بدر يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المؤمنين من أصحاب الرسول و جمع الكافرين من أهل مكة للقتال، و المراد ب «ما أنزلنا» الملائكة أو النصر، إي: إن كنتم مؤمنين بالله و بما أنزل من النصر و الملائكة على الرسول يوم بدر، تؤمنون بهذا الحكم الذي هو كون الخمس للطوائف الستة المذكورين و ليس للمقاتلين فيه حق وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر أن ينصر الجماعة القليلة على الجماعة الكثيرة.

[43] إن المسلمين خرجوا من المدينة لإدراك قافلة أبي سفيان التجارية فنزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة و نزل جيش المشركين- الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 335

جاءوا من مكة لإنقاذ القافلة- بقيادة أبي جهل على الضفة الأخرى البعيدة من المدينة، و بين الفريقين ربوة، أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيش، و لم يكن كلا الجيشين يعلم بموقع الجيش الآخر حتى أنه لو كان بينهما موعد للقاء لم يجتمعا بهذه الكيفية و لكن الله جمعهما على جانبي الربوة لينصر المسلمين على الكفار و يرى الجميع من الدلائل الباهرة ما يكفي لإتمام الحجة، و قد رأى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الرؤيا جيش المشركين قليلا فأخبر أصحابه بذلك، فاستبشروا

و تشجعوا و أقدموا على القتال، و لو رآهم كثيرا و أخبر أصحابه بذلك لخافوا و وجلوا فيفشلوا، و لم تكن الرؤيا كاذبة فإنهم بعددهم الكثير كانوا قليلا في الواقع بالنسبة إلى قواهم المعنوية الضئيلة.

و القرآن الحكيم يبيّن هذا الطرف من القصة بقوله سبحانه: إِذْ أَنْتُمْ «إذ» متعلق بقوله: «وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا» أي أن إنزالنا كان في وقت كنتم أيها المسلمون بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا مؤنث «أدنى» أي العدوة القريبة من المدينة، و «العدوة» شفير الوادي، فإن لكل وادي عدوتان أي جانبان وَ هُمْ أي الكفار بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى مؤنث «الأقصى» بمعنى البعيدة، أي في الطرف البعيد من الوادي، و بعده باعتبار المدينة المنورة وَ الرَّكْبُ أي قافلة قريش التجارية، و هو جمع «راكب»، كصاحب و صحب أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي في مكان أسفل منكم إلى جانب البحر، و ليس المراد ب «الأسفل» الانخفاض بل الأبعد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 336

و الفائدة في ذكر هذه المواطن الإخبار الدال على قوة المشركين و ضعف المسلمين و إن غلبتهم في مثل هذه الحالة كان بأمر إلهي و ذلك أن العدوة القصوى كان فيها الماء و لا ماء بالعدوة الدنيا، و كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل و كانت العير وراء ظهورهم مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم و تحملهم على أن لا يبرحوا مواطنهم و يبذلون نهاية جهدهم، و مع ذلك فقد نصر الله المسلمين.

وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم و الكفار على اللقاء في مكان واحد لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ فإنكم كنتم تخافونهم لكثرتهم و استعدادهم، و هم كانوا يخافونكم لشدة بطشكم، و ما أدخل في قلوبهم من الرعب منكم، فقد كانت أسباب عدم القتال، أو القتال بهزيمتكم متوفرة

وَ لكِنْ شاء الله سبحانه و قدّر أن يجمعكم بهذه الكيفية و ينصركم عليهم لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً أي ينفذه و يأتي به إلى الوجود كانَ مَفْعُولًا أي واجبا أن يفعل و مقدرا أن يكون، فقد قضى سبحانه إعزاز الإسلام و نصرة المسلمين.

و إنما قضى ذلك لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ أي ليموت من يموت من الكافرين بعد تمام الحجة عليه، فإن نصر المسلمين بتلك الكيفية كان من البراهين الدالة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فمن لم يؤمن بعد ذلك و مات، كان هلاكه بعد إتمام الحجة عليه وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ أي يعيش من عاش منهم بعد إتمام الحجة عليه، و هذا كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 337

[سورة الأنفال (8): آية 43]

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43)

يقال: «أتممت الحجة على الأحياء و الأموات»، أو المراد من «الهلاك و الحياة» الكفر و الإسلام، فقد تقدم أن الحياة الكاملة في الإسلام، كما أن الكافر ليس إلا ميتا في كثير من الأمور الحيوية، و لذا يقال عن المؤمن أنه حي، و على الكافر أنه ميت، كما قال سبحانه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ «1»، وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بضمائركم، فإن الحرب غالبا مثار كلام غير لائق و نيات سيئة، و لذا يذكّرهم سبحانه بوجوب حفظ الألسنة و الضمائر عن السوء.

[44] و قد ذكر ما تقدم من نزول النصر إِذْ يُرِيكَهُمُ أي يريك اللَّهُ الكفار فِي مَنامِكَ يا رسول الله قَلِيلًا لتخبر بذلك المؤمنين فتقوى قلوبهم وَ لَوْ

أَراكَهُمْ كَثِيراً أي أراك الله الكفار كثيرا، ثم أخبرت بذلك المؤمنين لَفَشِلْتُمْ أيها المؤمنون و ضعفت عزيمتكم في قتالهم، فإن الفشل هو الضعف عن فزع و خوف وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي في أمر محاربتهم حيث كنتم ترهبونهم، فيقول بعضكم:

نقاتلهم، و يقول بعض: لا نقاتلهم وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي سلّم المؤمنين عن الفشل و التنازع و اختلاف الكلمة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما يدور في صدور الناس من الوساوس و تقلّب

______________________________

(1) الأنفال: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 338

[سورة الأنفال (8): آية 44]

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

وجوه الرأي. و قد ذكرنا أن «الإراءة قليلا» لم تكن كذبا بل باعتبار أن الإنسان القوي دائما يرى الكثير قليلا، بخلاف الإنسان الجبان الذي يرى القليل كثيرا، هذا بالإضافة إلى أنه محسوس مجرّب، مبسوط في علم النفس و مشروح.

[45] و حيث تقابل الجيشان رأى المسلمون قلّة المشركين، لما كانوا يحملونه من القوة في نفوسهم و التصميم و الإرادة بتسديدهم و عزمهم، و رأى المشركون قلة المسلمين حيث كانوا قليلا عددا، فإن المسلمين كانوا ثلاثمائة و ثلاث عشر بينما كان الكافرون بين التسعمائة و الألف، و حيث كان كل فريق يرى خصمه قليلا تجرّأ الطرفان على القتال مما أدى إلى نصر المسلمين وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ أي يريكم الله أيها المؤمنون، الكافرين إِذِ الْتَقَيْتُمْ أي في زمان لقائكم و إياهم في ساحة القتال فِي أَعْيُنِكُمْ أي في نظركم قَلِيلًا فكان الكفار في نظر المسلمين قليلين لما عندهم من الإرادة و القوة.

و من المعلوم أن الحالات النفسية تؤثر في حواس

الإنسان الظاهرة، و قد كان هذا بإرادة الله سبحانه حيث قوّى نفوس المسلمين حتى يروا الكافرين قليلين فيطمعوا فيهم وَ يُقَلِّلُكُمْ أيها المؤمنون فِي أَعْيُنِهِمْ أي أعين الكافرين، فقد أراد الله سبحانه أن يقلل المؤمنين في نظر الكافرين لئلّا ينسحبوا عن قتالهم، فلا ينال المؤمنون منهم نيلا، و قد كان ذلك سبب غرور الكافرين فقد كان أبو جهل يقول لأصحابه: خذوا المسلمين بالأيدي أخذا و لا تقاتلوهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 339

[سورة الأنفال (8): آية 45]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)

و إنما فعل ذلك سبحانه، بأن قلّل كل جانب في نظر الجانب الآخر لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ينفذ إرادته في غلبة المسلمين، التي كانت قد قدّرت. و قد كررت هذه الجملة تأكيدا، و لإفادة أن النصر كما كان من عند الله، كان التقليل من عنده أيضا وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فإن الأمور كما كانت بقدر الله و قضائه، كذلك تكون مصائر الأمور إليه، فبيده المبدأ و المعاد، و هذا التشجيع للمسلمين في أن يقدموا، فإن المبدأ و المنتهى بيد ناصرهم و معينهم و هو الله سبحانه.

[46] و حيث بيّن سبحانه كيف أنه نصر المؤمنين في موقعة بدر مع كون القوى المادية كانت بجانب الكافرين، أمر المسلمين أن يثبتوا أمام كل مشكلة، فإن الله بجانبهم دائما يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً كافرة أو مخالفة، ممن عتي عن أمر الله سبحانه فَاثْبُتُوا و لا تنهزموا أمامهم، فإن الثبات يوجب النصر، و بالعكس الانهزام و الفرار يوجبان الفشل و الخسران وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً مستعينين به في الحرب و الدعوة، فإن ذكر الله

سبحانه يشجّع الإنسان و يقوّي فيه العزيمة، كيف و الإنسان بتكرار الذكر، تتكون فيه ملكة الاتصال بالقوى الكونية، هذا بالإضافة إلى أن نصرة الله سبحانه توجب قوة و طاقة خارقة في النفس، كما ثبت في علم النفس لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تنجحوا و تظفروا و تفوزوا بخير الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 340

[سورة الأنفال (8): آية 46]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

[47] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم وَ رَسُولَهُ فيما بيّن لكم- و قد مرّ مكررا أن قرن اسم الرسول باسم الله سبحانه للتعظيم، و لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو المبيّن- وَ لا تَنازَعُوا فيما بينكم فيقول بعض: نقدم، و يقول بعض:

نحجم فَتَفْشَلُوا فإن التنازع يوجب تبديد القوى المعنوية بالإضافة إلى تبديده و إضاعته للقوى المادية وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي دولتكم، فإن الريح بمعنى الدولة لغة، أو هو من باب التشبيه، فإن الدولة تشبّه بالريح لهبوبها و سيطرتها على الأشياء و نفوذ أمرها، يقال: «هبت ريح فلان» إذا نفذ أمره.

و التنازع، لا يجزئ القوى إلى سلب و إيجاب فقط، بل فوق ذلك يضعف القوى الإيجابية. فلو فرضنا أن طاقة زيد تقدّر بألف مقاتل، فإذا خالفه عمرو قدّرت طاقته بخمسمائة، حتى أنه لو كان وحده بدون مخالف لقدرت طاقته بألف، و ذلك لأن المخالف يحدّ من النشاط و يضعف من القوى، بخلاف التجمع فإنه يزيد الطاقة الألفية إلى الألفين. و لذا ثبت في علم النفس أن الإنسان إذا رأى خلافا فالأفضل أن يصمّ عن المخالف حتى يبقى على قواه الذاتية، و لا تحد من نشاطه الطاقة

المناوئة.

وَ اصْبِرُوا و الفرق بين الثبات و الصبر، أن الصبر يلائم حالة الهزيمة و النصر، و هو مقابل الجزع، و الثبات مقابل الانهزام، و من الواضح أن الصابر يصل إلى مطلبه و لو انهزم وقتيا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر و الظفر، و ليس المراد المعية الجسمية، كما هو واضح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 341

[سورة الأنفال (8): الآيات 47 الى 48]

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)

[48] وَ لا تَكُونُوا أيها المؤمنون كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ من أهل مكة بَطَراً «البطر» الخروج من موجب النعمة بالكفر، من «بطر» يعني «شق»، و منه «البيطار» لأنه يشق اللحم بالمبضع، فقد خرج الكفار من مكة بالمعازف و الطبول وَ رِئاءَ النَّاسِ فإنهم لما خرجوا ملئوا خوفا و رعبا من المسلمين، و لكن خرجوا ليظهروا أنهم لا يبالون بالمسلمين و يظهروا شوكتهم وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هذا مقابل قولهم أنهم أولى بالبيت من المسلمين. و المراد ب «الصد» المنع عنه، حيث كانوا يقفون دون تبليغ الأحكام وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ إحاطة علم و قدرة فيجازيهم بما عملوا.

قال ابن عباس: أنه لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره، أرسل إلى قريش أن ارجعوا، فقال أبو جهل: و الله لا نرجع حتى نرد بدرا- و كان بدر موسم من مواسم العرب

يجتمع لهم بها سوق كل عام- فنقيم بها ثلاثا ننحر الجزور و نطعم الطعام و نسقي الخمور و تعزف علينا القيان و تسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا «1».

و إلى هذا أشارت الآية الكريمة، فإن المسلمين يجب أن يكونوا مؤدبين بآداب الله سبحانه حتى في حالة الحرب.

[49]

في موقعة بدر جاء إبليس إلى كفار مكة في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: إني جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم. فدفعوها إليه و جاء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 236. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 342

بشياطينه يهول بهم على أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية فنظر إليه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال لأصحابه: غضوا أبصاركم و عضوا على النواجذ و لا تسلّوا سيفا حتى آذن لكم. ثم رفع يده إلى السماء فقال: «يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، و إن شئت لا تعبد، لا تعبد» «1» ثم أصابه الغشي فسري عنه و هو يسلت العرق عن وجهه و هو يقول: هذا جبرائيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين. فنظروا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لامع قد وقع على عسكر رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قائل يقول: أقدم حيزوم، أقدم حيزوم. و سمعوا قعقعة السلاح من الجو و نظر إبليس إلى جبرائيل فتراجع و رمى باللواء فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ثم قال:

ويلك يا سراقة تفت في أعضد الناس، فركله إبليس ركلة في صدره و قال: إني بري ء منكم.

وَ قد كان ذلك إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي في وقت حسّن الشيطان أعمال

المشركين في نظرهم بأن شجّعهم على قتال المسلمين، و يحتمل أن يكون «إذ» معمولا لفعل مقدّر هو «اذكر» وَ قالَ الشيطان للكفار: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا يغلبكم أحد من الناس لكثرتكم و قوتكم فانهضوا لقتال المسلمين- في بدر- وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ من الإجارة، ناصر لكم على عدوّكم فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقت، فرقتا المسلمين و الكافرين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 255.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 343

[سورة الأنفال (8): آية 49]

إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

نَكَصَ الشيطان أي رجع عَلى عَقِبَيْهِ أي متقهقرا منهزما، فإن الإنسان إذا أراد أن يتقهقر اعتمد على عقب رجليه، و هذا تشبيه لإفادة الفرار مع الجبن، فإن الجبان لا يدبر خوفا من أن يلحقه الطلب.

وَ قالَ الشيطان للكفار: إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ فلا صلة بيننا، و لا أفي بما ضمنت لكم من الإجارة و النصر إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ فقد رأى الشيطان الملائكة و كان يعرفهم، و علم أنه لا طاقة له بهم، كما أن الملائكة كانت تعرف الشيطان إِنِّي أَخافُ اللَّهَ بأن يعذبني على أيدي الملائكة وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ لا يطاق عذابه.

و في بعض التفاسير: و إنما قام الشيطان بهذا العمل- أي تشجيع الكفار- لأن الله سبحانه شاء أن يخرجهم إلى حرب المسلمين، فتنكسر شوكتهم و تذهب ريحهم و يتحطم كبرياؤهم.

و من الانهزامية المادية أن نأوّل هذه الآية كسائر الآيات المبينة لما وراء المادة، بتأويلات لا تنافي الأمور المادية، فإن التأويل إنما يصح إذا دل عقل أو نقل قطعي على خلاف الظاهر، أما إذا لم يدل

دليل و لم تكن هناك قرينة، فأي مبرّر لأن نترك الظاهر بمجرد أنه يلائم الأمور المادية، و لو فتح هذا الباب للزم أن نقول بذلك حتى في القرآن الحكيم نفسه، إذ هو أيضا أمر خارج عن طوق المادة.

[50] كان تزيين الشيطان للمشركين قتالهم مع المسلمين إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 344

[سورة الأنفال (8): آية 50]

وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50)

أي في حال صدور هذه المقالة عن المنافقين، و المراد بهم إما الكفار، فإن الكافر باعتبار أنه يعلم الواقع و يظهر خلافه يسمى منافقا، و إما المسلمون المنافقون وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إما عطف بيان، أو يراد أحد اللفظين المسلمون المنافقون، و بالتالي الكفار، و المراد بالمرض مرض الانحراف عن المنهج المستقيم، فإن البدن كما يصاب بالأمراض الجسمية، كذلك الروح تصاب بالأمراض الخلقية، فالبخل و الحسد و الجبن و ما أشبه أمراض غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي غرّ المسلمين دينهم حتى خرجوا مع قلّتهم و صمّموا على قتال الكفار الأقوياء عددا و عدّة وَ ليس الأمر كذلك فإنه مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فيسلم أمره إليه و يثق به فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغلب، و كذلك لا يغلب المتوكلون عليه حَكِيمٌ فيما يفعل، يضع الأمور مواضعها، فلا يترك المسلمين و لا يخذلهم، بل ينصرهم على الكافرين، فإنه له القوة يمنحها المتوكلين عليه، و له الحكمة يدبّر بها الأمور.

[51] إن الكافرين كان مبدأ أمرهم- في مقابلة المسلمين- الانهزام، فلننظر إلى مصيرهم وَ لَوْ تَرى يا رسول الله، أو المراد كل من تتأتى منه الرؤية إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ أي تقبض الملائكة أرواح

الكفار عند موتهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 345

[سورة الأنفال (8): آية 51]

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)

أي يضربونهم من الأمام و من الخلف، كما يضرب المجرم الكثير الاجرام وَ يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي العذاب الذي يحرق.

و

قد روي أن الملائكة كانت تضرب قتلى المشركين في بدر بالمقامع فتلهب جراحاتهم بالنار و تزهق أرواحهم

«1». و الإتيان بصيغة الأمر في «ذوقوا» لتصوير المشهد كأنه مجسّم أمام المخاطب، و هو من باب الإلفات، كما ذكر في علم البلاغة.

[52] ذلِكَ العقاب لكم أيها الكفار بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بما قدّمتم و فعلتم من الكفر و المعاصي، و إنما نسب إلى اليد، للتغليب، فإن كثيرا من الأعمال تأتي بواسطة اليد وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «ظلّام» صيغة للنسبة، لا مبالغة، كتمّار بمعنى المنسوب إلى التمر.

قال ابن مالك:

و مع فاعل، و فعّال، فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل

و من المحتمل أن تكون مبالغة، و ذلك لإفادة أنه سبحانه لو كان ظالما لكان كثير الظلم لأن كل صفة تصحّ فيه تعالى لا بد و أن تبلغ شأنا كثيرا، فنفي المبالغة نفي للأصل، و المعنى: إن العقاب ليس إلا بسبب جناية العبد، لا أنه اعتباطي منه سبحانه.

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 4 ص 480.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 346

[سورة الأنفال (8): الآيات 52 الى 53]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)

[53] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدأب:

العادة، و الكافر للتشبيه، أي أن عادة هؤلاء المشركين في الكفر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كعادة آل فرعون و هم قومه و أتباعه وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أقوام الأنبياء، في الكفر بالرسل و تكذيبهم، فليس تكذيب هؤلاء جديدا، فإن السابقين عليهم أيضا كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ و ما أنزل على الأنبياء فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ بأن عاقبهم و أنزل عليهم أنواع العذاب إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ لا يقدر أحد على التمرد عليه، فإذا أراد أخذ أحد أخذه أخذ عزيز مقتدر شَدِيدُ الْعِقابِ و ليس عقابه يسيرا هيّنا حتى لا يخشى منه.

[54] ذلِكَ العقاب الذي حلّ بأولئك و هؤلاء، ليس اعتباطا و ابتلاء من الله سبحانه بلا استحقاق بل بسبب عملهم، لأن اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما أي الحالة الصحيحة التي كانت بِأَنْفُسِهِمْ إن الصحة و الرخاء و الأمن و الغنى أحوال لاصقة بأنفس الناس، منحها الله إياهم، و طلب أن يعملوا برضاه فيها، فإذا غيّروا ما طلب منهم بالنسبة إليها، بأن صرفوا تلك النعم إلى المعاصي، غيّر الله تلك النعم فأبدل الصحة مرضا، و الرخاء ضنكا، و الأمن اضطرابا، و الغنى فقرا. و هذا بالإضافة إلى كونه مرتبطا بما وراء المادة، مرتبط بالمادة أيضا، فإن الصحة تنحرف باستعمال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 347

[سورة الأنفال (8): آية 54]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)

المحرمات الضارة، و الرخاء ينحرف بعدم التعاون و العداء مما يسبب تفكك المجتمع فلا يزرع بمقدار ما كان التعاون يسببه، و هكذا، و الأمن ينحرف إذا نوى كل إنسان

الشر بأخيه، و الغنى ينحرف إذا كسل الناس عن العمل أو عملوا أعمالا غير مثمرة لا تفيد مالا.

و من المعلوم أنه لا يلزم أن يكون الناس مؤمنين ثم يكفرون، بل هنالك مناهج بشرية عامة قرّرها سبحانه إذا سادت المجتمع كانوا في أمن و رفاه، فإذا غيّروها تغيرت النعمة، مثلا الظلم و القتل قبيحان، و التعاون و الإحسان حسنان، أما بالنسبة إلى من بدّل الإيمان كفرا و مناهج الشريعة أهواء، فذلك أوضح وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع أقوال الناس عَلِيمٌ بضمائرهم، فإذا رأى تغييرا في النيات، و انحرافا في الكلمات غيّر ما أعطاهم من نعمة و ما تفضّل عليهم من أمن و راحة.

[55] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي أن عادة هؤلاء الكفار كعادة آل فرعون وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من سائر الأمم. و إنما كرّر لتأكيد أن الحالة هي الحالة، فإن كثيرا من الناس لا يصدقون أن ما جرى في الأمم السابقة تجري في هذه الأمة، و لذا يحتاج الأمر إلى تركيز و تقرير، و ذلك لا يكون إلا بالتكرار و التذكير مرة فمرة كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ دلائله و حججه فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فلم يموتوا ميتة طبيعية، و إنما أخذوا بالعذاب وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ مع فرعون نفسه، فإنه قد يطلق «الآل» على الأعم من الشخص

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 348

[سورة الأنفال (8): الآيات 55 الى 56]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ (56)

للتغليب، كما تقدم في قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ «1»، وَ كُلٌ من تلك الأمم التي أهلكناهم كانُوا ظالِمِينَ و تخصيص

الكلام بآل فرعون، لأن كفرهم و عقوبتهم كانت ظاهرة واضحة لدى السامعين.

[56] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ الدابة: كل ما يدبّ على وجه الأرض، لكن المنصرف منها الحيوان، و شرّ الجميع عِنْدَ اللَّهِ في حكمه الَّذِينَ كَفَرُوا و استمروا على كفرهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «الفاء» لعطف جملة على جملة. و لا يقال: إن الدواب لا شر فيها، فكيف يجعل الكافر شرا منها، لأنه يجاب عنه: بأن من الدواب ما فيها شر كالسامة و المؤذيات. و التي ليس فيها شر، يعدّ شرا باعتبار أنها لا تهتدي طريقا، و ليس المراد بالشر هذا المعنى فقط.

[57] ثم بيّن سبحانه المصداق الظاهر لذلك بقوله: الكفار الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ عهد حسن الجوار بأن تكون في أمن منهم، و هم في أمن منك ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي كلّما عاهدوا نقضوا العهد و لم يفوا به وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ الله و لا يخافون عقابه، أو لا يتقون نقض العهد. و الظاهر من الآية أن ذلك كان دأب بعض الكفار.

و في «المجمع»: عن مجاهد أنه أراد به يهود بني قريظة فإنهم قد

______________________________

(1) آل عمران: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 349

[سورة الأنفال (8): الآيات 57 الى 58]

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)

عاهدوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أن لا يضرّوا به و لا يمالئوا عليه عدوا، ثم مالئوا عليه الأحزاب يوم الخندق و أعانوهم عليه بالسلاح، و عاهدوا مرة بعد أخرى فنقضوا «1».

[58] و ما هو جزاء هذه الفئة التي هي شرّ من الدواب و لا

تلتزم حتى بالعهود؟! فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ «إن» الشرطية و «ما» زائدة، و «ثقف» بمعنى: ظفر، أي إن ظفرت بهم يا رسول الله فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ «التشريد» هو التفريق، أي نكّل بهؤلاء تنكيلا و فرّقهم تفريقا حتى يتعثّر بهم من هم ورائهم من الذين عاهدوا معك، حتى يخافوا فلا ينقضوا العهد. فتكون الآية دالّة على أمرين: الأول: تأديب هؤلاء الناقضين للعهد. الثاني: إلقاء الرعب في قلوب الآخرين لئلّا ينقضوا عهدهم لَعَلَّهُمْ أي لعلّ من خلفهم يَذَّكَّرُونَ أي يتذكرون أن نقض العهد يوجب مثل هذا التأديب فلا يقدموا على مثله، فإن نقض العهد من أسوأ الأعمال، إذ يدل ذلك على أن المعاهدة كانت للضعف، فكلّما وجد أحد المعاهدين سبيلا إلى نقضه نقضه، و هذا يوجب سقوط قيمة المعاهدات، و أن لا يكون المتعاهدون بعضهم في أمن من بعض. أما الخدعة في الحرب فليست قبيحة إذ تلك بعد تأهّب كل فريق.

[59] وَ إِمَّا تَخافَنَ «إمّا» مركّبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة، تأتي

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 483.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 399

[سورة الأنفال (8): آية 59]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)

للتوسع في معنى الشرط، يعني: و لو كان الاحتمال ضعيفا، إن لم تدخل نون التأكيد، و إلّا أفادت التأكيد في الشرط، بأن يكون الاحتمال قويا مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً أي إن خفت يا رسول الله من قوم من هؤلاء المعاهدين خيانة، بأن يخونوا عهدك و يحاربوك فجأة بعد إبرام الميثاق فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أي ألق المعاهدة بينك و بينهم، إلقاء منتهيا إليهم، بمعنى أعلمهم عن إلقاءك للعهد، حتى يكون كلا الطرفين

على سواء في الأمر، لا أن يكونوا هم بصدد المباغتة و أنتم في أمن و دعة منهم، فإن الإنسان إذا علم أن خصمه في عهد يأمن، أما إذا علم أنه في حرب يستعد، أما أن يبقى متزلزلا يخاف خيانته، فإنه في اضطراب و ارتباك، و العهد في نظر العرف ليس مما إذا أبرم دام، بل معلق بنقضه من الطرفين مع الاعلام إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ أي فلا تخنهم يا رسول الله بالقتال فجأة بدون إعلام، بل أعلمهم النقض ثم إذا أردت قتالهم، فقاتلهم بعد الاعلام.

و عن بعض المفسرين: إن الآية نزلت في بني قينقاع من اليهود، فإنه كان بين النبي و بين أولئك معاهدة، و حيث أن اليهود كان من طبعهم الخيانة خاف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك، و لذا حلّ العهد الذي بينهم، لئلّا يباغتوه و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أمن منهم. ثم صارت بينهم المحاربة «1».

[60] إن الكفار بنقضهم العهد دون الاعلام، و خيانتهم و غدرهم- كما صدر

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 485، عن الواقدي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 351

[سورة الأنفال (8): آية 60]

وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)

من بني قريظة- يظنون أنهم قد سبقوا، و أدركوا فرصة ذهبية سببت عجز المسلمين، لكنه ليس كذلك وَ لا يَحْسَبَنَ يا رسول الله الَّذِينَ كَفَرُوا بنقضهم العهد و غدرهم سَبَقُوا و استفادوا من فرصة المباغتة و السبق إِنَّهُمْ لا

يُعْجِزُونَ أي أن هؤلاء الكفار لا يعجزون المسلمين، بمعنى أنهم بغدرهم لا يسببون عجز المسلمين، بل الله سبحانه ناصرهم، فإن الله سبحانه في عون الوفيّ لا الغادر، و لذا ذهب بنو قريظة أدراج خيانتهم، بينما غلبهم المسلمون.

[61] وَ أَعِدُّوا أيها المسلمون، و الإعداد هو التهيئة قبل وقوع الأمر لَهُمْ أي للكفار مَا اسْتَطَعْتُمْ ما قدرتم عليه مِنْ قُوَّةٍ دفاعية و هجومية، بتهيئة وسائل الحرب، حتى تكونوا دائمي الاستعداد، سواء هاجمتم أو هوجمتم. و لعل إطلاق القوة يشمل جميع أنحاء القوى المادية و المعنوية و غيرها وَ ما استطعتم مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ أي ربط الخيل و اقتناءها للجهاد و الحرب تُرْهِبُونَ بِهِ أي تخوّفون بسبب إعداد ما استطعتم عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ فإن الكافر عدو الله لمخالفته له، و عدو المسلمين كما هو واضح. و لعل المراد بهم: أهل مكة، فإنهم كانوا ظاهري العداوة وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي ترهبون به كفارا آخرين دون أولئك في العداوة، أي أن عداوتهم أضعف، أو دون أولئك في المحل كبني قريظة الذين كانوا قريبين من المدينة لا تَعْلَمُونَهُمُ أي لا تعلمون أيها المسلمون أنهم أعداء لكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 352

[سورة الأنفال (8): الآيات 61 الى 62]

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62)

اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ حيث يعلم ما بطن من الأمور.

و هذا درس للمسلمين بأن يستعدوا لأي عدو لئلّا يباغتوا وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن الحرب تحتاج إلى الإنفاق، و لذا يقرن غالبا الجهاد بالإنفاق في الآيات الكريمة يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي

يرجع إليكم في الدنيا بالغنيمة و شبهها، و في الآخرة بالثواب الجزيل وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا يظلمكم الله تعالى بأن يعطيكم أقل مما أخذ منكم.

[62] وَ إِنْ جَنَحُوا الجنوح: الميل، و منه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد طرفيه، أي إن مال الكفار لِلسَّلْمِ و عدم الحرب فَاجْنَحْ لَها أي مل إليها و اقبلها منهم، و «السلم» مؤنث سماعي، و لذا جي ء بالضمير مؤنثا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوّض أمرك إليه، فلا تخف أن تفوتك الفرصة، فإن السلم أحرى أن تلين القلوب فيه و يكفي مؤونة أتعاب الحرب إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لأقوال الطرفين الْعَلِيمُ بنياتهم، فلا يفوته غدر غادر و سلم مسالم. و من المعلوم أن الجنوح للسلم إذا كان من مصلحة المسلمين فلا ينسخ قوله: قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ «1»، هذه الآية، بل كلّ في مقام المصلحة.

[63] وَ إِنْ يُرِيدُوا أولئك الذين يجنحون للسلم أَنْ يَخْدَعُوكَ بأن

______________________________

(1) التوبة: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 353

[سورة الأنفال (8): الآيات 63 الى 64]

وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)

يجدوا فرصة لتهيئة العدّة للغدر بك و قتالك فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هو يكفيك شرهم، و يتولى أمورك، فإنه كما كفاك سابقا يكفيك الآن هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ أي قوّاك بِنَصْرِهِ أي النصرة التي أنزلها عليك وَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي أيدك بالمؤمنين الذين التفوا حولك، فتمكنت أن تبارز بهم الأعداء.

[64] وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ المتنافرة حتى يكونوا قوة واحدة في وجه الأعداء، فإن وحدة الكلمة من أهم أسباب النصر، و قد

كانوا قبل الإسلام في أشد حالة من العداوة و البغضاء حتى أنه كان بين الأوس و الخزرج عداوة و قتال دام أكثر من مائة سنة لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فإن المال يزيد العداوة، فإنه يكون وقودا لها، و إنما أزال الله سبحانه الضغائن بتصفية القلوب و تطهير أدران النفوس وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بهدايتهم للإسلام المطهّر للعداوة عن الأفئدة إِنَّهُ سبحانه عَزِيزٌ غالب على أمره، فإذا أراد شيئا أوجده حَكِيمٌ بحكمته و تدبيره يدبّر الأمور و يديرها.

[65] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ أي يكفيك في مقابلة الأعداء وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإنهم كافون بالنسبة إلى القوى الظاهرة، و هذا تشجيع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 354

[سورة الأنفال (8): الآيات 65 الى 66]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لئلّا ينظر إلى كثرة الأعداء، كما جرت العادة في الحروب العادية.

قال بعض المفسرين: نزلت في البيداء قبل الشروع في القتال في وقعة بدر «1».

[66] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ أي رغّب الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ بذكر فوائده و آثاره و أنهم يسودون بسببه و يحوزون الأجر و الثواب في الآخرة لأجله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أيها المؤمنون عِشْرُونَ صابِرُونَ على القتال يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفار فكل واحد من المؤمنين في قبال عشرة

من الكافرين وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا و ذلك لأن الإيمان و التضحية طاقتان عظيمتان تبدّلان الإنسان العادي إلى شخص شجاع مقدام، و ذلك الضعف في الكفار بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون، فمن يحارب عن معرفة و إيمان يزوّد بما لا يزوّد به الإنسان الخليّ من العقيدة و الدين، و إن من عرف أنه إن قتل دخل الجنة و إن قتل دخل الجنة، كان قوي القلب في مقابل من لا يفقه ذلك.

[67] إن الفئة إذا كانت قليلة كانت الطاقة الإيمانية فيها قوية جدا، و ذلك لأنها تتقوّى حتى تتمكن من مقابلة القوي، و هذا أمر بيّن في علم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 490، عن الكلبي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 355

[سورة الأنفال (8): آية 67]

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)

النفس، فالنفس القوية تأتي بما تحير العقول فيه، إما إذا كثرت الفئة فإن روح الاتكالية تقوى فيهم، و بمقدار ارتفاع نسبة الاتكالية، تنخفض القوة و الطاقة، و لذا نرى الأمم أول تكوّنها أنشط منها في أواسط حياتها، فكيف بأواخرها، و هذا هو السبب في أن خفّف الله الحكم عن المؤمنين بعد أن كثروا، الْآنَ و بعد أن كثرتم أيها المؤمنون خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ في لزوم مقابلة الواحد منكم لعشرة من الكفار وَ عَلِمَ الله أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً عطف على «الآن» لا على «خفف» و المراد بالضعف: ضعف الطاقة، لا ضعف الجسد فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أيها المسلمون مِائَةٌ صابِرَةٌ تصبر على المكاره يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفار وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ

أَلْفٌ صابرين يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ من الكفار بِإِذْنِ اللَّهِ و إرادته حيث أراد لكم أن تكونوا أقوى من عدوكم بما وهب لكم من الإيمان، فإن الرجل منكم يعادل رجلين من العدو، فإنه و إن كان أضعف من الحكم السابق و لكنه أيضا بإذنه سبحانه وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ينصرهم و يعينهم.

و لعل الحكمين تابعان لحالة نفوس المسلمين في كل دور، فمتى رأوا قوة من أنفسهم كان العشرة منهم بمائة، و متى رأوا الضعف من أنفسهم كان العشرة منهم بعشرين، فلا نسخ في البين، و الله العالم.

[68] أسر المسلمون يوم بدر سبعين أسيرا فقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم ثلاثة، و خاف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 356

المسلمون أن يقتلهم جميعا فتقدموا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأخذ الفداء منهم رغبة في المال، و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم أن قتل بعضهم أصلح، كما كان كذلك شأن الأنبياء قبله، و ذلك لأن رؤوس المؤامرات إذا أطلقوا عاثوا في الأرض فسادا و عادوا إلى المجتمع بأكثر قتلا و فتكا، لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل طلب هؤلاء لأمر أصلح و هو أن لا يختلف أصحابه بما يعود بأكثر ضررا، فنزلت هذه الآية توبيخا للمسلمين:

ما كانَ لِنَبِيٍ أي ليس له، و لم يكن في عهد الله إليه أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى بأن يأخذ الأسير ثم يطلقه منّا، أو في مقابل الفدية حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الإثخان: التغليظ، أي يحمل الأرض ثقلا بالقتلى، أو المعنى: حتى يغلب في الأرض ليخاف الكفار سطوته، فإنهم إن علموا أنهم إن وقعوا أسرى فدّوا و

تحرروا، جرّأهم ذلك على الاستمرار في المؤامرة و المكايدة، لكنهم إن عرفوا أن وراءهم القتل، قلت جرأتهم، و سلمت الدولة من شرهم.

فهل تُرِيدُونَ أيها المسلمون عَرَضَ الدُّنْيا أي المصالح الدنيوية، و سمي عرضا لأنه لا يبقى، و المراد به هنا: المال المأخوذ فدية وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فإنكم إن صرفتم النظر عن المال لأجل ثواب الله سبحانه، كان خيرا لكم وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذو قوة و منعة، فاعملوا بأوامره حتى يقويكم حَكِيمٌ يدبر الأمور بحكمته البالغة، فما يأمر به هو المصلحة دون ما تظنون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 357

[سورة الأنفال (8): الآيات 68 الى 69]

لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

[69] لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي لو لا أن الله سبحانه كتب سابقا أن لا يعذب الناس حتى يبيّن لهم، كما قال سبحانه: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1»، لَمَسَّكُمْ أيها المسلمون فِيما أَخَذْتُمْ من الفدية عَذابٌ عَظِيمٌ إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن عليه غضاضة لأنه لاحظ الأصلح من توحيد كلمة أصحابه حيث قبل أخذ الفدية مكرها، أما المسلمون فقد استحقوا العقوبة حيث رجّحوا المال على ما فيه خيرهم و رغبة نبيهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

قد ورد في الحديث: أن الفدية كانت أربعين أوقية من الفضة، كل أوقية أربعين مثقالا، إلّا العباس عم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث أخذ منه مائة أوقية «2».

[70] أما إذا انتهى الأمر و أخذتم الفدية فلا بأس في أكلكم لها فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من

الكفار حَلالًا طَيِّباً و الطيب إذا قورن بالحلال أفاد معنى عدم نفرة الطبع منه في مقابل الحلال الذي ينفر منه الطبع وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تخالفوا أوامره إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ قد غفر ذنبكم في أخذكم الفدية رَحِيمٌ يرحمكم فيما بعد بلطفه، مقابل بعض الكبار الذين إذا غفر ذنب المذنب، ينتهي الأمر عند ذلك، فلا يرحمه بعد ذلك.

______________________________

(1) الإسراء: 16.

(2) عوالي اللآلي: ج 2 ص 101.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 358

[سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

[71] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ أي تحت استيلائكم، و ذكر «اليد» لأنها تكون الآخذة للأشياء غالبا مِنَ الْأَسْرى جمع أسير، و المراد بهم أسرى بدر الذين أسرهم المسلمون إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً بأن لم تكن قلوبكم محشوة بالحقد و العداوة بل طاهرة نظيفة يُؤْتِكُمْ أي يعطيكم خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء، و إنما يعطيكم ذلك لطفا و رحمة لا استحقاقا و عوضا وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم. و من المعلوم أن ذلك مشروط بالإيمان وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ و قد كان العباس بن عبد المطلب يقول: نزلت هذه الآية فيّ و في أصحابي، كان معي عشرون أوقية ذهبا فأخذت مني فأعطاني الله مكانها عشرين عبدا كل منهم يضرب بمال كثير و أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية.

[72] ثم سلّى الله سبحانه نبيّه حول إطلاق الأسرى بالفداء نزولا عند رغبة

أصحابه، بأنه لا يهمّه ما لعل الطلقاء يقومون به من مؤامرة جديدة ضده وَ إِنْ يُرِيدُوا أي يريد الطلقاء خِيانَتَكَ بأن يكون في نيّتهم تجديد المؤامرة فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في قصة خروجهم إلى بدر فَأَمْكَنَ الله المسلمين مِنْهُمْ فقتلوهم و أسروهم، و الله قادر على أن يمكّن المسلمين منهم ثانية إن خافوا منهم. و سمى خروجهم إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 359

[سورة الأنفال (8): آية 72]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)

بدر خيانة باعتبار وجوب شكر المنعم، لا باعتبار سبق معاهدة، فإنك إذا أنعمت و تفضلت على أحد، ثم قام ضدك يقال: أنه خانك وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بإرادتهم الخيانة و عدمها حَكِيمٌ يدير الأمور حسب الحكمة، فهم في قبضة علمه و إرادته لا يتمكنون من الإضرار بك.

[73] و بمناسبة ذكر الحرب و علاقة المسلمين بالمشركين، يأتي ذكر علاقة المسلمين بعضهم ببعض، و أنها علاقة الإيمان و العقيدة و الهجرة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله و بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة وَ جاهَدُوا أي حاربوا الكفار بِأَمْوالِهِمْ بأن بذلوها في سبيل الجهاد وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و يأتي ذكر «سبيل الله» في كل مناسبة للتنبيه على أن حركة المسلمين ليست إلا لإعلاء كلمة الله وَ الَّذِينَ آوَوْا أي الأنصار

من أهل المدينة الذين جعلوا للرسول و المهاجرين مأوى بأن أسكنوهم في منازلهم، فإن المهاجرين لم يكن لهم مسكنا حين وردوا المدينة فأسكنهم الأنصار معهم في بيوتهم وَ نَصَرُوا أي نصروا الرسول و المهاجرين على أعدائهم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ و ليست هنالك ولاية بين المسلم و قريبه الكافر، و الولاية كلمة عامة تشمل أقسام الولاية و النصرة.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا إلى المدينة، بل بقوا في مكة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 360

[سورة الأنفال (8): آية 73]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ (73)

اختيارا ما لَكُمْ أي ليس لكم أيها المسلمون مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ لأنهم خالفوا أمر الرسول و أضعفوا- ببقائهم في مكة- كيان المسلمين حَتَّى يُهاجِرُوا كما هاجرتم وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ أي طلب المؤمنون غير المهاجرين منكم أيها المهاجرون أن تنصروهم على أعدائهم الكفار، في الأمور الدينية فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ و من المعلوم أن النصرة غير الولاية المطلقة، لأن المسلمين في المدينة كان ينصر بعضهم بعضا، و يسكن أحدهم الآخر في داره، و يجتمعون في السلم و الحرب، و أخذ الغنائم، و يتفقد أحدهم الآخر، كأهل بيت واحد، بخلاف النصر المجرّد على الكافر الذي قرّره سبحانه للمسلمين في مكة.

إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ أيها المسلمون المهاجرون وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فإذا استنصركم المسلمون في مكة على كفار معاهدين معكم، فلا تخرقوا المعاهدة، و لا تنصروا المسلمين، لأن المسلم لا يغدر بعهده، و لا ينقض ميثاقه و إن كان مع الكافر وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تتركوا موالاة المهاجرين، و لا تتولوا غير المهاجرين.

[74] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا ليسوا لكم بأولياء و إن كانوا أقرباؤكم

بالنسب أو باللغة أو بالوطن بل بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ينصر بعضهم بعضا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 361

[سورة الأنفال (8): الآيات 74 الى 75]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (75)

ضدكم و إن اختلفوا. و بهذا المعنى

ورد: «الكفر كله ملة واحدة»

إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي إن لم تفعلوا ما أمرتم به من ولاية المؤمنين، و اعتبار الكفار كلهم ملّة واحدة، بأن عاديتم المؤمنين أو واليتم الكافرين تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ لأن في ذلك تعزيزا للكفر و إذلالا للإسلام، و قد دلّ منطق التاريخ أن كل وقت اتخذ فيه المسلمون الكافرين أولياء، ضعفت شوكتهم و ذهبت ريحهم، و بالعكس كل وقت اتخذوهم فيه أعداء، و اتخذوا سائر المسلمين أولياء، قويت شوكتهم و هبت ريحهم.

[75] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته و تطبيق حكمه وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا من أهل المدينة الذين أعطوا المسلمين مأوى و نصروهم على أعدائهم أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لقيامهم بجميع شرائط الإيمان لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من الله لذنوبهم وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ أي مع الكرامة في الدنيا و في الآخرة، فإن المؤمنين إذا ما عملوا بشرائط الإيمان تمّت عليهم بركات من السماء و الأرض.

[76] وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ في المستقبل- حتى لا يظن أن الأمر تمّ في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-

وَ هاجَرُوا و الهجرة باقية مهما كان الإنسان في دار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 362

الكفر مما لا يتمكن معه من إظهار معالم الإسلام وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ و لو بنحو المعية المعنوية بأن كان جهادهم مع المؤمنين و في جماعتهم فَأُولئِكَ مِنْكُمْ في الأجر و الثواب و خير الدنيا وَ أُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو الأرحام و القرابة بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكم الله. و هذا أخص من الحكم الأول، فالقريب المسلم الجامع للشرائط أولى بقريبه المسلم الجامع للشرائط من البعيد المسلم الجامع للشرائط في جميع الجهات التي منها الإرث. و يفهم من الآية أن الأقرب من الرحم أولى من الأبعد إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فما يذكره من الأحكام إنما هو حسب الحكمة و المصلحة، لأنه يصدر عن علم و اطلاع.

و في بعض التفاسير: إن هذه الآية نسخت الآية السابقة أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فإن كان هناك دليل صحيح في الدين يدل على ذلك فهو، و إلا فظاهر الآيتين غير متناف حتى نحتاج إلى القول بالنسخ، و الله العالم «1».

______________________________

(1) راجع تفسير القمي: ج 1 ص 280.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 363

9 سورة التوبة مدينة/ آياتها (129)

تسمى هذه السور ب «سورة براءة» لأنها تبتدئ بهذه الكلمة، كما تسمى بالتوبة، لكثرة اشتمالها على مشتقات هذه الكلمة. و لم تبتدئ هذه السورة ب «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأنها نزلت لإعلان الحرب على الكفار و المنافقين، و ذلك ينافي «البسملة» التي تحمل في معناها الرحمة و السلام.

و لما اختتمت سورة الأنفال بعلاقة المسلمين بعضهم مع بعض ابتدأت هذه السورة بعلاقة المسلمين بالكافرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 364

[سورة التوبة (9): الآيات 1 الى 2]

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ

رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)

[1] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي هذه براءة، على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو «براءة» مبتدأ خبره «إلى الذين». و معنى البراءة: انقطاع العصمة، يقال: «برأ يبرأ من فلان» إذا قطع ما بينهما من الصلة. و المعنى: أن لا عصمة بين المسلمين و بين الذين عاهدوهم من المشركين، فقد كان بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين المشركين معاهدات، لكنهم غدروا، و لذا أجّلهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة أشهر، فمن كان له معاهدة أعلمه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه يبقى على المعاهدة إلى أربعة أشهر، ثم هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرب عليه فليتخذ حذره.

و لم يكن هذا نقضا من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل نقضا منهم، و لذا قال سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ «1». و قد شاء الله سبحانه أن يطهر الجزيرة التي أصبحت عاصمة الإسلام عن رجس الشرك و النفاق لتتوحد فيها الكلمة و يكون للمسلمين دولة مرهوبة الجانب ليفرغوا إلى الروم و الفرس.

[2] فَسِيحُوا أيها الكفار فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ معنى «السيح» السير، يقال: «ساح» إذا سار على مهل. أي: أنتم في مهلة بأن تسيروا آمنين و تتصرفوا في حوائجكم بكل تأن و طمأنينة إلى أربعة أشهر من ابتداء الإعلان، و هو من يوم النحر إلى العاشر

من ربيع الآخر، فإذا

______________________________

(1) التوبة: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 365

انقضت هذه المدة فليس لكم عهد و لا أمان، و المحاربة معكم لا تعتبر غدرا و مباغتة وَ اعْلَمُوا أيها الكفار أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تتمكنون من أن تعجزوه و تغلبوه، بل هو القادر على أن يخزيكم بأيدي المسلمين، فلا تفكروا في محاربة المسلمين وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ «الخزي» النكال، أي أنه سبحانه ينكل بهم و ينتصر عليهم.

روى المفسرون أنه لما نزلت سورة براءة دفعها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أبي بكر ليذهب إلى الحج فيقرأها على المشركين، فلما مضى بعض الطريق جاء جبرئيل عليه السّلام إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال له: إن السورة لا يبلغها إلا أنت أو رجل من أهل بيتك، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا أن يخرج و يأخذها من أبي بكر، فرجع أبو بكر و ذهب علي عليه السّلام و قرأ السورة على الكفار في منى ثلاثة أيام، يوم العاشر من ذي الحجة، و الحادي عشر، و الثاني عشر منه، فكان يخرط سيفه و يقول: لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، و لا يدخل البيت إلا مؤمن، و لا يطوف بالبيت عريان، و من كانت بينه و بين رسول الله مدة فإن أجله إلى أربعة أشهر «1».

و لما أعلم الكفار بذلك، أظهروا تبرؤهم، فلم تبق صلة بينهم، و قد كان هذا العمل خطرا، حيث أن الكثرة الغالبة من الحجاج كانوا مشركين، فالاصطدام بهم بهذه الصورة الخشنة كان مظنة الإيقاع بالإمام عليه السّلام لكن الله سبحانه عصمه عن ذلك، و قد كان نزول

سورة براءة في السنة التاسعة من الهجرة، بعد فتح مكة، و في العام القابل حج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجة الوداع، و لما أن رجع عن الحج نصب عليا

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 21 ص 266.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 366

[سورة التوبة (9): آية 3]

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)

خليفة في غدير خم، و قبض في شهر صفر من تلك السنة.

[3] وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي إعلام منهما إِلَى النَّاسِ من المسلمين و المشركين يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ و هو يوم النحر، مقابل الحج الأصغر الذي هو العمرة، و سمي بالأكبر لأن أعماله أكثر، و إنما كان يوم النحر يوم الحج الأكبر لأن طواف الحج الذي هو أعظم أعماله يأتي فيه، و يحتمل أن يراد بذلك جميع أيام الحج، كما يقال: يوم الجمل، و يوم صفين، و يراد به الحين و الزمان الذي وقعت فيه هذه الحوادث.

و المعنى أن الله و رسوله يعلنان في هذا الوقت أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فلا علاقة له بهم، و لا عهد له معهم وَ رَسُولِهِ أيضا بري ء منهم. و قد تقدم أن ذكره سبحانه هو الأصل، و ذكر الرسول للاحترام و لأنه المنفّذ المواجه فَإِنْ تُبْتُمْ أي رجعتم عن الشرك أيها المشركون فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في دنياكم حيث تسودون و تبقون مرفهين وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الإيمان و بقيتم على الشرك فَاعْلَمُوا أنكم في معرض عقاب الله و

عذابه و أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تتمكنون من أن تعجزوه و تغلبوه، بل هو ينتصر عليكم و يهلككم و يخزيكم وَ بَشِّرِ يا رسول الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ في الدنيا و الآخرة. و تسمية الإنذار بشارة، من باب الاستهزاء، و ذكر الضد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 367

[سورة التوبة (9): الآيات 4 الى 5]

إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

مكان الضد، كما يسمى الزنجي: كافورا، و الأعمى: بصيرا، و لبيان أن العذاب يأتي مكان انتظار البشارة، فإن الكفار كانوا ينتظرون بأعمالهم عاقبة حسنة فإذا بها عذاب و نكال.

[4] ثم استثنى سبحانه من براءته من المشركين و انتهاء معاهدتهم إلى أربعة أشهر، المعاهدين الذين وفوا بالعهد إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أيها المسلمون معهم مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً بل بقوا أوفياء على عهودهم وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً أي لم ينضموا إلى أعدائكم حتى يكونوا ظهيرا لهم عليكم فَأَتِمُّوا أيها المسلمون إِلَيْهِمْ و إنما قال: «إليهم» كأن الإتمام يبتدئ من المسلمين و ينتهي إلى أولئك عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ المضروبة لهم، فهم في مدة عهدهم آمنون لا يحاربون إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون نقض العهد.

و قد كان جماعة من المشركين كذلك بقوا أوفياء على عهودهم كبني كنانة و بني حمزة، و قد كانت مدتهم تسعة أشهر، و كأهل هجر و البحرين و إيلة و

دومة الجندل الذين كانت للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معهم مصالحات.

[5] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي مضت الأشهر الأربعة التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها، و التي تنتهي بانتهاء عشرة أيام من ربيع الأول. و معنى الانسلاخ: المضي، كما ينسلخ الجلد عن الشاة، فتبدو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 368

[سورة التوبة (9): آية 6]

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)

عارية ظاهرة، تشبيها للأشهر الحرم بالجلد الواقي لما بعدها من الأيام فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فقد رفعت الهدنة و العهد بما نقضوا من العهود. و ليس المراد قتل كل فرد فرد، بل المراد وقوع المقاتلة، و أنهم في حكم المحارب، و المراد من «حيث وجدتموهم» أينما كانوا في حلّ أو في حرم، فإن الحرم محترم لمن احترمه، أما من لم يحترمه فليس بمحترم فيه وَ خُذُوهُمْ أي خذوا من تمكنتم من أخذه، و الأخذ للقتل أو الحبس أو الاسترقاق وَ احْصُرُوهُمْ امنعوهم عن التصرف في حوائجهم و اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ كل محل للرصد و التطلع كقلل الجبال، و المضايق، و قوارع الطرق فَإِنْ تابُوا عن كفرهم وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ أي التزموا بشرائط الإسلام، فإن إظهار مجرد الإيمان بدون الرضوخ للأحكام و الاستعداد لامتثال أوامر الله و الرسول، لا يعدّ إلا لقلقة لسان فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ دعوهم يتصرفون في البلاد، لهم ما للمسلمين و عليهم ما على المسلمين، لأنهم أصبحوا من زمرتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ بهم يتفضّل عليهم بلطفه.

[6] وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذي أمرتك بقتاله بعد انسلاخ الأشهر الحرم اسْتَجارَكَ أي استأمنك، بأن طلب

الأمان منك ليسمع دعوتك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 369

[سورة التوبة (9): آية 7]

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

فَأَجِرْهُ و أعطه الأمان حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ و حيث أن كلام الرسول هو الوحي، كما قال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1»، كان كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلام الله تعالى ثُمَ إن أسلم، كان له ما للمسلمين، و إن لم يسلم ف أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أي أرجعه إلى محل أمنه، بأن يكون في حمايتك حتى يبلغ مكانه، لئلّا يغدر به في الطريق، و هذا كان كافرا حربيا، بعد عدم قبوله الإسلام إلّا أنه حيث جاء لغرض صحيح، لا يجوز قتله حتى يبلغ مأمنه ذلِكَ الأمان لمريد فهم الإسلام بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ حقيقة الإسلام، فهذا الأمان سبب لدخول بعضهم في الإسلام.

[7] ثم بيّن سبحانه وجه تبرؤ الرسول من العهود بعد أربعة أشهر بقوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ و قد غدروا و ظاهروا الأعداء، و هل العهد يبقى مع ذلك؟ و قد كان ضرب المدة أربعة أشهر من سماحة الإسلام، و إلّا فقد استحق الغادرون أن يجهز عليهم فور غدرهم إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فإنهم لم يغدروا، و كان استثناؤهم وحدهم دون سواهم، و قد كانوا كثيرين- كما عرفت- لأنهم «الفرد» الظاهر السابق إلى الذهن، و المراد بأولئك: هم قبائل بكر،

______________________________

(1) النجم: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 370

[سورة التوبة (9): الآيات 8 الى 9]

كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ

لا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)

بنو خزيمة و بنو مدلج و بنو حمزة، فقد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية- اليوم الذي عاهد رسول الله قريش قرب الحرم- و هؤلاء لم ينقضوا العهد، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإتمام مدتهم وفاء للعهد فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أي مدة استقامة المشركين الذين لم ينقضوا العهد معكم، بأن لم تظهر منهم أمارات الغدر و الخيانة فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ و ابقوا على عهدكم معهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون نقض العهد و خلف الوعد.

[8] كَيْفَ يكون للمشركين عهد، و تتورعون عن قتالهم وَ الحال أنهم إِنْ يَظْهَرُوا و يظفروا عَلَيْكُمْ و يتمكّنوا منكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً أي لا يحفظوا و لا يرعوا فيكم قرابة و لا عهدا، فإن «الإل» بمعنى القرابة، و «الذمة» بمعنى العهد، أو «الإل» بمعنى الحلف، أي تذهب المحالفات و العهود بمجرد أن يتمكن هؤلاء منكم يُرْضُونَكُمْ هؤلاء المعاهدون بِأَفْواهِهِمْ فيتكلمون بكلام الموالين وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ حبكم و ولاءكم، بل هي مليئة بغضا و عداوة وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن العهود و المواثيق، فإن الفسق بمعنى الخروج عن الحق.

[9] اشْتَرَوْا هؤلاء الناكثون بمقابل آيات اللَّهِ التي كان المفروض الإيمان بها ثَمَناً قَلِيلًا فقد أعرضوا عن الدين في مقابل دنيا قليلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 371

[سورة التوبة (9): الآيات 10 الى 12]

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ

يَعْلَمُونَ (11) وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

زائلة تحفظوا عليها فَصَدُّوا أي منعوا الناس عَنْ سَبِيلِهِ أي سبيل الله تعالى إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بئس عملهم ذلك.

[10] لا يَرْقُبُونَ لا يراعون و لا يحفظون فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً و هذا تأكيد لما سبق، أي أنهم لا يراعون قرابة المؤمنين و لا عهدهم، بل إن ظفروا بهم قتلوهم و انتقموا منهم وَ أُولئِكَ الكفار الناقضون للعهد هُمُ الْمُعْتَدُونَ المجاوزون للحد، حيث لم يراقبوا العهود.

[11] فَإِنْ تابُوا عن الكفر و قبلوا الإسلام وَ خضعوا لأوامره بأن أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ بالنسبة إلى من تمكن منها فهم إخوانكم فِي الدِّينِ أيها المسلمون، لهم ما لكم، و عليهم ما عليكم وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ نميّزها و نبيّنها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لأهل العلم، فإنهم هم الذين يستفيدون منها لا الجهلة الذين لا يعرفون شيئا.

[12] وَ إِنْ نَكَثُوا أي نقضوا أَيْمانَهُمْ أي عهودهم و الأيمان التي حلفوها بعدم الاعتداء عليكم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ معكم، و هذا كالتذكير ببشاعة عملهم، و إلا فكل نكث يكون بعد العهد وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أي أخذوا يقدحون و يعيبون دينكم فَقاتِلُوا أيها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 372

[سورة التوبة (9): آية 13]

أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)

المسلمون أَئِمَّةَ الْكُفْرِ «أئمة» جمع إمام، و هم قادة الكافرين، و إنما خصّهم بالذكر لأنهم المضلون لأتباعهم الذين إن استأصلوا ذهبت شوكة الكافرين.

و يستفاد من الآية: أن الأولى قصد مراكز انتشار

الكفر و معادنه إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي أن أئمة الكفر لا يحفظون العهود و الأيمان و لا وفاء لهم بها لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي قاتلوهم لكي ينتهوا عن الكفر.

[13] ثم حثّ سبحانه المؤمنين بقتالهم بقوله: أَ لا تُقاتِلُونَ أي هلّا تقاتلون قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ و نقضوها، و هذا لا ينافي قوله: «لا أيمان لهم» فإن معنى ذلك: أنهم لا يحفظوها، و معنى هذا أنهم عقدوها. و الحاصل أنهم عقدوا الأيمان و لكن نقضوها وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ حين تآمروا في دار الندوة لإخراجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مكة.

و لعل ذكر ذلك مع أنهم همّوا بقتله أيضا، أوقع في النفس، و أبلغ في التحريض و الحث، لأن الإخراج الذي قصده المتآمرون كان أسوأ من القتل، فإنهم قصدوا إخراجه حتى يموت في بيداء خالية من الماء و الطعام، أو المراد بالإخراج: إخراجه من بين أظهرهم بالإثبات أو القتل أو النفي وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فإنهم ابتدءوا بقتال المسلمين و إيذائهم و الصد عن سبيل الله.

إن كل هذه الأمور الثلاثة مما يبيح لكم قتالهم، فلما ذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 373

[سورة التوبة (9): الآيات 14 الى 16]

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)

لا تقاتلونهم أيها المسلمون؟ أَ تَخْشَوْنَهُمْ أي هل تخشون هؤلاء الكفار أن تصيبكم منهم أذية؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ

أَنْ تَخْشَوْهُ فإنكم إن تركتم قتال هؤلاء عذّبكم الله سبحانه، فهو أحق بالخشية من هؤلاء إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله و بما جاء به الرسول، أما غير المؤمن فلا يعتقد بعقاب الله سبحانه و لذا لا يخشاه.

[14] قاتِلُوهُمْ أي قاتلوا الكفار أيها المسلمون، إن تقاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بالقتل و الأسر وَ يُخْزِهِمْ أي يذلهم و يحطّم شوكتهم وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ حتى تكون كلمتكم هي العليا و تكون الغلبة لكم وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فإن صدور المؤمنين كانت ممتلئة غيظا و كمدا، و كل من انتصر شفي صدره و ذهبت فرحة النصر بغيظه.

[15] وَ يُذْهِبْ الله غَيْظَ قُلُوبِهِمْ الذي تجمع فيها من كثرة ما رأوا من الاضطهاد و الظلم وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من هؤلاء الكفار إذا آمنوا مع فرط تعدّيهم و عتوّهم، فإن الإسلام يجبّ ما قبله وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمصلحة حيث يأمركم بقتال هؤلاء، فلا يأمر اعتباطا حَكِيمٌ فأمره عن حكمة و دراية.

[16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا «أم» أداة استفهام و عطف، فقد عطفت هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 374

[سورة التوبة (9): آية 17]

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)

الجملة على قوله: «ألا تقاتلون» أي: هل ظننتم أيها المسلمون أن تتركوا آمنين في دياركم من دون أن تكلّفوا الجهاد في سبيل الله سبحانه؟ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ «لمّا» حرف نفي مع تقريب وقوع الفعل الذي لم يقع بعد، أي لم يتعلق علم الله سبحانه بالمجاهدين، فإنه لم يصدر منكم جهاد، حتى يكون علم الله واقعا خارجيا، فإن العلم إنما يكون خارجيا، إذا وجد

متعلقه، فإذا علم الإنسان أن زيدا سيجي ء غدا، يقال: لمّا يعلم فلان مجي ء زيد، بمعنى أنه لم يقع متعلق علمه وَ لمّا يعلم الله الذين لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً «الوليجة» هي البطانة التي يخفي الإنسان لديها أسراره، كأنه يلج فيها بسره، فإن حبّ الشخص لا يمتحن في أيام الرخاء، و إنما يمتحن في أيام الشدة و البلاء، فالصديق لا يتّخذ غير صديقه وليجة، بخلاف ضعيف الصداقة.

و لذا نرى أن كثيرا من المسلمين اتخذوا الولائج، و بدت ضمائرهم السيئة عند الجهاد وَ اللَّهُ خَبِيرٌ أي عليم بِما تَعْمَلُونَ أيها المسلمون. و الحاصل أنه لا بد من امتحانكم أيها المسلمون بالجهاد ليتبين المجاهد منكم من غيره، و يتبين الذي يخلص في النية لله و الرسول، من غيره.

[17]

روي أن المسلمين عيّروا أسرى بدر، و وبّخ علي عليه السّلام العباس بن عبد المطلب بقتال رسول الله و قطيعة الرحم. فقال العباس: تذكرون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 375

[سورة التوبة (9): آية 18]

إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

مساوئنا و تكتمون محاسننا. فقالوا: أولكم محاسن؟ قالوا: نعم، إنا نعمر المسجد الحرام، و نحجب الكعبة، و نسقي الحجيج، و نفك العاني «1». فنزلت هذه الآيات

: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ سواء المسجد الحرام أو غيره حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي حال شهادتهم بكفر أنفسهم، فكيف يجتمع الإذعان لله و الكفر بآياته، إنك إن أهنت شخصا و عمّرت داره كان تعمير داره سيئة لا حسنة، فكيف يمكن

الافتخار بأنه من المحاسن؟

و معنى «ما كان»: أنه ليس لهم ذلك. و لعلّ وجه الارتباط أنه لمّا نهي المشركون عن زيارة البيت بيّن سبحانه السبب، بأن الشرك و عمارة المسجد- ماديا و معنويا- لا يجتمعان.

أُولئِكَ الذين كفروا حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت فلا قيمة لحسناتهم التي يزعمون أنها حسنة، فإن الحسنة لا تقبل إلّا مع الإسلام و الإخلاص وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ أبد الآبدين، بمعنى أنهم لو ماتوا كافرين لم تنفعهم الحسنة في نجاتهم من النار.

[18] إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ بناءها و إقامة العبادة فيها مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ بأن أقرّ بالوحدانية و اعترف بيوم القيامة، إنه هو الذي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 41 ص 63.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 376

[سورة التوبة (9): آية 19]

أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

يجوز له تعمير المسجد، و هو الذي يقبل منه وَ أَقامَ الصَّلاةَ بمعنى التزم بشرائع الإسلام، فإن الاعتراف اللفظي بدون الخضوع و الانصياع لأوامر الإسلام لا يعدّ إلا لقلقة لسان وَ آتَى الزَّكاةَ بالنسبة إلى من وجدها وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أي خشية من نوع الخشية التوحيدية، فإن المشرك يخشى من إلهين، و المؤمن يخشى من إله واحد. و ليس النفي مطلقا كما هو واضح، قال سبحانه بالنسبة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ تَخْشَى النَّاسَ «1»، فَعَسى أُولئِكَ أي لعلّ الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و التزموا بشرائطه أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي في زمرتهم، و إنما قال «فعسى» لأن المرء لا

يعرف مستقبله، فربما كان مؤمنا عاملا، ثم ينقلب كافرا، فلا يكون من المهتدين- بما للكلمة من معنى-.

[19] أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ «السقاية» مصدر سقي الماء، و «الحاج» بمعنى القاصد إلى مكة، بعد ما كان في اللغة بمعنى مطلق القصد وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ تعميرا بالبناء، أو بالعبادة، و الأول هنا أقرب كَمَنْ آمَنَ الاستفهام إنكاري، و في الكلام حذف تقديره «أهل سقاية» أي ليس الساقي العامر للمسجد الحرام كالمؤمن بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و ذلك لأن الإيمان هو أصل الفضائل، أما السقاية و العمارة

______________________________

(1) الأحزاب: 38.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 377

فهما أمران شكليان، إذا لم تنضم إليهما روح الإيمان لن ينفعا شيئا وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته سبحانه لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أولئك و هؤلاء وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فإن من ظلم نفسه بالكفر لا يكون مهديا، فلا يكون عمله عن اهتداء حتى يترتب عليه فضل.

روي أن العباس و شيبة أنهما تفاخرا، فمر بهما أمير المؤمنين علي عليه السّلام فقال: بماذا تتفاخران؟ فقال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد، سقاية الحاج. و قال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام. فقال علي عليه السّلام: استحييت لكما، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا. فقالا: و ما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله و رسوله، فقام العباس مغضبا يجرّ ذيله حتى دخل على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: أما ترى إلى ما يستقبلني به علي؟ فقال:

ادعوا لي عليا فدعي له، فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما حملك على ما استقبلت به عمك فقال: يا رسول الله

صدمته بالحق فمن شاء فليغضب و من شاء فليرض. فنزل جبرائيل عليه السّلام فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام و يقول: اتل عليهم «أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ..».

فقال العباس: إنا قد رضينا «ثلاث مرات» «1».

و قد كانت سقاية الحاج عبارة عن تهيئة دلاء و أواني قبل الموسم فتملأ ماء من بئر زمزم، فإذا جاء الحجاج سقوا منها، حيث أن البئر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 36 ص 39.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 378

[سورة التوبة (9): الآيات 20 الى 23]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)

كانت لا تتحمل اجتماع خلق كثير عليها.

[20] الَّذِينَ آمَنُوا بالله و برسوله وَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة لأجل الإسلام وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأن تحملوا المشاق بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فبذلوا المال و النفس لإعلاء كلمة الله سبحانه أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ من الذين لم يفعلوا ذلك، و إن سقوا الحجيج و عمروا المسجد وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ الظافرون المفلحون.

[21] يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أي من عنده. و الإتيان بكلمة «منه» لتعظيم قدر البشارة وَ رِضْوانٍ أي رضاه سبحانه عنهم، و هو أعظم بشارة، فإن الإنسان إذا علم أن الملك- مثلا- راض عنه كان مرتاح الضمير مسرور الخاطر، أما إذا علم أنه غاضب عليه كان بالعكس، و إن أغدق عليه

في العطاء وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها أي في تلك الجنات نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم لا يزول و لا يتحول.

[22] خالِدِينَ فِيها أَبَداً فالجنات و النعيم كلاهما خالدان إلى ما لا نهاية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فليرغب الراغبون فيه.

[23] و حيث ذكر سبحانه وجوب الجهاد في سبيله، و الهجرة من دار الكفر لأجله، بيّن أنه يجب أن يتجرّد الإنسان من أقرب العلاقات إلى نفسه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 379

[سورة التوبة (9): آية 24]

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)

لأجله تعالى فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ بأن تتولّونهم ولاء صادرا من الأعماق، و إن استحبّت معاشرتهم في الظاهر لقوله سبحانه: وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «1»، إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ أي آثروا الكفر و اختاروه وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي الآباء و الإخوان مِنْكُمْ فيقدّم ولايتهم على ولاية الله و الرسول و المؤمنين فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم حيث أوجبوا لها خزي الدنيا و عذاب الآخرة.

و في بعض الأحاديث: إن الآية وردت في «حاطب بن أبي بلتعة» «2» فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أراد فتح مكة، أمر أصحابه بكتمان الأمر حتى يفاجئ المسلمون الكفار و لا تراق الدماء، فكتب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أطلع الله رسوله بالخبر، فوبخ حاطبا ثم عفا عنه، و أرجع الرسول

الذي كان بيده الكتاب، فكان كما أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من عدم وصول الخبر إليهم، و قد قال حاطب معتذرا أن له أهلا في مكة فخاف أن تكون الدائرة على المسلمين، فيكون له يد على الكفار، و يسلم أهله من عقابهم و عذابهم.

[24] ثم بيّن سبحانه ميزان الإيمان الصحيح، و أنه لا يكون إلا بأن يرجّح

______________________________

(1) لقمان: 16.

(2) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 380

المؤمن كفّة الإيمان على جميع الشؤون و الاعتبارات قُلْ يا رسول الله للمسلمين: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ و اللفظان يشملان الأجداد و الأحفاد وَ إِخْوانُكُمْ الأعم من الأخوات وَ أَزْواجُكُمْ اللاتي عقدتم عليهن وَ عَشِيرَتُكُمْ أقاربكم غير من ذكروا، كالأعمام و الأخوال و من أشبههما وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها جمعتموها و كسبتموها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها تخشون أن تكسد و لا تدار، إن اشتغلتم بطاعة الله سبحانه وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها بأن تحبون المقام فيها، سواء كانت بلادا أو بيوتا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ و أقرب إلى نفوسكم مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ من طاعته و طاعة رسوله وَ أحب إليكم من جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي سبيل الله، فإذا دار الأمر بين ترجيح رضاه سبحانه أو رضا رسوله و بين ذلك المحبوب لديكم من مال و قرابة قدمتموه عليها فَتَرَبَّصُوا انتظروا. و هذا تهديد، أي انتظروا العقاب فإنكم لستم من الله في شي ء. و كيف يدّعي الإنسان الإيمان و هو يقدّم تلك الأمور على أمر الله تعالى حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فإنكم لا خير فيكم، و إنما يأتي بأمر الله غيركم، كما يقال: «إن كنت لا تفعل هذا فانتظر حتى يأتي غيرك ليفعله»،

فإن الله سبحانه غني عنكم فهو القادر على أن ينفذ أوامره بواسطة أناس غيركم وَ اللَّهُ لا يَهْدِي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 381

[سورة التوبة (9): آية 25]

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)

الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فإن من خرج عن طاعة الله بالفسق، بعد العلم و العرفان، يطبع على قلبه فلا يلطف به سبحانه ألطافه الخاصة.

[25] ثم بيّن سبحانه مصداقا من مصاديق إتيان الله بأمره، بعد ما اختار المسلمون الحياة، و فرّوا من الله و الرسول، في وقعة «حنين» التي كانت قريبة إلى مشاعرهم و أفكارهم عند نزول هذه السورة. و قصة هذه الغزوة باختصار:

أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما فتح مكة خاف الكفار الذين كانوا مبثوثين في الجزيرة أن يأتي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على آخرهم فاجتمع هناك جموع كثيرة من هوازن و غيرها ربما بلغ عددهم ثلاثين ألفا، و ساقوا معهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم و مروا حتى بلغوا «أوطاس» يريدون قتال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبلغه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خبر اجتماعهم هناك، فجمع القبائل و رغّبهم في الجهاد و وعدهم النصر و أن الله وعده أن يغنمهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم، فرغب الناس و خرجوا كل قبيلة و فئة تحت راية، و عقد اللواء الأكبر للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و خرج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في اثني عشر ألف رجل.

فلمّا صلّى الغداة انحدر في وادي حنين و الجو لا زال مظلما،

و قد كانت هوازن قد سبقوا المسلمين من الليل و كمنوا في أطراف الجبال، و حنين واد كثير الانحدار، فلما انحدر جيش الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الوادي، و قد كان أول من انحدر بنو سليم معهم خالد بن الوليد، و كانوا غافلين عن اختفاء هوازن، و إذا بهم يرشقون بالسهام كقطر المطر من كل جانب دون أن يروا أحدا و ظهرت كتائب هوازن من كل ناحية، فانهزم بنو سليم، و كسرت بانكسارهم سائر جيوش الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فروا صعدا في الجبال و الوديان، و بقي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين و جماعة يعدون بالأصابع من أولاد العباس و غيرهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 382

و أخذ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينادي: يا معشر الأنصار إليّ و أنا رسول الله. و قد التفت كتائب هوازن به يريدون قتله و الإمام يضرب بالسيف يمنة و يسرة، فلم يبق من المسلمين أحد فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعباس: اصعد هذا الطرب و ناد: «يا أصحاب سورة البقرة» و «يا أصحاب بيعة الشجرة» إلى أين تفرون هذا رسول الله؟ و قد كان العباس رفيع الصوت، ثم رفع يده فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللهم لك الحمد، و إليك المشتكى، و أنت المستعان، فنزل جبرائيل فقال: دعوت بما دعا به موسى حيث فلق الله له البحر و نجاه من فرعون، ثم أخذ كفا من حصى فرماه في وجوه المشركين قائلا: «شاهت الوجوه، ثم رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إن تهلك هذه

العصابة لم تعبد، و إن شئت أن لا تعبد لا تعبد»، فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا و كسروا جفون سيوفهم و هم يقولون: لبيك، و مروا برسول الله و استحيوا أن يرجعوا إليه. فالتحقوا بالراية و نزل النصر من السماء و انهزمت هوازن و كانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجو، و لما فر الكفار غنم المسلمون غنائم كثيرة من أموالهم و نسائهم و ذراريهم، و قسمها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

أقول: المراد ب «أصحاب سورة البقرة» إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «2»، الذين طلبوا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 149.

(2) البقرة: 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 383

جهاد الكفار ثم فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا «1» يعني: أنكم أيها المسلمون صرتم كأولئك، و المراد ب «أصحاب بيعة الشجرة» أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين صلح الحديبية اتكأ على شجرة و بايع المسلمين من جديد، ليمتثلوا أوامره، كأنه ما كانت كما قال سبحانه: إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ «2».

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ أيها المسلمون فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ في بعض الأخبار أنها كانت ثمانين وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أي: و نصركم في يوم حنين، و تخصيصه بالذكر لأنه لو لا نصرة الله سبحانه لم يكن لهم نصر حسب الظاهر بعد فرارهم و انهزامهم إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فإنه لم يتفق لجيش المسلمين أن يكونوا اثني عشر ألفا قبل ذلك، و قد قال بعضهم:

لن نغلب اليوم من قلة، لما رأوا من كثرتهم المدهشة في الجيش فَلَمْ تُغْنِ الكثرة عَنْكُمْ شَيْئاً أي لم تفدكم الكثرة وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي

برحبها وسعتها، و «الباء» بمعنى مع، أي مع كونها وسيعة فسيحة ضاقت عليكم، فإن الإنسان إذا خاف، يرى في نفسه ضيق الأرض، بالإضافة إلى أنهم لم يجدوا موضعا للفرار، لاحتمال وجود العدو في كل مكان ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي انهزمتم من عدوكم، و أعطيتم أدباركم للعدو، و قد كان الخطأ من المسلمين

______________________________

(1) البقرة: 247.

(2) الفتح: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 384

[سورة التوبة (9): آية 26]

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26)

أنهم لم يثبتوا أول الأمر، فإن الثبات أول الأمر خليق بأن يكشف النازلة، كما أنهم أخطئوا حين اغتروا بكثرتهم، فإن الإنسان إذا رأى كثرة من معه تقوى فيه روح الاتكالية، و ذلك خليق بانهزامه. ثم إن مقدمة الجيش لم تتخذ احتياطاتها اللازمة، فإن دخول مثل هذا الموضع مما يحيط به الجبال يحتاج إلى إرسال بعض القوات الاستطلاعية.

[26] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ أي السكون النفسي الذي يزول الخوف معه، فإن أقوى أسباب الهزيمة في كل ميدان، تزلزل النفس و عدم اطمئنانها بالنصر، أما إذا قويت النفس على تحمّل المكروه كان الإنسان خليقا بالنصر وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين بقوا معه و لم ينهزموا.

فقد بقي مع الرسول تسعة من بني هاشم أولهم أمير المؤمنين عليه السّلام كما بقي ابن أم أيمن و قد قتل في ذلك اليوم، أو المراد: المؤمنين حين رجوعهم إلى الرسول، فإن الجيش الذي يفر إذا فكر في العاقبة تقوى نفسه بإذن الله سبحانه وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها فقد أنزل الله سبحانه أفواجا من الملائكة لنصرة المؤمنين. و هذا ليس بغريب، فقد وعد سبحانه

بنصرة الملائكة لكل من استقام فكيف بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال سبحانه: الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ «1».

و قد ورد: أن رجلا من المشركين قال للمؤمنين، و هو أسير في أيديهم: أين الخيل البلق و الرجال عليهم الثياب البيض، فإنما كان قتلنا

______________________________

(1) فصلت: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 385

[سورة التوبة (9): الآيات 27 الى 28]

ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

بأيديهم و ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة. قالوا: تلك الملائكة وَ عَذَّبَ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل و الأسر وَ ذلِكَ العذاب جَزاءُ الْكافِرِينَ الذين يكفرون بالله و آياته.

[27] ثُمَ بعد تمام الأمر يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ من الكفار إذا أسلموا، و ذكر «على من يشاء» لإفادة أن التوبة ليست واجبة، أو المراد: من يشاء من المنهزمين، فإن الفرار من الزحف كبيرة موبقة، و قد شاء سبحانه أن يتوب على المؤمنين دون المنافقين وَ اللَّهُ غَفُورٌ يستر الذنوب رَحِيمٌ يتفضّل بالرحمة عليهم.

[28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ النجاسة في الشريعة هي القذارة التي توجب الغسل للشي ء الذي يباشره برطوبة، و هذه النجاسة قد تكون لأضرار خارجية كالبول و الغائط، و قد تكون لأضرار معنوية كالكافر، فإنه و إن كان نظيف الجسم إلا أن معتقده الباطل أوجب الحكم بنجاسته. و ذلك خير وقاية للمسلمين من أن يتلوثوا بعقيدته، فإنهم إذا عرفوه نجسا حتى

أنه يجب الاجتناب عنه في المأكل و الملبس و أنه مهما باشر شيئا برطوبة تنجس فورا منه، اجتنبوا عنه، فلا يتعدّى إليهم ما انطوى عليه من العقيدة الباطلة، و هو- بدوره- إذ يعرف أنه عند المسلمين نجس لا بد و أن يسأل عن السبب و يريد إزالة هذه الوصمة، ولدي تحقيق ذلك تظهر له خرافة معتقده مما يدعوه أن يتركها و يعتقد بالعقيدة الصحيحة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 386

و هناك بعض المتفلسفين يقولون: كيف يحكم بنجاسة إنسان، و لزوم الاجتناب عنه، لمجرد انحراف عقيدة، و هذا مناف لحرية الآراء؟

و الجواب: إنه كيف يحكم بالاجتناب عن إنسان لمجرد أنه مصاب بالجذام و نحوه، لمجرد انحراف مزاج، و هذا مناف لكرامة الإنسان، فإذا كان الخوف على الجسم يبيح الاجتناب فالخوف على الروح أولى بالإباحة.

فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ و المراد: عدم دخوله، و المسجد الحرام من باب المورد،

فإن عليا عليه السّلام أمر بحكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ينادي: «لا يحج بعد هذا العام مشرك» «1».

و إن قيل: فكيف دخل وفد نجران مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟

نقول: إنه قبل نزول هذا الحكم، فإن الأحكام نزلت تدريجا، أما القول بأن النصارى ليسوا بمشركين. فهو خلاف قوله تعالى: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «2»، و قوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «3»، و قوله: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ «4».

بَعْدَ عامِهِمْ هذا في السنين المقبلة وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا، فقد كان المنع عن المشركين يضر باقتصاد أهل مكة حيث أن كثيرا من وارداتهم كانت من الحجاج المشركين فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 13

ص 400.

(2) التوبة: 31.

(3) المائدة: 74.

(4) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 387

[سورة التوبة (9): آية 29]

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (29)

مِنْ فَضْلِهِ و قد وفى سبحانه بما وعد، فقد أسلم أهل اليمن و حملوا إليهم الميرة و الطعام عوض المشركين، كما أسلم أهل الآفاق و حجوا و أغنوا أهل مكة أكثر من إغناء المشركين. أما هذه الأيام فإن آبار الذهب الأسود قد أوصلت مستواهم الاقتصادي إلى علوّ مدهش إِنْ شاءَ للدلالة على أن الأمور بيده سبحانه، و لسوقهم إلى رجائه و السؤال منه و الخضوع و الضراعة إليه.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بالمصالح، فإن منعه عن حج المشركين إنما هو عن علم حَكِيمٌ يضع الأمور في مواضعها و يأمر بها حسب المصالح الكامنة، و إن لم يعرف الناس تلك المصالح فورا.

[29] قاتِلُوا أيها المسلمون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا، و إن آمنوا به إيمان شرك و نحوه وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا صحيحا، و إن آمنوا به إيمانا منحرفا، كأهل الكتاب الذين قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1»، وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ المراد بالرسول: إما الأعم، فإنهم لا يحرّمون المحرمات التي أتى بها موسى و عيسى عليهما السّلام، أو الأخص يعني محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ أي لا يتخذونه دينا، و المراد به الإسلام مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

______________________________

(1) البقرة: 81.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 388

[سورة التوبة (9): آية 30]

وَ

قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

وصف ل «الذين لا يؤمنون» حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ هي «فعلة» من «جزى يجزي» مثل «العقدة» و «الجلسة»، و هي عطية مخصوصة، كأنها جزاء لهم على بقائهم على الكفر، أو جزاء للمسلمين عوض حمايتهم لهم، فإن الذمي في بلاد الإسلام يكون محترم المال و النفس موفّر الحرمة و الكرامة عَنْ يَدٍ أي يسلمونها بأيديهم، كما يقال: «كلمته وجها بوجه» وَ هُمْ صاغِرُونَ أي أذلاء من «الصغار».

إن أهل الكتاب حيث انحرفت عقيدتهم حتى جعلوا الخرافة في معتقدهم، و حيث حرفوا كتبهم حتى نسبوا الزنا و الكفر و شرب الخمر و القسوة و شبهها إلى أنبيائهم، و حيث هدموا نظم الله سبحانه ليجعلوا مكانها أنظمة مخترعة، استحق الإسلام أن يشعرهم بشي ء من الذلة ليتركوا الباطل إلى الحق، فإن الإنسان لا يرضى أن يبقى ذليلا، لكنه احترمهم حيث أقرّ بهم و سمح لهم بالبقاء تحت ظله، باحترام اسم الكتاب، و هذا الإذلال لا ينافي الحرية في شي ء، أ رأيت من ينحرف في سلوك أو أخلاق هل يستحق ما يستحقه المستقيم؟ و ليس الميزان في تقييم الإنسان الذي يراعي جهتي المادة و الروح واقعا، هو النظر إلى صورته البشرية، بل الصورة و السيرة، فمن انحرفت سيرته لم تنفعه صورته.

فهرب بعض المفسرين و من إليهم عن الحكم على طبق هذه الآية أو ما أشبهها خروج عن الواقع الإسلامي، كما هو خروج عن الموازين البشرية الرفيعة التي تجعل للروح قسطا في تقييم الإنسان كما أن للبدن قسطا.

[30] ثم بيّن سبحانه طرفا من أقوال أهل الكتاب و افتراءاتهم على

الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 389

سبحانه وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ و بهذا الانحراف خرجوا عن زمرة الموحّدين، فإن الله لا يمكن أن يكون له ولد إذ ليس جسما يلد، كما وصف تعالى نفسه بقوله:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ إن ألسنتهم اخترعت هذا القول بلا استناد إلى كتاب منزل أو دليل مبين. و «أفواه» جمع «فوه»، بمعنى:

الفم يُضاهِؤُنَ أي يشبه قول هؤلاء اليهود و النصارى، في هذه المقالة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا الذين يجعلون لله شريكا، فإن كلا القولين تشبيه لا يليق بجلال الله سبحانه، فإن من له شريك إنما هو كمن له ولد في أنه مخلوق ليس بإله، و إنما كان التشبيه شركا لأن الشبيه يشارك شبهه في أمر جامع و يفترق عنه في أمور مميزة، و بذلك يكون مركبا، و المركب ليس بإله مِنْ قَبْلُ و هذا توبيخ لهم، فإن الأنبياء يأتون لقلع جذور الكفر فإذا ارتدت الأمة إلى مقالة الكفار الذين جاء الأنبياء لمحقهم، كانت معرضة عن الأنبياء، و تبيّن أن كلام الأنبياء لم يؤثر فيهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالهلاك، فإن المفسد يدعى عليه بالموت ليستريح الناس من شره أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن

______________________________

(1) سورة الإخلاص: 2- 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 390

[سورة التوبة (9): آية 31]

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

الحق إلى الإفك الذي هو الكذب.

[31] ثم بيّن سبحانه سببا آخر لكفرهم،

أنهم أعطوا حق التشريع أي التحليل و التحريم إلى علمائهم، مع العلم أن هذا الحق خاص بالله سبحانه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1»، اتَّخَذُوا أي اتخذ اليهود و النصارى أَحْبارَهُمْ جمع «حبر» و هو العالم وَ رُهْبانَهُمْ جمع «راهب» و هو العابد أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مع الله، فإن أخذ الغير يعبّر عنه «من دون» و إن كان مع الأصل.

قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله و في عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته ثم انتهيت إليه و هو يقرأ من سورة براءة هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً .. حتى فرغ منها. فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. فقال:

أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، و يحلّون ما حرم الله فتستحلونه؟

قال فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم «2».

أقول الشرك على أربعة أقسام: الشرك في ذات الله، و الشرك في صفاته، و الشرك في أفعاله، و الشرك في أمره و نهيه. فمن قال: إن له شريكا، أو أن صفاته لغيره، أو أن قسما من الخلق لسواه، أو أنه يحق الأمر و النهي لغيره، فهو مشرك.

وَ اتخذوا الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ربا من دون الله وَ ما أُمِرُوا

______________________________

(1) المائدة: 45.

(2) بحار الأنوار: ج 9 ص 98.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 391

[سورة التوبة (9): الآيات 32 الى 33]

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا شريك له، فقد كان أنبياؤهم يأمرونهم بذلك

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي ليس في الكون إله غيره سُبْحانَهُ أي أنزهه تنزيها عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن شركهم، و جعلهم لله شريكا.

[32] و من صفات هؤلاء أنهم يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ القرآن الكريم أو أحكامه. و سمي نورا لأنه كما يهتدى بالنور في الظلمات، كذلك يهتدى بالقرآن في دروب الحياة المظلمة، فإن النور الظاهر لنفسه المظهر لغيره، كذلك أحكام الله سبحانه و كتابه الحكيم، و معنى إرادتهم إطفائه، أنهم يريدون أن ينطفئ فلا يضي ء العالم به بِأَفْواهِهِمْ فكما يطفأ النور بالفم بسبب النفخ، فإنهم يريدون إبطال كتاب الله بما يتقولون عليه وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي يمنع الله ذلك إلا أن يظهر أمره، و ذلك بإظهار الكتاب و الإسلام في جميع المجالات وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي حتى مع كرههم و عدم إرادتهم.

[33] و كيف يتمكن هؤلاء من إطفاء نور الإسلام و القرآن و الحال أن الله سبحانه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ أي محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْهُدى أي مع الهداية و الإرشاد، فإن الرسول حامل مشعل الهدى وَ ب دِينِ الْحَقِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 392

[سورة التوبة (9): آية 34]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)

الذي هو الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فيكون هو الدين الوحيد الذي له الغلبة و الحجة على سائر الأديان.

و

في الأحاديث: إن تأويل هذه الآية عند خروج الإمام المهدي عليه السّلام الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد أن تملأ ظلما

و جورا «1».

و يكون عند ذلك الإسلام وحده دين العالم لا دين سواه وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ بأن كرهوا إعلاء هذا الدين على سائر الأديان.

[34] ثم بيّن سبحانه بعض الصفات الذميمة الأخرى لأهل الكتاب بقوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وجّه الكلام إليهم لأنهم الذين يصدّقون بذلك، أما سائر أهل الكتاب فإنهم يكذبون الخبر، و إن علموا به باطنا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ و هم علماء أهل الكتاب وَ الرُّهْبانِ و هم عبّادهم لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ المراد ب «الأكل» التصرف، فإن معظم التصرف لما كان بالأكل غلب على سائر التصرفات بعلاقة الجزء و الكل، و المراد ب «الباطل» بالرشوة و نحوها مما لا يحق لهم أكل الأموال بتلك الصور وَ يَصُدُّونَ أي يمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فلا يتركون الناس أن يسلموا و يؤمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثم إن الأحبار و الرهبان يكنزون الذهب و الفضة فليحذر المسلمون

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 51 ص 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 393

[سورة التوبة (9): آية 35]

يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

أن يكونوا مثلهم فيجازوا بجزائهم وَ ذلك فإن الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ أي يجمعونها و لا يؤدون حقوقهما- لا الكنز المصطلح- وَ لا يُنْفِقُونَها أي الكنوز فِي سَبِيلِ اللَّهِ كما أمر من إعطاء الزكاة و الخمس فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي مؤلم موجع، و أتى بالبشارة مكان الإنذار استهزاء من استعمال الضد في ضده.

[35] في يَوْمَ أي ذلك العذاب إنما هو في يوم يُحْمى عَلَيْها أي يوقد على تلك الكنوز، فإن الشي ء إذا أريد انصهاره إما يوقد تحته

أو يوقد فوقه فِي نارِ جَهَنَّمَ فهي في النار و توقد عليها النار، حيث تنصهر تماما فَتُكْوى بِها أي بتلك الكنوز المحماة جِباهُهُمْ جمع «جبهة» وَ جُنُوبُهُمْ جمع «جنب» وَ ظُهُورُهُمْ جمع «ظهر»، و إنما خصّصت هذه المواضع لأن الجبهة محل الوسم، و الجنب محل الألم، و الظهر محل الحدود. و قيل: لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته و طوى عنه كشحه- أي جنبه- و ولّاه ظهره.

و يقال لهم في حال الكي تعنيفا و توبيخا: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ هذا جزاؤه، حيث لم تنفقوها في سبيل الله فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي ذوقوا عقابه و وباله و عاقبته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 394

[سورة التوبة (9): آية 36]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

[36] و لما أوجب سبحانه قتال الكفار و أهل الكتاب الذين انحرفوا، بيّن أنه لا يحل القتال في الأشهر الحرم التي هي: ذو القعدة، و ذو الحجة، و محرم، و رجب. فقد قرّر الله سبحانه السلام في هذه الأشهر ليستريح الناس فيها و ليكونوا في أمن، كما قرر السلام في الحرم ليكون مكانا للسلام، و قد قدم على ذلك مقدمة هي عدة الشهور، و أنها مرتبطة بدورة الفلك إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ حسب أمره و تقديره اثْنا عَشَرَ شَهْراً محرم، و صفر، و ربيع الأول، و ربيع الثاني، و جمادى الأولى، و جمادى الآخرة، و رجب، و شعبان، و رمضان، و شوال، و ذو القعدة، و

ذو الحجة فِي كِتابِ اللَّهِ أي ما كتبه و قرره، و ذلك طبق ناموس خلق الكون حيث دورة الفلك و سير الشمس و القمر، و قد كانت الكتابة يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فإنه من ذلك اليوم أجرى النيّرين المعدلين للشهور و السنوات. و الظاهر من الأشهر، الأشهر القمرية، لأنها المتبادر لدى الشرع و المتشرعة.

مِنْها أي من تلك الأشهر أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ سمّي الشهر حراما، لحرمة القتل و القتال فيه، و لما له من الاحترام، و قد كان كذلك قبل الإسلام أيضا، حتى أن ولي الدم لو رأى قاتل أبيه لم يهجم عليه بسوء حتى ينقضي الشهر الحرام ذلِكَ الترتيب للأشهر، و الحرم منها الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الطريقة القويمة المستقيمة، لأنها مطابقة لناموس الخلق و حركة النيّرين، و لأن السلام لا بد و أن يسود فترة من الزمن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 395

[سورة التوبة (9): آية 37]

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)

حتى تهدأ النفوس، و تزول الهموم منها، فإن فترة الأشهر بغير ذلك فإنها لا تلائم الفطرة و الخلق فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ في تلك الأشهر الحرم أَنْفُسَكُمْ بخرق حرمتها، فإن خرق حرمتها يوجب عقابا و نكالا.

وَ قاتِلُوا أيها المسلمون الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً من غير فرق بين أقسامهم و أصنافهم، و «كافة» بمعنى الإحاطة، مأخوذة من «كافة الشي ء» و هي حرفه، و إذا انتهى الشي ء إلى ذلك كفّ عن الزيادة، و أصل الكف: المنع، و «كافة» منصوبة على المصدر كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي أن قتالكم لهم إنما هو في

مقابلة قتالهم لكم وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فلا تفعلوا في الحرب ما ينافي التقوى، فإن الله سبحانه مع الذين يتقون معاصيه، و يمتثلون أوامره.

[37] لما بيّن سبحانه حرمة أشهر الحرم الأربعة، ذكر ما كان يفعله الجاهليون حيث كانوا يؤخرون تحريم الشهر الحرام إلى صفر حيثما شاءوا ذلك، فيحرمون صفر و يستحلون المحرم، ثم إذا انقضت حاجتهم أرجعوا الحرام إلى المحرم، و كان يقوم بذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، و كان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أعاب و لا أجاب و لا يردّ لي قضاء. فيقولون: نعم صدقت، أنسئنا شهرا أو أخّر عنا حرمة المحرم و اجعلها في صفر، و أحل المحرم. فيفعل ذلك، فإنهم بذلك يريدون القتال في الحرم، و هذا العمل يسمى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 396

«نسيئا» فإن «أنسأ» بمعنى أخّر، و «النسي ء» بمعنى تأخير الشهر الحرام عن وقته.

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ فإن المشركين كانوا كفارا حسب عقائدهم حول الإله. و اليوم الآخر فتحليل الحرام و تحريم الحلال، زيادة في الكفر، لأن التشريع لله وحده، فمن شرع في قبال الله سبحانه فهو كافر وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1». و من المعلوم أن الكفر و الإيمان قابلان للزيادة و النقصان يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يضل بسبب هذا النسي ء الكفار، أما غير الكفار فإنهم لا يتبعون إلا شريعة الله سبحانه فلا ضلال لهم بالنسي ء، و معنى «يضلّ»- بالبناء للمفعول- أن النسي ء يسبب انحرافهم عن جادة الهدى يُحِلُّونَهُ أي يحلون الشهر الحرام عاماً في عام فيجعلون المحرم حلالا وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً فيمشون على الأصل في تحريم شهر محرم، و ذلك

حين يحتاجون إلى القتال في المحرم يحلّلونه، و يجعلون صفر بدله حراما، و حين لا يحتاجون إلى القتال يكون المحرم على حاله في التحريم، و إنما يقدمون الحرام و يؤخرونه لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا، يقال: «واطأ» في الشعر، إذا قال بيتين على قافية واحدة، و مثله «أوطأ» عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليكون تعداد الحرام بقدر

______________________________

(1) المائدة: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 397

[سورة التوبة (9): آية 38]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)

تعداد الحرام الذي جعله الله، فإنهم لا يحلون الشهر الحرام، إلا و جعلوا مكانه شهرا آخر حراما، و هذان عصيانان: تحليل الحرام، و تحريم الحلال زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فقد زين الشيطان في نظرهم الأعمال السيئة فلازموها و افتخروا بها وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ الذين يصرّون على الكفر بعد تبيّن الحق، فإنه سبحانه لا يلطف بهم لطفه الخاص.

[38] و في سياق حكم الجهاد مع الأعراب يأتي دور الكلام حول جهاد الروم، فإنه لما رجع رسول الله من الطائف أمر بالجهاد لغزو الروم، و ذلك في زمان إدراك الثمار فأحبوا المقام في مساكنهم و قريبا من أموالهم، و شق عليهم الخروج إلى القتال، و كان من عادته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخفي الغزوة التي يريدها غالبا، لئلّا يعرف العدو فيتخذ أهبته منها فيكثر القتلى، و لذا كان إذا أراد الخروج نحو غزوة في الشمال ذهب مقدارا نحو الجنوب ثم انحنى صوب قصده إلا في هذه الغزوة حيث كانت الشقة بعيدة

و العدو كثير، فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبر أصحابه بذلك ليتأهبوا و يأخذوا حذرهم، و تسمى هذه الغزوة ب «تبوك» و قد بلغ رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن الروم قد جمعوا له أطراف الجزيرة بالشام و أن هرقل قد رزق أصحابه رزق سنة، و انضمت إليهم لخم و جذم و عاملة و غسان من قبائل العرب و قدموا مقدماتهم إلى البقاء. فاستنفر المسلمين لجهادهم، و هنا وجد المنافقون فرصتهم لإظهار نواياهم فأخذوا يخذلون المسلمين، قائلين: «لا تنفروا في الحر» فقد كان الهواء حارا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 398

[سورة التوبة (9): آية 39]

إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39)

و قالوا: إن السفر بعيد، فلا طاقة لنا به، و العدو الروم فلا قبل لنا بهم، إلى غير ذلك من الأعذار الواهية.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ أيّ نفع و فائدة تعود إليكم في التخلّف و العصيان؟ إِذا قِيلَ لَكُمُ قال لكم الرسول: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اخرجوا إلى مجاهدة المشركين في «تبوك» و هي من بلاد البلقاء اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ «اثاقل» من تثاقل، من باب «التفاعل» أبدلت تاؤه ثاء، على القاعدة المشهورة في تاء «التفاعل» و «التفعّل» ثم جي ء بالهمزة لاستحالة الابتداء بالساكن. أي: ملتم إلى البقاء في الأرض، و عدم الخروج، كأن الجسم قد ثقل أزيد من وزنه العادي فكلما رفع جذبه ثقله نحو الأرض أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ الاستفهام إنكاري، و «من» بمعنى البدل، أي: هل رضيتم أيها المسلمون و آثرتم الحياة الفانية القريبة بدل الحياة الباقية الآخرة فَما مَتاعُ

الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ بالنسبة إليها إِلَّا قَلِيلٌ فإن الدنيا قليلة، و الآخرة كثيرة، فلا ترجّحوا القليل على الكثير، و إذا تركتم الجهاد فاتتكم تلك المنافع الدائمة الخالدة.

[39] إِلَّا تَنْفِرُوا أي: إن لا تخرجوا إلى القتال الذي دعاكم إليه الرسول يُعَذِّبْكُمْ الله عَذاباً أَلِيماً مؤلما موجعا في الدنيا من قبل الكفار،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 399

[سورة التوبة (9): آية 40]

إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

و في الآخرة بالنار وَ يَسْتَبْدِلْ بكم قَوْماً غَيْرَكُمْ فيأتي بمسلمين آخرين مكانكم و بدلكم ينصرون الرسول و يطيعون أوامره، فإن الله على كل شي ء قدير وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً لا تضروا الله بقعودكم عن القتال شيئا، فإنه غني عنكم و عن العالمين، و إنما تضرون أنفسكم وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر أن يستبدل بكم غيركم، كما يقدر أن ينصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدونكم، كما نصره من ذي قبل حيث لم تكونوا مسلمين أنتم- أيها المتخلفون-.

[40] ثم بيّن سبحانه إمكانية نصر الرسول بدونهم، بضرب مثل قريب، و هو نصرته على الكفار في مكة حيث أرادوا قتله فأنجاه منهم و أعزه، و أذلهم إِلَّا تَنْصُرُوهُ أي إن لم تنصروا الرسول في غزو الروم فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ من ذي قبل، و هو قادر على نصره الآن إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة، و نسبة الإخراج إليهم لأنهم كانوا السبب حين أرادوا قتله ففر

من أيديهم ثانِيَ اثْنَيْنِ فقد كان حين الفرار هو و أبو بكر، إذ رآه في الطريق فأخذه كيلا يخبر الناس بخبره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيلحقه الطلب، فإن من عادة الإنسان أن يفشي الأنباء الهامة، و ذكر «ثاني اثنين» لبيان أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بهذه الغربة حتى أنه لم يكن معه إلا نفر آخر.

فالله القادر على نصره و هو بتلك الغربة و الوحدة، قادر على أن ينصره الآن. و لبيان ذلك جي ء بالقيدين الآخرين إِذْ هُما فِي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 400

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 449

الْغارِ «الغار» هو الثقب في الجبل إِذْ يَقُولُ الرسول لِصاحِبِهِ أبي بكر: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا مطّلع علينا، فالإنسان الفار اللاجئ إلى ثقب جبل لا أحد معه إلا شخص واحد يخشى و يخاف و يحزن فيزيده كآبة، كيف نصره الله على أعدائه، إن الله قادر على أن ينصره الآن كما نصره سابقا.

و قد استدل بعض على فضيلة أبي بكر بهذه الآية، لكن لا يخفى ما فيه، فإنها لم تدل إلا على كونه أحد الشخصين، و أنه صاحب، و أنه حزن، و أن الله معهما، و لا دلالة في شي ء من ذلك، فإن الاثنين عدد «و ثاني اثنين» حكاية العدد، و ليس فيما يقتضي الفضل يعد، و الصاحب يطلق على كل مصاحب فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ «1»، و الحزن لم يكن صحيحا و إلا لم ينهه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ «2»، و الله سبحانه مع كل بر و فاجر ما يَكُونُ

مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «3»، بل ربما قيل: إن الآية دلت على خلاف الفضيلة إذ قال سبحانه: «عليه» و «أيده» بينما قال في مكان آخر عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «4».

إن هذا البحث له موضع غير هذا الموضع، و إنما المقصود الإشارة إلى عدم حسن أن يقحم في القرآن الحكيم ما ليس منه ثم جرّ الآيات إلى الأنظار و الأفكار جرّا بدون دلالة أو برهان. فقد ورد الذم لمن فسّر القرآن برأيه.

______________________________

(1) الكهف: 35.

(2) يونس: 63.

(3) المجادلة: 8.

(4) التوبة: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 401

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي ألقى في قلبه ما سكن به، و علم أنه سبحانه ينصره عليهم وَ أَيَّدَهُ أي قوّى الرسول و نصره بِجُنُودٍ من الملائكة لَمْ تَرَوْها أي ما رأت الكفار إياها، بمعنى عدم كونهم أجساما حتى يروا.

ورد أنه كان رجل من خزاعة يقال له «أبو كرز» اقتفى مع المشركين أثر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى وقف بهم على الغار فقال لهم: هذه قدم محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي و الله أخت القدم التي في المقام، و قال: هذه قدم محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي و الله أخت القدم التي في المقام، و قال: هذه قدم أبي قحافة أو ابنه ما جاوزوا هذا المكان، إما أن يكونوا قد صعدوا السماء أو دخلوا في الأرض. و جاء فارس من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار و هو يقول لهم: اطلبوه في هذه الشعاب، و كانت العنكبوت نسجت على باب الغار، و أرسل الله

زوجا من الحمام حتى باضا في أسفل الثقب فقال سراقة و كان مع الكفار: لو دخل الغار أحد لانكسر حتما البيض و تفسخ بيت العنكبوت. و دعا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا: «اللهم أعم أبصارهم» فعميت أبصارهم عن دخوله و جعلوا يضربون يمينا و شمالا حول الغار و يئسوا أخيرا فرجعوا «1».

وَ جَعَلَ الله تعالى كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا و كيدهم للرسول و شوكتهم السُّفْلى إذ تحطمت و فشلت فكانت في الدرجة السفلى

______________________________

(1) مناقب آل أبي طالب: ج 1 127.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 402

[سورة التوبة (9): الآيات 41 الى 42]

انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)

وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا المرتفعة المنصورة، و هذا إخبار بأن كلمته و قوله دائما يكونان كذلك. و من الواضح في التاريخ أن كلمة الله عالية و أنصارها الأعلون، و إن كانت الغلبة لكلمة الكافرين، حتى إن الناس لو كانت سيوفهم مع السلطات الباطلة كانت قلوبهم مع أهل الحق و رأوا أن الحق عندهم وَ اللَّهُ عَزِيزٌ غالب حَكِيمٌ في تدبيره.

[41] انْفِرُوا من «نفر» إذا خرج مسرعا، أي اخرجوا إلى الجهاد خِفافاً جمع «خفيف» وَ ثِقالًا جمع «ثقيل»، و الخفة تطلق على قليل العيال، قليل السن و النشيط، و قليل المشاغل، كما أن الثقل عكس ذلك كله، و المراد: جاهدوا و اخرجوا لأجل الحرب كيفما كنتم في خفة أو ثقل وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ

أَنْفُسِكُمْ و المجاهدة بالمال:

بذله في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، و المجاهدة بالنفس: الذهاب للحرب فِي سَبِيلِ اللَّهِ و يسمى جهادا، لأنه من الجهد و التعب ذلِكُمْ ذلك إشارة، و «كم» للخطاب، أي أن الجهاد- أيها المسلمون- خَيْرٌ لَكُمْ من تركه، فإنه فيه عزّ الدنيا و سعادة الآخرة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ليس المعنى إن لم تعلموا لم يكن خيرا لكم، بل المعنى إن كنتم تعلمون، لعلمتم أنه خير لكم.

[42] كان المنافقون يرجفون بالمسلمين قائلين: «إن السفر بعيد» فإنها كانت مسافة بعيدة بين المدينة و بين «تبوك» فلا تذهبوا إلى الجهاد. فرد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 403

[سورة التوبة (9): آية 43]

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)

عليهم سبحانه لَوْ كانَ ما دعوتهم إليه يا رسول الله عَرَضاً قَرِيباً أي غنيمة سهلة التناول، فإن أموال الدنيا تسمى أعراضا باعتبار كونها زائلة فانية وَ سَفَراً قاصِداً أي سفرا متوسطا في البعد و القرب، بأن سهل عليهم الذهاب و الخروج لَاتَّبَعُوكَ لأنه يسهل عليهم ذلك وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة، فإن الشقة بمعنى القطعة من الأرض التي يشق على إنسان السير فيها لبعدها، و لذا يأتون بالأعذار الواهية فرارا وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ فإنهم كانوا يحلفون بأنهم لا يقدرون على الخروج لاشتغالهم و أن لهم أعذارا مشروعة يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ هؤلاء المعتذرون باستحقاقهم العقاب في الآخرة، و النكال في الدنيا، فإن ترك الجهاد يوجب الذلة و الصغار للفرد و الجماعة وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في ادعائهم أنهم لا يستطيعون الخروج.

[43] استأذن جماعة من المنافقين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تركهم الخروج إلى

تبوك، فأذن لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كان هذا الإذن كسائر أوامر الرسول و كلماته بالوحي بدليل قوله سبحانه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1»، لكن الاستئذان من القوم كان نفاقا فاستحقوا العقاب.

______________________________

(1) النجم: 4 و 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 404

و من البلاغة أن يوجه الإنسان العتاب إلى أحد و هو يريد إفهام غيره، فإذا ألحّ الشخص المتظاهر بالفقر، فأشرت إلى ولدك بإعطائه المال، تقول له- معاتبا- و أنت تريد إفهام الآخذ: لم أعطيته المال؟ مع أن إعطاءه كان بأمرك و لكنك تريد توبيخ الآخذ بصورة بليغة، و هذا كما يظهر في الكلام يظهر في العمل، فقد تأخذ بيد الولد لتقصيره أمام الآخذ مظهرا غضبك عليه، تريد إفهام الآخذ بسوء صنيعه في الأخذ، كما تقدم في قصة موسى و هارون عليهما السّلام.

و هذا هو المعنى من قول الإمام الرضا عليه السّلام في جواب أسئلة المأمون عن عصمة الأنبياء. و أنه كيف قال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عفا الله عنك ..»، هذا مما نزل ب «إياك أعني و اسمعي يا جارة» «1».

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يا رسول الله. إنه لا يريد أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعل خلاف الأولى، حتى يستحق العفو أو العتاب، بل يريد إفهام المتخلفين أنهم فعلوا فعلا قبيحا حتى إن الإذن لهم في القعود يستحق العفو لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ في البقاء و عدم الخروج إلى الجهاد حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في أنهم لا يستطيعون الخروج وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ أي حتى تعلم و تميّز بين الصادق و الكاذب، و قد كان الرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم يميّز و يعلم، كيف و أحدنا يعلم الصادق و الكاذب من أصحابه و أصدقائه؟ لكن هذا الكلام لتنبيه المتخلفين الكاذبين، و أنه عرف كذبهم و سوء قصدهم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 405

[سورة التوبة (9): الآيات 44 الى 46]

لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)

[44] لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا صادقا، كيف و المؤمن يعلم أنه سواء غلب أو غلب كان له الأجر العظيم و العاقبة المحمودة عند الله سبحانه، و لذا لا يطلب الإذن في التخلّف أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ في أن يجاهدوا، و المعنى لا يستأذنوا للتخلّف في أمر الجهاد، لا أن المعنى لا يستأذنون للجهاد وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ الذين يتقون عصيان الله، و يعملون حسب أوامره.

[45] إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ و يطلب إذنك في القعود عن الجهاد الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا صادقا عن عقيدة و رسوخ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي شكّت، من «الريب» بمعنى التردّد، أي شكّوا في صدق الأمر و حقيقته فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ و شكّهم حول المبدأ و المعاد يَتَرَدَّدُونَ فتارة ترجح عندهم العقيدة، و أخرى يرجح عندهم الإنكار. و لهذا فإن هؤلاء لمّا لم يستيقنوا يستأذنوك للتخلّص من الصعوبة.

[46] ثم بيّن سبحانه علامة نفاقهم و أنهم امتازوا عن المؤمنين بأن لم يستعدوا

للجهاد فقد نووا من أول الأمر عدم الخروج وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الجهاد، كما أراد سائر المؤمنين لَأَعَدُّوا لَهُ للجهاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 406

[سورة التوبة (9): آية 47]

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

عُدَّةً أهبة، فإن العدة و الأهبة و الآلة نظائر وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ الانبعاث هو الانطلاق بسرعة في الأمر فَثَبَّطَهُمْ أي أوقفهم عن الجهاد بالتزهيد فيه فرغبوا عنه وَ قِيلَ القائل هو الله سبحانه- بلسان الحال- أو إخوانهم المنافقون: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ النساء و الصبيان و العجزة الذين بقوا في المدينة و لم يخرجوا للجهاد.

إن أمر الجهاد كان متوجها إليهم مع صفاء النية و خلوص القصد، أما أنهم نافقوا و كانوا لو خرجوا ألقوا التشويش و الاضطراب- كما هو شأن المنافق في كل حركة- بالنميمة بين المسلمين، و كان الضرر في خروجهم أكثر، فالأحرى أن لا يخرجوا، فالله سبحانه كره ذهابهم للغزو لهذه الجهة فلم يوفّقهم للجهاد. و قد مرّ مكررا أنه تصحّ نسبة الفعل إليه سبحانه باعتبار أنه لم يزل العائق تكوينا، كما يقال: «إن الملك عوّق ذهاب الجيش و لم يدعهم يذهبوا»، فيما إذا لم يزل العائق أمامهم.

[47] ثم بيّن سبحانه سبب كره الله انبعاثهم بقوله: لَوْ خَرَجُوا أي خرج هؤلاء المنافقون إلى الجهاد فِيكُمْ أي في ضمنكم أيها المسلمون ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «الخبال» هو الفساد، أي كان خروجهم معكم سببا للفساد و الاضطراب، فإن المنافق دائم النقد للحركات، كثير التخذيل مما يوجب فسادا و اضطرابا و تشويشا وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ «الإيضاع» الإسراع في السير، و «الخلال» بمعنى «البين»، أي أسرعوا

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 407

[سورة التوبة (9): آية 48]

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ (48)

في الدخول بينكم بالفساد و النميمة و الإفساد يَبْغُونَكُمُ أي يطلبون لكم الْفِتْنَةَ و اختلاف الكلمة و الانشقاق- كما هو شأن المنافق- وَ يكونون فِيكُمْ أيها المسلمون سَمَّاعُونَ لَهُمْ يسمعون أقوال الكفار- المفهوم من الكلام- فيصبح هؤلاء المنافقون جواسيس و عيونا للكفار، أو المراد: إن كانوا معكم كان من المؤمنين البسطاء أشخاص يسمعون لأولئك المنافقين، فعدم مجيئهم كان أنفع لكم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالنفاق و عدم الخروج، فيجازيهم بما عملوا.

[48] لَقَدِ ابْتَغَوُا و طلب هؤلاء المنافقون الْفِتْنَةَ و الفساد بين المسلمين مِنْ قَبْلُ في أحد و في حنين و عند الثنية عند رجوع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حجة الوداع حيث أرادوا قتله و دبروا مؤامرة خبيثة لتشتيت شمل المسلمين وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ «التقليب» تصريف الشي ء على غير وجهه، فقد احتال المنافقون لأن يقلبوا وحدة المسلمين تشتتا، و صفاءهم كدورة حَتَّى جاءَ الْحَقُ الظفر الذي وعد الله سبحانه وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ دينه و الإسلام و حقيقة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الحال أن هُمْ كارِهُونَ لمجرد الحق و ظهور أمر الله، فإن يثيروا الفتن الآن بالنفاق، فقد كانوا سابقا كذلك، فلا يهمّك أمرهم يا رسول الله، و لا تعيرهم وبالا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 408

[سورة التوبة (9): آية 49]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)

[49] وَ مِنْهُمْ أي من المنافقين

المتخلّفين في غزوة تبوك مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي يا رسول الله في التخلّف وَ لا تَفْتِنِّي لا توقعني في الفتنة، بأن تأمرني فلا ألبّي الطلب، أو المراد: لا تفتني ببنات الأصفر.

فقد ذكر المفسرون: أن رسول الله لما استنفر الناس إلى حرب الروم في تبوك قال: انفروا لعلكم تغنمون بنات الأصفر، فقام جد بن قيس أخو بني سلمة فقال: يا رسول الله ائذن لي و لا تفتني ببنات الأصفر، فإني أخاف أن أفتتن بهن، فقال: قد أذنت لك، فنزلت الآية.

و يسمّى الروم بنوا الأصفر، لأن حبشيا غلب على ناحية الروم و كان له بنات قد أخذن بياض الروم و سواد الحبشة فكنّ صفرا لعسا- كما عن الفراء-.

ثم إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جزى هذا الرجل بصنيعه فقد قال لبني سلمة:

من سيدكم؟ قالوا: جد بن قيس إلا أنه بخيل جبان. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و أي داء أدوى من البخل، بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن المعرور «1».

أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا إنهم أظهروا بتخلفهم الفرار عن الفتنة، فقد سقطوا في الفتنة بتخلفهم عنك و عصيانهم لك، فإن الإذن عن كره كعدمه وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ تحيط بهم فلا مخلّص لهم منها. و لعل هذا التعبير بمناسبة أنهم أظهروا الفرار من الفتنة، لكن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 193.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 409

[سورة التوبة (9): الآيات 50 الى 51]

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

(51)

المنافق لا يفرّ من فتنة إلّا و يسقط في فتنة أخرى، لأنه من أهل النار و هي محيطة به، فكيف يفر منها.

[50] و كيف يكون هؤلاء المنافقون مسلمين، و الحال أن صفاتهم صفات الكافرين إِنْ تُصِبْكَ يا رسول الله حَسَنَةٌ تصل إليك غنيمة أو خير تَسُؤْهُمْ أي يحزن المنافقون من أجلها وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ شدة و آفة في النفس أو المال أو غيرهما يَقُولُوا المنافقون: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أخذنا حذرنا من قبل وقوع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه في هذه البلية وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ رجعوا إلى بيوتهم فرحين بما أصاب المؤمنين من الشدة. و قد كان من عادة المؤمنين عكس ذلك، فإنهم إذا رأوا الرسول في شدة اجتمعوا حوله ليواسوه بأنفسهم.

[51] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا فلم يكن ما أصابنا شر لنا، كما زعمتم، بل إن الله سبحانه كتب هذه البلايا لنا لأن ترفع درجاتنا في الآخرة، و ينصرنا على أعدائنا في النهاية، و نحن مسلمون لأمر الله منقادون لإرادته هُوَ مَوْلانا أولى بنا من أنفسنا، فما كتبه لنا كان لخيرنا و صلاحنا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بأن يكلوا أمرهم إليه، و يرضوا بقضائه، فليس ذلك إلا للخير و السعادة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 410

[سورة التوبة (9): الآيات 52 الى 53]

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)

[52] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: هَلْ تَرَبَّصُونَ «التربص»

الانتظار، أي: هل تنتظرون بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إما النصر و الظفر و خير الدنيا، و إما الشهادة في سبيل الله و فيها خير الآخرة، فلا يعود تربّصكم بشر لنا أو خير لكم وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ننتظر أن تقعوا في أحد الشرين أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بأن تهلكوا فتعذّبوا في الآخرة أَوْ بِأَيْدِينا بأن ننتصر عليكم فتصبحوا أذلاء في الدنيا خاسرين مقهورين فَتَرَبَّصُوا أي انتظروا. و هو تهديد في صورة الأمر كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1»، إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ أي منتظرون، حتى نرى لمن العاقبة الحسنة، و لمن العاقبة السيئة.

[53] قد كان بعض المنافقين عرضوا أموالهم لمساعدة المجاهدين في «تبوك» لينجوا بذلك عن الذهاب بأنفسهم و لا يقعوا موقع لوم المسلمين بأنهم نافقوا، و لم يشتركوا في الجهاد مع المجاهدين، لكن الله سبحانه أخبر عن نيتهم و أن إنفاقهم لا ينفع شيئا قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: أَنْفِقُوا أموالكم للجهاد طَوْعاً أَوْ كَرْهاً طائعين أو مكرهين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أي إن أنفقتم طائعين أو مكرهين

______________________________

(1) فصلت: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 411

[سورة التوبة (9): آية 54]

وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَ هُمْ كارِهُونَ (54)

لا يتقبل الله منكم الإنفاق. فاللفظ أمر و المعنى الشرط.

ثم بيّن السبب بقوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله سبحانه، و الفاسق لا يتقبل منه الإنفاق، لأن قبول الأعمال مشروط بالتقوى و هو منفي عنهم، قال سبحانه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1».

[54] وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ أيّ شي ء منع قبول

إنفاقهم و الإثابة عليه؟ إنه كفرهم إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ فإن الكفر الباطني مانع عن قبول الأعمال، و إن أظهر الإسلام وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى متثاقلين، فإن المؤمن حيث امتلأ إيمانا يقدم على الطاعات بكل شوق و رغبة، بخلاف المنافق الذي لم يذعن قلبه لشي ء، فإنه لا يأتي الصلاة و سائر الطاعات إلّا متثاقلا كسلانا فإنه يريد بذلك إراءة الناس وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ للإنفاق، لأنهم لا يدفعون المال عن عقيدة و إخلاص، و إنما يدفعون للتستر بالإسلام و التحفّظ على أنفسهم من ألسنة المؤمنين، لئلّا يظهر ما ينوون من الكفر و النفاق.

______________________________

(1) المائدة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 412

[سورة التوبة (9): آية 55]

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (55)

[55] فَلا تُعْجِبْكَ يا رسول الله أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ أي لا يأخذ بقلبك ما تراه من كثرة أموال هؤلاء المنافقين و أولادهم، و لا تنظر إليهم بعين الإعجاب، فإن الأموال و الأولاد قد تكون نعمة و خيرا حينما يشكر الإنسان وجودها و يصبر و يحتسب لفقدها، أما إذا لم تكن كذلك، فهي بالعكس تصبح وبالا على الإنسان إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها بهذه الأموال و الأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإن النفس غير المطمئنة تكون دائمة القلق على مصير الأموال و الأولاد لأنها دائمة الخوف عليهما، أما المؤمن فإن بقيت أمواله و أولاده شكر و إن ذهبت صبر، و علم أن ذلك موجب للأجر و الثواب، فلا يكون خائفا قلقا.

قال أحد الكافرين: إن أعجب ما رأيت من شيخ مسلم أنه كان صاحب

أغنام تعدّ بالألوف و كان جميع كيانه بها و إذا به يفاجأ ذات يوم- و أنا عنده- بأن يخبره آت قائلا: إن الأغنام ذهب بها السيل، قال: و كنت أترقب انقلابا في حال الشيخ الذي ذهب كل كيانه بذهاب أغنامه، و إذا به يقول: «إنا لله و إنا إليه راجعون، و ماذا نصنع؟ نتوكل على الله، و نصبر، فهو خير للصابرين» و كأن أمرا لم يحدث.

وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ تهلك و تذهب بالموت بصعوبة، فهم قد عاشوا في الدنيا بصعوبة و قلق، و ها هم يموتون، و حينما تريد أرواحهم أن تخرج، تخرج بصعوبة، فيموتون بكل صعوبة وَ هُمْ كافِرُونَ فقد عاشوا أشقياء، و ماتوا أشقياء و يحشرون أشقياء إذ ماتوا كافرين. ثم إن جملة «تزهق» إما استئنافية، و إما عطف على «ليعذبهم». و إرادة الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 413

[سورة التوبة (9): الآيات 56 الى 57]

وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ (57)

ذلك، إنما كانت بسبب أنهم أعرضوا عن الحق فتركهم الله سبحانه في كفرهم. و هو معنى إرادته أن يموتوا كافرين.

[56] و قد كان هؤلاء المنافقين يريدون اللعب على حبلين، فحيث أن السلطة بيد المسلمين يريدون إرضاءهم بإظهار أنهم منهم، و حيث أن قلوبهم كانت منكرة كانوا مع الكافرين باطنا و عملا، لكن الله سبحانه أبدى نواياهم وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ يقسمون بالله إنهم مثلكم في الإيمان و الإخلاص وَ ما هُمْ مِنْكُمْ ليسوا مثلكم وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ من «فرق» بمعنى خاف، أي يخافون و يجتنبون القتل و القتال، و كيف

يكون من يجبن مثل غيره من المسلمين الأقوياء القلوب؟! [57] لَوْ يَجِدُونَ أي لو وجد هؤلاء المنافقون الجبناء مَلْجَأً حصنا، و يسمّى الحصن بذلك، لأن الإنسان يلجأ عند الخوف إليه أَوْ مَغاراتٍ جمع «مغارة»، من «غار يغور» إذا دخل، و منه «الغار» بمعنى النقب في الجبل أَوْ مُدَّخَلًا من «ادّخل» أصله أو «تدّخل» من باب الافتعال قلبت تاؤه دالا، وجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و المراد به النفق و شبهه، أي: لو وجد هؤلاء المنافقون الجبناء محل فرار سواء كان حصنا أو غارا أو ثقبا في الأرض لَوَلَّوْا إِلَيْهِ أي فروا منكم و من القتال إلى ذلك المخبأ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 414

[سورة التوبة (9): الآيات 58 الى 59]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)

«الجموح» بمعنى المضي مسرعين بحيث لا يردهم شي ء.

[58] وَ مِنْهُمْ أي من المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ يقال: «لمز الرجل» إذا عابه، قال سبحانه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «1»، فِي الصَّدَقاتِ أي في تقسيم الصدقات و هي الغنائم و ما أشبهها، مما فرضه الله سبحانه لإقامة المصالح، أي يطعنون عليك في تقسيمك فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا و قالوا إن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عدل و أعطى الحق في موضعه وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ يغضبون و يعيبون، فليسوا معترفين بك و أن أعمالك إنما تصدر عن الوحي، بل هم طلاب دنيا.

ورد أن هذه

الآية نزلت لما جاءت الصدقات و جاء الأغنياء و ظنوا أن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقسمها بينهم، فلما وضعها في الفقراء تغامزوا على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لمزوه و قالوا: نحن الذين نقوم في الحرب و ننفر معه و نقوّي أمره، ثم يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه و لا يغنون عنه شيئا.

إنهم قالوا هذا القول و طعنوا في الرسول، لا حبا للعدالة، بل غضبا لأنهم لم ينالوا منها.

[59] وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أي ما أعطاهم الرسول بحكم

______________________________

(1) الهمزة: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 415

[سورة التوبة (9): آية 60]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

الله سبحانه وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ كافينا سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فإن لم يقسم لنا من هذه الصدقة قسم لنا من غيرها وَ رَسُولُهُ ذكر الله لأنه الآمر، و ذكر الرسول لأنه المقسم و المعطي إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ نرغب إليه و نطلب منه سبحانه أن يوسع علينا. أي «لكان خيرا لهم» هذا هو جواب «لو» فإنه حذف للدلالة على العموم و التوسعة، فإن المذكور إنما هو لفظ واحد بخلاف المحذوف، و لذا قالوا: إن حذف المتعلق يفيد العموم.

[60] ثم بيّن سبحانه مصرف الصدقات، و أنها يجب أن تصرف في المصارف المذكورة لا أن تعطى للأغنياء و الطامعين إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ المراد بالصدقات الزكاة- كما أجمع المفسرون عليه- و هي تؤخذ بنسبة العشر و نصف العشر و ربع

العشر، من أموال تسعة، بعنوان الوجوب، و من غيرها بعنوان الاستحباب- كما فصّل في الفقه- و الأموال التسعة هي: الإبل، و البقر، و الغنم، و الذهب، و الفضة، و الحنطة، و الشعير، و التمر، و الزبيب. بشرائط مخصوصة، و تعطى لثمانية أصناف، منهم:

الفقراء الذين لا يجدون قوت سنة لأنفسهم و لعيالهم حسب شأنهم، لا قوة و لا فعلا.

وَ الْمَساكِينِ و هم أسوأ حالا من الفقير، كأن الفقر أسكنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 416

الأرض فلم يقدر على التحرك، و حيث أنهم في المجتمع صنفان متمايزان، إذ هناك صنف تعسّرت أموره و إن كان ظاهره لا بأس به، و صنف داخل في العجزة كالعميان و الزمنى و من إليهم، ذكرهم سبحانه صنفين، و إن كان الميزان في الصنفين واحدا، و هو عدم تمكنهم من مؤونة سنة فعلا و قوة.

و لعل وجه تقديم الفقراء: أن إعطاءهم من الزكاة أبعد في النظر و لذا جي ء بهم أولا، تداركا لهذا البعد، كما أنك إذا أردت أن تعدّ من أتاك تذكر الأبعد في نظر السامعين، كما أن ذكر المساكين مع أنهم داخلون في الفقراء لعلة، و ذلك لدفع احتمال أن مثل هؤلاء لا بد و أن يعيشوا على إحسان المحسنين من الذين يتصدقون بالصدقات المستحبة لدفع البلاء، كما جرت العادة، لا أن يكون لهم رزق في خزينة الدولة.

وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها أي الذين يعملون لأجل جمع الزكوات، و جبايتها، و لو كانوا أغنياء فإنهم يأخذون حق العمل، و لفظة «على» لأجل أن العامل يقتطع من أموال الناس، فهو شبيه بالضرر، فإنه يعمل لأجل الفقير، على الغني.

وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أي الكفار الذين يراد تأليف قلوبهم بالمال ليميلوا نحو الإسلام أو نحو

المسلمين، فإن الأموال تقرّب الناس إلى الناس، و تقرّب الناس إلى الأديان و المبادئ، و كذلك المسلمون الذين أسلموا و لكن لم يدخل الإسلام في قلوبهم فيعطوا من الزكاة لتقوى عقيدتهم، و يستحكم إسلامهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 417

[سورة التوبة (9): آية 61]

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)

وَ فِي الرِّقابِ جمع «رقبة» و المراد بها: الإنسان، فإن الرقبة تستعمل في الإنسان بعلاقة الجزء و الكل، كما أن «العين» تستعمل في الجاسوس بهذه العلاقة، و المراد بهم: العبيد الذين هم تحت الشدة، يشترون من الزكاة و يعتقون، و كذلك العبيد الذين كاتبوا مواليهم و لم يقدروا على دفع تمام مال الكتابة.

وَ الْغارِمِينَ جمع غارم، من «غرم» بمعنى استدان، و المراد بهم: الذين اقترضوا ثم أنفقوا المال في غير معصية، و من غير سرف، فإنهم يعطون من الزكاة ليؤدّوا ديونهم، أو تدفع ديونهم منها و لو بعد موتهم.

وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هي جميع مصالح المسلمين التي من أظهرها: الجهاد لإعلاء كلمة الله.

وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هو المسافر المنقطع به في سفره، يعطى من الزكاة ليرجع إلى محله، و إن كان في بلده غنيا. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي افترض الله سبحانه تقسيم الزكاة بهذه الصورة فريضة وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بحاجة خلقه حَكِيمٌ فيما فرض عليهم، و على من فرض. و الكلام حول الزكاة طويل، راجع «عبادات الإسلام» «1» حتى تعرف بعض أحكامها.

[61] كان الكلام حول المنافقين و علامات النفاق و بعض ما صدر منهم مما

______________________________

(1) للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2،

ص: 418

يدل على انحرافهم و نفاقهم، فمنهم من يلمز النبي في الصدقات، و منهم من يؤذي النبي، و منهم من يخشى أن تنزل عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سورة، تفضحه و تبين نفاقه وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ إيذاء بالقول، فقد كان عبد الله بن نفيل منافقا، و كان يقعد إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيسمع كلامه ثم ينقله إلى المنافقين و ينمّ عليه. فنزل جبرائيل عليه السّلام و أخبر رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخبر المنافق، فدعاه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بذلك فحلف أنه لم يفعل فقبل منه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- حسب الظاهر- و نهاه أن يقعد مع أصحابه من بعد، فرجع إلى أصحابه و قال: إن محمدا «أذن» أخبره الله أني أنمّ عليه و أنقل أخباره، فقبل، و أخبرته: أني لم أفعل، فقبل، فأنزل الله هذه الآية: وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ أي يستمع إلى ما يقال له و يقبل، و لا فطنة له بأن يميّز بين الصحيح من الكلام و السقيم.

قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: إني أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أذن كما قالوا، و لكن ليس كما قصدوا، فإن «الأذن» قد يكون في سماع كلام الشر في أحد ثم يرتّب الأثر عليه، و قد يكون خيرا، يسمع الكلام و لا يكذّبه، و لكنه لا يرتّب ما على المجرم من العقاب، كيف يمكن أن يعاب عليه فعله هذا؟! لكن المنافق هو الذي يرى الإحسان- حتى بالنسبة إلى المنافق- إساءة.

يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إيمانا من القلب،

و يعلم أن الله سبحانه صادق وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي لنفع المؤمنين، و فرق بين «الإيمان به» إذ معناه تصديقه، و «الإيمان له»، أي يرتب الأثر الذي هو نافع للمؤمن، سواء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 419

[سورة التوبة (9): آية 62]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

اعتقد بذلك أم لم يعتقد. فقد اعتقد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صحة كلام جبرئيل المنزل من قبله سبحانه، كما رتّب أثر الصحة لنفع ذلك المؤمن- المنافق- حيث لم يعاقبه. و لا يخفى أن «الإيمان» له إطلاقان: إطلاق على كل مؤمن مقابل الكافر، و هو من أظهر الإسلام، و إن لم يدخل في قلبه، كما قال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «1»، و إطلاق على المعتقد في مقابل المنافق، كما قال سبحانه: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «2»، و المراد هنا: الإطلاق الأول.

وَ هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ و لو إيمانا ظاهريا، حيث أنه هداهم للأصلح بحالهم في الدنيا، أما المؤمن الحقيقي فإنه سعد بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دنيا و آخرة وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بالقول أو العمل، لا يظنون أنهم فاتوه حيث لم يعاقبهم و قبل عذرهم، فلم يرتّب على أذيتهم شي ء، بل لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع في الدنيا و الآخرة، أما في الدنيا فلأن إيذاء الرسول له أثر وضعي يوجب الخسران و الخزي، و أما في الآخرة فله عذاب أليم في النار.

[62] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي يحلف هؤلاء المنافقون لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ حيث أنكم تقبلون عذرهم إذا أقسموا بالله

بأنهم لم يقولوا ما قالوا، و لم يفعلوا ما فعلوا وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي يرضوا كل واحد

______________________________

(1) النساء: 137.

(2) الحجرات: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 420

[سورة التوبة (9): الآيات 63 الى 64]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)

منهما، بالإيمان الصحيح و عدم الإيذاء واقعا- مما يريدون ستره بالحلف- أما الترضية الظاهرية للرسول، فإنها لا تنفعهم في الباطن و الواقع إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ واقعا، و المعنى: إن كانوا مؤمنين واقعا لعلموا أن مرضاة الله و الرسول أولى من الترضية الظاهرية.

[63] أَ لَمْ يَعْلَمُوا أليس يعرف هؤلاء المنافقون أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ «المحادّة» مجاوزة الحد بالمشاقة و المخالفة فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها فإن علموا ذلك فكيف يحادّون الله و الرسول بالنفاق و إيذاء الرسول ذلِكَ الخلود في النار الْخِزْيُ أي الهوان الْعَظِيمُ الذي لا خزي فوقه.

[64] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أي يخافون و يخشون أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ من القرآن تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ أي تخبرهم بنفاقهم، فتكون فضيحة لهم، و قوله «تنبئهم» لإفادة أنهم كانوا يخفون نفاقهم، فكأنهم لا يعلمون. و إنما السورة المنزلة تخبرهم حسب تظاهرهم بالنفاق.

ورد أنه لما خرج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى «تبوك» قال قوم من المنافقين فيما بينهم: أ يرى محمدا أن حرب الروم مثل حرب غيرهم، لا يرجع منهم أحد أبدا. فقال بعضهم: ما أحرى أن يخبر الله محمدا بما كنّا فيه، و بما في قلوبنا، و ينزل

بهذا قرآنا يقرأه الناس- قالوا هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 421

[سورة التوبة (9): الآيات 65 الى 66]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)

على حد الاستهزاء- فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمار بن ياسر: الحق القوم فإنهم قد انحرفوا، فلحقهم عمار فقال لهم: ما قلتم؟ قالوا: ما قلنا شيئا إنما نقول ذلك على حد اللعب و المزاح. فنزلت هذه الآية.

قُلِ يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: اسْتَهْزِؤُا أمر في معنى الوعيد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم و قولكم الاستهزائي.

[65] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا رسول الله! عن طعنهم في الدين و استهزائهم بك و بحركاتك، و قلت لهم: لم فعلتم ذلك؟ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ «الخوض» هو دخول القدم في المائع، من ماء أو طين، ثم كثر استعماله في الدخول فيها، يعني: على وجه اللهو دون الجد، أي كان كلامنا مجرد لعب و لهو دون إرادة الحقيقة و الجد قُلْ يا رسول الله لهم: أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ استفهام إنكاري، أي كيف تستهزئون بالله و حججه و رسوله؟

[66] قل يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: لا تَعْتَذِرُوا بهذه الأعذار الواهية الكاذبة قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ الظاهري، فإنهم بإظهارهم الإيمان دخلوا في زمرة المؤمنين، فاستهزاؤهم هذا كان كفرا و نقضا لذلك الإيمان، و قد اعتذر بعضهم اعتذارا صادقا فرجع عن نفاقه و دخل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 422

[سورة التوبة (9):

آية 67]

الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67)

الإيمان قلبه، فقبل الرسول عذره و عفا الله عنه.

و في بعض التفاسير: إنه كان مخشي بن حميّر، و يسمى عبد الرحمن، و سأل الله بعد توبته أن يقتل شهيدا لا يعلم أحد مكانه، فقتل يوم اليمامة و لم يوجد له أثر، و لذا قال سبحانه: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ و هو التائب حقيقة نُعَذِّبْ طائِفَةً بسبب أنهم بقوا على نفاقهم و كانُوا مُجْرِمِينَ لم ينفكوا عن الجريمة.

[67] ثم بيّن سبحانه حقيقة المنافقين و صفاتهم بقوله تعالى: الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنهم من طبيعة واحدة و طينة واحدة يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ يأمر بعضهم بعضا بإتيان المنكر، من الكفر و المعاصي وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ فإذا أراد أحدهم أن يعمل بطاعة نهاه غيره وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ يمسكونها عن الإنفاق، بخلاف المؤمن الذي يبسط يده بالمال، أو المراد: قبض أيديهم عن كل خير نَسُوا اللَّهَ عملوا عمل الناسي و إن كانوا ذاكرين له، فكما أن الناسي يترك المنسي، كذلك هؤلاء يتركون أوامر الله سبحانه فَنَسِيَهُمْ الله سبحانه أي تركهم و شأنهم لا يهديهم طريقا و لا يفعل بهم صلاحا.

و ليس المراد «النسيان» حقيقة، لأن الله سبحانه لا ينسى إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ الذين خرجوا عن طاعة الله سبحانه، و إن أظهروا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 423

[سورة التوبة (9): الآيات 68 الى 69]

وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ

أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)

الإيمان، و «الفسق» عبارة عن الخروج عن الطاعة. و هذه الآية تعطي ميزان النفاق إلى يومنا، و ما أكثر أمثال هؤلاء في زماننا هذا.

[68] وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ و حيث كان الكلام حول المنافقين مفصلا، أما الكفار فذكرهم استطراد نارَ جَهَنَّمَ يعذبهم بها جزاء لما اقترفوا من الآثام خالِدِينَ فِيها دائمين لا يخرجون منها هِيَ حَسْبُهُمْ أي أن النار تكفيهم جزاء لذنوبهم و كفرهم و نفاقهم وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم عن نعيمه و رضوانه، فإن اللعن بمعنى الطرد وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ يقيم عليهم فلا يجدون خلاصا منه. و لعل المراد بذلك: العذاب العام في الدنيا و الآخرة، فإن النفاق خلة يكون صاحبها دائم التعب و النصب لأنه بين المؤمن، المهين له، الحذر منه، و بين الكافر الذي لا يقبله لأنه لم يتمسك بالكفر كما تمسك الكافر الصريح بكفره.

[69] إن هؤلاء المنافقين حالهم كحال الذين مِنْ قَبْلِكُمْ من الكفار و المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان بالأنبياء و يبطنون الكفر، أو يحادّون الأنبياء و يكفرون بما أنزل إليهم كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً فإن بعض الأمم كانت قواهم المادية و الجسمية أكثر من أمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- كما يشهد بذلك التاريخ- وَ أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً لخصوبة النسل فيهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 424

و ازدهار التجارة و العمران عندهم فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ «الخلاق» النصيب، أي صرفوا نصيبهم من المال و القوة و الأولاد في الاستمتاع و الملذات عوض أن يصرفوها

في شكر المنعم و ما أمر به فَاسْتَمْتَعْتُمْ أنتم- يا أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- أي المنافقون منهم بِخَلاقِكُمْ أي بنصيبكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ دون أن تعتبروا بمصيرهم فتصرفوا نعم الله سبحانه فيما أمر وَ خُضْتُمْ في الكفر و الاستهزاء و ملاذ الدنيا كَالَّذِي خاضُوا أي كخوض أولئك الأولين أُولئِكَ الذين صنعوا هذه الصنائع السيئة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الحسنة، لأن الحسنة لا تقبل مع الكفر و النفاق و العصيان، قال سبحانه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1». و معنى الحبط ذهاب الأجر فِي الدُّنْيا إذ لم ينتفعوا بها، فإن الانحراف عن مناهج الله سبحانه يوجب المشاكل التي لا تكافأ بها الأعمال، فمثلا الثروة توجب رفاه الإنسان، أما إذا كانت مقترنة بالانحراف فإنها توجب الضنك و الضيق عوض الرفاه وَ الْآخِرَةِ فلا ثواب لأعمالهم الخيرة وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم و كل شي ء عندهم.

______________________________

(1) المائدة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 425

[سورة التوبة (9): الآيات 70 الى 71]

أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)

[70] أَ لَمْ يَأْتِهِمْ استفهام إنكاري، أي ألم يأت إلى هؤلاء المنافقين نَبَأُ أي خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم قَوْمِ نُوحٍ عليه السّلام حيث أهلكهم الله بالغرق وَ عادٍ قوم هود عليه السّلام أهلكهم الله

بالريح وَ ثَمُودَ قوم صالح عليه السّلام أهلكهم بالرجفة وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ عليه السّلام نمرود و أتباعه، حيث سلب الله ملكهم و نعمتهم وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ قوم شعيب عليه السّلام أهلكهم بعذاب يوم الظلة وَ الْمُؤْتَفِكاتِ من «ائتفك» بمعنى انقلب، أي البلاد التي انقلبت و هي بلاد قوم لوط عليه السّلام حيث أهلكوا، و ذلك أن الله سبحانه أمر جبرائيل فقلب تلك المدن بأن جعل عاليها سافلها أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الظاهرة و الأدلة البينة، لكنهم عصوا و أبوا و تمردوا على الله و رسله فأهلكهم الله بذنوبهم و ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فتعذيبهم بأنواع العذاب لم يكن ظلما منه سبحانه لهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فقد عوقبوا بسبب تمرّدهم و عصيانهم، و هؤلاء الكفار و المنافقون حالهم حال أولئك، إن تمردوا و عصوا أخذوا بذنوبهم، فليحذروا أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم.

[71] و لما بيّن سبحانه صفات المنافقين و ما فعل بهم كما فعل بأسلافهم، بيّن صفات المؤمنين و العاقبة الحسنة التي تنتظرهم وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فإن كل واحد منهم ينصر صاحبه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 426

[سورة التوبة (9): آية 72]

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

و يؤيده و يعينه، لأنهم من عنصر واحد و أصل واحد و تجمعهم عقيدة واحدة يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي الأمور الحسنة التي يعرفها الناس من واجب أو مندوب شرعا و عقلا وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الذي ينكره الناس من حرام أو مكروه شرعا و عقلا وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يداومون على

فعلها و يحثّون الناس عليها وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي الحق المفروض، أو مطلق الصدقة، فإن الزكاة تطلق عليهما وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمرهم و ينهاهم أُولئِكَ المؤمنون الذين هذه صفاتهم سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إما المراد: رحمتهم في الجنة، و لذا دخلت «السين»، و إما المراد: في الدنيا، و دخول «السين» لإفادة كون الرحمة إنما تأتي بعد مدة من استمرارهم في العمل و نجاحهم في الامتحان، فلا يتوقع المؤمن أن تشمله الرحمة فورا بمجرد وقوعه في مشكلة، و إنما تؤخر عنه للامتحان و الاختبار إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره متمكن من إنفاذ إرادته حَكِيمٌ في تدبيره و فعله، فيفعل الأشياء حسب المصلحة.

[72] وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بالإضافة إلى الخير في هذه الحياة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت قصورها و أشجارها خالِدِينَ فِيها دائمين لا يزولون عنها وَ وعدهم مَساكِنَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 427

[سورة التوبة (9): آية 73]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (73)

طَيِّبَةً مهيأة فيها الأثاث و الرياش، طيبة الهواء و المرافق بحيث يطيب فيها العيش فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ العدن، و الإقامة و الخلود، نظائر، أي أنهم في جنات الخلود.

و ورد في بعض الأحاديث: «إنها أعلى الجنان مما لم يخطر على قلب بشر»

«1» وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أي أن رضاه سبحانه على هؤلاء المؤمنين أكبر من كل ذلك، فإن الإنسان إذا علم برضى الكبير منه ارتاح ضميره، فكيف به لو علم برضاه سبحانه عنه.

و من المعلوم أن ارتياح الضمير أكبر من ارتياح الجسد.

ذلِكَ النعيم الجسدي و الروحي للمؤمنين و المؤمنات هُوَ الْفَوْزُ و النجاح الْعَظِيمُ الذي لا

نجاح فوقه و لا فوز أكبر منه و أعظم.

[73] و حيث ذكر سبحانه أحوال الكفار و المنافقين و بيّن صفاتهم الذميمة، أوجب الجهاد لتخليص البشرية منهم يا أَيُّهَا النَّبِيُ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاهِدِ الْكُفَّارَ بالمقاتلة و المحاربة و بيان عقائدهم السخيفة، فإن هذا الجهاد نوع من أنواع الحرب الباردة- في الاصطلاح الحديث- وَ الْمُنافِقِينَ و جهاد المنافقين بالوعظ و الإنذار لهم، و إجراء الحدود عليهم، و تخويف الناس من النفاق. و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجاهدهم مرة بإظهار نفاقهم، و تارة بضرب الحصار عليهم، كما قال سبحانه:

______________________________

(1) المستدرك: ج 6 ص 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 428

[سورة التوبة (9): آية 74]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (74)

وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «1»، و أخرى بنهي المؤمنين عن أن يتصفوا بخلة النفاق.

و من المحتمل أن يراد بالمنافق هنا: الكافر المنافق، فإن بعض الكفار ينافق بإظهار الودّ للمسلم و تأليفه و هو ألد الأعداء له، في مقابل الكافر الصريح الذي يظهر عداءه و شحناءه.

وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ حتى يرتدعوا، فإن الغلظة في الكلام و السلوك مع شخص خليق بأن يردعه عن عمله، كما قال سبحانه: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ «2»، وَ مَأْواهُمْ أي محلهم و مصيرهم، من «أوى» إذا اتخذ مكانا جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المرجع و

المأوى لهم.

[74] و من المنافقين من يتأمرون على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون عنه أشياء، إذا استنطقهم الرسول حلفوا بالله كذبا أنه لم يصدر منهم شي ء،

فقد كان جماعة منهم خرجوا مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى «تبوك» و كانوا كارهين لذلك، فإذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انتقصوه، فأبلغ ذلك «حذيفة» إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فطلبهم و قال: ما هذا الذي بلغني عنكم. فأخذوا يحلفون بالله ما قالوا شيئا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية تفضحهم

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا أي أقسم هؤلاء المنافقون بالله بأنهم لم يقولوا شيئا ضد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فإنهم

______________________________

(1) التوبة: 118.

(2) الفتح: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 429

بسبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الطعن في الإسلام صاروا كفارا وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ الظاهري، فإن المنافق إذا أظهر الإسلام صار مسلما، فإذا صدرت منه كلمة الكفر صار كافرا.

لا يقال: إنهم إن كفروا وجب عليهم حدّ المرتد.

لأنا نقول: إنهم كانوا مرتدين عن ملّة، و لا يحدّ مثلهم، و إنما يستتابوا، و إنكارهم كان بمنزلة التوبة، و إن كان توبة صورية لا حقيقية.

وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا فقد أرادوا إخفاء نور الإسلام، و ذلك يتحقق بكل ما يهتم به المنافق من إرادة قتل النبي، و إيجاد الفساد بين المسلمين، و إخراج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المدينة، لكنهم لم ينالوا ذلك و لم يقدروا على ما هموا به، بل انعكس الأمر

فقد زاد الإسلام علوّا، و الرسول ارتفاعا، و المسلمون سموّا.

و قد ورد في بعض الأحاديث: تأويل الآية بالذين خالفوا الرسول في قصة «غدير خم» و أرادوا إخماد نور الوصي، و قالوا في الرسول كلاما بذيئا «1».

وَ ما نَقَمُوا النقمة الإنكار و الغضب، أي أن هؤلاء لم ينكروا على المسلمين إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فإن الله سبحانه أغنى المسلمين و أنعم عليهم، بفضل إرشادات الرسول، فلم يكن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 37 ص 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 430

[سورة التوبة (9): آية 75]

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

للمسلمين ذنب يستحقون به النقمة من المنافقين، و لكن المنافقين كرهوا ذلك حسدا، أو المراد: أن الله أغنى هؤلاء المنافقين، فكان من اللازم أن يحبوا الله و رسوله حيث أعطاهم الغنائم لكنهم جعلوا مكان الشكر كفرانا، كما يقال: «لم يكرهني فلان إلا لأني أحسنت إليه».

فَإِنْ يَتُوبُوا عن نفاقهم و يرجعوا إلى الحق يَكُ خَيْراً لَهُمْ في دنياهم و في آخرتهم حيث يكونون كسائر المسلمين لا يجتنب أحد منهم و لا يكرههم المسلمون، و يقال في مثل هذه المواضع «خير» مقابل ما يظن أنه خير، و إن لم يكن إلا شرا واقعا وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا أي يستمروا على إعراضهم عن الحق و سلوكهم سبيل النفاق يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً مؤلما موجعا فِي الدُّنْيا باجتناب المسلمين لهم، و تضييق العيش عليهم، كما قال سبحانه: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «1»، وَ في الْآخِرَةِ بالنكال و النار وَ ما لَهُمْ ليس لهم فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍ يلي أمورهم و يحبهم وَ لا نَصِيرٍ ينصرهم،

فليس كما ظنوا أن المنافقين ينصرونهم إذا وقعوا في المشاكل، فإن المنافق حيث اختمر على طبيعة النفاق، لا ينصر حتى أخاه و أقرب الناس إليه.

[75] وَ مِنْهُمْ من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ أي عهد مع الله لَئِنْ آتانا

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 431

[سورة التوبة (9): الآيات 76 الى 77]

فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77)

مِنْ فَضْلِهِ أعطانا الله من كرمه وجوده لَنَصَّدَّقَنَ نتصدق على الفقراء وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فيما أعطانا الله فننفق المال في وجهه، و لا نكون مفسدين مسرفين.

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف كان محتاجا فعاهد الله، فلما آتاه بخل به. و في التفاسير: أنه قال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالا. فقال: يا ثعلبة «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» فقال:

و الذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه.

فدعا له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاتخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا و انقطع عن الجماعة و الجمعة، و بعث رسول الله المصدق ليأخذ الصدقة، فأبى و بخل و قال: ما هذه إلا أخت الجزية. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة» «1».

[76] فَلَمَّا آتاهُمْ أي أعطاهم الله مِنْ فَضْلِهِ وجوده ما طلبوه بَخِلُوا بِهِ و لم يدفعوا حقه و لم يفوا بما عاهدوا عليه

وَ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن إعطاء حقه كما أمر الله وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن دين الله و أحكامه و أوامر الرسول و أعمال الخير.

[77] فَأَعْقَبَهُمْ فأورثهم بخلهم و نقضهم لعهد الله نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 13 ص 256.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 432

[سورة التوبة (9): آية 78]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)

فإن الإنسان إذا أعرض عن أمر كبير لا بد و أن يختلق لنفسه تبريرات و أعذارا، ليبرّر موقفه، و ذلك هو النفاق إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي يلقون جزاء بخلهم، فالضمير عائد إلى البخل، و أريد به جزاءه، أو المراد نفس البخل، بناء على تجسيم الأعمال، أو الضمير عائد إلى الله سبحانه المعلوم من السياق، و «ملاقاة الله» إنما هي في القيامة بملاقاة حسابه، فإنه سبحانه منزّه عن المكان و الرؤية.

و ذلك بسبب ما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ بسبب خلفهم للعهد الذي عاهدوا، من أن الله إذا أعطاهم من فضله تصدّقوا و كانوا شاكرين وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي و بسبب كذبهم على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو المراد بالكذب عليه: أن الصدقة أخت الجزية- كما تقدم-.

[78] أَ لَمْ يَعْلَمُوا استفهام إنكاري، أي أليس يعرف هؤلاء المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ المخفي في نفوسهم وَ نَجْواهُمْ التي يتناجون بها مع أمثالهم من المنافقين؟ فإن المنافق لا بد و أن يتناجى مع أمثاله لجعل حلول و مبرّرات لموقفهم النفاقي، كما تدور الأسرار في نفوسهم فيقلبون أوجه الرأي للخلاص من مأزقهم وَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم ما غاب عن الحواس، من الأمور المختفية في النفوس، و النجوى، و غيرهما،

فإذا علموا ذلك، فلما ذا لا يخشون منه سبحانه و لا يفعلون حسب مرضاته؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 433

[سورة التوبة (9): الآيات 79 الى 80]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)

[79] و كان من المنافقين من يرصدون للمسلمين ليعيبونهم، فقد جاء رجل من المؤمنين بصاع من تمر للصدقة، فقال المنافقون: إن الله غني عن صاعه، و إنما جاء بذلك حتى يذكر في المتصدقين. و جاء رجل آخر بصرّة من دراهم، فقالوا: إنه جاء بذلك للرياء، فعابوا المكثر بالرياء، و المقل بالإقلال، فنزل قوله تعالى: المنافقون الَّذِينَ يَلْمِزُونَ «اللّمز» هو الطعن، أي يطعنون الْمُطَّوِّعِينَ أي معطي الصدقة تطوعا من «اطّوع»، أصله «تطوع»، أدغمت التاء في الطاء، و جي ء بهمزة الوصل، لتعذر الابتداء بالساكن مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و لعلّ ذكر هذا للدلالة على أن إيمان المتطوع كان اللازم أن يحجز القائلين من الطعن بهم، لكنهم منافقون لا يبالون بالإيمان و المؤمنين فِي الصَّدَقاتِ كما طعنوا فيمن أعطى الدراهم وَ يلمزون الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أي إلّا طاقتهم في الإنفاق و التصدق، كما عابوا من أعطى الصاع فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ و يستهزئون بهم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أي يجازيهم جزاء سخريتهم. و قد تقدم تفصيل الكلام في سورة البقرة، في قوله سبحانه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «1»، وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[80]

روي أنه عند نزول آية «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ» في حق المنافقين قالوا: يا

______________________________

(1) البقرة: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 434

رسول الله استغفر لنا فوعدهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالاستغفار، فنزلت الآية

: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يا رسول الله أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الصيغة الأولى للأمر، و المراد بها المبالغة في الإياس، أي سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر فإنهم لا يستحقون الغفران، و لذا لا يغفر الله لهم إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً صيغة مبالغة يراد بها الكثرة، كما يقال: «لو قلت لي ألف مرة ما قبلت» لا يريد الألف، بل المراد أنه لا يقبل و إن قال فوق الألف فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنهم جبلوا على النفاق و الجبل عليه لا يفيده الاستغفار، و هذا ليس إهانة للرسول- كما زعم- بل أفرغ التوبيخ لأولئك في هذا القالب، كما تقدم في قوله: (وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) «1».

و إن قيل: كيف جاز للرسول أن يعدهم بما لم يفعل؟

قلنا: إن ثبتت الرواية، لم يكن به بأس لأن الاستغفار إنما كان لأجل أن يغفر الله، فإذا أخبر سبحانه بأنه لا يغفر لم يبق للاستغفار مجالا، كما لو وعد إنسان بإطعام زيد ثم مات زيد. ثم إنه كان مراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الاستغفار بالشرط فلم يكن إخبارا مطلقا حتى يقال أنه يلزم جهله بالمستقبل، و أنه تكلم من عند نفسه، و هذا ينافي قوله تعالى: «ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2».

______________________________

(1) الأعراف: 151.

(2) النجم: 4 و 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 435

[سورة التوبة (9): آية 81]

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ

نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)

ذلِكَ الذي تقدم من عدم قبول توبتهم و عدم فائدة الاستغفار بالنسبة إليهم بسبب أنهم أي المنافقين كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ كفرا باطنا، و إن أظهروا الإسلام وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فإنه سبحانه لا يلطف بهم اللطف الخفي بعد أن خرجوا عن طاعته و خالفوا أوامره عن علم و عمل.

[81] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ «المخلّف» بصيغة المفعول من باب «التفعيل» هو المتروك خلف من مضى، و سمّي مخلفا لأنه تخلّف بنفسه، أو خلّفه شخص آخر و أبقاه، كالمؤخّر، بِمَقْعَدِهِمْ هو «مصدر ميمي» بمعنى «القعود» أي أن من تخلفوا عن الجهاد في تبوك، فرحوا بقعودهم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي بعده، أو بمعنى: بقاؤهم خلافا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقد فرحوا بأنهم نجوا من تلك السفرة المتعبة الخطرة وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ترجيحا للراحة على التعب فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لإعلاء كلمته وَ قالُوا قال أولئك المخلّفون للمسلمين و لنظرائهم من المنافقين: لا تَنْفِرُوا أي لا تذهبوا للجهاد فِي الْحَرِّ فإن وقت خروجهم كان مصادفا للحر الشديد قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: نارُ جَهَنَّمَ التي تجب للمتخلّف أَشَدُّ حَرًّا من هذه الحرارة التي يلاقيها المجاهدون، فهي أولى بالاحتراز من هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 436

[سورة التوبة (9): الآيات 82 الى 83]

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)

لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أي يفهمون، و المعنى: أنهم لو فقهوا لعلموا أن نار جهنم أولى بالاحتراز

و التجنّب.

[82] إن الفرح الذي فرحه المخلفون بسبب بقائهم يوجب لهم العذاب الدائم، فاللازم أن يضحكوا قليلا لأنه لم يبق لهم مجال للضحك، فقد استحقوا بذلك العقاب، و المهدّد لا يضحك فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا إنه ليس أمرا بالضحك و إنما بيان لوجوب التقليل من ضحكهم وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً حيث عملوا ما يستحقون به البكاء حيث اشتروا النار بفرارهم من الزحف جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من النفاق و التخلّف عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[83] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يا رسول الله من هذه الغزوة- غزوة تبوك- إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ لا خصوصية للرجوع إلى الطائفة، و إنما المقصود ترتيب الأثر على تلك الطائفة من المنافقين الذين تخلفوا عن تبوك فَاسْتَأْذَنُوكَ أي طلبوا منك الإذن لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى فَقُلْ لهم: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً إلى الغزوة وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا فإنا قطعنا عنكم و لا صلة بيننا و بينكم إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ عن الجهاد أَوَّلَ مَرَّةٍ في غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 437

[سورة التوبة (9): آية 84]

وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ (84)

يخالفوننا، و كونوا معهم دائما، إن الذي يترك الإنسان في ساعة العسرة لا يصلح أن يكون معه، فطبعه طبع انهزامي مخلد إلى الدعة، و لو خرج لم يزد إلا خبالا و خذلانا، فلذا كان اللازم أن يجتنب عنه إطلاقا، بالإضافة إلى أن الإسلام في غنى عنه، و هو لا يستحق شرف الجهاد فليبق في بيته و يكن مع الخالفين.

[84] ثم نهى سبحانه نبيه عن الصلاة على مثل

هؤلاء المنافقين ليحذر غيرهم من النفاق، و لأنهم لا يستحقون الرحمة و الغفران وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أي إذا مات أحد هؤلاء المنافقين فلا تصلّ على ميتهم أَبَداً أي إلى الأبد، فإنه تجوز الصلاة على من لم يصلّ عليه إلى آخر العمر- على قول- لكن المنافق لا يستحق ذلك وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي لا تقف على قبره للدعاء كما هو عادة الناس أن يقفون على قبر المسلم يدعون له و يستغفرون من أجله.

و ذلك بسبب إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ و إسلامهم الظاهري إنما حقن دماءهم و حفظ أموالهم و أعراضهم، لكنه لم يدخلهم في زمرة المؤمنين الذين لهم الكرامة وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله سبحانه. ثم إن المراد ب «الصلاة» طلب الرحمة له، كما أن المراد ب «الوقوف على قبره» ذلك، فلا ينافي ذلك ما فعله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعبد الله ابن أبيّ المنافق الذي مات فصلّى الرسول عليه، و لعنه عقيب الرابعة. ثم إنه قد اختلفت الأقوال حول هذا المنافق مما لا يهمنا التعرّض له.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 438

[سورة التوبة (9): الآيات 85 الى 86]

وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (85) وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86)

[85] وَ لا تُعْجِبْكَ يا رسول الله، أي لا تنظر نظرة إعجاب- المستلزمة للتكريم- أَمْوالُهُمْ أي أموال المنافقين وَ أَوْلادُهُمْ الكثيرة، كيف قد منحوا ذلك، و أنها تدل على تكريم الله

لهم، بل بالعكس إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها بهذه الأموال و الأولاد فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ «زهق النفس» عبارة عن هلاكها وَ هُمْ كافِرُونَ فهم بين عذاب الدنيا للمال و الأولاد من التبعة و الهموم، و بين عذاب الآخرة حيث أنهم يموتون مع الكفر. و قد مر تفسير الآية فراجع.

و لعل المقصود من تكرار الآية: النهي عن هذا النوع من التكريم اللاشعوري للكفار و المنافقين، فإن نظر الإعجاب هو نظر التكريم، فيختلف المقصود هنا من المقصود هناك.

[86] وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن الكريم تتضمن أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ إما بالنسبة إلى غير المؤمنين، و إما بالنسبة إلى المنافقين، أي آمنوا إيمانا صحيحا، و إما بالنسبة إلى المؤمنين بقصد إبقائهم على الإيمان و استقامتهم فيه نحو «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ لإعلاء كلمة الإسلام، فآمنوا، و ادعوا غيركم إلى الإيمان و الجهاد اسْتَأْذَنَكَ أي طلب منك الإذن في عدم الجهاد أُولُوا الطَّوْلِ أي أصحاب المال و القدرة و الغنى مِنْهُمْ من المنافقين وَ قالُوا ذَرْنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 439

[سورة التوبة (9): الآيات 87 الى 89]

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

أي دعنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ الذين ليس عليهم جهاد، من النساء و الصبيان و العاجزين.

[87] رَضُوا أي رضي هؤلاء المنافقين بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ جمع «خالفة»، و هي المرأة سميت به لأنها تتخلف عن الجهاد، أو هو أعم من «الخالف» فإن

«فارس» يجمع على «فوارس»، و المراد: كل من تخلف عن الجهاد من النساء و الصبيان و العاجزين وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فإنهم بسبب نفاقهم طبع عدم الإيمان على قلوبهم فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ قبح عملهم و تركهم للجهاد، كشأن كل إنسان انغمر في الشهوات و المفاسد، فإنه لا يعرف قبح عمله بل يراه حسنا.

[88] لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ إيمانا صادقا جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ بإنفاقها في سبيل الله. و سمي جهادا لأن بذل المال يحتاج إلى جهد النفس و تعبها وَ أَنْفُسِهِمْ يقاتلون الكفار و يجالدون المردة الفجار وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ المنافع و الأشياء الخيرة من خيرات الدنيا و الآخرة، فإنهم يحرزون حسن السمعة و المال في الدنيا، و النعيم في الجنة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون الناجحون.

[89] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 440

[سورة التوبة (9): آية 90]

وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)

و قصورها، فهم مشرفون على الأنهر الجارية، و في ذلك لذة و متعة خالِدِينَ فِيها أبدا لا خروج لهم منها، و لا زوال لنعيمها عنهم ذلِكَ الإحراز للخيرات و للجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا شي ء أعظم منه.

[90] أمام الحركات ينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف: قسم يأتي و ينضم إلى الحركة، و قسم لا يأتي و لا يعتذر، و قسم يأتي و يعتذر. و هكذا حدث في غزوة تبوك، فالمؤمنون الصادقون انضموا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المنافقون بعضهم جاء ليعتذر بلا مبرّر، و بعضهم لم يجئ إطلاقا حتى للاعتذار وَ جاءَ

الْمُعَذِّرُونَ من «اعتذر» باب «التفعيل» بمعنى: أبدى العذر بدون أن يكون ذا عذر في الحقيقة مِنَ الْأَعْرابِ إما المراد بهم:

أهل البدو، و إما المراد: أهل الحضر، لكنهم شبّهوا بالأعراب في عدم استحقاقهم التكريم، كما قال سبحانه: (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً) «1».

جاء هؤلاء لِيُؤْذَنَ لَهُمْ أي يأذن لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التخلّف عن الجهاد وَ قَعَدَ المنافقون الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في باطنهم، و إن أظهروا التصديق في الظاهر- كما هو شأن المنافق- فإن هؤلاء لم يأتوا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للاعتذار بل قعدوا في مكانهم و كأن أمرا لم يحدث سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من هؤلاء عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع، و إنما خصص جماعة منهم لأنهم لم يكفروا كلهم، فالمعذورون من

______________________________

(1) التوبة: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 441

[سورة التوبة (9): آية 91]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)

الأعراب غالبا لا ينطوون على الكفر، و إنما يتخلّفون تكاسلا.

[91] ثم بيّن سبحانه أهل الأعذار الذين يسقط عنهم الجهاد بقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ جمع «ضعيف» كالشيخ الكبير، و الضعيف البنية، و العاجز لعمى أو زمانه أو ما أشبه- مما لا يسمّى مرضا- وَ لا عَلَى الْمَرْضى جمع «مريض» و هم أصحاب الأسقام و العلل المانعة عن الجهاد وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ ليست معهم نفقة الخروج و أسباب السفر حَرَجٌ ضيق، فلا جناح عليهم في التخلّف عن الجهاد إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ بأن أخلصوا العمل

من الفسق، و كانوا ناصحين في قرارة نفوسهم. و ليس المعنى: وجود الحرج لغير الناصح- من جهة عدم الجهاد- بل المراد: أن عدم الحرج المطلق إنما يترتب على العاجز الناصح، أما العاجز المنافق فعليه حرج من جهة نفاقه.

ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ لا سبيل على تعذيبهم و لا جناح عليهم، فإنهم محسنون في أعمالهم. و لا يخفى أن الآية لا تدل على أن مريد الإحسان لا جناح عليه و إن أساء، فإن الظاهر منها أن المحسن حقيقة لا جناح عليه وَ اللَّهُ غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ بهم، فلا يحمّلهم فوق طاقتهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 442

[سورة التوبة (9): الآيات 92 الى 93]

وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)

[92] وَ لا سبيل و جناح عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ «ما» زائدة تأتي لتزيين الكلام، أي إذا جاءوك يا رسول الله لِتَحْمِلَهُمْ أي يسألونك مركبا يركبون عليه ليجاهدوا قُلْتَ يا رسول الله: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فليس عندي مركب تركبونه تَوَلَّوْا أي رجعوا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أعينهم تسيل بالدموع من حزنهم أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ ينفقونه لأجل تهيئة وسائل الجهاد.

ورد أن سبعة من الأنصار جاءوا إلى الرسول يطلبون منه المركب ليرافقوه في غزوة، فاعتذر منهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه لا يجد ما يحملهم، فرجعوا باكين «1». و فيهم نزلت الآية.

[93] إِنَّمَا السَّبِيلُ أي السبيل لعقابهم و لومهم

عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يطلبون إذنك للتخلّف عن الجهاد و البقاء في المدينة وَ هُمْ أَغْنِياءُ قادرون على الجهاد و نفقاته رَضُوا أي رضي هؤلاء المستأذنون بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ من النساء و الصبيان و العاجزين وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ بسبب نفاقهم فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بأن تخلّفهم عن الجهاد يسبب

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 104.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 443

تقريب القران الى الأذهان الجزء الحادي عشر من آية 94 من سورة التوبة إلى آية 6 من سورة هود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 444

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 445

[سورة التوبة (9): آية 94]

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)

[94] لنذكر طرفا يسيرا من هذه الغزوة «تبوك» من كراس «رسول الإسلام في المدينة» من السلسلة التي وضعناها في قادة الإسلام «1»:

لما خرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المدينة استعرض الجيش فكانوا ثلاثين ألفا، فغمر الجيش الفرح لكثرة عددهم، لكنهم عانوا في هذه السفرة أشد أنواع الجوع و العطش، فالمضرة كبيرة، و الحر شديد، و القلوب متعلقة بالمدينة، إذ نضجت الثمار، و حان قطفها، و المركوب قليل، حتى أن العشرة منهم كانوا يتناوبون في ركوب جمل واحد، و الطعام قليل جدا، ففي بعض الأحيان كان نفران منهم يتقاسمان تمرة واحدة شق لهذا و شق لذاك، و أصابهم أشد العطش

فكانوا ينحرون إبلهم العزيزة، لينقبوا كروشها، و يشربوا ماءها، أو يعتصروا فرثها ليشربوا عصيره ثم يجعل ما بقي على كبده، حتى أن بعضهم رأى الموت بعينيه، فطلبوا من النبي الاستسقاء، فدعا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رافعا يديه إلى السماء. قال الراوي: فلم يرجعوا حتى هطلت السماء بمطر غزير.

هذا بالإضافة إلى الإشاعات التي ملكت القلوب- و إن سارت بأجسامها مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- أنه لا بد و أن تقضي جيوش الروم الهائلة المنظمة على الجيش الإسلامي، فلا يبقى منه أحد ..

و سار الرسول حتى وصل «تبوك» و قد كان «هرقل» وزع رواتب سنة كاملة على جيشه، كما وزع أموالا طائلة على القبائل التي استخدمها لقتال المسلمين، و هم لخم و جذم و عاملة و غسان و غيرها ... و قد أتت الروم أنباء هائلة عن جيش المسلمين، مما رأوا أن

______________________________

(1) للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 446

من الصالح عدم دخولهم في قتال لا يعرف مصيره، و قد كان الروم شاهدوا في حرب «مؤتة» قتال المسلمين، فإذا لم يتمكن جيشهم، و عدده «مائتا ألف» من جيش «مؤتة» الذي كان بقيادة جعفر عليه السّلام و عدده «ثلاثة آلاف» فكيف يقاوم جيشهم جيش الإسلام كله و هم لا يعلمون عدده من الكثرة بقيادة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لذا قرروا انسحاب الجيش، فانسحبوا قبل الاصطدام بجيش المسلمين.

وصل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى «تبوك» فلم يلق جيشا، فاستشار أصحابه في غزو بني الأصفر- أي الروم- و الرجوع إلى المدينة؟ فأشاروا على الرسول بالرجوع، فبقي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هناك

عشرين يوما، و عقد الاتفاقيات مع الزعماء و القبائل، فأرسل إلى أصحاب أيلة: «يوحنا بن روبة» بالإذعان للمسلمين أو الغزو؟ لكن «يوحنا» كان رجلا حكيما، فاختار الإذعان، و تم الاتفاق بإعطائه الجزية للدولة الإسلامية، و عدم التعرض للدعوة الإسلامية ... و عقد الصلح بين المسلمين و بين أهل «جرباء» و هي قرية في منطقة «عمان» بالبلقاء، من أراضي الشام، على مثل المصالحة مع صاحب أيلة ... و عقد الصلح بين المسلمين و بين أهل «أذرح» قرية أخرى قريبة من الجرباء بمثل مصالحة الجرباء .. و تم الصلح بين المسلمين و بين «الأكيدر» ملك «دومة الجندل» على بذل الجزية و عدم التعرض للمسلمين.

و انتظر الرسول جيوش الروم لكنها لم تزحف، فأخذ الجيش الإسلامي طريقه إلى المدينة بعد ما أمن الحدود الشمالية، و صارت له منعة و قوة، و فتحت مجالات الإسلام في القلوب و المدن و القرى، و إذا بالمدينة تشاهد غبار جيش الإسلام المنتصر على الإمبراطورية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 447

يبدو في الأفق البعيد، و يقترب رويدا رويدا، و إذا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يزحف بهذه الجيوش المنتصرة في هيبة الرسالة السماوية، و يلتقي الإمام بالرسول تلاقي الأخ بأخيه في فرح و سرور، فقد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد خلّف عليا في المدينة لئلّا يفسد المتخلفون الجو، كما كانوا قد تآمروا، و هناك

قال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» «1»،

و يجي ء المتخلفون عن الجيش، ليعتذروا عما تقدم منهم من تفريط، و يطهروا آثامهم السالفة بالتوبة و الندم يَعْتَذِرُونَ أي يعتذر المتخلفون من المنافقين الذين كان عددهم ثمانين، و

قد تخلفوا في المدينة خوفا و نفاقا، و إرادة للتآمر على الرسول، و قلب أوضاع المدينة إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من غزوة «تبوك» بأعذار كاذبة باطلة لا حقيقة لها و لا واقع، كما هو شأن المنافق في كل زمان قُلْ يا رسول الله لهم: لا تَعْتَذِرُوا فإن اعتذاركم لا يفيدكم، فإنا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نصدقكم في ما تقولون قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ أخبرنا الله عز اسمه مِنْ أَخْبارِكُمْ و أعلمنا حقيقة أمركم، و أنكم لم تخرجوا نفاقا و جبنا لا لعذر مشروع.

و في بعض التفاسير أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى المسلمين أن يكلموهم أو يجالسوهم ليذوقوا و بال أمرهم، و لئلّا يتجرأ أحد على خرق أوامر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 31 ص 366.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 448

[سورة التوبة (9): آية 95]

سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)

الله و الرسول «1».

وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ أي سينظران في المستقبل إلى أعمالكم الدالة على نفاقكم و عدم صحة أعذاركم، فإن عمل الإنسان في المستقبل دليل على عمله في الماضي، فعمله بعضه من بعض ثُمَّ تُرَدُّونَ أي ترجعون إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ في الآخرة، و المراد بذلك: التهديد، و في الآخرة سيحاسبكم الله على أعمالكم التي صدرت منكم، كما يقول الحاكم للمجرم: «سترد إليّ» يريد تهديده بالعقاب فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم الله سبحانه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليها.

[95] و جاء رئيس المنافقين «عبد الله بن أبي» حالفا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يتخلّف بعد هذه الغزوة، و طلب من النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم أن يرضى عنه سَيَحْلِفُونَ سيقسمون بِاللَّهِ لَكُمْ أيها المؤمنون إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ إذا رجعتم إليهم و وصلتم إلى المدينة لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عن جرمهم، و لا توبّخوهم على ما صدر منهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إعراض ردّ و إنكار، لا إعراض صفح. و من البلاغة التشابه في اللفظ و الاختلاف في المعنى.

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 449

[سورة التوبة (9): الآيات 96 الى 97]

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)

إِنَّهُمْ رِجْسٌ أي نجس، و المراد نجاسة باطنهم، فهم كالشي ء المنتن النجس الذي يلزم الاجتناب عنه، و إلا أصاب الإنسان قذره و نتنه وَ مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ فهي مستقرّهم جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من النفاق و الآثام.

[96] يَحْلِفُونَ لَكُمْ يحلف هؤلاء المنافقون لكم أيها المسلمون، يريدون بذلك تقوية أعذارهم و تصديقكم لهم لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ طلبا لمرضاتكم حتى يؤمّنوا سعادتهم الدنيوية بينكم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ مجاملة، أو لعدم علمكم بواقعهم النفاقي فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الذين فسقوا و خرجوا عن طاعة الله سبحانه، ثم لم يرجعوا عن نفاقهم، قد علقت الآثام بقلوبهم فهي رجس نجس، و المراد: أن الواجب عدم إظهار المؤمنين الرضا عنهم، بعد ما علموا أن الله غير راض عنهم.

[97] و بعد ما ينتهي الكلام حول الكفار و المؤمنين و المنافقين من أهل المدينة و نحوها، يأتي دور ذكر الكفار و المؤمنين و المنافقين من أهل البوادي، فإن لأهل البوادي لونا خاصا يميّزهم عن

أهل المدن «فالأعراب أشد كفرا» لكفارهم، «مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً» لمنافقيهم «مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» لمؤمنيهم.

الْأَعْرابُ يقال: رجل أعرابي، إذا كان ساكنا في البادية سواء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 450

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 498

[سورة التوبة (9): آية 98]

وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

كان عربيا أو أعجميا، و يقال: رجل عربي إذا كان من العرب سواء سكن البادية أو المدينة أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً لأنهم حيث كانوا من أهل البادية سرت فيهم جفوة الصحراء و قساوة الجهل، فكفرهم و نفاقهم أشد من كفر كفّار أهل المدن و نفاق منافقي أهل الحضر، لبعدهم عن الحضارة و العلم و الآداب وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي أنهم أحرى و أولى بعدم العلم بالفرائض و السنن و سائر الحدود التي أنزلها الله سبحانه على رسوله، و إنما قال: «حدود» لأن حدود الأحكام أدق من نفس الأحكام، و لذا كثيرا ما يعرف الناس الأحكام، لكنهم لا يعلمون حدودها، أي خصوصياتها و ميّزاتها، حتى لا يدخل فيها شي ء ليس منها، و لا يخرج منها شي ء هو منها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بهم و بأحوالهم حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهى بالنسبة إليهم. و في الآية دلالة على ذم بقاء الإنسان أعرابيا- ساكنا للبادية-.

[98] وَ مِنَ الْأَعْرابِ منافقون و هم مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ في سبيل الله مَغْرَماً «المغرم» هو الغرم، و هو نزول نائبة بالمال، فهم يظنون أن ما أنفقوه في سبيل الله من جهاد أو غيره غرامة لحقت بأموالهم، حيث لا يرجون خيره و ثوابه، و لا يصدّقون بما

قال الله و الرسول في سبيل بذل الأموال و أجرها وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر بكم صروف الزمان و حوادث الأيام، فقد كان هؤلاء المنافقون ينتظرون الانكسار و الذلة و الفقر و ما أشبه للمؤمنين. و سميت الحوادث السيئة بالدوائر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 451

[سورة التوبة (9): آية 99]

وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

لأن الفلك يدور، فإذا دار جاء بالمكروه، و لذا يقال لمن يراد تحذيره:

«لا تغفل من دوران الفلك».

عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ هذا دعاء على أولئك الأعراب المنافقين بأن تدور الدائرة الآتية بالعاقبة السيئة عليهم، لا على المؤمنين وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالهم النفاقية عَلِيمٌ بضمائرهم و نواياهم، فيجازيهم عليها.

[99] وَ مِنَ الْأَعْرابِ قسم طيّب و هو مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فيعتقد بما جاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أحوال المعاد وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ فيعلم أن إنفاقه يقرّبه من الله سبحانه، فإن «قربات» جمع قربة، و هي الأعمال الخيرة التي تورث قرب العبد من الله سبحانه قربا تشريفيا عِنْدَ اللَّهِ فهي تبقى عنده سبحانه لا تضيع و لا تذهب عبثا، كما كان يظن بعض المنافقين الذين يتخذون إنفاقهم مغرما. وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أي يبتغي بما ينفق دعوات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يدعو له بالخير، فإن «الصلاة» بمعنى العطف و الرحمة و الدعاء، فهو عطف على «قربات» أَلا إِنَّها أي نفقاتهم قُرْبَةٌ لَهُمْ موجبة لقربهم إلى ساحة رضا الله سبحانه، فلهم ما ابتغوا، و يبشّرون بحسن

العاقبة سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ فتغمرهم الرحمة في الجنة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ بهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 452

[سورة التوبة (9): الآيات 100 الى 101]

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)

يتفضّل عليهم بالرحمة و الرضوان.

[100] و بعد ذكر أقسام من أهل البلاد و أهل البادية، يبيّن سبحانه أحوال الأمة بصورة عامة، و أن فيهم المؤمن و المنافق و الكافر، و أن لكلّ درجات و مراتب وَ السَّابِقُونَ إلى الإيمان و الطاعة الْأَوَّلُونَ بالنسبة إلى غيرهم، و إن كان فيهم الأول فالأول مِنَ الْمُهاجِرِينَ المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة وَ الْأَنْصارِ للإسلام و هم أهل المدينة الذين سبقوا إلى الإيمان و النصرة وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ أي بالإيمان و الطاعة، فإن الاتّباع يلزم أن يكون لشي ء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ و معنى رضاه أنه أكرمهم و أوجب لهم الخير و الجنة وَ رَضُوا عَنْهُ فهم فائزون بشرف الرضا، و من دخل قلبه الرضا عن الرب ارتاح و اطمأن وَ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها و قصورها خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا زوال لهم عنها، و لا تغيّر لها عنهم ذلِكَ الرضوان و الجنة الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و الفلاح الذي يصغر دونه كل شي ء، و إنما فضّل الله السابقين لما تحمّلوه من المشاق و الأتعاب في نصرة

الدين و الجهاد في سبيله.

[101] وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ أي في أطراف بلدكم مِنَ الْأَعْرابِ الساكنين في البادية، أي بعضهم مُنافِقُونَ يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 453

[سورة التوبة (9): آية 102]

وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أيضا منافقون مَرَدُوا أي تمرّنوا حتى صاروا ماهرين عَلَى النِّفاقِ و ذكرهم بهذه الصفة للإشعار بخطرهم، فإن المنافق الماهر أكثر خطرا من غيره من المنافقين لا تَعْلَمُهُمْ أي لا تدرك حقيقة نفاقهم و لا تعرف أشخاصهم، و هو تقرير لمهارتهم فيه، بحيث يخفون عليك حتى أنك لا تعلم ذلك. و هذا لا غضاضة فيه، فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يعلم الغيب إذا شاء الله. و من المعلوم أن الله إذا لم يشأ تعليمه بشي ء لم يعلمه. و من المحتمل أن يكون لفظة «لا تعلمهم» استعملت بقصد التهويل من نفاقهم، فإن مثل هذا اللفظ يستعمل بقصد شي ء آخر غير معناه، فيقال: «أنت لا تعرف زيدا كيف يحسن» يراد بذلك أنه كثير الإحسان.

نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ و نعرف حقائقهم سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ لعلّ المراد: مرّة في الدنيا بالتضييق عليهم و عدم هدوء بالهم، كما قال تعالى: (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1»، و مرّة في القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو عذاب النار في الآخرة.

[102] وَ آخَرُونَ من أهل المدينة و من الأعراب حولها اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ

فقد جاء بعض المتخلّفين معتذرين إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عما صدر منهم من التخلّف، و كانوا سبعة ندموا على قعودهم و تخلّفهم

عن

______________________________

(1) طه: 125. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 454

[سورة التوبة (9): آية 103]

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)

الجهاد في غزوة تبوك لما بلغهم ما نزل في المتخلفين، فأيقنوا على أنفسهم بالعذاب فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، فقدم رسول الله فدخل المسجد و صلّى ركعتين- و كانت هذه عادته إذا قدم من السفر- فلما رآهم موثقين سأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتى يحلّهم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و أنا أقسم أني لا أحلهم حتى أؤمر فيهم. فنزلت الآية، فأطلقهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا بعد ما فكّهم: هذه أموالنا، و إنما تخلفنا عنك بسببها، فخذها و تصدق بها و طهّرنا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا»، فنزلت (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها ..) «1».

خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ عملا آخَرَ سَيِّئاً فإنهم كانوا يقيمون الصلاة و يأتمرون بأوامر الرسول لكنهم تركوا الجهاد في تبوك عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ و إنما قال: «عسى» ليكونوا بين الخوف و الرجاء إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ بالناس يتفضّل عليهم بالرحمة.

[103] خُذْ يا رسول الله مِنْ أَمْوالِهِمْ أي أموال هؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا صَدَقَةً هي بعض أموالهم، و لذا جاء ب «من». و الظاهر من السياق أنها غير الصدقة المفروضة التي هي من الزكاة. و قد قال المفسرون: إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

أخذ ثلث أموال التائبين و ترك لهم الثلثين «2» تُطَهِّرُهُمْ تلك الصدقة عن دنس الذنوب

______________________________

(1) التوبة: 103.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 21 ص 201.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 455

و الخطايا، أو المراد تطهرهم أنت بتلك الصدقة، و تطهير الإنسان بالصدقة إنما هو تطهير معنوي، فإن للذنوب نجاسة، و الصدقة توجب تنظيف الإنسان من تلك النجاسة، لأنها موجبة للغفران و حتّ الآثام وَ تُزَكِّيهِمْ بِها «التزكية» هي التنمية أي توجب لهم النمو، و ذلك أعم من النمو الخلقي و الخلقي و سائر أقسام النمو، و سميت الزكاة زكاة، لأنها توجب نمو صاحبها، أو المال المزكّى، و «تزكيهم» خطاب، بخلاف «تطهّرهم» المحتمل للأمرين.

وَ صَلِ يا رسول الله عَلَيْهِمْ على معطي الصدقة، و المراد ب «الصلاة عليهم» الدعاء لهم، فإن الصلاة عبارة عن الدعاء، فإن صاحب الصدقة إذا دعا له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان جبرا لما يحسّ به من ألم فقد المال إِنَّ صَلاتَكَ عليهم سَكَنٌ لَهُمْ أي موجبة لسكون خاطرهم و هدوء بالهم و ارتياح نفوسهم.

روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أتاه آت بالصدقة قال: «اللهم صلّ عليه» «1».

و الظاهر تحقق الصلاة بكل لفظ أفاد الدعاء، نحو: «بارك الله لك أو آجرك الله» أو ما أشبه، كما أن الظاهر من السياق و التعليل أن الحكم عام لا يخص الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك لأن لنا برسول الله أسوة حسنة، فما دل على الخصوصية استثني، و ما لم يدل بقي على عموم الأسوة وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالك و أقوالهم عَلِيمٌ بصدقاتهم و ما نووه

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص

118.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 456

[سورة التوبة (9): آية 104]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)

من النيات الصالحة.

[104] أَ لَمْ يَعْلَمُوا أي: ألم يعلم هؤلاء المتصدقين، أو الناس جميعا؟! و هذا تحريض للناس على التوبة و التصدق، لا لأولئك التائبين الذين أرادوا أن يتصدقوا. فلا يقال: أنه لا مجال لمثل هذا الاستفهام إلا للمنكر، فلا يحسن أن يقول الإنسان لمريد الحج: «ألا تعلم أن للحج ثوابا عظيما»، بل إنما يحسن قول ذلك لمن يريد الحج. و إنما جاء الاستفهام في سياق قصة التائبين لإعطاء الصدقة للمناسبة أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فلا صغار في التوبة حتى يأنف الإنسان من الإنابة، إن طرف القبول هو الله العظيم الشأن، و هذا أمر طبيعي، فإن الإنسان لا يكره الاعتراف لدى العظيم، و إنما يكرهه لدى الحقير وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يقبلها، فليس الآخذ هو الفقير حتى لا يهتم الإنسان بشأنه، و إنما هو سبحانه، و ذلك يوجب الإعطاء بكثرة و احترام، لا بقلة و إهانة، كما هو الطبع البشري في إرادة إعطاء الشي ء لمن دونه.

و في الخبر: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل»

«1»، و هذا على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس، مبالغة في الأمر.

وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ كثير قبول التوبة، إما باعتبار الأفراد، و إما

______________________________

(1) فقه القرآن: ج 1 ص 222 ..

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 457

[سورة التوبة (9): آية 105]

وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ

وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

باعتبار كل فرد حيث أن الإنسان لو عصى ألف مرة و في كل مرة تاب قبلت توبته، إذا كانت توبة نصوحا الرَّحِيمُ الذي يرحم العباد و يتفضّل عليهم.

[105] و بمناسبة أن الله يقبل التوبة و يأخذ الصدقة، مما يدل على أنه سبحانه مطّلع على الأعمال، يأتي السياق لبيان أن كل الأعمال كذلك، و ليس ذاك خاصا بالتوبة و الصدقة، و إن الاطّلاع ليس خاصا بالله سبحانه بل الرسول و المؤمنون أيضا مشاركون له سبحانه في الاطّلاع على أعمال الناس، و إن كان هناك فرق بين الاطّلاعين، فالله سبحانه يعلم كل شي ء من كل أحد، و الرسول و المؤمنون مطّلعون بقدر ما يريد الله سبحانه.

وَ قُلِ يا رسول الله للناس عامة: اعْمَلُوا ما شئتم من خير و شر، إن كان المراد صبّ الكلام على أن عملكم سوف يرى، لأنه حينئذ تجرد الصيغة عن معنى الأمر، أو المراد: اعملوا الأعمال الحسنة فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ يعلمها سبحانه، و لعلّ دخول «السين» لأن الرؤية إنما تكون بعد وجود العمل وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ و ذلك واضح لا يحتاج إلى التأويل، أ رأيت أن الناس يعلمون الخير من الشر كما يعرفون مقادير الأشخاص في أعمالهم، منتهى الأمر أن الله سبحانه يعلم الخفايا بالتفصيل، و المؤمنون يعلمون بالإجمال.

و ربما يقال: إن دخول «السين» لتوحيد السياق بين الله و الرسول و المؤمنين، حيث أنهم لا يرون العمل إلا بعد زمان من وقوعه، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 458

[سورة التوبة (9): آية 106]

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

ربما يقال: إن الإتيان بهذه الآية عقب الآية السابقة

لإفادة أن التوبة المجردة لا تنفع و إنما اللازم تصديقها بالعمل.

و ما

ورد في بعض الأخبار: أن المراد بالمؤمنين الأئمة عليهم السّلام «1»

فهو من باب المصداق الظاهر، و إلا فالعموم على حاله، كسائر الآيات العامة التي لها مصاديق ظاهرة.

وَ سَتُرَدُّونَ أي ترجعون بعد موتكم إِلى عالِمِ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما يشهده الإنسان أي يحضره، و هو كل ما يدرك بالحواس الظاهرة، أي سترجعون إلى عالم السر و العلانية فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم للجزاء بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير أو شر.

[106] كان المتخلفون عن غزوة تبوك بين منافق معتذر، و منافق غير معتذر، و مخطئ معترف وَ هناك آخَرُونَ من المتخلفين مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ أي مؤخّرون موقوفون، من «أرجأ» بمعنى «أخّر» فلم يكن هذا القسم منافقا، و لا مخطئا، بل إنما تخلّف توانيا عن الاستعداد حتى فاته المسير، و لم يكن قبل نزول الآية قد بتّ في أمرهم بشي ء بل كان موكولا إليه سبحانه، إما يعذبهم بتوانيهم، و إما يتوب عليهم بسبب أنهم لم ينافقوا و لم تدنس قلوبهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ لعصيانهم و تخلفهم وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ لنقاء قلوبهم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 347.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 459

بنياتهم و سبب توانيهم عن غزوة تبوك حَكِيمٌ فيما يفعله بهم من العذاب و التوبة.

لكن الله سبحانه تاب عليهم أخيرا، و هؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى في آخر السورة «وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» «1» و كان من قصتهم ما ذكره المفسرون حيث قالوا: قد كان تخلف عن رسول الله قوم منافقون و قوم مؤمنون مستبصرون لم يعثر عليهم في نفاق و هم كعب بن مالك و

مرارة بن الربيع و هلال بن أمية، فلما تاب الله عليهم قال كعب: ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى تبوك و ما اجتمعت لي راحلتان إلا في ذلك اليوم فكنت أقول: أخرج غدا، أخرج بعد غد، فإني قوي، و توانيت و بقيت بعد خروج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أياما أدخل السوق و لا أقضي حاجة، فلقيت هلال و مرارة و قد كانا تخلّفا أيضا فتوافقنا أن نبكر إلى السوق و لم نقض حاجة، فما زلنا نقول: نخرج غدا و بعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فندمنا، فلما وافى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استقبلناه نهنّئه بالسلامة فسلمنا عليه، فلم يرد علينا السلام و أعرض عنا، و سلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام.

فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، و كنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد و لا يكلمنا، فجاءت نساؤنا إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا أ فنعتزلهم؟ فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لا تعتزلنهم و لكن لا يقربوكن، فلما رأى كعب و صاحباه ما حل بهم

______________________________

(1) المستدرك: ج 7 ص 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 460

[سورة التوبة (9): آية 107]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)

قالوا: ما يقعدنا بالمدينة و لا يكلمنا رسول

الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا إخواننا و لا أهلنا فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت.

فخرجوا إلى «ذناب» جبل بالمدينة فكانوا يصومون و كان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم فلا يكلمونهم، فبقوا على هذه الحالة أياما كثيرة يبكون بالليل و النهار، و يدعون الله أن يغفر لهم، فلما طال عليهم الأمر قال كعب: يا قوم قد سخط الله علينا و رسوله و سخط علينا إخواننا و سخط علينا أهلونا، فلا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه.

فبقوا على هذا ثلاثة أيام كلّ منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه و لا يكلمه، فلما كان في الليلة الثالثة و رسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله، و هو قوله سبحانه: «وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ ..» فأرسل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من يبشرهم، و جاءوا مسلّمين على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد بان السرور في وجهه الشريف صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تصدق كعب بثلث ماله شكرا لله تعالى «1».

و في بعض الأحاديث: انطباق الآية على مثل «الوحشي» قاتل حمزة عليه السّلام حيث أسلم بعد الجريمة، فإنه مرجأ لأمر الله إما يعذبه و إما يتوب عليه «2».

[107] ثم ذكر سبحانه قصة جماعة أخرى من المنافقين الذين ارتبطت

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 202.

(2) راجع الكافي: ج 2 ص 381.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 461

قصتهم بقصة تبوك و هم الذين أرادوا أن يتستروا بمسجد «ضرار» لحبك المؤامرات ضد الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمين، و أرادوا انقلاب الأمر في المدينة لكن الله وقى المسلمين شرهم و أعلم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما نووه من المكر.

فقد روى بعض أهل السير: أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب و كان قد تنصّر و له عبادة في الجاهلية و له شرف كبير في قبيلته الخزرج، فلما قدم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مهاجرا إلى المدينة و اجتمع عليه المسلمون و صارت للإسلام كلمة عالية و أظهرهم الله يوم بدر، شرق أبو عامر بريقه و بارز بالعداوة و ظاهر بها و خرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالؤهم على حرب رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب و قدموا عام أحد.

و كان من أمر المسلمين ما كان، و قد امتحنهم الله عز و جل و كانت العاقبة للمتقين، و كان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أصيب ذلك اليوم، فجرح وجهه، و كسرت رباعيته اليمنى السفلى و شج رأسه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و تقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم و حثهم إلى نصرته و موافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، و نالوا منه و سبّوه، فرجع و هو يقول: و الله لقد أصاب قومي شر. و لما فرغ

الناس من أحد و رأى أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ارتفاع و ظهور ذهب إلى «هرقل» ملك الروم يستنصره على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوعده و منّاه و أقام عنده، و كتب إلى جماعة من قومه من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 462

الأنصار من أهل النفاق و الريب يعدهم و يمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله و يغلبه و يردّه عمّا هو فيه، و أمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليه من عنده لأداء كتبه و يكون مرصدا لهم إذا قدم عليهم بعد ذلك.

فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد «قبا» فبنوه و أحكموه و فرغوا منه قبل خروج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى تبوك و جاءوا فسألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره و إثباته، و ذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم و أهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا على سفر و لكن إذا رجعنا إن شاء الله. فلما قفل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم راجعا إلى المدينة من تبوك، و لم يبق بينه و بينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه الوحي بخبر مسجد «ضرار» و ما أبطن بانوه من الكفر و التفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم- مسجد قبا- فأرسل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هدم المسجد و أحرقه، و أمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف و القمامة، و ردّ الله

كيده، فأصاب أبا عامر قبل رجوعه إلى المدينة بالقولنج و البرص و الفالج و اللّقوة، و بقي أربعين يوما في عذاب الدنيا، ثم هلك إلى عذاب السعير «1». و في هذه القصة نزلت هذه الآيات:

وَ منهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا أي بنوا مَسْجِداً و هو اسم لبقعة يتّخذ للصلاة، و إن كان أصله بمعنى موضع السجود ضِراراً أي مضارّة، فإنه مصدر من باب «المفاعلة»، يقال: «ضارّ ضرارا و ضيرارا»،

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري: ص 487.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 463

[سورة التوبة (9): آية 108]

لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)

فإنهم بنوه لأجل الإضرار بالمسلمين وَ كُفْراً لأجل الكفر وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أي لاختلاف الكلمة و إبطال الألفة، و جعل المسلمين طائفتين، الموالي للرسول، و المخالف له وَ إِرْصاداً لأجل الإعداد للفتنة، و أن يجعلوه محل رصد و إشراف لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ و هو أبو عامر الراهب. و هذا أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي هو من أخيار المؤمنين، و قد تقدم أن أبا عامر كان حربا للرسول من قبل غزوة تبوك. و قد سماه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ب «الفاسق».

وَ لَيَحْلِفُنَ أي يحلف هؤلاء الذين اتخذوا المسجد و كانوا اثني عشر إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا ببنائنا للمسجد إِلَّا الْحُسْنى أي الفعلة الحسنة، من إقامة الصلاة، و درك الجماعة في الليلة الشاتية و الممطرة للضعفاء و نحوهم وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فإنهم لم يريدوا ببنائه الحسنى، بل السوءة و التآمر على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و

كفى بالله شهيدا على ذلك، بالإضافة إلى ما عرف بعد ذلك من الأدلة و الشواهد.

[108] لا تَقُمْ يا رسول الله فِيهِ في ذلك المسجد أَبَداً يقال:

«فلان يقوم الليل» أي يصلّي، و المعنى: لا تصلّ في ذلك المسجد، و لم يكن هذا خلفا من الرسول لوعده بالصلاة فيه،

لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إن شاء الله»

فلم يشأ الله و نهاه عن ذلك لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 464

[سورة التوبة (9): آية 109]

أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)

أي بني أصله على تقوى الله، و طاعته مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ منذ أول يوم وضع أساسه، و هو مسجد «قبا» فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما هاجر إلى المدينة أقام هناك أياما و بنى فيه هذا المسجد و صلى فيه، ثم انتقل إلى المدينة، و بنى فيه مسجده الذي دفن في حجرة مجاورة له أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ للصلاة، من مسجد «ضرار».

و لا يراد بهذا أن يصلي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دائما في مسجد «قبا» بل إنه إذا أراد الصلاة هناك- خارج المدينة- فمسجد «قبا» أولى بالصلاة فيه من مسجد «ضرار» فِيهِ في هذا المسجد. و المراد بالظرف ذلك المكان، أي أن القبيلة الموجودة هناك و هم بنو عمرو بن عوف رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من لوث المعاصي و الذنوب، و ليسوا مثل بني غنم أصحاب مسجد ضرار الذين بنوه، فهم رجال يحبون النجاسة و لوث المعاصي وَ اللَّهُ

يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أي المتطهرين.

و هناك معنى آخر للتطهير

فقد روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال لأهل قبا: «ماذا تفعلون في طهركم فإن الله قد أحسن عليكم الثناء». قالوا نغسل أثر الغائط. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنزل فيكم هذه الآية» «1».

أقول: لأنه كان المتعارف عندهم في ذلك الوقت الاستنجاء بالخرق و الأحجار.

[109] ثم بيّن سبحانه الفرق بين البناءين، و بين الفريقين، و أن أحد البناءين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 254.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 465

[سورة التوبة (9): آية 110]

لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

راسخ ثابت و الآخر هاو منهار، و أن أحد الفريقين صلد الإيمان قوي العقيدة، و الآخر شاكّ ذو ريبة و تزلزل أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ أي بنيان أمره و دينه و منهجه عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ فهو يتحرّى التقوى في كل أعماله وَ رِضْوانٍ أي رضى الله سبحانه، فلا يعمل شيئا إلا إذا علم أن فيه رضاه سبحانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ «شفا جرف» نهاية الشي ء في المساحة، و «جرف الوادي» نهايته التي تنجرف بالماء، و «هار الجرف يهور»، إذا أشرف على السقوط و الهدم، و «أنهار» بمعنى سقط. فقد شبه سبحانه بنيان المنافق بالبناء الذي بني على شفا جرف جهنم و كان الجرف هائر فَانْهارَ الجرف بِهِ أي بالبناء، أو أنهار البناء بصاحبه فِي نارِ جَهَنَّمَ فذهبت أتعابه أدراج الرياح. و المعنى: أنه لا يستوي عمل المتقي و عمل المنافق فإن عمل المتقي ثابت راسخ و عمل المنافق هاو منهار وَ اللَّهُ لا

يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فإن الإنسان الذي صار الظلم عالقا بقلبه، ينغلق فؤاده، فلا تدخله أشعة الهداية. و المراد بعدم الهداية: أنه يتركهم و شأنهم و لا يلطف بهم الألطاف الخاصة.

[110] ذاك كان مثل بنيانهم- من بناء المسجد- ثم انتقل سبحانه إلى البناء العام في حياتهم و مناهجهم في الدنيا، و انتقل إلى تصويره ببناء حسّي يبنى على جرف هار، فكما أن ذلك البناء ينحرف و يسقط، كذلك أعمالهم تسقط بهم في جهنم. و هنا مثل آخر لعقيدتهم الكائنة في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 466

[سورة التوبة (9): آية 111]

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

قلوبهم و المختلجة في صدورهم لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا أي ما بنوا عليه حياتهم من النفاق رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ سببا للتزلزل و الشك في قلوبهم، فإن الإنسان كيفما بنى حياته و قرّر منهجه، يكون معتقده و ضميره، فهم مقسّمو القلوب بين المؤمنين و الكافرين «لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ» إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ تصير قطعة قطعة، فتزول الريبة بزوال موضعها، و إلا فما دام هؤلاء على ذلك البناء و المنهج، فالريبة لازمة لقلوبهم لا تنفك عنها أبدا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بنياتهم حَكِيمٌ فيما يفعله بهم.

[111] ثم يحرّض الله المؤمنين على الجهاد مبيّنا الثواب العظيم لمن جاهد قائلا: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ فأنفسهم لله سبحانه، و أموالهم له تعالى، لا يحق لهم أن يخلّوا بالنفس أو المال

بعد هذه المبايعة التي عقدوها مع الله بقبول الإيمان، و قد كان في مقابل هذا المبيع بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ فالجنة بدل بذل النفس و المال في سبيل الله تعالى. و لا يخفى أن بيع النفس إنما هو لصرفها في مراضيه لسانا و قدما و قلما و سائر ما يتعلق بالبدن، فليس الأمر خاصا بالجهاد، و من أهمّ الأغراض في هذه المعاملة ما بيّنه بقوله: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لأجل إعلاء كلمته فَيَقْتُلُونَ الكفار تارة وَ يُقْتَلُونَ يقتلهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 467

الكفار تارة أخرى، و كون الجنة لهؤلاء وَعْداً عَلَيْهِ على الله حَقًّا و «وعدا» منصوب بالمصدر، لأن «اشترى» يدل على أنه سبحانه وعد بذلك، فإن المعاملة تستوجب وعد الطرفين ببذل السلعة، و بذل المال فِي التَّوْراةِ لموسى عليه السّلام كان هذا الوعد وَ الْإِنْجِيلِ لعيسى عليه السّلام وَ الْقُرْآنِ فإن وعد الجنة لمن باع نفسه و ماله في سبيل الله مذكور في هذه الكتب الثلاثة لهؤلاء الأنبياء العظام.

وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ استفهام في معنى الإنكار، أي لا أحد أكثر وفاء من الله، فهو إذا وعد لا يخلف البتّة، أما غيره فإنه و إن كان لا يخلف بإرادته، لكنه قد يطرأ ما يضطرّه إلى الخلف فَاسْتَبْشِرُوا أيها المؤمنون بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ الضمير في «به» يرجع إلى «بيعكم» أي: افرحوا بهذه المعاملة، و «الاستبشار» هو شدة الفرح الذي يظهر أثره في وجه الإنسان، و أي بيع أحسن من هذا؟ إنه إعطاء المال لمالكه ثم أخذ العوض منه، ثم إن النفس في سبيل الفناء، و المال في سبيل الذهاب، فما أفضل أن يشتري بهما الإنسان شيئا باقيا دائما.

قال الإمام علي عليه

السّلام: و إن كانت الأبدان للموت أنشأت* فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل «1»

______________________________

(1) ديوان الإمام علي عليه السّلام: ص 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 468

[سورة التوبة (9): آية 112]

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

و قيل

و إن كانت الأموال لا بد تنفني* فتقديمها لله و الدين أجمل

وَ ذلِكَ البيع هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و الفلاح الذي لا يقابله فلاح.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة: «إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها»

«1».

و فيه: «فلا أموال بذلتموها للذي رزقها و لا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها» «2».

قال الشاعر:

أنفاس عمرك أثمان الجنان فلاتشري بها لهبا في الحشر تشتعل

و قد كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و أهل بيته الطاهرين من أفضل مصاديق هذه الآية.

[112]

روي في الكافي عن الإمام الصادق عليه السّلام: أنه لما نزلت هذه الآية:

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» قام رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا نبي الله أ رأيتك الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتى يقتل، إلّا أنه يقترف من هذه المحارم أ شهيد هو؟ فأنزل الله على رسوله: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...» «3».

______________________________

(1) نهج البلاغة: الكلمات القصار رقم 456.

(2) نهج البلاغة: خطبة 116.

(3) التوبة: 112.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 469

أقول: قد وصف سبحانه المؤمنين الذين اشترى أنفسهم و أموالهم مقابل الجنة بهذه الأوصاف فقال: التَّائِبُونَ أي الراجعون إلى طاعة الله، من «تاب» إذا رجع. و لا يخفى أن الرجوع و التوبة لا يلازمان العصيان، و لذا ورد في القرآن: (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ) «1»، فإن العصيان

أشد أفراد البعد عنه سبحانه، و إلّا فكل نومة و أكلة و تكلّم مع الناس مما يسبب الغفلة عنه سبحانه تحتاج إلى التوبة و الأوبة. فلا يقال: كيف وصف الإمام عليه السّلام- و هو معصوم- بالتوبة، بعد ما ذكرتم أن الآية نزلت في شأنه؟ ثم إن «التائبون» رفع بالقطع، أي هم التائبون، كما قال ابن مالك:

و اقطع أو اتبع إن يكن معينابدونها أو بعضها اقطع معلنا

الْعابِدُونَ الذين يعبدون الله وحده و لا يشركون به شيئا الْحامِدُونَ الذين يحمدون الله سبحانه السَّائِحُونَ الذين يسيحون في الأرض، أي يسيرون فيها، للاعتبار و لطلب العلم كما قال سبحانه: (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) «2».

و ينسب إلى الإمام عليه السّلام:

تغرب عن الأوطان في طلب العلاو سافر ففي الأسفار خمس فوائد

و في بعض التفاسير: أن المراد ب «السائح» الصائم، لقول

______________________________

(1) التوبة: 117.

(2) الملك: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 470

[سورة التوبة (9): آية 113]

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113)

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سياحة أمتي الصيام» «1».

الرَّاكِعُونَ الذين يركعون، إما مطلقا لاستحباب الركوع تعظيما له سبحانه، أو المراد الركوع في الصلاة السَّاجِدُونَ في الصلاة أو مطلقا الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ و هو كل حسن يستحسنه الشرع أو العقل وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هو كل قبيح يستقبحه الشرع أو العقل.

و لا يخفى أنه بهذا المعنى الذي ذكرنا، ليس ترك كل معروف منكرا، فقراءة القرآن مثلا في يوم الجمعة معروف فليس تركها منكرا، كما أنه ليس ترك كل منكر معروفا فأكل الجبن- و هو مكروه- منكر فليس ترك

أكله معروفا. نعم يتلازم الأمران في الواجب و الحرام.

وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي العاملون بالحدود، القائمون عليها في جميع أبواب العبادة و المعاملة، و سائر ما ورد في الشريعة وَ بَشِّرِ يا رسول الله الْمُؤْمِنِينَ الذين يجمعون هذه الصفات، بأن لهم كل خير و سعادة.

[113] و لما سبق حرمة موالاة الكافرين و المنافقين حتى الصلاة عليهم، و القيام على قبورهم، و الصلاة في مسجدهم، بيّن سبحانه حرمة الاستغفار لهم أحياء كانوا أم أمواتا، فإن الاستغفار أي طلب غفران الله لعدو الله لا يصح، إذ هو غير قابل للمغفرة.

و ذكر بعض المفسرين: أن بعض المسلمين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 8 ص 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 471

[سورة التوبة (9): آية 114]

وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

لنا أن نستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الكفر. فنزلت هذه الآية «1».

لكن الظاهر أن ذلك غير طلب الغفران للكافر الحي، بمعنى طلب هدايته من الله ليستحق الغفران، فإذا قال: اللهم اغفر له، عنى:

اهده، ليكون قابلا للمغفرة.

فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام: «أن إبراهيم عليه السّلام وعده أبوه آزر أن يسلم، فاستغفر له، فلما تبيّن له أنه عدو لله، تبرأ منه»

«2». كما أن الظاهر أن الخيرات للأقارب الكفار الذين ماتوا لا بأس بها، فإن ذلك موجب لتخفيف العذاب، و هو غير الاستغفار بطلب المغفرة، و قد ورد بذلك أحاديث كثيرة.

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ بأن يطلبوا من الله الغفران لمن أشرك بالله. و من المعلوم أنه لا خصوصية

للمشرك، بل ذلك لا يجوز بالنسبة إلى كل كافر وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي كان المستغفر لأجله صاحب قرابة للمؤمن المستغفر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي من بعد أن علم المؤمنون أن أولئك المشركين هم أصحاب النار.

[114] و لما كان هنا موضع سؤال و هو: كيف يحرم الاستغفار للكافر مع أن إبراهيم عليه السّلام استغفر لأبيه- و هو عمّه، و إنما يسمي العرب العم بالأب

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 132.

(2) بحار الأنوار: ج 71 ص 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 472

تعظيما- و الحال أن آزر كان كافرا؟ ورد قوله سبحانه: وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ أي وعد الأب إبراهيم بأن يؤمن فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي لإبراهيم أَنَّهُ أي أباه عَدُوٌّ لِلَّهِ و أنه لا يؤمن تَبَرَّأَ مِنْهُ و ترك الاستغفار له. و قد تقدم الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام بذلك.

و روي: أن إبراهيم قال لأبيه: إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك، فلما لم يدع الأصنام تبرأ منه

«1». و من المعلوم أنه لا منافاة بين الأمرين. و على أي حال فعمل إبراهيم لا ينافي عموم «ما كان للنبي و الذين آمنوا».

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي دعّاء، كثير الدعاء و البكاء، و أصل «الأواه» مبالغة- على وزن ضرّاب- من «التأوّه» بمعنى: التوجّع و التحزّن حَلِيمٌ يحلم عن الناس حتى عن الكفار، لعلّه يدخلهم في حظيرة الإيمان بحلمه. و أما مناسبة «أواه» للمقام فظاهرة، إذ مقتضى كثرة الدعاء أن يدعو حتى للكافر الذي يحتمل أن يؤمن.

و من المفسرين من أقحم في الآية ما اختلقته الأهواء الأموية من كفر أبي طالب، و لقد

كان أبو طالب عليه السّلام من أشد المؤمنين بالله و رسوله حتى

أنه قال عليه السّلام:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 77. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 473

[سورة التوبة (9): آية 115]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (115)

و لقد علمت بأنّ دين محمد* من خير أديان البرية دينا

و حتى أنه حين مات نزل جبرئيل قائلا للرسول: «مات ناصرك فاخرج من مكة» «1». و سمى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عام وفاته و وفاة خديجة «عام الحزن» «2». و إنما الكلام هنا أن ذلك لا يرتبط بالتفسير، و إنما يرتبط بالتعصّب، و كم أخفى التعصب الحق.

[115] إن ما يستفاد من الآيات السابقة من انقطاع صلة المؤمنين عن الكافرين، يوجب التساؤل، و هو: ماذا يعملون بما سلف من الأموات الكافرين، فقد كانت الوشائح بين المؤمنين و الكافرين قوية و كانوا يحسنون إليهم أحياء و يستغفرون لهم أمواتا؟ و لذا ورد: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بأن يصرفهم عن طريق الهدى و يحكم بضلالهم، بأعمال عملوها قبل النهي و التحريم بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ إلى الإيمان حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ من أوامره و نواهيه، فإذا بيّن لهم ثم خالفوا، استحقوا العقاب و الحكم بالضلال، و هكذا قوله سبحانه: (ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «3»، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم من عمل قبل التحريم و من عمل بعد التحريم، فيجزي كلّا حسب عمله.

و في بعض التفاسير: إن سبب نزول هذه الآية، أنه مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، فقال المسلمون: يا

______________________________

(1) إيمان أبي طالب:

ص 259.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 25.

(3) الإسراء: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 474

[سورة التوبة (9): الآيات 116 الى 117]

إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)

رسول الله إخواننا المؤمنون الذين ماتوا قبل الفرائض ما هي منزلتهم؟

فنزلت: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ ..» «1».

[116] إِنَ المؤمن الذي يبيع نفسه لله قد ربح كل شي ء، و إن قطع صلته بأقرب الناس إليه حتى في الاستغفار ف اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا مالك فيهما سواه يُحْيِي الجماد وَ يُمِيتُ الأحياء، فالأرض الميتة يجعل منها نباتا و إنسانا و حيوانا، كما أنه يرد هذه الأحياء إلى الأرض فيجعلها جمادا وَ ما لَكُمْ أيها المسلمون مِنْ دُونِ اللَّهِ سواه مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ فلا يتولّى شؤونكم و لا ينصركم غيره، فمن له الملك، و بيده الحياة و الموت، و يتولّى و ينصر أحق بأن يربط الإنسان صلته به دون سواه، و يترك غيره لأجله، و لو كان أقرب قريب إليه.

[117] ثم ذكر سبحانه قصة جماعة تخلفوا عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم لحقوا به، أو تابوا بعد ذلك.

فقد ذكر الرواة أن عبد الله بن خيثمة تخلف عن غزوة تبوك إلى أن مضى من مسير رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة أيام، ثم دخل يوما على امرأتين له في يوم حار في عريشين

لهما قد رتبتاهما و برّدتا الماء و هيأتا له الطعام، فقام على العريشين ثم قال: سبحان الله، رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، في الفتح و الريح و القرّ يحمل سلاحه على عاتقه، و أبو خيثمة في ظلال باردة و طعام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 42. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 475

مهيأ و امرأتين حسناوين، ما هذا بالنصف. ثم قال: و الله لا أكلم واحدة منكما كلمة و لا أدخل عريشا حتى ألحق بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فأخ ناضحه و اشتد عليه و تزوّد و ارتحل و امرأتاه تكلمانه و لا يكلمهما.

ثم سار حتى إذا دنا من تبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق.

فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كن يا أبا خيثمة أولى لك، فلما دنا قال الناس: هذا أبو خيثمة يا رسول الله، فأناخ راحلته و سلّم على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أولى لك. فحدثه الحديث، فقال له خيرا و دعا له. و هو الذي زاغ قلبه للمقام ثم ثبّته الله «1».

و نقل الرواة: أن ممن لقي العسر في هذه السفرة أبا ذر الغفاري رحمه اللّه فقد كان جمله أعجف تخلف به في الطريق حتى أنه لحق بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ثلاثة أيام و وقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه و حمل ثيابه على ظهره، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كن أبا ذر فقالوا:

هو أبو ذر.

فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أدركوه بالماء فإنه عطشان. فأدركوه بالماء، و وافى أبو ذر رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه إداوة فيها ماء فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا ذر معك ماء و عطشت؟ فقال: نعم يا رسول الله بأبي أنت و أمي انتهيت إلى صخرة و عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد، فقلت: لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا أبا ذر رحمك الله تعيش وحدك، و تموت وحدك، و تدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من العراق يتولون

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 202. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 476

غسلك و تجهيزك و دفنك» «1».

لَقَدْ تابَ اللَّهُ أي تحنّن و لطف، فإن «تاب» لغة بمعنى:

غفر، و بمعنى: رجع بفضله عَلَى النَّبِيِ و ما ورد في بعض الأحاديث «بالنبي» إنما أريد به نفي كون معنى التوبة بالنسبة إلى النبي صادرة عن عصيان وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ فهم بين من يستحق المغفرة لمعصية صدرت عنه، و بين من يستحقها تفضّلا الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي اتبعوا النبي فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي وقت صعوبة الأمر، و ذلك في غزوة تبوك، فقد كانوا في صعوبة من جهة المركب، و من جهة الماء و الزاد، و من جهة الحر، و من جهة التعب للسفر الطويل، و من جهة الخوف من الأعداء، فقد كان العشرة منهم يتراوحون على بعير و زادهم الشعير المسوس، و التمر المدود، و الإهالة السنخة «و هو

ما أذيب من الشحم المتغير الريح»، و كانوا يمصون تمرة واحدة، و هم جماعة كثيرة، يخرجها هذا من فيه فيمصها الآخر و هكذا حتى لا يبقى إلا النواة مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ يميل و ينحرف قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الجهاد، فأرادوا البقاء في المدينة أو بقوا ثم لحقوا بالرسول كأبي خيثمة.

ثُمَّ تابَ الله عَلَيْهِمْ من بعد ذلك الزيغ و الانحراف إِنَّهُ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 429.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 477

[سورة التوبة (9): آية 118]

وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

تعالى بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم، و بما عملوه من الكسل و المطل.

[118] وَ لقد تاب الله عَلَى الثَّلاثَةِ أشخاص الَّذِينَ خُلِّفُوا عن غزوة تبوك، كأن الشيطان خلّفهم و هم من تقدم ذكرهم مفصّلا في قوله سبحانه: «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ» حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ «ما» مصدرية، أي: مع رحبها- بالضم- وسعتها، ضاقت عليهم لأن الناس قاطعوهم بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإنسان إذا قاطعه الأصدقاء تضيق نفسه، حتى يظن أن الأرض ضيقة لا مجال له فيها وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ كأنهم لم يجدوا لأنفسهم موضعا يخفونها فيه، و هذا كناية عن شدة غمّهم. و لعل وجه «ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» أن الإنسان إذا غمّ غمّا شديدا تسخن شرايينه و أعضاؤه، فلا يكفي النّفس المجذوب لتبريدها، فيحسّ بأن نفسه قد ضاقت، لأنها لم يصل إليها الهواء الكافي.

وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ

اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أنه لا موضع للفرار من سخط الله سبحانه إلا إليه نفسه تعالى، فإنه سبحانه قد أحاط بأقطار الأرض و آفاق السماء فكيف يمكن الفرار منه إلا أن يتوجه الإنسان إليه بالتوبة و الاستغفار، و لعل الإتيان بلفظة «الظن» هنا لإفادة الحالة النفسية للإنسان المجرم حيث أنه لا يفكر في الملاجئ الممكنة، فهو يتردّد بين هذا أو ذاك، و إن ترجّح في نفسه الملجأ الحقيقي و هو الله تعالى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 478

ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي تاب الله عليهم و رجع إليهم بعد أن أعرض عنهم بقبوله توبتهم في التخلف عن تبوك لِيَتُوبُوا أي يرجعوا إلى حالتهم الأولى قبل المعصية، فيكون لهم ما للمسلمين لا يقاطعون و لا ينبذون إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ مبالغة في «التائب»، فإنه سبحانه كثير الرجوع إلى عباده إن رجعوا إليه، و ليس ككبرياء الناس حيث أنه إن قطعوا عن أحد لا يعودون إليه، و لو عادوا لم يتكرر ذلك منهم مرات و مرات، فالإنسان مهما عصى و تاب، قبل الله توبته إذا كانت توبة نصوحا، و إن نقض التوبة قبل ذلك ألف مرة الرَّحِيمُ يرحم العباد و يتفضل عليهم بلطفه، فليست توبة مجردة، و إنما مع التفضيل و التكرّم.

لقد كان هؤلاء الثلاثة المتخلفون- كعب و مرارة و هلال- أرجئوا، في الآية السابقة «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ» ثم تاب الله عليهم هنا، و كان في كلا الأمرين أبلغ حكمة، و خير تأديب و موعظة.

و هنا كلمة لا بد من بيانها و هي أن الناظر في الآيات يرى أن بعض العاصين كان الله و الرسول يعفوان عنهم كهؤلاء، و بعضهم يبقون موضع السخط و الغضب ك «ثعلبة»

الذي تقدمت أحواله، إن هذا يكشف عن الفرق بين العصاة، فمن أصلح منهم و طهر قلبه استحق العفو و الغفران، أما من أبدى التوبة و قلبه ملوّث بالذنوب و النفاق، فلم يكن تنفعه الندامة، و لذا كان مطرودا من رحمة الله، و قد بيّن سبحانه أن قبول التوبة مشروط بالطهارة و النقاء، كما في قوله تعالى: (ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا) «1»، و غيرها من الآيات.

______________________________

(1) المائدة: 94.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 479

[سورة التوبة (9): الآيات 119 الى 120]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)

[119] و بمناسبة توبة هؤلاء و صفاء باطنهم في التوبة، و صدقهم في الرجوع إلى الحق، يأتي السياق ليبيّن وجوب كون الإنسان متقيا منضما إلى جماعة الصادقين، لينال الخير و الغفران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ اجتنبوا معاصيه و خذوا بأوامره وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ و «المعية» هنا تفيد المعية الانضمامية، و المعية العملية، بأن يصدق الإنسان، و ينضم مع الزمرة الصادقة، لينال كل خير و فضل. و قد ورد في أحاديث كثيرة: أن المراد بهم أمير المؤمنين و آله الطاهرين «1»، و هذا من باب أظهر المصاديق كما لا يخفى.

[120] ثم يأتي البيان العام للمسلمين بوجوب اتباع الرسول في كل أمر و عدم التخلّف عنه في

غزو أو غيره ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ إنه خبر في معنى النهي، أي: لا يجوز للمسلمين من أهل المدينة وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أهل البدو، و تخصيص هؤلاء بالذكر ليس لأجل خصوصية فيهما دون سائر المسلمين، و إنما لأجل كونهما محل أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غالبا، في الجهاد و نحوه، و إلا فالمسلمون كلهم كذلك أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ في غزوة أو سفرة أو سائر ما يريده منهم و يعمله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، وَ لا لهم أن يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ الكريمة بأن يطلبوا لأنفسهم من الخير و الراحة دون نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بأن يؤثروا

______________________________

(1) تفسير فرات الكوفي: ص 174.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 480

أنفسهم على نفسه فإذا أراد الجهاد تركوه يقاسي الحر و البرد، و هم في مساكنهم هادئون آمنون. يقال: «رغبت بنفسي عن هذا الأمر» أي ترفعت بها عنه.

ذلِكَ النهي لهم و الزجر عن التخلف، ليس بلا عوض و لا مقابل، و إنما لهم بكل حركة و سكون و تعب أجر و ثواب بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ في سفرهم ظَمَأٌ عطش وَ لا نَصَبٌ تعب في أبدانهم وَ لا مَخْمَصَةٌ بمعنى المجاعة، و أصله ضمور البطن للمجاعة، يقال: «رجل خميص البطن»، أي ضامرها من الجوع، و المعنى: لا يصيبهم جوع فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لإعلاء كلمته وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي لا يضعون أقدامهم موضعا يسبب غيظ الكفار، و المراد: إما وطي أراضي الأعداء، فإنهم يغيظون إذا رأوا واحدا يطأ محلّهم، أو الذهاب مطلقا، فإن الكفار يغيظون بسير المسلمين إليهم لإرادة الغزو.

وَ لا

يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا لا يصيبون من الكفار أمرا، من قتل أو جراحة أو مال أو سبي أو ما أشبه إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لهؤلاء المسلمين المجاهدين بِهِ بسبب ذلك العمل عَمَلٌ صالِحٌ و طاعة مقبولة إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا و عملوا الأعمال الحسنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 481

[سورة التوبة (9): الآيات 121 الى 122]

وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

[121] وَ لا يُنْفِقُونَ هؤلاء المسلمون، في الجهاد نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً أي قليلة أو كثيرة وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً أي لا يجتازون أرضا في مسيرهم إلى الكفار للجهاد إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك ليثابوا عليه لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أي يكتب ذلك للجزاء ب أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ جزاء أحسن أعمالهم، أو أحسن جزاء أعمالهم. و على الأول:

فالسكوت عن سائر الأعمال ليس لعدم الجزاء و إنما لوضوح أن من يجزي على الأحسن يجزي على غيره. و على الثاني: يكون المعنى أنه سبحانه يجازيهم بجزاء هو أحسن من عملهم، فلو استحق عملهم جزاء ألف دينار، أعطاهم ألفين.

[122]

ورد أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا خرج غازيا لم يتخلّف عنه إلا المنافقون و المعذورون، فلما بيّن سبحانه عيوب المتخلّفين- في غزوة تبوك- قال المؤمنون: و الله لا نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا سرية من سراياه. فلمّا أمر رسول الله

بالسرايا إلى الغزو أراد المسلمون أن ينفروا جميعا، و كان ذلك مستلزما لأن يبقى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده، فنهاهم الله عن ذلك.

أقول: في الآية احتمالات نذكر أقربها إلى الظاهر و إلى السياق- أي الارتباط بالقصة المتقدمة في غزوة تبوك-.

وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً هذا نفي معناه النهي، أي:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 482

ليس للمؤمنين أن ينفروا و يخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم و يتركوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحيدا فَلَوْ لا تحضيض و حث، بمعنى: أن اللازم ذهاب بعض و بقاء بعض نَفَرَ و خرج إلى الجهاد مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ من كل قبيلة و نحوها طائِفَةٌ جماعة، و يبقى من كل فرقة جماعة آخرون لِيَتَفَقَّهُوا أي ليتفقه هؤلاء الباقون- المفهوم من قوله: «نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ»- فِي الدِّينِ يبقون خدمة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليتعلموا أحكام الإسلام التي تنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تدريجا وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ينذر الباقون قومهم النافرين إِذا رَجَعُوا رجع النافرون إِلَيْهِمْ أي إلى الباقين لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أي يحذر النافرون عما أنذروا به.

فلنفرض أن زيدا ذهب إلى الجهاد، و بقي عمرو و تعلم من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرمة الاستمناء- مدة غياب زيد- فإذا رجع زيد حذره عمرو عن الاستمناء حتى يترك و ينقلع. و لو كان المعنى على هذا السياق المذكور لكان فهم وجوب الذهاب إلى مراكز العلم لتحصيله، بالفحوى، لأن المقصود من البقاء عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس إلا تعلم الحكمة و إفادتها للغائب، و كذلك من يسافر

في طلب العلم ثم ينذر أهله إذا رجع إليهم.

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: «كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله أن ينفر منهم طائفة و تقيم طائفة للتفقه، و أن يكون الغزو نوبا»

«1». و لا ينافيه

ما ورد عن الإمام الصادق- لأن الظاهر إرادة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 157. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 483

[سورة التوبة (9): آية 123]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

الفحوى- في تفسير الآية، «فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله و يختلفوا إليه، فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم ..» «1».

ثم إنه لو قلنا: إن الآية مستقلة برأسها لا ترتبط بما قبلها، يكون المعنى: أن اللازم على كل طائفة من كل فرقة من المسلمين المنتشرين هنا و هناك أن يذهبوا إلى طلب العلم في مراكزه ثم ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم حتى يحذروا عن ترك الواجبات و إتيان المحرمات.

و تكون المناسبة بينها و بين الآيات السابقة بيان أن النفر واجب في مقامين: في مقام الجهاد و في مقام العلم. و لا يخفى أن الآية تشمل التفقه بنحو الاجتهاد، و بنحو أخذ الرواية، و نحو بيان المسائل بعد أخذها عن المجتهد، فهي أعم من الاجتهاد و الوعظ و نشر المسائل.

[123] و إلحاقا بما تقدم من أمر الجهاد، يأتي السياق ليبيّن خطة الإسلام في جهاد الكفار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من «ولي يلي» إذا قرب، أي: يقربونكم- في الأرض- مِنَ الْكُفَّارِ فقاتلوا الأدنى فالأدنى، و ذلك لتتصل أرض الإسلام بعضها ببعض و لا تحدث بينها فجوة يتّخذها العدو مرصدا و قاعدة لمحاربتكم.

و قد دلّ الدليل على جواز مقاتلة الأبعد إذا كان المسلمون في أمن من الأقرب لمهادنة أو معاهدة أو ما أشبه وَ لْيَجِدُوا أي يجد الكفار فِيكُمْ غِلْظَةً و خشونة، فإن ذلك مما يسبب انهيار معنويات العدو، لكن ليست «الغلظة» بالمثلة و نحوها فقد حرّم الإسلام ذلك كما منع عن قتل المرأة

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 27 ص 140.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 484

[سورة التوبة (9): آية 124]

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)

و الصبي و الفاني و الراهب و ممن لا يساعد المحاربين وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فلا تتركوا التقوى كما لا يرعوي المحاربون- إذا فتحوا البلاد- من كل إثم و شناعة، فإن الإسلام جاء محرّرا لا فاتحا، فليس للجيوش الإسلامية أن تفعل ما تشاء إذا غلبت.

و قد زجر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلالا حين رأى من بعض النساء اليهوديات- من أهل خيبر- تغيرا فسألهن ما بالهن؟ فلما أجبن بأن بلال مرّ بهن على مصارع قتلاهن- يعني يهود خيبر- قال الرسول لبلال زاجرا: كأن الله نزع الرحمة من قلبك!

[124] و يأتي السياق ليبيّن كلام المنافقين و ما يرتسم في قلوبهم و حركاتهم إذا أنزلت سورة، فإن المنافق إذا أنزلت سورة تريب نفسه و تحمل السورة إلى محامل بعيدة عن الحقيقة و الواقع ليثلج صدره بالتكذيب، و طبق ما في نفسه يطفح كلام مريب على لسانه فيتساءل ممن حوله عن وقع السورة في نفوسهم، حتى يرتب الأثر، فإن جذبت السورة ناسا ردّهم، و إن لم تجذبهم يزيدهم ريبا و شكا. أما حركته فإنه ينزعج من

الحضور في مجال تتلى السورة فيه لأن قلبه لا يميل إليهم و لا إليها، إذن فلينصرف عن المجلس متسلّلا حتى لا يعلم نفاقه، و يستريح إلى أقرانه وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «ما» زائدة جي ء بها لتحسين الكلام، و لعله لنكتة بلاغية هي تصوير حال المنافق المنكر، فقد نزلت السورة، لكن في قلب المنافق «ما أنزلت» فَمِنْهُمْ أي من المنافقين مَنْ يَقُولُ على وجه الإنكار و الاستخبار: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 485

[سورة التوبة (9): الآيات 125 الى 126]

وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ (125) أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

إِيماناً؟ ليعلموا وقع أثر السورة في النفوس و المقاومة إذا أرادوا إلقاء الريب و الشك.

و هنا يأتي الجواب من الله سبحانه ليفصل في الأمر بما هو الواقع، من غير حاجة إلى جواب المؤمنين أو إلى جواب المنافقين: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً فإن المؤمن المخلص كلّما ذكر الله سبحانه و كلّما رأى آية من آياته يزداد إيمانا و عقيدة وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بنزول السورة فرحا يظهر في وجوههم أثره، و كيف لا يفرحون و قد زادهم سبحانه دلالة و كرامة، و قوّى جانبهم بنزول سورة أخرى؟! [125] وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ روحي، و هو الشك و النفاق و الإنكار فَزادَتْهُمْ السورة رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ لأن قلوبهم كانت قذرة بإنكار ما سبق من آيات الله، فإذا أنكروا هذه السورة و شكوا فيها زادت قذارة قلوبهم. و يسمى الكفر رجسا، لأنه كالنجاسة الظاهرة التي تؤذي، و يجب

على الإنسان أن يتجنّبها وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ فإن من لا تنفعه السور لا بد أن يبقى شاكا منافقا حتى يموت في كفره و نفاقه.

[126] إن أمر هؤلاء المنافقين عجيب، فإن السور لا تفيدهم، و الفتنة لا ترجعهم عن غيّهم أَ وَ لا يَرَوْنَ هؤلاء المنافقون- على نحو الاستفهام الإنكاري- أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أي يمتحنون، تارة بنصر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 486

[سورة التوبة (9): آية 127]

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)

المسلمين، و أخرى بكشف الرسول نواياهم، و ثالثة بالأمراض و ما أشبه، مما ينبغي أن يرجع المنافق عن غيّه إذا أصابه ذلك فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فالفتنة كثيرة الوقوع في حياتهم ثُمَّ لا يَتُوبُونَ عن نفاقهم و كفرهم وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ نعم الله سبحانه، و أدلته و حججه، إن قلوبهم قد تحجّرت فلا تفيدها السورة و لا الفتنة، فما ذا يصنع بها؟

[127] و لما فرغ من بيان أقوالهم و نواياهم، بيّن عملهم النفاقي تجاه نزول السورة وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «ما» زائدة كما تقدم، و هم حضور عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نَظَرَ بَعْضُهُمْ أي بعض هؤلاء المنافقين إِلى بَعْضٍ ليغمز إليه و يشير إليه بأن لا يؤمن و لا يتزحزح عن نفاقه. فيقول بعضهم لبعض بالقول أو الغمز و الإشارة: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المؤمنين المخلصين؟ و الظاهر أن المراد رؤية الالتفات إلى نواياهم و إشاراتهم، لا رؤية العين، فإنهم كانوا يريدون عدم التفات المسلمين إلى أحوالهم لئلّا يعرفوا سبب قيامهم عن المجلس و انصرافهم ثُمَّ انْصَرَفُوا

عن المجلس إذا لم يرهم أحد، أو حين انفضّ المجلس صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء عليهم بأن يصرف الله قلوبهم عن فهم الحق و إدراكه، فإنهم لما نافقوا لم يستحقوا الألطاف الإلهية الخفية بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الحق، فقد طبع على قلوبهم بالكفر و العصيان و النفاق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 487

[سورة التوبة (9): الآيات 128 الى 129]

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

[128] و في ختام السورة تأتي آيتان لبيان وظيفة المؤمنين تجاه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي يحنو عليهم، فاللازم أن ينصروه و يؤازروه، و لبيان ما يفعله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو تولّى الناس عنه و أعرضوا، و كأنها خاتمة لما تقدم من أحوال من آمن و آزر، و من نافق و تخلف لَقَدْ جاءَكُمْ أيها البشر، أو أيها المؤمنون رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنس نفوسكم، و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هذا تحريض لاتباعه و الأخذ بأمره حيث أنه من أنفسهم عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي صعب عليه عنتكم و ما يلحق بكم من الضرر و الأذى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على حفظكم و تقدمكم و سعادتكم، فلستم بهيّنين عليه حتى لا يهمّه أمركم، و يلقي بكم في المهالك اعتباطا، فإذا أمركم بأمر فإن فيه سعادتكم و خيركم، لأنه جاء من المشفق الحريص على شؤونكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ الرأفة شدة الرحمة رَحِيمٌ للتأكيد و تفهيم من لا يفهم معنى الرؤوف، فهو وصف توضيحي

من قبيل «سعدانة تنبت».

[129] فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عنك يا رسول الله، و عن رسالتك فَقُلْ يا رسول الله: حَسْبِيَ اللَّهُ أي كافيّ، فإنه قادر على أن ينصرني لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا شريك له أرجوه أو أخافه، بل هو وحده بيده كل شي ء، فهو قادر على نصري و إعزازي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ اتكلت في أموري كلها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 488

عليه وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فهو أعظم من كل عظيم، إذ العرش العظيم- أي السلطان الكبير- له، فمن اتصل به لا يخشى أحدا سواه، و إن أعرض عنه الناس، فإن العرش كناية عن السلطة و السيادة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 489

10 سورة يونس مكية/ آياتها (110)

سميت السورة بهذا الاسم حيث اشتملت على قصة «يونس» النبي عليه السّلام و السورة تدور مباحثها حول العقيدة، و ما يتفرع منها- غالبا- و حيث اختتمت سورة «براءة» بذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ابتدأت هذه السورة بذكره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الله سبحانه، فهو وحده المستحق للتقديم، و ذكر الرحمن الرحيم، لتلطيف الجو، فإن الناس قد اعتادوا أن يروا الظلم و الجور من الكبار و الطغاة، لكنه ليس كذلك إنه الرحمن بعباده، الرحيم بالمؤمنين منهم، فلا خوف من ظلمه، و لا خشية من جوره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 490

[سورة يونس (10): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1)

[2] الر من ألف و لام و راء و غيرها يتركب هذا القرآن المعجز، فإنه من جنس كلام البشر، لكنه معجز لا يتمكن أحد أن يأتي بمثله، كما أن من جنس المعادن و النبات يتركب الإنسان،

لكن لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله، و كذلك جميع صنع الله سبحانه- على الاختلاف في أوائل السور- تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ خبر لقوله «الر» أي هذه الحروف آيات الكتاب- على بعض الأقوال- و المراد ب «الكتاب الحكيم» القرآن العظيم الحاكم بالحق، المحكم في وصفه و أسلوبه و أحكامه.

[3] أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ استفهام إنكاري، أي: هل إيحاؤنا إلى رجل منهم موجب للعجب و الاستغراب، إنه لا ينبغي ذلك، فقد أوحي إلى جنس البشر قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالأنبياء كلهم كانوا بشرا أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ مفعول «أوحينا» فقد كان الناس يرتكبون المحرّمات و يفعلون القبائح، فجاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لينذرهم بالعذاب إن اقترفوا الآثام وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا و اعتقدوا بما جئت به أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ فكما أن الإنسان الصادق في قوله لا تزل قدمه عند المحاكمة و الحكم، كذلك من آمن له قدم صدق لا تتزلزل و لا تضطرب عند الله سبحانه، و يوم محكمته الكبرى قالَ الْكافِرُونَ الذين لا يعتقدون بالله و آياته: إِنَّ هذا النبي- يعنون محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- لَساحِرٌ مُبِينٌ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 491

[سورة يونس (10): آية 3]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (3)

واضح، حيث أنهم لم يتمكنوا من مقابلته و الإتيان بمثل كلامه.

[4] ثم عطف سياق الكلام حول الإله، على الكلام حول الرسول، و أخّره لأن الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الذي يقول هذا الكلام و يثبته و يدعو إلى التوحيد و يقدم عليه البراهين و الأدلة إِنَّ رَبَّكُمُ أيها البشر اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فالذي خلقهما و اخترعهما و أوجدهما من العدم هو ربكم و خالقكم، لا الأحجار المنحوتة و الأشجار و سائر المخلوقات. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ و قد جرت سنة الله سبحانه على التدرّج في الخلق، مع أنه قادر على الخلق دفعة واحدة، فالإنسان و الحيوان و النبات كلها تتدرّج في الخلق حتى تكمل، و لعلّ في ذلك اعتبار للملائكة و نحوهم، كما أن في تدريج خلقة الإنسان و سائر الأشياء عبرة للبشر، فإن الإذعان يأتي بالتدريج. و أما خصوصية «الستة» فهي كخصوصية «تسعة أشهر» للجنين و سائر الأزمان المضروبة لسائر المخلوقات.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى عليه، أو توجّه نحو خلقه- كما مر في سورة الأعراف- يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي يقدّره و ينفذه على وجهه، فهو الخالق، و هو الآمر في الكون ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ فهو سبحانه كما بدأ و خلق، و أمر و نفّذ، كذلك بيده المعاد و إليه المرجع، و هناك لا بد من الشفاعة للعصاة كما جرت العادة في الدنيا، و لكن الشفاعة هناك أيضا بيده، فلا يشفع أحد إلا من بعد إذنه ذلِكُمُ اللَّهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 492

[سورة يونس (10): الآيات 4 الى 5]

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً

وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

الموصوف بهذه الصفات هو رَبَّكُمُ لا غيره من الأصنام و سائر المعبودات فَاعْبُدُوهُ وحده بدون شريك أَ فَلا تَذَكَّرُونَ فيه حثّ على التذكّر و التفكّر ليهتدوا إلى الطريق، و يجتنبوا المتاهات.

[5] ثم بيّن أن الرجوع إليه كما كان منه البدء، للتصريح بذلك بعد الإشعار و الإلماع إليه إِلَيْهِ إلى الله سبحانه مَرْجِعُكُمْ رجوعكم أيها البشر جَمِيعاً فلا يتخلّف منكم أحد وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا لا يخلف ما وعد من رجوعكم إليه إِنَّهُ وحده يَبْدَؤُا الْخَلْقَ و يوجدهم من العدم ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد موته و فنائه و عدمه، و إنما يعيده لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يعطيهم جزاءهم بِالْقِسْطِ بالعدل، فإذا لم يروا هنا «في الدنيا» جزاء أعمالهم الصالحة، لا بد و أن يروا هناك «في الآخرة» وَ الَّذِينَ كَفَرُوا و لم يؤمنوا بالله لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ «الحميم» هو الماء الحار الذي انتهى إلى آخر درجة من الحرارة وَ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم و موجع بسبب ما كانُوا يَكْفُرُونَ «ما» مصدرية، أي جزاء على كفرهم.

[6] ثم بيّن سبحانه صفاته الفعلية، و أقام البرهان على الألوهية بما يرى الإنسان من الآثار الكونية البادية للعيان هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 493

أي نورا بالنهار، ليستفيد منه الإنسان و الحيوان و النبات و سائر المخلوقات الأرضية، و لولاها لم يكن ذو روح على وجه البسيطة وَ الْقَمَرَ نُوراً بالليل، قالوا: و الضياء أبلغ في كشف الظلمات من النور، و إن كان يطلق كل منهما على الآخر، إلا أنهما إذا اجتمعا دلّ الأول على زيادة.

إن هذا البرهان

كاف للإنسان العادي الذي لا يعرف إلا الفطرة السليمة، كما أنه كاف لأكبر الفلاسفة دقة، و كذلك جميع آيات القرآن، فهي في حين تقنع الإنسان البسيط تكون أقوى الحجج للمنطقي و الفلسفي و المجادل. فمن يأتري خلق هذه الأشياء؟ هل أنها صنعت نفسها؟ إن هذا لا يمكن أبدا، أم صنعها جاهل عاجز؟ و هذا كالسابق في الاستحالة. فلا بد و أن يكون صانعها عالم قدير، و ليس هو إلا الله سبحانه.

وَ قَدَّرَهُ أي قدر القمر مَنازِلَ بأن جعل له منازل، ينزل في أحدهما بعد الآخر حتى يكمل الدور، و قوله «قدره» إما بحذف «اللام» أي «قدر له»، و إما مجاز لعلاقة الحال و المحل، فقد نسب ما للمحل إلى الحال. و إنما قدره منازل لِتَعْلَمُوا بالقمر و منازله عَدَدَ السِّنِينَ فإن السنة تتكون من اثني عشر شهرا، و الشهر لا يكون إلا بحركة القمر من منزل إلى منزل وَ الْحِسابَ حتى تعرفوا أي يوم أول الشهر و أي يوم آخره، و تضبط بذلك الحسابات و المواعيد. و قد كان القمر و الشهور خير وسيلة للعالم و الجاهل للضبط و التقدير، أما سائر الحسابات فهي غير محسوسة بالإضافة إلى كونها خاصة بالعالم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 494

[سورة يونس (10): آية 6]

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ الخلق من سماوات و أرض و شمس و قمر و منازل إِلَّا بِالْحَقِ فلم يكن الخلق لهوا و عبثا لا طائل فيه، فإن فيه دلائل على الوحدانية و الصفات الأزلية، كما أن فيه الحساب و الميقات و المنافع للخلق يُفَصِّلُ الله سبحانه الْآياتِ الدالة

على وجوده و يبيّنها آية آية لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيعطون كل آية حقها، أما الجهّال فإنهم معرضون عن الآيات (وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) «1».

[7] ثم بيّن سبحانه آية أخرى من الآيات الدالة على وجوده مما هو ظاهر للعيان و يعرفه كل إنسان إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ و المراد ب «الاختلاف» إتيان أحدهما خلفة للآخر، كما قال سبحانه في آية أخرى: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً) «2». و لعلّ تقديم الليل، لأن الظلمة هي السابقة على النور، فقد قالوا: إن النور و الظلمة «عدم و ملكة» و من المعلوم تقدم العدم على الملكة ذاتا وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ من أنواع الكواكب و النيازك و الشهب و السحاب و الأمطار و الرياح و غيرها وَ الْأَرْضِ من أنواع الجبال و المعادن و المياه و النباتات و الحيوانات و الإنسان و غيرها لَآياتٍ أي أدلة دالة و براهين ساطعة على وجود الله سبحانه و صفاته، من العلم و القدرة و الإرادة و الحياة و غيرها لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ الانزلاق في مهاوي السفاسف

______________________________

(1) الأنعام: 26.

(2) الفرقان: 63.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 495

[سورة يونس (10): الآيات 7 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)

و الخرافة، كما أن فيهما آيات لمن يتقي عصيان الله سبحانه. و إنما خصّوا بالذكر لأنهم المنتفعون بهذه الآيات.

[8] ثم ذكر سبحانه جزاء الذين لا يقتنعون بهذه الآيات، و ينكرون المعاد المستلزم لإنكار المبدأ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لقاء الله، و المراد ب «لقائه» لقاء الجزاء المقرّر

لهم من عنده، فإن الله سبحانه منزّه عن المكان، و إنما هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و المراد ب «لا يرجون» لا يتوقعون، و إنما جي ء بهذا اللفظ لأن كل معتقد به يرجو ثواب الله سبحانه، فإن الإنسان بطبعه يرجو نوال الكريم. و هذا كناية عن عدم الإيمان، فإن الذين لا يؤمنون لا يرجون المعاد وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي الحياة القريبة، فإن «دنيا» مؤنث «أدنى» أي اختاروا هذه الحياة، فصرفوا همّهم في عمارتها، و لا يعملون إلا لها وَ اطْمَأَنُّوا بِها أي سكنوا إليها و ركنوا لها. و هذا من عجيب الأمر:

كيف يركن الإنسان إلى دنيا يعلم بفنائها السريع، و يشاهد كل يوم كثرة من الأموات؟! وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا دلائلنا التي أقمناها على التوحيد و سائر شؤون المبدأ و المعاد، من الأدلة الكونية و غيرها غافِلُونَ فلا يتأملون فيها و لا يعتبرون بها.

[9] أُولئِكَ الذين تلك أوصافهم مَأْواهُمُ أي مستقرّهم و مرجعهم النَّارُ إليها يصيرون بسبب ما كانُوا يَكْسِبُونَ من أنواع الكفر و المعاصي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 496

[سورة يونس (10): الآيات 9 الى 10]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)

[10] هذا هو الكفر، و هذا مصيره، فلننظر إلى الإيمان و مصيره إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسله و اليوم الآخر و صدقوا بما جاءت به الأنبياء وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، فإن المحرمات لا تصلح لبناء فرد أو مجتمع أو دنيا أو آخره، بخلاف الواجبات و المندوبات و المباحات فإنها تصلح

لذلك يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بسبب إيمانهم إلى الجنة في الآخرة، و إلى كل خير في الدنيا، فإن الإيمان مفتاح كل سعادة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي تحت أبنيتهم و أشجارهم، أو من تحت أنفسهم، باعتبار أن ماء النهر أسفل من الإنسان إذا مشى على الأرض فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بحيث يتنعّم الإنسان فيها بجميع أنواع النعم، من أمن و رفاه و صحة و علم و لذة و غيرها.

[11] دَعْواهُمْ أي دعاء المؤمنين، فإن الدعوى قول يدعى به إلى أمر فِيها أي في تلك الجنات: سُبْحانَكَ اللَّهُمَ «سبحان» مصدر منصوب بفعل مقدّر، أي: أنزّهك تنزيها، يا الله، فإن «الميم» في «اللهم» بدل من حرف النداء «يا» وَ تَحِيَّتُهُمْ «التحية» مصدر من باب التفعيل، بمعنى التكرمة، مشتقة من: «أحياك الله» فِيها أي في الجنات سَلامٌ من الله لهم، و من الملائكة بالنسبة إليهم، و من بعض المؤمنين لبعض،

و في الدعاء: «حينا ربنا بالسلام» «1».

و المراد

______________________________

(1) مستدرك وسائل الشيعة: ج 9 ص 320.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 497

[سورة يونس (10): آية 11]

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

ب «السلام» السلامة من الآفات و المكاره، فإن الجنة هي دار السلام التي لا مكروه فيها أبدا. و من ذلك سلام الإنسان لبعض حيا أو ميتا، فإن سلامة الحي من المكاره هنا، و سلامة الميت من المكاره هناك، و هو دعاء، أو تفأّل، أو رجاء، بمعنى: «اللهم سلّمه»، أو: «أتفأّل لك السلامة»، أو: «أرجوها لك». وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أي آخر كلامهم الذي يتكلمون به أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فهم بين تسبيح و تسليم و تحميد.

[12] إن حكمة الله

سبحانه اقتضت بقاء الإنسان في الدنيا حتى يبلغ الأجل المضروب له سواء كان صالحا أو طالحا، فالخيّر و الشرير اللذين سبق الكلام حولهما لا بد و أن يتمّا مدتهما المقرّرة لهما، و إن كان بعض الناس يستعجلون الشرّ بدعائهم، أو بأعمالهم وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ من الموت و المرض و الفقر مما يستحقّون بأعمالهم أو بدعائهم، فإن بعض الناس إذا غضب دعا على نفسه و على بعض ذويه بالهلاك و الأمراض و نحوهما اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ أي كما يعجّل سبحانه لهم إعطاء الخير الذي يستحقونه بأعمالهم، أو بدعائهم لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي لفرغ من إهلاكهم، و لم يكن على وجه الأرض إنسان، و المعنى: لفرغ من أجلهم و مدّتهم المضروبة للحياة، و إذا انتهت مدّتهم هلكوا، كما قال سبحانه: (وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 498

[سورة يونس (10): آية 12]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)

عَجُولًا) «1»، فحيث اقتضت المشيئة الإلهية بقاء الإنسان مدة في الدنيا فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا من الكافرين الذين لا يعتقدون بالمعاد فِي طُغْيانِهِمْ عن الحق و ترفّعهم عن الإيمان يَعْمَهُونَ «العمه» هو العمى، و شدة الحيرة، فلا نقضي أجلهم بل نمهلهم إمهالا. و هذا الإبقاء إنما هو ليزيد عذابهم حيث طغوا و أعرضوا عن الإيمان بعد ما رأوا الآيات الدالّة عليه.

[13] إن الإنسان الذي لم يتأدب بآداب الله سبحانه كثير التناقض، فبينما تراه يستعجل الشر، تراه لا يطيق أقل مس من الشر، حتى أنه إذا أصابه ذلك

جعل يدعو الله في كل حالاته لكشفه عنه وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ مجرد مسّ و عبور عليه الضُّرُّ مشقة من مشقات الدنيا في نفس أو أهل أو مال أو نحوها دَعانا لكشفه و إزالته، في حال كونه نائما لِجَنْبِهِ مضطجعا أَوْ قاعِداً في حال قعوده أَوْ قائِماً في حال قيامه، و الظاهر أن «أو» هنا بمعنى «الواو»، فإنها تأتي بمعناها، قال ابن مالك:

خير، أبح، قسم، بأو، و أبهم و اشكك، و إضراب بها أيضا نمي

و ربما عاقبت الواو إذالم يلف ذو النطق للبث منفذا

______________________________

(1) الإسراء: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 499

[سورة يونس (10): آية 13]

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)

فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ و أزلنا البلاء الذي توجّه إليه مَرَّ في طريقه السابق، بدون أن يغيره إلى طريق الدين و الحق كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كأن لم يسألنا إزالة ضره، فهو لا يعرف الرب بعد إزالته. إنه يمرّ بدون أن يتوقف ليشكر، أو يتذكر، أو يعتبر، كَذلِكَ بمثل هذه الطبيعة المنحطّة التي تتضرّع إلى الله في الضراء، و تنساه في السراء زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إن المسرفين الذين أسرفوا في الحياة الدنيا و الركون إليها، و لم يجعلوا للآخرة خط رجعة إليها، لو وقفوا و تأملوا و شكروا، ارتدعوا عن أعمالهم الباطلة، لكنهم يمرّون بلا شكر و تدبّر، و لذا زيّن الشيطان في نظرهم قبح أعمالهم، فإن الإنسان إذا تدبر عرف الحسن من القبيح، أما إذا ركب هواه و سار لا يلوي على شي ء، لا يرى أعماله القبيحة إلا حسنة.

[14] فما ذا كانت عاقبة المسرفين؟

إن السياق يستعرضها بالنسبة إلى الأمم السابقة، لتعتبر هذه الأمة وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ جمع «قرن»، و هو أهل كل عصر، سموا بذلك لمقارنة بعضهم لبعض، و منه «القرن» بمعنى الشجاع المقابل لأنه مثل الشجاع الآخر مِنْ قَبْلِكُمْ بأنواع العذاب لَمَّا ظَلَمُوا أنفسهم و غيرهم، و أسرفوا في الركون إلى الدنيا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي الحجج و الأدلة، فإن الهلاك إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 500

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 550

[سورة يونس (10): الآيات 14 الى 15]

ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

يكون بعد إتمام الحجة، أما مجرد الظلم بدون إتمام الحجة، فإنه لا يوجب هلاكا- عند الله سبحانه- قال: (وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «1»، وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي أن هلاكهم بعد العلم بأنهم لا يؤمنون أبدا، فهم ظالمون قد تمت عليهم الحجة، و لا يؤمنون بعد ذلك كَذلِكَ أي كما جازينا أولئك القرون لمّا ظلموا نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ من جميع الأمم.

[15] ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو أيها البشر المتأخرون عن أولئك خَلائِفَ جمع «خليفة» نحو: طرائق جمع طريقة فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد أولئك القرون، فإنكم خلفتموهم في الأرض، و صرتم خلفا لهم لِنَنْظُرَ أي نرى، و المراد: الرؤية العلمية، أو الرؤية حقيقة، فإنه سبحانه ناظر لأعمال العباد كَيْفَ تَعْمَلُونَ هل تعملون

الصالحات أو السيئات، كأولئك القرون؟ و إنما نريد النظر للاختيار و الجزاء.

[16] ثم بيّن سبحانه بعض أعمال هؤلاء المشابهة لأعمال أولئك القرون الظالمة. فقد ذكر بعض المفسرون أن جماعة من المشركين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات و العزى و مناة و هبل، و ليس فيه عيبها، أو بدّله و تكلم به من تلقاء نفسك «2».

______________________________

(1) الإسراء: 16.

(2) مجمع البيان: ج 5 ص 166.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 501

فنزلت: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ على هؤلاء الكفار آياتُنا المنزلة في القرآن بَيِّناتٍ واضحات قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أي لا يؤمنون بالمعاد، فإن المؤمن بالمعاد يرجو فضل الله سبحانه، فمن لم يرج فليس بمؤمن، لتلازم الرجاء و الإيمان: ائْتِ جئ يا محمد بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا القرآن الذي تلوته أَوْ بَدِّلْهُ فاجعله على خلاف ما تقرأه، و الفرق بينها: أن القرآن الثاني غير مرتبطة مطالبه بالقرآن الأول، بخلاف «بدله» فهو هو، لكن مع التبديل كأن يقول- عوض (إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) «1»-: «إنكم و ما تعبدون من دون الله زينة الجنة» مثلا. و قد ظن أولئك الجهلة أن القرآن أمثال أشعار العرب التي يتمكن الشاعر أن يقول شعرا آخر، أو أن يبدل جزءا من الشعر فيجعل مكانه جزءا آخر.

قُلْ يا رسول الله لهم: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ أبدل القرآن مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من ناحية نفسي، فإنه معجز و ذلك بيد الله وحده، يقال: «فلان تلقاء فلان» أي بحذائه و إزائه إِنْ أَتَّبِعُ ما أتبع إِلَّا ما يُوحى أي الشي ء الذي يوحيه الله سبحانه إِلَيَ بلا زيادة و لا نقصان إِنِّي

أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بتبديل كتابه أو تغييره، أو

______________________________

(1) الأنبياء: 99.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 502

[سورة يونس (10): آية 16]

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (16)

سائر أنواع المعاصي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم القيامة، و أي معنى للتبديل؟ هل لأن القرآن ليس معجزا؟ فليأتوا بمثله، أم لأن مطالبه و قوانينه ليست مطابقة للواقع أو للحكمة، فما هو نقدهم فيه؟ و هل المعاند يكتفي بالتبديل؟ إن كلامهم كان لمجرد العناد، و هذا مما لا يصغي إليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[17] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يطلبون تبديل القرآن: ليس أمر تلاوته، و لا أمر إنزاله بيدي، إن جميع شؤون القرآن بيد الله سبحانه، فهو الذي أنزله، و هو الذي أمرني بتلاوته، و قل لهم: إني قد لبثت فيكم قبل نزول القرآن عمرا كاملا أربعين سنة، و لو كان القرآن مني لكنت أقرأه و أعلمه قبل نزوله، إن عدم قراءتي له من قبل، و عدم بيانه سابقا، دليل على أنه ليس من عندي و ليس بيدي حتى أتمكن من تبديله و تغييره لَوْ شاءَ اللَّهُ أن لا أتلوه ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ فإنه هو الآمر بتلاوته عليكم و تبليغكم به وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ أي لو شاء الله أن لا تعلموه، ما أعلمكم به، و ذلك بعدم إنزاله أصلا. فبيده وحده إنزال القرآن فَقَدْ لَبِثْتُ مكثت و أقمت بينكم و فِيكُمْ عُمُراً أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ من قبل قراءتي للقرآن و تلاوتي له، فلو كان مني لكنت قرأته من قبل، فإنه أي فارق في كلامي قبل ادعائي للنبوة و

بعد ادعائي لها. و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتكلم بكلام بينهم قبل النبوة فلم يكن يشبه كلامه القرآن أصلا أَ فَلا تَعْقِلُونَ و تتفكرون في هذه الحقيقة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 503

[سورة يونس (10): الآيات 17 الى 18]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

الواضحة، فكيف تطلبون مني أن أبدل القرآن.

[18] إذن، لم يبق أمامي في باب تبديل القرآن إلا أن أخترع قرآنا من نفسي، و هذا مما لا يمكن أبدا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ أي لا أحد أكثر ظلما من إنسان تجرّأ على الله سبحانه كَذِباً بأن نسب إليه كلاما ليس من كلامه، أو حكما ليس من حكمه، فكيف أعمل أنا هذا بأن أخترع قرآنا ثم أنسبه إلى الله تعالى؟! أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كما تعملون أنتم حيث تكذبون آيات الله و تقولون: أنها ليست من الله، فكلا الأمرين افتراء عليه ما ليس منه، و سلب عنه ما هو منه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ لا يفوزون بخير الدنيا و لا سعادة الآخرة، فإن الله سبحانه بالمرصاد للمجرم، خصوصا الاجرام بهذا الحد من الجرأة عليه سبحانه.

[19] ثم بيّن سبحانه آلهة هؤلاء الكفار الباطلة، فإنهم تركوا الحق و اتخذوا الباطل وَ يَعْبُدُونَ يعبد هؤلاء الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله.

و هذا يجتمع مع الشرك و مع الكفر ما لا يَضُرُّهُمْ ضررا من قبلها وَ

لا يَنْفَعُهُمْ فإن الأصنام جمادات لا تضر و لا تنفع، و العذاب للشرك إنما هو ضرر يتوجه إليهم من عملهم الباطل، كما أن بعض المنافع المادية لسدنة الأصنام و من إليهم إنما هي من الأشخاص الباذلين و الناذرين لا من قبل الأصنام، ثم إن كونها «لا تضر و لا تنفع» أبلغ في الردع عن عبادتها، لأنه لا تجوز العبادة حتى بالنسبة إلى من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 504

[سورة يونس (10): آية 19]

وَ ما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

يضر و ينفع كعبادة الملوك الذين بيدهم الضر و النفع ظاهرا. أو المراد النافع و الضار حقيقة، و ليس في الكون نافع أو ضار في الحقيقة إلا الله سبحانه، فإنه هو الذي خلق المنافع و المضار و أمكن كل شي ء من الإتيان بمقتضاه.

وَ يَقُولُونَ أي يقول المشركون و هم الذين يعتقدون بالله و بالصنم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ فإنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عنده سبحانه قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ أي هل تخبرون الله سبحانه- على نحو الاستفهام الإنكاري- بِما لا يَعْلَمُ فإن الله سبحانه لا يعلم كون الأصنام شافعة، فكيف تنسبون إليه أنه تعالى جعل الشفاعة لها، و «لا يعلم» من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فإنه إذا لم يكن موضوع للعلم، لم يكن علم. فهل يعلم هؤلاء الكفار ما لا يعلمه الله سبحانه فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ و يخبرونه بما لا وجود له؟ و يخترعون الشفاعة لما لم يجعله الله سبحانه شفيعا سُبْحانَهُ منزّه عن ذلك وَ تَعالى إنه أعلى و أجل عَمَّا يُشْرِكُونَ

من أن يكون له شريك، و «ما» إما مصدرية، أي عن شركهم، فهو منزّه عن شركهم و أجلّ منه. و إما موصولة، أي عن الأصنام التي يشركونها مع الله، فهو منزّه عن المثل، و أعلى و أجل من أن يكون في عداد الأصنام.

[20] و قبل أن يستعرض القرآن سائر أقوالهم السخيفة، يبيّن أن الشرك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 505

[سورة يونس (10): آية 20]

وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

عارض على البشر، و إلّا فالفطرة السليمة تدل على التوحيد، فإن الجهاز الموحّد المنظّم يدل على إرادة موحدة و رئيس واحد وَ ما كانَ النَّاسُ بفطرتهم و أصلهم إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً موحدة، كما

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه هما اللذان يهودانه و ينصرانه و يمجسانه»

«1»، فَاخْتَلَفُوا بأن بقي بعضهم على التوحيد، و انحرف بعضهم نحو الشرك.

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بأن قالها و قرّرها بأن تكون الدنيا دار امتحان، فيكون الناس فيها مختارين مطلقي السراح مهما شاءوا اعتقدوا، و مهما أرادوا عملوا، حتى يكون الجزاء عدلا و استحقاقا، لا محاباة و اعتباطا لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي حكم الله بينهم في هذه الدنيا بأن يهلك المشركين و يذر الموحدين فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من التوحيد و الشرك، أو المراد: لقضي بينهم بأن أجبر الجميع على التوحيد، لكنه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) «2».

[21] وَ يَقُولُونَ أي يقول هؤلاء الكفار: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آيَةٌ معجزة خارقة كمعاجز عيسى و موسى عليهما السّلام مِنْ طرف

رَبِّهِ فقد كانوا يقترحون خوارق أخرى، و كان ذلك منهم تعنّتا،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 58 ص 187.

(2) البقرة: 257.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 506

[سورة يونس (10): آية 21]

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)

إذ يكفي في الدلالة الخارقة دلالة القرآن العظيم المعجزة الباقية، لكنهم لم يكونوا يذعنون لها فَقُلْ يا رسول الله: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ إن الآية الخارقة التي تطلبونها غيب خارق لقوانين هذا الكون، و إنه بيد الله سبحانه ليس بيدي و من عندي، و هو أعلم بالمصالح (وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) «1»، فإن المتعنّت لا يريد إلا اللّجاج لا الحجة و الاقتناع حتى يسير الإنسان حيث إرادته، إنه لو أراد الاقتناع و الدلالة لكفته هذه المعجزة العظيمة، فهو كمن يأتي بإمضاء الرئيس، ثم يقول الناس له: «جئ بإمضاء آخر حتى نقبل قولك» فَانْتَظِرُوا المستقبل حتى ترون هل يأتي الله سبحانه بما تطلبون إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ و هذا الجواب فيه شبه تهديد، كما تقول للمجرم: اصبر حتى نرى العاقبة.

[22] ثم بيّن سبحانه أن الطبيعة البشرية إنما تطغى إذا رأت نفسها غنية غير محتاجة، أما إذا وقع الإنسان في أزمة و شدة، فهو يلوذ بالله و يتوسل إليه، و هذا دليل على ما كمن في فطرته من التوحيد و الاعتراف بالألوهية وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً «الإذاقة» تستعمل بمعنى الذوق باللسان، كما تستعمل بمعنى الإدراك مطلقا، و هذا هو المراد هنا، فإن الرحمة ليست خاصة باللسان مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ من شدة أو فاقة أو اضطراب أو غيرها إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي

آياتِنا فإنهم حيث رأوا الشدة

______________________________

(1) الأنعام: 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 507

[سورة يونس (10): آية 22]

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)

كانوا جديرين بقبول الحق، و اتباع الرسل، و الأخذ بالأحكام، لكن طبيعتهم العاتية حيث ترى غناها بسبب الرحمة التي ذاقتها، ترجع إلى إنكار الآيات، و الاحتيال و المكر لإخمادها و إنكارها، و قد كانت عادة البشر هكذا مع الأنبياء، فقوم فرعون كلما أصيبوا بمكروه جاءوا إلى موسى عليه السّلام يسألونه الكشف عنهم حتى يؤمنوا، فإذا أذاقهم الله الرحمة، و كشف عنهم العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه، و أخذوا يمكرون بموسى، و يحتالون لإخماد آيات الله سبحانه، و هكذا سائر الأنبياء و المصلحين مع أممهم، إلى هذا اليوم.

قُلِ يا رسول الله، لمثل هؤلاء: لا تفعلوا و لا تمكروا ف اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً فإن مكر هؤلاء لا يصل إلى أعماق الحياة، بخلاف مكره سبحانه و علاجه للأمر- لأن المكر هو: التدبير الخفي- فإنه يصل إلى أعماق الحياة، و لذا تكون جذور دعوات الأنبياء أعمق و أسرع في نفوس الناس من مكر الماكرين و إنكار الملحدين و تشكيك المشككين إِنَّ رُسُلَنا أي الملائكة يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي ما تدبرون خفية ضد الدين و أهله، ثم تجزون على ذلك.

[23] ثم ضرب سبحانه مثلا لطبيعة الإنسان العاتية التي تتضرع عند الشدة، و تنسى عند الرخاء هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ فإن مشي الحيوان، و المركبة، و غيرها،

إنما هو حسب تكوين الله سبحانه و نظامه الذي جعله للحياة و إلا لم يتمكن الإنسان من السير و لو خطوة واحدة وَ الْبَحْرِ بسبب الفلك و نظام عدم غرق ما وزن الماء أثقل منه- كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 508

بيّن في قانون أرخميدس- حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ فكأن الإنسان سار من بلده في طريق البحر حتى ركب في السفينة لإرادة الذهاب إلى مقصد من مقاصده البعيدة وَ جَرَيْنَ أي جرت السفن، فإن «الفلك» يأتي مفردا و جمعا بلفظ واحد بِهِمْ أي بالناس بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لينة يستطيبونها، لأنها تجري نحو المقصد في رخاء و هدوء وَ فَرِحُوا الراكبون بِها أي بهذه الريح. فهم في أمن و فرح و سير نحو المقصد بارتياح، و إذا بهم جاءَتْها السفينة رِيحٌ عاصِفٌ شديدة الهبوب، هائلة هائجة، فأخذت السفينة في الاضطراب و الإشراف على الغرق من الترنّح الشديد الذي يصيبها بسبب تلاطم الأمواج وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من الأطراف الأربعة، فإن الرياح إذا توجهت نحو الماء رفعت منه أجزاء كثيرة ربما صارت كالجبل العظيم، و هذا هو الموج، و الأمواج تسير بسير الهواء ما دامت تنفخ فيها و تسيّرها، فإذا اضطربت الرياح وهبت من الجهات المختلفة جاءت الموج من كل مكان، و إذا بالسفينة في وسط الأمواج ترتفع مرة و تنحدر أخرى، و تميل ثالثة، و تقع من علو دفعة- إذا تلاشت الأمواج تحتها- رابعة، و هكذا ..

فتصبح:

كريشة في مهب الريح طائفةلا تستقر على حال من القلق

وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي أحاطت بهم الأمواج بحيث تغرقهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 509

[سورة يونس (10): آية 23]

فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ

بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

فلا نجاة من الهلكة، و حينئذ حيث رأوا الهلاك دَعَوُا اللَّهَ و تضرعوا إليه، و انقشعت عن عيونهم غواشي الشهوات و الأنانيات، و ظهرت فطرتهم صافية مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي على وجه الإخلاص في الاعتقاد، بحيث يجعلون الدين له، و ينقطعون عما سواه، قائلين:

لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا رب مِنْ هذِهِ الشدة و الورطة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ المعترفين بك و بفضلك و إحسانك فإن الشكر يستلزم الإذعان و التوحيد.

[24] فَلَمَّا أَنْجاهُمْ أي خلّصهم من تلك الأهوال إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ أي يظلمون أنفسهم و غيرهم، فإن من لا يسير على منهاج الله سبحانه لا بد و أن يكون ظالما باغيا يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإن ظلم الظالم يعود و باله عليه مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي أن بغيكم إنما هو ما يتمتّع به في الحياة الدنيا، و ذلك منقطع لا يبقى، فإن الإنسان إنما يبغي لأمور دنيوية، و لا فائدة فيما لا بقاء له و لا دوام ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ رجوعكم و مصيركم فَنُنَبِّئُكُمْ نخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و هذا تهديد بأنهم سيجازون بأعمالهم السيئة، كما تقول للمجرم: «سأخبرك بأعمالك» تريد جزاءه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 510

[سورة يونس (10): آية 24]

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

على تلك السيئات التي صدرت

منه.

[25] و لما ذكر سبحانه أن الظلم إنما هو متاع الحياة الدنيا، بيّن فناءها، و أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان لما يفنى و لا يبقى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي شبه الحياة القريبة في سرعة فنائها و زوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ و هو المطر فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فإن النبات يمتص الماء حتى ينضر و يزدهر و ينمو مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الثمار و البقول و نحوهما وَ الْأَنْعامُ كالحشيش و القات و غيرهما. و لعل الإتيان بهذا التفصيل للتناسق بين المثال و الممثل له فكما أن الماء يختلط بالأجناس العالية من النبات- و هو مأكل الإنسان- و الأجناس السافلة- و هو مأكل الحيوان- كذلك الحياة التي يفيضها الله سبحانه على الكون تختلط بالأشياء الراقية كالإنسان و الجواهر، و بالأشياء المنحطة كالمدر و الحجر و غيرهما.

حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها «الزخرف» كمال حسن الشي ء، يقال: «زخرفته» أي حسنته، فإن المطر لما ينزل من السماء يظهر ريع الزروع و الكروم و نضارة النباتات و الأشجار وَ ازَّيَّنَتْ أي تزينت الأرض بالنبات الزاهي و الزرع النضر، و أصل «ازينت» تزينت من باب «التفعل» قلبت «التاء» «زاء» وجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن.

وَ ظَنَّ أَهْلُها أي أهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها لزعمهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 511

أنهم هم الذين أوجدوها بجهدهم، و زيّنوها بصنعهم، و أنهم مالكوا الأمر فيها، فلا يتمكن أحد من تغييرها و تحريرها. و كذلك الإنسان دائما يظن أن ما يجري في الكون مما له دخل فيه، إنما هو بصنعه و إرادته، فإذا بنى دارا زعم أنها صنعه، و إذا جرت سفينته في الماء ظن أنها منه، و هكذا، و الحال

أن الإنسان ليس إلا جزءا صغيرا متوسطا في سلسلة العلل. فقبله، الأرض التي منها أدوات البناء و بعده الصورة التي هي من الله سبحانه، و بها البقاء للدار، و هكذا بالنسبة إلى السفينة و سائر الأشياء.

أَتاها أتى تلك الأرض المزخرفة بالزرع و النظارة أَمْرُنا أي عذابنا من برد أو ثلج أو عاصفة أو جراد أو نحوها لَيْلًا أَوْ نَهاراً و هذا يدل على كمال القدرة، فإنه لا يخشى من أحد و لا يمنعه وقت يقظة الناس كما لا يمنعه حراس الليل فَجَعَلْناها حَصِيداً جعلنا تلك الأرض حصيدا أي محصودة، مقلوعة ذاهبة كَأَنْ لَمْ تَغْنَ لم توجد و لم تكن بِالْأَمْسِ من قبل، من «غني بالمكان» بمعنى أقام به، و منه «المغنى» بمعنى المنزل كَذلِكَ بما فصلنا هذا المثال و أوضحناه نُفَصِّلُ سائر الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في أدلة الله سبحانه، فالحياة الدنيا، كماء المطر و الدنيا كالمزرعة، فإن الحياة تختلط بماهية الأشياء، و إذ نرى الحياة مزدهرة، و الأسواق عامرة، و الأرض مخضرة، و الناس في أمن و رفاه، و أخذ و عطاء، و في هذه الغمرة من الحسن و الازدهار، و إذا بأمر الله سبحانه يأتي إما بسبب أرضي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 512

[سورة يونس (10): الآيات 25 الى 26]

وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)

كالخسف، أو بسبب سماوي كالصيحة و البرق و القذف، أو كالأمراض الفتاكة، أو كالوسائل الهدامة من الآلات الحربية المفنية- كالقنابل و غيرها- فيجعلها حصيدا لا حياة فيها و لا حركة، و

لا عمارة و لا حضارة .. أليس الأمر كذلك؟ و أليس يكفي هذا دلالة على وجود الله و قدرته؟ فكيف يتكبر الإنسان و يعصي، و يطغى و يكفر؟

[26] هذه كانت حالة الدنيا فهي دار تغير و زوال، و فناء و اضمحلال وَ اللَّهُ يَدْعُوا الناس إِلى دارِ السَّلامِ التي يكون كل شي ء فيها سالما عن التغير و الآفات، و هي الجنة، فإنه سبحانه يحرّضهم للعمل، فهذه الدار لتلك الدار، و «السلام» و «السلامة» بمعنى واحد، كالرضاع و الرضاعة وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إما المراد بالهداية: معناها العام، ف «من يشاء» هم جميع الناس، و إما المراد بها: معناها الخاص، أي الألطاف الخاصة، ف «من يشاء» هم الذين اتخذوا مناهج الأنبياء، فإنهم مختصون بتلك الألطاف المؤدية بهم إلى جنات النعيم.

و من المحتمل أن يراد بالهداية: معناها العام- و هي إراءة الطريق- و يكون «من يشاء» خاصا بمن تمّت لديه الحجة، فإن كثيرا من أهل البلاد البعيدة لم تبلغهم الدعوة، و كذلك من مات في الفترة بين الرسل و نحوهم، و أولئك الذين لم تبلغهم الدعوة، إنما يمتحنون يوم القيامة، كما يقتضيه العدل، و دلّ على بعض موارده الدليل.

[27] تلك حال الدنيا الزائلة و هذه حال الآخرة الباقية، فلننظر إلى أحوال أهل تلك، و أهل هذه بين الأمرين، ف لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الاعتقاد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 513

[سورة يونس (10): آية 27]

وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)

و أحسنوا العمل، بأن آمنوا و عملوا الصالحات الْحُسْنى أي الحالة الحسنى، فإنهم يجزون

بإحسانهم إحسانا وَ زِيادَةٌ فضل من الله سبحانه، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، كما قال سبحانه في آية أخرى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) «1»، وَ لا يَرْهَقُ «الرهق» لحاق الأمر، و منه «راهق الغلام» إذا لحق بالرجال، و يستعمل اسما من «الإرهاق» و هو أن يحتمل الإنسان ما لا يطيقه، أي لا يلحق وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي غبار و سواد وَ لا ذِلَّةٌ انكسار و انهزام، فليست كوجوه أهل المعاصي التي يظهر عليها أثر العذاب الجسدي بالقتر، و أثر العذاب النفسي بالذلة، بل وجوههم نضرة، كما قال سبحانه:

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) «2»، أُولئِكَ الذين أحسنوا أَصْحابُ الْجَنَّةِ رفاقها و ملاكها هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون أبدا، لا خروج لهم منها، و لا تغيّر لها بهم.

[28] وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أي عملوها، و غالبا يأتي «الكسب» بالنسبة إلى السيئات للدلالة على صعوبة السيئات بخلاف الحسنات، و ذلك واضح لأن السيئات لها التواءات توجب الصعوبة لمكتسبها فمثلا الزواج فيه سهولة اطمئنان النفس إلى دار، و أهل، و أولاد، و قلوب تحنو عليه، و مستقبل يقوم به النسل، و ذكر جميل و سيادة. و السفاح بالعكس من كل ذلك، بالإضافة إلى صرف المال و الطاقة لقلب خاو

______________________________

(1) فاطر: 31.

(2) المطففين: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 514

و عمل مذموم، و هكذا. و ليس المقصود أن الحلال بلا صعوبة، و أن الحرام بلا لذة، و إنما المقصود أن الحلال دائما أهنأ و أسهل من الحرام، فإنه سبحانه خلط الحرام باللذة القليلة، و الحلال بالتعب اليسير، ليختبر و يمتحن، فلو كان الحلال بلا تعب لم يكن الآتي به ممدوحا، و لو كان الحرام بلا لذة لم يكن التارك

له مستحقا للأجر و الثواب.

جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها لا يجازون بأكثر من عملهم، إذ الجزاء بالأكثر ظلم قبيح، و «جزاء» مبتدأ خبره «بمثلها»، و الجملة خبر لقوله:

«الذين كسبوا» و العائد محذوف أي «لهم» و نحوه وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ تلحقهم ذلة نفسية، فإن الإنسان المعذّب يحس في نفسه ذلة و انهزاما ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ليس يحفظهم عن العذاب اللاحق بهم حافظ من قبل الله، أو المراد: لا ينجيهم من عذاب الله حافظ، و هم بالإضافة إلى العذاب و الصعوبات، فإن الدم يحترق في الجسد، و ينقلب أسودا، فيظهر لونه على الجسم لشفافية الجلد كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً فكأن الليل صار قطعا بسواده الشديد، فأغشيت وجوههم بقطع منه، قطعة فوق قطعة حتى لا يرى فيها أثر النور و الضياء، فهم في عذاب البدن، و ذلة النفس، و سواد الوجه أُولئِكَ الذين كسبوا السيئات أَصْحابُ النَّارِ رفاقها و الملازمون لها و المعرّفون بها هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون أبد الآبدين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 515

[سورة يونس (10): آية 28]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28)

[29] قد كان أولئك الكفار و العصاة في الدنيا لهم آلهة و أصدقاء، فأين ذهبت آلهتهم و أصدقاؤهم؟ و هل أنقذوهم و شفّعوا فيهم؟ إنهم هناك انقلبوا أعداء بعد ما رأوا العذاب وَ اذكر يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ أي نجمعهم جَمِيعاً بلا استثناء أحد، و هو يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله، بأن جعلوا له شريكا: الزموا مَكانَكُمْ لا تبرحوا حتى تجازون بأعمالكم أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ أي كونوا جميعا في مكانكم حتى تعطون الجزاء. و

إضافة الشركاء إليهم باعتبار أنهم اخترعوها، و جعلوها شركاء الله سبحانه فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي ميّزنا و فرّقنا، و المراد: التفريق بينهم في السؤال، فهناك سؤال عن المشركين، و سؤال عن الآلهة التي عبدوها من دون الله سبحانه وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ الأصنام و غيرها من المعبودات التي عبدوها، مخاطبين للكفار: ما كُنْتُمْ أيها المشركون إِيَّانا تَعْبُدُونَ إما المراد أنهم عبدوا الأهواء و الشياطين، و إما المراد نفي ذلك، مريدا به نفي العلم بعبادتهم. و هذا أيضا يصح بالنسبة إلى من لا يعلم، كالأصنام التي لا تعقل، فإنها ينطقها الله سبحانه هناك، أو أنهم يكذبون للتخلص من التبعة حتى لا يقال لهم: لم رضيتم بعبادة هؤلاء لكم؟ كما يكذب المشركون هناك قائلين: (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1».

______________________________

(1) الأنعام: 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 516

[سورة يونس (10): الآيات 29 الى 31]

فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (31)

[30] ثم يستشهد المعبودون بالله سبحانه في أنهم لم يكونوا يعلمون بعبادة المشركين لهم فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي يكفينا شاهدا و فاصلا للحق بَيْنَنا معاشر المعبودين وَ بَيْنَكُمْ أيها المشركون إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ أيها المشركون لنا لَغافِلِينَ «إن» مخففة من المثقلة، و حذف اسمها، و هو ضمير الشأن أي يشهد الله: أنه كنا غافلين عن عبادتكم لنا، فإنا لم نعلم

بذلك، فكيف نرضى به؟ و لا إثم علينا من هذه الجهة. و هذه حجة قوية على المشركين في الدنيا، فإنهم يعبدون ما لا يعلم شيئا من عبادتهم، و هل يصلح للعبادة ما هذا شأنه؟! [31] هُنالِكَ في ذلك الموقف الرهيب موقف الحشر تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي تختبر كل نفس أعمالها التي أسلفتها و قدمتها، فإن الإنسان في الدنيا لم يختبر أعماله، و لا يعلم الصالح و الفاسد منها إلا قليلا، إلّا إذا كان متّبعا للأنبياء فيعرف قيمة الأعمال، فمثلا لا يعلم الإنسان في الدنيا قيمة الصدقة، إذ لم يختبرها حتى يعرف ما الثمار الكثيرة المترتبة عليها، كما لا يعرف مقدار ضرر الشرك و ما أشبه وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ أي ارجعوا إليه، إلى ثوابه و عقابه، و حسابه و جزائه وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أي ضاع و بطل عن نصرتهم و شفاعتهم و إنقاذهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الأصنام و المعبودات الباطلة التي كانوا يفترون على الله سبحانه بكونها شركاء له.

[32] ثم يستدل سبحانه على كونه الحق و أن سواه باطل بما يشاهدونه في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 517

حياتهم اليومية قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: مَنْ يَرْزُقُكُمْ و يعطي أرزاقكم مِنَ السَّماءِ بإنزال المطر وَ الْأَرْضِ بإخراج النبات، و هكذا يشمل الرزق طيور السماء و أسماك الماء و حيوانات الصحراء، أو هو أعم من ذلك و من سائر الأشياء التي يستفاد منها كالدور و القصور، و المراكب و الملابس، و غيرها أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ فإن من وهبهما و أبقاهما ليس إلا الله سبحانه، و هو القادر على أن يسلبهما وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالنباتات من

الأرض، و الإنسان و الحيوان من المأكولات الميتة، أو ما أشبه ذلك وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ كالثمار و الحبوب من النباتات، و الجنين الميت من المرأة الحية، أو ما أشبه ذلك وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر السماء و الأرض بانتظام الحركات و تسيير الأجهزة، على وجه الحكمة و الصلاح.

فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ يفعل كل ذلك، فإنهم بصفتهم مشركون كانوا معترفين بالله، حيث لم تكن الأصنام و ما أشبهها تقدر على هذه الأشياء الكبيرة، فلا بد و أن يعترفوا بأنها من الله سبحانه وحده، لا شريك له في ذلك كله فَقُلْ يا رسول الله لهم: أَ فَلا تَتَّقُونَ في جعلكم الشريك له بغير علم، أ فلا تخافون عقابه و عذابه في شرككم بلا حجة و لا برهان؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 518

[سورة يونس (10): الآيات 32 الى 34]

فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)

[33] فَذلِكُمُ أي ذاك الموصوف بتلك الصفات- أيها المخاطبون- فإن «كم» للخطاب اللَّهُ رَبُّكُمُ و إلهكم الْحَقُ الذي خلقكم و رزقكم و لا يستحق العبادة أحد سواه فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ استفهام تقريري، أي ليس وراء الحق إلا باطل، فالله الحق، و دونه باطل فَأَنَّى إلى أين تُصْرَفُونَ يصرفكم الشيطان و الأهواء، فتعدلون عن الحق و هو الإله الواحد إلى الآلهة المتعددة.

[34] كَذلِكَ الذي تقدم من قيام الأدلة عند هؤلاء المشركين على التوحيد، و مع ذلك لا يقبلون النتيجة و يجعلون مع الله شركاء حَقَّتْ كَلِمَةُ

رَبِّكَ ثبتت، و وجبت كلمة الله و حكمه و العلم الأزلي عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا و خرجوا عن طاعة الله الواحد إلى طاعة الأنداد و عبادة الأصنام أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ هذا بدل من «كلمة ربك» أي أن الله سبحانه علم من الأزل أن هؤلاء لا يؤمنون، و لم يكن ذلك لأنه لم تتم الحجة عليهم، بل لأنهم فسقوا، و خرجوا من توحيد الله إلى الشرك.

[35] ثم ذكر سبحانه حججا أخرى على التوحيد و نفي الشريك قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أي الذين جعلتموهم شركاء لله، فإنهم لما كانوا مختلقين، كانت نسبتهم إلى مخترعيهم أولى من نسبتهم إلى الله سبحانه، فلم يقل تعالى «شركائي»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 519

[سورة يونس (10): آية 35]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالإيجاد ثُمَّ يُعِيدُهُ فانيا كما كان، أو يعيده بعد الموت إلى الحياة. و حيث لا يحير هؤلاء جوابا، إذ لا تفعل شركاؤهم ذلك، و يفحمون بهذا الاحتجاج قُلْ يا رسول الله في الجواب:

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إن ذلك خاص به لا يتمكن أحد من هذا العمل سواه فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي إلى أين تصرفون عن الحق؟ من «أفك» بمعنى: انقلب و انصرف عن الحق.

[36] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الأصنام التي جعلتموها شركاء كذبا و زورا مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ أي إلى الرشد و الصلاح كي يتنعم عبّادها بما فيه خيرهم و سعادتهم، و حيث أنهم لا يتمكنون من الإجابة بالإثبات، و إلا

طولبوا بالدليل. و لا يخفى أن هذا الاحتجاج كان مع عبّاد الأصنام، لا مع عبّاد المسيح عليه السّلام و نحوهم قُلْ يا رسول الله في الجواب: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ فإنه هو الذي أنزل الشرائع و أرسل الرسل لهداية الناس من الظلمات إلى النور، و تعليم طرق الصلاح و الرشاد و السعادة.

ثم يتوجه هنا سؤال يدخل فيه جميع الآلهة حتى عيسى عليه السّلام في زعم عبّاده أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ و يرشد إلى الطريق السوي، و هو الله سبحانه أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ و يأخذ الإنسان بأوامره و نواهيه أَمَّنْ لا يَهِدِّي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 520

[سورة يونس (10): آية 36]

وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)

أصله «يهتدي» من باب «الانفعال»، قلبت «التاء» «دالا» و أسقطت همزة الوصل من أوله، لنقل حركة التاء إلى الهاء، فصار «هدّى» «يهدّي» و المعنى: هل الله أحق بالاتباع أم من لا يهتدي إِلَّا أَنْ يُهْدى فمن يحتاج إلى الاهتداء لا يصلح أن يتخذ ربا، فالمسيح عليه السّلام و إن كان نبيا عظيما إلّا أنه ينطبق عليه هذا الوصف، إذ لا يهتدي إلا بهداية الله سبحانه. أما الأصنام فهي أبعد، إذ أنها جمادات لا تهتدي حتى إذا أرادوا هدايتها.

و كأن القرآن جرى في هذا الاحتجاج مجرى المسلّم من خصمه ببعض مقدماته ليرد عليه حتى على ذلك الفرض، و المشركون كانوا قد فرضوا عقلا للأصنام و أنها تشعر فَما لَكُمْ أيها المشركون، و المعنى: ما هو سبب قولكم بغير الحق، و أنتم تعلمون كَيْفَ تَحْكُمُونَ بأن هذه الأصنام آلهة بعد ما قامت الحجة على بطلانها.

[37] وَ ما يَتَّبِعُ

أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي أن أكثر هؤلاء المشركين إنما يتبعون الظنون في اعتقادهم بألوهية الأصنام، فإنهم لا يتيقنون بذلك جزما، إنما رأوا آباءهم عبدوها، فظنوا بصحتها تقليدا، و الحال إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فإن الظن ترجيح أحد الطرفين، و هذا ليس بواقع و لا معذّر، أما أنه ليس بواقع، فلأن الواقع لا يتبع أداء الأشخاص، و أما أنه ليس بمعذّر فلأن العقلاء الملتفتين لا يعتمدون عليه في الأمور المهمة، و هذا بخلاف القطع فإنه إن حصل من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 521

[سورة يونس (10): آية 37]

وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37)

مقدمات صحيحة كان مطابقا للواقع و معذّرا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ فيجازيهم بأعمالهم الباطلة التابعة لظنون تقليدية واهية.

[38] ثم ينتقل السياق إلى الكلام حول القرآن الذي كان معجزة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الدليل على صدقه و صحة كلامه، و يستعرض مناقشاتهم حوله و الجواب عنها وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى أي يكون مفترى مِنْ دُونِ نزول من عند اللَّهِ سبحانه، فلا يتمكن أحد أن يفتري قرآنا و ينسبه إلى الله سبحانه، فإن الكلام المفترى ليس كالقرآن، لأن له أسلوبا خاصا معجزا، و أنظمة و تشريعات لا يتمكن البشر من الإتيان بمثلها. بالإضافة إلى أن أحدا لو افترى على الله و جاء بمعجز، كان حتما من الحكمة أن يكذبه الله سبحانه، و إلا كان إغراء بالجهل، و ذلك قبيح على الله سبحانه. و قد دل التاريخ أن كل كاذب جاء بشي ء ظاهره معجز-

سحرا- لم يلبث أن انكشف سره و ظهر كذبه.

وَ لكِنْ هو كتاب سماوي من عنده تعالى، و كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي مصدقا للكتب السابقة التي جاء بها الأنبياء عليهم السّلام فهؤلاء المعارضون له غير مرتبطين بشرائع الله، فهم بمعزل عن الدين إطلاقا وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ أي أن القرآن تفصيل للذي كتبه سبحانه على البشر من الأحكام و الشرائع، كما قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) «1»،

______________________________

(1) البقرة: 184.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 522

[سورة يونس (10): آية 38]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)

لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس في القرآن مجالا للريب، إذ حججه ساطعة و أدلته واضحة، فمن ارتاب فيه فقد ارتاب ارتيابا في غير موضعه، كمن يرتاب في النهار مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ بدليل أنه معجز لا يقدر أحد من البشر من الإتيان بمثله.

[39] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي أن الكفار بعد هذه الحجج يقولون أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم افترى القرآن، و نسبه إلى الله من دون أن يكون منه، و «أم» هنا بمعنى «بل» الإضرابية، و فيه استفهام إنكاري قُلْ يا رسول الله لهم: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أي مثل القرآن في البلاغة و الإعجاز، فإن إعجاز القرآن من نواحي متعددة منها بلاغته الخارقة.

و قد تحدّى القرآن بلغاء العالم بأن يأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن و لو كأقصر سورة نحو (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) «1» لكنهم لم يتمكنوا. و قد كان تحدّي القرآن متدرجا، فتحدّاهم أولا أن يأتوا بمثل تمام

القرآن، ثم بمثل عشر سور، ثم بمثل سورة، لكنهم لم يقدروا على أي منها، و ذلك دليل أنه معجز، إذ لو لم يكن معجز لقدر البشر على الإتيان بمثله، لأن مواده و هي الألفاظ و الكلمات بل و الجمل كانت تحت قدرتهم.

وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعوته من الجن و الإنس مِنْ دُونِ اللَّهِ

______________________________

(1) الإخلاص: 1- 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 523

[سورة يونس (10): آية 39]

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)

أي غير الله سبحانه، ليشاركونكم و ليساندوكم في الإتيان بسورة واحدة مثل القرآن، أما الله فهو القادر على ذلك، فاللازم أن يكون الطلب من سواه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن القرآن من كلام البشر، و ليس من كلام الله سبحانه.

[40] ثم بيّن سبحانه أن تكذيب هؤلاء بدون دليل و برهان بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ كذبوا بالقرآن قبل أن يطّلعوا على كنه أمره و حقيقته، كالجاهل الذي يكذّب بالشي ء بدون أن يقلّب أوجه الرأي فيه. إنهم حيث لم يألفوا الأنبياء و المعاجز و كانوا جاهلين بذلك تمام الجهل كذبوا بمجرد السماع و الرؤية، بدون أن يتدبروا في أنه لو كان كذبا مفترىّ لتمكنوا من الإتيان بمثله، فإن الحكيم دائما يفكر و يتدبر ثم يحكم و يظهر النتيجة، أما الجاهل فإنه يسرع في اتخاذ النتائج قبل التدبّر و التفكّر في المقدمات.

وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي لم يأتهم بعد ما يؤول إليه أمر الكتاب، أي بدون أن يعرفوا مآل الكتاب، و أنه كيف يكون و إلى ما ينتهي.

و هذا كقولك: «فلان يسرع بتكذيبي بدون أن يتدبر كلامي و أن يرى

مصير هذا الكلام»، فإن كثيرا من الأشياء يعرف صدقها من كذبها من حال مصائرها، فإذا قال زيد: «سيجي ء الحاج إلى كربلاء»، كان اللازم أن لا يكذبه السامع إلا إذا جاء وقت إخباره و لم يظهر منهم أثر، أما أن يكذب بدون أن ينتظر أوله و آخره، فهو خارج عن منطق العقلاء و المفكرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 524

[سورة يونس (10): الآيات 40 الى 41]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

كَذلِكَ أي كتكذيب هؤلاء كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أمم الأنبياء بدون أن يفهموا كلامهم و ينتظروا عواقب كلامهم، هل يصدق إخبارهم عن المستقبل أم لا فَانْظُرْ يا رسول الله كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الذين كذبوا الأنبياء، فعاقبة هؤلاء كعاقبة أولئك، فإن مصيرهم إلى الهلاك و العذاب.

[41] و إذا كان غالب هؤلاء متّبعين للظن مكذّبين اعتباطا، فإن منهم من يؤمن أيضا، إذ الحق لا يخلو من أنصار وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن، بترك كفرهم و شركهم، و اتباع الحق وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ بل يبقى في غيّه و ضلاله، وَ رَبُّكَ يا رسول الله أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الذين يدومون على فسادهم، فإن الكافر مفسد مهما كان نزيها، فإن الكفر هو أعظم فساد في الأرض، لأنه خرق لمنهاج الله سبحانه.

[42] وَ إِنْ كَذَّبُوكَ يا رسول الله بعد إلزام الحجة، و إتمام الدليل فَقُلْ لهم: ليعمل كلّ طرف منّا حسب منهجه و معتقده، فإني لا أحمل تبعة أعمالكم، كما أنكم لا تنتفعون بعملي لِي عَمَلِي و

سأرى جزاءه وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ و سترون جزاءه أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ أنا من الطاعة و العبادة وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من المعاصي و الكفران.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 525

[سورة يونس (10): الآيات 42 الى 44]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

و هذا شبه وعيد لهم بأنهم وحدهم يلاقون جزاء أعمالهم الباطلة.

[43] وَ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بآذانهم، لكنهم أغلقوا قلوبهم عن الانتفاع، فهم متّخذون مكان المتفرج و إنما يستمعون فقط بدون قصد التعلم و العمل أَ فَأَنْتَ يا رسول الله تُسْمِعُ الصُّمَ جمع «أصم» بمعنى: من فقد حاسة السمع، أي أنك لا تقدر على إسماع الحق لمن صمّت أذن قلبه وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ فإن الإنسان يقدر على إسماع من يريد الاتباع و التعقل، أما غيره فليس ينجح فيه كل كلام.

[44] وَ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يا رسول الله، حين إلقائك الحجج و الأدلة، و الناظر لا بد و أن يبصر الحق في المنظور إليه، فإن الحركات و السكنات تدل على ما في قلب المتكلم من الحرارة و الصدق، و لكنهم ينظرون للتفرّج لا لتفهّم الحق و تعلّم الواقع أَ فَأَنْتَ يا رسول الله تَهْدِي الْعُمْيَ جمع «أعمى»، فإنهم و الأعمى سواء، فكما لا ينتفع الأعمى ببصره كذلك لا ينتفع هؤلاء بما يرون من الحق وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ فإن الإنسان يقدر على إراءة البصير، أما الأعمى

فإن الإنسان لا يقدر على إراءته الحق و إن اجتهد كل جهد.

[45] و أخيرا، إن كل ما يصيب هؤلاء إنما يصيبهم بسبب ظلمهم لأنفسهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 526

[سورة يونس (10): الآيات 45 الى 46]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46)

لأنهم لم ينتفعوا بكل ما أقيم لهم من الحجج إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً أي ظلما و لو يسيرا وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإعراضهم عن الحق بعد إتمام الحجة و وضوح المحجة.

[46] ثم بمناسبة عدالة الجزاء و كون ظلمهم لا يعود إلّا على أنفسهم يأتي السياق ليبيّن أنهم في الحشر يكونون في أسوأ حال و كأن دنياهم قد مرت كساعة، و قد بقيت التبعات الجسام عليهم وَ يكون حال هؤلاء الكفار يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يجمعهم الله سبحانه لموقف القيامة، كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أي لم يبقوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ فهم لا يرون إلّا بريقا من الدنيا، و كأن عمر الدنيا كان ساعة فقط، و هذا ليس بغريب، فالإنسان يرى و هو في الدنيا ماضي عمره كساعة أو شبهها يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ هناك، أي يعرّف بعضهم لبعض قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ خسروا أنفسهم و أهليهم و أموالهم، و المراد من «لقاء الله» لقاء جزائه، تشبيها للمعقول بالمحسوس وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ للحق، فإن عدم اهتدائهم هنا سبب خسارتهم هناك.

[47] إن الكفار تكون عاقبتهم إلى خسارة، و قد وعد الله رسوله خزي الكفار و نصرة المسلمين عليهم، ثم بيّن

أنه سواء رأى خزيهم أو مات قبل أن يرى ذلك، فإنه سبحانه لا بد و أن يجازيهم على سوء صنيعهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 527

[سورة يونس (10): الآيات 47 الى 48]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48)

و كفرهم، وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ يا رسول الله «إن» شرطية و «ما» زائدة للتجميل بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بأن تكون في الحياة، فترى بعض العقوبات التي ننزلها بالكفار كما وعدناهم بها أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ نقبض روحك قبل أن ترى عقوبتنا لهم فإنهم لا يفوتوننا، بل فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي رجوعهم فنريكه في الآخرة ثُمَ بعد رجوعهم لا يتمكنون أن يفروا من عقابه بالإنكار، فإن اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ فيجازيهم حسب أعمالهم التي شهدها.

[48] ثم بيّن القرآن الحكيم أن تعجّب هؤلاء الكفار من ادّعاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للرسالة ليس في محله، فإن الرسل قد أتت قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الأمم وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ «الأمة» الجماعة، أي: لكل جماعة رسول يؤدي إليهم رسالة الله سبحانه فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بيّن لهم و أنذر و حذّر، فإذا لم يقبلوا استحقوا العقاب، على ما وعد سبحانه (وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «1»، قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي حكم الله سبحانه بينهم بالعدل، فمن آمن أجزل له الأجر، و من لم يؤمن تمّت عليه الحجة و استحق العقاب وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقص من ثواب طاعاتهم و لا يزاد في عقاب سيئاتهم.

[49] قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعد المكذبين

الهلاك و العقاب، فكانوا يستعجلون

______________________________

(1) الإسراء: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 528

[سورة يونس (10): آية 49]

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (49)

العقاب، على طريقة الاستهزاء وَ يَقُولُونَ أي يقول الكفار: مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وعد عذاب الدنيا، و عقاب الآخرة إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون القائلون بعذاب الكفار في الدنيا و الآخرة صادِقِينَ فيما تقولونه.

[50] قُلْ يا رسول الله في جوابهم: إن أمر ضرري و نفعي ليس بيدي، فكيف بأمر ضرركم و نفعكم، إن ما نعدكم آت لكن وقته بيد الله سبحانه لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً فلو شاء الله أن يضرّني لم أملك ردّه، و لو أراد الله أن ينفعني لم أملك تغييره أو تعجيله، و لو أردت نفعا لنفسي و لم يردّه الله لم أقدر عليه. و هذا واضح فإن الرسول لا يقدر على أمر لا يريده الله سبحانه، و إنما يقدر على نفع نفسه و ضرها و نفع الناس أو ضرها بأمر الله و إرادته.

فالنفي هنا إضافي لا مطلق، حتى ينافي ما دلّ على النفع الذي كان من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو الضر الذي كان بسببه، كما استثنى ذلك بقوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يملكني أو يقدرني عليه، و إذ لم أقدر على نفع نفسي و ضرّها، كيف أقدر لكم على ذلك. أما موعد عقابكم و حشركم فاعلموا أنه لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ و مدة لا بد أن يقضوها حتى تنزل بهم العقوبة على تكذيبهم و عصيانهم إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ بأن سار إليهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ

أجلهم أي لا يؤخرونه، بمعنى عدم قدرتهم على ذلك ساعَةً جزءا من الزمان وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ لا يقدّمونه عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 529

[سورة يونس (10): الآيات 50 الى 51]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)

موعده و وقته، فإذا كان وقت هلاكهم يوم الجمعة و سار الأجل نحوهم من يوم الأربعاء، لا يتمكنون أن يؤخروه إلى يوم السبت و لا يتمكنون أن يجعلونه في يوم الخميس.

[51] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المكذبين المستعجلين بالعذاب:

أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني، فإن «أ رأيت» تستعمل بمعنى: أخبرني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ أي عذاب الله بَياتاً أي ليلا أَوْ نَهاراً ما أنتم صانعون؟ فقد حذف جواب «إن» لدلالة الكلام عليه ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ أي من العذاب الْمُجْرِمُونَ «ما» مبتدأ و «ذا» بمعنى «الذي» خبره، و الجملة استئنافية، أي: ما الذي يستعجل المجرمون من العذاب، و الاستفهام معناه التهويل، كما نقول لمن يفعل شيئا عاقبته سيئة: «ما الذي تجني على نفسك؟» فمفاد الآية: أنكم تستعجلون شيئا مهولا مهلكا.

[52] أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ «الهمزة» للاستفهام، و «ثم» للعطف، أي:

هل- بعد استعجالكم للعذاب- إذا وقع العذاب، في ذلك الحين تؤمنون به. فقد كانوا لا يؤمنون بالعذاب، و كانوا يستعجلونه على جهة الاستهزاء، و «ما» زائدة جاءت للتزيين، و قد ذكرنا سابقا أنه- غالبا- يأتي الكلام بصورة النفي، و يراد منه الإثبات ..

ثم كأن النفس انتقلت إلى جو وقع العذاب فيه- بعد ما كانت في الدنيا طرفا لخطاب الرسول- فيقال للمكذّبين حين يشاهدون العذاب و يريدون الإيمان

للتخلّص منه آلْآنَ تؤمنون، على نحو الاستفهام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 530

[سورة يونس (10): الآيات 52 الى 53]

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)

الإنكاري، أي أنه لا ينفعكم الإيمان الآن وَ الحال أنه قَدْ كُنْتُمْ بِهِ بالعذاب تَسْتَعْجِلُونَ فكنتم مكذبين له مستهزئين به، أي أن الإيمان الآن في حين رؤية العذاب غير نافع بعد تكذيبكم له سابقا، و نظيره (آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) «1».

[53] ثُمَ بعد وقوع العذاب عليهم، و عدم فائدة إيمانهم حين معاينة العذاب قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر و العصيان و استعجال العذاب استهزاء: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب الخالد الدائم في الآخرة بعد عذاب الدنيا هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي لا تجزون إلّا بما كسبتم في الدنيا، فليس العذاب ظلما و إنما هو جزاء أعمالكم.

[54] إن المكذبين لم يكونوا على علم في تكذيبهم، بل كانوا مستبعدين للعذاب و سائر ما يخبر به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لذا كانوا يسألون عن حقيقة الأمر وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ يستخبرونك و يطلبون منك يا رسول الله أن تخبرهم أَ حَقٌّ هُوَ هل حق ما جئت به من الأحكام و الوعد و الوعيد و غيرهما؟ قُلْ يا رسول الله في جوابهم: إِي إنه حق وَ رَبِّي أي قسما بالله إِنَّهُ لَحَقٌ لا شك فيه وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لا

______________________________

(1) يونس: 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 531

[سورة يونس (10): آية 54]

وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا

رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)

تتمكنون من أن تعجزوا الله سبحانه فلا يتمكن من إنفاذ أمره، أو على أن تعجزوه من تعذيبكم، فقد كان الكفار يظنون أنهم قادرون على إطفاء نور الله، و الفرار من عقابه.

[55] إن العذاب إذا جاء للمكذّب لا يتمكن من النجاة منه، لا بنحو تعجيزه سبحانه بالقوة، و لا بنحو الافتداء للخلاص منه، و هو من الهول بحيث إن الإنسان حاضر لإعطاء جميع ما في الأرض للخلاص، و لكن هيهات! وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالشرك و الكفر، أو بالعصيان و الطغيان ما فِي الْأَرْضِ من الثروة لَافْتَدَتْ بِهِ أعطت كل ما في الأرض فدية عن نفسها ليخلّصها من العذاب، فإن عذاب الله هائل إلى هذا الحد، حتى يستعد المجرم للتنازل عن جميع ما يملك- و لو كان كل ما في الأرض- لأجل أن لا يعذّب، و لكن ليس للإنسان جميع ما في الأرض، و لا ينفعه في الافتداء و الخلاص لو ملكه وَ أَسَرُّوا أسرّ المجرمون النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أنهم أخفوا ندمهم على ما فات منهم لما رأوا العذاب. و لعل سر إخفائهم لندمهم أن لا يشمت بهم.

و قد روي ذلك عن الصادق عليه السّلام «1».

وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل فكان عقابهم بمقدار أعمالهم السيئة وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فيما يفعل بهم من العذاب لأنه

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 198.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 532

[سورة يونس (10): آية 55]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55)

بمقدار أعمالهم.

و لا يقال: كيف أن هذه الأعمال القليلة استحقوا بها العقاب

الكثير و مع ذلك فهو عدل؟

لأنه يقال: إن العقاب ليس بقدر حجم الجرم و مدته، بل بقدر آثاره المعنوية، كما أن من يسبّ الملك يقتل، و من يزني يرجم، فإن الأعمال ليست بحجومها و إنما بقيمتها، كما نرى المهندس يعطى لساعة قضاها في رسم خريطة عشرة دنانير، بينما العامل لا يعطى ليوم كامل دينارا، و قد لاقى الحر و البرد. أما دوام العذاب فهو لنيّاتهم السيئة التي أظهروها و هم باقون عليها (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) «1».

[56] إن الله سبحانه يتمكن من إنفاذ و عوده لأن له كل شي ء، كما أنه تعالى ينفذها لأن وعده لا خلف فيه، فلا يظن الإنسان أنه يعصي و المهدّد غير قادر، أو أنه لا يفي بوعده، فلا يعاقب أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك المطلق لكل شي ء. و المراد هنا: الأعم من الظرف و المظروف، كما تقول: «تحت سلطة الملك ما في البلاد»، تريد البلاد و ما فيها. و حيث أن له كل شي ء فهو يقدر على إنفاذ وعده بالعقاب لمن كفر و تمرد أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ لا خلف فيه. نعم دلّ الدليل على أن قسما من وعيده يمكن العفو عنه وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر

______________________________

(1) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 533

[سورة يونس (10): الآيات 56 الى 57]

هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)

الناس أو أكثر المجرمين لا يَعْلَمُونَ فينكرون أن يكون كل شي ء لله سبحانه، أو أنه يفي بما وعد، كما كانوا يقولون: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا

أَيَّاماً مَعْدُودَةً) «1»، و إنما قال أكثرهم، لا جماعة من الناس- حتى من المجرمين- يعلمون كل ذلك.

[57] أما إذا قال بعض الناس: إنا إذا متنا بطل كل شي ء، و لا عقاب حين ذاك، فليعلموا أن الله سبحانه هُوَ يُحيِي الأموات وَ يُمِيتُ الأحياء، فبيده الحياة و الموت وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، أي إلى حسابه و جزائه، فلا يظنوا أن لهم فرارا من حكمه «و لا يمكن الفرار من حكومتك».

[58] و يعقب السياق على ما تقدم من الوعد و الوعيد نداء عاما إلى البشر يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لجميع البشر قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «الموعظة» بيان ما يجب أن يرغب فيه، و ما يلزم أن يحذر عنه، و المراد بها الأحكام الإسلامية و ما نزل من قبله سبحانه من القرآن الكريم و سائر ما بيّنه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ فإن الصدور كانت مليئة بالخرافة في العقيدة، و بالأدران في الصفات، و بالهموم و الأحزان و القلق، و القرآن بما له من المناهج و الإرشادات يعوض مكان الخرافة حقائق، و مكان الرذالة فضيلة، و مكان الأحزان

______________________________

(1) البقرة: 81.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 534

[سورة يونس (10): آية 58]

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

و القلق، الفرح و الطمأنينة، فهو يشفي الصدور من أمراضها وَ هُدىً أي دلالة و هداية إلى الحق وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ما يسبب لهم أن يرحمهم الله بفضله.

[59] فبهذا الفضل الذي تفضّل به سبحانه على عباده و الذي يسبب لهم صلاح الدنيا و الآخرة يلزم أن يفرح الناس، لا بالمال و الجاه و الأهل، فإنها أمور

ما لم يوضع لها منهاج صحيح كانت وبالا على الإنسان و موجبة للهموم و الأحزان قُلْ يا رسول الله للناس: بِفَضْلِ اللَّهِ الذي تفضّل عليهم بالهداية وَ بِرَحْمَتِهِ التي رحم بها عباده فَبِذلِكَ بكل واحد منهما فَلْيَفْرَحُوا فإنهما هما اللذان ينظّمان الحياة السعيدة، و ينتهيان بالإنسان إلى سعادة الآخرة. و كأن إتيان «الفاء» مكرّرة لنكتة بلاغية، هي لأجل أن يبقى في النفس مجال للتملّي من الفضل و الرحمة، و لذلك جي ء بقوله «فبذلك» أيضا، مع غناء الكلام عنه، و هو بدل من «بفضل الله» هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأهل و المال و الجاه، فإنها إلى نفاد و فناء و توجب الوبال إن لم يقترن بها فضل الله و رحمته.

و ما

ورد أن «فضل الله» هو الإمام المرتضى،

و كذلك في الآية السابقة من تفسير «هو» في «أحق هو» بالإمام عليه السّلام، فإن ذلك من باب المصداق الجلي، أو أحد المصاديق، كما هو كذلك في غالب الآيات المفسرة به و بآله الأطهار عليهم السّلام، و كان هذا و أشباهه من بطون القرآن السبعة أو السبعين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 535

[سورة يونس (10): آية 59]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)

[60] إن الله سبحانه تفضّل عليهم بكل شي ء، لكن الإنسان الجاهل جعل الكفر مكان الشكر، فبدّل الأوهام مكان الحقائق في العقيدة، كما جعل من رزق الله سبحانه الحلال حراما افتراء منه عليه سبحانه، بلا دليل و لا برهان قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يحكمون حسب أهوائهم: أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ حلال كله، و

المراد ب «الإنزال» كونه من ناحيته سبحانه، فله العلو المنزليّ، فما يأتي منه كأنه ينزل من علو، تشبيها للمعقول بالمحسوس كما قال: (وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) «1»، و (اهْبِطُوا مِنْها) «2»، و (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ) «3»- على احتمال في بعضها- أو المراد بإنزاله: إنزال بعض أجزائه الذي هو المطر و الشعاع فلولاهما لم يكن رزق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ أي من ذلك الرزق حَراماً وَ حَلالًا بينما كان كله حلالا، فقد كانوا يرمون السائبة و البحيرة و الحام و أقسام أخرى من المأكولات قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أصله «أألله» بهمزتين، همزة الاستفهام، و همزة «أل» الداخلة على «إله» ثم قلبت إحداهما و جعلت هكذا بالمد. قال ابن مالك: مدّا في الاستفهام أو يسهل.

أي: هل إن الله أذن لكم في تحريم بعض ما أنزل إليكم من الرزق أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ في أن تنسبوا إليه تحريم ما لم يحرمه افتراء و كذبا.

______________________________

(1) الحديد: 26.

(2) البقرة: 39.

(3) البقرة: 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 536

[سورة يونس (10): الآيات 60 الى 61]

وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)

[61] وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ كهؤلاء الذين افتروا عليه تحريم بعض الرزق يَوْمَ الْقِيامَةِ أي عند لقائه سبحانه؟ ما يظنون أن يفعل بهم؟ إنه تهديد

لهم، فإن المفتري لا بد و أن تكون له عاقبة سيئة وقت الجزاء، و المعنى: أ يحسبون أنهم لا يجازون على افترائهم؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أحلّ لهم الأرزاق بعد أن منحهم إياها وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ فيحرّمون ما أحلّه افتراء عليه، عوض أن يشكروه حيث أنعم و حلّل.

[62] إنهم يفترون على الله الكذب في تحريمهم ما أحلّ الله سبحانه، و الله شاهد على كل عمل لا يعزب عنه مثقال ذرة، فهل يغني افتراؤهم عليه؟ وَ ما تَكُونُ أنت يا رسول الله فِي شَأْنٍ من شؤون الدنيا أو الآخرة، من عمل أو عبادة أو غيرهما- و الخطاب و إن كان للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إلا أنه ليس خاصا به بل عام لكل أحد- وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ أي من الشأن مِنْ قُرْآنٍ فإنه من تلك الشؤون التي هي للإنسان قسم هو شأن تلاوة القرآن، كما أن من تلك الشؤون شأن الصلاة، و شأن الكسب و غيرهما. و خصّت قراءة القرآن لأهميتها وَ لا تَعْمَلُونَ أيها البشر مِنْ عَمَلٍ صغيرا كان أو كبيرا إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً نشهده و نعلمه. و الإتيان بضمير الجمع للتعظيم، فقد جرت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 537

العادة أن الكبراء يتكلمون عن أنفسهم و عن أتباعهم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ تدخلون في ذلك العمل و تبتدئون به، فشهادتنا مقترنة بأول كل أمر لا يفوت منا شي ء من أوله، و الإفاضة غالبا تستعمل فيما يكون العمل سريعا، و لكن النكتة في الإتيان بهذا اللفظ: أن الأعمال السريعة غالبا تفوت على الشاهد، لكن الله سبحانه لا يغيب عنه شي ء و لو كان العامل مسرعا في

عمله.

وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي لا يغيب عنه مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ أي ما هو بثقل الذرة و هي الهباءة الصغيرة التي تسبح في الفضاء و ترى إذا دخلت أشعة الشمس المكان المظلم من كوّة و نحوها، و «من» زائدة تأتي لبيان التعميم المستفاد من «ما» النافية قبلها، سواء كانت تلك الذرة فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ.

و لعلّ ذكر «مثقال» لبيان أن الله كما يعلم نفس الذرة يعلم ثقلها، و هو أدق من العلم بأصلها كثيرا، فإن العلم بأصل الذرة يحصل للناس كثيرا، أما العلم بوزنها فلا يحصل للناس إلا نادرا جدا وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ من مثقال ذرة، أي: أيّ شي ء كان أصغر من الذرة، أو وزنه أقل من وزن الذرة وَ لا أَكْبَرَ من ذلك إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كتاب واضح لديه سبحانه، فإن علم كل ذلك في كتاب كتبه قبل أن يخلق الخلق، و هو اللوح المحفوظ أو غيره، و قوله: «لا أصغر» استئناف، خبره «إلّا في كتاب مبين».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 538

[سورة يونس (10): الآيات 62 الى 63]

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (63)

[63] إن هذه الدقة في الحساب و العلم توجب دهشة الإنسان و خوفه الشديد من القيامة و لقاء الله سبحانه، لكن القرآن الحكيم يدرك هذا الأمر بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين هم أحباؤه، يأتمرون بأوامره و ينتهون عن زواجره لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يوم القيامة من العقاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و الفرق بين الخوف و الحزن: أن الأول بالنسبة إلى الأمر المترقّب المحتمل صعوبته، و الثاني بالنسبة إلى المتقين، صعوبة الأمر، سواء

كان ماضيا أو مستقبلا، يقال: «إني على فقد ابني الذي فقدته لمحزون»، و لا يقال: «لخائف»، و هكذا لا يقال «إني لمحزون» من احتمال فقده، و يقال: «إني لخائف منه». أما بالنسبة إلى المتقين في المستقبل، فإنه يستعمل الخوف و الحزن معا بمعنى واحد، فمن علم أنه سيدركه مخوف يقول: «إني خائف محزون»، قال يعقوب عليه السّلام: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) «1».

ثم إن المحتمل أن يكون المراد من جملة: «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» إنشائية، بأن تكون نهيا عن الخوف و الحزن.

و يحتمل أن تكون إخبارية، أي: أنهم لا يخافون و لا يحزنون، إما في الآخرة، أو الأعم. و عدم خوفهم و حزنهم في الدنيا إضافي، يعني أن الخوف و الحزن الناشئين عن المعصية لا يكونان بالنسبة إليهم، و إن كان هناك لهم خوف و حزن من نوع آخر.

[64] ثم بيّن سبحانه ذلك بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا بأن صحّت عقيدتهم

______________________________

(1) يوسف: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 539

[سورة يونس (10): الآيات 64 الى 65]

لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)

وَ كانُوا يَتَّقُونَ المعاصي فصحّت أعمالهم.

[65] لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإن مثل هذا الإنسان مطمئن القلب هادئ البال بينما يقلق العاصي و الكافر وَ فِي الْآخِرَةِ فإنه يبشر بنجاة النعيم و رضوان من الله. هذا بالإضافة إلى أن المؤمن المتقي لا تهمّه الكوارث و النوائب حيث يطمئن بثواب الله و الجزاء، فهو دائم البشارة و إن حزن قلبه و دمعت عيناه، كمن رضّ بعض جسمه

و أعطى بدله عشرة آلاف دينار، فإنه و إن تألم لكنه مستبشر بالجزاء. و هكذا المتقون في الدنيا، و من مصاديق البشارة في الدنيا، ما يبشّرهم به الملائكة عند موتهم- كما ورد في الأحاديث-.

لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فإن ما قرّره سبحانه من الجزاء و الثواب للمتقين لا خلف فيه و لا تبديل ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز فوقه، و الفلاح الذي لا فلاح مثله، بشارة في الحياة الدنيا و في الآخرة، و اطمئنان و هدوء فيهما، و هل فوق ذلك نجاح أو فوز؟

[66] وَ حيث أن أولياءه لا يحزنون ف لا يَحْزُنْكَ يا رسول الله قَوْلُهُمْ أي قول الكفار فيك و إيذائهم لك، و إيقاعهم في المؤمنين بك إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فيمنعهم منك بعزّته، و يعزّك و ينصرك عليهم هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأعمالهم، فيجازيهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 540

[سورة يونس (10): آية 66]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)

عليها، و ينقذك منهم.

[67] و كيف لا تكون العزة لله جميعا و الحال أن جميع الأشياء مما يعقل و ما لا يعقل لله لا شريك له أَلا فلينتبه الإنسان إِنَّ لِلَّهِ ملكه و طوع إرادته مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من ملك و أنس و جن، و إذا كان العقلاء له، فغيرهم من غير العاقل أولى بأن يكون ملكا له و خصّ العقلاء بالذكر بلفظ «من» دلالة على العظمة، فإن من يملك العقلاء، له العزة التي لا عزّة فوقها. وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

شُرَكاءَ أي أنه سبحانه يملك آلهة هؤلاء المشركين فهو عطف على «من» و جي ء ب «ما» لأن غالب الآلهة هي أصنام لا تعقل و لا تدرك.

و هنا احتمالان آخران:

الأول: أن يكون المعنى: أن ما يعبده هؤلاء من دون الله ليس شركاء لله، فإنها ليست آلهة حتى تكون شركاء حقيقيون و إن سموها شركاء.

الثاني: أن يكون المعنى: أي شي ء يتبع هؤلاء شركاء؟ تقبيحا لفعلهم.

ف «ما» على الأول موصولة، و على الثاني نافية. و على الثالث استفهامية.

ثم بيّن سبحانه أن عبّاد هذه الأصنام ليسوا على يقين في كونها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 541

[سورة يونس (10): الآيات 67 الى 68]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68)

آلهة إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبع هؤلاء المشركين إِلَّا الظَّنَ الحاصل لهم بالتقليد و العادة وَ إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ يحدسون حدسا بلا علم و لا يقين.

[68] إن الله سبحانه هو مالك من في السماوات و من في الأرض، و مالك الأصنام، كما أنه هو الذي جعل الأنظمة الكونية، التي لا تزال تتكرّر على الناس كل يوم، بكل جمال و إتقان هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي لسكونكم عن أتعاب النهار وَ النَّهارَ مُبْصِراً أي جعل النهار مضيئا تهتدون بسببه إلى حوائجكم إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل لَآياتٍ حجج لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهّم و تعقّل، أما من لا يسمع و لا يصغي إلى الحق، فإن تلك الآيات لا تفيده.

[69] و

حيث بيّن سبحانه عقيدة المشركين و زيف عقيدتهم و بيّن الأدلة على بطلانها، عطف الكلام حول عقيدة أخرى غزت الأدمغة كثيرا، و هي عقيدة اليهود و النصارى و بعض آخر، من أن الله له ولد قالُوا قال الكفار: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً قال أهل الكتاب بأن عزير و المسيح أبناء الله، و قال الكفار بأن الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ أسبّحه تسبيحا، و أنزّهه تنزيها من هذه الكذبة هُوَ الْغَنِيُ فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد، و لو على نحو التبنّي لَهُ تعالى ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 542

[سورة يونس (10): الآيات 69 الى 70]

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

الْأَرْضِ فمن يملك كل شي ء لا يمكن أن يكون له ولد، إن الولد جزء الوالد فلا يكون مملوكا له إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ما عندكم دليل يدل على هذا الاعتقاد و أنه سبحانه اتخذ الولد أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فتنسبون إليه أمرا بدون علم و يقين، فإنهم لم يكونوا على علم بأن له ولدا. و هذا استفهام توبيخي.

[70] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بأن ينسبون إليه أنه اتخذ شريكا أو اتخذ ولدا لا يُفْلِحُونَ أي لا يفوزون بالنجاة و السعادة لا في الدنيا و لا في الآخرة، و قال في آية أخرى:

(وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) «1».

و قد دل التاريخ على صحة ذلك الإخبار، فقد وقعت في العالم المسيحي و العالم اليهودي على طول الخط مجازر مدهشة، فهم من عصر

ظلامهم إلى عصر نورهم- هذا القرن- في حروب طاحنة عجيبة لا تبقي و لا تذر، و ألوف القصص شاهدة على ذلك، منها ما ذكره «سلامة موسى» في كتابه «حرية الفكر»: أن حربا وقعت بين قسمي المسيحيين- الكاثوليك و البروتستانت- و ذهب ضحيتها أربعة عشر مليون من البشر، في ألمانيا وحدها.

[71] لهم مَتاعٌ قليل فِي الدُّنْيا يتمتعون أياما قلائل ثُمَّ إِلَيْنا

______________________________

(1) الكهف: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 543

[سورة يونس (10): آية 71]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71)

مَرْجِعُهُمْ رجوعهم، أي إلى حكمنا و جزائنا يكون مصيرهم ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ الدائم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم.

[72] لقد سبقت الإشارة في هذه السورة إلى الأمم السابقة و أنهم لما كذبوا الرسل ذاقوا و بال أمرهم (وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) «1»، و سبقت الإشارة إلى أن لكل أمة رسول (وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ) «2». و هنا يأتي البيان ليبين بعض تلك القصص اعتبارا و تذكرة وَ اتْلُ أي قص يا رسول الله عَلَيْهِمْ على هؤلاء الكفار نَبَأَ نُوحٍ أي خبر نوح النبي عليه السّلام إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ شقّ و صعب عليكم مَقامِي إقامتي بين أظهركم فاستثقلتموني وَ تَذْكِيرِي وعظي و تبييني لكم بِآياتِ اللَّهِ حججه و دلائله الدالة على وجوده و صفاته و سائر ما يرتبط به من النبوة و المعاد

فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ في زجركم و ما تنوون إيقاعه علي، فإني متوكل على الله في جميع أحوالي، و أتوكل عليه في هذه الخصوصية أيضا.

فلا يقال: مفهوم الشرط: عدم توكلّه في صورة عدم الشرط؟

______________________________

(1) يونس: 14.

(2) يونس: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 544

[سورة يونس (10): آية 72]

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)

الجواب: إن القضية سالبة حينئذ بانتفاء الموضوع. أي أنه إن لم يكبر مقام نوح عندهم لم يكن خوف منهم حتى يتوكل عليه السّلام، على الله سبحانه للتوقي من خوفهم.

فَأَجْمِعُوا أيها الكفار أَمْرَكُمْ حولي وَ شُرَكاءَكُمْ أي تعاونوا مع الذين اتخذتموهم شركاء لله سبحانه، و اعزموا على أمر واحد ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ لإيذائي عَلَيْكُمْ غُمَّةً غمّا و حزنا، بأن تتردّدوا فيه، و يكون لكم وجه الخلاص مني ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ انهضوا لتنفذوا تدبيركم علي وَ لا تُنْظِرُونِ لا تمهلونني حتى أفكر، و حتى أجمع قراري لمقابلتكم.

قال نوح عليه السّلام هذا لهم على وجه التحدّي و بيان أنهم لا يتمكنون من القضاء عليه و إن جمعوا كل قواهم و تشاوروا فيما بينهم و اتحدت كلمتهم و أسرعوا في تنفيذ كيدهم نحوه، فإنه مستعصم بالله و مستنصر به، و جميع القوى لا تتمكن أن توصل إليه سوء. و هذا أدل دليل على وجوده سبحانه، و إلا لتمكن أولئك الكفرة من القضاء عليه. و هذا كما تقول أقوى الدول لأضعف الحكومات: «افعلوا ما شئتم و اجمعوا أمركم و أسرعوا في تنفيذ خططكم فإنكم لا تتمكنون من شي ء».

[73] فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الحجج و الآيات و لم تقبلوا نصحي و تذكيري، فأنتم و شأنكم، إن

تولّيكم لا ينقص أجري و ثوابي فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ حتى ينقص بإعراضكم، كالمعلم الذي إذا أعرض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 545

[سورة يونس (10): الآيات 73 الى 74]

فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)

التلاميذ عنه نقص أجره. و الحاصل: إن أعرضتم عن قبول قولي لم يضرّني لأني لم أطمع في مالكم حتى يفوتني المال بتولّيكم عني، بل يعود ضرر تولّيكم عليكم إِنْ أَجْرِيَ أي: ما أجري إِلَّا عَلَى اللَّهِ سبحانه وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين يسلمون أمورهم إلى الله سبحانه، فإني ماض في رسالتي، مصمم على تبليغي، و إن توليتم و أعرضتم.

[74] فَكَذَّبُوهُ فكذّب أولئك الكفار نوحا عليه السّلام، و قالوا: أنت لست بنبي و أنكروا المبدأ و المعاد فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ من المؤمنين فِي الْفُلْكِ أي في السفينة وَ جَعَلْناهُمْ جعلنا نوحا عليه السّلام و المؤمنين معه خَلائِفَ خلفاء في الأرض بعد أولئك الكفار الذين أغرقوا وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فقد أمطرت السماء و تفجّرت العيون حتى أخذ الماء كل ما في الأرض، و هناك هلك الكفار أجمع فَانْظُرْ يا رسول الله- و الخطاب لكل من يصح منه النظر- و المراد ب «النظر» العلم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا و لم ينفع فيهم الإنذار.

و قومك هؤلاء يا رسول الله مثل أولئك، إن كذبوا و أرادوا القضاء عليك نصرناك عليهم و أهلكناهم.

[75] ثُمَّ بَعَثْنا أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ بعد نوح عليه السّلام

رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 546

[سورة يونس (10): آية 75]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)

كإبراهيم و هود و صالح و لوط و شعيب عليهم السّلام و غيرهم فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحة و الأدلة على المبدأ و المعاد و التكاليف فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فقد كانت تلك الأقوام مثل أسلافهم لا يؤمنون بالحق الذي كذبت الأسلاف به، فإن المكذبين لهم طبيعة واحدة، و من قبيل موحّد، كما أن المؤمنين من قبيل واحد، و لذا صح نسبة ما للأسلاف إلى الأخلاف، كما نسب سبحانه ما صدر من أسلاف اليهود إلى أخلافهم الذين كانوا في زمن نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ إن طبعنا على قلوب الذين يعتدون و يتجاوزون الحق، إنما هو بعد ما أغلقوا هم قلوبهم عن قبول الحق، و اعتدوا عن سنن الحق.

[76] ثُمَّ بَعَثْنا أي أرسلنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد أولئك الأمم و الرسل مُوسى وَ هارُونَ أخا موسى عليهما السّلام إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أشراف قومه أو كلّهم، فإن «الملأ» اسم للأشراف، لأنهم يملئون القلوب هيبة، و الأنظار زينة و نظارة بِآياتِنا أي أرسلناهما مع أدلتنا الدالة على صدق دعواهما من المعجزات و الخوارق فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد لها و الإيمان بها وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ قد أجرموا و ارتكبوا الآثام و المعاصي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 547

[سورة يونس (10): الآيات 76 الى 78]

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا

يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)

[77] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ جاء فرعون و قومه المطالب الحقة التي كانت مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا الذي جئتما به من الخوارق و المعجزات لَسِحْرٌ مُبِينٌ سحر واضح، لا حقيقة له و إنما هو شي ء يجعلنا نتخيل الأمور على غير واقعها.

[78] قالَ مُوسى عليه السّلام لهم: أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ سحر؟ و قد حذف محكي القول لدلالة الكلام عليه، و ذلك لنكتة أدبية هي أن تبقى النفس منتظرة فتذهب كل مذهب، تعظيما لتشنيع القائل، أو المراد من «أ تقولون»: أ تعيبون و تطعنون في الحق؟ أَ سِحْرٌ هذا هل هذا الذي جئت به من الخوارق سحر؟ و كم من فرق بين السحر و المعجز، فالسحر شي ء ضعيف له سبب خفي يتمكن أن يفعله أي واحد و لا يقترن بالتحدي، بعكس المعجز في كل ذلك وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ لا يظفرون بمرادهم تماما، فإنه تمويه و تزييف للمستضعفين، و لذا لم يوجد ساحر تمكّن من تكوين أمة و كانت له سيادة و رفعة.

[79] قالُوا أي قال فرعون و ملؤه لموسى عليه السّلام: أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا على نحو الاستفهام الإنكاري، أي: هل جئتنا يا موسى لتصرفنا- من «لفت» بمعنى صرف- عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام و الملوك، و ترشدنا إلى عبادة الله؟ إن هذا لا يكون وَ تَكُونَ لَكُمَا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 548

[سورة يونس (10): الآيات 79 الى 81]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ

مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)

الْكِبْرِياءُ السيادة و السلطة. فإنهم قالوا: إن موسى و هارون إنما ساقهم إلى هذه الدعوة إرادتهما أن يكونا سيدين ملكين على الناس، فهما من طلاب العظمة و السلطة فِي الْأَرْضِ أرض مصر و ما حولها وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدّقين في دعوى النبوة.

[80] وَ قالَ فِرْعَوْنُ لملئه: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بالسحر، بليغ في عمله، لأواجه موسى به، فإنه قد عجز عن دحض حجته، فأراد الاستعانة بالسحرة ليقابل موسى بالمثل فتبطل حجته عليه السّلام في زعمه.

[81] فجمعوا له السحرة من كل مكان و لما جاءَ السَّحَرَةُ جمع «ساحر» نحو: كهنة، و طلبة، جمع «كاهن» و «طالب». و جاء موسى عليه السّلام في محضر فرعون و الناس قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فإنهم كانوا يلقون حبالا و عصيّا من أيديهم على الأرض فيظهر للناس أنها حيّاة و أفاعي، و قد أرادوا بذلك بيان أن عصيّ موسى عليه السّلام أيضا من هذا القبيل، و إذا بطلت هذه المعجزة تمكنوا من الخدش في سائر المعجزات التي أتى بها، بأنها أيضا أقسام من السحر. و «ألقوا» ليس أمرا بالسحر، بل بيانا لبطلانه.

[82] فَلَمَّا أَلْقَوْا ألقت السحرة ما معها من الحبال و العصيّ قالَ مُوسى عليه السّلام لهم: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ «ما» مبتدأ و «السحر» خبره،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 549

[سورة يونس (10): آية 82]

وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)

يعني: إن الذي جئتم به هو السحر، و ليس السحر ما جئت به كما قلتم. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ يظهر بطلانه للناس إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ

فالله سبحانه لا يبقي على عمل يراد به إفساد الدين بطابع الإصلاح، و لا يمضيه، بل يبيّن بطلانه و يظهر زيفه.

[83] وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَ أي يظهر الله سبحانه الحق للناس و يحقّقه، حتى يرون أنه حق و أن ما عداه باطل بِكَلِماتِهِ التكوينية و هي «كن فيكون» وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أن يظهر الحق و يتبيّن زيف الباطل. و قد تحقّق ما قاله موسى عليه السّلام فألقى عصاه- و قد صارت ثعبانا عظيما- فأكلت كل تلك الحبال و العصي، و خرّ السحرة ساجدين، و بطل كيد فرعون، بل ظهر كون الحق مع موسى عليه السّلام و أنه نبيّ مرسل.

و هنا أمر لا بد من التنبيه عليه هو: أن القرآن إنما يأخذ موضع العبرة من القصة، و لذا نجده في كل مناسبة يذكر طرفا خاصا منها.

ففي مقام يذكر أول القصة، و في مقام وسطها أو آخرها، و في مقام يطرحها باختصار، و في مقام بتفصيل، حسب اختلاف المقامات. فإذا كان الحديث حول عاقبة المجرمين، ذكر غرق فرعون، و إن كان حول غلبة رسل الله بالحجة ذكر غلبة موسى في إلقاء عصاه، و إن كان حول العاقبة الحسنة للمؤمنين ذكر نجاة بني إسرائيل من مصر. و غالبا يخصّ الموضع المراد من القصة بجمل قصيرة من سائر مواضعها تحفظا على الربط و السياق.

و قد أكثر سبحانه من القصص المرتبطة بالأمم الموحّدة الباقية،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 550

[سورة يونس (10): آية 83]

فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)

و الأمم المشركة و الملحدة الباقية، لتكون لهم عبرة، أما تفصيل

قصص قوم لوط و شعيب و إلياس- مثلا- فليس من البلاغة، أما قصة موسى و عيسى فلا بد من تفصيلهما لأنهما صاحبا شريعة يتمسك الناس بها إلى يوم الوقت المعلوم، و هكذا بالنسبة إلى الاحتجاجات مع الملحدين و المشركين، فقد بقي أكثر أهل العالم ملحدين مشركين طول الخط حتى يوم الناس هذا.

[84] فَما آمَنَ لِمُوسى و لم يصدّق دعوته و ما جاء به إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي جماعة من الشباب- لا الكهول و الكبراء- و الضمير في «قومه» إما راجع إلى «فرعون» أي من قوم فرعون، أو راجع إلى موسى عليه السّلام أي: من بني إسرائيل، فإنهم كانوا من أقرباء موسى عليه السّلام لأن الجميع كانوا من أولاد يعقوب عليه السّلام. و كان إيمانهم عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ فقد كانوا يخافون بطشه و نكاله، وَ مَلَائِهِمْ أشرافهم و كبرائهم، أن يؤذوهم و أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يعذبهم فرعون و يصرفهم عن دينهم وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ قاهر متكبّر و سلطان فِي الْأَرْضِ فيقدر على ما يريد من التنكيل و العقاب وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا و تجاوزوا الحد في الطغيان، فقد أسرف في القتل و الظلم، و ادّعى الربوبية.

و السر في هذا أن الأنبياء دائما يأتون إلى الناس عزّل بلا سلاح و مال، و الملوك الذين هم ضدّهم مزوّدون بالأمرين، و الناس بحاجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 551

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 599

[سورة يونس (10): الآيات 84 الى 85]

وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)

إلى المال، كما أنهم يخافون من القوة، لذا

تجبرهم الطبيعة على عدم الاعتناء بالأنبياء و إن كان الغالب أنهم يصدقونهم قلبا، كما قال ذلك الشاعر للحسين عليه السّلام: «قلوبهم معك و سيوفهم مع بني أمية»، و قال تعالى: (وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) «1». و من ذلك نرى أن الملوك إذا قبلوا الدين دخل فيه أتباعهم.

أما سر أن الأنبياء عزّل هو أن يكون في الدين صعوبة ليكون المؤمن مستحقا للأجر و الثواب، و هذا هو سر فضيلة السابقين إلى الدين، لأنهم يلاقون من الصعوبة ما لا يلاقيه غيرهم.

[85] وَ قالَ مُوسى لقومه المؤمنين به: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ إيمانا صادقا راسخا فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فوّضوا أموركم إليه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي إن كنتم منقادين لله، فإن «الإسلام» هو الانقياد عملا، كما قال تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) «2»، فالإيمان هو الاعتقاد، و الإسلام هو التسليم، و بينهما عموم من وجه، فكم من معتقد لا يسلم، و كم من مسلم لا يعتقد.

[86] فَقالُوا أي قال قوم موسى: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فوّضنا أمورنا إليه واثقين بنصرته لنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فنكون امتحانا

______________________________

(1) النمل: 15.

(2) الحجرات: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 552

[سورة يونس (10): الآيات 86 الى 87]

وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

للكفار، كما قال سبحانه: (وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) «1». فإن الكفار يمتحنون و يفتنون بالمؤمنين، و معنى دعائهم: أن لا يسلّط الكفار عليهم، حتى يبتلوا بهم، و يكون الكفار ممتحنين بسبب هؤلاء.

و قد روي عن الإمامين الباقر و

الصادق عليهما السّلام أنهما فسرا الآية بأن معناها: لا تسلّطهم علينا فتفتنهم بنا «2».

[87] وَ نَجِّنا خلّصنا بِرَحْمَتِكَ بفضلك مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي فرعون و ملأه.

[88] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ هارون، لما قرب الأمر، و أردنا نجاتهم من أيدي فرعون و قومه أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً يقال: «تبوأ بيتا» أي اتخذ بيتا، من باب «باء» بمعنى «رجع»، فإن الإنسان يرجع إلى بيته كلما خرج، و لذا يسمى البيت «مبوأ». أي اجعلا لبني إسرائيل المؤمنين بكم في مدينة مصر بيوتا خاصة بهم وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال سعيد بن جبير إن معناه: اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أديموها و واظبوا على فعلها. و لعلّ هذين الأمرين باتخاذ البيوت بتلك الكيفية و إقامة الصلاة، أن الأول لجمعهم في محل واحد بعضهم قبال بعض فلا يكونوا منتشرين هنا و هناك،

______________________________

(1) الفرقان: 21.

(2) بحار الأنوار: ج 5 ص 216.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 553

[سورة يونس (10): آية 88]

وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)

و ذلك التكتّل و التنظيم مهم جدا في جمع الأفراد بصبغة واحدة، و لنشر الأخبار، و تنفيذ الأوامر فيهم بسرعة. كما أن إقامة الصلاة و توثيق الصلات بالله سبحانه تولد فيهم طاقة روحية و نشاطا، و تزكّي نفوسهم استعدادا لمقاومة القوم و عدم تأثير دعايات الكفار فيهم. و من المعلوم أن تزكية الروح لها أكبر الأثر في الانتصار و الثبات وَ بَشِّرِ يا موسى الْمُؤْمِنِينَ بالله ربك، بأنه سوف يفرّج عنهم.

[89]

وَ قالَ مُوسى مخاطبا لله سبحانه: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ أي أعطيته و الأشراف من قومه زِينَةً يتزيّنون بها من الملابس و المراكب و المساكن و غيرها وَ أَمْوالًا يديرون بها شؤونهم و يتعاظمون بها على غيرهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإنها توجب الإغراء في هذه الحياة بالنسبة الى الغير، كما توجب الكبرياء بالنسبة الى أصحابها. و كان ذكر هذه الجملة للتضرع إليه سبحانه ببيان كونهما صدا للدعوة هنا- في هذه الحياة- كما يقول الطالب شاكيا إلى مدير المدرسة: «إنك جعلت فلانا مراقبا في المدرسة، و هو فاسد» يريد بيان الضراعة في أن كونه في المدرسة يسبب الفساد.

رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ «اللام» للعاقبة، كما قال سبحانه:

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً) «1»، أي أن عاقبة إعطائك

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 554

المال لهم إضلال الناس عن دينك و طريقك و شريعتك رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ «الطمس» محو الأثر، و هنا بمعنى «الضرب» و لذا عدّى ب «على» أي اضرب عليها و امحي أثرها، حتى لا تكون سدا في طريق الدعوة.

و هل كان دعاؤه عليه السّلام بمسخها كما ذكر جمع من المفسرين، أو ذهاب البركة و إفنائها تدريجيا؟ احتمالان.

وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أبلغ بهم إلى غاية الشدة و القسوة التي يستحق بها العقاب، لانقطاع كل رجاء في إيمانهم، فإن الكافر لا يهلكه الله سبحانه إلا إذا انقطع كل رجاء- حسب الظاهر- عن قبول الحق، فكان هذا دعاء لسرعة إهلاكهم، بذكر السبب.

و من هذا القبيل دعاء الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لزيادة شقوة ابن ملجم، فإنه دعاء بالخلاص من القوم بذكر السبب، و حيث أن الأمر كائن لا محالة، فالدعاء بتقديمه

ليس خلافا لموازين الدعاء إذا كان فيه فائدة مهمة.

فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم الموجع، أي أنهم يلازمون عدم الإيمان إلى رؤية العذاب، و في ذلك الوقت لا ينفع الإيمان لأنه إيمان إلجاء لا إيمان عقيدة. و من المعلوم أن استحقاق العقاب و الثواب إنما هو بالعمل المنبعث عن العقيدة.

و ربما يحتمل أن المراد ب «اشدد» اتركها حتى تتشدد و تتصلب و لا تلطف بها ألطافك الخفية، فيكون كقوله (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 555

[سورة يونس (10): الآيات 89 الى 90]

قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)

فَما لَهُ مِنْ هادٍ) «1»، المراد به تركهم حتى يضلوا.

[90] قالَ الله سبحانه في جواب دعاء موسى و هارون عليهما السّلام: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما في طمس أموال فرعون و قومه و التشديد على قلوبهم فَاسْتَقِيما في الإرشاد و التبليغ و الدعوة إلى الله سبحانه.

روي عن الصادق عليه السّلام: «أنه كان بين قول الله عز و جل: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» و بين أخذ فرعون، أربعين سنة» «2».

وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ في الضجر من طول المدة، و عدم الوثوق و الاطمئنان بوعد الله سبحانه، فإن لله في أحكامه مصالح لا يتضجّر منها إلا الجاهل و لا يستبطئ و عوده إلا المستعجل.

[91] و جاء الموعد و خرج بنو إسرائيل بقيادة موسى عليه السّلام و وصلوا إلى البحر و انفلق الماء عن طريق لهم و جاء فرعون

بجنوده ليدركهم و يأخذهم و ينكّل بهم، و توسط قوم موسى البحر حتى دخل قوم فرعون و لما أن خرج موسى و قومه توسط البحر فرعون و قومه و إذا بالماء ينطبق عليهم و يغرقون جميعا وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ عبرنا بهم البحر حتى جاوزوه سالمين فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ أي مع جنوده بَغْياً وَ عَدْواً إنما اتّبعوهم ليبغوا عليهم حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ أدرك فرعون

______________________________

(1) الزمر: 24.

(2) تفسير العياشي: ج 2 ص 127.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 556

[سورة يونس (10): آية 91]

آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)

الْغَرَقُ أي وصل إليه الماء ليغرقه قالَ فرعون للتخلص من الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الإله الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ يعني الله سبحانه، فقد كان إلى ذلك الحين ينكره و يدعي الربوبية وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إني أسلم له. لكن إيمانه كان للتخلص و النجاة، بالإضافة إلى أن الإيمان لا ينفع إذا عاين الإنسان الموت كما قال سبحانه:

(وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) «1».

[92] و لما كان هذا الكلام قال له جبرائيل: آلْآنَ تؤمن على نحو الإنكار، فإن هذا الإيمان عن إلجاء و اضطرار وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ذلك بترك الإيمان و فعل المعاصي و الفساد في الأرض وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ في الأرض بظلم الناس و التعدي عليهم و إطفاء نور الأنبياء إلى غير ذلك.

روي عن الصادق عليه السّلام قال: «ما أتى جبرائيل رسول الله إلا كئيبا حزينا، و لم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون، فلما أمره الله بإنزال هذه الآية «وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»،

نزل عليه و هو ضاحك مستبشر، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أتيتني يا جبرائيل إلا و تبيّنت الحزن من وجهك حتى الساعة. قال: نعم يا محمد! لما أغرق

______________________________

(1) النساء: 19. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 557

[سورة يونس (10): آية 92]

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)

الله فرعون قال: «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل و أنا من المسلمين» فأخذت حمأة فوضعتها في فيه، ثم قلت له: «ءآلآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين» و عملت ذاك من غير أمر الله عز و جل، ثم خفت أن تلحقه الرحمة من الله عز و جل و يعذبني الله على ما فعلت. فلما كان الآن و أمرني الله عز و جل أن أودي إليك ما قلته أنا لفرعون، أمنت و علمت أن ذلك كان لله تعالى رضى» «1».

[93] فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ إن الناس غالبا لا يصدقون بموت العظماء، فكيف بمن ادّعى الربوبية و كان الناس يعبدونه. و لذا لما أخبر موسى عليه السّلام أن فرعون أغرق، لم يصدقه الناس، و لذا اقتضت حكمة الله سبحانه أن ينجي فرعون ببدنه، بأن ألقى بدنه الذي لا روح فيه على الساحل حتى رآه الناس. و لذا قال سبحانه «اليوم» أي يوم غرقك ننجيك يا فرعون ببدنك فقط، فلم يذهب مع الماء ليضيع جسمه، و لا أكلته الأسماك لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ من الناس آيَةً علامة على قدرة الله سبحانه، و أنه لم يكن فرعون إلها، فإن الإله لا يموت و لا يغرق. و الخطاب إما حقيقي بأن خوطب به

فرعون و هو حي، أو موجه إلى الناس يراد به إعلامهم بمصير كل ظالم، فالخطاب من قبيل خطابات العقلاء لما لا يعقل، كقول الشاعر:

أيا شجر الخابور ما لك مورقاكأنك لم تجزع على ابن طريف

و قوله:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 558

[سورة يونس (10): آية 93]

وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

أيا جبلي نعمان بالله خليانسيم الصبا يخلص إليّ نسيمها

وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ غافلون عن التفكير في أدلتنا و دلائلنا.

[94] وَ لَقَدْ بَوَّأْنا مكّنا بَنِي إِسْرائِيلَ بعد نجاتهم من فرعون و قومه، و خروجهم من مصر مُبَوَّأَ صِدْقٍ مكان ثبات و أمن، فإن المكان المتزلزل الذي لا يستقر فيه الإنسان هو مبوأ كذب، إذ لا وجه له واقع، فهو يحكي عما لا يكون، إذ ظاهره الاستقرار و باطنه الانفلات و الانقلاب. فقد مكّنهم سبحانه من الشام و بيت المقدس وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ بعد ما كانوا في أرض مصر متزلزلي المنزل حيث يضطهدهم فرعون، و لم يكن لديهم ما يأكلون حتى صفرت أيديهم من المال، لكن لم يبقوا على تلك الحالة، فإنهم لما طال عليهم الأمد اختلفوا، و لم يكن اختلافهم عن جهل فإنهم ما اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ و عرفوا كل شي ء، بل اختلفوا حسدا و استعلاء، كما هو شأن كل أمة، أنهم يتّحدون ما داموا قلة مضطهدين، فإذا كثروا و أمنوا و أثروا اختلفوا على المال و الجاه و ما أشبههما. إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فقد أحيلوا

إلى المحكمة الكبرى حيث لم يرضخوا لأحكام الله في الدنيا و لا ترافعوا إلى أنبيائه ليبيّنوا لهم الحق من الباطل فِيما كانُوا فِيهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 559

[سورة يونس (10): آية 94]

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94)

يَخْتَلِفُونَ من الأصول و الفروع. و قد روي أنهم انقسموا إلى إحدى و سبعين فرقة.

[95] و بعد تمام قصة موسى عليه السّلام و فرعون، يتوجه الخطاب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعرف الذين يشكّون، أنهم في شكّهم على غير حق بعد إقامة الحجة، و كثيرا ما يوجه الخطاب إلى أحد ما، ليعرف غيره قصد المتكلم على نحو «إياك أعني و اسمعي يا جارة». و من المحتمل أن يكون الخطاب لكل من يلتفت إلى هذه القصة، كما ذكر علماء البلاغة أن الخطاب في قوله تعالى: (وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) «1»، متوجه إلى كل من يأتي منه الرؤية.

فَإِنْ كُنْتَ يا رسول الله، أو إن كنت أيها السامع. و هذا لا ينافي قوله «مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» إذ يستعمل ذلك بالنسبة إلى كل من أمر بتبليغه، كما قال سبحانه: (أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) «2»، و (أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) «3»، باعتبار أن الغاية من الإنزال هم.

فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من العقائد الحقة و القصص السالفة فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فإنهم في واقع أمرهم يعترفون بكل ذلك و إن أنكره بعضهم عنادا و حسدا، فإن الكتب السالفة كانت تدل على كل تلكم الأصول و حقائق هذه القصص لَقَدْ جاءَكَ

______________________________

(1) السجدة: 13.

(2) الطلاق: 11.

(3)

الأنبياء: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 560

[سورة يونس (10): الآيات 95 الى 96]

وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96)

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يا رسول الله، أو أيها السامع، فإن القرآن و ما يشتمل عليه من الأصول و الأحكام و القصص كله حق لا مرية فيه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ «الامتراء» طلب الشك مع ظهور الدليل، و هو من «مرى الضرع» إذا مسحه ليدر، و لا معنى لمسحه بعد درّه الحليب.

و لا يخفى أن مثل هذا الكلام، إنما يفيد التلقين و الإيماء، فإن المطلب إذا ألقي على النفس قبلته. فلا يقال: ما فائدة هذا الكلام؟ إذ المخاطب إن كان شاكا لا يزول شكه بقولك: «لا تشك»، و إن لم يكن شاكا كان مثل هذا الكلام معه لغوا، كما أنه لا تنافي بين «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ» و بين «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» فإنها بمعنى: «إن كنت في شك فاسأل حتى يزول الشك و لا تبقى فيه إلى الأبد».

[96] وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي لا تكن في جملة المكذبين بأدلة الله و حججه التي أقامها على توحيده و سائر صفاته و أحكامه فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم و أموالهم و أهليهم إذ هم صرفوها و اشتروا بذلك العذاب و النكال.

[97] و بعد وضوح الحجة و ظهور المحجة و قيام الأدلة على ما أنزل على الرسول فما هو سبب إصرار قوم على الكفر و التكذيب؟ إنهم حقت فيهم كلمة الله، فقد بيّن سبحانه سابقا أن من أعرض عن الحق بعد وضوحه لا بد و أن يقسو قلبه حتى أنه

لو رأى كل آية لا يؤمن، فقد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 561

[سورة يونس (10): الآيات 97 الى 98]

وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)

أغلق قلبه و طبع عليه فلا يؤمن و إن رأى الحجج و الآيات إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي ثبتت لا يُؤْمِنُونَ بالله و ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[98] وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ خارقة تدل على صدق الأنبياء في الدعوة إلى التوحيد و سائر الأمور الدينية حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم الموجع، فهناك يتيقّنون بأنهم كانوا على ضلالة لكن إيمانهم حينذاك لا ينفعهم.

[99] إن سنة الله لا بد و أن تجري بالنسبة إلى المكذبين بإهلاكهم، و قد تقرّر أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، فهل هناك من خلاص من هذا العذاب و الهلاك؟ هنا يذكر سبحانه أن الخلاص ممكن و هو أن يسلك المكذبون- حتى و لو شاهدوا العذاب- مسلك المؤمنين فيؤمنوا و يرجعوا عن غيّهم فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها أي لماذا لم يؤمن أهل القرى التي أهلكناها، حين شاهدوا العذاب؟ و في «لو لا» معنى التأنيب نحو: «هلّا امتنعت عن النساء و قد دعيت إلى التعفف عنهن» إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء متصل فإن قوم يونس خارجون عن هذا التأنيب لَمَّا آمَنُوا بعد مشاهدة العذاب كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي رفعنا عنهم العذاب الموجب لخزيهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 562

[سورة يونس (10): آية 99]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ

مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)

أي في هذه الحياة القريبة فصرفنا عنهم العذاب وَ مَتَّعْناهُمْ أبقيناهم متنعمين بنعم الدنيا إِلى حِينٍ جاء أجلهم فماتوا بالآجال المكتوبة.

فقد ورد أنه ما رد الله العذاب إلا عن قوم يونس عليه السّلام فكان يدعوهم إلى الإسلام فأبوا ذلك، فهمّ أن يدعو عليهم، و كان فيهم رجلان عالم و عابد و كان اسم العالم «روبيل» و اسم العابد «تنوخا» و كان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم و كان العالم ينهاه و يقول: لا تدع فإن الله يستجيب لك و لا يحب هلاك عباده. فقبل يونس عليه السّلام قول العابد و لم يقبل قول العالم حين يئس منهم بعد ما دعاهم ثلاثا و ثلاثون سنة. فدعا عليهم، فأوحى الله إليه يخبره بأنه يأتيهم العذاب في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا، فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد و بقي العالم فيهم. فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب- بأن رأوا في اليوم الموعود ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير و حفيف- فقال العالم لهم:

يا قوم أفزعوا إلى الله فلعله يرحمكم فيرد العذاب عنكم. فقالوا: كيف نصنع؟ فقال: اخرجوا إلى المغارة و فرقوا بين النساء و الأولاد، و بين الإبل و أولادها، و بين البقر و أولادها، و بين الغنم و أولادها، ثم ابكوا.

و فعلوا ذلك و ضجّوا و بكوا، فرحمهم الله، و صرف عنهم العذاب، و فرق العذاب على الجبال و قد نزل و قرب منهم «1».

[100] وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ يا رسول الله لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من البشر كُلُّهُمْ جَمِيعاً بلا استثناء أحد. و لذا جي ء

بتأكيدين، حتى لا يظن

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 317.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 563

[سورة يونس (10): آية 100]

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)

أن التأكيد الأول عرفي لا حقيقي، فإنه سبحانه قادر على أن يلجئ الناس إلى الإيمان، كما أنه قادر على أن يحف الإيمان بالمغريات التي ترغّب الناس في الإيمان تلقائيا بلا جبر، لكنه لم يشأ الأمرين، إذ تعدم فائدة الإيمان حينئذ لعدم حصول الاختبار بالإكراه و الإغراء أَ فَأَنْتَ يا رسول الله تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لا ينبغي لك إكراه الناس على الإيمان، أو لا تقدر على ذلك، فإن الإيمان أمر قلبي لا يدخل تحت طوقك.

فإن قيل: فلما ذا يكره الإسلام الناس على ترك المنكرات و فعل الواجبات؟

قلنا: إن ذلك بالنسبة إلى من قبل الدين كمن قبل القانون الذي يجبر على تطبيقه عليه، أما من لم يقبل و هو مورد الآية فلا إكراه له.

فإن قيل: فكيف لا يقبل الإسلام من الكفار غير الكتابيين إلا الإسلام أو القتال؟

قلنا: إن ذلك إذا خرقوا العهود التي بينهم و بين المسلمين، و ذلك غير الإكراه الابتدائي.

[101] إن الله سبحانه لم يكره الناس على الإيمان، و لكنه بيّن لهم الطريق، فإن أحدا لا يتمكن من الإيمان إلا بإذنه سبحانه، بأن يهديه الطريق، أما من هداه و أرشده ثم أعرض عنه و سلك طريقا آخر فالله سبحانه يجعل عليه الرجس الروحي، إذ تنغلق منافذ عقله، و تتردى نفسه في مهاوي الضلالة التي هي أبشع أنواع الرجس وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 564

[سورة يونس (10): آية 101]

قُلِ انْظُرُوا

ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)

إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بأن يمكنها من الإيمان و يدعوها إليه و يرشدها إلى طريقه وَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ الدنس الروحي الذي هو أسوأ أقسام الدنس، فإن القذارات الظاهرية تذهب بالغسل و نحوه، أما القذارة الروحية فلا تذهب بألف غسل و غسل عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي لا يعملون عقولهم للاستضاءة و الاستنارة.

[102] قُلِ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الآيات الدالة على توحيد الله سبحانه و صفاته، فإن في كل شي ء آية.

قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، و ما خلاهن فهو فضل» «1».

فالآية المحكمة: هي الآيات الكونية الدالة بإحكامها و إتقانها على التوحيد و سائر صفاته سبحانه من العلم و القدرة و الحياة و الإرادة، و أنه لا يفعل العبث .. و غيرها.

و الفريضة العادلة: هي الأخلاق التي هي فرائض بأن يسير البشر في عدلها و وسطها، فلا جبن و لا تهوّر بل شجاعة، و لا بخل و لا سرف بل جود، و لا شره و لا تزهد بل عفة ... و هكذا.

و السنة القائمة: هي الأحكام الإسلامية التي هي سنن الحياة السعيدة و مناهجها القائمة إلى الأبد، لا تزول و لا تتغير.

______________________________

(1) عوالي اللآلي: ج 4 ص 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 565

[سورة يونس (10): الآيات 102 الى 103]

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ

(103)

وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ أي لا تفيد هذه الدلالات و البراهين الجلية، و لا يفيد الإنذار و الوعظ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ إذ أنهم أغلقوا قلوبهم و غمضوا أبصارهم. و إنما عدي ب «عن» لأنه أشرب معنى «الدفع»، أي لا تدفع الآيات و العضلات العذاب عن قوم لا يؤمنون، فقد كان السياق حول عذاب المكذبين و أنه سبحانه يجعل الرجس عليهم.

[103] فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ أي ينتظر هؤلاء الكفار الذين لا تفيدهم الآيات و النذر، و الاستفهام إنكاري إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أي إلا العذاب و الهلاك، و المراد بأيامهم: وقائعهم المؤلمة، و معنى «خلوا» مضوا. و الحاصل أنهم إن لم يؤمنوا فلينتظروا العذاب كما نزل بقوم عاد و ثمود و غيرهم قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار:

فَانْتَظِرُوا مثل تلك الأيام بعد ما أعرضتم عن الإيمان إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فلننتظر جميعا حتى يأتيكم العذاب.

[104] ثُمَ عند نزول العذاب نُنَجِّي رُسُلَنا فلا يصيبهم مكروه وَ الَّذِينَ آمَنُوا من بين أولئك الكفار، فلا يحرق الرطب مع اليابس- كما اشتهر على ألسنة الناس- كَذلِكَ أي كما ننجي الرسل حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي نجاة المؤمنين لازم علينا في الحكمة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 566

[سورة يونس (10): الآيات 104 الى 105]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)

و يحتمل أن يكون «كذلك» للمؤخر- لا المقدم- أي نجاة المؤمنين الآن كنجاة المؤمنين سابقا.

[105] قُلْ يا رسول الله: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب

للناس بصورة عامة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي و طريقتي التي جئت بها، أ حق هي أم باطل؟ فلا تدرون ذلك، فإن شككم لا يزحزحني من عقيدتي و دعوتي، بل أبقى صامدا للدعوة فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ و لا يثنيني إلى عبادة تلك الآلهة كثرة عبّادها و شككم في ديني، كما هو الغالب في الأفراد الذين يدعون إلى طريقة فلا يجدون مؤيدين لها فيعدلون عنها وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فهو الذي يميتكم و تكون ناصيتكم في قبضته و مصيركم إليه. و هذا تهديد لهم، و تذكير بأن الموت بيد الله سبحانه و ليس للأصنام شي ء وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بالله و كتبه و رسله و شرائعه.

[106] و كأن المقام صار مقام مخاطبة الله لنبيه، و أن الشاكين حاضرين في محضر الرسول حين يتلقى الوحي، من باب الإلفات الذي هو نوع من البلاغة، و لذا قال: وَ أَنْ أَقِمْ يا رسول الله وَجْهَكَ و اتجاهك فإن «الوجه» لمّا كان المحل الذي يتوجه الناس به إلى غيرهم، أمر بإقامته، و عدم صرفه إلى هنا و هناك لِلدِّينِ أي طريقة الإسلام حَنِيفاً أي في حال كونك مائلا عن سائر الأديان، أو مستقيما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 567

[سورة يونس (10): الآيات 106 الى 107]

وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

طريقتك و دعوتك وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين

يشركون بالله غيره، و كأن عطف «أن أقم» على تقدير: «قيل لي» أن أقم.

[107] وَ لا تَدْعُ يا رسول الله مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله سبحانه ما لا يَنْفَعُكَ إن أطعته وَ لا يَضُرُّكَ ضرر معتد به إن عصيته. و إنما قيدنا بذلك لأنه المفهوم، فإن الله سبحانه هو المستقل بالنفع و الضرر أما غيره من الآلهة المزعومة فمنها ما لا ينفع و لا يضر إطلاقا، كالأصنام، و منها ما لا ينفع و لا يضر إلا بإذن الله سبحانه، كفرعون و نمرود و غيرهما من الأصنام البشرية فَإِنْ فَعَلْتَ تلك العبادة و الدعوة لغير الله فَإِنَّكَ إِذاً في ذلك الحين مِنَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بإيجاب العذاب عليها و على سائر الناس فيما لو صاروا سببا للضلال و الغواية. و لا ينافي كون الخطاب متوجها إلى النبي مع مقام عصمته، لأنه تعليمي، بالإضافة إلى إمكان استحالة المقدم في الشرط، و إنما صدق الجملة بصدق الملازمة.

[108] الأصنام و الآلهة المزعومة لا تنفع و لا تضر، أما الله سبحانه فهو وحده المالك للنفع و الضرر و لكل شي ء، فمن اللازم أن يدعوه الإنسان وحده وَ إِنْ يَمْسَسْكَ يا رسول الله اللَّهُ بِضُرٍّ أي إن أحلّ ضرا. و كأن الإتيان بلفظ «المس» لإفادة أن أقل مقدار من الضر الذي يمس الإنسان مسا، لا كاشف له سوى الله، فكيف بالمقدار الكبير منه؟ فَلا كاشِفَ لَهُ لا دافع له إِلَّا هُوَ إلا الله وحده، فهو القادر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 568

[سورة يونس (10): آية 108]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ

بِوَكِيلٍ (108)

على دفع الضر وَ إِنْ يُرِدْكَ من «أراد يريد» بِخَيْرٍ يقال: «يريدك بالخير» و «يريد بك الخير» بمعنى واحد فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ أي لا يقدر أحد على منعه.

قال بعض المفسرين: إن ذكر الإرادة مع الخير، و المس مع الضر، لتلازم بين الأمرين، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، و أن الضر إنما يمسّ البشر لا بالقصد الأول، و وضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاقا لهم عليه، و لم يستثني لأن مراد الله لا يمكن رده «1».

يُصِيبُ بِهِ أي بالخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فيعطيه كما تقتضي حكمته البالغة وَ هُوَ الْغَفُورُ لذنوبهم الرَّحِيمُ بهم يرحمهم و يتفضل عليهم.

[109] و أخيرا جاء الحق إلى الناس، و الرسول مأمور بالتبليغ، و بعد ذلك كل امرئ و ما اختار قُلْ يا رسول الله للناس: يا أَيُّهَا النَّاسُ على نحو العموم قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ هو دين الإسلام المشتمل على كل شي ء مما يحتاجه الإنسان في مختلف مجالات الحياة مِنْ رَبِّكُمْ إلهكم الحقيقي و مربّيكم فَمَنِ اهْتَدى إلى الحق فَإِنَّما يَهْتَدِي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 68 ص 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 569

[سورة يونس (10): آية 109]

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)

لِنَفْسِهِ فإن فائدة هدايته عائدة إليه وَ مَنْ ضَلَ عنه و عدل إلى سائر السبل فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي على نفسه، فإن ضرر الضلال يعود إلى الإنسان نفسه وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فلست أنا مسئولا عمن ضل بعد إراءته الطريق و إرشاده السبيل، فأنتم موكلون إلى أنفسكم و ليس عليّ إلا البلاغ.

[110] وَ اتَّبِعْ يا رسول الله ما

يُوحى إِلَيْكَ من قبل الله سبحانه، بتنفيذ أوامره وَ اصْبِرْ على إيذاء الكافرين و المشركين حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بينك و بينهم بالغلبة و الثواب لك هنا، و العقاب لهم هناك وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فإنه يحكم بالعدل، و لا يغمط أحدا حقه و يشهد كل شي ء فلا يزيغ به حكم، و لا يميل به باطل، فهو الحاكم بالعدل و الصواب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 570

11 سورة هود مكية/ آياتها (124)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على قصة هود النبي عليه السّلام و حيث أن سورة يونس اختتمت باتباع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للوحي، ابتدأت هذه السورة بالوحي.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الله، فإن للاسم خواصا، و لذا نرى أن سماع اسم المحبوب يزيد الإنسان نشاطا، كما أن سماع اسم المكروه يزيد الإنسان انقباضا، بالإضافة إلى أن اسم الله يطرد الشياطين و يوجب عناية الله للذي ذكره، و تركيز لصفة الرحمة في نفوس الناس، إنه هو الرحمن الرحيم، فليتخلّق الإنسان بأخلاقه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 571

[سورة هود (11): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (2)

[2] الر رموز بين الله و الخلق، أو أن من جنس «أ، ل، ر» كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ فكل آية من آياته محكمة متينة ليست رخوة لا تلائم الواقع و الحياة، و تكون غير صالحة لكل زمان أو مكان، بل إنها كالأحجار الكريمة المستحكمة التي لا يدخلها نقص و رخاوة و تفكك، ثُمَّ فُصِّلَتْ كل آية قد وضعت موضعها المناسب لها، كما يفصل الكتاب إلى أبواب و

فصول، فليس نظمها مهلهلا غير منظم، كالبناء المحكم ذي الأحجار و الأدوات القديمة و الذي ينظم و يفصّل تفصيلا منسجما صحيحا دقيقا، فالآية محكمة بذاتها، منظمة في مكانها.

و هو مِنْ لَدُنْ أي من عند إله حَكِيمٍ في أفعاله يضع الأشياء في مواضعها، فلا يفعل شيئا اعتباطا و عبثا و إنما بالحكمة و الصلاح خَبِيرٍ عليم بالأشياء، فإن الحكمة غير العلم، إذ ربما حكيم غير عالم، كما أنه ربما عالم غير حكيم.

[3] أَلَّا تَعْبُدُوا تقديره «لأن لا تعبدوا»، فهو متعلق ب «أحكمت» أي أنزل الكتاب المحكم المفصل لعلّة أن لا تعبدوا، فهو منصوب محلا، كما تقول: «كتبت إليك أن تتعلم» إِلَّا اللَّهَ فهو وحده المستحق للعبادة و الطاعة لا إله سواه إِنَّنِي لَكُمْ أيها الناس مِنْهُ من طرفه سبحانه نَذِيرٌ أنذر العاصين بالعقاب وَ بَشِيرٌ أبشر المطيعين بالثواب.

و كان ذكر الإنذار قبل التبشير، للزوم تطهير النفس عن الكفر و المعاصي أولا ثم تحليتها بالفضائل، قالوا: و لذا قدم النفي على الإثبات في «لا إله إلّا الله».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 572

[سورة هود (11): آية 3]

وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)

[4] وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا غفرانه فيما سلف من ذنوبكم ثُمَّ تُوبُوا ارجعوا إِلَيْهِ في أموركم، فإن الاستغفار و التوبة أمران، فإن الأول تطهير، يمكن أن يرجع الإنسان- بعده- إلى الله و يمكن أن يرتكس في الذنوب، و إن كان الغالب استعمال كل واحد منهما و يراد به الاثنان.

و الحاصل أن الإنسان يحتاج إلى تطهير ما سبق، و طهارة المستقبل، فالاستغفار وضع

للأول، و التوبة للثاني، و إن استلزم كل واحد الآخر يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً فإنه إن استغفرتم و تبتم تفضّل عليكم بالمتاع الحسن من رزق و أثاث و رياش، و حسنه بجماله الذاتي و أن لا يكدّره قلق و مرض و ما أشبههما إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت مسمى عنده، و هو منتهى عمركم وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ فمن أوتي بالفضل عن الاستغفار و التوبة آتاه الله سبحانه فضلا و زيادة على المتاع الحسن، فالمطيع له المتاع الحسن و المطيع الذي يزيد في طاعته على أصل الواجب بالمندوبات و نحوها يعطى أزيد على قدر فضله وَ إِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا و أصله «تتولوا» بحذف إحدى التاءين- على القاعدة- و «التولي» بعدم الإيمان أو عدم الاستغفار و التوبة فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة، الذي تعظم الأهوال فيه و تكبر، فإن كان التولي بالمعصية كان الخوف بمعناه، فإن العاصي يخاف عليه، لا إنه يقطع بعذابه، لاحتمال خلاصه بالعفو و الشفاعة، و إن كان التولي بالكفر كان لفظة «الخوف» من التواضع في الكلام لمن لا يعتقد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 573

[سورة هود (11): الآيات 4 الى 5]

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)

[5] إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم، و معناه إلى حسابه و جزائه رجوعكم بعد الموت وَ هُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر على إحياء الأموات، و محاسبتهم و جزائهم و قد اشتملت هذه الآيات على التوحيد و النبوة و المعاد، و تعديل السلوك في الحياة.

[6] و يواجه

هذا الكتاب الحكيم و هذا الرسول البشير النذير جماعة من الناس بالإعراض بحني رؤوسهم و ثني صدورهم كما يفعل كل من يريد أن يخفي نفسه منك و لا يعتني بك و بكلامك أَلا فلينتبه السامع إِنَّهُمْ أي الكفار يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يطوونها و يدخلون بعض أجزائها في بعض كالمطرق الشديد الإطراق لِيَسْتَخْفُوا يطلبون بذلك تخفيهم مِنْهُ من الله أو من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَلا فلينتبه السامع حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يتغطون بثيابهم، فإن الإنسان المعرض يتلفّح بثوبه، إما بأن يضعه على رأسه، أو يخفي به بعض جسده، و لعل بعضهم كان يفعل ذلك إظهارا لإعراضه حين يقرأ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن. يَعْلَمُ الله ما يُسِرُّونَ يخفون وَ يعلم الله ما يُعْلِنُونَ عند ما يستغشون ثيابهم إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي الصفات و الأسرار الكامنة فيها، فلا ينفعهم ثني الصدور و استغشاء الثياب في تخفيهم عليه سبحانه، فإنه العالم بكل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 575

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثّانى عشر من آية 7 من سورة هود إلى آية 53 من سورة يوسف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 576

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 577

[سورة هود (11): الآيات 6 الى 7]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ

مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

[7] إنه سبحانه عالم بكل شي ء، و لو لم يعلم كل شي ء لم يقدر على إيصال الرزق لكل دابة صغيرة أو كبيرة وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ «الدابة» كل حيوان يدبّ على وجه الأرض، و هذا من باب المثال، و إلا فمن الحيوانات ما لا يدب، كما أن منها ما ليس في الأرض إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها و لعلّ تخصيص الرزق بالذكر، للزومه عدة أمور من علم و حكمة و قدرة و غيرها، و لتكرره كل يوم- غالبا- وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها مستقر تلك الدواب وَ مُسْتَوْدَعَها و لعلّ الأول عبارة عن كل محل تقرّ فيه، و لو لم يكن مكانها، و الثاني محلها الذي هو عيشها و منزلها.

و قيل في ذلك أقوال أخرى كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي إن جميع ذلك بالإضافة إلى أنها معلومة لله سبحانه مدرجة في كتاب واضح، و لعله هو اللوح المحفوظ.

[8] وَ هُوَ سبحانه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لا أكثر و لا أقل، و قد جرت حكمة الله سبحانه على الخلق التدريجي كما نشاهده في النبات و الحيوان و الإنسان، و كذلك كان خلق السماء و الأرض، و خصوصية ستة أيام كخصوصية الآماد المعينة في سائر الأشياء كتسعة أشهر مثلا للجنين. و الظاهر أن المراد: مقدار ستة أيام، إذ لم يكن في ذلك الوقت يوم بمعناه الحالي وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ فقد كان سلطانه سبحانه و تصرفه- و هو المتبادر من العرش كما يقال: عرش الملك الفلاني من البلاد الكذائية إلى البلاد الكذائية- على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 578

[سورة هود

(11): آية 8]

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)

الماء، قبل خلق السماوات و الأرض، فإن الله قبل خلق السماوات و الأرض خلق ماء ثم كوّن الكون، و أما لم ذلك؟ فعلمه لدى علّام الغيوب لِيَبْلُوَكُمْ يختبركم و يمتحنكم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إن خلق السماوات و الأرض كان استعدادا لإمكان خلق الإنسان ليمتحن، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خلق الأشياء لأجلك».

أما خصوصية «الستة» و كون العرش على الماء، فهو من توابع الخلق لأجل الامتحان، لا من صميمه- كما يظهر لنا من السياق- كأن تقول: «هيأت لولدي الدار الفلانية في سنة، لأسكنه فيها». ثم إن ذلك كان لأجل امتحان البشر و ليظهر أيهم أحسن عملا، حتى يكون الجزاء وفق الامتحان، و من الغريب- إذن- أن ينكر أحد الجزاء وَ لَئِنْ قُلْتَ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ للحساب و الجزاء لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسله إِنْ هذا أي: ما هذا القول حول البعث إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي تمويه واضح، لا حقيقة له.

[9] إنهم يكذبون بكل شي ء لم يروه، و قد وعدناهم بالعذاب لكنه تأخر عنهم، فيستعجلونه استهزاء، و ينكرونه كما ينكرون البعث وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الذي يستحقونه بتكذيبهم للرسول و إنكارهم لله سبحانه إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ «الأمة» بمعنى «الحين» أي إلى أجل مسمّى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 579

[سورة هود (11): آية 9]

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9)

و وقت معين عدّت أيامه في علم الله سبحانه لمصالح خاصة لَيَقُولُنَ على وجه

الاستهزاء: ما يَحْبِسُهُ أي: أيّ شي ء يؤخر هذا العذاب الموعود عنّا إن كان الوعد حقا، فتأخيره دليل على كذبه أَلا فلينتبه السامع يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ لا يقدر أحد على صرفه عنهم، بل يأخذهم و يهلكهم وَ حينذاك حاقَ بِهِمْ أحاط بهؤلاء المكذبين ما أي العذاب الذي كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فلا منجي لهم و لا مهرب. أما تأخير العذاب فلأجل إيمان من يؤمن، ممن يعلم الله إيمانه منهم، و لينشأ بعض الذراري من أصلاب الكفار، و إنما يأخذ الله سبحانه بعذاب الاستئصال من لم يجد منه خيرا إلى الأبد.

[10] إن الإنسان عجول في حكمه و تقلبه فهو يستعجل العذاب، كما أنه ييأس لمجرد نزول البلية، و الفخر بمجرد نزول النعمة وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أنزلنا إليه رحمة ذاقها، من صحة أو مال أو ولد أو نحوها. و المراد ب «الذوق» هنا مطلق الإدراك، فإنه يستعمل فيما يتذوق باللسان، و فيما يدرك بالحواس الظاهرة، و فيما يدرك و لو بالحواس الباطنة، كما أن الرؤية كذلك، تقول: رأيت وجه زيد، و رأيت خشونة الحصير، و رأيت الله أكبر كل شي ء ثُمَّ نَزَعْناها أي سلبنا تلك النعمة مِنْهُ من الإنسان لمصلحة اقتضته إِنَّهُ أي الإنسان لَيَؤُسٌ ذو يأس و قنوط كَفُورٌ يكفر بالله و ييأس من روحه و رحمته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 580

[سورة هود (11): الآيات 10 الى 12]

وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ

كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (12)

[11] وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ جعلناه يتذوق و يدرك، نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي بعد بلاء أصابه لَيَقُولَنَ الإنسان عند نزول النعماء به: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ أي الأمور التي تسوء صاحبها من فقر و مرض و عقم و ما أشبه عَنِّي فكأنه أمر عادي طبيعي لا يشكر الله على ذهابها، و لا يرى أنه هو الذي أذاقه النعمة إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ يفرح و يفخر على الناس فلا يصبر عند البلية و لا يشكر عند النعمة، إنه عجول في جميع أحواله في نعمة كان أم في نقمة.

[12] إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدة فلم يكفروا، و على النعمة فلم يبطروا، فإن النعمة تحتاج إلى الصبر، كما أن البلية تحتاج إليها، و رب إنسان أنعم الله عليه فلم يصبر على النعمة حتى بدّلها كفرا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فلم يعملوا بالسيئات عند النعمة أو البلية أُولئِكَ الصابرون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران ذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ في الدنيا بالسعادة، و في الآخرة بالجنة و الرحمة و الرضوان.

[13] ما هو موقف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمام هؤلاء الكفار الذين يقولون عن البعث أنه سحر مبين، و يكفرون عند الشدة، و يبطرون عند النعمة؟ إنه لا بد و أن يضيق صدره، خصوصا و أنهم يطلبون منه ما لا يرتبط بالرسالة تعنّتا.

و

قد روي أن رؤساء مكة من قريش أتوا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 581

يا محمد! إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكة ذهبا، أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة. فنزلت هذه الآية «1».

و في التأويل،

ورد عن الإمام

الصادق عليه السّلام: «أن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعلي عليه السّلام: إني سألت ربي أن يؤاخي بيني و بينك ففعل، و سألت ربي أن يجعلك وصيّي ففعل، فقال بعض القوم: و الله لصاع من تمر في شنّ بال أحب إلينا مما سأل محمد ربّه، فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوه، أو كنزا يستعين به على فاقته. فنزلت «2»:

فَلَعَلَّكَ يا رسول الله تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ من التنقيص لآلهة المشركين و تسخيف عقائدهم و أعمالهم، كأن لا تقرأ بعض آي القرآن التي فيها هذه الأمور، خوفا من أذى الكفار و استهزائهم وَ ضائِقٌ بِهِ بذلك الوحي صَدْرُكَ فإن الإنسان إذا همّه أمر ارتفعت درجة حرارته مما يتطلب هواء كثيرا، و في النفس العميق تنتفخ الرئة كثيرا مما يسبب ضيق الصدر عند انتفاخها أَنْ يَقُولُوا أي كراهة أن يقول الكفار: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي لماذا لم ينزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَنْزٌ من المال ليستعين به على فقره أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ليشهد بصدقه، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا ذكر آلهتهم و نقائصهم قابلوه بالاستهزاء بمثل هذه الأمور «لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك» يريدون بذلك كفّه عن بعض الوحي.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 103.

(2) الكافي: ج 8 ص 378.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 582

[سورة هود (11): آية 13]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13)

و هنا يرشده سبحانه أنه لا يحتاج إلى كنز أو ملك إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ تنذر الناس،

و المنذر لا يحتاج إلى كنز، و إنما طالب المال يحتاج إليه، كما أنه لا يحتاج إلى الملك، بل إنه بحاجة إلى التصديق، و قد كانت معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أدلة الصدق، من المعجزات الباهرات وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ فهو الموكل بهم، و المتصرف في أمورهم، و «الوكيل» هو العارف بالصلاح دونهم، فما يفعله من عدم تلبية مثل هذه الخوارق إنما ذلك من صلاحهم و إن لم يعرفوا.

[14] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل يقولون إن الرسول افترى القرآن على الله سبحانه و نسبه إليه كذبا مع أنه ليس من عنده قُلْ يا رسول الله لهم:

إن كان القرآن من كلامي و ليس من كلام الله سبحانه فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ أي مختلقات من عند أنفسكم، فإنه لو كان من كلام البشر لتمكن البشر من الإتيان بمثله.

و ليس لأحد أن يقول كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الدرجة الأولى في البلاغة، لذا لم يقدروا أن يأتوا بمثله. إذ كونه بالدرجة الأولى لا تمنع أقرانه أن يأتوا بجزء من بلاغته. و من المعلوم بأن القرآن كبير فليأتوا بمثل بعضه، كما أن كون أحد المهندسين أقوى من غيره في التصميم و رسم الخرائط، ليس معناه أن سائر المهندسين لا يتمكنون حتى و لو بتخطيط تصميم واحد كتصميمات ذلك المهندس الكثيرة، بل معناه أنه من حيث المجموع أقدر من غيره. ثم لو كان افتراء لزم- عقلا- تعجيز الله له، و إلا لزم الإغراء بالجهل، و لذا لم يدّع أحد النبوة كاذبا إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 583

[سورة هود (11): آية 14]

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ

وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

فضح كما نرى الشي ء الكثير منه في التاريخ.

وَ ادْعُوا أيها المكذّبون مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لمناصرتكم في الإتيان بعشر سور مثل القرآن إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم أن القرآن افتراء، و ليس من عند الله سبحانه.

[15] فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي إن لم يجبكم هؤلاء الكفار إلى الإتيان بمثل عشر سور، و لعل الإتيان ب «لكم» خطابا للمسلمين، لأجل أن المسلمين كانوا يحاجّون الكفار بمثل هذه الاحتجاجات، و الكفار لم يكونوا يتمكنون من الإجابة فَاعْلَمُوا أيها المسلمون أَنَّما أُنْزِلَ القرآن بِعِلْمِ اللَّهِ فإن علمه وحده كفيل بأن يأتي بشي ء لا يقدر عليه البشر، أما غيره فلا علم له بحيث يعلم ما لا يقدر عليه كل البشر حتى يتحدّاهم. و معنى «اعلموا» أن ذلك العجز دليل على أنه من الله سبحانه، إذ لو لم يكن من عنده سبحانه لشحذ الكفار أفكارهم، و عقدوا ندوات و جاءوا أخيرا بمثل القرآن، لتوفّر الدواعي لذلك، فإن القرآن كان السلاح الوحيد الذي يتحداهم، و يبنى عليه إبطال كل مزاعمهم، فلو ملكوا أن يأتوا بمثل القرآن و لو بعد جهد و صعوبة، لأتوا حتى يستريحوا، و تكون لهم حجة على مزاعمهم بأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس صادقا فيما يقول.

وَ اعلموا أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإنه لو كان له شريك، لتمكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 584

[سورة هود (11): آية 15]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15)

من إسعاف هؤلاء المشركين به ليأتوا بمثل القرآن، فإذا لم يأتوا به دل ذلك أن الله واحد لا شريك له

و لا مثيل فَهَلْ أَنْتُمْ بعد قيام الحجة عليكم مُسْلِمُونَ لكنهم لم يسلموا، بل ظلوا يحاربون الإسلام حتى خضعوا بالقوة.

ثم إن القرآن تحدّى الكفار مرة بالإتيان بسورة، و مرة بالإتيان بعشر سور، و مرة بالإتيان بمثل القرآن كله، فهل كان التحدي بهذا الترتيب؟ قاله بعض المفسرين، و قال آخرون: إن التحدي بعشر سور كان بعد التحدي بسورة واحدة، فما السر؟

الظاهر أن المراد: عدم إمكانهم أن يأتوا بشي ء مثل القرآن، سواء سورة واحدة منه أو أكثر، فإن ذلك خارج عن موضوع التحدي، و إنما اختلف حسب المقامات، و ذلك كما أن الطبيب إذا أراد تحدي من لا معرفة له بالطب و هو يدعي ذلك: يقول: «اشف مريضا، اشف عشرة مرضى، اشف من في البلد»، فإنه لا يريد إلّا التحدي، لا عدد المرضى الذين يريد المدعي علاجهم.

[16] إن الكفار الذين لم يرضخوا للقرآن و الحق، إنما كانوا يخافون منه على منافعهم الدنيوية من رئاسة و مال و ما إليهما، فكيف يستعدّ من هو سيد قومه في قريش أن يذعن للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي يزعم أنه دونه في المجتمع، و كيف يرضخ الرئيس الديني اليهودي الذي تجبى إليه ثمرات عمل ألوف اليهود أن يترك كل ذلك، ليكون له ما للمسلمين و عليه ما عليهم. و لذا يذكرهم سبحانه بهذه الحقيقة الكامنة في نفوسهم مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا أي الحياة القريبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 585

[سورة هود (11): الآيات 16 الى 17]

أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ

مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)

وَ زِينَتَها أي بهجتها و زخارفها، و هو معرض عن الآخرة نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي: نوفّ لهم جزاء أعمالهم، فإن كل عمل فيه جزاء و لا بد أن يرى الإنسان- صالحا أو طالحا- جزاء عمله وَ هُمْ فِيها في الحياة الدنيا لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون منها شيئا. فإن «البخس» بمعنى النقصان.

[17] أُولئِكَ المريدون للدنيا فقط، هم الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ إذ لم يعملوا في الدنيا عملا يستحقون به الجنة، بل عملوا ما استحقوا به النار و العذاب وَ حَبِطَ بطل ما صَنَعُوا فِيها ما عملوا في الدنيا من أعمال الخير، إذ لم تكن أعمالهم لله سبحانه حتى يستحقوا عليها الثواب، و حيث أن الثواب لازم طبيعي للعمل الصالح، عبر ب «الحبط» بالنسبة إلى ما لا ثواب له- نظرا إلى نوعه- و إن كان الأمر ليس من الحبط حقيقة وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فإن مبرّاتهم باطلة لا ثمرة لها، إذ لم تكن جامعة لشرائط الصحة.

[18] صنف من الناس يريد الحياة الدنيا و زينتها، و صنف من الناس على بيّنة من ربه، فهو يعرف طريقه و يؤمن بالآخرة كما يؤمن بالأولى- فطرة- و عنده شاهد يشهد له بصدق فطرته، و هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سبقه مصدّق بطريقته كتاب موسى عليه السّلام. إن هؤلاء الصنف يؤمنون بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنهم ينظرون إلى فطرتهم، و إلى الشاهد، و إلى

الوثيقة السابقة. أما غيرهم فالنار موعدهم. هذا هو ظاهر الآية، و يؤيده ما دلّ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 586

على حجية العقل و صحة حكم الفطرة، فهو كبيّنة من الرب.

؟ و قد روي عن الإمام زين العابدين عليه السّلام تفسير «الشاهد» في هذه الآية بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

و في المقام روايات أخرى و احتمالات، أما الروايات فالظاهر أنها من باب ذكر المصاديق، كما

روي أن الشاهد هو الإمام المرتضى عليه السّلام

«2». و أما الاحتمالات فلا حجية فيها ما لم توافق الظاهر.

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ استفهام تقريري، أي هل من كان على برهان و حجة من قبل الله سبحانه، فله نور فطري يرى الحق و يؤمن به؟ و لفظة «على» للتشبيه بالذي يركب المركب الفاره، في مقابل الراجل وَ يَتْلُوهُ أي يعضده و يؤيده شاهِدٌ مِنْهُ أي شاهد من قبل الله سبحانه، و هو الرسول، يشهد له بما دلّت عليه فطرته و هداه إليه عقله، من أن للكون خالقا، و أنه لا بد و أن يجازى كلّا بعمله. إلى غير ذلك مما تدل عليه الفطرة.

وَ مِنْ قَبْلِهِ أي قبل هذا الشاهد كِتابُ مُوسى عليه السّلام يدل على صحة طريقته، فله مؤيد فعلا و مؤيد سابقا إِماماً وَ رَحْمَةً حالان لكتاب موسى عليه السّلام أي أن كتاب موسى إمام يؤتمّ به في أمور الدين،

______________________________

(1) راجع الكافي: ج 1 ص 190.

(2) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 255.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 587

[سورة هود (11): آية 18]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ

اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)

و رحمة من الله على عباده، إذ يهديهم إلى الطريق.

و ذكر كتاب موسى، لأنه مقبول لدى اليهود و النصارى، و لأن عيسى عليه السّلام كان كمتمّم لكتاب موسى، فالتوراة هي الأصل.

و الحاصل المستفاد: أن التقدير: «أ فمن كان على بينة من الله، و له شاهد على حقيقته، و يعتقد به شاهد آخر، كمن أراد الحياة الدنيا و زينتها؟». و قد حذف جواب الاستفهام لدلالة الكلام عليه.

أُولئِكَ الذين وصفوا بأنهم على بيّنة من ربهم يُؤْمِنُونَ بِهِ بالله و سائر الأمور التي يلزم الإيمان بها وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ و الفئات، من أهل الكتاب كانوا أم من غيرهم فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ و مصيره و مستقره فَلا تَكُ يا رسول الله فِي مِرْيَةٍ و شك مِنْهُ من الموعد، أو من القرآن و ما يلزم الإيمان به. و الخطاب و إن كان للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا أن المراد به سائر الناس إِنَّهُ أي ما تقدم من الموعد، أو ما يلزم الإيمان به- المعلوم من السياق- الْحَقُّ مِنْ قبل رَبِّكَ أو أن الخبر الذي أخبرت به هو الحق من عند الله سبحانه، فلا كذب فيه و لا تحوير وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ به، بل يزعمون أنه كذب و افتراء.

[19] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أكثر ظلما، و إن كان بصورة الاستفهام مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي نسب إلى الله الكذب افتراء، و قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 588

[سورة هود (11): آية 19]

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)

ذكر ذلك بمناسبة ما كان المشركون ينسبونه إلى النبي من افترائه القرآن

و نسبته إلى الله سبحانه، و لا يخفى أن عبارة «من أظلم» المستعملة في القرآن كثيرا، يراد بها الظلم النسبي غالبا، لا الحقيقي أُولئِكَ المفترون على الله يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يوم القيامة، أي يستحضرون في المحكمة التي يعقدها الله سبحانه، إذ لا مكان له تعالى و لا يمكن رؤيته وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ جمع شاهد، و المراد بهم إما الأنبياء أو الملائكة أو المؤمنون هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ و نسبوا إليه ما لم يكن منه، فلا مجال للإنكار و لا محل للفرار، و لا يمكن لهم أن يحلفوا كما يحلف المشركون، قائلين: (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1»، أَلا فلينتبه السامع لَعْنَةُ اللَّهِ طرده و عذابه عَلَى الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم و غيرهم بالافتراء على الله سبحانه، و هذا إما تتمة كلام الأشهاد، أو ابتداء كلام.

[20] ثم وصف سبحانه الظالمين، بقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس عن الاهتداء و سلوك سبيل الله، فيغرونهم بإلقاء الشّبه عليهم، و إثارة شكهم و كفرهم و عصيانهم بترك أوامره و نواهيه وَ يَبْغُونَها أي يريدون أن تكون السبيل عِوَجاً زيغا عن الاستقامة و عدولا عن الصواب، هذا لو رجع الضمير إلى «السبيل»- و هي مؤنث

______________________________

(1) الأنعام: 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 589

[سورة هود (11): آية 20]

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (20)

سماعي- أما لو رجع إلى سبيل الله، كان المعنى: أنهم يزيدون و ينقصون في سبيل الله و أحكامه ليظهروا للناس أنها منحرفة زائفة، فيصرفوهم عنها وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ أي بالدار الآخرة، من

البعث و الحساب و الجزاء هُمْ كافِرُونَ غير مقرّين.

و لا يخفى أن هذه الأوصاف، تنطبق على الذين يفترون على الله الكذب، فإنهم الصادون عن السبيل، الجاحدون بالآخرة، و إن أقرّ بعضهم بها لسانا، فلو لا جحودهم قلبا لم يصدوا عن طريقه سبحانه.

[21] أُولئِكَ الذين صدّوا عن السبيل و كفروا بالآخرة لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لم يكونوا يتمكنون من أن يعجزوا الله سبحانه في شي ء من إرادته، فيهدي الناس على رغمهم، و لو أراد أن يأخذهم و يهلكهم لم يكن أمرهم عسيرا عليه، فهم في قبضته و تحت قدرته، و كأن ذكر «في الأرض» للإشارة إلى أنهم لا يتمكنون من تعجيزه في محل سيطرتهم و إمكانياتهم، فكيف بالآخرة التي يحشرون فيها فرادى بلا مال و لا جاه و لا قوة وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله سبحانه مِنْ أَوْلِياءَ و أنصار ينصرونهم و يتولون أمرهم، فإن الله سبحانه هو الذي بيده الأمور، و يتولى كل شي ء، فإذا نزلت بهؤلاء كارثة لم يكن هناك منقذ لهم يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ عذاب كفرهم بأنفسهم، و عذاب صدّهم، و كونهم سببا في كفر غيرهم، كما قال سبحانه في آية أخرى: (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 590

[سورة هود (11): الآيات 21 الى 22]

أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)

يُفْسِدُونَ) «1»، فقد عاشوا صمّا عميا و ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فقد كانوا يقولون: إنا لا نستطيع أن نسمع كلام الله، يريدون إظهار الضجر و الاستهزاء، لا أن المراد عدم استطاعتهم حقيقة وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ الأدلة و البراهين،

قد سدّوا أسماعهم عن كلامه سبحانه، و أغمضوا عيونهم عن رؤية آياته، لقد عاشوا مغلقي البصائر، كأن ليس لهم سمع و لا بصر.

[22] أُولئِكَ البعداء الصادّون الضالّون الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فإن النفس، كرأس مال يجب أن يتحفظ الإنسان بها عن العطب و يجلب بها الربح، و هؤلاء قد خسروها، حيث عطبت نفوسهم، و لم يحصلوا على ربح وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فقد تبدّد كذبهم و افتراؤهم، و ضاع عنهم فلم ينجهم، فإن عملهم هلك وضاع، حيث نجا سائر المؤمنين بأعمالهم الطيبة.

[23] لا جَرَمَ «لا» كلمة نفي و «جرم» معناه الكسب، أي لا كسب لهم في النفع بل كسبهم خسران الدنيا و الآخرة، أو بمعنى «لا محالة» و «لا بد» أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي الأكثر خسارة من غيرهم، لشدة عذابهم، و لا شك أن الكفار الذين لهم تلك الأوصاف المتقدمة من أكثر الناس عقابا.

______________________________

(1) النحل: 89.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 591

[سورة هود (11): الآيات 23 الى 24]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (24)

[24] هكذا كان حال الكافر المتصف بتلك الصفات السيئة، أما المؤمنون فحالهم أحسن حال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و بما يلزم الإيمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة. و المراد هنا أعم من فعل الواجبات و ترك المحرمات، فإن من لم يترك الحرام لا يقال له أنه يعمل الصالحات و إن أتى بكل واجب. كما أنها تشمل عامل المستحبات و تارك المكروهات وَ أَخْبَتُوا أي أنابوا و تضرّعوا إليه، فإن الإخبات بمعنى

الطمأنينة، أي اطمأنوا إِلى رَبِّهِمْ و خشوا و خضعوا له، فإن المؤمن خاضع لله، مطمئن إلى أحكامه و تقديراته، هادئ النفس لما يترقّبه من نصرته و عونه أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ المالكون الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ باقون أبدا دائما.

[25] ثم مثّل سبحانه الكافر و المؤمن بمثل محسوس فقال: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ فريق الكافرين و فريق المؤمنين، أما الكافرون فهم كَالْأَعْمى بصرا وَ الْأَصَمِ أذنا، و أي عمى أعظم من عدم إبصار آيات الله و براهينه و حججه، و أي صمم أعظم من عدم استماع أوامره و نواهيه و إرشاداته وَ أما المؤمنون فهم ك الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ فكما أنه يرى و يسمع، كذلك المؤمن قد تفتّحت بصيرته فيرى الآيات الكونية، و انفتح سمع قلبه فيسترشد بالموعظة و يسمع الحق سماع تفهّم و عمل هَلْ يَسْتَوِيانِ هؤلاء و هؤلاء مَثَلًا أي من حيث المثل، استفهام إنكاري، أي لا يستوي السميع البصير، و الأعمى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 592

[سورة هود (11): الآيات 25 الى 27]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)

الأصم، عند أحد، فكذلك المؤمن و الكافر أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون- حذفت إحدى تاءيه للقاعدة في باب التفعل- و هو استفهام إنكاري يراد به ردع الكافرين، كيف لا يفكرون في هذا الأمر الواضح، و يعتبرون به.

[26] و بعد ما بيّن سبحانه في هذه السورة حقائق كبري حول

المبدأ و المعاد و الرسول و الأمة، و أن من كذّب فله الهلاك و الدمار و العذاب و النار، و من آمن فله خير و سعادة و جنات النعيم، ذكر جملة من القصص السالفة التي تثبت احتجاج الأنبياء مع أممهم حول هذه العقائد، و ما انجرّت إليه أمورهم، من تكذيب و اضطهاد، و ما أعقب تكذيب الأمم من الهلاك و العقاب وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فقال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي منذر واضح، أنذركم أن إذا كفرتم و عملتم بالمعاصي تجازون بعذاب الدنيا و الآخرة.

[27] أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ متعلق ب «نذير» أي إنذاري هو أن تتركوا عبادة ما دون الله من الأصنام إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع، و إنما قال «أخاف» لأنه لم يكن معلوما أنهم يموتون كفارا لعلهم يتوبون، أو ترقيقا في الكلام مع المنكر المعاند.

[28] فَقالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف- لأنهم يملئون العيون جلالا و القلوب هيبة- و حيث أن المعارضين للأنبياء و المصلحين دائما هم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 593

الطبقة المستعلية، يأتي بيان حوارهم، و إلّا فغيرهم أيضا كان يجادل و يحاور الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ صفة «الملأ»، و ليس المراد ب «كفروا» تجدّد الكفر منهم، بل كونهم كفارا، فإن فعل الماضي ينسلخ عن الزمان غالبا- في مثل هذه الموارد- و لا مفهوم للوصف، بأنه كان هناك عدّة لم يكفروا، لأنه وصف توضيحي لا احترازي: ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا فكيف تدّعي النبوة و الرسالة من الله سبحانه. فقد كانت كل أمة تظن أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلزم أن يكون من الملائكة، لا لبرهان عندهم،

بل لرفعة مقام الرسالة في نفوسهم، لأنه لا يمكن أن يكون بشرا مثلهم في حين يدعي أنه متصل بالسماء و واسطة بينهم و بين الله العظيم وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا لم يتبعك الأشراف و الرؤساء و المثرون، و إنما اتبعك و آمن بك الأراذل، و هو جمع «رذل» و هو الخسيس الحقير في كل شي ء، فكيف يؤمن الأشراف في صف الأراذل.

و قد كان الغالب أن الفقراء الذين ليس لهم ثروة و منصب هم أسرع الناس قبولا إلى اتباع كل حق و باطل، لأن المال و المنصب و الكبرياء تمنع عن الاستجابة، و تسبب القسوة و الغلظة، بخلاف الجماهير و الفقراء من مختلف الطبقات و الأعمال و ما أشبه، فإنهم أقرب إلى البساطة، و الفطرة السليمة.

في حال كونهم بادِيَ الرَّأْيِ أي ظاهر الرأي لا عمق لرأيهم، حتى يتدبروا و يتفكروا في الصدق و الكذب، و العواقب و المصير،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 594

[سورة هود (11): آية 28]

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)

مشتق من «بدا» بمعنى ظهر وَ ما نَرى لَكُمْ يا نوح و للمؤمنين بك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ في ثروة أو مكانة اجتماعية، فكيف نتبعك؟ و قد ظنوا أن الرسالة من جنس هذه الأعراض الدنيوية، فاللازم أن تكون الفئة المؤمنة من أصحاب الأموال و المناصب، و قد غفلوا عن أن الرسالة من المناصب الروحية لا يتحملها إلا من اختاره الله و جعل نفسه أكمل الأنفس، و ليست من المناصب الدنيوية التي تحتاج إلى ثروة و كبرياء. و هكذا هم أهل الدنيا يستصغرون

دائما أهل الدين، إذا خلت أيديهم من المال و الجاه.

بَلْ نَظُنُّكُمْ يا نوح أنت و المؤمنين بك كاذِبِينَ في دعوى النبوة و ما أتيت به، و تبعك هؤلاء عليه من الدين.

[29] قالَ نوح في جوابه لكفار قومه: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي على برهان و حجة يشهدان لي بصحة الدعوى و صدق النبوة، و بأني أتيت بالمعجزات، أ فلا تصدقونني؟ و تنسبوني إلى الكذب أيضا وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي جعلني نبيا و خصّني بهذه المنزلة الرفيعة من بين البشر فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ خفيت عليكم لعدم تهيؤكم لقبول تلك البينة، أَ نُلْزِمُكُمُوها نجبركم على المعرفة و البينة وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ أي تكرهون البينة و المعرفة و لا تتدبرونها، و الحاصل أن لي بينة، لكن أنتم تكرهون رؤيتها و التدبّر فيها، و إنما لا ألزمكم و أجبركم على التدبر لأنه «لا إكراه في الدين».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 595

[سورة هود (11): الآيات 29 الى 30]

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30)

[30] وَ يا قَوْمِ لماذا تمتنعون عن إجابتي و ليس في ذلك تكليف لكم بدفع الأجور حتى تخافون من ذلك و تهربون من دفعه، فإني لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على دعوتي لكم إلى الله سبحانه مالًا فتستثقلون دعوتي إِنْ أَجرِيَ أي: ما أجري في التبليغ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو الذي أمرني بذلك، و هو الذي يعطيني الأجر و الثواب على عملي وَ قد كان بعض الكفار

سألوا نوحا بطرد المؤمنين- الأراذل في نظرهم- حتى يفكروا في أمره و يلتفوا حوله- كما قال بعض المفسرين- لكن نوحا أجابهم بقوله: ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا لست أطردهم من عندي و لا أقصيهم من حوالي، و لماذا؟ أ ليسوا هم مؤمنين بي و إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيجازي من طردهم بالعذاب و النار، كما تقول: «لا أقطع علاقتي بفلان فإنه يلاقي الملك»، تريد: فيشكوك عنده وَ لكِنِّي أَراكُمْ أيها الكفار قَوْماً تَجْهَلُونَ الحق، فتعلّلون عدم إيمانكم بعلل واهية و أعذار سخيفة.

[31] وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ بأس اللَّهِ و نقمته إِنْ طَرَدْتُهُمْ أي طردت هؤلاء المؤمنين بلا ذنب و لا عصيان، حين يشكوني خصمائي عند الله أَ فَلا تَذَكَّرُونَ تتفكرون، فتعلمون أن الأمر على ما قلته.

و هكذا يكون دائما المتكبرون، إنهم يقولون لأصحاب الرسالات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 596

[سورة هود (11): آية 31]

وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)

و المصلحين: أطرد فلانا و فلانا، ممن يرون أنهم فوقهم شأنا. و قد دلت التجارب أن أولئك المؤمنين هم المخلصون الذين يحملون مشعل الإصلاح دون أولئك المتكبرين الذين يريدون طرد جماعة، فإن المتكبر لا يصلح لحمل شعلة الهداية و الإصلاح.

[32] وَ يا قوم لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فأتمكن فوق قدرة البشر بأن أبذل ما أشاء، و أفعل ما أشاء وَ لا أَعْلَمُ بنفسي من دون إرشاد ربي الْغَيْبَ الأمور الغائبة عن الحواس و المدارك، حتى أريد أن أتفضل عليكم بذلك وَ لا أَقُولُ

إِنِّي مَلَكٌ من الملائكة، فأنا بشر كما قلتم ذو إمكانية بشرية، لا خزائن، و لا غيب لي، و إنما أنا رسول من قبل الله سبحانه وَ لا أَقُولُ للمؤمنين الملتفين حولي الذين تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ «الازدراء» الاحتقار، أي الذين تحتقرونهم. و نسبة الازدراء إلى العين لأنهم إنما ازدروهم لما عليهم من ألبسة رثة و أطمار خلقه، و لو نظروا إلى واقعهم لرأوهم كبارا في نفوسهم، عظماء عند الله سبحانه. و قد حذف المتعلق في الكلام، أي تزدريهم أعينكم:

لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً حيث لم يعطهم مالا و جاها- كما تقولون أنتم- فإن الخير في الإيمان و الصفات الكاملة لا في المال و المنصب اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ فلقد أتاهم الخير كله، حيث هيأ نفوسا نظيفة و قلوبا طاهرة إِنِّي إِذاً إذا طردتهم، أو قلت: لن يؤتهم الله خيرا لَمِنَ الظَّالِمِينَ حيث ظلمتهم بذلك العمل، أو هذا القول.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 597

[سورة هود (11): الآيات 32 الى 34]

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)

[33] و لما حاجّهم نوح عليه السّلام بتلك الاحتجاجات الصريحة المعقولة، لم يجد القوم إلا الفرار عن المحاجة، ف قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا حاججتنا و خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا و بحثك معنا حول المبدأ و المعاد و ما إليهما فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب. فقد هددهم نوح بعذاب الله إن بقوا في كفرهم و غيّهم إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك

النبوة، و أنّا إن لم نؤمن عذبنا الله بذنوبنا.

[34] قالَ نوح في جواب استعجالهم العذاب: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ بالعذاب اللَّهُ إِنْ شاءَ تعذيبكم، و ليس من عندي حتى أعجّله أو أؤجله وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي إن أراد عذابكم فلا تتمكنون من تعجيزه حتى لا يتمكن من العذاب، و لا تتمكنون من صدّ العذاب أو الهرب عن مشيئته سبحانه.

[35] ثم قال نوح عليه السّلام: وَ لا يَنْفَعُكُمْ يا قوم نُصْحِي و إرشادي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ و إنما قيّد النصح بالإرادة، و قد صدر منه فعلا، تواضعا في الكلام، و كأنه لم ينصح من قبل، لا أنه نصح و لم يفد، أو لأنهم لم يعتبروا كلامه نصحا، فهو يقول: إن صدر مني نصح في المستقبل لا ينفعكم إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ و إرادة الله إغوائهم، يعني تركهم و شأنهم، حيث أنهم لمّا أعرضوا عن الحق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 598

[سورة هود (11): آية 35]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

تركهم سبحانه و شأنهم، فلم يلطف بهم الألطاف الخاصة ليستعدوا للاهتداء، كما تقول: «إن كان الملك يريد إفساد الشعب لا ينفع وعظ الخطباء» تريد تركهم على حالهم حتى يفسدوا بطبعهم، و يعملوا الجرائم لعدم رادع لهم.

و هُوَ تعالى رَبُّكُمْ فهو يعلم دخائل نفوسكم، و أنكم غير صالحين للطفه الخفي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة فيجازيكم بسيئاتكم.

[36] أَمْ يَقُولُونَ أي: بل يقولون، و الظاهر من السياق أنه من تتمة المطلب المربوط بحوار نوح مع قومه افْتَراهُ على الله في دعواه الرسالة قُلْ يا نوح لهم: إِنِ افْتَرَيْتُهُ أي كذبت على الله فيما نقلته عنه فَعَلَيَّ

إِجْرامِي و عقوبته لي، لا لكم، فأنتم بريئون من جرمي و افترائي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ لا أو آخذ بجريمتكم و كفركم.

و هناك احتمال آخر و هو أن يكون ذلك من الالتفات من قصة نوح إلى قصة النبي مع المشركين، فإنهم كانوا يتّهمون الرسول بما اتّهم قوم نوح نوحا عليه السّلام من الافتراء- و حيث كان ذلك من أغراض القصة، جي ء به هنا تنبيها، يرجع إلى تتمة قصة نوح و قومه- فالمعنى: إن هؤلاء المشركين يقولون لك يا رسول الله أنك افتريت على الله سبحانه بنسبة القرآن إليه. و البقية بهذا السياق جاعلا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكان نوح عليه السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 599

[سورة هود (11): الآيات 36 الى 37]

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)

[37] وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ بعد تلك البلاغات الكبيرة و المحاولات الطويلة، و الأمد البعيد أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ بك من قبل فلا رجاء في الباقين فَلا تَبْتَئِسْ أي لا تحزن و لا تغتم، من «الابتئاس» و هو افتعال من «البؤس» بمعنى الغمّ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الكفر و أنواع المعاصي، فإن الإنسان إنما يحزن إما لنفسه كيف يكون مصيره مع قومه، و إما للقوم، أما إذا أدّى ما عليه بالدعوة مرارا كثيرة فلا حزن لنفسه، كما أنه لو علم أن لا خير فيهم فلا حزن عليهم.

[38] وَ اصْنَعِ اعمل الْفُلْكَ هي السفينة لتركبها أنت و المؤمنون عند الطوفان بِأَعْيُنِنا

بمرأى منّا فإن «أعين» جمع «عين» أي برعايتنا و حفظنا، حيث ننظر إليك و إلى عملك. و من يراقبه الله سبحانه لا يضل و لا يزيغ وَ وَحْيِنا أي تعليمنا لك كيفية الصنع وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا لا تسألني العفو عن هؤلاء الكافرين، و لا تشفع لهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ قد حكم عليهم بالغرق و الهلاك، و إنما خاطبه سبحانه بذلك، ليعلم أنه لا يستجاب مثل هذا الدعاء، فلا يتعب نفسه في الطلب و السؤال.

و إن قيل: كيف يجمع هذا الأمر- و هو أن نوحا عليه السّلام كان يريد الدعاء لهم بالخير- مع قوله سبحانه حكاية عن نوح: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) «1»؟

______________________________

(1) نوح: 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 600

[سورة هود (11): آية 38 تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 649

وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38)

فالجواب: إن دعاء الخير لمن يحتمل إيمانه في المستقبل، لا ينافي دعاء الشر لمن علم بعدم إيمانه أصلا، فإن قوله عليه السّلام «من الكافرين» يعني الذين لا يرجعون عن غيّهم و كفرهم، و فوق ذلك (يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) «1»، فلا خير في نسلهم كما لا خير فيهم .. أما الذين ظلموا فلعله كان يحتمل رجوع بعضهم. و بهذا الخطاب منه سبحانه تبين أنه لا يفيد فيهم الدعاء، و لا يرجعون عن غيّهم أبدا، و أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن من قبل.

[39] وَ جعل نوح عليه السّلام يَصْنَعُ الْفُلْكَ بيده، ينحتها و يسويها، كما يصنع النجار من الأخشاب الأبواب و غيرها

وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ جماعة مِنْ قَوْمِهِ الذين دعاهم فلم تنفعهم الدعوة سَخِرُوا مِنْهُ استهزءوا منه قائلين: يا نوح صرت نجارا بعد طول الدعوة و ادّعاء النبوة، و الجدال و البحث حول الإله و المعاد، استهزاء به و سخرية منه، فكانوا يتضاحكون يقول بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا المدّعي للنبوة كيف ينجر سفينة بهذا الكبر في اليابسة حيث لا ماء.

قالَ نوح عليه السّلام في جوابهم: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا على هذا العمل فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ أي نجازيكم على سخريتكم بسخرية منّا عند نجاتنا و غرقكم. إما سخرية حقيقية، و إما من باب تسمية الجزاء باسم المجزي به، نحو: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا

______________________________

(1) نوح: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 601

[سورة هود (11): الآيات 39 الى 40]

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)

عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «1»، و (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) «2».

[40] فَسَوْفَ في المستقبل تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يفضحه و يهينه و يذله، و ذلك بالغرق وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ لا يزول عنه و لا يتحول، و هو عذاب الآخرة الممتد من بعد الموت في القبر، ثم في جهنم إلى الأبد.

[41] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا «حتى» غاية لحال نوح و حال قومه، أي بقي نوح يصنع السفينة و بقي القوم على كفرهم يستهزئون منه، حتى حين مجي ء أمرنا بإهلاكهم و نجاة المؤمنين وَ فارَ التَّنُّورُ بالماء، فقد كان فوران التنور بالماء علامة لوقت العذاب

كي يحمل نوح عليه السّلام في السفينة المؤمنين قُلْنَا أي أوحينا إلى نوح عليه السّلام: احْمِلْ فِيها في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ من كل أجناس الحيوانات زوجين ذكر و أنثى، يطلق «الزوج» على الذكر كما يطلق على الأنثى، و قد يطلق على الاثنين معا، فيقال لهما «زوج»، و لما كان يحتمل في الآية إرادة المعنى الأخير حتى يكون اللازم حمل أربعة من كل جنس، بيّن «الزوجين» بأن المراد بهما فرد و فرد، فيصير الحاصل اثنين لا أكثر.

وَ احمل في السفينة أَهْلَكَ عائلتك، زوجتك و أولادك

______________________________

(1) البقرة: 195.

(2) البقرة: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 602

إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ من تقدم حوله قولنا بأنه من الهالكين من عائلتك و هي زوجة نوح عليه السّلام و اسمها واغلة، و كانت أما لكنعان الولد الذي هلك بالغرق، فقد كان لنوح عليه السّلام زوجتان و أولاد كلهم صالحون إلا هذه المرأة و ابنها وَ احمل في السفينة مَنْ آمَنَ و هم بين ثمانية و ثمانين، كما في الأحاديث، و لذا قال سبحانه: وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ و

قد ورد أن نوحا عليه السّلام نادى الحيوانات فأجابته و اجتمعت حوله فأركبها في السفينة، و ذلك ليس على الله بعزيز.

و من غريب الأمر أن بعض المسلمين الذين فقدوا ثقتهم بنفوسهم أمام الغرب يأوّلون جميع المعاجز مهما تمكنوا و يجعلونها أمورا عادية و قصصا خارجية لا مسحة عليها من الغيب و الإعجاز، و إذا لم يلائم شي ء مع هذه الطريقة سمّوه ب «الإسرائيليات» و لم ذلك؟ لأنه معجز خارج عن نطاق مفاهيم الماديين الغربيين. ففي قصتنا مثلا، يقول:

سفينة نوح سفينة عادية صنعت، و «الوحي حولها» هو الإلهام في

القلب كما يلهم قلب كل متعلم بالعلم، و «حمل نوح عدة حيوانات» مما يملكه نوح من الحيوانات، و كان الموسم فيضانا و المطر وابل فغرق بعض الناس الذين كانوا في تلك المناطق، و سلم نوح و قومه المؤمنون.

و هكذا يحرّفون كل خارقة إلى رماد و تراب بعد ما كانت خارقة تأخذ بالأنفس و تدل على رسالة الأنبياء، فإذا لم يكن في القرآن فهو خرافة و إسرائيليات، مهما بلغ سنده من الصحة و الثبات، أما إذا كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 603

في القرآن فباب التأويل واسع، ف (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ) «1» يراد به انشقاق بعض الأقمار التي دل العلم على وجودها سابقا ثم صارت منشقة بصورة هائلة أي: ابتعاد الأنجم بعضها عن بعض. و (وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) «2» كانت أسراب طير معها «ميكروب» الوباء فلما اختلطت بالناس، عدى المرض إليهم فماتوا بالوباء، و ما أشبه هذه التأويلات .. و هكذا هلمّ جرا.

حتى أن بعضهم- و هو مؤمن بالله و اليوم الآخر، طبعا- ذكر أن المراد ب «الإله» القوة المسيّرة للكون أو الطاقة المحركة للحياة، و «المعاد» هو حساب التاريخ للإنسان، و «الجنة» ذكره الطيب المنبعث عن أعماله الحسنة، و «النار» ذكره السيئ المنبعث عن أعماله القبيحة ..

فلنتساءل: أي فرق بينكم أيها المؤمنون! و بين الماديين؟ و هل أحد ينكر الطاقة و محاسبة التاريخ و الذكر الحسن و السيئ؟ و إذا سألت هؤلاء المنهزمين، ماذا تصنعون بالنصوص و التصريحات؟ أجابوا بأنها على سبيل الكناية و المجاز، حسب فهم العرب المخاطبين ..

نقول: إن المؤمن هو من يؤمن بكل نص، أما أن يكون الإنسان ماديا قلبا، مسلما صورة فليس

ذاك إلا النفاق، و الانهزام أمام بريق الغرب المادي .. و مثل هذه الانهزامية في العقائد، و الانهزامية في الأحكام، كمن يقول إن الإسلام جمهوري لقوله تعالى في قصة بلقيس: (فَما ذا تَأْمُرُونَ) «3»؟، أو برلماني، لقوله تعالى: (وَ أَمْرُهُمْ

______________________________

(1) القمر: 2.

(2) الفيل: 4 و 5.

(3) الأعراف: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 604

[سورة هود (11): الآيات 41 الى 42]

وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42)

شُورى «1»، أو اشتراكي، لقوله: (وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) «2»، أو ربوي لقوله: (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) «3»، مما يفهم منه جواز أكله بدون أن يصبح أضعافا، و هكذا .. مما هم بالهوس أقرب منهم إلى الإسلام. و قد رأينا أن معيار هؤلاء هو الغرب فما ذكره فهم تبع له، فإن وافق الإسلام فهو، و إلا فاللازم أن يطبق الإسلام عليه، يا للهراء و السخف!! [42] وَ قالَ نوح عليه السّلام: ارْكَبُوا فِيها في السفينة بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها أي قائلين بسم الله، وقت جريانها على الماء، و وقت إرسائها أي وقوفها و حبسها عن المسير، أو المعنى: بالله إجراؤها و إرساؤها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ و بهاتين الصفتين استحق المؤمنون النجاة.

[43] وَ كانت السفينة هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ جمع «موجة» و هي ما علا من الماء بسبب دخول الهواء فيه، فيكون الماء متخلخلا عاليا يسير بسير الهواء و اتجاه الرياح، و معنى «بهم» أي في حال كونها معهم، و حال

كونهم فيها كَالْجِبالِ بارتفاعها و ضخامتها وَ نادى نُوحٌ عليه السّلام في تلك الحالة ابْنَهُ كنعان الذي كان من تلك المرأة

______________________________

(1) الشورى: 39.

(2) المعارج: 25.

(3) آل عمران: 131.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 605

[سورة هود (11): الآيات 43 الى 44]

قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

الخائنة وَ كانَ الابن فِي مَعْزِلٍ أي محل عزلة، لأنه لم يركب معهم في السفينة: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا في السفينة لتنجو وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ حتى تهلك و تغرق.

[44] فأجابه الابن قالَ سَآوِي من «أوى يأوي» إذا اتخذ مأوى و محلّا، أي سأرجع إلى مأوى إِلى جَبَلٍ شاهق لا يعلوه الماء يَعْصِمُنِي يحفظني مِنَ الْماءِ فلا أغرق و لا أركب معك في السفينة قالَ نوح عليه السّلام: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي لا شي ء يحفظ الإنسان من عذاب الله و غرقه الذي قدّره على الكافرين إِلَّا مَنْ رَحِمَ من المؤمنين الذين ركبوا السفينة، فآمن بالله و اركب السفينة كي تنجو و يرحمك الله وَ حالَ بَيْنَهُمَا) بين نوح و ابنه الْمَوْجُ جاءت الأمواج حتى لم يشاهد نوح ابنه فَكانَ أي صار الابن مِنَ الْمُغْرَقِينَ أغرق و أهلك في جملة الكافرين.

[45] لقد طافت السفينة على الماء أياما، و نوح و المؤمنون و الحيوانات فيها، و أخذ الماء ينهمر من السماء و يخرج من الأرض حتى غرق الكفار بأجمعهم وَ حينذاك قِيلَ المراد أن

الله سبحانه قال ذلك، إما بنفسه أو بأمر بعض الملائكة أن يقول ذلك، أو المراد إرادته سبحانه، فعبّر عنه بالقول: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ردّي و اشربي الماء الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 606

أخرجتيه بسبب تفجّر العيون، و قد أريد بذلك: نشف الماء دفعة كأنه بلع له وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي أي قال تعالى للسماء: أمسكي المطر و لا ترسلي الماء إلى الأرض. فبلعت الأرض ماءها، و أمسكت السماء عن المطر. و هل أن المراد من «ابلعي ماءك» جميع الماء الموجود فيها و لو كان الماء النازل من السماء، أم خصوص مائها، و بقي ماء السماء و تسرب في المسارب و المنحدرات؟ احتمالان.

و قد روي عن الأئمة الطاهرين عليهم السّلام: أن الماء بقي، و صار بحارا و أنهارا «1».

أقول: إن العلم الحديث دلّ على كون الجبال كلها كانت غامرة في الماء، حتى أرفع الجبال كانت كذلك، و قد وجد فيها آثار للماء و الحيوانات المائية، و لعل ذلك- إن صح- كان من وقت الطوفان حيث دلّ الدليل على غمر الماء لكل الجبال.

و هل أن الخطاب حقيقي لشعور السماء و الأرض بالأمر و النهي، بمقتضى (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) «2»، أو المراد نتيجة ذلك، من باب خطاب العارف نحو: «أيا جبلي نعمان بالله خليا». احتمالان؟

و لا يبعد الأول، كما قال سبحانه: (فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) «3»، و هكذا أمثالها، مما ظاهره شعور السماء و الأرض.

وَ غِيضَ الْماءُ أي ذهب الماء من وجه الأرض إلى باطنها من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 304.

(2) الإسراء: 45.

(3) فصلت: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 607

«غاض يغيض»

إذا تسرّب في الباطن وَ قُضِيَ الْأَمْرُ تمّ الأمر المراد، و هو هلاك الكفار و نجاة المؤمنين وَ اسْتَوَتْ استقرت السفينة عَلَى جبل يسمى الْجُودِيِ و قد ورد في التفاسير أنه جبل بالموصل في شمال العراق «1» وَ قِيلَ أي قال الله سبحانه، أو الملائكة، أو نوح و المؤمنون، و المراد: نتيجة ذلك بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين كفروا و ظلموا أنفسهم، فليبتعدوا عن رحمة الله، و عن سعادة الدنيا بالهلاك، و عن خير الآخرة بدخول النار.

و قد ذكر المفسرون و أهل البلاغة أن هذه الآية الكريمة في كمال البلاغة مما يدهش العقول و الألباب فقد ذكروا أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ و لحوم الضأن و سلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم، فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية، فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبه شي ء من الكلام، و لا يشبه كلام المخلوقين، و تركوا ما أخذوا فيه و افترقوا.

و كان أهل الجاهلية إذا ألّفوا أفصح القصائد علقوها بالكعبة، و هكذا حتى جمعت من أفصح القصائد و أبلغها على الكعبة سبع، لامرئ القيس و زملائه، فلما نزلت هذه الآية، أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكتابتها، و أن تعلق قرب المعلقات السبع، ففعل ذلك بعض المسلمين، و لما أصبحت قريش و أتت إلى الكعبة، و رأت الآية إلى جنب المعلقات،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 333.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 608

[سورة هود (11): آية 45]

وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45)

اضطرت إلى أن تقلع المعلقات و لم تدعها قرب الآية.

و يقال: أن

ثلاثة من الملحدين أرادوا معارضة القرآن ليبطلوا أساس الإسلام، فاجتمعوا في مكة، و ضمن كل واحد منهم أن يقول مثل ثلث القرآن إلى العام القابل، و اجتمعوا في القابل في مكة فقال أحدهم: إني أعرضت عن معارضة القرآن لما رأيت أن فيه قوله:

«وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ..»، فقد علمت أني لا أتمكن أن آتي بما يشابهها. و قال الثاني: إني أعرضت عن معارضة القرآن حيث رأيت في قوله: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) «1»، فقد علمت أنه لا يتسنّى لي مقابلة هذه الآية. و قال الثالث: إني أعرضت عن معارضة القرآن حيث رأيت فيه قوله: (وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) «2»، فقد علمت أنه لا يمكنني معارضة هذه الآية.

و يقال أن الإمام الصادق عليه السّلام مرّ بهم في ذاك الحال و هم يتذاكرون عجزهم و ينسبون تلك الأسباب فيما بينهم، فقال لهم: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) «3» «4».

[46] و إذ قد انتهى الأمر و تذكر نوح عليه السّلام ابنه الغريق كنعان و أخذته الشفقة عليه وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ نداء دعاء و ضراعة فَقالَ يا رَبِّ إِنَّ ابْنِي

______________________________

(1) يوسف: 81.

(2) القصص: 8.

(3) الإسراء: 89.

(4) بحار الأنوار: ج 17 ص 213.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 609

[سورة هود (11): آية 46]

قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)

مِنْ

أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ فقد وعدتني بنجاة أهلي فنجّه من الغرق، أو من العذاب في الغرق، فإن كان المراد الأول، فلعلّ نوحا لم يكن يعرف مصير ولده هل أنه غرق أم لا وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أي إن حكمك أصح الأحكام، فلا تحكم في ولدي أو غيره إلا بالصحيح.

[47] قالَ الله سبحانه في جواب طلب نوح عليه السّلام: يا نُوحُ إِنَّهُ أي ولدك لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ فإن الأهل الذين وعدت بنجاتهم ليس أهل لحم و دم، و إنما أهل عقيدة و إيمان إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ قد يبالغ في نسبة الفعل إلى شخص حتى يجعل ذلك الشخص نفس الفعل، كما يقال: «زيد عدل» مع العلم أن زيد ليس قطعة من العدل و إنما هو ذو عدل، و لكن البلاغة تقتضي ذلك. و هنا كذلك، فإن ابن نوح لما كان يعمل الأعمال الفاسدة، صار كأنه قطعة منها، فقيل: «إنه عمل غير صالح»، كما يقال: «زيد قطعة من فساد»، يراد أنه منهمك فيه، أو بتقدير «ذو» أي أنه «ذو عمل غير صالح» كما قال الشاعر: «فإنما هي إقبال و إدبار» أي: «ذات إقبال و إدبار».

و قال بعض أن الضمير في «إنه» يعود إلى سؤال نوح، أي: إن طلبك بنجاة ابنك عمل غير صالح، لكن هذا الاحتمال بعيد عن الظاهر.

فَلا تَسْئَلْنِ يا نوح ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ السؤال إنشاء، و الإنشاء لا يتصف بالصدق و الكذب، و مطابقة الواقع و عدم مطابقته،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 610

[سورة هود (11): آية 47]

قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)

و كونه متعلق العلم

و عدم كونه متعلقه. إلّا أن الإنشاء حيث يحمل دائما- في طيه- إخبار عن شي ء صح الاتصاف بهذه الأمور، فمثلا يسألك أحدهم مالا، فتقول: إنه يكذب، و لست تريد أنه يكذب في السؤال، بل تريد أن الخبر الذي يدل عليه هذا الإنشاء- و هو أنه فقير معدم- غير صحيح، إذ ظاهر السائل أنه لفقره يسأل، فأنت تريد تكذيب ذلك الخبر المنطوي في هذا الإنشاء ..

و هنا كذلك، فإن سؤال نوح لم يكن بما ليس له به علم، بل الخبر الضمني كان بدون علم فإنه عليه السّلام أخبر بأن الله وعده نجاة ابنه- بتشكيل القياس- «ابنه من أهله»، و «أهله موعود نجاتهم»، ف «ابنه موعود نجاته». و قد كان نوح عليه السّلام يرى أن الوعد بنجاة الأهل شامل للولد أيضا، و على هذا طلب الوفاء بالوعد، لكنه سبحانه بيّن أنه لم يكن داخلا في الوعد، و لم يدل دليل على لزوم علم الأنبياء بجميع الأمور، حتى يقال أن نوحا عليه السّلام كيف لم يعلم ذلك، و هذا لا ينافي مقام العصمة، فإن معنى العصمة أن لا يذنب، لا أن يعلم كل شي ء.

إِنِّي أَعِظُكَ يا نوح أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي لئلّا تكون جاهلا، و لا شك أن وعظه سبحانه يبدّد الجهل. و قد يظن بعض الناس أن هذه عبارة خشنة، لكن الظاهر أنه جار مجرى التكلم المعتاد، في مقابل التكلم بلين، و مقامه سبحانه لا يقتضي اللين في الكلام، و يحتمل أن يكون إفراغ الغالب في هذا القالب لإفادة مبغوضية الكفار لدى الله سبحانه- و قد سبق ما يشبهه في قصة أخذ موسى عليه السّلام برأس أخيه-.

[48] قالَ نوح عليه السّلام بعد ذلك الكلام منه سبحانه:

يا رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 611

بِكَ أي أعتصم بك، من «عاذ» إذا استجار أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي أسألك شيئا ليس فيه صلاح، و يكون سؤالي صادرا عن عدم علم لي بالواقع. و لا يخفى أن ذلك لا ينافي أيضا مقام العصمة، فإن «ولدك لو سألك أن تذهب إلى النجف، و لم يكن ذلك من الصلاح، لأن الأجور تحمّلك خسارة كبيرة، فهل أن سؤاله يعد عصيانا لك؟».

لكن نوحا عليه السّلام أراد أن يجنّبه الله سبحانه حتى من هذا النحو من السؤال.

وَ إِلَّا أي: و إن لم تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ «الغفران» الستر، و «الترحم» التفضّل، و هما كما يكونان بالنسبة إلى العاصي، يكونان بالنسبة إلى المطيع، فإن الإنسان مهما بلغ من النزاهة فإنه يحتاج إلى ستر الله لما لا يليق بشأنه، كما يحتاج إلى تفضّله، و هذا هو سر استغفار المعصومين.

فمثلا إن التوجه إلى إنسان في كلام مما يسبب عدم التوجه إلى الله سبحانه في ذاك الوقت لا يليق بشأن من يعرف الله حقّ معرفته، و إن كان راجحا في نفسه، و لذا يستحق الاستغفار. قال سبحانه للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ* وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) «1». و من هذا القبيل ما قيل:

«حسنات الأبرار سيئات المقربين»

«2».

______________________________

(1) النصر: 2- 4.

(2) بحار الأنوار: ج 25 ص 205.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 612

[سورة هود (11): آية 48]

قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا

عَذابٌ أَلِيمٌ (48)

ثم إن من المعلوم أن للخسران مراتب فمن من شأنه تحصيل الربح الكثير إذا لم يحصل عليه كان خاسرا، و هكذا قول نوح عليه السّلام:

«أكن من الخاسرين» فلو لا غفران الله و رحمته كان عليه السّلام خاسرا إذا لم يحصّل تلك المراتب الرفيعة التي تليق بمثله.

[49] و لما استقرت السفينة على جبل الجودي قِيلَ و القائل هو الله سبحانه، إما بنفسه، أو بأمر ملائكة بذلك: يا نُوحُ اهْبِطْ من السفينة و الجبل إلى الأرض بِسَلامٍ مِنَّا بتحية لك من عندنا، أو بنجاة و سلامة من قبلنا، فأنت آمن ناج وَ بَرَكاتٍ أي زيادة من فضل، و خيرات نامية عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي الجماعات التي معك من الإنس و الطير و الوحش، فإنها تنمو و تزداد حتى تملأ الأرض من ذراريها و نسلها، فإن الأمة تطلق على الحيوانات، كما قال سبحانه: (وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) «1». و هنا طريفة لفظية، و هي: أن ثمان «ميمات» اجتمعن في هذه الآية «أمم مّمّن مّعك» أصلها خمس ميمات و نونان و تنوين.

وَ من نسل هؤلاء أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ نعطيهم متعة الحياة الدنيا في المستقبل ثُمَ يكفرون و يعصون ف يَمَسُّهُمْ يشملهم مِنَّا أي من طرفنا عَذابٌ أَلِيمٌ موجع مؤلم في الدنيا بصنوف القلق و المرض و الفقر و الحروب و ما أشبه، و في الآخرة بالنار و العقاب.

______________________________

(1) الأنعام: 39.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 613

[سورة هود (11): الآيات 49 الى 50]

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَ إِلى عادٍ

أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50)

و كان قوله «و أمم» لأجل أن لا يستفاد من قوله «و على أمم» أن من حملهم نوح و ذريتهم كلهم تصحبهم السلامة و البركة، بل هناك من نسلهم من يكفر و يعصي فلا بركة له و لا سلام.

[50] تِلْكَ الأخبار التي قصصناها عليك من تفصيل أحوال نوح عليه السّلام و قومه مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي أخبار ما غاب عنك يا رسول الله معرفته نُوحِيها إِلَيْكَ و ليس في التوراة و الإنجيل لهذه الكيفية و التفصيل و النزاهة ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ يا رسول الله وَ لا قَوْمُكَ قريش، أو العرب، أو الناس المعاصرون لك، فإن لفظ «قوم» يستعمل بمعنى كل ذلك. و لا غضاضة في أن لا يعلمها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هل علم الرسول إلا من علم الله سبحانه و وحيه فهو قبل ذلك لا يعلم شيئا مِنْ قَبْلِ هذا أي من قبل الوحي، أو من قبل القرآن فَاصْبِرْ يا رسول الله على أذى قومك كما صبر نوح عليه السّلام إِنَّ الْعاقِبَةَ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ الذين يخافون الله و يعملون بأوامره، كما كانت العاقبة لنوح و المؤمنين به.

[51] و حيث ينتهي السياق من قصة نوح شيخ المرسلين، يأتي الكلام حول قصة هود عليه السّلام و يورد القرآن الكريم جملة من هذا القبيل من القصص كلها تركز على شي ء واحد هو بعثة الأنبياء عليهم السّلام لإصلاح الناس، ثم عدم سماع الناس- إلا نادرا- منهم، ثم إهلاك المكذبين و جعل كلمة الله هي العليا بنجاة المؤمنين و نصرتهم وَ أرسلنا إِلى عادٍ و هم

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 614

[سورة هود (11): الآيات 51 الى 52]

يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ (51) وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)

قبيلة أَخاهُمْ في النسب هُوداً النبي عليه السّلام، و كان هؤلاء ساكنين في الأحقاف «و الحقف» كثيب الرمل المائل، في جنوب الجزيرة العربية، و كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم أخاهم من تلك القبيلة هودا عليه السّلام، ف قالَ لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ ليس لكم مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ دخول «من» في المنفي يفيد العموم إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم في اتخاذكم الأصنام شركاء لله تعالى إِلَّا مُفْتَرُونَ كاذبون في قولكم، و حيث أنكم تنسبون ذلك إلى الله سبحانه، فهو افتراء و بهتان.

[52] يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ و الإرشاد و الهداية أَجْراً مالا، فإنما أبلغكم مجانا و بلا عوض. و قد كانت الأنبياء تؤكد على ذلك لأن الناس دائما يخافون من الداعي لخوفهم على أموالهم، فإذا أمنوا ذلك، لم يكن لهم عذر مادي في عدم قبولهم الدعوة إِنْ أَجْرِيَ أي ليس جزائي على الدعوة إِلَّا عَلَى الله الَّذِي فَطَرَنِي خلقني و سواني و أوجدني من العدم أَ فَلا تَعْقِلُونَ استفهام توبيخي، أي لما ذا لا تعملون عقولكم لتعلموا صدق و استقامة طريقتي؟! [53] وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا عفوه و غفرانه لما سلف منكم من الكفر و المعاصي ثُمَّ تُوبُوا ارجعوا إِلَيْهِ في العمل بأوامره

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 615

و نواهيه، فإن الإنسان العاصي يحتاج إلى أمر سلبي

هو محو ما سلف، و إلى أمر إيجابي هو الاستقامة على منهاج جديد لما يأتي. و قد تقدم أن «الاستغفار و التوبة» لو افترقا شملا الأمرين، أما لو اجتمعا فالاستغفار للسلبي، و التوبة للإيجابي.

فإذا فعلتم ذلك يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي يرسل المطر عليكم متتابعا متواترا، بمعنى «جرى و نزل»، و استعمال «السماء» مريدا به المطر، لعلاقة الحال و المحل. قال الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه و إن كانوا غضابا

و في بعض التفاسير أنهم كانوا قد أجابوا فوعدهم هود عليه السّلام بالغيث إن تابوا و أنابوا، كما قال تعالى في آية أخرى: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) «1» «2».

وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ و المراد ب «القوة» كل ما يتقوّى به الإنسان من مال و أهل و قوى مادية و معنوية، و هذا بقدر ما هو مما وراء الغيب، هو حسب القوانين العادية، فإن المؤمنين أكثر نشاطا و تآلفا، و أصح منهاجا مما تؤدي إليه كثرة القوة وَ لا تَتَوَلَّوْا أي لا تعرضوا عن الله و أوامره في حال كونكم مُجْرِمِينَ تعملون الكفر و الآثام.

______________________________

(1) الأعراف: 97.

(2) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 290.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 616

[سورة هود (11): الآيات 53 الى 55]

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55)

[54] قالُوا في جواب دعوته لهم: يا هُودُ

ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بحجة واضحة تدل على صدقك. فإنهم لم يكونوا يعتبرون الأدلة الواضحة حجّة، كما هو شأن كل معاند وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ لسنا نترك عبادة الأصنام لأجل قولك بأن الله واحد. و إنما جي ء ب «عن» لأنه يدل على التجاوز، نحو: «رميت السهم عن القوس»، أي فليس تركنا ناشئا عن قولك وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ بمصدّقين مقالك.

[55] إِنْ نَقُولُ ما نقول فيك و في هذه المقالات التي تقولها إِلَّا اعْتَراكَ أي أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ فإنك حيث كنت تسب آلهتنا، أصابوك بالجنون فجننت و خبل عقلك- كذا قال المفسرون- فلما رأى هود عليه السّلام أنه لا ينفع فيهم الكلام و لا يتفكرون قالَ لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا عليّ فإني أجعلكم شهودا على أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مع الله من الآلهة الباطلة، و لا أعترف لهم بالألوهية.

[56] فإن آلهتكم المزعومة التي تعبدونها مِنْ دُونِهِ من دون الله، ليست في نظري بآلهة حتى أعبدها، و إنما هو إله واحد لا شريك له. ثم كيف تزعمون أن آلهتكم مستني بسوء لسبي إياها، فإني أتحدّاكم أن تجتمعوا أنتم و الآلهة التي تعبدونها فَكِيدُونِي جَمِيعاً فاحتالوا و اجتهدوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 617

[سورة هود (11): آية 56]

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)

لضرّي و إيذائي ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ أي لا تمهلونني، بل فاجئوني بالهجوم لقصد إيذائي، فإني لا أبالي بكم و لا أكترث بكيدكم، بعد ما كنت مستظهرا بالله سبحانه، واثقا من نصره، إنكم جميعا لا تقدرون على إيذائي، فكيف يقدر بعض آلهتكم أن يمسني بسوء؟

قال بعض المفسرين:

إن هذا من أعظم آيات الأنبياء عليهم السّلام أن يكون الرسول وحده، و أمته متعاونة عليه، فيقول لهم: كيدوني، فلا يستطيع واحد منهم صدّه، و كذلك قال نوح عليه السّلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ...) «1»- كما تقدم- و

قال نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ)

«2». و مثل هذا القول لا يصدر إلا عمن هو واثق بنصر الله و بأنه يحفظه عنهم و يعصمه منهم.

[57] إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ إني وثقت به و فوضت أمري إليه فهو المدافع المحامي عني ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ سبحانه آخِذٌ بِناصِيَتِها أي ما من حيوان يدب على الأرض إلا هو مالك له يصرفه كيف يشاء، و «الناصية» هو مقدم الرأس، فكما أن الآخذ بشعر مقدم الرأس لأحد، يتصرف في ذلك الإنسان بالقهر و الغلبة، كذلك المالك للدواب، و هذا كناية عن قهره سبحانه لكل دابة و قدرته عليها كلها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فإنه مع قدرته فهو عادل فيما يعامل به البشر، و سنته و أحكامه عادلة مستقيمة. و هذا تشبيه للمعقول

______________________________

(1) يونس: 72.

(2) المرسلات: 40.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 618

[سورة هود (11): الآيات 57 الى 58]

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (57) وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)

بالمحسوس فكما أن السائر المستقيم، يمشي على صراط مستقيم، فكذلك صراطه سبحانه في أحكامه و سننه.

[58] ثم قال هود عليه السّلام لقومه: فَإِنْ تَوَلَّوْا أصله «تتولوا»، أي فإن أعرضتم

عن دعوتي فإني غير ملوم و غير مأخوذ بإعراضكم إذ قد أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ و بلغت لكم رسالة ربي، فتوليكم من سوء اختياركم. ثم إن ذلك لا يضر الله سبحانه كما لا يضرّني فإنه يهلككم بمعاصيكم وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يؤتي مكانكم بأناس آخرين يعبدونه و يوحّدونه، بعدكم و خلفا لكم وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً بتولّيكم، كما لم تضرّوني بذلك إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ يحفظ دينه من الضياع فيأتي بغيركم ليعبدوه، كما يحفظني عن أذاكم و ضرركم.

[59] وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا بهلاك عاد بعد أن لم تنفعهم الدعوة و تولّوا معرضين نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ من الهلاك- و في المجمع:

قيل أنهم كانوا أربعة آلاف- بِرَحْمَةٍ مِنَّا حيث رحمناهم بعدم عذابهم. و ذكر هذه الجملة، إما لإفادة أن نجاتهم لم تكن صدفة و إنما عن قصد، و إما لإفادة أن نجاة أولئك المؤمنين لم تكن باستحقاقهم، إذ أن كل أحد لا بد و أنه ممن يستحق العقاب، فنجاته تكون برحمة و فضل من الله وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ شديد. و الإتيان بهذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 619

[سورة هود (11): الآيات 59 الى 60]

وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

اللفظ لدلالته على ما كان للعذاب من شدة و هول، و تكرّر «نجينا» إما لبيان الخصوصية فإن اللفظ أولا كان مطلقا، ثم جي ء به مع المتعلق، و إما لبيان أنهم نجوا من عذاب الآخرة كما نجوا من عذاب الدنيا، و

هذا فيما إذا أريد من «العذاب الغليظ» عذاب الآخرة.

[60] ثم تأتي القصة في جمل قصار للتكرير و التركيز في الذهن وَ تِلْكَ القبيلة التي أهلكت و هي عادٌ أي قبيلة عاد جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أنكروا براهينه و أدلته التي أقامها على توحيده و رسالة رسوله و سائر الأصول و الفروع وَ عَصَوْا رُسُلَهُ بالمخالفة و المشاقة. و إنما قال «رسله» بلفظ الجمع، لأن من كذّب رسولا فقد كذّب الرسل، كما أن من المحتمل أن يكون سبحانه أرسل إليهم أنبياء، و إنما تعرض لقصة أحدهم فقط و هو «هود» وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ «الجبار» هو من يجبر الناس على ما يريد، و «العنيد» الكثير العناد الذي لا يقبل الحق، و المراد جبابرتهم، فقد كان قوم هود يمتثلون أمر الرؤساء الجبارين عوض امتثال أمر الأنبياء المصلحين.

[61] وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً فإن الله سبحانه سخّر للمؤمنين لعنة الكفار، فقوم هود «عاد» يلعنون في الدنيا، فتعقبهم اللعنات مدى الزمان وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يكونون ملعونين مطرودين عن الخير معذّبين في النار، يلعنهم الأنبياء و الملائكة و المؤمنون أَلا فلينتبه السامع إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي: كفروا بربهم، أو المراد أنهم ستروه بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 620

[سورة هود (11): آية 61]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)

لم يعترفوا به، فإن «الكفر» أصله «الستر» أَلا فلينتبه السامع بُعْداً لِعادٍ أي أبعد الله عادا قَوْمِ هُودٍ النبي هود عليه السّلام عن رحمته.

و هذا دعاء عليهم يتضمن التوهين و الإذلال.

و في تكرّر «ألا»

و «عاد» إظهار فظاعة أمرهم، و حث الناس على الاعتبار بما نالهم، و الحذر من مثل أفعالهم، و إنما قال «قوم هود» ليتميزوا عن «عاد إرم».

ورد أن عاد كانت بلادهم في البادية، و كان لهم زرع و نخل كثير، و لهم أعمار طويلة و أجسام ضخمة، فعبدوا الأصنام و بعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام و خلع الأنداد، فأبوا و لم يؤمنوا و آذوه، فكفت السماء عنهم سبع سنين حتى قحطوا، فجاءوا إليه فقالوا: يا نبي الله قد أجدبت بلادنا و لم تمطر، فسل الله المطر و أن يخصب بلادنا، فتهيأ للصلاة فصلى و دعا، فقال لهم: ارجعوا فقد أمطرتم و أخصبت بلادكم. و بقي في قومه يدعوهم إلى الله و ينهاهم عن عبادة الأصنام حتى أخصبت بلادهم و أنزل الله عليهم المطر. فلما لم يؤمنوا و بقوا على كفرهم و إصرارهم بعبادة الأصنام أرسل الله عليهم الريح الصرصر يعني «الباردة» سبع ليالي و ثمانية أيام حتى أهلكهم عن آخرهم.

[62] وَ أرسلنا إِلى ثَمُودَ و هم قبيلة كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك و مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَخاهُمْ في النسب صالِحاً قالَ صالح عليه السّلام لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ من هذه الأصنام التي تعبدونها و سائر الآلهة الباطلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 621

[سورة هود (11): آية 62]

قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)

هُوَ أَنْشَأَكُمْ أي ابتدأ خلقكم مِنَ الْأَرْضِ إما باعتبار آدم عليه السّلام، أو باعتبار كل فرد من

أفراد البشر، فإنه كان ترابا ثم صار نباتا ثم مأكولا، أو حيوانا ثم منيا ثم إنسانا وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها الاستعمار هو أن يجعل القادر منهم أن يعمّر الأرض، فإذا قيل: «استعمر زيد عمروا» كان معناه: أنه جعل عمروا قادرا على عمارة الأرض بما هيأ له من الأسباب. فالمعنى أمركم بعمارة الأرض و أقدركم عليها.

و قد روى «النعماني» عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في تفسير «و استعمركم فيها»: فأعلمنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك مما جعله الله تعالى سببا لمعايشهم بما يخرج من الحب و الثمرات و ما شاكل ذلك مما جعله الله تعالى معايش «1».

أقول: و يؤيد هذا المعنى قوله: «أنشأكم».

فَاسْتَغْفِرُوهُ أي اطلبوا غفرانه بالتوبة من الشرك و المعاصي و فعل الطاعات ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ بعد أن طهّرتم أنفسكم من الذنوب، و ارجعوا إليه في أخذ الأحكام و الطاعة و العبادة إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ قرب العلم و الاطلاع و الغفران، فليس بعيدا غير عالم، و لا متكبرا لا يلبي الطلب مُجِيبٌ لمن دعاه و طلبه.

[63] قالُوا قالت ثمود: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا نرجو

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 19 ص 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 622

[سورة هود (11): آية 63]

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)

منك الخير لما كنا نرى من صفاتك الحسنة و أخلاقك الطيبة، أما الآن فقد يئسنا منك حيث رأينا أقوالك و دعوتك إلى الله و نبذ عبادة الأصنام أَ تَنْهانا استفهام إنكاري أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أي: كيف تنهانا عن عبادة الأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها؟

وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من عبادة الله وحده و نبذ الأصنام مُرِيبٍ موجب للريبة و التهمة، كيف أنت تصدّق و آباؤنا كانوا على ضلالة و جهالة.

[64] قالَ صالح لهم: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة تشهد على صدقي مِنْ قبل رَبِّي سبحانه وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً أعطاني النبوة برحمته و فضله فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي من بأس الله و غضبه و عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ بعد إبلاغكم الدعوة، أو اتخاذ طريقتكم لرجائكم فيّ الخير، فإن رجاءكم فيّ الخير من دون عبادة الله وحده لا يدفع عني العذاب، خصوصا و أنه سبحانه أعطاني و فضلني فَما تَزِيدُونَنِي إذا لبّيت دعوتكم غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي خسارة على خسارة، من سلب النبوة عني و عذاب الله الشامل للعاصين، أو المعنى: غير أن أنسبكم إلى الخسران، بأن أريكم أنكم الخاسرون، إذ كلما أصرّ المبطل زاد المحق علما بأنه في خسارة و انحطاط و نقص.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 623

[سورة هود (11): الآيات 64 الى 66]

وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)

[65] ثم ذكر صالح عليه السّلام الدليل على كونه نبيا من قبل الله سبحانه، قال:

وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة إليه سبحانه تشريفية، فإنه هو الذي كونها من غير ولادة عادية، و إنما أخرجها من الجبل الأصم لَكُمْ آيَةً أي علامة و

دليل على صدقي و حجة كلامي- و قد سبقت قصتها فراجع- فَذَرُوها أي دعوها و اتركوها و شأنها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ من العشب و النبات، و لا تريد الأكل منكم حتى تستثقلوها و تتضجرون منها وَ لا تَمَسُّوها أي لا تصيبوها بِسُوءٍ أي بأذى قتل أو جرح أو عقر أو غيره فإن فعلتم ذلك فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ يقرب وقته من وقت إيذائكم لها.

[66] لكن القوم أصرّوا على كفرهم و عنادهم، و اجتمع جماعة منهم و جعلوا لأحدهم جعلا إن عقر الناقة و خلّصهم منها فَعَقَرُوها و إنما نسب الأمر إلى جميعهم لفعل بعضهم، و مشاركة جماعة بالتسبب، و رضى الآخرين فَقالَ صالح عليه السّلام لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فإنه لم يبق من حياتكم و تمتعكم في الدنيا أكثر من ثلاثة أيام ذلِكَ العذاب بعد الثلاثة أيام وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي صادق لا كذب فيه.

[67] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا لقوم صالح نَجَّيْنا صالِحاً من العذاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 624

[سورة هود (11): الآيات 67 الى 68]

وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)

وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي رحمنا أولئك المؤمنين فلم نعذبهم. و لعل سر الإيثار في هذه الجملة إفادة أن المؤمن الناجي، أيضا ينجو بالرحمة لأن لكل إنسان من الذنوب ما يستحق بها العذاب، أو أن الإنسان لا يستحق الثواب و الجزاء الجميل و إنما يتفضل الله سبحانه بذلك، فالنجاة من الهلكة ليست بالاستحقاق و إنما بالفضل و الرحمة وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي نجيناهم من الموت و الخزي، فإن الموت بالعذاب

خزي و إهانة، و معنى «يومئذ» أي خزي يوم العذاب إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله هُوَ الْقَوِيُ الذي يقوى على إهلاك الكفار و إفنائهم الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه لا يمتنع عليه أي شي ء مما أراد.

[68] وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ بأن صاح بهم جبرائيل عليه السّلام أو خلق الله سبحانه صيحة فماتوا جميعا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ و بيوتهم جاثِمِينَ من «جثم» بمعنى لزم المكان، فلم يبرحه. أي: ميتين لا حراك لهم.

[69] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها «غنى في المكان» أقام فيه، و المعنى: كأن لم تكن ثمود في منازلهم قط لانقطاع آثارهم بالهلاك، إلا بقايا بيوتهم و جثثهم الهامدة. ثم يجمل السياق القول في ما فعلوا و كان سببا في عاقبتهم هذه أَلا فلينتبه السامع إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ فلم يعتقدوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 625

[سورة هود (11): آية 69]

وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)

به و أشركوا معه غيره، و أصل «الكفر» الستر، كأنهم بعدم الاعتراف ستروا وجه الحقيقة أَلا فلينتبه السامع بُعْداً لِثَمُودَ عن حسن الذكر في الدنيا و السعادة في الآخرة، إنهم قد طردوا عن رحمة الله و فضله.

[70] ثم يستعرض القرآن الحكيم القصة الرابعة في هذه السورة بعد قصة نوح و هود و صالح عليهم السّلام بقوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا أي الملائكة و هم جبرائيل و إسرافيل و ميكائيل و كروبيل إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي بشارة إعطائه الولد- إسماعيل عليه السّلام- بعد أن شاخ و يئس عن الولد. و لعل ذكر هذا الطرف من قصة إبراهيم عليه السّلام لبيان أن الله سبحانه أنجز وعده الذي وعده لنوح بقوله: (قِيلَ يا

نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) «1»، فقد كانت البركات في أولاد إبراهيم إسماعيل و إسحاق، و العذاب في أمة لوط.

قالُوا أي لما دخلت الملائكة قالت لإبراهيم: سَلاماً بهذا اللفظ، و هذا كناية عن تسليمهم عليه سلاما كاملا، بأن قالوا- مثلا- سلام عليكم، ف قالَ إبراهيم عليه السّلام في جوابهم: سَلامٌ بهذا اللفظ، فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ كأنه قال: «ما أبطأ عن المجي ء بالعجل»، فحذف حرف الجر و وصل الفعل بالمجرور- على القاعدة- «العجل» ولد البقر، و «الحنيذ» فعيل بمعنى مفعول من

______________________________

(1) هود: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 626

[سورة هود (11): الآيات 70 الى 71]

فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)

«حنذ» بمعنى شواه بالحجارة، أي جاء بعجل مشوي بالحجارة، أو المشوي مطلقا. و قد كان إبراهيم عليه السّلام محبا للضيف فلما رأى الملائكة ظنهم بشرا- لأنهم كانوا في صورة بشر- فأتى إليهم بالطعام، و هو عجل مشوي.

[71] لكن الملائكة لا تأكل طعام الدنيا، و لذا لم يتقدموا للأكل كما هو عادة الضيوف فَلَمَّا رَأى إبراهيم عليه السّلام أَيْدِيَهُمْ أي أيدي الملائكة لا تَصِلُ إِلَيْهِ إلى العجل و لا يأكلون منه نَكِرَهُمْ أنكرهم فإن «نكر و أنكر» بمعنى واحد فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي أضمر في نفسه منهم خوفا، يقال: «أوجس خوفا» أي أضمر، فإن الإيجاس يعني الإحساس. قالوا: فقد جرت عادتهم أن الضيف لو أكل من الطعام كانوا في أمن منه، و إن

لم يأكل خافوا من شره لأن عدم أكله دليل أنه ينوي السوء بالمضيف. و قيل: إن خوفه كان بسبب ما علم أنهم ملائكة و خاف من أن يكونوا أمروا بعذاب القوم.

قالُوا أي قالت الملائكة، لما رأوا خوف إبراهيم عليه السّلام: لا تَخَفْ منا يا إبراهيم إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ بالعذاب و الإهلاك، و لا نضمر بك شرا، أو لا نضمر بقومك شرا.

[72] وَ قد كانت امْرَأَتُهُ أي زوجة إبراهيم سارة قائِمَةٌ في أثناء هذا الكلام بين إبراهيم و بين الملائكة فَضَحِكَتْ و لعلّ ضحكها كان بسبب البشارة بهلاك القوم المجرمين، فإن المرأة أكثر الناس غضبا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 627

[سورة هود (11): آية 72]

قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72)

لعمل الفاحشة من الرجال، أو أنها ضحكت مستبشرة بقدوم الملائكة إلى دارها، أو المراد من «ضحكت» حاضت، فإن «ضحك» بمعنى سال، يقال: ضحكت الشجرة، إذا سال صمغها، و المراد: أنها حاضت بعد عقم و انقطاع حيض، و إن الحيض لمن المبشرات بالولد، إذ لولاه لم يكن تكوّن الولد فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ و حيث أن بشارة الملائكة لا تكون إلا من الله سبحانه صح إسناد البشارة إلى نفسه تعالى وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ فإن البشارة بالولد و الذرية من خير البشائر للمرأة العقيمة.

[73] قالَتْ سارة لما سمعت ببشارة الأولاد: يا وَيْلَتى حرف النداء دخل على منادى محذوف أصله: يا قوم ويلتي، أو المعنى: يا ويلتي احضري فهذا وقتك، كما قالوا في «يا للعجب» معناه: يا عجب احضر فهذا وقتك، و ليس حينئذ حقيقة و إنما القصد إنشاء التعجب بهذه العبارة، و «ويلتي» أصله الدعاء بالهلاك،

لأن الويل بمعنى الشر و الهلاك لكنه استعمل لمطلق التعجب عرضا و لو كان في الفرح، من باب علاقة استعمال الضد في الضد، نحو: «لا أبا لك» الذي كان أصله للسب ثم استعمل للمدح أيضا أَ أَلِدُ أي: هل ألد الولد وَ الحال أَنَا عَجُوزٌ طاعنة في السن، و «العجوز» لفظ يستعمل لكل ذكر و أنثى وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً؟! «البعل» الزوج، أي إن هذا بعلي في حال كونه شيخا كبير السن.

روي أن سارة كان لها من العمر يوم ذاك تسعون سنة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 628

[سورة هود (11): الآيات 73 الى 74]

قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)

و لإبراهيم عليه السّلام مائة و عشرون سنة «1».

إِنَّ هذا التبشير بالولد، أو الولد منا و نحن هرمين لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ و لم يكن تعجبا إنكارا لقدرة الله سبحانه، بل الإنسان إذا رأى شيئا خلاف القوانين المودعة في الطبيعة تحرك فيه حس التعجب و الاستغراب.

[74] قالُوا أي قالت الملائكة التي بشروها بالولد: أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ استفهام تنبيه، أي: كيف تعجبين من أمر إرادة الله سبحانه؟

و الحال رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ تفضله و خيراته النامية عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ الْبَيْتِ أي أهل بيت النبوة، فإنه سبحانه لم يزل يرعاكم و يتفضل عليكم فلا عجب لأنه القادر على ما يشاء، و لا عجب من جهتكم لأنكم مورد ألطافه و كراماته إِنَّهُ سبحانه حَمِيدٌ محمود على أفعاله مَجِيدٌ ذو مجد و رفعة، فبكونه محمود الفعال يتفضّل، و بكونه رفيعا يقدر.

[75] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أي

الخوف و الرعب الذي دخله من الرسل وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى بالولد، و اطمأن بفضل الله و لطف الملائكة به، شرع يُجادِلُنا أي يجادل رسلنا و يناقشهم. و حيث أن رسول

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 629

[سورة هود (11): الآيات 75 الى 76]

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

الشخص كالشخص، صح إسناد فعل الرسل إليه، كما صح إسناد فعل الأشخاص إلى الرسل، بفعلهم معه فِي قَوْمِ لُوطٍ الذين أرسلت الملائكة لتعذيبهم.

ورد أن إبراهيم عليه السّلام قال للرسل: إن كان في القوم مائة من المؤمنين أ تهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: إن كان فيهم خمسون؟ قالوا:

لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا. و ما يزال ينقص و يقولون: لا، حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا، فقال: إن فيهم لوطا؟- و قد كان عليه السّلام ابن خالة إبراهيم عليه السّلام- قالوا: نحن أعلم بمن فيهم، لننجيّنه و أهله إلا امرأته «1».

[76] إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ يحلم عن العصاة، و بحلمه كان يطلب عدم تعذيب قوم لوط أَوَّاهٌ أي كثير الدعاء مُنِيبٌ راجع إلى الله سبحانه في جميع أموره، من «أناب»، و كأن الإتيان بهذا الوصف له عليه السّلام، و قد قضي الأمر.

[77] ثم قالت الملائكة لإبراهيم عليه السّلام، بعد التساؤل و النقاش: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الطلب و انصرف عنه فإنه لا يفيد إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بهلاك هؤلاء و عذابهم فهو نازل بهم لا محالة وَ إِنَّهُمْ أي قوم لوط آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ لا يرد عنهم، فقد جرت سنة الله أن

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص

546.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 630

[سورة هود (11): آية 77]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)

المعرضين ما داموا لم يحتجّ عليهم، أو يحتمل- و لو احتمالا خارجيا- أو كان في أصلابهم ذرية مؤمنة، لا يعذّبون، أما و قد انسدت الأبواب، فقد حقت عليهم كلمة العذاب و ما فائدة بقائهم أكثر من ذلك.

[78] و انتهى الأمر و سار الرسل نحو قرية لوط عليه السّلام في زي شبان حسان الصور- و هذه هي القصة الخامسة في السورة- وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً أي أتت الملائكة إلى لوط عليه السّلام سِي ءَ لوط بِهِمْ أي ساءه مجيئهم وَ ضاقَ لوط بِهِمْ أي بسبب ورودهم ذَرْعاً أي قلبا و طاقة. قالوا: إن الأصل في ذلك أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوته، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذرعه فيضعف و يمد عنقه، و منه قولهم: «ما لي به ذرع» أي ليس لي به طاقة.

وَ قالَ لوط عليه السّلام: هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي يوم شديد عليّ، كيف أصنع بالقوم إذا أرادوا الفاحشة مع هؤلاء الضيوف، أصل «عصب» من الشد، يقال: «عصبت الشي ء» أي شددته، و يستعمل غالبا في الشر.

و قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام- بتغيير يسير-: كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله، فطلبهم إبليس الطلب الشديد، و كان من فضلهم و خيرتهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم و تبقى النساء خلفهم، و لم يزل إبليس يعتادهم و كانوا إذا رجعوا خرّب إبليس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 631

ما كانوا يعملون، فقال بعضهم لبعض: تعالوا نرصد

لهذا الذي يخرب متاعنا، فرصدوه، فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان، فقالوا له: أنت الذي تخرب متاعنا مرة بعد مرة، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيّتوه عند رجل، فلما كان الليل صاح فقال له: ما لك؟ فقال:

كان أبي ينومني على بطنه. فقال الرجل: تعال فنم على بطني. قال:

فلم يزل الشيطان يدلك الرجل حتى علّمه أن يفعل بنفسه، ثم انسل ففر منهم، و أصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام و يحبّبهم منه و هم لا يعرفونه، فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بالرجال، ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق فيفعلون بهم، حتى تنكّب مدينتهم الناس، ثم تركوا نساءهم و أقبلوا على الغلمان، فلما رأى الشيطان أنه قد أحكم أمره في الرجال، جاء إلى النساء فصيّر نفسه امرأة ثم قال: إن رجالكن يفعل بعضهم ببعض. قلن: نعم قد رأينا ذلك. و كل ذلك ينصحهم لوط و يوصيهم، و إبليس يغويهم، حتى استغنت النساء بالنساء.

فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل في زي غلمان، عليهم أقبية فمروا بلوط عليه السّلام و هو يحرث قال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قط؟ قالوا: إنا أرسلنا سيدنا إلى رب هذه المدينة. قال: أو لم يبلغ سيدكم ما يفعل أهل هذه المدينة، يا بني إنهم و الله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم. فقالوا: أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. قال: فلي إليكم حاجة؟ قالوا: و ما هي؟ قال:

تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام. قال: فجلسوا، فبعث لوط ابنته فقال: جيئي لهم بخبز و جيئي لهم بماء في القرعة و جيئي لهم بعباءة يتغطون بها من البرد. فلما أن ذهبت الابنة أقبل المطر، و جرى الوادي،

فقال لوط: الساعة يذهب بالصبيان الوادي، قال: قوموا حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 632

نمضي، و جعل لوط يمشي في أصل الحائط و جعلت الملائكة يمشون وسط الطريق فقال: يا بني امشوا هاهنا، فقالوا: أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. و كان لوط يستغنم الظلام.

و مر إبليس و أخذ من حجر امرأة صبيا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلهم على باب لوط، فلما نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا؟ فقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني في ضيفي. قالوا: هم ثلاثة خذ واحدا و أعطنا اثنين. ثم أدخلهم الحجرة، و قال: لو أن لي أهل بيت يمنعوني منكم؟ قال:

و تدافعوا على الباب و كسروا باب لوط و طرحوا لوطا. فقال له جبرائيل: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، فأخذ جبرائيل كفا من بطحاء فضرب بها وجوههم و قالوا: شاهت الوجوه. فعمي أهل المدينة كلهم و قال لهم لوط: يا رسل ربي فما أمركم ربي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم وقت السحر. قال: فلي إليكم حاجة؟ قالوا: و ما حاجتك؟

قال: تأخذونهم الساعة، فإني أخاف أن يرحمهم الله سبحانه و يصرف العذاب عنهم. فقالوا: يا لوط إن موعدهم الصبح أليس بقريب لمن يريد أن يأخذ؟ فخذ أنت بناتك و امض ودع امرأتك.

و في رواية أخرى: ففعل لوط ما أمر و خرج ببناته ليلا و دعوا زوجته لأنها كانت منافقة، و لما خرج لوط من المدينة و جاء الصباح قلع جبرائيل المدينة و رفعها إلى السماء ثم قلبها و أمطر الله عليها و على أطرافها حجارة من سجيل.

و في بعض التفاسير: أن زوجة لوط هي التي أخبرت القوم بالضيوف «1».

______________________________

(1) الكافي: ج

5 ص 544.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 633

[سورة هود (11): آية 78]

وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)

[79] وَ جاءَهُ أي توجه إلى طرف دار لوط قَوْمُهُ الكافرون يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ يسرعون في المشي نحوه لطلب الفاحشة بالضيوف، و لعل الإتيان بالمجهول لبيان كيفية الإسراع و أنه لم يكن هرع عقلاء و إنما هرع شهوة حيث قد انطوت أنفسهم على حب هذا العمل الشنيع، فكانت نفوسهم تسوقهم من حيث لا يشعرون وَ مِنْ قَبْلُ إتيان الملائكة أو من قبل وقوع هذه القصة كانُوا أي كان قوم لوط يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ جمع «سيئة» و المراد بها اللواط، و هذا لبيان وجه أنه عليه السّلام ضاق بهم ذرعا و رأى اليوم عصيبا.

قالَ لوط عليه السّلام لما رأى إصرار القوم على السيئة: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فتزوجوا بهن و اعملوا حيث أمركم الله، ففي المرأة الطهارة النفسية و الطهارة الجسدية، و إني مستعد أن أقدم بناتي لكم لئلّا تعملوا بالمعاصي و لئلّا تفضحونني في ضيوفي. و هنا احتمال أنه عليه السّلام أراد من «بناتي» بنات المدينة، و أضافهن إلى نفسه لأن كبير الناس يضيف الأفراد إلى نفسه، أي: تزوجوا البنات عوض هذا العمل فَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه في عمل اللواط وَ لا تُخْزُونِ أي لا تلزموني عارا فِي ضَيْفِي فإن الضيف لو أهين كان ذلك خزيا للمضيف و عارا عليه أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ استفهام توبيخي، أي أليس فيكم رجل أو رشيد لا سفاهة به يمنعكم عن اقتراف هذه الجريمة

و عن أن يهتك أمري بالنسبة إلى ضيوفي، حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 634

[سورة هود (11): الآيات 79 الى 80]

قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)

لا يبقى عارها عليّ مدى الحياة؟

[80] قالُوا أي قال القوم في جواب لوط عليه السّلام: لَقَدْ عَلِمْتَ يا لوط ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ أي من حاجة، فكما لا يرغب الإنسان فيما لا حق له فيه، كذلك لا يرغب فيما لا حاجة له فيه، أو لأن من حق الرجل أن يتزوج البنت، أما إذا لم يرد فكأنه لا حق له فيها، أو المراد ب «الحق» الحصة، أي لا حصة لنا فيهن وَ إِنَّكَ يا لوط لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ من الضيوف و عمل السيئة بهم.

[81] و هنا انقطع لوط عليه السّلام و يئس و حزن و قالَ في أسف بالغ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً فأكون قويا قادرا على دفعكم، و «الباء» في «بكم» إما للمقابلة أي بمقابلتكم، أو بمعنى «على» أي عليكم، و حذف جواب «لو» توسعة في المتعلق، أو لوضوح أن المراد «لمنعتكم» أَوْ آوِي من «أوى يأوي» بمعنى: لجأ إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ يمنعني منكم، أي: لو تمكّنت أن أستعين بقوة عشيرة أو ما أشبهها لدفعتكم و منعتكم.

في الحديث: إن جبرائيل قال- حين قال لوط ذلك-: «لو يعلم أية قوة له؟» «1».

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد».

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 546.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 635

[سورة هود (11):

آية 81]

قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)

[82] و هنا تكلم الرسل و قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ أرسلنا لإنقاذك و هلاك القوم.

روي أن جبرائيل قال للوط: دعهم يدخلوا. فلما دخلوا أهوى جبرائيل بإصبعه نحوهم، فذهبت أعينهم

كما قال سبحانه:

(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) «1»، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ أي لا يقدرون أن يهجموا عليك و ينالوا منك سوءا في نفسك أو ضيوفك. و رجع القوم عن دار لوط خائبين من رعب الملائكة فقد ألقي في قلوبهم رعب شديد، و صاروا كلهم عميانا لا يبصرون.

و هنا توجهت الملائكة إلى لوط و قالوا له: فَأَسْرِ أي سر ليلا و اخرج من هذه المدينة، بِأَهْلِكَ «الباء» بمعنى «مع» أي مع أهلك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي بعد ذهاب بعض الليل و قطعة منه، فإن القطع من الليل: بعضه وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إما بمعنى: لا يتخلّف في المدينة أحد منكم لأن كل من في المدينة سوف يصيبهم العذاب، و إما بمعنى: لا ينظر أحد ورائه حين السير لئلّا يرى ما يزعجه من عذاب هؤلاء إِلَّا امْرَأَتَكَ استثناء من «أسر بأهلك» يعني فلتتخلف امرأتك، لأنها كانت مع القوم ضدك يا لوط إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ أي يصيبها من العذاب ما أصاب القوم، فاللازم عليك أن لا تخبرها و أن تخلّفها في المدينة إِنَّ مَوْعِدَهُمُ أي وقت هلاكهم

______________________________

(1) القمر: 38.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 636

[سورة هود (11): الآيات 82 الى 83]

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

و عذابهم الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ و هذا ما قالته الملائكة للوط حين استعجل عذابهم في ذلك الوقت.

[83] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم جَعَلْنا عالِيَها أي عالي المدينة سافِلَها بأن قلبناها فإن جبرائيل أدخل جناحه تحت الأرض ثم قلبها بأن جعل أسفلها أعلاها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها الظاهر أن الإمطار كان على نفس الناس، و «الواو» لا تدل على تأخير الإمطار عن القلب، و إن كان الترتيب الذكري قد يعطيه، لأن «الواو» لمطلق الجمع كما ذكره أهل اللغة حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ قيل: إنه معرّب «سنك كل» كلمتان فارسيتان بمعنى المدر، و لا شاهد لذلك مَنْضُودٍ هو صفة سجيل، أي متراكم بعضه يلاحق بعضا، أو نضد بعضه على بعض حتى صار سجيلا، أي صار حجرا.

[84] مُسَوَّمَةً أي معلّمة، جعل فيها علامات تدل على أنها معدّة للعذاب عِنْدَ رَبِّكَ في علمه سبحانه، و في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد سواه. و كان ذكر هذه الأوصاف للتهويل، و إن الله سبحانه قد أعد لهم في خزائنه حجارة منضودة معلمة، كما أن الملك يهيئ لأعدائه سيوفا معلومة معلمة في خزائنه ليكون على استعداد تام وَ ما هِيَ أي حجارة السجيل مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ فلا يستبعد أحد كيف يعذب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 637

[سورة هود (11): آية 84]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)

الله أحدا بإمطار الحجارة؟ إنهم ظلموا فاستحقوا العقاب.

و في بعض الأحاديث: إنها مهيأة لظالمي هذه الأمة أيضا «1».

[85] وَ أرسلنا إِلى

مَدْيَنَ و هم قبيلة سمّوا باسم جدهم مدين بن إبراهيم، أو أنها اسم مدينة. و في الكلام حذف، أي: أرسلنا إلى أهل مدين- لكن السياق يقوّي الأول- أَخاهُمْ في النسب شُعَيْباً و هذه القصة قد ذكرت في سورة الأعراف باختلاف في ذكر بعض الخصوصيات هنا- كما هو الشأن في القصص القرآنية- فإن القرآن يأخذ في كل موضع طرفا من القصة لإدراجه في المقصود العام المساق له الكلام قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ أي ليس لكم مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ من الأصنام التي تعبدونها وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ أي لا تعطوا الناس أنقص من حقوقهم عند الكيل و الوزن بالتطفيف، و «المكيال» آلة الكيل، كما أن «الميزان» آلة الوزن، على وزن «مفتاح» إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ فقد أنعم الله عليكم بالرزق فلا تحتاجون معه إلى التطفيف و السرقة من الناس وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن بقيتم في الكفر و عملتم بالتطفيف عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يحيط بكم

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 317.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 638

[سورة هود (11): الآيات 85 الى 86]

وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)

فلا ينجو منه أحد.

[86] وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل. و قد كان من عادة الأنبياء عليهم السّلام أن يركزوا جهودهم بعد الدعوة إلى التوحيد و المعاد، على النقطة المنحرفة في القوم كما ركّز لوط عليه السّلام جهوده لإزالة الانحراف الجنسي في قومه. و كان الانحراف العام في قوم شعيب

بعد عبادة الأصنام تطفيف المكيال و الميزان، و لذا أكد على ذلك بالقول مكررا، مرة بالنهي عن التطفيف، و مرة بالأمر بإيفاء الكيل وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوهم حقوقهم، فإن البائع إذا باع منّا ثم أعطى أقل من ذلك فقد نقص و بخس حق المشتري وَ لا تَعْثَوْا من «عاث» بمعنى سعى في الفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال كونكم تفسدون. و هذا حال تأكيدي لأنه بمعنى الفعل، و إنما جي ء به لأن المفسد قد لا يعلم بإفساده، فهو يريد النهي عن الإفساد عمدا، أي لا تفسدوا متعمدين الإفساد قاصدين إليه بالذات.

[87] بَقِيَّتُ اللَّهِ الذي يبقى بإذن الله و إجازته و إباحته، و أضيف إليه تشريفا خَيْرٌ لَكُمْ أي ما أبقى الله تعالى لكم من الحلال بعد إتمام الكيل و الوزن خير لكم من التطفيف و البخس، فإنه أكثر بركة و أحسن عاقبة.

و ما ورد من أن الأئمة عليهم السّلام و الحجة عليه السّلام- بصورة خاصة- بقية الله، يراد بذلك أنهم و أنه عليه السّلام هم الذين أبقاهم الله سبحانه للهداية و الإرشاد إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي لو كنتم مؤمنين لعلمتم أن بقية الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 639

[سورة هود (11): الآيات 87 الى 88]

قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (88)

خير، أو أن

خيرية البقية مشروطة بالإيمان وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم عن الحرام و عن العذاب، و إنما أنا مذكّر مرشد، فإن قبلتم قولي نجوتم، و إن لم تقبلوا أهلكتكم.

[88] قالُوا أي قال القوم في جواب إرشادات شعيب بالتوحيد و إيفاء المكيال و الميزان: يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ التي تصليها لله تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا قالوا ذلك على نحو التهكّم و الاستهزاء، كأن الصلاة قد دفعت شعيب لهدم دين القوم أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا أي هل الصلاة تأمر أن نترك التطفيف. و من المعلوم أن في الكلام حذفا تقديره: «أ صلاتك تكلّفك أن تأمرنا بترك عبادة الأصنام و ترك التطفيف في المكيال و الميزان» إِنَّكَ يا شعيب لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قالوا ذلك على وجه الاستهزاء، فإن الداعي الذي لا قوة له و لا طول كثيرا ما يظهر في مظهر الحليم ذي الرشد الذي يكتم غضبه و أسفه في مقابل الجهلة الذين لا يلبّون طلبه. و المراد: إنك مصطنع ذلك لاقتناص السيادة.

[89] قالَ شعيب في جواب استهزاء القوم: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة على نبوتي و صدق ادعائي مِنْ رَبِّي أي من طرفه سبحانه وَ رَزَقَنِي مِنْهُ من عنده تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 640

رِزْقاً حَسَناً بإعطائي النبوة و التوسعة عليّ في معاشي. و الجواب محذوف، أي: هل يسعني أن أترك عبادته و طاعته أو أخون وحيه فلا أبلغه و لا أؤديه؟! وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ عملا إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ بأن أرتكب القبائح التي أنهاكم عنها، فأريد أن تتركوها و أعملها أنا.

و لعلّه إنما تكلم بهذا، لما يرى المصلحون- غالبا- أنهم

يفعلون ما ينهون الناس عنه، و إنما يريدون أن يتنازل الناس عن قسم من شهواتهم ليأتوها هم إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ أي ما أريد من دعوتي إلا الإصلاح لكم عن المفاسد مَا اسْتَطَعْتُ أي على قدر استطاعتي.

قال بعض المفسرين: إن

قوله عليه السّلام «إن كنت على بينة»

إشارة إلى حق الله، و قوله «ما أريد» إشارة إلى حق النفس، و قوله «إن أريد» إشارة إلى حق المجتمع.

وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ «التوفيق» مصدر «وفق» أي: تجمّع الأسباب لدى الإنسان، و صيرورة بعضها وفق بعض لأخذ النتيجة.

و غالبا تستعمل هذه اللفظة في التوفيق للأمور الحسنة و إن كان معناها اللغوي أعم، فإن توفيقي في الكف عن القبائح و الإطاعة، و القيام بالدعوة إنما هو من عند الله سبحانه فإنه هو الذي أرشدني و هيأ لي أسباب ذلك عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و التوكل على الله: الرضا بتدبيره، و اتخاذه ظهرا في الأمور بالالتجاء و التضرّع إليه وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع في أموري كلها إليه، فكما أن الإنسان إذا كان له ظهر و ركن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 641

[سورة هود (11): الآيات 89 الى 91]

وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91)

يلجأ إليه ليستمد منه القوة في نوائبه، كذلك من اتخذ الله ظهيرا رجع إليه في حوائجه بالتوسل إليه لقضاء حوائجه.

[90] ثم أخذ شعيب

ينصح القوم و يذكرهم بمصارع الأقوام السابقة الذين خالفوا النبيين فأهلكوا وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أي لا يحملنّكم الخلاف معي و العناد و اللجاج أَنْ يُصِيبَكُمْ العذاب، فعنادكم يلجئكم إلى الكفر و التمادي في الغيّ حتى يصيبكم العذاب مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح الصرصر أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فإنهم أهلكوا في عهد قريب، خالفوا الرسول و تمادوا في الفساد، فإن لم تعتبروا بالمتقدمين، فاعتبروا بهؤلاء القريبين منكم.

[91] وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا غفرانه لما سلف منكم من الكفر و المعاصي ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي ارجعوا إليه في عقيدتكم و أعمالكم، فالاستغفار لما مضى، و التوبة لما يأتي إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بكم، فإذا فعلتم ما ذكرته رحمكم و تلطّف بكم وَدُودٌ أي محبّ لكم، و معنى ذلك أنه يفعل بهم ما يفعل المحب بمحبّه.

[92] قالُوا أي قال القوم بعد أن وعظهم شعيب بتلك الموعظة البالغة:

يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ أي ما نفهم، فإن «الفقه» في اللغة بمعنى «الفهم»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 642

[سورة هود (11): الآيات 92 الى 93]

قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ و هذا كلام المعاند فإنه يقول مثل ذلك و يريد أنه معرض عن كلام المتكلم، فقد أقيم السبب مقام المسبب لأن عدم العمل معلول لعدم العلم وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك و لا عزة، فلا

تتمكن من دفع أذانا لو أردنا إيذاءك وَ لَوْ لا وجود رَهْطُكَ أي عشيرتك، و حرمتهم عندنا لَرَجَمْناكَ أي لقتلناك بالحجارة وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أي لا عزّة لك عندنا. و كأن الإتيان بلفظ «علينا» لأجل أن العزيز فوق الناس مرتبة و مقاما.

[93] قالَ شعيب عليه السّلام: يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أي هل عشيرتي و قومي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ فتتركون إيذائي لأجل حرمة عشيرتي، و لا تتركون إيذائي لأجل الله سبحانه، أي تراقبون العشيرة و لا تراقبون إله العشيرة و خالق الجميع. قال هذا الكلام على نحو الاستفهام الإنكاري وَ اتَّخَذْتُمُوهُ جعلتم الله سبحانه وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا جعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء ظهوركم، و معنى «الظهري» جعل الشي ء وراء الظهر حتى ينسى إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قد أحاط علمه بأعمالكم، فلا يخفى عليه شي ء تصنعونه، فيجازيكم عليه.

[94] وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على المكانة التي أنتم عليها من الكفر و العصيان، فإن «المكانة» هي الحالة التي يتمكن بها صاحبها من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 643

[سورة هود (11): آية 94]

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94)

العمل. و هذا تهديد يريد: أنكم سترون جزاء أعمالكم السيئة إِنِّي عامِلٌ حسب أمر الله سبحانه و لا أ تزحزح عن أوامره، فهذا كقوله:

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ) «1»، سَوْفَ تَعْلَمُونَ في الدنيا مَنْ منّا يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يهينه و يفضحه، هل أنتم أم أنا؟ فيتبيّن من هو الصادق وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ منّا وَ ارْتَقِبُوا انتظروا ما وعدكم ربكم من العذاب إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ و إني أيضا أنتظر و أرتقب

ما وعدتكم أن يأتيكم، ليدلّ على صدقي و صحة رسالتي.

[95] و هكذا بقي القوم في الغيّ و تمادوا في الكفر و العصيان، و لم تنفعهم نصائح شعيب عليه السّلام حتى جاءهم العذاب وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا بعذابهم نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا حيث رحمناهم فلم يشملهم العذاب، و إن كان المؤمنون به مستحقين للعذاب أيضا لما تقدم أن كل إنسان- غير معصوم- لا بد و أن يصدر منه ذنب يستحق العقاب به فتكون نجاة كل فرد برحمته سبحانه.

قال في تفسير الصافي: و إنما ذكر هنا و في قصة عاد ب «الواو» أي «و لما»، و في قصتي صالح و هود ب «الفاء» أي «فلما»، لسبق ذكر وعد يجري مجرى السبب في قصتي صالح و هود دون الآخرين. انتهى «2».

______________________________

(1) الكافرون: 7.

(2) تفسير الصافي: ج 2 ص 470.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 644

[سورة هود (11): الآيات 95 الى 96]

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (96)

و احتمل بعض أن يكون قوله: «برحمة منّا» لأجل أن نجاتهم كانت بسبب هداية الله لهم و ألطافه الخفية الموجبة لخروجهم عن حظيرة الكفار.

وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فقد صاح بهم جبرائيل عليه السّلام صيحة شديدة زهقت روح كل واحد منهم في مكانه فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ من «جثم» في المكان إذا أقام فيه، أي ماتوا و هم في ديارهم، و لم يتمكنوا من الحراك أصلا.

[96] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها من «غنى في المكان» إذا أقام فيه، أي كأنهم لم يكونوا بتلك الديار، فقد ذهبت آثارهم، و عفت رسومهم أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ فلينتبه السامع إلى

طرد قبيلة مدين من رحمة الله و لطفه كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ و لعلّ ذكر ثمود هنا لأن كلتا الأمتين ماتتا بالصيحة.

و ربما احتمل أن المراد ب «الصيحة» نوع من العذاب، تقول العرب:

«صاح الزمان بهم» إذا أهلكوا.

[97] ثم يحكي القرآن الحكيم القصة السابقة في هذه السورة و هي قصة موسى عليه السّلام و فرعون وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي مع الأدلة الدالة على كونه من طرفنا، و هي الثعبان و اليد البيضاء و غيرهما وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة عقلية على أن للكون إلها، و أن فرعون ليس بإله للناس.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 645

[سورة هود (11): الآيات 97 الى 99]

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)

[98] إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ إما المراد: الأشراف منهم، و تخصيص الذكر بهم لأنهم إذا أذعنوا أذعن الناس كلهم، أو المراد بالملإ: قومه كلهم فَاتَّبَعُوا أي اتبع الملأ أَمْرَ فِرْعَوْنَ في اتخاذه إلها و الإعراض عن موسى و حججه وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي ما هو هاد لهم إلى الرشد. و هو خلاف «السفه» فإن أمره غير مرشد و غير صحيح، بل فيه ضلالة و سفاهة.

[99] و كيف يكون أمره رشيدا، و الحال أنه و أتباعه يصيرون إلى النار؟! و هل الرشد ما يسبب الهلاك و العقاب؟! يَقْدُمُ فرعون قَوْمَهُ يتقدم عليهم و يمشي بين أيديهم يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ جميعا، ففي الدنيا كان يهديهم إلى النار، و في الآخرة يدخلهم فيها وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ «الورد»

ورد الماء الذي يورد، أي: بئس الماء الذي يردونه عطشى، فإنه نار يردونها، فقد شبّه هؤلاء بأهل الجنة حيث يردون المياه الجارية و أنهار من لبن و عسل و خمر، و هؤلاء في مقابل أولئك يردون النار و يسقون من الحميم.

قال بعض المفسرين: أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم، ألم يكونوا قطيعا يسير بدون تفكير؟

[100] وَ أُتْبِعُوا ألحقوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً إما بالغرق، و إما بأن الناس يلعنونهم، فكانت نتيجة اتّباعهم لفرعون أن تبعتهم اللعنة وَ يَوْمَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 646

[سورة هود (11): الآيات 100 الى 101]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ (100) وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)

الْقِيامَةِ يتبعون باللعنات و العذاب بِئْسَ الرِّفْدُ أي العطاء الْمَرْفُودُ المعطى لهم ذلك العذاب و اللعنة، إن هذا كان عطاء فرعون لقومه، لهم النار و اللعنة، و هذا هو عاقبة من تخلّف عن الحق و اتبع الباطل.

[101] ثم بيّن سبحانه الغرض الذي سيق من أجله تلك القصص، و جعله كخاتمة للفصول المتقدمة ذلِكَ الذي ذكرناه فيما تقدم من هذه السورة مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أي أخبار البلاد السابقة و الأمم الخالية نَقُصُّهُ عَلَيْكَ و نخبره لك ليكون لك سلوة و ذكرى مِنْها أي من تلك القرى قائِمٌ باق إلى الآن، فإن بعض البلاد بقيت و إن هلك أهلها، كمصر وَ حَصِيدٌ أي منها حصيد قد حصد و عفا أثره، كقرى قوم لوط عليه السّلام.

[102] وَ ما ظَلَمْناهُمْ أي نحن لم نظلم الذين هلكوا وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر

و العصيان و هما سببين للهلاك و النكال فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ أي لم تنفعهم و لم تفدهم آلِهَتُهُمُ أصنامهم البشرية، كفرعون، و الحجرية، كالأوثان التي كانوا يعبدونها و الَّتِي كانوا يَدْعُونَ ها مِنْ دُونِ اللَّهِ و يتخذونها أربابا مِنْ شَيْ ءٍ متعلق به «ما أغنت عنهم» أي لم تنفعهم شيئا في دفع العذاب عنهم لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإهلاكهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 647

[سورة هود (11): الآيات 102 الى 103]

وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)

و نزول العذاب عليهم وَ ما زادُوهُمْ ما زادتهم تلك الآلهة غَيْرَ تَتْبِيبٍ من «التباب» أي الخسارة، أي أن الآلهة زادتهم خسارة على خسارتهم، فإنهم لو لم يكونوا يعبدونها، بل كانوا مجرد عاصين لم يزد في عذابهم، فقد جاء من قبل تلك الآلهة زيادة في عذابهم و نكالهم، و إنما قال: «زادوهم» بضمير العاقل، لأن الكفار كانوا يعتبرونها عاقلة، فجرى الكلام حسب اعتقادهم.

[103] وَ كَذلِكَ الذي بيّناه سابقا و أوضحناه أَخْذُ رَبِّكَ و هلاكه إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ أي أهلكهم و عذبهم، فقد شبّه الإهلاك بالأخذ، فكما أن الأخذ لا يتمكن المأخوذ من الإفلات منه كذلك الذين عذبهم سبحانه لا يتمكنون من النجاة.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ الآية»

«1». إِنَّ أَخْذَهُ للظالم أَلِيمٌ مؤلم موجع شَدِيدٌ فلا يمكن الإفلات منه.

[104] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من أحوال الأمم التي كفرت و عصت الرسل

لَآيَةً دليل على بطش الله سبحانه لمن طغى و تكبّر لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أي لمن آمن لعلمه بأنه أنموذج من ذلك العذاب المهول، فإن ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه لعذاب الآخرة لمن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 67 ص 335.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 648

[سورة هود (11): الآيات 104 الى 105]

وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (105)

اعتقد بها ذلِكَ اليوم يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ يجمعون كلهم للحساب و الجزاء وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ليشهده الخلائق كلهم من الجن و الإنس، و في محضرهم يجري الحساب و الجزاء.

[105] وَ ما نُؤَخِّرُهُ ما نؤخر يوم القيامة إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي أمد معدودة أيامه، فإذا انتهى ذلك الأمد أظهرناه للوجود، و اللام في «لأجل» لام العلة، أي لغرض تمام الأجل و انتهائه.

[106] يَوْمَ يَأْتِ حين يأتي يوم القيامة و الجزاء لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ لا يتكلم أحد مع أحد إلا بإجازة الله سبحانه، فقد شمل يوم القيامة صمت رهيب، فإن الإنسان إذا خاف و وجل لم يتكلم حيث يسود الخوف و الرهبة. و لعل في الإتيان بصيغة المجهول- بناء على ذلك- للإشارة إلى أن الناس هناك كالمساجين الذين لا يحق لأحد أن يكلمهم، و فيه دلالة بليغة على الخوف السائد و الرهبة المخيمة على الناس حتى أن سماع الكلام لا يجوز إلا بإذن خاص، و لا يخفى أن هذا لا ينافي تكلم بعضهم مع بعض في مواقف مختلفة لأن ذلك بالإذن، و هل الإذن كالإذن هناك، أو المراد به الإذن التكويني برفع الأبهة؟ احتمالان.

فَمِنْهُمْ أي من الناس شَقِيٌ قد شقي بسبب الأعمال الفاسدة و

العقائد الكاسدة وَ منهم سَعِيدٌ سعد و فاز بعقيدته الصحيحة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 649

[سورة هود (11): الآيات 106 الى 107]

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)

و عمله الصالح.

[107] فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا و هم الذين تركوا الفطرة الأصلية بسبب و وساوس الشياطين و النفس الأمارة فَفِي النَّارِ تلك محلّهم و مسكنهم لَهُمْ فِيها أي في النار زَفِيرٌ هو إخراج النفس وَ شَهِيقٌ و هو إدخال النفس. قالوا: «الزفير» أول نهيق الحمار، و «الشهيق» آخر نهيقه، و هما من أصوات المكروبين المحزونين، و «الزفير» من شديد الأنين و قبحه، بمنزلة إبقاء صوت الحمار، و «الشهيق» الأنين الشديد المرتفع جدا بمنزلة آخر صوت الحمار.

[108] خالِدِينَ فِيها أي دائمين أبدا في النار ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أي ما بقيت جهة العلو و جهة السفل، فإن اللفظين يطلقان على الجهتين إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فإن بعض أهل النار يخرجون منها بإدراكهم الشفاعة أو استيفاء عقابهم لأنهم كانوا أهل معاصي، أو كانوا كفارا عصاة، لكن لم تتم الحجة عليهم بما يوجب الخلود، و إنما كانت الحجة عليهم بقدر دخولهم النار كما لو خالفوا بعض الأوامر الثابتة عندهم أنها من قبله سبحانه، بقتل نفس محترمة، أو سلب مال أو ما أشبه. و لا يلازم خروجهم من النار دخولهم في الجنة، إذ هناك أماكن أخرى معدة للناس كالأعراف. فلا يقال: كيف يدخل الكافر الجنة؟

إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لا يمنعه عن إرادته مانع و لا يقف دون مشيئته شي ء. و لعلّ الإتيان بصيغة المبالغة «فعّال»

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 2، ص: 650

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 699

[سورة هود (11): الآيات 108 الى 109]

وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

باعتبار العموم في ما يريد، أي يفعل كل ما يريده، فإذا أراد خلود الكفار خلدوا، و إذا أراد نجاة بعض العاصين نجوا.

[109] وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا بالطاعة و العمل الصالح فَفِي الْجَنَّةِ لهم مستقر و مأوى خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين لا يزولون عنها و لا تزول عنهم ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أي ما بقيت جهتا العلو و السفل، فإن العرب تقول لما أطلها: «سماء»، و لما أقلها: «أرض» إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ هذا الاستثناء لإفادة أن الأمر لم يخرج عن إرادة الله سبحانه، فليس الخلود جبرا عليهم فإذا شاء إخراجهم من الجنة أمكنه ذلك و إن لم يفعل، أو الاستثناء باعتبار الأول يعني أن السعيد في الجنة إلا المقدار الذي هو في المحشر أو في النار- ابتداء- لما صدر منه من بعض الأعمال السيئة، فليس في ذلك الوقت في الجنة لأن الله لم يشأ كونه فيها، و إذ كان الكلام موهما لانقطاع الخلود جاء التأكد لذلك بقوله سبحانه: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع، و «عطاء» منصوب بما فهم من الجملة، أي أعطاهم الجنة عطاء دائما.

[110] إن الأقوام الذين كذبوا الرسل حق عليهم العقاب في الدنيا و حق عليهم العقاب في الآخرة، كما استعرض كل من العقابين في قصصهم السابقة، و إذ قد علمت يا

رسول الله ذلك فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شك، فإن «المرية» بمعنى الشك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ الكفار، من الأصنام المنحوتة، فإن مصير الجميع إلى النار و الهلاك ما يَعْبُدُونَ إِلَّا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 651

[سورة هود (11): آية 110]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)

كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ فليس لهم حجة في عبادتهم إلا التقليد للآباء عن جهالة و ضلالة، فليست لهم حاجة في عبادتهم لدليل أو منطق. و من المعلوم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن يشك في أمرهم، و إنما جرى الكلام من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة» وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي معطوهم جزاء أعمالهم و عقاب أفعالهم وافيا غَيْرَ مَنْقُوصٍ لا ينقص من عقابهم شي ء.

[111] وَ شأن هؤلاء شأن من سبقهم من الأمم فلقد آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أعطيناه التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي في موسى، هل هو نبي أم لا؟ أو اختلف في الكتاب، هل هو من عند الله أم لا؟ و على كل حال، فقد اختلفوا في الحق كما اختلف قومك يا رسول الله وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ حسب ما قدّر من المصالح، بأن يكون لكل أمة أجل لا يتقدم و لا يتأخر لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ لحكم سبحانه بين المؤمنين و الكافرين بنجاة المؤمنين و إعطائهم الأجر، و هلاك الكفار و خزيهم، لكنه سبحانه حكم و قضى أن تكون الدنيا دار مهلة و اختبار، و لذا يترك كلّا و شأنه يعمل ما يشاء وَ إِنَّهُمْ أي الكافرين لَفِي شَكٍ فإنهم ما كانوا يتيقنون

بكذب دعوى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مِنْهُ أي من وعد اللّه، أو من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو من الكتاب مُرِيبٍ موجب للريب، فان الإنسان قد لا يعتني فلا يكون الشك موجبا للريب و قد يعتني به حتى يوقعه في الريب حقيقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 652

[سورة هود (11): الآيات 111 الى 112]

وَ إِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

[112] وَ إِنَّ كُلًّا «إن» مخففة من الثقيلة، أو نافية، و على الأول أصل «لما»: «ل من ما» أي «لمن الذين»، فأبدلت النون ميما و اجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن، فيكون المعنى: و إن كل طائفة من الفريقين- المؤمنين و الجاحدين- لمن الذين يعطيهم الله أجورهم.

و على الثاني يكون «لمّا» بمعنى «إلا» أي: «ما كل طائفة إلا ليعطيهم الله أجورهم» لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي يعطيهم ربك جزاء أعمالهم إن خيرا فخير و إن شرا فشر إِنَّهُ سبحانه بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا يفوته شي ء من أعمالهم، بل يعلم كل عمل و يعطي جزاءه.

[113] فَاسْتَقِمْ يا رسول الله كَما أُمِرْتَ بالتبليغ و الإنذار، و لا يزحزحك إنكار المنكرين و جحود الجاحدين وَ ليستقم مَنْ تابَ و رجع إلى الله سبحانه بعد الكفر و العصيان مَعَكَ فإن الكافر و العاصي كأنهما ذاهبان عن الله سبحانه إلى غيره، فإذا آمن الكافر، و استغفر العاصي، كانا تائبين راجعين إليه سبحانه. و تقدير «ليستقم» إنما هو بقرينة «استقم» نحو: «نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض» أي: نحن بما عندنا راضون.

وَ لا

تَطْغَوْا أي لا تجاوزوا أوامر الله سبحانه، بالزيادة أو النقصان، فإن «الطغيان» تجاوز الحد، يقال: «طغى الماء» إذا تجاوز حده. و الخطاب للناس، المفهوم من قوله «من تاب» إِنَّهُ تعالى بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيبصر و يرى طغيان الطاغين و استقامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 653

[سورة هود (11): آية 113]

وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)

المستقيمين، فيجازي كلّ حسب عمله.

في تفسير «الصافي»: قال ابن عباس: ما نزلت آية كان أشق على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هذه الآية، و لهذا قال: «شيبتني هود و الواقعة و أخواتها» «1».

و عن بعضهم قال: رأيت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النوم، فقلت: روي عنك أنك قلت:

«شيبتني هود»

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «نعم»، فقلت: ما الذي شيّبك منها، أ قصص الأنبياء و هلاك الأمم؟ قال: لا، و لكن قوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» «2».

[114] و إذ أمر سبحانه المؤمنين بالاستقامة، نهاهم عن الانحراف بالركون إلى الظالمين فإن كل انحراف عن الاستقامة ركون إلى الظالم الذي نهج ذلك المنهج المنحرف وَ لا تَرْكَنُوا و «الركون» هو الاعتماد و الميل و السكون إلى شخص أو جهة أو نحوها إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا في عقيدة أو عمل أو غيرهما فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ و تأخذكم. و التعبير ب «المس» لعله لإفادة أن مس النار يقتضي الحذر منه فكيف بما فوقه وَ ما لَكُمْ أيها المؤمنون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سوى الله سبحانه مِنْ أَوْلِياءَ ينصرونكم في الدنيا و الآخرة، فإن الله هو وليكم ثُمَ إن ركنتم إلى الظالمين لا

تُنْصَرُونَ إذ الله سبحانه يقطع نصره عنكم، و الكافرون-

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 6 ص 172.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 11 ص 213.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 654

[سورة هود (11): آية 114]

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)

بما انطووا عليه من عدائكم- لا ينصرونكم، و قد جرب المسلمون ذلك، فإنهم من يوم ركنوا إلى الكافرين أخذ أمرهم في الانحطاط إلى هذا اليوم، حتى يرجعوا عما اقترفوا، فينصرهم الله سبحانه.

[115] و بمناسبة لزوم الاستقامة يأتي السياق لبيان وجوب الصلاة، فإنها أحسن وسيلة للاستقامة، إذ هي تحتاج إلى يقظة دائمة في النفس و ملكة راسخة تحفظ الإنسان طيلة العمر عن الانحراف، و هذه اليقظة و الملكة لا تكون إلا بالتذكير الدائم الحاصل من إقامة الصلاة صباحا و عصرا و ليلا وَ أَقِمِ الصَّلاةَ يا رسول الله، أو كل من يأتي منه ذلك طَرَفَيِ النَّهارِ صباحا و عصرا، فإن صلاة الصبح في الطرف الأول من النهار، و صلاة الظهرين في الطرف الآخر منه وَ زُلَفاً جمع «زلفة» و هي المنزلة، مثل «غرف جمع غرفة»، و هي أول ساعات الليل، كأن كل ساعة منزلة من منازل الليل مِنَ اللَّيْلِ و هي صلاة المغرب و العشاء «1».

و هذا هو المفهوم من

رواية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن: «طرفي النهار» الغداة، «وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» هي صلاة العشاء.

أقول: فعلى هذا تكون الآية ساكتة عن الظهرين، و لعلّ ذلك لصعوبة الثلاثة الأول دونهما.

إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فإن الحسنة تكفّر السيئة

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 337.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 655

[سورة هود (11): الآيات

115 الى 116]

وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (116)

و تمحقها، و من الحسنات «الصلوات الخمس» فإنها تمحق الذنوب و تمحيها.

و قد روي ذلك عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما روي عن الإمام المرتضى عليه السّلام أنه قال: «إن الله يكفر بكل حسنة سيئة. ثم تلا هذه الآية» «1».

ذلِكَ الذي تقدم من قوله «استقم» ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي فيه تذكرة و موعظة لمن أراد التذكّر و التفكّر.

[116] وَ اصْبِرْ يا رسول الله على الاستقامة، أو على الصلاة، أو مطلقا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ و الصابر من أفضل أقسام المحسنين، و الصبر على ثلاثة أقسام: صبر على البلاء، و صبر على الطاعة، و صبر على الأحوال، بأن لا يبطر الإنسان عند الرخاء و لا يجزع عند البلاء.

[117] إن دعاة الإصلاح الذين يتمكنون من تغيير الواقع السيئ هم الذين يبقون على الأمم من الانهيار و الدمار فإذا خلت أمة منهم انهارت و اضمحلت، كما أن المرضى يحتاجون إلى أطباء يتمكنون من علاجهم. أما إذا كان هناك مرضى بلا طبيب أو كان هناك طبيب لكن لم يتمكن من تنفيذ أوامره و علاج مرضاه فإن عاقبتهم الموت و الهلاك.

و هكذا جرت سنة الله في الأمم سابقها و لا حقها فحيث إن الأمم السابقة لم ينفذ فيهم دعاة الإصلاح لقساوة قلوبهم عذّبوا. و هكذا يذكّر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 29 ص 319.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 656

[سورة هود (11): آية 117]

وَ ما كانَ رَبُّكَ

لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)

الله سبحانه بهذه الحقيقة حتى يأخذ الناس حذرهم، و يعلموا أنهم إن لم يصلحوا انهاروا و استحقوا العذاب.

فَلَوْ لا أي فهلّا، تقريح و ذم كانَ مِنَ الْقُرُونِ جمع قرن و هو الجيل، أي من الأجيال السابقة التي كانت مِنْ قَبْلِكُمْ أيها المسلمون أُولُوا بَقِيَّةٍ أصحاب بقايا فضل و عقل و تدبر، فكأنهم كلهم كانوا أحداثا، لا بقية عقل و حنكة و حكمة فيهم حتى يتدبروا و يتفكروا و يعتبروا بالماضين يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ فإنه كان من اللازم أن يكون فيهم جمع هذه صفتهم حتى ينقذوا الأمم و القرون من الهلاك إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ من أنبيائهم و بعض المؤمنين بهم، مما لم يكن يكفي لدفع العذاب عنهم، فإن الطبيب و لو كان من أحذق الأطباء لكنه إذا لم يجد آذانا صاغية من المرضى و الممرضين لم يكن لأمره نفع في إنقاذ المرضى، إن القليل الذين كانوا ينهون قد أنجيناهم، أما سائر الجيل فقد أهلكوا بفسادهم و عصيانهم وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا و عصوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي اتبعوا ترفهم و شهواتهم، في مقابل المؤمنين الذين اتبعوا أوامر الله سبحانه و مناهج الأنبياء وَ كانُوا مُجْرِمِينَ ذوي إجرام و عصيان، و لذا أهلكوا بسبب أعمالهم الفاسدة.

[118] وَ ما كانَ رَبُّكَ يا رسول الله لِيُهْلِكَ الْقُرى السابقة، أي يهلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 657

[سورة هود (11): الآيات 118 الى 119]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)

أهل القرى بِظُلْمٍ منه لهم وَ

الحال أن أَهْلُها مُصْلِحُونَ يصلحون أنفسهم و مجتمعهم باجتناب المعاصي و النهي عن المنكر، و إنما أهلكهم بالعدل حين كان أهلها مجرمين مفسدين.

[119] إن الدنيا دار اختبار و امتحان ليجزي كل حسب عمله و لذا ترك الله سبحانه الأمم و ما يختارون بعد أن بيّن لهم الرشد من الغي وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ يا رسول الله لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً بإلجاء الجميع إلى الإيمان و العمل الصالح، لكنه لا يشاء ذلك لئلّا يبطل الثواب و العقاب وَ لكن لا يَزالُونَ الناس مُخْتَلِفِينَ بعضهم كافر و بعضهم مؤمن، و بعضهم مطيع و بعضهم عاص، و ذلك بأن شاء الله اختيارهم و قدرتهم.

[120] إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ من المؤمنين فإنهم لا يختلفون و يجتمعون على الحق. و المراد ب «الرحمة» الألطاف الخفية، بعد هداية الجميع إلى الطريق و إرشادهم، فمن قبل و آمن لطف به اللطف الخفي الزائد، و من أعرض تركه و غيّه، كما أن الأب إذا أعطى أولاده رؤوس الأموال ليتّجروا بها فأعرض بعض و أقبل بعض، لطف بالمقبل كثيرا و أخذ بيده، أما المعرض فهو يخذله و يتركه ليفعل ما يشاء وَ لِذلِكَ أي للرحمة خَلَقَهُمْ فقد خلقهم الله سبحانه حتى يرحمهم، لكن قسما منهم أبوا و تخلّفوا و عصوا، كما أن من أسس مدرسة إنما يؤسسها لتعليم الناس و هدايتهم، فإذا أعرض البعض كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 658

[سورة هود (11): الآيات 120 الى 121]

وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121)

من عنده، لا من عند

من أسس المدرسة وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي انتهت فلا مبدل لها، و الكلمة هي: لَأَمْلَأَنَ من «ملأ» بمعنى:

إدخال الشي ء في الظرف حتى يمتلئ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ بسبب كفرهم و عصيانهم، و إنما ذكر هذا الطرف من الناس لأن الكلام حول العصاة و الكفار، و الذين أهلكوا بسبب مخالفتهم للأنبياء.

[121] وَ كُلًّا أي كلّا من هذه القصص المتقدمة نَقُصُّ عَلَيْكَ و نخبرك مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ أخبارهم، كيف بلغوا، و كيف وقف قومهم ضدهم و آذوهم؟ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي نقوّي به قلبك، حتى إذا رأيت إعراضا و أذى من قومك، لم يسبب ذلك يأسك عن البلاغ. و ليس معنى ذلك أنه لم يكن للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثبات، و إنما استمرار الثبات هو بيد الله سبحانه وَ جاءَكَ يا رسول الله فِي هذِهِ القصص السالفة الْحَقُ فكل ما حكي كان حقا مطابقا للواقع وَ جاءتك في هذه مَوْعِظَةٌ تعظ بها الجاهلين و تبعد بها الناس عن المعاصي وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ تذكّرهم بالله و بآياته و بالآخرة.

[122] وَ قُلْ يا رسول الله لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ من الكافرين اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على حالتكم التي أنتم عليها، و هذا تهديد لهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 659

[سورة هود (11): الآيات 122 الى 123]

وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

كقوله: (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) «1»، إِنَّا عامِلُونَ على منهجنا، حتى نرى ما يصنع الله بكم و بنا.

[123] وَ انْتَظِرُوا أي توقعوا عقاب الله و عذابه إِنَّا مُنْتَظِرُونَ فضله و رضوانه، أو

المعنى: نحن و أنتم ننتظر نتائج الأعمال، و هل نحن كنا على باطل أم أنتم؟.

[124] إن ما يأتي غيب و سينكشف الغيب و يظهر المجهول وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكلّ ما غاب عن الحواس، أو غاب عن الوجود- بأن لم يوجد بعد- سواء كان في السماوات أو في الأرض، إنه لله وحده فهو العالم به و هو القادر على إيجاده أو إظهاره وَ إِلَيْهِ أي إلى الله تعالى يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فكل الأمور مرجعها إليه في الدنيا و في الآخرة، فهو الفاصل في القضايا التكوينية و التشريعية، حتى أنه إذا لم يشأ شيئا لم ينفع فيه إرادة الجن و الإنس فَاعْبُدْهُ يا رسول الله وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ اجعله وكيلا عنك و ناصرا لك، فإن من يعلم الغيوب، و يكون مصير الأمور إليه، أحق بالعبادة و التوكل عليه، من سائر الأشياء وَ ما رَبُّكَ يا رسول الله بِغافِلٍ أو جاهل عَمَّا تَعْمَلُونَ من الخير و الشر، فمن أحسن فلنفسه، و من أساء فعليها.

______________________________

(1) فصلت: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 660

12 سورة يوسف مكية/ آياتها (112)

سميت السورة باسم «يوسف» عليه السّلام، لاشتمالها على قصته و اسمه المبارك. و حيث كانت سورة «هود» مشتملة على قصص الأنبياء، كانت هذه السورة مكملة لتلك القصص، و أتت بقصة طريفة في موضوعها، و هي تشمل المقصود العام من القرآن الحكيم من التوجيه نحو المبدأ و المعاد، و تطهير النفس من الرذائل، و ذكر الأحكام و التشريعات.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء للكلام بسم الله، فالله هو الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، فهو أحق الأسماء بالاستعانة و الابتداء، و بمن يبتدأ الكلام، غيره؟ و لما ذا يبتدئ الإنسان بغيره؟

و هل يعطي الغير ما

يتطلبه الإنسان؟ و هو الرحمن الذي يرحم الكل، و الرحيم الذي يتفضل على المؤمنين بأنواع خاصة من التفضّل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 661

[سورة يوسف (12): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)

[2] الر من جنس «ألف» و «لام» و «راء» أنشئ القرآن الحكيم، أو هي رموز بين الله و الرسول كالرموز التي بين رؤساء الحكومات و سفرائها، أو غير ذلك تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ فإن هذه الأحرف و ما من جنسها هي بعينها تلك الآيات البعيدة التي فوق الطاقة البشرية لا يتمكن الإنسان من الإتيان بمثلها لا لفظا و لا منهجا، و الكتاب مبيّن واضح لا لبس فيه و لا غموض و لا التواء.

[3] و لقد شاء الله سبحانه أن ينزل هذا الكتاب بلغة العرب إِنَّا أَنْزَلْناهُ أنزلنا هذا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا و لماذا؟ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون، إذ هو بلغتكم، أو الخطاب في «لعلكم» عام يشمل جميع البشر، إذ كون القرآن من مصدر عربي أقوى في الدلالة على كونه من قبل الله سبحانه فإن الحضارة- عهد نزول القرآن- لم تكن إلا لفارس و الروم، أما عرب الجزيرة فلم يكونوا أهل تحضّر و علم من قراءة و كتابة، فإذا جاء بالقرآن رجل عربي يعيش بين أظهرهم، كان أدل على أنه من قبل الله سبحانه، مما لو كان منزلا على رجل رومي أو فارسي وسط الحضارة.

و قد ذكر المفسرون: أن نزول القرآن على رسول من الجزيرة يشتمل على أنواع من الفضل لم تكن توجد لو أنزل على طرفي العالم المتحضر يوم ذاك، فإن الجزيرة تعد وسط العالم تقريبا، و أنها كانت أحوج

إلى الرشاد، و أن أهلها كانوا أقدر على حمل الرسالة، لبداوتهم و عدم تلوثهم بمفاسد الحضارة، و غير ذلك مما بيّنوه في المفصلات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 662

[سورة يوسف (12): الآيات 3 الى 4]

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)

[4] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ و بالأخص قصة يوسف، فإنها قصة واقعية فيها أنواع من التذكرة و العظة، مشوقة حيث اشتملت على موضوع مثير بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ أي بسبب إيحائنا هذا القرآن قصصنا عليك هذه القصص فلو لا إيحاؤه لم تكن قصة وَ إِنْ كُنْتَ يا رسول الله مِنْ قَبْلِهِ قبل إيحاء القرآن إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ الذين لا يعرفون شيئا من ذلك. و هذا لا ينافي

الحديث المروي: «كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين»

«1» إذ لا ملازمة بين النبوة و بين علم كل شي ء، فلقد كان نبيا لكنه لم يكن يعلم بعض الأشياء، أو كان وحي القرآن قبل ذلك لأنه إنما أوحي إلى النبي القرآن بعد البعثة في الظاهر، و أما في الحقيقة فقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم القرآن قبل وحيه إليه.

؟ و قد ورد أن الإمام المرتضى عليه السّلام قرأ القرآن و هو طفل رضيع.

[5] فاذكر يا رسول الله إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السّلام: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ في المنام أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ إنما أتى بالجمع العاقل لأن السجود من

صفات العقلاء.

روي عن الباقر عليه السّلام في تأويل هذه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16 ص 402. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 663

[سورة يوسف (12): الآيات 5 الى 6]

قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

الرؤيا: أنه سيملك مصر و يدخل عليه أبواه و أخوته، أما الشمس فأم يوسف راحيل، و القمر يعقوب، و أما الأحد عشر كوكبا فإخوته. فلما دخلوا عليه سجدوا شكرا لله وحده حين نظروا إليه. و كان ذلك السجود لله تعالى «1».

[6] قالَ يعقوب: يا بُنَيَ تصغير «ابن»، و لعلّ وجه التصغير الشفقة لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ أي لا تخبرهم بما رأيت في المنام فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي فيحسدوك، حيث تدل رؤياك على مقام رفيع، و يحتالوا لإهلاكك حيلة إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، فإنه يريد الإيقاع بين الأخوة بإشعال نار الحسد في قلوب بعضهم على بعض.

[7] وَ كَذلِكَ أي كما أراك هذه الرؤيا تكرمة لك، مما كان تعبيره خضوع الأخوة و الأبوين لمقامك يَجْتَبِيكَ من «الاجتباء» أي الاختيار و هو الاصطفاء، أي يختارك رَبُّكَ يا يوسف للنبوة وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ «الأحاديث» هي الرؤيا، لأنها من أحاديث الملك و إخباره للإنسان في منامه إن كانت الرؤيا صادقة، و من أحاديث الشيطان و النفس إن كانت كاذبة، و «تأويلها» تعبيرها، سمي «تأويلا» لأن الرؤيا تأوّل إلى ذلك المعنى المتضمنة له وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعطائك

______________________________

(1) بحار

الأنوار: ج 12 ص 217.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 664

[سورة يوسف (12): الآيات 7 الى 8]

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)

رغباتك في الدنيا و الآخرة وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ إخوتك و أولادكم بجعلهم أنبياء و ملوكا و سادة للناس كَما أَتَمَّها أي أتم الله سبحانه نعمته عَلى أَبَوَيْكَ أبيك و جدك مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ حيث جعلهما نبيين و أعطاهما نعم الدنيا إِنَّ رَبَّكَ يا يوسف عَلِيمٌ بمن يصلح للرسالة و السيادة و الملك حَكِيمٌ يفعل الأشياء حسب الصلاح و الحكمة.

[8] ثم شرع سبحانه في قصة يوسف بقوله: لَقَدْ كانَ فِي قصة يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ الأحد عشر آياتٌ أدلة و علامات على قدرة الله سبحانه، و إرشادات لمن أراد الاسترشاد لِلسَّائِلِينَ أي لمن يسأل عن الآيات و يهتم بالأمور و يفتش عن الحقائق.

؟ عن الجوامع: روي أن اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر و عن قصة يوسف؟

قال: فأخبرهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقصة.

[9] إِذْ قالُوا أي اذكر إذ قالوا، أو لقد كان آيات إذ قالوا، أي: قال بعض الأخوة لبعض، و قد كان عشرة منهم من غير أم، و يوسف و ابن يامين من أم- كما في بعض التفاسير و التواريخ- لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أي ابن يامين أَحَبُّ إِلى أَبِينا يعقوب عليه السّلام مِنَّا فقد كان يعقوب شديد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 665

[سورة يوسف (12): آية 9]

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً

صالِحِينَ (9)

الحب ليوسف و بعده لابن يامين، و كان يوسف من أحسن الناس وجها و أحسنهم أخلاقا.

فقد حكي أن رجلا سأل يعقوب: لم تفضل يوسف على باقي الأخوة؟ قال: أعلمك بالأمر، فطلب أحد الأخوة و سأله عما لو أساء شخص إليه ماذا يصنع؟ قال الولد: أنتقم منه .. ثم طلب يوسف و سأله عن مثل ذلك السؤال، فقال يوسف: أعفو عنه، قال: فإن أساء إليك ثانية؟ قال يوسف: أعفو، قال: فإن أساء إليك ثالثة؟ قال: أعفو.

وَ الحال أنّا نَحْنُ عُصْبَةٌ جماعة يتعصّب بعضنا لبعض، و يعين بعضنا بعضا، فكيف أن أبانا يقدّم يوسف و بنيامين علينا و نحن أنفع له منهما؟ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ انحراف عن طريق الصواب مُبِينٍ واضح لا شك فيه، فكيف يقدم أصغر الأولاد على سائر الأولاد؟

[10] أخذ الأخوة- و بالطبع لم يكن فيهم ابن يامين- يتآمرون على يوسف ليطفئوا حسدهم قائلين: اقْتُلُوا يُوسُفَ قتلا أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً مجهولة بعيدة، حتى لا يكون إلى جنبنا، و لعلّ السباع تأكله، أو يؤول أمره إلى الموت يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ تخلص لكم محبة الأب، و تملكون قلبه، فلا يصرف اهتمامه و حبه نحو يوسف فقط وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد هذا العمل من قتل يوسف أو طرحه في أرض مجهولة قَوْماً صالِحِينَ تستغفرون الله سبحانه. و هذا من عادة الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 666

[سورة يوسف (12): الآيات 10 الى 11]

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11)

يريد أن يسي ء و فيه بقية من إيمان، فإنه

بين عزمه على ارتكاب الجريمة بما توسوس إليه نفسه، و بين نيته في أنه سيصبح صالحا مستغفرا بعد ارتكابها. و يحتمل أن يراد «صالحين في أمر دنياكم لا يزاحمكم فيها يوسف».

[11] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ في بعض الأحاديث أن اسمه «لاوي» و هو جد موسى عليه السّلام: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ «الجب» هو البئر و «غيابته» قعره، حتى لا يموت و لا يشرف على الموت حيث يَلْتَقِطْهُ أي يأخذه من هناك بَعْضُ السَّيَّارَةِ «السيارة» هي الجماعة المسافرون، سموا بذلك لأنهم يسيرون في البلاد. فإنهم إذا عطشوا و أرادوا الماء أدلوا دلوهم فيها، فيتعلق به يوسف فيخرجوه، و يذهبوا به إلى دورهم و محلهم، فقد تخلصنا من يوسف، و لم نرتكب جريمة قتله إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي تريدون في الحقيقة التخلص من يوسف، فليكن هذا عملكم و نوع تخلصكم.

[12] و لما أحكموا المؤامرة و أجمعوا على التخلص من يوسف الغلام البري ء الجميل حسدا و عداء، جاءوا إلى أبيهم يعقوب ف قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ لأي شي ء لا تثق بنا في أمر يوسف؟ ألسنا نحن أمناء عندك؟ و يظهر من الكلام أن يعقوب كان سيئ الظن بهم في أمر ابنه يوسف عليه السّلام وَ الحال إِنَّا لَهُ أي ليوسف لَناصِحُونَ ننصح لأجله و نريد الخير به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 667

[سورة يوسف (12): الآيات 12 الى 14]

أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)

[13] أَرْسِلْهُ يا أبانا مَعَنا

إلى الصحراء غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ «جزم الفعلين» على جواب الأمر، و المعنى: إن ترسله معنا، يرتع و يلعب، و «الرتع» هو التوسع في أكل الفواكه و غيرها، من «الرتعة» و هي الخصب، أو التردد ذهابا و مجيئا وَ إِنَّا لَهُ ليوسف لَحافِظُونَ نحفظه عن أن يصيبه الأذى.

[14] قالَ يعقوب عليه السّلام في جواب الأولاد: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ فذهابكم به موجب لغمي و حزني حيث لا أقدر على فراقه وَ أَخافُ عليه إن ذهبتم به أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ حيث كانت الأرض مذئبة وَ الحال أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ مشغولون بأنفسكم.

قيل: إن يعقوب رأى في منامه كأن يوسف قد شد عليه عشرة ذئاب يقتلوه، و إذا ذئب منها يحمي عنه فكأن الأرض انشقت فدخل فيها يوسف فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام، و لذا قال لهم: أخاف أن يأكله الذئب.

[15] قالُوا قال الأولاد في جواب يعقوب: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ الحال نَحْنُ عُصْبَةٌ يتعصّب بعضنا لبعض، و لنا من القوة و الطاقة قدر كاف إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ نكون كالذين تذهب عنهم رؤوس أموالهم، أو نكون إذن عاجزون هالكون، و هذا كالتعليق على ما لا يكون، للتأكيد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 668

[سورة يوسف (12): الآيات 15 الى 16]

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16)

على المقصود.

[16] ثم إن يعقوب سلم للأمر و أرسل يوسف معهم فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ بيوسف وَ أَجْمَعُوا أي عزموا جميعا، يقال: «أجمع» إذا عزم أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ في قعره، و جواب «لما» محذوف تقديره «فعلوه» وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ إلى

يوسف و هو في الجب لَتُنَبِّئَنَّهُمْ أي تخبرن إخوتك بِأَمْرِهِمْ هذا بعد ما تنجو من البئر و تصبح ملكا، و يأتوك إخوتك لأجل الطعام، تحكي لهم القصة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ في ذلك الوقت أنك يوسف. و قد ذكر سبحانه في آخر السورة قول يوسف لأخوته- و هم جاهلون بأنه يوسف- (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ) «1»؟.

[17] و لما طرحوا يوسف في البئر، تأخروا في الرجوع إلى المدينة حتى يأتي الليل فلا يظهر على وجوههم آثار الكذب وَ جاؤُ أَباهُمْ أي رجعوا إلى أبيهم يعقوب عِشاءً أي وقت العشاء، و ذلك بعد ساعة من الغروب تقريبا يَبْكُونَ و إنما أظهروا البكاء ليوهموا أنهم صادقون في قولهم، فإن البكاء لا يكون إلا عن حرقة القلب التي تلازم الصدق غالبا، لكن البكاء قد يكون اصطناعا، و إن جرت الدمعة. و كان بكاء الأخوة هكذا.

______________________________

(1) يوسف: 90.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 669

[سورة يوسف (12): الآيات 17 الى 18]

قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)

[18] و لما رأى يعقوب بكاءهم، فزع و قال: ما لكم؟ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي نتسابق في العدو لننظر أينا أقدر على العدو و الركض، و أينا يسبق أصحابه، من «استبق» بمعنى تسابق وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي رحلنا و بضاعتنا، لأنه صغير لا يقدر على العدو، و ليحفظ رحلنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ و افترسه وَ ما أَنْتَ يا أبانا بِمُؤْمِنٍ أي

بمصدّق لَنا لكلامنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ و من عادة الكاذب أن يبرّر كذبه بمثل هذه التأكيدات، كما قال الشاعر: «كاد المريب أن يقول خذوني».

[19] وَ جاؤُ جاء الأخوة عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ جاءوا أباهم و معهم قميص يوسف ملطخا بدم مكذوب، فقد ذبحوا جديا و لطخوا قميص يوسف بدمه، حيث أنهم لما ألقوه في البئر جرّدوه من ثوبه و ألقوه في البئر عاريا.

و إنما جاء ب «على» لأن المعنى: «جاءوا على القميص بالدم»، أي صبّوا عليه الدم، هذا بناء على أن «جاء» يراد به المجي ء على القميص، لا المجي ء نحو الأب، و إنما يستفاد الثاني من السياق، و أما لو أريد من «جاءوا» المجي ء نحو الأب كان اللازم تقدير، حال مثل «صابّين» و نحوه. «و كذب» مصدر أقيم مقام الوصف، أي «مكذوب فيه»، و إنما جاء بالمصدر للمبالغة، كقولك: «زيد عدل».

و لما نظر يعقوب إلى القميص عرف أنهم كاذبون في قولهم و أنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 670

إنما دبروا له مكيدة، و لذا توجه إليهم و قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي زيّنت لكم أنفسكم الحاسدة ليوسف مكيدة دبرتموها.

و قد روي: أنه عليه السّلام لما رأى القميص و ليس به آثار الشق، علم أن الذئب لم يأكله فإن الذئب إذا أكل إنسانا مزّق ثيابه. قال الصادق عليه السّلام: لما أتي بقميص يوسف إلى يعقوب قال: «اللهم لقد كان ذئبا رفيقا حين لم يشق القميص» «1».

فأمري في هذا الفراق فَصَبْرٌ جَمِيلٌ

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام: «إن الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلى الخلق»

«2» وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ به،

من «استعان» بمعنى: طلب العون عَلى ما تَصِفُونَ أي على دفع ما تصفونه من هلاك يوسف.

و قد يقال: أنه كيف يوصف الصبر بالجميل، مع أنه عليه السّلام بكى حتى ابيضت عيناه؟ بل كيف يمكن للنبي أن يكون له مثل هذه العلاقة بالأولاد مع أنه يرى عظمة الله و ثوابه؟ و قد يقال مثل ذلك في بكاء آدم عليه السّلام و الصديقة الطاهرة عليها السّلام و الإمام السجاد؟

و الجواب: إن هذا النحو من البكاء و التوجّع كان له نوعا من التبليغ و الإرشاد لم يكن يؤدى إلا بذلك، فقد كان بكاء آدم عليه السّلام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 299.

(2) الكافي: ج 2 ص 93.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 671

[سورة يوسف (12): آية 19]

وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)

إرشادا إلى وقع الخطيئة- و لو كانت ترك الأولى- و بيانا لما للجنة و رضا الله سبحانه من أهمية كبري حتى أن فراقها و الدخول فيما لا يرضيه سبحانه- و لو لم يكن عصيانا- يوجبان هذا النوع من البكاء.

و في قصة آدم، ما أجدر البكاء و لو ألف سنة لسخط الله العظيم الذي له كل شي ء و بيده كل شي ء .. و بكاء يعقوب كان تنفيرا لمثل هذا الاجرام الجماعي و إرشادا عمليا لما للحسد من الوقع السيئ على الحاسد و المحسود و المجتمع، و إن مثل هذا التنفير العملي من أقوى أقسام الإرشاد و الهداية .. و كذلك بكاء الصديقة الطاهرة و السجاد عليهما السّلام كان تنفيرا عمليا لأعمال الغاصبين و السفاكين، و إرشادا إلى عظمة المعزّى له، الموجب لالتفات

الناس حولهم فيستضيئون بأنوارهم و يهتدون بآثارهم.

[20] رجع الأولاد إلى أبيهم و تمت القصة هنا، لتبتدئ بحال يوسف في الجب، فقد ذكر المفسرون أن البئر كانت ذات ماء و لما طرحوا يوسف فيها أوى إلى صخرة كانت في ثناياها. و

قد روي أن جبرائيل عليه السّلام هو الذي أخذه،

و شاء الله سبحانه أن يطعمه في البئر، و هناك بقي ثلاثة أيام وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ أي قافلة تسير كثيرا، فإن «سيارة» صيغة مبالغة، و القافلة تسمى بهذا الاسم لسيرها كثيرا في الأرض فَأَرْسَلُوا أي أهل السيارة وارِدَهُمْ الذي يرد الماء ليستقي منه للقافلة، حتى يأتي إليهم من تلك البئر- التي فيها يوسف- بالماء فَأَدْلى الوارد دَلْوَهُ أي فأرسل دلوه في البئر ليأخذ الماء، فتعلق يوسف بالدلو. و

روي أن جبرائيل عليه السّلام هو الذي جعل يوسف في الدلو، بدل الماء، و لما أن أخرج الوارد الدلو، رأى غلاما جميلا فيه، عوض الماء، فدهش من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 672

[سورة يوسف (12): الآيات 20 الى 21]

وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)

هذه الصدفة العجيبة

و قالَ لأصحابه: يا بُشْرى يا قوم! البشارة هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً إن القوم لما رأوا يوسف نووا في أنفسهم أن يجعلوه بضاعة يبيعونه في البلد بعنوان أنه عبد «1».

و

ورد أن الأخوة جاءوا إلى البئر ليروا ماذا صنع بيوسف هل خرج أو هلك؟ و إذا بهم يتلاقون مع السيارة، فقالوا

لهم أنه عبد لنا أبق من المدينة، ثم باعوه للسيارة ليستريحوا منه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ

أي تعمل السيارة من نيتها جعل يوسف بضاعة. و قيل: في المعنى أمور أخرى، و ما ذكرناه الأظهر منها.

[21] وَ شَرَوْهُ أي باع الأخوة يوسف للسيارة بِثَمَنٍ بَخْسٍ ثمن ناقص مبخوس فيه عشرين درهما- كما في جملة من الأحاديث- دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ أي قليلة، و جي ء بهذا الوصف لدلالته على القلة، فإن القلة تعدّ، أما الكثرة فلا تعد بسهولة وَ كانُوا كان الأخوة فِيهِ أي في الثمن، أو في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ يقال: «زهد فيه» بمعنى لم يرغب، فإن الأخوة ما باعوه لقصد الربح حتى يرغبوا في الثمن، و إنما باعوه للتخلّص منه.

[22] و جاءت السيارة بيوسف إلى مصر، و هل هناك بيع آخر، أو كان عزيز مصر هو الذي اشتراه ابتداء؟ احتمالان، و على كل حال فقد صار

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 372.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 673

يوسف عليه السّلام في كنف عزيز مصر، و قد قالوا: أنه كان كبير الوزراء هناك، أو كان هو الملك بالذات، و توسم العزيز فيه الخير لما رأى على شمائله من آثار الكبر و الرفعة وَ لذا قالَ الَّذِي اشْتَراهُ اشترى يوسف مِنْ مِصْرَ من أهل مصر لِامْرَأَتِهِ و كانت تسمى «زليخا» أَكْرِمِي مَثْواهُ أي هيئي له مكانا شريفا كريما، ليكون في راحة و رفاه عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في المستقبل باتخاذه عاملا عندنا في أمورنا، أو المراد: بيعه و الانتفاع بثمنه لأن مثله غالي الثمن أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً على وجه التبنّي. فقد قالوا: أن عزيزا لم يكن له ولد، كما أنه لم يكن يقدر على إتيان النساء وَ كَذلِكَ

كما أنعمنا على يوسف بالنجاة من كيد الأخوة و الخلاص من الجب، كذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ بما عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه- أو الوزير- حتى صار بذلك متمكنا من الأمر و النهي، و صارت له منزلة حسنة، و المراد ب «الأرض» أرض مصر وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تفسير الرؤيا ليبلغ المرتبة العالية بواسطة تمكّنه من هذا العلم.

و لعل المراد بذلك النبوة، و قوله: «و لنعلمه» عطف على المعنى، أي: دبرنا الأمر ليوسف لنمكنه في الأرض و لنعلمه، و قد كان التعليم بسبب أنه عف عن الزنا- كما قيل- وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي على أمر يوسف يحفظه و يهيئ له أسباب الرفاه حتى يوصله إلى السلطة و السيادة، أو المراد: أن الله غالب على أمر نفسه فمهما شاء من شي ء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 674

[سورة يوسف (12): الآيات 22 الى 23]

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)

تمكن منه، لا يتمكن أحد على دفعه عن مراده و لا يعجزه شي ء وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ و هذا يناسب المعنى الثاني، فإن الناس غالبا ينظرون إلى المقدمات التي ألفوها فلا يرون النتائج التي يريدها الله سبحانه، لكنه تعالى يفعل ما يشاء مما لا يظهر للناس بل يخفى عليهم.

[23] و لهذا بقي يوسف هناك منفردا مكرما وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ بأن اكتمل شبابه و قوته، و «أشد» جمع لا واحد له- كما قيل- آتَيْناهُ أعطيناه حُكْماً حكمة يعرف

بها مواضع الأشياء و موارد الأمور و مصادرها، فكأنه يحكم على الأشياء حسب موازينها اللائقة بها وَ عِلْماً و هو العلم بالأشياء. و من المعلوم أن العلم بالشي ء غير الحكمة، فرب عالم غير حكيم، و رب حكيم غير عالم. و لعل تقديم «الحكم» على «العلم» لما في الحكم من الأهمية و لذا نرى كثيرا من العلماء لا حكمة لهم، و لذا لا ينجحون في الحياة وَ كَذلِكَ كما جزينا يوسف عليه السّلام على صبره و على المصائب التي وردت عليه نَجْزِي سائر الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في العقيدة و العمل. و هل المراد بقوله «آتيناه» الرسالة، أو زيادة فيها؟ احتمالان.

[24] و إذ قد انتهت مرحلة امتحان يوسف الأولى، جاء دور المرحلة الثانية، و قد كانت أصعب من الدور الأول، و قد جرت سنة الله سبحانه على امتحان الأنبياء بأشق أنواع الامتحان، حتى يصلوا لأخذ زمام المجتمع، و ينالوا المراتب السامية وَ راوَدَتْهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 675

الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها فاعل «راودت» «التي» و المراد بها «زليخا» زوجة العزيز و «هو» يرجع إلى يوسف، أي طالبت يوسف المرأة التي كان يوسف في بيتها عَنْ نَفْسِهِ كأنها تريد انتزاع نفس يوسف و شبابه و طاقاته الجسمية، فإن «المراودة» مفاعلة، بمعنى «الذهاب و الإياب» لأجل قضاء الحاجة، فقد تكررت زليخا في الذهاب إلى يوسف، لتغريه و تنتزع نفسه منه، بأن يجامعها، إشباعا لغرائزها الجنسية.

وَ غَلَّقَتِ زليخا الْأَبْوابَ أبواب القصر لئلّا يأتي أحد فجأة فيكشف مؤامرتها على يوسف، و لفظة «غلقت» من باب التفعيل تدل على كثرة في الأبواب وَ قالَتْ زليخا ليوسف: هَيْتَ لَكَ أي أقبل و بادر، فإن «هيت» اسم فعل بمعنى: «هلمّ» و «لك»

خطاب، أي أنت يا يوسف، يأتي للتأكيد، كما يقال: «أنت».

و قد يصور هذا المقام الحرج الذي كان يوسف عليه السّلام عليه، فشاب عازب، في قصر ملي ء بالترف، و امرأة في سن الاقتضاء، و الأبواب مغلقة، و تقتضي القاعدة أن قبل ذلك كانت منها إشارات و تطلبات، و الآن أتت الساعة الحاسمة، بلفظ مكشوف «هيت لك» لكن الإيمان الراسخ في يوسف ضرب بالطلب عرض الحائط قالَ مَعاذَ اللَّهِ أعتصم بالله و أعوذ به أن أرتكب هذه الجريمة إِنَّهُ رَبِّي إن الله ربي، فكيف أخالفه بعد أن أَحْسَنَ مَثْوايَ و جعل مكاني مكانا حسنا. ثم أن المراد ب «المثوى» الأصل، أو المراد: النبوة، أو المراد: ما هيئ له في بيت العزيز من الكرامة و الاحترام. و ذكر بعض المفسرين أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 676

[سورة يوسف (12): آية 24]

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

الضمير في «إنه» عائد إلى «زوجها» أي إن سيدي زوجك قد أحسن مثواي فكيف أخونه في زوجته. فإن «الرب» يطلق على السيد المحسن.

إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يظلمون أنفسهم بالعصيان، أو يظلمون الغير بالخيانة في عرضه.

[25] إن يوسف لم يهم بالخطيئة، كيف و قد قال: «معاذ الله» لكن الآية الكريمة تصور الطبيعة البشرية التي تهم بالخطيئة لو لا النبوة و العصمة وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أي همت زليخا و قصدت الخطيئة بيوسف وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي لكان هم، لو لم يكن برهان الله يرعى يوسف، بكونه نبيا معصوما. و هكذا كما تقول: «قصد فلان قتلي و

قصدت قتله لو كنت جاهلا».

قال الإمام الصادق عليه السّلام: «البرهان: النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، و الحكمة الصارفة عن القبائح» «1».

و حاصل المعنى: أن يوسف لو لا النبوة لكان همّ بها، لكن النبوة منعت عن ذلك لأن المعصوم لا يهم بالخطيئة كَذلِكَ أريناه البرهان و حفظناه بالنبوة و العصمة لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ كل أقسام السوء، فإن العصمة ملكة لا تدع المتصف بها يفعل شيئا مهما كان وَ الْفَحْشاءَ

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 12 ص 335.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 677

[سورة يوسف (12): الآيات 25 الى 26]

وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26)

ركوب الفاحشة، و المراد بها الزنا إِنَّهُ إن يوسف عليه السّلام مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ بصيغة المفعول- أي الذين أخلصناهم عن الزيف و العصيان، و اخترناهم للنبوة و الطهارة.

[26] إن زليخا همت بأخذ يوسف للخطيئة و يوسف هم بالفرار منها و توجه كل منهما نحو الباب وَ اسْتَبَقَا الْبابَ أي تبادر كل من يوسف و زليخا نحو باب الغرفة، من «استبق» بمعنى السبقة، و قد كان التوجه إلى الباب أولا من يوسف حيث أراد الهروب و الفرار وَ أخذت زليخا قميص يوسف لتجرّه نحوها ف قَدَّتْ أي شقت قَمِيصَهُ أي قميص يوسف مِنْ دُبُرٍ أي من خلف يوسف، لأنها أخذت بالقميص من خلفه وَ أَلْفَيا من «ألفى» بمعنى «وجد»، أي وجدت زليخا و يوسف سَيِّدَها أي زوج زليخا، و هو «العزيز» لَدَى

الْبابِ أي قرب الباب، و هنا سقط في يد زليخا، و تحيّر يوسف ماذا يصنع، لأن المنظر كان مريبا.

و هنا بادرت زليخا لتبرير نفسها قالَتْ مخاطبة زوجها: ما نافية، أي ليس جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ زوجتك سُوءاً عملا قبيحا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ يحبس أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ بأن يضرب بالسياط أو نحو ذلك.

[27] قالَ يوسف عليه السّلام: هِيَ أي زليخا هي التي راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 678

[سورة يوسف (12): الآيات 27 الى 28]

وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)

أي طالبتني بالسوء وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها أهل المرأة.

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «ألهم الله عز و جل يوسف أن قال للملك:

سل هذا الصبي في المهد، فإنه يشهد أنها راودتني عن نفسي. فقال العزيز: الصبي؟ فأنطق الله الصبي في المهد ليوسف».

أقول: قال بعضهم: أن الابن كان له من العمر ثلاثة أشهر، و كان ابن أخت زليخا، و كانت الشهادة أن قال: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ أي ثوب يوسف عليه السّلام قُدَّ أي شقّ مِنْ قُبُلٍ من مقدّمه فَصَدَقَتْ زليخا وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي أن يوسف كاذب، إذ يظهر أن يوسف أراد المرأة و هي أخذت بثوبه لتدفعه عن نفسها فانشق القميص، أو لأنه يدل أن المرأة فرّت و يوسف عقبها فتعثر بثوبه من الأمام و انشق الثوب من قدام.

[28] وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ إن كان ثوب يوسف شقّ من الخلف فَكَذَبَتْ تبيّن كذب زليخا وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيدل على أن المرأة هي التي راودت يوسف

و أنه أراد الفرار، لأنه يدل على أن المرأة تبعت يوسف و أخذت بثوبه من خلف، فانشق الثوب لجذبها له.

[29] فالتفت الزوج إلى القميص و لما رَأى قَمِيصَهُ أي ثوب يوسف عليه السّلام قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أي شقّ من خلف، عرف أن المرأة هي التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 679

[سورة يوسف (12): الآيات 29 الى 30]

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)

خانت و أرادت السوء قالَ متوجها إلى زليخا إِنَّهُ أي هذا العمل الذي رأى آثاره مِنْ كَيْدِكُنَ و حيلكن معاشر النساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ تعملن الأعمال السيئة، ثم تلقين التهم على البري ء.

[30] ثم توجه السيد إلى يوسف عليه السّلام قائلا: يا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الحديث و اكتمه فلا تفشه وَ اسْتَغْفِرِي يا زليخا لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ أنت أذنبت لا يوسف عليه السّلام. قال «من الخاطئين» و لم يقل «من الخاطئات» تغليبا، كما قال: (وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) «1»، و كان ذلك لأن أول ما يتبادر إلى الذهن الرجال، سواء في الإطاعة و العصيان، أو غيرهما.

[31] ثم لم يمض زمان حتى شاع هذا الأمر في البلد و أن زليخا قصدت يوسف بالسوء وَ قالَ نِسْوَةٌ أي جماعة من النساء. و إنما ذكر الفعل لأنه يجوز في الجمع مذكرا كان أو مؤنثا الأمران، تقول «قال و قالت رجال»، و كذا «قال و قالت نساء»، باعتبار اللفظ و المعنى، كما أن «قالت» باعتبار جماعة الرجال، قال ابن مالك:

و التاء مع جمع سوى السالم من مذكر كالتاء مع إحدى

اللبن

فِي الْمَدِينَةِ في مصر، و كان ذكر هذه الجملة لإفادة أن الخبر

______________________________

(1) آل عمران: 44.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 680

[سورة يوسف (12): آية 31]

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)

شاع في البلد، و لو لم تذكر لاحتمل أن ذلك قول نسوة القصر، فقد قلن تلك النسوة على وجه التعجّب و الاستغراب: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أي تدعو مملوكها إلى نفسه، فتريد أن تسلب نفس المملوك، ليفجر بها قَدْ شَغَفَها حُبًّا دخل حب الفتى في شغاف قلبها، فإن «الشغاف» هو حجاب القلب، يقال: «شغف زيد عمرو حبا» أي خرق حب زيد شغاف قلب عمرو، و فاعل شغفها الضمير الراجع إلى يوسف عليه السّلام إِنَّا لَنَراها نرى امرأة العزيز فِي ضَلالٍ مُبِينٍ انحراف عن نهج الصواب واضح، إذ كيف تتعلق المرأة ذات البعل بعبدها.

[32] فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَ أي تعيير تلك النسوة لها بحب يوسف. و إنما سمي «مكرا» لأن قصدهن من هذا القول كان أن يرين يوسف لما وصف لهن منه حسنه- كذا في «المجمع»-. و قيل:

لأنهن أخفين التعيير كما يخفي الماكر مكره أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ تطلبهن للضيافة عندها وَ أَعْتَدَتْ هيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً هو ما يتكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث، أي هيأت لهن مأدبة و قد كان العادة أن يأكلوا الطعام و هم متكئون على الوسائد- كما هو عادة أهل الترف- وَ آتَتْ أعطت زليخا كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً لقطع اللحم، أو تقشير الفاكهة كما هي العادة الجارية إلى

هذا الزمان وَ قالَتِ زليخا ليوسف حين اشتغلن بالتقشير أو التقطيع: اخْرُجْ يا يوسف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 681

[سورة يوسف (12): آية 32]

قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)

عَلَيْهِنَ أمرته بذلك ليرين جماله فلا يعذلنها في ما قصدته منه فخرج عليه السّلام حيث كان بصورة مملوك مطيع لديها و لما رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه و تحيّرن في جماله، فقد كان خارق الحسن و الجمال وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ بتلك السكاكين، بدل تقطيع اللحم أو الفاكهة، على جهة الخطأ، فقد بعثت دهشتهن بجماله أن لم يلتفتن إلى صنعهن، و المراد بالقطع- حسب الظاهر- الجرح و الخدش، يقال: «فلان قطع يده بالسكين» إذا جرحها و خدشها.

وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ و هي كلمة تنزيه تقال في موضع الدهشة و العجب، لبيان الدهشة في صنعه سبحانه، و أصل «حاش» «حاشا» حذفت الألف تخفيفا، بمعنى التنزيه، و «لله» جار و مجرور متعلق به ما هذا الذي نراه، أي يوسف عليه السّلام بَشَراً «ما» تعمل عمل ليس ف «هذا» اسمها، و «بشرا» خبرها، أي ليس هذا كالبشر، فإن هذا الجمال الخارق لا يوجد في البشر إِنْ هذا ما هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ رفيع المنزلة عند الله سبحانه، ذو كرامة، و إلّا لم يمنحه هذا الجمال.

[33] قالَتْ زليخا بعد أن رأت أنها فازت عليهن و أنهن أعطين الحق لها فيما قصدت من السوء بيوسف: فَذلِكُنَ «ذا» إشارة إلى يوسف، و «كن» خطاب لهن، أي فهذا يوسف- أيتها النسوة- هو الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ من «لام» بمعنى «عذل» أي عذلتنني بالنسبة إليه، قائلات كيف أن امرأة العزيز

تراود فتاها؟ ثم قالت زليخا، و قد بقي لها تعلق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 682

[سورة يوسف (12): آية 33]

قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33)

به: وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ أي طلبت نفس يوسف فَاسْتَعْصَمَ أي لاذ بالعصمة و الامتناع وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ بعد ذلك ما آمُرُهُ من الفعل لَيُسْجَنَنَ أي ليحبس في السجن، فإني أكيد به حتى أوقعه في السجن وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ الصاغر هو الذليل، من الصفات، أي لأذله حتى يكون ذليلا.

[34] و لما رأى يوسف عليه السّلام إصرارها على الخطيئة به اختار السجن لنفسه الشريفة عن الآثام، و ليخلص من التذبذب و الاتهام، ف قالَ يا رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الفاحشة، و في الإتيان بلفظ «يدعونني» دلالة على أن تلك النسوة أيضا طمعن فيه.

و قد روي عن الإمام السجاد عليه السّلام: «أن النسوة لما خرجن من عندها أرسلت كل واحدة منهن إليه سرا من صاحبته تسأله الزيارة لها» «1».

و لا يخفى أن «أحب» هنا مجرد عن معنى التفضيل، كما هو القاعدة في أمثاله كقوله: (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) «2»، و (أَحْسَنُ تَأْوِيلًا) «3»، وَ إِلَّا تَصْرِفْ يا رب عَنِّي كَيْدَهُنَ بالعصمة و الحفظ أَصْبُ إِلَيْهِنَ يقال: «صبا يصبو»، إذا مال نحو الشهوة الجنسية، من

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 12 ص 275.

(2) الكهف: 45.

(3) النساء: 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 683

[سورة يوسف (12): الآيات 34 الى 36]

فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَ دَخَلَ

مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)

«الصبوة» و هي لطافة الهوى، أي: أمل إلى تلك النساء. و من المعلوم أنه لو لا لطف الله و عصمته تميل النفس البشرية إلى الشهوات وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ يقال للعاصي: جاهل، و إن كان عالما، لأنه لو لم يجهل حقيقة لم يعرض نفسه لعقاب الله سبحانه.

[35] فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ أجاب الله دعاء يوسف فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ فقد عصمه سبحانه حتى أنه لم يكن يتزحزح عن الطهارة و لو أصيب بالأذى و سجن، كما ألقى اليأس في قلب زليخا و النسوة لامتناع يوسف عن الفاحشة إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لداعي الداعي الْعَلِيمُ بالنيات.

[36] ثُمَّ بَدا لَهُمْ ظهر للعزيز و زوجته و أصحابهما مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءة يوسف عليه السّلام لَيَسْجُنُنَّهُ فإن زليخا خدعت زوجها بأن يسجن يوسف حتى يظن الناس أنه المجرم و حتى تشفي زليخا غيظها منه حيث لم يطعها في الفاحشة حَتَّى حِينٍ إلى مدة حتى تخمد الضوضاء، و ينسى الناس القصة.

[37] و سيق إلى السجن يوسف البري ء عليه السّلام و أخذت المرأة المجرمة تسرح و تمرح- كما هو عادة الدنيا-

روي عن الإمام الرضا عليه السّلام: أن السجان قال ليوسف: إني لأحبك. فقال يوسف: ما أصابني إلا من الحب، إن كانت خالتي أحبتني سرقتني، و إن كان أبي أحبني حسدني إخوتي،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 684

و إن كانت امرأة العزيز أحبتني حبستني «1».

و روي عن الصادق عليه السّلام: أن يوسف بكى على يعقوب حتى تأذى منه أهل السجن فقالوا له: إما

أن تبكي الليل و تسكن بالنهار و إما أن تبكي بالنهار و تسكن بالليل على واحد منهما «2».

وَ دَخَلَ مَعَهُ مع يوسف السِّجْنَ فَتَيانِ شابان، و كانا عبدين للملك أحدهما خبازه و الآخر صاحب شرابه. و في ذات يوم جاءا إلى يوسف يبيّنان له رؤيا رأياها- بزعمهما- ف قالَ أَحَدُهُما و هو صاحب الشراب: إِنِّي أَرانِي أرى نفسي في المنام أَعْصِرُ خَمْراً أي أعصر العنب لصنعه خمرا، فقد سمي العنب بذلك بعلاقة الأول، كما يقال: «فلان يطبخ الدبس» و إنما يطبخ التمر ليكون دبسا وَ قالَ الْآخَرُ و هو خباز الملك: إِنِّي أَرانِي أرى نفسي في المنام أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ من ذلك الخبز.

ثم قال الفتيان ليوسف: نَبِّئْنا أخبرنا بِتَأْوِيلِهِ ما يؤول إليه منامنا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذي يحسن إلى الناس. و من المعلوم إن الإنسان المحسن يتوسّم فيه الخير في كل شي ء حتى في تأويل الرؤيا و تعبير المنام، أو المراد تحسن تعبير الرؤيا.

قال الصادق عليه السّلام: لما أمر الملك بحبس يوسف في السجن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 247.

(2) إرشاد القلوب: ج 1 ص 95. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 685

[سورة يوسف (12): آية 37]

قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37)

ألهمه الله تعالى علم تعبير الرؤيا فكان يعبر لأهل السجن رؤياهم «1».

أقول: و كأن ذلك العلم صار شعارا لمن منع نفسه عن الشهوة الجنسية، فقد قالوا: أن ابن سيرين كان تلميذا عند بزاز و كان جميلا جدا و في ذات يوم جاءت امرأة و اشترت من

البزاز أجناسا ثم حمّلتها الفتى ليأتي بها إلى بيتها، و لما أن دخلا الدار أغلقت الباب و قالت:

هيت لك. قال ابن سيرين- لما لم يجد حيلة للفرار منها-: ائذني لي بالبراز لأقضي حاجتي ثم بعد ذلك أنت و شأنك. و لما أن دخل المرحاض لوث نفسه بالنجاسة، فلما خرج و رأته المرأة بتلك الحالة عافته استقذار له، و من ذلك الحين و هب الله له علم الرؤيا.

[38] و هنا أراد يوسف عليه السّلام أن يرشد الفتيين إلى الطريقة الصحيحة كما هو عادة الأنبياء و المرشدين حتى ينتهزوا كل فرصة لنشر الدين و تبليغ رسالة الله سبحانه، و قد أراد أن يقدم لذلك مقدمة مطمئنا بصحة ما يدعو إليه، فإن غالب الناس إذا رأوا من أحد خارقة أو ما أشبهها اطمأنوا إليه و صدقوا كلامه، بخلاف ما لو كان الكلام مجرد منطق و دليل، فإن الناس ينظرون إلى القائل لا إلى القول.

و لذا بدأ يوسف يبين لهم أنه يعرف بعض أمور الغيب بتعليم الله له، فبإمكانه أن يخبر عن الطعام الذي يؤتى به لهما قبل أن يؤتى به ف قالَ لا يَأْتِيكُما أيها الفتيان طَعامٌ تُرْزَقانِهِ لأجل أكلكما و رزقكما إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ آتي بصفة ذلك الطعام و سائر خصوصياته، و إنما قال «بتأويله» لأن الطعام يؤول إلى تلك الصفة، فمثلا اللحم المعد للطعام يؤول إلى «الكباب» أو «المرق» أو ما أشبههما، و قد لوحظ في

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 176.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 686

[سورة يوسف (12): آية 38]

وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى

النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)

اللفظ- الجناس- حيث تقدم لفظ «التأويل» بالنسبة إلى الرؤيا، و قد كان عيسى عليه السّلام كذلك كما قال: (وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) «1».

قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما التأويل ذلِكُما أي ذلك التأويل للأشياء الغائبة عن الحواس، و «كما» خطاب، أي أن التأويل أيها الفتيان مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي و من هذا الباب تطرق إلى ذكر الرب، ليتسنى له الشرح حوله إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي رفضت فراعنة مصر الذين يتخذون الأصنام آلهة، أي أني تركت هذه الملة. و ليس معنى «تركت» كونه عليه السّلام فيها، ثم تركها، بل معناه: عدم قبولها و رفضها من الابتداء، فإن الفعل يستعمل في المعنيين وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فلا يؤمنون بمبدإ و لا معاد، و حيث تركت تلك الملة ألهمني الله الغيب و تأويل الرؤيا.

[39] وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي و «الملة» هي الطريقة الدينية، يقال: «ملة اليهود» و «ملة النصارى» و لا يقال: ملة العطارين إِبْراهِيمَ جد أبيه وَ إِسْحاقَ جده وَ يَعْقُوبَ أبيه، و بذلك بيّن عليه السّلام أنه من بيت النبوة و الطهارة حتى يكون كلامه مسموعا لديهم. فقد جرت عادة الناس أن يسمعوا من ذوي البيوتات و الشرف أصحاب الحسب

______________________________

(1) آل عمران: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 687

[سورة يوسف (12): آية 39]

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39)

و النسب، و كان إبراهيم عليه السّلام مشهود لدى الجميع، و لعل إسحاق و يعقوب كان كذلك ما كانَ لَنا أي لا يجوز لنا معاشر الأنبياء، أو المراد عموم البشر، أي لا يحق للبشر أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ

غيره باتخاذ الأصنام آلهة، و كيف يجوز للبشر أن يكفر بخالقه و يجعل له أندادا؟ ذلِكَ التمسك بالتوحيد و البراءة من الشرك مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا حيث هدانا إلى ذلك و أوحى إلينا به وَ عَلَى النَّاسِ حيث هداهم بسبب الفطرة و الأنبياء. و لعل سبب ذكر «علينا» مستقلا، لاختصاصهم بالنبوة و الوحي وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة العظيمة، و هي نعمة الهداية، بل يكفرون بها باتخاذ الأصنام آلهة.

[40] و بعد ما بيّن عليه السّلام طريقته و ملته، و ذكر أنه من بيت رفيع و أنه يعلم بعض أمور الغيب بتعليم الله له حتى يطمئن إليه، أخذ في الاستدلال على التوحيد، و قد كان الموقع مناسبا جدا للتبليغ، فإن المستمع حيث ينتظر جوابه يصغي جيدا، بخلاف ما لو أجابهم عن تأويل رؤياهم ثم بيّن التوحيد، و حيث قدم له مقدمة صار الموقع أنسب، لأنه بين ماض مشوّق و مستقبل متقرب، فالنفس متفتحة للاستماع و القبول يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا صاحبي فيه، فإن الشي ء قد يضاف إلى الزمان و المكان مجازا، كما قال الشاعر:

يا سارق الليلة أهل الداريا سارقا مالي و مال جاري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 688

[سورة يوسف (12): آية 40]

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)

أو المراد «ملازمي السجن» فإن «صاحب» يقال للملازم للشي ء، يقال: «صاحب الدكان» لمن لازمه بالبيع و الشراء فيه .. و هكذا.

أَ أَرْبابٌ أي هل آلهة مُتَفَرِّقُونَ شتى متعدّدون خَيْرٌ في اتخاذها آلهة و عبادتها، بأن

يعبد الإنسان آلهة من حجر و خشب أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ المتفرد الذي خلق كل شي ء، و بيده كل شي ء الْقَهَّارُ الغالب الذي لا يعادله شي ء و لا يتمكن شي ء أن يقاومه؟ و من الطبيعي أن يكون الجواب: بل الله الواحد القهار.

[41] ما تَعْبُدُونَ أنتم أيها المشركون مِنْ دُونِهِ من دون الله إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أي أسماء الآلهة لا حقيقة الإله، فإن ما تعبدون إنما هي أسماء فارغة لا حقيقة لها في منصب الألوهية، كما يقال: «الحاكم الفلاني اسم مجرد» يراد أنه ليس بحقيقة حاكم، و ليس لديه علم الحاكم و إرادته أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ بدل من ضمير الجمع، فأنتم و آباؤكم إنما تعبدونها باعتبار أسماء تطلقون عليها، فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بتلك الآلهة، أو بأسمائها مِنْ سُلْطانٍ من حجة، أي لا حجة لكم في كونها آلهة، إذ الحجة لا بد أن تكون معقولة، و العقل يأبى أن ينحت الإنسان حجرا أو ينجر صنما ثم يقول إنه إله الكون، و الله سبحانه لم يقل ذلك و لم ينزل بذلك دليلا.

و لعل ترك الدليل العقلي إنما هو لوضوحه، و لأنهم كانوا ينسبون ذلك إليه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 689

[سورة يوسف (12): آية 41]

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41)

إِنِ الْحُكْمُ ليس الحكم و الأمر و النهي إِلَّا لِلَّهِ فكيف يعبد سواه؟ إذ العبادة خاصة بمن له الحكم و الأمر و النهي، لأن العبادة خضوع، و الخضوع لا يليق إلا أمام الحاكم الآمر و الناهي، و قد أَمَرَ سبحانه أَلَّا تَعْبُدُوا أحدا إِلَّا إِيَّاهُ وحده

لا شريك له.

و لعل «إن الحكم» و «أمر» إشارة إلى مرتبتين من التوحيد. فقد قالوا إن التوحيد على أربعة أقسام: توحيد الذات، بأن يعتقد الإنسان أن الإله واحد لا شريك له، و توحيد الصفات، بأن يعتقد الإنسان أن صفات الله عين ذاته لا تعدّد فيها و لا مغايرة، و توحيد الخلق، بأن يعتقد الإنسان أن جميع الخلق إنما هو منه وحده لا يشاركه فيه أحد، و توحيد العبادة، بأن لا يعبد الإنسان أحدا إلا إياه.

ذلِكَ التوحيد الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الطريقة المستقيمة، فإن «الدين» بمعنى الطريقة، و «القيم» بمعنى المستقيم، مشتق من «قام»، لا اعوجاج فيه و لا انحراف وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ إن هذا هو الدين القيم، و إن سواه معوج منحرف.

[42] و إذ أتم يوسف عليه السّلام الإرشاد و التبليغ، شرع في جواب سؤال صاحبيه من الرؤيا، فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أصله «صاحبين» حذفت النون لإضافته إلى السجن، كما هو القاعدة، قال ابن مالك:

نونا تلي الإعراب أو تنوينامما تضف أحذف كطور سينا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 690

أَمَّا أَحَدُكُما و هو ساقي الملك الذي رأى أنه كان يعصر خمرا، فيخرج من السجن و يصير حاله كحاله السابق فَيَسْقِي رَبَّهُ أي سيده الملك خَمْراً كما كان يسقي من ذي قبل. و في بعض التفاسير: أنه أخبر بأن بقاءه في السجن ثلاثة أيام و يخرج اليوم الرابع.

و إنما قال «ربه» لأن الرب يطلق على الصاحب، يقال: «رب الدار» و «رب الدابة».

وَ أَمَّا الْآخَرُ و هو الخباز الذي زعم أنه رأى خبزا على رأسه تأكل الطير منه فَيُصْلَبُ أي يشنق فيموت فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ تأنيث الفعل، باعتبار كون الطير اسم جنس يطلق على الجماعة من

الطائر مِنْ رَأْسِهِ أي من دماغه. في الحديث: إن الخباز كان كاذبا في ما ادعى من الرؤيا و لم يكن رأى شيئا في منامه و إنما اختلق ذلك. و في بعض التفاسير: لما قال يوسف ذلك، قال الرجل: كذبت و ما رأيت شيئا، و إنما كنت ألعب «1».

فقال يوسف عليه السّلام: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي فرغ من الأمر الذي تسألان و تطلبان معرفته، و ما قلته لكما فإنه نازل بكما و كائن لا محالة، و «الاستفتاء» طلب الفتيا، أي الجواب في مسألة متعلقة بالدين أو الدنيا، و قد كان الواقع الذي سوف يجري على الخباز

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 5 ص 404.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 691

[سورة يوسف (12): الآيات 42 الى 43]

وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)

من خلال شعاعه في دماغه، فاخترع هذه الرؤيا المكذوبة، و يوسف عليه السّلام إنما نظر إلى الواقع فأخبره به- و كان ذلك من علم الغيب لا من تفسير الرؤيا-.

[43] وَ قالَ يوسف عليه السّلام: لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا أي للعاصي الذي ظن يوسف عليه السّلام أنه ينجو من السجن و القتل، من صاحبيه، و لعل التعبير ب «ظن» لإمكان محو ما علم في علمه سبحانه فإن الأمور المستقبلة- إلا بعضها- قابلة للمحو، قال سبحانه: (يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) «1»، اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي اذكر حالي عند

الملك و إني إنما حبست ظلما، لكي يفرج عني و يطلق سراحي فلما تحقق ما قاله يوسف و أن صاحب الشراب تخلّص من السجن، و أن الخباز صلب فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أي أنسى الشيطان صاحب الشراب أن يذكر يوسف لربه الملك فَلَبِثَ يوسف فِي السِّجْنِ بقي فيه بِضْعَ سِنِينَ «بضع» كلمة بمعنى «ما دون العشرة»، و أصله بمعنى «القطعة» من الدهر، أو من غيره.

و منه قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فاطمة بضعة مني» «2».

[44] بقي يوسف سنوات في السجن، و ساقي الملك ناس، مشغول

______________________________

(1) الرعد: 40.

(2) وسائل الشيعة: ج 20 ص 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 692

بملهيات القصر- و كذلك ينسي الرخاء الإنسان زميله الذي يكابد البلاء- حتى رأى الملك رؤيا هالته فطلب معبّرا لذلك. و هناك تذكر الساقي يوسف السجين الذي عبّر رؤياه من ذي قبل، و شاءت إرادة الله سبحانه إنقاذ يوسف في ذلك الحين، و قد كان السجن و الجب و كيد المرأة و حسد الأخوة امتحانات له و لرفع درجته، فقد وكّل البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى في منامي. و كأنه حكاية حال ما ماضية، و إلا فاللازم أن يقول إني رأيت سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ جمع «سمين» ضد هزيل يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أي سبع بقرات كن هزيلات، و «عجاف» جمع «أعجف» و هو الهزيل و مؤنثه «عجفاء»، فقد أكلت البقرات الهزال البقرات السمان حتى دخلن في بطن الهزال وَ أرى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ و «السنبلة» هي العود الذي تنبت عليه حبوب الحنطة و الشعير و ما أشبه خُضْرٍ جمع «خضراء»، أي قد انفتق حبها و كانت رطبة وَ

سبع سنبلات أُخَرَ يابِساتٍ قد حصدت فالتوت تلك اليابسات على تلك الخضر حتى غلبن عليها.

يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أي الجماعة الأشراف، فإن الملأ هم الأشراف أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ أي أجيبوا عن هذه الرؤيا و عبّروها لي إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أي إذا كنتم تعرفون التعبير. و سمي تأويل الرؤيا تعبيرا يعبر بالإنسان من هذا الجانب- و هو جانب ظاهر الرؤيا- إلى ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 693

[سورة يوسف (12): الآيات 44 الى 45]

قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)

الجانب- و هو جانب باطنه و أوله- مأخوذ من «العبور» من شاطئ النهر إلى الشاطئ الآخر.

[45] قالُوا أي قال الملأ في جواب الملك: إن رؤياك أَضْغاثُ أَحْلامٍ «أضغاث» جمع «ضغث»، و هي قبضة الحشيش المختلط رطبها بيابسها، و «أحلام» جمع «حلم» و هو المنام، أي إن هذه الرؤيا إنما هي أحلام مختلطة لا يعرف تأويلها، فكأنها إن كانت على وجه واحد عرف التأويل لها، أما إذا اختلطت، سمان و عجاف، حيوان و نبات، و تغلب الأضعف على الأقوى- بعكس القاعدة- فلا يعرف تأويلها وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ التي هي من هذا القبيل بِعالِمِينَ و قد كان قولهم: «أضغاث أحلام» كمعذرة قدّموها إلى الملك، نسبة لعدم علمهم بتأويلها.

[46] وَ قالَ الساقي الَّذِي نَجا مِنْهُما من السجن- كلا الساقي و الخباز، اللذين سجنا مع يوسف- وَ ادَّكَرَ أصله «ذكر» و لما جي ء إلى باب الانتقال، صار «اذتكر»، فأبدلت التاء دالا، فصار «اذدكر»، و أدغمت الذال في الدال لقرب مخرجهما، فصار «ادّكر»، أي: و تذكّر قصة يوسف عليه السّلام بَعْدَ أُمَّةٍ

أي بعد مدة، فإن «الأمة» بمعنى الجماعة، سواء كانت من الناس أو غيرهم أو من الزمان، أو نحوه، كأنه من «أمّ» بمعنى قصد، فكأن الجماعة يدخل بعضها في بعض و يقصد بعضها بعضا أَنَا أُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِتَأْوِيلِهِ أي تأويل هذه الرؤيا فَأَرْسِلُونِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 694

[سورة يوسف (12): الآيات 46 الى 47]

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)

أي: فأرسلوني إلى يوسف ليأتي و يخبركم هو بتأويل الرؤيا، أو:

فأرسلوني إلى يوسف لأسأله تعبيرها و أخبركم بالجواب.

فقد قال للملك: إن في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير الطاعة، قد قصصت أنا و الخباز عليه منامين فذكر تأويلهما، فصدق في الكل و لم يخطئ، فإن أذنت مضيت إليه و جئتك بالجواب منه. فأذن له الملك، و جاء إلى يوسف عليه السّلام ليخبره بتعبيرها، قائلا:

[47] يا يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ الكثير الصدق فيما تخبر به، و إنما وصفه بهذا الوصف لأنه رأى صدقه في تأويل رؤياه، و رؤيا زميله الخباز أَفْتِنا أي أعطنا الجواب فِي هذه الرؤيا سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ و كان تقديم السمان، مع أن مقتضى القاعدة أن يقول: «سبع بقرات عجاف يأكلن سبع سمان»، لأجل إفادة أنه رأى السمان قبل العجاف، كما أن التأويل أيضا كذلك، فقد تقدمت السنين الخصبة وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ تلتف عليها وَ تغلبها أُخَرَ يابِساتٍ فما تأويل هذه الرؤيا لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ الملك و حاشية لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ التفسير، أو لعلهم يعلمون فضلك فينقذوك

من السجن. و إنما قال: «لعلي» لأن الإنسان يحتمل حيلولة الموت بينه و بين ما يقصده من المقاصد المستقبلة.

[48] قالَ يوسف عليه السّلام في جواب الساقي: أما البقرات السبع العجاف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 695

[سورة يوسف (12): آية 48]

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)

و السنابل اليابسات فهن السنون الجدبة، و أما البقرات السبع السمان و السنابل السبع الخضر فإنهن سبع سنين مخصبات ذوات نعمة.

أقول: كأن البقر و السنابل إشارتان إلى المأكل، فإن الزرع و الضرع من البقر و السنبل و جنسهما، فقد أخبر عليه السّلام بأن سبع سنين تكون مخصبة ثم تأتي سبع سنوات مجدبة يأكل الإنسان ما ادّخر في المخصبة، و لذا التوت السنابل اليابسة على الخضر، و أكلت البقرات الهزال البقرات السمان.

ثم بيّن يوسف عليه السّلام ما ينبغي لهم أن يعملوا تجاه هذا القحط الذي سيأتيهم بعد سبع سنين من الخصب، فقال: تَزْرَعُونَ «خبر في معنى الإنشاء»، أي ازرعوا سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي متوالية بجهد وجد، أو بمعنى «على دأبكم و عادتكم في الزراعة»، فإن «دأب» يأتي بالمعنيين فَما حَصَدْتُمْ من الزرع الذي هو أكثر من كفايتكم فَذَرُوهُ أي دعوه فِي سُنْبُلِهِ لا تدوسوه، بل اتركوه ليبقى أكثر، و لئلّا يسرع إليه الفساد، فإن الحبوب في سنبلها تبقى أكثر مدة إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ مما تحتاجون في نفس السنة، فادخروه لأكلكم و حوائجكم.

[49] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ السبع سنين الخصبة سَبْعٌ من السنين شِدادٌ جمع «شديد»، أي سنوات قحط و جدب صعاب على الناس تشتد عليهم لعدم الأكل و الزرع و الضرع يَأْكُلْنَ أي تلك السنوات الشدائد ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ

ما أبقيتم من الحبوب، لأجل تلك السنوات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 696

[سورة يوسف (12): آية 49]

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

و إنما قال: «يأكلن» ليطابق رؤيا الملك «يأكلهن سبع عجاف» و مثل هذا التعبير شائع في المجاز، قال: «أكل الدهر ما جمعت و مالي».

حكى في المجمع: عن زيد بن أسلم أن يوسف عليه السّلام كان يصنع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه، حتى كان ذات يوم قربه إليه فأكله كله، فقال: هذا أول يوم من السبع الشداد.

أقول: و لا بعد في ذلك، فإن الهواء من القحط- غير المصطنع- يتغير و يتطلب الجفاف و الفناء، فما يصيب الأرض، يصيب الحيوان و الإنسان.

إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ استثناء من «يأكلن» أي أن السبع الشداد تنفق فيها جميع السنابل المحرزة إلا مقدار قليل مما أحصنتم و حفظتم فإنه يبقى ليكون بذرا للرخاء الذي يأتي بعد سنيّ القحط السبع.

[50] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الذي ذكرنا من الأعوام الشداد عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ يمطرون، فإن الغيث بمعنى المطر وَ فِيهِ أي في ذلك العام يَعْصِرُونَ ما اعتادوا عصره من أنواع الفواكه في أوقات الخصب و الرخاء كالعنب و غيره. و هذا يدل على شدة الخصب حتى أن الناس يتأنقون في المأكل و المشرب. و لعل الإتيان بهذه اللفظة بمناسبة كون الرجل السائل كان الساقي العاصر للملك، و قد كان هذا إخبارا من يوسف عليه السّلام بعلم الغيب خارجا عن المنام، لأن رؤيا الملك اشتملت على السبع الشداد، أما ماذا يكون بعدها، فلم يكن في الرؤيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 697

[سورة يوسف (12): آية 50]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ

الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)

[51] ثم أن الساقي بعد ما علم التعبير من يوسف جاء الملك و أخبره أن الرجل السجين يقول هكذا في تعبير رؤياك وَ حينئذ قالَ الْمَلِكُ لمن حواليه ائْتُونِي بِهِ جيئوا إليّ بالسجين الذي عبّر الرؤيا فَلَمَّا جاءَهُ جاء يوسف الرَّسُولُ من قبل الملك ليخرجه من السجن، أبى يوسف عليه السّلام الخروج حتى تتبيّن براءته من التهمة التي قذفته بها زليخا و أنه أراد بها سوءا، ف قالَ يوسف للرسول: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ سيدك الملك فَسْئَلْهُ أي اسأل منه ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ أي يتعرف الملك على حال تلك النسوة اللاتي قطّعن أيديهن بالسكاكين لمّا رأينني. و إنما خصهن بالذكر لأنهن كن شاهدات على زليخا أنها دعت يوسف إلى الفاحشة، فقد سبق أنها قالت لهن: «وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ». و معنى «ما بال» أي ما شأنهن من تلك القصة.

في بعض الأحاديث: إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أظهر التعجب لأمرين من قصة يوسف،

الأول: أنه عبّر رؤيا الملك بدون أن يشترط ذلك على خروجه من السجن. الثاني: أنه لم يخرج من السجن بعد الأمر بإطلاقه حتى تظهر براءته.

أقول: لعل يوسف لم يذكر امرأة العزيز تأدبا، أو لأنه علم أنها لا تعترف بأنها صاحبة الجريمة، بخلاف سائر النساء، و كان ذكر «قطّعن أيديهن» لأنه خير مذكّر لهن بالقصة.

إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ فهو سبحانه العالم بأنهن قد كدن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 698

[سورة يوسف (12): آية 51]

قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ

قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)

و مكرن- و إنما سمي كيدا، لأن أمرهن كان في خفاء- و إني بري ء من القذف و التهمة.

[52] ثم إن الرسول رجع إلى الملك، و قال له ما طلبه يوسف عليه السّلام، فأرسل الملك إلى النسوة و دعاهن، و قال لهن: ما شأنكن مع يوسف؟ و ما تعلمون من قصته و قصة زليخا؟ قالَ الملك لهن:

ما خَطْبُكُنَ أي ما شأنكن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ أي طلبتن انتزاع نفس يوسف و دعوته إلى أنفسكن، فهل كان مائلا إلى ذلك؟ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي تنزيها لله، و أصله «حاشا» حذف الألف تخفيفا، و هي كلمة تقال في موارد، منها: في مقام تبرئة المتهم، كأنه تعجّب من قدرة الله على خلق بشر عفيف و بري ء مثله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فإنه بري ء لم يكن مائلا إلى الشهوة و إنما نحن كن مجرمات. و لفظ «عليه» كأنه بسبب أن السوء يركب على المجرم.

و كأن امرأة العزيز «زليخا» كانت من جملة النساء اللاتي استجوبهم الملك ف قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ أي ظهر الحق، و هو براءة يوسف. قال بعضهم: «حصحص» اشتقاقه من «الحصة» أي بانت حصة الحق من حصة الباطل، فظهر جليا واضحا لا لبس فيه و لا غموض أَنَا امرأة العزيز راوَدْتُهُ أي راودت يوسف، راجعته و اختلفت إليه عَنْ نَفْسِهِ لأسلب نفسه، و أقضي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 699

[سورة يوسف (12): آية 52]

ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)

معه الشهوة وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فيما قال «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» فأنا

كاذبة في التهمة، و هو صادق في براءته و كوني أنا المجرمة.

[53] و هنا عاد الرسول إلى يوسف من السجن و أخبره باستجواب الملك للنساء، و أنهن اعترفن ببراءته عليه السّلام و أنهن المجرمات. فقال يوسف:

ذلِكَ الذي طلبت من التثبّت في أمري لِيَعْلَمَ الملك- أو العزيز، على تقدير كونه الوزير- أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي أني لم أخن الملك في غيابه بقصد السوء إلى زوجته، و ذكر «بالغيب» لبيان شدة وقع الخيانة إذا وقعت كذلك، إذ خيانة المؤتمن أسوء من خيانة غيره وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي لا ينقذه و لا يوصله إلى مقصده. و هذا تنبيه على أن الخائن إن ستر أمره مدّة، و هبّت الرياح نحوه أياما، فإنه سيفضح و إن كيده سيفشل. و هناك احتمال أن يكون هذا من كلام زليخا، تريد: إنما اعترفت ليظهر أني لا أخون يوسف و هو غائب في السجن بأن أنسب إليه الجريمة، و كذلك (وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي) «1»، من تتمة كلامها.

______________________________

(1) يوسف: 54.

الجزء الثالث

[تتمة سورة يوسف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 7

[سورة يوسف (12): الآيات 53 الى 54]

وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)

[54] وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إن كان هذا من كلام يوسف عليه السّلام، كان المراد منه التواضع، أي اني لا أنزه نفسي فإن ما صدر مني من العصمة انما كان بحفظ الله

سبحانه، فلا أريد تزكية نفسي، و العجب من عملي و طهارتي، كما يقول أحدنا- إذا قيل له أنت فعلت كذا-: أنا لم أفعل و إنما وفقني الله سبحانه، قال سبحانه: (وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» و إن كان من كلام زليخا- تتمة لقولها: لم أخنه- كان المراد اني و إن اعترفت حالا، و قلت «لم أخنه» لكن لا أنزه نفسي عن الخيانة، فقد خنت يوسف في إلصاق التهمة به، و إلقائه في السجن إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي كثيرة الأمر بالسوء و الذنب، فإن «أمارة» صيغة مبالغة إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي «ما» إما موصولة، أي إلا النفس التي رحمها الله، أو وقتية، أي إلا الوقت الذي رحم الله، فعصم النفس عن الذنب إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ لسالف الذنوب رَحِيمٌ يرحم الإنسان فيأخذ يده عن الزلّة و السقوط.

[55] وَ إذ تمت البراءة و ظهر أمر يوسف عليه السّلام طهارة و علما قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي جيئوا إليّ بيوسف أَسْتَخْلِصْهُ أجعله خالصا لِنَفْسِي فيكون وزيري و مشاوري، فإن الاستخلاص طلب خلوص الشي ء من شائب الاشتراك فَلَمَّا جاء الرسول و أخرج يوسف من السجن و لما مثل بين يدي الملك كَلَّمَهُ فعرف عقله و فضله و أدبه حتى صار السماع عيانا قالَ الملك له إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ

______________________________

(1) الأنفال: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 8

[سورة يوسف (12): آية 55]

قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)

إنك عندنا ذو مكانة نافذ القول، مؤتمن.

[56] قالَ يوسف عليه السّلام للملك لما رأى مكانته عنده و منزلته لديه اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي اجعلني واليا على خزائنك المالية و الطعامية و غيرها لأدير

شؤونها إِنِّي حَفِيظٌ أي حافظ ما تستودعني عليه عَلِيمٌ بكيفية تدبيرها و إدارتها، قال الملك فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟ فقال يوسف أرى أن تجمع الطعام و تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة و تبني الأهواء و الخزائن و تجمع الطعام فيها بقصبه و سنبله ليكون قصبه و سنبله علفا للدواب و تأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر و من حولها و يأتيك الخلق من النواحي و يجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ذلك، فقال الملك و من لي بهذا و من يجمعه و يبيعه و يكفي الشغل فيه؟ فعند ذلك قال يوسف اجعلني على خزائن الأرض.

و لما سلّم الملك الأمر إلى يوسف أقبل عليه السّلام على العمل.

قال الإمام الرضا عليه السّلام: و أقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع السنين المخصبة فوضعه في الخزائن، فلما مضت تلك السنون و أقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم و الدنانير حتى لم يبق بمصر و ما حولها دينارا و لا درهما إلا صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة الثانية بالحليّ و الجواهر حتى لم يبق بمصر و ما حولها حليّ و لا جوهرا إلا صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة الثالثة بالدواب و المواشي حتى لم يبق بمصر و ما حولها عبدا و لا أمة إلا صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة الرابعة بالدور و العقار حتى لم يبق بمصر و ما حولها إلا صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة الخامسة بالمزارع و الأنهار حتى لم يبق بمصر و ما

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 9

حولها نهرا و لا مزرعة حتى صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة السادسة برقابهم حتى لم يبق بمصر و ما حولها عبدا و لا حرا إلّا صار عبد يوسف فملك أحرارهم و عبيدهم و أموالهم، و قال الناس ما رأينا و ما سمعنا بملك أعطاه الله ما أعطى هذا الملك حكما و علما و تدبيرا، ثم قال يوسف للملك: أيها الملك ما ترى فيما خوّلني ربي من ملك مصر و أهلها أشر علينا برأيك؟ فاني لم أصلحهم لأفسدهم و لم أنجهم من البلاء لأكون وبالا عليهم، و لكن الله سبحانه نجاهم على يدي، قال له الملك: الرأي رأيك، قال يوسف: أني أشهد الله و أشهدك أيها الملك أني قد أعتقت أهل مصر كلهم و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم و رددت عليك أيها الملك خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي و لا تحكم إلا بحكمي، قال له الملك: إن ذلك لشرفي و فخري ألّا أسير إلّا بسيرتك و لا أحكم إلا بحكمك و لولاك ما قويت عليه و لا اهتديت له، و لقد جعلت سلطاني عزيزا كما يرام و إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أنك رسوله فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين، و من ظريف ما ينقل ما نقله علي بن إبراهيم، بما ملخصه أن عزيز زوج زليخا مات في تلك السنين المجدبة و افتقرت امرأة العزيز و احتاجت حتى سألت الناس فقالوا لها ما يضرك لو قعدت للعزيز؟

و كان يوسف يسمى العزيز و كل ملك كان لهم سموه بهذا الاسم، فقالت أستحي منه،

فلم يزالوا بها حتى قعدت له، فأقبل يوسف في موكبه، فقامت إليه زليخا و قالت سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيدا و العبيد بالطاعة ملوكا، فقال لها يوسف أ أنت تيك؟ قالت: نعم، ثم أن يوسف عليه السّلام تزوجها و جعلها في جملة أهله «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 251.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 10

[سورة يوسف (12): الآيات 56 الى 58]

وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (57) وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)

[57] وَ كَذلِكَ أي كما أنعمنا على يوسف عليه السّلام بالنبوة و سائر المزايا، كذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها يتصرف فيها و يأخذ المحل منها حَيْثُ يَشاءُ فقد جمعنا له النبوة و الملك و هكذا كل من أطاع الله سبحانه و خرج من الامتحان ناجحا نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ و لكن بعد الاختبار و الامتحان، فإن الله لا يفعل لغوا، و لا يمنح اعتباطا و عبثا وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في العقيدة و العمل.

[58] وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ ثواب الله سبحانه في الدار الآخرة خَيْرٌ من ثواب الدنيا لأنه باق لا منتهى له، و ليس مشوبا بالأكدار و الآلام لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ بأن جمعوا بين العقيدة الصحيحة و العمل الصالح.

في بعض التفاسير أن يوسف عليه السّلام كان لا يمتلي شبعا من الطعام في تلك الأيام المجدبة، فقيل له تجوع و بيدك خزائن الأرض؟ فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع «1».

[59] و لما تمكن يوسف

عليه السّلام بأرض مصر، و جاء الجدب فأصاب الناس القحط نزل بآل يعقوب ما نزل بالناس فجمع يعقوب بنيه و قال لهم:

بلغني أنه يباع الطعام بمصر و أن صاحبه رجل صالح فاذهبوا إليه فإنه

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد: ج 11 ص 236.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 11

سيحسن إليكم إن شاء الله، فتجهزوا و أخذوا بعض البضائع يعطوها في مقابل القمح و سار منهم عشرة، و لم يخرج معهم بنيامين أخو يوسف حتى وردوا مصرا وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ «أخوة» جمع أخو فَدَخَلُوا عَلَيْهِ على يوسف، و في بعض التفاسير أن يوسف عليه السّلام كان يتولى البيع بنفسه «1»، و لذا دخلوا عليه فَعَرَفَهُمْ أي عرف يوسف إخوته وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ينكرون يوسف و لا يعرفونه لما مرّ من الزمان و تغيّرت ملامح يوسف عليه السّلام من الصباوة إلى الشباب، فقد مرّ على فراقهم له ما يقرب من خمسة عشر سنة أو أكثر، بل عن ابن عباس: الفاصلة كانت أربعين سنة «2».

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام: أن يوسف قال للأخوة قد بلغني أن لكم أخوين من أبيكم فما فعلا؟ قالوا أما الكبير منهما فإن الذئب أكله و أما الصغير فخلفناه عند أبيه و هو به ضنين و عليه شفيق قال فإني أحب أن تأتوني به معكم إذا جئتم تمتارون «3»، و قال القمي رحمه الله:

أحسن يوسف لهم في الكيل و قال لهم من أنتم؟ قالوا: نحن بنوا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله الذي ألقاه نمرود في النار فلم يحترق فجعلها الله عليه بردا و سلاما، قال: فما فعل أبوكم؟ قالوا شيخ ضعيف، قال: فلكم أخ غيركم؟ قالوا: لنا

أخ من أبينا لا من أمنّا قال فإذا رجعتم فأتوني به «4».

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 346

. (2) مجمع البيان: ج 5 ص 422

. (3) بحار الأنوار: ج 12 ص 287

. (4) تفسير القمي: ج 1 ص 346

.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 12

[سورة يوسف (12): الآيات 59 الى 62]

وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

[60] وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جهاز البيت متاعه و جهزت فلانا أي هيأت أمتعة سفره، و منه جهاز المرأة، و المعنى أنه حمل لكل واحد منهم طعاما قالَ يوسف لهم ائْتُونِي أي جيئوا إلي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ بنيامين، فإنه لم يكن من أمهم، و إنما أمه أم يوسف أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي لا أبخس الناس شيئا فإذا جاء أحد للطعام أعطيته، فإذا جئتم كان طعامكم أكثر وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ بصيغة اسم الفاعل، أي خير المضيفين، فإني حسن الضيافة لكل وارد، حسن التجهيز لكل ممتار، ثم هددهم بأنهم إن لم يأتوا به في المرة الثانية فإنه لا يعطيهم القمح و لا يضيفهم.

[61] فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ بأخيكم بنيامين فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي لا أكيل لكم الطعام وَ لا تَقْرَبُونِ بلادي، فإنه لا حظوة لكم عندي.

[62] قالُوا قالت الأخوة في جواب يوسف سَنُراوِدُ عَنْهُ أي عن بنيامين أَباهُ يعقوب عليه السّلام، أي سنجتهد في طلبه من

أبيه وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ أي نفعل ما أمرتنا به من الإتيان بالأخ.

[63] وَ قالَ يوسف عليه السّلام لِفِتْيانِهِ جمع فتى و هو العبد، و المراد هنا الذين كانوا يكيلون الطعام لهم و الأعوان الذين يقومون بشؤونه و أوامره اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ أي اجعلوا الثمن الذي جاءوا به لأجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 13

[سورة يوسف (12): آية 63]

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63)

شراء الطعام- و كان مقلّا و نحوه- في متاعهم و أثاثهم و أوعيتهم لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها يعرفون البضاعة المردودة إليهم، و إنما قال «لعل» لأن المعرفة غير لازمة في مثل هذه الأمور في البيوت الكبار فإن الحمل إذا جاء و دخل البيت لم يكن المكلف بفتحه الرجال الذين كانوا يعرفون الأشياء بل الخدم و النساء، و كثيرا ما لا يدرون هم ما ذهب به، مما جي ء به، فيشتبه الأمر عليهم، إِذَا انْقَلَبُوا رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ أبيهم و أقربائهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ حيث رأوا الإكرام و الاحترام و إن بضاعتهم ردت إليهم، يرجعون مرة ثانية إلى مصر لشراء الطعام، و ربما قيل أن احتمال رجوعهم كان لأجل أن يردوا الثمن بظن اشتباه حاشية الملك، و أن يوسف علم أنه ليس لهم غير ذلك فإذا أخذه لم يكن لهم ثمن يرجعون به لشراء طعام جديد.

[64] فَلَمَّا رَجَعُوا الأخوة إِلى أَبِيهِمْ و معهم الطعام قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ إن لم نذهب و معنا أخينا بنيامين فقد قال الملك: «فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي» فالمراد تقرر منعه عنا- و منع بالفعل الماضي لإفادة أنه قرر أن يؤتي به في المستقبل- كما يقول القائل:

هل تفعل كذا؟ فيجيب المسؤول: صار، أي تقرر، و ذلك لأن المضارع المتحقق الوقوع ينزل بمنزلة الماضي، و من المحتمل أن يراد أن الملك منع منا إعطاء الكيل لأخينا بنيامين حيث لم يكن معنا، و لعل ذلك لأجل أن يوسف أعطاهم بعددهم و عدد من تخلف من أبيه و أهله كيلا، دون بنيامين، حرصا لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 14

[سورة يوسف (12): الآيات 64 الى 65]

قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)

يأتوا به فَأَرْسِلْ أيها الأب مَعَنا أَخانا في هذه المرة نَكْتَلْ أي نأخذ الطعام بالكيل للجميع، يقال كلت فلانا، أي أعطيته الشي ء كيلا، و اكتلت عليه أخذت منه الكيل، من باب الافتعال، و أصله نكتال حذف الألف، لأن الفعل وقع في جواب الأمر، فجزم، فالتقى الساكنان «الألف و اللام» فحذفت الألف وَ إِنَّا لَهُ أي للأخ بنيامين لَحافِظُونَ أن يصيبه الأذى فقد كان يعقوب شديد القلق به لا يتمكن من مفارقته، و بعد فقد يوسف صارت محافظته له أشد حيث كان أخاه من الأبوين، و قد تقدم قول الأخوة «ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا» [65] قالَ يعقوب عليه السّلام في جواب الأخوة هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ استفهام إنكاري أي لا آمنكم عليه فلستم أنتم موضع الأمن و الثقة إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف عليه السّلام مِنْ قَبْلُ و قد قلتم في يوسف إنا له لحافظون ثم لم

تفوا بضمانكم، و المعنى ليس آمن على بنيامين إلا كأمني على يوسف- من قبل- فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً من حفظكم فإذا سلمته إليكم توكلت عليه في الحفظ لا عليكم وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يرحم ضعفي و شيخوختي فلا ينالني مكروه من جهة فقد بنيامين بسبب رحمته و فضله.

[66] و قد كان هذا الحوار بين الأخوة و بين يعقوب قبل أن يفتحوا المتاع وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ أوعية الطعام التي ملؤوها في مصر وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 15

[سورة يوسف (12): آية 66]

قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

التي ذهبوا بها ثمنا للطعام رُدَّتْ إِلَيْهِمْ لما تقدم من أن يوسف قال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم، قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي ماذا نطلب أكثر من هذا أكرمنا و أعطانا الطعام و لم يأخذ منا الثمن هذِهِ بِضاعَتُنا التي ذهبنا بها رُدَّتْ إِلَيْنا ردها الملك فلم يأخذها، فأرسل معنا أخانا إلى الملك لنأخذ منه الطعام وَ نَمِيرُ أَهْلَنا أي نجلب إليهم الميرة، و هي الطعام الذي يجلب من بلد إلى بلد، يقال مارهم إذا جلب إليهم الطعام وَ نَحْفَظُ أَخانا بنيامين في السفر لئلا يصيبه أذى وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ نأخذ من الملك كيل بعير زائدا، لحصة أخينا، فقد كان يكال لكل رجل حمل بعير ذلِكَ الكيل الزائد كَيْلٌ يَسِيرٌ عند الملك لمن ذهب إليه.

[67] و قد أثر كلام الأخوة، و ما رأى من إكرام الملك بردّ البضاعة، و استسلم لإرسال بنيامين، لكنه اشترط عليهم قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ أي قال يعقوب: لن أرسل بنيامين مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ

تعطوني مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ ما يوثق به من عهد أو يمين من طرف الله سبحانه، بذكره عن اسمه في العهد- كأن يقولوا نعاهد الله- فيكونوا في حرج من جهته سبحانه، كما أنهم في حرج من جهة عهدهم لَتَأْتُنَّنِي بِهِ أي تردون إليّ الابن، و لا تغدروا به إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي إلا أن تغلبوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 16

[سورة يوسف (12): آية 67]

وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)

فلا يكون الأمر تحت اختياركم، كأن يحيط البلاء بهم فلا يتمكنوا من الفرار منه و لا مسلك لهم لإنقاذ بنيامين، يقال أحاط به البلاء فهو محاط به، فَلَمَّا آتَوْهُ أعطى الأخوة، لأبيهم مَوْثِقَهُمْ عهدهم المؤكد قالَ يعقوب تأكيدا اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي شاهد حافظ إن أخلفتم و خنتم انتصف لي منكم.

[68] و لكن الأب الرؤوف خاف على أولاده من العين فقد كانوا جماعة أبطالا حسني المنظر و الجمال، و جميعا أولاد رجل واحد فإذا رآهم الرائي ملؤوا قلبه و عينه، و لذا وصاهم بالتفرق عند دخول المدينة وَ قالَ يا بَنِيَ أصله بنوني و هو جمع ابن مضافا إلى ياء المتكلم، لكن نون الجمع حذف بالإضافة- على القاعدة- و الواو أدغم في ياء المتكلم. كما نقلت ضمة النون إلى الباء لا تَدْخُلُوا مصر مِنْ بابٍ واحِدٍ حتى تصيبكم العين وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فقد كانت المدن- سابقا- ذات أسوار و أبواب، وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي ما أدفع من قضاء الله من

شي ء إن كان قد قضى عليكم الإصابة بالعين، يقال: أغنى عنه، إذا دفع عنه، و أصله الكفاية، كأن الشخص يكفيه عن أمر يدهمه، و قد قال ذلك يعقوب على وجه التسليم له سبحانه منبها أن أمري إنما كان لأجل الطوارئ، أما إذا كان شي ء حتما فلا دافع له إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ليس الحكم في الأمور- التي منها إصابتكم بالعين أو عدم إصابتكم- إلا لله سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 17

[سورة يوسف (12): آية 68]

وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في أن يرد عنكم عين الحساد و يرجعكم إليّ سالمين.

وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي المريدون للتوكل على أحد، عليهم أن يتوكلوا عليه، و يفوضوا أمورهم إلى الله سبحانه لا إلى غيره و هذا لا ينافي الأخذ بالحزم حسب الموازين التي قررها سبحانه في الكون.

[69] و قد أجاز الأب استصحاب بنيامين لهم، فشدوا أمتعتهم و خرجوا جميعا من المدينة قاصدين مصر لمرة ثانية وَ لَمَّا دَخَلُوا مصر مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي من أبواب متفرقة كما وصاهم يعقوب ما كانَ دخلوهم متفرقين و المعنى أن أمر الأب لم يفد شيئا و إنما كان مطلبا يختلج في نفس يعقوب. يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قضاه و قدره، أي لم ينفعهم ذلك بعد أن أراد الله سبحانه أن يبقى أحدهم- و هو بنيامين- في مصر، فلا يتمكنون أن يرجعوه إلى أبيهم إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أي قضى تلك الحاجة بأمرهم الدخول متفرقين فأظهره،

أما التقدير فقد عمل عمله، إذ نسبوا إلى السرقة، و أخذ الملك بنيامين وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ أي إن يعقوب ذو يقين و معرفة بالله لِما عَلَّمْناهُ أي لأجل تعليمنا إياه و لذلك قال: و ما أغنى عنكم من الله من شي ء وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن القدر هو الحاكم و أنه لا يغني الحذر إذا قدر شي ء فيظنون أن الأمور كلها بيد الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 18

[سورة يوسف (12): آية 69]

وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69)

و إنه مهما فعل و الحال أن الأمر ليس كذلك فإن الله سبحانه خلق الإنسان و خلق أسبابا كونية، و جعل بعضها تحت قدرة الإنسان، و ربما اقتضت مصلحته أن لا يمكّن الإنسان- من تلك الأسباب- إما بتعجيز الإنسان، و إما بجعل موانع في تلك الأسباب، فللإنسان قدرة واحدة، و للقدر منفذان لصدّ هذه القدرة، فمثلا إن الله سبحانه جعل زرع الأرض تحت قدرة الإنسان، لكنه ربما لا يشاء ذلك فيعجز الإنسان عن الزرع بمرض أو فقر أو نحوهما، أو يخلق ريحا سامة، أو مطرا مؤذيا، أو سوسا آكلا، فلا يتمكن الإنسان من تنفيذ قدرته، و لذا يجب التوكل في كل الأمور عليه سبحانه، فمن رأى كل الأمور من الله سبحانه حتى عمل العبد، فهو جبري فاسد العقيدة، و من رأى كل الأمور مفوضة إلى الإنسان فهو مفوض منحرف الإعتقاد، بل لا جبر و لا تفويض و إنما أمر بين أمرين ... أما أكثر الناس فإنهم و لو لم يكونوا بمفوضة لكنهم يظنون أن الأمور تحت إرادتهم و اختيارهم، و ينصرفون عن

التوكل، و لذا يتعجبون فيما إذا حال دون إرادتهم حائل، و من الضروري أن يتوكل الإنسان في أموره إليه سبحانه، حتى يتفضل الله بعدم إيجاد الحائل، و إقدار العبد على ما أراده.

[70] وَ لَمَّا دَخَلُوا أي دخل أولاد يعقوب عَلى يُوسُفَ في محله المعد لهم و كان يوسف حينذاك حاضرا آوى يوسف عليه السّلام، من أوى، يقال أوى إلى منزله إذا صار إليه، و منه الإيواء بمعنى إعطاء المكان إِلَيْهِ أي إلى نفسه أَخاهُ بنيامين فأنزله معه و ضمه إلى نفسه، ثم قالَ يوسف لبنيامين إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف الذي ألقوه الأخوة في الجب قبل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 19

[سورة يوسف (12): آية 70]

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70)

سنوات و قالوا أنه أكله الذئب فَلا تَبْتَئِسْ من الابتئاس بمعنى اجتلاب الغم و الحزن و البؤس، أي لا تحزن بِما كانُوا أي كانت الأخوة يَعْمَلُونَ سابقا من الازدراء بك و بأخيك، و من الحسد عليكما.

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال: كان يوسف قد هيأ لهم طعاما فلما دخلوا عليه قال: ليجلس كل ابن أم على مائدة واحدة، فجلسوا و بقي بنيامين قائما، فقال له يوسف: مالك لا تجلس؟ قال له: إنك قلت ليجلس كل ابن أم على مائدة و ليس لي فيهم ابن أم، فقال: أما كان لك ابن أم؟ قال بنيامين: بلى قال: يوسف فما فعل؟ قال: زعم هؤلاء أن الذئب أكله قال: فما بلغ من حزنك عليه قال: ولد لي أحد عشر ابنا كلهم اشتققت له اسما من اسمه فقال له يوسف: أراك قد عانقت النساء و شممت الولد من بعده

قال بنيامين: إن لي أبا صالحا و إنه قال: تزوج لعلّ الله أن يخرج منك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح، فقال له: تعال فاجلس معي على مائدتي، فقال أخوة يوسف: لقد فضل الله يوسف و أخاه حتى أن الملك قد أجلسه معه على مائدته، و ورد أن يوسف بعد ما عرّف نفسه لأخيه قال له: أنا أحب أن تكون عندي فقال: لا يدعونني إخوتي فإن أبي قد أخذ عليهم عهدا لله و ميثاقه أن يردوني إليه فقال يوسف: أرى طريقة لبقائك، فلا تنكر إذا رأيت شيئا، فقال بنيامين: لا «1».

[71] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ أي جهّز يوسف عليه السّلام الأخوة بِجَهازِهِمْ بأن ملأ

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 183.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 20

أوعيتهم بالطعام، و جعل لكل واحد منهم حمل بعير، أمر بعض غلمانه حتى جَعَلَ السِّقايَةَ أي الصاع الذي كان يكال به، و أصل السقاية اسم للإناء الذي يسقي به فِي رَحْلِ أَخِيهِ أي في متاع بنيامين، و إنما أضاف سبحانه «جعل السقاية» إليه، لأنه كان هو الآمر بذلك ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ الآذان هو الاعلام، أي أعلم قائلا أَيَّتُهَا الْعِيرُ أي القافلة إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قد سرقتم سقاية الملك، أقول ليس في الآية دلالة على أن يوسف هو الذي أمر بهذا النداء، فإنه عليه السّلام أمر بدس الصاع في رحل بنيامين و كان أمره هذا خفية حتى لا يظهر أحد عليه، و من الطبيعي أن يتفحص الحاشية عن المفقود و يتهموا بعض الناس بالسرقة، و لم يكن الاتهام منكرا يعلم الفاعل بكونه منكرا، حتى يجب النهي عنه، فيقال: كيف لم ينه يوسف عليه السّلام عن المنكر؟ لما تقرر من أن النهي عن المنكر إنما هو مع

علم الفاعل بكونه منكرا، أما إذا لم يعلم فليس ذلك بواجب، نعم يجب في الأحكام من باب إرشاد الجاهل، و ليس الاتهام حكما و إنما هو موضوع، و هناك سؤال أنه كيف يجوز للإنسان أن يعمل عملا يدخل الغم و الحزن على جماعة؟ و الجواب أن الإيذاء لا يجوز أما إذا صنع الإنسان صنعا مباحا يتأذى به الغير فإن ذلك جائز، ألا ترى أن من يبني دارا وسيعة، أو يؤلف مؤلفا جيدا، أو يتولى منصبا مرموقا، يكثر حساده و يدخل عليهم الغم حتى أن بعضهم لا ينام الليالي و لا يستقر الأيام و مع ذلك فهو جائز بل قد يستحب أو يجب، و قد كان حفظ يوسف لبنيامين لديه جائزا، و ربما يقال: فما كانت المصلحة في أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 21

[سورة يوسف (12): الآيات 71 الى 72]

قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)

لا يبدي يوسف نفسه لهم حتى لا يحتاج إلى تدبير هذه العملية؟

و الجواب أنه لعلّ اللّه سبحانه أراد بذلك تخفيف ذنب الأخوة، بالهول و الخجل الذي دخل عليهم، أما الأب فقد كان حزنه رفع درجته- إن لم نقل أنه بسبب ترك الأولى الذي صدر منه في قصة عدم إطعام الفقير، كما في التفاسير.

[72] قالُوا أي قال أصحاب العير، و هم أخوة يوسف، و لم يعلم أنه كان معهم غيرهم أم لا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ أي على أصحاب يوسف، و كان «أقبل» عدي ب «على» لإشرابه معنى التوجه و الإقبال، كأنه قال: أقبلوا عليهم سامعين كلامهم قائلين ما ذا تَفْقِدُونَ أي ما الذي فقدتموه

من متاعكم يا حاشية الملك.

و قد كان أخوة يوسف عليه السّلام واثقين من أنفسهم أنهم لم يسرقوا شيئا فلما ذا يخافون؟ و لذا قالوا بكل جرأة: «ماذا تفقدون»؟ و استعدوا لإعطاء الجزاء- كما يأتي- إن كانوا هم السارقين.

[73] قالُوا أي قال أصحاب يوسف نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ فقد متعد، و لذا يقال: مفقود، و الصواع اسم مفرد بمعنى الكيل، أي نفقد كيل الملك الذي به يكال الطعام، ثم أن بعض أصحاب الملك وعد الذي يأتي به جائزة قائلا وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ أي بالصواع حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي أنا كفيل ضامن بالوفاء و ليس ذلك خداعا نريد به أن يظهر الصاع فيعاقب الآتي به عوض أن نجيزه- كما جرت عادة الملوك الطغاة-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 22

[سورة يوسف (12): الآيات 73 الى 75]

قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)

[74] قالُوا أي أخوة يوسف تَاللَّهِ نحلف لَقَدْ عَلِمْتُمْ أيها القوم، و هذه جملة معترضة، و إنما متعلق الحلف قوله ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي للأعمال السيئة وَ ما كُنَّا سارِقِينَ في يوم من الأيام، خصصوا السرقة بعد تعميم نفي الفساد لأنه كان موضع التوهم، و قوله: «لقد علمتم» أي أنه، ظهر لكم من حسن سيرتنا و كوننا أصحاب حسب و نسب إن مثل هذا العمل لا يصدر منّا.

[75] قالُوا أي قال غلمان يوسف و حاشيته فَما جَزاؤُهُ أي جزاء السرقة، أو جزاء السارق إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ بأن ظهر الصواع في حملكم؟ و إنما سألوا

عنهم، لأن شريعة يعقوب كانت تحكم بأخذ السارق و استرقاقه، أو حبسه، عند المسروق منه، و ذلك بخلاف دين ملك مصر، فقد كانت للسرقة عنده جزاء خاصا، فأراد يوسف عليه السّلام أنهم يحكمون حسب الشريعة ليتسنى له إبقاء الأخ عنده، أما لو جوزي حسب دين الملك، فقد كان يعطي الجزاء و ينصرف إلى أبيه.

[76] قالُوا أي قالت أخوة يوسف جَزاؤُهُ أي جزاء السارق مَنْ وُجِدَ المسروق فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أي أن السارق بنفسه جزاء السرقة، يبقى محبوسا، أو مسترقا، عند المسروق منه كَذلِكَ الذي ذكرنا نَجْزِي الظَّالِمِينَ بالسرقة، لأن السرقة نوع من الظلم، و لما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 23

[سورة يوسف (12): آية 76]

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

تبانى الطرفان على أنه إن وجد الصواع في رحل أحد منهم يبقى عند الملك، أمر يوسف عليه السّلام بتفتيش الرحال.

[77] فَبَدَأَ أي ابتدأ يوسف، أو بعض حاشيته بِأَوْعِيَتِهِمْ أوعية الأخوة التي كانت مليئة من الطعام قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين، و إنما فعل لإزالة التهمة، و لئلا يقولوا، أن الأمر كان مدبّرا ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين، في المجمع: فأقبلوا على بنيامين و قالوا له: فضحتنا و سوّدت وجوهنا متى أخذت هذا الصاع؟ فقال:

وضع هذا الصاع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم- يريد، في المرة الأولى حيث وجدوا بضاعتهم ردت إليهم- كَذلِكَ أي كذلك الذي ذكرنا كِدْنا لِيُوسُفَ الكيد هو التدبير الدقيق الخفي على الناس، كما قال سبحانه: (وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي

مَتِينٌ) «1»، و معنى كيد اللّه ليوسف، إلهامه سبحانه إياه بهذا التدبير الذي يسبب إبقاء أخيه عنده، و قد تقدم أن ذلك لعلّه كان لأجل تخفيف ذنب الأخوة، بالهول و الفزع الذي لحقهم من هذا العار، ثم بين سبحانه وجه التدبير بقوله ما كانَ ليوسف لأن يأخذ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي في دين ملك مصر، فإن طريقتهم كانت على مجازاة السارق لا أخذه بنفسه جزاء سرقته، فقد دبر له سبحانه أن يقول للأخوة «ما جزاؤه إن كنتم

______________________________

(1) الأعراف: 184.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 24

[سورة يوسف (12): آية 77]

قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)

كاذبين» ليقولوا هم جزاؤه المسبّب لبقائه عند الملك إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء منقطع، فيدبر هذا التدبير لأخذه، و قد تقدم في بعض المباحث السابقة، إن الاستثناء إنما يؤتى به كثيرا في الكلام، لغرض المتكلم أن صلب الموضوع هو الأصل، و إنما القيد السابق على الاستثناء كلام خارجي، فكان الكلام في المقام هكذا: «ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ» «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» «فإن دين الملك لم يكن يسمح بذلك» نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ كما رفعنا درجة يوسف بالنبوة و العلم و التدبير وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فلم يكن يوسف عليه السّلام أعلم الموجودات، بل كل عالم فوقه أعلم منه، حتى يصل الأمر إلى العالم لجميع الأمور و هو سبحانه و كأنه لئلا يتوهم أن قوله «نرفع» أنه عليه السّلام بلغ آخر مرتبة العلم، حتى أنه حوى كل شي ء.

[78] و لما رأى الأخوة أن الصواع خرج من رحل بنيامين،

أرادوا أن يبرءوا ساحة أنفسهم، مبينين أن السرقة إنما اقترفها هذا الأخ، لعرق لحقه من أمه، و إلا فيعقوب أجل من أن يسرق ابنه، و استشهدوا لذلك بأن أخا لبنيامين- يقصدون يوسف- قد سرق سابقا أيضا، فهذان الأخوان اللذان من أم واحدة تعاطيا هذه السيئة قالُوا أي قالت الأخوة، ليوسف إِنْ يَسْرِقْ الآن، بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ من أمه مِنْ قَبْلُ يعنون اتهام يوسف بالسرقة.

روي عن الإمام الرضا عليه السّلام أنه قال: كانت لإسحاق النبي عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 25

منطقة يتوارثها الأنبياء و الأكابر و كانت عند عمة يوسف، و كان يوسف عندها، و كانت تحبه، فبعث إليها أبوه أن ابعثيه إليّ و أردّه إليك، فبعثت إليه: أن دعه عندي الليلة أشمه ثم أرسله إليك غدوة، فلما أصبحت أخذت- أي العمة- المنطقة فربطتها في حقوه «1» و ألبسته قميصا و بعثت به إليه، و قالت «2»: سرقت المنطقة فوجدت عليه، و كان إذا سرق أحد في ذلك الزمان، دفع به إلى صاحب السرقة، فأخذته، فكان عندها.

أقول: فإنهم أشاروا إلى هذه السرقة، و لم يكن يوسف عليه السّلام سرق شيئا و إنما بهت بها، كما أن بنيامين لم يكن سرق شيئا، و إنما ألصقت به، و لما قالت الأخوة «فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ» «3» فَأَسَرَّها أي أخفى تلك القصة يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ أي لم يظهرها لهم، فقد عرف أنهم إنما أخذوا الأمر على ظاهره، و يحتمل أن يكون ضمير «أسرها» للشأن، أي أسر قوله الذي يأتي و هو «أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً» نحو «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قالَ إما بلفظه أو في نفسه- و ظاهر السياق يعطي الأول،

و المناسب لأدب يوسف عليه السّلام الثاني، و كثيرا ما يستعمل قال في النية و شبهها- أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي من حيث المكانة و المنزلة، فإن السارق له منزلة و مكانة سيئة، و إنما كانوا شرا مكانا، لأنهم حسدوه و ألقوه في الجب، أما سرقة الأخ و بنيامين فقد كانت

______________________________

(1) الحقوة موضع شد الإزار، و هي الخاصرة.

(2) الظاهر أن قولها بعد أن ذهب يوسف إلى دار أبيه.

(3) بحار الأنوار: ج 12 ص 249.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 26

[سورة يوسف (12): الآيات 78 الى 79]

قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)

ظاهرية لا واقع لها، «شر» هنا مجرد عن معنى التفضيل، فلم يكن يوسف و أخوه صاحبي شر، كما قال سبحانه (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) «1» مع أنه لا خير في أصحاب النار وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ به يوسف من السرقة، فإنه عالم أنه لم يسرق.

[79] و لما رأى الأخوة أن يوسف عليه السّلام مصمم على إبقاء بنيامين عنده و قد أعطوا أباهم موثقا أن يرجعوه، جاءوا إليه من باب الرجاء و الالتماس قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ و قد كان الملك، أو كبير الوزراء، يسمى عزيزا في عرف أهل مصر إِنَّ لَهُ أي لهذا الأخ أَباً شَيْخاً كَبِيراً يستحق العطف، و لعل المراد بالشيخ العظيم المنزلة، حتى يكون «كبيرا» تأسيسا لا تأكيدا، فإن الشيخ يستعمل في كثير المال، و كثير العمر، و كثير السن، و كثير المنزلة، و كثير الأولاد- على ما قالوا- فَخُذْ أيها العزيز أَحَدَنا أي أحد

العشرة مَكانَهُ أي عوض بنيامين، فقد أخذ علينا أبونا العهود و المواثيق على أن نرجعه إليه، فلا يمكننا أن نذهب بدونه إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلى الناس و إلينا، و نحن نأمل هذا منك لإحسانك، فإن المحسن مأمول.

[80] قالَ يوسف عليه السّلام في جوابهم مَعاذَ اللَّهِ «معاذ» مصدر ميمي من عاذ يعوذ، أي استجار و التجأ، و هو منصوب بالمصدر، أي أعوذ باللّه

______________________________

(1) الفرقان: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 27

[سورة يوسف (12): آية 80]

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)

إعاذة، و هذه كلمة يقولها من يريد بيان أنه لا يفعل شيئا قبيحا، كأنه يستجير باللّه أن يحفظه من ذلك العمل- و إن كان معناها أعم لغة- أَنْ نَأْخُذَ أحدا منكم إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا أي الصواع عِنْدَهُ و هو بنيامين، و كيف نأخذ إنسانا بريئا، و من المعلوم أن بنيامين كان راضيا ببقائه، حيث يعرف الحقيقة، أما أخ آخر فلم يكن راضيا فكان إبقائه جبرا- و لو كان راضيا حسب الظاهر- غير جائز و قد قالوا: أن المناط يدور على الواقع لا على العلم، فلو أعطى عمرو زيدا شيئا بظن أنه خالد، و لم يك راضيا إعطائه زيدا، و عرف زيد ذلك لم يجز له أخذه إِنَّا إِذاً أي وقت أخذنا غير بنيامين لَظالِمُونَ إذ ظلمنا شخصا بدون رضاه الواقعي.

[81] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ استيأس بمعنى يئس، أي يئس أخوة يوسف من الملك أن يجيبهم إلى ما سألوه من أخذ

أحدهم مكان بنيامين خَلَصُوا نَجِيًّا أي تنحوا عن الناس في معزل لئلا يسمع الناس بمشورتهم، و أخذ بعضهم يتناجى مع الآخر في وجوه الرأي كيف يصنعون، و النجي مما يتساوى فيه المفرد و الجمع، قال سبحانه (وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا) «1» و ذلك لأنه مصدر، فهو نحو جنب، تقول زيد جنب، و القوم جنب، و المناجاة: المسارة و الاختفاء في الكلام، و قد تقدم حديث يدل على أن هذه الجملة من الفصاحة و البلاغة بمكان قالَ كَبِيرُهُمْ أي كبير الأخوة و هو يهودا كما عن الإمام الصادق

______________________________

(1) مريم: 53.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 28

[سورة يوسف (12): آية 81]

ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)

أَ لَمْ تَعْلَمُوا أيها الأخوة أَنَّ أَباكُمْ يعقوب قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي أخذ منكم عهدا تحلفون باللّه سبحانه أن لا ترجعوا إلا مع بنيامين، فكيف ترجعون بدونه؟ حيث قال لن أرسله معكم حتى تأتون موثقا من اللّه لتأتنني به وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ لعله عطف على «أباكم» أي ألم تعلموا أخذ أبيكم الموثق، و تفريطكم في يوسف من قبل، ف «ما» مصدرية، و المحل نصب ... فهما سببان يحدو إن على أن لا نرجع بدون بنيامين فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أي لن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الرجوع إليه، و البراح من هذه الأرض أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج بما يكون عذرا لي، أو أموت، أو أخلص أخي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يحكم إلا بالعدل و الحق، و بقي الأخ الأكبر هناك في مصر.

[82] و قال الأخ

الأكبر لباقي الأخوة ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ و إلى بلادكم فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ بنيامين سَرَقَ صواع الملك وَ ما شَهِدْنا عندك بهذه الشهادة ظنا أو تخمينا إِلَّا بِما عَلِمْنا حيث رأينا أن الصواع خرج من رحله وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أي إنا لم نعلم الغيب حيث قلنا ابعث بنيامين معنا، فلم ندر أنه يسرق و يحفظه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 29

[سورة يوسف (12): الآيات 82 الى 83]

وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)

الملك، أولا ندري أنه سرق أو دس الصاع في رحله، فذلك كان غائبا عن حواسنا.

[83] ثم أرادوا إثبات أن الابن سرق، و أنهم لم يقصروا في حفظهم، حتى لا يظن الأب بهم سوءا فقالوا لأبيهم وَ سْئَلِ أيها الأب الْقَرْيَةَ أي أهل القرية، و ذلك من المجاز حيث نسب ما للحال إلى المحل، فاعلا كان نحو «جرى النهر»، و قد جرى ماء النهر، أم مفعولا، نحو «وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ» أي أهل القرية أم غيرهما الَّتِي كُنَّا فِيها أي أرسل إلى مصر التي كنا فيها، و اسأل أهلها عن الحادثة، و العرب تسمي المدينة قرية، و لذا تسمى مكة أم القرى، و قال سبحانه (وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى «1» إلى غير ذلك، و لعل المراد اسأل أهل القرية- لا أن يرسل إلى مصر- و قد كان في القافلة بعض أهل مصر وَ اسأل أهل الْعِيرَ أي القافلة الَّتِي أَقْبَلْنا إلى بلدنا فِيها أي في تلك العير، فإن كان المراد من «القرية»

المعنى الثاني، كان المراد من العير غيرهم، أي اسأل أهل مصر الذين في القافلة و أهل غير مصر من سائر من في القافلة وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به.

[84] رجع الأولاد إلى أبيهم، و قد خلفوا وراءهم عند الملك أكبرهم و بنيامين، و قصوا عليه القصة بطولها، لكن يعقوب عليه السّلام أساء بهم الظن، و حق له أن يسي ء، لما سبق من عملهم مع يوسف، و لما علم

______________________________

(1) هود: 118.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 30

من أنهم يكرهون بنيامين، أ لم يقولوا قبل أيام «لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ»؟ أما الشواهد فلم تكن كافية، إذ من المحتمل أنهم هم الذين دسّوا الصاع في رحل بنيامين ليسببوا له هذه المشكلة، و قد قرروا هم أن من وجد الصاع في رحله فهو جزاؤه، أما بقاء أكبر الأخوة، فذلك ليس بأعظم من عملهم قبل مدة إذ «جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ» فقد قدروا بقاء الأخ هناك لرفع هذه المكيدة عنهم، و أهل المدينة و العير قد رأوا إبقاء الملك لبنيامين، لكن لعلم علموا أن ذلك لم يكن بكيد منهم، و لذا شك يعقوب بهم و أساء الظن في قصتهم ف قالَ عليه السّلام بَلْ سَوَّلَتْ أي زينت و سهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فلنسلم أنه سرق، و لكن من علم الملك، باتخاذ إجراء عقوبة السارق في مدينتنا، على السارق في مدينتهم، مع أن حكمهم يختلف عن حكمنا، و ليس ذلك إلا الجزاء، لا البقاء ألستم أنتم قلتم له ذلك؟ و قد كان يعقوب عليه السّلام صادقا في ذلك إذ هم الذين قرروا هذا الجزاء أما أن يعقوب عليه السّلام كيف لم يعرف صدقهم؟ فالجواب

أن الأنبياء لا يعلمون إلا ما يريده اللّه سبحانه من الغيب، كما قال (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) «1» فأمري في هذه القصة- أيضا- كقصة يوسف من قبل فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا شكوى فيه، و لا جزع بأن أقول ما يغضب اللّه سبحانه عَسَى لعل اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ بيوسف و بنيامين و يهودا أكبر الأخوة الذي بقي هناك

______________________________

(1) الجن: 27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 31

[سورة يوسف (12): آية 84]

وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)

جَمِيعاً فقد علم يعقوب أن يوسف لم يأكله الذئب و إنه حي مرزوق من طريق الوحي إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بعباده، و ما يعملون الْحَكِيمُ في تدبيره، فهو إنما فعل ذلك بي لحكمته و مصلحته.

[85] وَ حينذاك تَوَلَّى أي أعرض يعقوب عَنْهُمْ فإن الإنسان إذا علم أن من حوله لا يشاركونه المصاب يتنحى عنهم ناحية ليعيش منفردا بحزنه و لوعته وَ قالَ يعقوب يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف هو الحزن أي يا طول حزني على يوسف و «يا» حرف نداء حذف مناداه، أي «يا قوم» أو المراد «يا أسف احضر فهذا وقتك» كما قالوا في «يا عجبا» و نحوه، و ألف أسفي بدل من ياء المتكلم، و يجوز ذلك في المنادي المضاف إلى ياء المتكلم، كما قال ابن مالك:

و اجعل منادى صحّ إن يضف لياكعبد عبدي عبدا عبديا

و إنما ذكر «يوسف» لأنه هو الذي غاب عنه خبره، أما الولدان الآخران فقد علم بمكانهما، و الإنسان لا يأسف لمن غاب و علم بمكانه، كما يأسف لمن لا يدري محله، و أين هو، و

كيف يعيش وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ أي و قد كان عليه السّلام «ابيض» سواد عينيه مِنَ الْحُزْنِ و البكاء على يوسف، نسب الابيضاض إلى الحزن، مع أنه من البكاء، من باب نسبة الشي ء إلى سببه، قالوا و قد ثبت في الطب الحديث، أن نفس بعض الطبقات في العين تبيض، لا أن ماء ينزل، كما ظن بعض الأطباء القدامى، فإن كان الأمر كما ذكروا، فذاك من خوارق القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 32

[سورة يوسف (12): آية 85]

قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85)

الحكيم، و ما أكثرها ثم أنه لم يثبت أن يعقوب عليه السّلام عمى من جهة ابنه و بكائه، و ليس في قوله سبحانه «ارتد بصيرا» شاهد لذلك فإن هذا التعبير كثيرا ما يؤتى به لإفادة جلاء البصر و ذهاب الحزن- فلا منافاة لذلك، مع قاعدة وجوب كون الأنبياء تامي الخلقة، و الكلام في المقام طويل نكتفي منه بهذا القدر،

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه سئل ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف، قال: حزن سبعين ثكلى بأولادها

«1» فَهُوَ كَظِيمٌ أي ملي ء بالغيظ على الأولاد و الحزن على ولده، و لكنه كان لا يظهر غيظه، و لا يشكو حزنه لأحد.

[86] و أين للأخوة قلب يعقوب حتى يدركوا ما يدركه من الهم و الحزن، بل انهم رأوا أنفسهم في سعة حيث تخلصوا من يوسف و لذا كان يزعجهم بكاء الأب، و إذا رأوا منه ذلك من جديد قالُوا لأبيهم يعقوب تَاللَّهِ لا تَفْتَؤُا أي لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ أي ما هذا الذكر الدائم له؟ فهو استفهام استنكاري، و إنما حذف حرف النفي، و هو «لا» من «تفتؤ» لعدم

الالتباس بالإثبات، فإن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات، كان على النفي، كما أنه إذا كان مع النفي كان للإثبات، قال سبحانه: (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) «2» و (لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) «3» إلى غير ذلك، و لكن إنما ذلك حيث الأمن من اللبس، حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا من الهم مشرفا على الهلاك، يقال رجل حرض و حارض، أي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 242.

(2) البلد: 2.

(3) القيامة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 33

[سورة يوسف (12): الآيات 86 الى 87]

قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)

مشرف على الهلاك، و هو مصدر يأتي للمفرد، و الجمع بلفظ واحد أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ فتموت و تنفى و تذهب عن الحياة.

[87] قالَ يعقوب عليه السّلام في جوابهم ما يستفاد منه أنني لست أشكوا إليكم و لا أمل منكم حتى يوذيكم شكواي أو يرهقكم أملي، بل إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي أي همي و مصيبتي، فإن البث هو الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه، فيضطر إلى نشره و إفشائه وَ حُزْنِي و كان الحزن هنا ما يقابل البث و هو الكامن في النفس، فالمعنى أشكوا الحزن الظاهر و الخفي إِلَى اللَّهِ و معنى الشكاية إظهار الألم و طلب رفعه وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ أي أعلم أشياء غائبة عن الحواس، من حفظ يوسف ورده إلي سالما، و جزيل الأجر في الصبر- و ما أشبه- ما لا تَعْلَمُونَ أيها الأبناء.

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أن

اللّه أوحى إلى يعقوب: لو أمتهما- أي يوسف و بنيامين- لأحييتهما لك حتى أجمع بينك و بينهما،

و روي عن الباقر عليه السّلام أن يعقوب دعا اللّه سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت، فأجابه فقال: ما حاجتك؟ قال: أخبرني هل مرّ بك روح يوسف في الأرواح، فقال: لا، فعلم أنه حيّ «1»

[88] ثم توجه يعقوب إلى أولاده قائلا يا بَنِيَ جمع ابن مضافا إلى ياء المتكلم- كما تقدم- اذْهَبُوا إلى أرض مصر، أو المراد اضربوا في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 87 ص 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 34

الأرض هنا و هناك فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ بنيامين، و التحسس هو طلب الشي ء بالحواس، مقابل التنبؤ الذي هو طلب الشي ء بالظن و الخبر، و إنما لم يذكر «يهودا» لأنه كان في مصر بإرادة نفسه، فلم يكن غيابه مهما، أما يوسف فقد احتاج أمره إلى التحسس، لأن يجده الأولاد، و بنيامين كان أمره محتاجا إلى التحسس ليرى هل يمكن إطلاق سراحه عند الملك أم لا؟.

روى عن الإمام الصادق عليه السّلام أن أعرابيا اشترى من يوسف طعاما، فقال له: إذا مررت بوادي كذا، فناد يا يعقوب، فإنه يخرج إليك شيخ، فقل له: إني رأيت رجلا بمصر يقرؤك السّلام، و يقول:

إن وديعتك عند اللّه محفوظة، لن تضيع، فلما بلّغه الأعرابي، خرّ يعقوب مغشيا عليه،

إلى آخر الحديث، فقد علم يعقوب من الشواهد و الأدلة، أن يوسف حي مرزوق، و لذا أمر أولاده بطلبه، و في المجمع، قيل أنهم لما أخبروه بسيرة الملك، قال لعله يوسف، فلذلك قال يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه، أي استخبروا من شأنهما، و اطلبوا خبرهما، و انظروا أن ملك مصر ما اسمه

و على أي دين هو؟ فإنه ألقي في روعي، أن الذي حبس بنيامين هو يوسف وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي لا تقنطوا من رحمته، و لعل الإتيان بلفظ الروح، لأجل أن المهموم المكظوم المحتبس النفس، يحتاج إلى روح و نسيم ليروح عنه و يخفف و طي الأنفاس المحترقة الموجبة لخنقه، و احتباس نفسه إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ و رحمته إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ باللّه، و بفضله، أما المؤمن فإنه يرجو من اللّه الفرج من الشدة و الخلاص من الكربة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 35

[سورة يوسف (12): آية 88]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)

[89] و لمرة ثالثة تجهز الأخوة للرحيل إلى ملك مصر لتحصيل الطعام، و في هذه المرة كانوا في شدة، فقد أضرت بهم المجاعة، و بضاعتهم التي جاءوا بها ثمنا للطعام رديئة، و قد أخذ منهم كلام الأب الشيخ الكسير «تحسسوا من يوسف و أخيه» مأخذا عظيما، و ساروا حتى وصلوا أرض مصر فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على الملك قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ أي أصابنا و من يختص بنا الجوع و الحاجة و الضرر من شدة القحط و المجاعة وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ و قد كانت بضاعتهم مقلا رديئا- كما هو العادة في أيام القحط أن النباتات تردأ لقلة المطر- و قد كانت أراضيهم تنبت المقل و هو قسم من صمغ الشجر و «مزجاة» اسم مفعول للمؤنث، من باب الأفعال على وزن «مكرمة» من أزجى يزجي، و الإزجاء في اللغة السوق و الدفع قليلا قليلا، فالمعنى

بضاعة دفعت إلينا قليلة قليلة، فإن الشجر يعطي هذا الصمغ في أيام الخصب كثيرا وافرا، و في أيام الجدب قليلا يسيرا، أو المراد أن البضاعة دفعت إلينا، و حصلناها قليلة قليلة، فلا نتمكن إلا منها، و لم تدفع البضاعة إلينا كثيرة وافية، حتى نتمكن من الوافي الكافي، لنعطيها ثمنا للطعام فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أعطنا الكيل وافيا- تفضلا- لا أن تعطينا بمقدار بضاعتنا، قليلا منقوصا وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا من الصدقة، أي اجعل ما تعطيه صدقة، لا في مقابل بضاعتنا، فإنها لا تفي بالكيل الوافي، أو المراد تصدق علينا، و تفضل برد أخينا بنيامين إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 36

[سورة يوسف (12): الآيات 89 الى 90]

قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)

أي يثبتهم على صدقاتهم.

[90] و إذ بلغ الأمر بالأخوة هذا المبلغ يسترحمون و هم في انكسار و ضيق، لم يبق مجال لبقاء يوسف- في صورة العزيز الملك- و قد شاء الله سبحانه أن ينهي الامتحان و يرفع الشدة، و لذا قالَ يوسف عليه السّلام لهم هَلْ عَلِمْتُمْ أيها الأخوة ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ من إلقائه في البئر بعد ما أردتم قتله، ثم بيعه بدراهم معدودة وَ ب أَخِيهِ بنيامين، فقد كنتم تذلونه و تنظرون إليه بالازدراء و الإهانة، كما هو العادة في أولاد الضرة، و خصوصا إذا كان ولد الضرة قريبا إلى قلب الأب إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ و لعل هذه الكلمة كانت معذرة من قبلهم يعني إنما فعلتم ذلك

في زمان لم يكمل رشدكم، و قد كان هذا مصداقا لقوله سبحانه- كما سبق- «لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا»،

و عن الصادق عليه السّلام أن كل ذنب عمله العبد، و إن كان عالما، فهو جاهل حين خاطر بنفسه معصية ربه

«1»، أقول: و قد كان ذلك تلقينا لهم بأن يعتذروا به، و أن ذلك حقيقة و ليس بمجاز لأن للجهل مراتب فقد يجهل الإنسان أصل الموضوع، و قد يجهل مزاياه و مراتبه، فهل ترى أن من الممكن أن ينام إنسان وعده ملك بإعطاء قصر له، إذا هو قام في ليلة واحدة؟ أو من المعقول أن يقترف عملا، إذا أوعده بأنه إن عمله ضربه ألف سوط؟

كلا؟ لكنه ينام و يقترف مع أن وعد الله و إيعاده حق، لا ريب له، و كلاهما أرفع منزلة من وعد الملك و إيعاده.

[91] و تبين الأخوة في نبرات الملك صوت يوسف، فإن الإنسان مهما طال

______________________________

(1) القصص للجزائري: ص 168.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 37

[سورة يوسف (12): آية 91]

قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91)

الزمان، و تغير مظاهر الاخوان، و نسي أشياء يبقى في خاطره بعض المزايا، إنهم لم يكونوا ليعرفوا بعد سنوات، حيث كان في زي الملك و لم يدر في خلدهم أن ذلك الغلام الصغير المهين يصبح ملكا بهذا الشكل الراقي، و لذا قالُوا في استفهام و تعجب أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ هل أنت أيها الملك ذلك الأخ الذي تركناه في أيدي القافلة عبدا بعد سنوات قالَ الملك أَنَا يُوسُفُ أخوكم وَ هذا بنيامين أَخِي من أبي و أمي، و إنما قال ذلك مع إنهم كانوا يعرفونه، تعريفا لنفسه و تأكيدا لنفسه، أنه هو هو، كما

إذا سألك سائل، هل أنت ذهبت إلى مكة، تقول أنا ذهبت و أنت ذهبت في السنة التي ذهبت، أو لعله، إنما ذكره ليفخم من شأنه، و إنه أصبح أخا للملك بعد ما كان مهينا لديكم قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالسلامة و الكرامة إِنَّهُ الضمير للشأن مَنْ يَتَّقِ الله فيمتثل أوامره و يجتنب عن نواهيه وَ يَصْبِرْ على البلية و الطاعة، بأن لا يظهر الجزع من المصيبة و لا يتكاسل عن الطاعة فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل يتفضل عليهم بالأجر، و قد صبرت و اتقيت فجزاني الله ذلك.

[92] و هنا تملأ نفوس الإخوة مكانة يوسف، التي لم يكونوا يقصدونها، كما تتجلى في نفوسهم الخطيئة التي اقترفوها بالنسبة إليه، فيتقدموا إليه، مهنئين معتذرين قالُوا تَاللَّهِ التاء للقسم، و لها لطف ليس للواو، و كثيرا ما تأتي في مقام الاستغراب، أو فيما كان هناك نكتة أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 38

[سورة يوسف (12): آية 92]

قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)

مزية لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي اختارك علينا، أولا بحسب الأب، و ثانيا بالملك- مع مالك من حسن الصورة و لطف السيرة، و نقاء السريرة- وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ «إن» مخففة من الثقيلة، أي إنا كنا خاطئين مذنبين في ما فعلنا بك من الحسد و الإلقاء في البئر،

و قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنهم قالوا له: فلا تفضحنا و لا تعاقبنا اليوم، و اغفر لنا. «1»

[93] قالَ يوسف عليه السّلام في جوابهم لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لا عيب و لا تأنيب و لا تقريع يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ دعا لهم بالغفران، أنه عليه السّلام أولا عفى عنهم بالنسبة

إلى حق نفسه، و ثانيا دعا لهم بأن يعفر الله لهم. بالنسبة إلى حقه سبحانه وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإذا رحمت أنا بكم، كان هو أولى بالرحمة و الغفران، ثم لا بأس بنقل كتاب يعقوب إلى الملك، بعد أن أخذ بنيامين، ليستعطفه،

فقد روي عن الصادق عليه السّلام أن يعقوب كتب إلى يوسف: «بسم الله الرحمن الرحيم إلى عزيز مصر و مظهر العدل و موفي الكيل من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صاحب نمرود الذي جمع له النار ليحرقه بها فجعلها الله عليه بردا و سلاما و أنجاه منها، أخبرك أيها العزيز، إنا أهل بيت لم يزل البلاء إلينا سريعا من الله ليبلونا عند السراء و الضراء، و إن

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 190. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 39

المصائب تتابعت عليّ منذ عشرين سنة، أولها إنه كان لي ابن سميته يوسف، و كان سروري من بين ولدي و قرة عيني و ثمرة فؤادي، و إن اخوته من غير أمه سألوني أن أبعثه معهم يرتع و يلعب، فبعثته معهم بكرة، فجاءوني عشيا يبكون، و جاءوا على قميصه بدم كذب، و زعموا أن الذئب أكله، فاشتد لفقده حزني، و كثّر عليّ فراقه بكائي حتى ابيضت عيناي من الحزن، و إنه كان له أخ و كنت به معجبا، و كان لي أنيسا، و كنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري، و إن إخوته ذكروا إنك سألتهم، و أمرتهم أن يأتوك به و إن لم يأتوك به منعتهم الميرة، فبعثته معهم ليتماروا لنا قمحا، فرجعوا إليّ و ليس معهم، و ذكروا أنه سرق مكيال الملك، و نحن أهل بيت لا نسرق، و قد حبسته

عني و فجعتني به و قد اشتد لفراقه حزني حتى تقوس لذلك ظهري، و عظمت فيه مصيبتي مع مصائب تتابعت عليّ، فمن عليّ بتخلية سبيله و إطلاقه من حبسك و طيّب لنا القمح، و اسمح لنا في السعر و أوف لنا الكيل، و عجل سراح آل إبراهيم» قال: فمضوا بكتابه حتى دخلوا على يوسف في دار الملك، و قالوا: يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر إلى آخر الآيات و تصدق علينا بأخينا بنيامين و هذا كتاب أبينا يعقوب أرسله إليك في أمره يسألك تخلية سبيله، فمنّ به علينا، فأخذ يوسف كتاب يعقوب و قبله و وضعه على عينيه و بكى و انتحب «و الانتحاب أشد البكاء» حتى بلت دموعه القميص الذي عليه ثم أقبل عليهم، و قال:

علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه من قبل؟. «1»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 312.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 40

[سورة يوسف (12): الآيات 93 الى 94]

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)

[94] ثم أعطى يوسف عليه السّلام قميصه- و هو قميص إبراهيم عليه السّلام الذي جاء به جبرئيل من الجنة ليلبسه فيقيه حر النار و حين أراد نمرود أن يلقيه فيها، و قد كان تميمة في عضد يوسف عليه السّلام- إلى إخوته، و قال لهم اذْهَبُوا أيها الإخوة بِقَمِيصِي هذا إلى بلدنا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي و قد عرف من الغيب أنه إذا ألقي على وجهه يَأْتِ بَصِيراً ترتد عينه كما كانت، بأن يتبدل بياضها بالسواد، و تجلوا كما كانت، و لعل التعبير ب «يأت»

لأجل إفادة الأمرين «الارتداد بصيرا» و «الإتيان إلى يوسف» وَ أْتُونِي أي تعالوا إليّ أيها الإخوة بِأَهْلِكُمْ أي مع أهلكم أَجْمَعِينَ فلا يبقى أحد منكم في تلك المدينة، و قد أراد يوسف عليه السّلام أن يجعل لأبيه الفرح، و الفرج و البشارة قبل أن يتلاقى معه، و في بعض التفاسير إن يوسف قال لهم إنما يذهب بقميصي من ذهب به أولا، فقال يهودا: أنا ذهبت به و هو ملطخ بالدم، فأخبرته أنه أكله الذئب، قال: فاذهب به أنت أيضا فأفرحه كما أحزنته.

[95] وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي لما خرجت القافلة من مصر، و انفصلت من المدينة نحو الشام محل يعقوب قالَ أَبُوهُمْ يعقوب لمن كان عنده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ و قد شاء الله ذلك، و كانت المسافة ثمانين فرسخا- كما ورد- و هل المراد بالريح العطر، أو المراد استشعار ذلك- فإن اللفظ يطلق عليهما- احتمالان لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ الفند ضعف الرأي و العقل على إن لم تنسبوني إلى الفند، و جواب لو لا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 41

[سورة يوسف (12): الآيات 95 الى 97]

قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)

محذوف، أي لصدقتموني.

[96] لكنهم لم ينفع معهم كلام يعقوب، و رجائه أن لا يفندوا لرأيه، بل قالُوا أي من حضر ممن كان في طرف خطابه عليه السّلام تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ أي اشتباهك و انحرافك عن الصواب في أمر يوسف الْقَدِيمِ فقد كنت من السابق تظن أنه لم يمت، و الحال

أنه قد مات، و ذهب و أكله الذئب، فلم يقل يعقوب شيئا حتى جاء يهودا، ولده الأكبر الذي كان معه القميص.

[97] فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ المبشر بيوسف أَلْقاهُ أي ألقى قميص يوسف عليه السّلام عَلى وَجْهِهِ وجه يعقوب فَارْتَدَّ أي رجع كما كان بَصِيراً تقدم أنه من المحتمل إرادة ارتداد قوة نور البصر إليه، بعد أن ضعف لكثرة البكاء، فإن الإنسان إذا بكى كثيرا غشاه غبار يحول بينه و بين حدة الإبصار ف قالَ يعقوب عليه السّلام لمن فند قوله «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ أيها المفندون إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ أي من طرفه سبحانه و بإلهامه إليّ ما لا تَعْلَمُونَ إذ قد و عدني بإرجاع يوسف إليّ.

[98] و جاءوا إلى أبيهم يعقوب ليغفر لهم ذنبهم الذي اقترفوه و سببوا له تلك الأحزان و اللواعج، لكنهم لا يريدون أن يغفر لهم هو وحده، بل يطلبون فوق ذلك أن يطلب من الله غفران ذنبهم، فإن ذنبهم كان مزدوجا أمام الله، و أمام أبيهم- بعد ما كان ذنبا بالنسبة إلى أخيهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 42

[سورة يوسف (12): الآيات 98 الى 99]

قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)

يوسف بالذات- قالُوا قالت الأخوة يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي كلفوه بالاستغفار لهم، لأنهم كانوا يعلمون باستجابة دعائه فإن دعاء الوالدين في حق الولد مستجاب، خصوصا مثل يعقوب النبي الجريح الفؤاد إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ في ما ارتكبناه من العمل.

[99] قالَ يعقوب عليه السّلام في جوابهم سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي طلب غفرانه لكم، ورد في الأحاديث

أنه إنما أخر الاستغفار بغية أن يستغفر لهم وقت السحر، لأنه أقرب إلى الإجابة، إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْغَفُورُ الذي يغفر الذنب و يمحيه الرَّحِيمُ الذي يرحم عباده و يتفصل عليهم،

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه سئل عن أولاد يعقوب قال: ما كان أولاد يعقوب أنبياء، و لكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا يفارقوا الدنيا إلا سعداء تابوا و تذكروا ما صنعوا «1».

[100] و لما أن بشّر يعقوب و أهله بأن ولدهم يوسف أصبح ملك مصر، بيده الأمر و النهي، و إنه أرسل إليهم، تجهزوا للرحيل بكل سرعة، و جاءت القافلة و ملؤها الفرح يحدوها السرور و الرغبة حتى وصلت أرض مصر فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى أي ضمّ، من الإيواء بمعنى إعطاء المحل و المكان إِلَيْهِ أي إلى نفسه أَبَوَيْهِ يعقوب و راحيل، و قد كان لقائهم خارج المدينة، فقد استقبلهم يوسف عليه السّلام،

______________________________

(1) راجع القصص للراوندي: ص 129.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 43

[سورة يوسف (12): آية 100]

وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

و هناك تلاقى معهم و رحب بهم، و ضم الأبوين إلى نفسه- و لعله بالمعانقة و التقبيل و ما أشبه- كما هو المعتاد عند لقاء الأحبة، و بالأخص العائلة وَ قالَ لهم يوسف ادْخُلُوا مدينة مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ بمشيئته و إرادته آمِنِينَ في حال كونكم في أمن و أمان.

[101] وَ

رَفَعَ يوسف أَبَوَيْهِ يعقوب و راحيل عَلَى الْعَرْشِ أي سرير المملكة إعظاما لهما، و قد كان لا يجلس على السرير إلا الملك وَ خَرُّوا أهل يوسف لَهُ ليوسف سُجَّداً جمع ساجد، كما أن ركّع، جمع راكع، احتمل بعض العلماء أن السجود لغير الله سبحانه- بإذنه تعالى- كان جائزا في الأمم السابقة، كما سجدت الملائكة لآدم، و سجد أهل يوسف ليوسف، حسب ما يظهر من القرآن الكريم، و كم من حكم كان في الأمم السابقة جائزا و لم يجز في هذه الأمة- و ذلك ليس خلافا للعقل، فإنه كما يجوّز العقل التعظيم دون الركوع و السجود، يجوز التعظيم إلى حدهما، أقول: لكن في المقام نص خاص دل على السجود لم يكن لآدم و ليوسف، و إنما لله سبحانه، و كأنهما عليه السّلام كانا محل التوجه كما نسجد نحو الكعبة لله سبحانه، و في ذلك تعظيم ضمني لمن يسجد نحوه،

فقد سئل يحيى ابن أكتم موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضهما على أبي الحسن علي بن محمد عليه السّلام، فكان إحداها أن قال: أخبرني أسجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن عليه السّلام: أما سجود يعقوب و ولده فإنه لم يكن ليوسف، و إنما كان ذلك منهم طاعة لله و تحية ليوسف، كما أن السجود من الملائكة لآدم عليه السّلام، كان منهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 44

طاعة لله و تحية لآدم، فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا لله تعالى

«1»، لاجتماع شملهم، ألم تر أنه يقول في شكره في ذلك الوقت: رب قد آتيتني من الملك وَ قالَ يوسف عليه السّلام يا أَبَتِ التاء عوض ياء المتكلم،

قال ابن مالك:

و في الندا أبت عرض قبل النداء و من اليا التا عوض

هذا الذي تراه من سجودكم لي تَأْوِيلُ رُءْيايَ التي رأيتها و أنا عندكم، و إن الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا سجدوا لي مِنْ قَبْلُ في زمان صغري قَدْ جَعَلَها أي جعل الرؤيا رَبِّي حَقًّا أي صدقا مطابقا للواقع، و آلت رؤياي إلى هذه النتيجة حيث صرت ملكا، و سجد لي أبواي و إخواني الأحد عشر، وَ قَدْ أَحْسَنَ ربي بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ الذي ابتليت به سبع سنوات وَ إذ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي من البادية «ليجمع شملنا» فقد كانوا يسكنون البادية، و يرعون أغنامهم فيها، و في سنة القحط قد هلكت أغنامهم، و أحوجهم العوز إلى السفر إلى مصر، حتى تم هذا اللقاء، و لعله لم يذكر نعمة الله عليه في إخراجه من الجب، لئلا يذكّر الأب بصنيع الأخوة به، كرما منه و إحسانا، فإن من الأخلاق أن ينسى الإنسان إساءة الغير إليه،

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 356.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 45

[سورة يوسف (12): آية 101]

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

و إحسانه إلى الغير مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ أي أفسد بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي و كان الإفساد بإلقاء الحسد على قلب الأخوة، حتى صنعوا ما صنعوا إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ في تدبير عباده لِما يَشاءُ من الأمور و معنى اللطيف أنه يفعل الأشياء الدقيقة النافعة، مما لا يتمكن الإنسان عليها إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْعَلِيمُ بالمصالح الْحَكِيمُ فيما يفعل، و الحكمة هي وضع الأشياء مواضعها.

روي

أن يعقوب سأل يوسف عن ماذا صنع الأخوة به؟ فقال يوسف: يا أبة لا تسألني عن صنيع إخوتي بي، و سل عن صنع الله بي.

[102] ثم يتوجه يوسف إلى الله سبحانه، يشكره ما أنعم عليه، و يعدد لطفه به، و يسأله حسن الخاتمة، قائلا يا رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي بعض ملك الدنيا و سلطانها وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تفسير المنامات، بما تؤول إليه، أنت ربي فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقها و مبدعها، فلك الخلق و منك الأمر و الفضل أَنْتَ دون سواك وَلِيِّي الذي يتولى كل شؤوني، كما تولى خلق السماوات و الأرض فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تتولى في الدنيا إصلاح حالي، و في الآخرة سعادتي و نجاتي تَوَفَّنِي يا رب، أي خذ روحي- وقت موتي- مُسْلِماً لك في جميع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 46

[سورة يوسف (12): آية 102]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (102)

الأمور وَ أَلْحِقْنِي إذا توفيتني بِالصَّالِحِينَ الذين هم الأنبياء و الأئمة و الشهداء، و من في زمرتهم، و هنا تنتهي قصة يوسف عليه السّلام، و قد كان فيها من العبر و العظات الشي ء الكثير، و هي من أبلغ الدروس لمن أراد أن يسلك سبل الحياة بكل طهارة و نظافة، ففيها التنبيه على الطهارة و عاقبتها، و اللوث و عاقبته، و في الأحاديث، أن يعقوب عليه السّلام مات- بعد لقاء طويل، و ربما بلغت السنوات- و دفنه يوسف عليه السّلام في بيت المقدس، ثم مات بعد زمان يوسف عليه السّلام، و دفن في شاطئ النيل في صندوق مرمر، حتى حمله موسى عليه السّلام، و جاء به إلى

الشام. «1» [103] ثم عاد سبحانه بعد تمام القصة، ليذكر ما ابتدأ به، حيث قال سبحانه في أول السورة «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ، وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ذلِكَ الذي قصصنا عليك من تفاصيل قصة يوسف مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي الأخبار الغائبة عن الحواس نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا رسول اللّه، فإن نشأة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تكن بحيث يتطلع على هذه القصة بهذه التفاصيل حسب البيئة و الاجتماع، لو لا إخبار الله سبحانه له وَ ما كُنْتَ يا رسول الله لَدَيْهِمْ أي حاضرا عند أولئك الذين كانوا أطراف القصة من أولاد يعقوب و زليخا و النسوة إِذْ أَجْمَعُوا إخوة يوسف أَمْرَهُمْ أي عزموا على أن يكيدوا يوسف، وَ هُمْ يَمْكُرُونَ يمكر بعضهم لإلقائه في الجب،

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 459.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 47

[سورة يوسف (12): الآيات 103 الى 105]

وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105)

و بيعه في العير، و بعضهم لسوقه نحو الخطيئة، و إلقائه في السجن، إن كل ذلك أنا أخبرته بالوحي، و إلا فكيف يمكن التحصيل عليها بدون أن يكون المخبر حاضرا، و بدون أن يكون مجتمعة هو الذي أخبره به؟

و لكن الكفار يمعنون في التكذيب، فلا تنفع معهم هذه القصص الغيبية لإثبات الرسالة، و صدقك يا رسول الله.

[104] فإنه وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ على هدايتهم بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين لك في دعائهم إلى الإيمان،

و لو أقمت لهم الأدلة و الشواهد.

[105] وَ الحال إنك ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي الإيمان و الاهتداء بك مِنْ أَجْرٍ و لو قليل، فلما ذا لا يؤمنون، هل لأنه كذب؟ فقد دلّت الأدلّة و الحجج عليه، أم لأنهم يفرون من إعطاء الأجر، فإنك لا تسألهم أجرا إِنْ هُوَ أي ما هذا القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ جاء لتذكير الناس بالله و المعاد، و سائر المعارف، و وعظهم.

[106] و ليس هذا فقط ذكرا، بل هناك من الآيات الكونية كثرة هائلة، لكنهم ذاهلون عنها غافلون عن دلالتها على المبدأ و المعاد- وَ كَأَيِّنْ أي كم- و هي للتكثير هنا- مِنْ آيَةٍ دالة على الصانع فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الشمس و القمر و النجوم و السحاب، و ما إليها، و الإنسان و الحيوان و النبات، و سائر الموجودات يَمُرُّونَ عَلَيْها يشاهدونها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 48

[سورة يوسف (12): آية 106]

وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (106)

و يبصرونها وَ هُمْ عَنْها أي عن تلك الآيات مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيها، و لا يعيرونها الاهتمام، حتى تدلهم على خالقها و مبدعها.

[107] حتى أن المؤمنين لا يتخلصون عن الشرك كثيرا ما وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر المؤمنين منهم- و ذلك يعرف من السياق- بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ فإن كثيرا من المؤمنين يجعلون غير الله مؤثرا في الأشياء، و هنا هو الشرك، إذ لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه، و ما سواه أسباب جعلها تعالى، و قد وقع الناس- كثيرا- بين الإفراط و التفريط، فمن مفرط ظن أن الاستعانة بالطبيب و المهندس و القاضي و ما أشبه شرك، حتى أنهم منعوا أن يقول الناس «يا محمد»

«يا علي» و من مفرّط ظن أن الطبيب هو الشافي الحقيقي و المعطي له ما ليس هو الرزاق الحقيقي، و كلاهما باطل، فإن الإنسان إذا قال «يا محمد» و علم أن محمدا، إنما يفعل بأمر الله سبحانه، كان ذلك من محض الإيمان، كما أنه إذا ظن أن مثل هذه الاستعانة غير جائزة فهو جبري فاسد العقيدة، أو ظن أن محمدا هو المستقل بالأمر، بدون أن يكون لله مدخل أصلا فهو مفوّض منحرف الإيمان،

قال الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير الآية- كما روي عنه-: هل الرجل يقول لو لا فلان لهلكت، و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا، و لو لا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكا في ملكه، يرزقه و يدفع عنه؟ قيل، فيقول: لو لا أن منّ الله عليّ بفلان لهلكت؟ قال: نعم لا بأس بهذا

«1»، أقول: و إنما

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 200.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 49

[سورة يوسف (12): الآيات 107 الى 108]

أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللَّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)

ذكر الإمام ذلك من باب المثال، و إلا فهذا الاعتقاد كاف لمن يقول «لو لا فلان لهلكت»

و قد روي أن بعض الأئمة عليهم السّلام بعد ما تناول الطعام، قال: اللهم هذا منك و من رسولك فقال رجل منحرف- معترضا على الإمام- لقد أشركت، فقرأ له الإمام هذه الآية (وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) «1» و هذه الآية (وَ لَوْ أَنَّهُمْ

رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ) «2» فقال الرجل: كأني لم أمرّ بهذه الآية.

[108] ثم هدّد سبحانه المشركين بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة، أَ فَأَمِنُوا أي هل أمن هؤلاء الكفار أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ عقوبة تغشاهم و تحيط بهم مِنْ عَذابِ اللَّهِ كالفقر و المرض و الفوضى أو الآفات السماوية كالصاعقة أو الأرضية كالهدّة و الخسف و الزلزلة أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي يوم القيامة أو الموت، لأنه إذا مات ابن آدم، فقد قامت قيامته، و القبر إما حفرة من حفر النيران، أو روضة من رياض الجنة بَغْتَةً بدون سابق إنذار ليأخذوا حذرهم من التوبة و الإنابة و الإيمان الصادق الذي لا يشوبه شرك و لو الخفي منه وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجي ء العذاب أو الساعة.

[109] و إذ انحرف أكثر الناس كفرا، و كثرة من المؤمنين شركا خفيا، فالرسول لا يهمه كل ذلك، بل هو جاد في طريقه، يسير نحو هدفه،

______________________________

(1) التوبة: 74.

(2) التوبة: 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 50

[سورة يوسف (12): آية 109] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 99

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ (109)

بلا كلل و لا ملل قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء هذِهِ الطريقة التي ترونها في أقوالي، و أفعالي سَبِيلِي طريقي في الحياة لا أحيد عنها أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ من أمري فلست مقلدا و لا مغفلا و لا غافلا أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي أدعوكم أنا، و يدعوكم من آمن بي وَ

سُبْحانَ اللَّهِ أي تنزيها له عن النقائص، فليس كالالهة الحجرية و الخشبية و المعدنية جاهلة لا تملك شيئا وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يشركون باللّه شركا خفيا أو جليا، فمن شاء فليتبع طريقي و من لم يشأ، فهو و ما اختار، [110] ثم يلفت اللّه الكفار إلى حقيقة الرسالة و أحوال الغابرين، الذين تركوا اتباع الرسل، ليهزهم نحو الاتباع، و يعظهم بما قد علموه من أحوال الماضين، لعلهم يرتدعون عن غيهم وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه إِلَّا رِجالًا من المرسلين كآدم و نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و غيرهم، نُوحِي إِلَيْهِمْ نلقي إليهم أوامرنا و إرشاداتنا مِنْ أَهْلِ الْقُرى فلم يكونوا ملائكة و لا جنّة و لا نساء، و إنما رجال من أهل البلاد، لا من أهل البادية، ليكونوا ألطف معاشرة، و أكرم أخلاقا، و أحسن عشرة لغلبة الجفاء و الخشونة على أهل البادية، أو لأنه لو بعث في البادية من أهلها، كان أهل المدن أبعد من الإيمان، أو لأن البدوي لقلة علومه يتمكن أن يدعي النبوة له كل من كان منه أدق فطنة، بخلاف أهل المدن، فإنهم مستوعبون للعلوم، فلا يتمكن أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 51

[سورة يوسف (12): آية 110]

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)

يغشّهم فطن خال عن الاتصال بالسماء أَ فَلَمْ يَسِيرُوا أي هؤلاء الكفار فِي الْأَرْضِ ليطلعوا على أحوال الماضين، كيف أهلكوا لما خالفوا الرسل، فإن العلم بأحوال الأمم المختلفة ماضيهم، و حاضرهم لا يحصل غالبا إلا بالسفر و السير فَيَنْظُرُوا أي يعلموا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ

مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبين لرسلهم، فإنهم قد أهلكوا بأنواع العذاب في الدنيا، و أما الآخرة فإن لهم جهنم لا يموتون فيها، و لا يحيون وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا معاصي اللّه سبحانه، فهم في الدنيا نعموا، و الاخرة خير لهم،

روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: لشبر من الجنة خير من الدنيا و ما فيها

«1»، أَ فَلا تَعْقِلُونَ تعملون عقولكم، لتعرفوا مصير كلّ من الكافر و المؤمن، في دنياه و آخرته؟

[111] إن الكفار دائما يغترون بما يرون من ظواهر اتباع الأنبياء في بدء الدعوة، أنهم قلة لا حول لهم و لا طول، و لكن لا يغر ذلك كفار قريش، مما يرون بالرسول من الضعف في الاتباع و القلة في الأشياع، فقد جرت عادة اللّه سبحانه أن يبدأ الإيمان بمثل ذلك، حتى يكون أقوى أساسا و أشد مراسا، و إلا فالنصر آت لا محالة و هكذا تستمر الحالة، فالرسل في ضعف من الأتباع، و الكفار في قوة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ أي يئس الرُّسُلُ من تلبية الناس و استجابتهم وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 8 ص 148.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 52

[سورة يوسف (12): آية 111]

لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

بصورة عامة، فلا مصدق لهم، فإن كذب- مخففا- يأتي بمعنى كذّب- مشددا- كما قال سبحانه (وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ) «1» و إنما جي ء ب «ظنوا» لأن الرسل رجحوا ذلك، و لم يتيقنوا، و إنما رجّحوا لأنهم رأوا عدم التلبية من الناس

مع طول المدة، و تمام الحجج البينات جاءَهُمْ أي جاء إلى الرسل نَصْرُنا بإرسال العذاب على الكفار، و تقوية أمر الرسل فَنُجِّيَ أي نخلص من العذاب مَنْ نَشاءُ و هم المؤمنون الذين اتبعوا الرسل و آمنوا بهم وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا أي عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بانحراف العقيدة و ارتكاب الآثام، و هكذا أنت يا رسول اللّه مع هؤلاء القوم، و هكذا كل داع إلى الصلاح، قائم بواجب الإرشاد، أما قتل الأنبياء عليهم السّلام- قبل ذلك- كما كان، فإنه لا ينافي ذلك، فإن المراد بالنصر نصر المبادئ التي دعوا إليها، و هو النصر حقيقة، لا العزة و الشوكة في الدنيا، و على هذا فقوله سبحانه «و ظنوا» لا يراد به الظن الظاهري، الذي هو صفة قائمة بالنفس، بل ذلك حكاية عن ظاهر الحال، يعني أن المورد يكون مورد ظنّ بأن الرسل قد كذبهم الناس، فلا مؤمن و لا مصدق.

[112] و تأتي الخاتمة، كما ابتدأت به السورة، فهناك «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» و هنا لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي قصص

______________________________

(1) التوبة: 90.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 53

الأنبياء عليهم السّلام مع الأمم، و قصة يوسف- بصورة خاصة- عِبْرَةٌ أي اعتبار لمن اعتبر، و بصيرة عن الجهل لِأُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن اللب هو العقل ما كانَ الذي جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قصصهم حَدِيثاً يُفْتَرى قصة مختلقة مكذوبة وَ لكِنْ كان ما جاء به تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي تصديقا للكتب، و الوقائع التي سبقت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ كان تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ ما يحتاجه الناس في أمور دينهم و

دنياهم، و ليس المراد بالتفصيل بيان الجزئيات، بل تفصيل الخطوط العامة حول العقيدة و الأحكام و الآداب وَ هُدىً أي هداية و إرشادا للناس وَ رَحْمَةً تسبب رحم الناس و نجاتهم من كوارث الدنيا و عذاب الآخرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إنما خصهم لأنهم هم الذين ينتفعون به، و إلا فقد جاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بما جاء به للبشر عامة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 54

13 سورة الرعد مكيّة/ آياتها (44)

سميت السورة ب «الرعد» لاشتمالها على هذه الكلمة، و هي كسائر السور المكية على ما قال بعض المفسرون- تعالج شؤون التوحيد و البعث و ما إليهما.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء بذكر اسم اللّه عز و جل، للدلالة على تمام السورة السابقة، و الشروع في سورة جديدة، و أيّ شي ء أفضل من اسم اللّه حتى يبتدأ به؟ و ذكر «الاسم» لأن اللّه لا يبتدأ به، و إنما يبدأ باسمه، أنه اللّه الرحمن الرحيم، الذي أظهر صفاته الرحم و التفضل، لا الانتقام و العقاب، و القوة و العذاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 55

[سورة الرعد (13): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)

[2] المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ من جنس «الف، لام، ميم، راء» آيات القرآن الحكيم، فإن الآيات مركبة من هذه الحروف التي يتلفظ بها كل الناس، و لكنهم هيهات أن يتمكن أفراد البشر أن يأتوا بحيوان واحد يركبونه

من الأجزاء المذكورة فيصير حيوانا، و على هذا ف «المر» مبتدأ، و تلك آيات الكتاب، خبره، و اسم الإشارة «تلك» إشارة إلى هذه الحروف و ما أشبهها، أو أن «المر» رمز بين اللّه و بين الرسول، أو غير ذلك من الأقوال البالغة أربعة عشر قولا، في فواتح السور، و على هذا ف «تلك» مبتدأ، خبره «آيات الكتاب» أي أن هذه التي بين يديك، أيها القارئ هي آيات الكتاب، و إنما جي ء بلفظ البعيد، إشارة إلى بعد الآيات مقاما، و علوها شأنا، عن قرب الناس، كما تقول: ذلك الفقيه يقول، و ليس بينك و بينه فاصل، و إنما تأتي «بذلك» إشارة إلى رفعة الفقيه منزلة، حتى كأنه بعيد عنك، لا تناله أنت- كما ذكروا في علم البلاغة- وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي القرآن الذي أنزل مِنْ رَبِّكَ هو إليك الْحَقُ «خبر» لقوله و «الذي» فإنه مطابق للواقع لا انحراف فيه و لا زيغ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون، مع أنهم يرون أن القرآن حق.

[3] ثم يبدأ سبحانه بإله الكون، و أنه هو الذي جعل الكون بما فيها من الآيات المدهشة، ثم يأتي دور التعجب من الذين ينكرون البعث اللَّهُ هو الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ أي جعلها رفيعة، و أيّا كانت السماوات، سواء هي المدارات، أم أجسام ضخام، أم المراد جهة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 56

العلو و طبقات الجو، فهي شي ء رفيع يعرفه كل أحد، فمن رفعها و جعلها، أ ليس اللّه سبحانه؟ بِغَيْرِ عَمَدٍ جمع عماد، و هي الدعائم، و هذا أغرب، فقد نرى أن كل شي ء رفيع لا بد له من عماد يستند إليه، فكيف رفعت السماوات بغير عماد، تَرَوْنَها ظاهرة

لكم، فإن كل ناظر يرى السماوات- بأي معنى كان-، ثم أن هناك قولين: الأول أن «ترونها» جملة منفصلة. و على هذا يكون المعنى لا عمد للسماوات، الثاني أن «ترونها» صفة ل «عمد» أي لا عمد مرئية لها، و المفهوم منه أن لها عمد غير مرئية، و على هذا فالمعنى أن للسماوات عمد، و لا تنافي بين القولين، فإن السماوات لا عماد لها خارجا، و لها عماد- من قدرة اللّه سبحانه- لا يرى ذلك العماد ثُمَ بعد رفع السماوات بغير عمد اسْتَوى اللّه سبحانه، أي استولى و سيطر عَلَى الْعَرْشِ أي على كرسي الملك، و ذلك شي ء مهول لا يرى، كما أن السماوات شي ء عظيم يرى، يعني أنه سبحانه بعد ما خلق السماوات، استولى على أزمة الأمور، يقال: استوى الملك على عرش المملكة، يراد أنه أخذ بيده أزمة الحكم و سيطر و تسلط عليه لا يزحزحه مزحزح لا أنه جلس على كرسي خارجي- فهو معنى كنائي- و على هذا فالإتيان ب «ثم» مع أنه سبحانه لم يزل كذلك، من باب أنه سبحانه بعد إيجاد الكون سيطر عليه، أما قبله، فلا سيطرة من باب السالبة بانتفاء الموضوع- و هذا الذي ذكرناه في تفسير «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أحد المعاني المحتملة في الآية- وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ذلّلهما لمنافع خلقه، و جعلهما يطيعانه، كما يريد كُلٌ من الشمس و القمر يَجْرِي و يسير في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 57

[سورة الرعد (13): آية 3]

وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)

دؤوب و استمرار لِأَجَلٍ أي

وقت مُسَمًّى سمي عنده سبحانه، فوقت وقوفها عن الحركة، و انتهاء أمر سيرهما، معلوم عنده سبحانه مسمّى في لوحه المحفوظ، و إنما أتى باللام، و لم يقل «إلى أجل» لإفادة أن السير إنما هو لإدراك تلك الغاية، فكأنهما يسيران ليأتيا بيوم القيامة، حيث الشمس تكور، و النجوم تنكدر و القمر ينخسف .. أنه سبحانه خلق هذه الأشياء و هو يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فيها و في غيرها على وجه الصلاح و الحكمة، فمنه الخلق و منه الأمر، مقابل السلاطين الذين لهم الأمر فقط- في الجملة- فهو تعالى هو الخالق المطلق، و الآمر المطلق و هو سبحانه يُفَصِّلُ الْآياتِ بينهما تفصيلا آية فآية، لأجل الإرشاد، فهو الخالق الآمر المرشد، و إنما يفصل الآيات لَعَلَّكُمْ أيها البشر بِلِقاءِ رَبِّكُمْ عند الجزاء و الحساب، و المراد لقاء موعده، لا لقاء ذاته فإنه منزه من أن يرى تُوقِنُونَ فلا تنكرون البعث و النشور و الكتاب و الحساب.

[4] و إذ صورت الآية السابقة خلق السماوات، فلننظر إلى خلق الأرض وَ هُوَ سبحانه الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي بسطها طولا و عرضا، لتصلح مكانا للإنسان و الحيوان، و محلا للنبات و الأشجار، و لفظة «مدّ» أكثر دلالة على القدرة من لفظ «خلق» لأن «مدّ» يشمل الخلق و أكثر وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جمع راسية، و هي الجبل، لأنها ترسو في الأرض، كما ترسو السفينة في الماء، و حكمة خلق الجبال أنها تمسك الأرض عن التفتت و الاضطراب، كما أن المسامير تمسك المصنوعات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 58

[سورة الرعد (13): آية 4]

وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ

بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

الخشبية عن التفتت و التفرق وَ شق فيها أَنْهاراً لتجري فيها المياه، و لولاها لضاعت المياه، و لم يمكن الاستفادة الصحيحة منها وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها أي في الأرض زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر و أنثى، فإن «زوج» يطلق على كل فرد من فردي «الزوجين» و لذا جي ء له التأكيد ب «اثنين» حتى لا يتوهم أنه تثنية «زوج» الذي يراد به «اثنان» و قد ثبت في العلم، أن كل صنف من أصناف النباتات يشتمل على ذكر و أنثى- و هذه إحدى معاجز القرآن الكثيرة-، و في الأرض يُغْشِي أي يستر اللَّيْلَ النَّهارَ بقدرته، و الليل و النهار مفعولان ل «يغشي»، و فاعله الضمير العائد إليه تعالى، أي يأتي سبحانه بالليل ليستر النهار، فكأنه ساتر له عن الأبصار، و هذا من باب التشبيه، و إلا فالنهار يذهب إذا جاء الليل، و إنما لم يعكس، كأن يقول «يذهب الليل بالنهار» لأن الليل فيه الراحة و الهدوء، و لأنه الأصل، إذ الظلمة سابقة على الضياء- فقد قالوا أن بينهما تقابل العدم و الملكة- إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من السماء و الأرض، و الشمس و القمر، و الجبال و الأنهار، و الزوج و الزوج من النبات، و الليل و النهار- من الأمور البديعة المتقابلة- لَآياتٍ دلالات واضحات، و حجج ظاهرة على وجود اللّه سبحانه و علمه و قدرته، و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في هذه الموجودات، فيدركون، أن لها صانعا قديرا عليما.

[5] ثم ننظر إلى تفاصيل أدق من تلك الخطوط العريضة في الأرض، لنرى آثار القدرة في الجزئيات، كما رأيناها في الكليات وَ فِي الْأَرْضِ

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 3، ص: 59

قِطَعٌ جمع قطع مُتَجاوِراتٌ فهي مختلفة مع أنها متجاورة بعضها في جوار بعض، فمن فصّلها مع جوار بعضها البعض؟ جبل و وهدة صلبة و رخوة، طيبة و سبخة، رفيعة و منخفضة، إلى غير ذلك وَ جَنَّاتٌ أي بساتين، جمع جنة، و إنما سمي البستان بها، لأن الأشجار تجني الأرض و تسترها مِنْ أَعْنابٍ تتسلق على الجدران و الأخشاب، و ما أشبههما وَ زَرْعٌ من بقول و أزهار يرتفع قليلا وَ نَخِيلٌ يرتفع في الجو، بلا استناد على شي ء، و لا تخرج النباتات عن هذه الأمثال الثلاثة، أما رفيعة- كالنخل- أو لا- كالزرع- و إما مستقلة، أو غير مستقلة- كالعنب- صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ جمع صنو و هو المثل، أي بعض هذه الأشياء متشابهة، فنخل يشبه نخلا، و زرع يشبه زرعا، و عنب يماثل عنبا، و بعضها غير متشابهة، فنخل يعطي البربن، و آخر يعطي الزهدي، و عنب أبيض و عنب أسود، و زهر عطر و آخر قليل الرائحة، و هكذا، و المدهش حقا أن كل ذلك يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ و ينبت في أرض واحدة، و الضياء و التربية، و كل ذلك غير مختلف، و مع ذلك لكل لون، و رائحة و طعم، و خاصية، و شكل، و حجم، و وزن، إلى غيرها، فشكل هذا مدور، و ذاك مربع، و حجم هذا كبير و ذاك صغير- و لو كان كلاهما مدورا مثلا- و وزن هذا أوقية، و ذاك أوقيتان- و إن كان كلاهما في شكل و حجم واحد- وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ أي نفضل نحن- و المراد بالفاعل هو اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 60

[سورة الرعد (13):

آية 5]

وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)

سبحانه- بعض تلك الثمار على بعضها الآخر في الطعم، فهذا حلو قليل الحلاوة، و ذلك حلو كثير الحلاوة، كما أن الثالث مرّ، و الرابع مالح و إن لم تختلف الأشكال، كما نرى في اللوز الحلو و المر، و ما أشبه و «الأكل» هو الثمر الذي يؤكل، أي أنها مختلفة في الثمار، مع أن الماء واحد .. إلى آخره- إِنَّ فِي ذلِكَ الذي عرضناه من الأرضين المختلفة، و الثمار المتفاصلة لَآياتٍ حجج و براهين دالة على وجود اللّه و علمه و قدرته، و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتبعون عقولهم، بعد أن يعملوها لإدراك الحقائق و التوصل من الأثر إلى المؤثر.

[6] إن كل ذلك لا يكفي هؤلاء للإذعان باللّه سبحانه و بما أخبر به من الحساب و الجزاء- و حيث كان ما تقدم تكلمنا حول المبدأ، يأتي دور التكلم حول المعاد- وَ إِنْ تَعْجَبْ يا رسول اللّه من شي ء فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي فالحقيق بالعجب قول المنكرين للبعث، أو المراد، و إن تعجب من إنكارهم البعث فحقيق عجبك، إذ هو في محله، و ما هو قولهم الحقيق بالتعجب؟ أَ إِذا متنا و كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟! نخلق من جديد بشرا سويا لنحاسب و نجازى، إن ذلك لا يكون، و هل هذا القول، إلا من أغرب الأمور، فإن اللّه الذي خلق السماوات و الأرض، و تلك الأشياء الهائلة، التي سبق ذكرها، بدون سابق كونها، بل أخرجها من كتم العدم، ليس قادرا على إعادة هؤلاء إلى

الحياة، أُولئِكَ المنكرون للبعث هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ و إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 61

[سورة الرعد (13): آية 6]

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)

اعترفوا به، إذ من لا يؤمن أنه تعالى قادر على الإعادة، أو يعترف بالقدرة، و لكنه لا يذعن بالإعادة، فهو كافر باللّه، بما له من الصفات، أو كافر بأقواله و أخباره، وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ في الآخرة جزاء لإنكارهم في الدنيا، أو المراد أغلال التقاليد و الخرافة في أعناقهم- هنا- فلا يتبعون الحق، كالمغلول الذي ليس له حرية التصرف، حتى يتصرف كما يشاء، أو المراد أغلال المعاصي و السيئات، يعني أنهم لا يتمكنون من الفرار عن معاصيهم بإنكارهم البعث، كما قال سبحانه: (وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) «1» وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها الخالدون فيها هُمْ فِيها خالِدُونَ ليس لهم عنها تحول و انتقال.

[7] إن هؤلاء المنكرين للبعث، يطلبون من النبي أن يعجّل لهم بالعذاب- استهزاء- و يقولون «متى هو؟» فقد سفهت عقولهم، فعوض أن يطلبوا الهداية و الخير و السعادة، يطلبون سرعة العذاب، كأنهم لم يعتبروا بما أصاب الأمم الخالية، حيث خالفوا الرسل، و كذبوا بالمعاد، وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا رسول اللّه بِالسَّيِّئَةِ أي بالعذاب، أي يطلبون منك أن تعجل عليهم بالعذاب، بأن تدعوا اللّه ليعذبهم قَبْلَ الْحَسَنَةِ قبل الرحمة و السعادة و الهداية، و المراد أنهم يطلبون ذاك، دون هذا، لا أنهم يطلبون العذاب، ثم يطلبون السعادة- و هذا تعبير مجازي-

______________________________

(1) الإسراء: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 62

[سورة الرعد (13): آية 7]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا

لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)

وَ قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي العقوبات التي يقع بها الإعتبار، و هو ما حلّ بالأمم السابقة، من المسخ و الغرق و الهلاك بالعواصف و الصيحة، و قلب الأرض عليهم و غيرها، و مثلات، جمع مثلة، بفتح الميم و ضم الثاء، و هي العقوبة، سميت بها لأنها تمثل، و أنها تسير بها الأمثال، وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ أي يغفر ذنوبهم عَلى ظُلْمِهِمْ مع أنهم ظالمون، فإنه سبحانه لو أخذ الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها دابة، و إنما جي ء بلفظ «على» لبيان علو المغفرة على الظلم، كأن المغفرة تتجلل الظلم حتى تستره و تخفيه وَ لكن لا يعني غفران الظالمين، حتى يتمادوا في غيهم ف إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ فإن عقابه لا يشبه عقاب الناس بعضهم لبعض،

روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لو لا نصر اللّه و تجاوزه ما هنأ أحد العيش، و لو لا وعيد اللّه و عقابه لا تكل كل أحد.

[8] إن الذين كفروا، يكفرون باللّه «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ» و ينكرون المعاد «أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» و ينكرون الرسالة وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ليس محمد مرسلا، و لو كان من عند اللّه لأنزل اللّه عليه الآيات كاليد و العصا، و إحياء الأموات، و ما أشبهها ف لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ و قد قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، إلى غيرها، لكن

هذا الكلام منهم فارغ، فإنهم إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 63

[سورة الرعد (13): آية 8]

اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8)

يريدوا الإيمان و الإذعان بالخوارق، فقد زوّد النبي بالقرآن الذي هو من أكبر المعجزات، و إن يريدوا الجدل، فلا يؤمنون، و إن يروا كل آية إِنَّما أَنْتَ يا رسول اللّه مُنْذِرٌ مرسل للإنذار كغيرك من الأنبياء المرسلين، و ما عليك إلا الإتيان، بما يصح به أنك رسول مخوّف منذر، و الآيات كلها متساوية في حصول الغرض، فطلبهم لآية جديدة ليس إلا تعنتا و جدلا وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فلست بدعا جديدا، حتى تأتي بالاقتراحات، و إنما كان لكلامه هاد، يهيديهم إلى الحق، و إلى صراط مستقيم، أما إنزال الآيات، فهو مرتبط بخالق الكون، إن شاء أنزل، و إن شاء لم ينزل، و إنما اللازم أن يفعل بقدر إتمام الحجة، و قد فعل، و ما ورد من أن المراد، أن عليا عليه السّلام، هو الهادي، فإنه من باب المصداق في هذه الآية- كما لا يخفى-.

[9] ثم يأتي السياق ليبين جملة أخرى من الآيات الدالة على وجود اللّه و علمه و قدرته، و تدل بالملازمة إلى إمكان البعث و النشور اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ذكر أو أنثى تام أو ناقص حسن أو قبيح، سعيد أو شقي في الإنسان، و في غير الإنسان، و لو لم يعلمه لم يتمكن أن يخلقه و يصوره، و يتقن صنعه وَ يعلم ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يقال غاض الماء- أو غيره من المائعات- يغيض بمعنى قلّ في الأرض، أي يعلم ما تنقصه الأرحام من المدة، أو الحمل

بأن تخرج الأرحام الولد دون تسعة أشهر، أو دون كمال جسمه، بأن كان ناقصا، فالمفعول لتغيض محذوف «أي تغيضه الأرحام» و نسبة الغيض إلى الرحم مجاز، وَ ما تَزْدادُ الأرحام له من المدة و الخلقة، بأن تخرج الولد بعد تسعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 64

[سورة الرعد (13): آية 9]

عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)

أشهر- كعشرة أشهر أو أكثر- أو تزيد في الخلقة، كأن تصنعه ذا رأسين أو ستة أصابع أو نحوها، و الحاصل أن الله يعلم المحل، و يعلم وقت الولادة، زيادة أو نقيصة من المدة المقررة للولادة، و يعلم أن الولد ناقص أو زائد،

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى الذكر و الأنثى «وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ» ما كان دون التسعة، و هو غيض «وَ ما تَزْدادُ» ما رأت الدم في حال حملها ازداد به على التسعة أشهر «1»

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ تعالى بِمِقْدارٍ فليس زيادة المدة و الخلقة، أو نقصانهما، كالزيادة و النقصان من مصنوعات الناس، حيث يخرج الأمر من أيديهم، بل إنه سبحانه، يفعل كل ذلك بتقدير و حكمة، فالزيادة و النقصان بقدر و تقدير.

[10] إنه سبحانه عالِمُ الْغَيْبِ أي ما غاب عن الحواس ظاهرها و باطنها، سواء كان موجودا، أو معدوما، فإنه يعلم أن المعدوم لو كان كيف كان وَ الشَّهادَةِ أي تدركه الحواس، من شهد بمعنى حضر، كأنه يحضر عند الحواس الْكَبِيرُ الشأن الذي كل شي ء لديه حقير و ضيع الْمُتَعالِ اسم فاعل من «تعالى يتعالى» بمعنى المتعالي على كل شي ء بعظمته، فهو أقدر من كل قادر، و أعلم من كل عالم، و أعظم من كل عظيم، كما أشير إلى ذلك كله في هذه

الآيات- و الفرق بين الكبير و المتعال، أن الأول صفة ذات، و الثاني صفة فعل، فإن الممكن أن يكون الكبير غير متعال، أو أن المتعال غير كبير.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 2 ص 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 65

[سورة الرعد (13): الآيات 10 الى 11]

سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)

[11] إنه بعمله يعلم كل شي ء سَواءٌ مِنْكُمْ أي متساو في عمله، أيّ شخص منكم مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ أي أخفاه، فإنه يعلمه وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ أي أبداه و أظهره وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ من هو مستتر متواري بالليل، و كان الإتيان بباب الاستفعال، لإفادة أنه كان طالب الخفاء بالليل، فليل و استخفاء، و مع ذلك يعلمه سبحانه وَ سارِبٌ أي بارز، من «سرب سروبا» إذا برز، أي ظهر بِالنَّهارِ فله ظهور في ذاته، و ظهور لكونه في النهار،

قال الإمام الباقر عليه السّلام: يعني أن السر و العلانية عنده سواء «1»

[12] لَهُ للّه سبحانه على البشر مُعَقِّباتٌ ملائكة يعقبون الإنسان مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي إلهام الإنسان وَ مِنْ خَلْفِهِ يعقب بعضهم بعضا في حفظه يَحْفَظُونَهُ حفظا ناشئا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ و لا يخفى أن التعقيب، و إن كان في الأصل المجي ء عقب شي ء أو شخص، إلا أنه يستعمل بمعنى الحافظ المرتقب لأعمال الإنسان، و إن كان فوقه أو أمامه،

روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه

السّلام أنه ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به إلى المقادير فيخلون بينه و بين المقادير «2»

و عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال في تفسير الآية: هما ملكان يحفظانه بالليل، و ملكان بالنهار

«3»، فهو سبحانه مع علمه الشامل و قدرته

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 82.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 56 ص 151.

(3) بحار الأنوار: ج 56 ص 179.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 66

الكاملة، يرسل ملائكة لحفظ الإنسان، فلا يخرج الإنسان من تحت قدرته و اطلاعه بواسطة أولئك الملائكة، كما أنه ليس بخارج بالذات، و كان أمثال هذه الأمور، من باب أن الله جعل لكل شي ء سببا، و إلّا لم يحتج تعالى إلى أي من ذلك، ثم أنه سبحانه يتعقبهم بالحفظة، لمراقبة أمورهم، و ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم و أحوالهم، ليرتب عليه تغييرا لهم ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ أي الحالة التي هي نازلة بقوم، من عز أو ذل، نعمة أو نقمة، رفعة أو انحطاط، صحة أو مرض، إلى غيرها حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي يغيروا الحالة التي هي بأنفسهم، فإذا جدّوا و اجتهدوا في العمل، أورثهم العز و السيادة، و إذا كسلوا أورثهم الانحطاط و الذلة، و إذا تناولوا المحرمات أورثهم الأمراض، و إذا اتقوا أورثهم الصحة، و هكذا، فإن كل حالة فردية أو اجتماعية، فإنما هي وليدة عمل الفرد و الجماعة، وَ إِذا عمل القوم بالمعاصي و المنهيات ف أَرادَ اللَّهُ بذلك القوم سُوْءاً من عذاب، أو ذلة أو مرض، أو فقر، أو ما أشبه فَلا مَرَدَّ لَهُ أي لا دافع له، فلا يظن الناس أنهم يعملون بأسباب البلاء، ثم يقف المال أو السلطة، أو ما أشبههما

حسدا دونه وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ من دون الله مِنْ والٍ يلي أمورهم، و ذلك واضح، فإن الله سبحانه جعل للحياة السعيدة خطوطا عريضة، فمن انحراف عنها شقي، و من سار عليها سعد، و الانحراف موجب للشقاء، و إن توسل الإنسان بألف وسيلة و وسيلة لسعادته، و الاستقامة موجبة للسعادة، و إن كاد له كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 67

[سورة الرعد (13): الآيات 12 الى 13]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)

[13] ثم شرع في آيات كونية جديدة، تدل على ذاته و صفاته و هُوَ الله الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ و هو النور الذي يرى عند وجود السحاب خَوْفاً وَ طَمَعاً أي تخويفا من الصاعقة المهلكة، و تطميعا في الغيث المحيي للأرض، و هما حالان، أي في حالة التخويف و التطميع، فأقيم قيام المصدر، قال ابن مالك.

و مصدر منكر حالا يقع بكثرة، كبغتة زيد طلع

وَ يُنْشِئُ أي يوجد السَّحابَ الثِّقالَ بالمطر، و إنما وصف السحاب، و هو مفرد، بالثقال، و هو جمع ثقيل، لأن اللام في السحاب للجنس، فهو في المعنى الجمع، كما قالوا في «أهلك الناس الدينار الصفر و الدرهم البيض».

[14] وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ و هو الصوت الظاهر من السحاب عند البرق بِحَمْدِهِ إن الرعد من صنعه سبحانه، فهو حمد و تسبيح بالقدرة التي جعلت هذا المصنوع، كما أن كل مصنوع جميل يسبح و يحمد لصاحبه، فإن التسبيح هو التنزيه عن الجهل و العجز، و الآثار تدل على عدمهما، و الحمد هو

الثناء لجميل الطرف، و الرعد يدل على جميل فعل الله سبحانه و إنما خص الرعد بذلك، لأن صوته يناسب ذلك، إذ المسبح الحامد يظهر من نفسه صوتا و إلا فكل شي ء يسبح و يحمد الله سبحانه، و من المحتمل أن يراد الحمد و التسبيح حقيقة، بلسان لا نفقهه، كما قال سبحانه (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 68

لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) «1» بل مقتضى «لا تفقهون» إنها تسبح و تحمد حقيقة، إذ لو كان المراد بالتسبيح الدلالة- كما ذكر في المعنى الأول- لكان ذلك مفهوما لنا- و الله أعلم- و معنى «يسبح بحمده» أن التنزيه إنما هو بذكر الجميل، فإن النزاهة و الجمال، لا تتلازمان خارجا، فربّ نزيه غير جميل، كما أنه رب جميل ليس بنزيه، و النزيه الجميل، قد ينزهه الإنسان، فيقول إن فلانا «غير قبيح» و قد ينزهه بذكر جماله، فيقول فلان «جميل» فإن «جميل» تنزيه له عن القبح بالثناء- الذي هو الحمد- و تسبيح الرعد بالحمد، فإن الرعد يدل على العلم و القدرة، و ذلك تنزيه عن الجهل و العجز وَ يسبح الْمَلائِكَةُ أي ينزهونه سبحانه عن النقائص مِنْ خِيفَتِهِ من خوفه سبحانه، فإن التسبيح قد يكون لمجرد ذكر الجميل، و قد يكون رغبة، و قد يكون رهبة، و إنما جاء بذلك- هنا- للتناسق مع الرعد المقرقع المخوّف، و البرق الخالب المخيف، و الصاعقة وَ يُرْسِلُ الله سبحانه الصَّواعِقَ و الصاعقة هي جسم معدني، محمي حتى الاحمرار تقذف من أعالي الجو عند السحاب و البرق و الرعد- غالبا- و علّل في العلم الحديث، بأنها من كراة أخر، تحميها الحركة السريعة فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ

من الناس في هذا الجوّ الرهيب، نرى البشر العاتي، وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي وجود اللَّهِ و صفاته مع ضعفهم و عجزهم، و قد رأوا تلك المشاهد الكونية الرهيبة التي تدل على إله واحد عالم قدير وَ هُوَ سبحانه شَدِيدُ الْمِحالِ أي

______________________________

(1) الإسراء: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 69

[سورة الرعد (13): آية 14]

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14)

شديد الأخذ بالعقاب، فإن المحال مصدر باب المفاعلة، يقال ما حله مماحلة و محالا، و على وزنه ضاربه، يضاربه، ضرابا، بمعنى قاواه، حتى يتبين أيها أشد.

[15] إنهم يدعون مع الله شركاء، و يجادلون فيه، و الحال أن دعوته- وحدها- هي الحق، فمن دعاه كان محقا، و من دعا غيره كان مبطلا، لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ فالدعوة له هي حق، لأنها دعوة مطابقة للواقع، و معنى «له» الاختصاص، أي دعا الإله- إذا أريد أن يكون حقا- فهو له لا لغيره وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام التي تدعى من دون الله، فمصداق «الذين» هي الأصنام، و إنما جي ء بلفظ الجمع العاقل، تماشيا مع زعم المشركين: أنها تعقل- كما مرّ في مواضع متعددة مثل ذلك- و العائد في «يدعون» محذوف أي «يدعونهم» لا يَسْتَجِيبُونَ أي تلك الأصنام المدعوة لَهُمْ أي للداعين المشركين بِشَيْ ءٍ لا قليل، و لا كثير، لا من شؤون الدنيا، و لا من أمور الآخرة، إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ هذا مثل لمن دعا الأصنام، ليقضوا حاجته، فالداعي لها كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء، ليتناوله، و يسكن به غلته،

و ذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما وَ ما هُوَ أي الماء بِبالِغِهِ فالماء كالصنم كلاهما لا يعقل و لا يستجيب، فالداعي للصنم، كالطالب للماء، و بسط الكف للدعاء كبسط الكف نحو الماء، و بعد الماء كبعد الصنم، في عدم الاستجابة، فكما أن الطالب للماء بهذه الكيفية لا يتحصل على الماء الذي يروي عطشه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 70

[سورة الرعد (13): آية 15]

وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (15)

كذلك الداعي للصنم لا يتحصل على الإجابة التي تقضي حاجته، قال بعض المفسرين: ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء؟ انظروا هذا واحد منهم: ملهوف ظمآن، يمد ذراعيه، و يبسط كفيه، و فمه مفتوح يلهب بالدعاء، يطلب الماء ليبلغ فاه، فلا يبلغه، و ما هو ببالغه، بعد الجهد و اللهفة و العناء، و كذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ لأصنامهم إِلَّا فِي ضَلالٍ يضل و يتيه و لا يصل إلى المقصود، و كان الإتيان بهذا المثال، ليناسب السياق مع السحاب و الرعد و البرق الموحية بجو الماء و المطر.

[16] إن الكفار يأبون من السجود لله سبحانه، و إنما يسجدون لأصنامهم، كما يدعون أصنامهم، و لا يدعون الله الواحد وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة، و غيرها، حتى نفس السماء وَ من في الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً أي سواء كانوا طائعين أو مكرهين للسجود، كالكفار الذين يكرهون السجود، لكن شخوصهم تسجد و تخضع لله خضوعا تكوينيا، و إن لم يخضعوا خضوعا إراديا، و المراد بمن في الأرض أعم من العاقل و غيره، حتى نفس الأرض، حتى غلّب

العقلاء، و إن أريد الأعم، كما غلب المظروف، و إن أريد الأعم منه و من الظرف، و إنما استفدنا ذلك من قوله سبحانه وَ ظِلالُهُمْ أي حتى أظلتهم، فكل ما في الكون من الأشخاص و الأضلة يسجد لله، و لعلّ الإتيان بلفظ السجود، لأنه رمز لغاية الخضوع أي إنها جميعا خاضعة غاية الخضوع لله سبحانه، و ذلك واضح فإن الأشياء كلها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 71

[سورة الرعد (13): آية 16]

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)

منقادة لإرادة الله تعالى لا يحيد عنها قدر شعرة، و ذكر بِالْغُدُوِّ أي الصباح وَ الْآصالِ جمع أصيل و هو العصر، كأنه لتعميم الظل، حتى لا يتوهم أنه خاص بالظلّ قبل الظهر مقابل الفي ء الذي هو ظل بعد الظهر؟ من فاء يفي ء إذا رجع، و كان الإتيان ب «بالآصال» جمعا مع الإتيان بالغدو مفردا للتناسب مع «في ضلال» في الآية السابقة، و لا يخفى أن الكافر و الملحد أيضا يسجد لله، و يسجد ظله، لكن بالسجود التكويني الذي يسجد بنحوه جميع الأشياء، فجسد الكافر، خاضع لناموس الكون الذي قرره الله سبحانه غاية الخضوع، لا يتمكن أن يحيد عنه قدر شعرة، و إنما يأبى السجود التشريعي له سبحانه، فلا يضع جبهته على الأرض، و لا يخضع لله غاية الخضوع، جهلا.

[17] و في هذا الجو المدهش، يتوجه إليهم بالأسئلة، ليجيبوا عنها، كما شاهدوا من ذي قبل،

فإنك إذا أردت أن تلجأ إنسانا إلى السير معك في فكرك و نظرك، جئت إليه بالواقع الذي لا يتمكن أن يحيد عنه ثم تسأل منه، كما أنك لو أردت اعترافه بأن سيارتك أجمل من سيارته، جئت إليه بها، ثم تقول له أيهما أجمل، و قد أتى السياق هنا جملة من الآيات الكونية، و ألفت الأنظار إليها، ثم يسأل قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ هل هو الله أم أصنامكم؟ إنهم لا يحرون جوابا، لأن الجواب الحقيقي لا يريدونه، و الجواب الذي لا يناسب عبادتهم لا يرون له مجالا، فكيف يقولون إن رب تلك الآيات الكثيرة المدهشة المتقدمة هي الأصنام التي لا تعقل؟ ف قُلْ أنت يا رسول الله في الجواب: إن رب السماوات و الأرض هو اللَّهُ وحده، ثم قُلْ يا رسول الله لهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 72

أَ فَاتَّخَذْتُمْ هل عبدتم مِنْ دُونِهِ من دون اللّه أَوْلِياءَ أصناما تتولونها و تعبدونها و تمحضون لها الولاية و المحبة؟ إنه عمل قبيح، أن يترك الإنسان خالق السماوات و الأرض، و يتخذ إلها غيره لا يسمع و لا يعقل، و الحال أن هذه الأصنام لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا فلا يقدر الصنم أن يجلب لنفسه نفعا، و لا أن يدفع عن نفسه ضرا فكيف يكون إلها ما لا يقدر حتى على نفع نفسه، و دفع الضر عنه؟ و قد تقدم، أن الإتيان بالجمع العاقل نحو «لا يملكون» تماشيا مع زعم المشركين، و من المعلوم أن المشركين يسكتون هنا أيضا، إذ يرون الحق في جانب الرسول، و لكنهم لا يقدرون على الجواب ف قُلْ لهم يا رسول الله هَلْ

يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ؟

و الجواب- طبعا- لا يستويان، فكيف اتخذوا الصنم الأعمى- الذي لا يبصر- إلها، و تركوا الخالق البصير بكل شي ء؟ ثم قل لهم أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ؟ و الجواب- طبعا- لا يستويان، فكيف اتخذوا الصنم الذي هو ظلمة- لا ظاهر بنفسه و لا مظهر لغيره- إلها-، و تركوا الخالق الذي هو نور السماوات و الأرض، ظاهر بذاته مظهر لغيره؟ أَمْ كيف جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ؟ بعد تمام الحجة و وضوح الدليل، فهل خَلَقُوا أي خلقت هذه الأصنام التي جعلوها شركاء لله، أشياء كَخَلْقِهِ أي مثل ما خلق سبحانه أشياء فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي فاشتبهت مخلوقات الله بمخلوقات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 73

[سورة الرعد (13): آية 17]

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)

الأصنام، فعبدوا الأصنام، كما عبدوا الله سبحانه، حتى يكونوا معذورين في الشرك، و إنما جي ء بقوله «فتشابه» مع إنه ليس من مصب الكلام، و مورد النفي و الإثبات، لبيان أنه لو كانت الأصنام خلقت شيئا، كان لهم الحق، في أن يقولوا: إنا قد تشابه الأمر علينا، إذ رأينا أن الأصنام تخلق كما خلق الله، فقلنا إنها آلهة، كما إن الله إله، أما و الأصنام، لم تخلق شيئا، فلا يحق لهم عبادتها، إذ ليس لها من مقومات الالوهية شي ء، ... و أخيرا قُلْ يا رسول الله لهم اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فلا خالق سواه، فإن قيل: فما معنى «أحسن الخالقين» مما

يدل على أن غيره أيضا خالق؟ قلنا أن ذلك على ضرب من المجاز و التشبيه، لا الحقيقة- كما هو واضح- وَ هُوَ الْواحِدُ لا شريك له الْقَهَّارُ الغالب على كل شي ء، فلا شي ء في عداده، إذ لو كان شي ء مثله، لم يعمه قهر الله سبحانه و غلبته، فإذا كان تعالى غالبا على كل شي ء، دل على إنه ليس شي ء في عداده، خارج عن قهره و غلبته.

[18] ثم ضرب- سبحانه- مثلا للحق الباقي، و الباطل الذاهب، بما يلائم سياق الآيات السابقة، فقد كان الكلام سابقا حول البرق، و الرعد، و السحاب المثقل بالأمطار، و باسط كفيه إلى الماء، و يأتي المثل ليمثل للحق بالماء الهادئ الساكن النافع الباقي، و للباطل بالزبد الذي يطفو فوق الماء، حتى يراه الإنسان أعلى من الماء، لكن هذا الباطل الرابي، لا يمر زمان حتى يذهب و يبطل، و ذلك الماء يبقى ليحيي و ينتفع به، و كذلك من هذا القبيل ما يذاب من المعادن، فإن الزبد يطفو فوقه، و الخالص يبقى تحته، فيبطل الزبد، و يبقى الخالص، ليتجمل به

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 74

الإنسان و ينتفع منه، فالحياة و الجمال هما من الباقي الذي هو مثل للحق، و الباطل لا يمثل إلا دور الزبد الذي يعلو- في النظر- أولا، ثم لا يلبث أن يذهب و يضمحل، فلا يبقى منه شي ء، و لم ينفع شيئا، الزبد مثال للباطل الذي يتخذه هؤلاء المشركين، كالأصنام، التي لا تنفع، و إن ظهرت أول الأمر غالبة على الحق، و الماء و الحلية مثال للحق، الذي يتخذه المؤمنون للحياة و التجمل، و إن علاه الباطل- كالزبد الرابي على الماء، و الحلية- ابتداء، أَنْزَلَ سبحانه مِنَ

السَّماءِ ماءً أي المطر، و المراد من السماء، جهة العلو فَسالَتْ أي جرت أَوْدِيَةٌ جمع وادي، و هو النهر بِقَدَرِها أي كلّ بقدره، فالنهر الصغير أخذ من ذلك الماء قدرا قليلا، و النهر الكبير، أخذ من ذلك الماء قدرا كثيرا- و كان بيان إنزال الماء من السماء لتشبيه الحق المنزل به، فإن الحق ينزل من الماء، ثم يختلط به الباطل، إذ الباطل إنما يروج نفسه باسم الحق، و بعد ذلك، يذهب الباطل، و يبقى الحق، و هكذا الماء، فإنه ينزل من السماء صافيا، ثم يعلوه الزبد في الأرض، و كان وجه ذكر «فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها» بيان أن الحق هكذا في مجاري الأمم، فرب أمة أخذت من الحق كثيرا حسب طيب نفوسها، و حسن الدعوة فيها، و رب أمة أخذت من الحق قليلا، حسب خبث نفوسها و بعد الدعوة عنها، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ أي أخذ السيل، الذي يمر في الأودية، من سال الماء، إذا جرى زَبَداً رابِياً أي طافيا على الماء، من ربي بمعنى علا، فإن الماء لا يلبث أن يظهر، و الزبد لا يلبث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 75

أن يذهب، و هكذا الحق يبقى- ليحيا- و الباطل يفنى و يذهب وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ يقال أوقد النار، بمعنى أشعلها، و ضمير «عليه» يرجع إلى «ما» الموصولة في «مما» الذي مصداقه «الفلزات» كالفضة و الذهب و الحديد، و سائر المعادن، و إنما قال «عليه» لأن الإيقاد، يكون «على الفلز» كأنه يضرّ به، إذ يخضعه للذوبان، كالذي يتسلط على غيره فِي النَّارِ حال تقديره ثابتا في النار، أي في حال كون ما يوقد عليه، ثابتا في النار، فإن الفلز يجعل على النار حتى يذوب ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ

أَوْ مَتاعٍ حال عن الضمير في «يوقدون» أي الذين يوقدون الفلز في النار، في حال كونهم يبتغون و يطلبون بذلك الزينة- كما لو أذابوا الذهب و الفضة، للسوار و القلادة و نحوهما- أو يطلبون بذلك «المتاع» أي ما يمتع به، و يستعمل في الحوائج- كما لو أذابوا الزنك، و الحديد و النحاس، لصنع الأواني و المحراث، و الإبريق و نحوها- فهنا حالان، «في النار» حال عن الضمير في «عليه» و «ابتغاء» حال عن الضمير في «يوقدون» و زَبَدٌ مِثْلُهُ مبتدأ و «مثله» صفته، خبره «مما يوقدون» المتقدم، و إنما تقدم الخبر، لأن المبتدأ، إذا كان نكرة، قدم خبره الذي هو ظرف، أو جار و مجرور عليه، قال ابن مالك.

و لا يجوز الابتداء بالنكرةما لم تغد كعند زيد نمرة

و المعنى أن بعض الفلزات الذي يشعل الناس النار «عليه» أي على ضرر ذلك الفلز لأجل إخضاعه و إذابته، في حال كون ذلك الفلز في النار، و في حال كون الناس يبتغون بالإذابة، صنع الزينة، أو صنع الأمتعة، زبد خبيث، مثل زبد الماء، فيطفوا على البوتقة، حتى يغطي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 76

[سورة الرعد (13): آية 18]

لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (18)

الفلز المذاب الصالح كَذلِكَ الذي مثلنا من الماء و زبده و الفلز و زبده يَضْرِبُ اللَّهُ مثلا ل الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فالحق يحيي، و يسبب الجمال، كالماء الذي يحيي، و الفلز الذي يسبب الجمال و رفع الحاجة، و الباطل يفنى و يذهب كالزبد الذي يطفو على الماء و

على البوتقة، و لعل التعبير- ب «الضرب» في المثل، لأجل اصطدام الذهن به، فإن الذهن يتأثر بالمثل أكثر مما يتأثر بأصل المطلب، و لذا أن من فنون البلاغة أن يكثر الإنسان المثل، فإنه يوجب توضيح المطلب و ترسيخه فَأَمَّا الزَّبَدُ الطافي، فَيَذْهَبُ جُفاءً أي باطلا متفرقا، بحيث لا ينتفع به، من جفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء الجاري في الأودية، و الفلز الصافي فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ يبقى ليسقي الزرع و الحيوان و الإنسان، أو يمتع به في حوائجه كَذلِكَ الذي تقدم من المثل يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ للناس واضحة جلية، ليرسخ الحق في أدمغتهم، و يتركز في نفوسهم.

[19] و إذا تقرر أن الله سبحانه أنزل من السماء «الحق» لاستفادة الناس- كما أنزل من السماء ماء- فمن استجاب لله، و قبل الحق، له خير الدنيا و سعادة الآخرة، و من لم يستجب له، فإن له سوء العاقبة و عذاب الآخرة ف لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى «الحسنى» مبتدأ و «الذين» خبره، و لعل الإتيان ب «استجاب» دون «أجاب» مع أن كلا منهما بمعنى الآخر، لبيان أن إجابة الله سبحانه، تحتاج إلى التهيؤ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 77

و الاستعداد، كما يشعر بذلك كونه من باب الاستفعال، الذي كان الأصل فيه الطلب، يقال: استخرج بمعنى طلب الخروج و «الحسنى» صفة لمحذوف، أي الحالة الحسنة، في الدنيا و الآخرة، فإن مناهج الله سبحانه و دساتيره في الحياة، توجب الراحة و الرفاه و السعادة في النشأتين، فالذين قبلوا أوامر الله سبحانه، فلهم الحالة الحسنة وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ أي للّه تعالى، فلم يؤمنوا به، و لم يمتثلوا بأوامره، فلهم أسوأ الحالات، أما

في الدنيا «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً» و أما في الآخرة- و هي العمدة- فإنهم في شقاء و عذاب، حتى لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الثروة جَمِيعاً، لا يشاركهم فيها أحد، فلهم كل المناصب، و كل الأموال، و كل الأراضي و الأنهار، و كل الخدم و الحشم وَ مِثْلَهُ مَعَهُ حتى كأنّ هناك أرضين، و لهم اثنتان- و هذا من باب المثل، و إلا فالمراد، أن كل الأشياء لا تنفعهم، و إن كانت آلاف الأراضي، كما تقدم شبه ذلك في قوله سبحانه، «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً»- لَافْتَدَوْا بِهِ أي جعلوا ذلك كله فدية لأنفسهم من العذاب، و الفدية هي التي تعطى لإنقاذ النفس، كالفداء، و لكن لا تنفعهم الفدية، أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ و المراد بسوء الحساب العدل فيه، و إنما سمى سوءا، لأنه يسي ء إلى المحاسب المذنب، و هذا بخلاف المؤمن المطيع، فإنه يحاسب حسابا يسيرا، و يتفضل عليه بغفران ذنبه، و عدم المناقشة معه في حسابه، و لذا ورد: ربنا عاملنا بفضلك، و لا تعاملنا بعدلك وَ مَأْواهُمْ أي مصيرهم من أوى يأوي، بمعنى اتخذ المأوى،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 78

[سورة الرعد (13): الآيات 19 الى 20]

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20)

و المحل و المكان جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ المهاد الفراش، سمي بذلك، لأن الإنسان يمهده لنفسه، و يهيئه لراحته، أي بئس ما مهدوا لأنفسهم من النار.

[20] و هنا يأتي الفرق بين المؤمن و الكافر، بعد ما بين الفرق بين الإيمان و الكفر- و إن الأول كالماء، و الفلز، و

الثاني كالزبد- أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما «ما» موصولة، أي أن القرآن الذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا رسول الله مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ فيؤمن، و يخضع و يطيع، فهو بصير بالحق يراه، و يعمل به كَمَنْ هُوَ أَعْمى لا يرى الحق و لا يبصره، و الاستفهام إنكاري، أي ليس هذان متساويين إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإنهم هم الذين يعملون أفكارهم، ليتذكروا الحقائق، و يستدلون من الأثر إلى المؤثر، و من الكون إلى إله الكون.

[21] ثم وصف المؤمن المشار إليه بقوله «أ فمن يعلم» و قال في حقهم أنهم أولوا الألباب، فإنهم هم الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ المودع في فطرتهم، و لو لا عهده معهم، لم تكن فطرتهم ترشدهم إلى ذلك، إذ لا يمكن للإنسان أن يترشح منه إلا ما هو فيه، و إلا فكيف يعرف الإنسان أن للكون إلها، و هكذا كيف يعرف أن العدل حسن، لو لم يودع فيه ما يترشح منه ذلك؟ هذا بالإضافة إلى أخذ الأنبياء العهد من أممهم، و العهد المأخوذ، و إن كان من الآباء، لكن الأبناء، حيث أدخلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 79

[سورة الرعد (13): الآيات 21 الى 22]

وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)

أنفسهم في اطار الآباء، كان العهد مستقرا عليهم، و هذا هو السر في أخذ الأمم بما يفعله الآباء أو الكبراء، فإن الالتزام بالإطار، التزام بما يكون فيه، و يدور في حلقته وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ أي العهد الأكيد، الذي

أخذه سبحانه منهم بالإيمان بالله و رسله، و الميثاق مشتق من «وثق» كأنه يوجب ثقة كل جانب بالآخر، إذا أبرم العهد.

[22] وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فكل ما أمر الله بصلته، و الاتصال به من الأنبياء عليهم السّلام و المرسلين، و عبادة الصالحين، و الأعمال الحسنة، و العبادات و غيرها، أنهم يصلون به، و يتصلون إليه، اتصالا قلبيا، أو لسانيا، أو عمليا، و ذلك موجب للانقطاع عما أمر الله به أن يقطع بالتلازم وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فلا يخالفونه بالعصيان، و لعل المراد بالأول الإطاعة، و بهذا العصيان وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ليس المراد الظلم، فإن الله سبحانه لا يظلم، و إنما المراد العدل، فإن الحساب لو كان عادلا- و لم يجر على مقتضى الفضل- أساء إلى الذي يحاسب، و لذا سمي سوءا.

[23] وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ هذا، و إن كان داخلا في «يصلون» إلا أنه ذكر خاصا لأهميته، و هكذا الفقر التالية، فقد جمعت الآيتان السابقتان المبدأ و المعاد و الشؤون المتوسطة بينهما، فالمبدأ ذكر ب «الذين يوفون» و المعاد ب «و يخافون» و ما بينهما ب «الذين يصلون» ثم أن الصبر على ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة بأن يصبر الإنسان على أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 80

يطيع، و صبر على المعصية، بأن يأخذ الشخص زمام شهوته عند المعصية، و صبر على المصيبة، بأن لا يجزع الإنسان عند نزول كارثة به من فقر أو مرض، أو ما أشبه، ثم اللازم، أن يكون الصبر لأجله سبحانه، لا لانتهاز أمور دنيوية، و إلا فلا قيمة له، وَ أَقامُوا الصَّلاةَ داوموا عليها باستمرار، وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من كل شي ء

رزقوا، و إنفاق كل شي ء بحسبه، فإنفاق العلم بذله، و إنفاق الجاه قضاء الحوائج، و إنفاق المال إعطائه، و إنفاق الساسة، إدارة الأمور، و هكذا سِرًّا وَ عَلانِيَةً أي في جميع الأوقات و الأحوال، فإن مثل هذا الإنسان، هو الذي ينفق في سبيل الله تعالى، و يكون الإنفاق مقصده، لا الرياء و السمعة، و ما أشبه وَ يَدْرَؤُنَ أي يدفعون بسبب الحسنة السَّيِّئَةَ إما بمعنى أنهم إذا ساءوا، و فعلوا شيئا من المعاصي، فعلوا بعد ذلك بعض الحسنات، فإن الحسنة تمحي السيئة، قال سبحانه (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) «1»

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لمعاذ بن جبل إذا عملت سيئة، فاعمل بجنبها حسنة تمحها

«2». و إما المراد أنهم إذا أساء إليهم أحد لم يسيئوا إليه، بل يحسنون إليه، و هذا غاية الفضيلة، كما

في دعاء مكارم الأخلاق، للإمام السجاد عليه السّلام «اللهم صل على محمد و آل محمد، و سددني لأن أعارض من غشني بالنصح، و أجزي من هجرني بالبر، و أثيب من

______________________________

(1) هود: 115.

(2) راجع وسائل الشيعة: ج 16 ص 104. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 81

[سورة الرعد (13): الآيات 23 الى 24]

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

حرمني بالبذل، و أكافي من قطعني بالصلة، و أخالف من اغتابني إلى حسن الذكر»

«1» أُولئِكَ المتصفون بهذه الصفات لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الجنة، فإنهم يدخلونها خالدين فيها.

[24] ثم فسر سبحانه «الدار» بقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ أي بساتين إقامة من عدن بالمكان بمعنى أقام فيه إقامة طويلة، و في

الأحاديث أنها جنات خاصة، فإن كلا من فردوس، و عدن، و ما أشبههما، اسم لجنة خاصة من الجنان الكثيرة يَدْخُلُونَها أي يدخلها هؤلاء المتصفون بتلك الصفات وَ يدخلها مَنْ صَلَحَ أي من كان صالحا قولا و عملا و عقيدة مِنْ آبائِهِمْ الأبوين و الأجداد وَ أَزْواجِهِمْ زوج المرأة، و زوج الرجل، أو الأعم من ذلك، و من سائر الأقران، فإن الزوج يطلق على المثل، كما قال سبحانه، (وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) «2» وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ أولادهم مهما نزل- و هذه نعمة كبيرة، أن يتنعم الإنسان بهؤلاء في الجنة- وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب الجنة قائلين.

[25] سَلامٌ عَلَيْكُمْ يحيونهم بالسلام تكريما لهم، و معنى السلام، أن تكونوا سالمين من الآفات، و الجنة و إن كانت محل النعيم و الراحة،

______________________________

(1) الصحيفة السجادية: دعاء رقم 20 المسمى بدعاء مكارم الأخلاق.

(2) ص: 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 82

[سورة الرعد (13): الآيات 25 الى 26]

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26)

لا تحمل الآفات و العاهات، إلا أن التسليم هناك، نوع من التكريم بِما صَبَرْتُمْ أي أن تكريمنا لكم بسبب صبركم على مكاره الدنيا، و أن سلامتكم هذه في الجنة بسبب صبركم في الدنيا فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ أي نعم عاقبة للدار ما أنتم فيه من النعيم و الكرامة.

[26] هذا كان عاقبة المؤمنين العاملين، فلننظر إلى حال الكفار وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ إليهم بالإيمان، بما

أودع فيهم من الفطرة، و أخذ عليهم بلسان الأنبياء مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد توثيقه و ابرامه وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فلا يصلون الأنبياء عليهم السّلام و الأئمة الصالحين، و لا يصلون الأرحام و الفقراء و المساكين وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالدعاء إلى الضلال، و الظلم و الفتنة، و ما أشبه أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ الطرد عن رحمة الله سبحانه، و الإبعاد عن الجنة وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي نار الدار الآخرة و عذابها.

[27] إن هؤلاء الذين نقضوا عهد الله، أخذوا يوسعون في أمور دنياهم تاركين الآخرة، كأنها ليست بشي ء، و كان الدنيا هي التي يجب العمل لها وحدها، مع أنه ليس كذلك ف اللَّهُ وحده بيده أزمة الدنيا و الآخرة، فهو يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يوسعه عليه وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق لمن يشاء، من قدر، بمعنى ضيق، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 83

[سورة الرعد (13): آية 27]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27)

قال سبحانه (وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) «1» و قال (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) «2» و إذا كان الله سبحانه هو الذي تكفل بالدنيا، فما هذا الاهتمام- من نقض عهد الله- للأمور الدنيوية؟ وَ فَرِحُوا أي فرح هؤلاء الناقضون بِالْحَياةِ الدُّنْيا، و بطروا بها ناسين الآخرة مخصصين فرحهم كله للدنيا وَ الحال أنه مَا الْحَياةُ الدُّنْيا من أولها إلى آخرها فِي الْآخِرَةِ «في» بمعنى النسبة، و الاضافة، أي بالنسبة إلى الآخرة إِلَّا مَتاعٌ قليل، يتمتع به الإنسان، و أما الآخرة فهي الدار الباقية، التي فيها أنواع النعم و الكرامة، ثم

أن كون الله سبحانه، هو الباسط للرزق، و المضيق له، بمعنى أنه يقدر هذا لهذا، و ذاك لغيره، و لذا نرى رب فطن كاد ليس له إلا القليل، و رب بليد كسول، تأتيه الدنيا صاغرة، قال الشاعر:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي أوجب الإيمان في «أحد»يدبر الأمر توسيعا و تضييقا «3»

نعم للعمل حظ بقدر ما جعله سبحانه سببا، فإن العمل- بقدر- و الغيب كلاهما دخيلان في أمر من الأمور الإدارية.

[28] و إذ تقدم الكلام حول الذين ينقضون عهد الله بعدم الإيمان به، فإنهم هم الذين لا يؤمنون بالرسول، لأعذار واهية

______________________________

(1) الطلاق: 8.

(2) الأنبياء: 88.

(3) البيت الثاني للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 84

[سورة الرعد (13): آية 28]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله لَوْ لا أي هلّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آيَةٌ معجزة خارقة مِنْ رَبِّهِ مما نقترحها من المعجزات و الخوارق، و لم يكن لهم حق الإجابة، فإن الآية نزلت، و هي القرآن الحكيم، لكنهم كانوا معاندين يريدون التعنت قُلْ يا رسول الله لهم، إن الأمر ليس مخفيا حتى يحتاج إلى الآية، و إنما سبب ظلالكم، أنكم تتركون الإرشادات العقلية، فيترككم الله، و لا يلطف بكم حتى تؤمنوا، بعكس المؤمنين الذين عملوا عقولهم فآمنوا، و لذا لطف سبحانه بهم ف إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بترك لطفه به، بعد ما أراه الطريق فلم يسلكه، كما تقول: أن الحكومة ضيعت فلانا، تريد انها لم تعتن به حتى ضل و ضاع، بعد أن أرته الحكومة الطريق، فلم يسلكه وَ يَهْدِي إِلَيْهِ أي

إلى نفسه و طريقه مَنْ أَنابَ أي رجع عن غيه، فمن رجع عن الغي، و أراد الهدى، لطف به سبحانه ألطافه الخاصة، حتى يهتدي حقيقة، و يكون من الأعلين حظا و رشدا.

[29] و من ذاك الذي يهديه الله سبحانه؟ إنهم هم الَّذِينَ آمَنُوا بأن اتبعوا الحق، فإنهم يهديهم الله- أي يلطف بهم ألطافه الخفية- كالولد الذي يسمع كلام أبيه، فيلطف به بالتوسعة، في أموره، و معاضدته في حوائجه و مهامه وَ هؤلاء المؤمنون تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ القرآن الحكيم، فلا يطلبون خوارق و آيات، تعندا و اعتباطا، أو المراد الأعم من ذلك، فإن كل مؤمن مطمئن القلب، غير قلق، إذ الاعتماد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 85

[سورة الرعد (13): آية 29]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (29)

على الله يهوّن المصائب، كما تحفظ القلوب عن البطر، فإن الإيمان كالزمام الذي يعدل سير الحيوان، لا يبطر عند النعمة، لما يرى من رقابة عليه، و لا يجزع عند البلية، لما يعلم ما أعد الله للمؤمنين الصابرين من الأجر أَلا فلينتبه الإنسان بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ التي دخلها ذكر الله، فإنك إذا عرفت أن عليك سيدا، إذا أنعم أراد الشكر، و إذا أبلى جزاك بالأجر اطمئن قلبك، و لم يكن كالقلب القلق الذي تخرجه النعمة إلى الإفراط، و البلية إلى التفريط، و لذا

كان يقول الإمام الحسين عليه السّلام في يوم عاشوراء: «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله»

«1».

[30] ثم ابتدأ بقوله الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسله، و اليوم الآخر، و ما يجب الإيمان وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، مما أمر الله به، و يدخل فيه- بالتلازم- و الاجتناب عن الأعمال القبيحة طُوبى لَهُمْ مؤنث

طيب، أي أن لهم الخلة و المقامة الطيبة الحسنة في الدنيا، أو الأعم، وَ حُسْنُ مَآبٍ أي المرجع الحسن في الآخرة، أما في الدنيا، فإنهم آمنون مطمئنون تهديهم مناهج الله سبحانه إلى السعادة و الرفاه، و أما في الآخرة، فإن لهم جنات النعيم، و من المعلوم أن «شجرة طوبى» التي هي شجرة خيرة في الجنة، إنما هي مصداق من مصاديق ما يناله المؤمن من المنزلة الطيبة فما في بعض الأحاديث من تفسيرها بتلك، فإنما هو إشارة إلى أحد المصاديق.

______________________________

(1) اللهوف على قتلى الطفوف: ص 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 86

[سورة الرعد (13): الآيات 30 الى 31]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ (30) وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)

[31] إن هؤلاء الذين يطلبون الخوارق حالهم كحال من سلف من الأمم، و قد أرسلنا في تلك الأمم رسلا، لكنهم أبوا إلا الكفر، كما أن ذلك لم يضر الرسل، فلتمضي يا رسول الله على نهجك كَذلِكَ أي كما أرسلنا في الأمم السابقة رسلا أَرْسَلْناكَ يا رسول الله فِي أُمَّةٍ من الناس، و هم المعاصرون لك قَدْ خَلَتْ أي مضت من خلا بمعنى مضى مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أرسلت إليهم الرسل، و إنما أرسلناك لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ

الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن، و سائر الأحكام المنزلة وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ الذي يرحمهم، و يتفضل عليهم، أنه في غاية العجب أن يتفضل الله بالرحمة، و يتلو رسوله عليهم الآيات، ثم هم يعرضون عن الرسول، و يكفرون بالله، فإن أعرضوا قُلْ يا رسول الله هُوَ رَبِّي و امض في طريقك في الإعلان و الإرشاد لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فما عداه من الأصنام و المعبودات باطلة، لا تستحق العبادة عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فوضت أمري، مستمسكا بطاعته وَ إِلَيْهِ مَتابِ من تاب بمعنى رجع، أي إليه مرجعي، فإنه مصدر ميمي يقال تاب يتوب و متابا.

[32] إن الكفار يطلبون الخوارق، و لا يطمئنون إلى ذكر الله القرآن الحكيم، و إنا قد أرسلناك، لتتلو عليهم القرآن، و ما أعظمه من كتاب، فإنه من العظمة و التأثير، حتى لتكاد تسير به الجبال، و تتقطع به الأرض، و يكلم به الموتى، لما فيه من قوة و طاقة و تأثير، و لكن هؤلاء قست

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 87

قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلا يؤمنون به، و يطلبون آية غيره، إنا أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً أي مقروءا، أي لو كان هناك قرآن سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ بأن يقرأ على جبل فيسير من شدة تأثيره و طاقته المسيرة للجماد أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ بأن يقرأ على الأرض، فتنشق من طاقته الهائلة، التي تنشق الأرض من هيبته أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بأن يقرأ على الميت، فيتكلم الأحياء بسببه، أو المراد يحيي الميت- فالتكلم كناية عن الحياة- أي لو أن قرآنا كان كذلك، لكان هو هذا القرآن، و لكن الكفار مع ذلك يطلبون غيره، و لا يكتفون به،

فجواب «لو» محذوف و هذا كما يقال: فلان يبكي حتى يتأثر به الحجر يراد أن في بكائه من الحرارة و اللوعة، ما يكفي لأن يؤثر في الحجر، و فلان منطيق، يؤثر كلامه في الأموات، يراد أن في نطقه من التأثير ما يجعله صالحا لأن يؤثر في الأموات ثم أن هذا القرآن يؤثر- بالفعل- هذه التأثيرات، و لكن بشرط أن يتلوه الإنسان الصالح، فهو كالسيف الذي يصلح أن يجز الرقاب، و لكن إذا كان بيد الشجاع،

و قد روي عن الإمام الكاظم عليه السّلام أنه قال: قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال، و تقطع به البلدان، و تحيي به الموتى «1».

و المراد بإرثه بذلك المعنى، لا إرث ألفاظه و أوراقه، فإنهما عامان لكل المسلمين، كما أنه ربما أطلق الإرث و أريد به إرث المعاني مما خفي على كثير من الناس، و لذا انحرفوا فصاروا مجسمة و مجبرة، و ما أشبه

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 226.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 88

بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً إنهم يطلبون الآيات الخارقة، لكن النبي ليس مكلفا بذلك، و إنما مكلف بالإنذار، و أن يكون معه ما يصدقه أنه نبي مرسل، و قد فعل الأمرين، فجاء بالقرآن شاهدا، ثم أنذر و بشر، أما سائر الآيات، التي يقترحونها، فإنها بيد الله، كما قال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) «1» فهو ينزلها حسب المصلحة و الحكمة- كما سبق تفصيل ذلك- و إذا أتى هؤلاء الكفار، هذا القرآن العظيم الذي من شأنه تلك التأثيرات الهائلة، ثم لم يؤمنوا به، فلييأس المؤمنون من هدايتهم، و لينتظروا عذاب الله و عقابه، جزاء إعراضهم أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا عن هؤلاء؟

و ألم يعلموا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً بالإجبار، فإذ رأوا أنه لا يهدي أحدا بالإجبار، فاللازم أن ييأسوا، فإن هناك إما الإيمان بالاختيار، و إما الإيمان بالجبر، و إما اليأس عنهم، فإذا علم المؤمنون أن الله لا يجبر أحدا بالإيمان، و رأوا عناد هؤلاء عن الإيمان الاختياري، فاللازم أن ييأسوا عنهم، و يتركوهم في ضلالهم يعمهون، و قد ظهر بما ذكرنا: أن «أ فلم ييأس» أشرب معنى «أ فلم يعلم» و لذا عمل في «أن لو يشاء» وَ إذ لا يريد الله إجبار الكفار، و لا أنهم يؤمنون بالاختيار، فليعلم المؤمنون أنه لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ما تقرعهم و تضربهم، فإنه سبحانه لم يشاء إهلاك هذه الأمة دفعة كبعض الأمم

______________________________

(1) الأنعام: 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 89

[سورة الرعد (13): الآيات 32 الى 33]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)

السالفة، لكنه تعالى يعذبهم مرة، فمرة بقوارع من الضيق و الفقر و الضر، و تسلط الأعداء عليهم، و نحو ذلك أَوْ تَحُلُ القارعة قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فتروعهم و تخيفهم و تدعهم في قلق و انتظار لمثلها حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الذي وعده باستئصال المجرمين و نصر المؤمنين عليهم إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ و وعده آت لا محالة.

[33] إن الله سبحانه لا بد و أن يصيب

الكفار بالقوارع، كما فعل بمن غبر من الأمم ممن كذبوا الرسل وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله، كما استهزئ بك، فإن من عادة الجهال أن يستهزءوا، إذا لم تكن لهم حجة في قبال المرشد الناصح فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الإملاء، هو أن يقرأ الإنسان شيئا ليكتبه غيره، و هذا كناية عن إمهال الكفار أي شرعت أعدّد ما يفعلون من الآثام و الاجرام، لتملأ القائمة المقدرة لهم ثُمَ حين استوفوا الأجل المقدر أَخَذْتُهُمْ أهلكتهم، و أنزلت عذابي عليهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي فكيف حل بهم عقابي، و هو استفهام للتفخيم، إشارة لعظمة عذابه سبحانه الذي عذبهم به.

[34] و إذا تمت الحجة مع الكفار الذين استهزءوا بالرسل، و أنكروا المبدأ و المعاد، فليعطف الكلام مع المشركين الذين يجعلون مع الله شركاء أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فهو ناظر إلى أعماله مطلع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 90

على نيّاته، كمن ليس كذلك من الشركاء الذين يشركونهم مع الله سبحانه؟ إنهما ليسا متساويين طبعا، ولدي كل عاقل، فكيف يساوي هؤلاء المشركون الله سبحانه بأولئك الشركاء وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ في العبادة و الإطاعة قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين سَمُّوهُمْ من هم أولئك الذين هم شركاء مع الله، إنها نكرات مجهولة لا شأن لها، حتى أن المشركين هم بأنفسهم يخجلون من تسميتها على الملأ، فكيف يتخذونهم شركاء، أَمْ تُنَبِّئُونَهُ أي تخبرون الله سبحانه بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ فتخبرون الله بآلهة لا يعلمها الله و أنتم تعلمونها، إنه كلام للاستهزاء كما إنهم كانوا يستهزئون بالرسول، و يا للسخرية أن يقولوا هؤلاء الكفار القائم على كل نفس بالأصنام، أو يجعلون لله شركاء، سافلة

إلى حد لا يقدرون على مجرد تسميتها، أو يخبرون الله، بما لا يعلم هو، و هم يعلمون، فيكونون أعلم من الله سبحانه؟؟

ثم إن من المعلوم، إن الشركاء لا وجود حقيقي لهم، و إنما هي موجودة في أدمغة المشركين، فعدم علمه سبحانه بالشركاء سالبة بانتفاء الموضوع، و هناك احتمال آخر، و هو أن يكون ضمير «لا يعلم» عائدا إلى الصنم، أي أ تخبرون الله بصنم لا يعلم في الأرض فكيف بالسماء، و هل يقاس ما لا علم له بشؤون الأرض، وحدها، بالله الذي يعلم كل شي ء، أَمْ إن جعلهم الشركاء ليس على نحو الحقيقة، و إنما بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي بكلام سطحي، فلا اعتقاد لهم بالشركاء و إنما يتلفظون بها، مجرد لفظ فكلامهم حول الشركاء، ككلامهم حول القصص الخيالية التي يعلمون بها أنها سطحية لا نصيب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 91

[سورة الرعد (13): آية 34]

لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)

لها من الواقع و الحقيقة بَلْ الواقع أن جعل هؤلاء لله شركاء من جهة أنه زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ فإن الإنسان إذا أعرض عن الحق يمكر، أي يدبر خفية أمرا، ليجعله في قبال الحق، و هذا في بادئ الأمر يكون مجرد عمل ضد الحق، و مكر لإطفاء الهدى، ثم لا يلبث أن يتزين في نفسه، لأن مرور الزمان يوجد العلاقة بينه و بين المكر، كما قال سبحانه (أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) «1» و ثم يتعلق به تعلقا شديدا، حتى يكون عقيدة راسخة وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ الواضح سبيل اللّه تعالى، و إنما صدهم استمرارهم في مكافحة الحق، حتى صارت وقفتهم

ضد الحق حالة لهم، و لذا تركهم اللّه سبحانه و شأنهم وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يتركه و شأنه حتى يستحكم ضلاله، بعد أن أرشده، فلم يقبل فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إذ الهادي هو اللّه وحده و قد أعرض عن هداه.

[35] لَهُمْ أي لهؤلاء الذين أشركوا بالله عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإن الانحراف عن نهج اللّه سبحانه، حيث يصادم نواميس الكون، لا بد و أن يسبب للمنحرفين العذاب الجسمي و الروحي بالأمراض و العداء و القلق، و ما أشبه، هذا بالإضافة إلى تعذيبهم بالقتل و الأسر و السبي بأيدي المسلمين وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم أَشَقُ أكثر مشقة،

______________________________

(1) فاطر: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 92

[سورة الرعد (13): آية 35]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)

و أغلظ وَ ما لَهُمْ مِنَ قبل اللَّهِ مِنْ واقٍ اسم فاعل من «وقي» أي من حافظ يحفظهم من ذلك العذاب و إذ لا حافظ إليهم من اللّه، فلا حافظ لهم إطلاقا.

[36] إن في الآخرة للمشركين عذابا شديدا، أما المؤمنون فلهم الجنة، إنهم وقوا أنفسهم عن المعاصي و اتقوا، فوقاهم اللّه عن العذاب، بل هيئ لهم الجنة مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ دخولها و التنعم فيها، و لعل الإتيان بالمثل لإفادة أن حقيقة الجنة لا تتصور، و إنما يتصور الإنسان شبهها، كما إنك إذا أردت أن تفهم طفلا حقيقة الكهرباء سالبه و إيجابه، لا يتصورها، فتقول أن مثله أن تأخذ حبلا فتجره مرة إلى اليمين، و أخرى إلى الشمال، و لذا

ورد أن هناك يرى الإنسان ما لا عين رأت و لا أذن سمعت، و لا

خطر على قلب بشر

«1» «و لا يخفى ما في هذه الكلمة الأخيرة من معنى مدهش» أن مثلها جنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ و لعل الإتيان بكلمة تحت، لإفادة أنها ليست كبعض الأراضي في الدنيا، التي هناك نهر، بلا شجر و بناء، و إنما الأنهار- في الجنة- تجري تحت القصور و الأشجار، حيث تشابكت الأشجار، و تراصفت القصور أُكُلُها الأكل، هو الثمرة دائِمٌ أي أن ثمارها دائمة ليست كثمار الدنيا، تظهر في فصل دون فصل وَ ظِلُّها دائم لا يكون مرة شمسا و مرة ظلا، بل دائم الظلال، لا تلفح الإنسان، شمس، أو حر، أو برد

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 17.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 93

[سورة الرعد (13): آية 36]

وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ (36)

تِلْكَ الجنة عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا عاقبتهم وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ عاقبتهم النَّارُ فمن أراد اتقى ليصل إلى تلك و من شاء كفر ليعاقب بهذه.

[37] و إذ يفرغ القرآن الحكيم من الكفار و المشركين، و يبين أحوال المؤمنين و المتقين يعطف نحو أهل الكتاب و موقفهم من الرسول و القرآن وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي أعطيناهم الكتاب السماوي، كالتوراة و الإنجيل، يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا رسول اللّه، فإن أهل الكتاب المستقيمين الذين لم يعصب عينهم الحقد و الحسد، و التقليد الأعمى، لا بد و أن يفرحوا بهذا الكتاب الذي يجدونه يصدقهم، و يأخذ بأيديهم في مقابل الكفار و المشركين، فإن الإنسان يفرح بناصره و معاضده، و من المعلوم أن نسبة

الأشياء الحسنة إلى قوم، إنما يراد بها النسبة إلى عقلائهم و مفكريهم و مستقيمي الرأي منهم، فإنك إذا قلت أن المسلمين صادقون في أقوالهم موفون لعهودهم، لا تريد أن جميع أفرادهم كذلك، و إنما تريد المستقيمين منهم في الإسلام، و كذلك أمثال هذه النسبة، و قد كان في أصحاب النبي زمرة من خيرة اليهود و النصارى، الذين اتبعوه، لما رأوا فيه الحق و الصدق، لكن من تحزّب ضد الرسول من أهل الكتاب، لا بد و أن يخالفوا الكتاب، فإنهم بطبيعتهم الحزبية، لا بد و أن يتلقوا الأوامر من كبرائهم الحاسدين و قد كان شأن الأحزاب هكذا قديما و حديثا فإنهم حيث يدخلون أنفسهم في إطار طاعة الحزب لا بد لهم أن يتمثلوا ما يقوله الحزب حقا أم باطلا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 94

[سورة الرعد (13): آية 37]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ (37)

و يحاربوا من يخالف الحزب حقا كان أم باطلا، فالمعيار الحق عندهم ينقلب إلى معيار الحزب، و لذا نرى أن اللّه سبحانه لم يسلم أزمة الأمور إلا بيد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة المعصومين عليهم السّلام، ثم بيد الفقيه العادل، حيث علم سبحانه، بأن الناس يتبعون من ألقى الزمام بيده، و لو أمر بالباطل، فتحفظا عن اتباع الناس للباطل، لم يجعل أزمتهم إلا بيد من لا يعمل إلا بالحق لما فيه من الملكة الراسخة، و الصفة النفسية المعدلة لسلوكه، طبق أوامر اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إلا فيما سهى أو نسي، مما لا استثناء له،

إلا بالنسبة إلى المعصوم عليه السّلام- وَ مِنَ الْأَحْزابِ الذين تحزّبوا ضد الإسلام، من أهل الكتاب مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي بعض القرآن، مما لا يطابق كتبهم المنحرفة أو ينافي سيادتهم و رشوتهم، أما ما طابق الكتابين، فلا مجال لهم بإنكاره قُلْ يا رسول اللّه، لمن ينكر بعض ما أنزل إليك إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وحده وَ لا أُشْرِكَ بِهِ غيره، فإنكاركم لذلك، كما تزعمون أن عيسى أو عزير ابني اللّه، أو أن الآلهة ثلاثة، لا يضرّني في توحيدي و تنزيهي إِلَيْهِ أي إلى اللّه وحده أَدْعُوا فهو مبدئي وَ إِلَيْهِ مَآبِ أي مرجعي، من آب بمعنى رجع.

[38] وَ كَذلِكَ أي كما أنزلنا إلى من تقدم من النبيين، كتابا بلغتهم ليفهموه، و يفهمه أممهم أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا القرآن- المستفاد من قوله، و ما أنزل إليك- حُكْماً عَرَبِيًّا أي أنزلنا هذا الحكم في حال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 95

كونه بلغة العرب، التي هي لغتك، و لغة قومك لتفهمه تماما، و يفهمه القوم تماما، فالرسول على يقين منه، و لقائل أن يقول: و ما هو الاختصاص بهذه اللغة؟ الجواب: الأمر دائر بين اللغة، و بين سائر اللغات، و إذا نزل بلغة أخرى فللقائل أيضا أن يقول: ما هو الاختصاص بتلك اللغة؟ بالإضافة إلى أن هذه اللغة كانت أرجح من حيث أنها اللغة الملتفة ببيت اللّه الحرام الذي هو ملتقى الشعوب و القبائل قديما و حديثا، لوجوب الحج في جميع الأديان، فقد حج عليه السّلام، فمن بعده، و الشرق الأوسط أوسط من حيث المعمورة، تقريبا، فنسبته إلى العالم سواء و إطلاق الحكم على كل القرآن للتغليب، وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ يا رسول اللّه أَهْواءَهُمْ أي عقائد الكفار

و أهل الكتاب، و سميت أهواء لأن المخترع لها هو الهوى، إذ لم يدل عقل أو نقل على الكفر و التثليث، و ما أشبه بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ «من» بيان «ما» ما لَكَ أي ليس لك مِنَ طرف اللَّهِ سبحانه مِنْ وَلِيٍ يلي أمرك و ينصرك وَ لا واقٍ أي حافظ يحفظك من عذابه، فلا ولاية، بل عداوة، إذ عدم الولاية لا يلازم العداوة، و لذا صرح بقوله «و لا واق» من وقي يقي إذا حفظ، و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان لا يتبع أهواءهم- بالاضافة إلى أن «إن» الشرطيّة لا يربط إلا المقدم باتساع- إلا كأنه، لوحظ كون التهديد موجّها إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليكون أبلغ من تقرير العقاب القطعي بالنسبة إلى متبع الأهواء، كما إنك إذ أردت تهديدا جديّا إلى صديقك مع إنك تعلم أنه لا يقترف الإثم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 96

[سورة الرعد (13): الآيات 38 الى 39]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)

[39] قد كان الكفار يناقشون في كل من المبدأ و المعاد و الرسول و كتابه، و قد كانت مناقشتهم حول الرسول أنه كيف يمكن أن يكون الرسول بشرا يأكل و ينكح و يمشي، و يكون له أولاد، و يأتي الجواب بصدد هذه المناقشة، أن الرسل سابقا أيضا، كانوا كذلك، فكيف تؤمنون بأولئك الرسل و تناقشون هذا الرسول؟ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه وَ

جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً نساء وَ ذُرِّيَّةً أولادا، فما ذا يستنكر هؤلاء منك أن يكون لك أزواج أو ذرية؟ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن الخارقة إنما يأتيها الرسول بإذن من اللّه سبحانه، و ليست بيده حتى أن كل اقتراح يجيبه، و كل ما طلبوا منه يأتي به، فإن كان اعتراض هؤلاء عليك، أن لك أزواجا و ذرية؟ فهم معترفون بأنه كان لسائر الأنبياء أزواج و ذرية، و إن كان اعتراضهم أنك لم تأتي بما اقترحوا عليك؟ فالآيات بيد اللّه سبحانه، و قد جئت لهم بقدر ما يتم الحجة، فإن كان اعتراضهم بأنه كيف اختلف هذا الكتاب، مع كتاب موسى و عيسى، فإن كان ذلك الكتاب حقا، فكيف أتيت بخلافه؟ فإن لِكُلِّ أَجَلٍ أي مدة، و زمان كِتابٌ خاص به، فإذا انقضى ذلك الزمان جاء كتاب آخر يلائم البشرية في أدوارها.

[40] و قد كان لموسى عليه السّلام كتاب، ثم جاء عيسى عليه السّلام و أتى بما يختلف مع كتاب موسى عليه السّلام، كما قال: (وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 97

عَلَيْكُمْ) «1» فإنه يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يرفع حكمه لانتهاء الصلاح بالنسبة إليه وَ يُثْبِتُ مكانه ما يشاء، لأنه مثله في ملائمة هذا العصر، أو أفضل منه، كما قال: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) «2» وَ عِنْدَهُ سبحانه، في علمه و اطلاعه أُمُّ الْكِتابِ أي أصل الكتاب الذي فيه ما يمحى و ما يثبت، و إلى أي قدر يبقى ما يمحى هذا حسب ما يتعلق بالسياق، و إلا فالظاهر أنّ الآية أعم من الأحكام، فالتقديرات منها قابلة للتغيير، و

منها غير قابلة، و قد وردت أحاديث في باب المحو و الإثبات، و أم الكتاب، و لعل خلاصة القول في تلك كلها، أن هناك علما خاصا بالله سبحانه يعلم الأشياء التي تقع إلى الأبد، و لا تغيير في ذلك، و لا تحرير، و هناك لوح يثبت فيه أشياء ثم ربما تقتضي المصلحة، فيمحي ذلك المثبت ليكتب مكانه شي ء آخر،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن المرء ليصل رحمه، و ما بقي من عمره إلا ثلاث سنين، فيمدها اللّه إلى ثلاث و ثلاثين سنة، و إن المرء ليقطع رحمه، و قد بقي من عمره ثلاث و ثلاثون سنة فينقصه اللّه إلى ثلاث سنين، أو أدنى. قال الراوي: أن الصادق عليه السّلام لما حدث بهذا الحديث قرأ هذه الآية، أي «يمحو اللّه ما يشاء»

«3» و هنا سؤالان، الأول هل أن اللّه يعلم أن الشخص الفلاني يموت في أم الكتاب أم لا؟

فإن علم أنه يموت فما فائدة الصدقة و الدعاء و إن علم بأنه لا يموت، فالصدقة و الدعاء اعتباط؟ و الجواب أن اللّه يعلم، أنه يتصدق، فلا يموت، كما أنه سبحانه يعلم أن زيدا يقرأ العلم، فيصبح عالما، فلا

______________________________

(1) آل عمران: 51.

(2) البقرة: 107.

(3) وسائل الشيعة: ج 21 ص 537.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 98

[سورة الرعد (13): آية 40]

وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ (40)

يصح أن يقول الجاهل، إن كان في علم اللّه، أنا أصبح عالما، فما فائدة تعبي لما يأتني بلا تعب؟ و إن كان في علم اللّه، أنا لا أصبح عالما، كان تعبي في تحصيل العلم هباء، فإن رده واضح أنه

في علم اللّه أنك تتعب حتى تكون عالما، الثاني- ما فائدة لوح المحو و الإثبات، بينما لا يصير في الخارج، إلا على طبق أم الكتاب؟

و الجواب أن ذلك ليتعلم الملائكة و الأنبياء، و من إليهم، فإنه كان يكتب في اللوح، أن عمر زيد ثلاث سنوات، ثم إذ رأى الملائكة و من له اتصال بذلك اللوح أن «الثلاث» محيت و كتب مكانها «ثلاث و ثلاثون» عرفوا السبب، و صار ذلك محفزا للفضائل، و زاجرا عن الرذائل بالنسبة إلى من علم، كما لو رأى أحد موظفي الدولة أن في الدفتر غير مقدار راتب أحد الموظفين إلى أرفع أو أنقص لخدمة أو كسالة، حفزه ذلك، إلى اجتناب المنقصة، و العمل بالمنقبة، و تمام الكلام في علم الكلام.

[41] قد سبق إنذار الكفار بقوله سبحانه «و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم» و الآن يأتي السياق لبيان أنه سواء أخذ اللّه الكفار بالعذاب في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو توفاه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل ذلك، فإن ذلك لا يغيّر من طبيعة الرسالة، فإن الرسول يأمر بالبلاغ، سواء انتصر على الكفار، و وصلت بهم القوارع، أم لا وَ إِنْ ما أصله «إن» الشرطيّة و «ما» الزائدة، جيئت زينة للكلام نُرِيَنَّكَ يا رسول اللّه بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي بعض العقوبات التي وعدناها الكفار، و إنما قال بعض لأن كل العقوبات لا تقع في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنها تدريجية طيلة بقاء الكفر و الكافرين أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ و نقبض روحك إلينا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 99

[سورة الرعد (13): آية 41]

أَ وَ

لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41)

فَإِنَّما عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْبَلاغُ أن تبلغ القوم و تنذرهم وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ بأن نحاسبهم و نجازيهم و ننتقم من كفارهم، إما عاجلا أو آجلا.

[42] لقد أنذر الكفار بالعقاب، و القارعة تصيبهم، ألا فلينظروا إلى الأمم السابقة كيف عاقبهم اللّه سبحانه، فقد ضيّق سبحانه ملكهم و سعتهم، بعد أن كانوا كبارا أقوياء أَ وَ لَمْ يَرَوْا استفهام إنكاري، أي لقد رأى هؤلاء الكفار أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي نقصدها، و نتوجه نحوها نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي ننقص أراضي الكفار من هنا و هناك، بأن تصبح أرضهم يبابا بعد أن كانت عامرة، و مدنهم صغيرة، بعد أن كانت كبيرة، و حدودهم ضيقة، بعد أن كانت وسيعة، كل ذلك لانهيارهم و ضعفهم، فلا يقدروا على الزراعة و العمارة، و فقد شبابهم و قواهم، فلا يتمكنوا من حفظ حدودهم من الدول المعتدية، و قوله سبحانه «الأرض» لا دلالة فيها على مجموع أرض الكرة، فإن مثل هذا التعبير كثير في مثل المقامات التي ذكرنا يقال: الرئيس الفلاني، أفسد الأرض، و الرئيس الفلاني عمرها، أو وسّع فيها، أو ضيقها مما هو كثير متداول في ألسنة الناس،

و قد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: يعني بذلك ما يهلك من القرون، فسماه إتيانا.

أما ما ورد من تفسير الآية بموت العالم، فإن ذلك من أسباب نقص الأرض، إذ العالم قوة تحفظ سعة الأرض، و عمارتها و نشاطها وَ قد يظن بعض الناس، أو بعض الدول إنما أنهم يوسعون و يعمرون، فلا قدرة فوقهم لكنه سراب خادع، فإن اللَّهُ يَحْكُمُ بكل شي ء و

منها السعة و الضيق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 100

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 151

[سورة الرعد (13): الآيات 42 الى 43]

وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)

و العمارة و الخراب لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فلا أحد يعقب الحكم الصادر منه تعالى بالتغيير و التبديل وَ هُوَ سبحانه سَرِيعُ الْحِسابِ فلا يظن القوي، أنه يبقى، و إن طغى، بل يأخذه اللّه سبحانه بسرعة مذهلة، حتى كأنه لم يغني بالأمس، و من نظر إلى سرعة انهيار الكفار و الظالمين، ليأخذه العجب.

[43] إن هؤلاء الكفار ليسوا بأشد مكرا- لإطفاء الدين- من قبلهم، فقد كان أولئك يمكرون، و يأخذون التدابير الخفية، لمحو هدى الأنبياء عليهم السّلام، و لكن تدبير اللّه كان أقوى منهم فقد نصر أوليائه في الدنيا، و سينصرهم في الآخرة، بإعطاء الثواب الجزيل، و إخلاد الكفار النار وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فقد مكر الكفار في الأمم السابقة، للرسل المؤمنين باتخاذ تدابير خفية لاستئصالهم فأبطل اللّه مكرهم، إذ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً فإنه سبحانه عالم بجميع التدابير، فيرد على الكفار تدابيرهم و يتخذ هو سبحانه تدابير خفية لنصرة الأنبياء يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من التدابير الخفية و الجلية، فيضع لتدابير الكفار معوّقا و مبطلا، هذا في الدنيا وَ سَيَعْلَمُ في الآخرة الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة- فإنها طبعا- للمؤمنين دونهم.

[44] ابتدأت السورة بقوله «وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» فقد كان الابتداء لإثبات الرسالة، و

يأتي الختام ليفهم ما ابتدأت به من إثبات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 101

الرسالة، مع الإلماع إلى خلاصة ما يقوله الكفار في الرسول الذي سبق أنهم أنكروا رسالته، لأنه لا يأتي بآية، و لأن له أزواجا و ذرية، و ما أشبه ذلك وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ يا رسول اللّه مُرْسَلًا من قبل اللّه قُلْ لهم كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أنه يشهد برسالتي و شهادته إعطاء هذه المعجزة الخالدة- القرآن- لي، فإنه إمضاء عملي وَ كفى شهيدا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ و هم اليهود و النصارى الذين وجدوا في كتبهم وصف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أظهره المنصفون منهم و ما ورد من أن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام مراد بهذا فإنه مصداق ظاهر ممن عنده علم الكتاب، يعلم الكتب السابقة، و القرآن الحكيم جميعا، و أنه عليه السّلام ليشهد للرسول، و يأتي بالدلالة لرسالته التي منها إخراج وصفهم من كتب الأنبياء السابقين «1»، و قد أخرج حفيده الإمام الرضا عليه السّلام- في مجلس المأمون- ما أبان ذلك، و إنهم أهل بيت عندهم علم لكل الكتب «2»

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 35 ص 432.

(2) راجع وسائل الشيعة: ج 27 ص 72.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 102

14 سورة إبراهيم مكية/ آياتها (53)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على اسم «إبراهيم عليه السّلام» و قصته، و السياق العام في هذه السورة، كالسور المكية- غالبا- حول أصول العقيدة من توحيد و رسالة و معاد، فقد كانت مكة تلائم مثل هذه الأمور، لعدم تأسيس دولة تحتاج إلى النظم و التشريعات- بعد- قال بعض المفسرين أن مصب جو السورة إلى أمرين مهمين، أولا وحدة دعوة الرسل، و

الثاني نعمة اللّه على البشر، و مقابلة أكثرهم لها بالكفر.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله في حوائجنا، و نجعله في ابتداء أمورنا و هل هناك أرفع شأنا منه حتى يبتدأ باسمه، فإنه اللّه الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم لكل الأشياء، أليس هو الرحمن المطلق فقد وسعت رحمته كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 103

[سورة إبراهيم (14): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2)

[2] و لما ختم اللّه سبحانه سورة الرعد بإثبات الرسالة و إنزال الكتاب افتتح هذه السورة ببيان الغرض في الرسالة و الكتاب فقال الر الف، و لام، وراء، أي من هذا الجنس كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ و هو القرآن الكريم، و الإنزال إن كان من السماء- كما هو الظاهر من الآيات و الروايات- كان اللفظ حقيقة، و إن كان بالإلقاء في القلب و ما أشبه كان الإنزال مجازا، تشبيها بالعلو الحقيقي للمنزل، بالعلو الخارجي، يقال: تلقيت الأمر من الأعلى، و يراد أعلى درجة و رتبة لا أعلى مكانا، لِتُخْرِجَ يا رسول اللّه النَّاسَ جميع الخلق، و عدم خروج بعضهم لعدم بلوغه الدعوة أو عناده لا ينافي كون الغرض من الإنزال ذلك مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فإن الإنسان المنحرف العقيدة و المنهج في ظلمة، فكما أن من في الظلمة الخارجية لا يبصر مكان قدمه و لا يبصر ما حوله من الحقائق الخارجية، كذلك من في الظلمة العقيدية و المنهجية، لا يرى الحق بالنسبة إلى العقائد، فأي فرق بين

من لا يبصر بعينه الكتاب الموضوع في الرف، و بين من لا يرى بقلبه للكون خالقا، أو لا يرى كيف يعامل بربا أو بدون ربا، بل الظلمة الظاهرية أهون، فإن الأعمى أكثر ما يخشى عليه التردي، و الذي في ظلمة الكفر، في تعاسة الحياة كلها، و سوء المنقلب- قطعا- بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فإن اللّه سبحانه أذن إخراج الناس من الظلمة إلى النور، لمّا أوحى إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتبليغ، و التعبير ب «الإذن» دون «الأمر» لعله للمقابلة مع ما كان ينسبه الكفار إلى اللّه من الخرافات في العقيدة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 104

[سورة إبراهيم (14): آية 3]

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)

و العمل، فتلك لم يأذن بها اللّه، كما قال: (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) «1»؟ و هذا أذن به اللّه، و يحتمل أن يكون المراد أن الرسول لا يقدر إلا على البلاغ، أما إخراج الناس إخراجا خارجيا، بأن يطاوعه الناس في الخروج من الظلمات، إلى النور فإن ذلك ليس في مقدور الرسول و إنما هو بإذن اللّه، وفق سنته التي سنها في الكون، التي هي أن من أعطى القلب و هو شهيد مريد للحق، دخل في قلبه هذا النور، و من ألقى السمع، و ليس بشهيد لا يدخل في قلبه هذا النور إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هذا بدل من قوله «إلى النور» فالنور هو صراط اللّه سبحانه «العزيز» مالك العزة و القوة و القدرة و الإرادة «الحميدة» الذي يحمل العارفون لما له من الإنعام و الإفضال، فهم إنما يخرجون من صراط الذلة و الجدب

إلى صراط العزة و الحمد، فمن كفر فليعلم أن اللّه عزيز قاهر، و من شكر فليعلم أن اللّه متفضل حميد.

[3] ثم فسر سبحانه «العزيز الحميد» بقوله اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهو خالقها و مبدعها و مسيّر أمرها، و المراد بالمظروف أعم من الظرف، كما سبق في مثل هذه الآية الكريمة، أن مصير المؤمنين بهذا الإله واضح لا مرية فيه، فهو خير الدنيا و سعادة الآخرة، و أما الكافرون به، وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ و الويل

______________________________

(1) يونس: 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 105

[سورة إبراهيم (14): آية 3]

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)

كلمة تقال لسوء الحال- غالبا- و العذاب الشديد في الدنيا بالشقاء، و في الآخرة بالنار.

[4] ثم وصف سبحانه الكافرين بصفة تحمل العلة في كفر الكافرين، فالكافرون هم الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا و لعل الإتيان بباب الاستفعال «يستحبون» دون «يحبون» لإفادة أن من طبيعتهم لم يكن الحب الزائد لها، و إنما طلبوا حبها، حتى صار ملكة لهم، فإن الاستفعال فيه معنى الطلب عَلَى الْآخِرَةِ أي استحباب الآخرة، و كأنه عدّي بعلى لإشراب الفعل معنى الترجيح، أي يستحبون الحياة مرجحين لها على الآخرة،

فإن حب الدنيا كما قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رأس كل خطيئة،

فتصطدم دنياهم بآخرتهم، فيقدمون الدنيا على الآخرة، حيث نشب بقلبهم حبها، فمثلا الآخرة تنهي عن الربا، و الدنيا تطلبه، و عن الزنى و عن القمار، و عن النظر إلى أموال الناس، و أعراضهم، و التطلب للجاه، و لو بألف حرام، و هكذا، وَ يَصُدُّونَ أي يمنعون عَنْ

سَبِيلِ اللَّهِ أي طريقته في العقيدة، و النظام، فمن أراد الإيمان أو الإطاعة منعوه عن ذلك وَ يَبْغُونَها أي يطلبون السبيل- و لفظة السبيل يجوز فيها التذكير و التأنيث- عِوَجاً أي منحرفا، فلا يسيرون على الطريق المستقيم صراط اللّه سبحانه، و إنما يسيرون على الطريق المعوج، و إنما كان طريقهم معوجا، لأنه لا يصل إلى المطلوب، فمثلا المطلوب في الدنيا الصحة، و الزنى يوجب الأمراض الزهرية، و هكذا، و يحتمل أن يراد ب «يبغونها عوجا» أنهم يريدون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 106

[سورة إبراهيم (14): آية 4]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

جعل طريق اللّه أعوج في نظر الناس، حتى لا يتبعوه، فيزينون لهم أشياء ملصقة بطريقه سبحانه، ليبعدوا الناس عنه أُولئِكَ الكفار الذين هذه صفاتهم فِي ضَلالٍ و انحراف من الحق بَعِيدٍ كأنهم ابتعدوا عن المنهج السوي كثيرا، في قبال الكافر الذي لا يصد عن سبيل اللّه، فإنه أقرب من الأول، و الفاسق الذي يعتقد صحيحا، و يعمل فاسدا، فإنه في ضلال أقرب إلى الطريق من الفئتين السابقتين.

[5] إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أرسل إلى قومه بلغة العرب، كما أن سائر المرسلين أرسلوا بلغة أقوامهم، و إن كانت رسالة بعضهم عامة كموسى و عيسى عليه السّلام، وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ امتنانا من اللّه سبحانه عليهم حتى لا يصعب عليهم الفهم، و إن كانت الحجة تتم بدون ذلك، ثم أنه ليس المراد من القوم عشيرته، بل القوم يطلق على من جمعهم لسان واحد، كما أنه يطلق على من جمعتهم عشيرة

واحدة، أو ما أشبه ذلك لِيُبَيِّنَ لَهُمْ علة إرسال الرسول بلسان القوم فجاء الرسول، و بيّن و فهّم، ثم يأتي دور اللطف الخفي و الخذلان، فمن آمن لطف به سبحانه لطفه الخفي، و من أعرض خذله تعالى و تركه، و هذا معنى قوله فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ أي يتركهم في ضلالهم، و ليست مشيئة اعتباطية، و إنما يشاء بالنسبة إلى من أعرض، وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فيلطف به الألطاف الخفية، بعد أن أذعن و اعترف، و جاء في حظيرة المؤمنين، فإن الهداية و الضلال لهما مراتب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 107

[سورة إبراهيم (14): آية 5]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)

ثلاث، البيان و الترك، و اللطف الخفي و الخذلان، و الإيصال إلى المطلوب و هي الجنة و عدم الإيصال- كما بين ذلك في علم الكلام- وَ هُوَ سبحانه الْعَزِيزُ الغالب القاهر ذو العزة و العفة، فهو قادر على الهداية و الإضلال الْحَكِيمُ يفعل كل ذلك حسب الحكمة و الصلاح، فمن أبى الهداية تركه في ظلمات الضلال، و من رغب فيها أخذ بيده درجة فدرجة، كالمعلم الذي يترك تلميذه الذي لا يحفظ، و يأخذ بيد تلميذه الذي يحفظ حتى يرتقي- بعد أن يلقي الدرس عليهما على حد سواء-.

[6] ثم ذكر سبحانه مثالا لإرسال الرسل بلسان قومهم بقوله وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي مع المعجزات و الدلالات المصدقة له أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ هذه كانت رسالة موسى عليه السّلام، أي أرسلنا موسى قائلين له أن أخرج، و جملة «بآياتنا» معترضة، و قد كانت صيغة

رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» كصيغة رسالة موسى «أن أخرج» و قد تقدم معنى كون الناس في ظلمة، و أن الرسول يخرجهم منها إلى النور وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ و هي الأيام التي وقعت فيها أمور خارقة من النعم أو النقم، و التذكير بها يفيد العاقل لزوم إطاعة اللّه حتى ينال من تلك النعم، و لزوم ترك المعصية، حتى لا يقع في مثل تلك النقم، كالتذكير بما فضل اللّه به نوحا و المؤمنين من النجاة في السفينة، و بما نقم اللّه سبحانه على الكافرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 108

[سورة إبراهيم (14): آية 6]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

بالغرق و الهلاك إِنَّ فِي ذلِكَ التذكير لَآياتٍ دلالات لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر على بلاء اللّه سبحانه شَكُورٍ كثير الشكر على نعمائه، و يعني أن من له نفس واعية تصبر في البلاء و تشكر في الرخاء، لا بد و أن يعتبر بأيام اللّه السابقة التي مضت على الأمم، و لا بد أن يعلم وجوب الصبر في البلاء، و وجوب الشكر على الرخاء.

[7] وَ أخذ موسى عليه السّلام حسب أمر اللّه سبحانه يؤدي رسالته، و يذكر بني إسرائيل بأيام اللّه إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ «إذ» متعلق بمحذوف، أي اذكر يا رسول اللّه وقت قول موسى لقومه اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ و كان النعمة تغمر الإنسان، و لذا تعدى ب «على» إِذْ أَنْجاكُمْ أي في الوقت الذي أنجاكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي فرعون

و ذويه، فإنه كثيرا ما يغلب أن يقال «آل فلان» و يراد هو و آله يَسُومُونَكُمْ من سامه إذا أذاقه الهوان سُوءَ الْعَذابِ أي العذاب السي ء، باتخاذهم عمّالا في الأبنية مع إذلالهم و إهانتهم و سجنهم، و بقر بطون نسائهم وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ خوفا من ظهور موسى عليه السّلام، فقد أمر فرعون أن يذبح كل ولد يولد لبني إسرائيل، و الإتيان بباب التفعيل «يذبحّون» لأنه يدل على التكثير، كما قالوا في «غلقت الأبواب» «و قطع الجبال» وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يبقون البنات أحياء للخدمة و الاستمتاع، و الإتيان بباب الاستفعال، لافادته معنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 109

[سورة إبراهيم (14): آية 7]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7)

الطلب، فليس الأمر تركهن أحياء و إنما طلب حياتهن، لفوائدهم، و هل ذلة أكثر من هذا؟ وَ فِي ذلِكُمْ «ذا» إشارة إلى ما كان يعمله آل فرعون و «كم» خطاب بَلاءٌ أي امتحان مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ حتى يميز الباقي من بني إسرائيل على مبدأ آبائه و أجداده، من التارك منهم و اتخاذه طريقة فرعون، فقد كان في مصر نسل يعقوب عليه السّلام، و هم بنو إسرائيل، عبادا لله سبحانه، متخذين طريقة إبراهيم، و إسحاق و يعقوب أجدادهم كما كان فيه القبط الذين يعتقدون بألوهية فرعون- ملكهم المجرم- و كان الملك و قبيلته يطاردون بني إسرائيل، بأنواع العذاب ليتركوا طريقتهم، و يدخلوا في طبقة القبط، ثم أنه كان من أيام اللّه، تلك النعمة بالإنجاء، كما أنه كان من أيّام اللّه تلك البلية بفرعون و زمرته.

[8] ثم قال لهم موسى عليه السّلام وَ إِذْ تَأَذَّنَ أي اعلم، هو باب التفعّل من الأذان،

بمعنى الاعلام، و لعل الإتيان من هذا الباب، لإفادته التكثير، أي اعلم مرات و مرات رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل لَئِنْ شَكَرْتُمْ النعم بصرفها في ما أمر اللّه سبحانه بصرف العقل في التفكر في آيات اللّه تعالى، و صرف الجوارح في إطاعته سبحانه، فإن شكر النعمة، صرفها في المصرف اللائق بها لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة على نعمة، و لطفا على لطف، و سببه واضح، فإن استقامة النفس، توجب الأعمال الصالحة، التي تؤدي إلى الخير و الرفاه و الزيادة، وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ بأن صرفتم النعم في غير وجهها إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ يعني أعذبكم عذابا شديدا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 110

[سورة إبراهيم (14): الآيات 8 الى 9]

وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)

فإن النفس غير المستقيمة، لا بد و أن تسبب هدما لمناهج الحياة، و ذلك يسبب الشقاء و التعاسة في الدنيا و الآخرة، ثم أن الشكر باللسان، أضعف أقسام الشكر و إن كان مطلوبا أيضا، فإنه شكر بالقلب، و شكر باللسان، و شكر بالجوارح، كما قال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) «1» أي ائتوا بالشكر العملي،

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال في تفسير هذه الآية، أيما عبد أنعمت عليه نعمة، فأقر بها بقلبه، و حمد اللّه عليها بلسانه، لم ينفذ كلامه حتى يأمر اللّه له بالزيادة «2».

[9] وَ قالَ مُوسى لبني إسرائيل- بمناسبة قوله

السابق: و لئن كفرتم- إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ يا بني إسرائيل وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بلا استثناء فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌ عن الجميع لا يضره كفركم شيئا حَمِيدٌ بذاته لا يحتاج إلى حمد الناس و شكرهم، و إنما الشكر و الإيمان تعود فائدتهما إلى نفس الناس، باستقامة حياتهم، و طهارة نفوسهم.

[10] و قال لهم موسى عليه السّلام أَ لَمْ يَأْتِكُمْ يا قوم نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي ألم يصل إليكم أخبار الأمم الماضية الذين عصوا اللّه سبحانه، فأخذهم بعذابه الشديد، أخذ عزيز مقتدر؟ قَوْمِ نُوحٍ بدل من «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» حيث أهلكوا بالغرق وَ عادٍ قوم هود عليه السّلام وَ ثَمُودَ

______________________________

(1) سبأ: 14.

(2) تفسير العياشي: ج 2 ص 222.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 111

قوم صالح عليه السّلام وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من قوم الأنبياء الذين جاءوا إليهم بالصدق و الحق، فلجئوا إلى الباطل، و لم يسمعوا كلام الأنبياء لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ فإن تلك الأقوام، حيث كانوا قريبين من محل موسى عليه السّلام بين مصر و سوريا، كانت أخبارهم وصلت إلى بني إسرائيل، أما سائر الأقوام الكثيرة، التي قال اللّه سبحانه عنها (وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) «1» فلم يكن يعلمهم إلا اللّه، و لا داعي إلى ذكرهم، فالأنموذج كاف للتذكير و الإرشاد، جاءَتْهُمْ أي جاءت تلك الأقوام رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الواضحة، و البراهين الصريحة فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي رد القوم أيديهم في أفواه الأنبياء عليهم السّلام، بأن منعوهم من التكلم، فقد جرت العادة أن من يريد إسكات متكلم أن يضع يده على فم ذلك المتكلم، و ذلك تشبيه، كما لا يخفى، و يحتمل أن يعود الضميران إلى القوم، يعني

أن القوم وضعوا أيديهم، في أفواه أنفسهم مشيرين بذلك إلى الرسل أن اسكتوا وَ قالُوا أي قالت الأقوام إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي برسالاتكم حول العقيدة و النظام وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من وحدة اللّه و المعاد، و سائر الأفعال مُرِيبٍ أي موجب للريب و التردد، فإن الشاك قد يكون له اطمئنان نفسي لا يريبه شكه، بل يمضي حسب اطمئنانه، و قد يقوى شكه، حتى يوجب ريبه و تردده.

______________________________

(1) فاطر: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 112

[سورة إبراهيم (14): آية 10]

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)

[11] قالَتْ رُسُلُهُمْ في جواب قولهم «إِنَّا لَفِي شَكٍّ» أَ فِي اللَّهِ شَكٌ أي هل يمكن الشك في اللّه بعد الآيات الكونية الكثيرة، التي تنطق كلها، في وضوح و جلاء، بأن لها خالقا عليها قديرا، فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما و مبدعهما، و قد كان هذا الوصف بمنزلة البرهان و الدليل يَدْعُوكُمْ اللّه أيتها الأقوام لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم، و إنما أتى ب «من» التبعيضية، لأنه سبحانه لا يغفر كل الذنوب كالشرك، قال سبحانه (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) «1» كذا قال بعض المفسرين و إلا وفق القواعد، أن تكون «من» للجنس، فإنهم إن لبوا الدعوة، كانوا محلا لغفران جميع الذنوب، إذ لا يبقى شرك حينئذ، و إن لم يلبّوها لم يكن غفران، فالمراد ليغفر لكم من هذا الجنس الذي هو الذنب، وَ

يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فلا يعجل عليكم بالعذاب، بل إنما يؤخر آجالكم إلى المدة المقررة لكم، فإن من سلك منهاج اللّه لم يعذب عاجلا، لا بعذاب الاستئصال، و لا بعذاب من خالف المنهاج، فوقع في مشاكل الحياة قالُوا أي قال القوم في جواب الرسل إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيها الرسل إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا على خلقتنا، و من آياتنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا أي تمنعونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا

______________________________

(1) النساء: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 113

[سورة إبراهيم (14): آية 11]

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

من الأصنام و الأوثان فَأْتُونا أي جيئوا إلينا على صحة دعواكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة، فإن السلطان من سلط بمعنى غلب و قهر، كأن الحجة تغلب و تقهر، و قد كانت الأقوام- غالبا- تتقيد بتقاليدها، و ترى المعجزات بأنها سحر، و تستغرب أن يكون النبي بالمزايا البشرية، من أكل و مشي، و نكاح و أولاد، و لذا نرى هذه الاحتجاجات كثيرة في كلام الأقوام ضد الرسول.

[12] قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ صحيح ما تقولون إننا بشر مثلكم في مزايا البشرية، فإنه إِنْ نَحْنُ أي ما نحن إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصورة، و سائر الخصوصيات وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و يتفضل عليه بالنبوة و الوحي، و قد تفضل علينا سبحانه بهذه الفضيلة، و الدليل على ذلك الخوارق التي تشاهدونها، مما أجراها سبحانه على أيدينا، فإنه وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ أي حجة و برهان إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ و إرادته،

فما أتيناكم به من المعجزات كان بإذنه، مما يدل على صحة دعوانا و صدقنا، و من المحتمل أن هذا الكلام من الأنبياء، رد لما طلبته الأقوام من خوارق مقترحة، و جواب الرسل، أن الخوارق إنما هي بيد اللّه سبحانه، إن شاء أتى بها، و إن شاء لم يأت، و أما المقدار الكافي لصحة دعوانا، فقد زودنا به، و جئناكم به وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 114

[سورة إبراهيم (14): آية 12]

وَ ما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

و هذه كتسلية للرسل يسلون بها أنفسهم، يريدون إنا نتوكل عليه سبحانه في تكذيبكم و نصبكم العداء لنا- كما يقول موظف الدولة، بعد أن رأى عدم فائدة الحجاج مع من يريد تطبيق القانون عليه «اعتمادي على الدولة» يريد التهديد و الاستغناء، بهذه الجملة.

[13] ثم نرسم للرسل منهاجهم في الحياة بصورة سؤال و استفهام عن الأقوام تلطيفا للجو، فإن في السؤال إظهارا لقوة الخصم، مما يسبب له اللين و العطف، حيث اتبع حس كبريائه وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أي أيّ شي ء لنا، إذا لم نتوكل على اللّه، و لم نفوض أمورنا إليه، بمعنى أنه لو تركنا التوكل عليه، لم يبق لنا شي ء، إذ لا اعتماد لنا، لا من البشر، حيث نصبوا لنا العداء، و لا من اللّه حيث لم نلجأ إليه وَ قَدْ هَدانا اللّه سبحانه سُبُلَنا طرقنا في الحياة السعيدة، و الآخرة المرفهة، و المعنى إنا إذا كنا مهتدين، فلا ينبغي لنا أن لا نتوكل على اللّه ف «الواو» في «و قد هدانا» للحال، ثم أخذت

الأنبياء في اجتلاب عطف الأقوام، بقولهم وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا نصبر- على إيذائكم، و لا نقابلكم بالمثل، و هذا بالإضافة إلى كونه حقيقة، فقد كانت الأنبياء تصبر في مقابل أذى الأقوام، ليعطفوا قلوب الناس إليهم، لأن الناس مع المظلومين وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ من أراد التوكل و التفويض إلى أحد في أموره، فاللازم أن يتوكل على اللّه، لأنه ينصره، و يسعفه بحاجته، و قد تقرر في علم البلاغة، أن «الفعل»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 115

[سورة إبراهيم (14): الآيات 13 الى 14]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ (14)

و «الإرادة» يستعمل كل منهما في معنى الآخر، فمثلا «إذا أقمتم الصلاة» معناه، إذا أردتم القيام إليها، و «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ» معناه، أنه يسر عليكم، و عليه فالمراد ب «المتوكلون» من أراد التوكل.

[14] و إذ تمت الحجة على الأقوام، و أظهروا القوة، كما هو شأن كل جاهل حين تتم الحجة عليه، و لا يريد الإذعان وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أي ننفيكم من بلادنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي إلا أن ترجعون إلى أدياننا و طريقنا، و تسمية ذلك رجوعا باعتبار أن الكفار كانوا يظنون أن الرسل- قبل ادعائهم الرسالة- كانوا على طريقتهم، ذاهلين أنهم كانوا على مبدأ التوحيد، و لكنهم لم يكونوا مأمورين بإظهاره، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي إلى الرسل رَبُّهُمْ بعد إتمام الحجة، و وصول الأمر إلى هذا الحد لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ بكل تأكيد، و لا يحضرني الآن تاريخ يدل على أن رسولا نفي بعد مثل هذا الاحتجاج،

و إنما خرج بعض الرسل بأنفسهم هربا- كموسى عليه السّلام بالإضافة إلى أنه لم يكن بعد مثل هذا الاحتجاج، [15] وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ أيها الرسل الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي نجعل لكم فيها مسكنا و مستقرا، و إنما نخرج المكذبين بالهلاك و الفناء،

و قد ورد في الحديث «من أذى جاره حرم جواره»

«1» و ليس إخراج الكفار من

______________________________

(1) راجع روضة الواعظين: ج 2 ص 387.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 116

[سورة إبراهيم (14): الآيات 15 الى 16]

وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16)

الأرض و إسكان الأنبياء فيها، و كذلك إسكان التابعين لهم، جزافا و اعتباطا، و إنما ذلِكَ الإسكان، و إخراج الأعداء بالهلاك لِمَنْ خافَ مَقامِي أي خافني، و إنما أضيف الخوف إلى المقام مجازا، بعلاقة الحال و المحل، أو المراد الخوف من نفس المقام و المنزلة، فإن الشخص إنما يخاف من منزلة الحاكم- مثلا- لا من نفس الحاكم، و لذا نرى أنه لو جرد عن تلك المنزلة، لم يكن محل خوف، و المراد بالخوف هنا عدم ارتكاب المعاصي وَ خافَ وَعِيدِ أي خاف و عيدي بالهلاك في الدنيا و النكال في الآخرة، فلم يعصني.

[16] وَ اسْتَفْتَحُوا أي طلب الرسل الفتح و النصرة على أعدائهم، و إنما سمي النصر بالفتح، لأنه يفتح الطريق أمام المنتصر لقضاء حوائجه، بعد ما كان العدو صدا يمنع عن ذلك وَ خابَ أي خسر كُلُّ جَبَّارٍ يجبر الناس على ما يريد عَنِيدٍ معاند للحق، و الجبار يطلق عليه سبحانه، لكنه هناك بحق، لأنه يجبر ما هو ملكه و خلقه، و ليس كسائر الجبارين، و الذين يجبرون ما ليس لهم، فإن الإنسان مسلط

على ماله و نفسه، و قد يقال الجبار له سبحانه، باعتبار أنه يجبر الكسر من كل شي ء، كما

في الدعاء يا جابر العظم الكسير.

[17] و خيبة الجبابرة، كما هي في الدنيا كذلك في الآخرة، أما في الدنيا فإنهم لا يهنؤون بالعيش، حيث يرون الناس كلهم أعداء لهم، و إذا كان للإنسان عدوا واحدا لا يهنأ له عيش، فكيف إذا كان له أعداء؟

و الغالب أن الجبابرة يذلون أخيرا و يقتلون، و يبقى التاريخ ليلعنهم مدى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 117

[سورة إبراهيم (14): آية 17]

يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)

الأجيال، هذا مع الغض عن أن لطف اللّه بعباده يحفر للجبار ألف حفيرة، كما قال:

تنام عيناك و المظلوم منتبه يدعو عليك و عين اللّه لم تنم

و أما في الآخرة ف مِنْ وَرائِهِ أي من خلفه، كأن الزمان الماضي مقابل الإنسان و الزمان المستقبل خلف الإنسان، يأتيه فيلحقه جَهَنَّمُ فإنه إذا مات، كان قبره حفرة من حفر النيران وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ الصديد القيح يسيل من الجرح، و إنما سمي صديدا لأنه يصد حتى لا يسيل، إن المكان الحار يتطلب الماء البارد، لكن الجبار إذا طلب ذلك أتي بالقيح،

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: يسقى مما يسيل من الدم و القيح من فروج الزواني، في النار «1».

[18] يَتَجَرَّعُهُ أي يتكلف جرعه و شربه جرعة جرعة وَ لا يَكادُ أي لا يقارب- بطبعه أن يُسِيغُهُ و الإساغة إجراء الشراب في الحلق بسهولة، أي لا يتمكن أن يشرب هذا الصديد، لكن العطش المفرط يضطره إلى الشرب،

و قد روي أن النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم في تفسير الآية قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقرب إليه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه، فإذا شرب قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول اللّه عز و جل: (وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) «2»، و يقول:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 8 ص 243.

(2) محمد: 16. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 118

[سورة إبراهيم (14): آية 18]

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)

(وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ)

«1» وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ حتى أنه لو كان، بالإمكان أن يموت بمكان واحد منه، إذ كيف حال من جوانبه الستة، ممتلئة بالنار و العذاب و داخله هكذا صديد؟ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ إذ لا موت حتى يستريح هناك، فإنهم في جهنم خالدون وَ مِنْ وَرائِهِ وراء هذا العذاب عَذابٌ غَلِيظٌ أشد منه و أغلظ.

[19] أما أعمالهم التي عملوها في الدنيا- و لو كانت حسنات في نفسها- فإنها لا تنفعهم يوم القيامة، فليأخذوا الأجر ممن عملوا له، فإن كل عمل لا يبنى على أساس الإيمان بالله و أمره، لا يستحق العامل جزائه على اللّه مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ في الآخرة أَعْمالُهُمْ التي أتوا بها في الدنيا كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ أي توجهت ريح شديدة إليه، فذرته في الهواء، مما لا يبقي منه أثر فِي يَوْمٍ عاصِفٍ شديد الريح، فكما أن أحدا لا يقدر على جمع ذلك الرماد في مثل هذا اليوم، كذلك أعمال الكفار تنتشر و تذهب هباء لا يقدر أحد على جمعها حتى ينتفع بها

لا يَقْدِرُونَ أي أولئك الكفار مِمَّا كَسَبُوا أي من أعمالهم التي كسبوها عَلى شَيْ ءٍ لا قليل، و لا كثير، كما قال سبحانه في آية أخرى

______________________________

(1) الكهف: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 119

[سورة إبراهيم (14): آية 19]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)

(وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) «1» ذلِكَ العمل الذي عملوه هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي الذهاب أبعد عن النفع، فكأن العمل نفس الضلال- مجازا- بعلاقة الصفة و الموصوف، كقوله (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) «2» أو المراد، أن ضلال هؤلاء الكفار- المستفاد من المثل- هو الضلال البعيد، مقابل الضلال القريب، و هو ضلال العصاة، من أهل التوحيد، فإن الكافر أبعد عن الجادة المستقيمة، من المؤمن العاصي.

[20] إن عمل هؤلاء الكفار، كالرماد المتطاير، أما هم بأنفسهم، فإنهم تحت سيطرة إله قدير، يتمكن أن يذهبهم جميعا، كما أذهب أعمالهم كالرماد، فكفرهم و طغيانهم لا يخرجهم عن قدرته سبحانه و كيف يخرجون عن قدرة إله خلق السماوات و الأرض، إنها قدرة مدهشة، لا يتمكن أحد أن يتحداها أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي، و المراد بالرؤية العلم، و الاستفهام تنبيهي، أي تفكر لكي تعلم أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ فلم يكن خلقها عبثا و اعتباطا، و إنما لغاية و حكمة و مصلحة، كالذي يبني المدرسة، لمصلحة الناجحين من التلاميذ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يفنيكم و يميتكم أيها البشر، وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ و هذا لتأكيد القدرة، حتى أن إفناء البشر كلهم، و الإتيان بمثلهم شي ء هينّ معلق بإرادة واحدة.

______________________________

(1) الفرقان: 24.

(2) هود: 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3،

ص: 120

[سورة إبراهيم (14): الآيات 20 الى 21]

وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)

[21] وَ ما ذلِكَ الإفناء و التجديد عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بممتنع أو متعسر، فذلك له سهل يسير، أليس خلق السماوات و الأرض شاهدا على يسر ذلك عليه سبحانه؟

[22] ثم ينتقل السياق، بعد أعمال الكفار المتطايرة، إلى مشهد آخر من مشاهد الآخرة، يقع فيه النزاع و التخاصم بين الرؤساء، و المرؤوسين و الشيطان، فقد أعزى بعضهم بعضا، و هناك تنازع و تخاصم هذه الفئة تلك: لماذا أوصلتها إلى هذا المصير المرّ الأليم؟ وَ بَرَزُوا أي ظهر الكفار يوم القيامة لِلَّهِ في ساحة عدله- تشبيها بظهور الخصماء أمام الحاكم في ساحات المحكمة في الدنيا- جَمِيعاً فليس أحد منهم غائبا، حتى لا يتم الخصام و يؤجل إلى غد و بعد غد، و حيث أن ذلك مستقبل متحقق الوقوع، جاء بلفظ الماضي «برزوا» فَقالَ الضُّعَفاءُ التابعون لرؤساء الكفار لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن قبول الحق، و هم الرؤساء الذين رأوا في قبول الإيمان ذهابا لكيانهم، و تنقيصا لرئاستهم فبقوا على الكفر، و جروا إليهم الضعفاء، إِنَّا كُنَّا لَكُمْ أيها المستكبرون تَبَعاً أتباعا في الدنيا، و تبع جمع تابع، كغيب جمع غائب، فَهَلْ أَنْتُمْ أيها الرؤساء مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ؟ أي هل أنتم دافعون عنا شيئا من عذاب اللّه الذي قد نزل بنا، فإن لم تقدروا على دفع الكل فادفعوا البعض، جزاء لنا حيث اتبعناكم في الدنيا، فإن

التابع إنما يتبع، لأن يدفع المتبوع عنه ضرا، أو يجلب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 121

[سورة إبراهيم (14): آية 22]

وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)

إليه نفعا قالُوا أي قال الرؤساء المتبوعون في جواب استفهام التابعين لَوْ هَدانَا اللَّهُ في الدنيا لَهَدَيْناكُمْ لكنا ضللنا فأضللناكم، فلا تبعة علينا، إنما التبعة على من عنده و لا يعطي، أما من ليس عنده فلا لوم عليه أن لا يعطي، و هذا جواب فراري، يريدون بذلك التخلص من أيدي الضعفاء الذين ضعفت نفوسهم، فجعلوا أنفسهم عبيدا مقلدين لأولئك الرؤساء المستكبرين، و إلا، فالله سبحانه هداهم، لكنهم أعرضوا، كما قال سبحانه (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «1» أو المراد أنهم يقولون: لو هدانا الله هنا إلى طريق الوصول و الخلاص من العقاب لأريناكم ذلك الطريق لتنجوا أنتم أيضا، و لكن لا نعرف الطريق حتى نهديكم إليه، ثم يعلن المتكبرون أن الأمر قد قضي و أنهم لا محالة في العذاب، من غير فرق بين أن يصبروا أو يجزعوا، فليس هناك كالدنيا يفيد الجزع حينا، و الصبر حينا سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا و الجزع ضد الصبر ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أي ليس لنا محيص و مهرب عن عذاب الله، من حاص يحيص، بمعنى حاد يحيد وفر عن المكروه.

[23] و هنا يأتي الشيطان ليلوم أتباعه، في أتّباعه و يتبرّأ منهم، و يقطع بذلك آخر

أمل لهم في النجاة، فقد اتبعوا الشيطان في الدنيا، فلعله يخلصهم بمكر أو حيلة، مما يشاهدونه وَ قالَ الشَّيْطانُ لأتباعه الذين اتبعوه في الدنيا فكفروا أو عصوا، مما أوردهم النار في عاقبة الأمر لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ

______________________________

(1) فصلت: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 122

و فرغ الحاكم من الحكم على أتباعه بالنار و العذاب، و لعل الإتيان بهذه الجملة، بيان أنه لا يفيد شي ء أصلا، فقد انتهى الموضوع تماما، إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ أيها البشر العاصون، إنكم إذا آمنتم و عملتم الصالح جزاكم بالجنة و النعيم وَعْدَ الْحَقِ لم يكن فيه باطل و كذب و خداع وَ وَعَدْتُكُمْ أن لا بعث و لا نشور و لا حساب و لا عقاب، فافعلوا ما شئتم فَأَخْلَفْتُكُمْ أي كذبتكم، و نسبة الخلف إلى نفسه، للتشبيه بالذي وعده فيخلف، للتقابل مع وعد الله سبحانه الذي يوفي، و إلا فالخلف ليس من الشيطان، و إنما اللازم أن يقول فكذبتكم في الوعد- أو على الأدق في الأخبار بأنه لا شي ء هناك وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ أيها العصاة مِنْ سُلْطانٍ تسلط و قهر، فلم يكن امتثالكم أمري جبرا منّي لكم، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلى نقض أوامر الله و مخالفته فَاسْتَجَبْتُمْ لِي و قد كانت دعوتي بالوسوسة و الخفاء، فلم تكن كدعوة الله سبحانه ببعث الرسل و نصب الحجج، و إقامة الأدلة و البراهين و بيان المصالح في الأوامر و المفاسد في الزواجر، و الاستثناء منقطع إذ الدعوة لا تكون سلطانا و قد ذكرنا سابقا أن الاستثناء المنقطع إنما يؤتى به لفرض الكلام سابقا مطلقا، ففي المقام، كأنه قال «فلم يكن مني بالنسبة إليكم «إلا الدعوة» «أما السلطة فلا» فَلا تَلُومُونِي من الملامة، أي

لا تلقوا تبعة عقابكم عليّ وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ فأنتم خالفتم الحجة بمجرد الوسوسة و الإغراء حيث كنتم تعلمون أنه خادع زائف، أما الحال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 123

[سورة إبراهيم (14): آية 23]

وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)

فاعلموا أنه ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ من صرخ، و الإصراخ الإغاثة بإجابة الصارخ، يقال: استصرخني فلان فأصرخته، أي استغاث بي فأغثته، و المعنى أنا لا أتمكن من إغاثتكم و خلاصكم من العذاب وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ و أنتم لا تتمكنون من إغاثتي من عذاب الله الذي يحل بي، فإن للشيطان النصيب الأوفر من العذاب، و لا مصرخ له- كلما يستغيث- فإن أتباعه يتبرءون منه، كما تبرأ منهم، و لا يتمكنون هم علاجا لأنفسهم فكيف يتمكنون من علاج للشيطان؟ أما الله و أنبيائه، و سائر عباده الصالحين، فهم أعداء الشيطان، كما هو عدوهم، فهل ينقذونه من العذاب، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أيها الأتباع، أي إني جحدت، الآن أن أكون شريكا لله تعالى، فيما أشركتموني فيه، فقد كان المشركون يشركون الشيطان عمليا مع الله سبحانه، فيعملون قسما من أعمالهم حسب أمر الله، و قسما أكبر حسب أمر الشيطان، و هذا هو الشرك، ثم قال لهم كلمته الأخيرة إِنَّ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم و غيرهم من الناس لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع، فلا مناص و لا خلاص.

[24] و إذ رأينا عاقبة الكفار، و أنها التخاصم و النار، فلننظر إلى عاقبة المؤمنين وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله، و بما أمر به من اتباع الرسول، و الإيمان بالمعاد و ما أشبه، من سائر الأصول الاعتقادية وَ عَمِلُوا

الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، بإتيان الواجبات، و ترك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 124

[سورة إبراهيم (14): آية 24]

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (24)

المحرمات، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ في حال كونهم خالِدِينَ فِيها فليس لهم عنها زوال بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فإنه سبحانه يأذنهم بذلك، حيث يريدون البقاء بعد الدخول تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فيسلم بعضهم لبعض مقابل أهل النار الذين يخاصم بعضهم بعضا كما مرّ.

[25] و إذا تم الكلام حول الفرق الخبيثة العاصية التي مصيرها النار، و الفرق الطيبة المطيعة التي مصيرها الجنة، يأتي مثال للكلام الطيب و الخبيث ليدل على أن مصائر الطيبات إلى ازدهار و نمو و تملك للحياة و مصائر الخبائث إلى الانهيار و المحو من الوجود و هكذا أجرت سنة الله، و هذا المثال بدوره يقوي من عزائم الطيبين و إن رأوا بادي ذي بدء أن الخبيث كثير و أنه قد أخذ عرض الحياة و طولها أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله أو أيها الرائي، و الاستفهام تنبيهي يراد به الإلفات و التذكير، و المراد بالرؤية العلم، أي ألم تعلم، و إنما يؤتى بلفظ الرؤية للدلالة على أن هذا العلم قريب من الرؤية فليس من الأمور الغامضة، و إنما رؤية و حس كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي بين الله مثالا لكل خبيث و طيب، و إنما تستعمل كلمة ضرب لأن المثل يصطدم مع الذهن فيوجد فيه تأثيرا و تمويجا لا يحصل ببيان أصل المطلب بدون المثل.

ثم بين سبحانه ذلك المثل المضروب بقوله كَلِمَةً طَيِّبَةً الكلمة تطلق على كل ما في الوجود لفظا كان- كما هو

المتبادر منها- أم غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 125

[سورة إبراهيم (14): آية 25]

تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)

لفظ حتى الإنسان يسمى كلمة، كما قال سبحانه: (وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) «1» و (لِكَلِماتِ اللَّهِ) «2» و في الزيارة في وصف الأئمة «كلمة التقوى و أعلام الهدى» فإن الشي ء الطيب إنسانا كان، أو عملا أو لفظا، كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أي كالشجرة الزاكية النامية الراسخة أصولها في الأرض، و السامقة فروعها في السماء، فكما أن الشجرة الطيبة هكذا، كذلك الكلمة الطيبة أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ سامق عال فنرى الإنسان الطيب قوي الجذور في المجتمع كثير البقاء، منتشر في النفوس- و إن كان الباطل منتفخا في المنظر- مضيقا عليه دروب الحياة في أيام و هكذا كل شي ء طيب.

[26] تُؤْتِي أُكُلَها الأكل الثمرة، أي تعطي ثمرتها كُلَّ حِينٍ أي في جميع الأوقات بِإِذْنِ رَبِّها فإن الله سبحانه أذن و أجاز ذلك، فإنه لو لا إجازته سبحانه لم تكن و لم تؤت ثمرا، و لذا جاء بلفظ «الإذن» دون «الأمر» فإن الحياة لا تكون إلا بإذنه وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم من الفطرة السليمة، و كم هذا المثل بالذات من القيمة، فإن غالب الناس- في كثير من الأحيان- ينظرون إلى ما للباطل من جولة فيظنون أن الحق قد ذهب و اضمحل، و لكن

______________________________

(1) النساء: 172.

(2) الأنعام: 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 126

الأمر ليس كذلك بل الحق راسخ الأقدام عالي البنيان لا تزعزعه الأعاصير و لا العواصف و إنما يبقى ليثمر و يعطي الناس فوائده الطيبة.

و السر أن الحق يدخل القلوب بما

أودع الله فيها من حب ذاتي للحق، و كره ذاتي للباطل و الباطل إنما يأخذ السطوح، و ما يبقى في القلب في أمن من الخطر و الغير، أما ما في السطوح فإنه يزول بأقل حركة، و لذا قال الفرزدق للإمام الحسين عليه السّلام: قلوبهم معك و سيوفهم مع بني أميّة «1» و قد رأينا كيف زالت بنوا أمية لما وقعت من أيديهم السيوف، و كيف بقي الحسين عليه السّلام و في الآية الكريمة:

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) «2» و

في الزيارة «و في قلب من يهواه قبره»

أي قبر الإمام عليه السّلام، و لهذا السر بقيت أنبياء الله تعالى في الحياة بينما لم يبق من الجبارين أقل شي ء و من بقي ليلعن و يكون مسبة و مثلا للرذيلة ليتجنبها الناس.

و قد ذكرت الأحاديث تفسير الآية الكريمة بالرسول و الصديقة و الأئمة عليه السّلام و الشيعة لهم، و ذلك من باب أظهر المصاديق- كما بينا ذلك مكررا-

فقد سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن الشجرة في هذه الآية؟

فقال: رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصلها و أمير المؤمنين عليه السّلام فرعها، و الأئمة من ذريتهما أغصانها و علم الأئمة ثمرتها و شيعتهم المؤمنون ورقها، قال:

و الله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها و إن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها

«3». أما العمل الطيب و الكلمة الطيبة فإنهما يؤثران في الحياة السعيدة و يورقان و يزهران و يثمران كالحبة الصغيرة التي تصبح شجرة

______________________________

(1) دلالة الإمامة: ص 74.

(2) إبراهيم: 38.

(3) الكافي: ج 1 ص 428.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 127

[سورة إبراهيم (14): الآيات 26 الى 27]

وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها

مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)

كبيرة مورقة، و لذا نرى العمل الطيب يبقى مثالا محفزا للخير، و الحكمة الجارية على لسان الصالحين تبقى لترشد و تسعد .. هذا بالاضافة إلى ما تعقبه الكلمة الطيبة- أيما كانت- من الذكر الجميل في الدنيا، و السعادة الأبدية في الآخرة.

[27] وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ قولا كانت أم عملا أم إنسانا كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ غير زاكية و لا نامية، و لا راسخة الجذور و لا عالية الفروع، و إنما هي كالشي ء المفروش على سطح الأرض، بلا أصول و لا فروع فلا مجال لها في أعماق الحياة و لا بقاء لها في مستقبل الأجيال، و كأنها اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أي اقتلعت جثتها من الأرض، و إنما وصفت بهذا الوصف لبيان أنها لا بقاء لها، حتى لا تستحق أن يقال عنها إنها ثابتة- و لو حين كانت ثابتة- أ فلا تصير بعد أيام مجتثة؟ و هي اجتثت «من فوق» فلا جذور لها في الأعماق حتى تستحق أن يقال «من الأرض» ما لَها أي ليس لتلك الشجرة مِنْ قَرارٍ ثبات و استقرار، فأقل ريح تنسفها، و أصغر حركة تقلعها و ما ورد من أن ذلك مثال لبني أمية، فإنه من باب المصداق، و قد صدق المثل فقد رأيناهم، اجتثوا من فوق الأرض، و ذهبت دولتهم المنتفخة الخلابة، حتى أنهم لا يذكرون إلا باللعن، و لا يسجلون إلا لبيان مخازيهم.

[28] و كما للشجرة الطيبة ثبات و استقرار كذلك للمؤمن الطيب أنه يثبته الله سبحانه، و يجعله دعامة للحياة، كما يؤول أمره إلى الخير و السعادة

في الآخرة، و كما ليس للشجرة الخبيثة ثبات و استقرار كذلك للظالم العاتي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 128

أنه يضله الله سبحانه، كالإنسان الذي لا ينتفع بشي ء فإنه يلقيه مع النفايات ليذهب و ينقطع أثره، و لماذا يبقى؟ أنه لا ينتفع به حتى يتعاهده الإنسان يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي يبقيهم أعمدة للحياة و أمثلة للمكرمات، و إنما يبقيهم بسبب القول الثَّابِتِ الذي تمسكوا به من الإيمان بالله و العقائد الصحيحة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فهم هاهنا ثابتون راسخون يعرفهم الناس و يقتدون بهم كأمثلة للمعاني الخيرة وَ فِي الْآخِرَةِ فهم الشفعاء الحكام أصحاب الجاه الكبير في الجنة.

و في الآية احتمال آخر- و إن كان الأول أنسب إلى السياق- و هو أن الله سبحانه يثبت المؤمنين على إيمانهم، فلا تزحزحهم الفتن و الانحراف بسبب القول الثابت الذي هو الإيمان و كلمة الشهادة فلا يمكن إضلالهم «في الحياة الدنيا» و لا يتلعثمون إذا حوسبوا «في الآخرة» لما انطووا عليه من الإيمان و الإذعان وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بترك الإيمان، فإنه سبحانه ينفيهم و يبعدهم، و يتركهم حتى يغمروا في الجهالة و الضلالة، كما يترك الشجرة الخبيثة حتى تنقلع بسبب الرياح وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما أجرى سننه عليه من نصرة المؤمنين، و إبقائهم، و خذلان الظالمين و إضلالهم- و قد سبق مكررا أن المراد بالإضلال إذا نسب إليه سبحانه: ترك الشخص الذي لم يقبل الأمر حتى يضل و يفسد- و ما ورد في جملة من الأحاديث من إثبات المؤمن عند الاحتضار أو في القبر على الشهادة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 129

[سورة إبراهيم (14): آية 28]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ

اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28)

الحقة، فإن ذلك من باب أحد المصاديق للآية الكريمة.

فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث سؤال القبر فيقولان «منكر و نكير» له: من ربك و ما دينك و من نبيك؟ فيقول: الله ربي، و ديني الإسلام، و نبيي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فيقولان: ثبّتك الله فيما يحبّ و يرضى، و هو قول الله يثبت الله الذين آمنوا، الآية «1».

[29] و بمناسبة الحديث عن المؤمنين و الظالمين يأتي السياق لبيان أنهم كيف ظلموا أنفسهم حتى ضلوا سواء السبيل أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو أيها الرائي، و المراد بالرؤية العلم، و الاستفهام تذكيري- كما تقدم- إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً؟ أخذوا بدل النعمة الكفر، فلقد كان مقتضى العقل أن يأخذوا النعمة بشكرها، فأخذوا الكفر، فكأن النعمة شي ء قابل للأخذ، فلم يأخذوها، و إنما أخذوا مكانها الكفر، و هذا عام يشمل كل من يترك النعمة ليأخذ مكانها الكفر، فمن يترك الرسول ليتخذ مكانه الكفر، و من يترك الولاية لأهل البيت ليأخذ مكانهم الكفر بهم، و من يترك شكر النعمة ليأخذ مكانه الكفران بها، و غيرهم من أمثالهم كل أولئك بدلوا نعمة الله كفرا و ما ورد من تفسيرها بكفّار قريش فإنه من باب المصداق الظاهر.

و الحقيقة أن النعمة لا تبدّل بالكفر، و إنما الشكر للنعمة يبدل بكفرانها، و إنما جي ء بهذا المجاز- بعلاقة السبب و المسبب- تهويلا وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ فهم- الرؤساء- قد قادوا قومهم و أتباعهم

______________________________

(1) تأويل الآيات: ص 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 130

[سورة إبراهيم (14): الآيات 29 الى 31]

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (29)

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ (31)

إلى دار الهلاك، فإن البوار بمعنى الهلاك.

[30] جَهَنَّمَ بدل من دار البوار يَصْلَوْنَها أي يصلاها الذين بدلوا مع أقوامهم، و اللفظة حال عن الفاعل و المفعول في «أحلوا قومهم» وَ بِئْسَ الْقَرارُ جهنم، فإنها مقر سيّئ.

[31] لقد استبدل هؤلاء الكفار بنعمة الرسول و دعوته إلى التوحيد كفرا فتركوا الدعوة و الوحدة وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً جمع ند، و هو المثل، أي أمثالا في العبادة، فعبدوها كما عبدوا الله تعالى لِيُضِلُّوا الناس عَنْ سَبِيلِهِ أي سبل الآلهة الباطلة، و اللام للغاية، و إن لم يقصد الإضلال المضل، نحو (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً) «1» و الظاهر بقرينة- و أحلوا قومهم- أن المراد بمن «جعل» القادة الكبراء.

قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكافرين الجاعلين لله أندادا تَمَتَّعُوا قليلا في هذه الحياة بالتنعم من متعها، و المراد به التهديد، و إن كان في صورة الأمر فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ فإنكم- بكفركم- إليها تصيرون.

[32] و انصرف يا رسول الله عن هؤلاء الكفار، و ولّ وجهك تلقاء المؤمنين و قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و ما جئت به يُقِيمُوا الصَّلاةَ استمروا على أدائها، و جزم يقيموا، لأنه وقع في جواب الأمر، أي أن

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 131

[سورة إبراهيم (14): آية 32]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32)

تقل لهم يقيموا وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ مختلف الأرزاق، رزق العلم، و رزق الجاه، و رزق الأولاد، و رزق المال، و غيرها سِرًّا وَ عَلانِيَةً فإن الإنفاق كذلك دليل على رسوخ ملكة الإنفاق في النفس، بخلاف من ينفق في وقت دون وقت مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ أي هو يوم القيامة، أو يوم موت الإنسان لا بَيْعٌ فِيهِ فلا يمكن الإنسان أن يبيع شيئا ليشري نفسه من العذاب وَ لا خِلالٌ أي لا الصداقة، فإن الصديق لا ينفع هناك صديقه في نجاته من العذاب، أو المراد ادخروا الأعمال الصالحة ليومكم ذاك فإن ذلك اليوم لا يكون فيه نماء بتجارة أو صداقة، و إنما يستعمل الإنسان نتائج أعماله السابقة.

[33] إن الكفار تركوا عبادة الله الواحد، و أخذوا الأنداد، مع أنه سبحانه هو المتفرد بالملك، و ليس معه من شريك اللَّهُ هو الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أنشأهما و أبدعهما و أوجدهما من كتم العدم وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي جهة المطر ماءً بإنزال المطر فَأَخْرَجَ بِهِ أي بسبب ذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ أيها البشر، و إنما قال من الثمرات، لأن جميعها لا تكون أرزاقا للبشر، فقسم منها يسقط و يتلف، و قسم منها يصير رزقا للبهائم و الحيوانات، و المراد بالرزق أعم من المأكول و الملبوس و المفروش و سائر ما ينتفع به الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 132

[سورة إبراهيم (14): الآيات 33 الى 34]

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ (33) وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

وَ سَخَّرَ لَكُمُ

الْفُلْكَ أي السفن و المراكب، حيث تحملكم على ظهر الماء من محل إلى محل، بأن جعل الماء بحيث لا تغرق فيه السفينة لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ سبحانه لأنه المهيّئ لوسائل الجريان من رخاء الماء، و جري الهواء، أو دفع الحرارة- في السفن البخارية و شبهها- وَ سَخَّرَ لَكُمُ أيها البشر الْأَنْهارَ المياه الجارية، لتجري إليكم من كل مكان، و لو كانت المياه راكدة، لم ينتفع بها كثير من الناس إلّا بصعوبة.

[34] وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ أي ذللهما و سيرهما لمنافعكم، فإن الإنسان ينتفع بالشمس في ضوئها و حرها، للدف ء و نضج الثمار و غير ذلك، كما ينتفع بالقمر في ضوئه- ليلا- و تأثيره الطبيعي في بعض الأشياء، كالجزر و المدّ، و تقويمه الحساب للسنين و الشهور و الأيام، إلى غيرها دائِبَيْنِ أي في حال كونها مستمرين في عملهما، شروقا و غروبا، مدى السنين و الأزمان وَ سَخَّرَ لَكُمُ لمنافعكم اللَّيْلَ وَ النَّهارَ تستريحون في الليل و تعملون في النهار مع ما لهما من المنافع للأبدان و الأرواح، بعدم الضجر و الملل من استواء الحالة، و غير ذلك.

[35] وَ آتاكُمْ أعطاكم سبحانه مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ من مال و أولاد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 133

[سورة إبراهيم (14): آية 35]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35)

و أزواج و صحة و أمن و غيرها، من الأسئلة التي لا تحصى كثرة يسألها الإنسان من الله تعالى فيعطيها وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ التي أنعم بها عليكم، من كل صغيرة و كبيرة لا تُحْصُوها أي لا تقدرون على إحصائها، كيف و الإنسان لا يتمكن من عدّ ما

في بدنه فقط- من النعم- فقد ذكروا أن في بدن الإنسان اثنتي عشرة ألف قوة تشتغل ليل نهار، أما علماء الغرب فقد ذكروا أن كل قطرة من الإنسان فإنها تحمل اثني عشر مليون من الحيوانات المجهرية الصغيرة، و من المعلوم أن كل واحدة منها نعمة، و بهذا الشبه قالوا في كل ذرة من ذرأت الجسم، و النعمة اسم أقيم مقام المصدر، و لذا لا يجمع، ثم أ ليست كل هذه النعم من الله سبحانه؟ فلما ذا يتخذ الإنسان إلها دون الله إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ صيغة مبالغة أي كثير الظلم لنفسه و لغيره كَفَّارٌ أي كثير الكفر لنعم الله تعالى، فإن الكفر بمعنى الستر و عدم الشكر للنعم.

[36] و إذ سبق وجوب شكر النعمة و ذم كفرانها، و ظهر مصير المؤمن و الكافر، فلننظر إلى نموذج من الإنسان المؤمن، كيف آمن و شكر، و كيف كان كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء، في مثال قريب إلى أذهان البشرية جمعاء، و إلى أذهان أهل مكة بصورة خاصة، و قد جرى دأب البلغاء أن يعقبوا الحكم الكلي و القاعدة العامة بمثال واضح ليتركز الحكم في الذهن، و يتشوق الذهن إلى الانطباع بمثله، و الاقتداء به، وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ في دعائه مع الله سبحانه رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ أي مكة، و ذلك اليوم لم يكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 134

[سورة إبراهيم (14): آية 36]

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)

بلدا، و إنما علم إبراهيم بأنه سيصبح بلدا آمِناً أي محل أمن، لا يسودها الفوضى و الاضطراب، كما قال سبحانه، و

قد استجاب دعاء إبراهيم عليه السّلام: (جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) «1» فقد كانت مكة آمنة، بينما كانت حواليها مضطربة بالسلب و النهب و القتل و السفك.

وَ اجْنُبْنِي أي بعّدني، من جنّبه بمعنى بعّده وَ بَنِيَ أي بعّد بنيّ- أولادي- أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ معنى هذا الدعاء ألطف علينا بلطفك حتى لا نعبدها، لا ابتداء، و لا استمرارا، فلا يقال أن إبراهيم لم يكن يعبد الأصنام، فما معنى هذا الدعاء؟ و الظاهر أن مراد إبراهيم عليه السّلام من «بني» أولاده من صلبه، أو الأنبياء و الأوصياء منهم و من في سلسلتهم،

فقد روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: فانتهت الدعوة إليّ و إلى أخي عليّ، لم يسجد أحد منا لصنم قط فاتخذني الله نبيا و عليا وصيا «2».

أقول: و قد وردت روايات و أطبقت عليه الشيعة على أن في سلسلة النبي و الإمام لا يكون كافر إطلاقا، و على ما تقدم فلم يكن دعاء إبراهيم عليه السّلام عامّا لجميع ذريته، و إلا فقد كان من نسله من عبد الأصنام، كبني إسرائيل الذين عبدوا العجل، و غيرهم كأبي لهب.

[37] يا رَبِّ إِنَّهُنَ يعني الأصنام و إنما أتى بضمير العاقل تماشيا مع المعتقد السائد عند المشركين من زعمهم أن الأصنام لها عقول

______________________________

(1) العنكبوت: 68.

(2) أمالي الطوسي: ص 378 مجلس 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 135

[سورة إبراهيم (14): آية 37]

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ من عباد الأصنام و إنما نسب الإضلال إليها لأنها

السبب في ذلك، فلو لا الأصنام لم يضل الذين عبدوها بهذا النوع من الضلال، و يتبين من هذا أن عبادة الصنم في ذلك الدور كان شيئا كثيرا حتى أن إبراهيم عليه السّلام تخوف على ولده من الانجراف و الانحراف.

فَمَنْ تَبِعَنِي من الناس في إيماني و أعمالي، بأن آمن و عمل صالحا فَإِنَّهُ مِنِّي لي ما له و عليّ ما عليه، و هذا هو المراد من قولنا «فلان من فلان» يعني على لونه و مزاياه، و إنه مشترك معه في الحكم حسنا أو قبيحا وَ مَنْ عَصانِي فلم يتبع طريقتي و سبيلي فَإِنَّكَ يا رب غَفُورٌ ساتر لمعاصي العباد رَحِيمٌ بهم ترحمهم و تتفضل عليهم، و لا يقال أنه كيف قال إبراهيم ذلك مع أن الكفار ليسوا بقابلين للغفران؟ إذ الجواب: أن من عصى أعم من الكافر، فإنه يشمل المؤمن العاصي، و لم يقل إبراهيم غفور له في الآخرة، فإن في الدنيا يرحم الله الكفار و يستر كثيرا من سيئاتهم، و كأنه عليه السّلام أراد بذلك أن يستعطف الله سبحانه، بأن يفعل بالعاصي ما يمكن أن يفعله من الغفران و الرحمة.

[38] ثم قال إبراهيم عليه السّلام في دعائه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي جعلت لبعض ذريتي السكن و محل الاقامة بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي أرض غير مزروعة، و قد أراد بذلك إسماعيل عليه السّلام حيث أنه جعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 136

هناك إسماعيل و أمه هاجر، دون إسحاق و أمه سارة، فقد كانا عنده قرب فلسطين، حيث مخيمه و مضيفه و ماشيته، و قد أمر الله سبحانه إبراهيم بهذا الإسكان، عند البيت لينتشر البلاغ و الدعوة من هناك، و قد كان إبراهيم

يتراوح بين مكة و فلسطين، و قد صار ما قدره الله سبحانه من انتشار الدعوة من هناك، و لعلّ جعل إسماعيل الصغير و أمه هاجر، في تلك الصحراء القفر الموحش حكمة جلب أنظار المارة، و من حولهم- بعيدا- في الأخبية من البدو النزل، إلى هذا البيت، فيكون ذلك سببا للهداية فإن الفطرة البشرية تعطف على المظلوم و الغريب و الكسير و من إليهم، مما يهيئ الجو المستعد للبلاغ و الإرشاد.

عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ و إنما قال عليه السّلام عند بيتك و لم يبين بعد، لأن البيت كان سابقا على إبراهيم و لذا ورد أن آدم عليه السّلام حج البيت، و إنما خرّب بعد ذلك حتى ذهب أثره، إما بفعل الطبيعة، أو بعض الأشخاص كما قال بعض المفسرين أنه خربه «طسم» و «جديس» و إضافة البيت إليه سبحانه تشريفي، و وصف البيت بالمحرم لأنه لا يجوز الوصول إليه إلا بالإحرام، أو بمعنى العظيم الحرمة، أو لأنه يحرم فيه بعض الأشياء كالصيد و ما أشبه.

رَبَّنا إني قد أسكنتهم هناك لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ و لعلّ المراد إقامتها بإرشاد الناس إليها و دعوتهم إلى الصلاة، لا أنهم يصلونها، فإن ذلك كان ممكنا حتى عند غير البيت، أو المراد أن كونهم في البيت هو الذي يحفزهم على إقامة الصلاة، فإن الإنسان إذا كان في مراكز القدس، يمثل نفسه إلى الابتهال و الاتصال بالله سبحانه، بخلاف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 137

[سورة إبراهيم (14): آية 38]

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (38)

الإنسان الذي هو بعيد فإن المحيط يوحي بما يحمل معه من المعاني الخيرة أو الشريرة فَاجْعَلْ

يا رب أَفْئِدَةً جمع فؤاد، و هو القلب مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تميل إليهم و تهواهم، و ذلك سبب لتعمير البيت أولا، و إقبال الناس على الحق ثانيا، و سيادة الذرية ثالثا، و من المعلوم أن من المرغوب فيه أن يكون أبناء الإنسان سادة، سواء للدين أو الدنيا، كما قال سبحانه حكاية عن المؤمنين (وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) «1» هذا بالإضافة إلى إصلاح أمور معايشهم إذا هوتهم الأفئدة فاختلف الناس إليهم.

وَ ارْزُقْهُمْ يا رب مِنَ الثَّمَراتِ و لعل هذا الدعاء كان لأجل أن مكة لجدب أرضها لا تنبت ثمرا، إلا أن يشاء الله أن يؤتي إليها بالثمار، و قد استجاب الله كل دعاء إبراهيم عليه السّلام التي منها هذا الدعاء، فإن مكة إلى هذا اليوم يجبي إليها ثمرات كل شي ء، فالحاج يرى هناك من أنواع الثمار المجبية من أطراف الأرض ما يدهشه لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي لكي يشكروا نعمك و يعرفوا فضلك فيفوزوا بسعادة الدنيا و الآخرة، و «لعلّ»، علة لما تقدّمه من أدعية إبراهيم عليه السّلام أي افعل بهم كذا و كذا لكي يشكروا، أو رجاء أن يشكروا فإن الإنسان جبل على شكر المنعم.

[39] ثم يظهر إبراهيم عليه السّلام أن دعائه بتلك الدعوات ليس لمظاهر ريائية، و إنما الأدعية انقطاع إليه سبحانه، و تضرع و طلب من الله، و كيف

______________________________

(1) الفرقان: 75.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 138

[سورة إبراهيم (14): آية 39]

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)

يمكن لإبراهيم عليه السّلام أن يريد المظهر في دعائه أو يجد الرياء إلى عمله سبيلا- كبعض الداعين- و هو العالم بأن الله سبحانه يعلم ما خفي و ما

علن؟ رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي في نفوسنا، أو نخفيه عن الناس وَ ما نُعْلِنُ بإظهاره أمام الملأ، فلا نفعل شيئا إلا لك و من أجلك، في حال نراك رقيبا علينا تعلم خفايانا وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ فهو المطلع على كل شي ء، و لعل ذكر هذه الأدعية هنا، للتعريض بكفار قريش حيث استجاب الله فيهم دعاء إبراهيم، فالحرم آمن، و الثمرات تجبى، و القلوب تهوى محلهم، مع ذلك هم يكفرون بالله، و لا يقيمون الصلاة، و أعمالهم رياء و مكاء و تصدية.

[40] ثم أخذ إبراهيم عليه السّلام في الشكر، فإن الشكر مفتاح إجابة الأدعية، إذ الشاكر يزاد و الكفور يزاد، كما قال سبحانه (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) «1» فقال عليه السّلام الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي كبر سنّي إِسْماعِيلَ ابن هاجر وَ إِسْحاقَ ابن سارة إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي يسمع دعاء من دعاه، و ليس كسائر العظماء لا يسمعون إلا دعاء بعض الناس لهم، أو المراد بسميع الدعاء، أنه يستجيب، لأنه ربما يكون كناية عنه.

______________________________

(1) إبراهيم: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 139

[سورة إبراهيم (14): الآيات 40 الى 41]

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)

[41] يا رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ بأمر الناس لها و الإرشاد إليها، أو المراد أدم توفيقك لأكون في المستقبل مقيما كما كنت في الماضي كذلك، مثل «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي اجعلهم مقيمين للصلاة، و دخول «من» هنا و في قوله عليه السّلام «من الناس» إما للنشوء و الجنس أي أفئدة من

هذا الجنس، و اجعل من جنس ذريتي فيكون الدعاء عاما، و لا منافاة بين دعاء الخير للعموم و إن علم الإنسان أنه لا يستجاب إلا لبعض، كما

في الدعاء: «اللهم اغفر للمسلمين و المسلمات»

و إما للتبعيض و إنما دعاه للبعض، لأنه علم عدم الاستجابة بالنسبة إلى الكل رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ أي دعائي، و حذف ياء المتكلم تخفيفا، لدلالة الكسرة عليه.

[42] رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ و المراد بالغفران الستر، و ذلك لا ينافي عدم العصيان فإن للمعصومين عليهم السّلام حالات مباحة، بل راجحة هي دون شأنهم لا يحبون أن تظهر للملأ، كما أن كل أحد فهو قاصر أو مقصّر بالنسبة إلى مقامه سبحانه، و إن صرف كل وقته في طاعته، كما نجد هذا بالوجدان فيما لو استضاف الإنسان ملكا و هيّأ له كل إمكاناته، مما كانت قاصرة عن شأن الملك، فإنه يعتذر و يطلب غفرانه، و على هذا يحمل (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ) «1» و أمثال ذلك- على وجه- و التفصيل في علم الكلام وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يدخل فيهم المؤمنات، و إنما أتى بالمذكر تغليبا يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ

______________________________

(1) الفتح: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 140

[سورة إبراهيم (14): الآيات 42 الى 43]

وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)

أي يقوم الخلق للحساب، فالإسناد مجاز عقلي.

[43] و إذ يفرغ الكلام حول المثال بالنبي العظيم إبراهيم عليه السّلام، للعبد الصالح لله سبحانه يرجع السياق نحو «الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً» فلا يظن أولئك أنهم عملوا ما شاؤوا بلا رقيب و لا حساب، بل أنهم يؤخّرون حتى يأتي دورهم

يوم القيامة وَ لا تَحْسَبَنَ أي لا تظنن يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه التفكر في أمثال هذه الشؤون اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ بأنفسهم، أو بغيرهم، فإن الله سبحانه عالم بكل حركة و سكون منهم، و أن كل أعمالهم تكتب في كتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها، و إنما لا يعجّل بالأخذ و الانتقام لمصلحة مقررة، و أن يثيب المظلوم، و يظهر ما في نفس الظالم، لئلا يكون له حجة إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ أي الظالمين يؤخر عقابهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ شخوص البصر ذهولها و عدم غمضها، فإن يوم القيامة لا يدع المجرم أن يغمض بصره، بل هو كالإنسان المسافر الذي لا يهدأ، شاخص نحو الأهوال الجارية في القباحة ليرى ماذا يصنع به؟.

[44] في حال كون الظالمين مُهْطِعِينَ الإهطاع الإسراع، أي يسرعون إلى هنا و هناك لعلهم يجدون شفيعا أو مخلصا مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ الإقناع رفع الرأس، أي رافعين رؤوسهم إلى السماء ليروا ماذا ينزل من طرفها حيث يرون الآيات الهائلة المتتالية التي تنزل من طرف العلو،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 141

[سورة إبراهيم (14): آية 44]

وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44)

أو المراد ناكسي رؤوسهم- قيل و هو لغة قريش- كما قال سبحانه:

(وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) «1» و لا تنافي فإن مواقف القيامة كثيرة، ففي موقع يكونون هكذا، و في موقع هكذا لا يَرْتَدُّ أي لا يرجع إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي عينهم فإنهم لا يطبقونها و لا يغمضونها، إذ هي مفتوحة مذهولة مبهوتة وَ

أَفْئِدَتُهُمْ أي قلوبهم هَواءٌ أي مجوّفة لا تعي شيئا للخوف و الفزع، شبهت بهواء الجو، و ذلك لأن الإنسان الخائف لا تحضر نفسه لفهم شي ء حيث توجهت جميع حواسه إلى ذلك الخوف الهائل.

[45] وَ أَنْذِرِ يا رسول الله النَّاسَ عن يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ هو يوم القيامة، أو يوم الموت، فإن العذاب يشرع من هناك، أو المراد عذاب الدنيا حين الاحتضار و نحوه فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر أو العصيان رَبَّنا أَخِّرْنا أي أرجعنا إلى الدنيا، أو مدّ في أعمارنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي مدة قصيرة نُجِبْ دَعْوَتَكَ «نجب» مجزوم بكونه جواب الأمر، أي إن تؤخرنا نجب دعوتك و أوامرك وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما قالوا و أمروا و لكن هيهات أن يردّوا أو يؤخروا، لأنهم استوفوا مدتهم، و لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه، و هنا يتوجه الخطاب إليهم بالتقريع أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أيها الظالمون

______________________________

(1) السجدة: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 142

[سورة إبراهيم (14): الآيات 45 الى 46]

وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)

أَقْسَمْتُمْ حلفتم مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ و انتقال عن دار الدنيا إلى دار الآخرة، و من نعيم الدنيا إلى جحيم العذاب؟ فهل كان ذلك صحيحا؟

[46] وَ سَكَنْتُمْ أيها الظالمون فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قبلكم فلم تعتبروا بأحوالهم، فكيف تطلبون الآن أن نؤخركم إلى أجل قريب حتى تتوبوا؟ فإن كانت نفوسكم مستعدة للتوبة، لتبتم قبل هذا اليوم حيت رأيتم مساكن الظالمين، و سكنتم فيها وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ

فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك و الاستئصال وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ على لسان الأنبياء و الصالحين، فقد بينوا لكم أخبار الماضين من قبلكم كيف عتوا عن أوامر الله سبحانه، و كيف أن الله سبحانه عاقبهم و أخذهم، فلم ينفع فيكم ذلك، أو المراد ضرب المثل عملا بإهلاك الطغاة و إبادتهم عن الوجود.

[47] ثم يأتي السياق لبيان ما يفعله الكفار فعلا من المؤامرات ضد الإسلام و الرسول و المؤمنين وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أي اتخذوا تدابيرهم الخفية، ما أمكنهم ذلك، فلم يدعوا بابا من أبواب المكر إلا طرقوه، و العموم يستفاد من قوله «مكرهم» الظاهر في أنهم أتوا بغاية ما تمكنوا من المكر، و يحتمل أن يكون المراد: أن الكفار مكروا بالأنبياء عليهم السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 143

قبلك يا رسول الله، كما مكروا بك، فعصمهم الله من مكر الكفار، فيكون تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيما يفعله هؤلاء به.

وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أنه محفوظ لديه سبحانه، غير خاف عليه، فلا يمكن أولئك أن ينفذوا مكرا دون أن يعلمه الله سبحانه، و هذا كقولك لمن خاصمك: عندي ما تفعله، تعني إنك مطلع عليه، و من المعلوم أن الإنسان إذا كان مطلعا على طرق مكر الخصم، لا يتمكن الخصم من إغفاله، و إنفاذ مكره به وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ في غاية العظم و الدقة بحيث لو أنفذوها على اقتلاع الجبال الراسيات لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ لكنه لا ينفذ بالنسبة إلى أنبياء الله عليهم السّلام و من في زمرتهم لأن الله مطلع يحبطه فلا يتمكنون من إضرار الأنبياء بذلك المكر، و لا يقال: إذا كان كذلك فكيف تمكن بعض الأمم من إنفاذ مكرهم على

الأنبياء حتى قتلوهم أو شردوهم؟ فالجواب: إن الذي أراده الأنبياء إنما هو تنفيذ منهاج السماء في الناس و قد تمكنوا من ذلك، أما أشخاصهم فلم يكن للأنبياء همّ في بقاء حياتهم، بل بالعكس من ذلك إن غاية آمال الأنبياء و الأئمة لقاء الله سبحانه قتلا و نحوه، كما

قال الإمام عليه السّلام: و إن كانت الأبدان للموت أنشأت* فقتل امرء بالسيف في الله أفضل «1»

______________________________

(1) ديوان الإمام علي عليه السّلام: ص 315.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 144

[سورة إبراهيم (14): آية 47]

فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47)

و قال علي عليه السّلام: «و الله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بمحالب أمه»

«1»

و قال عليه السّلام: «لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ»

«2» و في القرآن الحكيم: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) «3» و قال سبحانه: (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) «4» إلى غير ذلك.

[48] أنه ليس لمكر هؤلاء أثر فإن الله سبحانه يحبطه و ينصر رسله فَلا تَحْسَبَنَ أي لا تظنن يا رسول الله أو أيها المتدبر في الأمور، من كل من يمكن أن يتأتى منه هذا الظن، و إن كان الخطاب للرسول فليس النهي لأن الرسول كان يظن ذلك بل للتنبيه على أن هذا المكر لا ينفذ، على طريق المجاز، أو طريق الكفاية، نحو إياك أعني اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ الوعد الذي وعده إياهم بقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) «5»، و أيّ نصر أعظم من أنهم باقون في القلوب مورد احترام البشرية، يذكرونهم بكل تجلّة، و يزورونهم و من يمتّ إليهم،

بينما ذهبت الفراعنة و الجبابرة حتى لم يبق لهم اسم، و من بقي فهو للعن و البراءة و ليكون مثلا للظلم و الطغيان، ليجتنب سبيله الناس.

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قاهر، ذُو انتِقامٍ ينتقم من كل ظالم جبار في الدنيا قبل الآخرة كما نرى التاريخ الغابر و الحاضر ملي ء بالشواهد و الأمثلة، فإنه سبحانه لا يدع الظالم بلا جزاء، و لا يذر

______________________________

(1) الاحتجاج: ج 1 ص 95.

(2) بحار الأنوار: ج 42 ص 233.

(3) التوبة: 111.

(4) الجمعة: 7.

(5) غافر: 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 145

[سورة إبراهيم (14): الآيات 48 الى 49]

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49)

الماكر بلا عقاب.

[49] إن عدم الخلف، أو الانتقام، إنما هو يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ أو أن العامل فيه محذوف تقديره، اذكر يا رسول الله، و لعل هذا أقرب إلى المعنى، و إن كان الأول أقرب إلى اللفظ غَيْرَ الْأَرْضِ و تبدل وَ السَّماواتُ غير السماوات، بمعنى أنهما يصبحان في غير شكلهما المألوف الحالي، فإن الجبال تدك، و الأرض تسوى حتى لا ترى عوجا و لا أمتا، و البحار تسجر، و الشمس تنكسف، و القمر ينخسف، و النجوم تكدر، إلى غيرها من آيات القيامة.

وَ بَرَزُوا أي ظهر الجميع، أو الظالمون- حيث أن الكلام في الآيات السابقة حولهم- لِلَّهِ أي أمام حكمه و عدله كما يظهر المتخاصمان أمام الحاكم، عند المحاكمة الْواحِدِ فلا شريك مزعوم هناك، و لا أحد يحكم إلا هو الْقَهَّارِ الذي يقهر الظالمين، فلا مجال للتملص و التخلص.

[50] وَ تَرَى يا رسول الله أو أيها الرائي الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا و عملوا السّيئات يَوْمَئِذٍ أي في ذلك

اليوم، و هو يوم القيامة مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي مجمعين في الأغلال قرنت أيديهم بها إلى أعناقهم، أو مصفدين بعضهم مع بعض، من التقرين و هو جمع الشي ء إلى نظيره، و الأصفاد جمع صفد و هو الغلّ الذي يقرن به اليد مع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 146

[سورة إبراهيم (14): الآيات 50 الى 52]

سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)

العنق، أو مطلق السلسلة.

[51] سَرابِيلُهُمْ جمع سربال و هو القميص، أي ألبستهم مِنْ قَطِرانٍ و هو شي ء أسود لزج منتن يقبل الاحتراق سريعا، يطلى به الجمل الأجرب، أي أن ألبستهم من هذا الجنس حتى تكون النار فيهم أسرع لكونها أسرع في الاشتعال و أبلغ في شدة العذاب وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحيط النار بوجوههم حتى تكون على الوجه كالغشاء، و بيان ذلك بالخصوص لما يعلمه كل إنسان من أن الوجه يتأذّى بأقل شي ء من الألم فكيف بالنار المحيطة بها كالغشاء.

[52] و إنما يفعل سبحانه بالمجرمين هذا العذاب المدهش لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ فقد كسبت أنفس الظالمين في الدنيا الظلم و المكر فليذوقوا جزاء أعمالهم، و لا يظن ظان أن عذاب الآخرة بعيد ف إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ

فقد قال الإمام عليه السّلام: كل آت قريب و الموت أقرب

، و ها نحن ننظر أين أولئك الذين عارضوا الرسول؟ أو عارضوا الوصي و الصديقة و الزكي و الشهيد و غيرهم ممن تقدم من الأنبياء عليهم السّلام و الصالحين أو تأخر من الأئمة عليهم السّلام

و المتقين؟ أليس الكل قد ماتوا و نالوا نصيبهم من العذاب- و

من مات قامت قيامته-.

[53] هذا القرآن بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي تبليغ لهم، حتى يأخذوا حذرهم، و إلا فعن قريب يلاقون هذا المصير المهول وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ فهو بلاغ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 147

لكل وعد و وعيد و حكم و عظة، بصورة عامة، كما أنه جي ء به لينذر الناس، فيأخذوا حذرهم- و إنما أتى بهذا الخاص بعد ذلك العام لأنه مورد الكلام في الآية السابقة- وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له، مما قد كان مصب كلام السورة، و إنما يعلموا بالقرآن لأنه يبين لهم الحجج و الأدلة فلا يقال أن الإذعان بالقرآن متوقف على الإذعان بالإله فكيف يمكن أن يكون الإذعان بالإله متوقفا على الإذعان بالقرآن؟ وَ لِيَذَّكَّرَ من تذكّر «باب التفعّل» ثم أدغمت التاء في الذال، و جي ء بهمزة الوصل لاستحالة الابتداء بالساكن أُولُوا الْأَلْبابِ أي يتعظ أصحاب العقول، فإن ألباب جمع لب، و هو العقل، و إنما خصص بهم تنبيها على أن غير المتعظ إنما هو مجنون، حيث ترك الآخرة العظيمة لشهوات زائلة، و الله العالم و هو العاصم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 149

تقريب القران إلى الأذهان الجزء الرّابع عشر من آية (1) سورة الحجر إلى آية (129) سورة النحل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 150

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 151

15 سورة الحجر مكيّة/ آياتها (100)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحجر» و هو اسم البلد الذي كانت فيه قبيلة «ثمود» قوم صالح عليه السّلام و

هذه السورة تدور حول العقيدة، و عاقبة المكذبين بما أرسل به المرسلون، كغالب السور المكية. و لما ختم سبحانه سورة «إبراهيم» بكون القرآن بلاغا، ابتدأت هذه السورة بذكر «القرآن» مع التناسب الكلي بين السورتين في استعراض العقيدة و عاقبة الكاذبين بها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين بالله الرحمن الرحيم في أمورنا و نجعله بدء أعمالنا، ليكون عونا لنا، في ختم العمل، و أن يطبع بطابعه، فإن ما لمسته رحمة الله العظيم، لا يكون إلا صالحا باقيا، موجبا للسعادة و لنستمطر شآبيب رحمته، فيرحمنا بلطفه و إحسانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 152

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 199

[سورة الحجر (15): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2)

[2] الر ألف، و لام، وراء تِلْكَ و من هذا الجنس من الحروف تتركب آياتُ الْكِتابِ وَ آيات قُرْآنٍ مُبِينٍ واضح لا لبس فيه و لا غموض و لا التواء، و قد ذكرنا غير مرة أن «فواتح السور المقطعة» فيها احتمالات: أحدهما ما ذكرنا، و الآخر أنها رموز بين الله سبحانه و الرسول، و هناك احتمالات أخر، يمكن الجمع بين كثير منها، و على الاحتمال الأول ف «الر» مبتدأ و «تلك» خبره، و تأنيث الإشارة باعتبار أن المقصود «حروف، الر».

و قد تكرر «الر» في فواتح السور، بينما كان بالإمكان أن «ج م د» مثلا، أو غيره، و لعل لسرّ أن الرمز الحاوي له «الر» كان مهما يحتاج إلى التأكيد، كتكرار بعض الآيات: نحو (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) «1»، أو لعله كان ذلك تعبيرا عن حروف الهجاء، كما أن «الضاد» تعبير عن لغة

العرب، فيقال لغة الضاد ...... و إنما قال: «آيات الكتاب و قرآن» بعطف القرآن على الكتاب مع أنهما واحد، لإفادة أنه يكتب و يؤلف، فإن القرآن من قرأ و هو بمعنى الجمع و التأليف، و كأنه أكثر تأكيدا في مقام التعجيز، أو من جنس «أ، ل، ر» كتبت و ألفت هذه السور و الآيات فكيف لا تقدرون على الإتيان بمثله، إذا لم يكن من جانب الله؟ و هكذا كما يقول المهندس متحديا سائر زملائه: إني من «الآجر، و الحديد، و الجص» صنعت هذا البناء و ألفت هذا القصر فاصنعوا مثله؟- و الله أعلم بمراده-.

[3] و إذ كذب بهذا الكتاب و القرآن المبين بعض الناس، بعد أن عجزوا عن

______________________________

(1) الرحمن: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 153

[سورة الحجر (15): آية 3]

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)

الإتيان بمثله فسيأتي يوم يندمون على كفرهم و تكذيبهم، و يتمنون أن كانوا مسلمين في الدنيا غير مكذبين، حتى لا ينالهم العذاب الشديد رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ «ربّ» مشدّدة، و تخفف كثيرا إذا دخلت على «ما» الكافّة، و هي لفظة تأتي عقب رب ليصلح دخولهما على الفعل و الا فإن «رب» تدخل على الاسم، فإنها من حروف الجر، أي ربما يتمنى الكفار الإسلام في الآخرة حيث رأوا عذاب الكافرين و نعيم المسلمين.

قال الإمام الصادق عليه السّلام: ينادي المنادي يوم القيامة يسمع الخلائق أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم فثم يودّ سائر الخلائق أنهم كانوا مسلمين

«1»، ثم أن الظاهر كون رب للتكثير أي كثيرا ما يودون ذلك، فإن الإنسان المعذب يتمنى كثيرا إن كان عمل عملا لا يؤديه إلى هذا العذاب الذي هو

فيه، و لكن لا ينفع التمني و الندم هناك.

[4] إن ذلك تهديد للكفار، بأن ورائهم هذا اليوم، و يأتي تهديد آخر، في صورة الأمر استهزاء ذَرْهُمْ أي دع يا رسول اللّه هؤلاء الكفار، و اتركهم و شأنهم يَأْكُلُوا ما شاءوا من الحرام و الحلال وَ يَتَمَتَّعُوا باللذائذ و الشهوات، كما يشتهون من غير ارتقاب العاقبة و عدم النظر إلى متعتهم هل هي جائزة أو محظورة وَ ذرهم يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ من «ألهاه» بمعنى أشغله، و «الأمل» توقع سعادة الدنيا في المستقبل، أي تشغلهم آمالهم الدنيوية الزائلة عن التفكر في مصيرهم في الآخرة،

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 239.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 154

[سورة الحجر (15): الآيات 4 الى 5]

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (5)

و التجهّز له بالأعمال الصالحة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و بال ذلك في ما بعد، حين ما عاينوا جزاء أعمالهم، إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلما دعاهم و لم يقبلوا، فليدعهم حتى يلاقوا مصيرهم السيئ.

[5] فلا يغرنّ هؤلاء الكفار تأخير العذاب عنهم، و أنهم عاجلا لا يرون جزاء تكذيبهم، فقد جرت سنة اللّه سبحانه، أن لا يهلك أمة إلا في الوقت المقدّر المحدّد وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي من بلد، و المراد بها أهلها، بعلاقة الحال و المحل إِلَّا وَ لَها كِتابٌ أي وقت و سمي الوقت كتابا لأنه يكتب أجلهم هناك، فهو مجاز بعلاقة الظرف و المظروف، إذ المدة مكتوبة في الكتاب مَعْلُومٌ لدى اللّه سبحانه، فلا يأخذ القرية قبل انتهاء مدتهم، و من المحتمل أن يراد أن هذا قبل قرب وقت تعذيبهم، لأنه

جاءهم الكتاب السماوي، و بين لهم الأحكام، و قد جرت سنه اللّه أن يأخذ الظالمين بعد البيان، كما قال سبحانه: (وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «1».

[6] ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي لم تكن أمة تسبق أَجَلَها فتهلك قبل الوقت المحدّد لموتها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ أي لا تتأخر أمة عن أجلها المقدر لها، بأن تهلك بعد الأجل، فلو كان أجل أمة في يوم الجمعة لا تسبقه بأن تموت الخميس و لا تتأخر عنه بأن تموت يوم السبت، و كأنه جاء بلفظ «الاستفعال» لإفادة أن الأمة لا تطلب التأخير، لأنها تعلم بأن الأجل لا يتأخر، و هذا لبيان حتمية الأجل حتى أنه لا موقع لطلب التأخير.

______________________________

(1) الإسراء: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 155

[سورة الحجر (15): الآيات 6 الى 7]

وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)

و ما ورد من أن الأدعية و الصدقات و ما أشبههما تؤخر الأجل «1»، فالمراد أنها تؤخر الأجل المعلق، لا الأجل المحتوم، و معنى الأجل المعلق، أنه لو لا هذه الصدقة لكان يموت في الخميس، لكن اللّه يعلم أنه يصّدّق فيموت يوم الجمعة.

[7] لقد جاء لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالكتاب و القرآن المبين و بصّرهم و أقام عليهم الحجة، لكن الكفار لم يذعنوا لذلك كله بل أخذوا في الفساد و اللجاج راكبين رؤوسهم مستهزئين بالرسول وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قالوا ذلك استهزاء و إلا فقد كانوا ينكرون نزول الذكر على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ حيث تزعم مزاعم المجانين، بأنك أوحي إليك، و

إننا سوف نكون لك تبعا، و هكذا يلجأ المبطلون إلى رمي المصلحين بالجنون و ما أشبه، إذ لم يتمكنوا من رد حججهم الصحيحة، و لم يحروا جوابا لما يرشدون إليه من الإصلاح.

[8] لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ أي لماذا لا تأتينا بملائكة يشهدون بصدق دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك إنك نبي مأمور من عند اللّه سبحانه، فإن النبي يقدر على كل شي ء.

لكن حجتهم هذه كانت تافهة إلى أبعد الحدود، فإن النبي إنما يثبت نبوته بالخارقة و قد أثبت النبي بإتيان القرآن، اما أن يأتي بكل خارقة تتخيلها أدمغة المعاندين، فإن ذلك عبث لا طائل تحته، إن

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 4 ص 222.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 156

[سورة الحجر (15): الآيات 8 الى 9]

ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)

المطالبين بإنزال الملائكة و ما أشبه إن كانوا منصفين كفاهم الدليل، و إن كانوا معاندين لم يكفهم ألف دليل، فلما ذا يأتي النبي بالملائكة، و ها نراهم يقولون للنبي في آية أخرى (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) «1».

[9] لكن القرآن يردهم بأسلوب آخر، هو أن الملائكة لا ينزلون إلا للعذاب و الهلاك، فهكذا اقتضت مشيئة اللّه سبحانه، حتى في بدر نزلت الملائكة لعذاب الكفار، فإذا أنزلنا الملائكة عذبوهم و أهلكوهم فلا يستفيدون من إنزال الملائكة شيئا، و قد جرت سنة اللّه كذلك في القرون الماضية و الأمم الخالية ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ لا للعبث و اللغو، كما يطلبه هؤلاء فإن إجابة المعاند بعد إثبات الحجة عليه لغو و عبث وَ ما كانُوا إِذاً

حين نزول الملائكة مُنْظَرِينَ أي مؤخرين ممهلين، بل الملائكة إذا نزلت فإنما تنزل للعذاب و الهلاك فهل يريدون هلاك أنفسهم بهذا الطلب؟ ثم ألم نر الكفار يوم بدر رأوا الملائكة بعيونهم، و لكنهم لم يؤمنوا و قالوا أنه سحر؟

[10] إنهم إن كانوا صادقين في طلبهم الحجة، فأية حجة أقوى من القرآن الحكيم، الذي مع كبره و سعته و إنه بلغتهم عاجزون عن إتيان سورة من مثله ف إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ و سمي القرآن ذكرا لأنه يذكّر الإنسان بالعقيدة و النظام مما فطر في جبلة الإنسان لكنه ذهل عنه وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من التغيير و التحريف و الزيادة و النقصان، و الذي أعتقده

______________________________

(1) الأعراف: 133.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 157

[سورة الحجر (15): الآيات 10 الى 11]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11)

وفاقا لغير واحد من علمائنا الأخيار أن هذا القرآن الذي هو بأيدينا اليوم بين الدفتين هو عين ما أنزل بلا أيّ تغيير أو تبديل و إن السور و الآيات إنما رتبت كما أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن كان النزول مختلفا، و الرسول لم يفعل هذا الترتيب إلا بأمر اللّه سبحانه، كما قال سبحانه: (وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» و هكذا كان اعتقاد والدي قدس سره، كما ذكره في نشرة «أجوبة المسائل الدينية» الكربلائية، و ذكرت طرفا من الكلام في أوائل نشرة «الأخلاق و الآداب» الكربلائية، في تفسيري لسورة الحمد و بعض سورة البقرة.

و ربما يتعجب الإنسان من هذه التأكيدات الواردة في هذه الآية، و هي اثنتي عشرة

أو أكثر «إن» و «نا» بضمير الجمع و «نحن» تكريرا و جمعا و «نزل» بالتفعيل و «نا» جمعا و «إن» و «نا» و «له» باللام و «لام» لحافظون و «إتيانه جمعا» و كون الجملتين اسميتين.

[11] ثم يسلي سبحانه الرسول أن لا يضيق باستهزاء المستهزئين، فقد كانت عادة الأمم أن يستهزءوا بالرسل وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه رسلا فِي شِيَعِ جمع شيعة و هم الطائفة من الناس الذين يتبعون طريقة معينة، من المشايعة بمعنى المتابعة، فكان كل جماعة يتبعون مسلكا و رئيسا لذلك المسلك و مخترعه الْأَوَّلِينَ أي الأمم السابقة، فقد أرسل في كل فرقة من السابقين رسول.

[12] وَ قد كان دأبهم أنه ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ «من» زائدة تدخل في

______________________________

(1) النجم: 4 و 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 158

[سورة الحجر (15): الآيات 12 الى 13]

كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)

المنفي لإفادة التعميم، حتى لا يظن أن عموم النفي مجاز إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و الاستهزاء دائما حيلة العاجز عن الحجة حيث يريد تحطيم خصمه، و هذا كالتسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه لا يهتم باستهزائهم فإن ذلك عادة الأمم كافة بالنسبة إلى رسل اللّه سبحانه.

[13] و لكن إنما لا نأبه باستهزاء هؤلاء الكفار بالقرآن، فاللازم في الحكمة أن نتم عليهم الحجة، و إن استهزءوا به و علمنا أنهم لا يؤمنون كَذلِكَ الذي ذكر نَسْلُكُهُ أي القرآن فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يقال سلكه و أسلكه إذا أدخله، يعني إنا في هذه الحالة الاستهزائية، و مع هذا الواقع السي ء لدى المكذبين، ندخل القرآن في قلوبهم، حتى تتم الحجة عليهم.

كما إذا

قيل لك أنك كيف تفعل كذا و الحال أن جماعة ينتقدون عليك؟ تقول: هكذا نعمل، تريد أنك تعمل و إن جلب العمل الانتقاد.

[14] إنهم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ هذا كالبدل لقوله «كذلك» أي إنهم مع عدم إيمانهم بالقرآن و استهزائهم لك نلقي عليهم الحجة وَ قَدْ خَلَتْ أي مضت سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ طريقة الأمم السابقة، في أنهم لم يكونوا يؤمنون بالأنبياء عليهم السّلام و يستهزئون بهم و مع ذلك كنا نلقي عليهم الحجة، فالطغاة المكذبون من عنصر واحد، و هم أشباه في كل زمان و مكان، و ليس تكذيبهم و استهزائهم سببا لكفّنا عن الإرشاد و البلاغ، سواء في ذلك السابقون أو من في زمانك يا رسول اللّه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 159

[سورة الحجر (15): الآيات 14 الى 16]

وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16)

[15] إن هؤلاء الكفار لا يريدون الإيمان، و لو أقيم لهم ألف دليل، أما ما طلبوا من إنزال الملائكة، فإنه حجة للعناد لا للتفهم فإنهم معاندون لا يؤمنون وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المشركين باباً مِنَ السَّماءِ بأن رأوا أن موضعا من السماء كالباب يمكن المرور منه.

فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ أي أخذوا طوال نهارهم يصعدون إلى السماء من ذلك الباب، لم يفدهم هذا الإعجاز الذي لمسوه في أن يؤمنوا.

[16] بل لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي سدت و غطيت كالإنسان المسحور الذي يرى غير الواقع واقعا لما عمل فيه من السحر و الشعوذة بَلْ ليس لهذا الشي ء من واقع و إنما نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ قد سحرتنا فظننا أن للسماء

بابا و إننا أخذنا نصعد فيه، إذن فهل يكفي إنزال الملائكة لإيمان هؤلاء؟.

[17] أخذ سبحانه يعدّد الأدلة على وجوده سبحانه، و ذلك بتعدد الآيات الكونية، التي تشهد كل واحدة منها، على وجود إله قدير حكيم عالم وَ لَقَدْ جَعَلْنا أي خلقنا و أبدعنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً جمع برج، و أصله الظهور، و منه يسمى شرفة الحصن برجا، لأنه ظاهر منه من بعيد، و سمى بروج السماء بروجا، لظهورها

قال الصادق عليه السّلام: اثنى عشر برجا

«1».

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 160

[سورة الحجر (15): آية 17]

وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17)

أقول: لقد قسموا السماء إلى اثني عشر قسما يسمى كل قسم برجا و يميز بين البرج و البرج بالكواكب الموجودة في كل واحد منها.

و البروج هي: «حمل» و «ثور» و «جوزاء» و «سرطان» و «أسد» و «سنبلة» و «ميزان» و «عقرب» و «قوس» و «جدي» و «دلو» و «حوت» ففي كل برج عدة كواكب لو ربطت بينها بخيوط لصارت بصورة هذه الأشياء وَ زَيَّنَّاها أي السماء لِلنَّاظِرِينَ الذين ينظرون إليها، و لو لم تكن فيها الكواكب لم تكن ذات زينة و جمال.

[18] وَ حَفِظْناها أي حفظنا السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي مرجوم مرمي، و يوصف الشيطان بهذا الوصف لأنه يرمى باللعن، أو لأنه إذا حاول دخول السماء رجم بالشهب كما يرمى المجرم بالحجارة، فالسماء مع جمالها الظاهري بالكواكب جميلة معنى بطهارتها عن دنس الشيطان و لوثه، فلا منفذ للأبالسة في السماء، و إنما محلها الأرض، و من أين تبدأ هذه السماء التي ليست محلا للأبالسة لم نعرفها بعد.

نعم دلّ العلم الحديث- كما يظهر من الأحاديث أيضا- أن محل الشياطين

إنما هو الطبقة فوق الأرض بعد بضعة أذرع، و لذا كره تعلية البنيان «1».

ثم أن الظاهر أن في السماوات ملائكة مطهرون، لا يقترب منهم الشيطان بالوسوسة، فعدم دخول الشيطان في السماء، لأجل عدم

______________________________

(1) أنظر كتاب على حافة الأثيري.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 161

[سورة الحجر (15): الآيات 18 الى 19]

إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ (19)

اقترابه من أولئك الملائكة المنزهين عن المعاصي الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.

[19] إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ من الشياطين، و السرقة عبارة عن أخذ الشي ء خفية، و كما أن من يسرق المال يأتي إليه خفية لئلا تراه العيون، كذلك الشيطان الذي يريد استراق المسموع- و هو المراد بالسمع- أي الكلمة التي تسمع و تدار في عالم الملكوت، و الاستثناء من «حفظناها» أي أن السماء محفوظة إلا من الشيطان السارق و كان هناك تدبّر أمور الأرض- كالبلاط الذي يدبّر فيه أمور المملكة- و الشياطين يريدون الاطلاع على ما يدبّر هناك، فيذهب بعضهم للعلم من الكلمات التي تدار بين الملائكة، لكن ذهابهم خفية، حتى يسرقوا بعض الكلمات، و لو سمع و استرق فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ أي لحقته شعلة نار ظاهرة لأهل الأرض، كما نرى من الشهب، لأجل طرده، الشهاب كما يراه الإنسان شعلة من نار تتحرك مسافة ثم تنطفئ و ما يقوله علماء الفلك من أن هذه الشهب أحجار ترمى من أعالي الجو، و تشتعل بالحركة، لا ينافي ما ذكر فإن سبب رميها- لو صح ما قالوا- إنما هو طرد الشياطين،

و في بعض الأحاديث أن الشياطين كانت تخترق السماوات حتى ولد

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فمنع عن ذلك.

[20] تلك هي السماء و نجومها و حفظها، و الشياطين الصاعدة إليها، و الشهب المنقضة منها، فلنعطف إلى الأرض وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها و جعلناها طويلة عريضة لتقبل السكن و سائر لوازم الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 162

[سورة الحجر (15): الآيات 20 الى 21]

وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)

وَ أَلْقَيْنا أي جعلنا فِيها رَواسِيَ جمع راسية و هي الجبل، و إنما قال «رواسي» لأنها السبب في اضطرابها في الماء و عدم تفتتها كما ترسو السفينة في الماء و تستقر وَ أَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ في دقة و إحكام و تقدير، فالنبات ليس اعتباطا حجمه و شكله و لونه و سائر مزاياه، بل كل ذلك بالوزن و التقدير، و ليس المراد بالوزن- معناه الخارجي- بل تشبيه بالموزون الذي ليس فيه زيادة و نقصان، يقال فلان شخص موزون، أي دقيق الصفات متساوي الجهات، لا زيادة في حركاته و سكناته و لا نقصان.

[21] وَ جَعَلْنا لَكُمْ أيها البشر فِيها أي في الأرض مَعايِشَ جمع معيشة، و هي آلة العيش، و البقاء من مأكل و مشرب و مسكن و ملبس و غيرها وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على لكم، أي جعلنا لكم الرزق كما جعلنا للعبيد و البهائم الرزق، و إنهم ممن نرزقهم، لا أنتم ترزقونهم، فإن الإنسان يظن أنه يرزق من تحت يده، و هو خطأ بل الإنسان أضعف الأسباب بين ألوف الأسباب التي هي المؤدّية للرزق إلى الحيّ،

أو المراد أن من ليس تحت يدكم من الطيور المحلقة في الهواء، و الأسماك السابحة في الماء و الحيوانات السارحة في الغبراء، كلها نرزقها نحن.

[22] و بمناسبة الحديث عن الرزق، فليعلم البشر أنه ليس برزاق، و لا من عنده أسباب البقاء بل وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ أي ما من شي ء من الرزق و غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 163

[سورة الحجر (15): آية 22]

وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22)

الرزق إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ فهي تخرج من خزائن اللّه سبحانه، و ذلك تشبيه بالخزينة التي يدخر فيها الملوك النقود و المجوهرات يعني أن مصدره منا و إنا نحن نعطيه وَ ما نُنَزِّلُهُ أي ننزّل ذلك الشي ء، و التنزيل هنا بمعنى الإتيان من جانب إله رفيع، فإنه قد يستعمل في الرفعة الحسية، نحو نزلت من السطح، و قد يستعمل في الرفعة الحقيقية، نحو نزلت من عند الملك- كما تقدم سابقا-.

إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ حسب المصلحة، فليس ما يشاهده الإنسان من النبات الكثير في الصحراء الكبيرة و المياه الزاخرة في الأنهار التي تصب في البحار، و الحشرات الكثيرة في الأرض- إلى غيرها- بلا قدر و تعداد و ميزان، بل كلها بقدر معلوم لدى الباري سبحانه، و قد خلق اللّه سبحانه هذا الكون و هو الذي يديره، فالشمس و الماء و أملاح الأرض و الهواء تولد النبات، و ليس النبات إلّا مركبا من هذه الأشياء، و إنما يجمع بينها و يعطي صورة النبات، ثم يهيج و يفنى برجوع كل جزء إلى أصله، و هكذا دواليك تجمع و تفرّق، فالشمس من الخزائن، و الماء من الخزائن، و هكذا .. و قد حصر القدماء

هذه الخزائن الأولوية في أربعة «الماء» و «النار» و «التراب» و «الهواء» فسبحانه من إله عليم قدير.

[23] و من تلك الخزائن: الرياح و الماء، و إن شئت قلت من تلك الأشياء لا ينزلها اللّه سبحانه إلا بقدر معلوم وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ و هذا كبيان لكيفية إنزال الأشياء و صنعها ليكون معيشة للبشر، و الرياح إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 164

تتولد- بقدرة اللّه سبحانه- من الهواء المخلوق حيث يمده الحر و يقلصه البرد، فيأتي من هنا إلى هناك ليملأ الفراغ، فهي من إرادة الهواء، كما أن من إرادة الماء أن يصعد ماء البحر إلى الهواء ثم ينزل مطرا ثم يسيل عيونا و أنهارا حتى ينتهي إلى البحر ليصب فيه، و هكذا، لواقح جمع لاقحة، أي تلقح السحاب بالمطر، فإن من المعلوم أن الرياح تأتي بالأمطار، و لذا فرع عليه سبحانه فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً أي المطر، و يحتمل أن يراد تلقيح الهواء للأشجار، ثم إنزال الماء، ليأتي النبات بالثمر.

فَأَسْقَيْناكُمُوهُ «الهاء» يعود إلى الماء- و الظاهر من هذا التفريع كون الاحتمال الأول هو المقصود- أي أسقيناكم ذلك الماء المنزل من السماء، و المراد من السماء جهة العلو وَ ما أَنْتُمْ لَهُ أي للماء بِخازِنِينَ فلستم أنتم أحرزتموه في البحر أولا، ثم في أعماق الأرض ثانيا، ثم في العيون و الأنهار ثالثا، حتى توصلتم إليه و استعملتموه في حوائجكم، بل كل ذلك بفعله سبحانه و قدرته العظيمة، كما قال: (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) «1» و قد يزعم بعض الناس أنه ما فائدة هذه الإدارة في الماء مع ما نرى أن الأنهار تصب في البحار كما كانت سابقا؟

و هذا جهل محض فهل أن الماء خلق للشرب أو سقي الحيوان و النبات فقط؟ إن من فوائد الأنهار تلطيف الأجواء و تجميل الأرض للناظرين، و هما

______________________________

(1) الحجر: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 165

[سورة الحجر (15): الآيات 23 الى 25]

وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

حاصلان، و إن لم يشرب أحد قطرة و لم ينتفع بالماء حيوان أو نبات.

[24] و إذ تبين أن الأمور الكونية بيد اللّه سبحانه، فلنعطف، إلى لون آخر من الأمور، و هي الأحياء، فإن خزائن الحياة و الموت أيضا له سبحانه وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ و إنا لا نعلم من الحياة و الموت إلا المظاهر أما المهية فلا يعلمها إلا اللّه سبحانه، و الأشياء كلها و إن كانت مجهولة الهوية حتى الماء و الهواء، لكن الحياة أغمض مهية، و أبعد عن الفهم حقيقة، و من زعم أن الطاقة أيضا تحت قدرة الإنسان فقد أخطأ، إذ الإنسان لا يأتي إلا لسبب واحد من عشرات الأسباب المتسلسلة لإيجاد هذا المسبب- أي الموت- و كون ما يأتي به الإنسان سببا- أيضا- بجعله سبحانه وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ الذين نرث الأرض و ما عليها بعد فناء الجميع [25] و إذ كانت الحياة بيد اللّه سبحانه، فلا ينفع أن يستقدم أحد الموت أو يستأخره، لأنه (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ) «1» وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ الذين يطلبون تقديم موتهم و تعجيل أجلهم وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ الذين يطلبون تأخير موتهم عن موعده المقرر، فالموت و الحياة بيدنا، و

نعلم من يريد تقديم أجله أو تأخيره، و أن الحشر إلينا.

[26] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه هُوَ يَحْشُرُهُمْ الحشر هو الجمع، أي

______________________________

(1) الحجر: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 166

[سورة الحجر (15): الآيات 26 الى 27]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)

يجمعهم ليوم القيامة إِنَّهُ حَكِيمٌ في أفعاله يفعلها حسب المصلحة عَلِيمٌ بكيفية الإدارة و ما يصدر من كل إنسان، فكل شي ء بقدرته و عمله، و كل شي ء يجريه حسب المصلحة.

[27] ثم بعد تلك المقدمات العامة حول الكون و خلق السماء و الأرض و أن بيد اللّه كل شي ء من حياة و موت و حشر، يأتي السياق ليبين قصة البشر الذي من أجله خلق الكون و الذي هو المقصود من إرسال الرسل و إنزال الكتب و بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نزول القرآن وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي البشر، و المراد آدم عليه السّلام و حواء عليه السّلام مِنْ صَلْصالٍ أي طين يابس يسمع له عند النقر صلصلة أي صوت من صلّ إذا صوّت مِنْ حَمَإٍ هو جمع حمأة و هو الطين المتغير إلى السواد مَسْنُونٍ من سننت الماء بمعنى صببته، أي مصبوب كأنه أفرغ حتى صار صورة، فإن طين آدم صب على شكله حتى صار صلصالا، فالصلصال من الحمأ المصبوب.

[28] وَ الْجَانَ اسم لأبي الشياطين، على وزن «فاعل» اسم فاعل من «جن» بمعنى استتر و إنما يسمى الشيطان جانّا، لأنه يجن و يستر عن الأبصار، و المراد بالشياطين غير المراد بالجان، فهما قسمان من خلق اللّه سبحانه يطلق على كل واحد منهما الجان لاستتارهما عن

الأبصار خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي قبل خلق آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ السموم هي الريح الحارة التي تدخل المسام للطفها و حرارتها، أي أن الجان خلق قبل آدم، من نار بهذا القسم، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 167

[سورة الحجر (15): آية 28]

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)

لفائدة التنويع فإن السموم نار و ريح، و التي خلق منها إبليس هي هذا القسم من النار، لا النار الغليظة الخليطة،

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: الآباء ثلاثة آدم ولّد مؤمنا و الجان ولّد مؤمنا و كافرا و إبليس ولّد كافرا و ليس فيهم نتاج إنما يبيض و يفرخ و ولده ذكور و ليس فيهم إناث

«1»، و كان المراد كون طبيعة الإنسان الإيمان لما أودع فيه من فطرة التوحيد.

[29] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ أي سأخلق، فإن اسم الفاعل يأتي بمعنى المستقبل بَشَراً أي هذا الجنس، قيل و سمي الإنسان بشرا، لظهور بشرته- أي جلده- بخلاف سائر الحيوانات مِنْ صَلْصالٍ طين يابس مِنْ حَمَإٍ أصل ذلك الصلصال من طين مائل إلى السواد مَسْنُونٍ أي مصبوب ذلك الصلصال، قال بعض المفسرين: إن هذه القصة كررت في سورة البقرة أولا، ثم سورة الأعراف ثانيا، ثم هنا ثالثا، و نقطة التركيز مختلفة في هذه المواضع كما أن الأسلوب و السوق مختلف، ففي سورة البقرة كانت نقطة التركيز استخلاف آدم في الأرض، و في الأعراف رحلة الإنسان الطويلة من الجنة و إليها و إبراز عداوة إبليس، و هنا سر التكوين في آدم و سر الهدى و الضلال. أقول: و لعلّ السرّ

في لزوم التركيز على مبدأ الإنسان لئلا ينحرف الناس نحو آراء «دارون» و من إليه.

______________________________

(1) الخصال: ج 1 ص 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 168

[سورة الحجر (15): الآيات 29 الى 30]

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)

[30] فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي صنعت هذا البشر، بأن أتممت صورته و قالبه وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي الإضافة تشريفية، أي من الروح التي هي من قبلي، و الأشياء كلها من قبل الله، و لكن ربما يضاف شي ء إليه لبيان شرافته، كما أن البيوت كلها له، لكن يضاف البيت الحرام إليه تشريفا، كما أن الاضافة في (وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) «1» كذلك، و إن كانت الأشياء كلها كلمات الله، و النفخ هو إجراء الريح في الشي ء باعتماد، و لو كان النفخ بآلة أو ضغط الهواء، كما أنه هو المراد هنا، فَقَعُوا الفاء عاطفة، و «قعوا» أمر من وقع يقع، نحو «قفوا» لَهُ أي لآدم ساجِدِينَ أي وقوعا بهيئة السجود.

[31] وضع الله آدم، و نفخ فيه من روحه، حتى جاء دور السجود من الملائكة فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ و إنما جي ء بهذا التأكيد بعد التأكيد لأمرين:

الأول: التأكيد على استيعاب الملائكة، فإن الذهن الأولي يستبعد أن الملائكة على كثرتها الخارجة من الفكر، و اختلاف أعمالها، و تفرق جهاتها، تجتمع كلها للسجود فيظن أن العموم مجازي، و ذلك لا يرفعه حتى تأكيد واحد، ألا ترى إنك لو قلت استقبل الفقيه من في المدينة كلهم، لا يكاد يظن الإنسان إلا أن المراد ب «كل» الأغلب، لاستبعاد أن يستقبله كل من في المدينة من رجل و امرأة و مسلم و ذمي،

______________________________

(1) النساء: 172.

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 3، ص: 169

[سورة الحجر (15): الآيات 31 الى 33]

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)

إلى غير ذلك.

الثاني: التلميح إلى قبح عمل الشيطان، إذ لو لم يكن بعض الملائكة سجد، كان مخالفة الشيطان هيّنا، أما و قد وقع سجود الجميع، و بقي هو وحده مخالفا فالأمر من البشاعة بمكان.

[32] إِلَّا إِبْلِيسَ مع شمول الأمر له، و إن لم يكن من الملائكة، فإنه أَبى و امتنع أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ لآدم عليه السّلام.

[33] قالَ الله سبحانه لإبليس يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ أي أيّ شي ء لك في عدم كونك مع الساجدين؟ و على هذا فالجار هو «في» محذوف من «ألا» و هو شائع مطرد، قال ابن مالك:

و الحذف في أنّ و إن يطردمع امن لبس، كعجبت أن يدو

ثم أن سؤاله سبحانه لم يكن إلا لإظهار كبر إبليس و تمرده، و إلا فهو عالم بجهة عدم سجوده.

[34] قالَ إبليس في جوابه سبحانه لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ أي ليس من شأني السجود لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ طين جاف، كان صنع مِنْ حَمَإٍ طين مائل إلى الغبرة مَسْنُونٍ مصبوب، و ذلك لأني من النار و النار أشرف من التراب فكيف يخضع الأشرف للأخسّ؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 170

[سورة الحجر (15): الآيات 34 الى 37]

قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)

[35] قالَ الله سبحانه لإبليس، و إذ تكبرت و خالفت الأمر «1» فَاخْرُجْ

مِنْها أي من الجنة فَإِنَّكَ يا إبليس رَجِيمٌ مطرود ملعون ترجم باللعن.

[36] وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ يقال لعنه بمعنى طرده و عذبه أي إنك معذّب مطرود من الخير إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي إلى يوم القيامة، فإن «الدين» بمعنى الجزاء، و كون الشيطان طريدا بمعنى أنه يمنع عن السماء، و يمنع عن اقتراب أماكن مقدسة و أشخاص ذاكرين كما ورد أن الإنسان إذا بسمل طردت الملائكة الشياطين عنه إلى غير ذلك، و لفظة «عليك» لإفادة معنى الضرر، و تقديمه على «اللعنة» لأنّ الكلام حول الشيطان، و قد تقرر في البلاغة البدء بما سيق الكلام له، فإذا أردت تعداد الشعراء- مثلا- تقول: الشاعر زيد و خالد، و إذا أردت تعداد فضائل زيد تقول: زيد شاعر و كاتب.

[37] قالَ الشيطان لما رأى ما ناله من الخزي يا رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أي أمهلني في الدنيا، و لا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة الذي فيه يبعث و يحيى الخلائق، لعله أراد بذلك أن لا يذوق الموت أصلا حيث أن يوم القيامة لا موت بعده.

[38] قالَ الله سبحانه في جوابه فَإِنَّكَ يا إبليس مِنَ الْمُنْظَرِينَ

______________________________

(1) لا أريد بمثل هذا التفسير إلا تفسير الحالة و المستفاد من اللفظ، لا العبارة و الدقة، حتى تكون النسبة و ما أشبهها كذبا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 171

[سورة الحجر (15): الآيات 38 الى 39]

إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)

لا يلازم هذا أن يكون هناك عدة أشخاص منظرين يكون إبليس أحدهم، و ذلك لأن الإتيان بالجمع من أبواب البلاغة، كأن المراد أن هذا من ذلك الجنس و إن لم يكن في الخارج منه

إلا واحد، و لذا جرت العادة أن يقول الإنسان: قال المفسرون، أو كذا يقول الحكماء، أو وجدت في كتاب الفقهاء، و هو يريد أن هذا الكلام صادر من ذلك الجنس، إلا أن جماعة منهم قالوا: أو يقال أن الملائكة منظرون فإبليس منظر كأحدهم.

[39] إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ

الوقت المعلوم هو بين النفختين- كما ورد عن الصادق عليه السّلام

«1»- فالمعنى إنك تبقى إلى ذلك اليوم.

[40] و لما عرف إبليس بأنه منظر إلى ذلك الوقت قالَ يا رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي بسبب إغوائك لي و الإغواء هو الدعاء إلى الغي و الضلال، يقال له الإغواء إذا أثر و صار المدعو ضالا منحرفا، و قد كان إبليس كاذبا في مقاله، فإن الله سبحانه لم يغوه، و إنما هو تكبّر و حسد مما سبب طرده، بينما أراد الله سبحانه كرامته بأمره بالسجود، إلا أن يريد بالإغواء تهيئة الأسباب التي تؤدي إلى ذلك، مجازا، نحو و من يضلل الله، أو عدم اللطف القاهر به حتى لا ينحرف لَأُزَيِّنَنَ المعاصي لَهُمْ أي لأبناء آدم- المعلوم من السياق- و ذكر فوائدها، و إغفالهم عن مضارها حتى يرتكبوها، و أكون قد أخذت انتقامي بذلك من آدم الذي صار سببا لطردي فِي الْأَرْضِ أي يقع التزيين مني في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 132.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 172

[سورة الحجر (15): الآيات 40 الى 42]

إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42)

الأرض وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أضلهم و أحرفهم عن طريق الصواب، و كان هذا من إبليس غلطا آخر إذ لو فرض أن آدم هو السبب فما

ذنب ذريته؟

[41] إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ أي من أولاد آدم الْمُخْلَصِينَ بفتح اللام اسم مفعول أي الذين أخلصتهم لطاعتك و طهرتهم عن الآثام، فإنهم لا يعمل كيدي فيهم.

[42] قالَ الله سبحانه في جواب إبليس هذا صِراطٌ عَلَيَ أي أن صراط الحق عليّ أن أراعيه، فإن إبليس لما قال أنه يغوي الناس إلا المخلصين، فهم منه أن هناك صراط من تعداه كان غاويا، فقال سبحانه عليّ أن أراعي هذا الصراط و هو مُسْتَقِيمٌ لا انحراف فيه، أما من انحرف فلا أبالي به، و هذا كما لو قال أحد لمدير مدرسة: إنّي أغوي تلاميذك عن تحضير الدرس، فيقول: «هذه المدرسة عليّ، أما من أغوى فليس عليّ شي ء منه، و الطلاب الأذكياء يتبعون المنهاج» و الفقرة الأخيرة مثل قوله سبحانه.

[43] إِنَّ عِبادِي الحقيقيين لَيْسَ لَكَ يا إبليس عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي سلطة و قدرة حتى تحرفهم و تغويهم إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ الاستثناء منقطع، و كأنّ الأصل «إن الناس لا تتسلط عليهم» «إلا من غوى» «أما العباد فلا تقدر عليهم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 173

[سورة الحجر (15): الآيات 43 الى 46]

وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)

[44] وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أي محل وعد إبليس و أتباعه الغاوين، فإن «موعد» اسم مكان من وعد أَجْمَعِينَ هناك يجتمعون جميعا جزاء لأعمالهم السيئة.

[45] لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ أي أن لجهنم أبواب سبعة لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ أي قسم من الغاوين مَقْسُومٌ و كان الغاوين اعتبروا وحدة واحدة، فلكل باب جزء يدخل منه إليها، و لعل اختلافهم بسبب اختلاف أعمالهم، كما أنه ورد

في أبواب الجنة الثمانية ذلك.

[46] و بمناسبة الحديث عن أهل النيران يعطف السياق إلى أهل الجنان إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا معاصي الله سبحانه، و لم يكن للشيطان عليهم سلطان فِي جَنَّاتٍ جمع جنة بمعنى البستان وَ عُيُونٍ أي بين العيون، أو المراد إنهم يسبحون فيها فالظرف حقيقي.

[47] و كان المشهد حاضر، إذ نرى المتقين في ساحة المحشر يقال لهم ادْخُلُوها أي الجنات بِسَلامٍ أي ادخلوها مع سلامة من الآفات و برائة من المضرات آمِنِينَ في حال كونهم آمنون على أنفسكم و جميع ما يتعلق بكم تبقون في الجنان أبدا في سعادة و رفاه، و لعلّ تقديم «في جنات» على «ادخلوها» لقصد سرعة المقابلة بين «إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ» و «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ» ثم ذكر التفصيل هناك بقوله:

«لكل باب» و هنا بقوله: «ادخلوها».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 174

[سورة الحجر (15): الآيات 47 الى 49]

وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)

[48] و أهل الجنة بالاضافة إلى النعم التي تحيط بهم، فهم في نعمة نفسية، فليس هنالك حسد و غل و حقد يقلق راحتهم و ينغص عيشهم وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ و إنما قال صدورهم، لأن القلب في الصدر مِنْ غِلٍ أي الحقد و الحسد و التنافس و التباغض في حال كونهم إِخْواناً متجاورين فيصفوا عيشهم و لا يكدر سعادتهم منغص خارجي أو غل داخلي كائنين عَلى سُرُرٍ جمع سرير، و هو الكرسي و يسمى سريرا لأنه محل السرور و الفرح مُتَقابِلِينَ بعضهم لبعض، و هذا من النعم فإن الإنسان يأنس بأخيه الإنسان.

[49] لا

يَمَسُّهُمْ و إنما جاء بلفظ المسّ لإفادة أن أقل أذى يحصل بالمس، لا يكون هناك فِيها أي في الجنة نَصَبٌ أي عناد و تعب، فهناك دار راحة و استراحة، وَ ما هُمْ مِنْها أي من الجنة بِمُخْرَجِينَ لا يخرجهم أحد بل باقون أبد الآبدين، و هذا من أعظم النعم.

[50] و بمناسبة ذكر مصير المتقين و مصير الغاوين يأتي السياق ليذكّر الناس برحمة الله و عذابه حتى ينقلع عن المعاصي من اشتاقت نفسه لتلك النعم الدائمة، و تتم الحجة على من تمادى في غيّه بعد هذا الإعلان نَبِّئْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أي أخبر، فعل أمر من النبأ بمعنى الخبر عِبادِي عام يشمل كل إنسان أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أغفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 175

[سورة الحجر (15): الآيات 50 الى 52]

وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)

للعاصين ذنوبهم إذا تابوا و أرحم بالتفضل على من سلك السبيل، و ذلك زيادة على الغفران.

[51] وَ أَنَّ عَذابِي للعاصين هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ المؤلم الموجع فليجتنبوها حتى لا يمسهم.

[52] ثم يأتي السياق ليبين نماذج من الرحمة و الغفران، و نماذج من العذاب و العقاب، مع مناسبة لما تقدم في أول السورة حيث طلب الكفار من الرسول إنزال الملائكة، فأجابهم بأن الملائكة لو نزلت ما كان الكفار منظرين، كما أنه لما جاءت الملائكة لوطا عليه السّلام لم ينظر القوم بعد بل أهلكوا.

و تكرار هذه القصة كتكرار سائر القصص فيها فائدة التكرير الموجب لتركيز الأمر في النفس، و إن في كل مرة يظهر جانب خاص من القصة، و مزايا

زائدة مختلفة عن السابق، بالاضافة إلى تأكيد أمر الإعجاز، فإن قصة واحدة تصب في قوالب مختلفة و مع ذلك لا يتمكن أن يأتي بمثلها الكفار- و قد تقدم الإلماع إلى ذلك- وَ نَبِّئْهُمْ أي أخبر الكفار- أو أخبر الناس- عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ و الضيف لفظ يستعمل للمفرد و التثنية و الجمع بلفظ واحد، و المراد بهم الملائكة الذين نزلوا عند إبراهيم عليه السّلام ليبشروه بإسحاق، في طريقهم لإهلاك قوم لوط عليه السّلام.

[53] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي وقت دخل الضيوف على إبراهيم في محله فَقالُوا له سَلاماً إمّا جاءوا بهذا اللفظ مجردا، و إما هو كناية عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 176

[سورة الحجر (15): الآيات 53 الى 55]

قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)

إنهم سلموا عليه سلاما كاملا كأن قالوا «سلام عليكم» و أجاب إبراهيم جوابهم و جاء إليهم بالطعام فلم يأكلوا، فخاف منهم ف قالَ لهم إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون، و ذلك لأنه رآهم لا يأكلون الطعام، فظن أنهم أرادوا به شرا، إذ العادة جرت إن من لا يأكل الطعام يريد الشر.

[54] قالُوا أي قالت الملائكة لإبراهيم عليه السّلام لا تَوْجَلْ أي لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ بولد يرزقك الله من سارة عَلِيمٍ عالم ليس من الجهلاء، و قد كان المراد إسحاق النبي عليه السّلام.

[55] قالَ إبراهيم عليه السّلام أَ بَشَّرْتُمُونِي بالمولود عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي و أنا على حال الكبر، و الاستفهام إنكاري أي كيف تبشروني بالولد و الحال أنا كبير السن، و مقتضى العادة أن الرجل الكبير لا يولد له

لضعف المني فيه أن يكون منشأ ولد؟ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي بماذا تبشرون؟ هل تبشرون بما لا يكون؟ و أصل «بم» «بما» و من القاعدة أن تحذف الألف من «ما» إذا دخله حرف الجر، نحو «عم» و «فيم» و غيرها.

[56] قالُوا أي قالت الملائكة لإبراهيم عليه السّلام بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ فبشارتنا مطابقة للواقع حتى لا بطلان فيها فَلا تَكُنْ يا إبراهيم مِنَ الْقانِطِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 177

[سورة الحجر (15): الآيات 56 الى 59]

قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)

الذين يقنطون من رحمة الله، و القنوط هو اليأس.

[57] قالَ إبراهيم عليه السّلام، كلا لا أقنط من رحمة الله وَ مَنْ ذا الذي يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ استفهام إنكاري أي هل يقنط من رحمة ربه إلا الذي ضل عن الطريق السوي؟ لكني لم أك قانطا، بل رأيت أن المجرى الطبيعي عدم الولد في زمن الكبر، مع إذعاني بقدرة الله سبحانه على أن يفعل ما يشاء.

[58] و قد صرحت الملائكة لإبراهيم في أثناء كلامهم أنهم رسل من قبل الله سبحانه، و طالت القصة في أمر البشارة بالولد، و لكن حيث كان مصب القصة هنا عذاب قوم لوط أسدل القرآن الستار على أمر إبراهيم عليه السّلام ليأتي بقصة قوم لوط قالَ إبراهيم عليه السّلام للملائكة فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ الخطب هو الأمر الجليل العظيم، فقد سأل إبراهيم عن مأمورية الملائكة، و إنها ما هي؟ فقد أرسل الله تلك الملائكة لأمر مهم.

[59] قالُوا أي قالت الملائكة إِنَّا أُرْسِلْنا أرسلنا الله سبحانه إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ

الاجرام هو الذنب، و معنى الإرسال إليهم هو إهلاكهم.

[60] إِلَّا آلَ لُوطٍ من يخصه من أهله، فإنهم ناجون فلا يشملهم العذاب، و قد سبق أنه كثيرا ما يقال «آل فلان» و يراد: هو و آله إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ فلا يهلك منهم أحد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 178

[سورة الحجر (15): الآيات 60 الى 63]

إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)

[61] إِلَّا امْرَأَتَهُ أي امرأة لوط لأنها كانت مجرمة كسائر قومه قَدَّرْنا أي هكذا جرى تقدير الله سبحانه إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في البلدة لتهلك فيمن يهلك.

[62] و طال الحوار بين إبراهيم عليه السّلام و بين الملائكة في شأن هلاك قوم لوط، ثم أن الملائكة خرجوا من عند إبراهيم و جاءوا إلى لوط ليبشروه بهلاك القوم فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ أي الملائكة الذين أرسلهم الله سبحانه، و إنما قال «آل لوط» لأنهم وردوا في محله، و لتناسب السياق مع الجملة السابقة، حيث عبرت بآل لوط.

[63] لم يعرفهم لوط عليه السّلام ابتداء و انما رأى جماعة من الشباب الجميلي الوجه قالَ لوط عليه السّلام لهم إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم فعرفوني أنفسكم، أو أنه أراد الإنكار عليهم في دخولهم هذه المدينة، فان ذلك مما يسبب لهم و له الأتعاب حيث ظن أنه لو علم القوم بهم لأتوهم للفاحشة، و لم يعرف أنهم ملائكة الله سبحانه.

[64] قالُوا لا تنكرنا، فإنا ملائكة الله سبحانه بَلْ جِئْناكَ كأن الإضراب كان لتوهم لوط أنهم ضيوف، أي لسنا ضيوفا آدميين، بل رسل مهلكين جئناك بِما أي بالعذاب الذي كانُوا كان

القوم فِيهِ يَمْتَرُونَ أي كانوا يشكون، فإنهم كلما كان لوط يخوفهم بالعذاب شكّوا في صدق مقاله في أنفسهم و أظهروا الإنكار عليه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 179

[سورة الحجر (15): الآيات 64 الى 66]

وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)

[65] وَ أَتَيْناكَ أي جئنا إليك يا لوط بِالْحَقِ أي أن الإتيان بالحق، مقابل الإتيان بالباطل كالسارق الذي يكون مجيئه باطلا، أو أن المراد جئنا الحق إليك و هو العذاب، مقابل الذي يأتي الباطل كالكاذب الذي يأتي بباطل الكلام وَ إِنَّا لَصادِقُونَ في مقالنا أن الله قدر العذاب لهؤلاء.

[66] فَأَسْرِ من سر بمعنى سار ليلا، قال الشاعر:

أبيت أسري و تبيتي تدلكي وجهك بالعنبر و المسك الزكي

بِأَهْلِكَ أي مع أهلك، فإن الباء تأتي بمعنى مع بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي بهذا الوقت، و هو حين ما يمضي معظم الليل، و كأنه جمع قطعة، مثل تمرة و تمر وَ اتَّبِعْ يا لوط أَدْبارَهُمْ أي من وراء أهلك فهم يسيرون أمامك، لئلا يبقى أحد منهم، كما هو العادة في الناظر على القوم وَ لا يَلْتَفِتْ أي لا ينظر خلفه في حال السير و الفرار مِنْكُمْ أَحَدٌ لئلا يروا العذاب فيفزعوا، أو هو كما يقول القائل «امض في طريقك و لا تلتفت إلى شي ء» يريد المضي بلا اعتناء بشي ء وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي في وقت أمرنا بذهابكم، أو إلى المكان الذي أمرتم بالذهاب إليه.

[67] وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ أي أعلمنا لوطا، و أنهينا علم قضائنا في القوم إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 3، ص: 180

[سورة الحجر (15): الآيات 67 الى 69]

وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69)

لوط، و ما كان القضاء؟ ذلِكَ الْأَمْرَ و هو أنه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ القوم، و الدابر بمعنى الأصل، أي أصل القوم مَقْطُوعٌ في حال كونهم مُصْبِحِينَ أي داخلين وقت الصباح، فإن الفجر كان موعد عذابهم.

[68] و قد كان الملائكة في مرأى من قوم لوط، و لذا قصدوا بهم الفاحشة وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إلى دار لوط يَسْتَبْشِرُونَ يبشر بعضهم بعضا بالأضياف المرد و قد كان هذا قبل أن يعرف لوط أنهم ملائكة- و إنما قدّم قصة إخبارهم عن عذاب القوم على هذه الآيات، حيث أن نقطة التركيز في القصة كسائر قصص هذه السورة عذاب المجرمين كما ذكرنا سابقا.

[69] قالَ لوط عليه السّلام لهم مستعطفا إِنَّ هؤُلاءِ الشباب ضَيْفِي الضيف يقع بلفظ واحد على المفرد و التثنية و الجمع فَلا تَفْضَحُونِ أي لا تفضحوني في أمرهم، و الفضيحة هي العار، أي لا تلزموني عارا بالعمل السّيئ معهم حتى يقولوا و يقول الناس في المستقبل أن لوطا، يفعل القوم بضيوفه.

[70] وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه فلا تفعلوا ما نهاكم عنه وَ لا تُخْزُونِ أي لا تجعلوني مخزيا، فإن الخزي بمعنى الإذلال و الإهانة، فإن الإنسان إذا أهين ضيفه فقد أذلّ و أهين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 181

[سورة الحجر (15): الآيات 70 الى 73]

قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)

[71] قالُوا أي قال القوم في جواب لوط أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ

عَنِ الْعالَمِينَ

استفهام إنكاري، أي إنا قد نهيناك أن تحول بيننا و بين الناس، أو المراد النهي عن ضيافة الناس و إنزالهم، فقد كانوا نهوه سابقا عن ذلك، لئلا يولّد لهم مشكلة الحيلولة بينهم و بين ما يشتهون بالنسبة إلى المارّة.

[72] قالَ لوط عليه السّلام متوسلا إليهم، مشيرا إلى بناته هؤُلاءِ بَناتِي خذوهن عوض هؤلاء الأضياف و اعتدوا عليهن، لقضاء شهوتكم إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي تريدون الفعل، فقد سبق أن الفعل يأتي بمعنى الإرادة، كقوله «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» أي أردتم القيام إليها.

[73] ثم أن الملائكة عرّفوا للوط أنفسهم، و أشاروا إلى القوم المتجمهرين على باب دار لوط فعميت أعين القوم، و ألقي الرعب في قلوبهم، فرجعوا خائبين، و قد حسّوا بنزول العذاب لَعَمْرُكَ أي قسما بحياتك يا رسول اللّه، أو أيها السامع، و إنما كان «عمر» بمعنى الحياة، لأنه من «عمر يعمر» بمعنى مدة البقاء و العيش، و منه العمارة، كأنّ الإنسان معمور ما دام حيّا فإذا مات فقد خرب و انهدم إِنَّهُمْ أي القوم لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي الغفلة التي سكرت و غطت عقولهم، و منه السكر يَعْمَهُونَ من العمه و هو أشد العمى، أي قد كانوا في أشد أقسام العمى الموجب لترديهم في عذاب الله دنيا و آخرة.

[74] و قد فرّ لوط عليه السّلام بأهله مخلفا امرأته في المدينة فَأَخَذَتْهُمُ أي القوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 182

[سورة الحجر (15): الآيات 74 الى 76]

فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)

الصَّيْحَةُ الصوت الهائل مُشْرِقِينَ وقت إشراق الشمس فقد قلع جبرئيل- و هو أحد أضياف لوط- مدنهم و دفع بها

إلى السماء ثم صاح بهم صيحة عظيمة خبلت ألبابهم و أنزل اللّه عليهم الحصباء فرجمهم بالحجارة، و قلب جبرئيل مدنهم حتى جعل أعلى الأرض أسفله و ظهرها بطنها.

[75] فَجَعَلْنا عالِيَها أي عالي المدينة سافِلَها بأن قلبناها ظهرا لبطن وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً أي جنس الحجارة، و هي الحصباء مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجر، و قد كانت من حصباء جهنم.

[76] إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآياتٍ و دلالات بالنسبة إلينا و إلى رسلنا و إلى عذاب الدنيا لمن كفر و طغى، فإن الإهلاك يدل على ذلك، و لذا قال سبحانه «لآيات» لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين الذين يتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشي ء بسمته و علامته، من توسم بمعنى رأى السمة و العلامة في الطرف المقابل، أيّة سمة كانت، فإن من تفكر في أحوال قوم لوط ثبت لديه وجوده سبحانه و صدق رسله، و إن العاصي يعذب.

[77] وَ إِنَّها أي تلك المدن التي قلبت لَبِسَبِيلٍ أي بطريق مُقِيمٍ أي ثابت ذلك السبيل يسلكه الناس، فقد صارت تلك المدن في الطريق بين المدينة و الشام، و قوله مقيم من باب التشبيه، فكما أن الشخص

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 183

[سورة الحجر (15): الآيات 77 الى 79]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)

المقيم في محل باق ظاهر، كذلك الطريق المقيم باق لم يندثر ظاهر لمن مرّ به.

[78] إِنَّ فِي ذلِكَ الطريق الباقي المعلوم الذي يراه كل من مرّ عليه لَآيَةً دلالة على وجوده سبحانه و صدق رسله و عذاب العصاة لِلْمُؤْمِنِينَ و إنما خصّهم لأنهم هم الذين ينتفعون أما غيرهم فلا يمرّ عليها إلا و هو

معرض غير منتفع بها.

[79] و إذ يقع الفراغ من قصة قوم لوط، فلننظر إلى سائر الأمم الذين كذبوا الرسل منهم أصحاب الأيكة قوم شعيب النبي عليه السّلام وَ إِنْ كانَ أي أنه كان، فإن مخففة من المثقلة، و اسمها ضمير الشأن محذوف أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الشجرة المتكاثفة، و جمعها «أيك» مثل شجرة و شجر، فقد كانت هناك شجرة ملتفة عند «مدين» مدينة قوم شعيب، نسب القوم إليها، أو الأيكة هي الغيضة فقد كان القوم أصحاب غياض لَظالِمِينَ كما مرت قصتهم سابقا.

[80] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي من أولئك الأشخاص، و المراد بالانتقام إحلال العذاب بهم جزاء أعمالهم السيئة قال في المجمع: إنه كان أصحاب الأيكة لظالمين في تكذيب رسولهم و كانوا أصحاب غياض فعاقبهم الله تعالى بالحرّ سبعة أيام ثم أنشأ سبحانه غمامة فاستظلوا بها يلتمسون الروح فيها فلما اجتمعوا تحتها أرسل منها صاعقة فأحرقتهم جميعا «1»

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 127.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 184

[سورة الحجر (15): الآيات 80 الى 81]

وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81)

وَ إِنَّهُما أي مدينة لوط و مدينة شعيب لَبِإِمامٍ أي واقع في الطريق، و يسمى الطريق إماما لأنه يؤمّ و يقصد، و المعنى أن المدينتين بطريق يؤمّ و يتبع و يسلك بين الحجاز و الشام مُبِينٍ واضح لم يندثر بعد، و كون الآثار في الطريق أدعى إلى الإعتبار.

[81] وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ «الحجر» اسم مدينة قوم صالح عليه السّلام، و هم ثمود، كما قال سبحانه (وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) «1» الْمُرْسَلِينَ الأنبياء الذين أرسلوا من قبل الله سبحانه، و إنما أتى بلفظ الجمع، إما لأن في تكذيب صالح تكذيبا

للأنبياء لأنهم سلسلة واحدة فمن كذب بعضهم فقد كذب جميعهم، أو لأنه قد أرسل إليهم عدة أنبياء عليهم السّلام فكذبوا الجميع، و إنما ذكر سبحانه صالحا فقط في قصصهم لأنه آخر الأنبياء عليهم السلام إليهم، أو الإتيان بلفظ الجمع- لما تقدم سابقا- من أن المراد به الجنس، كما يقول أحدنا، هكذا رأى الأطباء في هذا المريض، يريد الجنس لا الجمع، أي أن هذا الفصيل هكذا، و هو كثير الاستعمال عرفا.

[82] وَ آتَيْناهُمْ أي أعطينا أصحاب الحجر آياتِنا أي الأدلة الدالة على التوحيد و النبوة و المعاد، و هي المعجزات التي كان منها الناقة و منها فصيلها فَكانُوا عَنْها أي عن الآيات مُعْرِضِينَ أعرضوا عن التفكر فيها و الاستدلال بها على المبدأ و المعاد، فلم يعملوا بما تقتضيه تلك الآيات من الإطاعة و الإيمان.

______________________________

(1) الأعراف: 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 185

[سورة الحجر (15): الآيات 82 الى 85]

وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)

[83] وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فقد كان بلدهم بين الجبال، فيصنعون لأنفسهم بيوتا جبلية، بما أعطيناهم من القوة و القدرة آمِنِينَ في حياتهم لا يزعجهم مزعج، و الأشخاص الذين في الجبال غالبا يكونون أكثر قوة و أمنا للحواجز الطبيعية بينهم و بين من قصد بهم سوءا، و لعل الإتيان بهذه الصفة، دلالة على أنهم مع قوتهم و منعتهم أخذهم عذاب الله حيث طغوا و لم يؤمنوا.

[84] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ صاح بهم جبرئيل صيحة هائلة خبلت ألبابهم مُصْبِحِينَ في حال كونهم داخلين

في الصباح، في وقت هدوء و استراحة و جمال الأفق و هم أمناء في بيوتهم الحصينة.

[85] فَما أَغْنى عَنْهُمْ أي ما أفادهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأموال و المناصب و الأولاد و سائر الملاذ الدنيوية، إنها لم تدفع العذاب عنهم، و هكذا قتلت الأمة الأمة في الكفر و تكذيب الأنبياء، و هكذا أخذ الله الجميع و أهلكهم بأنواع العذاب.

[86] إنّ بالحق خلق هذا الوجود بسمائه و أرضه، و الحق هو مصير الجميع، فمن حاد عن الحق في هذه الحياة لا يكون نصيبه إلا العذاب و الخسران كما رأينا في الأمم السابقة الذين كذبوا و حادوا عن الطريق وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من أنواع الموجودات إِلَّا بِالْحَقِ فلم يكن هناك لغو عبث بل غرض و غاية و صلاح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 186

[سورة الحجر (15): الآيات 86 الى 87]

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)

و حكمة وَ إِنَّ السَّاعَةَ التي يجازى فيها الإنسان إن خيرا فخير، و إن شرا فشر لَآتِيَةٌ ليحكم فيها بالحق، فما بال الإنسان يحيد عن الحق و يكفر بالمبدأ و المعاد؟ فَاصْفَحِ يا رسول الله الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي أعرض عن الكفار إعراضا جميلا، و الإعراض الجميل هو أن يكون الإعراض حسب ما تقتضيه الحكمة إن اقتضت الإعراض بخشونة في بعض فليفعل كذلك و إن اقتضت الإعراض بلطف و لين فليفعل كذلك كقوله سبحانه: (وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) «1» و حيث أن الحق هو المبدأ و المعاد، فلا عليك كفر الكافرين، إن عليك أن تبلغ، فإذا أعرضوا فلا عليك إلا أن تتركهم تركا جميلا، لا

تحمل لهم حقدا أو غلّا، فإن الحق يقرر مصيرهم، و سيلاقون جزائهم ممن خلقهم و علم بهم و بأعمالهم.

[87] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله هُوَ الْخَلَّاقُ للسماوات و الأرض و ما بينهما و لهؤلاء الْعَلِيمُ بكل شي ء و بكل عمل يعمله هؤلاء، فدعهم و اصفح عنهم حتى يجازيهم خالقهم العالم بأعمالهم، و هذا كما يقول مدير المدرسة للمعلم: أنت درّس و لا عليك بمن لم يحفظ، فإن باني المدرسة عالم، و هو الذي هيّئ أثاث المدرسة و بيده امتحان الطلاب.

[88] إنك رسولنا الذي أرسلنا و آتيناك القرآن فمن كذبك فاصفح عنه فإن جزاءه عند الخلاق العليم وَ لَقَدْ آتَيْناكَ أي أعطيناك يا رسول الله

______________________________

(1) الفرقان: 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 187

[سورة الحجر (15): الآيات 88 الى 89]

لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)

و أنزلنا عليك سَبْعاً أي سبع آيات مِنَ الْمَثانِي و هو سورة الحمد تسمى «المثاني» لأنها تثنى في كل صلاة أي إنا أعطيناك سبع آيات من السورة التي تثنى في الصلوات كلها وَ آتيناك سائر الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ و تخصيص «المثاني» بالذكر لأهميتها، و قد ورد بما ذكرنا من معنى الآية الكريمة و تفسير السبع المثاني بالحمد، روايات متعددة.

[89] و إذ كنت يا رسول الله متصلا بالوحي مرتبطا بخالق الأرض و السماء، و من بيده الجزاء، الذي أنزل إليك هذا القرآن العظيم ف لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ باستجمال أو ثمن أو استحسان إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي إلى متع الحياة و لذائذها التي أعطيناها أصنافا من هؤلاء الكفار، فلا تلقي إلى متع الحياة

الدنيا نظرة اهتمام بأن تهتم بها، أو نظرة تمنّ بأن تتمنى مثلها لنفسك، و الزوج هو الصنف، و يقال له زوج لأن بعض الصنف يشبه بعضا، و المراد أن ما أعطيناك من النبوة، و ما وعدناك من الآخرة أعظم من ذلك كله وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار إن لم يؤمنوا، فإنما أنت أديت ما عليك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ كما يخفض الطائر جناحه لولده أو قرينه تواضعا و تلطفا و المراد ألن جانبك لهم و احلم عنهم إذا أخطئوا، و تواضع الرئيس يوجب كثرة الأتباع- دائما-.

[90] وَ قُلْ يا رسول الله للناس إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي المنذر الواضح، أنذركم من عذاب الله و عقابه، فلا تخالفوا أمره و نهيه كي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 188

[سورة الحجر (15): الآيات 90 الى 94]

كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)

لا يصيبكم ما أصاب الأمم السابقة.

[91] لقد أتيناك القرآن العظيم، كَما أَنْزَلْنا الكتاب عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ و هم اليهود و النصارى- من قبل- و إنما سموا مقتسمين لأنهم قسموا الكتاب فما وافق آراءهم و شهواتهم قبلوها و ما خالفها تركوها، و لذا فسرهم سبحانه بأنهم هم:

[92] الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جمع «عضة» بمعنى الجزء، من عضى الشاة أي فصل بين أجزائها، أي فرقوا القرآن و جعلوه عضوا عضوا، فآمنوا بما وافق أهواءهم و كفروا بما خالفها، كما قال سبحانه في آية أخرى (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ) «1» و الحاصل إنا أنزلنا الكتاب كما أنزلنا الكتب السابقة على هؤلاء

الذين ينكرون كتابك الذين اقتسموا الكتاب و جعلوه أقساما فقبلوا قسما و ردّوا قسما.

[93] و إنا لنأخذهم كما أخذنا المكذبين السابقين من الأمم الخالية فَوَ رَبِّكَ يا رسول الله، و الفاء للتعقيب أي عقيب تكذيبهم لَنَسْئَلَنَّهُمْ أي نسأل من المقتسمين أَجْمَعِينَ بلا استثناء.

[94] عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي حتى نجازيهم، و السؤال منهم إنما هو للإقرار على أنفسهم، و إلا فالله سبحانه عالم بما عملوه.

[95] أما أنت يا رسول الله فإنك مكلف بالبلاغ سواء قبلوا أم لم يقبلوا

______________________________

(1) النساء: 151.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 189

[سورة الحجر (15): آية 95]

إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)

فَاصْدَعْ يا رسول الله و الصدع هو الإظهار و الإعلان، و أصل الصدع هو كسر الزجاجة بصوت و كان الرسول يجهر بتفريق الناس الذين على لون واحد فمنهم من يؤمن و منهم من لا يؤمن، كما أن الزجاجة إذا كسرت تصير قطعتين بِما تُؤْمَرُ من الإنذار و التبليغ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تهتم لهم و لا تبال بشأنهم، فإن الإنسان إذا اهتم بشأن المناوئين و الحاسدين لا يتمكن من تقديم مشروعه إلى الأمام.

[96] إِنَّا كَفَيْناكَ يا رسول الله الْمُسْتَهْزِئِينَ الذين يستهزئون بك،

ورد أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مروا ذات يوم به مهددين قائلين: يا محمد إنا ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك و إلا قتلناك فدخل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزله مغموما فنزل جبرئيل و بشره بأن الله قد كفاه شرهم، و كفي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شرهم في ذلك اليوم، و قد كان أولئك وليد و عاص و أسود

بن عبد يغوت و أسود بن المطلب و الحرث. أما الوليد فمرّ بنبل فأصابه شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه فمات و هو يقول: قتلني رب محمد، و أما العاص فقد خرج في حاجة له إلى موضع فهدّ تحته الحجر فتقطع قطعة قطعة فمات و هو يقول: قتلني رب محمد، و أما ابن عبد يغوث فنطح رأسه بشجرة فمات من أثر الصدمة و هو يقول: قتلني رب محمد، و أما ابن المطلب فخرج عن مكة و إذا به لا يبصر شيئا قد أعمى بصره و أثكله الله بولده و بقي أعمى ثاكلا حتى مات، و أما الحرث فضربته السموم حتى غيرت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 190

[سورة الحجر (15): الآيات 96 الى 97]

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97)

وجهه و سمته و لما رجع إلى أهله صار بينهم و بينه كلاما أدى إلى أن قاموا فقتلوه و هو يقول قتلني رب محمد، و لما أن بشر جبرئيل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن الله قد كفاهم خرج الرسول مناديا: يا معشر العرب أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله و إني رسول الله آمركم بخلع الأنداد و الأصنام فأجيبوني تملكوا به العرب و يدين لكم العجم و تكونوا ملوكا في الجنة فأخذ القوم يضحكون منه قائلين جن محمد، لكنهم لم يجسروا عليه لموضع أبي طالب عليه السّلام «1».

[97] ثم وصف سبحانه المستهزئين بقوله الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يعبدونه، أن هؤلاء السخفاء هم الذين يستهزءون بالرسول، و كان الإتيان بهذا الوصف للإشارة إلى مقدار عقولهم فمثلهم كمجنون يضحك

من عاقل فَسَوْفَ إذا ماتوا، أو قامت القيامة يَعْلَمُونَ جزائهم السيّئ حيث لا مناص.

[98] ثم سلا سبحانه نبيه لما يرد عليه من الآلام و الكوارث وَ لَقَدْ نَعْلَمُ يا رسول الله أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ بما يقوله الكفار فيك و في دينك من الطعن و الاستهزاء، و هذا تسلية للرسول فإن الإنسان إذا علم أن ما يصنع به إنما هو في محضر حاكم عادل يخفف له علمه بذلك وطأ الحادثة، و لذا

قال الإمام الحسين عليه السّلام: «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله».

و ضيق الصدر إنما هو بسبب أن الإنسان المهموم تتولد فيه حرارة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 10 ص 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 191

[سورة الحجر (15): الآيات 98 الى 99]

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

زائدة تحتاج الرئة لدفعها و إبراد القلب إلى جذب هواء أكثر من المعتاد، و ذلك سبب لكبرها عند التنفس، و حيث أن مكان الرئة الصدر، فالصدر يضيق بكبرها- لدى اجتذاب الهواء- عند الهمّ.

[99] فَسَبِّحْ يا رسول الله بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزّه الله سبحانه بالحمد، فإن التنزيه قد يكون بالسلب- كأن يقال: فلان لا يؤذي الناس- و قد يكون بالإيجاب- كأن يقال: فلان يرحم الناس و يعطف عليهم- و هذا أبلغ من التعظيم و التجليل، أي اجعل تسبيحك بهذه الكيفية الإيجابية وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ الذين يسجدون و يخضعون لعظمة الله سبحانه، و ذلك مما يخفف وقع التكذيب و الاستهزاء، لأن بذكر الله تطمئن القلوب، كما قال سبحانه: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) «1» فهو موجب للانصراف أولا، و لتذكر نعمائه و آلائه و إنه المجزي لما يصيبه ثانيا.

[100] وَ

اعْبُدْ يا رسول الله رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت، و إنما سمي الموت يقينا لأنه موقن به، بعلاقة تسمية المضاف باسم المضاف إليه كما يقال لابن زيد؛ زيد، و يقال لعشيرة هاشم «هاشم» و هكذا، و يحتمل أن يكون وجه التسمية أن الموت- في أغلب الناس- يسبب اليقين الكامل بالمعاد فسمي الموت يقينا، حتى بالنسبة إلى من لا يريد يقينه كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

______________________________

(1) الرعد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 192

16 سورة النحل مكية/ آياتها (129)

سميت السورة باسم «النحل» لاشتمالها على هذه الكلمة، و هو الحيوان الذي يفرغ العسل و الشمع. و هي كغالب السور المكية تعالج شؤون العقيدة و ما إليها، أما أنظمة الدولة و ما يتبعها فإن الغالب كونها في السورة المدنية حيث ترسخت دولة الإسلام، و أرست دعائمها.

و حيث ختم سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفار، افتتح هذه السورة بذلك أيضا، فقال:

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ افتتاح باسم الله خالق كل شي ء الجامع لجميع الصفات الكمالية خلافا للكفار و من إليهم حيث لا يفتتحون كتبهم بشي ء من غير لونه، أو يفتتحونه بأسامي الأصنام و قد جرت عادة بهرتهم المدنية الحديثة، أن يقتدوا أثر أولئك فلا يفتتحون الكتاب إلا بالمقدمة أو الإهداء أو الفصل- بدون ذكر لاسم الله سبحانه إطلاقا- و من هو هذا الإله الذي نبتدئ باسمه؟ إنه الذي يرحمنا و يرحم جميع البشر، فلنستعن به و نستقي رحمته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 193

[سورة النحل (16): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ

أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

[2] لقد طلب الكفار أن ينزل الله عليهم عذابا، إن كان الرسول صادقا فيما يقول- استهزاء- كما كانوا يقولون: (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) «1» فقال الله سبحانه في جواب طلبهم العذاب: أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي قرب إتيانه، و يقال للشي ء الذي قرب أنه أتى، لمجاز المشارفة، أو أنه من باب إنزال الفعل المتحقق الوقوع منزلة الماضي كقوله سبحانه (وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ) «2» فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي لا تطلبوا تعجيله سُبْحانَهُ مصدر منصوب بفعل محذوف أي أنزهه تنزيها وَ تَعالى أي أنه أعلى و أرفع عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الأصنام التي يشركونها معه تعالى، فقد قرب وقت إتيان أمر الله المنزه عن الشريك و استعجال هؤلاء لا يغير من مقتضى حكمته في جعل المواقيت و الآجال، و ها نحن الآن نرى أنه قد وقع على الكفار المعاصرين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العذاب و قضي كل شي ء.

[3] أنه سبحانه لا يدع المشركين في ضلالهم و شركهم بل لا بد و أن يتم الحجة عليهم فإنه يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلى الرسل بِالرُّوحِ أي بما هو روح و حياة للكون فإن الإنسان لا روح له ما دام ليس متشرعا بشريعة الله سبحانه و إنما هو جماد في صورة متحرك مِنْ أَمْرِهِ أي الروح المتصف بأنه كائن من أمره تعالى، و تأثر عن إرادته عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

______________________________

(1) الأنفال: 33.

(2) الكهف: 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 194

[سورة النحل (16): الآيات 3 الى 5]

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ

(4) وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (5)

من الصفوة المختارة من البشر و هم الأنبياء أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فهذا هو الروح الذي ينزله إله الكون بواسطة أطهر النفوس و هم الملائكة إلى أخير الناس، فيوحي إليهم أن أنذروا الناس الذين يشركون بأن عاقبة هذا الشرك و خيمة، فإنه لا إله إلا الله فَاتَّقُونِ أي خافوا عقابه و نكاله في اتخاذكم الشركاء.

[4] أنه تعالى هو خالق كل شي ء فكيف تتخذون غيره شريكا له؟ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ لا لغوا و عبثا حتى يترك كل إنسان و ما اختاره من التوحيد أو الشرك و إنما يجب أن يعمل كل إنسان بالحق و يعتقد كل إنسان ما هو حق و واقع من مسألة الألوهية تَعالى أي إنه: أعلى و أرفع عَمَّا يُشْرِكُونَ و الفعل و هو «تعالى» قد انسلخ من معنى الماضوية، كما أنه كذلك بالنسبة إلى جميع صفات الذات، فليس المراد من «علم الله» و «قدر الله» و «استغنى الله» أنه حدثت فيه هذه الصفات في الزمان الماضي.

[5] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ النطفة هي الماء القليل، أي أن بدء هذا الإنسان الكبير إنما هي قطرة من ماء قليل مهين فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي مخاصم لأنبياء الله و للهادين، مجادل في أوامر الله الذي خلقه، مبين واضح الخصومة.

[6] و في هذا المجال يستعرض السياق جملة من الآيات الكونية، حتى يرى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 195

[سورة النحل (16): الآيات 6 الى 7]

وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ

(7)

المشركون أنها ليست من خلق شركائهم و إنما هو من خلق الله وحده، لعلهم يرجعوا عن غيّهم وَ الْأَنْعامَ جمع نعم و هي الإبل و البقر و الغنم سميت بها لنعومة مشيها أو لأنها نعمة في جميع منافعها خَلَقَها أي الأنعام لَكُمْ أيها البشر فِيها في الأنعام، و الظرف مجازي دِفْ ءٌ ما يدفأ به من أصوافها و أشعارها في اللباس و الفرش و الخباء و غيرها، قال بعض العلماء: إن الشعر لا يدفأ بذاته و إنما لا ينفذ الدف ء الحاصل من البدن و نحوه منه و لذا يحس الإنسان بالدف ء فيه بخلاف سائر الألبسة وَ لكم فيها مَنافِعُ من ركوب و حمل و حراثة الأرض للزرع و غيرها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ لحمها و لبنها و شحمها.

[7] وَ لَكُمْ أيها البشر فِيها أي في الأنعام جَمالٌ أي منظر حسن و زينة حِينَ تُرِيحُونَ للأنعام، من أراح بمعنى ردها إلى المراح و هو محل استراحة الحيوانات وَ حِينَ تَسْرَحُونَ أي ترسلونها صباحا إلى محل السرح و الرعي، فإن في هذه الحيوانات حين تذهب صباحا و ترجع عصرا منظر جميل، يزيد في جمال أصحابها، فيقال: هذه قطيع فلان و هكذا و ربما يقال أنه جمال فلان، فيطلق الجمال على تلك الأنعام غادية رائحة.

[8] وَ تَحْمِلُ بعض هذه الأنعام و هي الإبل أَثْقالَكُمْ أي أمتعتكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 196

[سورة النحل (16): آية 8]

وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)

الثقيلة، فإنه جمع ثقل و هو المتاع الذي يثقل حمله إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ أي لا تقدرون أنتم و حدكم بلوغ ذلك البلد البعيد إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ فكيف تبلغونه

مع الأحمال؟ و شق الأنفس معناه مشقة النفس، فإن شق مصدر شق يشق أي صعب و الأنفس جمع نفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ و من رأفته أن خلق لكم هذه الأنعام لتحمل أثقالكم و تنتفعون بها في سائر حوائجكم رَحِيمٌ يرحم بكم و يتفضل عليكم بالإحسان و الإنعام، و لعل الفرق بين الرأفة و الرحمة، أن الرأفة صفة القلب، و إن لم تتعد، و الرحمة لا تكون إلا فيما يظهر من الأفضال و الرحم.

[9] وَ خلق الْخَيْلَ و هي الفرس وَ الْبِغالَ جمع بغل و هو ما يولد بين الحمار و الفرس وَ الْحَمِيرَ جمع حمار لِتَرْكَبُوها في حوائجكم، و لم يذكر هنا الحمل، و في الآية السابقة لم يذكر الركوب للتفنن في الكلام و هو من أساليب البلاغة، و الإبل أنسب بحمل الأثقال إلى البلاد البعيدة، كما أن الثلاثة أنسب للركوب وَ زِينَةً أي خلقها زينة و جمالا لكم، حيث أن الإنسان إذا ركبها كان له جمال و جلال، كما أنها حين تربط أو تنقل من هنا إلى هناك تظهر للمالك جمالا و زينة وَ يَخْلُقُ الله سبحانه ما لا تَعْلَمُونَ من سائر وسائل الحمل و الزينة، فقد قال سبحانه ذلك ليجد الذهن متسعا في الآفاق فلا يجمد، و نسبة الخلق إليه بالنسبة إلى الآلات البخارية و ما أشبهها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 197

[سورة النحل (16): آية 9]

وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

صحيح، فإن صانعها ليس إلا جزءا صغيرا في سلسلة العلل المهيئة لها من معدن، و نار، و هواء و غيرها.

[10] و في سياق السفر إلى البلاد البعيدة و السير بواسطة المركوبات المحسوسة، يأتي بيان

السير نحو المقصد الحقيقي للإنسان الذي هو السعادة الأبدية، و ينتقل السياق من سير جسماني إلى سير روحاني وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي السبيل القاصد، و هو السبيل المستقيم الذي إذا سلكه الإنسان أوصله إلى السعادة في الدنيا و الآخرة، كأن السبيل قاصد إلى هدف و لذا لا ينحرف و لا يلتوي، كالإنسان القاصد ذي الغاية الذي يسير مستقيما نحو هدفه، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، نحو وضح النهار، أي النهار الواضح، و معنى على اللّه، أن عليه سبحانه أن يبيّنه و يرشد الناس إليه وَ مِنْها أي من السبل جائِرٌ منحرف كأن الطريق قد جار فلم يستقم كالإنسان الظالم الذي يجور و ينحرف و قد كان من الانهزامية الغربية، القول بأن «الجائر» مأخوذ من «جأر» بمعنى صوّت، و المراد به «الطائرة» و نحوها من الآلات البخارية الحديثة التي تحدث الصوت عند حركتها، و قد مني المسلمون بأناس منهزمين يريدون تطبيق الإسلام على الغرب و يظنون أن ذلك كسب لهم، و للإسلام، غافلين أن ذلك انتصار للغرب، فإنهم أخذوه، و ما خالف الإسلام له، أوّلوا الإسلام له ليوافقوا بينهما بهزيمة الإسلام.

وَ لَوْ شاءَ اللّه سبحانه لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بأن أجبركم على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 198

[سورة النحل (16): الآيات 10 الى 11]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)

الهدى، لكنه تعالى خلق الدنيا للامتحان و ذلك لا يكون إلا بالاختيار، فهو سبحانه لا يشاء إلا أن يكون كل أحد مختارا فيما يأخذ و يدع.

[11]

ثم انتقل السياق من المركوبات و ما إليها مما خلقها لنفع الإنسان، إلى قسم آخر من الآيات الكونية التي جعلها لنفع البشر هُوَ اللّه سبحانه وحده الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهة العلو ماءً هو المطر لَكُمْ أيها البشر مِنْهُ أي من ذلك الماء شَرابٌ تشربونه و تستعملونه في سائر حوائجكم وَ مِنْهُ شَجَرٌ أي ينبت من ذلك الماء الشجر و المراد به كل نبات فإنه يطلق على ما ينبت من الأرض قام على ساق أولم يقم فِيهِ أي في ذلك الشجر تُسِيمُونَ يقال أسام ماشيته إذا رعاها، أي ترعون أنعامكم، و لو لا ماء المطر بم كانت تتقوت الأنعام؟

[12] و يُنْبِتُ اللّه سبحانه لَكُمْ أيها البشر بِهِ أي بماء السماء الزَّرْعَ مما يزرع و يأكله الإنسان، أو يتجمل به، أو يتنزه بمنظره، أو الأعم من ذلك و مما ترعاه الماشية من باب ذكر العام بعد الخاص وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ جمع نخل و هو ما يثمر التمر وَ الْأَعْنابَ جمع عنب أي أشجار الأعناب وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي ينبت لكم بالماء كل الثمار، و المراد بها الأشجار المثمرة، فلو لا ماء السماء «المطر» لم ينبت شي ء، و العيون و الأنهار إنما هي من ماء السماء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 199

[سورة النحل (16): آية 12]

وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)

أيضا، فلا يقال كان يكفينا العيون و الأنهار إِنَّ فِي ذلِكَ الإنزال للماء من السماء لإنبات هذه الأشياء و الانتفاع به في سائر حوائج البشر لَآيَةً دلالة واضحة على وجود إله عليم قدير غير هذه الشركاء التي لا

تعقل شيئا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الأمور فيعرفون أن هذه النعم من اللّه سبحانه لا من غيره، و خص المتفكرين لأنهم الذين ينتفعون بهذه الآية و غيرها.

[13] و من ثم ينتقل السياق إلى آية أخرى، و منفعة جليلة لا حياة للإنسان بدونها، وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أجراهما و خلقهما بحيث تنتفعون بهما في حياتكم و حوائجكم وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ و لعل ذكر الشمس بعد ذكر الليل و النهار لما يترتب عليها من فوائد، فهو تعميم بعد تخصيص، أما القمر فلا يتوقف عليه ليل و لا نهار و لذا كان ذكره تأسيسا وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ سبحانه فهو الذي خلقها و هو الذي يسيرها حسب ما تقتضيه الحكمة إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لهذه الأشياء لَآياتٍ دلالات على توحيد اللّه و علمه و قدرته و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعملون عقولهم ليدركوا الحقائق و يعرفوا الأشياء و إلا فهل يتمكن عاقل أن يقول إنها خلقت من أنفسها؟ أو خلقها صنم عاجز جاهل؟ إن الإنسان الذي هو أقوى الأشياء- حسب الظاهر- لا يتمكن من خلق أو تسيير أتفه الأشياء من نفسه بأن يكون جميع اللوازم و الأسباب منه فكيف بغير الإنسان؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 200

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 249

[سورة النحل (16): الآيات 13 الى 14]

وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)

[14] وَ سخر لكم ما ذَرَأَ أي خلق لَكُمْ إما بمعنى سخر لكم ما خلق في

الأرض، فيكون المعنى أن كل شي ء في الأرض فهو مسخّر لكم، و إما بمعنى أن ما خلق لكم في الأرض هو مسخّر لكم، فيكون المعنى إن الذي خلق لكم مما في الأرض مسخر لكم و هذا أخص من المعنى السابق، و الظاهر من السياق الثاني فِي الْأَرْضِ من أنواع المأكل و الملابس و المشارب و المراكب و المساكن و المناكح و غيرها، في حال كون ما ذرأ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ لا يشبه بعضها بعضا، و ذلك مما يزيد الخلق جمالا و الإنسان نشاطا و انشراحا إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لما ذرأ لَآيَةً دلالة واضحة على وجود اللّه و علمه و قدرته لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أصله يتذكر قلب التاء ذالا و دخلت همزة الوصل عليه لتعذر الابتداء بالساكن فصار «اذّكر» و التخصيص بهم لأن من سواهم لا ينتفع بهذه الآيات، و لعلّ الإتيان بلفظ «آية» هنا و «آيات» في الآية السابقة للتفنن في الكلام الذي هو نوع من أنواع البلاغة.

[15] وَ هُوَ اللّه سبحانه الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ صنعه و جعله بحيث تنتفعون به في حوائجكم لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا و هو السمك فإن الإنسان يصطاد السمك الطري منه، في حال أن كثيرا من اللحوم التي يصنع منها القديد يابس ليس له ذلك الطعم و المذاق وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً أي لئالئ و نحوها مما يستعمل في الزينة، و لعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 201

[سورة النحل (16): آية 15]

وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)

الإتيان بباب الاستفعال لما في الغوص من الطلب و الصعوبة تَلْبَسُونَها تلبسون تلك الحلية المستخرجة من البحر، فمن جعل البحر بحيث يعطي هذه الأشياء؟ و

من ذلّله لكم حتى تتمكنون من الاقتراب منه و الغوص فيه و الاصطياد لأسماكه؟ وَ تَرَى أيها الإنسان الْفُلْكَ و هي السفن فإن فلك على وزن قفل مفرد، و الفلك على وزن أسد «جمع أسد» جمع، و الثاني هو المراد هنا بدليل وصفها بقوله سبحانه مَواخِرَ جمع «ماخرة» على وزن «طالبة» و «طوالب» من المخر، يقال مخرت السفينة الماء أي شقته عن يمين و شمال، و اسم الفاعل «ماخرة» فِيهِ أي في البحر، فمن جعل الماء بحيث لا تغرق فيه السفينة الثقيلة، بل تتمكن من شقه و الوصول إلى المحلات البعيدة بواسطته؟

وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إما عطف على قوله «لتأكلوا» أي سخر لكم البحر «لتأكلوا» و لتبتغوا، و إما عطف على مقدر أي «و ترى الفلك مواخر فيه لتركبوا و لتبتغوا» و المعنى أنه جعل البحر كذلك بحيث يحمل السفن الماخرة لتطلبوا من فضله سبحانه بالتجارة و الاكتساب لصاحب السفينة بالإيجار و الراكبين بالاتجار، و تسمى النعمة فضلا، لأنها زيادة على سائر الأنعام، وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا اللّه سبحانه، فإن غاية خلق الأشياء للإنسان أن يشكروا فيستحقوا بذلك الثواب.

[16] وَ هو اللّه سبحانه الذي أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جمع راسية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 202

[سورة النحل (16): الآيات 16 الى 17]

وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (17)

و هي الجبل، أي جعل جبالا عالية ثابتة، و التعبير بالإلقاء تعطي صورة طريفة عن ثقلها و شدة وطأتها، ل أَنْ لا تَمِيدَ من ماد بمعنى مال يمينا و شمالا بِكُمْ أي معكم، يعني أنه سبحانه جعل في الأرض الجبال لئلا تتحرك الأرض بكم يمينا و

شمالا فلا يكون لكم قرار و استقرار فإن الجبال تحفظ توازن الأرض، فهي كالمسامير في الألواح المتصلة بعضها ببعض، لولاها لتفككت الأرض- من جهة- و لمالت إلى هنا و هناك بفعل الجاذبيات- من جهة أخرى-.

وَ جعل فيها أَنْهاراً فمن يا ترى خلق الأنهار التي ينتفع بها الإنسان في بقائه و عمارته و زراعته و سائر لوازمه؟ وَ جعل فيها سُبُلًا أي طرقا للسير من هنا إلى هناك لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تروا تلك الآيات فتهتدوا إلى وجود خالقها و جاعلها.

[17] وَ جعل لكم فيها عَلاماتٍ معالم يهتدى بها للطرق من جبال و ترع و مرتفعات و منخفضات فإن الإنسان يهتدي بها إلى مقاصده أو المراد أنه سبحانه جعل العلامات بصورة عامة كعلامات الصحة و المرض و الجيد و الرّدي ء و العلامات الفارقة لجنس من جنس و هكذا وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ فجعل علامات في الأرض و علامات في السماء يهتدي بها السالكون، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟

[18] و إذ ينتهي السياق من ذكر جملة من الآيات الكونية، يلتفت إلى البشر ليوقظه من رقدته و ينبّهه على خطأه في اتخاذ الشركاء مع اللّه سبحانه أَ فَمَنْ يَخْلُقُ و هو اللّه سبحانه الخالق لكل تلك الأشياء التي تقدمت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 203

[سورة النحل (16): الآيات 18 الى 19]

وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (19)

و لغيرها كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا، كالأصنام و الأوثان؟ و من الطبيعي الجواب: بأنهما ليسا بمتساويين أَ فَلا تَذَكَّرُونَ هذه الحقيقة؟ فكيف تجعلون من لا يخلق شريكا مع من يخلق، و تعبدوهما على حد سواء؟

[19] إن

ما تقدم ذكره من النعم إنما هي جملة من الأمور التي خلقها اللّه سبحانه لمنافعكم، أما جميع نعمه فهي خارجة عن قدرتكم على إحصائها وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ أي تريدون تعدادها و إحصاءها لا تُحْصُوها لا تقدرون على العدّ و الإحصاء لكثرتها الخارجة عن طرق عدّكم كيف و قد ذكر العلم أن ملايين الأعصاب موجودة في جسم الإنسان و من المعلوم أن كل عصب نعمة و هكذا و هلم جرا إلى ما لا يحصى من النعم، و لعلّ الإتيان ب «نعمة» مفردة لمراعاة نكتة لفظية هي أن العدّ لنعمة نعمة متعذر و أما عد «النعم» جملة جملة فلا تتعذر إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ لكم في عدم شكر النعم، فإن الإنسان مهما شكر فهو مقصر في الشكر كما

قال الإمام عليه السّلام: «و لا يؤدي حقه المجتهدون»

«1» رَحِيمٌ يرحمكم بالأنعام عليكم و إن لم تؤدوا شكرها.

[20] و هنا تأتي بعض المقارنات بين اللّه سبحانه، و بين ما زعموه من الآلهة، بمناسبة السياق مع قوله «أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ» وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي ما تفعلونه في السّر وَ ما تُعْلِنُونَ أي ما تفعلونه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 204

[سورة النحل (16): الآيات 20 الى 22]

وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)

في العلانية فهل الأصنام كذلك؟ إنها- كما يأتي- «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ» فكيف تعلم شيئا؟ و إذ يعلم سبحانه كل سر و جهر فإنه يجازي بكل ما يصدر من الإنسان

في خفاء أو ملأ.

[21] وَ الأصنام الَّذِينَ إنما جي ء بلفظ العاقل لزعم القوم أنها تعقل يَدْعُونَ أي يدعونها المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام و الأوثان لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً فهل هم كمن خلق كل الأشياء؟ وَ هُمْ يُخْلَقُونَ فإن الأصنام مخلوقة لله سبحانه، أولا، ثم منحوتة للناس ثانيا! [22] إنها أَمْواتٌ لا حياة لها، فإن الموت يطلق لما من شأنه الحياة، و لما ليس من شأنه الحياة- إذا قوبل مع الحيّ- غَيْرُ أَحْياءٍ لعل الإتيان بذلك لإفادة أنها لا حياة لها إطلاقا، فليست حتى كالإنسان الميت الذي له حياة برزخية وَ ما يَشْعُرُونَ أي ما تشعر تلك الأصنام أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي في أيّ وقت يكون بعثها و نشورها، و هذا للمقابلة و إلا فليس للأصنام بعث بالمعنى الواقعي، و الحاصل أن ما هو ميت لا يقدر على حس و حركة، و من هو لا يعلم حتى يبعث كيف يكون إلها، و الحال أن الإله يجب أن يكون حيّا حتى يكون خالقا مدبرا، و يجب أن يعلم متى يبعث المخلوقين للجزاء و الحساب؟

[23] و إذ تقرر أن هذه الأصنام لا تكون آلهة ف إِلهُكُمْ أيها البشر إِلهٌ واحِدٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 205

[سورة النحل (16): الآيات 23 الى 24]

لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)

لا شريك له فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و هم طبعا من لا يؤمن بالإله الواحد، و إلا فلو كان مؤمنا كان معتقدا بالمعاد، و من هذه الجهة دخلت الفاء في «فالذين» فهو كقولك زيد عالم، فمن يناوئه يكون كذا، للتلازم بين

العلم و لزوم الاحترام. قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جاحدة للحق، فليس مرضهم مرضا سطحيا قابلا للعلاج، و إنما الداء كامن في قلوبهم وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ الاستكبار طلب الترفع- لمن ليس رفيعا- فهم يترفعون أنفسهم عن الإذعان بلا حق أو حجة أو برهان و إنما مانعهم عن الإيمان الكبر و الطغيان.

[24] لا جَرَمَ أي حقا، من جرم «باب ضرب» بمعنى قطع، يقال جرم الشي ء أي قطعه و منه «الجرم» كأنه قطع لروابط الاجتماع، ف «لا جرم» يعني لا قطع، و إنما الأمر كذلك، و لذا يستعمل بمعنى لا بد و لا محالة، و كثيرا ما يتحول إلى معنى القسم، يقال «لا جرم لأفعلنّ» أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ يفعلونه سرا وَ ما يُعْلِنُونَ أي يفعلونه علنا، فهو عالم بجميع أعمالهم فيجازيهم على ما ارتكبوا من الآثام إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ الذين يتكبرون و يأنفون اتباع الأنبياء، و عدم محبة اللّه يلازم كرهه و غضبه.

[25] إنهم لا يؤمنون بالله، و لا بالمعاد، أما بالنسبة للرسالة فمن الطبيعي أن ينكرونها بعد إنكارهم لذينك الأمرين وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي للمشركين عبدة الأصنام ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ يريد السائل أن يستخبر اعتقادهم حول القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 206

[سورة النحل (16): آية 25]

لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25)

و هل أنهم يعتقدون به أم لا؟ قالُوا في الجواب أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة، أي قصصهم الخيالية الوهمية فقد كانوا يقولون عن القرآن إنه خرافات القدماء لا حصة له من الحقيقة و الواقع، و ليس المراد لهم أنه منزل من عنده سبحانه لأنهم ينكرون الإله، و ينكرون ما أنزل، و إنما

يريدون رمي القرآن بالخرافة و الأسطورة، و قد كان أحدهم يقول: إن محمدا يأتيكم بأخبار أنبياء الروم- يريدون الأنبياء المبعوثين حول الشام، فقد كان الشام يومئذ من ممتلكات الروم- و إنما أتيتكم بأخبار ملوك الفرس، ثم يقص عليهم قصصا وهمية من الأكاسرة و من إليهم.

[26] و إنما كان هؤلاء المشركون يكفرون بالله و المعاد و الرسالة لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ اللام للعاقبة، نحو (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً) «1» فإن قصد أولئك ليس حمل الأوزار، و إنما عاقبة تكذيبهم أن يحملوا ذنوبهم- فإن الوزر بمعنى الذنب- كاملة بلا نقص في يوم القيامة فإن من لا إيمان له يحمل ذنبه كاملا بخلاف من له الإيمان فإنه ينقص من ذنبه و يعفى عنه لمكان إيمانه وَ يحملون هؤلاء الكفار- الرؤساء- في يوم القيامة، بالإضافة إلى أوزار أنفسهم مِنْ أَوْزارِ أي بعض ذنوب الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ من أتباعهم، فإن الرؤساء سبب إضلال الأتباع، و إنما يحملون بعض ذنوب أولئك مما صار الرؤساء السبب أما غيرها من سائر ذنوبهم، كما لو قتلوا إنسانا أو شربوا خمرا، أو ما أشبه مما لا يرتبط بهؤلاء الرؤساء فهم المسؤولون عنها دون الرؤساء بِغَيْرِ عِلْمٍ

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 207

[سورة النحل (16): آية 26]

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)

أي أن إضلالهم كان بغير علم إذ إن الرؤساء لم يعلموا بصحة عبادة الأصنام و مع ذلك دعوا الناس إليها، و هذا لزيادة تقريعهم، إذ كيف يجوز لهم أن يدعو الناس إلى شي ء هم لا يعلمون صحته؟ أَلا فلينتبه السامع ساءَ

ما يَزِرُونَ أي بئس الحمل حملهم لأوزار أنفسهم و بعض أوزار أتباعهم، فإن ذلك موجب للعذاب و العقاب.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا و أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا «1»

[27] و إذ سبق أن المشركين يقولون عن القرآن أنه أساطير الأولين، و بطبيعة الحال إنهم يمكرون و يحتالون لإخماد صوت الأنبياء، فليعلموا، و يعلم معهم غيرهم أن لا محصّل لمكرهم و لا نجاح لخططهم ف قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفار و دبّروا المؤامرات لإبطال الدين، و إخماد صوت المرسلين فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ أي توجه سبحانه نحو بنائهم، و المراد بالبنيان، ما بنوه من المكر و الحيلة، تشبيها بالأبنية الخارجية مِنَ الْقَواعِدِ أي من أسسه، كالذي يهدم بناء بهدم أساسه و أصله فقد أبطل سبحانه أصل حيلتهم و مكرهم.

فَخَرَّ عَلَيْهِمُ أي سقط على الكفار السَّقْفُ أي سقف بنيانهم

______________________________

(1) المستدرك: ج 12 ص 230.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 208

[سورة النحل (16): آية 27]

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27)

مِنْ فَوْقِهِمْ فلم يسقط من جوانبهم، فإن السقف قد يسقط لكن على جانب الإنسان فلا يتأذى منه كثيرا، أما إذا سقط من فوقه، طبّقه، مما يوجب هلاكه وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ أي عذاب الهلاك تحت السقف مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ إذ كانوا يزعمون أن بنيانهم قوي محكم، فكان احتمالهم للهلاك من ناحية خارجية

غير جهة بنائهم، فإذا بالبناء الذي بنوه ليكون لهم ملجأ و محتمي صار قبرا لهم، إن الإنسان ليبني البناء ثم يحبس فيه ليستريح، لكن شخصا يأتي و يهدم البناء من أساسه حتى يقع السقف على الباني، إن هذا مثل الكفار الذين يقاتلون الأنبياء عليهم السّلام فهم يمكرون لإخماد صوت الحق، حتى إذا ظنوا أن مكرهم قد استحكم و أنهم يستريحون تحت ظله، فلا يلفحهم الدين، دبّر سبحانه ما يهدم مكرهم من أصله، فإذا بهم ينكشفون للمجتمع بصورتهم البشعة، و قد تعالت كلمة اللّه سبحانه، و علا صوت الحق، حيث ذهب الكفار و مكائدهم أدراج الخسران و الهلاك، و كثيرا ما يأخذهم عذاب اللّه في الدنيا، حيث إنهم غافلون غير شاعرين.

[28] هذا حال من مكر بالأنبياء عليهم السّلام في الدنيا، أما حالهم في الآخرة ثُمَ بعد الدنيا يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ اللّه سبحانه و يذلهم و يفضحهم على رؤوس الأشهاد وَ يَقُولُ لهم على سبيل التقريع و التوبيخ أَيْنَ شُرَكائِيَ الموهومون الذين كنتم تشركونهم معي و تزعمون أنهم شركائي في الخلق و العبادة و سائر شؤون الألوهية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 209

[سورة النحل (16): آية 28]

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ تعادون المؤمنين فِيهِمْ أي بسببهم فإن الكافرين كانوا يعادون المؤمنين لأنهم لا يتخذون الأصنام آلهة، فهم لأجل الجمادات الصم البكم كانوا يعادون إخوانهم المؤمنين؟ فلا يجد الكفّار جوابا فقد تكشف لديهم الأمور و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون.

و هنا يتعرض بعض المؤمنين للجواب، قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الأنبياء و الأئمة و الملائكة و الصالحين إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ

السُّوءَ الفضيحة و العذاب، في هذا اليوم عَلَى الْكافِرِينَ و إنما يقول ذلك لزيادة التقريع و التوبيخ، فإن الشماتة تؤثر في النفس ما لا يؤثر العذاب في الجسم.

[29] و إذ رأينا أحوال الكافرين في دنياهم حيث «أتاهم العذاب» و في آخرتهم حيث لهم الخزي و السوء، فلننظر إلى أحوالهم حال النزع و عند الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة، فها هم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ أي تقبض أرواحهم الْمَلائِكَةُ الذين أرسلهم اللّه سبحانه لهذه المهمة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي في حال كون أولئك الكفّار ظلموا أنفسهم، بأن عصوا فاستحقّوا العذاب و الهوان، و النون من «ظالمي» محذوف لإضافته إلى أنفسهم.

فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي أظهروا أولئك الكفار المسالمة، و هو تشبيه بمن يلقي شيئا، لكن الإلقاء هنا معقول كما يقال «فلان يلقي الخطابة» في مقابل الإلقاء المحسوس نحو «ألقى عصاه» ثم ... ماذا هو السلم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 210

[سورة النحل (16): الآيات 29 الى 30]

فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30)

الذي يلقونه؟ إنه قولهم ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ فقد أنكروا عند الملائكة كفرهم و عصيانهم في دار الدنيا و ظنوا أن الملائكة كالحكام في الدنيا يتمكن المراوغ إنكار ما سبق من جرمه عندهم، و إن إنكارهم يفيدهم و قد تستمر هذه المراوغة بهم حتى في الآخرة يأتون حالفين لله قائلين (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1» إذ يأتي الجواب (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) «2» و هنا عند قبض الروح يأتي الجواب بَلى إنكم كنتم تعملون السوء

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من المنكرات و المعاصي و الكفر و الشرك، و لا ينفعكم الإنكار.

[30] فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ كل صنف من بابه الخاص به خالِدِينَ فِيها أي في حال أنكم تخلدون فيها و تبقون هناك أبد الآبدين فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي بئس منزلهم، فإن مثوى، محل من «ثوى» بمعنى اتخذ محلا و مكانا، و قد كان هؤلاء الكفار متكبرين يستكبرون و يترفعون عن الإذعان لله و رسوله و الأحكام.

[31] و إذ رأينا الحوار بين السائلين و بين الكفار و ما صاروا إليه أخيرا من الخلود في النار، فلننظر إلى المحاورة بين السائلين و بين المؤمنين وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي للمؤمنين الذين اتقوا معاصي اللّه سبحانه، و القائل لهم الأنبياء أو الملائكة أو الأئمة أو نحوهم

______________________________

(1) الأنعام: 24.

(2) الأنعام: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 211

[سورة النحل (16): آية 31]

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)

ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ هل أنه صدق أو كذب خير أم شر؟ قالُوا في الجواب أنزل خَيْراً فإن القرآن خير و سعادة للدنيا و الآخرة، ثم يفصلون أنه كيف يكون خيرا، قائلين لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الإيمان و الأعمال فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي لهم مكافأة حسنة، فإن الإيمان موجب لاطمئنان القلب و سعادة الحياة، لأنه بما يقرره من المناهج يضمن خير الإنسان و سعادته.

وَ لَدارُ الْآخِرَةِ لمن آمن و اتقى خَيْرٌ من الدنيا، لأن نعيمها لا يشوبه الكدر، و ليس له زوال و اضمحلال بخلاف دار الدنيا وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أي و الآخرة نعم دار المتقين الذين اتقوا الكفر و المعاصي، و هذا تأكيد لقوله «خير».

[32] جَنَّاتُ

عَدْنٍ بدل عن «دار» و الجنة هي البستان، و عدن بمعنى الخلود، من عدن بالمكان أي أقام فيه و منه «المعدن» لأنه المقيم في الأرض يَدْخُلُونَها أي يدخل المتقون تلك الجنات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت قصورها و أشجارها لَهُمْ أي للمتقين فِيها أي في تلك الجنّات ما يَشاؤُنَ من الملذات كائنة ما كانت، اما ما يستحيل فإنهم لا يشتهونه كَذلِكَ الذي تقدم من الخلود في الجنات و لهم ما يشتهون يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 212

[سورة النحل (16): الآيات 32 الى 33]

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)

الكفر و المعاصي.

[33] هذه آخرة المتقين، و تلك دنياهم، فلننظر وقت انتقالهم من الدنيا إلى الآخرة، كما نظرنا إلى حال الكفّار حال الانتقال الَّذِينَ صفة «المتقين» تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تقبض أرواحهم ملائكة الرحمة بأمر اللّه سبحانه طَيِّبِينَ أي حال كونهم طيبي القلوب و الأعمال، لم يظلموا أنفسهم و لا أحدا غيرهم يَقُولُونَ أي تقول الملائكة لهم عند الوفاة سَلامٌ عَلَيْكُمْ فأنتم في سلام من كل سوء و مكروه ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

فقد ورد أن من مات قامت قيامته، و أن القبر للمؤمن روضة من روضات الجنان

«1»، و لذا يصح أن يقال لهم حال الفزع ادخلوا الجنة.

[34] و إذا تم السياق في المقابلة بين حال المؤمنين و حال الكافرين في الدنيا و عند الفزع و في الآخرة، رجع إلى الحوار مع المشركين و الاحتجاج عليهم و بيان

عقائدهم و أقوالهم و أعمالهم هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء الكفار إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم، إنه استفهام إنكاري، أي ما ينتظر هؤلاء الكفار شيئا إلا الموت، فقد تمت عليهم الحجة، و بانت لديهم المحجة، فإنهم معاندون لا يستعدون للإيمان، و إنما ينتظرون أن تأتيهم ملائكة العذاب لقبض أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 58 ص 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 213

[سورة النحل (16): الآيات 34 الى 35]

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)

بإهلاكهم بعذاب الاستئصال كَذلِكَ أي كفعل هؤلاء الذين لا يؤمنون حتى يموتوا أو يعذبوا فَعَلَ الكفار الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فإنهم لم يؤمنوا بالرسل، حتى جاء أمر اللّه بإهلاكهم و تدميرهم وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ حيث أهلكهم و أرسل عليهم العذاب وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر و العصيان و كان العذاب جزاء أعمالهم، كالقطع الذي يصيب السارق فإنه جزاء سرقته لا أن القاضي ظلمه.

[35] فَأَصابَهُمْ أي وصل إلى أولئك الذين من قبلهم من الكفار سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي عقاب أعمالهم و سمي العقاب سيئة لأنه يسيئ إلى الشخص، و للتجانس اللفظي كقوله سبحانه (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) «1» وَ حاقَ بِهِمْ أحاط بهم و وصل إليهم ما كانُوا أي العذاب الذي كانوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أو المراد نتيجة استهزاءهم و عاقبة سخريتهم.

[36] ثم يأتي السياق ليبين مقولة جديدة من مقالات المشركين، إنهم في هذه المرة

يتفلسفون ناسبين كفرهم و أعمالهم السيئة إلى إرادته سبحانه وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بأن جعلوا مع اللّه شريكا لَوْ شاءَ اللَّهُ أن نعبده وحده و لا نتخذ معه شريكا ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ من

______________________________

(1) الشورى: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 214

الأصنام و الأوثان، فإنا حين نرى أنا عبدناها علمنا أن اللّه أراد عبادتنا لها، إذ لو لم يرد عبادتنا لها لمنعنا عن ذلك بالجبر.

نَحْنُ وَ لا آباؤُنا بدل عن الضمير في «عبدنا» أي لم نكن نعبد نحن و آبائنا، الأصنام لو لم يرد اللّه وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي لو شاء اللّه عدم تحريمنا للسائبة و البحيرة و غيرهما لمنعنا عن ذلك، فلم نكن لنحرم شيئا من دون إرادته و رضاه، فقد اعتقدوا الخرافة و عملوا المعاصي، و نسبوها إلى اللّه سبحانه حين قيل لهم أنهم على باطل و أن أعمالهم توجب السخط و العقاب كَذلِكَ أي كفعل هؤلاء في الكفر و العصيان و نسبة أعمالهم إليه تعالى فَعَلَ الكفار الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ و إنما قال «فعل» مع أن الاعتقاد ليس فعلا؟

للتغليب، أو لأن الكلام كان في العبادة، و هي فعل، و لقد كان كلامهم من السخافة بحيث لا يستحق الجواب، فهل سبحانه يجبر أحدا على عمل؟ إنه خلاف العقل و الوجدان، و إلّا لارتفعت جميع القوانين و لكان المجرم كالمحسن، و بطلت الحكومات و الأقضية فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ استفهام إنكاري، أي ليس على الرسل إلا أن يبلّغوا أوامر اللّه سبحانه بكل جلاء و وضوح ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حيّ عن بينة، و إن هذا هو اللازم في اللطف أن يبعث

اللّه رسولا مبينا، أما أن يمنع العاصي بالجبر و الإكراه فإنه خلاف العقل و البرهان، و إلا كان الإنسان كآلة صماء لا فرق بينه و بين الحديد المسيّر في جهاز متحرك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 215

[سورة النحل (16): آية 36]

وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)

[37] و كيف يشاء سبحانه الكفر و المعاصي، و الحال أنه قد بعث الأنبياء و الرسل لإرشاد الناس و هدايتهم وَ لَقَدْ بَعَثْنا أي أرسلنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا كما بعثناك يا رسول اللّه إلى هؤلاء، ليقول لهم الرسول أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي لا تطيعوه، و المراد بالطاغوت، الشي ء الكثير الطغيان من شيطان أو إنسان آمر بالقبيح، و يستعمل الطاغوت في الآلهة الحجرية مجازا بالمشابهة، لأنها تعبد كما يعبد الرؤساء و الشياطين كما قال سبحانه: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً) «1» فَمِنْهُمْ أي بعض تلك الأمم مَنْ هَدَى اللَّهُ أي هداه سبحانه إلى الإيمان بأن لطف به الألطاف الخفية حتى استقام على الطريق بعد أصل الإيمان و قد كان ذلك بمعنى الهداية المتوسطة بين الهداية التي هي إرائة الطريق، و الهداية التي هي الإيصال إلى المطلوب، فإن الإنسان إذا أراه اللّه سبحانه الطريق فسار عليه، لطف به ألطافا خفية، كما قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) «2» وَ مِنْهُمْ أي بعض تلك الأمم مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي ثبتت عليه و ألزمته، لأنه أعرض عن الرشاد فانحرف حتى صارت الضلالة من ملازماته فَسِيرُوا أيها الناس

فِي الْأَرْضِ إلى هنا

______________________________

(1) التوبة: 31.

(2) العنكبوت: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 216

[سورة النحل (16): آية 37]

إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)

و هناك لتعتبروا بآثار الأمم السابقة فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا الرسل، فإنكم ترون بلادهم خالية و آثارهم دارسة، و قد جرت الرياح على محل ديارهم فكأنهم كانوا على ميعاد كما قال سبحانه: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ* وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) «1» و من غريب الأمر أنا نرى ذلك في غالب البلاد و الأصقاع فعندنا خرائب «بابل» و «سامراء» و أطراف «الطاق» ببغداد.

[38] و إذ قد جرت سنة اللّه سبحانه أن يترك الضال في غوايته لا يلطف به الألطاف الخفية، كما كان سابقا حال الأمم الخالية كذلك فهذه الأمة أيضا كتلك إن من ضل و حاد عن الطريق لا ينفعه اهتمام الرسول بإيمانه ف إِنْ تَحْرِصْ يا رسول اللّه و تتعب نفسك عَلى هُداهُمْ أي على أن يهتدوا و يؤمنوا فَإِنَ حرصك لا ينفع إذ إن اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ أي لا يلطف بمن تركه ليضل- كما شاء هو- بعد أن أراه الطريق فلم يقبل، كالأب الذي لا يعتني بولده إذا رآه لا يطيع أوامره، فنقول لمن حاول الإصلاح بينهما: لا تفعل فإن الأب لا يلطف بهذا الذي تركه و لم يعتن له وَ ما لَهُمْ أي لأولئك الضالين مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم و يخلصونهم من عذاب اللّه و انتقامه.

______________________________

(1) الدخان: 26- 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 217

[سورة النحل (16): الآيات 38 الى 39]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ

يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)

[39] و لقد كان الكفار ينكرون البعث و يجادلون لنفيه، و حيث يعجزون عن الإتيان بالحجة يلتجئون إلى الحلف، كشأن العاجزين في مقام الاحتجاج و الدليل وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ أي حلف هؤلاء الكفّار بالله سبحانه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مجتهدين في أيمانهم قد بلغوا في اليمين مبلغ التأكيد بما قدروا عليه، فإن «جهد» مصدر وضع موضع الحال، و التقدير «يجتهدون اجتهادا في أيمانهم» مثلا قالوا «و اللات و عزى و مناة و كل مقدساتنا ..» لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ أي لا يحييه للحساب و الكتاب و الجزاء، و قد كذّبهم سبحانه بقوله بَلى ليس الأمر كما تقولون بل يبعثهم اللّه جميعا، و قد وعد اللّه ذلك وَعْداً يكون ذلك الوعد عَلَيْهِ أي على اللّه حَقًّا ليس له خلف، فإن المخلف لا يكون إلا جاهلا أو عاجزا أو خبيثا و اللّه سبحانه منزه عن ذلك كله وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ البعث، لكفرهم بالله، و عدم إيمانهم بالأنبياء المخبرين.

[40] و إنما يبعث اللّه الخلائق، و يحشرهم للجزاء و إلّا لكان ظلم الظالم الذي لم ينتقم منه في الدنيا خلاف عدله سبحانه، فإنه كيف أمكن الظالم من الظلم و هو قادر على دفعه، بلا جزاء شي ء للظالم، و لا جزاء حسن للمظلوم، و في يوم الجزاء يبين اللّه لَهُمُ أي للناس الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من العقائد و الأعمال، فيقول عمل فلان كان حقّا، و عمل فلان كان باطلا، و هكذا، و البيان، كناية عن الجزاء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 218

[سورة النحل (16):

الآيات 40 الى 41]

إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)

لأنه إنما يقع بعد البيان، كما تقول للمجرم: سأعلمك غدا، تريد إنك تجزيه بإجرامه وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في كفرهم بالله، و إنكارهم للبعث، و جحدهم الأنبياء، يعلمون كذبهم فيجازون عليه.

[41] و لقد كان أكبر حجج المنكرين للبعث أنه غير ممكن، فكيف يمكن أن تعود العظام الرميم إنسانا سويا؟ (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ) «1»؟

و لذا ردهم سبحانه بقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فإنا نخلق الأشياء بمجرد الإرادة التي تجلو في كلمة «كن» و بمجرد هذا القول يكون ذلك الشي ء المراد، فكيف لا نقدر على إحياء الأموات، و قد كان خلق الإنسان ابتداء أصعب- في نظر الناس- من إعادته، فهل نقدر على ذلك الأصعب و لا نقدر على الأسهل؟

[42] أولئك الكفّار تلك معتقداتهم و أعمالهم و جزائنا لهم وَ أما المؤمنون ف الَّذِينَ هاجَرُوا ديارهم و بلادهم فِي اللَّهِ أي في سبيل اللّه و لأجل أمره و ابتغاء مرضاته فرارا بدينهم مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ظلمهم الكفار، كما كان أهل مكة يظلمون المسلمين و يؤذونهم، فهاجر قسم منهم إلى الحبشة و قسم إلى المدينة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي نعطيهم مبوّء و منزلا، نحو

______________________________

(1) يس: 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 219

[سورة النحل (16): الآيات 42 الى 43]

الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43)

(وَ إِذْ بَوَّأْنا

لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) «1» فِي الدُّنْيا دارا حَسَنَةً يسكنون فيها بكل هدوء و اطمئنان.

وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ لهم جزاء أن ظلموا أو شردوا أَكْبَرُ من حسنة الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لأوصل عملهم إلى ما أعدّ اللّه لهم في الآخرة، لعرفوا أن ذلك الأجر خير من أجر الدنيا، و إنما جي ء بهذه الجملة لبيان أنهم مع إيمانهم بالبعث لا يعلمون ما أعد اللّه لهم من الأجر و الثواب، و إنما يعتقدون بذلك إجمالا،

ورد أن هذه الآية نزلت في المعذبين بمكة، مثل صهيب و عمار و بلال و خباب و غيرهم مكنهم اللّه بالمدينة و قد ذكر أن صهيبا قال لأهل مكة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم و إن كنت عليكم لم أضركم فخذوا مالي و دعوني فأعطاهم ماله و هاجر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[43] ثم وصف سبحانه الذين هاجروا بقوله الَّذِينَ صَبَرُوا على الإيمان، و على أذى المشركين لهم وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يفوّضون أمورهم إليه، و يكلون شؤونهم إلى جنابه سبحانه، و لعل الإتيان بفعل المستقبل لإفادة استمرارهم في التوكل، و إن انقضى صبرهم الذي صبروه على أذى الكفار قبل الهجرة.

[44] و إذ قابل السياق بين الكفار و المؤمنين، رجع إلى الاحتجاج مع الكفار، فقد كانوا ينكرون أن يكون الرسول بشرا فقال سبحانه

______________________________

(1) الحج: 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 220

[سورة النحل (16): آية 44]

بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه، إلى الأمم الماضية إِلَّا رِجالًا من البشر، لا ملائكة و لا جنّا نُوحِي إِلَيْهِمْ فهم بشر كسائر البشر

في الخلقة و الطبيعة إلا أنهم، يمتازون بالوحي، و هذا لا ينافي كونهم أعلى درجة من سائر الناس بفطرتهم، فإن الكلام في مقابل الملائكة و الجن فَسْئَلُوا أيها المنكرون لبشرية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتاب عن أنبياءهم هل كانوا بشرا أم غير بشر؟.

إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ إنهم كانوا بشرا أم لا، و ما ورد في الأحاديث من أهل الذكر هم آل محمد عليهم السّلام فالمراد أنهم من المصاديق الظاهرة لأهل الذكر الذين يجب الرجوع إليهم، حيث يستفاد من الآية قاعدة كلية عقلائية مقررة في الشريعة، هي سؤال أهل العلم عما لا يعلمه الإنسان، و بطبيعة الحال يجيب أهل الذكر أن من أرسل سابقا كانوا بشرا، حتى المسيحيون المألّهون لعيسى عليه السّلام لا ينكرون بشرية سائر الأنبياء كآدم و موسى و إبراهيم عليهم السّلام و غيرهم.

[45] بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ متعلق ب «نوحي إليهم» أي كنا نوحي إلى الأنبياء عليهم السّلام السابقين بالأدلة البينة الواضحة، و الزبر «الكتب المتفرقة» من زبر بمعنى كتب، أو متعلق بأرسلنا، أي «ما أرسلنا بالبينات و الزبر إلا رجالا» وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه الذِّكْرَ أي القرآن كما أنزلنا إلى الأنبياء من قبلك، و إنما سمي القرآن بالذكر لأنه مذكر بالله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 221

[سورة النحل (16): الآيات 45 الى 46]

أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)

سبحانه، بعد ما نسيه الإنسان، و الذكر يشير إلى ما أودع في فطرة الإنسان من معرفته سبحانه لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من الأدلة على

المعارف، و ما فرضه سبحانه عليهم من الأحكام وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي لكي يتفكروا في الآيات الكونية، فإن الإنسان إذا ألفت إلى شي ء أخذ يتفكر حوله، و الحاصل إن الإنزال لسببين تبيينك للناس، و تفكرهم.

[46] ثم يعد سبحانه المشركين و العاصين بالعذاب إن تمادوا في كفرهم و غيّهم أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي عملوها، و المراد دبّروا المكائد لإخماد صوت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هدم الإسلام أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون و الاستفهام تهويلي جي ء لبيان أنه يلزم عليهم أن يحتملوا ذلك أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ بإنزال صاعقة عليهم، أو غلبة النبي عليهم في حرب فجائية، فيقتلون و يؤسرون.

[47] أَوْ يَأْخُذَهُمْ اللّه فِي تَقَلُّبِهِمْ أي في حالة من حالات تحوّلهم من هنا إلى هناك، أو من عمل إلى عمل، في ليل أو نهار، بأن يميتهم موت فجأة فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ لا يتمكنون من تعجيز اللّه حتى لا يقدر عليهم، فإنه سبحانه لا يمتنع عليه شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 222

[سورة النحل (16): الآيات 47 الى 48]

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ (48)

[48] أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ منهم أي في حال يقظة و حذر، فإن الترصد و الحذر لا ينفع في الفرار من عذاب اللّه سبحانه فَإِنَّ رَبَّكُمْ أيها البشر لَرَؤُفٌ بكم رَحِيمٌ حتى بالعاصين أنه مع قدرته لا يفعل بكم ذلك لكي تتوبوا و تعودوا، فإن قطعتم الصلة تماما، و ما بقي فيكم رجاء عود، فإن هناك يحل

العقاب و لا يفيد كونكم من حضر، أو سفر، في غفلة أو تخوف، و من غريب أمر الإنسان أنه مع ما يرى من أحوال الأمم السابقة و ما يحلّ بمن حواليه من العذاب و النكال، يسدر في غيّه و لا يرعوي عن ضلاله و إثمه! [49] إن كل ما في الكون يوحي بالإيمان فكيف لا يؤمن هذا الإنسان؟ و كل ما في الكون يوحي بقدرة اللّه و إرادته الشاملة، فكيف لا يخاف الإنسان قدرته و بطشه و يسدر في غيّه؟ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي أليس قد رأى هؤلاء الكفار إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ من حجر أو شجر أو إنسان أو حيوان أو غيرها يَتَفَيَّؤُا من الفي ء، و هو الظل الراجع بعد ما فنى بالشمس، فالظل بعد الظهر يسمى فيئا، و قبل الظهر لا يسمى ذلك ظِلالُهُ أي ظل ما خلق اللّه من شي ء، يعني يتراجع ظل كل شي ء عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ أي عن الطرفين، فهذا ظل يمتد و يتطاول نحو اليمين فيما إذا طلعت الشمس، و ذلك ظل يمتد و يتطاول نحو اليسار فيما إذا مالت الشمس عن دائرة نصف النهار، و مشهد الظلال مشهد مثير يوحي بمعنى الحياة المتحركة، فالظل يمتد و يتقلص و ينعدم دلالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 223

على حركة الكون دائبا سريعا، فمن يا ترى سخر هذا المتحرك ليسير من هنا و هناك؟ أو ليس هناك إله له؟ أو ليس أن الإله الذي يحرك هذا الفلك العظيم وسيع القدرة و يقدر على كل شي ء؟

و لعل ذكر «اليمين» مفردا و «الشمائل» جمع «شمال» جمعا، لنكتة معنوية هي أن الخير من جنس واحد، فهو كالواحد، دون غيره فهو

كأجناس، فاليمين لأنه أشبه بالخير جاء مفردا، و الشمال لأنه أشبه بمقابله جاء جمعا، كما قال سبحانه: (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) «1» و (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) «2» و كما نشاهد من أن الراحة شي ء، و الأتعاب أشياء، و الصحة شي ء و الأمراض أقسام، أو لأن الفي ء دائما يفي ء نحو الشمال، فإن الشمس إذا طلعت وقع لكل شاخص ظل طويل نحو المغرب، فيأخذ في النقصان قليلا قليلا، إلى أن يبلغ ناحية المشرق و هكذا يرجع حتى تغرب الشمس فكل هذا حركة للظل نحو الشمال، فالحركة نحو اليمين مرة واحدة و نحو الشمال طول اليوم سُجَّداً جمع ساجد، أي أن تلك الأشياء كلها بظلالها خاضعة لِلَّهِ كما قال سبحانه في آية أخرى: (وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ) «3» و الخضوع هو السجود ففي الإنسان بشكل و في غيره بشكل آخر وَ هُمْ داخِرُونَ أي خاضعون كمال الخضوع من دخر، بمعنى صغر و خضع.

فإن السجود قد يكون مع كمال الصغار، و قد يكون بدونه، و إنما

______________________________

(1) المائدة: 17.

(2) البقرة: 258.

(3) الرعد: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 224

[سورة النحل (16): الآيات 49 الى 50]

وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)

جي ء بجمع العاقل لوجود العقلاء فيهم فالتغليب أورث ذلك، لأنه حيث وصفهم بالسجود الذي هو فعل العقلاء ناسب الإتيان بجمع العاقل، أو لأن الأشياء تعقل و إن لم يكن لها كعقول البشر، كما قال سبحانه: (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) «1» [50] و إذ ذكر سبحانه إن الأشياء بظلالها

تسجد لله تعالى، بيّن سجود الأحياء بصورة خاصة، تخصيصا بعد التعميم لأهميتها، و ربما يقال أن «سجدا» في الآية السابقة ترجع إلى الظلال، فيما في هذه الآية ليس تأكيدا بل تأسيسا وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ أي يخضع غاية الخضوع ما فِي السَّماواتِ من الطيور و نحوها وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ تدب في الأرض أو في البحر، فإن «دب» بمعنى مشى، و السباحة نوع من المشي وَ الْمَلائِكَةُ يسجدون لله، فما بال الإنسان لا يسجد لله سبحانه في هذا الجو الذي يسجد له كل جماد و نبات و حيوان و ملك؟

وَ هُمْ أي أن الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ في سجودهم لله.

[51] يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ و الإتيان بهذا البيان زيادة في الخوف، فإن خوف الشخص بما يصيبه من فوقه أكثر، فهم يخافون عقاب اللّه أن يشملهم من فوقهم، و أما لبيان أن الخوف من اللّه الذي هو فوقهم- فوقا منزليا لا مكانيا- و من المعلوم أن الخوف من ذي الرتبة العالية

______________________________

(1) الإسراء: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 225

[سورة النحل (16): الآيات 51 الى 52]

وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)

أكثر من المساوي و نحوه وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فليس امتثالهم خاصا بالسجود، بل إنهم يفعلون كل ما يأمرهم به سبحانه، و على هذا فخوفهم من عظمته سبحانه، فإن الشخص يخاف العظيم و يهابه، و إن عرف أنه لا يعذبه و لا يؤذيه، أو أن خوفهم من أن يعصون فيعاقبهم، كما عوقب «فطرس».

[52] و إذ تحقق خضوع الكون للّه الواحد، فما بال هؤلاء

الكفار المشركين يتخذون آلهة متعددة وَ قالَ اللَّهُ بلسان أنبيائه عليهم السّلام و أصفيائه، للبشر لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ هذا نهي عن أقل التعدد، و المراد به المثال، فالأكثر لا يصح بطريق أولى، و لأن من أخذ الأكثر فقد أخذ الإثنين، و لا مفهوم للعدد هنا من حيث الزيادة، بل من حيث النقيصة، و جي ء باثنين للاتساق مع قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة هو الخوف، أي خافوا مني وحدي، و تقديم «إياي» لإفادة الحصر.

[53] و كيف تتخذون آلهة متعددة وَ الحال أن لَهُ وحده ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالكل ملكه و من خلقه ظرفا و مظروفا، و قد تقدم أنه قد يطلق الظرف و يراد به الأعم، كما قد يطلق المظروف و يراد به الأعم وَ لَهُ وحده الدِّينُ أي الطريقة التي يتبعها الإنسان لسعادته واصِباً من وصب، بمعنى دام و وصل، أي واصلا من السابق إلى هذا الوقت، فلا دين صحيح إلا دينه، أو المراد بالدين «الجزاء» أي أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 226

[سورة النحل (16): الآيات 53 الى 55]

وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

الجزاء بيده نحو «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» دائما، فليس الجزاء بيد غيره، فهو إله واحد، و مالك واحد، و الدين له وحده فكيف تتخذون إلها غيره و تجعلون له شريكا؟ و بعد هذا كله أَ فَغَيْرَ اللَّهِ من الأصنام و شبهها تَتَّقُونَ و تخشون أيها المشركون، و هو استفهام استنكاري للتوبيخ و التقريع.

[54] ثم بعد مقام

الألوهية و الملكية و الدين وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي أن جميع ما يرتبط بكم من النعم إنما هو من اللّه سبحانه وحده، فله النعم وحده- أيضا- ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ و نزل بكم الضُّرُّ من خوف أو مرض أو فقر أو شدة فَإِلَيْهِ سبحانه- وحده- تَجْئَرُونَ أي تتضرعون لكشفه و إزالته، فهو وحده كاشف ضركم، أيضا، فأين تذهبون باتخاذ غيره إلها؟

[55] و بعد ذلك كله إن الإنسان لمشرك كفور ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ أي دفع الضرر الذي وصل إليكم، و حيث أن الضرّ كأنه شي ء يحيط بالإنسان، عبّر عن دفعه بالكشف، فكأن الإنسان مستور تحته ثم يظهر، إذا رفع عنه إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ فجأة و من غير ترقب، جماعة منكم أيها البشر بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يجعلون له شريكا.

[56] إنهم يشركون لمقابلة نعمتنا بالكفران، من باب «اتق شر من أحسنت إليه» و «يجزي كما يجزي سنمار» إنهم يشركون لِيَكْفُرُوا اللام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 227

[سورة النحل (16): آية 56]

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)

للمقابلة أي أن شركهم لقصدهم الكفر بِما آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم من النعم، كأنهم لا غرض لهم إلا مقابلة النعم بالكفران فَتَمَتَّعُوا أيها الكفار، تلذذوا بمتاع الحياة و هو أمر قصد به التهديد و الوعيد فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أعمالهم، في القبر أو القيامة، أو في الدنيا، فإن الانحراف عن مناهج اللّه سبحانه يوجب الدمار و الانهيار.

[57] إن الانحراف في عقيدة هؤلاء المشركين أوجب الانحراف في عباداتهم و سلوكهم الاجتماعي، فهم يجعلون لغير اللّه بعض ما رزقهم اللّه سبحانه، فينذرون للأصنام، كما يئدون البنات خوف العار فهم يعبدون غير اللّه، و ينذرون

لغير اللّه، و يخرقون منهاج اللّه وَ يَجْعَلُونَ أي يجعل هؤلاء المشركون لِما لا يَعْلَمُونَ أي لما لا يعلم المشركون بواقعه و حقيقته- الأصنام- فضمير الجميع للمشركين، و عائد «ما» محذوف، أو المراد «للأصنام التي لا تعلم هي» و جي ء بلفظ العاقل لها، تماشيا مع زعم المشركين أنها تعقل، و قد تكرر مثل ذلك في القرآن الحكيم نَصِيباً و قسما مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأنعام و الحرث فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا و عجيب أن يجعل رزق اللّه لغير اللّه، فقد كانوا يتقربون إلى الأصنام بالذبائح و النذورات تَاللَّهِ أي و اللّه و «التاء» تأتي لقسم يستغرب فيها لَتُسْئَلُنَ أيها المشركون في الآخرة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ فإنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 228

[سورة النحل (16): الآيات 57 الى 58]

وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (58)

كانوا ينسبون أعمالهم إلى اللّه سبحانه كما قال سبحانه في آية أخرى:

(آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) «1»؟

[58] وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ فكان المشركون يقولون إن لله البنات سُبْحانَهُ إنه منزّه عن ذلك، منصوب بفعل مقدر أي أسبحه سبحانه وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الأولاد البنين دون البنات، فهم يرون أن من نصيبهم الذكور، و من نصيب اللّه البنات، و هذا تجرؤ مزدوج: جعل الأولاد لله و كونهم بناتا، بينما أن الذكور من حصتهم وحدهم- في زعمهم- [59] وَ إلى أي حدّ أنهم يكرهون البنات- التي جعلوها لله سبحانه- إلى حد أنه إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى بأن أتت امرأته الحامل بمولود مؤنث، و هي بشارة حقيقية، فإن الأولاد

بنين و بنات نعم من عند اللّه سبحانه ظَلَ أي استمر من ذلك الوقت إلى الليل، فإن ظل بمعنى بقي إلى الليل وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي مائلا إلى السواد، من كثرة الكراهية و الغضب، فإن الإنسان إذا غضب غضبا شديدا توجه الدم الكثير نحو خارج بدنه، يحمل معه الروح، لدفع ذلك المكروه، و حيث أن جلد الوجه رقيق تظهر آثار الدم المتراكم عليه، و لون الدم لدى التراكم مائل إلى السواد وَ هُوَ كَظِيمٌ أي ممتلئ غيظا و غضبا، لكنه يكظم غيضه، لما لا يجد له منفذا.

______________________________

(1) يونس: 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 229

[سورة النحل (16): الآيات 59 الى 60]

يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

[60] يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يستتر من أهله و عشيرته حياء و خجلا مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من ولادة البنت له، و يأخذ يتفكر في أمر البنت أَ يُمْسِكُهُ أي هل يبقي المولود- البنت- عَلى هُونٍ أي ذل و هوان، لنفسه، أو للبنت أَمْ يَدُسُّهُ أي يدفن المولود- البنت- حيا فِي التُّرابِ فقد كانوا يدفنون البنات و يقولون نعم الصهر القبر، و لهم في ذلك قضايا، و إليه الإشارة بقوله سبحانه: (وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) «1» أَلا فلينتبه السامع ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس الحكم حكم هؤلاء بأن لله البنات- التي يكرهونها هذه الكراهية الشديدة- و لهم البنين- وحدهم لا يشركهم فيهم اللّه سبحانه- كيف اختاروا له الشي ء القبيح- في نظرهم- و لهم الأفضل؟

[61] لقد كان الكفار

يجعلون اللّه سبحانه مثلا للشخص القبيح- في نظرهم- فهو أب البنات، و يجعلون أنفسهم مثلا للشخص الحسن، فهم آباء البنين، و لكن الواقع بخلاف ذلك و لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و هم المشركون الذين لا يؤمنون بالتوحيد- للتلازم بينهما- و قد كان عدم إيمانهم بالجزاء على أعمالهم السيئة و أقوالهم القبيحة جرأتهم على ما يقولون و ينسبون إليه سبحانه من اتخاذ البنات مَثَلُ السَّوْءِ فإن الإنسان السي ء عقيدة و عملا يمثل له بالمثل السيئ فيقال عن اليهود-

______________________________

(1) التكوير: 9 و 10.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 230

[سورة النحل (16): آية 61]

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (61)

مثلا-: كمثل الحمار، و عن بلعم: كمثل الكلب وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى كالنور، في (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ) «1» فإن أعلى الأمثلة الخيّرة الجميلة له سبحانه، لأنه المنزّه عن كل دنس وَ هُوَ الْعَزِيزُ القاهر الغالب الذي لا يمتنع عليه شي ء الْحَكِيمُ في أفعاله، فعدم أخذه لهؤلاء الكفار عاجلا، إنما هو بمقتضى الحكمة، لا لأنه عاجز لا يقدر.

[62] إن اللّه سبحانه بحكمته يمهل العاصين لعلهم يرجعوا، و من علم أنه لا يرجع فإنه يمهله ليتم عليه الحجّة و يأتي الوقت المحدّد له حسب الحكمة البالغة وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ بأنواع العقاب النَّاسَ العاصين بسبب ظلمهم بالكفر و العصيان ما تَرَكَ عَلَيْها أي على الأرض- المعلوم من السياق- مِنْ دَابَّةٍ تدب إما هلاك الإنسان فلأنه ظلم و إجرام، و إما هلاك سائر الدواب فلأنها خلقت لأجل الإنسان «كما

في الحديث القدسي: خلقت الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلي»

فإذا هلك الأصل هلك الفرع، أو

المراد بالدابة «الإنسان الظالم» و التعبير ب «ما» عنهم للإهانة، و العموم المقصود هو الإنسان- على هذا- لأنه هو محور الكلام، و من القاعدة أن العموم ينصب على المحور، فإذا قال الصياد: ليس في هذه الصحراء شي ء، أراد ما يصاد- لا الحطب- بخلاف ما لو قال الحطّاب: ليس فيها شي ء، فإنه يريد الحطب- لا الصيد- وَ لكِنْ لا يؤاخذهم سبحانه بأعمالهم

______________________________

(1) النور: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 231

[سورة النحل (16): آية 62]

وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

الظالمة بل يُؤَخِّرُهُمْ أي يؤخر إهلاكهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد سمّي عنده، أي يمهلهم إلى وقت سماه و أجل حدّه، و هو الوقت المضروب لهلاكهم و موتهم.

فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي وقت هلاكهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً لا يطلبون التأخير- لعلمهم بأنه لا يفيد- و المراد بالساعة، المدة من الزمان قليلة كانت أم كثيرة وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ لا يطلبون تقديمه، فإن كان وقت هلاكهم الساعة الرابعة فجاء أجلهم ليصل إليهم في ذلك الوقت، لا يتقدم بأن يميتهم في الساعة الثالثة، و لا يتأخّر بأن يميتهم في الساعة الخامسة- و قد مرّ تفسير هذه الآية سابقا.

[63] وَ يَجْعَلُونَ أي يجعل هؤلاء المشركين لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ كالبنات و الشركاء و أمثال ذلك مما يكرهونه هم بأنفسهم، فقد كانوا يكرهون البنات و يكرهون الشركاء وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي تخبر ألسنتهم بالكذب، في نسبة الحسن- أي البنين- إلى أنفسهم، و إنما قال «و تصف ألسنتهم» للإشارة إلى أن وصفهم لفظي لا عمقي فهم لا يعتقدون بذلك عن صميم القلب و إنما ذلك لفظ يقولونه- تقليدا و بلا

حجة- أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى هذا بدل عن «الكذب» أي أن قولهم لنا الصفة الحسنى- و ذلك أن لنا البنين- كذب و صفته ألسنتهم. و كان تسمية ذلك و صفا باعتبار أنهم كانوا يقولون أن اللّه أب البنات، و نحن آباء البنين، فقد كانوا يصفونه سبحانه بما هو قبيح لديهم، و يصفون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 232

[سورة النحل (16): آية 63]

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)

أنفسهم بصفة هي حسنة لديهم، و إنما ذكر ذلك بعد ما سبق من قوله سبحانه «وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ» لأمرين:

الأول: إن هذا عام يشمل البنات و غيرها.

و الثاني: لترتيب الحكم عليهم بالنار لمقالتهم هذه- هنا- لا جَرَمَ أي حقا، و من هذه الجهة- و قد تقدم تفصيل هذه الكلمة- أَنَّ لَهُمُ النَّارَ جزاء لقولهم ذلك و نسبتهم إليه سبحانه ما لا يليق به وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي معجّلون إلى النار، يلاقونها سريعا، من الفرط بمعنى ما يسبق،

ففي الدعاء على الطفل الميت: «اللهم اجعله لأبويه و لنا سلفا و فرطا و أجرا»

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إني فرطكم على الحوض» «1»

[64] و القوم ليسوا بأول أمة كذّبت و عصت، فقد كانت عادة الأمم السالفة أن تكفر و تأثم- و كان هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما يلاقيه من تكذيبهم و أذاهم- تَاللَّهِ التاء للقسم، و هي كثيرة الإتيان في الأمر المستغرب لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه فخالفوا الرسل و لم يطيعوا و زين لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فكان الكفر و الانحراف في نظرهم أحسن

من الإيمان و الاستقامة، فتركوا الرسل و اتبعوا الشيطان فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي أن الشيطان متولي أمورهم و هم يتبعونه الْيَوْمَ في الدنيا وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 109.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 233

[سورة النحل (16): الآيات 64 الى 65]

وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

الآخرة، و يتبرأ كل من الشيطان و تلك الأمم بعضهم من بعضهم إذ يقول لهم (فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) «1» و قوله «اليوم» و قد انقضى ذلك اليوم- إذ الكلام حول الأمم السالفة- من باب حكاية حال ماضية، نحو (وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) «2» [65] و هناك تلبيسات من الشيطان و اتباع له، منهم المشركون الذين جعلوا لله البنات، و منهم أهل الكتاب الذين ضلوا، فإنزال هذا الكتاب للفصل بين قضاياهم و بين الحق من الاختلافات، هل هو مع إحداها أو مخالف للجميع؟ وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ أي القرآن إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ أي للناس- المفهوم من السياق- الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فمثلا اختلفوا في التوحيد و الشرك، و كون اللّه أبا أم لا، و إنه جسم أم ليس بجسم، و إن الشي ء الفلاني حرام أم حلال؟ و هكذا وَ هُدىً أي أن القرآن يهديهم إلى الحق، بالاضافة إلى بيان الحق من الاختلافات وَ رَحْمَةً سببا للرحمة فإن من تمسك بالقرآن رحمه اللّه سبحانه و تفضل عليه بالغفران و النعمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

فإنهم هم المستفيدون، و إن كان فيه صلاحية الهداية و الرحمة لكل البشر.

[66] ثم يرجع السياق إلى تعداد نعم اللّه الدالة على وجوده و علمه و قدرته و لطفه و سائر صفاته وَ اللَّهُ وحده أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من جهة العلو

______________________________

(1) إبراهيم: 23.

(2) الكهف: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 234

[سورة النحل (16): آية 66]

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66)

ماءً أي المطر فَأَحْيا بِهِ أي بذلك الماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فإنّ موت الأرض جدبها و عدم النبات و حياتها الخصب و النبات، و إنما سميت حياة لأن الأرض عند نزول المطر تشتغل و تعمل و هما من آثار الحياة بخلاف الأرض حين انقطاع المطر فهي جامدة راكدة إِنَّ فِي ذلِكَ الإحياء بعد الموت لَآيَةً حجة و برهانا لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم و تعقل، فإن السماع كثيرا ما يكون كناية عن ذلك، بعلاقة السبب و المسبب.

[67] وَ إِنَّ لَكُمْ أيها البشر فِي الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم لَعِبْرَةً أي عظة و اعتبار كأن الإنسان يعبر من الجهل و الضلالة- بسببها- إلى العلم و الهدى، كالذي يعبر من هذا الشاطئ إلى ذاك، و إنما كانت عبرة لأنها تدل على قدرة اللّه و بديع صنعه نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي بطن كل واحد منها، فإنه يجوز إرجاع ضمير المفرد إلى الجمع، باعتبار كل واحد، كما قال سبحانه: (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) «1» مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ هو المدفوع للحيوان وَ دَمٍ فإن الغذاء إذا دخل الجسم تحول إلى سائل غليظ أو رقيق في المعدة، ثم تشرب الكبد صفوه و تبقى في

الكرش ثقله، ثم إن الكبد تحوّل الصفو إلى الدم و هو يصعد إلى الجسم كله ليغذيه و يصير بدل ما يتحلّل من الأجزاء- بفعل

______________________________

(1) البقرة: 260.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 235

[سورة النحل (16): الآيات 67 الى 68]

وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (68)

الحرارة الخارجية و الداخلية- و إذا وصل الدم إلى غدد اللبن في الضرع تحوّل إلى اللبن لَبَناً خالِصاً عما سواه فليس مخلوطا بشي ء من فرث أو دم فقد تخلص اللبن من الفرث أولا، و من الدم ثانيا، فهو خارج من بينهما سائِغاً يسوغه الإنسان، فلا يؤذي الحلق و الحنجرة لِلشَّارِبِينَ فهل هناك غيره سبحانه يعمل هذا؟

[68] وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ أي من كل واحد من تلك الثمرات- على ما تقدم في الآية السابقة- سَكَراً أي خلا- كما في بعض التفاسير- وَ رِزْقاً حَسَناً فمن جعل الثمرة؟ و من جعلها بحيث تتقبل أي تحوّل خلّا، أو طعاما حسنا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً دلالة على وجوده سبحانه و صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يعملون عقولهم ليدركوا الحقائق و ينتقلوا من الأثر إلى المؤثر.

[69] و من آياته سبحانه، العسل بتلك الكيفية العجيبة التي ينتجه النحل وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي ألهمها إلهاما خفيا، فإن اللّه سبحانه هو الذي جعل الحيوانات تشعر بما عندها من الشعور و الإدراك أَنِ اتَّخِذِي و إنما أنث لأنه للجنس مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فإن بعضها تتخذ بيتها في الجبل وَ مِنَ الشَّجَرِ و بعضها تتخذ بيتها من

الشجر وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ أي يجعلونه عريشا كالكروم و السقوف، و ذلك لأن النحل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 236

[سورة النحل (16): آية 69]

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

تتخذ في الأعالي بيتها ليسهل لها المراودة إليها، و يكون أبعد عن تناول العابثين.

[70] ثُمَّ كُلِي يا أيتها النحل، أصله «أكل» حذفت الهمزة تخفيفا، و كذا «مر» من «أمر» مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ النقية، من أي نوع منها شئت فَاسْلُكِي في ذهابك إلى الثمار و رجوعك إلى بيتك سُبُلَ رَبِّكِ الطرق التي جعلها اللّه سبحانه في الهواء و هذا للإشارة إلى المنظر الجميل الذي يولده ذهاب النحل و إيابها، فيراها الإنسان ذاهبة عائدة لتصنع العسل فيعطف قلبه و تتأثر بالحنان أعصابه ذُلُلًا جمع ذليل، أي مذللة موطئة هيّنة، و هي حال عن السبل، أي الطرق في حال كونها مذللة يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها أي بطون النحل شَرابٌ طيب، هو العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فمنه شديد البياض، و منه أصفر، و منه مائل إلى الحمرة فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ فإن العسل ينفع من الأمراض الباردة، فليس المراد أنه شفاء لجميع الأمراض، و إنما هو من قبيل القضايا الطبيعية، كقولك الشي ء الفلاني مليّن لا تريد أنه في كل مزاج و طبع و حالة، بل تريد أن طبيعته كذلك.

إِنَّ فِي ذلِكَ الشأن المتعلق بالنحل، من صنع بيوتها بتلك الهندسة المسدسة، و ذهابها و إيابها و شربها رحيق الأزهار، و إعطائها العسل الملوّن الشافي لَآيَةً دلالة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الآثار و يستدلون بها على وجود المؤثر و علمه و قدرته و سائر صفاته، و قد

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 237

[سورة النحل (16): آية 70]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

أردف سبحانه في هذه الآيات نعما جميلة متشابهة في كونها عصيرة الأشياء فالمطر عصير السحاب، و اللبن عصير الفرث و الدم، و السكر و الرزق الحسن عصير الثمار و الأشجار، و العسل عصير النحل، و قد هيأ اللّه سبحانه هذه الأرزاق الطيبة النظيفة للإنسان، من السماء و الأرض، و الجبال و الأشجار، و الطيور و البهائم، ليشكر الإنسان و يعرف باريه.

[71] و قد جعل اللّه لكم حياة و رزقا، و أزواجا، بعد تلك النعم السابقة، فهل تؤمنون بعد ذلك بالباطل (أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) «1»؟ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ أيها البشر ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ يميتكم، فحياتكم و موتكم منه وَ مِنْكُمْ أيها البشر مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أخسه و أحقره و هو الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان العقل و القوة، فينحرف، و لعل تسميته «ردّا» لأنه ارتداد إلى حالة الصغر فيعود كما كان لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام للعاقبة، أي عاقبة الردة عدم علمه بشي ء لأنه خرف و ذهب عقله، بعد أن كان عالما، يعلم الأشياء، و يعرف الأمور إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمصالح عباده و لذا يفعل بهم هذه الأحوال قَدِيرٌ على ما يشاء من تدبير أمورهم و إماتتهم بعد إحيائهم، و لعل الإتيان بهذه الصفة «و منكم ...» لكسر كبرياء الإنسان و أن يتذكر ما يصيبه بعد القوة و العلم، من الضعف و الجهل، لعلّه يتوب و يئوب ... كما إن نفس تلك الحالة مما تقرب الإنسان إلى الطاعة فقد تحطمت فيه

الشهوات،

______________________________

(1) العنكبوت: 68.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 238

[سورة النحل (16): آية 71]

وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

و لم يبق منه إلا قلب خافق ضعيف يتأثر سريعا، و يئوب بعد ما عمل المعاصي و الآثام.

[72] وَ اللَّهُ سبحانه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ إن الحي- الذي أشير إليه في الآية السابقة يحتاج إلى الرزق- و نرى أن الأرزاق مختلفة، فمن جعل هذا التفاضل؟ إنه اللّه سبحانه، و لماذا جعل؟

ذلك لإدارة شؤون الكون فلو لا هذا التفاضل من كان يقوم بالأعمال الخدمية من تنظيف و تصنيع و هكذا؟ و لو لا الأغنياء من كان يزرع الأراضي الشاسعة لتخزين الحنطة و الشعير و سائر المآكل و من كان يجلب الأجناس من البلاد النائية؟ و قد افتكر الجهّال أن يهدموا نظام اللّه سبحانه في التفاضل، فأولدوا- الشيوعية- لكنهم باءوا بالفشل أوّلا- حيث إن المجتمع عاد إلى طبقتين أيضا: الأغنياء و الفقراء، فالأغنياء هم الحزب، و الفقراء هم سائر الناس، و قد أضيف إلى التجار قوة الدولة ليستنزفوا حتى الحبة الأخيرة من كيس الفقير، و لذا يعيش الناس في بلاد الشيوعيين في أتعس حالة، و ذلك ليس من جهة عدم تطبيق النظام، بل من جهة غلطية النظام، و تردّوا إلى الحضيض ثانيا- فلم يكن الإنسان يسمح بأن يعمل ليأكل ثمر عمله غيره، و لذا لجأ التجار الجدد إلى الظلم و الجبر- الديكتاتورية- فاضطهد الشعب، و لم ينتج ذلك عن عمله بكل قواه فتأخر الاقتصاد.

و أقل نظرة إلى البلاد المختلفة في النظام الشيوعي و غير الشيوعي- مع حفظ نسبة كبر

الدولة، عند المقارنة- كاف لإدراك هذه الحقيقة المرة، و الإسلام كما لا يرتضي الشيوعية لكونها خطأ، لا يرتضي الرأسمالية لكونها خطأ أيضا، و إنما له نظام خاص لا كهذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 239

و لا كتلك، و المقصود هنا الإشارة إلى أن التفاضل موجود لا محالة حتى عند من يزعم الشيوع و الاشتراك، و إن العمل لأجل إزالته خطأ يعود بأفظع الجرائم و بلا فائدة .. و المراد بالرزق جميع أنواع الاحتياج من مأكل و ملبس و مسكن و غيرها فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا فضلهم اللّه سبحانه بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أي لا يرد المثري رزقه على عبيده حتى يكون هو و إياهم سواء، فهل وجدت أحدا فعل ذلك؟ و إذ لا يرد المثري رزقه على عبيده حتى يتساوون فكيف تجعلون مخلوقات اللّه سبحانه- و هي الأصنام- متساوية له في العبادة و الطاعة؟ إن من لا يستعد أن يكون هو و عبيده متساويين في الرزق، كيف يجوز أن يكون الخالق و المخلوق متساويين في الألوهية؟ قال ابن عباس: يقول: إذا لم ترضوا أن تجعلوا عبيدكم شركاءكم فكيف جعلتهم عيسى إلها معه و هو عبده؟ و نزلت في نصارى نجران ... و «رادّي» من ردّ، اسم فاعل حذف علامة الجمع و هو «النون» للإضافة، و على متعلق ب «رادّي» أي لا يردون على ما ملكت أيمانهم- و هم العبيد- حتى ينتج ذلك أن يكونوا سواء، و لذا جي ء ب «فاء» العطف أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ استفهام إنكاري أي هل يجحد هؤلاء نعمة اللّه على البشر حتى يجعلوا عبيده أمثاله؟ أم لا يجحدون النعمة فكيف يجعلون المنعم و المنعم عليه سواء

في الألوهية، و هم لا يرضون التساوي في المال بين السادة و العبيد؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 240

[سورة النحل (16): الآيات 72 الى 73]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ (73)

[73] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنس أنفسكم أَزْواجاً فليست النساء من جنس آخر، و هذا فضلان، الأول جعل الأزواج، و الثاني كونهن من نفس الجنس، لأن الإنسان بجنسه آلف، و لنوعه أميل، قال الشاعر «كل جنس لجنسه يألف» وَ جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ تأنسون بهم، و يكونون عونا لكم، و سببا لامتدادكم في الحياة وَ حَفَدَةً جمع حفيد، و هم أبناء البنات و أبناء البنين، أو الخدم و من يشبهه، أو الأعم منهما، لأن معنى الحافد المسرع إلى الخدمة، فإن كان المراد الأول كان عطفا على البنين، و إن كان غيره كان عطفا في المعنى، أي جعل لكم حفدة وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الأشياء الطيبة من اللذائذ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ استفهام إنكاري أي كيف يؤمن الكفار بالباطل و هو الأصنام وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ فإن كفران النعمة أن يعبد الإنسان غير رازقه، و المتفضل عليه، كأن يأخذ الأجر من زيد و يعمل لخالد.

[74] ثم بين سبحانه، كيف أنهم يؤمنون بالباطل وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه سبحانه ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً فإن الأصنام لا تملك و لا تقدر أن ترزق أحدا مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ

شَيْئاً متعلق به «رزقا» أي لا تملك رزقا من السماء، كالمطر، و لا من الأرض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 241

[سورة النحل (16): الآيات 74 الى 75]

فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)

كالثمر، و شيئا بيان لرزقا، أي لا يملك أيّ شي ء من رزق السماء و الأرض وَ لا يَسْتَطِيعُونَ أن يملكوه، لأن الملك بيده سبحانه.

[75] فَلا تَضْرِبُوا أيها الناس لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي الأشباه، و هي الأصنام، فقد كانوا يجعلونها أشباها لله في الألوهية، و يضربون لله المثل بها، فإنك إذا جعلت خالدا قرين زيد، ضربت المثل لزيد بخالد، فقلت، إن شخصا كزيد، و هو خالد يفعل كذا، أو لا يفعل كذا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أن لا مثل له، و لا إله سواه، وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بعدم المثل له، لأنهم ما كانوا يتفكرون، و إلا فلو تفكروا لعلموا ذلك.

[76] و إذ تقدم المثال بالعبيد و السادة في قوله «فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا» يأتي السياق ليبين هذا المثل، بوجه آخر فيقول سبحانه ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشركين في اتخاذهم الأصنام شركاء لله سبحانه و إنما بيّن هذا المثل، ليقيسوا عليه أمر الألوهية، فيدركوا خطأ جعلهم الشركاء، فإن الإنسان، ليعرف بالمثل ما لا يعرفه بالبراهين و الأدلة عَبْداً مَمْلُوكاً عطف بيان على المثل لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ مما يقدر عليه السادة من الأخذ و العطاء، و سائر التصرفات، و هنا تنبيه لا بد من الإشارة إليه، و هو أنه إذا وقعت حرب

بين المسلمين و غيرهم- و الحرب لا تكون طبعا من جانب المسلمين تعديا- كما قرر في محله، قرر الإسلام أخذ الأسرى، ثم التفدية و الاسترقاق، فالاسترقاق، إنما ينشأ من المتعدين في الحروب، و هذا يبقى رقّا هو و عقبه ما لم يتحرر- و التحرر له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 242

أسباب كثيرة، اضطرارية أو اختيارية، مما لا يبقى العقب رقا غالبا- و قد جعل الإسلام هذا النظام مراعاة لمصالح شتى، منها أن لا يرهق كاهل الدولة بالمساجين، و منها أن يكون الأسراء موزعين حتى يذوب الكفر و الباطل شيئا فشيئا، و يتعلموا معالم الإسلام، بطبيعة كونهم في بيوت المسلمين و تحت رقابتهم و معاشرتهم، و منها أن لا يتجرأ الكفار على المحاربة و الاعتداء لأن الناس مستعدون للسجن، و لا يستعدون للاسترقاق، و منها توسعة البلاد، و اختلاط الأمم في بوتقة واحدة، و تقدم الحياة و منها غير ذلك، .. و هذا النظام أفضل بكثير من نظام الدول في أسرى الحرب إيجابيا و سلبيا، ثم الرق محترم معال، من قبل مولاه، و إذا صار في شدة أعتقه الإسلام من بيت المال، كما قال سبحانه (وَ فِي الرِّقابِ) «1» و مثل هذا النظام من أصح الأنظمة، إلا أن الرقيق لما كان في الغرب كان بغير هذا الشكل، بل بشكل مزري فظيع- في جميع موارده و مصادره- جاء «لنكولن» ليحرر العبيد و أخذ بعض المسلمين المنهزمين- امام التيار الغربي- هذا التحرر شيئا بديعا، فجعلوا يرددونه من غير وعي و إدراك، حتى أن جماعة من المتنورين، قالوا إن الإسلام أراد تحرير العبيد تدريجيا و لكن الظروف لم تسمح له، تمشيا مع خطة «إذابة الإسلام في بوتقة الغرب»

كما صنعوا بأحكام كثيرة هذا العمل المشين، و لذا كان من اللازم أن نقول: إن النظام الإسلامي في الرقيق، و في غيره، باق على حاله، و لم يتبدل من الإسلام شي ء أبدا و من يريد التبدل، فهو بين جاهل بالأنظمة الإسلامية و فلسفتها و جمال أحكامها أو معاند، و من يفعل ذلك، فقد أخذ معول

______________________________

(1) البقرة: 178.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 243

[سورة النحل (16): آية 76]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

الهدم لجميع أحكام الإسلام، إذ لو فتح هذا الباب في حكمه، لكان منفتحا في كل حكم، فما الفارق؟ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً و هم السادة الذين رزقهم الله رزقا حسنا، بلا وساطة سيد فإن الرزق كلما كان أقل واسطة كان أهنأ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً لأنه مالك لا يخشى أحدا، و ليس عليه رقيب فيما يعطيه هَلْ يَسْتَوُونَ أولئك العبيد، و هؤلاء السادة؟ و إنما أتى بصيغة الجمع لأن المراد ب «عبدا» و «من» الجنس؟ و إذا كان الجواب، أنهما لا يتساويان قيل لهم: فكيف تساوون بين الله المالك، و بين الأصنام المملوكة؟ فتعبدون كليهما على حد سواء، و تجعلون للأصنام، ما للإله من الألوهية و الربوبية؟

الْحَمْدُ لِلَّهِ وحده لا شريك له، و ليس حمد لغيره فإنه الإله الواحد المستحق للحمد، دون سواه، بَلْ أَكْثَرُهُمْ و هم المشركون لا يَعْلَمُونَ هذه الحقيقة، و هي أن الحمد له وحده و لا يستحق ما سواه الحمد.

[77] وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا آخر لبيان عدم

استواء الله سبحانه بالأصنام، ليعرف المشركون من المثل خطأ طريقتهم الاشتراكية رَجُلَيْنِ بدل مثلا أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا ينطق لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ من التفهيم، و التفهم، لأنه عاجز عن الكلام- و الغالب أن الأبكم أصم- وَ هُوَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 244

[سورة النحل (16): آية 77]

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (77)

أي هذا الرجل الأبكم كَلٌ أي ثقل و وبال، يقال كلّ عن الأمر، إذا ثقل عليه عَلى مَوْلاهُ وليه المتولي لأموره أَيْنَما يُوَجِّهْهُ مولاه لا يَأْتِ الأبكم بِخَيْرٍ فلا منفعة لمولاه فيه، فإنه أينما يبعثه لقضاء حاجة من حوائجه، لا يقدر على قضائها إذ لا يتمكن على التفهيم، و التفهم و هما عماد قضاء الحوائج هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي هذا الأبكم الذي صفته ذلك وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فهو ذو كلام واضح و بالإضافة إلى ذلك يأمر بالحق و العدل فهو كامل في ذاته، مكمل لغيره، مقابل الأبكم الذي لم يكن كاملا لذاته و لا قادرا على قضاء الحوائج ليكمل نواقص غيره وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريق سوّي لا ينحرف كما ينحرف الأبكم لعدم تفهمه عن الناس، ليمشي مستقيما، بل يمشي حسب جهله فيضل و ينحرف؟؟ و بالطبع يكون الجواب: كلا، إنهما لا يتساويان، و هنا يأتي التقريع فكيف تساوون مع الله الأصنام، و النسبة بينهما أبعد من النسبة بين الأبكم و الناطق؟

[78] وَ إذ قد تحقق أنه لا شركة في الألوهية، و إنه لا إله إلا إله واحد، فلنعلم أن لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فما غاب عن الحواس، لعدم وجوده أو لوجوده، و

لكن الإنسان لا يدركه لضعف حواسه، إن جميع ذلك لله، فإنه القادر على إيجادها، كما أنه هو القادر على الموجود فيها بالتصرف في شؤونها، و هي تحت سلطة الله سبحانه، و يعلم جميع مزاياها، فهو إله واحد مالك عالم، و أمر الآخرة بيده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 245

[سورة النحل (16): آية 78]

وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ أي ساعة الحشر و وقت القيامة، أمره و إيجاده، و إنفاذه إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ فهو في مثل هذا الوقت القليل يأتي به إن شاء، و اللمح هو الطرف أَوْ هُوَ أَقْرَبُ من ذلك، و الترديد للإيضاح في التشبيه، فإذا قلت: زيد كالأسد احتمل في القوة، أو في القتل، أو في الشجاعة، فاذا قلت: أو هو أشجع أفاد إنك قصدت الشجاعة، ثم أن لمح البصر لا بد له من زمان، و الأقرب منه أن يكون زمانه نصف ذلك الزمان، و نحوه إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و من قدرته يأتي بالساعة في أي وقت شاء، سريعا بدون حاجة إلى تعب و تهيئة مقدمات، فليخضع الإنسان لهذا الإله المالك، العالم، الذي بيده الجزاء و الحساب و لا يجعل له شريكا.

[79] ثم يرجع السياق، ليعدد جملة أخرى من النعم، و كان الفصل بين كل جملة و جملة بأمور مرتبطة خارجة عن صميم النعم، للايقاظ و التفنن، كما هو أسلوب البلغاء في الكلام، فإن الكلام ذا الوقع الواحد، يوجب الكلل و الملل وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ أيها البشر مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فمن يا ترى، يقدر على هذا الإخراج بالأجهزة و اللوازم التي جعلها

في داخل الرحم إلى فم المخرج؟ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً فإن الإنسان جاهل محض عند الولادة وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ السمع يراد به الجنس، و الاختلاف بين الألفاظ بالجمع و المفرد للتفنن، و الأفئدة جمع فؤاد و هو القلب، أي أنه تفضل عليكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 246

[سورة النحل (16): الآيات 79 الى 80]

أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (80)

بالحواس لتستقوا بها المعلومات، و بالقلب لتعوا الأشياء لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لكي تشكروا نعمه سبحانه.

[80] أَ لَمْ يَرَوْا ألم ينظروا و يتدبروا إِلَى الطَّيْرِ المراد به الجنس و لذا جي ء له بالحال جمعا، مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ إنه تشبيه بالشي ء المسخر الذي يجي ء و يذهب لمصلحة الذي سخره فإن الإنسان يرى الطير يجي ء و يذهب و يعلوا و يسف في وسط السماء، و المراد بها جهة العلو ما يُمْسِكُهُنَ أي ما يحفظهن من السقوط على الأرض إِلَّا اللَّهُ سبحانه، بما جعل في الكون من نواميس، ففي داخل الطير ناموس، و في الهواء ناموس، يتعاونان على تحليق الطائر، فمن جعل هذه النواميس غيره سبحانه؟ إِنَّ فِي ذلِكَ الإمساك لئلا يسقط لَآياتٍ دلالات على عظيم القدرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه، أما غير المؤمن فإنه لا يتفكر حتى تنفعه الآيات فتخصيص المؤمنين، لأنهم المنتفعون بهذه الآيات.

[81] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً محلا للسكنى و الاطمئنان، فجعل الأرض بحيث

تقبل السكنى، و تهيئة المجتمع بحيث يكون الإنسان في محله مطمئنا، نعمتان عظيمتان، و الذين عندهم علم الجيولوجيا يقولون: إن الإنسان لا يتمكن من الاستقرار هناك- لعدم الجاذبية- و المشردون الذين لا مأوى لهم، يطمئنون فيه، يعلمون قدر هذه النعمة العظيمة، و قد تبادر إلى الذهن من هذه البيوت، الأبنية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 247

[سورة النحل (16): آية 81]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)

وَ هناك قسم آخر من البيوت، فإنه سبحانه قد جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ إما المراد الجلد بالذات، أو الأعم منه و من الشعر، فإن الشعر أيضا «من جلد» بُيُوتاً هي الخباء تَسْتَخِفُّونَها تطلبون خفتها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي وقت ارتحالكم من مكان إلى مكان من ضعن بمعنى ارتحل وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ في مكان، فإنها سهلة النصب و التقويض فإن أهل الصحراء يطلبون الماء و المرعى فينزلون هنا و هناك، و هذه الأخبية سهلة لهم في النصب و الطي و الحمل وَ جعل لكم مِنْ أَصْوافِها أي صوف الأنعام و هي للضأن وَ أَوْبارِها جمع وبر، و هو للإبل وَ أَشْعارِها جمع شعر، و هو للماعز أَثاثاً و هو كل ما يفرش و يلبس، و يستعمل في مثل هذه الشؤون وَ مَتاعاً آلة للتمتع بالبيع و الشراء و سائر الشؤون التي لا تسمى «أثاثا» إِلى حِينٍ إلى مدة من الزمان، فإن هذه تبقى مدة و ليست تفنى سريعا.

[82] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي أشياء تستظلون بها في الحر و البرد، فمن

جعل الأبنية و الأشجار بحيث يمنع الشمس عن النفوذ فيها، فلو كانت جميعها كالزجاج، كان الإنسان يتأثر و يتأذى من حر الشمس وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً جمع «كن» أي مواضع تسكنون بها من كهوف و بيوت تنحتون من الجبال للمسكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 248

[سورة النحل (16): الآيات 82 الى 83]

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)

وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع سربال، و هو اللباس، كالقميص و نحوه تَقِيكُمُ من وقي يقي بمعنى حفظ، أي تحفظكم تلك الألبسة من الْحَرَّ كما تقيكم من البرد، و ذكر «الحر» من باب المثال، كما تقول اقرأ «قل هو اللّه» أو قل «بسم اللّه» تريد جمع السورة و الآية، و لعل تخصيص الحر بالذكر دون البرد، لأن الحر هو الشائع عند أهل الحجاز، فبلادهم بلاد حارة وَ جعل لكم سَرابِيلَ تَقِيكُمُ أي تحفظكم من بَأْسَكُمْ أي الحروب، كالدروع و نحوها، فمن يا ترى خلق القطن و الكتان و الحرير و الصوف، ليستعملها الإنسان في سرباله؟

و من يا ترى خلق الحديد و جعله خاضعا للنار، حتى تصنع منه الدروع، و نحوها؟ إنه هو اللّه وحده لا شريك له كَذلِكَ أي كما جعل لكم هذه الأشياء يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بأن يتفضل عليكم في سائر حوائجكم التي هي لا تدخل تحت الإحصاء- في مختلف دروب الحياة المعقدة- لَعَلَّكُمْ لكي تُسْلِمُونَ للّه سبحانه، و تخضعون لإرادته.

[83] فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن التسليم للّه سبحانه فلا يضرك يا رسول اللّه ذلك، إذ إنما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ الواضح، و قد فعلت ذلك.

[84] إن الكفار لا ينكرون ما ينكرون لجهلهم و عدم معرفتهم و

إنما يجحدون اللّه و آياته، تعنتا و عنادا إنهم يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ الدالة على وجوده،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 249

[سورة النحل (16): الآيات 84 الى 85]

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)

و سائر صفاته ثُمَّ يُنْكِرُونَها أي ينكرون كونها من اللّه سبحانه، و يتخذون الكفر و الشرك طريقة لأنفسهم وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ و إنما جعل الكفر لأكثرهم، لأن منهم من لم تتم عليه الحجة، فقوله «يعرفون» بهذه القرينة صفة لمن قامت لديه الحجة لا لجميعهم.

[85] ثم يرجع السياق إلى موقف الكفار يوم القيامة وَ اذكر يا رسول اللّه يَوْمَ نَبْعَثُ أي نحضر للشهادة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد على الكفار بأنهم كفروا و أشركوا و عصوا، و لعل المراد بالشهداء- هنا- النبيون بقرينة أنه لكل أمة شهيد و ما سيأتي من إشهاد الرسول على الكفار في زمانه، و هناك الشهيد يتكلم بما علم من أعمال القوم و معتقداتهم، و يظن الكفار أنهم كالدنيا يتمكنون من المغالطة و التهريج، ليبرءوا ساحتهم و لكن ليس هناك كذلك ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الكلام و الدفاع، في هذا الموقف، فإن للقيامة مواقف، لكل موقف شأن، و لفظة «ثم» للترتيب في الكلام، لا في الخارج- كما قرر في الأدب- وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يقال استعتب زيد، أي أرضي من العتبى بمعنى الرضا، أي لا يسترضون و لا يستصلحون، كما كان يفعل بهم في الدنيا فليس هناك أحد يقول لهم: أرضوا ربكم بإطاعة أوامره، إذ ليست الآخرة دار تكليف.

[86] و في ساحة القيامة يرى

الكفار العذاب، و قد جرت العادة في الدنيا أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 299

[سورة النحل (16): آية 86]

وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86)

أهل السجن لما يرون السجن يستنقذون بالناس، و كثيرا ما يوجد من ينقذهم، و لكن الآخرة ليست كذلك وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم، أو غيرهم بالكفر و المعاصي الْعَذابَ المهيئ لهم فاستنقذوا لم يفدهم ذلك، فإنه لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ العذاب تخفيفا في الكم و الزمان، أو الكيف و المقدار وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون، كما كان المجرم في الدنيا يمهل و يؤجل أمره بالوسائط و نحوها، حتى يجد مخرجا.

[87] و هناك في ساحة المحشر، يرى المشركون بعض الآلهة التي كانوا يعبدونها و يشركون باللّه بسببها، كالمسيح عليه السّلام، و الملائكة، و علي عليه السّلام وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه شُرَكاءَهُمْ أي الشركاء الذين زعموا أنهم شركاء للّه، و هنا يضاف الشركاء إليهم، لا إلى اللّه سبحانه قالُوا أي المشركون مشيرين، إلى الشركاء يا رَبَّنا هؤُلاءِ الذين في ساحة المحشر شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا في الدنيا نَدْعُوا هم مِنْ دُونِكَ و كأنهم يريدون بذلك تخفيف الأمر على أنفسهم، ليأتوا بعنصر جديد في معرض المحاكمة، فإن المجرم المراوغ دائما يأتي بعنصر جديد في المحاكمة، ليصرف وجوه الناس إليه، و ليتحمّل معه شيئا من ثقل المحكمة، و عند ذاك يفزع الشركاء من هذه المفاجئة المدهشة فَأَلْقَوْا أي الشركاء إِلَيْهِمُ إلى المشركين الْقَوْلَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 251

[سورة النحل (16): الآيات 87 الى 89]

وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ

ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

يلقون إليهم هذا الكلام قائلين: إِنَّكُمْ أيها المشركون لَكاذِبُونَ فلم يكن للّه شريك و لا يرتبط الأمر بنا.

[88] وَ أَلْقَوْا المشركون إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ في يوم القيامة السَّلَمَ أي الاستسلام و الخضوع، فقد كانوا في الدنيا يتكبرون على اللّه، و ينفرون من أوامره، و يحاربونه، أما في ذلك اليوم، فإنهم مستسلمون، لم يجدوا نصيرا و لا ظهيرا وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فقد ذهبت افتراءاتهم أدراج الرياح، و لم يجدوا في آلهتهم المزعومة من يشفع لهم.

[89] و هنا يأتي دور العذاب بعد أن تمت الحجة، و قد هي ء لهولاء عذاب مع عذاب الَّذِينَ كَفَرُوا فلم يؤمنوا وَ صَدُّوا أي منعوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بأن صرفوهم عن الإيمان به سبحانه زِدْناهُمْ عَذاباً ثانيا لإضلالهم فَوْقَ الْعَذابِ الأول المتهيئ لهم لضلالهم بسبب ما كانُوا يُفْسِدُونَ في الأرض، بالصد عن سبيل اللّه.

[90] تقدم أن على كل أمة شهيد، و هنا يأتي الكلام ليبين أن الشهداء من أنفس الناس، بالإضافة إلى الملائكة الشهود و أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشهد على أمته، تخصيصا، لبيان موقفه مع الكافرين الذين أعرضوا عن الإيمان به، و فيه تسلية له، و تهديد لهم أن خصمكم غدا يكون صاحب الفضل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 252

[سورة النحل (16): آية 90]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ

إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

فيكم فاحذروه وَ اذكر يا رسول اللّه يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فإن الصالحين من كل أمة، يشهدون على الطالحين بالكفر و الشرك و الفسق و العصيان وَ جِئْنا بِكَ يا رسول اللّه شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ القوم المعاصرون لك، وَ هناك لا حجة لقومك، فقد نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن تِبْياناً بيانا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فلا مجال لهم، لأن يقولوا ما عرفنا، و ما علمنا، و المراد ب «كل شي ء» الأمور العامة التي يحتاج إليها الإنسان في أمر دينه و دنياه، فقد اشتمل القرآن الحكيم على الخطوط العامة للمبدأ و المعاد و النظام العام للدنيا السعيدة وَ هُدىً أي هداية عن الضلال وَ رَحْمَةً أي سبب تفضل و ترحم فإن من اتبع القرآن رحمه اللّه سبحانه، و تفضل عليه وَ بُشْرى بشارة لسعادة الدنيا و الآخرة لِلْمُسْلِمِينَ الذين آمنوا بك و أسلموا للّه سبحانه و لأوامره.

[91] ثم يأتي السياق، لبيان بعض ما في الكتب من الهدى و الرحمة و البشرى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ بأن يعدل الناس في سلوكهم، فلا يجوروا و لا يظلموا، من غير فرق بين أفراد الإنسان فإن كل إنسان لا بد له من عمل لنفسه و لغيره، و هو إما عادل في عمله، أو منحرف وَ الْإِحْسانِ و هو فوق العدل، فإهدائك إلى من أهدى إليك عدل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 253

[سورة النحل (16): آية 91]

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)

و إلى من لم

يهد إليك إحسان، و هكذا وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء الأقرباء حقوقهم، و هذا عام بالنسبة إلى كل أحد، و خاص بالنسبة إلى أقرباء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هم أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، فإنه سبحانه أمر بمودتهم و صلتهم

و قد قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما، لن تضلوا من بعدي أبدا»

«1» وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي الخلة الفاحشة، و هي ما كان متفاحش القبح مجاوزة كالزنا و نحوه وَ الْمُنْكَرِ و هو كل معصية، و إن لم تكن فاحشة، كترك جواب المسلم، و إنما ذكر الفحشاء مع دخوله في المنكر، لأهميته وَ الْبَغْيِ أي الظلم و ذكره لأهميته أيضا يَعِظُكُمْ اللّه أيها البشر، فإن أوامره و نواهيه لخيركم و صلاحكم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لكي تتفكروا، فتذكروا ما أودع في فطرتكم من حسن تلك الأشياء، و قبح هذه الأشياء.

[92] وَ أَوْفُوا أيها الناس بِعَهْدِ اللَّهِ فإن المعاهدة مع أيّ شخص كان، عهد للّه حيث أمر اللّه بوفائه إِذا عاهَدْتُمْ أو المراد إذا قال الإنسان عليه عهد للّه أن يفعل كذا، لزم عليه أن يفعل وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ جمع يمين و هي الحلف، أي لا تتركوا متعلقها بَعْدَ تَوْكِيدِها بعد ما

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 150.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 254

[سورة النحل (16): آية 92]

وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

أكدتم لها بذكر اللّه، فإن الإنسان، قد يحلف بدون ذكر اسم اللّه، كأن يقول «أحلف أن أفعل كذا» و قد يؤكدها بقوله «أحلف باللّه أن أفعل كذا» و هذا يحرم نقضه وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ في عهودكم و أيمانكم كَفِيلًا إذ تسمية اللّه معناها أنه سبحانه كفيل بإنجاز هذا الوعد و الإتيان بمتعلق القسم، فلا تخالفوا بعد ذلك ف إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من نقض العهد و اليمين، فيجازيكم على فعلكم السيئ.

[93] إن الوفاء بالعهد من أكثر الأمور تأكيدا لدى الإسلام، سواء كان العهد مع اللّه أو مع رسوله، أو مع الأئمة، أو مع سائر الناس، و لذا لا يترك هذا الحكم سبحانه إلا و يؤكده بضرب المثل، ليكون أوقع في النفس، و يتعاون العقل و العاطفة في إنفاذه وَ لا تَكُونُوا أيها الناس في نقض الأيمان و العهود كالمرأة التي نَقَضَتْ غَزْلَها و فلّته مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ بأن غزلت ثم نقضت بعد تكرار و فشل و شدة، قالوا: فقد كانت امرأة تسمى ريطة من تميم، و كانت حمقاء، فإذا أصبحت أخذت هي و جيرانها تغزل إلى انتصاف النهار، ثم هي تنقض غزلها و تأمرهن أن ينقضن ما غزلن و لا يزال هذا دأبها، فإن الرجل الذي ينقض العهد و اليمين، يكون كتلك المرأة، في أنه بعد إبرام العهد، ينقضه أَنْكاثاً جمع «نكث» و هو الغزل من الصوف و الشعر ببرم ثم ينكث و ينقض ليغزل ثانية، و لقد كان بعض المعاهدين مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينقضون عهدهم معهم، بحجة أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه قلة ضعيفة، و

أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 255

قريش، و سائر الكفار كثرة قوية، و لكن هذا المبرر من عموم لا وجه له، و إلا فما فائدة العهود و الأيمان؟ تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ أي لا تكونوا بحيث تتخذون عهودكم و حلفكم دَخَلًا أي خدعة و مكرا، فإن أصل الدخل ما أدخل في الشي ء على وجه الفساد بَيْنَكُمْ فإن اليمين دخلت بين الطائفتين على وجه الفساد، لأنها تسبب أن يتنازل جانب- و هم المسلمون- عن بعض منافعهم مراعاة لليمين و العهد بينهم و بين الكافرين، بينما أن الجانب الثاني- و هم الكفار- لا يتنازلون على شي ء من شؤونهم، فهم ما داموا يرون ضعف أنفسهم عن مقاومة المسلمين يحتمون باليمين، فإذا رأوا أنفسهم أقوياء نقضوها، ليكونوا على المسلمين و هذا بخلاف العهد من الإنسان الوفي، فإنه دخل بين الطرفين على وجه الصلاح، و إذ يعطي الطرفين الأمن و الطمأنينة و إنما كان الكفار ينقضون العهد حيث أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ «أربى» أفعل من الربا، و هو الزيادة، و منه الربا في المعاملة، أي لا تتخذوا الأيمان دخلا بسبب كون أمة أكثر عددا و قوة من أمة، و الحاصل، لا تنكثوا أيمانكم، في حال كونكم اتخذتموها خديعة تريدون بالنكث الوصول مع أمة أخرى هي أكثر عددا من الأمة الأولى التي كانت طرف عهدكم إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ أي يفعل بكم فعل المختبر بِهِ أي تكون أمة أربى من أمة، ليظهر مدى وفائكم بالعهد، فإن الوفاء بالعهود لا تظهر قيمته فيما كان الأمر على قدم المساواة مع طرف المعاهدة و غيرهم، و إنما تظهر القيمة فيما كان الميزان غير معتدل، و تكون الأمة غير المعاهد معها، أقوى من المعاهد

معها، هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 256

[سورة النحل (16): الآيات 93 الى 94]

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)

وظيفتكم أيها المعاهدون، أما الجانبان المتخالفان الذين عاهدتم مع أحدهما، فإن الفصل بينهم سيكون في يوم القيامة، بعد أن لم يرضخ أحدهما للحق الذي يراه في جانب خصمه، وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيانا يعقبه الجزاء ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أو أن المراد لزوم وفاء المعاهد بعهده، و إن رأى أنه على خلاف مع من عاهد معه، فإن وظيفته الوفاء، أما التخالف بينهما، فإنه سيفصل يوم القيامة، و هذا أظهر باعتبار الخطاب في «لكم».

[94] إن الخلاف لا بد و أن يفصل في الآخرة، أما في الدنيا، فإن الطبيعة البشرية ركبت بحيث لا تتفق، فبعض يختار الضلال، و بعض يختار الهدى وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أن يجبركم جميعا على الهداية لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ذات دين واحد، و طريقة واحدة، و لكنه لا يشاء ذلك، لأنه يبطل الثواب و العقاب و المدح و الذم و إنما أراد سبحانه أن تكونوا مختارين وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ أي يتركه حتى يضل بعد أن أراه الطريق، فلم يسلكه، كالملك الذي يترك المدينة العاصية، حتى تفعل ما تشاء من الاجرام و القتل و السفك، بعد أن بيّن لهم القوانين فلم يتبعوها وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالألطاف الخفية، بعد أن أراهم الطريق فسلكوها وَ لَتُسْئَلُنَ أيها البشر ضالكم و مهديكم عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

من الخير و الشر و الهدى و الضلال.

[95] ثم يمضي السياق يؤكد على الوفاء بالأيمان- و اليمين و العهد يطلق كل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 257

واحد منهما على الآخر- وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ غشا و خدعة تريدون بذلك انتهاز المنافع و اهتبال الفرص، فتعاهدون هذا لتأمنوا جانبه، فإذا رأيتم عدم أمنكم من جهة أخرى، نقضتم هذا العهد، لتعاهدوا ذلك الجانب الثاني، فقد صارت الأيمان داخلة بينكم للإفساد، لأن الجانب المقابل يركن إليها، فلا يستعد، و ذلك موجب لاضمحلاله و انهياره فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فإن العهد قد أثبت القدم إذا صار كل جانب مطمئن الخاطر مرتاح البال، لا يهمه من جانب صاحبه شي ء أما إذا نقض العهد كان النقض زلّة للقدم، فلا اطمئنان، و ذلك يوجب زعزعة الحياة السعيدة، و ارتفاع الثقة بين الناس في معاملاتهم و معاهداتهم وَ تَذُوقُوا السُّوءَ و بال نقض أيمانكم في الدنيا و الآخرة بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بسبب صدكم عن طريقه سبحانه، فإن الوفاء بالعهد طريقه الذي جعله للسعادة و الطمأنينة فالنقص صاد عن هذا الطريق، لأنه يجرّئ الناس على مثل عمله، و لا يكون حينئذ اطمئنان من أحد على أحد وَ لَكُمْ بالإضافة إلى ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، و ما ورد من كون الآيات في علي عليه السّلام بالنسبة إلى قصة الغدير، فإن ذلك بيان لمصداق ظاهر من مصاديق الآية، و إلا فالحكم عام، و العلة مستوعبة، و لا يظن الناقض، أنه ربح، حيث اختار الربح على الوفاء، فإنه إذا راج النقيض سيأتي يوم ينقض عليه، و هو خسران، فأضاع بذلك شرف المعاهدة و لحقه الخسر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص:

258

[سورة النحل (16): الآيات 95 الى 96]

وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)

الذي فر منه، و هكذا جميع أحكامه سبحانه، فإن من تخلف عنها للذة أو منفعة، كيل له الصاع صاعين.

[96] وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا بأن تنقضوا عهدكم مع غيركم، لثمن قليل، و منفعة ضئيلة، فإن عهدا بينكم هو عند اللّه، و من خالفه لأجل مصلحة، فإنه إنما باع عهد اللّه و اشترى تلك المصلحة التي مهما عظمت فإنها قليلة بالنسبة إلى الأجر و المصلحة المترتبين على الوفاء بالعهد- عهد اللّه- إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ مما أعده لمن و في بالعهد هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك الثمن القليل، و تلك المصلحة التي تترتب على نقض العهد فيما بينكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كان لكم علم.

[97] ما عِنْدَكُمْ أيها البشر يَنْفَدُ يتم و يخلص، و لنفرض أنكم حصلتم من وراء نقضكم للعهد على ملك الدنيا، فإنه فإن زائل وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من الأجر و الثواب المترتب على الوفاء بالعهد باقٍ أبد الآبدين وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا فيما أمرناهم به، و بالأخص بقواعد عهودهم، و إن أوجب ذلك ذهاب مصالح كثيرة من أيديهم أَجْرَهُمْ و ثواب بقائهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فلا نعطيهم جزاء أعمالهم السيئة، و إنما جزاء أعمالهم الحسنة، التي هي أحسن أعمالهم، ليس ذلك في الآخرة، فحسب، بل في الدنيا أيضا، و إنا لنرى الإمام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 259

[سورة النحل (16): آية 97]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى

وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)

المرتضى عليه السّلام حين قيل له في الشورى: نبايعك على كتاب اللّه، و سنة رسوله، و سيرة الشيخين، رفض الأخير من الفقرات الثلاث، و لم ينل الإمبراطورية الإسلامية، لأجل هذا الرفض، و قبل عثمان الثلاث، لكنه خالف، فقد حمد الإمام في الدنيا لصبره، بما نرى إلى اليوم، أما عثمان، فكان جزاؤه في نقضه للعهد، ما رأينا إلى هذا اليوم، و ثم قيل للإمام إن إبقاء معاوية لأيام قلائل، يمهد له الإمبراطورية الهادئة، لكن الإمام رفض، و معاوية عثر و اهتبل، فما مصيره في الدنيا، إلا اللعن و العار، بينما مصير الإمام الصابر ما نراه، و في الإسلام أمثلة كثيرة ترشد إلى مصير الوفي الصابر، و إن رفّت ألوية الغادر المستعجل أياما، قال الشاعر:

للمتقين من الدنيا عواقبهاو إن تعجّل فيها الظالم الآثم

[98] و ليس الجزاء الأحسن خاصا بمن و في بعهده و صبر، بل كل من عمل صالحا، فإن له نفس ذلك الجزاء الأحسن مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً لا يشوبه فساد و باطل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تأكيد حتى يشمل الحكم، لكلا الصنفين، و لا يتوهم أنه خاص بالذكور وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فإن الإيمان شرط قبول الأعمال فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فإن الحياة الطيبة، إنما تهيئ باتباع منهاج اللّه سبحانه، فإذا عمل الجميع بذلك المنهاج، صارت الحياة كلها بردا و سلاما، أما إذا عمل البعض، فهو يستفيد من طيب الحياة بقدر عمله، و لنأخذ أن الحياة الطيبة ترتكز على الفضيلة و الأمن و الغنى، فإذا عمل صار من نصيب كل واحد تلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 260

الحياة، أما إذا عمل البعض،

كانت له فضيلة الاطمئنان القلبي، و فضيلة القناعة، و فضيلة الأخلاق الطيبة و ما إليها، و إن تكدرت حياته، بما يتوجه إليه من غيره، من الاضراب و الفقر الذين أحدثهما غيره، ممن لا يسير على منهاج اللّه سبحانه، نعم لو لم يعمل صالحا، فقد- مع فقد الأمن و الغنى- الفضيلة أيضا، فلا اطمئنان له و هو ضجر من الحياة، سيئ الخلق، و هكذا وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أي نعطيهم أَجْرَهُمْ في الدنيا و الآخرة بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ كما مرّ، فإن الدنيا كالآخرة تظهر فيها نتائج الأعمال، فمن أهان الناس أهين، و من احترمهم احترم، و على هذا المنوال من أكل كثيرا أتخم، و من أكل قليلا سلم، و من اقتصد لم يفتقر، و من أسرف تمسكن.

ورد أن رجلا من حضر موت، يقال له عبدان الأشرع، قال: يا رسول اللّه، إن امرئ القيس الكندي، جاورني في أرض، فاقتطع من أرضي، فذهب بها مني، و القوم يعلمون إني لصادق، و لكنه أكرم عليهم مني، فسأل رسول اللّه امرء القيس عنه؟ فقال: لا أدري ما يقول، فأمره أن يحلف، فقال عبدان: إنه فاجر لا يبالي أن يحلف، فقال: إن لم يكن لك شهود، فخذ بيمينه، فلما قام ليحلف أنظره، فانصرفا، فنزل قوله: (وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ) «1» الآيتان، فلما قرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال امرئ القيس: أما ما عندي فينفد، و هو صادق فيما يقول، لقد اقتطعت أرضه، و لم أدر كم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء، و مثلها معها، بما أكلت من ثمرها، فنزل فيه، و من عمل صالحا الآية.

______________________________

(1) النحل: 96.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 261

[سورة النحل (16):

الآيات 98 الى 100]

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

[99] و إذ تقدم الكلام حول الهدى و الضلال، و الرسول و المرسل إليه يتكلم السياق حول الكتاب الذي نزل على الرسول ليبين شيئا من آدابه، و عن أقوال المشركين حوله، و قد مرّ أن هذه السورة تعالج جوانب العقيدة و المبدأ و المعاد فَإِذا قَرَأْتَ يا رسول اللّه أو أيها القارئ الْقُرْآنَ و المراد إذا أردت قراءة القرآن، و قد تقدم أن كلا من الفعل و الإرادة يستعمل في معنى الآخر فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي الجأ إليه مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي المطرود، الذي يرمى إليه باللعن، كما يرجم الزاني بالحجارة، و إنما استحبت الاستعاذة، ليسلم الإنسان في التلاوة من الغلط، الذي يلقيه الشيطان في فم التالي.

[100] إِنَّهُ يعني الشيطان لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أي تسلط و قدرة عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بالله وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أمورهم، فإن الشيطان يطرد من عند المؤمن، و في الأحاديث، إن الملائكة تطرده، فمن استعاذ بالله حفظه سبحانه من شره.

[101] إِنَّما سُلْطانُهُ أي تسلط الشيطان عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي يطيعونه، و يقبلون أوامره، فإنه مسلط عليهم، موجه لهم سبل الغي و الضلال وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بسبب الشيطان مُشْرِكُونَ فالمنحرف في العقيدة بالشرك، و المنحرف بالعمل بإتيان المعاصي، يتسلط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 262

[سورة النحل (16): آية 101]

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)

عليهما الشيطان، و يستدرجهم في المعصية و الكفر،

حتى يأتيهم الموت، و هم بتلك الحالة، و من أظهر مصاديق «من به مشرك» الطائفة التي تعبد الشيطان و تتخذه إلها.

[102] وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بأن نسخنا حكما، كان في الشريعة السابقة، و أتينا بحكم آخر مكانه، لأنه أصلح لهذه الأمة من ذلك الحكم المنسوخ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ لأنه يعلم المصالح الكامنة في الأحكام، و إن لكل حكم ظرفا خاصا، و لذا يبدل حكما إلى حكم، كما قال سبحانه (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) «1» قالُوا أي قال الكفار إِنَّما أَنْتَ يا محمد مُفْتَرٍ تفتري على اللّه، فكيف أنه نسخ الحكم السابق، و قد حاجّ بعضهم الرسول قائلا: إن كان الحكم الأول صالحا، كان الحكم الثاني فاسدا، فكيف يأمر اللّه بالفساد؟ و إذا كان الحكم الثاني صالحا، فكيف أمر اللّه سبحانه بالحكم الأول؟ و الجواب واضح، فإن الأحكام كالأدوية، فكما لا يصلح أن يقال للطبيب، لماذا بدلت الدواء؟ كذلك لا يصلح أن يقال للرسول ذلك، إن البشرية ترقّت في زمن الرسول، و استعدت لإعطاء النسخة الأخيرة من الأحكام، كالطالب الذي يدرس في الثانوية، ما لا يدرس في الابتدائية، ثم أن قولهم «إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» كان مطلقا، و تخصيصه بهذه الحالة- أي حالة تبديل الآية- لأنهم كانوا يهرجون عند ذلك أكثر، و يستدلون به على أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مفتر على

______________________________

(1) البقرة: 107.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 263

[سورة النحل (16): الآيات 102 الى 103]

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي

يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

اللّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ و لا يدركون المصالح و المفاسد، أي لست مفتريا، و إنما هذا القول ناشئ عن جهل أكثرهم، و تخصيص الأكثر لأن جماعة منهم كانوا يعلمون- كما قال سبحانه: (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) «1»-، و إنما يخفون عنادا و حسدا.

[103] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الذين يقولون أنت مفتر نَزَّلَهُ أي نزل الناسخ، أو نزل القرآن رُوحُ الْقُدُسِ و المراد به جبرئيل عليه السّلام لأنه بمنزلة الروح للنزاهة، كأن النزاهة و القداسة جسم، و جبرئيل عليه السّلام روحها مِنْ رَبِّكَ إنزالا بِالْحَقِ فلم يكن الإنزال من الشياطين- كما كان يزعم بعضهم- و لا بالباطل، فإن الكلام قد يكون حقا مطابقا للواقع، و لكن قوله و إنزاله باطل، كما كان يقول الخوارج «لا حكم إلا لله» فإنها كلمة حق، لكن قولهم لها في مورد التحكيم كان باطلا، و القرآن هو حق بذاته، و إنزاله أيضا بالحق لِيُثَبِّتَ بالقرآن الَّذِينَ آمَنُوا به على إيمانهم وَ هُدىً أي أن القرآن هداية للناس نحو السبيل الصحيح وَ بُشْرى أي بشارة بما يسعدهم في الدنيا و الآخرة لِلْمُسْلِمِينَ أما غيرهم، فإن القرآن ينذرهم بالنار و الجحيم لا بالجنة و النعيم.

[104] لقد كان المشركون يرمون القرآن بكل ما يأتي في مخيلتهم، قاصدين

______________________________

(1) البقرة: 147.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 264

[سورة النحل (16): آية 104]

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

الانتقاص منه، و إنزال مرتبته لدى الجهّال، فكانوا يقولون أنه كلام الرسول، أساطير الأولين، سحر، كهانة، شعر، كلام الشياطين، إلى غيرها، و من جملة ما يقولون ما حكى سبحانه هنا وَ لَقَدْ

نَعْلَمُ قد للتحقيق، و إن كان دخل على المستقبل، كما يأتي كثيرا لذلك، و يحتمل أن يكون بمعنى التقليل، و هذا يكون شبه التهديد، حتى لا يستريح المجرم، كما تقول لولدك يمكن أن أفهم ما تعمله في الخفاء أَنَّهُمْ أي الكفار يَقُولُونَ على القرآن إِنَّما يُعَلِّمُهُ أي يعلم الرسول بالقرآن، بَشَرٌ هو أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي، كان أعجمي اللسان، و كان قد اتبع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آمن به، و كان من أهل الكتاب، فقالت قريش هذا و اللّه يعلم محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد رد سبحانه مقالة هؤلاء الكفار بقوله لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ من ألحد، بمعنى أمال، و منه «اللحد» لميله، و «الملحد» لأنه مائل عن الحق، أي أن لسان الرجل الذي ينسبون القرآن إليه أَعْجَمِيٌ لا يفصح، و الفرق بين الأعجمي و العجمي، إن الأول لمن لا يفصح، و لو كان عربيا، و الثاني، لمن ليس بعربي، و إن كان فصيحا وَ هذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ واضح، و إذا كانت فصحاء قريش، عاجزين عن الإتيان بمثله فصاحة و جمالا، فهل يقدر إنسان أعجمي عن الإتيان بمثله؟ لكن المعاند لا يسمع الحجة، و إنما يريد الطعن.

[105] ثم يسلى سبحانه نبيه، عن هذا الوحي الظالم، بقوله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 265

[سورة النحل (16): الآيات 105 الى 106]

إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

بِآياتِ اللَّهِ بعد ما أتم اللّه الحجة عليهم، بإراءتهم الطريق لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يلطف بهم الألطاف التي يلطف بها على المؤمنين، فهو يجازيهم بجزاء أعمالهم، بقطع اللطف عنهم، بينما يسبغه على سائر المؤمنين وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم موجع، أما في الآخرة فظاهر، و أما في الدنيا، فهم يحترقون بنيران الحسد و الحقد، و عيشهم ضنك، و لا اطمئنان لقلوبهم.

[106] إنهم كانوا ينسبون الرسول إلى الافتراء، بينما الافتراء من شأنهم، فغير المؤمن بالله الذي لا يرى تبعة لأعماله هو الذي يفتري، أما المؤمن، فإنه نزيه عن الافتراء، فكيف بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الافتراء أصله من باب «فرى» بمعنى قطع، فكأن المفتري قطع شيئا من الباطل ليريه بصورة الحق، و لذا يصح إسناده إلى الكذب، أي يقطع الكذب الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ و المعاد، و لا يخافون الجزاء و الحساب، وَ أُولئِكَ الذين لا يؤمنون هُمُ الْكاذِبُونَ فالكذب منحصر فيهم، لا إنك كاذب- كما يقولون-.

[107] و في سياق الحديث عن الكفار، يذكر سبحانه ما أعدّ لهم من غضب اللّه، و العذاب العظيم مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ بعد أن ذاق حلاوة الإيمان، و عرف الحق من الباطل، و هذا مبتدأ خبره «فعليهم»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 266

[سورة النحل (16): آية 107]

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107)

و قد استثنى من هذه الجملة استثناء، كما أوضح الكافر من بعد الإيمان بتوضيح، فالأول قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ بأن أكرهه الكفار على أن يتكلم بالكفر، فأظهر الكفر تقية، كما قال سبحانه (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) «1» وَ الحال أن

قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فلم يرتد، و إن أظهر اللفظ فقط، و إنما جي ء بهذا الحال، لأن بعض الناس، يدخلون في أمر إكراها، لكنهم بعد ذلك يذعنون له إذعانا، فليس المستثنى من «كفر بعد إيمانه» مثل هذا، و إنما من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان، و الثاني قوله وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي أن المراد ب «من كفر» من اتسع قلبه للكفر مقابل من ضاق صدره- و قد مرّ سابقا أنه كيف يضيق الصدر- أما شرحه و اتساعه، فإن الإنسان إذا ارتاح إلى شي ء، فإنه يهدأ جسمه و يخف دمه، فيكون انتشار رئته أقل، و لذا يحس بنوع من التوسع في صدره فَعَلَيْهِمْ خبر «من» و جاء «الفاء» في الخبر، لأن المبتدأ في معنى الشرط غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ يعامل معهم معاملة الغضبان، و هي تركهم، و عدم الاهتمام بشأنهم وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ و هو عذاب النار، التي لا زوال لها، و لا اضمحلال.

[108] و إنما عليهم الغضب و لهم العذاب ذلِكَ بسبب أنهم اسْتَحَبُّوا أي آثروا و قدموا، و طلبوا حب الْحَياةَ الدُّنْيا و التلذذ

______________________________

(1) آل عمران: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 267

[سورة النحل (16): آية 108]

أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108)

بنعيمها الفاني الزائل المكدّر عَلَى الْآخِرَةِ الباقية الصافية وَ ب أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فإنه سبحانه لما رأى إعراضهم، لم يهدهم بألطافه الخفية، فصاروا من الأشقياء باستمرارهم في الكفر و الفساد حتى استحقوا الغضب و العذاب.

و قد ورد أن سبب نزول «إلا من أكره» هو عمار بن ياسر «رضي اللّه عنه» و قصته على ما ذكروا أن قريشا أكرهوه، كما

أكرهوا أباه ياسر، و أمه سمية على الارتداد، فأبى أبواه، فقتلوهما شر قتلة- و هما أول شهيدين في الإسلام- و أما عمار فإنه أعطاهم بلسانه ما أرادوا- مكرها- فجاء البعض إلى الرسول قائلين. إن عمارا قد كفر فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلا إن عمارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه، فأتى عمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يبكي فجعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمسح عينيه، قائلا:

مالك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت

«1»، و

ورد أيضا أن قوله «و لكن من شرح» نزل في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، من بني عامر بن لؤي «2»

[109] أُولئِكَ الذين شرحوا بالكفر صدرا من الذين كفروا بعد إيمانهم، هم الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلا يفقهون وَ على سَمْعِهِمْ فلا يحلو كلام الحق في آذانهم وَ على أَبْصارِهِمْ فلا ينظرون

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 203.

(2) نفس المصدر السابق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 268

[سورة النحل (16): الآيات 109 الى 110]

لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

إلى الحق بنظر كونه حقا، و إنما بنظر الإهانة و الاحتقار، فإنهم لما أعرضوا عن الهدى الذي أراهم اللّه سبحانه إياه تركهم، حتى يكون طابعهم الكفر في حواسهم الباطنة و الظاهرة، و هكذا يهوي الإنسان إلى الدركات، كما يترقى إلى الدرجات، و بلوغ الأمرين، اتباع هذا السبيل، أو ذاك السبيل وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ إنهم نزلوا منزلة الغافلين، و

إنهم لم يكونوا بغافلين عن المبدأ و المعاد، و لوازمهما لأن التارك للأثر ينزل منزلة الجاهل و الغافل، فإذا رأى زيد الأسد المقبل، فلم يفر، يقال عنه، أنه جاهل، أو غافل عن وجود الأسد، و إلا لماذا لم يفر؟

[110] لا جَرَمَ أي حقا- و قد تقدم تفسيره- أَنَّهُمْ أي هؤلاء الذين كفروا بالله، شارحين بالكفر صدرا فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم، و كل شي ء يتعلق بهم، بينما ربح المؤمنون أنفسهم و الجنة.

[111] أما من أكره، و قلبه مطمئن بالإيمان ثُمَ للتراخي في اللفظ، أو المراد التراخي في الزمان إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ هاجَرُوا معك إلى المدينة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا عن دينهم و أكرهوا، حتى نالوا بلسانهم ما أراد الكفار ثُمَّ جاهَدُوا بعد ما هاجروا مع الرسول وَ صَبَرُوا على تعب الجهاد، و على مكاره الأيام الواردة على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 269

[سورة النحل (16): آية 111]

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)

المسلمين إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه مِنْ بَعْدِها أي بعد تلك الفتنة لَغَفُورٌ يغفر ذنبهم رَحِيمٌ يرحمهم و يتفضل عليهم، إن عملهم ذلك، لم يكن موجبا للعصيان، لكن حيث أن كون الفتنة تؤدي ببعض الناس حتى يرتدوا حقيقة، كان ظهور الغفران و الرحمة، إنما هو بعد الهجرة و الجهاد و الصبر، و كثيرا ما يطلق الفعل على ظهوره، يقال:

كفر فلان، أي أظهر كفره و إن كان كافرا قلبا قبل ذلك، و في بعض التفاسير، إن هذه الآية نزلت بالنسبة إلى من فتنوا من ضعفاء الإيمان، الذين فتنوا حقيقة، و كفروا قلبا و لفظا، ثم رجعوا إلى

الإسلام و حسن إيمانهم، فإن قبول توبتهم كان مشروطا بالهجرة و الجهاد و الصبر، و قد أكد «من بعد» لتقرير ذلك.

[112] و إذ ذكر عقاب الكافرين، و ثواب المؤمنين، جاء السياق ليبين وقت الجزاء، فاذكر يا رسول اللّه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ صالحا كان أم طالحا، و هو يوم القيامة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها أي تخاصم الحكام و الشهود و تباحث معهم حول شخصها، فيقول الكفار (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1» و يقول الاتباع (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) «2» و يقولون (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا) «3» إلى غير ذلك وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ

______________________________

(1) الأنعام: 24.

(2) الأعراف: 39.

(3) الأحزاب: 68.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 270

[سورة النحل (16): آية 112]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)

أي تعطى جزاء أعمالها وافيا غير منقوص، خيرا كان عملها أم شرا وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ في الجزاء، بأن يعاقب البري ء، أو يزاد على عقاب المجرم، أو ينقص من أجر المحسن.

[113] إن الكفار في الآخرة، يجزون جزاء كفرهم، فهل الدنيا تمر عليهم بسلام؟ كلا! فإن اللّه سبحانه، جعل الكون، و قرر فيه مناهج، ثم أرشد إلى تلك المناهج على لسان الأنبياء، فمن أطاع سعد، إذ هو يمشي على المنهاج الكوني فلا يصطدم، و من عصى اصطدم بالمنهاج و صارت عاقبته الدمار، كمن يخالف أمر الطبيب فإنه يشتد به المرض حتى يهلك، و قد سبق أن ضرب اللّه سبحانه مثلين للشركاء، و هنا مثل ثالث للبلدة التي تطغى و تخالف أمر ربها وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لكل

قوم أنعم اللّه عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا بها، فأنزل اللّه بهم نقمته قَرْيَةً أي مدينة، فإن القرية تطلق على المدينة، كما قال: (وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ) «1» (مِنْ قَرْيَتِكَ) «2» كانَتْ تلك القرية آمِنَةً يعيش أهلها في أمن مُطْمَئِنَّةً من جهة معيشتها، فهي ساكنة هادئة لا يحتاج أهلها إلى التحول و الانتقال يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً أي واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فإن القرية، إذا سكنت و هدأت حسن زرعها و تجارتها، فالأرزاق تأتيها من أطرافها القريبة و البعيدة، فَكَفَرَتْ أي تلك

______________________________

(1) الكهف: 60.

(2) محمد: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 271

[سورة النحل (16): الآيات 113 الى 114]

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

القرية، و المراد أهلها بعلاقة الحال و المحل بِأَنْعُمِ اللَّهِ فلم يؤدوا شكرها، فإن شكر النعم الإطاعة و الإيمان، فإذا كفروا و عصوا كان كفرانا للنعمة فَأَذاقَهَا اللَّهُ أي أذاق سبحانه تلك القرية لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ أي أخذهم بالجوع، فذهب رزقهم، و بالخوف فذهب أمنهم بِما كانُوا يَصْنَعُونَ أي بسبب صنيعهم الكفر و الطغيان، و قد كان التعبير باللباس بليغا جدا حيث دل على أن الخوف و الجوع شمل جميع البدن، لا البطن و القلب فقط، للدلالة على كثرة الأمرين، فإن الإنسان إذا جاع كثيرا ظهر الهزال في جميع جسده، و إذا خاف كثيرا ظهر أثر الخوف الذي هو الانكماش للجلد، و الاصفرار على جميع البدن، و قد قال سبحانه «أذاقها» فليس مجرد إمساس، بل ذوق، فإنه أعمق تأثيرا عن الإمساس، و لقد كان هذا المثل منطبقا على مكة تماما، حيث كفر

أهلها بعد ذلك الأمن و الرفاه.

[114] وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي جاء أهل مكة، و قد كان من أنفسهم فَكَذَّبُوهُ و لم يؤمنوا به و برسالته فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ بالجوع و الخوف وَ هُمْ ظالِمُونَ فلم يكن تعذيبهم ظلما منه سبحانه، بل ذلك جزاء أعمالهم و ظلمهم أنفسهم و غيرهم.

[115] و حيث عرفتم أيها الناس جزاء الكفران، فلا تتركوا الشكر و الإيمان، إن أردتم دوام النعم فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الأطعمة المحللة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 272

[سورة النحل (16): آية 115]

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

حَلالًا شرعا طَيِّباً طبا و مذاقا، فإن كل حلال طيب، و كل طيب حلال، و «كلوا» أمر بمعنى الإباحة وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ بالإيمان و الإطاعة، فإنك إذا أنعم عليك زيد ثم أنكرت وجوده أو خالفت أوامره كنت معرضا نفسك لسخطه إذ كفرت بنعمته إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ أي اللّه سبحانه تَعْبُدُونَ أما من لا يعبد الإله فالأمر بإقامته على الإيمان، و أن يشكر إحسانه تعالى، عبث، إذ من لا يقبل الأصل لا يقبل الفرع، فليس مفهوم الآية، لا تشكروا إن لم تعبدوه، فإنه سالبة بانتفاء الموضوع حينئذ.

[116] و حيث أباح سبحانه المحللات الطيبات، ذكر سبحانه المحرمات، ليتميز بعضها من بعض، و هذا في قبال ما كانوا يحرصون، من البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، لأن الحصر حقيقي، حتى يقال ما بال بعض الأشياء لم تذكر هنا و قد تقرر في البلاغة، أن الحصر إضافي إذا كان في قبال

شي ء، فإذا قيل لك: أن في الدار ملكين، تقول ليس فيها إلا ملك واحد، تريد أنه ليس فيها ملك ثان، لا أنه ليس فيها أحد غير الملك فإن هذا الحصر لا ينافي وجود العشرات من الناس فيها إِنَّما حَرَّمَ اللّه عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ التي ماتت حتف أنفها وَ الدَّمَ غير المتخلف في الأجزاء المحللة وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ و سائر أشيائه، كالشحم و اللبن و نحوهما، و هذه الثلاثة حرمت لما يوجب من الضرر البالغ على الجسم وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي سمي غير اسم اللّه عند

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 273

[سورة النحل (16): آية 116]

وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116)

ذبحه، فإن الكفار كانوا يسمون الأصنام لدى ذبحهم للذبائح- و قد تقدم تفصيل ذلك- و هنا إنما حرّم، لأنه يوذي العقيدة، و كذا نرى في الإسلام أن الأحكام تشرّع لصيانة العقيدة، كما تشرع لصيانه الجسم، فالبول نجس لضرره، و الكافر نجس لأنه يضر العقيدة، و هكذا فَمَنِ اضْطُرَّ أي تناول هذه المحرمات غَيْرَ باغٍ أي لم يكن طالبا له، حتى أوقع نفسه فيه، بل اضطراره صار صدفة وَ لا عادٍ أي غير متعد لحد الاضطرار، كأن يكون مضطرا إلى نصف رطل، فيأكل رطلا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر هذا العمل القبيح في نفسه- و إن لم تكن معصية- رَحِيمٌ يرحم المتناول، و يتفضل عليه من إحسانه، و غالبا يأتي وصف «رحيم» بعد «غفور» للدلالة على أنه سبحانه ليس كالبشر منتهى عطفهم و لطفهم أن يغمضوا عن المجرم، فإنه بالإضافة إلى العفو عنه يتفضل عليه.

[117] و إذ

تبين الحلال من الحرام، فما بال بعض الناس يتصرفون في هذه الأحكام حسب أهوائهم بلا حجة أو برهان؟ وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ أيها الناس الْكَذِبَ مفعول تصف مصداق ل «ما» أي لا تقول للكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ فإن الواقع يوصف بالصدق و الكذب، فإذا قلت: زيد قائم، و صفت الخارج بأنه قيام زيد، فإن كان مطابقا للخارج كان صدقا، و إلا كان كذبا، و الحاصل لا تقولوا لما حللتموه بأنفسكم مثل الميتة هذا حلال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 274

[سورة النحل (16): الآيات 117 الى 118]

مَتاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

و لما حرمتموه مثل السائبة، هذا حرام لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي لتكذبوا على اللّه في إضافة التحريم إليه، اللام للعاقبة أي نتيجة تحليلكم و تحريمكم، و عاقبة الافتراء على اللّه، بمعنى أن هذا العمل، لا يكون إلا افتراء إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ لا يفوزون بالجنان، إذ مصيرهم إلى النار.

[118] إنما الدنيا التي يكذبون لأجلها مَتاعٌ قَلِيلٌ أي هي شي ء ينتفعون به، و يتمتعون منه في أيام قلائل وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع يوم القيامة، و أي عاقل يشتري العذاب الأليم، لمتاع قليل؟

[119] و هنا يتساءل الإنسان، كيف أن بعض الأشياء محرمة على اليهود، و هي طيبات، و قد سبق أن الطيبات محللة؟ و الجواب، أن التحريم عليهم كان لحكمة خارجية، و هي أنهم ظلموا، و إذا حرّم سبحانه بعض الطيبات كما تحرم ابنك عن بعض الأمتعة- المباحة لسائر أبنائك تأديبا- وَ

عَلَى الَّذِينَ هادُوا أي صاروا يهودا، و الصيرورة باعتبار أن اختيار الدين، إنما هو بعد البلوغ حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ يا رسول اللّه مِنْ قَبْلُ إما متعلق ب «عليك» أو ب «حرمنا» كما قال سبحانه في سورة الأنعام: (وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) «1»

______________________________

(1) الأنعام: 147.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 275

[سورة النحل (16): الآيات 119 الى 120]

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)

وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتحريمهم هذه الأشياء عليهم و حرمناهم منها وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ و كان جزاء ظلمهم تأديبهم بتحريمهم بعض الطيبات عليهم.

[120] و لا يظن اليهود و غير اليهود، أن من عصى فأدّبه سبحانه، أو أوعده النار فإن الأمر قد تحتم و لا مرجع بعد ذلك، فإن اللّه سبحانه يغفر لمن تاب ثُمَ بعد الوعيد و التحريم إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ أي الشي ء القبيح السي ء بِجَهالَةٍ و كل عاصي، فهو جاهل في عصيانه، و إن علم بأنه معصية، لأنه لا يعلم مدى تأثيرها، و لو علم لا نقلع ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ السوء وَ أَصْلَحُوا أعمالهم، فيما بعد، بأن لم يعصوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي بعد التوبة لَغَفُورٌ يغفر ذنبهم رَحِيمٌ يتفضل عليهم بالإنعام و الإحسان.

[121] و قد كان كل من اليهود و المشركين- الذين تقدمت أحوالهم- ينسب آراءه و أعماله إلى إبراهيم

عليه السّلام، حيث يدعي كل طائفة من الطائفتين إن إبراهيم أباه، و إنه هو الذي اتبع تعاليمه، فاليهود من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، و كفار مكة- غالبا- من أولاد إسماعيل بن إبراهيم، و لذا يأتي السياق ليفند مزاعم الجانبين، و إن إبراهيم لم يكن كما يزعمون إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً و إنما كان بقية أهل العالم أمة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 276

[سورة النحل (16): الآيات 121 الى 123]

شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)

و إبراهيم أمة، لأنه كان مسلما، و الباقون كفارا قانِتاً لِلَّهِ أي مطيعا لله من القنوت بمعنى الخضوع و الانقطاع إليه سبحانه حَنِيفاً مائلا عن طريق الكفار، فإنه من حنف، بمعنى مال أو بمعنى مستقيما،

قال الباقر عليه السّلام في تفسير الآية: إنه كان على دين لم يكن أحد غيره، فكأنه أمة واحدة و أما قانتا فالمطيع، و أما الحنيف فالمسلم

وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما تزعمون أنتم أيها المشركون.

[122] شاكِراً لِأَنْعُمِهِ أنعم جمع نعمة، أي أنه كان شاكرا لنعم اللّه سبحانه، فلم يك يكفر بها كما هو دأبكم أيها الكفار الذين تنسبون أنفسكم إليه عليه السّلام اجْتَباهُ أي اختاره سبحانه للرسالة وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو صراط التوحيد و الإسلام، و لم يكن ذا صراط منحرف كطرقكم الملتوية، فكيف تنسبون أنفسكم إليه؟

[123] وَ آتَيْناهُ أي أعطينا إبراهيم فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي نعمة، و المراد بها الحسنة الكاملة، التي يدخل فيها كل شي ء من النبوة و العلم و المال

و الأولاد و غيرها، كما قال سبحانه: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) «1» و ليس الإفراد فيها لقصد الفرد، كما لا يخفى وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فله جزاؤهم من الجنان و النعيم.

[124] و إذ تبين حال إبراهيم، فأنت يا رسول اللّه المتبع له، لا اليهود

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 277

[سورة النحل (16): آية 124]

إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

و المشركون ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه- بعد فترة طويلة بينك و بين إبراهيم- أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي طريقته و سنته في التوحيد، و سائر المعارف، مقابل اتباع طريقة الكفار أو طريقة اليهود حَنِيفاً في حال كونك حنيفا عن الباطل، أو في حال كون إبراهيم حنيفا وَ ما كانَ إبراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما يزعم هؤلاء، و هذا للتأكيد، بأنه لم يكن كما زعموا، و إن كان قد سبق أنه عليه السّلام لم يك مشركا.

[125] و حيث ندّد سبحانه بالمشركين بقوله «وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» عطف على اليهود بالتشديد بهم فكيف أنهم يدعون اتباع إبراهيم، فهم غافلون لأحكام اللّه سبحانه من أول الأمر، و الشاهد لذلك يوم السبت الذي حرّم اللّه فيه الصيد لهم، فاستحلوه، و صادوا فيه، فلعنهم اللّه و مسخهم قردة و خنازير إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي قرر تحريم الاصطياد فيه عَلَى اليهود الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في إبراهيم عليه السّلام، فتبع بعض سبيله، بأن اتبعوا موسى عليه السّلام، و خالف بعض، بأن انحرفوا عن الدين، أو أن الضمير يرجع إلى «السبت» أي جعل السبت على أولئك الذين اختلفوا في السبت، فحرموه جماعة منهم بكفهم

عن الاصطياد، و أحلوه جماعة بالاصطياد فيه، و ليس السبت- كناية عن الدين الذي لهم السبت- مرتبطا بالمسلمين و بمناهجك يا رسول اللّه، كما نقول «السبت لأصحابه» تريد أن اليهودية لليهود لا ترتبط بنا وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بين المختلفين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 278

[سورة النحل (16): الآيات 125 الى 126]

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)

من أمور دينهم فيميز المحق من المبطل و يجازي كلّا حسب عمله، أما أنت فلا ترتبط بهم، و إنما ترتبط بإبراهيم عليه السّلام، كما نقول لمن يقف متفرجا على تخاصم، اذهب أنت في طريقك، أما هؤلاء، فإن المحكمة تفصل بينهم.

[126] و إذ كنت يا رسول اللّه متبعا طريق إبراهيم عليه السّلام، غير مرتبط باليهود و المشركين فعليك أن تدعو الناس إلى هذه الطريقة ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ أي ادع الناس إلى طريقه سبحانه بِالْحِكْمَةِ و هي وضع الشي ء موضعه، بأن تكون الدعوة حكيمة في الأسلوب و الزمان و المكان وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بأن تكون الدعوة وعظا حسنا، لا يسبب تشريد الناس، بل إقبالهم، فقد يقول الإنسان للفاسق: يا فاسق و يبصق في وجهه- فإنه يزيده عنادا- و قد يقول له: أيها الأخ إنك شاب لطيف، فلما ذا لا تسلك سبيل ربك الذي نهاك عن العمل الكذائي، و هكذا وَ جادِلْهُمْ أي حاجج و ناظر من كفر و عصى بِالَّتِي أي بالطريقة التي

هِيَ أَحْسَنُ الطرق، حيث لا تثير عنادهم، و لا تجرح كبريائهم إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ و أعرف بطباعهم و نفسياتهم، فأمره إياك بالدعوة هكذا ليس إلا لأنه أعلم بما يصلحهم وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الذين اهتدوا فجزاؤهم عليه، و ليس عليك إلا الدعوة بهذه الكيفية.

[127] و لقد كانت الدعوة معرضة لأصناف الأخطار، و الداعي و من تبعه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 279

لصنوف الإهانة و الأذى، و لذا كان من اللازم تشريع قانون المجازاة، إلى جنب الأمر بالدعوة فما ذا يصنع النبي و من تبعه بالكفار الذين يؤذونهم في سبيل الدعوة؟ وَ إِنْ عاقَبْتُمْ أي أردتم معاقبة من آذاكم و أهانكم فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي بقدر ما تعدوا عليكم، بلا زيادة، فإن المظلوم قد يخرج عن الاعتدال، فينتقم أكثر مما أهين، أ رأيت من يكثر السباب لمن سبّه مرة، أو من أشبهه وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ فلم تعاقبوا أصلا و تركتم القصاص و المجازاة لَهُوَ أي الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لأنه يعود عليهم بخير الدنيا و سعادة الآخرة، و في صيرورة الإنسان مظلوما انتصار له، بينما أن المقتضى لا يأخذ محلا من القلوب، و من مصاديق هذا الحكم ما

ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- في تفسير الآية- أنه قال يوم أحد: من له علم بعمي حمزة؟ فقال الحارث بن الصمت: أنا أعرف موضعه، فجاء حتى وقف على حمزة، فكره أن يرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيخبره، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام: اطلب يا علي عمك، فجاء علي عليه

السّلام فوقف على حمزة، فكره أن يرجع إليه، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حتى وقف عليه، فلما رأى ما فعل به بكى، ثم قال: ما وقفت موقفا قط أغيظ عليّ من هذا المكان، لإن أمكنني اللّه من قريش، لأمثلنّ سبعين رجلا منهم، فنزل عليه جبرئيل، فقال: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَ اصْبِرْ» فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل أصبر «1»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 280

[سورة النحل (16): الآيات 127 الى 128]

وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

أقول: فإن قيل كيف قال الرسول لأمثلنّ، مع أن كلام الرسول ليس إلا وحيا؟ و الجواب أنه ما المانع في كونه وحيا، أن ينزل لإظهار سوء فعلهم، و أنهم استحقوا مثل ذلك الجزاء، و كان وحيا ما نزل من القرآن؟ و خلف الوعيد ليس قبيحا.

[128] وَ اصْبِرْ يا رسول اللّه فيما تلاقيه من المكاره في سبيل الدعوة، و لا تنافي بين الأمرين، فإن التخيير عام لكل واحد، و هذا خاص بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ إلا بتوفيقه و أمره و تحت نظره وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فإن من يدعو إلى الرشاد، لا بد و أن يحزن إذا رأى الإعراض، لكن اللّه سبحانه ينهى نبيه عن الحزن- نهي إشفاق و إرشاد- كي لا يضيع حزنه عبثا وَ لا تَكُ يا رسول اللّه فِي

ضَيْقٍ أي لا يضيق صدرك مِمَّا يَمْكُرُونَ يدبرون من الحيل و المكايد، لإطفاء الإسلام، و إخماد صوت الحق، فإنهم لا يقدرون على ذلك.

[129] و الزم جانب التقوى في الدعوة، و في سائر الأمور ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر و المعاصي، معهم بالمعونة و النصر و النجاة و الحفظ وَ مع الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ يحسنون في أعمالهم، و هو فوق التقوى، فإن التقوى- مثلا- أن لا تكذب، و الإحسان، أن تسبح اللّه بلسانك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 281

تقريب القران إلى الأذهان الجزء الخامس عشر من آية (1) سورة الإسراء إلى آية (75) سورة الكهف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 282

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السّلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 283

17 سورة الإسراء مكية- مدنية/ آياتها (112)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الفعل من «الإسراء» في قوله تعالى «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ» و تسمى أيضا سورة «بني إسرائيل» لاشتمالها على لفظة «بني إسرائيل»، و هي مكية، إلا آيات، و لذا نرى الجو العام فيها، كالجو في غالب السور المكية، يعالج قضايا العقيدة، و تشتمل هذه السورة على إحدى معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكثار، و هي ذهابه ليلا من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، حينما عرج به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السماء، ليرى آيات اللّه سبحانه في الملكوت عيانا. و حيث أن سورة النحل اختتمت بذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، تفتح هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الرحمن الرحيم، فهو إله كل شي ء،

مستحق لجميع أنواع الإعظام و الإكرام، أليس هو اللّه- و إنه اسم للذات المستحق لجميع أصناف المحامد-؟ و أليس هو رحمانا رحيما، متفضلا على العباد- حتى العاصين- بأنواع الإحسان و الامتنان، فمن أحق منه بذكر اسمه في أول الأشياء، و ابتداء الأعمال و الأمور؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 284

[سورة الإسراء (17): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

[2] سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ «سبحان» منصوب بفعل مقدر، أي أسبح سبحان الإله الذي سار بالنبي ليلا، فإن الإسراء هو السير ليلا، و المراد بالعبد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنه من أفضل صفاته أن يكون عبدا- كامل العبودية- لله، قالوا: و لذا قدم على الرسالة في التشهد «و أشهد أن محمدا عبده و رسوله» لَيْلًا للتوضيح و التأكيد مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ في مكة، و الكثيرون على أن ذلك كان من دار «أم هاني» بنت «أبي طالب» و إنما أطلق المسجد الحرام عليه، بعلاقة الكل و الجزء، فإن الجزء قد يطلق على الكل، للملابسة بينهما، فمكة يطلق عليها المسجد الحرام إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أي الأبعد، فقد كان أهل مكة يسمون بيت المقدس بالمسجد الأقصى، لبعده عن محلهم، مقابل المسجد الأدنى الذي هو المسجد الحرام- عندهم- ثم أن هذا السير من مكة إلى المسجد الأقصى، يسمى في عرفنا ب «الإسراء» لأنه سير من هنا إلى هناك، ثم صعود الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المسجد الأقصى إلى السماء يسمى «معراجا» لعروجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هناك إلى السماوات،

و قد كان الإسراء و المعراج في ليلة واحدة، في اليقظة ببدنه الشريف، حسب ما انعقد عليه إجماع علمائنا، و دلّ عليه ظاهر القرآن الحكيم، و الروايات المتواترة، الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ فإن حول المسجد الأقصى، كان مبعث الأنبياء، و خصوصا العظام منهم، كموسى و عيسى و إبراهيم و صالح و شعيب و يعقوب و إسحاق و إسماعيل و غيرهم عليهم السّلام، و لعل هذا الإسراء كان لأجل التلميح إلى ربط الديانات الكبرى العالمية و اليهودية و المسيحية و الإسلام بعضها ببعض، في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 285

أصل جوهرها قبل التحريف في الدينين السابقين، و على أيّ فقد كان حول المسجد الأقصى مباركا ببعث الأنبياء، و نشر تعاليم السماء، و كأنه سبحانه اختار هذه المناطق، لأنها الوسط بين الشرق و الغرب، فزحف الدين منها إلى العالم هين يسير بخلاف ما لو كان الدين من أقصى الشرق و الغرب، و إنما أسرينا بالرسول لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي لبعض الآيات الكونية في الأرض و السماء إِنَّهُ تعالى هُوَ السَّمِيعُ لكل الأصوات فيسمع قول المكذب و المصدق الْبَصِيرُ بما يرى، فيرى المؤمن و الكافر و الحركات و السكنات، ثم أن قصة المعراج ليست عجيبة على اللّه سبحانه، و من يؤمن بأصل القرآن، و إمكان الوحي و الرسالة لا بد و أن يؤمن بهذه القصة، و الا فأي فرق بينه و بينها؟

نعم يستغرب هذه القصة الطبيعيون، و من إليهم ممن ضيقوا دائرة معارفهم في المحسوسات، و لم يؤمنوا بما وراء الطبيعة (وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا) «1» و لا بأس بالإشارة إلى مجمل من القصة، و تفصيلها في الكتب المفصلة:

قال النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم: أتاني جبرئيل و أنا بمكة، فقال: قم يا محمد، فقمت معه، و خرجت إلى الباب، فإذا جبرئيل و معه ميكائيل و إسرافيل، فأتى جبرئيل بالبراق، و كان فوق الحمار دون البغل، خدّه كخد الإنسان و ذنبه كذنب البقر، و عرفه كعرف الفرس، و قوائمه كقوائم الإبل، عليه رحل من الجنة، و له جناحان من فخذيه، فقال لي جبرئيل: اركب، فركبت و مضيت، حتى انتهيت إلى بيت المقدس، فلما انتهيت إلى بيت المقدس، إذا بملائكة

______________________________

(1) الجاثية: 25. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 286

من السماء نزلت بالبشارة و الكرامة من عند رب العزة، و صليت في بيت المقدس، و بشرني إبراهيم في رهط من الأنبياء، ثم وصف موسى و عيسى ثم أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة، فأقعدني عليها، فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا و جمالا، فصعدت إلى السماء الدنيا، و رأيت عجائبها، و ملائكتها يسلمون عليّ، ثم صعد بي جبرئيل إلى الثانية فرأيت عيسى ابن مريم و يحيى ابن زكريا، ثم صعد بي إلى الثالثة، فرأيت فيها يوسف، ثم إلى الرابعة، فرأيت فيها إدريس، ثم إلى الخامسة، فرأيت فيها هارون، ثم صعد بي إلى السادسة، فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض، و فيها الكروبين، ثم إلى السماء السابعة، فرأيت فيها إبراهيم، قال ثم جاوزناها متصاعدين إلى أعلى عليين و وصف صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك إلى أن قال: ثم كلمني ربي و كلمته، و رأيت الجنة و النار و العرش و السدرة، ثم رجعت إلى مكة، فلما أصبحت حدثت به الناس، فكذبني أبو جهل و المشركون، و قال مطعم بن عدى: أ تزعم

أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنك كاذب، ثم قالت قريش: أخبرنا عما رأيت، فقلت: مررت بعير بني فلان، و قد ضلوا بعيرا لهم، و هم في طلبه، و في رحلهم قعب مملوء من ماء، فشربت الماء، ثم غطيته كما كان، فاسألوهم، هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا هذه آية قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مررت بعير بني فلان، فنفر بكرة فلان، فانكسرت يدها، فاسألوهم عن ذلك؟ فقالوا هذه آية أخرى، ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية، و هم يقولون: لقد قضى محمد بيننا و بينه قضاء بيّنا، و جلسوا ينتظرون حتى تطلع الشمس، فيكذبوه، فقال قائل: و اللّه إن الشمس قد طلعت، و قال آخر: و اللّه هذه الإبل قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 287

[سورة الإسراء (17): الآيات 2 الى 3]

وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)

طلعت يقدمها أورق، و لما جاءت العير و سألوهم عن ما ذكره الرسول؟

تبين صدقه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكنهم أبوا إلا الكفر و الفساد، و لم يؤمنوا «1».

[3] و بمناسبة الحديث عن المسجد الأقصى، يأتي السياق لبيان أحوال موسى عليه السّلام، و بني إسرائيل الذين كانوا هناك، و ما جرى عليهم حين أفسدوا و عملوا بالمعاصي وَ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْكِتابَ هو التوراة، كما أعطيناك يا رسول اللّه القران وَ جَعَلْناهُ أي الكتاب الذي هو التوراة هُدىً هداية و إرشادا إلى الحق لِبَنِي إِسْرائِيلَ و هم اليهود، سموا بذلك، لأنهم من أبناء يعقوب، و كان يسمى «إسرائيل» و معناه «عبد اللّه»، و كان

أول الهدى الذي أنزل لأجله التوراة أَلَّا تَتَّخِذُوا أيها اليهود مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربّا تتوكلون عليه في أموركم، بل هو اللّه الواحد الذي لا شريك له.

[4] يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ فأنتم أيها اليهود من أولاد أولئك الآباء الطاهرين المؤمنين الذين أنعمنا عليهم بإنجائهم من الغرق، حيث آمنوا بالله و رسله فلا تنحرفوا، بعد ما رأيتم نعمتي عليكم و على آبائكم من قبل، و فيه تلميح إلى ذكر نوح، بعد ذكر محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و موسى عليه السّلام إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً فهو عبد كمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أسرى بعبده» شكور يقابل نعم اللّه سبحانه بالشكر لا بالكفر. و هو تعريض باليهود الذين كفروا.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 216.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 288

[سورة الإسراء (17): آية 4]

وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)

[5] وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي أعلمنا بني إسرائيل فِي الْكِتابِ الذي أنزلناه على موسى، و هو التوراة لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ أي تفسدون في الأرض التي تسكنونها و هي بيت المقدس مرتين، بالكفر و إظهار المعاصي، قال ابن عباس: كان فسادهم الأول قتل زكريا، و الثاني قتل يحيى بن زكريا، ثم سلط اللّه عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس في قتل زكريا، و سلط عليهم في قتل يحيى بخت نصر، و هو رجل من بابل، أقول: من عجيب أمر اليهود، أنهم يعملون و يعملون حتى يكون لهم سلطان و قوة، ثم يتخذون ذلك وسيلة للفساد، فيسلط اللّه عليهم من يبيدهم و يكثر القتل فيهم،- كما هي السنة

الجارية أن من تكبر و فسد يبتلى بمن ينتقم منه- و إذا ذهب سلطانهم أخذوا في العمل من جديد، و هكذا دواليك، و في التاريخ القريب، لما قويت شوكتهم، أخذوا في الفساد، حتى سلط عليهم «هتلر» فقتلهم و شردهم، ثم نراهم من جديد- بعد تلك الاضطهادات، و بعد أن صارت لهم قوة- أخذوا يعيثون في فلسطين الفساد، فمن يا ترى يسلط عليهم هذه المرة؟ وَ لَتَعْلُنَ أي ترتفعن بعد ذلك عُلُوًّا كَبِيراً إما المراد قوتهم و شوكتهم بعد المرتين أو المراد استكبارهم و ظلمهم و تعديهم، كما حدث في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حيث استكبروا و طغوا بالكفر بالرسول و أذى المؤمنين، و ما ورد في بعض الروايات من تطبيق الآية على هذه الأمة في ظلمهم الأئمة عليهم السّلام، فإن ذلك من باب القاعدة الكلية التي تنص على أن مثل القرآن مثل الشمس التي تطلع كل يوم على جميع الناس، فالقرآن ينطبق في كل زمان على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 289

[سورة الإسراء (17): آية 5]

فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)

الناس، مدائحه على الأخيار و تنقيصاته على الأشرار.

[6] فَإِذا جاءَ وقت وَعْدُ نا بالانتقام عن أُولاهُما و المراد بالوعد الموعود، و المراد بأولاهما أولى المرتين اللتين تفسدون فيهما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ أيها اليهود عِباداً لَنا أي سلطنا عليكم بعض الملوك أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي أصحاب شوكة و قوة و نجدة، و معنى بعثه سبحانه أنه يخلي بينهم و بين اليهود حتى يفعلوا بهم ما يشاءون، و هكذا كقوله سبحانه: (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) «1» فإن الملك إذا قوى

طائفة و خلّى بينهم و بين سائر الناس حتى يفسدوا فيهم، يقال أن الملك أرسلهم، فَجاسُوا أي العباد المنتقمون خِلالَ الدِّيارِ أي طافوا وسط ديار اليهود، و تفحصوا و تحسبوا هل بقي منهم أحد حتى يقتلوه و يأسروه وَ كانَ ما وعدناهم من إرسال العباد للانتقام منهم وَعْداً منا مَفْعُولًا كائنا لا محالة لا خلف فيه، قد كان ذلك كما ذكره التاريخ، و من لطيف المقارنة أن يرى الإنسان أن اللّه الرؤوف الرحيم بعباده حتى أن من لطفه يبعث الرسول على الكفار ليهديهم (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ) «2» يرسل على أهل الكتاب عبادا ليبطشوا بهم و يكثروا فيهم القتل و الهتك و السبي، حيث يخالفون الأوامر، و يفسدون و يعملون بالمعاصي.

______________________________

(1) مريم: 84.

(2) آل عمران: 165.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 290

[سورة الإسراء (17): الآيات 6 الى 7]

ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)

[7] ثُمَ بعد التدمير و الفناء جزاء لأعمالكم السيئة رَدَدْنا لَكُمُ أيها اليهود الْكَرَّةَ أي الرجوع إلى الملك و السلطان و القوة و الشوكة عَلَيْهِمْ أي على أولئك الأعداء- و هم عباد لنا-، فيرجع إليكم ما فقدتموه- بعد تمام العقاب، لما ارتكبتموه- وَ أَمْدَدْناكُمْ أي أعطيناكم مددا و كثرة بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ فأكثرنا أموالكم و نفوسكم وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي عددا و أنصارا من عدوكم، و نفير جمع «نفر»

كعبد جمع عبيد، و النفر هو الشخص من الإنسان، و قبل أن يبين سبحانه قصة فسادهم الثاني، و الانتقام منهم، يبين أن الأمر بأيديكم، فإن شئتم أحسنتم حتى لا يصيبكم المكروه، و إن شئتم أسأتم أن يصيبكم، فإن ما يراه الإنسان، إنما هو نتيجة عمله، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر.

[8] لكن بنى إسرائيل لا يعتبرون، و إن رأوا ألف مرة جزاء أعمالهم السيئة، و قال لهم سبحانه إِنْ أَحْسَنْتُمْ عملتم بالأعمال الحسنة أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فإنكم بأنفسكم ترون جزاء تلك الأعمال حسنا مرضيا وَ إِنْ أَسَأْتُمْ عملتم الأعمال السيئة فَلَها أي فلأنفسكم عملتم، و ترون جزاءها سيئا و قبيحا، و إنما لم يقل فعليها- بلفظة على- حتى يقابل «لأنفسكم» في اللفظ فيفسدون مرة ثانية فَإِذا جاءَ وَعْدُ الانتقام لفساد المرة الْآخِرَةِ أي الفساد الثاني ليسلط عليكم الأعداء مرة ثانية حتى لِيَسُوؤُا بالقتل و النهب و الهتك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 291

[سورة الإسراء (17): الآيات 8 الى 9]

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)

و الأسر وُجُوهَكُمْ فيظهر آثار المساءة على وجوهكم، فإن الإنسان إذا ملي ء قلبه بالإساءة و الإذلال، ظهر أثارها على وجهه، فهو كناية عن شدة المساءة وَ لِيَدْخُلُوا أولئك الأعداء الْمَسْجِدَ الأقصى، أقدس محلاتكم بالإذلال و الاستخفاف كَما دَخَلُوهُ الأعداء أَوَّلَ مَرَّةٍ عند الانتقام الأول وَ لِيُتَبِّرُوا أي الأعداء من تبّر بمعنى أهلك و دمّر ما عَلَوْا أي كل شي ء تمكنوا من التسلط عليه، و غلبوا عليه من بلادكم و أموالكم و نسائكم و غيرها تَتْبِيراً

أي تدميرا كاملا شاملا، بحيث لا يخلو منه مكان، و لا فرد منكم.

[9] عَسى أي لعل رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد ذلك، إن أطعتم، بعد هذا الانتقام الثاني، و تصفية الحساب وَ إِنْ عُدْتُمْ إلى الفساد و الإفساد عُدْنا إلى الانتقام و العقاب، و هل انقلعوا!؟ كلا إنهم لا يجدون فرصة إلا و يفسدون وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي محل حصر و حبس، فاليهود الذين أفسدوا لم يكن الانتقام منهم في الدنيا فقط، بل من ورائهم جهنم فهم فيها في ذلّ و سجن، لا خلاص لهم عنها.

[10] و بمناسبة ذكر كتاب موسى يأتي الحديث عن كتاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي البشر للطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ الطرق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 292

[سورة الإسراء (17): الآيات 10 الى 11]

وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)

و أحسنها و أشد استقامة من جميعها، فإن الطرق السابقة، و إن كانت مستقيمة، لكنها مستقيمة في ظروف خاصة، أما القرآن، فإنه يرشد إلى الطريقة المستقيمة أبدا، و لذا فهو لا ينسخ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أي إنهم مع إيمانهم يعملون الأعمال الصالحة ب أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً في الآخرة، و ثوابا عظيما.

[11] وَ يبين هذا القرآن إلى جنب ذلك أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بأن فسدت عقيدتهم، و ذكر هذا للتلازم بينه و بين عدم الإيمان بالإله أو بالرسالة أَعْتَدْنا أي هيأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما موجعا في الآخرة.

[12] إن القرآن يبشر المؤمن العامل بالصالحات، الثواب، و غير المؤمن بالعقاب، فهل الإنسان

يترك ما يضره، و يفعل ما ينفعه؟ كلا، إن الإنسان يطلب ما هو شر له في الدنيا، فكيف يعمل الصالح، لدفع ما هو شر في الآخرة؟ وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ أي يطلب ما هو شر له، فالربا و الزنا و القمار و الخمر و سائر الأشياء التي يعود شرها إلى الإنسان، نراه يطلبه للذة عاجلة من غير نظر إلى عواقب الأمور، و لو كانت قريبة في الدنيا دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كما يطلب ما هو خير له من الطيبات و المباحات وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يتعجل باللذائذ، و إن كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 293

[سورة الإسراء (17): آية 12]

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)

لها عاقبة و خيمة و مستقبل سيئ.

[13] ثم ينتقل السياق من قضايا الرسل و الأمم إلى الآيات الكونية، و موقف الإنسان في هذه الحياة، و ما سيلاقي من ثواب أو عقاب جزاء أعماله وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ من آيات اللّه سبحانه، ففي خلقهما و تنظيم المعاش و الاستراحة للبشر بها، دلالة على وجود إله عليم قدير حكيم فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ إضافة الآية إلى الليل بيانية، أي جعلنا الليل- الذي هو آية- ممحيا، فكما أن الخط إذا محي يبقى بعض آثاره، و البناء إذا أزيل يبقى بعض أطلاله، كذلك الأشياء تظهر في الليل، كالشي ء الذي محي، فيرى بعضها و لا يرى بعضها، فنسبة المحو إلى الليل و هو للأجسام التي فيه- مجاز- بعلاقة الحال و المحل، و هذا من بدائع البلاغة وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ أي

النهار الذي هو آية مُبْصِرَةً فقد نسب الإبصار الذي هو للإنسان و الحيوان إلى النهار، مجازا بعلاقة الحال و المحل، أو السبب و المسبب أو النهار سبب الإبصار، و إنما جعلنا كذلك لِتَبْتَغُوا أي تطلبوا بسبب هاتين الآيتين فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في النهار المال و المعاش، و في الليل الراحة و الأولاد، فإن كل ذلك فضل منه سبحانه، وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ فإن السنة تتولد من الأيام، كما يتولد منها الأسبوع و الشهر وَ الْحِسابَ آجال العقود و المفاوضات و الديون و الأسفار و غيرها مما يعدّ، فيؤتي به أول موعده وَ كُلَّ شَيْ ءٍ من كليات ما يحتاج إليه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 294

[سورة الإسراء (17): الآيات 13 الى 14]

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)

البشر في دنياه و آخرته فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا فأصول العقيدة و الاجتماع و غيرهما كلها مفصلة في الكتاب، أو المراد أن جميع الأمور الكونية، قد روعيت فيها الدقة و التفصيل- أى التمييز فليس هناك شي ء خلق صدفة أو جزافا، أو بلا رعاية جهاتها و خصوصياتها، و يشهد لذلك هذا النظام الواضح في الدورة الفلكية المولّدة لليل و النهار بكل دقّة و إتقان.

[14] و إذا كان للكون إله مدبّر، و إذ كان كل ما في الكون تحت نظام و دقة، فإن الإنسان لا يخرج عن هذا النظام و الدقة، إن كل عمل يعمله، إنما هو تحت حساب إله قدير عالم، و إذا قام الجزاء انكشف له و للناس كل ما عمله من خير أو شر، صلاح أو فساد وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ

اى عمله، و سمي طائرا، لأنه يسنح كالطائر الذي يطير عن يمين الإنسان أو شماله، و معنى الإلزام أنه معه لا يفارقه، فلا يتمكن الإنسان الخلاص من تبعة عمله، إلا إذا أعدم العمل بالتوبة فِي عُنُقِهِ فإن العنق موضع القلادة التي تزين، أو الجامعة التي تشين وَ نُخْرِجُ لَهُ أي للإنسان يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً مكتوب فيه جميع أعماله، و في الأحاديث، أنه مكتوب فيه حتى النفخ في النار يَلْقاهُ يلقى كتابه مَنْشُوراً مفتوحا، ليطلع عليه هو و غيره.

[15] و يقال له عندئذ اقْرَأْ كِتابَكَ الذي أمليته و كتبه الحافظان،

و قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: يذكر العبد جميع أعماله، و ما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا يا ويلتنا، ما لهذا الكتاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 295

[سورة الإسراء (17): آية 15]

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)

لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها

«1» كَفى بِنَفْسِكَ أيها الإنسان في هذا الْيَوْمَ يوم القيامة عَلَيْكَ أي على نفسك حَسِيباً محاسبا، لأنه يرى أعماله، و جزاء كل عمل، فلا يحتاج إلى غيره حتى يحاسبه، و هذا غاية في الدقة و الإنصاف، حيث أن العامل هو المحاسب، و إنما كانت الدقة، لأنه لا يزيد على السيئات شيئا، و لا ينقص من الحسنات شيئا.

[16] و إذ تبين أن هناك حساب على الأعمال، و أن خيره و شره، لا بد و أن يلاقيه الإنسان يوم الجزاء ف مَنِ اهْتَدى إلى الإيمان و الإطاعة فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فإن نفع هداه يعود إليه وَ مَنْ ضَلَ عن

الطريق بالكفر أو العصيان فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي يعود ضرر ضلاله على نفسه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ لا تحمل نفس حاملة للذنوب وِزْرَ أُخْرى أي ذنوب نفس أخرى، فلكل إنسان ذنبه، أما من ضل غيره، فإنه يحمل ذنب نفسه و ذنب إضلاله، فهو أيضا حامل لذنب نفسه، كما قال سبحانه (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) «2» و على هذا، فلا يظن إنسان، أن من يأمره بالكفر أو العصيان يحمل تبعته يوم القيامة وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ أي إنما لا نعذب أحدا من الكفار و العصاة حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يبين أن على الكفر

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 284.

(2) النحل: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 296

[سورة الإسراء (17): الآيات 16 الى 17]

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)

و العصيان العقاب، و للإيمان و الإطاعة الثواب، ثم إذا خالفوا عذبناهم، بعد إتمام الحجة، و قيام الأدلة و البراهين، فالأوامر العقلية قبل إتمام الحجة الخارجية، لا توجب عقابا لمن خالفها.

[17] إن اللّه لا يعذب حتى يبعث رسولا و حجة ليدل الناس على مواقع المحظور- كما سبق- فإذا عتت قرية عن الطريق المستقيم، لا يعذبها اللّه سبحانه بمجرد ذلك، و إنما يبعث الرسول بالأوامر و النواهي، و هناك يخالف المترفون و السادة الأعلون- و يتبعهم الجمهور طبعا- فيستحقوا العقاب بعد تمام الحجة وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً لأنها أسرفت في الكفر و الفساد، لم نهلكها بدون إتمام الحجة، بل أَمَرْنا مُتْرَفِيها بأوامرنا، و إنما خص

المترفين، مع أن الأمر عام لكل الناس، لأنهم هم الذين إن أطاعوا أطاع الناس، و إن عصوا عصى الناس، و لذا كان الأنبياء، يذهبون إلى الملوك، و يعارضون السلطان بادئ ذي بدء، فإن الناس على دين ملوكها و كبرائها فَفَسَقُوا فِيها أي خرجوا عن الطاعة في تلك القرية، تقول: أمرته فعصاني، أي أمرته بأوامري فعصاني، و لم يمتثل، و هناك حيث خالفوا أوامر الرسل، و تمت عليهم الحجة فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي ثبت على تلك القرية، قولنا بالهلاك و الدمار فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً أي أهلكناها إهلاكا.

[18] و قد جرت هذه السنة في الأمم السابقة وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ جمع قرن و هو الأمة يقال لها قرن، لتقارن سن أفرادها تقريبا، كما يقال للزمان قرن، باعتبار تقارن أعمار من فيه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 297

[سورة الإسراء (17): الآيات 18 الى 19]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)

مِنْ بَعْدِ نُوحٍ و إنما خص بما بعد نوح، لأن المعروف عند المخاطبين كان هذا الزمان، أما قبل نوح، فالتاريخ لديهم مجهول، و من البلاغة، أن يتكلم الإنسان مع الناس على قدر مداركهم، فإنه أقل مؤونة، و أقرب إلى القبول وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي يكفيه مطلعا، فليخف الإنسان من الإله العالم بالذنوب، فلا يفعل ما يوجب سخطه و عذابه بَصِيراً يبصر الذنوب، فليخجل الإنسان أن يعصي أمامه.

[19] و إذ تبين عاقبة العاصي، و عاقبة المطيع، فليتقدم كل إنسان بما يختاره من الأمرين، فإن الطريق أمامه مفتوح مَنْ

كانَ يُرِيدُ الدنيا الْعاجِلَةَ فقط بدون تفكّر لما يأتي، و إرادة للدار الآجلة عَجَّلْنا لَهُ فِيها أي في العاجلة ما نَشاءُ من الثروة و الفقر، و الصحة و المرض، و الأمن و الخوف، و غيرها لِمَنْ نُرِيدُ فليس كل من يريد العاجلة يعطاها، كما أن من يعطى العاجلة لا يعطاها كما يشاء، و إنما كما يشاء سبحانه حسب حكمته البالغة، و تقديره الحكيم ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ في الآخرة يَصْلاها أي يصل بصلاها، و يحترق بنارها في حال كونه مَذْمُوماً ملوما مَدْحُوراً مطرودا عن الخير و السعادة.

[20] وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ في ضمن إرادته للدنيا، كما قال سبحانه في آية أخرى (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) «1» فعمل للآخرة،

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 298

[سورة الإسراء (17): الآيات 20 الى 21]

كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)

كما يعمل للدنيا، و لم يأت بما ينافي الآخرة وَ سَعى لَها أي للآخرة سَعْيَها السعي المناسب لها، و اللائق بشأنها، بأن عمل الأعمال الصالحة وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فإن العمل الصالح بدون الإيمان لا يفيد فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً يشكره اللّه سبحانه، بأن يعطي جزاؤهم، فإن الشكر لشي ء إعطاء جزائه، و إكرام العامل له.

[21] ثم ذكر سبحانه أنه في الدنيا لا يمنع لطفه عن الشخصين، فهو كما يعطي المؤمن يعطي الفاسق، لكن الفرق في السعادة هنا، فإن الفاسق لا يهنأ بالسعادة، كما أن الآخرة خاصة بالمؤمن كُلًّا من المؤمن و الكافر نُمِدُّ أي نعطيهم من الدنيا هؤُلاءِ الذين يريدون الآخرة وَ

هَؤُلاءِ الذين يريدون العاجلة مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يا رسول اللّه، أي نعمته و فضله وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي ممنوعا، فإنه يشمل البرّ و الفاجر.

[22] و إذ يريد أهل الدنيا الدرجات الرفيعة هنا، فليرد أهل الآخرة إياها هناك انْظُرْ يا رسول اللّه كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي بعض الناس على البعض الآخر في الدنيا، فبعضهم أغنياء إلى منتهى الحد، و بعضهم متوسطون، و بعضهم فقراء، و بعضهم أصحاب مناصب، و بعضهم عاديون و هكذا وَ لَلْآخِرَةُ اللام للتأكيد أَكْبَرُ دَرَجاتٍ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 299

[سورة الإسراء (17): الآيات 22 الى 23]

لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23)

درجاتها أكبر من درجات الدنيا وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا فمدى المفاضلة هناك أوسع،

و في بعض الأحاديث، أن أقل المؤمنين ثوابا من يعطي من الجنان بقدر الدنيا سبع مرات «1».

[23] و بمناسبة الحديث عن الآخرة، و عطاء اللّه سبحانه، و من يريد العاجلة و الآجلة، يأتي الحديث حول طائفة من الأحكام التي توجب السعادة، أو الشقاء، مبتدئا بتصحيح العقيدة لا تَجْعَلْ أيها الإنسان مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فلا إله إلا هو فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا يعني إن فعلت ذلك، بأن اعتقدت بأكثر من إله واحد، تبقى بقية عمرك- فإن قعد يطلق على البقاء و الاستمرار- مذموما، يذمك العقلاء، و أهل الدين، مخذولا يخذلك اللّه سبحانه، بمعنى أنه يقطع لطفه الخاص عنك، حتى تبقى بغير عنايته و نصرته.

[24] و كما نهى سبحانه عن الشرك

في العقيدة نهى عن الشرك في العبادة وَ قَضى رَبُّكَ أي أمر أمر إلزام و فرض أَلَّا تَعْبُدُوا أيها البشر أصله «أن لا» أدغمت النون في اللام، لقاعدة «يرملون» إِلَّا إِيَّاهُ فالعبادة خاصة، و هي مشتقة من «عبد» أي الإتيان برسوم العبودية، و كون الإنسان عبدا له سيّد وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي قضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين، و هما الأب- يسمى والدا لأنه يلد بإخراج المني-

______________________________

(1) قريبا منه في بحار الأنوار: ج 8 ص 200.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 300

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 349

و الأم، و الإحسان فوق العدل كما تقدم، ثم بين سبحانه لزوم الإحسان في حال كبرهما، لأن الإنسان، إذا كبر يسي ء خلقه، و يكثر طلبه، و من طرف ثان، أن الولد- كما هو عادة كل إنسان- إذا كبر و رشد، رأى نفسه في غنى عنهما، فكان مقتضى عدم الإحسان إليهما موجودا عنده من جهتين، و لذا يخص سبحانه هذا الحال بالذكر، و قد قال بعض العارفين: إن أباك و أمك أحسنا إليك، و هما يريدان بقاءك، و يهفو قلبهما إليك، و أنت تحسن إليهما- إن تحسن- و أنت ترى استغناك عنهما، فلا يبلغ إحسانك إحسانهما- مهما أحسنت- و ليعلم الولد أن الدار دار مكافات، فمن أحسن إلى أبويه أحسن أولاده إليه، و من أساء إليهما أساءوا إليه، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ أيها الولد و «إما» أصله «إن ما» دخلت ما الزائدة، على إن الشرطية للتزيين الْكِبَرَ الشيخوخة، و الكثرة في السن أَحَدُهُما أي أحد الأبوين، و هو فاعل «يبلغن» و الكبر مفعوله، أي إن عاش أحدهما أَوْ كِلاهُما عندك حتى كبرا، و بلغا مبلغا كبيرا من العمر فَلا

تَقُلْ لَهُما أُفٍ و هي كلمة تستعمل عند الضجر، في قول مثل هذه اللفظة البسيطة، منهي عنه في الشريعة،

و قد قال الصادق عليه السّلام: لو علم اللّه لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى بها

«1» وَ لا تَنْهَرْهُما النهر هو الزجر بإغلاظ و صياح، أي لا تزجرهما، و إن أرادا منك شيئا لا تطردهما، كما قال سبحانه (وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) «2» وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 71 ص 42.

(2) الضحى: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 301

[سورة الإسراء (17): الآيات 24 الى 25]

وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)

خاطبهما، و تكلم معهما بكلام لطيف حسن جميل.

[25] وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ فكما أن فرخ الطائر يخفض جناحه لأبويه، تذللا و خضوعا، فافعل أنت ذلك بأبويك مِنَ الرَّحْمَةِ أي اعمل هذا العمل من جهة الرحمة، و العطف بهما، لا كالطائر الذي يفعل ذلك من جهة طلب الغذاء، فإن الإنسان قد يتواضع رحمة، و قد يتواضع طمعا أو طلبا، أو ما أشبه وَ قُلْ داعيا لهما رَبِّ ارْحَمْهُما تفضل عليهما باللطف و الكرامة كَما رَبَّيانِي أي جزاء تربيتهما لي في حال كوني صَغِيراً فإنك يا رب أجزهما على أتعابهما، فإني لا أقدر على جزائهما، و في الآثار الواردة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة الطاهرين عليهم السّلام كثرة مدهشة من التأكيدات العجيبة حول الوالدين، و خصوصا الأم «1».

[26] أيها الأولاد إن اللّه سبحانه يعلم أعمالكم و أقوالكم و نواياكم حول الوالدين فاحذروا

مخالفته، كما يعلم كل شي ء، ظاهر و خفي من كل أحد رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من غيره، فإنه يعلم وساوس الصدور، و بلبلة النفوس، فاحذروا النوايا السيئة، فكيف بالأعمال السيئة تجاه الأبوين إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ في أعمالكم و أقوالكم و نواياكم فَإِنَّهُ تعالى كانَ لِلْأَوَّابِينَ الذين كلما أذنبوا آبوا- أي

______________________________

(1) عدة الداعي: ص 85.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 302

[سورة الإسراء (17): آية 26]

وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)

رجعوا و استغفروا- غَفُوراً يغفر لهم، فإذا صدرت منكم زلّة تجاه الوالدين، أو نويتم نية سوء، و قد كان علم سبحانه أنكم صالحون، فتبتم تاب عليكم، و إذ تكثر الإساءة تجاههما، جاء بلفظ «الأوّاب» فإن غير الصالحين يتمادون في إساءاتهم، أما الصالح، فإنه كلما مرّ به خاطر، أو يعمل عملا منافيا، فإنه يئوب و يرجع، و يتوب إلى اللّه سبحانه، و هو يغفر له إذ يعلم صلاحه.

[27] و إذ ذكر السياق المنعم الأول- و هو اللّه- و لزوم إطاعته و شكره و عبادته، و المنعم الثاني، و هما الأبوان، و لزوم برّهما جاء إلى سائر ذوي الحقوق، فقال سبحانه وَ آتِ أي أعط ذَا الْقُرْبى ذا- بمعنى صاحب- و القربى مؤنث الأقرب، و هي صفة لمحذوف هو «صلة» أي صاحب الصلة، و النسبة القريبة إليك من الإخوان و الأجداد، و الأعمام و الأخوال و الأولاد حَقَّهُ الذي قرره اللّه سبحانه له من النفقة و الإكرام، و المزاورة و غيرها، و ما ورد في الأحاديث، أن المراد بذلك أقرباء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو خصوص الصديقة الطاهرة صلوات اللّه عليها «1»، فإنما ذلك

من باب المصداق،

فقد روى الشيعة و السنة، أنه لما نزلت هذه الآية، سأل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل: من ذا القربى؟

و ما حقه؟ فقال جبرئيل: ذا القربى فاطمة، و حقها فدك، و قال: أمرك ربك أن تعطي فدكا لفاطمة عليها السّلام، فأعطاها إياها

«2»، و كانت في يدها، حتى غصبوها منها بعد وفات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْمِسْكِينَ أي

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 9 ص 105.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 29 ص 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 303

[سورة الإسراء (17): الآيات 27 الى 28]

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)

أعط المسكين- و هو الفقير- حقه من الحق الواجب، كالزكاة و الخمس، أو المستحب، كالصدقة وَ ابْنَ السَّبِيلِ و هو المنقطع في سفره، ينسب إلى الطريق لعدم معرفة أبيه، و إعطاء حقه من الزكاة و الخمس، أو الصلة و الخير وَ لا تُبَذِّرْ في الإعطاء، بأن تفرق أموالك على نحو الإسراف حتى تبقى بغير زاد تَبْذِيراً مصدر تأكيدي، و هذا كما قال سبحانه: (وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) «1» فكل من البخل و الإسراف منهي عنه، و الأوسط السخاء.

[28] إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ الذين يسرفون أموالهم، و الإسراف هو أن يعطي الإنسان المال في غير حق، سواء أعطى قليلا لمن لا يستحق، أو جاوز في الكثرة حد الوسط، فإن كلا الطرفين باطل لا يجوز كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ يقال فلان أخو فلان، أي قرينه و شبهه، أي إن المبذر قرين الشيطان، و شبيه له

في المعصية و الانحراف وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً كثير الكفر، يكفر مرة ثم أخرى، لأن كل عمل يمكن أن يؤتى به بإيمان أو كفر، و كان تخصيص هذه الصفة بالذكر- هنا- لأن المبذر يكون بكل مرة من تبذيره كافرا بالنعمة، إذ لم يشكرها بجعلها في موضعها، كما أمر اللّه سبحانه.

[29] وَ إِمَّا أي «إن ما» فإن للشرط و ما زائدة للزينة، أي إن

______________________________

(1) الإسراء: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 304

[سورة الإسراء (17): آية 29]

وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)

تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ عن ذي القربى و المسكين، و ابن السبيل، بأن ليس لك مال تنفق عليهم، فتضطر للإعراض عنهم حياء و استتارا ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها بأن لم يك إعراضك عنهم عن خسة نفس، و إنما تبتغي بذلك أن يتفضل اللّه عليك فتعطيهم، و في هذا أدب النفس، بأن يكون المعدم ينوي الإنفاق إن وجد فَقُلْ لَهُمْ أي المسؤول عنه قَوْلًا مَيْسُوراً أي قولا بلطف و لين يتيسر عليك، فإن القول اللين ميسور، ممكن أن يقال، بخلاف القول الغليظ البذي ء، الذي هو معسور يصعب أن يقال.

[30] و إذ أمر سبحانه بالإنفاق، و نهى عن الإسراف شبّه جانبي الرذيلة و هما البخل و الإسراف بمن يده مغلولة إلى عنقه لا يمكن أن يحركها، و بمن بسط يده حتى لا يبقى فيها شي ء، إذ لا قبض فيها ليبقى فيها مال، و الآية و إن كانت بهذا الصدد، لكنها عامة لكل إفراط و تفريط في الجهات الحيوية وَ لا تَجْعَلْ أيها الإنسان يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ بأن لا تعطي شيئا فتكون كالإنسان الذي يده مغلولة، لا

يتمكن على القبض و البسط، و جاء بالعنق لأن الغل، كذلك مانع عن كل تحريك، بخلاف غل اليد وحدها وَ لا تَبْسُطْها أي لا تبسط يدك كُلَّ الْبَسْطِ بأن تعطي جميع ما عندك، حتى لا يبقى لك شي ء، فتكون كالذي بسط يده لا يستقر فيها أي شي ء فَتَقْعُدَ أي تبقى مَلُوماً يلومك العقل و الشرع مَحْسُوراً من حسر إذا انكشف، يقال حسر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 305

[سورة الإسراء (17): الآيات 30 الى 31]

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)

عن ذراعه، و المحسور هو العريان، كما

قال الصادق عليه السّلام: فهو كناية عن الإنسان الذي لا مال له، كأنه عريان من الثياب

«1»، و ما دل على إن الإمام الحسن عليه السّلام بذل جميع ماله لا ينافي ذلك، لأنه كان علم أنه لا يقعد محسورا، و إنما يأتيه المال من الحقوق، و غيرها.

[31] إنك ببخلك لا تقدر أن تضيق على الناس، أو تبقي لنفسك، و لا بسرفك تقدر أن توسع عليهم، بل اللّه سبحانه هو المقدر للأرزاق يبسطها أو يقبضها، فلا تفعل ما يضرك و لا ينفع غيرك إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده وَ يَقْدِرُ أي يضيق فلا بخلك ينجيك من الضيق إن قدّر لك، و لا إنفاقك يسبب لك ضيقا، إن وسع اللّه عليك.

قال الشاعر:

إذا أقبل الدنيا عليك فجد بهاعلى الناس طرا قبل أن تتفلّت

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت و لا البخل يبقيها إذا هي ولّت

إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً فهو عن خبرة و بصيرة يضيّق و

يوسع، و عن خبرة و بصيرة يأمر بالتوسط بين البخل و الإسراف.

[32] و لقد تفشت في المجتمع الجاهلي سيئات عجيبة، فقد كانوا يئدون البنات خوف العار، و يقتلون الأولاد خوف الفقر و يكرهون فتياتهم

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 93 ص 163.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 306

[سورة الإسراء (17): آية 32]

وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32)

على الزنى لاكتساب الأموال، و يتعاطون الخمر و المسير افتخارا، حتى جاء القرآن الحكيم و نهى عن كل ذلك وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ بنين و بنات خَشْيَةَ إِمْلاقٍ الإملاق الفقر، يقال أملق الرجل إذا افتقر، و «خشية» مفعول له، أي لا تقتلوهم لخوف الفقر و العجز عن النفقة عليهم نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ فإن الرزق منه سبحانه، فلا كلّ عليكم منهم، و الأسباب الظاهرية في ذلك واضحة فإن الأرض و الشمس و الماء و الهواء مصدر الأرزاق، و يحصلها الإنسان من الطبيعة بالعمل، فبحسب كل فرد الرزق مخزون، و بعمله يخرج ذلك الرزق، و هذه الآية تناسب مجتمعنا الحاضر الذي يمنع من النسل خوف الفقر، فإن أهل الخبرة، ذكروا أن الكون يتحمل أضعاف هذا البشر الموجود الآن إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً أي إثما كَبِيراً فإنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا- و من قتل الأولاد- إسقاط الجنين- فإنه محرم أكيد و موجب للدية، كما قرر في الفقه.

[33] وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى و هو إتيان المرأة، بغير حلية، و النهي عن الاقتراب مبالغة في النهي عن الشي ء، فإن من اقترب إلى شي ء كاد أن يقع فيه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي معصية عظيمة متعدية عن حدود العصيان العادي، فإن

فحش بمعنى تعدى الحدود، و منه الدم الفاحش أي الأكثر من الدرهم- المعفو عنه في الصلاة- وَ ساءَ سَبِيلًا أي أن سبيل الزنى سبيل سيئ، لأنه يوجب الأمراض و إسراف المياه و اختلاط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 307

[سورة الإسراء (17): الآيات 33 الى 34]

وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)

الأنساب، و هدم نظام العائلة، إلى غيرها من المفاسد.

[34] وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها مقابل الكافر الحربي المهدور دمه، و الذي يقتل لحدّ أو قصاص إِلَّا بِالْحَقِ و هو ما كان لحد- كالمرتد- أو قصاص- كما لو قتل إنسانا عمدا- أو لأنه كافر حربي أو ما أشبه ذلك وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً قتله شخص ظالما في قتله إياه فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ أي ولي المقتول، و هو الأولى به، حسب مراتب الإرث سُلْطاناً أي تسلطا على قتل القاتل قصاصا فَلا يُسْرِفْ الولي فِي الْقَتْلِ و القصاص، بأن يقتل غير القاتل- كالثأر- أو يمثل بالقاتل إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أي إن اللّه سبحانه ينصر ولي المقتول، و نصرته أن سمح له بقتل القاتل، و أمر الحكّام بتنفيذ ذلك، و قد كانت عادة الجاهليين السائدة إلى هذا اليوم عند بعض جهلاء المسلمين أنهم يقتلون من عشيرة القاتل البري ء، لأنه صدر القتل من أحد أفراد عشيرته، و هذا هو الحرام و الإسراف في القتل.

[35] وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ مبالغة، في النهي عن التصرف في ماله بغير حق، و

لأن من رعى حول الحمى، أوشك أن يقع فيه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالصفة التي هي أحسن الصفات، و بالقربة التي هي خير أنواع الاقتراب، و ذلك بأن يصرفه على اليتيم حسب المصلحة و الاقتصاد، أو يتاجر له فيه تجارة مأمونة من الضرر، ربحها لليتيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 308

[سورة الإسراء (17): آية 35]

وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)

حَتَّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ أي قواه الكامنة فيه التي تظهر لدى البلوغ و الرشد- كما مر في سورة الأنعام- وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ مع اللّه و مع الناس، و لا تنقضوا العهد، بأن تخالفوا مقتضاه إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا عنه، يسأل اللّه المعاهد، هل وفيت بعهدك؟ فإن و في، فله الجزاء الحسن، و إن لم يف، فله الخزي و العقاب.

[36] وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ بأن لا تعطوا ناقصا، و لا تأخذوا زائدا بل الوفاء هو الأخذ و العطاء حسب الوزن و الكيل المقرر وَ زِنُوا من «وزن» «يزن» بِالْقِسْطاسِ هو الميزان الْمُسْتَقِيمِ الذي لا ينحرف، أي إذا أردتم التعامل، فليكن بينكم الوزن بالموازين الصحيحة المعتدلة، التي لا تنحرف قلة أو كثرة ذلِكَ الوفاء في الكيل و الوزن خَيْرٌ لكم إذ المجتمع إذا صار باخسا، يتضرر الإنسان عند الشراء، بقدر ما يسرق عند البيع، و يوجب رفع الثقة، و ذهاب البركة؛ و تفشي المخاصمة وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي أن أوله و مرجعه و مصيره أحسن من مصير التطفيف و التلاعب بالمكايل و الموازين، و من آل يؤول بمعنى رجع و صار إليه، أما في الآخرة، فالعذاب و النكال لمن بخس الناس حقوقهم، و تلاعب بالكيل و

الوزن (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) «1».

______________________________

(1) المطففين: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 309

[سورة الإسراء (17): الآيات 36 الى 37]

وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37)

[37] وَ لا تَقْفُ القفو اتباع الأثر، و منه القيافة، فإن القائف يتبع الآثار، ليلحق بهذا أو ذاك أي لا تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و معنى الاتباع أن يظهر ما جهله على نحو يرى أنه علمه، بأن يقول ما لا يعلم، أو يكتب ما هو مجهول لديه و نحوهما، فإذا قال «زيد في الدار» و هو لا يعلم ذلك، فقد تبع مجهولا، فإن كونه في الدار مجهول له و مع ذلك، فقد قاله- كأنه تابع له- إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ أي القلب كُلُّ أُولئِكَ الثلاثة كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فيما صدر منه، فالسمع مسئول لم سمع ما سمع؟ و البصر مسئول لما نظر إلى ما نظر؟ و القلب مسئول لم عزم، و وعى ما عزم عليه و وعاه؟ فإذا عمل كل واحد من هذه الثلاثة، ما لا يعلمه استحق العقاب، و هذا من باب المثال، و إلا فجميع الجوارح مسئولة عما اقترفتها خيرا كان أم شرا، فيلزم التثبت في كل شي ء، حتى يعلم الإنسان وجهه، ثم يعمل به أو يدعه، أما أن يتحرك وراء المجهول، فيسمع ما لا يعلم حليته، أو ينظر إلى ما لم يعلم جواز نظره إليه، أو يظن- بقلبه- سوءا فيما لا يدري، و نحوه أن يعقد قلبه على اعتقاد لا يدري صحته، و هكذا أعمال اليد

و الرجل و الفرج و اللسان و غيرها، فإن ذلك موجب للحظر.

[38] وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً المرح الخيلاء و التكبر، و إنما قال «في الأرض» لأن المشي كثيرا ما يستعمل في غير معنى الذهاب، كما قال سبحانه (وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) «1» و كثيرا ما يأخذ الإنسان

______________________________

(1) ص: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 310

[سورة الإسراء (17): الآيات 38 الى 39]

كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)

الكبر، فيظن أنه عظيم، حيث رأى لنفسه مالا أو جمالا، أو منصبا أو ما أشبه، لكنه غافل عن أنه صغير عاجز، فهذه الأرض تحت رجله، و هذه الجبال مطلة عليه، أيهما أعظم، أهو، أم هما، و هل يتمكن الإنسان، أن يشق الأرض شقا، فيجعلها نصفين؟ أو هل يمكن أن يطول نفسه حتى يبلغ طول الجبال؟ كلا، فما هذا الضرب على الأرض بغرور، و ما هذا الكبر و الاستعلاء، فالأرض التي يضربها برجله، لا يتمكن من التصرف فيها، و الجبال التي تعلوه لا يتمكن من الوصول في طوله إليها إِنَّكَ أيها المرح لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تقدر على شق الأرض وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا و ارتفاعا.

[39] كُلُّ ذلِكَ الذي تقدم من المحرمات التي نهى اللّه عنها كانَ سَيِّئُهُ إنما قال «سيئه» للدلالة على أنها سيئات، و إلا فمقتضى القاعدة أن يقال «كان» فقط عِنْدَ رَبِّكَ يا رسول اللّه مَكْرُوهاً فإنه سبحانه يكره هذه الخصال الخمس و العشرين التي ذكرت من قوله سبحانه (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) «1» إلى هنا.

[40] ذلِكَ

الذي تقدم من النواهي عن الكفر و القبائح مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ يا رسول اللّه مِنَ الْحِكْمَةِ و هي العلم بوضع الأشياء مواضعها اللائقة بها، فإن ترك المعاصي من الحكمة، ثم يرتد السياق إلى ما

______________________________

(1) الإسراء: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 311

[سورة الإسراء (17): آية 40]

أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)

ابتدأ به النواهي من قوله «لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بأن تعبد إلهين اثنين أو أكثر، و الخطاب عام، و إن كان في الصورة موجها إلى النبي على طريقة «إياك أعني و اسمعي يا جارة» فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ تطرح فيها جزاء للشرك مَلُوماً تلومك نفسك، و الناس و الملائكة مَدْحُوراً مطرودا عن رحمة اللّه و فضله، من دحر بمعنى طرد.

[41] و إذ جرى الكلام حول الشرك المرتبط بالعقيدة نحو المبدأ، جاء السياق ليعطف بعض خرافات الكفار إلى ذلك، فقد زعموا أن اللّه أخذ زوجة جنية، كما قال (وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) «1» فأولدت له بنات هي الملائكة، أما البنون، فقد جعلها سبحانه لهم فقط، فلم يتخذ ابنا، فقال في معرض الإنكار و الرد عليهم، أَ فَأَصْفاكُمْ أي هل خصكم رَبُّكُمْ أيها المشركون القائلون، بأن الملائكة بنات اللّه بِالْبَنِينَ فجعل لكم الأولاد الذكور وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً «من»، إما لبيان الجنس، أي اتخذ جنس الملائكة بناتا، أو للتبعيض، أي جعل بعض الملائكة إناثا إِنَّكُمْ أيها الكفار لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بجعلكم الأولاد لله ثم بتفضلكم عليه، بجعل البنين لأنفسكم، و البنات لله سبحانه.

______________________________

(1) الصافات: 159.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 312

[سورة الإسراء (17): الآيات 41 الى

42]

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)

[42] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا الحق فِي هذَا الْقُرْآنِ فجئنا بأساليب شتى، و طرق متنوعة، لبيان التوحيد و قضية المبدأ، و التصريف التحويل من حالة إلى حالة، و من صورة إلى صورة لِيَذَّكَّرُوا أي يتذكروا خالقهم، و يعرفوا الحق وَ لكن عكسوا الأمر في ما يَزِيدُهُمْ بيان الحق، و القرآن إِلَّا نُفُوراً أي تباعدا عن الحق، و نفرة من الواقع و الحقيقة.

[43] ثم عطف سبحانه إلى المشركين، ليستدل عليهم، بأنه لا يمكن تعدد الآلهة قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ أي مع اللّه آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ و الاستدلال عام، حتى لن يقول بإلهين اثنين، و إنما ذكر «الآلهة» حسب اعتقاد الكفار، ليطالب الاحتجاج كلامهم إِذاً في حين التعدد لَابْتَغَوْا تلك الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ صاحب العرش، و هو اللّه سبحانه سَبِيلًا أي طلبوا طريقا يقربهم إلى مالك العرش، أو طلبوا سبيلا إلى مغالبة مالك العرش و الترفع عليه، ليكونوا هم الآلهة العليا، لا مالك العرش، فإذا قيل: أي تلازم بين التعدد و بين تقرب تلك الآلهة إلى ذي العرش؟ و ما الدليل على إنهم لا يبتغون، حتى يبطل المقدم- و هو التعدد- «على المعنى الأول» و أي تلازم بين التعدد و التغالب بين تلك الآلهة، و بين إله العرش؟ و ما الدليل على أنهم لا يتغالبون؟ «على المعنى الثاني» قلنا: إن الآلهة الصغرى، لا بد و أن تكون ناقصة و مدركة نقصها قابلة للاكتمال- و لو نوعا ما- فإدراكها يدفعها إلى التقرب، لتكميل النقص- فالتلازم مبني

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 313

[سورة الإسراء (17): الآيات 43 الى 44]

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)

على مقدمات أربع: نقصها و إدراكها و قابليتها للكمال، و حفزها نحو الكمال، و كلها مسلمة، لأنها من لوازم الإله، و أما الدليل على أنهم لا يبتغون، لأنهم لو ابتغوا لعلمنا ذلك، فيخبرنا الأنبياء الصادقون، فعدم إخبارهم لذلك، دليل على العدم «هذا كله على المعنى الأول» و أما التلازم، و نهي التالي على المعنى الثاني، فنقول لو كان هناك آلهة متعددة، لكانت متساوية، و التساوي نقص في الإله، لأنه يوجب عدم استقلاله في الكون، و هذا النقص لا ينعدم، إلا بإعدام الإله الآخر، و ذلك مقتضى للخصومة بين الآلهة، و لا يقال إن كل إله يعلم أنه لا يقوى على إعدام الآخر، فلا يخاصمه؟ لأنا نقول: إن قدر هذا الإله على إعدام ذلك خاصمه، و إن لم يقدر على إعدامه لم يكن إلها، إذ الإله هو القادر على كل شي ء، و أما الدليل على عدم المخاصمة، ما نرى من سير الكون باعتدال، فلو وقعت الخصومة، لاضطربت الأكوان تبعا للخصام و المشاجرة «1» [44] سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها وَ تَعالى أي ترفع، بمعنى أنه أرفع و أسمى عَمَّا يَقُولُونَ أي يقول هؤلاء الكفار من التعدد، و اتخاذ الأولاد عُلُوًّا كَبِيراً فلا نسبة بينه و بين الشركاء و الأولاد، كما تقول، إن الفقيه أعلى من الحمال علوا كثيرا، فلا نسبة بينهما- في العلم-.

[45] تُسَبِّحُ لَهُ أي تنزهه عن الصاحبة و الولد و الشريك، و

كل نقص السَّماواتُ السَّبْعُ فإنها أدلة على وجوده و نزاهته، إذ غير المنزه عن

______________________________

(1) إن الدليل مفصل مذكور في الفلسفة و الكلام، نكتفي منه بهذا القدر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 314

[سورة الإسراء (17): آية 45]

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45)

النقائص المتصف بالمحامد، لا يمكن أن يكون إلها لها، و المراد بالسماوات، إما أجرام، يعلمها اللّه سبحانه، في الفضاء المهول، و إما المدارات السبع السيارة- كما قالوا- وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ أي في السماوات و الأرض، و إنما جي ء بضمير العاقل، للتلازم بين التسبيح و بين العقل، و لعل لهذه الأشياء إدراك لا نعرف كيف هو وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ «إن» نافية، أي ما من شي ء إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ينزهه بالثناء الجميل، فإذا أثنى الإنسان بالجميل على أحد- كأن قال فلان عالم- كان تنزيها عن الجهل، و تحميدا بالعلم، و قد مرّ أن التسبيح، قد يكون بالحمد، و قد يكون بغير الحمد، فقد يقال فلان غير زان فهو تنزيه فقط و قد يقال فلان عفيف فهو تنزيه بالحمد، وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ أيها البشر تَسْبِيحَهُمْ إن كان المراد تسبيحهم تنزيهم لله سبحانه بلسان الحال، من باب أن المصنوع المتقن، يدل على وجود الصانع و علمه و قدرته و حياته و حكمته، فعدم فقهنا لتسبيحهم بمعنى عدم إدراك ذلك بالحواس أصلا، إذ ليس صوت فيسمع أو طعم فيذاق أو منظر فيرى، و هكذا، و إن كان المراد تنزيههم له بكيفية خاصة، فعدم فقهنا لتسبيحهم لقصور مداركنا عن الدرك، كما تقصر حواسنا عن إدراك الملائكة إِنَّهُ سبحانه كانَ حَلِيماً و من حلمه أنه لا يعجل بالعقاب

على من ينسب إليه هذه النسب غَفُوراً يغفر لمن تاب فلا يأس من رحمته سبحانه لمن تمادى في غيّه، ثم أقلع و أناب.

[46] إن الكفار قد عرفنا مقالاتهم التافهة السخيفة حول التوحيد و الألوهية، فلننظر إلى عملهم مع الرسول و القرآن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 315

[سورة الإسراء (17): آية 46]

وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يا رسول اللّه جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و هم الذين لا يؤمنون بالإله، و إنما يعبر عن ذلك، بعدم الإيمان بالآخرة، للتلازم بينهما، و بيان أن المؤمن بالتوحيد، لا بد و إن يؤمن بالآخرة حِجاباً مَسْتُوراً عن الأعين، فإن ذلك الحجاب لا يراه الناس، و إنما جعله سبحانه على الكفار ليرهبوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يؤذوه،

فقد ورد أن الكفار كانوا يؤذون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالليل إذا تلى القرآن، و صلى عند الكعبة، و كانوا يرمونه بالحجارة، و يمنعونه من دعاء الناس إلى الدين، فحال اللّه سبحانه بينه و بينهم، حتى لا يؤذوه

«1»، و قد يقال عن هذا الحجاب أنه طبيعي لكل إنسان يدعو إلى الحق في سلام، فإن الحق، إذا أثار أهل الباطل، كان السّلام المحتف به يولد فيهم هيبة لا يتمكنون من الاقتراب إلى الداعي.

[47] و من المعلوم أن المبطل إذا ركب رأسه، مصمما على الإعراض، تولدت فيه ملكة تغلف قلبه عن الانصياع، كما أن سمعه يخرج عن النطاق العادي للإسماع، إذ لا يستعد لاستماع الحق، و اللّه سبحانه، حيث يريهم أنهم

أعرضوا عن الحق بادئ ذي بدء تركهم و شأنهم، فلا يلطف بهم الألطاف الخفية التي يلطفها على المؤمنين الذين رأوا الحق فاتبعوه، و بمناسبة بيان الحجاب الفاصل بين الرسول و بين الكفار، يأتي الكلام حول سائر الأشياء الحائلة، بينهم و بين الرسول عن أذاهم و حجاب يمنعهم عن الاستفادة من الحق وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 256.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 316

[سورة الإسراء (17): آية 47]

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)

أي أغطية و أغلفة أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفهموا القرآن، أولئك يفقهوه وَ جعلنا فِي آذانِهِمْ جمع أذن وَقْراً و هو الثقل، أي إنما تركناهم متى أصبحت قلوبهم كأنها في غطاء، حيث الإنكار ملكة لهم، و حتى أصبحت آذانهم كأن فيها الثقل، و إنما نسب سبحانه الجعل إلى نفسه لأنه تركهم حتى وصلت حالتهم إلى ذلك وَ إِذا ذَكَرْتَ يا رسول اللّه رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ بأن قلت أنه إله واحد، و قرأت القرآن الدال على التوحيد، و بطلان التعدد و الشرك وَلَّوْا أي أعرضوا هؤلاء الكفار عَلى أَدْبارِهِمْ إفادة لتأكيد الإعراض، فإن الإنسان قد يعرض و هو جالس أو واقف، و قد يعرض و يذهب مدبرا دلالة على زيادة الإنكار نُفُوراً مصدر تأكيدي، لما دل عليه، ولّوا أي نفروا نفورا.

[48] إنهم قد يحضرون مجالسك للاستماع، لكن لا للتفهم، بل ليروا ذلك فيحيكون المؤامرة ضد القرآن، و ضد الرسول نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي بالنحو الذي يستمعون به- فما، موصولة- فإن الاستماع على أنحاء قد يكون للتفهم، و قد يكون للاستهزاء، و

قد يكون للرد، إلى غير ذلك، فإنا نعلم غرضهم في الاستماع، و سنجازيهم عليه إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي زمان استماعهم لقراءتك وَ إِذْ هُمْ نَجْوى أي و الزمان الذي يناجي بعضهم بعضا، ماذا يقولون عن القرآن، و عن الرسول، فيقول بعضهم إنه سحر، و آخر إنه كهانة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 317

[سورة الإسراء (17): الآيات 48 الى 49]

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)

و آخر إنه شعر، إلى غير ذلك و قوله «هم نجوى» من باب «زيد عدل» مبالغة، أو التقدير «ذوو نجوى» إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون، و المراد بالخطاب المؤمنون، و إلا فهم ما كانوا تابعين إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي قد سحروه، فاختلط عقله، فإنه كثيرا ما يختلط عقل المسحور.

[49] انْظُرْ يا رسول اللّه، إلى هؤلاء المعاندين كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فقالوا شاعر، و كاهن، و مجنون، و ساحر، و مسحور، و غير ذلك فَضَلُّوا ضلالا شديدا، فإن الإنسان إذا ضل ابتداء، فلم يتماد فيه رجع عن غيّه، أما إذا تمادى و جعل يجمع اللقطات حول ضلاله يستحكم ضلاله، فَلا يَسْتَطِيعُونَ لتكذيبك، و الوقيعة فيك سَبِيلًا صحيحا، أو لا يستطيعون طريقا للرجوع، لأنهم، قد تمادوا، فصارت الضلالة ملكة لهم، و الإنسان إذا صار كذلك صعب رجوعه، فالمراد بعدم الاستطاعة العرفي لا الحقيقي.

[50] و إذ رأينا مقالاتهم السخيفة حول المبدأ، و حول الرسول و القرآن، فلنسمع كلامهم حول المعاد وَ قالُوا أي قال هؤلاء الكفار أَ إِذا كُنَّا عِظاماً استفهام إنكاري استهزائي يعني متنا، و ذهب لحومنا، و بقي من أجسامنا العظام المجردة،

وَ رُفاتاً هو ما يتكسر، و يبلى من العظام و غيرها، و اللفظ مفرد، من رفت، بمعنى بلى و تحطم أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ نحيى للحساب خَلْقاً جَدِيداً بعد الفناء و البلى؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 318

[سورة الإسراء (17): الآيات 50 الى 51]

قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)

هذا لا يكون أبدا.

[51] قُلْ يا رسول اللّه لهم مستهزئا بهم- كما يستهزئون هم- كُونُوا حِجارَةً بعد الموت أَوْ حَدِيداً مما هو أبعد في نظركم، من الرفاة من جهة قبول الحياة.

[52] أَوْ خَلْقاً آخر غيرهما و غير الرفاة، كأن ليصبحوا خزفا أو مدرا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ من حيث بعده عن الحياة، تصوروا ما شئتم، فإنكم ستبعثون، و اللّه القادر على الابتداء، قادر على الإعادة (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) «1» فَسَيَقُولُونَ إذا صرنا كذلك ف- مَنْ يُعِيدُنا إلى الحياة، بعد أن صرنا حجرا، أو حديدا، أو ما أشبه؟ قُلِ يا رسول اللّه لهم الَّذِي فَطَرَكُمْ و خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ و هو اللّه سبحانه، بل الخلق أول مرة أبعد في نظر الإنسان من الإعادة، و إن كان الأمران عند اللّه سيّان فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركون نحوك رؤوسهم تحريك استهزاء و تعجب و تكذيب، يقال أنغض رأسه إذا حركه بارتفاع و انخفاض وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ أي في أي وقت يكون البعث؟ قُلِ يا رسول اللّه في جوابهم عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً لعله قريب، فإن كل آت قريب،

و قد كتب الإمام

______________________________

(1) يس: 80. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص:

319

[سورة الإسراء (17): الآيات 52 الى 53]

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53)

الحسين عليه السّلام إلى محمد بن علي «بسم اللّه الرحمن الرحيم، كأن الدنيا لم تكن، و كأن الآخرة لم تزل، و السّلام» «1»

[53] إن البعث إنما يكون يَوْمَ يَدْعُوكُمْ اللّه من قبوركم فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي يكون جوابا مقارنا لحمده خوفا منه، فإن الإنسان الخائف يمدح المخوف منه، ليستعطفه و يستجلب رضاه وَ تَظُنُّونَ في ذلك اليوم إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم و بقيتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا فقد استقلوا مدة بقائهم في الدنيا، حتى أنه حين يقال لهم: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) «2»، و في آية أخرى (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ ..) «3» و نحن نرى ماضي أعمارنا، كأنه لم يكن إلا مدة يسيرة.

[54] و إذا رأينا عاقبة المكذبين القائلين سيئا، فليتوجه المؤمنون إلى مقالهم، فلا يكون إلا حسنا، سواء كان مرتبطا بالاعتقاد، أو بغيره وَ قُلْ يا رسول اللّه لِعِبادِي الذين يسمعون منك يَقُولُوا جزم الفعل، لأنه في جواب الأمر، المقالة و الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من سائر المقالات و الكلمات، و هي في الاعتقادات كلمة الشهادتين، و في الاجتماعيات كلمة الإصلاح، و هكذا، فإن الكلمة توجب الفتن و الاضطراب إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد و يغري بعضهم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 45 ص 87.

(2) المؤمنون: 113 و 114.

(3) يونس: 46.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 320

[سورة الإسراء (17): الآيات 54 الى 55]

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ

أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)

ببعض، إذا صدرت منهم الكلمة السيئة إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ في جميع الأوقات لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أي ظاهر العداوة، و أيّة عداوة أكثر من إفساد الدنيا و الآخرة.

[55] و لا بد بعد هذه التوصية، و غيرها، أن تخرج من الإنسان الكلمة السيئة، فليكن الإنسان عند ذلك بين الخوف و الرجاء، و لا يكن يزك نفسه، فالله أعلم به من غيره، و حتى من نفسه، إذ كثيرا ما لا يعلم الإنسان مقدار الجرم الذي اقترفه، بينما اللّه عالم بذلك، رَبُّكُمْ أيها البشر أَعْلَمُ بِكُمْ و بما أجرمتم من الآثام إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ و ليست إرادته اعتباطية، بل تابعة لموازين عادلة أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بما عملتم من المعاصي، و قلتم من الكلمات السيئة وَ ما أَرْسَلْناكَ يا رسول اللّه عَلَيْهِمْ على البشر وَكِيلًا حتى تكون أنت المسؤول عن جرائمهم، بل أنت داع و هاد، فعليك أن تقول كما أمرنا «قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» و عليهم العمل، فإن لم يعملوا، كان حسابهم على ربهم، إن شاء رحم و عفى، و إن شاء عذب و أهان.

[56] إن علم اللّه ليس خاصا بهؤلاء وَ رَبُّكَ يا رسول اللّه أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكل تحت علمه الشامل ملائكة كانوا، أم بشرا أم جنا، و بمقتضى علمه الشامل بالبواطن، فضل بعض النبيين على بعض، و منه يعرف وجه تفضيل النبيين على سائر الناس، و إنما جي ء بهذا الأمر هنا، لأن سوق الآيات حول العقيدة مبدءها و رسالتها

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 3، ص: 321

[سورة الإسراء (17): الآيات 56 الى 57]

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)

و معادها وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ حيث إن نفسياتهم كانت مختلفة، بعضها أرقى من بعض وَ آتَيْنا داوُدَ النبي عليه السّلام زَبُوراً كما أتيناك القرآن، فلا مجال للكفار، أن يقولوا: إن الأنبياء عليهم السّلام جاءوا بخوارق كونية، فما معنى مجيئك، بهذا الكتاب؟

و هلا كان كعصى موسى أو إبراء الأكمه و الأبرص كعيسى؟

[57] و لقد كان المشركون يعبدون من دون اللّه المسيح و عزير و الملائكة، فيأتي السياق للاحتجاج عليهم، حيث أن الجو العام حول العقيدة قُلِ يا رسول اللّه لهؤلاء المشركين الذين يعبدون هؤلاء ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ بأنهم آلهة مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه، ادعوهم ليكشفوا ضركم، و ما يصيبكم من البلاء و المحنة فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ بأن يرفعوا البلاء رأسا وَ لا تَحْوِيلًا بأن يحولوه من مكان إلى مكان، إنهم إنما يفعلون ما يفعلون بإذن اللّه و أمره و إرادته، أما أن يستقلوا بلا دخل اللّه سبحانه إطلاقا، فإنه لا يكون.

[58] أُولئِكَ الآلهة الَّذِينَ يَدْعُونَ أي يدعونهم هؤلاء المشركون آلهة يَبْتَغُونَ و يطلبون إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ يتوسلون إليه سبحانه للتقرب منه، أَيُّهُمْ أَقْرَبُ الأقرب من هؤلاء الآلهة- كعيسى- عليه السّلام يطلب القرب إلى اللّه فكيف يكون إلها من حاله كذلك؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 322

[سورة الإسراء (17): الآيات 58 الى 59]

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً

شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)

وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إن الأقرب من آلهتهم يطلب القرب إلى اللّه بالطاعة، و هو خائف منه، راج لطفه، فهل يمكن أن يكون إلها في عرض إله السماء، كما يزعم المشركون؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ يا رسول اللّه كانَ مَحْذُوراً أي يحذر منه و يتقى، حتى أن أكبر آلهة هؤلاء يخافه، فكيف لا يخافون هؤلاء، و يتمادون في الشرك و الضلالة و العصيان؟

[59] فليخف هؤلاء الكفار عذاب اللّه سبحانه، و ليحذروا أن يحل بهم العذاب المقرر لبعض القرى حين يتمادون في الغي وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي ما من بلدة، و القرية هي البلدة إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالإماتة، فإن يوم القيامة لا يأتي إلا بعد موت الجميع أَوْ مُعَذِّبُوها أي معذبوا أهلها، بعلاقة الحال و المحل- كما سبق- عَذاباً شَدِيداً فلا يتمادى هؤلاء في غيهم، فإن مصيرهم الموت و العذاب هناك، إن لم يعذبوا هنا كانَ ذلِكَ الإهلاك إماتة، و العذاب فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي قد سطر و كتب، فلا مفر لأحد، و لا منجى لبشر.

[60] و ليترك هؤلاء الكفار غيهم و طلباتهم السخيفة التي طلبوها، بأن تأتي يا رسول اللّه بالخوارق، فقد كفاهم القرآن حجة و برهانا وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ الرسل بِالْآياتِ الخارقة التي يطلبها الناس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 323

[سورة الإسراء (17): آية 60]

وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي

الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي الأمم السابقة، فقد كانت الخوارق المقترحة تصاحب الرسالات، لتصديق الكفار، و لتخويفهم من عاقبة التكذيب، لكن حين لم تكن الخارقة تنفع، فإن المنصف يؤمن بدونها، و الجاحد لا يؤمن حتى بها- كما حدث في قصة صالح، حيث طلبوا الناقة، ثم لم يؤمنوا- جاءت الرسالة الأخيرة، بدون تلبية لمثل هذا الطلب، و هنا سؤال:

إن الخارقة لو كانت تنفع، فلما ذا تجردت منها الرسالة الأخيرة؟ و إن كانت لا تنفع، فلما ذا صاحبتها الرسالات السابقة؟ و الجواب إنها لا تنفع، و لكن جي ء بها حتى تكون حجة لتلك الأمة و لسائر الأمم بأن الخارقة لا تفيد في إيمان المعاند، و قد رأيتم ذلك و جربتموه، و إن كان اللّه سبحانه يعلم ذلك من الأزل وَ آتَيْنا ثَمُودَ أي قبيلة ثمود، قوم صالح النبي عليه السّلام النَّاقَةَ العجيبة، آية مُبْصِرَةً لهم، تبصرهم صدق صالح، و أنه نبي من عند اللّه فَظَلَمُوا أنفسهم بسببها إذ كفروا، فأخذهم العذاب وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ التي نرسلها مع الرسل إِلَّا تَخْوِيفاً و إذ لم ينفع هذا النوع من التخويف- كما جربتم- فلا علينا إلا أن نتم الحجة، أما إعطاء الخوارق الأنبياء، فلا يلزم في الحكمة.

[61] وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فهو يعلم ضمائرهم و نفسياتهم، كالمحيط الذي يشتمل على المحاط، فلا يخرج منه شي ء، إن اللّه سبحانه محيط بالناس مطلع على جميع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 324

خصوصياتهم، أي فهل تحتاج إلى أكثر من قصة ناقة صالح، شاهدا لما ذكرناه، من أن الناس لا يؤمنون بالخارق؟ و هذا كما إذا

قلت لزيد:

إن عمروا رجل بخيل، ثم ذكرت له شاهدا على بخله، بأنه نهر الفقير الفلاني، تقول: و إذ قلت لك أن عمروا بخيل. و هنا يأتي سؤال أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لو كان لا يأتي بالخارق، فكيف أخبر بأنه يدخل مكة، كما قال سبحانه (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ) «1» أ ليس الإخبار بما يأتي خارقا؟ و كيف أخبر بأنه رأى عند المعراج شجرة الزقوم في الجحيم، أليس الإخبار عن الغيب خارقا؟ و الجواب أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يخبر بذينيك الأمرين، دليلا على نبوته «كما جاء صالح بالناقة دليلا على نبوته» و إنما أخبر بذلك فتنة و امتحانا للناس، ليظهر المؤمن إيمانا راسخا من غيره، كما ظهر شك البعض في قصة الحديبية، و كما يكون الإخبار عن الزقوم في النار، محلا لشك بعض ضعفاء الإيمان، كيف تنبت في النار الشجرة؟ و هنا أمور، الأول، أن ما ذكرنا من كون «الرؤيا» قصة دخول مكة، لا ينافي عدم كون هذه السورة مدنية، لأنه ذكر جمع من المفسرين، أن جملة من آيات هذه السورة مدنية، الثاني إنا لا نعلم مراده تعالى من هذه الآية الكريمة، و إنما ذكرنا ذلك التفسير اتباعا لجماعة من المفسرين، و حيث رأيناه أقرب إلى ارتباط الآية، بما قبلها، و ارتباط بعض أجزائها ببعض، أما مراده سبحانه، فهو خاف علينا، و لم يرد شي ء مفصل من المعصوم، نقطع، بأنه عليه السّلام فسّر الآية تفسيرا، لا تأويلا، و من باب المصداق، و ما أشبه، حتى نتبعه، الثالث، ورد في جملة من

______________________________

(1) الفتح: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3،

ص: 325

الروايات، أن المراد بالرؤية، ما أري النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في منامه، من أن نبي أميّة ينزون على منبره كنزو القرد، و أنهم المراد بالشجرة الملعونة،

فقد روي أن الإمام سئل عن هذه الآية، فقال: إن رسول اللّه نام، فرأى أن بني أميّة يصعدون منبره، يصدون الناس، كلما صعد منهم رجل، رأى رسول اللّه الذلة و المسكنة «أي لأمته» فاستيقظ جزوعا من ذلك، فكان الذين رآهم اثني عشر من بني أمية، فأتاه جبرئيل بهذه الآية

«1»، إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة، و الذي احتمل أن هذا من باب التأويل، و ذكر المصداق للآيات في كل زمان، كما ذكرنا مكررا، و إن كان من المحتمل أن «الرؤيا» يراد بها هذه، فيكون الارتباط في أجزاء الآية، إن إخبارك يا رسول اللّه بهذه الرؤيا، و أنه سيكون ذلك مستقبلا ليس من الخوارق التي ذكرنا في شأنها «و ما منعنا» و إنما هي للفتنة و الاختبار، و سنجري في تفسير الآية، على ما ذكرنا أولا- و اللّه العالم- وَ ما جَعَلْنَا يا رسول اللّه الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ حيث رأيت أنك تدخل المسجد الحرام آمنا، و أخبرت بذلك قومك، عن الغيب إِلَّا فِتْنَةً و اختبارا لِلنَّاسِ ليتميز المؤمن الحقيقي من غيره، و لم تكن خارقة تزيد إثبات نبوتك بها- من قبيل ناقة صالح- وَ ما جعلنا الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ التي رأيتها في معراجك في الجحيم، و هي شجرة الزقوم، و معنى كونها ملعونة أنها مبعدة عن الخير، لا تأتي بخير، و إنما تأتي بشرّ، و عذاب للكفار، إلا فتنة للناس ليتميز المصدّق بها من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 33 ص 209.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 326

[سورة

الإسراء (17): الآيات 61 الى 62]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62)

المكذّب، فقوله «و الشجرة» عطف على «الرؤيا» و قوله فِي الْقُرْآنِ بمعنى أنها ذكرت في القرآن، فالظرف متعلق ب «الشجرة» وَ نُخَوِّفُهُمْ أي نخوف هؤلاء الكفار، بما نأتي لهم من الأدلة على هلاك المكذبين، و سوء مصير الكافرين فَما يَزِيدُهُمْ التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فإن المعاند، كلما رأى قوة حجة الطرف، زاد عنادا و إصرارا، ليقاوم بعناده و إصراره الحجة أكثر فأكثر.

[62] وَ اذكر يا رسول اللّه لهؤلاء- لعلهم يعتبرون، و يعرفون أن الشيطان قد خدعهم، حسب سابق وعده بإهلاك الناس- إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ و قد كانت السجدة لله سبحانه، و التعظيم لآدم، حيث جعل قبلة، كما أن سجدتنا لله، و فيها تعظيم الكعبة، حيث أنها إليها فَسَجَدُوا جميعا إِلَّا إِبْلِيسَ لم يسجد كبرا و حسدا قالَ مبرّرا لفعله ذلك أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ يا رب في حال كونه طِيناً؟ و أنا أشرف منه، فكيف يسجد الأشرف للأدنى؟.

[63] و حين رأى الشيطان، أنه طرد عن ساحة القرب، على كبره، في عدم سجوده لآدم قالَ لله سبحانه أَ رَأَيْتَكَ أي أخبرني هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ استفهام استنكاري، هذا آدم هو الذي كرمته عليّ، و فضلته و شرفته على مثلي؟ ثم قال لَئِنْ أَخَّرْتَنِ و لم تمتني، يا رب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 327

[سورة الإسراء (17): الآيات 63 الى 64]

قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ

وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)

إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ حسب ما وعده سبحانه (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) «1» لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ الاحتناك الاقتطاع من الأصل، أي لأقطعنهم عن الطريق، إلى سبيل الغواية إِلَّا قَلِيلًا منهم من حفظته يا رب عن الكفر و المعاصي، كما قال سبحانه (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) «2».

[64] قالَ الله سبحانه في جواب إبليس، و تهديده بإغواء ذرية آدم اذْهَبْ يا إبليس فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم، بأن كفر أو عصى فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أنت على كبرك و اغوائك، و هم على غوايتهم و ضلالتهم جَزاءً مَوْفُوراً كاملا غير ناقص، من الوفر بمعنى الكمال.

[65] وَ اسْتَفْزِزْ يا إبليس من استفز، بمعنى استنهض، كأن الشيطان يطلب نهوضهم للكفر و المعصية مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم، و المراد بالأمر التهديد بِصَوْتِكَ تشبيه له بالداعي الذي يصيح بالناس حتى يتبعوه وَ أَجْلِبْ يا إبليس، يقال أجلب الرجل على صاحبه، إذا توعده بالشر، و جمع عليه الجيش، لأنه جلب و أحضر على ضرر صاحبه عَلَيْهِمْ على ذرية آدم بِخَيْلِكَ بفرسانك

______________________________

(1) الحجر: 38 و 39.

(2) الحجر: 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 328

[سورة الإسراء (17): الآيات 65 الى 66]

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)

الراكبين وَ رَجِلِكَ أي راجليك، و هو كناية عن إعمال جميع قواه، كما أن من يريد هزيمة عدوه يجمع له كل فارس و راجل له وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بأن تعطيهم

بعض الحرام، و تأخذ منهم في سبيل الحرام وَ الْأَوْلادِ بأن تأتي إليهم بأولاد الحرام، و تجعلهم يضعون أولادهم في المحرمات، و يضلونهم، كأن المال و الولد الحلال، ما هو من الله و إلى الله، أما الحرام منهما، فما هو من الشيطان و إلى الشيطان- بجميع صور ذلك- وَ عِدْهُمْ أي منّهم بالأماني الكاذبة المسببة لضلالهم و عصيانهم، ثم ذكر سبحانه ملتفتا إلى المخاطبين، الذين سيقت هذه الآيات لإرشادهم، و أنهم إنما يتبعون الشيطان وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً فإنه يزين لهم الخطأ كأنه صواب، و الباطل كأنه حق، فيغرهم بذلك و يغشهم.

[66] ثم ذكر سبحانه أن الشيطان لا يقدر على كل ذرية آدم عليه السّلام إِنَّ عِبادِي الذين أطاعوني لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ سلطة و قدرة، لأنهم الأصفياء الذين لا يرضخون لإغوائك، و لا يتبعون خطواتك وَ كَفى بِرَبِّكَ يا رسول الله على العباد وَكِيلًا حافظ للعباد الصالحين من مكائد إبليس.

[67] ثم عطف السياق نحو الآيات الكونية الدالة على وجوده، محذرا إياهم عقابه، بعد ما أراهم أنهم وقعوا في حبائل الشيطان، فمن الجدير بهم أن يخلصوا أنفسهم رَبُّكُمُ أيها البشر هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 329

[سورة الإسراء (17): الآيات 67 الى 68]

وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68)

الَّذِي يُزْجِي الإزجاء سوق الشي ء حالا بعد حال لَكُمُ الْفُلْكَ أي يسوقها و يجريها باستمرار على الماء فِي الْبَحْرِ فمن يفعل ذلك بكم غيره سبحانه؟ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي لتطلبوا من فضله سبحانه الأموال

بالتجارة، و نحوها إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فقد تفضّل عليكم بهذه النعمة، فجعل الماء بحيث يجري، و السفينة بحيث لا تغرق.

[68] وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي المصيبة و الشدة فِي الْبَحْرِ حيث انقطعتم عن العلاج، فإن في البحر يكون الإنسان مضطرا إذا أصابه مكروه، لأنه لا يجد عونا و مهربا، و خصوصا إذا سكنت الرياح أو اضطربت الأمواج ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ أي ذهب عنكم ذكر كل معبود إلا الله سبحانه، فلا ترجون هناك النجاة إلا من عنده فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من البحر إِلَى الْبَرِّ فأمنتم الأخطار أَعْرَضْتُمْ عن الإيمان به و عن طاعته وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كثير الكفر، فإن له في كل لحظة كفرا جديدا، أو المراد كثير الكفران، إذ كل نعمة تحتاج شكرا.

[69] أَ فَأَمِنْتُمْ أيها البشر- بعد ما أنجاكم إلى البر- أَنْ يَخْسِفَ الله بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ بأن تهلكون بالبر، حيث تخسف الأرض بكم، فإنكم لم تخرجوا من سلطان الله سواء كنتم في بحر أو بر، و إنه قادر أن يهلككم، أينما كنتم، فكيف تعرضون، إذا وصلتم إلى البر؟ و إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 330

[سورة الإسراء (17): الآيات 69 الى 70]

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)

قال «جانب البر» لأن المراد طرفه الذي يسكنون فيه، أو المراد ساحل البحر، بمجرد خروجهم، فإن الساحل جانب البر، و قد أريد أنهم في وقت يظنون أنهم خلصوا من الهلاك، و يرتاحون غاية الارتياح،

معرضون للأخطار أَوْ يُرْسِلَ الله عَلَيْكُمْ من السماء حاصِباً أي حجارة تحصبون بها، و الحصب بمعنى الرمي، فهل أمنتم ذلك؟

ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي حافظا يحفظكم من بأس الله سبحانه.

[70] أَمْ أَمِنْتُمْ أيها البشر الذين نجوتم من الغرق و الهلاك في البحر أَنْ يُعِيدَكُمْ الله فِيهِ أي في البحر تارَةً أُخْرى مرة ثانية، بأن يلقي في ذهنكم السفر، فتركبون البحر فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ القصف الكسر بشدة أي إذا ركبتم السفينة مرة ثانية، يرسل الله عليكم ريحا شديدة، كاسرة تكسر السفينة فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم الحاصل منكم حين وصلتم إلى البر، كما قال «أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ أي بذلك الغرق تَبِيعاً أي تابعا يتبع أو أهلا لكم للمطالبة بدمائكم؟

[71] و كيف يكفر البشر بالإله الذي كرّمه و فضله؟ وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ تكريما ذاتيا بالعقل، و حسن الخلقة، و تهيئة أسباب الراحة له، و تسخير كل شي ء لأجل منافعه، إلى غير ذلك من أنواع التكريم وَ حَمَلْناهُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 331

[سورة الإسراء (17): آية 71]

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)

أي هيأنا لهم وسائل الركوب فِي الْبَرِّ بالخيل و البغال و الحمير، و منه هذه الآلات الحديثة، فإنها تحمل الإنسان بفضل الله سبحانه، و إلا فمن خلق الحديد، و من جعل للنار قوة السير، و من هيّأ وسائل الآلة؟ وَ الْبَحْرِ بالسفن وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أكلا و شربا و لبسا، و نكاحا، و غيرها، فإن كل ذلك رزق خصهم الله سبحانه به، و إن اشتركت بعض الحيوانات في بعضها،

و لكن ليس بهذا العموم، و الشمول، و الكيفية المرفهة وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا إما المراد أنهم مفضلون على الكثير دون الكل، بأن يكون الملائكة أفضل من الإنسان جنسا، و إما المراد أن التفضيل على كثير- فليس المراد المفهوم، بل المراد الخلق الكثير الذي ملأ ما بين السماء و الأرض، أن الناس مفضل عليه، ف «من» بيانية، لا تبعيضية- و لعل هذا هو الأقرب، إلى ما دل على أن الإنسان أفضل ما خلقه الله سبحانه، و إن كان الأول أقرب إلى اللفظ، و لا يخفى أن تفضيل الطبيعة، بما هي طبيعة و تكريمها، لا ينافي وجود السيئ، كما لا ينافي وجود بعض المفضلين في سائر الأجناس، فإذا قلت الرجل خير من المرأة، تريد أن هذا الجنس أفضل، و إن كان في جنس الرجال قابيل، الذي هو أسوأ من كل امرأة، و في جنس النساء فاطمة الزهراء عليه السّلام المفضلة على من دون الرسول و الوصي من الرجال.

[72] و من تفضيل الله سبحانه البشر على سائر الخلق، أن جعل لهم أئمة يهدونهم الطريق، و يكونون واسطة بينهم و بين الله سبحانه، في أخذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 332

[سورة الإسراء (17): آية 72]

وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (72)

الأحكام و إعطائها الأنام، و قد اتبع بعضهم هذا المنهاج، فاهتدوا، و تخلف بعضهم، فاتبع أئمة ضلالة، فضلوا و غووا، فليتذكر الإنسان يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ كل جماعة و فئة من الناس بِإِمامِهِمْ الذي ائتموا به، نبيا كان أو وصيا، أو شقيا، و هناك تظهر الفئات المختلفة، كل فئة لها إمام خاص، و لون خاص و لواء خاص

فَمَنْ أُوتِيَ أي أعطى كِتابَهُ المدروج فيه أعماله بِيَمِينِهِ دل ذلك على أنه من أهل السعادة و الخير فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ فرحين مسرورين ليزدادوا سرورا و فرحا بما يرون فيه من الطاعات و العبادات، و الأعمال الحسنة المرضية وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي مقدار الفتيل، و هو الخيط الرفيع في شق النوات، كأنه مفتول.

[73] و من أوتي كتابه بيساره، أو من وراء ظهره فهو محزون، و يحشر هناك أعمى، فلا يتمكن من قراءة كتابه وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى عن طريق الهدى و الرشاد فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى لا يبصر شيئا في ذلك المزدحم الهائل، و الموقف الرهيب وَ أَضَلُّ سَبِيلًا إذ الضلال في الدنيا لا يظهر على الإنسان، بما يميزه عن بقية الأفراد المهتدين، أما هناك فإنه يظهر في عمى العين، و اسوداد الوجه، و سائر العلائم، و يقول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 333

[سورة الإسراء (17): الآيات 73 الى 74]

وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)

(رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى «1»، و كأنهم في بعض المواقف عميان، و في بعض المواقف مبصرون.

[74] ثم يأتي السياق ليبين موقف القوم من الرسول و القرآن، و تهديدهم بمصير آل فرعون، حيث عارضوا موسى، فأهلكهم الله سبحانه وَ إِنْ كادُوا «إن» مخففة من الثقيلة، و اسمها ضمير الشأن محذوف، أي أن المشركين الذين تقدم ذكرهم، هم قاربوا لَيَفْتِنُونَكَ أي يزلونك و يصرفونك يا رسول الله عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي عن

القرآن الذي أوحيناه إليك، و الأحكام التي ألقيناها إليك، فقد حاولوا هذه المحاولة، في صور متعددة، تطميعا و تخويفا و استهزاء، بحيث أنه لو لا الرسول المعصوم، لزل و انصرف، فإنهم «كادوا» و «قاربوا» لكن الرسول كان أصلد من الجبل، فقد أرادوا زحزحته لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا وافقهم في أهوائهم، كان مفتريا على الله بغير القرآن، فإن القرآن على منهاج، و هم على منهاج آخر وَ إِذاً أي افتروك و افتريت لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي جعلوك صديقهم، و أظهروا خلتك.

[75] وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي حفظناك بالعصمة التي جعلناها فيك، و العصمة حالة في الإنسان، تبعث على أن يرى المعصية قبيحة للغاية، و الطاعة جميلة للغاية، حتى أنه لا يترك الطاعة، و لا يفعل المعصية لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ

______________________________

(1) طه: 126 و 127.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 334

[سورة الإسراء (17): آية 75]

إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)

أي لقد قاربت أن تميل إلى الكفار شَيْئاً قَلِيلًا ركونا قليلا، و اعتمادا يسيرا، فتعطيهم بعض ما سألوك، و لا تقوم بمهمة التبليغ كما ينبغي، و هذا حقيقة واضحة، فإن الإنسان مهما يكن صلبا، لا يتمكن أن يقاطع الجميع في جميع الخطوط، و لا أقل أن يلاحظ بعض المصالح، أما المعصوم، فلا يتطرق إليه ذلك أبدا، فإن الانحراف اليسير، أول الطريق ينتهي إلى أعظم الانحراف في آخره، و هيهات أن يساوم الرسول الأشراف و الكفار، على دين أو عقيدة أو سلوك مهما كان طفيفا.

[76] إِذاً لو فعلت ذلك الركون لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ عذاب الْحَياةِ الذي نعذب به المشرك في الدنيا، كما

قال سبحانه: (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1» و إنما يضاعف له العذاب، لأن القائد يتحمل عقاب نفسه، و عقاب أتباعه- لو انحرف- بخلاف الإنسان العادي، الذي لا يتحمل إلّا عقاب نفسه وَ ضِعْفَ عذاب الْمَماتِ في الآخرة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً أي لا ينصرك أحد على ضررنا، بأن ينقذك من عذابنا، و من المعلوم، أن المقصود بأمثال هذه الآية الكريمة تنبيه الأمة، و إلقاء اليأس في قلوب المشركين عن أن يتبعهم الرسول،

و قد قال هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في جواب الكفار، الذين طلبوا منه أن يترك أمره: «و الله لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر

______________________________

(1) طه: 125. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 335

[سورة الإسراء (17): الآيات 76 الى 77]

وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)

في يساري، على أن أترك هذا الأمر، لما فعلت» «1».

[77] وَ إِنْ كادُوا إن مخففة من الثقيلة، أي إنهم كادوا- بمعنى قربوا، أو مكروا- لَيَسْتَفِزُّونَكَ أي يزعجونك، و يشردونك مِنَ الْأَرْضِ أرض مكة حتى لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ليصفو لهم الجو وَ إِذاً لو أخرجوك لا يَلْبَثُونَ أي لا يبقون خِلافَكَ من بعد إخراجك إِلَّا قَلِيلًا مدة يسيرة، فقد جرت سنة الله سبحانه، أن يهلك الكفار إذا شردوا رسلهم، و أخرجوهم من بلادهم.

[78] سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا فقد جرت سنتنا و طريقتنا في باب الرسل السابقين، أن الكفار، لو أخرجوهم من بلادهم، عذبنا الأمة بعد قليل، حتى لا يلبثون بعدهم إلا قليلا من الزمان، و

«سنة» منصوبة بفعل مقدر، أي سننّا ذلك سنّة، وَ لا تَجِدُ يا رسول الله لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي تبديلا، فإنها جارية مستمرة، فلا يتمكن أحد أن يقلب السنة عن وجهها، أما هجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإن الكفار هموا بقتله، و إنه هو الذي فرّ من بين أيديهم، بالإضافة إلى أنهم لم يلبثوا خلافه إلا قليلا، حيث قتلوا يوم بدر، بعد سنة من الهجرة تقريبا، و هكذا توالت عليهم النكبات، و قد ورد في شأن نزول هذه الآية، قولان، الأول، أنه في شأن أهل مكة، حيث هموا بإخراج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 54.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 336

[سورة الإسراء (17): آية 78]

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78)

من مكة، و الثاني، أنها نزلت في اليهود بالمدينة، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما قدم المدينة، أتاه جماعة من اليهود، فقالوا: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، و إنما أرض الأنبياء الشام، فأت الشام «1» كما أنه ورد في باب نزول قوله «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ» أقوال نختار منها،

أنها نزلت في «و فد ثقيف» جاءوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال لا ننحني بفنون الصلاة، و لا نكسر أصنامنا بأيدينا، و تمتعنا باللات سنة، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا خير في دين ليس فيه ركوع و لا سجود فأما كسر أصنامكم بأيديكم، فذاك لكم «ثم أرسل الرسول صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم من كسرها» و أما الطاعة للات، فإني غير ممتعكم بها «2».

[79] أَقِمِ يا رسول الله الصَّلاةَ فإنها توجب تثبيت العقيدة، و دوام الصلة بالله سبحانه، و لعل الإتيان بها هنا، لما تقدم من قوله «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ» بالإضافة إلى أن الجو العام، هو جو العقيدة التي لا تترسخ، و لا تكون ثابتة ذات تأثير إلا بالصلاة، و ما أشبهها من الذكر الدائم، فإن الروح كالجسد يحتاج إلى التغذية المستمرة للنماء و البقاء لِدُلُوكِ الشَّمْسِ من دلك، بمعنى إمرار الشي ء على شي ء بشدة، و منه يقال للحلاق «دلّاك» و المراد بدلوك وقت الظهر، فإن الشمس تدلك نصف النهار، سواء اعتبرنا الدائرة الوهمية المنصفة للأفق، إلى قسمي الشرق و الغرب، أم لا إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي شدة ظلام الليل، و ذلك منتصف الليل، و هذه إشارة إلى أربع صلوات: الظهرين و المغربين،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 279.

(2) مجمع البيان: ج 6 ص 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 337

[سورة الإسراء (17): آية 79]

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)

فإن وقت الأولين من الزوال إلى الغروب، و وقت الأخيرين من الغروب إلى نصف الليل وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ أي ائت بما يقرأ وقت الفجر- و هو الصبح- و المراد به صلاة الصبح، فقد أشارت الآية إلى الصلوات الخمس اليومية إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ أي صلاته التي تقرأ، و يؤتى بها كانَ مَشْهُوداً تشهدها ملائكة الليل قبل رجوعهم إلى السماء، و ملائكة النهار أول ما ينزلون، فقد وردت أحاديث بذلك.

[80] وَ مِنَ اللَّيْلِ أي بعض الليل فَتَهَجَّدْ الهجود النوم، و تهجد بمعنى تحرج النوم نحو «تأثم»

بمعنى تحرج الإثم و اجتنبه بِهِ أي الليل نافِلَةً صلاة ليست بفريضة، و إنما هي زائدة على الفرائض، و هي صلاة الليل الإحدى عشرة ركعة لَكَ فإنها لنفعك، و ليست كسائر الصلوات اليومية فريضة ملقاة على عاتق الإنسان عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ أي لعل الإتيان بهذه الصلاة، أو بهذه الصلوات كلها توجب أن يعطيك الله سبحانه مَقاماً مَحْمُوداً يحمده الناس و الملائكة لرفعته و سموه، إن الآية الكريمة، و لو كانت خطابا للرسول- بحسب الظاهر- إلا أنها عامة لكل أحد، فما دل على أن نافلة الليل، كانت واجبة على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، أو ما أشبه، فإنما ذلك بدليل خارجي، و هو من باب المصداق- كما ذكرنا مكررا- و كان ذكر نافلة الليل دون سائر النوافل لأهميتها الأكيدة في الشريعة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 338

[سورة الإسراء (17): الآيات 80 الى 82]

وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)

[81] وَ قُلْ يا رسول الله يا رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي إدخال صدق وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي إخراج صدق، فإنهما مصدران بصيغة المفعول، و هذا دعاء لكون دخول الأمور و خروجها يتسم بالصدق و الاستقامة، لا الكذب و الانحراف، فإن الإنسان قد يدخل في الأمور- أيّ أمر كان من أمور الدنيا أو الآخرة- بالصدق و الاستقامة، و قد يدخل بالانحراف و الكذب و الالتواء، و هكذا

الخروج من الأمور، و قد ورد أنها نزلت يوم فتح مكة، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أراد دخولها أنزل الله هذه الآية وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ من عندك سُلْطاناً سلطة و عزا نَصِيراً أنتصر به على أعدائك حجة و قوة، و رعبا في قلوبهم، و لقد ناسبت الآية، ما أراد المشركون من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الانحراف، كما قال «وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ».

[82] وَ قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الطامعين فيك، الراجين بقاء كيانهم جاءَ الْحَقُ و هو الدين و الإسلام و القرآن وَ زَهَقَ الْباطِلُ أي ذهب و انفضح و ظهر بطلانه،

و قد ورد أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما ورد مكة فاتحا، رأى حول الكعبة، ثلاثمئة و ستين صنما فأخذ يقرأ هذه الآية، و يشير إليها بعصاه، فتنكس واقعة على الأرض

إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي مضمحلا، فإن طبيعة الباطل لا استقرار له، و لا بقاء.

[83] إن الحق المتمثل في القرآن، لقد جاء، و إنه يشفي المؤمنين شفاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 339

[سورة الإسراء (17): آية 83]

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83)

روحيا و جسميا، كما أنه يزيد الظالمين خسارا، فإنهم يعارضوه، و يقابلوه بما يوجب زيادة وزرهم وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ «من» بيان المنزل المستفاد من «ننزل» ما هُوَ شِفاءٌ شفاء لأرواحهم المريضة بالأخلاق السيئة و الرذيلة، و شفاء لأجسامهم، فإن الإنسان إذا تعدلت مناهج حياته صح جسمه وَ رَحْمَةٌ أسباب ترحم و لطف من الله لِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم إذ يطيعونه، يكونون مورد لطفه و رحمته وَ

لا يَزِيدُ القرآن الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف و السلوك المعوج إِلَّا خَساراً أي خسارة على خسارتهم، لكفرهم به و انحرافهم عن سبيله و ضلالهم و مقاومتهم له.

[84] و إذا ترك الإنسان الشفاء و الرحمة، و أخذ يسلك سبيل الغي، فإنه يتقلب في أوضار الكفر و الضلالة كيفما كان حاله وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة و الرفاه و الأمن و السلام و غيرها أَعْرَضَ عن طاعة اللّه و عبادته وَ نَأى بِجانِبِهِ أي ابتعد بطرفه عنا، كأنه لوى جنبه- كناية عن إعراضه، و عدم العمل بما يلزم أن يعمل به، من شكر النعمة، و الطاعة للمنعم- فيتكبر و يتجبر و يطغى، حين رأى نفسه مستغنيا وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الفقر و المرض و الخوف، و ما أشبهها، لم يصبر، و لم يدع الله لرفعها بل كانَ يَؤُساً كثير اليأس قانطا، فلا هو في الرخاء يشكر، و لا في البلاء يصبر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 340

[سورة الإسراء (17): الآيات 84 الى 85]

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)

[85] هذا حال الإنسان الظالم الذي لا يزيده القرآن إلا خسارا، أما المؤمن فهو بعكس ذلك، لا يزيده الرخاء و البلاء، إلا ثوابا و انقطاعا إليه سبحانه و شكرا و طاعة، فكل من الطائفتين، تعمل على الشكل الذي اختاره من الكفر و الإيمان قُلْ يا رسول الله كُلٌ من المؤمن و الكافر يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ الشاكلة الطريقة، لمشاكلة بعض الطرق لبعض، و في هذا تهديد لمن يسلك الطريق المنحرف، كأنه يقال اعملوا فسترون جزاء عملكم

فَرَبُّكُمْ أيها الناس أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا هل المؤمن سبيله أحسن أم الكافر؟

[86] وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنِ الرُّوحِ ما هو؟ و حيث أن مثل هذه الأسئلة توجب تبديد الطاقة العقلية فيما لا يعني، لم يجب القرآن الحكيم على هذا السؤال إشارة إلى لزوم أن يصرف الإنسان طاقته فيما يهمه من أمر دنياه و آخرته، لا فيما لا يهمه قُلِ يا رسول الله في جوابهم الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فهو من الأمور التي تكونت بأمر الله سبحانه، و لا يعلم ما هو إلا الله سبحانه، و من أعلمه إياه وَ ما أُوتِيتُمْ أيها البشر مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فإن الأسرار الكونية فوق حد الإحصاء، و ما يعلمه البشر ليس إلا جزءا ضئيلا من الأسرار، فمن الأفضل أن يصرف الإنسان وقته الغالي القصير فيما ينفعه، لا فيما لا ينفعه، أقول: لا يبعد أنهم أرادوا بالروح الروح الذي يأتي بالقرآن، أو القرآن ذاته، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 341

[سورة الإسراء (17): الآيات 86 الى 87]

وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)

قال سبحانه (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) «1» و هذا أقرب إلى السياق، حيث إن الكلام حول العقيدة، و الرسالة، و القرآن،

و قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه سئل عن هذه الآية، فقال: خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مع الأئمة عليهم السّلام و هو من الملكوت «2».

[87] إن الإنسان لم يؤت إلا قليلا من العلم، و إن القرآن

الذي يرشد الإنسان إلى مناهج الحياة بعد إرشاده إلى العقيدة الصحيحة، أنه من أمر الله سبحانه و فضله على البشر، حدوثا و بقاء، و لو شاء لمحاه من بين الناس حتى يرجعوا جهالا، و هذا كما تقول لتلميذك: أنت لا تعرف شيئا، و ما تعرفه فإنه مني، و لو شئت لأخذت كتب علمك، حتى تبقى جاهلا، كما كنت وَ لَئِنْ شِئْنا و أردنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن بأن نمحي صورته من ذهنك، و نرفع نسخه من بين الناس ثُمَ لو فعلنا ذلك لا تَجِدُ لَكَ بِهِ أي بالذي أوحينا إليك عَلَيْنا وَكِيلًا فلا أحد يقدر على استرداده منا، أي لا تجد موكلا بالقرآن لك، على ضررنا، و خلاف إرادتنا، يستوفيه منا ليسلمه إليك.

[88] إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إن الذي و هبك هذا القرآن، و أبقاه عندك، هو تفضل الله سبحانه عليك- و الاستثناء منقطع- إِنَّ فَضْلَهُ تعالى

______________________________

(1) الشورى: 53.

(2) الكافي: ج 1 ص 273.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 342

[سورة الإسراء (17): الآيات 88 الى 89]

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)

كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً حيث أنعم عليك بالنبوة، و بإعطاء القرآن، و بإبقائه عندك، و هذا لتنبيه الناس حتى يشكروا هذه النعمة العظيمة، فإن القرآن أعظم نعم الله سبحانه، حيث يقرر الحياة السعيدة، مما لا تصل إليها البشرية بعقليتها، و لو صقلت ألف عام.

[89] فإن القرآن ليس كلاما عاديا، يتمكن كل أحد من الإتيان بمثله قُلْ يا رسول الله لهؤلاء لَئِنِ

اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ متعاونين بعضهم مع بعض عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ في جميع خصوصياته البلاغية و المنهجية و العلمية، و سائر وجوه الإعجاز المقررة في كتب الكلام، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لأنه خارج عن طوقهم و قدرتهم وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً معينا و ظهرا يساعد بعضهم بعضا، و قد مضى على القرآن ألف و أربعمائة عام، و لم يأت من يأتي بمثل القرآن، نعم جاء مسيلمة بالمضحكات، و جاء الباب بالمبكيات، أما من كان أبلغ الناس، ففكر و قدر، ثم قال إن هذا إلّا سحر يؤثر، و كما أنه لم يأت بعصى موسى عليه السّلام و إحياء عيسى عليه السّلام، و غرق نوح عليه السّلام أحد كذلك لم يأت بقرآن محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحد.

[90] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بيّنا للناس، و جئنا بالأمثلة المختلفة في ألبسة شتى، كالإتيان بقصة موسى في سبعين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 343

[سورة الإسراء (17): الآيات 90 الى 92]

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92)

لباس، و هكذا، و هذا معنى التصريف، فإنه أن يقلب الشي ء الواحد في صور شتى فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا للحق مع إتمام الحجة عليهم.

[91] إن الله أعطى القرآن إلى البشر معجزة للرسول و منهاجا للحياة السعيدة و كلمة باقية يستنير بها الأقوام، و يهتدون سبيلا، لكن الكفار الذين أبوا إلا الجحود و التوغل في العناد،

أغمضوا النظر عنه، و أخذوا يتطلبون خوارق مادية لا تنفعهم في الحياة و لا تبقى مع الأجيال و إنما طلبوها لمجرد العناد بعد وضوح الحجة، وَ قالُوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ بأنك رسول الله، و إن ما جئت به هو من عند الله حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أي حتى تشقق الأرض، و تخرج منها عين ماء نستفيد منها، فإن أرض مكة قليلة الماء تحتاج إلى العيون و الأنهار.

[92] أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ بأن تدعو ربك فيحدث لك جنة في طرفة عين مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ من الماء خِلالَها أي وسطها تَفْجِيراً تشقيقا، حتى يجري الماء في تلك الأنهر.

[93] أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يهددهم بالعذاب من السماء، و قد ذكر سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 344

[سورة الإسراء (17): آية 93]

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)

(وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) «1» فهنا يقولون أسقط علينا- حسب زعمك: إنك تقدر على كل شي ء، و إنك رسول الله- السماء.

كِسَفاً و هي جمع كسفة، بمعنى القطعة، وزن السدرة، و سدر و كسفا حال من السماء، و لا يخفى أنه بناء على كون السماء هي المدار، يكون كلامهم هذا حسب زعمهم، بأن السماء جسم، أما قوله «وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً» فلعل المراد، الكسف التي منشأها السماء، فإن القطع المعدنية تقذف من جانب العلو، كما ذكره أهل الفلك أَوْ تَأْتِيَ

بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي في حال كونهم قبيلة قبيلة، و صنفا صنفا حتى نشاهدهم فنصدق بك، و لعلهم أخذوا ذلك من قوله سبحانه (وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) «2» و لم يعرفوا أن المراد «جاء أمر ربك» و أن الملائكة يوم تأتي (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) «3» [94] أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي بيت مملوء من ذهب، و أصله من الزخرفة، و هي الزينة، فكأن إطلاقه على الذهب مجازا من باب الأولى، لأن الذهب يزين به أَوْ تَرْقى و تصعد فِي السَّماءِ بأن نراك قد صعدت وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ و صعودك، لأنا نحتمل، أن ذلك من باب السحر، و أنك قد تصرفت في أبصارنا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً من

______________________________

(1) الطور: 45.

(2) الفجر: 23.

(3) الفرقان: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 345

جانب الله نَقْرَؤُهُ مكتوب فيه نبوتك و صدقك في دعاويك، و قد كانوا من الجهل و الغباوة بحيث يفرقون بين الصعود، و بين الإنزال بالكتاب، فإن من يتمكن من السحر في الصعود، يتمكن من السحر في إنزال الكتاب أيضا قُلْ يا رسول الله في جواب هذه الاقتراحات سُبْحانَ رَبِّي أي أنزه ربي عن المثل و الذمائم و هذه جملة تستعمل للتعجب، و كان الأصل في ذلك، أن المعنى كون الله منزها، أما ما جرى بيننا، فليس منزها هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي لست أنا إلا رسول، فالواجب علىّ أن آتى بمنهاج السماء، و معي من الأدلة ما تثبت أني رسول، أما أن آتى بكل ما يقترح الناس من الخوارق، فإن هذا ليس من شأن الرسول، فإن كان الشخص من أهل الإنصاف، كفاه ما جئت به من القرآن

الحكيم دليلا، و إن كان الشخص معاندا فلا يؤمن و لو جئت له بألف دليل، و قد كانت الأمم تسأل أنبياءها بالمقترحات، ثم لم تؤمن، كما حدث في قصة صالح النبي عليه السّلام، و

قد ورد في شأن نزول هذه الآيات: أن جماعة من قريش و هم عتبة و شيبة ابنا ربيعة و أبو سيفان بن حرب و الأسود بن المطلب و زمعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبو جهل بن هشام و عبد الله بن أبي أمية و أمية بن خلف و العاص بن وائل و نبيه و منبه ابنا الحجاج و النضر بن الحارث، و أبو البختري ابن هشام، اجتمعوا عند الكعبة و قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكلموه و خاصموه، فبعثوا إليه، أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك، فبادر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم، و كان حريصا على رشدهم، فجلس إليهم، فقالوا يا محمد إنا دعوناك لنعذر إليك، فلا نعلم أحد أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، شتمت الآلهة، و عبت الدين، و سفهت الأحلام، و فرقت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 346

[سورة الإسراء (17): آية 94]

وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)

الجماعة، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك، و إن كنت تطلب الشرف سودناك علينا، و إن كانت علة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس شي ء من ذلك، بل بعثني الله إليكم رسولا، و أنزل كتابا، فإن قبلتم ما جئت به، فهو حظكم في الدنيا و الآخرة، و

إن تردوه أصبر حتى يحكم الله بيننا؟ قالوا فما أحد ليس أضيق بلدا منا، فاسأل ربك أن يسيّر هذه الجبال، و يجري لنا أنهارا كأنها الشام و العراق، و أن يبعث لنا من مضى، و ليكن فيهم قصي، فإنه شيخ صدوق، لنسألهم عما تقول، أحق أم باطل؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بهذا بعثت، قالوا: فإن لم تفعل ذلك، فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك، و يجعل لنا جنات و كنوزا و قصورا من ذهب؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بهذا بعثت، و قد جئتكم بما بعثني الله به، فإن قبلتم، و إلا فهو يحكم بيني و بينكم، قالوا: فأسقط علينا السماء، كما زعمت إن ربك، إن شاء فعل ذلك؟ قال ذاك إلى الله إن شاء فعل، و قال قائل منهم لا نؤمن، حتى تأتي بالله و الملائكة قبيلا، فقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قام معه عبد الله ابن أبي أمية المخزومي ابن عمة عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل، ثم سألوك أن تجعل ما تخوفهم به؟ فلم تفعل، فو الله لن أومن بك أبدا، حتى تتخذ سلّما إلى السماء ثم ترقى فيه و أنا أنظر و يأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك و كتاب يشهد لك، فأنزل الله سبحانه الآيات «1»

[95] ثم ذكر سبحانه، أن سبب امتناع هؤلاء عن الإيمان بالرسول، إنكارهم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 120.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 347

[سورة الإسراء (17): آية 95]

قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ

لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)

لأن يكون البشر رسولا، إما لأنهم يظنون أن منصب الرسالة فوق أن يناله بشر- أو للحسد- أو نحو ذلك وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا أي لم يصرف المشركين عن الإيمان بالرسول و تصديقه إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي حين أتتهم الهداية و الرشاد، إِلَّا أَنْ قالُوا استثناء عن «شي ء» المحذوف الذي هو فاعل «منع» فالاستثناء مفرغ أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي كيف يمكن أن يرسل الله بشرا للرسالة و أداء الوحي؟

و المراد ب «قولهم» شبهتهم التي تظهر بالقول.

[96] قُلْ يا رسول الله لهم: إن الملائكة لا تصلح لأن ترسل إلى البشر الجمهور، لأنه ليس من جنسهم، و لا تصلح الأرض محلّا لهم، فإن الله سبحانه قادر على كل شي ء، لكن الله تعالى جعل للأرض قوانين عامة، و أجرى سننه وفق تلك القوانين، و من تلك القوانين، كون الرسول من جنس البشر، و إن الملك لا ينسجم، كما أن الحيوان لا ينسجم مع البشر بأن يكون رسولا إليه، فإذا طلب طالب أن يكون الطير رسولا، كيف يكون مضحكا- و إن كانت قدرة الله فوق ذلك- كذلك من يطلب أن يكون الملك رسولا؟ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ و لم يكن بشر فيها يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي ساكنين قاطنين، فإن المشي و الاطمئنان كناية عن ذلك، إذ غير الساكن لا يكون ماشيا مطمئنا، بل يمشي مضطربا قلبه، يهفو نحو وطنه و محله لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ أي من جانب العلو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 348

[سورة الإسراء (17): الآيات 96 الى 97]

قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ

مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)

مَلَكاً رَسُولًا أي رسولا من جنس الملك، لأنه حينئذ ينسجم مع المرسل إليهم، أما و في الأرض بشر، فالرسول لا بد و أن يكون من جنسهم، ثم لماذا الملائكة؟ أ للتعنت و الاقتراح؟ فلا يفيد الملائكة أيضا، أم للحجة و البرهان؟ فالرسول معه ما يدل حجة و برهانا، و لا يقاس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسائر الناس، فإنه صالح لأن يعاشر الملائكة بخلاف غيرهم فلا يستشكل بأنه ما الفرق بين الرسول و غيره؟

[97] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يطلبون أن يكون الرسول إليهم ملكا و لا يقتنعون بك كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فالله شاهد على رسالتي، حيث أجرى على لساني القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بمثله، فلو كنت كاذبا في دعواي لزم- في الحكمة- أن لا أتمكن على شي ء يعجز البشر عنه، فإجراء الله المعجزة على يدي دليل على صدق دعواي، كما أن إمضاء الرئيس إذا كان مع المستخدم كفاه دليلا على كونه من قبل الرئيس إِنَّهُ سبحانه كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً مطلعا على أحوالهم بَصِيراً يبصر حركاتهم و سكناتهم فلو افترى عليه أحد، لزم عليه- في الحكمة- أن يفضحه، لا أن يجري بعض النواميس الخارقة على يده.

[98] إن هؤلاء الكفار تركوا عقولهم، و ركبوا أهواءهم، و لذا تركهم سبحانه في ضلالهم يعمهون، و إلا فما حجة من تمت عليهم الحجة، و وضحت لهم المحجة؟ وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بأن يلطف عليه الألطاف الخفية، حين رأى منه الإيمان و الإذعان فَهُوَ الْمُهْتَدِ حقيقة الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 349

رأى السبيل، و آمن و أخذ الله بيده إلى النجاح و السعادة- و الياء من المهتد محذوف تخفيفا- وَ مَنْ يُضْلِلْ الله، بأن منع منه الألطاف الخفية، بعد أن أراه السبيل فأعرض و لم يؤمن، كالسيد الذي يعرض عن عبده، حيث يراه يعمل باطلا، فيتركه حتى يضل، فإنه يقال في العرف: إن السيد أفسد عبده، حيث لم يضرب على يده فَلَنْ تَجِدَ يا رسول الله لَهُمْ أي للضال أَوْلِياءَ يتولون شؤونه و ينصرونه مِنْ دُونِهِ أي من دون الله، و من يتولاه في الظاهر، فليست ولايته كولاية الله التي تهيئ خير الدنيا و الآخرة، فالمراد بالنفي، نفي الأنبياء حقيقة، لا نفي الأولياء صورة، فهو

كقوله عليه السّلام: يا أشباه الرجال و لا رجال

«1» إن حال الضالين في الدنيا، أنه لن تجد لهم أولياء، أما حالهم في الآخرة وَ نَحْشُرُهُمْ أي نجمعهم للحساب، فإن الحشر بمعنى الجمع يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ فإنهم يسحبون على وجوههم إلى النار، كما يفعل في الدنيا، بمن يراد كمال إهانته، في حال كونهم عُمْياً جمع أعمى، و هو الذي لا بصر له وَ بُكْماً جمع أبكم، و هو الذي لا يتمكن من الكلام، وَ صُمًّا جمع أصم، و هو الذي لا يسمع، فهم بهذه الحالة المزرية المخزية يحشرون هناك فقد عموا عن الحق في الدنيا، و لم ينطقوا بالشهادة و الخير، و لم يعيروا أسماعهم للدعوة، فليكونوا هناك كذلك جزاء لما اقترفوه هنا، مَأْواهُمْ أي محلهم و مصيرهم و منزلهم، من أوى يأوى، بمعنى

______________________________

(1) نهج البلاغة: خطبة 27 ص 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 399

[سورة الإسراء

(17): الآيات 98 الى 99]

ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)

اتخذ المأوى جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهيبها، و المراد أنه كلما أشرفت على الخمود، و إلّا فنار جهنم لا تنقض أبدا زِدْناهُمْ سَعِيراً أي اشتعالا و التهابا و توقدا.

[99] ذلِكَ العذاب في المحشر و في النار جَزاؤُهُمْ الذي استحقوه بسبب أنهم كَفَرُوا بِآياتِنا و لم يؤمنوا بها وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً بأن تبددت لحومنا بعد الموت، حتى لم تبق إلا العظام وَ رُفاتاً مما تهشم بالفت، كالأعواد اليابسة البالية أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ محيون بعد الموت خَلْقاً جَدِيداً كما كنا سابقا؟ قالوا ذلك على وجه الإنكار.

[100] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم هؤلاء المنكرون للبعث أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أوجدهما من العدم قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فإن الإنسان بعد الحشر مثل الإنسان قبل الموت- باعتبار- كما أنه هو باعتبار آخر، فإن الإعادة ليست أصعب من الابتداء، كما قال سبحانه (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) «1» وَ جَعَلَ الله لَهُمْ أي لهؤلاء في الإعادة أَجَلًا أي وقتا لا رَيْبَ فِيهِ فإنه من الوضوح

______________________________

(1) يس: 80.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 351

[سورة الإسراء (17): آية 100]

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)

بحيث لا ينبغي الارتياب و الشك فيه، فهو نفي الريب الصحيح بلسان نفي الحقيقة، نحو «و لا رجال»

فَأَبَى الظَّالِمُونَ الذي ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، فإن الإنسان إذا لم يرضخ لأوامر الله تعالى، فقد ظلم نفسه، حيث عرضها للعقاب الدائم إِلَّا كُفُوراً أي جحودا للسماء.

[101] إن من يأمر غيره بالكرم، لا بد و أن يكون كريما، و إلا قيل: «لا تبغ منقبة و تأتي ضدها» فهؤلاء الكفار الذين كفروا بالله و رسوله و المعاد، و الذين اقترحوا البيت من الذهب، و تفجير العين، و البساتين، و غيرها، أن ملكوا كل شي ء، لم يكونوا يبذلون شيئا، فهم أشحاء في الإعطاء، أسخياء في الطلب قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي و خزائن رحمة الله، هي الماء، و التراب، و الشمس، و الهواء، التي تتولد منها الأشياء و الإرادة الأزلية التي تهب الحياة و الفضيلة، و غيرهما، فكما أن الخزينة مركز الجواهر و النقود، كذلك هذه الأشياء مصدر ما في الكون من الوجود و النفائس إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ و لم تبذلوا خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي لأجل خشية أن تفتقروا إذا بذلتم- مع أن خزائن الله لا تنفد أبدا- فمن هذا النحو من الشح و البخل شأنه، كيف يقترح هذه الاقتراحات المادية الدسمة؟

وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا، من «قتر» بمعنى ضيق في النفقة، و القتور صيغة مبالغة، و هذا شبه الاستهزاء بالمقترحين، و السخرية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 352

[سورة الإسراء (17): الآيات 101 الى 102]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)

باقتراحهم، كما قال سبحانه (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)

«1» [102] إن الأمة المعاندة، لا تفيدها الخوارق، فهؤلاء، و إن طلبوها، و علقوا إيمانهم بها، إلا أنها إذا جاءت لا يؤمنون، حالهم حال الأمة السابقة، أليس جاء موسى بأعظم من هذه الخوارق، و لم تنفع كلها في إيمان قوم فرعون؟ و هل الأمم إلا أمثالا؟ وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي خوارق واضحات، و هي «اليد» و «العصا» و «الحجر» و «البحر» و «الطوفان» و «و الجراد» و «القمل» و «الضفادع» و «الدم» كما ورد بذلك الآيات و الروايات- و قد مر تفسيرها- فَسْئَلْ يا رسول الله بَنِي إِسْرائِيلَ اليهود المعاصرين لك، و إنما أمر بالسؤال، ليكون كلام اليهود أبلغ في الحجة، فإن كفار مكة المقترحين، كانوا أسمع من اليهود، فهم يذعنون لليهود بما لا يذعنون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ جاءَهُمْ و مع كل هذه الآيات فَقالَ لَهُ أي لموسى عليه السّلام فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قد سحروك و ذهب عقلك، و لذا تدعي النبوة، أو أن المراد «ساحرا» فوضع المفعول موضع الفاعل- كما ذكر أهل الأدب- أن كلّا من الفاعل و المفعول ينوب مناب الآخر.

[103] قالَ موسى عليه السّلام في جواب فرعون لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون

______________________________

(1) البقرة: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 353

[سورة الإسراء (17): الآيات 103 الى 104]

فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)

ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات، و لعل الإتيان ب «هؤلاء» التي هي للعاقل، كون الآيات تعمل عمل العاقل، فالعصا تصير ثعبانا تأكل، و الجراد تهاجم مهاجمة العاقل،

و هكذا إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فليست سحرا، و لست أنا مسحورا بَصائِرَ أي أنزلها لأجل أن تكون حججا و براهين، فبصائر جمع بصيرة، بمعنى مبصرة، أو المراد ذات بصائر، أو أطلق البصيرة على سبب البصيرة مبالغة، أو مجازا لعلاقة السبب و المسبب وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً من ثبره الله بمعنى أهلكه، و الثبور بمعنى الهلاك، و المراد به الهلاك على الكفر، و إنما قال «أظن» لعدم علمه بذلك، و إنما ظن حسب الظاهر من عناده، مع احتماله إيمانه، أو للتشابه اللفظي، و إن كان عالما بذلك، فإن الظن يستعمل بمعنى العلم.

[104] فَأَرادَ فرعون بعد إتمام الحجة عليه، حيث لم يجد مخلصا من موسى و حججه القوية أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي يزعج بني إسرائيل و يطردهم مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مصر، مقر سلطته فَأَغْرَقْناهُ أي أغرقنا فرعون وَ مَنْ مَعَهُ من جنوده و أشراف قومه جَمِيعاً لم ينج منهم أحد، و هكذا مصير الكفار أعداء الله و رسوله.

[105] وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد هلاك فرعون و قومه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 354

[سورة الإسراء (17): آية 105]

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (105)

أي كونوا فيها، مقابل إرادة فرعون تبعيدكم، و المراد إما أرض مصر، فقد سكنها بنوا إسرائيل فيما بعد، أو الأعم مقابل إرادة فرعون إخراجهم من أرض مصر و الشام و فلسطين- كما ذكر بعض أهل التفسير- أو مطلق الأرض، أي بقوا هؤلاء، و ذهب أعداءهم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ و هي القيامة جِئْنا بِكُمْ يا بني إسرائيل لَفِيفاً قد لف بعضكم في بعض، فلكم إرث الأرض هنا، و

لكم الآخرة هناك، أو المراد لفيفا أنتم في آل فرعون، ليجازى أولئك هناك، كما جوزوا هنا.

[106] و إذ قد تقرر، أن الاقتراحات لا معنى لها، و أن القران هو وحده كاف دلالة للنبوة، و حجة على القوم، يرتد السياق إلى هذا الكتاب الحكيم ليبين ما هو وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا القرآن بالحق، فإنا لم ننزل القران، إلا للإيمان به، و اتباع سبيله، مقابل إنزال الشياطين الكذب على الكهان وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ أي و قد كان القرآن مصاحبا للحق، فما فيه هدى و نور و مطابق للواقع، مقابل ما نزل بالحق، و لكنه لا يصحب الحق، كما لو أعطى الولي عبده كتابا، ليعمل فيه، و قد كتب فيه اشتباها شي ء باطل، فإن إعطاء المولى بالحق، لأنه له السلطة على العبد، و قصده الحق، لكن الكتاب المعطى، كان مصاحبا للباطل، و الحاصل أن هذا القرآن حق فاعلا و فعلا، أو المراد أن الإنزال كان بالحق، و الوصول إلى الرسول كان بالحق، فلم يطرئه تحريف في البين، و إن شئت قلت إن الملحوظ إما جهتا الفاعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 355

[سورة الإسراء (17): الآيات 106 الى 107]

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107)

و الفعل، أو الفاعل و القابل وَ ما أَرْسَلْناكَ يا رسول الله إِلَّا مُبَشِّراً لمن آمن، و أطاع بالثواب وَ نَذِيراً لمن كفر، أو عصى بالعقاب.

[107] وَ أنزلناه قُرْآناً فَرَقْناهُ في نيف و عشرين سنة، فلم ننزله جملة واحدة، و إنما تدريجا منجما، من فرق بمعنى التفريق، و الإرسال

جزءا فجزءا لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي على تؤدة، و في أزمنة مختلفة، من مكث بمعنى لبث، فقد جاء القرآن ليربي الأمة تربية إسلامية، و ذلك يحتاج إلى التدريج، و أن ينزل بكل مناسبة جزء منه، ليكون تحريكا، و ليس كالكتب المدونة، كتابا يقرأه الإنسان ليعلم ما فيه- فحسب- أو فكرة يستعرضها الشخص، و قد أدّى القرآن مفعوله، بهذه الحكمة المفرقة له أزمانا و مناسبات، حتى ربي الجيل و اندفع، و باندفاع أولئك يندفع المسلمون إلى الأبد وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب الحاجة، و وقوع الحوادث، لا جملة و مجموعا، و كان لفظ «التنزيل» حيث أنه من باب التفعيل دال على التكثير في النزول الملازم للتدريج.

[108] و إذ تبين حقيقة القرآن، و كونه منزلا من عند الله بالحق، و فيه الحق، فمن شاء فليؤمن، و من شاء فليكفر، فقد ثبتت الحجة من جانب الله تعالى، و لم يبق إلا الإطاعة أو العصيان قُلْ يا رسول الله للكفار آمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإنّا قد تم من جانبنا الأمر، و بقي في جانبكم، فمن أراد الخير فليؤمن، و من أراد الشر فلا يؤمن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 356

[سورة الإسراء (17): الآيات 108 الى 109]

وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)

أما العلماء فإنهم يؤمنون- طبعا- لما يرون فيه من الحق إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي أعطاهم الله علم الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء عليهم السّلام مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول هذا القرآن، كعبد الله بن سلام و غيره، من اليهود و النصارى إِذا يُتْلى أي يقرأ عَلَيْهِمْ القران يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي

يسقطون على وجوههم، و أذقان جمع ذقن، و هو منتهى الوجه، و إنما خص الذقن لأن من سجد كان أقرب شي ء منه إلى الأرض ذقنه سُجَّداً جمع ساجد، و ذلك لأن الإنسان الذي يخر على الأرض للسجود، إذا لم يتمالك نفسه، وقع ذقنه أولا على الأرض، فليس المراد أنهم يجعلون أذقانهم فقط.

[109] وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا تنزيها له عن الباطل، فما أرسله من القرآن حق، لا يشوبه شي ء إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا «إن» مخففة من الثقيلة، أي أنه كان وعد الله سبحانه في الكتب السابقة بإرسال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنزال الكتاب لمفعولا- يفعل- فلا خلف فيه، و ها نحن نرى الوعد قد أنجز فآمنا و صدقنا.

[110] إنهم يغلبهم التأثر، حتى أنهم يبكون من شدة التأثر الحاصل لهم من استماع القرآن وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ فهم يسقطون على الأذقان، و يسجدون و يبكون من شدة ما خالج نفوسهم من التأثر بالقرآن و بعظمة الله سبحانه وَ يَزِيدُهُمْ ما في القرآن من المواعظ و العبر خُشُوعاً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 357

[سورة الإسراء (17): آية 110]

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)

على خشوعهم بأصل تلاوته.

[111] و إذ قد تمت الحجة عليهم، فلم يبق عند المشركين، إلا أن يقولوا «و ما الرحمن»؟ فقد كانوا يكرهون هذا الاسم، بلا حجة، أو بتعليل أنهم يناقشون في أصل الإله، و في وحدته، و في أن يسمى رحمانا؟

و لذا يؤمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يحاجهم في هذا أيضا، فإن الله هو

الرحمن، فهما لفظان على معنى واحد، فما هذا اللجاج و السخافة؟

قُلِ يا رسول الله لهؤلاء الكفار ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فقولوا يا الله، أو قولوا يا رحمن أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فكلاهما تعبير عن الذات الواحد المستجمع لجميع صفات الكمال، و القادر و الخالق و الرازق و الحي و القيوم، و غيرها من سائر أسمائه و هي علاماته التي تشير إليه لذلك الذات، سواء أشرتم إليه بيا الله، أو بيا رحمن، و ذكر بعض في شأن نزول هذه الآية

أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ساجدا ذات ليلة بمكة يدعوا «يا رحمن يا رحيم» فقال المشركون هذا يزعم أن له إلها واحدا، و هو يدعو مثنى مثنى، فنزلت هذه الآية

، و قد كان المشركون يؤذون الرسول إذا قام للصلاة، و بهذه المناسبة جاء الأمر بالتوسط في الصلاة،

فقد روي عن الصادق عليه السّلام أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان إذا صلى فجهر في صلاته، سمع المشركون، فشتموه و آذوه، فأمر سبحانه بترك الجهر، و كان ذلك بمكة في أول الأمر

«1» وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها فإن الإخفات أبعد عن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 28 ص 68.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 358

[سورة الإسراء (17): آية 111]

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

الخشوع، إذ أن الصوت المتوسط، يدخل السمع، فيكون تلقي القلب له أكثر و يكون للخشوع أقرب وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ الجهر و الإخفات، و «ذلك» إشارة إلى كل واحد منهما سَبِيلًا،

و عن

الصادق عليه السّلام المخافتة ما دون سمعك، و الجهر أن ترفع صوتك شديدا «1»

[112] و أخيرا تلخص العقيدة في هذه الجمل وَ قُلِ يا رسول الله الْحَمْدُ لِلَّهِ لا يستحق أحد الحمد سواه، إذ هو الإله المتفرد الواحد الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما يقول اليهود عزير ابن الله، و النصارى المسيح ابن الله، و المشركون الملائكة بنات الله وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما يجعل المشركون لله شركاء في ملكه و سلطانه، و لعل الإتيان بقوله «في الملك» للإشارة إلى رد دعوى المشركين، فإن كان له شريك، فما ذا صنع شريكه في السماوات و الأرض؟ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌ يلي شؤونه و ينصره سواء كان إلها، أو محالفا، و قوله مِنَ الذُّلِ لأن الشخص قد يتخذ وليا من ذلة و عجز في نفسه يريد أن يتقوى بذلك الولي، أنه سبحانه ليس له ولي من هذا القبيل، و إنما له أولياء من المتقين تفضل عليهم بولايتهم جودا و كرما وَ كَبِّرْهُ يا رسول الله تَكْبِيراً لائقا بشأنه فهو أكبر من كل كبير و أعظم من كل عظيم، و هكذا تختم السورة بالتكبير، كما بدأت بالتسبيح.

______________________________

(1) الكافي: ج 3 ص 315.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 359

18 سورة الكهف مكيّة/ آياتها (111)

سميت السورة بهذا الاسم، لأن فيها لفظة «الكهف» و قصة أصحاب الكهف، و الكهف هو مغارة الجبل، ضيق فمها، واسع داخلها، و هذه السورة كسائر السور المكية، تعالج قضية العقيدة، في أسلوب قصصي رائع، و ليست القصص القرآنية من نسج الخيال، و إنما قصص حقيقية، اقتبست منها محل الحاجة، لتبني الكيان البشري، بما يوفر له السعادة و الخير، و إذ ختمت سورة بني إسرائيل بتحميد الله سبحانه،

ابتدأت هذه السورة بتحميده أيضا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسمك يا الله، فإن اسم الله إذا وضع على شي ء أمن كل الأخطار، كيف لا، و قد ارتبط بخالق الأرض و السماء، و الحافظ القائم على كل شي ء، و هو الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحم على كل شي ء، كما قال سبحانه، (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) «1» و ليس الرحم في الله سبحانه، بمعناه في البشر، إذ لا تأثر له سبحانه، و إنما بمعنى التفضل، كما قالوا: «خذ الغايات و اترك المبادي».

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 360

[سورة الكهف (18): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2)

[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ أي أن جنس الحمد له سبحانه، إذ جميع المحامد راجعة إليه، حتى أن الغير لو تفضل على الإنسان بشي ء، فإن فضله ذلك في طول أفضال الله سبحانه الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْكِتابَ أي القرآن وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي للكتاب عِوَجاً أي اعوجاجا، بأن يكون بعض مناهجه معوجة، أو بعض ما أخبر به من أصول المبدأ و المعاد و القصص مخالفة للواقع.

[3] في حال كون الكتاب قَيِّماً معتدلا مستقيما، و إنما أنزل الكتاب لِيُنْذِرَ الرسول الناس بَأْساً شَدِيداً أي عذابا شديدا و نكالا مِنْ لَدُنْهُ من عنده، إن لم يؤمنوا، و ركبوا رؤوسهم سادرين في غيّهم، وَ يُبَشِّرَ الرسول الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صحّت عقيدتهم يَعْمَلُونَ الأعمال الصَّالِحاتِ و هي الأعمال التي أمر الله بها، و

قد ذكرنا أن ذلك يلازم عدم الإتيان بالمعاصي، فإنه لا يقال لمن اختلط بين الأمرين، أنه يعمل الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً في الدنيا بالرفاه و السلام و الصحة و ما أشبه، و في الآخرة بالثواب و الجنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 361

[سورة الكهف (18): الآيات 3 الى 5]

ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)

[4] في حال كون المؤمنين العاملين بالصالحات ماكِثِينَ أي لابثين باقين فِيهِ في ذلك الأجر أَبَداً فإنه لا انقطاع للجنة، و لا زوال لنعيمها.

[5] وَ يُنْذِرَ الرسول- بصورة خاصة، بعد ذلك الإنذار العام لكل من خالف- الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً و هم اليهود و النصارى، فإنهم ما دام هذا الاعتقاد عندهم، منذرين، مهددين في الدنيا بالخزي، و في الآخرة بالعذاب، فإن الاختلافات الشديدة بين اليهود و النصارى من جانب، و بين طوائف كل دين منهما مدهش جدا، حتى أن الاختلاف بين المسلمين و بينهما، أو بين طوائف المسلمين، ليس عشر معشار ذلك، و لذلك تاريخ و تفصيل نكتفي منه بهذه الجملة، و هو أن «سلامة موسى» يذكر في كتاب «حرية الفكر» أن خصاما وقع بين طائفتين مسيحيتين في «ألمانيا» زهقت- من جرائه- أربعة عشر مليون من مجموع السكان الذين هم ثمانية عشر مليونا!! [6] ما لَهُمْ أي لهؤلاء الذين قالوا اتخذ الله ولدا بِهِ قولهم هذا مِنْ عِلْمٍ و إنما يقولون ذلك تقليدا وَ لا لِآبائِهِمْ علم بذلك، و إنما قالوه اعتباطا كَبُرَتْ كَلِمَةً أي عظمت الكلمة كلمة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي أفواه هؤلاء الكفار، فقد

قالوها و أظهروها مع ما فيها من الإساءة و القبح، و أفواه جمع «فوه» بمعنى الفم، و الكلمة حيث تطلق على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 362

[سورة الكهف (18): الآيات 6 الى 7]

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)

المكتوب و الملفوظ، و ما أشبههما، أتى بقيد «من أفواههم» إِنْ يَقُولُونَ أي ما يقول هؤلاء إِلَّا كَذِباً و افتراء على الله سبحانه، فهو سبحانه منزه عن الولد.

[7] و لقد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يغتم غما شديدا حيث يرى هؤلاء منحرفين بهذه المثابة، فسلّاه سبحانه أن لا يغتم لهم، فإن انحرافهم لا يضر إلا أنفسهم، أما الرسول فقد أعذر في الهداية و الإرشاد فَلَعَلَّكَ يا رسول الله باخِعٌ أي مهلك نَفْسَكَ غمّا و حزنا عَلى آثارِهِمْ أي ما يظهر منهم من الأثر، فإن الكافر يظهر منه آثار الكفر، كما أن المؤمن يظهر منه آثار الإيمان إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أي بالقرآن، فإنه حديث الله سبحانه لهداية البشر أَسَفاً تمييز لباخع نفسك.

[8] إن بدء الأمر من الله و أن إليه المصير، و قد جعل سبحانه أمور الدنيا ليختبر الصالح من الطالح، فليس على الداعي أن يهتم هذا الاهتمام المؤدي إلى الهلاك، إذا رأى إعراض الناس، فإن الناس لا بد فيهم من تغره الحياة، فما إعراضهم بعجيب، و هذا كما تقول: لا تغتم أيها المدير، فقد جعلت المدرسة للاختبار فإذا رأيت سقوط بعض الطلاب، فإنه أمر طبيعي إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من أنواع المخلوقات المختلفة، من جماد و حيوان و إنسان زِينَةً لَها أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 363

[سورة الكهف (18): الآيات 8 الى 9]

وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)

للأرض، و بذلك يمكن اختبار الناس، إذ لو لا المغريات، لم يكن الاختبار، لِنَبْلُوَهُمْ أي نمتحنهم- لا لأن نعلم، بل لأن يظهر باطن كل أحد، إذ هو سبحانه عالم بهم، منذ الأزل- أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا من الآخر، و أيهم أسوء عملا.

[9] منا المبدأ و إلينا المصير وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ أي سوف نجعل ما عَلَيْها أي ما على الأرض من الزينة صَعِيداً الصعيد ظهر الأرض جُرُزاً و هي الأرض التي لا نبات لها، يقال جرزت الأرض إذا جدبت و يبست، أي أن ما على الأرض يهشم و يفنى، حتى تبقى أرضا جرزا لا شي ء عليها، فكأن التقدير «لجاعلون ما على الأرض معدوما، حتى تصبح صعيدا جرزا».

[10] و إذا كانت الأرض محلا لاختبار الناس، فمن الأفضل أن يؤمن الإنسان حتى يسعد، كما سعد أصحاب الكهف حتى أطاعوا، و خرجوا عن الامتحان، فائزين ناجحين أَمْ حَسِبْتَ يا رسول الله، أي هل ظننت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ و هم جماعة فروا من ملكهم الكافر، ليعبدوا الله وحده، ثم خافوا، فالتجئوا إلى كهف- أي مغارة في الجبل- و ناموا و شاء الله أن يطيل نومهم مئات السنين، ثم أيقظهم، حتى يري للناس و لأنفسهم كون الله قادر على كل شي ء، و أن قصة البعث حق وَ الرَّقِيمِ و هو اللوح الذي رقم فيه أحوال هؤلاء كانُوا مِنْ آياتِنا الدالة على قدرتنا عَجَباً؟ كلا ليس ذلك بعجب من قدرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 364

[سورة الكهف (18): آية 10]

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ

إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10)

الله سبحانه، فخلق السماوات و الأرض و ما فيهما أعجب، و كان الإتيان بالاستفهام الاستنكاري، لبيان أن لله سبحانه كثير أمثال هذه الآية، فليست قصتهم عجيبة متفردة،

و قد ورد في سبب نزول هذه السورة، أن جماعة من كفار مكة، أرسلوا رسولين إلى اليهود، ليسألان منهم عن أحوال الرسول، هل هو صادق أم لا فلما جاءا إلى اليهود و استفسروهم أمره، قال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث مسائل، فإن أخبركم باثنتين، و لم يخبر بالثالثة فهو نبي مرسل و إن لم يفعل فهو رجل مشغول اسألوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب و اسألوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان أمره؟ و اسألوه عن الروح ما هو؟

و جاء الرجلان أهل مكة و أخبراهم بالخبر، و جاء إلى الرسول الكفار ليسألونه فنزلت هذه السورة تخبرهم عن أصحاب أهل الكهف، و ذي القرنين

، أما بالنسبة إلى الروح، فنزلت قوله سبحانه (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) «1» [11] اذكر يا رسول الله إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ «أوى» أي التجأ و اتخذ المأوى و «الفتية» جمع فتى، أي الشبّان و «الكهف» المغارة في الجبل إذا كانت وسيعة، و إلا فهو «غار» و إنما أووا إلى الكهف هربا من الملك «دقيانوس» بدينهم، لئلّا يقتلهم فَقالُوا حين أووا رَبَّنا آتِنا أي أعطنا مِنْ لَدُنْكَ من عندك رَحْمَةً نعمة و فضلا ننجوا بها من قومنا

______________________________

(1) الإسراء: 86.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3،

ص: 365

[سورة الكهف (18): الآيات 11 الى 12]

فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)

وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي اجعل لنا في أمرنا ما نصيب الرشد.

[12] و لما التجأوا إلى الكهف أخذهم النوم فناموا فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي أنمناهم، فإن الضرب على الأذن كناية عن ذلك، لأن الإنسان إذا نام لا يسمع شيئا، فكأنه ضرب على أذنه بحائل يمنع عن السماع، أما نوم العين، فليس مناطا، إذ كثيرا ما تنام العين و لا تنام الأذن لوعي القلب فِي الْكَهْفِ أي حال كونهم في الكهف سِنِينَ عَدَداً سنين تعد عدا، إذ كانت ذات عدد، و هذا لإفادة الكثرة؛ إذ القلة لا تحتاج إلى العدّ.

[13] ثُمَ بعد النوم الطويل بَعَثْناهُمْ من رقدتهم، و أيقضناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أي ليظهر معلومنا في الخارج، فإن العلم ذو إضافة بين الصفة و بين المعلوم، فإذا لم تكن صفة، لم يكن علم، و إذا لم يكن معلوم خارجي لم يكن علمه بالمعلوم الخارجي أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أيّ الفئتين، فئة المؤمنين، و فئة الكافرين- كما ذكر بعض-.

أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي أحسن إحصاء لمدة لبث أولئك في الكهف، «ما» في «لما لبثوا» مصدرية زمانية أي لمدة لبثهم، ثم أنه لو كان المراد بالحزبين، المؤمنين، و الكافرين، تبين أن هناك كان نزاع و خصام في مدة لبثهم بين الطائفتين، و لماذا كان ذلك؟ و من كان الطرفان؟ ذلك غير معلوم لنا، و إن كان المراد بالحزبين الفئتين من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 366

[سورة الكهف (18): الآيات 13 الى 14]

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً

(13) وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)

نفس أصحاب الكهف، كما أشار إليه سبحانه في آية أخرى، «وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ» كان المقصود أن يعلموا هم بأنفسهم مدة لبثهم، و هذا أقرب إلى النظر، فقد كان هناك بعث لهم عن النوم و كان اطلاع الناس عليهم، فكان بعثهم من النوم، ليكون علمهم بقدرة الله سبحانه عيانا، و اطلاع الناس عليهم ليعلم الناس ذلك، فمآل الآية «بعثناهم ليعلموا مدة نومهم» فإن كون بعضهم أحصى من بعض، فرع العلم، و لذا جعل كناية عنه و هذا كما يقول المعلم: أعطيناكم- أيها التلاميذ- هذا الكتاب لنعرف أيكم أكثر ذكاء، فإن المعلم يعلم ذلك، و إنما يريد أن يظهره لأنفسهم.

[14] و بعد الإشارة الإجمالية إلى القصة يأتي البيان بشي ء من التفصيل نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ يا رسول الله، و كان التصدير بلفظ «نحن» لإفادة صدق القصة و مطابقتها للواقع في المزايا و الخصوصيات، فإن القصص كثيرا ما يزاد فيها و ينقص نَبَأَهُمْ أي خبرهم بِالْحَقِ بالصدق و الصحة، بلا خلاف الواقع إِنَّهُمْ أي إن أصحاب الكهف فِتْيَةٌ شبان آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً أي بصيرة في الدين، فإن الهداية و الضلالة، إذا ابتدأ بها الإنسان زادت تدريجا، لما يجمع الذهن لها من الشواهد و المقومات.

[15] وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي شددنا عليها كأن القلب إذا لم يربط عليه يكون مضطربا متفككا، كالأشياء الرخوة، فإذا شد عليه برباط الإيمان، صار صلدا قويا إِذْ قامُوا أي استقاموا، فهو كناية عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 367

[سورة الكهف (18): الآيات 15 الى 16]

هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ

دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (16)

ذلك، لأن القائم يستعد للحركة، و كذلك من قوي عزمه و استقام فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو إلهنا، و خالقنا، لا الأصنام التي يعبدها الملك «دقيانوس» و أهل المملكة لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أي لن نعترف بإله غيره، و لا نعبد إلها سواه لَقَدْ قُلْنا إِذاً إذا دعونا غير إله السماء و الأرض شَطَطاً أي كذبا و باطلا.

[16] ثم تذاكروا فيما بينهم أحوال أهل المملكة و أنهم كيف ضلوا السبيل بدون حجة قائلين هؤُلاءِ قَوْمُنَا جماعتنا من أهل المملكة اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله آلِهَةً من الأصنام يعبدونها لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي على فعل أنفسهم، أو على تلك الآلهة، و قد أجريت مجرى العقلاء، تماشيا مع منطق القوم، و «لو لا» بمعنى «هلّا» للزجر،- أي إن كانوا صادقين، فلما ذا لا يأتون لصحة هؤلاء الآلهة بِسُلْطانٍ أي دليل بَيِّنٍ واضح، فما الدليل على كون هذه الأصنام آلهة؟ و إذ لا دليل لهم فَمَنْ أَظْلَمُ أكثر ظلما و تعديا مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً نسب إليه ما ليس منه، فإن غالب عبّاد الأصنام ينسبون تعدد الآلهة إليه سبحانه.

[17] ثم قال بعض أصحاب الكهف لبعض وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أي اعتزلتم القوم، و تجنبتم فعلتهم، و عبادتهم للأصنام وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 368

[سورة الكهف (18): آية 17]

وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ

إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)

بمعنى تركتم معبوداتهم التي يعبدونها إلا الله الذي تعبدونه أنتم، كما يعبده أولئك فَأْوُوا أي صيروا إِلَى الْكَهْفِ و هي مغارة الجبل «أفسوس» قرب «دمشق الشام» يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي يبسط لكم ربكم بعض رحمته التي يرحمكم بها، و ينجيكم من قومكم بسببها وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً الرفق هو اليسر و اللطف، أي يسهل عليكم ما تخافون من الملك و ظلمه، بأن يهيئ لكم يسرا و لطفا و رفقا.

[18] و قد ذهب الجميع إلى الكهف، و كان معهم راعي مع كلبه، و قد تعبوا من المشي، فناموا لكي يستريحوا، و كان باب الغار نحو القطب الشمالي، حتى أن الشمس لا تؤذيهم بحرّها، و إن دخلت عليهم أشعتها وَ تَرَى الشَّمْسَ أي لو كنت هناك لرأيت الشمس إِذا طَلَعَتْ من المشرق تَزاوَرُ أي تميل عَنْ باب كَهْفِهِمْ المتجه نحو الشمال ذاتَ الْيَمِينِ أي إلى جهة يمين الكهف- لمن أراد الخروج منه- فإن الإنسان إذا وقف على باب الكهف متجها نحو الشمال يكون يمينه طرف المشرق، و شماله طرف المغرب- عكس الواقف تجاه القبلة- وَ إِذا غَرَبَتْ أي أرادت الغروب تَقْرِضُهُمْ من القرض بمعنى القطع، يقال قرضت الموضع إذا قطعته و جاوزته، أي تجاوز الشمس كهفهم ذاتَ الشِّمالِ أي جهة الشمال فهي تدور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 369

[سورة الكهف (18): آية 18]

وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً

وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)

من خلفهم، إذ الشمس تدور في جانب الجنوب من «الشام» وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ أي فضاء متسع مِنْهُ أي من الكهف، فقد كانت له ساحة وسيعة، ناموا هناك، فلم يكن تصيبهم الشمس ليتأذوا بحرّها و تبليهم أشعتها ذلِكَ الوضع لهم في الكهف لا تؤذيهم الشمس، و هم نيام مستريحون مدى السنين الطوال مِنْ آياتِ اللَّهِ حججه و براهينه، فإن ذلك يدل على وجوده و علمه و قدرته و سائر صفاته مَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى الحق، بأن لطف به الألطاف الخفية- بعد أن سلك السبيل الذي أراه سبحانه، لكل مؤمن و كافر- فَهُوَ الْمُهْتَدِ الذي رشد، و أصاب الخير و السعادة وَ مَنْ يُضْلِلْ بترك الألطاف الخفية بالنسبة إليه، بعد أن أعرض عن الهداية فَلَنْ تَجِدَ لَهُ يا رسول الله وَلِيًّا مُرْشِداً من يتولى شؤونه، و يرشده إلى الحق، إذ لا مرشد إلا الله سبحانه.

[19] وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً لو رأيتهم هناك في الكهف، و هم نيام لظننتهم يقظين منتبهين، قيل: لأن عيونهم كانت مفتوحة وَ هُمْ رُقُودٌ و الحال أنهم كانوا نائمين، فإن الإنسان كثيرا ما تبقى عينه مفتوحة عند النوم، إذا أخذه المنام قبل أن يغمض عينه- لشدة تعب أو ما أشبه- وَ نُقَلِّبُهُمْ في نومهم ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ أي إلى جهة اليمين وجهة الشمال، حتى لا تأكل الأرض أبدانهم، فإن الشي ء إذا بقي مدة طويلة على الأرض، انقلب ترابا، و قد طال نوم هؤلاء مئات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 370

[سورة الكهف (18): آية 19]

وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ

بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19)

السنين، فلو لم يكن يقلبهم الله سبحانه، لما سلمت جنوبهم و ظهورهم الملصقة بالأرض وَ كَلْبُهُمْ فإن راعيا تبعهم و معه كلبه، و لما ذهب القوم إلى الكهف، بقي الكلب ببابه يحرسهم باسِطٌ ذِراعَيْهِ هو أن يلقيهما على الأرض مبسوطتين كافتراش السبع يديه بِالْوَصِيدِ أي بفناء الكهف، في منظر الحارس، فإن الحيوانات تخاف الكلب، فلا تتقدم إليهم بسوء، و كان لهم من الهيبة، بحيث، لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أيها السامع لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً أي لأعرضت عنهم موليا فارا وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي امتلأ قلبك من رعبهم، و الخوف الذي يدخل قلبك من منظرهم، فإن الإنسان، إذا رأى جماعة نائمين في كهف خارج المدينة، حيث لا أحد و لا صوت، و كلب في باب الكهف، دخلت قلبه الهواجس، و أخذ بالفرار لئلا يصيبه أذى من جانبهم، فيحتمل أنهم لصوص، فيقومون ليؤذوه أو أموات فيراه أحد عندهم، و يخبر السلطة، فيسأل عن شأنهم و يبتلى بهم أو سحرة اجتمعوا هنا بهذه الكيفية، فيسحروه، أو غير ذلك؟

[20] إنهم ناموا ما شاء الله أن يناموا ثلاثمائة سنين، أو أكثر- بقدرة الله تعالى و إرادته- ثم شاءت إرادته أن يوقظهم من رقدتهم الطويلة، و قد مات الملك «دقيانوس» و تبدلت الأقوام و البلاد وَ كَذلِكَ أي كما فعلنا لهم تلك الخوارق بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ ليسأل بعضهم بعضا، و المراد وصولهم إلى نتيجة التساؤل، و هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 371

علمهم بمدة نومهم، من باب ذكر السبب، و إرادة المسبب، فإن القائل ينتهي إلى معرفة المدة مما يزيدهم علما على

علم، و إيمانا على إيمان قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أحد الفتية، يسأل أصدقائه كَمْ لَبِثْتُمْ في نومكم قالُوا في الجواب لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالوا و قد ناموا غدوة، و استيقظوا في آخر النهار، و لذا لما نظروا إلى الشمس و هي في وقت العصر، قالوا «يوما» باعتبار طول النهار «أو بعض يوم» باعتبار استثناء الباقي من النهار، ثم تركوا هذا الموضوع الذي لا يهمهم، و إن أحسوا بنوم طويل، و جوع شديد، و أرجعوا علم ذلك إلى الله قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي بمدة لبثكم، و من هذا يظهر أنه احتمل بعضهم أنهم ناموا يومين أو أكثر فَابْعَثُوا أي أرسلوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ الورق اسم جنس للدرهم، و لذا وصفت ب «هذه» مؤنثا، باعتبار التعدد من الدرهم إِلَى الْمَدِينَةِ أي البلدة التي خرجوا منها فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أي أيّ الحوانيت و المحلات أَزْكى أطهر و أنظف و أطيب طَعاماً ليشتري منها، فَلْيَأْتِكُمْ أي ذلك المبعوث بِرِزْقٍ مِنْهُ أي من ذلك الأزكى و لْيَتَلَطَّفْ قالوا إن التاء في هذه الكلمة، نصف القران الحكيم بحسب الحروف، و إن كان نصفه بحسب الأجزاء، ما يأتي من قوله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 372

[سورة الكهف (18): الآيات 20 الى 21]

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)

(قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ) «1» و المعنى أن يعامل البائع بلطف و دقة، و لا يماكس في الشراء،

حتى لا ينجر الأمر إلى معرفته، ثم يؤخذ إلى الملك، و نقع في المحذور الذي فررنا منه وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أي لا يخبرن هذا الذاهب لاشتراء الطعام عنكم- أيها الرفقة- أَحَداً من أهل المدينة، فإنهم إن علموا بمكانكم، و شاع خبركم، وقعتم في المحذور.

[21] إِنَّهُمْ أي الملك و من حوله إِنْ يَظْهَرُوا أي يشرفوا و يطلعوا عَلَيْكُمْ و يعرفوا مكانكم يَرْجُمُوكُمْ بالحجارة جزاء لما فعلتم من ترك آلهتهم، و اختياركم الإيمان بالله أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يردوكم إلى دينكم السابق، و هو عبادة الأصنام وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أي إذا فعلتم ذلك الرجوع إلى دينهم أَبَداً فإن الإنسان إذا كفر، و بقي على كفره، حتى مات، خلد في النار، و هذا ما جرت العادة بأن الإنسان إذا دخل في دين، فإنه يدخل فيه قلبا و قالبا، فلا يقال: أنه كان بإمكانهم التقية؟

[22] لكن الله سبحانه شاء أن يطلع عليهم الملك و حاشيته فقد جاء أحد ليخبر الملك «دقيانوس» بأنهم هربوا، فأمر أن يسد عليهم باب الكهف، و يدعوهم كما هم في الكهف، ليكون قبرا لهم، و قد كتب

______________________________

(1) الكهف: 76.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 373

بعض العاملين في بناء الباب لوحا فيه أسماءهم، و سائر خصوصياتهم، و مضى زمان حتى أراد الله سبحانه، إعلام أمرهم، إذ هدم الحائط، و تيقضوا، و جاء أحدهم يشتري الطعام، و إذا به يرى مدينة جديدة، و لما أراد الاشتراء، تخالف هو و البائع، مما يوجب رفع أمرهما إلى الملك وَ كَذلِكَ أي كما أنمناهم، و أيقظناهم من نومهم- بتلك الكيفية العجيبة- أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ يقال: أعثر زيد على عمر الناس، أي سبب اطلاعهم عليه، يعني أعلمنا الناس

بهم و بمكانهم- فقد كان الملك مؤمنا- فلما أخبر بالخبر جاء إلى الكهف ليحقق عن القضية لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و النشور حَقٌ فإنه لو لا بعث الله إياهم، لم يكن من الطبيعي هذا النوم الطويل يتلوه البعث و اليقظة وَ أَنَّ السَّاعَةَ أي يوم القيامة الذي تبعث فيه الأموات لا رَيْبَ فِيها أي ليست مجالا للريب و الشك، لأن حالهم في نومهم و انتباههم كحال من يموت ثم يحيى، و لما أن جاء الملك المؤمن و حاشيته، ليعرفوا خبرهم، تقدم ذلك الذي ذهب لاشتراء الطعام، و أخبر إخوانه بخبر المدينة، و أنهم قد ناموا سنين طوالا، فلم يحب أصدقائه اطلاع الناس عليهم، و أن يكونوا مشهورين في المدينة، و لذا ناموا و طلبوا من الله سبحانه أن يميتهم، و قبض الله أرواحهم في الساعة- استجابة لدعائهم- و هناك اختلف من في حاشية الملك حول كيفية البنيان إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي كان العثور حال التنازع، كما هو المعتاد أن يقع التنازع و الاختلاف حول القضايا الخارقة، فقال بعضهم: ابنوا عليهم بنيانا، كما تبنى المقابر. و قال آخرون: بل ابنوا عليهم مسجدا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 374

[سورة الكهف (18): آية 22]

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)

فَقالُوا أي قال جماعة من حضر ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي ابنوا على فم الكهف بنيانا يسترهم عن الأنظار، كما تبنى القبور رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ و لعل الاشتباه حول دينهم، و أنهم هل يستحقون بناء المسجد حولهم،

أم لا؟ هو الذي أوجب أن يقول بعضهم ابنوا عليهم بنيانا فإن قوله «ربهم أعلم بهم» كاشف عن ذلك قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أي غلبوا على الآخرين، في أمر البناء عليهم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً محلا للعبادة و السجود، و قد بنوا المسجد، و لا زال المسجد إلى هذا اليوم موجودا في جبل مطل على دمشق، يزوره القاصدون، و يصلون فيه، و هكذا يبقي الله سبحانه كل ما يرتبط به مثالا و عبرة بينما يذهب الطغاة مع الزمن، فلا ترى لهم من باقية.

[23] و قد اختلف الناس حول عدد أصحاب الكهف، لكن ليس مهمة القرآن بيان ذلك، و إنما المهم أخذ العبرة في القصة، فهم بأيّ عدد كانوا، كان ذلك دليلا على وجود الله و قدرته، و أنه يعيد الأموات أحياء و إن مرت قرون، و طالت أزمان سَيَقُولُونَ أي يقول قوم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ التقدير هم ثلاثة، و إنما جاء «السين» لاحتمال أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أخبر بالخبر، اختلف الأقوام الذين كانوا في عصره، و يحتمل أن يكون ذلك حكاية حال ماضية، فإذا لوحظ حال الاطلاع عليهم، و البنيان حولهم، كان مستقبل ذلك الحين، تختلف الأقوال في عددهم- كما هو العادة الجارية في أمثال هذه القضايا- وَ يَقُولُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 375

أي جماعة آخرون هم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ و كأنه لم يكن قائل بأنهم أربعة خامسهم كلبهم رَجْماً بِالْغَيْبِ أي قذفا للقول في محل غيب عن الحواس تشبيه بمن يقذف الحجارة، في محل مجهول مظلم، يريد الهدف وَ يَقُولُونَ أي جماعة آخرون سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ و إنما دخلت الواو هنا للتفنن الذي هو نوع

من أنواع البلاغة- لا واو الثمانية- قال في مجمع البيان: قيل بأن هذا إخبار من الله تعالى، بأنه سيقع نزاع في عددهم، ثم وقع ذلك، لما وفد نصارى نجران إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقالت اليعقوبية منهم، كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، و قالت النسطورية كانوا خمسة سادسهم كلبهم، و قال المسلمون، كانوا سبعة و ثامنهم كلبهم «1» قُلْ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ و أنهم كم كانوا، و ليس القرآن بحاجة إلى ذكرهم عددا، حتى يوقع نفسه، في خلاف لا فائدة فيه و ما يَعْلَمُهُمْ أي لا يعلم عددهم أحد إِلَّا قَلِيلٌ من الناس كالنبي و أوصياؤه فَلا تُمارِ أي لا تجادل يا رسول الله فِيهِمْ أي في عددهم، و إنهم كم كانوا إِلَّا مِراءً ظاهِراً سطحيا، أي بدون تعميق و تدقيق، و إنما تذكر لهم القصة، كما أوحيت إليك، إذ لا فائدة في الجدال، في هذه الأمور وَ لا تَسْتَفْتِ يا رسول الله،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 328.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 376

[سورة الكهف (18): الآيات 23 الى 24]

وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)

أي لا تستخبر فِيهِمْ في أهل الكهف، و مقدار عددهم مِنْهُمْ من أهل الكتاب أَحَداً فإنك تعلم أكثر منهم ثم لا شأن في هذه الخصوصيات، مع منهج الإسلام، حتى يطول الجدال حولها، و يصير موضع السؤال و الاستفتاء؟

[24] و بمناسبة النهي عن الجدال في الماضي الغائب عن الحواس، يأتي النهي

عن التكلم حول المستقبل المجهول، إلا أن يكل الإنسان أمره، إلى إرادة الله سبحانه، فإن المستقبل أكثر عناصره بيد الله، و إنما أقله بيد الإنسان، فليكف الإنسان عن التكلم فيه، و ليس معنى هذا، أنه لا يعمل و لا يفكر للمستقبل و إنما معناه أن لا يرى المستقبل كله بيده، و لا يحسب لله سبحانه الحساب- كما هو شأن الماديين- وَ لا تَقُولَنَ يا رسول الله لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أو بعد غد، و انّما «غدا» من باب المثال.

[25] إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا أن تقول «إن شاء الله» و هذا تعليم من الله سبحانه للعباد، إذا أرادوا أن يقولوا شيئا عن المستقبل يعلقوه بالمشيئة، إثباتا، أو استثناء كأن يقول: أذهب إن شاء الله، أو أذهب إلا أن يشاء الله، و المعنى على الثاني، إلا أن يشاء الله غيره- بأن لا اذهب- وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ الاستثناء، فإنك إذا ذكرت شيئا عن المستقبل بدون قولة «إن شاء الله» فإذا تذكرت ذلك، فقل وقت التذكر هذه الكلمة وَ قُلْ بعد ما تذكرت إنك نسيت قولة «إن شاء الله» عَسى أي لعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 377

[سورة الكهف (18): آية 25]

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (25)

أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا الشي ء الذي نسيت الكلمة معه رَشَداً أي أدنى إلى الصواب، كأنه حيث لم يذكر المشيئة، صار ذلك المستقبل المنوي فعله، غير لائق بالإتيان، فيرجو منه سبحانه لأحسن منه و أقرب إلى الرشد، فإذا قال «سأفعل لإعطاء زيد» و لم يستثن، ثم تذكر فليقل، «إن شاء الله، و لعله يوفقني لشي ء أحسن من إعطاء زيد»- و هذا

المعنى على ما ذكره بعض أهل التفسير، و ليس بعيدا من السياق-.

[26] ثم يرجع السياق إلى قصة أصحاب الكهف وَ لَبِثُوا أي مكث الفتية، و هم نيام فِي كَهْفِهِمْ و الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ هذه المدة الطويلة بقوا هناك أحياء، نيام، بدون أن يصيبهم شي ء وَ ازْدَادُوا أي زاد بعض الناس على هذه المدة تِسْعاً أي تسع سنين، فقال: إن مدة لبثهم ثلاثمائة و تسع سنوات،

روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال في تفسير الآية، عند أهل الكتاب: أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية، و الله تعالى ذكر السنة القمرية، و التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين، فيكون العدد ثلاثمائة و تسع سنين

«1»، أقول: و ذلك لأن السنة القمرية في الغالب «ثلاثمائة و خمس و خمسون» يوما، و السنة الشمسية «ثلاثمائة و خمس و ستون» يوما، فكل مائة سنة قمرية، تنقص عن مائة سنة شمسية ألف يوم، و ألف يوم يقرب من ثلاث سنوات، و على هذا فليس المراد من و ازدادوا كون الزيادة، صادرة من أهل الكتاب، بل المراد أنه زيد هذا

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 334.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 378

[سورة الكهف (18): آية 26]

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)

المقدار، فإن الإنسان، إذا أراد أن يقول شيئا بدون أن ينسب القول إلى نفسه، يقول «يقولون كذا» و الفعل يلاحظ- في يقولون- مجردا عن الفاعل.

[27] قُلِ يا رسول الله اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي بمقدار لبثهم. في المجمع معناه: إن حاجّك «يا محمد»

أهل الكتاب في ذلك، فقل الله أعلم بما لبثوا، و ذلك أن أهل نجران، قالوا: أما الثلاثمائة، فقد عرفناها، و أما التسع، فلا علم لنا بها ..

و روي أن يهوديا، سأل علي ابن أبي طالب عليه السّلام عن مدة لبثهم، فأخبر عليه السّلام بما في القرآن، فقال إنما نجد في كتابنا ثلاثمائة، فقال: بسني الشمس، و هذا بسني القمر

«1» لَهُ لله غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي ما غاب عن الحواس في السماوات و في الأرض سواء كان من الأمور الماضية أو الأمور المستقبلية، و معنى كونه لله أنه مربوط بالله، وجودا و علما و غيرهما، و كأنه إعراض عن تحديد المدة، لأن هذه الخصوصية ليست بمهمة، و إنما المهم اللبث مثل هذه المدة الطويلة، مما يدل على قدرة الله سبحانه على إحياء الأموات أَبْصِرْ بِهِ أي بالله سبحانه وَ أَسْمِعْ هذان للتعجب، و المعنى التعجب من أنه تعالى يرى كل متبصر، و يسمع كل مسموع، أي ما أبصره و ما أسمعه، و من المعلوم، أن القالب، هو التعجب، و المغزى بيان علمه الواسع، بحيث يرى كل شي ء و يسمع كل صوت، و إنما جي ء بهذا التعجب هنا تعقيبا على قوله

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 334.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 379

[سورة الكهف (18): الآيات 27 الى 28]

وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)

«لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ

وَ الْأَرْضِ» فإن العلم بكل غائب سابقا و مستقبلا، يستلزم السمع و البصر العام لكل شي ء ما لَهُمْ أي ليس لأهل السماوات و الأرض، و جي ء بضمير العاقل، مع أن المراد ليس لأي شي ء في السماوات و الأرض- ظرفا و مظروفا عاقلا و غير عاقل- تغليبا مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ فلا يتول شؤون الكون سواه، فهو المالك، السميع البصير، المتولي للإرادة وَ لا يُشْرِكُ الله تعالى مع نفسه فِي حُكْمِهِ أوامره و نواهيه أَحَداً فهو الحاكم وحده في كل الأشياء حكما تكوينيا أو تشريعيا، فإن له الخلق و الأمر.

[28] وَ اتْلُ يا رسول الله، أي اقرأ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ فهو الميزان للأمور، لا ما يقوله الناس، و لا ما عندهم من المعلومات لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فما قاله هو الحق الذي لا يقبل أيّ تغيير أو تبديل، فليس مثل كلمات الناس تتبدل حسب الظروف و المصالح و الشفاعة و التوسط و ما أشبهها، وَ لَنْ تَجِدَ يا رسول الله مِنْ دُونِهِ تعالى مُلْتَحَداً من التحد بمعنى مال، أي لا تجد ملجأ سواه تلجأ إليه و تلتحد نحوه، فلا تستفت أحدا في شأن من الشؤون، و لا تنظر إلى ما يقوله هذا أو ذاك، بل اتبع الحق النازل عليك.

[29] و إذ ليس هناك ملجأ يلجأ إليه الإنسان، ليقيه من مكاره الدهر، و يسعده في الآخرة، فما أجدر بالرسول، أن يتلو كتاب الله عاملا به، و يصبر مع المؤمنين، و إن أصابه الكفار بأذى وَ اصْبِرْ يا رسول الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 380

نَفْسَكَ أي احبس نفسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ أي الصباح وَ الْعَشِيِ أي المساء، لا شغل لهم سوى الله

سبحانه يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي رضاه، أما بمعنى يريدون الوجه الذي أمر به، فتكون الإضافة للتشريف، أو تشبيه بمن له وجه، و يعمل الإنسان عملا لوجهه، فتكون الإضافة مجازا، و حيث إن الإنسان، إذا عمل عملا لأحد، لاحظ أنه يواجه المعمول له، و تقع عينه في وجهه، فيخجل منه، إن لم يعمل حسب رضاه، قيل «يعمل فلان لوجه فلان» وَ لا تَعْدُ من عدى يعدو- على وزن «غزي يغزو»- بمعنى تجاوز، أي لا تتجاوز عَيْناكَ يا رسول الله عَنْهُمْ أي عن أولئك الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي، و «عيناك» فاعل «تعد» فهو صيغة تأنيث، لا صيغة خطاب، و المعنى لا تتجاوز عينك عن هؤلاء المؤمنين إلى أبناء الدنيا تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي في حال كونك مريدا زينة هذه الحياة، و لم يكن يريد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك، و إنما جاء النهي إرشادا للأمة، و تقريعا للعظماء و الأشراف، الذين أرادوا من الرسول أن يطرد الفقراء- في منطقتهم- كبلال، و عمار، و خباب، و صهيب، و ابن مسعود، و أضرابهم، ليدنوا منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأشراف قالوا: إنه لا يمكن أن نجتمع نحن بهؤلاء، فإذا أردت اقترابنا فاطرد هؤلاء من عندك، و كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حريصا على إيمان الأشراف، و استقائهم من المعرفة، لعلهم يهتدوا، لكن إن طرد هؤلاء و تقريب أولئك في منطق الإسلام، طرد للمؤمنين، و تقريب لزينة الحياة، و من طريف الأمر، أن الأمر بقي هكذا إلى اليوم، فالغالب أن المؤمنين- لقلة علاقتهم بزينة الحياة-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 381

[سورة الكهف (18): آية 29]

وَ قُلِ الْحَقُّ

مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)

لا يجمعون مالا، و لا يأبهون بالمظاهر، و يجتمعون حول كبراء أهل الدين. و الأشراف و الأغنياء، قلوبهم غامرة من الإيمان، و ظواهرهم عامرة بالزخارف، ثم يريدون أن يضيفوا إلى أنفسهم شرف قرب الكبير الديني- لمجرد الظاهر أيضا- فيقولون: اطرد أولئك حتى نقترب منك، و ماذا يصنع الكبير هل يطردهم؟ و هم الذين يعطون الحقوق، و لهم الكلمة في حلّ كثير من المشاكل، أم يطرد الفقراء؟ و كيف يطرد قلبا عامرا، لقلب غامر؟ لكن الواجب أن لا يطرد المؤمن مهما كلف الأمر، اتباعا لقوله سبحانه «و لا تعد عيناك عنهم» و الله الذي بيده الملك يعطيه ما ينتظر من الأشراف، بدون وساطتهم، و هو على كل شي ء قدير وَ لا تُطِعْ يا رسول الله في طرد المؤمنين مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا و إنما أغفلناه، لأنه سار مع هواه، فتركناه حتى يتردى في الغفلة و الحرمان، لا يذكر الله سبحانه إلا قليلا وَ اتَّبَعَ هَواهُ فالهوى يقوده- لا الهدى- وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي سرفا و إفراطا، لا ينتظم بنظام واحد، فإن أهل اليمين يجمع جميع أمورهم نطاق الدين، أما أهل الهوى، فكل يوم مع مهوى، كالعنب الفرط الذي انسلخ من عنقوده، فلم يجمعها جامع.

[30] وَ قُلِ يا رسول الله لهؤلاء الذين يريدون أن تطرد الفقراء، ليقتربوا منك الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ و الرب رب الجميع، يستوي عنده الفقير و الغني، فليس لي أن أطرد بعضا لبعض، و إنما أنا مبلغ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ حتى ينال السعادة

وَ مَنْ شاءَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 382

فَلْيَكْفُرْ فإن كفره لا يضر الله شيئا، و إنما جاز التهديد بلفظ الأمر، لأن المهدد، كالمأمور بإهانة نفسه، أو من باب حمل الضد على الضد إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و المعاصي، أو ظلموا غيرهم بالتعدي و الإيذاء ناراً أَحاطَ بِهِمْ و اشتمل عليهم بحيث لا منفذ لهم منها سُرادِقُها السرادق الفسطاط و ما أشبه، شبه به لهب النار، لأنه مخروطي كالسرادق، و لعل هو المراد بقوله: (ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) «1» أي ثلاثة أضلاع بشكل مخروطي، فقد كانوا في الحياة بين ثلاث، المؤمنون و الكافرون و المنافقون، فليكونوا هناك كذلك بين ثلاث شعب من النار التي تظللهم و تحيط بهم وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا أي طلبوا الغوث، و العون مما بهم من العطش و الحر يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ هو ما أذيب من النحاس و الرصاص، و شبههما، أو كدردي الزيت المغليّ، فيقدم إليهم هذا الماء الذي إذا قربه من فيه، سقط لحم وجهه من شدة الحرّ يَشْوِي الْوُجُوهَ أي ينضجها عند دنوه منها، كما قال سبحانه في آية أخرى: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ) «2» بِئْسَ الشَّرابُ ذلك المهل وَ ساءَتْ النار مُرْتَفَقاً

______________________________

(1) المرسلات: 31.

(2) المؤمنون: 105.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 383

[سورة الكهف (18): الآيات 30 الى 31]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

أي مسكنا لهم، مأخوذ من المرافقة، و هي

الترافق، كأنها محل ارتفاق و أخذ الرفقة.

[31] ذلك لمن ظلم و كفر، أما من آمن، فلننظر ماذا جزاءه؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صحيحا، بالمعتقدات الحقة وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات التي تصلح، مقابل الأعمال الفاسدة التي لا تصلح إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فلا تذهب أعمالهم ضياعا، و هدرا، إنما يلاقون جزاءهم هنالك، و هذا كالتسلية فإن كثيرا ممن عمل صالحا هنا لا يلاقي تسبيحا و تحسينا من المجتمع، فلا يضيق بذلك أنه موعود هناك بالجزاء الكافي.

[32] أُولئِكَ المؤمنون العاملون بالصالحات لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ أي بساتين الخلود، من عدن بالمكان إذا أقام فيه، فإن كل مؤمن يعطى جنانا، لا جنة واحدة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي من تحت قصورهم، و هذا أكثر لذة، من أن يكون النهر فوقهم، كما في بعض الأراضي المنخفضة المجاورة للأنهر المرتفعة يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أساور جمع سوار، و هو ما يحلّى به اليد في عظم الذراع، و هناك يكون السوار تحلية اليد للرجل كالمرأة، و قد كانت الملوك سابقا يلبسون السوار، و لذا أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعض المسلمين، بأنه يلبس سوار كسرى، و كان كما ذكر وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 384

[سورة الكهف (18): آية 32]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32)

أخضر مِنْ سُنْدُسٍ هو الديباج الغليظ وَ إِسْتَبْرَقٍ هو الديباج الرقيق، و الخشن أكثر هيبة، كما أن اللين أكثر راحة للبدن مُتَّكِئِينَ أي في حالة هم متكئون فِيها في تلك الجنات عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة و هي السرير، أو الذي

في حجلة العروس خاصة نِعْمَ الثَّوابُ و الجزاء، ثوابهم و جزاؤهم وَ حَسُنَتْ الأرائك مُرْتَفَقاً أي محل ارتفاق و منزل مرافقة، مقابل حال الظالمين، الذي مرّ قبل أسطر.

[33] و هنا يضرب سبحانه لحال المؤمن، و حال الكافر مثلا، فإن الكافر الذي يبطره النعيم، و ينسى الشكر، و يظن أن الإكرام الذي أكرم به هنا باق له أبدا، و إنه إذا انتقل إلى الدار الآخرة يكون له كل شي ء مهيئ، لكن نعمته- هنا- لا تدوم، و هناك يؤخذ بما عمل هنا من السيئات، حيث لا ينفع فيه وعظ المؤمن و إرشاده، بل يركب رأسه و يسير في غلوّه وَ اضْرِبْ يا رسول الله لَهُمْ أي لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان مَثَلًا رَجُلَيْنِ مؤمن و كافر جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ و إنما أتى بالتثنية دلالة للزيادة، و قد ذكره علي بن إبراهيم قال: إنه يريد رجلا كان له بستانان كبيران كثيرا الثمار، و كان له جار فقير، فافتخر الغني على الفقير، فقال له: أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا «1»، أقول:

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 342.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 385

[سورة الكهف (18): الآيات 33 الى 34]

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً (34)

و إنما سميت الجنة جنة، لأن الأشجار تجنها و تسترها مِنْ أَعْنابٍ مما يزيد جمال البستان بالعروش وَ حَفَفْناهُما أي أطفنا بهما بِنَخْلٍ بأن كانت النخيل دائرة مدار الجنتين، و في وسطهما الكروم و الأعناب وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما بين البساتين زَرْعاً فزرع متوسط، و نخيل محيطة، و

أعناب محاطة، هكذا كان منظر جنتي ذلك الرجل الظالم لنفسه، بهذه الزينة و الجمال.

[34] كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ كانت في وقت الازدهار و الثمار آتَتْ أي أعطت و أظهرت أُكُلَها أي ثمرتها و غلتها و الأكل هو ما يؤكل من الثمار وَ لَمْ تَظْلِمْ إحداهما مِنْهُ أي من الأكل شَيْئاً أي لم تنقص الثمرة، و إنما أتت كاملة، و الإتيان بلفظ الظلم، للمقابلة مع قوله سبحانه «و هو ظالم» فإن الجنة لم تظلم، لكن الإنسان ظلم وَ فَجَّرْنا أي شققنا خِلالَهُما وسط الجنتين نَهَراً يسقيهما، فيكون الماء في وسط الجنة، لسهولة السقي، و هذا يوجب كون الجنة أجمل منظرا و أحسن ثمرا لسقاية الثمر بالماء الدائم.

[35] وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ هذا كنتيجة ما تقدم، فإن الإنسان إذا عدد أموال أحد، يجمل القول و يقول «إن له مالا» يريد مالا عظيما فَقالَ هذا الرجل المالك للجنتين لِصاحِبِهِ أي صديقه المؤمن وَ هُوَ يُحاوِرُهُ يخاطبه في الكلام، و يراجعه في القول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 386

[سورة الكهف (18): الآيات 35 الى 36]

وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)

أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا فها أنا صاحب جنتين، و أنت فقير وَ أَعَزُّ نَفَراً أي أقوى عشيرة و رهطا، و إنما سميت العشيرة نفرا لأنهم ينفرون معه في حوائجه، و كان هذا الكلام من الرجل الكافر، كان تفنيدا لما يقوله المؤمن، من أن المؤمن أكرم على الله، فهو يريد أنه أكرم، و لذا أعطاه الله هذا الملك و العشيرة، بينما الرجل المؤمن لا مال له و لا

رهط.

[36] وَ دَخَلَ الرجل الثري صاحب الجنتين جَنَّتَهُ بستانه وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفران و العصيان، فقال كما يقول كل مغرور غافل قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك و تفنى، من «باد» بمعنى هلك هذِهِ الجنة أَبَداً و هذا كلام الإنسان المغرور الكافر، الذي لا يحسب لله سبحانه و لتقديره حسابا.

[37] وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ أي القيامة قائِمَةً فلا بعث هناك و لا حساب، و ما تقوله أنت أيها الصاحب المؤمن، ليس إلا و هما و خرافة وَ لَئِنْ صدق زعمك، و كان هناك بعث و حساب و رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أي ردوني إليه بعد موتي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها أي من هذه الجنة، أو من هذه الحياة مُنْقَلَباً أي انقلابا و رجوعا، فهو مصدر ميمي، و هكذا يقول الكفار المغرورون بل يزعمون أنهم في الآخرة كرماء، كما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 387

[سورة الكهف (18): الآيات 37 الى 38]

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)

الدنيا، أليس الله أعطاهم هذه النعمة لكرمهم عليه؟ فيعطيهم في الآخرة خيرا من ذلك، لكن هناك يقال لهم (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ!!) «1» [38] و لما أتم الكافر كلامه، و أبدى غروره و دخيلة نفسه الجاهلة الغبية قالَ لَهُ صاحِبُهُ أي صديقه المؤمن، و الصاحب كل من صحب الإنسان وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أي يخاطبه و يجيبه عما قال أَ كَفَرْتَ أي هل كفرت أيها الصاحب الثري، و هو استفهام إنكاري، أي كيف تكفر بِالَّذِي أي الله الذي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أولا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثانيا

ثُمَّ سَوَّاكَ أي جعلك و عدلك رَجُلًا فإن التراب ينقلب نباتا، ثم لحما في الحيوان، أو فواكه، فإذا أكله الإنسان، انقلب منيّا و نطفة ينشأ منها الإنسان، و بعد ذلك يشتد و يستوي حتى يكون رجلا، و إنّما كفّره، لأنه أنكر المعاد و شك فيه، حيث قال «وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي».

[39] لكِنَّا أصله «لكن» «أنا» حذفت الهمزة تخفيفا، و أدغمت النون في النون هُوَ اللَّهُ رَبِّي فإني أعتز بتوحيده، و اتباع سبيله، إن اعتززت أنت بجنتك وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً أي لا أجعل أحدا شريكا معه في الألوهية و العبادة، و لعله إنّما ذكر تلك تعريضا بالكافر الذي أشرك

______________________________

(1) الدخان: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 388

[سورة الكهف (18): الآيات 39 الى 40]

وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40)

حيث رأى بعض الحول و القوة من غيره سبحانه، إذ زعم أن جنته دائمة، لا مدخلية للتقدير فيها.

[40] ثم ندّد المؤمن بصاحبه الكافر و كفرانه للنعمة، قائلا وَ لَوْ لا هي كلمة ردع و تقريع، أي هلّا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ بأن تكل الأمر إلى مشيئته، و ترى أن الجنة، إنّما هي صارت بإرادته و تقديره لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فالإنسان مهما كان قويا، و مدبّرا في أموره، فإن ذلك كله من الله سبحانه، إذن فالجنة منه سبحانه، و إن توسط هناك تدبيرك و تقديرك للأمور و قوتك البدنية و الفكرية إِنْ تَرَنِ

أيها الصاحب الكافر أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَ وَلَداً أي إن كنت تراني اليوم، فقيرا لا مال لي، و لا أولاد، كما قلت «أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً».

[41] فليس ذلك دليلا على أن الله لم يرد بي خيرا، فلعله ادخر لي ذلك في الآخرة، أو يعطيني في المستقبل أكثر منك، كما تقتضي مصلحته، و تفضي إرادته فَعَسى أي لعل رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ أي يعطيني خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ جنانا و أموالا وَ يُرْسِلَ ربي عَلَيْها أي على جنتك حُسْباناً أي عذابا و إنما سمي العذاب به، لأنه بالحساب و المقابلة لما عمل الإنسان من باب علاقة السبب و المسبب، فإن الحساب للأعمال السيئة سبب للعذاب مِنَ السَّماءِ و المراد به الصاعقة، أو الأمطار الغزيرة السائلة أو البرد القارس المفني فَتُصْبِحَ جنتك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 389

[سورة الكهف (18): الآيات 41 الى 42]

أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)

صَعِيداً أي أرضا مستوية، قد بادت أشجارها، و انطمست أنهارها زَلَقاً يزلق عليها القدم، و هذا مقابل قول الكافر «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً».

[42] أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها الجاري في أنهارها غَوْراً أي غائرا ذاهبا في الأعماق فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ أي للماء طَلَباً فتموت الأشجار و الزرع، و تذهب طراوة الجنة و النهر، و هنا انتهى الكلام بين الطرفين، و لم يفد الكافر الإنذار و الإرشاد، فلننظر ماذا حدث بعد ذلك؟.

[43] وَ أُحِيطَ العذاب بِثَمَرِهِ فقد أرسل الله سبحانه نارا فاحترقت الأشجار، و غارت الأنهار، و معنى أحيط، أن

العذاب أخذه من كل جانب، كالمحيط بالشي ء الذي يحيط من جوانبه الستة فَأَصْبَحَ الرجل الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ تحسرا و حزنا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي في البستان، من الأموال و الأتعاب، و معنى تقليب الكف، جعل ظهرها مكان بطنها، و هو ما يفعله السائل، و المتندم، المحزون، و كأنه إشارة إلى عدم الحيلة و المهرب، كأن الأمر ظاهر لا يمكن الفرار منه- كبطن الكف- لا ملجأ و التواء، حتى يخفي الإنسان نفسه هناك ليخلص من التبعة وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، أي أن الجنة ساقطة على عروشها، أي عروش الكروم، فالعروش ساقطة، و الأشجار و النخيل، فوق العروش ساقطة، و ذلك لأن السقف ينهدم أولا، ثم ينهدم الحائط عليه وَ يَقُولُ الكافر إذ رأى ذلك يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً فلم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 390

[سورة الكهف (18): الآيات 43 الى 44]

وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)

أكن أجعل من قوتي و مالي شريكا لله سبحانه فأظن أن القوة هي التي أشركت مع الله في إيجاد هذا البستان، حتى أراني أنه الله سبحانه هو الوحيد في التأثير، و أن القوة لا أثر لها إطلاقا، كما قال صاحبي المؤمن «قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله».

[44] و قد زعم الكافر أنه «أعز نفرا» فأين أنفاره في إنقاذه من هذا العذاب؟

وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ أي للكافر فِئَةٌ أي جماعة، و تسمى عشيرة الإنسان فئة، لأنه يفي ء إليهم، و يرجع في أموره إلى رأيهم يَنْصُرُونَهُ حتى يحولوا بينه و بين العذاب الذي أحيط بثمره مِنْ دُونِ

اللَّهِ أي من غير الله سبحانه، فالله سبحانه هو الناصر الوحيد، و من ليس مع الله لا ناصر له، و إنما ينتصر بعض الكفار، حيث أنه سبحانه يخلي بينه و بين النصرة المؤقتة وَ ما كانَ مُنْتَصِراً أي ممتنعا بالنصرة عن العذاب، فلا هو قدر على دفع العذاب، و لا كان له فئة يتمكنون من ذلك.

[45] هُنالِكَ أي في مثل ذلك المقام و الحال، حال إتيان العذاب، لا يفيد الفئة و الامتناع، و إنما الْوَلايَةُ و التوالي للأمور، و التصرف في الشؤون لِلَّهِ الْحَقِ فهو حق، و ما عداه باطل، و إنما قال «هنالك» لأن الولاية في الظروف العادية، التي أرسل الله الزمام فيها، و لا يريد إنفاذ أمر للناس بعضهم لبعض، أما إذا شاء شيئا، فلو اجتمع أهل السماوات و الأرض لا يقدرون على خلافه هُوَ خَيْرٌ ثَواباً من أموال الدنيا، ألم يقل الكافر للمؤمن «لأجدن خيرا»؟ و «أنا أكثر منك مالا و أعز

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 391

[سورة الكهف (18): آية 45]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً (45)

نفرا»؟ كلا! إن ثواب الله خير، و هو معدّ للمؤمن وَ خَيْرٌ عُقْباً أي عاقبة، فطاعته و الإيمان به، توجب خير العقبى، لا الكفر و الكفران.

[46] لما أتم سبحانه هذا المثل، جاء بمثل ثان منتزع عن المثل الأول، فإذا بالحياة الدنيا كلها كتلك الجنة، فإنها أمور مؤقتة لا بقاء لها و لا دوام، فلا يطمئن الإنسان إليها، و إنما يرجو ثواب الله، و يعمل للآخرة الباقية وَ اضْرِبْ لَهُمْ يا رسول الله مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كلها

من أولها إلى آخرها، فإنما مثلها كمثل ماء يعني المطر أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ من جهة العلو فَاخْتَلَطَ بِهِ أي بذلك الماء نَباتُ الْأَرْضِ إما المراد سقط على النبات، و كان الاختلاط بهذا القدر مبالغة في بيان العادوية للحياة إلى هذا الحد، فإن الماء الساقط على النبات سرعان ما يزول، و إما المراد بيان السرعة في مجي ء الحياة و ذهابها، كما أن الماء يسرع في تسبيبه لإنبات النبات، حتى كأنه اختلاط لا إنبات بوقته الطويل فَأَصْبَحَ هَشِيماً أي كسيرا مفتتا حين اليبس، و كان لحظة لم تمر، و إذا بالحياة تذهب و تذبل، و إذا بالحي يتهشم و يتحطم و يتكسر تَذْرُوهُ الرِّياحُ فتنقله من موضع إلى موضع، و تفرقه، حتى يكون مبدّدا، كأن لم يكن وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً لا يمتنع عليه شي ء، فهو المنشئ المفني، و لا يخرج شي ء عن طوق قدرته، فلا يظن أحد بما أوتي من طول و قوة، أنه قادر على أن يخرج من سلطان الله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 392

[سورة الكهف (18): الآيات 46 الى 47]

الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46) وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47)

[47] و إذا رأينا الحياة الدنيا و عرفنا قدرها و مدتها و قيمتها، فليعرف الإنسان ما هو مربوط بهذه الحياة، و ما هو مربوط بتلك الحياة، حتى يعرف ما ينبغي أن يهتم به مما ينبغي أن لا يهتم به الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا فهما مما يتزين الإنسان بهما في هذه الحياة وَ الأعمال الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ و هي الحسنات

التي أريد بها وجه الله سبحانه، فإنها هي التي تبقى و تصلح للإسعاد، و كان الإتيان ب «الباقيات»، لأن المقام مقام ما يفنى و ما يبقى خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً إن ما يرجع على الإنسان من تلك الباقيات- و هو الثواب، لأنه من تاب إذا رجع- خير مما يرجع إلى الإنسان من المال و البنون، فإن ما يرجع من المال و البنون، إنما هو خاص بهذه الحياة، أما ما يرجع منها، فإنه عند ربك، ولديه، و ما عند الله خير و أبقى وَ خَيْرٌ أَمَلًا فإن أمل الإنسان في الباقي، خير من أمل الإنسان في الفاني، و لا يخفى أن المال و البنين إذا أريد بهما وجه الله سبحانه، دخلا في الباقيات الصالحات، و كانا مصداقا للزينة، و البقاء معا، كما قال سبحانه «وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» «1» و كما أن ما في بعض الروايات، من مصاديق الباقيات الصالحات.

[48] وَ إذ ذكر الباقيات الصالحات، فلنعرف وقت ذلك، فاذكر يا رسول الله يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي نجعلها تسير، فإن من أهوال القيامة، أن الجبال تنقلع و تأخذ في السير، و تكون كالهباء المنثور وَ تَرَى الْأَرْضَ كلها

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 393

[سورة الكهف (18): آية 48]

وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)

بارِزَةً ظاهرة لا يكنها جبل، أو بناء، أو شجر، فلا ترى فيها عوجا، و لا أمتا وَ حَشَرْناهُمْ أي جمعنا البشر كلهم، بأن نحييهم و نجمعهم في موقف واحد فَلَمْ نُغادِرْ أي لم نترك مِنْهُمْ أَحَداً و المغادرة الترك، و منه الغدر

لأنه ترك الوفاء، و الغدير لأنه يترك فيه الماء.

[49] وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ أي أن البشر جميعهم يعرضون على الله سبحانه يوم القيامة، و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، إذ الإنسان دائما عند الله سبحانه، و في علمه و تحت سمعه و بصره، لكن هناك يتمثل الإنسان كالذي يعرض أمام الحاكم ليحكم عليه صَفًّا أي في حال كونهم مصطفين صفا، صف الأخيار و صف الفجار، و هكذا كل جنس مع جنسه، و كل مذهب مع رئيسه، كما قال سبحانه (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) «1» و يقال لهم من قبله سبحانه لَقَدْ جِئْتُمُونا أيها البشر كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عراة حفاة عزلا ضعفاء عاجزين منفردين ليس معكم شي ء من أموال الدنيا و مناصبها، و سائر زهرتها، و لم تكونوا تزعمون ذلك بَلْ زَعَمْتُمْ و ظننتم في دار الدنيا أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً في القيامة للحساب و الجزاء، و هذا إنما يقال بالنسبة إلى الكفار، فإن الكلام حولهم الآن- عند تبليغ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم الأحكام-.

______________________________

(1) الإسراء: 72.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 394

[سورة الكهف (18): آية 49]

وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

[50] وَ هنالك وُضِعَ الْكِتابُ أي يوضع كتاب أعمالهم، فإن المستقبل المحقق الوقوع، ينزل منزلة الماضي، و الكتاب اسم جنس، أي جنس الكتاب المكتوب فيه أعمال العباد، و وضعه إنما هو للمحاسبة و إعلام كل أحد بما عمل و ما يجزى فَتَرَى يا رسول الله، أو كل من يأتي منه

الرؤية الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا، و اقترفوا الكفر و العصيان مُشْفِقِينَ أي خائفين، من الإشفاق بمعنى الخوف، و يقال للصديق «مشفق» لأنه يخاف على صديقه من العطب مِمَّا فِيهِ أي مما في الكتاب من بيان أعمالهم السيئة وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا أي يا قوم ويلنا، أو يا ويلنا احضر فهذا وقتك، و هذه لفظة قد يدخلها الثأر، يقولها الإنسان، إذا وقع في شدة، و كان الأصل فيها، أن يدعو الإنسان على نفسه بالهلاك، ليستريح من هذه الشدة ما لِهذَا الْكِتابِ أي أيّ شي ء لكتاب عملنا لا يُغادِرُ أي لا يدع و لا يترك سيئة صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها و عدّها و أدرجها، و أصل «ما لهذا» استفهام عن النفع العائد إلى الشخص العامل عملا، تقول «ما لزيد يتكلم بهذا»؟ إي أيّ نفع له، ثم استعمل في كل استفهام استنكاري، تقول ما لهذا الحائط مائل؟ و ما لهذا الحيوان مريض؟ و هكذا وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً أمامهم، لا مهرب لهم عنها، مقابل الإنسان الذي يعمل عملا، ثم ينساه، و ينسى المجتمع له، فكأنه غائب وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً و إنما يعطيهم جزاء أعمالهم، فلا يثبت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 395

[سورة الكهف (18): آية 50]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)

لهم سيئة لم يقترفوها، و لا يزيد في جزاء سيئة اقترفوها، و إن كان الأنسب بالسياق الأول، و بالعموم اللفظي الثاني، بل هو أعم، فيشمل حتى المؤمنين، فإنه سبحانه لا يظلمهم بعدم جزاء حسناتهم، أو التنقيص من أجورهم.

[51]

إن المجرمين الذين لهم ذلك المصير المخزي، ليعلموا أنهم يتركون عبادة الله، إلى عبادة شيطان فاسق هو لهم عدو، فليرأبوا بأنفسهم عن إطاعة مثله وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ في بدء خلقة البشر فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ و هو الشيطان كانَ مِنَ الْجِنِ الساكنين في الأرض، ثم ارتفع مقامه بالعبادة حتى صار في زمرة الملائكة، و شمله أمر السجود فَفَسَقَ أي خرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ إذ لم يسجد لآدم كبرا و حسدا، و الفسق، بمعنى الخروج، و يسمى الفاسق فاسقا، لأنه خارج عن طاعة الله، و إذ عرفتم أيها المجرمون أصل الشيطان، و مصيره الذي آل إليه أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ تتبعونهم و تطيعونهم، و قد ورد أن للشيطان نسلا، و لكن بدون ازدواج مِنْ دُونِي أي من دون الله سبحانه وَ الحال أن هُمْ أي الشيطان و ذريته لَكُمْ أيها المجرمون عَدُوٌّ و هذا استفهام استنكاري، فكيف يترك الإنسان من يحبه ليتولى من يعاديه؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي إن الشيطان بئس البدل الذي اختاروه على الله سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 396

[سورة الكهف (18): الآيات 51 الى 52]

ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52)

[52] و كيف تتولون الشيطان و ذريته، مع إن الله هو الخالق و العالم، و أنه هو المتفرد الوحيد في الكون، فليس الأبالسة لهم حضور وقت خلق السماوات و الأرض، حتى يكون لهم علم و معرفة بالأمور، و لا أنهم أعضاء الله في الخلق و تسيير الكون حتى يكون

لهم قوة و دخالة في الشؤون، و الإنسان لا يتملق إلا للعالم القوي المشارك؟ ما أَشْهَدْتُهُمْ أي ما أحضرت إبليس و ذريته، و ما اتخذتهم شهودا على خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ حتى يعرفوا الأسرار و الكون، و يكون لهم هذا الشرف، حتى يقول أحد من حضر خلق الكون، لا بد و أن يكون له منزلة، و مقام يستحق به التولي و الإطاعة وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ فلا كان بعضهم حاضرا و شاهدا عند خلقي لبعضهم الآخرين، أو المراد أن أرواحهم لم تحضر خلق أجسادهم، فإن الأرواح- في البشر- كانت مخلوقة قبل خلق الأجساد وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ أي الشياطين الذين يضلون البشر و يغوونهم عَضُداً أي عونا في تسيير الكون، و الإتيان ب «المضلين» عوض الضمير، ك «هم» كبيان علة لعدم الاتخاذ، و تقريع لمن يتخذهم أولياء، فالله العالم الحكيم لم يتخذ الشيطان عونا، فكيف يتخذه الإنسان وليا؟ ثم أنه سبحانه لا يتخذ أي أحد عضدا، و إنما جي ء هنا بهذا مجاراة في الكلام.

[53] قد علمنا مبدأ الشيطان، و علمنا أنه لم يشهد شيئا، و لا أشرك في شي ء، فلنرى مصيره و مصير المجرمين الذين اتخذوه وليا من دون الله، و أطاعوه وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يَقُولُ الله سبحانه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 397

[سورة الكهف (18): آية 53]

وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)

و هو يوم القيامة، فإنه سبحانه يخاطب المشركين قائلا نادُوا أيها المجرمون شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شركاء معي في الألوهية، كذبا و افتراء، نادوهم ليدفعوا عنكم العذاب و ينصرونكم في هذا الموقع العصيب فَدَعَوْهُمْ أي دعا المشركون الشركاء، و استنجدوا بهم فَلَمْ

يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ مجرد إجابة، فكيف بالانتصار و التخليص وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين المشركين و بين آلهتهم مَوْبِقاً أي محل هلاك، و هو اسم مكان من وبق بمعنى هلك، و لعل المراد أن العلاقة الكائنة بين الكفار و آلهتهم، إنما هي علاقة هلاك و خزي، مقابل علاقة المؤمنين بالله سبحانه، فإنها علاقة نجاة و فوز.

[54] وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ التي أوقدت لهم فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها و إنما جي ء بالظن إشعارا لحالة المجرم، فإنه يحتمل أن ينجو بشفاعة أو نحوها، و هكذا نفسية كل إنسان يرى العقاب المحقق، فإن نفسه تبقى في حال تردد و إن كان أغلب ظنه الهلاك، و حلول العقاب به، و المواقعة هي ملابسة الشي ء بشدة، و منه وقائع الحرب، و كأنه جي ء من باب المفاعلة، للدلالة على أن الشيئين وقع كل واحد منهما على الآخر بشدة، حتى أن الواقع دخل في ذلك، و ذلك دخل في الواقع، فالمجرمون يقعون في النار، و النار تدخل أجوافهم وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها أي عن النار مَصْرِفاً أي موضعا ينصرفون إليه منها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 398

[سورة الكهف (18): الآيات 54 الى 55]

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً (54) وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55)

[55] لقد كان لهم مصرف عن النار، لو أنهم صرفوا قلوبهم إلى ما جاء في القرآن من المثل، فاهتدوا بهداه، و انتهجوا منهاجه، لكنهم لم يؤمنوا، فصار أمرهم إلى الخسار و النار وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينتفعون به،

لو أنهم وعوا و أرادوا الرشد، و معنى التصريف، ترديد الأمثال في قوالب شتى و ألبسة مختلفة، فصرفنا الأمثال، ليجدوا في الآخرة المصرف عن النار وَ لكن لم ينتفعوا فقد كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ أنه شي ء خلقه الله، كما خلق سائر الأشياء، لكن تلك الأشياء تخضع لأوامره طائعة، أو سائلة- كما رأينا في الملائكة عند خلق آدم- أما الإنسان فإنه أكثر شي ء جَدَلًا فإنه يجادل في الحق، و إن رآه، و أخيرا يغلب هواه على الحق،- إلا من عصمه سبحانه-.

[56] وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى استفهام إنكاري، أي أيّ شي ء يمنع الإنسان عن الإيمان بعد أن رأى الهداية، و دل على الطريق وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ لما فات منهم من الذنوب و الآثام إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي عادتنا الجارية في الأمم السابقة، الذين كانوا يكذبون الرسل حتى تأتيهم العقوبة الصارمة فتهلكهم أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أي مقابلا لهم، و مواجها إياهم، من غير أن يأخذهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 399

[سورة الكهف (18): الآيات 56 الى 57]

وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)

فيؤمنوا خوفا و جبرا، و المعنى أنهم بامتناعهم عن الإيمان- بعد مجي ء الهدى- بمنزلة من يطلب الهلاك، أو يطلب أن يرى العذاب، فيؤمن خوفا من حلوله به، إن لم يؤمن، و هذا كقولك لابنك: إنك لا

تقبل قولي، إلا أن تضرب، أو ترى العصا مرفوعة لضربك.

[57] و هل الإتيان بالعذاب لإهلاكهم، أو لجبرهم على الإيمان، من شأن المرسلين؟ كلا إن شأنهم هو البلاغ، أما العذاب، فإنه بيد الله، لا يرسله إلا لمصلحة و حكمة وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ لمن آمن و أطاع بالثواب وَ مُنْذِرِينَ لمن كفر أو عصى بالعقاب وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ فيناظرون مع الرسول و المؤمنين، بما هو باطل، و غير حقيقة لِيُدْحِضُوا أي ليزيلوا بِهِ الْحَقَ و يبطلوه انتصارا لدينهم، و طريقتهم المنحرفة وَ اتَّخَذُوا أي الكفار آياتِي يعني القرآن وَ ما أُنْذِرُوا به البعث و النار هُزُواً أي مهزوّا به، فإنهم يسخرون من هذه الآيات و الإنذارات، و سيصلون إلى جزاء أعمالهم.

[58] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي ليس أحد أكثر ظلما من مثل هذا الشخص، الذي يذكّر بآيات الله، بأن يذكره النبي بالأدلة على وجود الله و علمه و قدرته فَأَعْرَضَ عَنْها و لم ينتفع بها، و «من أظلم» إضافي لا حقيقي، ككثير من أمثاله المستعملة في القرآن الحكيم، فإن البلاغة تقتضي ملاحظة الظروف المحيطة و الملابسات، في النفي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 400

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 449

و الإثبات و الحصر و ما أشبه، فإذا سأل أحد الطلاب، هل في المدينة أحد؟ أراد من الطلاب، و إذا سأل التاجر من زميله، هل هناك شي ء؟

أراد التجارة، و إذا قال الإنسان لا دولة أقوى من الدولة الفلانية، أراد من الدول المعاصرة، و هكذا إذا قال أحد لا أشقى من هذا الرجل «في قصة قتل وقعت، مثلا» أراد في هذه القصة، و هكذا مثله كثير في القرآن مثل

(وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) «1» (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) «2» (وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) «3» إلى غير ذلك وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي نسي المعاصي التي صدرت منه، و كأنه قدمها لآخرته، و إنما نسبت إلى اليد، لأن اليد هي العضو العامل في البدن كثيرا، و إلا فالمعاصي تصدر من جميع الأعضاء، فذلك بعلاقة الجزء و الكل، كاستعمال الرقبة، و إرادة الإنسان، و التذكير باعتبار أن في فطرة الإنسان دلالات على الصانع، فالأنبياء يذكرون الإنسان، كما أن النسيان يراد به عدم المبالاة و إن كان ذاكرا لها، و الإنسان إذا استمرأ المعاصي، تكون ملكة له، حتى إن قلبه لا يستعد لقبول الحق، كأنه في غشاء، و حتى إن أذنه لا تستعد لاستماع الحق، كأن فيها وقرا، و هذا ينسب إليه سبحانه، لأنه خلق الإنسان هكذا، بحيث أنه إذا تمادى في شي ء صار ملكة له، و لأنه تعالى يترك الإنسان، حتى يتردى، فلا يجبره على الإطاعة و الإيمان، إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قلوب هؤلاء الكفار أَكِنَّةً و هي جمع كنان بمعنى

______________________________

(1) البقرة: 48.

(2) البقرة: 115.

(3) آل عمران: 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 401

[سورة الكهف (18): آية 58]

وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)

الغشاء أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفهموا القرآن، بعد ما أعرضوا عن الحق وَ فِي آذانِهِمْ جعلنا وَقْراً أي ثقلا، تشبيه بالذي في أذنه صمم، حيث لا يسمع أصلا وَ إِنْ تَدْعُهُمْ يا رسول الله إِلَى الْهُدى لأن يهتدوا و يسلكوا السبيل الصحيح فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أي

حين تمادوا في الغي حتى جعل على قلوبهم أكنة، و في آذانهم وقرا أَبَداً و عدم اهتدائهم ليس بالجبر، و إنما بالاختيار، أي إنهم ما داموا كذلك لا يهتدون.

[59] وَ رَبُّكَ يا رسول الله الْغَفُورُ الذي يستر على عباده كثيرا، و إن استحقوا الفضيحة ذُو الرَّحْمَةِ يرحمهم و يتفضل عليهم، و إن أثموا و حادوا، و لذا لا يعجّل لهؤلاء بالعذاب، و إن علم أنهم لن يهتدوا أبدا لَوْ يُؤاخِذُهُمْ الله بِما كَسَبُوا من الكفر و الآثام، أي لو أراد أخذهم- فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة- لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ في الدنيا، و أهلكهم كما أهلك القرون السابقة، لما انقطع عنهم الرجاء بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لأخذهم، و الانتقام منهم لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ أي دون ذلك الموعد مَوْئِلًا أي محل التجاء و فرار، فهو الموعد الذي لا بد أن يصلوا إليه، و لا يكون دونه محل آخر يفرون من الموعد إلى ذلك المحل، و هذا من باب التشبيه، و مجمل المعنى، أن الله من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 402

[سورة الكهف (18): الآيات 59 الى 60]

وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)

رحمته و فضله، لا يأخذ هؤلاء فورا، بل أنه تفضل عليهم بامتداد أجلهم إلى موعده، و ذلك منتهى الرجاء العادي في إيمانهم، أما إذا لم يؤمنوا و جاء الموعد، فلا مناص، و لا خلاص.

[60] و لا يغرنّ هؤلاء طول بقائهم في الدنيا ألا يعتبرون بالقرى التي أهلكناها حين ظلموا و عتوا؟ وَ تِلْكَ الْقُرى أي قرى عاد و ثمود، و قوم لوط و نوح، و

غيرها أَهْلَكْناهُمْ أي أهل القرية لَمَّا ظَلَمُوا بتكذيب الأنبياء، و العصيان عن أوامر السماء وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ أي هلاكهم، فالمهلك مصدر ميمي مَوْعِداً خاصا، فلم نأخذهم حتى وصلوا إلى ذلك الموعد، و حينذاك حل بهم العقاب.

[61] و إذ أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الناس بقصة أصحاب الكهف، سألوه عن قصة العالم الذي أمر الله موسى أن يتبعه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، و هذه القصة تشترك مع القصة السابقة، في اشتمالها على بعض آيات الله سبحانه «كإحياء السمكة» كما أنها تشترك مع تلك في سير موسى كأصحاب الكهف، سيرا إلى الله سبحانه و لمرضاته وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ مُوسى بن عمران نبي بني إسرائيل، صاحب الدعوة المشهورة التي اعتنقتها اليهود لِفَتاهُ أي شابه الذي كان يلازمه و يخدمه، و هو يوشع بن نون، و قد كان وصيا لموسى، إن الله قد أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين، و أتعلم منه فتزود يوشع حوتا مملوحا و خرجا لا أَبْرَحُ أي لا أزال أسير إلى المقصد الذي أمرني الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 403

[سورة الكهف (18): الآيات 61 الى 62]

فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62)

حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ فيه أقوال و قد رجح بعض أهل الاطلاع، أنه محل التقاء البحر الأحمر و البحر الأبيض، أو مجمع خليجي العقبة و السويس في البحر الأحمر، و قد كان الموعد هناك أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي زمانا طويلا، و هذا كما يقول القائل أسير وراء مطلبي إلى النجف، أو إلى ما شاء

الله، فيما كان أكثر الاحتمال وجود المطلب في النجف، و الحقب الدهر، أو ثمانين سنة، و المراد: السير حتى الوصول إلى المطلب.

[62] فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي محل اجتماع البحرين نَسِيا حُوتَهُما فقد ورد أنهما هناك رأيا إنسانا، و ذهب يوشع لغسل السمكة، فحييت بإذن الله سبحانه، و فلتت من يد يوشع في البحر و نسي يوشع القصة، كما نسي موسى عليه السّلام أن يسأله، ثم أخذا يسيران فَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ أي السبيل الذي اختاره سَرَباً أي مسلكا يذهب فيه.

[63] فَلَمَّا جاوَزا أي موسى عليه السّلام و يوشع، ذلك المكان، و أخذا يسيران، أحس موسى عليه السّلام بالجوع قالَ موسى لِفَتاهُ يوشع آتِنا أي جئ إلينا غَداءَنا أي طعامنا للغداء لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا و شدة، فلنأكل الحوت لنتقوى، و يذهب التعب عنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 404

[سورة الكهف (18): الآيات 63 الى 64]

قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)

[64] قالَ يوشع في جواب موسى أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا أي هل تذكر زمان نزلنا إِلَى الصَّخْرَةِ التي كانت هناك عند مجمع البحرين، أو المراد أ رأيت ما دهاني، على نحو الاستفهام الاعتذاري فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ الذي كان معنا، و لعله عليه السّلام كان نسي الحوت عند غسله، أو المراد أنه نسيه بعد ما وضعه على الصخرة، كما في بعض التفاسير، ثم اعتذر من موسى عليه السّلام أنه لم يخبره بقصة الحوت قائلا وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ بضم الهاء في «أنسانيه»

لأنه يجوز فيه أربعة أوجه «بالضم» و «الكسر» و في كل واحد منهما بالإشباع، و بدونه، هذا حسب الأصل، لكن في القرآن بالضم أَنْ أَذْكُرَهُ في موضع نصب بدل من الهاء في أنسانيه، أي ما أنساني أن أذكره إلا الشيطان، و ذلك لأنه لو ذكر لموسى عليه السّلام قصة الحوت عند الصخرة، لما جاوزها موسى وَ اتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً فإنه قد حيي و فلت من يدي، و عجبا منصوب مصدرا نوعيا، أي اتخاذا عجبا، أو سبيلا عجبا، فقد ذكر بعض المفسرين أن الماء انجاب عن الحوت، و بقي كالكوّة في البحر «1».

[65] و لما سمع موسى عليه السّلام بقصة الحوت قالَ ذلِكَ الذي تقوله، من أن الحوت قد حيي ما كُنَّا نَبْغِ أي نبغي و نطلب، و حذف «يا» يبغ، تخفيفا، فقد كانت حياة الحوت آية ذلك الرجل الذي أطلبه، و لعل الله

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 364.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 405

[سورة الكهف (18): الآيات 65 الى 66]

فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)

سبحانه كان أخبر موسى عليه السّلام، بأن آية ذلك الرجل ظهور خارقة منه، لا كما قيل أن الآية كانت إحياء السمكة الميتة، حتى يقال: كيف يجوز- على هذا- أن يقصد موسى أكل السمكة، حين قال لفتاه آتنا غداءنا؟ فَارْتَدَّا أي رجع موسى عليه السّلام و فتاه عَلى آثارِهِما أي الآثار التي تعديا منها يريدان نفس الطريق الذي سارا فيه قَصَصاً من قصّ، بمعنى اتبع الأثر، فهو مفعول مطلق لقوله «ارتدا» أي ارتدا ارتدادا و رجعا رجوعا.

[66]

و لما وصلا إلى محل الحوت فَوَجَدا موسى و فتاه عَبْداً مِنْ عِبادِنا هو خضر عليه السّلام، و قد ورد أنه كان نبيا مرسلا، بعثه الله إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده، و الإقرار بأنبيائه و رسله و كتبه، و كانت آيته أنه كان لا يجلس على خشبة يابسة، و لا أرض بيضاء، إلا اهتزت خضراء، و إنما سمى خضرا لذلك، و كان اسمه «بليابن» آتَيْناهُ أي أعطيناه رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي فضلا من طرفنا، و كل رحمة من عنده سبحانه، و إنما الإتيان هنا بذلك للإشارة إلى فضله سبحانه عليه، و قد كان من فضله سبحانه عليه النبوة، و طول العمر، و غيرهما وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً فكان علمه غير محتاج إلى التحصيل.

[67] قالَ لَهُ مُوسى بعد التعارف و التسليم هَلْ أَتَّبِعُكَ يا خضر- و من هنا يسدل الستار على أمر فتى موسى عليه السّلام و كأنه رجع من هناك، فلم يكن معهما بعد التلاقي- عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي هل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 406

[سورة الكهف (18): الآيات 67 الى 69]

قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)

تجوّز لي، أن أكون معك، لتعلمني من بعض علومك التي علمك الله إياها، أي علما ذا رشد، و هو علم الغيب، و يظهر من الحوار و النتائج في تصرفات الخضر، أن موسى أراد أن يرى كيفية علم الغيب، لا أن يتعلم هو ذلك، فالمراد من أن تعلمني أن تريني بعض علم الغيب، كيف تعمل بما تظهر نتائجه بعدا و مستقبلا؟.

[68] قالَ

خضر لموسى عليه السّلام إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي يثقل عليك الصبر، بحيث لا تطيقه، و لقد كان موسى عليه السّلام مأمورا بالظاهر، فلا يعمل عملا، إلا إذا أتمت موازينه و مقاييسه الشرعية، أما خضر عليه السّلام، فقد كان يعلم بالغيب و يعمل بحسبه، و لا مانع من أن يرسل الله نبيا بهذا، و نبيا بذلك، و قد استدل بعض بذلك، على أن للشريعة ظاهرا و باطنا، لكن فيه أنه لم يدل دليل على مثل ذلك في شريعة الإسلام.

[69] ثم قال خضر لموسى عليه السّلام وَ كَيْفَ تَصْبِرُ يا موسى عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً بما ترى ظاهره منكرا، و لا تعلم باطنه؟

[70] قالَ موسى عليه السّلام سَتَجِدُنِي يا خضر إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً لما أراه منك مما لا أعلم وجهه وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً فلا أخالفك فيما تأمرني به من الصبر، حتى ينكشف وجه الحكمة، لكن الله سبحانه لم يشأ ذلك، إذ لم يقوّ في موسى عزيمة الصبر، و لذا سأل، و لم يصبر، و لم يكن ذلك خلفا لوعده، حتى يقال كيف خلف النبي الوعد؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 407

[سورة الكهف (18): الآيات 70 الى 73]

قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)

[71] قالَ خضر عليه السّلام فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي و كنت معي تشاهد بعض الأشياء، التي لا تستقيم مع ظواهر الشريعة فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ

تراه حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فإني أنا أفسره لك فيما بعد، و على هذا القرار تبع موسى خضرا عليه السّلام.

[72] فَانْطَلَقا معا يمشيان على شاطئ البحر حَتَّى وصلا إلى سفينة و إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها خضر، بأن قطع بعض ألواحها، حتى دخلها الماء قالَ موسى مستنكرا هذا العمل أَ خَرَقْتَها يا خضر لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ فما هذا العمل العجيب منك؟!- لَقَدْ جِئْتَ يا خضر شَيْئاً إِمْراً أي منكرا عظيما، فإن إمر في اللغة، بمعنى الداهية العظيمة، و هو مشتق من الأمر، لأنه الفاسد الذي يحتاج أن يؤمر بتركه.

[73] قالَ خضر أَ لَمْ أَقُلْ لك إِنَّكَ يا موسى لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً فقد شرطت على اتباعك لي أن تصبر، فكيف اعترضت عليّ هذا الاعتراض، و لم تصبر حتى أحدثك بالنتيجة؟

[74] قالَ موسى عليه السّلام بعد أن تذكر الشرط لا تُؤاخِذْنِي يا خضر بِما نَسِيتُ من الشرط حين سألتك و اعترضت عليك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 408

[سورة الكهف (18): آية 74]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)

وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أي لا تكلفني مشقة، بل عاملني باليسر، يقال أرهقه عسرا إذا كلفه أمرا يثقل عليه، و قد قال جماعة إن النسيان هنا، و في قوله «نسيا حوتهما» و قوله في قصة آدم «فنسي» و ما أشبه يراد به الترك، لا النسيان الذي هو ضد الذكر، و إنما يطلق على الترك النسيان، لأنه من أسبابه، و شبيه به في النتيجة، كما قال سبحانه (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) «1» مع أن الله سبحانه لا ينسى، و قوله (نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) «2»

و إنما قالوا ذلك، لما دل على أن الأنبياء عليهم السّلام معصومين من السهو و النسيان و الخطأ، و ما أشبه.

[75] و قبل خضر من موسى عذره و أو صلتهما السفينة إلى المحل المقصود و نزلا منها فَانْطَلَقا يمشيان حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً أي ولدا و قد كان غلاما يلعب مع الصبيان- كما في بعض التفاسير «3»- فَقَتَلَهُ أخذ خضر سكينا، و قتل الغلام بلا سوء، و لا جهة ظاهرة قالَ موسى عليه السّلام مستوحشا من هذا العمل العجيب، بلا مبرر ظاهر أَ قَتَلْتَ يا خضر نَفْساً زَكِيَّةً أي طاهرة من الذنوب بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير إن كان قتل نفسا، حتى يستحق القصاص؟ فما هذا العمل منك يا خضر لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي منكرا فظيعا.

______________________________

(1) التوبة: 67.

(2) الجائية: 35.

(3) مجمع البيان: ج 6 ص 369.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 409

تقريب القران الى الأذهان الجزء السّادس عشر من آية (76) سورة الكهف إلى آية (136) سورة طه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 410

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 411

[سورة الكهف (18): الآيات 75 الى 77]

قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)

[76] قالَ خضر لموسى عليه السّلام أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً لما تبعتني مشترطا

بأنك لا تعارضني في أعمالي، حتى أبين لك وجهها فيما بعد؟

[77] قالَ موسى عليه السّلام معتذرا إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها أي بعد هذه المدة فَلا تُصاحِبْنِي لا تتركني أصحبك قَدْ بَلَغْتَ يا خضر مِنْ لَدُنِّي عُذْراً، قد أعذرت فيما بيني و بينك و «عذرا» مفعول بلغت، أي قد بلغت إلى حال يعذرك الناس بالنسبة إلي لو نحيتني عن نفسك، فلقد خولف الشرط- حينذاك- ثلاث مرات.

[78] فَانْطَلَقا يمشيان حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ و هي قرية ناصرة، التي سميت النصارى بهذا الاسم لانتسابهم إلى هذا المحل اسْتَطْعَما أَهْلَها أي سألاهم الطعام فَأَبَوْا، أهل القرية أَنْ يُضَيِّفُوهُما، أن يقبلوهما ضيفين، يقال ضيف زيد عمروا، أي قبله ضيفا عنده فَوَجَدا خضر و موسى فِيها، في تلك القرية جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ وصف الجدار بالإرادة مجاز، لأنه شبيه بالمريد، في أنه انحنى مائلا للانهدام، و الانقضاض بمعنى السقوط بسرعة فَأَقامَهُ سواه و عدله قالَ موسى كيف تصلح شؤون هؤلاء، و هم قد بخلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 412

[سورة الكهف (18): الآيات 78 الى 79]

قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)

عليك بالضيافة لَوْ شِئْتَ هذا العمل لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لكي نسد بذلك الأجر جوعنا؟

[79] و لما اعترض موسى عليه السّلام على خضر هذا الاعتراض الثالث قالَ خضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ أي هذا وقت الفراغ، أو هذا الإنكار علي هو المفرق بيننا، لأنك قلت «إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي» سَأُنَبِّئُكَ يا موسى أي أخبرك، و لعل دخول السين لأجل

إن بين هذه القضية و بين الإخبار، كان فصل زمان قليل بِتَأْوِيلِ بتفسير، و إنما سمي تأويلا، لأن تلك الأعمال إنما صدرت لأجل ذلك الأول و الأخير، الذي ترجع إليه ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فبادرت بالاعتراض، و السؤال عنها.

[80] أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقتها فَكانَتْ لِمَساكِينَ ملكا لهم، و المراد بالمساكين هم الفقراء الذين أسكنتهم الحاجة، فلا يقدرون على حركة يقدر عليها الأغنياء يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ يتعيشون بهذه السفينة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، أحدث فيها عيبا، يسبب عدم الرغبة فيها وَ كانَ وَراءَهُمْ أي في عقب هؤلاء المساكين أصحاب السفينة مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالحة غَصْباً أما إذا كانت السفينة معيبة، فإن الملك لم يكن يأخذها، و يعيرها أهمية، فأردت إبقاء هذه السفينة بيد أصحابها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 413

[سورة الكهف (18): الآيات 80 الى 82]

وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

المساكين، و إنقاذها من يد الغاصب.

[81] وَ أَمَّا الْغُلامُ الذي قتله فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ و كان هو كافرا- كما يظهر من القرينة- فَخَشِينا إن بقي في الحياة أَنْ يُرْهِقَهُما الإرهاق، إدراك الشي ء بما يغشاه و غلام مراهق إذا قرب أن يغشها حال البلوغ، أن يغشي الغلام أبويه، و يتسلط عليهما طُغْياناً وَ كُفْراً فيطغيان و يكفران، ثم إن الخشية كانت علما، فإنها تستعمل مع العلم و

الشك، و الظن و الوهم.

[82] فَأَرَدْنا بقتل الغلام أَنْ يُبْدِلَهُما الأبوين رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ من هذا الغلام زَكاةً، طهارة، و إنما قال ذلك مقابل قول موسى عليه السّلام- نفسا زكية- وَ أَقْرَبَ رُحْماً أي أرحم بالأبوين، فإن رحم بمعنى رحمة، و المراد «الخير» عرفا، لا حقيقة، إذ لا خير في الكافر، حتى يرجح المؤمن عليه بصيغة التفضيل، و قد ورد أن الله سبحانه عرض لهما بجارية كانت أم جماعة من الأنبياء [83] وَ أَمَّا الْجِدارُ الذي أقمته، و لم أتخذ أجرا عليه فإنما أقمته لأنه كان لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ أي في المدينة التي استطعمنا أهلها، فلم يضيفونا وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ورد أنه كان لوحا من ذهب، فيه كلمات من الإيمان فكان كنزا مالا، و كنزا علما وَ كانَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 414

أَبُوهُما صالِحاً قد دفن هذا الكنز للغلامين، و جعل الجدار علامة له- و لعله كان قد أوصى بعض خواصه، أن الغلامين إذا كبرا، فليذهبا إلى محل الجدار ليجدا فيه إرثا لهما مني- و حيث إن الجدار إذا سقط ذهب الأثر، و لم يصل الإرث إلى الغلامين، و أراد سبحانه انتفاعهما به لصلاح أبيهما، أمرني بإقامة الجدار فَأَرادَ رَبُّكَ يا موسى أَنْ يَبْلُغا أي يبلغ الغلامان أَشُدَّهُما يكبرا و يعقلا و يبلغا قوتهما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما لينتفعا به علما و مالا رَحْمَةً و فضلا مِنْ رَبِّكَ عليهما وَ ما فَعَلْتُهُ أي ما فعلت شيئا من الأمور الثلاثة، التي استغربتها عَنْ أَمْرِي و من قبل نفسي، و إنما فعلت ما فعلت بأمر الله و إذنه و إجازته ذلِكَ الذي قلته لك في وجه الأمور الثلاثة تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ

صَبْراً و ثقل عليك، حيث لم تكن تعرف وجهه.

و هنا أسئلة هي: أولا، إنه كيف يجوز تخريب شي ء؟ ألا يوجب ذلك الضمان؟ و ثانيا كيف يجوز القصاص قبل الجناية؟ و ثالثا كيف أخلف موسى الوعد حيث شرط أن لا يسأل، و قد سأل؟ و رابعا كيف يكون موسى، و هو أفضل تابعا لخضر، و هل يجوز أمر الأفضل باتباع المفضول؟ و خامسا كيف نسي موسى، و الأنبياء منزهون عن النسيان؟

و الجواب عن الأولين، أن ذلك كان جائزا في شريعة الخضر، و ما المانع عن ذلك؟ و عن الثالث، أن موسى علق عدم السؤال بالمشيئة، فلم يكن خلف. و عن الرابع، أن الأفضل، يجوز أن يتعلم من غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 415

[سورة الكهف (18): الآيات 83 الى 85]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85)

الأفضل كما أن الرسول كان يتعلم من جبرائيل. و عن الخامس، قالوا أن المراد بالنسيان نتيجة النسيان- كما سبق تقريره- فلا ينافي ذلك القاعدة العامة في عصمة الأنبياء.

[84] و إذ أتم السياق قصة موسى و الخضر عليه السّلام، عطف على السؤال الآخر الذي وجه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حول ذي القرنين، فقال سبحانه وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أي عن خبره، و قصته، و قد ورد في الأحاديث أنه لم يكن نبيا و لا ملكا، و إنما كان عبدا أحب الله و أحبه الله، و جاء إلى قومه، يدعوهم فضربوا على قرنه- أي طرف رأسه- فذهب عنهم، ثم أتى إليهم مرة أخرى، و دعاهم،

فلم يجيبوا له، بل ضربوه على قرنه الآخر، فذهب عنهم، ثم جاء في الثالثة و ملك البلاد، قُلْ يا رسول الله في جوابهم سَأَتْلُوا أي أقرأ عَلَيْكُمْ مِنْهُ من ذي القرنين ذِكْراً خبرا و قصة.

[85] إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ بأن سلطناه عليها، و بسطنا ملكه فيها وَ آتَيْناهُ أعطيناه مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً أي علما يتسبب به إلى ما يريد، و طريقا يتوصل به إلى ما يحب، فقد أعطي أسباب الحكم، و أسباب العمران، و أسباب السلطة.

[86] فَأَتْبَعَ سَبَباً أي اقتضى أحد تلك الأسباب موجها وجهه نحو المغرب، و سالكا طريقه إلى هنالك، فإن الإنسان بدون السبب- من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 416

[سورة الكهف (18): آية 86]

حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86)

مال، و لوازم السفر التي هي أسبابه- لا يتمكن الوصول إلى مقصده.

[87] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ناحية المغرب من المعمورة في ذلك الوقت، فهو كما نقول اليوم «موسكو» مشرق الأرض و «لندن» مغرب الأرض وَجَدَها أي وجد ذو القرنين الشمس تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ فالإنسان، إذا كان في طرف مغربه جبل رأى الشمس تغرب خلف الجبل، و إذا كان صحراء رآها تغرب في الصحراء، و إذا كان بحر وجدها تغرب في البحر، و كأن ذو القرنين وصل إلى محل من شاطئ المحيط الأطلسي- و كان يسمى بحر الظلمات- فوجد الشمس تغرب في البحر، فإن البحر يسمى في اللغة «عينا» كما أن «حمئة» بمعنى كدرة، أي في بحر ذي كدرة، في لون مائه، أو المراد أنه رآها قد غربت،

في عين كبيرة ذات حمئة، و لا يخفى أن الآية تقول «وجدها» فهي حكاية عما جاء في نظر ذي القرنين، لا عن الواقع وَ وَجَدَ عِنْدَها أي عند تلك العين قَوْماً يسكنون هناك قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ كان المراد بالقول إلهام إليه، بالإلقاء في قلبه، إن الأمر بيده، فإن شاء عذبهم، و إن شاء اتخذ فيهم سيرة حسنة، فقد جرت البلاغة، أن يؤتى بلفظ القول، و يراد به التمكين من الشي ء، فيقول الملك: قلت للوزير، اعمل ما شئت من الخير و الشر، و سترى جزاءك، يريد أنه مكنه ليعمل ما يشاء إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ هؤلاء، كما هي عادة الملوك، إذا دخلوا قرية أفسدوها، و جعلوا أعزة أهلها أذلة وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً بأن تسير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 417

[سورة الكهف (18): الآيات 87 الى 89]

قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89)

فيهم بسيرة حسنة، و تعمل معهم العدل، فإن كلا الأمرين بيدك، و أنت قادر على الأمرين.

[88] لكن ذا القرنين بيّن سياسته في هؤلاء، و في سائر المدن التي يفتحها، ليس بيانا عمليا، و إنما أنه قال ذلك قولا بلسانه، لبيان منهجه بصورة عامة قالَ ذو القرنين أَمَّا مَنْ ظَلَمَ بالكفر أو سائر أنواع العصيان فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ حسب ما يستحق من النكال و العقاب ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ بعد هذه الحياة الدنيا، و معنى الرد إلى الله سبحانه، أنه يرد إلى حكمه، و موقع جزائه الذي قرره فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً منكرا غير معهود، من الشدة

و الغلظة.

[89] وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ عملا صالِحاً و هذا مقابل من ظلم فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى «الحسنى» خبر «فله» و هي صفة لمحذوف، أي الخلة الحسنة، و جزاء مصدر وقع موقع الحال، أي فله الحسنى في حال كونها جزاء له وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي قولا جميلا، بغير أن نشق عليه، و المراد بالقول المعاملة معه معاملة حسنة، في مقابل من ظلم و الذي سوف نعذبه، و كان الإتيان هناك ب «سوف» و هنا ب «السين» لإفادة تأخير العقاب هناك لعله يتوب، و تقديم الثواب هنا بفترة يسيرة ريثما يحقق أمره.

[90] ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً فأنهى رحلته الأولى نحو المغرب،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 418

[سورة الكهف (18): الآيات 90 الى 92]

حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)

ليبدأ رحلته الثانية نحو المشرق، فسلك طريقا، هو سبب الوصول إلى المشرق.

[91] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي أول العمارة من الجانب الشرقي من الأرض وَجَدَها وجد الشمس تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً فكانوا عراة لا يجدون ما يسترون به أنفسهم من لفح الشمس الحارة، أو المراد أن القوم في أرض مستوية، لا جبال فيها، و لا أشجار تسترهم عن حر الشمس، كبعض صحارى إفريقيا.

[92] كَذلِكَ الذي ذكرنا كانت رحلة ذي القرنين وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي كنا عالمين، بما عند ذي القرنين من الآلات و الجيوش و العدة، و النوايا التي في صدره، فقد كان مكشوفا لدينا، كما كان القوم مكشوفين للشمس.

[93] ثُمَّ أَتْبَعَ ذو

القرنين سَبَباً و سلك سبيلا ثالثا في رحلته الثالثة، يتسبب به للوصول إلى مكان آخر، و هناك وصل إلى محل كان فيه أقوام مختلفة، لا تفهم لغتهم، و قد كان هذا المكان بقرب جبلين، بينهما ممر، و كان وراء الجبلين قبيلتان تسميان «يأجوج» و «مأجوج» و كانت القبيلتان تنزلان من هذا الممر على القوم، فتعيثان فيهم الفساد، و هناك عند ما رأى القوم ذا القرنين الملك المظفر القوي، طلبوا منه أن يسد عليهم هذا الممر، ليأمنوا شر يأجوج و مأجوج ففعل ذو القرنين ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 419

[سورة الكهف (18): الآيات 93 الى 95]

حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً (95)

طلبوا منه، ثم شكر الله على أن وفقه لهذا العمل، و أخبر القوم، أن هذا السد يبقى حتى يوم القيامة، إذ تسوى الأرض، فيكون السد دكا، كسائر الارتفاعات.

[94] حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ أي الحاجزين، و هما جبلان أو السدان اللذان كان بينهما ممر وَجَدَ مِنْ دُونِهِما من ورائهما و بالقرب منهما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لا يعرفون كلام أحد، لأن لهم لغة خاصة، فغرابة لغتهم، و قلة فطنتهم، أورثت الصعوبة في التفاهم معهم.

[95] قالُوا قال أولئك القوم يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ و إنما قال «مفسدون» لأنهما قبيلتان، فباعتبار أفرادهما جي ء بالفعل جمعا، و المراد بالأرض أرضهم، لا كل الأرض كما هو واضح

فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ يا ذا القرنين خَرْجاً أي بعضا من أموالنا، و إنما سمي الخرج بذلك لخروجه من مال الإنسان، كما سمي الدمل خراجا لخروجه من البدن عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ بين يأجوج و مأجوج سَدًّا حائطا بين هذين الجبلين ليسد الممر الذي ينزلان منه إلينا و قد كان طلبهم في صورة الاستفهام من باب التأدب.

[96] قالَ ذو القرنين ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما أعطاني الله من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 420

[سورة الكهف (18): الآيات 96 الى 97]

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)

المال و المكنة خير من خرجكم، فلا أحتاج إلى أموالكم لتكون أجرة لي في بناء السد فَأَعِينُونِي أيها القوم بِقُوَّةٍ من رجال، و أدوات السد لأبني لكم السد أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ أيها القوم وَ بَيْنَهُمْ بين يأجوج و مأجوج رَدْماً سدا قويا، و الردم أقوى من السد.

[97] آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي جيئوا بقطع الحديد، مفرده زبرة، و هي الجملة المجتمعة، فامتثلوا أوامره و جاءوا بقطع الحديد حَتَّى إِذا ساوى الحديد بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي امتلأ الممر بين الجبلين، و يسمى الجبل صدفا، لأنه يصدف، و يمنع عما وراءه، كأنه سد و حاجز قالَ ذو القرنين لهم انْفُخُوا في النار بالمنافخ، موجها النفخ نحو الحديد المتراكم بين الجبلين، فنفخوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أي جعل الحديد المتراكم كالنار في وهجها و لهيبها، و لزم بعض الزبر بعضها الآخر قالَ ذو القرنين آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي جيئوا بالقطر، و هو النحاس المذاب، حتى أفرغ على الحديد

الذي صار كالنار، حتى يصير السد أقوى، و يأخذ القطر بالفرج و الخلايا.

[98] ففعلوا ما قال لهم ذو القرنين، و إذا بسد محكم، لا يتمكن أحد أن يخربه أو يحدث فيه خللا، و لما جاء موعد مجي ء يأجوج و مأجوج، و جاءوا لم يقدروا من المرور فَمَا اسْطاعُوا أصله استطاع حذف التاء تخفيفا، أي لم يستطع يأجوج و مأجوج أَنْ يَظْهَرُوهُ أي يعلوه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 421

[سورة الكهف (18): الآيات 98 الى 100]

قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100)

و يصعدوه، يقال ظهر السطح أي علاه وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً أن ينقبوا السد من أسفله، و يحدثوا فيه فجوة، و سربا و نفقا، ليأتوا إلى أولئك، و بذلك استراح القوم من شرهم.

[99] و لما أتم ذو القرنين السد لم يأخذه البطر و الكبر، كما هو عادة الملوك بل قالَ متواضعا مذكرا أنه من فضل الله سبحانه عليه و عليهم هذا السد رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي حيث أمكنني من ذلك، و أراحكم من شر المفسدين فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي بقيام القيامة جَعَلَهُ سبحانه دَكَّاءَ أي مدكوكا متساويا مع الأرض وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي بإتيان القيامة حَقًّا لا خلف فيه.

[100] و حيث ينتهي السياق من قصة الملك العادل ذي القرنين، و كيف سار و كيف عمر و عدل، و بمناسبة «وعد ربي» يأتي السياق ليبين أحوال القيامة وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة يَمُوجُ فِي بَعْضٍ مختلطين كحال المياه المائجة باضطراب، و الضمير،

إما يعود إلى يأجوج و مأجوج، و إما يعود إلى الناس، المفهوم من الكلام وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ لأجل إحياء البشر بعد موتهم فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي جمعنا الخلائق كلهم في صعيد واحد مجتمعين للحساب.

[101] وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم لِلْكافِرِينَ عَرْضاً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 422

[سورة الكهف (18): الآيات 101 الى 103]

الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)

فأظهرناها لهم حتى شاهدوها، و رأوا ألوان عذابها.

[102] و من هم الكافرون؟ الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي لا ينظرون إلى ما أذكرهم به من الآيات الكونية، كالذي عينه لا ترى شيئا، إن أولئك يرون اليوم العذاب المهيأ لهم، جزاء أن أغمضوا أعينهم عن الحق وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي لا يتمكنون- من كفرهم و عنادهم- أن يسمعوا إنذاري و مواعظي، و هكذا كما يقال فلان لا يستطيع النظر إليك، أي يثقل عليه ذلك، و من المعلوم، أن سمع الكفار يشترك مع بصرهم في سماع أصوات العذاب، كما كان يشترك في الإعراض عن ذكر الله.

[103] أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا هل زعموا و ظنوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ينصرونهم لدى الحاجة، كما هو شأن الولي؟ إن هذا الزعم باطل، فإن الأصنام، و الملائكة و المسيح و غيرهم، ممن اتخذهم الكفار آلهة و أولياء لا ينصرونهم، و لا يدفعون العذاب عنهم، فليس الزعم في اتخاذ الآلهة، و إنما الزعم في اتخاذ الآلهة أولياء للنصرة و الدفاع إِنَّا أَعْتَدْنا و هيئنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي منزلا

مهيأ لهم، يردونها بمجرد ورودهم، بلا حاجة إلى تعب منا فإن الأمر مهيأ للنزلاء.

[104] قُلْ يا رسول الله، لهؤلاء الكفار، أو لكل من يسمع مؤمنا كان أم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 423

[سورة الكهف (18): الآيات 104 الى 105]

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105)

كافرا هَلْ نُنَبِّئُكُمْ نخبركم بِالْأَخْسَرِينَ أي بأخسر الناس أَعْمالًا الذين تكون خسائرهم أكثر من خسائر غيرهم؟

[105] الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما سعوا و عملوا في هذه الحياة ضل و ضاع عنهم وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً يظنون أنهم يعملون حسنا، و الذين ضل، من تتمة الاستفهام، بدل من «الأخسرين».

[106] أُولئِكَ و هذا جواب عن الاستفهام، هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ أي جحدوا آيات الله، فلم يستدلوا بها على الله سبحانه و صفاته، و سائر شؤونه، و جحدوا المعاد الذي فيه لقاء الله سبحانه، بمعنى لقاء جزائه و حسابه فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بطلت و ضاعت أعمالهم الحسنة، إنهم كانوا مؤمنين، كانت أعمالهم مصونة محفوظة، أما و قد كفروا، فقد حبطت أعمالهم فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي لا مرتبة لهم، و لا نعير لهم أهمية، و لا قيمة لهم عندنا، فإن الشي ء الخفيف الذي لا يوزن، لا قيمة له، و لذا جعل عدم الوزن كفاية عن عدم القيمة، و إنما كان هؤلاء أخسرين أعمالا، لأن هناك أعمالا للدنيا يرى العامل جزاؤها في الدنيا، و أعمالا للآخرة يرى العامل جزاؤها في الآخرة، أما أعمال هؤلاء فهي بزعمهم للآخرة، و لا يرون لها جزاء

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 3، ص: 424

[سورة الكهف (18): الآيات 106 الى 109]

ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)

أصلا، لا في الدنيا و لا في الآخرة، و التفصيل غير مراد هنا- كغالب هذه المواضع من أشباهه- [107] ذلِكَ كما ذكرنا جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ و لماذا؟ بِما كَفَرُوا أي بسبب كفرهم وَ اتَّخَذُوا آياتِي الكونية و الشرعية وَ رُسُلِي هُزُواً أي مهزوا به، فقد كانوا يستهزئون بالآيات الكونية، و القرآن و الرسول، فقد حبطت أعمالهم الصالحة، و جوزوا النار بكفرهم و استهزائهم.

[108] لقد كان ذلك حال الكافر، فما هو حال المؤمن؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صحيحا بالأصول وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي تصلح للسعادة كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ الفردوس هي الجنة التي يجتمع فيها الملاذ، من أشجار و أنهار و أزهار و أطيار نُزُلًا منزلا مهيئا لهم.

[109] في حال كونهم خالِدِينَ دائمين فِيها أبدا لا يَبْغُونَ لا يطلبون عَنْها عن تلك الجنات حِوَلًا تحولا إلى موضع آخر لطيبها و ملاذها.

[110] ثم يأتي السياق ليندد بالكفار الذين ينكرون كل شي ء استنادا إلى علمهم المحدود، و كأنهم يعلمون كل شي ء، ألا فليعلم البشر أن علمه لا شي ء، في مقابل مخلوقات الله التي لا حد لها، و يصور هذا الخلق الذي لا يتناهى في مثال «إن البحر لو كان مدادا، و كتب به كلمات الله بقيت الكلمات، و نفد البحر» فكيف يمكن للإنسان أن ينكر الجنة

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 3، ص: 425

[سورة الكهف (18): آية 110]

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

أو النار، أو سائر ما يخبر به الأنبياء مما وراء الغيب، قُلْ يا رسول الله لَوْ كانَ الْبَحْرُ أي جنس البحر ليشمل جميع البحار مِداداً لكتابة كَلِماتُ رَبِّي ما أظهره و ألقاه من الموجودات، فإنها كلمات الله سبحانه، تشبيها بالكلام الذي يلقيه الإنسان و يظهره في الخارج لَنَفِدَ ماء الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي في الكتابة، فإنها تبقى غير مكتوبة كلها، و قد خلص و تم ماء البحر وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ أي بمثل البحر مَدَداً له و عونا، فإن كلمات الله أكثر من أن تنفدها بحار العالم، و بحار أخر تمدها.

[111] و أخيرا يوجز القول حول التوحيد و الرسالة و المعاد، مما كان مرمى السورة من أولها إلى آخرها قُلْ يا رسول الله إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الأكل و الشرب و الملامسة و غيرها من الشؤون البشرية، فلست ملكا أو غيره، و إنما الفرق بيني و بينكم أنه يُوحى إِلَيَ فلوجهة ربط بالله سبحانه جعلني مستعدا لتلقي الوحي و خصني الله بذلك من بينكم، و أهم ما يوحى إلي هو أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له و لا شبيه فَمَنْ كانَ منكم يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ أي يطمع في ثوابه و حسن جزائه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً يسعد به في الآخرة وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً فلا يجعل له شريكا في العبادة، كما لا يجعل له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 426

شريكا في الألوهية، و الإسلام كله يتلخص في

هذه الأمور الأربعة، التوحيد و شؤونه التي منها العدل و الرسالة، و شؤونها التي منها الإمامة، و المعاد ..، و ثم العمل الصالح، بلا شرك عبادي، فالعبادة له وحده، كما أن الألوهية له وحده،

و قد ورد، أن من الشرك الرياء «1»

______________________________

(1) ثواب الأعمال: ص 255.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 427

19 سورة مريم مكية/ آياتها (99)

سميت بهذا الاسم لاشتمالها على اسم مريم أم عيسى و قصتها، و هي مكية، و لذا تراها تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية، و حيث ختمت سورة الكهف بذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» افتتحت هذه السورة، بذكر بعض الأنبياء السابقين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين في بدء أمورنا باسم الإله الرحمن الرحيم، ليتفضل علينا بالرحمة في الدنيا و في الآخرة، فإن ذكر صفة من صفات الكريم تدل- تلميحا- إلى تطلب الذاكر من تلك الصفة، إذ الإنسان لا يخصص صفة بالذكر، إلا و هو مريد للنيل منها، فإذا قال المجرم أيها الغافر، أراد الغفران، و إذا قال الفقير أيها الغني، أراد الثروة، و هكذا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 428

[سورة مريم (19): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)

[2] كهيعص أي أن «كاف» «هاء» «ياء» «عين» «صاد» هي التي يركب منها هذا القرآن، فإن القرآن مركب من هذه الحروف و أمثالها، و هنا حذف الخبر، بخلاف مثل «الم، ذلِكَ الْكِتابُ» و قد عرفت أن في فواتح السور أقوالا و ما ذكرناه أحدها، و هناك قول آخر

أنها رموز و لا تنافي بين القولين و لا بين سائر الأقوال،

و قد ورد أن «كاف» اسم كربلاء و «هاء» هلاك العترة و «ياء» يزيد و «عين» عطش الآل عليهم السّلام و «صاد» صبرهم

«1»، فهي كالرموز اللاسلكية التي تختار لمعرفة الطرفين دون سواهم لحكمة.

[3] هذا الذي نريد بيانه ذِكْرُ و خبر رَحْمَتِ رَبِّكَ ل عَبْدَهُ زَكَرِيَّا النبي عليه السّلام و المراد برحمة الله له استجابته دعاء زكريا حين سأله الولد، فقد تفضل عليه سبحانه بيحيى عليه السّلام.

[4] و قد كانت الرحمة إِذْ نادى حين دعا زكريا رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا دعاء في خفية لم يجهر به، و لعل سر الإخفاء، أن الناس لو علموا بأنه يطلب الولد سخروا منه؟، كيف يسأل الولد و هو شيخ فان؟، أم كيف بقي في نفسه بقايا من طلب الملذات ..؟

[5] قالَ زكريا في دعائه يا رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف عظمي، و إسناد الضعف إلى العظم، أبلغ في الدلالة على الضعف، إذ العظم الذي هو أصلب شي ء في الجسم، إذا ضعف ضعفت سائر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 88 ص 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 429

[سورة مريم (19): الآيات 5 الى 6]

وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

الأشياء وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فإن الشيب و البياض، إذا ظهر في الرأس و غمرها، كانت الرأس كالمشتعل في التلألؤ و البريق، و هذا أبلغ، من «اشتعل الشيب في الرأس» وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ بدعوتي إياك فيما مضى، يا رَبِّ شَقِيًّا مخيبا محروما، فإنك قد عودتني الإجابة فيما مضى، يا رَبِّ

شَقِيًّا مخيبا محروما، فإنك قد عودتني الإجابة فيما مضى، و أنا في سن الشباب و القوة، فلا بد أنك لا تحرمني هذا الدعاء و أنا في حال المشيب و الضعف.

[6] و إذ ذكر عليه السّلام حاله المستحق للترحم و رجائه الذي عوده باريه باستجابة دعائه بين ما يخشاه و ما يطلبه وَ إِنِّي يا رب خِفْتُ الْمَوالِيَ جمع مولى، و هو الأولى بالتصرف في الأموال بعد الإنسان بالإرث، مِنْ وَرائِي أي من خلفي الذين يرثونني، أخشاهم أن لا يعملوا، بما يبقى لهم مني على وجه الصلاح وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد، فليس لي منها أولاد حتى يقوموا بواجب تراثي من بعدي من الصلاح و الإصلاح فَهَبْ لِي يا رب مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك وَلِيًّا ولدا يلي أموري من بعدي، و يكون هو الأولى بميراثي.

[7] يَرِثُنِي ذلك الولي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لعل ذلك باعتبار أم الولد، أي زوجة زكريا، فقد كانت خالة «مريم» من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السّلام. و لذا كان عيسى عليه السّلام، من نسل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 430

[سورة مريم (19): الآيات 7 الى 8]

يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)

إبراهيم، و قال «آل يعقوب» لاحترامهم بكون الأنبياء فيهم وَ اجْعَلْهُ أي اجعل ذلك الولد يا رَبِّ رَضِيًّا مرضيا عندك، ممثلا لأمرك، فلا يكن فاسدا، لا يصلح لإرثي، و الرضى صفة لنفس الولد، لكنها تلازم كونه مرضيا.

[8] و قد استجاب الله دعاءه فناداه يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ

ولد اسْمُهُ يَحْيى و لعله سماه سبحانه بهذا الاسم، كناية عن أنه يحيى حياة صالحة لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا فلم يسمي أحد ولده بهذا الاسم، و إنما ابتكر هذا الاسم لولدك تكريما لك، فإن لكل جديد لذة و لكل تخصيص كرامة.

[9] و لقد فوجئ زكريا بهذه الاستجابة المسرة، كيف يكون له ولد، و هو شيخ، و امرأته عاقر لم تلد في شبابها، فكيف و أنها شاخت و هرمت؟

و لذا أراد السؤال عن الكيفية قالَ زكريا يا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف يكون لي غلام، و لعل سؤاله كان حول رجوعه شابا، أو عن امرأة جديدة، أو بهذه الحالة عن هذه المرأة العاقر؟ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد وَ قَدْ بَلَغْتُ أنا مِنَ الْكِبَرِ في العمر عِتِيًّا العتي هو الذي بلغ به طول العمر إلى حالة اليبس و الجفاف، كأنه ليس فيه مادة صالحة لنشأة الولد؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 431

[سورة مريم (19): الآيات 9 الى 11]

قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (11)

[10] قالَ سبحانه في جوابه كَذلِكَ أي بهذه الحالة نعطيكما الولد قالَ رَبُّكَ هُوَ أي إعطاء الولد في هذه الحال- حال كبرك، و كون زوجك عاقرا- عَلَيَّ هَيِّنٌ أي سهل يسير، و القائل هو الله سبحانه، و قد جرت العادة أن يذكر الشخص اسمه، فيقول محمد لأولاده مثلا:

يقول لكم محمد، أن لا تجالسوا الأشرار، يريد نفسه وَ قَدْ خَلَقْتُكَ يا زكريا

مِنْ قَبْلُ أي سابقا وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً أصلا فإعطاء الولد من كبيرين أهون من خلق الإنسان من العدم، فإن من قدر على ذلك الأصعب- في نظرك- يقدر على هذا الأسهل.

[11] قالَ زكريا عليه السّلام يا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة دالة على وقت صيرورة الولد الذي بشرتني به قالَ الله تعالى آيَتُكَ علامتك التي تدلك على وقت صيرورة الولد أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي لا تتمكن من الكلام مع الناس ثَلاثَ لَيالٍ و في سورة آل عمران ثلاثة أيام، و من ذلك يظهر أن عدم تمكنه عليه السّلام من التكلم مع الناس، كان ثلاثة أيام بلياليها سَوِيًّا في حال كونك سوي الخلق ليس بك خرس أو آفة، فإذا أردت التسبيح و الذكر تمكنت من ذلك، و إذا أردت التكلم مع الناس، لم تتمكن، و قد كان هذا يناسب حال زكريا المقتضي للانقطاع إلى الله سبحانه يذكره، و يشكره، على أن أنعم عليه بهذه النعمة.

[12] و كأن زكريا عليه السّلام كانت له غرفة خاصة في بيت المقدس، و كان قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 432

[سورة مريم (19): الآيات 12 الى 13]

يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا (13)

بشر العباد بما بشر به، و ذكر لهم العلامة، فلما اعتقل لسانه، أراد أن يفهمهم الأمر ليشاركوا معه في الذكر و التسبيح، فإن الإنسان يذكر الله عند ما يرى من العجائب فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ غرفته المسماة ب الْمِحْرابِ و يسمى محل الصلاة محرابا، لأنه محل محاربة الإنسان مع الشيطان، يريد الشيطان أن يصده عن الصلاة، و هو يحاربه حتى يصلي فَأَوْحى أي أشار زكريا

عليه السّلام إِلَيْهِمْ بدون أن يتكلم، لأنه لم يكن يقدر على الكلام مع الناس أَنْ سَبِّحُوا الله سبحانه بُكْرَةً أي صباحا وَ عَشِيًّا أي مساء.

[13] فولد يحيى و كبر حتى صار صبيا، و إذا به يسمع النداء من قبل الله سبحانه يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة بِقُوَّةٍ بأن تعمل بها بكل استقامة، و المراد بالقوة، القوة النفسية، التي لا يقف دونها شي ء لمن عزم و صمم وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ النبوة، لأنها توجب أن يحكم الشخص بين الناس، فيأمرهم، و ينهاهم، و يفصل قضاياهم صَبِيًّا في حال كونه صبيا، فإن الله كما قدر على أن يمنحه لوالديه بعد الهرم، قدر على أن يتفضل عليه بمؤهلات النبوة.

[14] وَ آتيناه حَناناً و عطفا و شفقة على الناس، كما هو من لوازم النبوة، حتى يتمكن من إرشاد الناس، فإن أول مؤهلات المرشد، أن يكون ذا حنان و عطف مِنْ لَدُنَّا أي من عندنا، و الإضافة إليه سبحانه- و إن كان كل حنان من عنده- للتشريف وَ آتيناه زَكاةً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 433

[سورة مريم (19): الآيات 14 الى 15]

وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

أي طهارة و عفة و نموا وَ كانَ تَقِيًّا يتقي المحارم و الآثام.

[15] وَ آتيناه بَرًّا و إحسانا بِوالِدَيْهِ فكان بارا بهما محسنا إليهما وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً أي متكبرا متطاولا على الناس يجبرهم على حسب شهواته، و هذه الصفة «الجبار» ليست حسنة، إلا من الله سبحانه، و معناها فيه، إنه يأمر الخلق و ينهاهم حسب المصلحة، و هو القاهر فوقهم يميتهم و يحييهم حسب الحكمة، كما تطلق

عليه سبحانه بمعنى جبر الكسر، و من هذا قال العباس بن علي عليه السّلام، لما قطعوا يساره:

يا نفس لا تخشي من الكفارو أبشري برحمة الجبار «1»

جبر الكسر، مع قطع اليد و كسرها عَصِيًّا أي عاصيا لربه، فإن فعيل قد يأتي للفاعل، و قد يأتي للمفعول نحو جريح بمعنى المجروح.

[16] وَ سَلامٌ عَلَيْهِ أي على يحيى، و المراد بالسلام السلامة، في هذه الأيام الثلاثة، التي نقرر كل يوم منها مصيرا طويلا يَوْمَ وُلِدَ فإن يوم الولادة يقرر مصير الحياة، فإذا ولد الإنسان سالما من العيوب، كان سالما ما دام العمر،- إلا أن يحدث حدث عليه- و إن ولد معيوبا كأن كان أعمى أو أعرج أو ما أشبه، تكبد طول حياته ذلك وَ يَوْمَ يَمُوتُ فإن الإنسان إذا سلم هذا اليوم من عذاب الله سبحانه، كان سالما في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 45 ص 40.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 434

[سورة مريم (19): الآيات 16 الى 18]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)

البرزخ الطويل الأمد وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا أي يحيى للحساب و الجزاء، فإذا سلم في ذلك اليوم، كان سالما من العذاب و الشقاء أبد الدهر، و هذا هو معنى السلام على الميت، يعني لتكن سالما من العذاب هناك في قبرك و آخرتك.

[17] وَ اذْكُرْ يا رسول الله فِي الْكِتابِ أي القرآن مَرْيَمَ أي قصة مريم الطاهرة، و ولادتها لعيسى عليه السّلام من غير أب إِذِ حين انْتَبَذَتْ النبذ أصله الطرح، و الانتباذ منه، إلا أنه يستعمل بمعنى التنحي

يقال: انتبذ فلان ناحية أي تنحى ناحية، كأنه طرح فيها، و المراد أن مريم انفردت و تنحت مِنْ أَهْلِها أبويها، و سائر قراباتها مَكاناً شَرْقِيًّا طرف مشرق الأهل، بحيث كان أهلها في طرف الغرب، و هي في وجهة شرقهم، و لعلها أرادت الاغتسال، و لذا اختارت هذا الطرف، حتى لا تتأذى بالبرد، بل تشرق الشمس عليها- و هذا هو المستفاد من كلام بعض المفسرين-.

[18] فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ دون الأهل حِجاباً سترا ضربته ليحجبها عن أهلها، و هذا يؤيد الاحتمال السابق فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا أي روحا من طرفنا- و الإضافة للتشرف- و كان ذلك الروح جبرائيل عليه السّلام، و قد كان استحاش مريم شديدا حين رأت الروح فَتَمَثَّلَ الروح لَها لمريم عليه السّلام بَشَراً سَوِيًّا أي شابا مكتملا غير ناقص الخلق.

[19] و اضطربت مريم عليها السّلام لهذا الحادث المدهش، فاستعاذت بالله من شر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 435

[سورة مريم (19): الآيات 19 الى 21]

قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)

الرجل، لأنها لم تعرفه، و قد جرت العادة، أن مثل هذا الرجل يقصد السوء قالَتْ مريم عليها السّلام إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ أيها الرجل إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا فإن التقي إذا خوف خاف بخلاف الشقي الذي لا يرعوي، و لو بألف تخويف و إنذار، كما تقول إن كنت مؤمنا لا تفعل كذا.

[20] قالَ جبرائيل عليه السّلام في جوابها يعرفها بنفسه، لست أنا إنسانا تخافين منه إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ مرسل من

طرفه إليك يا مريم لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ولدا طاهرا طيبا.

[21] فازداد تحير مريم عليها السّلام، فسألت قالَتْ أَنَّى كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ ولد وَ الحال أنه لَمْ يَمْسَسْنِي على وجه الزوجية بَشَرٌ و هل الغلام، إلا من الزوجين بعد الملامسة وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا أي زانية، فإن الولد في العادة يكون بأحد هذين الطريقين، و لم يك أحدهما.

[22] قالَ جبرائيل عليه السّلام في جواب سؤال مريم عليها السّلام كَذلِكِ أي كذا الذي ذكرت لك ف «الكاف» حرف جر للتشبيه و «ذا» للإشارة و «لك» للخطاب قالَ رَبُّكِ هُوَ أي إعطاء الولد من غير أب عَلَيَّ هَيِّنٌ سهل لا يحتاج إلى الكلفة وَ لِنَجْعَلَهُ نجعل هذا الولد آيَةً لِلنَّاسِ حجة من عندنا على الناس، فإن عيسى عليه السّلام كان حجة الله على البشر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 436

[سورة مريم (19): الآيات 22 الى 23]

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23)

وَ رَحْمَةً مِنَّا على البشر نرحمهم به و نهديهم إلى الطريق بسببه وَ كانَ إعطاؤك الولد أَمْراً مَقْضِيًّا أي كائنا مفروغا منه محتوما، فلا ينفع التكلّم لدفع هذا القضاء.

[23] فنفخ جبرائيل في جيب مريم عليها السّلام، فاكتمل عيسى في بطنها في الساعة بقدرة الله تعالى فَحَمَلَتْهُ أي حملت مريم بعيسى عليه السّلام فَانْتَبَذَتْ بِهِ تنحت مريم بالولد- أي معه- مَكاناً قَصِيًّا أي محلا بعيدا عن أهلها، لئلّا يروها على حالة الحمل، و لقد كانت مدة حملها تسع ساعات، و في بعض الروايات، أنها جاءت إلى كربلاء من بيت المقدس، بقدرة الله تعالى، و هو المراد بالمكان القصي «1» [24] فَأَجاءَهَا

الْمَخاضُ أي ألجأها الطلق، و هو وجع الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستند إليها، و الجذع ساق النخلة، و حيث فكرت في حالتها أخذت الدهشة منها كل مأخذ، و لذا قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا الحادث قالت ذلك حياء و خجلا و تحيرا، و «مت» بكسر الميم من «مات يميت» على وزن «تعب» و من أخذه من «مات يموت» احتاج إلى التكلف وَ كُنْتُ نَسْياً أي ما من شأنه أن ينسى مَنْسِيًّا ذكري عند الناس لا يذكرني أحد، و هناك جاءت بعيسى عليه السّلام وليدا كاملا جميلا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 14 ص 517.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 437

[سورة مريم (19): الآيات 24 الى 26]

فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

[25] فَناداها عيسى عليه السّلام، أو جبرائيل، مِنْ تَحْتِها أي أسفل منها، فإنها كانت على أكمة، و لعل هذا يرجح كون المراد بالمنادي عيسى عليه السّلام- كما اختاره سعيد بن جبير- أَلَّا تَحْزَنِي من هذه الحادثة، و الحزن هو الغم الكامن في النفس قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ يا مريم تَحْتَكِ أي الأسفل منك سَرِيًّا أي جدولا ساريا،

و قد قال الإمام الباقر عليه السّلام إن عيسى عليه السّلام ضرب برجله الأرض، فسار الماء «1»

[26] وَ هُزِّي يا مريم إِلَيْكِ أي اجذبي نحو نفسك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ليقع فيها الهز تُساقِطْ النخلة عَلَيْكِ رُطَباً جديدا جَنِيًّا طريا، قد جني الساعة، و الحلو خصوصا الرطب من أفضل ما تتغذى به المرأة التي ولدت.

[27] فَكُلِي من

الرطب وَ اشْرَبِي من ماء الجدول وَ قَرِّي عَيْناً طيبي نفسا بهذا الولد، و ذلك، لأن الإنسان المذهول تطير عينه هنا و هناك، أما مطمئن النفس فإنه تقر و تستقر عينه، حسب الموازين العقلانية فَإِمَّا أصلها «إن» الشرطية و «ما» الزائدة للتجميل، ثم أدغمت النون في الميم تَرَيِنَ مضارع، من رأى مؤكد بالنون الثقيلة مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فسألك عن الولد، من أين أتيت به، و أنت غير متزوجة؟

فَقُولِي الظاهر، أن المراد الإشارة بهذا المعنى، لا لفظ القول، فإن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 226.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 438

[سورة مريم (19): الآيات 27 الى 28]

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)

القول يستعمل للعمل و الإشارة، كما يستعمل اللفظ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً و قد كان الصوم بمعنى الكف عن الكلام، كما كان كفا عن الطعام، و أمره سبحانه ب «قولي» يفيد لزوم أن تنذر هذا الصوم، و لذا نذرت ذلك فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا منسوب إلى الإنس، لإفادة الوحدة، و لعل ذلك، لأجل أن لا تقع في المجادلة مع الناس، و الاكتفاء بكلام عيسى الرضيع.

[28] و هنا و قد رأت مريم عليها السّلام، المعجزات الباهرات، و ها هو وليدها الذي يتكلم على خلاف العادة، معها حجة قاطعة على براءتها فَأَتَتْ مريم عليها السّلام بِهِ أي بعيسى عليه السّلام قَوْمَها أي إلى قومها تَحْمِلُهُ على يديها، و لما رآها القوم، استنكروا طفلها ف قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أي أمرا عظيما عجيبا، من فرى بمعنى قطع، كأن من يأتي بشي ء عجيب، قد قطع مدهشا، لا

يلائم سائر الأشياء، و منه الافتراء.

[29] يا أُخْتَ هارُونَ

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن هارون كان رجلا صالحا في بني إسرائيل، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح

«1»، و على هذا كان المعنى يا شبيهة هارون في الصلاح، كيف أتيت بهذا الولد، من غير زواج و لا نكاح ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ يعمل القبيح

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 226.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 439

[سورة مريم (19): الآيات 29 الى 31]

فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)

وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي زانية، فأنت من أبوين صالحين، فكيف جئت بهذا الولد من غير أب؟

[30] فلم تجب مريم عليها السّلام لكلامهم و إنما فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي إلى عيسى عليه السّلام، و أومأت بأن كلموه، و اسألوا منه ما شئتم، فتعجبوا من إشارتها، و قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا و قولهم في المهد، يراد الشأنية، لا الفعلية، و هل طفل شأنه أن يوضع في المهد يتكلم؟

[31] و هنا أنطق الله عيسى ليدافع عن أمه، و يبرئ ساحتها، و يقطع الجدال ف قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ و قد كان أول ما تكلم هذا، ليفند مزاعم الذين يأتون و يقولون إنه الله آتانِيَ الْكِتابَ أي أعطاني الإنجيل وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ظاهر اللفظ أنه قد أوتي الكتاب و النبوة، و هو في ذلك السن، و هذا غير غريب، فقد وردت أحاديث، إن الأنبياء، كانوا أنوارا، قبل أن يأتوا

إلى هذه الدنيا.

[32] وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً ذا بركة و خير أَيْنَ ما كُنْتُ فليس كالثري، أو ذي الجاه الذي لا خير له، إذا لم يكن عند ثروته، و في محل منصبه، بل يعلم الخير و يشفي المرضى، أينما كان وَ أَوْصانِي الله سبحانه بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ بأن أصلي و أنفق ما دُمْتُ حَيًّا ما بقيت مكلفا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 440

[سورة مريم (19): الآيات 32 الى 34]

وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)

[33] وَ جعلني بَرًّا أي بارا بِوالِدَتِي مريم الطاهرة وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً متجبرا طاغيا شَقِيًّا من الأشقياء، فإني بلطفه و كرمه كنت هكذا، و ليس معنى ذلك أن الله يجعل الجبابرة الأشقياء كذلك، بل إن الله سبحانه يتركهم، إذا رأى منهم الانحراف، حتى يضلهم الشيطان، و ترديهم النفس الأمارة بالسوء.

[34] وَ السَّلامُ أي السلامة من العاهات الجسمية و الروحية عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ، وَ يَوْمَ أَمُوتُ بعد ما ما أنزل من السماء وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا في القيامة، و قد مر وجه ذلك في قصة يحيى عليه السّلام.

[35] و إذ أتم السياق قصة عيسى عليه السّلام، فيما هو محل الحاجة، عطف على النصارى الذين يقولون إنه الله، أو ابن الله أو شريك الله، و اليهود الذين يقولون فيه السوء، فقال سبحانه ذلِكَ الذي تقدم أحواله عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الذي جاء إلى الدنيا، و كان صاحب شريعة، ثم رفع إلى السماء قَوْلَ الْحَقِ أي أقول قول الحق، أو خذه قول الحق الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يشكّون، فزعمت اليهود

أنه لغير رشده، و كان ساحرا كذابا، و زعمت النصارى أنه ابن الله، و أمه ثالث الأقانيم، فإن كلا القولين باطل، لا يدل عليهما دليل، بل العقل دل على خلاف هذين القولين الزائفين، و قوله «يمترون» من المرية، و هو الشك و إنما سمي شكا مع أنهم بحسب الظاهر يوقنون بذلك، لأن ما خالف الواقع كان بالشك أشبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 441

[سورة مريم (19): الآيات 35 الى 37]

ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)

[36] ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ فإن اتخاذ الولد حقيقة محال، و الولد تشريفا، بأن يتبنى، خلاف شأنه سبحانه، و «من» لإفادة النفي مطلقا، واحدا كان الولد أم متعددا سُبْحانَهُ أي أنزهه عن اتخاذ الولد تنزيها، و ليس أمر عجيب ولادة عيسى عليه السّلام من غير أب، فإنه تعالى إِذا قَضى أَمْراً و أراد شيئا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ للشي ء الذي أراده كُنْ إما لفظا، أو ذلك حكاية عن إرادته تعالى فَيَكُونُ ذلك الشي ء.

[37] ثم أتم الكلام سبحانه حول قصة عيسى عليه السّلام بقوله وَ أوصاني إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ أيها البشر، فلست أنا إلها، و هل يبقى بعد شهادة عيسى كلام؟ فَاعْبُدُوهُ وحده هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا عوج فيه، و لا انحراف، و من الظريف أن كتاب «العهدين» مشتمل على تصريح عيسى، بأن الله ربه، بل لقد زاد النصارى، أن لمريم أم عيسى زوجا يسمى «يوسف» و مع ذلك، قالوا بأنه الله، أو أنه

ابن الله.

[38] و مع هذه الحجج عقليها، و شرعيها، لم يقنع النصارى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ الأحزاب جمع حزب، و هو الفئة من الناس، ذات لون واحد في العقيدة، أو العمل، أي من بين أهل الكتاب، فقالت اليعقوبية منهم، هو الله، و قالت النسطورية منهم هو ابن الله، و قالت الإسرائيلية منهم ثالث ثلاثة فَوَيْلٌ أي شدة العذاب، فإن ويل كلمة وعيد لِلَّذِينَ كَفَرُوا بالله، و اتخذوا عيسى ربا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 442

[سورة مريم (19): الآيات 38 الى 40]

أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)

أو شريكا، أو ابنا له مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي من محضر، أو هو مصدر ميمي، أي من حضورهم في يوم عظيم هو يوم القيامة، فإنهم يفضحون و يعاقبون على رؤوس الأشهاد.

[39] إن الكافرين في يوم القيامة، حيث لا ينفعهم السمع و البصر، يكونون أقوى الناس سماعا و إبصارا، أما في الدنيا، و حيث أن السمع و البصر وسيلة الهداية و السعادة، فإنهم لا يسمعون، و لا يبصرون أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ بهم، أي ما أسمعهم و أبصرهم، و ذلك صيغة التعجب على معنى ما أسمعهم و أبصرهم يَوْمَ يَأْتُونَنا أي في القيامة لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ في الدنيا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لا يسمعون الهدى، و لا يبصرون الطريق.

[40] وَ أَنْذِرْهُمْ أي أنذر يا رسول الله الناس، يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسر الإنسان، و يندم على ما فات منه من السعادة إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ حين فرغ من الأمور،

و انقطعت الآمال، فالمؤمن يتحسر على أنه لم لم يعمل أكثر؟ و الكافر و العاصي يتحسران، على أنه لم كفر و عصى، حتى يلقى العذاب و الهوان وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ الآن في الدنيا عن ذلك وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ حتى لا يتحسروا هناك حسرة الكافر على ما قدمت يداه.

[41] إنه لا بد و أن يأتي ذلك اليوم حين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 443

[سورة مريم (19): الآيات 41 الى 42]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42)

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها فكل ما في الأرض ما ليس ملكا لإنسان، و كل ما فيها مما هو ملك البشر، يبقى هنا بدون مالك، و لفظة «نحن» للتأكيد، كما إن إرث الأرض كناية عن عدم وجود إنسان فيها، حتى تكون الأرض محتملة لحيازته وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ بأعمالهم، حيث لا يملك الأمر و النهي غيرنا، فنجازيهم عليها.

[42] وَ اذْكُرْ يا رسول الله فِي الْكِتابِ أي في القرآن إِبْراهِيمَ و ليس الذكر إنشاء الإنسان الكلام، حتى يقال إن الله هو الذاكر لا الرسول، بل الذكر هو أن يذكر شيئا سواء كان منشئا له أم ناقلا، و قد جاءت قصة إبراهيم لتفنيد مزاعم العرب الذين عبدوا الشركاء، و تذكيرهم، بأن إبراهيم جدهم هو الذي حارب الشرك، كما جاءت قصة عيسى عليه السّلام من قبل لتفنيد مزاعم النصارى، حيث يجعلون لله ولدا، و بيان أن عيسى المسيح عليه السّلام لم يكن ابنا لله، و إنما كان عبدا رسولا إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً كثير التصديق لله سبحانه في جميع

الأمور أو كثير الصدق نَبِيًّا مرسلا من قبل الله سبحانه، و هو من النبوة بمعنى الرفعة، أو من النبأ بمعنى الخبر، لأن النبي رفيع الشأن مخبر عن الله سبحانه.

[43] اذكره إِذْ قالَ حين قوله لِأَبِيهِ أي لعمه آزر، فإن العادة أن يسمى العم أبا، كما تسمى الخالة أما يا أَبَتِ أي يا أبي و التاء عوض عن الياء، كما قال ابن مالك:

و في النداء أبت، أمت عرض و اكسر أو افتح و من اليا التاء عوض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 444

[سورة مريم (19): الآيات 43 الى 45]

يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)

لِمَ تَعْبُدُ أي لماذا تعبد ما لا يَسْمَعُ أي الصنم الذي لا يسمع الكلام وَ لا يُبْصِرُ شيئا وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً أي لا يكفيك حاجة من حوائجك يقال أغنى عنه، إذا جلب إليه نفعا، أو دفع عنه ضررا؟

[44] يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ بالله سبحانه، و بالأمور الكونية ما لَمْ يَأْتِكَ فلست أنت تعلم حول المبدأ، و المعاد و الكون ما أعلمه أنا فَاتَّبِعْنِي فيما أدعوك إليه أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي مستقيما لا عوج فيه و لا انحراف و هو صراط الحقيقة في باب المبدأ، و سائر الشؤون لا الضلال، كما عليه عبدة الأصنام.

[45] يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ لا تطعه، فإن من يطيع أحدا يكون كالعابد له، إذ العابد يطيع المعبود، فهو مجاز من باب التشبيه، و مثله اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون

الله إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا أي عاصيا، فكيف تطيع من يعصي إلهك و خالقك؟ و من المحتمل أن يكون آزر معترفا بالإله، و إنما يعبد الأصنام تقربا إليه، و لذا نفّره إبراهيم عن عبادة الشيطان بأنه عاص لله.

[46] يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ أي يلامسك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرحمن الذي هو مصدر الرحمة و التفضل، يعذبك، بما تخالفه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 445

[سورة مريم (19): الآيات 46 الى 47]

قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47)

و تطيع الشيطان، و تعبد الأصنام فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا بأن يكلك الله إلى الشيطان، حتى تكون وليا و تابعا له، لا وليا لله و تابعا إياه، و الشيطان لا يغني عن وليه شيئا، فتخسر الدنيا و الآخرة.

[47] قالَ آزر، مجيبا لإبراهيم في دعوته أَ راغِبٌ أي هل تنفر أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي معرض عنها يا إِبْراهِيمُ فإن رغب، إذا عدي ب «عن» كان بمعنى النفرة، و إذا عدي ب «في» كان بمعنى الطلب، و الاستفهام إنكاري لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن دعوتك، و إعراضك عن الأصنام لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة، فابتعد عني وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا أي فارقني و تنح عني دهرا طويلا، فإن الملي بمعنى الدهر الطويل، من ملو، يقال كنت عنده ملوا أي زمانا طويلا.

[48] قالَ إبراهيم عليه السّلام في جواب آزر سَلامٌ عَلَيْكَ أي كن سالما، و هذه كلمة يقولها الإنسان الحليم عند ملاقاة الجاهل، كما قال سبحانه (وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) «1» و ذلك من باب ترقيق الجو، و لتلطيف نفس الجاهل العاتية، حتى لا تزيده الدعوة

و الكلام بغضا و عنادا فوق ما كان سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي أطلب منه الغفران لك، و ذلك بأن يهديك حتى تستحق الغفران إِنَّهُ سبحانه كانَ بِي حَفِيًّا لطيفا بارا، فلعله يقبل استغفاري و يهديك الصراط.

______________________________

(1) الفرقان: 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 446

[سورة مريم (19): الآيات 48 الى 50]

وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

[49] وَ أَعْتَزِلُكُمْ أتنحى عنكم- أنت و القوم- و قد سبق أن دعا إبراهيم القوم، فلم ينفع فيهم الدعاء، و لذا قرر أن يعتزلهم إلى مكان آخر يدعو فيه، لعلهم يجيبون الدعوة، فقد طاف إبراهيم عليه السّلام- لتركيز دعوة التوحيد- العراق و الشام و مصر و الحجاز وَ أعتزل ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أتنحى عن أصنامكم، إذ المبتعد عن بلد، يبتعد عن كل شي ء فيه وَ أَدْعُوا رَبِّي لكم بالهداية عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي لهدايتكم شَقِيًّا فيستجب دعائي في هدايتكم، أي لعله سبحانه يقبل الدعاء، و يردكم عن الضلال إلى الهدى، و ليس هذا تكرارا، فإن ما سبق، كان خاصا بآزر، و هذا عام لكل القوم.

[50] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ إبراهيم وَ اعتزل ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن فارقهم، و هاجر إلى الأرض المقدسة، لم نتركه وحده يقاسي الوحدة، و الغربة، بل تفضلنا عليه بما يؤنس وحشته، و يجمع شمله وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولدا صلبيا وَ يَعْقُوبَ ولد الولد وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا يهدي الناس إلى الحق،

فقد كثرنا إبراهيم عددا، كما كثرنا الدعوة التي دعا بها إلى الله سبحانه، فشددنا أزره بالأنبياء عليهم السّلام، الذين ينتهجون نهجه في الدعوة.

[51] وَ وَهَبْنا لَهُمْ لإبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام مِنْ رَحْمَتِنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 447

[سورة مريم (19): الآيات 51 الى 52]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52)

و تفضلنا عليه وَ جَعَلْنا لَهُمْ لإبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام لِسانَ صِدْقٍ فقد كانوا صادقين في دعوتهم يصدقهم الناس، جزاء لاستقامتهم في الدعوة، في قبال ذلك التكذيب الذي واجه القوم به إبراهيم، قبل الاعتزال عَلِيًّا أي في حال كون ذلك اللسان عليا رفيعا، ينظر إليه الناس برفعة، حتى إذا قال شيئا أطاعوه، و سمعوا منه.

[52] ثم يأتي السياق، ليبين دعوة الأنبياء عليهم السّلام، و تفضل الله عليهم، إجمالا بدون تفصيل، إذ المقصود بيان الدعاة و الدعوة وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ أي اذكر يا رسول الله في القرآن مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قد أخلصه الله سبحانه لنفسه، كما قال سبحانه (وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) «1» ف «مخلص» اسم مفعول من أخلص وَ كانَ رَسُولًا إلى فرعون و ملأه، و إلى سائر البشر نَبِيًّا يأتيه الوحي من قبل الله سبحانه.

[53] وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الطور اسم جبل كان يناجي عليه موسى عليه السّلام ربه، أي ناديناه من طرف ذلك الجبل، طرفه الأيمن لا الأيسر، و ذلك حين أقبل من «مدين» و رأى النار في الشجرة، و لما دنا منها سمع الصوت (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) «2»

______________________________

(1) طه: 42.

(2) القصص: 31.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 3، ص: 448

[سورة مريم (19): الآيات 53 الى 54]

وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54)

وَ قَرَّبْناهُ إلينا في حال كونه نَجِيًّا نناجيه بكلام خفي لا يسمعه غيره، فقد كان القرب إلى هذا الحد حد المناجاة و الإسرار في الأذن، لكن المراد ليس القرب المكاني- فإنه سبحانه منزه عن المكان- و إنما القرب المعنوي الذي هو عبارة عن جعل نفس موسى عليه السّلام بحيث يتمكن من تلقي كلام الله سبحانه، ثم إن من المعلوم، إن الله لا يكلم باللسان- لأنه منزه عن الجسم و عوارضه- و إنما يخلق الصوت، فيسمعه من كملت نفسه، و أراد سبحانه إسماعه.

[54] وَ وَهَبْنا لَهُ أي لموسى مِنْ رَحْمَتِنا و تفضلنا عليه أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا فأنعمنا على موسى بجعل هارون نبيا، يشد أزره و يساعده في الدعوة، إجابة لدعائه، حيث قال (وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) «1» [55] وَ اذْكُرْ يا رسول الله فِي الْكِتابِ أي القرآن إِسْماعِيلَ بن حزقيل، كما ورد في الأحاديث، لا إسماعيل بن إبراهيم الخليل إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ إذا وعد و في، و لو طالت المدة،

فقد ورد عن الصادق عليه السّلام إنه إنما سمي صادق الوعد، لأنه وعد رجلا في مكان، فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز و جل صادق الوعد ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك، فقال له إسماعيل ما زلت منتظرا لك «2»

أقول: ليس معنى ذلك إن إسماعيل لم يعمل عملا في تلك

______________________________

(1) طه: 30- 33.

(2) الكافي: ج 2 ص 105.

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 3، ص: 449

[سورة مريم (19): الآيات 55 الى 56]

وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56)

المدة، فلعله كان مشتغلا بأمره- التبليغ- أو العمل أو نحوهما، فلا يقال: كيف يترك الإنسان عمله سنة لوعد، أليس عدم مجي ء الصاحب دليل على خلفه، حتى يكون إسماعيل في حل منه؟ وَ كانَ رَسُولًا إلى قومه نَبِيًّا يوحى إليه، من قبل الله سبحانه،

و قد ورد أن الله عز و جل بعثه إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك، فقال: إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال لي أسوة بما يصنع بالأنبياء «1»

[56] وَ كانَ إسماعيل يَأْمُرُ أَهْلَهُ أي عائلته، أو عشيرته، أو قومه- فإن الأهل يطلق على كل واحد من هؤلاء- و إن كان الأنسب بمقام النبوة إرادة المعنى الثالث بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ المراد بهذين اللفظين الخضوع لله سبحانه، و إعطائه الفقراء و إن كان بغير صورة الصلاة و الزكاة في هذه الشريعة فإن الصلاة بمعنى العطف، و الزكاة بمعنى النمو، و في الصلاة عطف نحوه سبحانه، و في الزكاة نمو للمال وَ كانَ إسماعيل عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا رضي سبحانه عن أعماله و أخلاقه و سيرته.

[57] وَ اذْكُرْ يا رسول الله فِي الْكِتابِ أي القرآن إِدْرِيسَ سمي بذلك لكثرة دراسته للكتب، و قد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، و هو أول من خط بالقلم و خاط، و نظر في الحساب، و قد كان الناس قبله

______________________________

(1) راجع القصص للجزائري: ص 316.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 450

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 499

[سورة مريم (19): الآيات 57 الى 58]

وَ

رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا (58)

يلبسون الجلود- كما روي- إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً كثير الصدق، أو كثير التصديق لله سبحانه نَبِيًّا يوحى إليه من قبله سبحانه.

[58] وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا أي إلى مكان عليّ رفيع، إما رتبة بأن كانت رتبته، و منزلته عند الله رفيعة، و إما محلا،

فقد ورد أنه رفع إلى السماء،

و هناك قبض روحه ملك الموت.

[59] أُولئِكَ الذين تقدم أسماءهم الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالنبوة، و المنزلة الرفيعة مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ أبو البشر عليه السّلام. وَ من ذرية مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ يعني يعقوب عليه السّلام، و إنما ذكر سبحانه هذا التفصيل مع إن الجميع من ذرية آدم، لبيان ذكر مراتبهم في شرف الانتساب، أو شرف التفضل، فمن كان منسوبا إلى إبراهم أشرف نسبا ممن لا ينتسب إليه، و إنما ينتسب إلى آدم عليه السّلام فقط، كما أن من حمل أبوه في السفينة كان التفضل عليه أكثر ممن لم يحمل، بأن كان قبل الطوفان وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا أي أنعمنا عليهم، في جملة من هديناهم إلى الحق، و اخترناهم للنبوة و الإرشاد، إن أولئك كلهم إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ و تقرأ عندهم آياتُ الرَّحْمنِ الدالة على وجوده و صفاته خَرُّوا سُجَّداً جمع ساجد، أي ساجدين لله سبحانه، تعظيما له و لكلامه و آياته وَ بُكِيًّا باكين، فإن «بكى» على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 451

[سورة مريم (19): الآيات 59

الى 61]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)

«فعول» جمع «باك» و نصب سجدا و بكي على الحال عن ضمير «خروا».

[60] فأولئك الأنبياء المختارون، الذين يسجدون لتلاوة آيات الله، و تفيض أعينهم من الدمع عند قراءة كتابه فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ جماعة من نسلهم و ذريتهم أَضاعُوا الصَّلاةَ كاليهود خلف إسرائيل، و المشركين من خلف إبراهيم عليه السّلام، و هكذا وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ الملذات الزائلة، إذا رأوها ذهبوا وراءها، ليتبعوها، أولئك الأخيار جاء من بعدهم هؤلاء الأشرار فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ أي يلقى هذا الخلف غَيًّا ضلالا، و ضياعا في الدنيا بالعيش الضنك، و في الآخرة بالعذاب و النار، أو المراد يلقون جزاء غيهم، يقال فلان يرى عمله، أي يرى جزاء عمله.

[61] إِلَّا مَنْ تابَ عما سلف منه من المعاصي وَ آمَنَ إيمانا صحيحا صادقا وَ عَمِلَ صالِحاً في مقابل العمل السيئ، الذي كان يعمله فَأُولئِكَ التائبون يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً لا يبخسون من جزاء أعمالهم الحسنة، و إنما يعطى جزاؤهم كاملا غير منقوص.

[62] ثم وصف سبحانه الجنة بقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ و المراد بالجنة هناك الجنس، و لذا صح وصفها بالجمع و العدن بمعنى الإقامة، من عدن بالمكان، إذا أقام فيه الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ المتفضل الراحم عِبادَهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 452

[سورة مريم (19): الآيات 62 الى 63]

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا

(63)

المطيعين بِالْغَيْبِ أي وعدهم، بما هو غائب عن حواسهم، و لعل ذكر هذا الوصف، لمدح المؤمنين بالجنة حيث أن العامل للغيب أكثر تحسينا من العامل لما يراه حاضر عنده، أو لوصف الجنة، كأنه يقال، إن ما وعدتم به غائب لا تدرون ما هو؟ إِنَّهُ تعالى كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يأتي بالتأكيد، و لا خلف فيه، و المراد ب «وعده» أي ما وعد به، أقيم المصدر مقام المفعول، أو المراد وقت وعده.

[63] لا يَسْمَعُونَ أي لا يسمع المؤمنون فِيها في تلك الجنات لَغْواً كلاما بلا ثمر، سواء كان من قبيل السب و الاستهزاء، أم من قبيل الكلمات التي لا فائدة فيها إِلَّا سَلاماً حيث يسلم الملائكة عليهم، و يسلم بعضهم على بعض، و هذا الاستثناء منقطع، كأنه قال «لا يسمعون فيها شيئا إلا سلاما و لا يسمعون اللغو» و الاستثناء من باب المثال، و إلا فهناك يتكلم بعضهم مع بعض، أو المراد بالسلام كل كلام فيه سلامة من الباطل و اللغو و الإيذاء و ما أشبه، فالمراد «السلام» وصفا، لا لفظا وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها في تلك الجنات بُكْرَةً صباحا وَ عَشِيًّا مساء، فإن ذينك الوقتين، يتعارف فيهما الأكل لهم، و إلا فلهم ما يشتهون في كل وقت (أُكُلُها دائِمٌ) «1» ثم إنه لا عشاء هناك، إذ لا ليل، و إنما ذلك من باب التشبيه.

[64] تِلْكَ التي ذكرت أوصافها، بالخلود، و التعدد، و السلام، و وفرة

______________________________

(1) الرعد: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 453

[سورة مريم (19): الآيات 64 الى 65]

وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ

ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

الأرزاق، هي الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا أي نعطيه إرثا بعض عبادنا من مَنْ كانَ تَقِيًّا يتقي الكفر و الآثام، التي قلنا عنها «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» و إنما سمي إرثا، لأنه يأتي الإنسان بعقب أعماله في الدنيا، كما أن الإرث يأتي الإنسان بعقب موت قريب له، أما النسب فلا يجدي إرثه في دخول الجنة فقد ورث أولئك الأنبياء خلف أضاعوا الصلاة فلم ينفعهم النسب في إرث الجنة.

[65] وَ ما نَتَنَزَّلُ نحن أهل الجنة محلا من الجنان إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فالمواضع هناك معينة، لأصحابها، لا يتمكن أحد من التخلف عن موضعه، و هذا من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم- حيث إن الكلام كان حول أهل الجنة، و إن المتقين هم الوارثون لها- و ما ذكرناه من أن الآية من كلام أهل الجنة هو الأنسب بالسياق، و هناك قول آخر، إن الآية حكاية عن كلام جبرائيل للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين قال له: ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا أي أمامنا وَ ما خَلْفَنا أي ورائنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ أي المحل الذي نحن فيه، فإنه المالك المطلق للجنة، و لا ينزل أحد في موضع منها، إلا بإذنه و أمره وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ينسى لأحد مقامه، و ما يستحقه، بل يعطي كل واحد من الجنة المكان الذي هو بقدر عمله.

[66] إنه رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما كما كان رب أمام الجنة و خلفها، و ما بينهما فهو المالك المطلق للكونين فَاعْبُدْهُ أيها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 454

[سورة مريم (19): الآيات 66 الى

68]

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)

الإنسان، أو أيها الرسول وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ على تحمل المشاق، و لا تكن كمن أضاع الصلاة، و اتبع الشهوات، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي من يسمى بكونه إلها- عن استحقاق- بمعنى أنه لا مثل له، حتى يعلم ذلك و يعبد معه شريكا له.

[67] إنه هو الله الواحد الذي لا شريك له، له الأرض و السماء و الجنة، لكن الإنسان العاتي، لا يعترف بالمعاد، و يتعجب من أنه كيف يمكن إعادة الإنسان بعد الممات! وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ و المراد به هذا النوع، لأكل فرد منه أَ إِذا ما مِتُ «ما» زائدة، لتزيين الكلام لَسَوْفَ أُخْرَجُ من قبري حَيًّا على نحو الاستفهام الإنكاري.

[68] فرد عليه سبحانه بقوله أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ المنكر للمعاد أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي سابقا- قبل أن يكون هذا الكلام- وَ الحال أنه لَمْ يَكُ شَيْئاً فإن من يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة.

[69] فَوَ رَبِّكَ يا رسول الله لَنَحْشُرَنَّهُمْ نجمعهم للحساب يوم القيامة وَ الشَّياطِينَ نحشر الشياطين معهم، لنجمع بين القادة و الأتباع، بين من كان يوسوس في صدورهم بعدم البعث، و الذين اتبعوهم في الإنكار ثُمَ بعد الحشر لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ في أطرافها، في حال كونهم جِثِيًّا جمع جاثي، و هو الذي برك على ركبتيه، فإنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 455

[سورة مريم (19): الآيات 69 الى 71]

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى

بِها صِلِيًّا (70) وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71)

هناك في صور مزرية مهانة مقترنين مع الشياطين، جاثين على الركب، تلفحهم نار الجحيم، كالمجرم الذي يجثو مع سائر المجرمين حول السجن، يرى الذل و الصفاد، و قد كان هذا جزائهم، حيث تكبروا في الدنيا، و لم يطيعوا الأوامر، و أنكروا المعاد.

[70] ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ لنستخرجن مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ من كل جماعة، شايعوا طريقة خاصة أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا «العتي» مصدر «كالعتو» و هو التمرد و العصيان، أي نبدأ بالأعتى، فالأعتى، لنقلهم في جهنم أولا فأولا.

[71] ثُمَ هذا للتراخي في الكلام، لا في الزمان، و كأنه يأتى به للسياق و التناسب لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها أي بالنار صِلِيًّا الصلي مصدر صلى يصلي، يقال صلى اللحم يصليه صليا شواه و ألقاه في النار للطبخ و الإحراق، و مثله أصلاه و صلّاه، و المعنى أنه لا يجار على أحد هناك، بل إنما يصلى الكافر و العاصي حسب عملهما.

[72] وَ إِنْ مِنْكُمْ أي ما منكم أحد أيها البشر إِلَّا وارِدُها أي مشرف عليها، كما قال سبحانه: (وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) «1»، أي أشرف،

قال الصادق عليه السّلام: أما تسمع الرجل يقول، وردنا ماء بني فلان، فهو الورود و لم يدخل

«2»، أقول: و لعل ذلك باعتبار العبور من جهنم على

______________________________

(1) القصص: 24.

(2) بحار الأنوار: ج 8 ص 291.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 456

[سورة مريم (19): الآيات 72 الى 73]

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا (73)

الصراط، فإن العابر يقال له

الوارد، فمن عبر المدينة على مركوب له، يقال: ورد بلدة فلان كانَ عَلى رَبِّكَ ورود الجميع حَتْماً لازما مَقْضِيًّا قد قضاه و قدره.

[73] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك و المعاصي وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و المعاصي، أو ظلموا غيرهم فِيها أي في النار جِثِيًّا باركين على ركبهم، يريدون النهوض، فلا يتمكنون، كما لا يقدرون على الاستراحة، فهم دائمو العذاب، و المراد ب «نذر» نلقيهم فيها، حتى يبقون في جهنم.

[74] إن الظالمين هناك مصيرهم النار، كما عرفنا، فما كان عملهم، حتى استحقوا هذه النار؟ وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي الأدلة المنزلة في القرآن، أو مطلقا بَيِّناتٍ في حال كونها واضحات الدلالة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و الرسول، و ما جاء به لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ من المؤمنين و الكافرين خَيْرٌ مَقاماً فهل مقامنا، و مالنا من الدنيا خير أم مقامكم و مالكم في الدنيا؟ وَ أينا أَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجلسا، فإن الكفار يتفاخرون على المسلمين، بأنهم أحسن منهم حالا، فما حصل المؤمنون من إيمانهم؟ فلو كان الإيمان يقود الإنسان إلى السعادة فلما ذا نرى أن المؤمنين في ضنك و ضيق و الكفار في سعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 457

[سورة مريم (19): الآيات 74 الى 75]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (75)

و رفاه؟ لكن هذه مغالطة، فالمؤمنون إنما هم في ضيق لمدة يسيرة و من جراء عدم تكالبهم على الدنيا، مع إن من المؤمنين منعمين في الدنيا، كما يرينا

التاريخ، و سيجزون هنالك بأحسن و أفضل من دنيا الكافرين- بالنسبة إلى هذه الفترة الضيقة أيضا-.

[75] إن عاقبة الكفر لا بد و أن تكون الهلاك و الدمار، و أن تمشي في أيام قليلة على زخارف الدنيا و بهرجها وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول مِنْ قَرْنٍ من الأجيال البشرية هُمْ أَحْسَنُ من هؤلاء المتبجحون القائلون «أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا» أَثاثاً أي متاعا و زينة وَ رِءْياً أي منظرا و هيئة، فإن الله الذي أهلك الأمم، التي كانت أكثر جمالا و مالا، قادر على هلاك هؤلاء، فليحدوا من كفرهم و كبرهم، و إلا كان مصيرهم مصير أولئك.

[76] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المتبجحين مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ و الكفر فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي فدعه لأن يسعفه الله سبحانه بالمال و العمر و سائر الأمور المرتبطة بالدنيا، و هذا تهديد في صورة الأمر، كما نقول «دع الله يمهل الظالم» نريد أنه و إن أمهل لمصلحة، فإن عاقبته لا بد و أن تكون إلى الخسار و الفناء، حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ أي أمهلهم سبحانه، حتى جاء الوقت المقدر لأخذهم إِمَّا الْعَذابَ الذي يجعل لهم في الدنيا وَ إِمَّا السَّاعَةَ بأن ماتوا فقامت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 458

[سورة مريم (19): آية 76]

وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا (76)

قيامتهم، و عذبوا في الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ حين أخذ الله لهم، إما بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً هل مكان المؤمنين الناجين شرا أم مكانهم في العذاب وَ من هو أَضْعَفُ جُنْداً هل جند المؤمنين أضعف أم الكافرين؟ إنهم

هنالك يعرفون أيهما كان خير مقاما و أحسن نديا، و هذا كما تقول للطالب الكسول- الذي يضحك من جدك في الدرس- ستعرف لدى الامتحان أينا أحسن؟

[77] إن للمؤمنين العاقبة الحسنى، إما في الدنيا، أو في الآخرة، و للكافرين العاقبة السيئة، إما في الدنيا أو في الآخرة، و بالإضافة إلى العاقبة الحسنى، فالمؤمن يزداد هدى في هذه النشأة، و له الباقيات في تلك النشأة، فله ثلاث أقسام من الخير، بينما ليس للكافر إلا الدنيا المنغصة لذاتها فقط، وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى الإيمان و الإسلام هُدىً و رشادا، فإن الإنسان في الدنيا يحتاج في كل خطوة هداية و رشادا، و هكذا يأخذ الله بيد المهتدي في كل خطوة خطوة، ليزيده هداية وَ الْباقِياتُ أي الأعمال التي تبقى الصَّالِحاتُ مما قدمها الإنسان إلى آخرته خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً مما يصرفه الكفار في هذه الحياة من الملذات وَ خَيْرٌ مَرَدًّا أي عاقبة و منفعة، من رد بمعنى رجع، فإن ثواب ذلك أحسن من لذة الكفار، و إن ما يرجع الإنسان المؤمن إليه في الآخرة من عمله خير مما يرجع الكافر، و الحاصل أن الكافر إذا أنفق درهما في الخمر التذ هنا، و جوزي بالنار هناك، و إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 459

[سورة مريم (19): الآيات 77 الى 79]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَ وَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79)

المؤمن إذا أنفق درهما في الصدقة، كان ثواب درهم أكثر لذة من لذة الخمر للكافر، و جوزي هناك بالنعيم.

[78]

ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام: أن العاص بن وائل،

كان يطلبه خباب ابن الأرت دينا، فأتاه يتقاضاه، فقال له العاص: ألستم تزعمون أن في الجنة الذهب و الفضة و الحرير؟ قال: بلى، قال: فالموعد ما بيني و بينك الجنة، فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا «1»، فنزلت هذه الآيات

أَ فَرَأَيْتَ يا رسول الله، و هذه الجملة تستعمل للتعجب، أي هل رأيت كذا حتى تتعجب الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا و هو العاص وَ قالَ لَأُوتَيَنَ في الجنة مالًا وَ وَلَداً فقد كان الكفار يزعمون أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فإن كانت هناك جنة فلهم النصيب الأوفر فيها.

[79] أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي هل اطلع هذا القائل على الغيب، فعرف أنه هناك، يعطى الأموال و الأولاد؟ و الأصل «أ أطلع» فلما دخلت همزة الاستفهام على الفعل الماضي من باب «الافتعال»- إذ الأصل «أتطلع» فأدغمت التاء في الطاء- سقطت همزة الوصل تخفيفا أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بأن صارت بينه و بين الله معاهدة، بأن له المال و الولد هناك؟

و إذا لم يكن أحد الأمرين، فمن أين يقول: «لأوتين مالا و ولدا»؟

[80] كَلَّا ليس الأمر على ما زعم، فإنه لا يعطى هناك مالا و ولدا،

______________________________

(1) المناقب: ج 1 ص 53.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 460

[سورة مريم (19): الآيات 80 الى 82]

وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً (80) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)

و سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ لنجازيه به في القيامة، و المراد أمر الحفظة بكتابة مقاله وَ نَمُدُّ لَهُ في الآخرة مِنَ الْعَذابِ مَدًّا فلا ينقطع عذابه، و إنما يمتد أبد الدهر.

[81] إنه هنالك لا يظفر بالمال و الولد، و ماله

و ولده هنا أيضا، يترك لنا، فلا ينتفع بهما وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ أي ما يتلفظ به من المال و الولد، إذ هو قال: «لأوتين مالا و ولدا» وَ يَأْتِينا فَرْداً هو وحده، بلا شي ء يفيده مما جمعه و اتخذه هنا من أموال و أولاد، إن العاص مثال الإنسان العاتي، فكم له من أمثال من الكفار و المردة في هذه الحياة، أ رأيتهم حتى تأخذ العبرة منهم، و تقف على عقولهم المتحجرة و أدمغتهم البليدة؟

[82] و من نقل كلامهم السخيف يعطف السياق نحو عقائدهم السخيفة وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله و سواه آلِهَةً المراد بذلك الجنس، أي اتخذوا هذا الجنس، حتى يشمل الفرد أيضا، فإن كلا من الجنس و الجمع، ينوب مقام الآخر- كما سبق- لِيَكُونُوا أي تلك الآلهة، و إنما جاء بلفظ العاقل، جريا على مزاعم القوم، فإنهم كانوا يطلقون عليها لفظ العاقل لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار عِزًّا فقد كانوا يعتزون بالآلهة في الدنيا، و يظنون أنهم شفعاء لهم في الآخرة.

[83] كَلَّا ليس الأمر كما ظنوا، فليست الأصنام، إلا سبب ذلهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 461

[سورة مريم (19): الآيات 83 الى 84]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)

و انحطاطهم في الدنيا، و في الآخرة، أما في الدنيا فقد كشفت عن سخافة عقولهم، و أما في الآخرة ف سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ لهذه الآلهة، فإنهم هناك يحلفون (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1» وَ يَكُونُونَ هؤلاء المشركون عَلَيْهِمْ أي على تلك الآلهة ضِدًّا و معارضا، أو المراد أن الآلهة تكون جاحدة للمشركين، حيث يقولون: (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا

يَعْبُدُونَ) «2» و أنهم يكونون ضدا للمشركين، كما قال سبحانه: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) «3».

[84] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي خلينا بينهم و بين الكفار ليسيئوا إليهم ما يشاءون، يقال لمن خلى بين كلبه و بين عدوه ليؤذيه: أرسل كلبه عليه، حيث كان بإمكانه أن يمنعه، فلم يمنعه تَؤُزُّهُمْ أي تزعجهم أَزًّا إزعاجا و تغريهم بالشر و العصيان، فكما قد فعلنا هذا بالكفار- جزاء إعراضهم عن الحق- كذلك نفعل بهم في الآخرة، و نمدهم من العذاب مدا.

[85] فَلا تَعْجَلْ يا رسول اللّه عَلَيْهِمْ بأن تطلب لهم من الله العذاب، فإنهم مأخوذون لا محالة، و إنما التأخير ليزدادوا إثما إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ أي نحسب أعمالهم عَدًّا تأكيد في العد، حتى نعطيهم جزاء عملهم في الآخرة.

______________________________

(1) الأنعام: 24.

(2) القصص: 64.

(3) البقرة: 167.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 462

[سورة مريم (19): الآيات 85 الى 88]

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88)

[86] و سيرون جزاؤهم في يوم القيامة يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ أي نجمع المتقين الذين اتقوا الكفر و الآثام إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً و معنى إلى الرحمن إلى دار كرامته و فضله، و الوفد جمع وافد، بمعنى المشرف، و يستعمل في الجماعة التي تذهب من مكان إلى مكان.

[87] وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كالدواب التي تساق من خلفها، و المراد بالمجرم الذي أتى بالجريمة إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً حال من المجرمين، و الورد هي الجماعة التي ترد الماء، أي أنهم يردون جهنم، كالإبل العطاش التي ترد الماء.

[88] لا يَمْلِكُونَ أي

لا يملك المجرمون الشَّفاعَةَ فلا يتمكنون أن يشفعون لغيرهم، و لا يتمكن أحد أن يشفع لهم إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني إلا الذين كانت بينهم و بين الله سبحانه، معاهدة، بأن يطيعه و يعطيه الجزاء الحسن، فإنه هو الذي يملك أن يشفع إذا كان صالحا، أو يشفع له إذا صدرت منه زلات، و الاستثناء منقطع، و التقدير لا يملك أحد الشفاعة إلا هؤلاء، أما المجرمون فلا يملكونها.

[89] و كيف يملك الشفاعة من جاهر الله بالكفر و العصيان وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً بأن جعل المسيح، أو العزير، أو الملائكة ولدا له، كما تقول النصارى و اليهود و المشركون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 463

[سورة مريم (19): الآيات 89 الى 93]

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93)

[90] لَقَدْ جِئْتُمْ أيها القائلون بهذه المقالات شَيْئاً إِدًّا الإد الأمر العظيم، أي لقد قلتم بمقالة عظيمة القبح منكرة، فكيف يتخذ الله ولدا؟

[91] تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أي يتشققن مِنْهُ من هذا الكلام، و المعنى لو كانت السماوات تنشق، و تخرق من قول منكر لكانت تنشق من هذا الكلام وَ كادت تَنْشَقُّ الْأَرْضُ تفطر و تتشقق وَ كادت تَخِرُّ الْجِبالُ أي تسقط على الأرض هَدًّا أي كسرا شديدا، فإن الهد الهدم بصوت شديد.

[92] كاد كل ذلك ل أَنْ دَعَوْا هؤلاء الكفار لِلرَّحْمنِ وَلَداً و معنى دعوا، أي سموا و جعلوا.

[93] وَ الحال أنه ما يَنْبَغِي أي لا يمكن لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً فإن الولد

الحقيقي غير معقول، و الولد بالتبني لا يصلح لأنه عبث لغو، و الحكيم منزه عن ذلك.

[94] إِنْ ما كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الأنس و الجن و الملائكة إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً فكيف يمكن للعبد أن يكون ولدا؟

و «آتي» هنا مثل قوله: (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) «1» أي أنهم عبيد لله سبحانه

______________________________

(1) فصلت: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 464

[سورة مريم (19): الآيات 94 الى 96]

لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)

تكوينا و خلقة، فليس له منهم أولاد.

[95] إن الجميع يأتون الله عبيدا ف لَقَدْ أَحْصاهُمْ الله سبحانه وَ عَدَّهُمْ عَدًّا فلا أحد منهم يتمكن أن لا يأتيه، و لعل الفرق بين الإحصاء و العد، إن الأول الحساب و الإحاطة بهم في الجملة، فإن الإحصاء بمعنى الضبط، و ذلك لا يلازم التعداد الدقيق.

[96] وَ كُلُّهُمْ أي كل من في السماوات و الأرض آتِيهِ يأتيه يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً غير متصل بعشيرته، و خدمه و أصدقائه، ممن كان كذلك، كيف يمكن أن يكون ابنا لله سبحانه، و هل الابن، إلا مكرم محترم، لا يعد في جملة العبيد، و لا يساق مساقهم؟

[97] إن الهول ليأخذ بنواد الإنسان حين يسمع هذا العد و الإتيان، فهل المؤمنون أيضا يقاسون هذا الهول و الوحشة؟ كلا! ف إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صحيحا بالأصول العقائدية وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، و قد ذكرنا سابقا أن ذلك يلازم- عرفا- عدم الإتيان بالسيئات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي سيحيطهم بالمودة و الحب، ففي الدنيا يحبهم الناس، و في الآخرة يحاطون بود الله سبحانه لهم، و

ود الملائكة إياهم، و ود الشفعاء و الأنبياء و الأئمة لهم، و هل يستوحش من يحاط بمثل هذا الود؟ و ما ورد من تفسير الآية من إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ هو الإمام المرتضى، فهو من باب بيان المصداق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 465

[سورة مريم (19): الآيات 97 الى 98]

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

البارز، و إلا فالرسول، و سائر الأئمة، و الصديقة، و المؤمنون كلهم داخلون في هذا العموم.

[98] إن هذه البشرى للمؤمنين، و ذلك الإنذار للكافرين و القرآن ميسر بلسان العرب، ليعرفه من حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أولا، ثم يحملوه إلى سائر الناس ثانيا فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي سهلنا القرآن لك حيث إنه بِلِسانِكَ و على لغتك، حتى تتمكن من التفهيم له بالنسبة إلى العرب المحيطين بك لِتُبَشِّرَ بِهِ بهذا القرآن الْمُتَّقِينَ تبشرهم بالجنة و الثواب وَ تُنْذِرَ بِهِ بسبب القرآن قَوْماً لُدًّا اللد جمع ألد، و هو المخاصم الشديد الخصومة، و القرآن مبشر لكل مؤمن، و إن لم يكن متقيا، و منذر لكل كافر، و إن لم يكن لدا، إلا أن البشارة الكاملة، و الإنذار الشديد للطائفتين.

[99] وَ أخيرا فليتذكر هؤلاء كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء القوم المكذبين مِنْ قَرْنٍ من أمم كذبوا الرسل هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أي هل يقع أحد منهم تحت حاسة من حواسك، فتراهم، أو تلمسهم أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا، يعني أنهم ذهبوا و انقطعوا، حتى لا يرى لهم شخص، و لا يسمع لهم صوت، و

يكون مصير هؤلاء كأولئك، عما قليل، فليبادروا إلى التوبة، لينالوا غفران الله تعالى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 466

20 سورة طه مكية/ آياتها (136)

سميت السورة بهذا الاسم «طه» لافتتاحها بهذه اللفظة. و هي كسائر السور المكية تبين أصول الاعتقاد، في جو قصصي جذاب.

و حيث ختمت سورة «مريم» بإنزال القرآن «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ» افتتحت هذه السورة بذلك «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله، شعارا للمسلم، و تبركا بهذا الاسم الكريم، الذي هو المتفضل بالرحمة لعباده المؤمنين و غير المؤمنين، كما قال سبحانه: (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) «1» و التكرار في الصفة للتأكيد على أنه سبحانه متصف بها، مقابل الذين زعموا أن الإله قاس غليظ، و هكذا عرّفوه للناس.

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 467

[سورة طه (20): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى (4)

[2] طه فيه أقوال: منها أنه رمز بين الله و الرسول، و منها أن المراد: أن القرآن المعجز مؤلف من «طاء» و «هاء» و سائر حروف الهجاء، التي هي من جنسهما، و منها أنه اسم للرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

قال الصادق عليه السّلام: «و أما طه: فاسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معناه: يا طالب الحق الهادي إليه» «1».

[3] ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْقُرْآنَ لِتَشْقى الشقاء استمرار ما يشق على النفس، و السعادة عكسه، أي لم يكن نزول القرآن عليك لأجل شقائك و إنما لأجل سعادتك و راحتك.

فقد روي عن الإمام الكاظم عن آبائه عن

أمير المؤمنين عليهم السّلام أنه قال: لقد قام رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه و اصفر وجهه، يقوم الليل أجمع، فقال الله عز و جل: «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى بل لتسعد به «2».

[4] إِلَّا تَذْكِرَةً أي إنما هو تذكرة و ذكرى لِمَنْ يَخْشى الله سبحانه، و التذكرة و التذكير مصدران لباب التفعيل، و إنما كان تذكرة لأن الأصول و الفروع بصورتها الإجمالية كامنة في نفس كل إنسان.

[5] و قد نزل تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ و إنما كان تنزيلا لأن الله سبحانه أعلى مرتبة عن البشر فما يأتي منه تنزيل و إن لم يكن علو خارجي، أو باعتبار إتيان جبرائيل به من السماء وَ السَّماواتِ الْعُلى أي الرفيعة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16 ص 86.

(2) المستدرك: ج 4 ص 118.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 468

[سورة طه (20): الآيات 5 الى 7]

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى (6) وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى (7)

العالية، و هو جمع العلياء، كالدنى جمع الدنيا، مؤنث الأعلى و الأدنى، فالذي خلق الكون هو الذي أرسل هذا المنهاج، فما أجدر به أن يتبع منهاج المالك العالم.

[6] و هو الرَّحْمنُ الذي يترحم و يتفضل فله الخلق و الرحم عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أي استولى و هو كناية عن المالكية المطلقة، يقال جلس الملك على العرش أي استولى و سيطر على المملكة.

[7] لَهُ ما فِي السَّماواتِ ظرفا و مظروفا، و قد تقدم أنه قد يطلق أحدهما و يراد به الأمران وَ ما فِي الْأَرْضِ

مما قرب منهما كالإنسان و الحيوان و النبات و الأنهار و غيرهما وَ ما بَيْنَهُما من الفضاء، و الهواء، و سائر الأشياء المتوسطة بينهما وَ ما تَحْتَ الثَّرى و هو التراب، و ما تحته كالمعادن و الكنوز و هذا لتأكيد كونه مالكا مطلقا لكل شي ء.

[8] و هو بالإضافة إلى كونه خالقا مالكا راحما مستوليا، عالما بكل شي ء وَ إِنْ تَجْهَرْ يا رسول اللّه أو كل من يأتي منه الجهر بِالْقَوْلِ بأن ترفع صوتك بما تقول، و قد أطلق «تجهر» و أريد منه «إرادة الجهر» أي لا حاجة إلى الجهر في الدعاء فَإِنَّهُ سبحانه يَعْلَمُ السِّرَّ الذي يناجي به أحدنا غيره وَ أَخْفى من السر كالذي في الصدور من الأفكار و الوساوس، فقد خلق هو سبحانه جهر الكون و سره «و هو ما تحت الثرى» و يعلم جهر الصوت و سره و الأخفى من السر،

و قد روي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 469

[سورة طه (20): الآيات 8 الى 10]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10)

عن الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام: إن السر ما أخفيته من نفسك و أخفى منه ما خطر ببالك ثم نسيته «1».

[9] إن هذه كلها صفات ل اللَّهُ الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الأسماء الحسنة كالخالق و الرازق، و المنعم و ما أشبه، مقابل أسماء السوء كالظالم و الفاسق و الجائر و نحوها، و «حسنى» مؤنث أحسن، جي ء مؤنثا باعتبار الجمع.

[10] ثم يأتي السياق لعرض جانب من

جوانب قصة موسى، فإن هذه القصة توافق المسلمين من بدء ولادة الإسلام إلى يوم الرجعة، فما أحوجهم بالتملي منها، و الاعتبار بها، و قد تكررت هذه القصة في القرآن بأساليب مختلفة و صور متنوعة، و الغالب الإشارة في كل قصة منها إلى جانب من الجوانب و بمناسبة من المناسبات وَ هَلْ أَتاكَ يا رسول اللّه حَدِيثُ مُوسى و هذا استفهام تقريري، نحو قول أحدنا لغيره هل سمعت بخبر فلان؟

[11] إِذْ رَأى ناراً فإن موسى عليه السّلام لما فر من فرعون جاء إلى مدين و تزوج هناك بابنة شعيب، ثم استأذن شعيب في الخروج إلى أمه فخرج بأهله فلما وافى وادي طور و فيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، و قد أضل الطريق و تفرقت ماشيته فرأى من جانب الطور ما يشبه النار حتى ظنها نارا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي الزموا مكانكم

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 4 ص 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 470

[سورة طه (20): الآيات 11 الى 13]

فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)

قليلا إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرت نارا هناك، فإن الإيناس وجدان الشي ء الذي يؤنس به لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها من تلك النار بِقَبَسٍ شعلة أقتبسها و آخذها لندفأ و نصطلي أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي أجد على النار هاديا يدلني على الطريق، فإن النار غالبا لا تخلو من أهل عند ما أشعلوها.

[12] فَلَمَّا أَتاها أي جاء موسى إلى النار وجدها تتقد في شجرة نُودِيَ من طرف الشجرة يا مُوسى

[13] إِنِّي المتكلم معك أَنَا رَبُّكَ و قد علم موسى

صدق الكلام لخوارق ظهرت عند ذلك مما دلت على أن النداء ليس إلا من جانبه سبحانه فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي انزعهما، فإن الإنسان إذا أراد أن يمشي في محل مقدس كان من الاحترام أن يمشي حافيا إِنَّكَ يا موسى بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي المنزه عن الأنجاس طُوىً اسم الوادي، أو لأنه طوي بالقدس مرتين، مرة بتقديس الأرواح و اصطفاء الملائكة، و مرة باصطفاء موسى، و تكليم الله معه،

فقد روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنه سئل عن الوادي المقدس؟ فقال: لأنه قدست فيه الأرواح و اصطفيت فيه الملائكة، و كلّم الله عز و جل موسى تكليما «1».

[14] وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ أي اصطفيتك للرسالة فَاسْتَمِعْ يا موسى

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 471

[سورة طه (20): الآيات 14 الى 15]

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15)

لِما يُوحى إليك من كلامه، فاصغه و اعمل به.

[15] و لما استعد موسى عليه السّلام للاستماع أوحى إليه الله قائلا: إِنَّنِي المتكلم معك أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فلا شريك لي و لا مثيل فَاعْبُدْنِي أي ائت برسوم العبودية لأجلي خالصا وَ أَقِمِ الصَّلاةَ ائت بها كاملة بآدابها و شروطها لِذِكْرِي لأن تذكرني بالتسبيح و التحميد و التكبير و التهليل و التمجيد، فإن الصلاة إنما شرعت لكونها ذكر الله سبحانه.

[16] هذا حول المبدأ، أما المعاد إِنَّ السَّاعَةَ يوم القيامة الذي يحشر فيه الخلائق آتِيَةٌ لا محالة أَكادُ أُخْفِيها قد يعبر بهذا التعبير لبيان أن الشي ء ظاهر و لكن المتكلم يريد إخفاءه، يقول أكاد أخفي قلمي-

فيما إذا كان ظاهرا- و قد يعبر لبيان أن الشي ء ظاهر قريب بإخفاء، فهو كالشي ء الذي يراد إخفاءه، ليس ظاهرا كل الظهور، و لا مخفيا كل الإخفاء، و الظاهر أن هذا المعنى هو المراد هنا، إذ الساعة بين الظهور و الخفاء، فأصلها ظاهر، و وقتها مخفي، و إنما يراد إخفاءها بهذا المقدار لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى فإن الساعة لو كانت ظاهرة لكل أحد لم يكن سعي الناس في الطاعة إلا خوفا من العاقبة الحتمية المعلومة لديهم، أما إذا كانت مخفية- و لو في الجملة- كان الجزاء حسب السعي الطبيعي، لا السعي الجبري، و قد كان من حكم إخفاء الساعة إن الإنسان لا يدري متى تأتي فهو بين خوف و رجاء، ألا ترى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 472

[سورة طه (20): الآيات 16 الى 18]

فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18)

أن الموت لو كان معلوم الوقت، كان هذا العالم بغير هذا الشكل الذي نراه إذ وقف من قرب أجله عن العمل، و غلا من بعد في الإسراف و التبذير، و هكذا، و معنى بما تسعى: ما تعمل من خير أو شر.

[17] فَلا يَصُدَّنَّكَ لا يمنعنك يا موسى عَنْها عن الساعة، و المراد عن الاستعداد و التهيؤ لها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها بأن يوسوس إليك لتترك التهيؤ و العمل لأجلها وَ اتَّبَعَ هَواهُ بأن عمل حسب ما يشتهيه لا حسب ما ينقذه عند الساعة فَتَرْدى أي تهلك كما هلك الذي لا يؤمن.

[18] ثم خاطبه سبحانه بقوله: وَ

ما تِلْكَ ما هذا الشي ء الذي بِيَمِينِكَ في يدك اليمنى يا مُوسى و قد علم الله ما في يده، و لذا قال ما تِلْكَ بالإشارة إلى المؤنث رعاية لكون العصا مؤنثة، و إنما أراد توجيه موسى عليه السّلام إليها، ليوقع المعجز بها.

[19] قالَ موسى عليه السّلام في الجواب هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أعتمد عليها في مشيي، فإن التوكؤ بمعنى التحامل على العصا في المشي، و التوكؤ و الاتكاء بمعنى واحد، كالتوقي و الاتقاء وَ أَهُشُّ بِها و الهش ضرب ورق الشجر ليتساقط، أي أسقط بها ورق الشجر عَلى غَنَمِي أي لغنمي، و حيث إن الورق يقع من فوق على الغنم جي ء ب «على» وَ لِيَ فِيها في العصا مَآرِبُ جمع مأرب و هي الحاجة أُخْرى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 473

[سورة طه (20): الآيات 19 الى 22]

قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22)

و إنما جاء المفرد صفة الجمع، باعتبار الجماعة، كصرد السباع، و محاربة اللصوص، و تركيزها لإلقاء شي ء عليها وقاية من الشمس و غيرها.

[20] قالَ الله سبحانه أَلْقِها أي اطرح العصا يا مُوسى

[21] فَأَلْقاها موسى فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى أي فإذا بها انقلبت حية و أخذت تمشي سريعا.

[22] و لما رأى موسى عليه السّلام إنها انقلبت حية خاف منها خوفا شديدا ف قالَ الله سبحانه خُذْها أي الحية وَ لا تَخَفْ منها أن تلدغك سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى سنرجعها إلى حالتها المتقدمة، فتقلب عصا كما كانت، و السيرة: الطريقة، و استعمالها بمعنى الحالة مجاز من باب التشبيه.

فإن الحالة للشي ء كالطريقة المستمرة له.

[23] وَ اضْمُمْ يَدَكَ يا موسى إِلى جَناحِكَ الجناح هو اليد، سميت به تشبيها بجناح الطائر، أي ضع يدك تحت إبطك، ثم أخرجها فإنها تَخْرُجْ بَيْضاءَ تشرق مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير عاهة و مرض فليس بياضها من قبيل بياض البرص، ففعل موسى عليه السّلام ذلك، و إذا بيده كالشمس الطالعة تضي ء لها الدنيا، و كان إذا أراد إرجاعها كالسابق، أدخلها تحت إبطه ثانيا فإذا أخرجها كانت كالحالة السابقة آيَةً أُخْرى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 474

[سورة طه (20): الآيات 23 الى 28]

لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27)

يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)

أي علامة ثانية على صدق دعواك النبوة و نصب «آية» على تقدير: نزيدك بها، أو تقدير تخرج بها.

[24] و لِنُرِيَكَ يا موسى في المستقبل، أي نجري يديك مِنْ آياتِنَا حججنا و براهيننا الْكُبْرى أي الآية الكبرى.

[25] و إذ زودناك بهذه الآيات ف اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ فادعه إلي إِنَّهُ طَغى تجبر و تجاوز الحد، من الطغيان.

[26] قالَ موسى عليه السّلام عند ذلك يا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي و شرح الصدر توسعته، و هو كناية عن عدم الضجر بالتكذيب، و ذلك لأن المتضجر تشتد فيه الحرارة، فتنتفخ رئته أكثر من المعتاد لتجذب الهواء المبرد للقلب أكثر، و بانتفاخها يضيق الصدر، لأنها فيه.

[27] وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي أي سهل لي أمر التبليغ، حتى لا يكون عسيرا لدي.

[28] وَ احْلُلْ أي فك عُقْدَةً مِنْ لِسانِي فقد كان موسى عليه السّلام يعقد لسانه في الكلام، فدعا الله سبحانه أن يحل هذه العقدة

من لسانه لئلا يقع في معرض الاستهزاء.

[29] و ل يَفْقَهُوا أي يفهم فرعون و حاشيته قَوْلِي كلامي. و

قد روي عن الباقر عليه السّلام أن فرعون كان يقتل أولاد بني إسرائيل كلما يلدون و يربي موسى عليه السّلام و يكرمه و لا يعلم أن هلاكه على يديه، و لما درج

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 475

[سورة طه (20): الآيات 29 الى 32]

وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)

موسى كان يوما عند فرعون فعطس، فقال: الحمد لله رب العالمين فأنكر فرعون ذلك عليه و لطمه، و قال: ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته و كان طويل اللحية فهبلها، أي قلعها فآلمه ألما شديدا، فهمّ فرعون لقتله، فقالت له امرأته: هذا غلام حدث لا يدري ما يقول فقال فرعون: بلى يدري، فقالت له: ضع بين يديك تمرا و جمرا فإن ميز بين التمر و الجمر فهو الذي تقول، فوضع بين يديه تمرا و جمرا و قال له: كل فمد يده إلى التمر فجاء جبرائيل فصرفها إلى الجمر فأخذ الجمر في فيه فاحترق لسانه و صاح و بكى، فقالت آسية لفرعون: ألم أقل لك إنه لم يعقل؟ فعفا عنه. أقول: و من هنا كان في لسان موسى شبه العقدة، فلا يتمكن أن يتكلم إلا و يعقد لسانه، حتى دعا الله، فرفع عنه.

[30] وَ اجْعَلْ لِي يا رب وَزِيراً مِنْ أَهْلِي يعاضدني و يساعدني في الدعوة، و ليكن من أهلي، لأن الأهل أعطف على الإنسان من الأجنبي و أقرب إلى الانسجام و الألفة.

[31] هارُونَ أي ليكن ذلك الوزير هارون أَخِي و كان أخاه لأبيه و

أمه، و كان بمصر.

[32] اشْدُدْ بِهِ أي قوّ بسبب هارون أَزْرِي أي ظهري، و منه المئزر لما يشد على الظهر.

[33] وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي اجمع بيني و بينه في النبوة ليكون هو نبيا أيضا، و هذا غير كونه وزيرا له، و إنما طلبه لأن النبي له أقوى داع إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 476

[سورة طه (20): الآيات 33 الى 38]

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37)

إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38)

الهداية بخلاف مجرد الوزير.

[34] إن الدعوة تحتاج إلى عبادة كثيرة توجب قوة الصلة بالله سبحانه حتى يتمكن الإنسان بتلك الصلة القوية أن يحمل المشاق، و كثرة العبادة تتأتى لمن له معاون و شريك، لأن النفس تنشط عند الاجتماع في العمل بما لا تنشط عند الانفراد، فمهمة الدعوة تحتاج إلى شريك يقوم بمساعدة الإنسان لتهيئة النفس و تربية الروح، و لذا قال عليه السّلام: كَيْ نُسَبِّحَكَ يا رب كَثِيراً فننزهك عما لا يليق بك.

[35] وَ كي نَذْكُرَكَ كَثِيراً حتى تشتد الصلة و يكون الله هو المتجلي الوحيد في النفس.

[36] إِنَّكَ يا رب كُنْتَ بِنا بَصِيراً فتعلم احتياجنا إلى هذه الأشياء، مما لا تتأتى إلا بالوزير الظهير.

[37] قالَ الله سبحانه، في جواب طلبات موسى عليه السّلام قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ أي سؤالك و طلبك يا مُوسى فقد حلت عقدة لسانك، و جعلنا هارون نبيا و وزيرا لك.

[38] وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ يا موسى مَرَّةً أُخْرى غير هذه المرة التي مننا عليك فيها بالنبوة و إجابة الدعاء.

[39] و تلك المنة و النعمة عليك كانت في

حال صغرك إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ألهمناها ما يُوحى أي المطلب الذي كان من شأنه أن يلهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 477

[سورة طه (20): آية 39]

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)

إليها لنجاتك.

[40] و كان الإلهام أَنِ اقْذِفِيهِ أي اطرحي أيتها الأم ولدك موسى فِي التَّابُوتِ و هو صندوق من خشب، ثم سدي رأس التابوت حتى لا يدخل فيه الماء فَاقْذِفِيهِ اطرحي التابوت فِي الْيَمِ أي البحر، و هو البحر الأحمر الموجود في مصر، ثم يحمل التابوت الماء، حتى يصل قرب الساحل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ و هو شاطئ البحر، ثم ماذا؟ يَأْخُذْهُ أي يأخذ التابوت عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ و هو فرعون فقد كان عدوا لله سبحانه و عدوا لموسى بالذات، حيث إنه قرأ و علم إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون على يده ذهاب ملكه، فأمر أن يقتل الأولاد الذين يولدون في بني إسرائيل، و من خوف القتل، صنعت أم موسى تابوتا، و جعلته فيه، و قذفته في البحر، لئلا ترى قتل ولدها، و ليصنع معه ما شاء وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ يا موسى مَحَبَّةً مِنِّي أي من جانبي، حتى أن كل من يراك أحبك حتى أن فرعون بمجرد ما رآه أحبه، و لم يقتله وَ لِتُصْنَعَ اللام جارة، لا لام الأمر، و إن مقدّرة، و لذا نصب الفعل، أي ولعة أن تصنع و تربى عَلى عَيْنِي تحت رقابتي و بمرأى مني، ألقيت عليك محبة، فإن المحبة موجبة للرعاية التي كنى عنها ب «لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» إذ بين العناية و الرعاية و

بين النظر تلازم السبب و المسبب، إذ رؤية الإنسان لأحد و كونه تحت نظره، موجب لرعايته، و كلمة «على عيني» تشمل على الاحترام،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 478

[سورة طه (20): آية 40]

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)

و الحفظ في أعز الأماكن، فإن الاحترام مستفاد من لفظة «على» و بناء على ما ذكر فجواب «لتصنع» محذوف لدلالة الجملة السابقة عليه.

[41] إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ الظرف متعلق بتصنع، أي كان ذلك في زمان مشي أختك، أو لأجل أن تصنع على عيني قدرنا مشي أختك فَتَقُولُ أختك لآل فرعون، حيث أرادوا لك مرضعة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ يقوم بشؤونه؟ فَرَجَعْناكَ يا موسى إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها برؤيتك و حياطتك، و قرار العين كناية عن السرور، مقابل الواله الذي تطير عينه هنا و هناك وَ لا تَحْزَنَ لا يحزن قلبها، فيضفي رجوعك عليها الهدوء و السكينة في ظاهرها و باطنها.

ورد أن موسى لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعه، و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط تحفظهن، و ذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل قولهم: أنه يولد فينا رجل يقال له موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يديه، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس، فلما وضعت أم موسى بموسى، نظرت إليه و حزنت و اغتمت و

بكت، و قالت: يذبح الساعة فعطف الله بقلب الموكلة بها عليه، فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قوله «و ألقيت عليك محبة مني» فأحبته القبطية الموكلة به، و أنزل الله على أم موسى التابوت، و نوديت: ضعيه في التابوت فاقذفيه في اليم، و هو البحر و لا تخافي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 479

و لا تحزني إنا رادوه إليك و جاعلوه من المرسلين، فوضعته في التابوت و أطبقت عليه و ألقته في النيل، و كان لفرعون قصور على شط النيل منزهات، فنظر من قصره و معه آسية امرأته إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج، و الرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصره، فأمر فرعون بأخذه فأخذ التابوت و رفع إليه، فلما فتحه وجد فيه صبيا، فقال: هذا إسرائيلي، فألقى الله في قلب فرعون لموسى محبة شديدة و كذلك في قلب آسية، و أراد فرعون أن يقتله فقالت آسية: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا و هم لا يشعرون أنه موسى، و لم يكن لفرعون ولد فقال: ادنوا له ظئرا لتربيته، فجاءوا بعدة نساء قد قتل أولادهن فلم يشرب لبن أحد من النساء و هو قول الله تعالى: (وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) «1» و بلغ أمه أن فرعون قد أخذه فحزنت و بكت كما قال الله تعالى: وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ قال: كادت أن تخبر بخبره أو تموت ثم حفظت نفسها فكانت كما قال الله: لو لا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين،

ثم قالت لأخته: قصيه، أي اتبعيه، فجاءت أخت موسى إلى قصر فرعون، فبصرت به عن جنب أي عن بعد و هم لا يشعرون، فلما لم يقبل موسى بأخذ ثدي أحد من النساء اغتم فرعون غما شديدا، فقالت أخت موسى: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم و هم له ناصحون؟ فقالوا: نعم.

فجاءت بأمه فلما أخذته بحجرها، و ألقمته ثدييها التقمه و شرب، ففرح فرعون و أهله و أكرموا أمه، فقال لها: ربيه لنا فإنا نجزيك خيرا، و قد كان الفصل بين إلقاء الأم لموسى في البحر ورده إليها

______________________________

(1) القصص: 13. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 480

[سورة طه (20): آية 41]

وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)

ثلاثة أيام

«1» وَ قَتَلْتَ يا موسى نَفْساً من القبط، فقد كان في مصر طائفتان، القبط و هم قوم فرعون، و الإسرائيليون و هم أحفاد يعقوب، و كان القبط كفارا و الإسرائيليون مسلمون حيث ورثوا الدين و الإسلام عن آبائهم، فقد قال لهم يعقوب حين موته: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) «2» فمر موسى ذات يوم على رجلين أحدهما قبطي و الآخر إسرائيلي يتشاجران فاستغاث بموسى الإسرائيلي، و هناك تقدم موسى و ضرب القبطي ضربة مات منها فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ حيث أمرناك و ألهمنا إليك أن تفر من مصر لئلا يقتلك فرعون، فقد جاءه آت ليقول له: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) «3» وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً أي اختبرناك اختبارا، و ابتليناك ابتلاء من الخوف في مصر، ثم قتل القبطي، ثم الفرار من الوطن واجلا خائفا ثم غير ذلك من أنواع المصائب، التي تؤهل الإنسان للقيام بالمهام فبعد ذلك كله فَلَبِثْتَ و بقيت سِنِينَ عشرة فِي أَهْلِ

مَدْيَنَ عند شعيب النبي عليه السّلام حيث تزوج موسى بابنته، و مدين على ثمان مراحل من مصر- كما في الصافي- ثُمَ بعد تلك الامتحانات و المشاق جِئْتَ عَلى قَدَرٍ بتقدير من الله، لإنجاز المهمة و أداء الرسالة يا مُوسى فلتتذكر النعم، و لتستعد للرسالة.

[42] وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي فأنت مصنوع لأجل العمل لله وحده، فلا شي ء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 25.

(2) البقرة: 133.

(3) القصص: 21.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 481

[سورة طه (20): الآيات 42 الى 45]

اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)

منك للدنيا أو لأهلك. و إنما خالص محض للرسالة و التبليغ.

[43] اذْهَبْ يا موسى أَنْتَ وَ أَخُوكَ أي و ليذهب أخوك هارون، مثل «نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض» أي نحن بما عندنا راضون، و أنت بما عندك راض بِآياتِي أي مصاحبين للأدلة و البراهين الدالة على صدقكما في دعوى النبوة وَ لا تَنِيا من ونى يني، بمعنى الضعف و الفتور فِي ذِكْرِي أي لا تضعفا في أداء رسالتي، بل بلغا بكل جد و اهتمام.

[44] اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ كرر الأمر بالذهاب، توطئة لذكر المتعلق- و هو فرعون- إِنَّهُ طَغى تجاوز الحد في الظلم و الاعتداء.

[45] فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً أي أرفقا به في الدعوة و لا تغلظا له في البلاغ و الإرشاد لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ نعم الله عليه التي قد نساها أَوْ يَخْشى عذاب الله، فيؤمن شكرا، أو حذرا، و الرفق و اللين يؤثران بما لا يؤثر الغلظة و الخشونة.

[46] قالا أي

قال موسى و هارون عليه السّلام يا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي يتقدم فينا بعذاب و يعجل علينا، من فرط بمعنى تقدم، و منه يسمى الإسراف إفراطا لأنه تقدم على الحق أَوْ أَنْ يَطْغى بأن تصير دعوتنا له سببا لطغيانه بأن يكثر من الاجرام، كما هو عادة المتجبرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 482

[سورة طه (20): الآيات 46 الى 48]

قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (48)

إذا ذكّروا بالحق ازدادوا تجبرا و عتوا.

[47] قالَ الله عز و جل لهما لا تَخافا من فرطه أو طغيانه إِنَّنِي مَعَكُما بالعلم و الاطلاع أسندكما و أحفظكما أَسْمَعُ حواركما و إياه وَ أَرى مجلسكما و مجلسه، فألهمكما مما لا يسبب طغيانه و غلوائه، و أمنعه من أن يطغى.

[48] فَأْتِياهُ أي اذهبا إليه فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أرسلنا إليك خالقك و إلهك فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي بلغاه هذه الرسالة من طرفي، و هي أن يطلق سراح بني إسرائيل، و يجعلهم أحرارا كما يشاءون حتى ب تحت لواء موسى و هارون وَ لا تُعَذِّبْهُمْ بالاستعمال في الأعمال الشاقة، فقد كانت بنو إسرائيل تحت تعذيب فرعون و أسره، فكان منهم الأسراء في السجون، و منهم المسخر في أعمال البناء، و منهم المسخر في سائر الشؤون الشاقة المتعبة قَدْ جِئْناكَ أي أتينا إليك يا فرعون بِآيَةٍ حجة و برهان مِنْ رَبِّكَ تدل على صدقنا و صحة دعوانا النبوة، و المراد بالآية الجنس

لتشمل العصا و اليد و غيرهما وَ السَّلامُ أي السلامة من عذاب الله عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى و لم يتبع الهوى، فإن اهتديت سلمت من بأس الله و إلا كنت معرضا للخطر.

[49] إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا من قبل الله سبحانه أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 483

[سورة طه (20): الآيات 49 الى 52]

قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى (52)

بآيات الله وَ تَوَلَّى أي أعرض عن الهداية، فإن كذبت و توليت كان لك العذاب و النكال، و إلا آمنت و سلمت.

[50] قالَ فرعون لهما فَمَنْ رَبُّكُما و لم يقل ربي لأنه لم يكن يعترف به يا مُوسى و جعل الخطاب لموسى لأنه هو المتكلم، و قد أراد فرعون السؤال عن جنس الله هل هو بشر أو غيره؟ لكن موسى أجاب ببيان صفات الله سبحانه، لأن الله لا يعرف كنهه.

[51] قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ فخلق هذه الأشياء كلها منه، و المراد بالخلق الوجود، لأنه سبب للوجود ثُمَّ هَدى أي هداه طريقه في الحياة كيف يبقى و يعيش، فقد هدى الله الأشياء إلى طرقها الفطرية الطبيعية إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا أم جمادا، و إن كانت الهداية في النبات و الجماد على ضرب من التوسع.

[52] قالَ فرعون، موجها لموسى عليه السّلام سؤالا ثانيا فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى أي ما شأن الأمم الماضية، فأين ذهبت؟ و ماذا مصيرها؟ و من كان ربها فقد هلكت، و لا تعرف لها ربا؟ و لعله أراد

بذلك أن يقول أن هذا القرن كتلك القرون، فهي كما عاشت لا تعترف بالرب كذلك هذا القرن، فما هذا الذي جئتم به؟

[53] لكن موسى عليه السّلام لم يكن ليشغل نفسه بالبحث حول أولئك، فإنه أمر لا يرتبط بالدعوة فعلا، و قال أرباب المناظرة، أن من عدم الفطنة أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 484

[سورة طه (20): آية 53]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)

يشغل الإنسان نفسه بما لا يرتبط بمبحثه في الصميم، و لذا قالَ عليه السّلام عِلْمُها أي علم تلك القرون عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي لذلك الكتاب، أو لا يخطئ في أمر تلك القرون وَ لا يَنْسى ما فيه، يعني أن الله سبحانه هو العالم بشؤون تلك الأمم و قد أثبت شؤونها في كتاب خاص لا يتطرق إليه الضلال، و لا الغلط.

[54] ثم رجع موسى عليه السّلام إلى صميم الموضوع و هو التعريف بإله الكون بذكر صفاته و آثاره، فإن ربي هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً كالمهد للطفل الذي يستقر فيه و يكون سببا لراحته و صحته وَ سَلَكَ لَكُمْ السلك هو إدخال الشي ء في الشي ء أي أدخل لأجلكم فِيها أي في الأرض سُبُلًا جمع سبيل، أي طرقا لسيركم من محلكم إلى مقصدكم.

وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لشربكم و التمتع به في سائر حوائجكم، ثم التفت السياق من الغيبة إلى التكلم، بإتيان جملة خارجة عن كلام موسى، لينتقل بالناس من محيط القصة إلى المشافهة و المشاهدة، و ذلك أبلغ تأثيرا في نفس السامع، كما وقع مثله في سورة الحمد فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء

أَزْواجاً أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى جمع شتيت، كمرضى جمع مريض، و المراد بالنبات الجنس و لذا وصف بالجمع، نحو «الدرهم البيض» و النباتات مختلفة الأشكال و الألوان و الطعوم و الروائح و الخواص و الأوزان و غير ذلك، فمن يا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 485

[سورة طه (20): الآيات 54 الى 57]

كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى (56) قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57)

ترى جعل كل ذلك؟ أم من يقدر على أن يخرج هذا المختلف العجيب الاختلاف من أرض واحدة و ماء واحد.

[55] كُلُوا أيها البشر من هذا النبات المختلف وَ ارْعَوْا فيها أَنْعامَكُمْ أي أسيموهم حيواناتكم إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من آيات الله سبحانه لَآياتٍ دلالات على وجود الله و علمه و قدرته لِأُولِي النُّهى جمع نهية و هي العقل، و إنما قيل له نهية، لأنه ينهى الإنسان عن الفساد، أي أن أصحاب العقول يعتبرون بهذه الآيات و يستدلون بها على وجود الله سبحانه.

[56] مِنْها من الأرض المتقدمة في قوله «جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» خَلَقْناكُمْ فإن كل إنسان أوله تراب ثم ينقلب نباتا يأكله الإنسان- أو الحيوان الذي يأكله الإنسان أيضا- فيصير منيا ثم إنسانا وَ فِيها نُعِيدُكُمْ إعادة، إذ الإنسان بعد ما يبلى ينقلب ترابا وَ مِنْها من الأرض نُخْرِجُكُمْ تارَةً أي مرة أُخْرى للحساب و الجزاء و ذلك يوم القيامة.

[57] وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ أرينا فرعون آياتِنا الدالة على صدق موسى و هي المعجزات التسع كُلَّها كل الآيات التي زود بها موسى دلالة لصدقه

فَكَذَّبَ فرعون بجميعها وَ أَبى أي امتنع أن يؤمن و يصدق.

[58] و لما أفحم فرعون لم يجد بدا من أن يتوسل بالكذب و الافتراء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 486

[سورة طه (20): الآيات 58 الى 59]

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)

و الجدال بالباطل، كما هو عادة كل مبطل قالَ مخاطبا لموسى أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى هل تريد أن تخرجنا من أرض مصر؟ و لم يرد موسى ذلك و إنما أراد أن يبهته فرعون ليجلب أهواء الناس إلى نفسه، مبينا أن موسى لو سيطر أخرجنا من بلادنا ليعطي أزمتها بيد قومه بني إسرائيل.

[59] فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي مثل سحرك ليعرف الناس إنك كاذب، و إنما تريد أن تتوصل بواسطة السحر إلى الملك و الرئاسة فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً وقتا خاصا و مكانا خاصا ليأتي كل فريق بسحره حتى يظهر لمن الغلبة في ذلك لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ أي لا يقع من أحد منا خلف في حضور ذلك المكان مَكاناً سُوىً أي منتصفا بيننا و بينك فلا يكون أقرب إليك و لا إلينا، و كأنه كان لموسى مكانا خاصا في مصر يقاس المحل بالنسبة إليه كما يقاس بالنسبة إلى قصر فرعون، و «مكانا» إما عطف بتقدير الواو، لو أريد من الموعد الزمان، و إما بدل بعض عن كل لو أريد من الموعد الأعم.

[60] قالَ موسى عليه السّلام مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ فقد كان لهم يوم يسمى يوم الزينة، لأن الناس يتزينون فيه و يزينون الأسواق وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ أي

يجمع الناس ليشاهدوا أينا أصدق، قالوا و قد جرت عادتهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 487

[سورة طه (20): الآيات 60 الى 62]

فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى (62)

أن يجمع الناس في يوم الزينة في محل خاص، و لذا لم يتعرض للمكان لمعلومية المحل من حشر الناس ضُحًى أي وقت ارتفاع الشمس في ذلك اليوم لئلا يلتبس عليهم الأمر بواسطة الظلمة، و قد جعل يوم الزينة، لأن الناس فيه مستعدون و لا يشتبه من لا يعرف الحساب وقته.

[61] فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ انصرف عن المجلس على هذا الموعد فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي كل ما قدر عليه من المكر، و ذلك بجمع السحرة من أطراف مملكته ثُمَّ أَتى إلى الموعد، في يوم الزينة.

[62] و لما اصطف الجانبان، فرعون و السحرة و ملأه، و موسى و هارون و من معهما قالَ لَهُمْ أي لأولئك الذين جاءوا لمبارزته مُوسى وَيْلَكُمْ هي كلمة وعيد و تهديد أي ألزمكم الله العذاب و النكال بسبب ما قصدتم من إبطال آيات الله، و ما جئتم به من السحر لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تجعلوا له شريكا، أو تنسبوا معجزاته إلى السحر، فإنه افتراء على الله الذي زودني بهذه المعجزات.

فَيُسْحِتَكُمْ أي يهلككم، فإن سحت و أسحت بمعنى أهلك بِعَذابٍ من عنده يأخذكم و يفنيكم وَ قَدْ خابَ أي خسر مَنِ افْتَرى على الله الكذب و نسب إليه باطلا، و إنما يخسر دنياه و آخرته.

[63] و قد ألقى موسى عليه السّلام هذا الكلام مقدمة للشروع في المباراة، لعلهم

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 3، ص: 488

[سورة طه (20): الآيات 63 الى 64]

قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)

يتعظون و لا يعرضون أنفسهم للخطر و الهلاك، و قد أحدث هذا الكلام بين صفوف القوم شقا و تنازعا فصار بعضهم مع موسى و بعضهم مع فرعون، و أخذوا يتناجون بينهم هل يصدق موسى عليه السّلام أم لا؟ و هكذا تأخذ البليغة مكانتها في النفوس، و إن لم تؤثر في الإتباع حالا فَتَنازَعُوا أي تنازع أصحاب فرعون، في أَمْرَهُمْ و أخذ كل قسم منهم طرفا من طرفي موسى و فرعون بَيْنَهُمْ جي ء بهذه اللفظة، لئلا يسبق إلى الذهن كون التنازع كان بين الجانبين وَ أَسَرُّوا النَّجْوى أي أخذ بعضهم يناجي الآخر سرا حول موسى و أنه هو صادق أم لا؟

[64] و أخيرا أخذ أصحاب فرعون يؤيدون كلام فرعون و يحركون الناس من جهة العاطفة ليقووا به قلوب المترددين قالُوا إِنْ أي نعم- كما قال فرعون: أ جئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك- هذانِ موسى و هارون لَساحِرانِ فما العصي و اليد إلا سحرا يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ أيها الأقباط مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما فإنهم لو غلبوا أخرجوا كل مخالف لهم عن البلاد المصرية وَ يريدان أن يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي طريقة دينكم، لتكونوا متدينين مثلهما و تتركوا طريقة آبائكم و «المثلى» مؤنث الأمثل، أي الأفضل و الأحسن.

[65] ثم قالوا للمترددين منهم فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ فلا تدعوا شيئا منه إلا جئتم به ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا واحدا، بلا تفرق، و ليس المراد الإتيان في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 489

[سورة طه (20): الآيات 65 الى 66]

قالُوا

يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)

المستقبل و إنما المراد أن يكونوا صفا واحدا وقت المباراة، فإن التفرقة تضر الحركة بقدر ما تنفع الطرف المقاتل وَ قَدْ أَفْلَحَ و فاز الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي من قد غلب و علا من جانبنا أو جانب موسى عليه السّلام فلا تفوتنكم الفرصة.

[66] و بعد توحيد الصفوف، و تقوية قلوب المترددين بهذه الكلمات و أمثالها، توجهت السحرة نحو موسى عليه السّلام قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نحن أَوَّلَ مَنْ أَلْقى سحره ثم تلقي أنت؟

[67] قالَ موسى عليه السّلام بَلْ أَلْقُوا أنتم ما معكم و لعل أمره بابتدائهم لإشعار المجتمع بعدم الاكتراث بهم، فإن الإنسان الذي يطمئن من نفسه، لا يهمه تقدم غيره عليه، و امتثل السحرة و ألقوا ما معهم فَإِذا حِبالُهُمْ جمع حبل وَ عِصِيُّهُمْ جمع عصي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي إلى موسى مِنْ سِحْرِهِمْ أي من أهل سحر السحرة أَنَّها تَسْعى فكان سعيها خيالا لا حقيقة، و في آية أخرى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) «1» و كان الإتيان ب «يخيل إليه» نسبة إلى موسى عليه السّلام بيان عظمة السحر، حتى أنه أثر في موسى النبي عليه السّلام، و خيل إليه كما تريد ذلك الآية التالية أيضا.

______________________________

(1) الأعراف: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 490

[سورة طه (20): الآيات 67 الى 70]

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ

السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70)

[68] فَأَوْجَسَ فأحس فِي نَفْسِهِ خِيفَةً خوفا من تلك الحبال و العصي مُوسى فاعل أوجس،

و روي عن الإمام المرتضى عليه السّلام: لم يوجس موسى خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال و دول الضلال «1»

[69] قُلْنا لموسى حين خاف لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى عليهم فإن عصاك تبطل سحرهم و تظهر زيفهم.

[70] وَ أَلْقِ أي اطرح إلى الأرض ما فِي يَمِينِكَ أي العصا تَلْقَفْ تبتلع ما صَنَعُوا من الحبال و العصي إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ خبر «ما» أي إن الذي صنعوه هو كيد الساحر و مكره و تدبيره الخفي، و ليس له حقيقة يخشى منها وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي لا يفوز الساحر ببغيته و مطلبه، و من عجيب الأمر أن السحرة دائما مهانون، لا يتمكنون من إدارة أمورهم مع ما يصنعون من الأمور المدهشة الجالبة حَيْثُ أَتى أي أنى وجد، أو حيث أتى بسحره.

[71] فألقى موسى عليه السّلام عصاه، و إذا بها ثعبان مبين تبتلع عصي السحرة و حبالهم، و فر الناس ذعرا من خوفها فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي أنهم ألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين خاضعين لله الذي يدعو إليه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 141.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 491

[سورة طه (20): آية 71]

قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (71)

موسى عليه السّلام و كان الإتيان بالمجهول «ألقى» لإفادة أن عملهم هذا كان باندفاع و انهيار، لا كسجدة الإنسان الهادئ قالُوا للملأ حوله آمَنَّا

بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى و لعل تقدم هارون لكونه الأخ الأكبر- كما في بعض التفاسير أنه كان أكبر الأخوين- أو للقافية.

[72] و قد أحدث إيمان السحرة اضطرابا عجيبا في صف فرعون حتى خاف فرعون أن يتبعه الناس و لم ير عاجلا إلا اللجوء إلى القوة فتوجه إلى السحرة مهددا قالَ آمَنْتُمْ لَهُ أي كيف آمنتم بموسى، و إنما عدي باللام لاشتماله على معنى التصديق قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ فكيف خالفتم طريقتي بدون الإذن و تحصيل الرخصة؟ ثم أراد أن يعمي على الناس قصة كون العصا إعجازا، فأتى بالكذب و المغالطة، تبريرا لموقفه من موسى عليه السّلام و من السحرة الذين اتبعوه لكي لا يلام بأنه لما ظهر الحق أعرض عنه إِنَّهُ أي موسى عليه السّلام لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فإنه أستاذكم في علم السحر، و قد تواطأتم على أن يأتي هو بأعظم أقسام السحر، و تأتون أنتم ببعض أقسامه الأدنى، لتروا للناس غلبته ثم تؤمنون به ليؤمن الناس- خدعة منكم للجماهير- تريدون السيطرة على البلاد، ثم أخذ يهددهم كما هو دأب الطغاة حيث يعجزون عن القلوب يلجئون إلى تعذيب الأبدان فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ فتقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى، أو بالعكس، ليختل توازن البدن، و يكون عذابه أكثر ما دام الإنسان حيا وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ الصلب هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 492

[سورة طه (20): الآيات 72 الى 73]

قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73)

الشنق، و له أقسام منها أن يدق

يدا المصلوب بجذع أفقي نصب على جذع عمودي، فيبقى المصلوب في أذية يوما أو أياما حتى يموت فِي جُذُوعِ النَّخْلِ و إنما عدي بعلى لإشراب الصلب معنى الرفع، أي أرفعنكم للصلب على أصول نخل التمر. وَ لَتَعْلَمُنَ أيها السحرة أَيُّنا أيّ منا و من موسى فيما يدعي و يقول «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» أَشَدُّ عَذاباً من الآخر وَ أَبْقى أي أدوم عذابا؟ و قد كان ظن أن عذابه أشد و أبقى من عذاب الله سبحانه.

[73] قالُوا أي قالت السحرة في جواب تهديد فرعون لَنْ نُؤْثِرَكَ أي لن نفضلك و نختارك يا فرعون عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ أي الأدلة الواضحة، فإن البقاء في طريقتك معناه إنا رجحناك على الأدلة التي دلتنا على صحة طريقة موسى عليه السّلام وَ على الَّذِي فَطَرَنا أي لن نختارك ربا- بعد هذا- على الله الذي فطرنا و خلقنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي فاصنع ما أنت صانعه بنا من التعذيب إِنَّما تَقْضِي أي تحكم علينا في هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا و هي دار زائلة لا يهمنا ما يصنع بنا فيها.

[74] إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا أي معاصينا التي سلفت منا من الكفر و الآثام وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ فإن السحر خصوصا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 493

[سورة طه (20): الآيات 74 الى 76]

إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

إذا كان لإبطال نبوة من أعظم الآثام، و لا يرتفع إثمه بالإكراه إذا كان في مقابلة النبي، و

قد كان فرعون أكرههم على السحر في مقابل موسى،

فقد روي أن السحرة قالوا لفرعون أرنا موسى إذا نام فأراهم إياه فإذا هو نائم و عصاه تحرسه فقالوا ليس هذا بسحر إن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى عليهم إلا أن يعملوا فذلك إكراههم للسحر «1»

وَ اللَّهُ خَيْرٌ لنا منك وَ هو أَبْقى أي أكثر بقاء، فإذا آمنا به كان أحسن لنا من بقائنا في طريقتك، و إن خيرك ليسير و بقائك لقليل.

[75] إِنَّهُ الضمير للشأن مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً كافرا أو عاصيا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح من العذاب وَ لا يَحْيى حياة فيها راحة، أي لا يبقى حيا في راحة، و إنما هو حي في أنواع الشدائد و الآلام.

[76] وَ مَنْ يَأْتِهِ أي يذهب إلى الله سبحانه حينما يموت مُؤْمِناً مصدقا بالله و رسله و ما جاءوا به و قَدْ عَمِلَ الأعمال الصَّالِحاتِ فكان صحيح العقيدة و العمل فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جمع عليا، تأنيث أعلى، أي له درجات رفيعة في الجنة.

[77] ثم بين الدرجات بأنها في جَنَّاتُ عَدْنٍ أي بساتين إقامة و بقاء، من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 96.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 494

[سورة طه (20): آية 77]

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77)

عدن بالمكان إذا أقام تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ في حال كونهم خالِدِينَ فِيها إلى الأبد وَ ذلِكَ الثواب جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي تطهر بالإيمان و الطاعة.

[78] و لما أتمت الحجة على فرعون و ملأه، و لم يؤمنوا، صار القرار من الله سبحانه أن يهلكه مع حاشيته إنجازا

لما وعد به موسى، و قال موسى عليه السّلام لقومه (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) «1» وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي بني إسرائيل و الذين آمنوا بك، ليلا و إنما أمروا بالسير ليلا لئلا يراهم فرعون فيمنعهم من المسير مع موسى عليه السّلام فَاضْرِبْ لَهُمْ أي لمن معك طَرِيقاً أي اضرب بعصاك فِي الْبَحْرِ يوجد لسيرهم في وسط البحر طريق يَبَساً أي يابسا لا تَخافُ نهي في صيغة الخبر، تأكيد لعدم الخوف دَرَكاً أي إدراك فرعون لك وَ لا تَخْشى من الغرق، ففعل موسى ما أمره الله سبحانه، فإنهم لما وصلوا إلى البحر الأحمر متجهين نحو الشام، ضرب بعصاه على البحر، فانفلق الماء، و انفتحت لهم اثنتي عشرة طريقا، ليسير كل قبيلة من القبائل الإسرائيلية من طريق خاص بهم، و لما عرف فرعون بفرار بني إسرائيل بقيادة موسى جهز الجيش ليتبعهم و يردهم.

______________________________

(1) الأعراف: 130.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 495

[سورة طه (20): الآيات 78 الى 80]

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى (80)

[79] فَأَتْبَعَهُمْ أي اتبع موسى عليه السّلام و بني إسرائيل فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ مع جنوده، أي ذهبوا خلفهم، حتى وصلوا إلى البحر و رأوا أنهم قد دخلوا البحر يريدون العبور، و هنا توقف فرعون أولا، و خاف من الغرق إن دخل سكك البحر التي انشق الماء عنها بقدرة الله عز و جل، لكنه أخيرا دخل مع جيشه، فلما توسطوه، و خرج أصحاب موسى من البحر انطبق الماء على آل فرعون فَغَشِيَهُمْ مِنَ

الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي جاءهم الماء حتى غطاهم و أحاط بهم، و قوله «ما غشيهم» للتهويل كي يبقى من النفس منه هول و خوف.

[80] وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ في هذه الحياة بسوقهم إلى البحر الذي لم يكن طريقا، حتى سبب هلاكهم، و في الحياة الآخرة بأن أراهم طريقة منحرفة لا تصل إلا إلى النار وَ ما هَدى إلى طريق الحق، فقد بقي في الإضلال إلى آخر عمره، و كان الإتيان بجملة «ما هدى» لإفادة أنه لم يرجع عن إضلاله، فإن «أضل» إنما يدل على الابتداء في الإضلال، أما البقاء فيه فإنه لا يفيده.

[81] يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون، و قد رأيتم كيف أنجيناكم، بعبوركم من البحر بالإعجاز، و إهلاك فرعون و جنوده هناك وَ واعَدْناكُمْ أي واعدنا الكليم موسى عليه السّلام أن يأتي جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي الطرف الأيمن من الجبل المسمى بالطور، لإعطاء التوراة، و حيث إن الوعد لرئيس القوم وعد لكل القوم قال سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 496

[سورة طه (20): الآيات 81 الى 82]

كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)

«و واعدناكم» و الإتيان من باب المفاعلة كأنه لا بد كون الوعد من الطرفين الإعطاء و الأخذ بخلاف مثل وعدته أي المتكلم له مع الأمر فإنه وعد، لا مواعدة وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ و هو نوع من الصمغ الحلو وَ السَّلْوى و هو طير لذيذ يسمى السماني، و ذلك حين كنتم في التيه- كما مر تفصيله في سورة البقرة-.

[82] و قلنا لكم كُلُوا

مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ المراد بالأمر الإباحة، أي أبحنا لكم أكل الطيبات وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فيما رزقناكم، بأن تستعملوه في الحرام، كالربا و الاحتكار و الغش و أشباهها، فإنها طغيان و تعد عن الحد في الرزق الحلال فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي لو طغيتم في رزقي و الفعل مجزوم- بالفتحة- لكونه في جواب النهي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي بأنه عمل بالمعاصي فاستحق العقاب فَقَدْ هَوى أي هلك، كالذي يهوي من السطح إلى الأسفل.

[83] ثم بينا لكم أن من هوى لا ينقطع عن الله إلى الأبد، بل باب التوبة مفتوح أمامه وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ مبالغة من الغفران لِمَنْ تابَ عن معاصيه السابقة التي أظهرها الشرك وَ آمَنَ بالله و رسوله و ما أنزل وَ عَمِلَ صالِحاً بأن صحت عقيدته و عمله ثُمَّ اهْتَدى أي بقي على الهداية إلى أن يموت، أو المراد بيان أن الاهتداء ليس عقيدة في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 497

[سورة طه (20): الآيات 83 الى 85]

وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)

القلب، و عملا بالجوارح، و إنما يحتاج إلى رسوخ الإيمان و التحلي بنور الهداية، و إنما العقيدة و العمل مقدمتان له و مهيئان الجو لإشراقه.

[84] ثم إن الله سبحانه إنجازا لما وعد به موسى عليه السّلام، من إعطائه الكتاب الذي فيه أحكامه، فقد انقطع القوم عن أحكام فرعون و أنظمته، و احتاجوا إلى أنظمة لحياتهم، و دستور لعملهم، أمر موسى عليه السّلام أن يأتي إلى الطور مع جماعة من قومه، و صام موسى أربعين يوما مقدمة لذلك،

حتى تصفو نفسه، و تستعد لهذا اللقاء، و لما أتم الصيام تعجل للذهاب إلى الجبل، في حين كان القوم بعد في سفح الجبل، فقال له سبحانه وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أيّ شي ء صار سببا لأن تتقدم على القوم و تصعد قبلهم؟ و حيث أن عجل أشرب معنى التجاوز عدي ب «عن».

[85] قالَ موسى عليه السّلام في الجواب هُمْ القوم أُولاءِ جمع الذي، أي هم الذين عَلى أَثَرِي من ورائي يدركونني عن قريب وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ يا رَبِّ لِتَرْضى أي لتزداد رضا عني أو لتعجل الرضى عني.

[86] قالَ الله تعالى فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ أي امتحناهم ليظهر قدرهم، فإن الإنسان إذا ألف عادة أشكل عليه الإقلاع عنها مِنْ بَعْدِكَ أي من بعد مجيئك إلى الطور، و قد كان غياب موسى عليه السّلام عن قومه أربعين ليلة وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ فقد كانت نفوس القوم تألف الوثن، و لذا لما جاوزوا البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا: يا موسى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 498

[سورة طه (20): آية 86]

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)

اجعل لنا إلها كما لهم آلهة و لما غاب موسى انتهز السامري الفرصة، فأمرهم بجمع حليهم و صنع منها عجلا جسدا و قال هذا إلهكم و إله موسى، و عبده بنو إسرائيل، و هذا كان إضلال السامري، كما أنه كان امتحان الله لهم، و قد خلي بين السامري و بين ما يفعل ليظهر دفائن قلوبهم.

[87] فلما أخذ موسى عليه السّلام الكتاب من الله سبحانه

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً في حالة غضب على ما اقترفوا من الإثم، و أسف أي حزن و تحسر عليهم، كيف أنهم ضلوا بعد تلك المصاعب و الأتعاب، و لما وصل إلى القوم قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً بإعطائكم الكتاب و جعلكم ورثة الأرض و إدخالكم الجنة؟ فلم انصرفتم عن وعد الله سبحانه إلى عبادة العجل الذي لا يعقل و لا ينفعكم أبدا؟ أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الذي عهدتكم بإتيان التوراة حتى تعتذرون بأنك أخلفت العهد، و لذا عدلنا عنك و عن إلهك إلى هذا العجل؟ أَمْ لم يطل العهد و إنما أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فإن فعلكم هذا فعل من يريد إحلال العقاب به، و إلا فما هو السبب لذلك؟ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي الذي وعدتموني بأن تكونوا على عهدكم باقين حتى آتيكم بالكتاب، فقد أمرهم موسى عليه السّلام أن يعملوا تحت إمرة هارون أخيه، حتى يرجع إليهم، و لكنهم خرجوا عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 499

[سورة طه (20): الآيات 87 الى 88]

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88)

طاعته، فأخلفوا موعد موسى عليه السّلام.

[88] قالُوا أي قال بنو إسرائيل في جواب اعتراضه و توبيخه ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي و نحن نملك من أمرنا شيئا، فإن الملك مثلث الميم بمعنى ما يملك الإنسان، يعني لم يكن ملكنا و باختيارنا الوفاء و الخلف حتى نفي، و إنما أجبرنا على خلف الوعد وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي حملنا- من مصر- أثقالا

من الذهب من حلي آل فرعون، فقد كانت لديهم حلي من القبط قد استعاروها منهم و ما ألقاه البحر على الساحل بعد غرقهم، و الأوزار جمع وزر، بمعنى الثقل، و سمي الحلي وزرا لثقله جسما أو رتبة فَقَذَفْناها أي تلك الأوزار ألقيناها في البوتقة في النار فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ ما معه في النار، ليسبك الجميع عجلا، أو المراد قذفوها ليتخلصوا منها حيث كانت محرمة و كذلك قذف ما معه السامري ثم جمعها و جعلها عجلا.

[89] فَأَخْرَجَ السامري، و هو رجل منهم يلقب بهذا اللقب- و لعل اللفظ معرب و إلا فأصله في التوراة يلفظ بشكل آخر- لَهُمْ عِجْلًا و هو ولد البقر جَسَداً لا روح فيه، و يقال الجسد لما لا روح فيه- غالبا- لَهُ خُوارٌ كخوار العجل قال بعض المفسرين إنه جعل من العجل منافذ إذا هب الريح فيها خرج من العجل صوت يشبه صوت العجل فَقالُوا السامري و أعوانه هذا العجل إِلهُكُمْ يا بني إسرائيل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 500

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 549

[سورة طه (20): الآيات 89 الى 90]

أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90)

وَ إِلهُ مُوسى فقد نسي موسى عليه السّلام أن إلهه هنا، فذهب إلى الطور يطلبه.

[90] أَ فَلا يَرَوْنَ ألا يرى بنو إسرائيل أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ «أن» مخففة من الثقيلة، و اسمه ضمير محذوف، أي أن العجل «لا يرجع» فاعله محذوف يرجع إلى العجل و قَوْلًا تميز، أي لا يرجع إليهم رجوعا قوليا، كما

تقول «لا يأتي قولا» أي لا يقول القول، فكأن من يقول، يرجع هو إلى الطرف، و هو من باب علاقة العلة و المعلول، فقد عبر عن إرجاع القول برجوع النفس، و المعنى أ فلا يرى بنو إسرائيل أن العجل الذي عبدوه لا يرد عليهم جوابا وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً و كيف يتمكن أن يضرهم أو ينفعهم ذهب مصوغ؟

[91] وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ أي لبني إسرائيل هارُونُ أخو موسى عليه السّلام المخلف عندهم مِنْ قَبْلُ عود موسى إليهم حينما اتخذوا العجل يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي امتحنتم بهذا العجل، ليعلم أيكم يعبده و أيكم يتركه، بل يبقى على عبادة ربه، فلا تعبدوا العجل وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ الذي رحمكم بنجاتكم من آل فرعون و تفضل عليكم بكل شي ء فَاتَّبِعُونِي فيما أدعوكم إليه وَ أَطِيعُوا أَمْرِي في عبادة الله سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 501

[سورة طه (20): الآيات 91 الى 93]

قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)

[92] قالُوا أي الذين عبدوا العجل لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ لا نزال مقيمين على عبادته، فإن برح بمعنى زال، و عكف بمعنى أقام حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فننظر هل يعبده كما عبدناه، و كما أخبرنا السامري قائلا: هذا إلهكم و إله موسى، أم لا يعبده؟

[93] و لما رجع موسى عليه السّلام و رأى أنهم عبدوا العجل كما أخبره سبحانه من الطور، توجه إلى هارون و قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل، عن اتباعي، و قوله:

[94] أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي في الغضب الشديد لله و

مقاتلة عبّاد العجل أو الخروج من بينهم، متعلق بمحذوف أي ما هو السبب في أن لا تتبعن، كما أن متعلق «ما منعك» محذوف، و كثيرا ما يستعمل البلغاء مثل هذا تأكيدا للنفي، فإن حذف المتعلق في «ما منعك» يحدث في الذهن فجوة وسيعة و هولا، كما أن حذف الفعل في «ألا تتبعن» يوهم ابتداء الإنكار، و مثله شائع كما قال سبحانه: (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) «1» و قوله:

«ما يمنع القوم أن لا يعملوا حسنا» و قوله: «و قد رأى المنع في أن لا يجاريهم» و لذا كان «ألا تتبعن» أول الآية.

أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي هل عصيت أمري الذي أمرتك؟ كما قال سبحانه:

______________________________

(1) الأعراف: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 502

[سورة طه (20): آية 94]

قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)

(وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) «1» فكيف لم تصلح؟ ثم أخذ موسى بلحية أخيه و رأسه يجره إليه، و ألقى الألواح من يده تضجرا، و لم يك هذا العمل من موسى لأنه شديد الغضب، كما يقول البعض، كما أنه لم يك ذلك لأنه ظن بهارون سوءا و إنما جرت عادة العقلاء على أن يبدوا استنكارهم الشديد لغير المجرم، في أقوال و أعمال، ليعرف المجرم وقع الجرم، و لا يكون هو المعتب الأول، لئلا يثأر نفسه، فإنك إذا أردت أن تفهم جارك سوء عمله من إلقاء القمامة على باب البيت، تقول لولدك: «لماذا يصب القذارة على باب دارنا؟ هل أنت أعمى حتى لا تمنع الصاب؟ و لو رأيت القمامة بعد هذا لضربتك»

و إنما الولد بري ء مثلك و أنت تعلم ذلك، و إنما تريد إفهام الجار، على طريقة «إياك أعني و اسمعي يا جارة» و هذا من فنون الأدب و البلاغة.

[95] قالَ هارون مخاطبا لموسى يَا بْنَ أُمَ و إنما خص الأم بالذكر، استعطافا و ترقيقا ليسكن الغضب المشتعل في موسى على عبّاد العجل لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي و لم يقل هارون ذلك، إلا لكي يعرف بنو إسرائيل أنه لم يكن المذنب في القصة، لا لأنه رأى موسى غضبان عليه إِنِّي خَشِيتُ لو فارقتهم و خرجت من بينهم أَنْ تَقُولَ أنت فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ إذ خروج الزعيم من بين القوم يؤدي إلى تفرقهم، كما أن محاربته لهم تؤدي إلى التفرقة، و قد كان عذر هارون عليه السّلام صحيحا، فإن الناس لا يتبعون الخلف كما يتبعون

______________________________

(1) الأعراف: 143.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 503

[سورة طه (20): الآيات 95 الى 96]

قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)

الرئيس، و بأدنى شي ء يتفرقون عليه وَ تقول لَمْ تَرْقُبْ يا هارون قَوْلِي أي لم تحفظ وصيتي في ما أوصيتك به أن أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين، فتقول لي إنك لم تصلح حين سببت التفرقة بين القوم، بغضبك الشديد عليهم، أو مقاتلتك لهم، أو خروجك من بينهم.

[96] و لما أظهر موسى عليه السّلام براءة ساحة أخيه، و أبدى لومه الشديد و غضبه على عبّاد العجل في هذه الصورة، و بهذا القالب توجه إلى السامري رأس الفتنة قالَ موسى عليه السّلام فَما خَطْبُكَ أي ما شأنك و ما الذي دعاك إلى ما

صنعت يا سامِرِيُ حيث أضللت الناس؟

[97] قالَ السامري بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي رأيت ما لم يروه أو فطنت بما لم يفطنوا به، فقد رأيت جبرائيل على فرس- في صورته البشرية- فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ تراب أَثَرِ الرَّسُولِ تحت قوائم فرسه فَنَبَذْتُها طرحت تلك النبذة في العجل الذي صنعته من الذهب فكان له هذا الخوار من أثر ذلك التراب وَ كَذلِكَ الذي حدثتك يا موسى سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي زينته لي حتى أوجه بني إسرائيل إلى نفسي، و قد احتمل بعض المفسرين أن هذا الكلام كان كذبا من السامري أراد به أن يبرر ساحته و يظهر فضله في أنه فطن بما لم يفطن به بنو إسرائيل، و لو ورد بما ذكره أثر صحيح لم يك مخالفا للمقاييس إذ رؤية الإنسان للملك ممكن، كما إن الخوار لأجل الأثر ممكن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 504

[سورة طه (20): آية 97]

قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)

و لا يوجب عذر من يعبد العجل، إذ لا عذر بعد تمام الحجة، أ رأيت لو جاء أحد الآن و قال: إن هذه الفأرة إلهكم، و على يده فأرة مصنوعة من النحاس لكنها تتحرك، هل يكون المعترف بكونها إلها معذورا؟

[98] ثم أعلن موسى عليه السّلام طرد السامري عن جماعة بني إسرائيل إلى الأبد قالَ للسامري فَاذْهَبْ من بيننا فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ فقد كان إذا مسه أحد أخذته الحمى عقوبة لما اقترف من صنع العجل، كما أن الماس كانت تأخذه الحمى بمسه السامري، فمعنى

لا مساس: لا أمس أحدا و لا يمسني أحد. و

قد ورد في الحديث أن السامري كان سخيا

و لذا لم يقتله موسى عليه السّلام وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لعذابك الشديد في يوم القيامة لَنْ تُخْلَفَهُ أي لن تخلف ذلك الوعد، بل يأتيك بالقطع و اليقين وَ انْظُرْ يا سامري إِلى إِلهِكَ أي العجل الذي كنت تسميه إلها الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً أي مقيما تعبده و ترشد الناس إلى عبادته لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار حتى يذوب ثُمَ لنبردنه بالمبرد حتى يصير كالتراب ثم لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِ أي البحر نَسْفاً أي لنذريه، و قد أراد عليه السّلام بذلك بيان أن الشي ء الذي يحرق بالنار، و يبرد، و ينسف في البحر لا يكون إلها، فإن بني إسرائيل قد علقت نفوسهم بما تنظر إليه عيونهم، فكان هذا العمل أدعى لردعهم عن عبادة العجل- و هذا العمل، من قبيل ما ذكرنا أن البليغ قد يظهر ما ينويه في العمل لتقريع المجرم، فإن العجل لم يكن مذنبا، أو يفهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 505

[سورة طه (20): الآيات 98 الى 101]

إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)

هذا العمل، و إنما أريد بذلك تقريع غيره-.

[99] إِنَّما إِلهُكُمُ يا بني إسرائيل اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو المستحق للعبادة، لا العجل المصنوع من الذهب وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أي أن علمه وسع كل شي ء، فهو عالم بكل شي ء، و إنما جي ء بهذه الصفة لبيان أن

أعمالكم كلها معلومة لديه، فلا يعمل الإنسان ما ينافي أمره و رضاه، كما أنه تعريض بالعجل الذي لا يعلم شيئا، كيف يكون إلها؟

[100] كَذلِكَ الذي قصصنا عليك يا رسول الله نبأ موسى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ من أخبار الأنبياء عليهم السّلام السابقين و أممهم و ما فيه عبرة و عظة وَ قَدْ آتَيْناكَ أي أعطيناك يا رسول الله مِنْ لَدُنَّا من عندنا، فنحن المصدر، لا إنا واسطة ذِكْراً أي القرآن الذي يذكر الناس بالمبدأ و المعاد، و سائر المعارف، مما هي مفطورة في خلقتهم، و إنما القرآن يذكرهم بها.

[101] مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أي عن هذا الذكر فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً حملا ثقيلا من الآثام و المعاصي.

[102] في حال كونهم خالِدِينَ فِيهِ في ثقل ذلك الحمل، و المراد الخلود في جزائه، و هو النار- بعلاقة السبب و المسبب-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 506

[سورة طه (20): الآيات 102 الى 104]

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)

وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي بئس الحمل حملهم، في ذلك اليوم المهول، فإنه حمل يوجب إدخالهم النار.

[103] ثم بين يوم القيامة بأنه يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ و الصور هو: البوق الذي ينفخ و يصيح فيه إسرافيل مخاطبا الأرواح لتلتحق بأجسادها، قائلا للناس: أحيوا بأمر الله سبحانه، و هي النفخة الثانية وَ نَحْشُرُ نجمع الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان يَوْمَئِذٍ أي من يوم النفخ زُرْقاً جمع أزرق، فإن الإنسان المكدر المهموم تعلو وجهه زرقة.

[104] يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يتكلمون بإخفات و سر، فإن

الإنسان إذا أخذته الدهشة أو الجلال لا يتكلم إلا خفية و نجوى، يقول بعضهم لبعض: إِنْ لَبِثْتُمْ ما بقيتم و مكثتم في الدنيا إِلَّا عَشْراً عشرة ليالي، فإنهم يقللون مدة لبثهم في الدنيا، و هكذا الإنسان يقلل ما مضى من عمره، كأنه شي ء يسير.

[105] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ لا يغيب عنا شي ء، و المراد أن سرهم لا يخفى علينا إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي أرشدهم في الحساب، و أصوبهم في الرأي إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أي ما بقيتم في الدنيا إلا يوما واحدا، و إنما كان أرشدهم لأن من كان أرشد يرى عمر الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 507

[سورة طه (20): الآيات 105 الى 108]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)

أقل، لما يرى من زوالها بسرعة.

[106] وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنِ الْجِبالِ ما حالها يوم القيامة فَقُلْ يا رسول الله يَنْسِفُها أي يقلعها و يدكها رَبِّي نَسْفاً و دكا،

فقد جاء رجل من ثقيف سائلا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمتها؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال، ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها «1»

[107] فَيَذَرُها أي يذر الجبال و يجعلها قاعاً أي أرضا ملساء منكشفة صَفْصَفاً أي مستوية لا علو فيها و لا نتوء، و الصفصف هو:

المستوي من الأرض.

[108] لا تَرى فِيها في تلك القاع المصفصف المكون من الجبال، حيث انتثرت على الأرض عِوَجاً اعوجاجا بالعلو و الانخفاض وَ

لا أَمْتاً أي أكمة، قالوا: العوج الانخفاض، و الأمت الارتفاع.

[109] يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة يَتَّبِعُونَ يتبع الناس الدَّاعِيَ الذي يدعوهم للحياة و للجمع في المحشر لا عِوَجَ لَهُ أي لا اعوجاج للداعي بحيث يدعو بعضا و يذر بعضا، و إنما دعوة عامة شاملة للجميع وَ خَشَعَتِ خضعت الْأَصْواتُ فلا ترتفع لِلرَّحْمنِ الذي يتفضل عليهم هناك كما تفضل عليهم هنا فَلا تَسْمَعُ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 508

[سورة طه (20): الآيات 109 الى 111]

يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)

من الناس، أيها السامع إِلَّا هَمْساً صوتا خفيا.

[110] يَوْمَئِذٍ في يوم القيامة لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ لأحد من المجرمين إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بأن يشفع له، أو يشفع، فهناك كل من الشافع و المشفوع له يلزم أن يكون بتعيين الله سبحانه وَ رَضِيَ الرحمن لَهُ لذلك الشافع أو المشفوع له قَوْلًا أي من كان مرضي القول، بأن كان مؤمنا له مقام الشفاعة بالنسبة إلى الشافع- و مؤمنا غير مستحق للعقاب القطعي- بالنسبة إلى المشفوع له.

[111] و ليس هناك الأمر اعتباطا، كالدنيا التي لا يعلم الحاكم فيها، ما يستحق المحكوم له، إن هناك في معرض الإله العالم بكل شي ء فإنه سبحانه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما عمل الإنسان و قدمه إلى الآخرة- في حياته- وَ ما خَلْفَهُمْ أي ما خلفوه في الدنيا من الآثار الصالحة أو الفاسدة وَ لا يُحِيطُونَ أولئك بِهِ أي بالله عِلْماً فهو يعلمهم، و

هم لا يعلمون منه إلا بقدر ما شاء.

[112] وَ هناك عَنَتِ أي خضعت و ذلت الْوُجُوهُ و إنما نسب الخضوع إلى الوجوه لأنها يظهر فيها أثر الخضوع لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ فليس ميتا لا يعلم، و لا غائبا لا يدرك، و إنما هو حي قائم على كل الأمور مطلع عليها وَ قَدْ خابَ خسر مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أي نوع من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 509

[سورة طه (20): الآيات 112 الى 114]

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً (112) وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)

الظلم كان شركا، أو عصيانا، فإنه يخسر ثواب الله سبحانه، و يخسر نفسه فيما لو أدخل النار.

[113] وَ أما مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الأعمال الصَّالِحاتِ مقابل من عمل ظلما وَ هُوَ مُؤْمِنٌ في العقيدة بما يلزم الإيمان به فَلا يَخافُ من الآخرة ظُلْماً إذ لا ظلم هناك على أحد، بل عدل و فضل وَ لا هَضْماً بأن يهضم من حقوقه و ينقص من ثوابه، و الظلم أن يعاقب بلا سبب، و الهضم أن ينقص من حسناته.

[114] وَ كَذلِكَ الذي أخبرناك من القصص و أخبار القيامة أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا هذا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا ليعرفه قومك، فإنه بلسانهم و لغتهم، لئلا يقولوا لم نكن نعلم وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي كررنا فيه من جنس الوعيد، و التصريف هو تحويل المعنى الواحد في قوالب متعددة للفائدة، و الوعيد هو الإيعاد بالنار و العقاب لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي

يتقي هؤلاء المعاصي و الآثام أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً بأن يذكرهم القرآن بمصائر الأمم المكذبة فيتذكرون و ينقطعون عن الكفر و الآثام، و الفرق بين الأمرين إن إحداث الذكر، مقدمة للتقوى، فإن الإنسان إذا تذكر كان معرضا لأن يتقي حيث يجيش في نفسه الخوف و ينتهي بالآخرة إلى التقوى.

[115] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ الذي عنت له الوجوه، و يعاقب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 510

[سورة طه (20): آية 115]

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)

المجرمين، و يثبت المطيعين، الذي أنزل القرآن ليكون درسا و تذكرة وَ قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية، فأنزل سبحانه لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ قراءة مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي يتم الوحي، بل أصبر حتى يتم جبرائيل ما جاء به ثم اقرأ ما جاء، و قضى بمعنى تم، كما قال سبحانه: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) «1» وَ قُلْ يا رسول الله، يا رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فإن العلم هو الاطلاع على الكون ما سبق و ما حضر و ما يأتي، و ذلك من أوسع الأمور، فالإحاطة به غير ميسور لغير الله سبحانه، و هو الذي هيأ الأسباب للبشر لتعلم بعضها، و لذا يأمر الله الرسول، بأن يدعو للزيادة في العلم، فإنه كلما زاد علم الإنسان، زادت قيمته و أجره و قربه من الله سبحانه- فيما لو عمل بما علم- [116] و بمناسبة مبادرة الرسول في تلاوة القرآن قبل أن يقضى إليه وحيه خوف النسيان، كما في سورة أخرى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «2» يأتي الكلام حول نسيان آدم عليه السّلام ما

عهد الله معه، وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ بأن لا يأكل من الشجرة إن أحب البقاء في الجنة، و قلنا له: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «3» مِنْ قَبْلُ أي سابقا فَنَسِيَ العهد، إما حقيقة، أو المراد أنه ترك العهد، فكان كالناسي، من قبيل (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) «4» و هذا أقرب إلى الاعتقاد بأن

______________________________

(1) النساء: 104.

(2) الأعلى: 7.

(3) طه: 119 و 120.

(4) التوبة: 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 511

[سورة طه (20): الآيات 116 الى 117]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117)

الأنبياء معصومون عن كل الخطأ و النسيان وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي تصميم رأي و ثبات أمر، أو المراد أنه لم يكن من الأنبياء أولي العزم، و هم خمسة: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد عليهم السّلام.

[117] و إذ جاء ذكر من آدم عليه السّلام ناسب السياق بيان قصته، كما قال سبحانه: (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) «1» و لأنه بدء الخلقة، و بعد ذلك يأتي الختام، ليناسب الجو العام للسورة، التي هي حول العقيدة.

وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ قولا لفظيا، بخلق صوت سمعوه، أو إلهاما و نقرا في القلب، و الملائكة مشتقة من «ألك» بمعنى الرسالة، و سموا بذلك لأنهم رسل الله سبحانه في أوامره و تبليغاته اسْجُدُوا لِآدَمَ إذا سويته و نفخت فيه من روحي فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ فإنه أَبى و امتنع من السجود كبرا و طغيانا.

[118] فَقُلْنا يا آدَمُ أي

قلنا لآدم بعد كبر الشيطان عن سجدته إِنَّ هذا الشيطان عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ حواء، يريد بكما الشر و الخديعة فلا تغترا به و احفظا أنفسكما عن كيده و مكره فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ أي لا يكون سبب خروجكما من الجنة بأن تطيعاه فيما نهى الله سبحانه- نهي تنزيه- ليكون مصيركما الخروج فَتَشْقى أي فتقع في

______________________________

(1) طه: 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 512

[سورة طه (20): الآيات 118 الى 120]

إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى (118) وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120)

تعب العمل و كد الاكتساب و زحمات الدنيا، فإن الشقاء التعب، كما تقدم في قوله: (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1» و إنما جاء بالمفرد لأن المخاطب آدم، و رعاية لرؤوس الآي، و إلا فالمراد شقاء كليهما.

[119] ثم بين سبحانه محاسن البقاء في الجنة التي تزول بالخروج منها، و قد كان الأمر للإرشاد كأوامر الطبيب الذي يقول إن عملت بهذه الوصفة، لم تمرض، فإن أمره إرشادي ليس بواجب و إنما تعود الفائدة إلى المريض بذاته إِنَّ لَكَ يا آدم أَلَّا تَجُوعَ فِيها أي في الجنة لسعة طعامها و عدم التعب في تناوله وَ لا تَعْرى لكثرة ثياب الجنة، فلا يبقى الإنسان فيها عاريا، و بحاجة إلى الكد و العمل لتحصيل الثياب.

[120] وَ أَنَّكَ يا آدم لا تَظْمَؤُا فِيها أي لا تعطش في الجنة لوفرة مياهها وَ لا تَضْحى يقال ضحى الرجل إذا برز للشمس، أي لا يصيبك حر الشمس.

[121] فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ أي ألقى في نفس آدم الشَّيْطانُ إلقاء خفية قالَ يا

آدَمُ إنك لا تبقى في الجنة أبدا إلا أن تعمل بوصيتي و تأخذ بإرشادي ف هَلْ أَدُلُّكَ و أعرفك عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ الشجرة التي من أكل منها خلد في الجنة و لم يخرج منها أبدا وَ مُلْكٍ لا يَبْلى لا

______________________________

(1) طه: 2 و 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 513

[سورة طه (20): آية 121]

فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121)

يفنى و لا يزول؟

[122] و قد مال آدم إلى كلامه، إذ أقسم له أنه ناصح مشفق، و لم يكن آدم سمع أحدا يحلف بالله كاذبا و حيث أمرهما بالأكل من الشجرة المنهية، تذكر آدم نهي الله سبحانه بقوله لهما: (وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) «1» لكن الشيطان تدارك الأمر و قال (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) «2» يعني أن النهي إنما هو لأجل أن تبقيان على حالتكما الإنسانية، فإذا أكلتما أصبحتما ملكين، و بالنتيجة نفذت المكيدة فيهما فَأَكَلا آدم و حواء مِنْها من تلك الشجرة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي ظهرت لهما عورتهما، حيث أن بمجرد الأكل، سقطت ملابسهما عن أبدانهما، كما قال سبحانه: (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) «3» و السوءة هي العورة وَ طَفِقا أي شرع آدم و حواء يَخْصِفانِ عَلَيْهِما يلصقان على أنفسهما- ليخرجا من العري و ظهور السوءة- مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ من أوراق أشجارها.

وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ خالف أمره الإرشادي، فإن الأمر على ثلاثة أقسام: الوجوبي، و الندبي، و الإرشادي، و في مخالفة كل منها يستعمل لفظ العصيان، يقول الطبيب لمريضه المخالف لإرشاده: لم عصيتني حتى يدوم مرضك؟ فَغَوى أي ضل الطريق المسعد له.

______________________________

(1) البقرة:

36.

(2) الأعراف: 21.

(3) الأعراف: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 514

[سورة طه (20): الآيات 122 الى 123]

ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى (123)

فإن الغواية ضلال الطريق، و هو كما يصح في مخالفة الوجوب، يصح في مخالفة الإرشاد، فإن الأكل من الشجرة سبب أن يخرج من الجنة، و أي ضلال عن السعادة أكبر من هذا؟

[123] فندم آدم مما فعله و عرف أن الشيطان غره و حلف بالله كاذبا، فأخذ يتوب و يبكي ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اصطفاه و اختاره لأن يكون نبيا و غفر ذنبه في مخالفته للأمر الإرشادي فَتابَ عَلَيْهِ التوبة هي الرجوع، فإن الإنسان العاصي يبتعد عن الله، و الله سبحانه يعرض عنه، فإذا ندم الإنسان و استغفر، و تاب إلى الله، تاب الله عليه و رجع إليه وَ هَدى أي هداه لمصالحه، و أراه الطريق الموجب لعودته إلى الجنة، بعد ما غوى و ضل الطريق.

[124] قالَ الله سبحانه اهْبِطا أيها الفريقان فريق آدم و حواء، و فريق الشيطان مِنْها أي اخرجا من الجنة جَمِيعاً كلكم، و الهبوط إما باعتبار علو الجنة حسا عن الأرض، و إما باعتبار علوها رتبة بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فإن الشيطان عدو لآدم و حواء، و هما عدوان له، و باعتبار آخر، أن الرجل و المرأة أيضا عدو بعضهم لبعض فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً «إن» للشرط و «ما» زائدة لتجميل الكلام، أي إن أتاكم من طرفي أسباب الهداية، بأن أمرتكم بأوامر تهديكم إلى طريق الحق في الدنيا، و السعادة في الآخرة فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ و أخذ

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 3، ص: 515

[سورة طه (20): الآيات 124 الى 126]

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126)

بأوامري و إرشاداتي فَلا يَضِلُ طريق السعادة، كما غوى آدم وَ لا يَشْقى لا يبقى في تعب و نصب كما شقي آدم أي وقع في النصب و التعب- و هذا خطاب عام لكل البشر، و إن كان طرف الخطاب هم الثلاثة-.

[125] وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي بأن لم يتبع أوامري، التي ذكرته بها، و سميت الأوامر ذكرا، لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها و جذورها فَإِنَّ لَهُ في الدنيا مَعِيشَةً ضَنْكاً ضيقة، و ذلك لأن أوامر الله سبحانه أكثر ملائمة للحياة، فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش ماديا أو روحيا و لذا نرى أن الكفار حتى في أوج ماديتهم الظاهرية في أضنك الحالات الروحية و أضيق المجالات النفسية وَ نَحْشُرُهُ نحشر المعرض، و معنى الحشر جمعه مع سائر بني نوعه في يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى العين، لا يرى شيئا، [126] و كم يتأذى الإنسان في ساحة مهولة مدتها خمسون ألف سنة، و فيها من الأهوال ما تذهل البصير فكيف بالأعمى، و لذا يسأل الكافر قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى أي لماذا أحضرتني في هذا الموقف أعمى البصر وَ الحال أني في الدنيا قَدْ كُنْتُ بَصِيراً أرى الأشياء؟

[127] قالَ الله في جوابه كَذلِكَ العمى الذي أصابك هنا. كما كنت في الدنيا، فقد كنت في الدنيا أعمى البصيرة، و لذا ابتليت هنا بعمي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 516

[سورة طه (20): الآيات 127 الى 128]

وَ

كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى (127) أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128)

البصر فقد أَتَتْكَ و جاءتك آياتُنا الدالة على وجودنا و سائر صفاتنا فَنَسِيتَها تركتها فعل الناسي بالمنسي، و أعرضت عنها و أغفلت بصيرتك دونها وَ كَذلِكَ أي كنسيانك عن الآيات الْيَوْمَ في القيامة تُنْسى تهمل و لا يعتنى بشأنك، بل تبقى في تعب العمى و نصب الأهوال المتراكمة التي تلقفك من هنا و هناك.

[128] وَ كَذلِكَ أي كما جزينا من نسي الآيات بالضنك و العمى و النسيان له نَجْزِي كل مَنْ أَسْرَفَ جاوز الحد بالكفر و العصيان وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بيان لقوله «من أسرف» أو لأن عدم الإيمان تسبقه حالة نفسية تجاوز به عن الحد وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ للمسرف أَشَدُّ من الضنك في الدنيا وَ أَبْقى أكثر بقاء، فإن الضنك في الدنيا هين زائل، أما عذاب الآخرة فهو شديد باق.

[129] ثم بين سبحانه أن الكفار في ضلالة حيث لم يعتبروا بما مضى من عذاب اللّه للأمم السالفة أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ استفهام إنكاري توبيخي، أي ألم يرشد هؤلاء كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ هذا فاعل يهد، أي إهلاكنا للقرون السابقة، لم يصر سببا لهداية هؤلاء إلى الحق، و خوفهم من العقاب في الدنيا أن تمادوا في غيهم و كفرهم يَمْشُونَ هؤلاء الكفار المعاصرين لك يا رسول الله فِي مَساكِنِهِمْ فقد كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 517

[سورة طه (20): الآيات 129 الى 130]

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما

يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)

كفار مكة يمرون بمساكن عاد و ثمود و قوم لوط عند ذهابهم إلى الشام، و يرون آثارهم و علاماتهم، كما قال سبحانه: (وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَ بِاللَّيْلِ) «1» أ فلا يخافون أن يصيبهم ما أصاب أولئك إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لأولئك لَآياتٍ لعبر و دلالات لِأُولِي النُّهى النهى جمع نهية، و هو العقل أي لأصحاب العقول، يعتبروا بها و لا يعملوا مثل أعمال أولئك حتى يبتلوا بمثل مصيرهم.

[130] وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب عن الكفار في الدنيا، فقد أراد الله سبحانه، و إرادته كلمته، أن لا يعذب هؤلاء في الدنيا بمثل عذاب الأمم السابقة، و لعل ذلك لأجل أن هذه الأمة تأتي بأولاد و ذراري صالحين، كما صار من أبي عامر «حنظلة» و من أبي سفيان «أم حبيبة» و هكذا، و الله سبحانه لا يعذب إلا إذا لم يكن صالح في ذرية الكافر كما قال سبحانه: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا) «2» و قال (وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) «3» لَكانَ العذاب لِزاماً لهم، و اللزام مصدر، وصف به كقولك زيد عدل وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عطف على «كلمة» أي لو لا الكلمة و الأجل المسمى أي المدة التي سميت لهؤلاء الكفار لكان العذاب لازما لهم.

[131] و إذ كان لهؤلاء الكفار مدة لا بد أن يقضوها حتى يأتيهم الموت، و إن الله لم يشأ هلاكهم مثل إهلاكه للأمم السابقة فَاصْبِرْ يا رسول الله

______________________________

(1) الصافات: 138 و 139.

(2) الفتح: 26.

(3) نوح: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 518

[سورة طه

(20): آية 131]

وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى (131)

عَلى ما يَقُولُونَ في شأن التوحيد و الرسالة و سائر أنواع أذاهم وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزه الله بالحمد، فإن الحمد ثناء و تنزيه- كما تقدم- قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صباحا وَ قَبْلَ غُرُوبِها أي عصرا وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ آناء الليل ساعاته، و هو جمع «إنى» على وزن «إلى» و لعل الإتيان ب «من» دون «في» لإفادة الابتداء و الشروع أي أشرع بالتسبيح من ساعات الليل وَ سبح أَطْرافَ النَّهارِ بالإضافة إلى قبل الغروب و الطلوع، كما بعد الطلوع و وقت الضحى، و أول الظهر و عند وقت العصر لَعَلَّكَ يا رسول الله تَرْضى فإن الإنسان الدائم الاتصال بالله، الذي يذكره صباحا و مساء و في ساعات الليل و ساعات النهار، تطمئن نفسه بالله، و يرضى لمقدراته و أحكامه و سنته لأن يكون عارفا بالله هادئا إلى ما قضى و قدر، فالرضا من ثمار التسبيح، كما قال سبحانه: (وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) «1» و (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) «2» ثم إن تكرار التسبيح لتعلق أحدهما بالصباح و المساء، و أحدهما بآناء الليل و أطراف النهار.

[132] اتصل بالله سبحانه و قر نفسا بفضله و لطفه و ذكره وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تنظر نظر رغبة و ميل- فإن الرؤية قسم من إمداد العين

______________________________

(1) التغابن: 12.

(2) الرعد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 519

نحو الشي ء لأن الإنسان يتصل بذلك الشي ء بواسطة إلقاء شعاع عينه عليه، و إن قلنا في مسألة الرؤية بالانطباع- إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ الضمير

يعود إلى «ما» أَزْواجاً أصنافا مِنْهُمْ من البشر أو من الكفار، و المعنى لا ترغب في الجاه و المال و البنين التي متع بها الناس، فإنها أمور زائلة فانية، و لا ينبغي للإنسان أن يرغب فيها، فإنما هي زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا الزهرة هي النور الذي يرون عند الرؤية، و لذا يقال لكل شي ء مستنير زاهر، و نصبها على كونها حالا من «ما» أي أن ما متعنا القوم، إنما هي بهجة الحياة العاجلة و نضارتها لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي نمتحنهم بسببه، و الضمير يعود إلى «ما» و جي ء ب «في» لأن الإنسان يعيش في وسط تلك البهجة و النضارة.

و ليس المعنى أن لا يرغب الإنسان في الحياة، بل المعنى أن لا يجعل الحياة منتهى نظره- بل ينظر إليها نظرا عرضيا، و لذا قال سبحانه: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) «1» وَ رِزْقُ رَبِّكَ الذي وعدك في الآخرة خَيْرٌ من متعة الحياة الدنيا وَ أَبْقى أي أكثر بقاء لأن الحياة الدنيا فانية، و تلك الحياة باقية، أو أن المراد، أن متع الكفار من الحرام، و رزق الله من الحلال خير لعدم العقاب فيه، و أبقى لأنه ذو بركة و بقاء بخلاف الحرام الذي لا بركة فيه، كما قال سبحانه: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ) «2»

______________________________

(1) البقرة: 202.

(2) البقرة: 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 520

[سورة طه (20): الآيات 132 الى 133]

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133)

[133] و إذا توجهت أنت إلى

الله سبحانه و لم تمد عينيك إلى زهرة الحياة، فاللازم أن توجه عائلتك إلى الله سبحانه، كما توجهت أنت وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ فإنها عمود الدين، و الصلة بين الله و بين العبد وَ اصْطَبِرْ أي اصبر، و كأن الاصطبار أقوى دلالة من الصبر. لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. عَلَيْها على الصلاة فإن فيها صعوبة التكرار كل يوم خمس مرات، مما لا يتأتى إلا بصبر طويل، و لعل تخصيص الأهل، لكونهم الأسوة، و لفرض تعليم المسلمين فإن الواجب على المسلم أن يبدأ بأهله، ثم بين سبحانه أن هذا التكليف ليس مستلزما للمشقة كطلب سائر الموالي من عبيدهم أن يكتسبوا لهم و يأتوا لهم بالرزق لا نَسْئَلُكَ يا رسول الله رِزْقاً بل عبادة و طاعة نَحْنُ نَرْزُقُكَ فإن من يرزق لا يطلب الرزق وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى فرزقك في الحياة علينا، و عاقبتك في الآخرة على التقوى، و في الأحاديث ما حاصله أن الله و كل أمر الدنيا إلى نفسه، و أمر الآخرة إلى الناس، فاللازم أن يعمل الإنسان حتى ينال سعادة الآخرة.

[134] و في ختام السورة يأتي الحديث عن المتكبرين و الكفار الذين لا يؤمنون و يأتون بحجج واهية، حيث أن الجو العام للسورة كان حول العقيدة، و المؤمنين و المكذبين وَ قالُوا يعني الكفار لَوْ لا أي لماذا لا يَأْتِينا الرسول بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي بخارقة نقترحها عليه؟

فقد كانوا يقترحون خوارق تعنتا لا حقيقة و استظهارا أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 521

[سورة طه (20): الآيات 134 الى 135]

وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ

نَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى (135)

ألم تصل إليهم بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى بيان ما في الكتب الأولى من أخبار الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فما ذا يؤمنهم أن يكون حالهم كحال أولئك الأمم، إذا جئناهم بآية كفروا، فتحل عليهم العقوبة؟ أو المراد إنا جئناهم بآية، و هي القرآن الذي هو مشتمل على الحجج التي كانت في الصحف السابقة، و هل من بينة و حجة بعد القرآن؟ و «بينة» صفة «آية» المقدرة، أي الآية البينة- بمعنى الواضحة-.

[135] لقد تمت على هؤلاء الحجة بنزول القرآن، فإن يهلكوا بعد ذلك، و يدخلوا النار، فليس إلا من أنفسهم و لسوء تلقيهم للآيات وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ أي أهلكنا هؤلاء الكفار بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن أو من قبل الرسول- أهلكناهم بأعمالهم السيئة، و بكفرهم- لَقالُوا و احتجوا على الله سبحانه يا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أي لماذا لم ترسل إلينا من يبين لنا أوامرك فَنَتَّبِعَ آياتِكَ و نعمل بما فيها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ بالعذاب وَ نَخْزى من النار؟ و قد كان حينذاك الحق معهم، فكيف يعذب من لم يتم عليه الحجة؟ أما و قد أرسلنا الرسول و عصوا، فإنهم قد استحقوا العذاب و لو عذبناهم لا مجال لهم للاحتجاج.

[136] و إذ قد تمت الحجة عليهم، و لم يؤمنوا، فلينتظروا العذاب قُلْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 522

يا رسول الله لهم كُلٌ أيّ واحد منا و منكم مُتَرَبِّصٌ منتظر ليرى المصير، و ينظر لمن الغلب، و أينا يعذب و أينا ينعم؟ فَتَرَبَّصُوا أي فانتظروا أيها الكفار- و هذا أمر للتهديد- فَسَتَعْلَمُونَ

إذا متّم مَنْ منا و منكم أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ أي الطريق المستقيم، و الدين الصحيح وَ مَنِ اهْتَدى إلى الحق، هل نحن أم أنتم؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 523

تقريب القران الى الأذهان الجزء السّابع عشر من آية (1) سورة الأنبياء إلى آية (79) سورة الحج

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 524

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 525

21 سورة الأنبياء مكية/ آياتها (113)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على ذكر الأنبياء عليهم السّلام و قصصهم، و هذه السورة كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، الألوهية، و الرسالة، و المعاد و حيث ختمت سورة «طه» بالوعيد، فتحت هذه السورة بذكر القيامة التي هي محل الثواب و العذاب.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أستعين باسم الله ليكون الله معينا، و إنما الإتيان بالاسم، دون «بالله» لإفادة سمو المسمى حتى كأنه أرفع من أن يستعان به، كما في الدعاء «لاذ الفقراء بجنابك» و الجناب هو العتبة، لإيهام أن الله سبحانه أسمى من أن يلوذ بذاته الفقراء، و هو الرحمن الرحيم الذي يترحم على عباده بالفضل عليهم، فهو يعين بفضله من استعان به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 526

[سورة الأنبياء (21): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)

[2] اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ الاقتراب: افتعال من القرب، يعني قرب وقت حساب الناس، و

المراد به إما القبر، و إما الموت فإن كليهما قريب و إن ظن الإنسان بعدهما، و لذا

قال الرسول: بعثت أنا و الساعة كهاتين- و أشار بإصبعيه-

وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ عن الساعة لا يستعدون لها و لأهوالها بالأعمال الصالحة مُعْرِضُونَ عن التذكر و الاستعداد.

[3] ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ أي جديد، كالآيات التي تنزل، و الأحكام التي توحى، لأجل تذكيرهم و إرشادهم إِلَّا اسْتَمَعُوهُ مجرد سماع بآذانهم وَ هُمْ يَلْعَبُونَ مشغولون باللعب، لا يبالون بالذكر، فإن الدنيا لعب و لهو.

[4] في حال كونهم لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي أن قلوبهم في لهو، و هو مقابل الجد، فآذانهم تسمع، و قلوبهم لا تطيع وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي إن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، أخذ يناجي بعضهم بعضا في شأن القرآن و الرسول يقولون هَلْ هذا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ استفهام إنكاري، أي ليس الرسول إلا أحد أفراد البشر فكيف يدعي النبوة؟ و كيف يؤمن به الناس، و الحال أنه ليس من الملائكة حتى يليق بهذا المنصب الذي يدعيه، ثم أرادوا زيادة تنفير الناس عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقول بعضهم لبعض أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 527

[سورة الأنبياء (21): الآيات 4 الى 5]

قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)

كيف تقبلون السحر الذي أتى به محمد، و تأتون بمعنى تذهبون إلى السحر وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ و الحال أنتم ترون أنه سحر.

[5] قالَ رسول الله صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم في جواب هؤلاء، و كان الإتيان بالفعل الماضي لإشعارهم بعدم أهمية إشكالهم، فإذا أشكل عليك إنسان تقول: قلت لك سابقا، تريد أن هذا الإشكال ليس بالجديد، و إنما قد أكل الدهر عليه و شرب رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ أي يعلم كل ما يقال حول القرآن و الرسول، في جملة سائر الأقوال التي يعلمها فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ فأين ما كان القول يعلمه و لا يغيب عنه، و هذا كالتهديد، بأن أقوالهم محفوظة سيجازون عليها وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم التي يتناجون بها الْعَلِيمُ بأفعالهم و ضمائرهم.

[6] إنهم ما آمنوا بالرسول و القرآن بَلْ قالُوا حول القرآن إنه أَضْغاثُ أَحْلامٍ أضغاث جمع ضغث، و هو: الخلط من الشي ء، و الأحلام جمع حلم، و هو: المنام، يعني: إن الرسول يرى في المنام أحلاما مضطربة فيلفقها و يصنعها قرآنا بَلْ قال بعضهم افْتَراهُ فليس الله نزل شيئا و إنما هو يكذب على الله سبحانه في نسبة القرآن إليه بَلْ قال جماعة هُوَ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاعِرٌ و أن القرآن شعر، فقد كان القرآن بهرهم لا يدرون ماذا يقولون حوله، فمرة يقولون حلم، و أخرى كذب عن عمد، و ثالثة شعر و رابعة سحر و هكذا فَلْيَأْتِنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إن كان صادقا بِآيَةٍ خارقة تدل على صدقه، كما زود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 528

[سورة الأنبياء (21): الآيات 6 الى 7]

ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7)

موسى بالعصا، و صالح بالناقة و هكذا كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ من

الأنبياء عليهم السّلام بمثل هذه الآيات.

[7] و قد أجابهم الله سبحانه في طلبهم هذا بأنه ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية أَهْلَكْناها لتكذيبها الأنبياء عليهم السّلام، بعد ما أعطيناهم الآيات المقترحة، كما أرادوها أَ فَهُمْ أي فهل بعد أولئك هؤلاء المقترحون يُؤْمِنُونَ كلا إنهم كالأمم السابقة، لا يؤمنون و إن أرسلنا إليهم مثل تلك الآيات، فإن الإنسان نوع واحد، و ما كان عليه السابقون هو الذي يكون عليه اللاحقون، فإن أرادوا الحجة فقد تمت عليهم، و إن أرادوا العناد، فالمعاند لا يؤمن مهما كان.

[8] أما ما ذكروا من أنك بشر و كيف يكون البشر رسولا؟ فإن الأنبياء عليهم السّلام السابقين أيضا كانوا بشرا وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا رسول الله إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فهم بشر يمتازون عن سائر الناس بما أوحى إليهم فَسْئَلُوا أيها الكفار المجادلون أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتاب، و يسمون بأهل الذكر، لأن الكتاب يسمى ذكرا، حيث إنه يذكر الناس بما أودع في فطرتهم من المبدأ و المعاد و المعارف إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فإنهم يجيبون بأن الأنبياء عليهم السّلام كانوا بشرا، و ما روي من تفسير الآية بالأئمة عليهم السّلام فإنه من باب المصداق الظاهر بالنسبة إلى هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 529

[سورة الأنبياء (21): الآيات 8 الى 9]

وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)

الأمة، فإن الأئمة عليهم السّلام هم أهل الكتاب الذين يعلمونه و يعرفون حدوده و أحكامه، كما أن العلماء و من إليهم أيضا من أهل الذكر.

[9] و قد كان الكفار يقولون (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ

يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) «1» ظانين أن الرسول يجب أن لا يأكل و لا يمشي، فردهم الله سبحانه بأن الأنبياء عليهم السّلام السابقين كانوا كذلك وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً أي أجسادا، و إنما جي ء بالمفرد باعتبار كل واحد لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ و الجسد يطلق على الميت، أو ما يشبهه، كأنه أخذ فيه معنى الفراغ من الروح أو الطعام وَ ما كانُوا أولئك الأنبياء خالِدِينَ لا يموتون، بل كانوا يعيشون حياة البشر، و يموتون مماتهم، و أنت يا رسول الله أحدهم فلا مجال لقولهم كيف يكون الرسول بشرا؟

[10] و لا يهمك يا رسول الله تكذيب هؤلاء فإن العاقبة المنتظرة لك، كما إن الأنبياء السابقين كانت لهم العاقبة الحميدة ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ بأن وفينا بوعدنا لهم، حيث وعدناهم (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) «2» و نصرناهم في خاتمة المطاف فَأَنْجَيْناهُمْ من كيد الأعداء وَ أنجينا مَنْ نَشاءُ من المؤمنين بهم، كما حدث في قصة نوح و موسى و إبراهيم و لوط و عيسى و غيرهم وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا في الكفر

______________________________

(1) الفرقان: 8.

(2) غافر: 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 530

[سورة الأنبياء (21): الآيات 10 الى 12]

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (10) وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12)

و المعاصي، و هذا بشارة للنبي و المؤمنين، و تهديد للكفار، و نحن إذ نقرأ هذه الآية نرى أن الله سبحانه صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الوعد فقد أنجاه و المؤمنين و نصره على الكفار، و أهلك المسرفين، كما وعده هنا، و قد مرّ على القصة أربعة عشر قرنا،

إذ السورة مكية- كما سبق- [11] و ما لهؤلاء الكفار لا يعقلون،؟ إنهم إن عقلوا علموا أن هذا الكتاب الذي يحاربونه أشد محاربة كتاب فيه شرف لهم إن آمنوا به لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ أيها العرب كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي شرفكم إن تمسكتم به فإنه يخلد ذكركم و مزاياكم أَ فَلا تَعْقِلُونَ هذا الأمر الواضح؟ فتتبعون الكتاب و تتمسكون به.

[12] و إن أعرضتم و لم يعظكم التبشير و التخويف فانتظروا عاقبة المكذبين وَ كَمْ قَصَمْنا أي أهلكنا، و أصل القصم كسر الظهر الذي يكون مع الصوت مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً أي ما أكثر ما أهلكنا و عذبنا أهل القرى الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و المعاصي وَ أَنْشَأْنا أوجدنا بَعْدَها أي بعد تلك القرية، بمعنى بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ فنحن لسنا بحاجة إلى أحد، و لا يصعب علينا تبديل أناس بأناس.

[13] و حيث أردنا إهلاك القرية فجاءهم آثار العذاب أخذوا يفرقون من العذاب فَلَمَّا أَحَسُّوا أي أدركوا بحواسهم بَأْسَنا عذابنا إِذا هُمْ مِنْها أي من العقوبة، أو من القرية يَرْكُضُونَ هاربين من العذاب،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 531

[سورة الأنبياء (21): الآيات 13 الى 15]

لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)

كما جرت العادة بأن الإنسان إذا رأى العذاب قد جاء من ناحية يركض هاربا منه لئلا يشمله.

[14] لكن هل كان فرارهم و ركضهم نافعا؟ كلا! فقد كان لسان الحال يقول لهم- حين ذاك- لا تَرْكُضُوا فإن الفرار لا ينفع وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ أي: أسباب ترفكم من زخارف الدنيا وَ مَساكِنِكُمْ ارجعوا

إلى بيوتكم، فأين تفرون و تتركون هذه الأشياء النفيسة؟ و قد كان هذا القول لهم من باب التقريع و الاستهزاء لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ فإن الإنسان المترف الذي في منزله يسأله الناس الحوائج، فارجعوا إلى محلكم و جاهكم الذي كان يقف الناس لأجله على أبوابكم يسألون الحوائج.

[15] و لم يعد عند فرارهم جواب منهم على هذا الاستهزاء، بل قالُوا: يا وَيْلَنا أي يا سوء حالنا، أو يا قوم ويلنا، و الويل كلمة يقولها من يطلب الهلاك تضجرا من الحالة التي هو فيها، فالمعنى يا ويل احضر فهذا وقتك أو يا قوم إن ويلنا حضر إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا حيث لم نؤمن و كذبنا الأنبياء.

[16] فَما زالَتْ تِلْكَ الكلمة، أي يا ويلنا دَعْواهُمْ أي دعاءهم و ذكرهم حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي محصودا قد شملهم العذاب الذي فروا منه، حتى كأنهم السنبل المحصود الذي يقطع فلا حياة فيه خامِدِينَ ساكني الحركات، من خمد ضد اشتعل، فكأنهم لم يكونوا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 532

[سورة الأنبياء (21): الآيات 16 الى 18]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)

[17] إن الكفار بلهوهم و لعبهم يزعمون أنهم خلقوا للهو و اللعب بينما إن الكون كله خلق للجد و لغايات و حكم عالية، فكيف يصرف هؤلاء عمرهم لهوا، و يزعمون أن القرآن و الرسالة لعب، ما يأتيهم ذكر إلا و هم يلعبون لاهية قلوبهم، كما قال قائلهم:

لعبت هاشم بالملك فلاخبر جاء و لا وحي نزل

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما

بَيْنَهُما من المخلوقات و الموجودات لاعِبِينَ في حال كوننا لاعبين في خلقتها، بل إنما خلقت للجد و للغرض الصحيح، بأن تكون نعمة و دلالة و مقدمة للثواب الدائم.

[18] لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً بأن أردنا أن نلعب و نلهو- على فرض المحال- لَاتَّخَذْناهُ أي جعلنا اللهو مِنْ لَدُنَّا فإن كل لاعب يكون لعبه ملائما لذات اللاعب، فالرجل الكبير يلعب بالكرة، لا بالدمية، عكس الطفل الذي يلعب بالدمية، و الملك يلهو بالصيد، لا بأخذ الذباب، كما يلهو به الشحاذ، و هكذا لو أراد الله سبحانه أن يتخذ اللهو لكان لهوه من جنس الروحانيات المرتبطة بعالم الله، لا من الماديات الخارجة عن مقامه الرفيع إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ لاتخاذ اللهو، تأكيد لعدم أخذه اللهو، و بعضهم جعل «إن» نافية، أي ما كنا فاعلين.

[19] بَلْ إنا نبطل اللهو و الباطل، فإن الإنسان لم يخلق لأجلها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 533

[سورة الأنبياء (21): الآيات 19 الى 20]

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)

و لا خلقنا سائر المخلوقات للهو حتى نترك اللهو بحاله ف نَقْذِفُ بِالْحَقِ أي نرمي الحق- كالرامي الذي يرمي الهدف من بعيد، و فيه دلالة على شدة الضرب- عَلَى الْباطِلِ أيّا ما كان لهوا أو غير لهو فَيَدْمَغُهُ يبطله و يفنيه و يمحقه فَإِذا هُوَ أي الباطل زاهِقٌ زائل مضمحل وَ لَكُمُ أيها الكفار الْوَيْلُ و العذاب مِمَّا تَصِفُونَ الله به من أن يتخذ اللهو و الباطل، أو مما تصفون به القرآن من أنه سحر أو شعر أو أحلام أو ما أشبه.

[20] و كيف يستكبر هؤلاء عن الخضوع لله

سبحانه، و الحال أنه الملك المطلق، و أن الذين هم أشرف منهم لا يستكبرون عن عبادته؟ وَ لَهُ سبحانه مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من العقلاء، فكيف بغيرهم؟ أو غلب العقلاء على غيرهم، فإن الإنسان في الأرض، و الملائكة في السماء له تعالى، و كذلك سائر الأشياء وَ مَنْ عِنْدَهُ أي الملائكة و المراد ب عِنْدَهُ القرب المعنوي تشبيها له بالقرب الحسي لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي لا يأنفون و لا يترفعون أن يعبدوه و يطيعوا أوامره وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ الاستحسار الانقطاع من الإعياء، يقال:

استحسر فلان عن عمله، يعني انقطع عنه إعياء، أي إن الملائكة لا يعيون عن العبادة بل إنهم دائمو التعبد.

[21] و لذا قال يُسَبِّحُونَ الله تعالى، أي ينزهونه عما لا يليق بشأنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 534

[سورة الأنبياء (21): الآيات 21 الى 22]

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)

اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أي فيهما، و الإسناد مجازي، نحو «يا سارق الليلة أهل الدار» لا يَفْتُرُونَ أي لا يأخذهم الفتور و الضعف عن العبادة، هذا حال الملائكة الذين هم أشرف من هؤلاء، فكيف يستكبر هؤلاء؟

[22] و حيث فرغ السياق من تقريع الكفار، حول قولهم عن القرآن و الرسول، و استكبارهم عن عبادة الله سبحانه، أخذ في تقريعهم حول فعلتهم الأخرى، و هي جعل الشركاء لله سبحانه أَمِ اتَّخَذُوا هذا استفهام توبيخي، أي كيف اتخذ هؤلاء الكفار آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ و هي: الأصنام المنحوتة منها، فإن كل صنم من أصل أرضي، و هل الإله يكون من جنس الأرض؟ فهل هُمْ يُنْشِرُونَ أي يقدرون على نشر الأموات، و إحيائهم،

كلا! إذن فليسوا هم آلهة، لأن من أول صفات الإله أن يقدر على إحياء الميت، و هذا من التهكم، كما تقول:

إن فلانا يقتدي بالعالم العامل زيد، تريد التهكم بالمقتدي و المقتدى فتأتي بصفة العالم العامل لزيد- و هو خالي عنهما- تهكما.

[23] ثم استدل سبحانه على استحالة تعدد الآلهة لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ المراد إلهان، فأكثر إِلَّا اللَّهُ أي متصفة بكونها غير الله، و المراد انه لو كان من هذا الجنس أحد غير الله لَفَسَدَتا أي فسدت السماوات و الأرض و ما استقامتا، و المراد بالظرف أعم من المظروف- كما تقدم- و حيث نرى أنهما باقيتان مستقيمتان نستدل بذلك- استدلالا آنيا، أي استدلالا من المعلول إلى العلة- على أنه ليس في الوجود أكثر من إله واحد هو الله سبحانه، و إنما يلازم تعدد الآلهة الفساد، ثم إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 535

الاستدلال على عدم التعدد من وجهين: الأول من ناحية الذات، و الثاني من ناحية اللوازم.

أما الأول: و هو من ناحية الذات، تقريره أنه لو كان إلهان لكان بينهما جامع و لكل منهما مائز، و الجامع غير المائز، فيلزم تركب الإله، و كل تركيب مستلزم لعدم الألوهية، إذ المركب يحتاج إلى الأجزاء و إلى المركّب، و المحتاج مسبوق بالغير، و المسبوق بالغير ممكن لا واجب فليس بإله.

و أما الثاني و هو من ناحية اللوازم، تقريره أنه لو كان إلهان هل يعقل تخالفهما في الإرادة- كأن يريد هذا إحياء زيد و الآخر عدم حياته- أم لا يعقل؟ و كل من المعقولية و عدمها مستلزم لعدم التعدد، أما لو كان تخالفهما في الإرادة معقولا فلا يخرج الحال عن ثلاثة أمور:

إما أن يقع مرادها و هو محال

لاستلزامه اجتماع النقيضين. و إما أن لا يقع مرادهما و هو محال لاستلزامه ارتفاع النقيضين. و إما أن يقع مراد أحدهما، و ذلك مستلزم لعدم كون الآخر إلها لأنه محدود القدرة مغلوب على أمره، و أما لو كان تخالفهما في الإرادة غير معقول فليس ذلك لاستحالة ذاتية في مراد أحد الإلهين- كإحياء زيد- و إنما الاستحالة ناشئة من مخالفة الإله الآخر، و ذلك يستلزم العجز الملازم للإمكان، فهذا الإله الذي لا يعقل أن يريد إحياء زيد عاجز، و العاجز لا يكون إلها، لما تقرر في علم الكلام من أن العاجز لا يعقل أن يكون إلها إذ بساطة الوجود في الإله، و إمكان المهية في المقابل، و وحدة نسبة الإله إلى جميع الممكنات، مستلزم للقدرة المطلقة، و بهذا التقرير تبين: أن الدليل لا يتوقف على تخالف الإرادة خارجا، حتى يقال إنهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 536

[سورة الأنبياء (21): الآيات 23 الى 24]

لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)

حكيمان فلا يتخالفان في الإرادة.

فلو فرضنا- مستحيلا- أن هناك إلهين، كان اللازم أن يستقل كل في مراده، و ذلك مستلزم للفساد إذ يريد هذا المطر، و ذاك عدمه مثلا، فيتنازعان مما يؤدي إلى فساد العالم فَسُبْحانَ أي أنزه اللَّهُ تنزيها عما لا يليق به رَبِّ الْعَرْشِ أي مالك الكون، فإن العرش كناية عن الملك، و هناك عرش عظيم جدا، هو الله مالكه، و قد جعله موضع تشريفه للملائكة، كما جعل البيت الحرام موضع تشريفه للبشر عَمَّا يَصِفُونَ الله به- هؤلاء الكفار- من الشريك،

فيقولون إن الله متصف بأن له شريك.

[24] إنه تعالى لكون جميع أفعاله عن حكمة و صواب و صلاح لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي ليس له شأنية أن يسأل، إذ الحكيم لا يسأل عنه: لم تفعل؟

فهو من قبيل «لا ريب فيه» الذي كان معناه ليس بموضع ريب و إن ارتاب فيه المبطلون وَ هُمْ أي البشر أو الكفار يُسْئَلُونَ عما فعلوا لأنهم عبيد مملوكون يخطئون كما يصيبون، و المخطئ يسأل و يحاسب.

[25] و بعد أن استدل القرآن على بطلان التعدد، يأتي السياق ليسأل القائلين بذلك: ما دليلهم؟ فمن ادعى شيئا لا بد و أن يقيم له الدليل، و هؤلاء المشركون لا دليل لهم على ذلك، حتى الدليل الواهي أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي بل اتخذوا لله شركاء قُلْ يا رسول الله لهم هاتُوا أي ائتوا بُرْهانَكُمْ و دليلكم على تعدد الآلهة، لكنهم لا يأتون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 537

[سورة الأنبياء (21): الآيات 25 الى 26]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26)

بالدليل، إلا قولهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) «1» و هل فعل الآباء يكون دليلا و حجة؟

هذا القرآن ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين و ليس فيه دلالة على الشرك وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من الأنبياء و المؤمنين و ليس في ذلك ما يدل على الشرك، فمن أين جئتم أيها المشركون بالشرك؟ إن الذكر الذي أنزله الله على أنبيائه، الذي هو مجموع في القرآن، لا يشير إلى الشركاء، فالمدعي له يدعي الباطل، فلا دليل عقلي له- قل هاتوا برهانكم-

و لا دليل شرعي له- فهذا ذكر من معي و ذكر من قبلي و ليس فيه إلا التوحيد- فليس اتخاذهم للشركاء عن علم و دليل بَلْ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر البشر لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ الذي هو التوحيد فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن الحق مقبلون على الباطل.

[26] ثم بين سبحانه كيف أنزل الله الكتب حول التوحيد- بيانا لقوله هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي- وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله مِنْ رَسُولٍ «من» تفيد العموم في النفي، و تسمى زائدة، لصحة أن يقال «رسولا» إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ نحن ب أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وحدي لا شريك لي فَاعْبُدُونِ لي فقط دون غيري.

[27] و حيث بين القرآن الحكيم بعض عقائدهم الفاسدة حول التوحيد،

______________________________

(1) الزخرف: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 538

[سورة الأنبياء (21): الآيات 27 الى 29]

لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

و زيف عقيدتهم تعرض إلى عقيدة أخرى زائفة كانوا يعتقدونها، و هي أن لله سبحانه أولادا وَ قالُوا أي بعض الكفار اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً أي جنس الولد و مرادهم الملائكة سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها عن ذلك، فإن الولادة غير معقولة في حقه، و التبني غير صادق بالنسبة إليه بَلْ الملائكة الذين جعلوهم أولاد الله عِبادٌ مُكْرَمُونَ أكرمهم الله سبحانه و فضلهم على كثير من خلقه.

[28] لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لا يتكلمون إلا بما يأمرهم الله سبحانه، فقولهم إثر قوله، و اتباع أمره وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فأقوالهم و أفعالهم كلها

بأمر الله و إذنه، و من هذا شأنه لا يكون ولدا.

[29] و هو سبحانه محيط بهم إحاطة علم و قدرة ف يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي أمامهم، و ما عملوه و قدموه وَ ما خَلْفَهُمْ أي ورائهم و ما سيعملونه- و ذلك كناية عن الإحاطة بهم- وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى لا يتوسط الملائكة لإنجاء المجرم من عذاب الله، إلا لمن أراد الله أن يشفعوا له، فحتى شفاعتهم ليست ابتدائية، و إنما تابعة لرضى الله سبحانه وَ هُمْ أولئك الملائكة مِنْ خَشْيَتِهِ من خوف الله سبحانه مُشْفِقُونَ و وجلون، من أشفق بمعنى و جل و خاف.

[30] وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ من أولئك الملائكة الأطهار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 539

[سورة الأنبياء (21): آية 30]

أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (30)

إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ من دون الله فَذلِكَ القائل نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ فهم على طهارتهم و قربهم لا فرق بينهم و بين سائر العبيد في أن المدعي منهم للألوهية نصيبه جهنم، و لعل قسما من المشركين كانوا يعبدون الملائكة، كما يظهر من قوله سبحانه (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) «1» و لذا يأتي هذا الكلام الجازم بأنهم لا يدّعون الألوهية فكيف أنتم تقولون عنهم ذلك، و لو ادعاها أحدهم لجوزي بالنار كَذلِكَ الذي نجزي مدعي الألوهية نَجْزِي الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالكفر و العصيان.

[31] ثم يرجع السياق إلى بيان الآيات الكونية الدالة على قدرة الله و عمله و سائر صفاته فيقول سبحانه أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا استفهام تقريع و توبيخ أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا

رَتْقاً أي كانت كل واحدة منهما متصلة لا تمطر السماء و لا تنبت الأرض النبات، فحمل الرتق على السماوات و الأرض من باب زيد عدل فَفَتَقْناهُما أي شققناهما بإنزال المطر من السماء، فإن السماء- و هي جهة العلو- تشق بالمطر، و إنبات النبات من الأرض وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ فإن أصل الحياة و بقائها بالماء، و قد ناسبت هذه الجملة الجملة السابقة الدالة على فتق السماء بالمطر أَ فَلا يُؤْمِنُونَ بعد ما يرون من هذه الآيات

______________________________

(1) الزخرف: 82.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 540

[سورة الأنبياء (21): الآيات 31 الى 32]

وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32)

العظيمة، بالله سبحانه، فمن فتق السماء بالمطر؟ و من فتق الأرض بالنبات؟ و من أوجد الأشياء الحية من النبات؟

[32] وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جمع راسية، و هي الجبال الثوابت التي تمنع الأرض عن الحركة و الاضطراب، كراهة أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تتحرك، من ماد بمعنى تحرك، و ضمير بهم عائد إلى الناس وَ جَعَلْنا فِيها في الأرض أو في الجبال فِجاجاً سُبُلًا الفجاج جمع فج، و هو الطريق الواسع بين جبلين، و سبلا بدل منه، و كان تخصيص الفجاج بالذكر لأن الجبل الذي هو صلب لا يمكن قطعه إذا لم يكن فيها فجاج، كان سببا لقطع الاتصال بين طرفيه، فنعمته جعل الطريق فيها عظيمة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لكي يهتدي الناس إلى بلادهم و مصالحهم بسبب تلك الفجاج، أو لكي يهتدوا إلى خالق السماء بالتذكر و الاعتبار من هذه النعم و الآيات.

[33] وَ جَعَلْنَا السَّماءَ

سَقْفاً مَحْفُوظاً فإن طبقة الهواء التي تعلونا محفوظة عن الخلل، و إنما جعلت بمقياس دقيق في جميع شؤونها، و قال بعض علماء الفلك: أن الطبقة «النتروجينية» تحفظ الأرض من القذائف الجوية، فتجعلها رمادا منثورا لئلا تصل إلى الأرض فتؤذي أهلها، و السقف هو ما يعلو الإنسان أو المراد المحفوظ من الشياطين، فإنهم لا يقدرون من الوصول إليها. و استراق السمع، و قد حفظت بالشهب، كما قال سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 541

[سورة الأنبياء (21): الآيات 33 الى 34]

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) «1» وَ هُمْ أي البشر عَنْ آياتِها الكائنة فيها مُعْرِضُونَ فلا يستدلون بها على المؤثر العالم القدير.

[34] وَ هُوَ الله الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ فإن الظلمة شي ء مخلوقة بنفسها أو بخلق ضدها، و هي الضياء وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ و خصصا بالذكر مع أن الشمس هي المولدة للنهار، لعدم التلازم كما إذا سكنت الكرات فإن الشمس موجودة و لا نهار و لا ليل بهذه الكيفية الحالية كُلٌ من الشمس و القمر فِي فَلَكٍ أي مدار خاص به يَسْبَحُونَ تشبيه بالإنسان السابح في الماء، و إنما جي ء بلفظ العاقل حيث قال:

يسبحون. لأنه نسب إليهم فعل العقلاء و هو السباحة و لعل لهما عقلا، و لذا ورد في الدعاء خطابا للقمر «أيها الخلق المطيع»- إلى آخره-.

[35] إن الذي خلق الكون هو الذي خلق الحياة و الموت، و لا منجي لبشر من الموت، فليحسن البشر في حال الحياة، حتى لا يأتيه الموت، و

قد أسرف مما يسبب له سوء العاقبة وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله الْخُلْدَ أي الخلود و الدوام في الدنيا، و الخضر و عيسى أيضا ليسا من الخالدين، و إن امتدت بهما الحياة إلى مدة بعيدة أَ فَإِنْ مِتَ يا رسول الله أنت فَهُمُ الْخالِدُونَ استفهام إنكار، يعني إن انتظار هؤلاء لموتك غير صحيح إذ أنهم يموتون فما فائدة موتك لهم، حينما

______________________________

(1) الصافات: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 542

[سورة الأنبياء (21): الآيات 35 الى 36]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)

قالوا (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) «1» [36] كُلُّ نَفْسٍ أي حي ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي تذوق الموت، و تخرج عن الحياة وَ نَبْلُوكُمْ نمتحنكم أيها البشر و نختبر- و إن كان اختبار الله ليس لأن يعلم هو، فإنه تعالى عالم بكل شي ء، و إنما لأن يعرف نفس الشخص من هو و ما أعماله ليتم على الأشقياء الحجة، و تتم للسعداء السعادة- بِالشَّرِّ كالمرض و الفقر و موت الأقرباء و ما أشبه وَ الْخَيْرِ كالصحة و الغنى و الجاه و ما أشبه فِتْنَةً أي لأجل الامتحان، و المعنى نختبركم بالشدة و الرخاء لأجل الامتحان لنرى من يصبر عند البلاء و من يجزع، و من يشكر عند النعماء و من يبطر وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ إلى ثوابنا و عقابنا، و ذلك حين الموت، لأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، أو حين البعث، و هناك نجزي المحسن بالثواب و نعاقب المسي ء بالعذاب.

[37] و

بعد الكلام حول الإله يأتي الكلام حول الرسالة و المعاد و بيان أنهم كيف يستقبلون هذين الأصلين من أصول الإيمان وَ إِذا رَآكَ يا رسول الله الَّذِينَ كَفَرُوا و قد سبق منك أن عبت آلهتهم و سفهت أحلامهم و دعوتهم إلى التوحيد إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً سخرية و استهزاء، يقول بعضهم لبعض أَ هذَا محمد الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ

______________________________

(1) الطور: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 543

[سورة الأنبياء (21): الآيات 37 الى 38]

خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)

على طريق الاستفهام الاستهزائي، أي هل هو الشخص الذي يقول عن الآلهة إنها لا تنفع و لا تضر وَ هُمْ بينما يعتقدون بالآلهة الصنمية بِذِكْرِ الرَّحْمنِ الذي خلق و تفضل بالرحم هُمْ كافِرُونَ جاحدون، فأمرهم أدعى إلى العجب و الاستهزاء حيث يؤمنون بالجماد و يكفرون بإله الكون ..؟! [38] و قد كان الكفار يقولون للرسول لو كنت صادقا في أن مصير الكفر و التكذيب العذاب و النكال، فائتنا بذلك العذاب (وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) «1»؟ و يريدون بذلك الاستهزاء كما تقول لمن يهددك و لا يقدر على شي ء: افعل بما تهدد، فأجابهم الله سبحانه عن استعجالهم العذاب بقوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ يعني أنه من فرط استعجاله و قلة صبره كأنه خلق من جنس هو العجل، كما قال الشاعر في عكسه: «و لله مفطور من الصبر قلبه». و هذا من باب المبالغة و حمل المصدر على الذات، لإفادة تلبس الذات بالمصدر دائما و تلازمه معه غالبا سَأُرِيكُمْ آياتِي و الأدلة الدالة على صدق النبي في أن من لم يؤمن

يؤخذ بالعذاب، فإن العذاب آية من آيات الله فَلا تَسْتَعْجِلُونِ في طلب العذاب، فإنه إذا نزل بكم لا مناص لكم عنه و لا خلاص.

[39] وَ يَقُولُونَ الكفار مَتى هذَا الْوَعْدُ الوعد بالعذاب الذي يعدنا

______________________________

(1) يونس: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 544

[سورة الأنبياء (21): الآيات 39 الى 41]

لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)

محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو بقينا على كفرنا إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون صادِقِينَ في ادعائكم أن العذاب يأخذنا؟.

[40] لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ أي وقت العذاب، لعلموا صدق الرسول و المؤمنين و أنهم كانوا في غفلة و غرور، و قد حذف جواب «لو» تهويلا أن العذاب ليأخذهم من جميع جوانبهم، في صورة فجائية، فإذا بهم يخفون لدفع العذاب، بلمس اليد على وجوههم و ظهورهم، كالإنسان الذي يحترق فيكرر إمرار يده على وجهه و جسمه، ليحول دون الاحتراق، و لكن هناك لا تفيد هذه الحركات، فإنهم لا يَكُفُّونَ و لا يمنعون، بإمرار اليد عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ المشتعلة فيها وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ كما ينصر المحترق في الدنيا حيث يجتمع الناس عليه و يطفئون النار المشتعلة فيه.

[41] بَلْ تَأْتِيهِمْ النار بَغْتَةً أي فجأة، كما كانوا يطلبون استعجال العذاب، إنهم بمجرد الموت تحيط بهم النار فَتَبْهَتُهُمْ و تحيرهم كيف يصنعون فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي لا يقدرون على دفع النار التي أتتهم بغتة وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ لا يؤخرون

لوقت آخر ليحدثوا توبة، أو يفكروا في خلاص.

[42] و قد سبق أخذ العذاب أمما استهزءوا بأنبيائهم، بغتة، فليخف هؤلاء عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 545

[سورة الأنبياء (21): الآيات 42 الى 43]

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)

مثل ذلك المصير وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ يا رسول الله، و المستهزئ هم الأمم بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما يستهزئ هؤلاء بك، قائلين (أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) «1» فَحاقَ أي حل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي من تلك الأمم- و الضمير عائد إلى مقدر معلوم من السياق، نحو «لأبويه»- ما كانُوا أي و بال ما كانوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و المراد أنه حل بهم جزاء سخريتهم.

[43] إنهم قد اتخذوا الأصنام آلهة، فهل الأصنام تحفظهم من عقاب الله إذا جاءهم؟ قُلْ يا رسول الله لهؤلاء مَنْ يَكْلَؤُكُمْ من كلأ بمعنى حفظ، أي من هو الذي يحفظكم بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ أي من عذاب الله، إذا أراد أن يعذبكم و يأخذكم في ليل أو نهار، و هذا استفهام إنكاري، يعني لا حافظ من بأس الله، و كأن الإتيان بلفظ «الرحمن» لإفادة أنهم قد أغرقوا في العتو حتى استحقوا العقاب من الرحمن الذي شأنه التفضل و الترحم بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ لا يذكرون الله سبحانه حتى يخافوا عقابه و يفكروا في أنه لا عاصم منه إن أراد بهم عذابا و نكالا.

[44] إن هؤلاء يعتمدون في أمورهم على آلهتهم، فهل الآلهة تتمكن من

______________________________

(1) الأنبياء: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 546

[سورة الأنبياء (21): آية 44]

بَلْ مَتَّعْنا

هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ (44)

الوقوف أمام العذاب لتصده عن هؤلاء؟ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا أي أ فهل لهم آلهة لها شأنية الوقوف ضدا أمامهم لتمنع عذابنا عنهم؟ كلا! إن الآلهة لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ فإنها إذا أراد بها أحد شرا لا تتمكن من الدفاع عن نفسها، فكيف تدافع عن هؤلاء الذين يعبدونها، و جي ء بوصف العاقل للآلهة تمشيا مع اصطلاح القوم، و إلا فالآلهة لا تعقل و لا تدرك وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أي أن هذه الآلهة لا قوة لها من ذاتها، و لا أنها تستمد القوة منا حتى تتمكن من صنع العذاب بتلك القوة، فإنها ليست بصحبتنا حتى تستمد القوى منا، فإن الصاحب يستمد القوة من صاحبه، و هذا جدل تهكمي مع عباد الأصنام كما كانوا يستهزئون بالرسل- في عين أنه تقرير للحقيقة-.

[45] إن سبب كفران هؤلاء ليس لأجل اعتمادهم على الآلهة بَلْ لأجل إنا أنعمنا عليهم فطغوا، و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1» فقد مَتَّعْنا هؤُلاءِ الكفار بأنواع النعم وَ كذلك متعنا آباءَهُمْ من قبلهم، و ذلك أدعى للطغيان، فإن الفقير البائس واعي القلب متفتح النفس، أما من ربّي في النعيم من زمان أبيه إلى آخر عمره فإنه يطغى و ينسى حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فغرهم طول العمر و أسباب الرفاه، و قلبوا الشكر كفرا، لكن هؤلاء يلزم أن يعتبروا بمن هو أقوى و أشد، فهذه الدول من أطرافهم، كل يوم تقلص بخراب أطراف بلادها، و غزو

______________________________

(1) العلق: 7- 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 547

[سورة الأنبياء (21): الآيات 45 الى 46]

قُلْ إِنَّما

أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)

الأعداء لها حتى تكون خرائب بعد العمران، و مغلوبة بعد الغلبة و النصر، أ فهل من يقدر على ذلك لا يقدر على أن يسلب النعمة و الحياة من هؤلاء؟ أَ فَلا يَرَوْنَ أي ألا يرى هؤلاء الكفار الذين أفسدهم العمر الطويل في النعمة الموروثة أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي نتوجه إلى أرض الحكومات و بلادهم نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها فمن طرف خراب للعمران، و من طرف ذهاب بعدوان، و هذا كما يقال إن الدولة الإسلامية تقلصت، أو أن المسلمين نقصوا من أرض الكفار أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ استفهام إنكاري، أي فهل بعد عدم قدرة الدول على أن تمنع مشيئتنا حول أراضيها، هم يتمكنون من الامتناع عن قدرتنا، فيغلبون علينا في إرادتنا.

[46] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي بما يوحي إلي، بأنكم إذا لم تؤمنوا يأخذكم العذاب، ثم أضرب سبحانه بقوله وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ الصم جمع أصم، فإن الأصم لا يسمع نداء المنادي له، و هؤلاء كالأصم، فإنهم لا يسمعون الإنذار، و لا يعيرون له الاهتمام إِذا ما يُنْذَرُونَ أي في حال إنذارهم و تخويفهم.

[47] إن هؤلاء الكفار- اليوم- لا يعيرون الإنذار اهتماما، أما إذا جاءهم شي ء ضئيل من العذاب اعترفوا بأنهم كانوا في ضلالة وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ مجرد مس، و هو المرور على ظاهر الجسم نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 548

[سورة الأنبياء (21): آية 47]

وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها

وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ (47)

النفحة الوقعة اليسيرة كنفح الطيب الذي هو شي ء يسير من ريحه لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا أي يا قوم ويلنا، أو يا ويلنا أحضر فهذا وقتك- كما سبق- إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا حين لم نسمع دعوة الرسول.

[48] وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ فكأن الميزان قطعة من العدل، من شدة أنها تعدل في الوزن و «القسط» صفة الموازين، فإن المصدر يأتي وضعا للمفرد و التثنية و الجمع، بلفظ واحد، و المراد من الوضع إحضار تلك الموازين ذوات القسط لوزن الأعمال، و هل الموازين كموازين الدنيا، أم المراد بالموازين هم الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و من إليهم، أم هو كناية عن جزاء الأعمال حسب المقاييس المقررة- كما نقول فلان لا ميزان لكلامه- احتمالات؟ هذه الموازين هي لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فحينئذ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بأن ينقص من ثوابه، أو يزداد في عقابه وَ إِنْ كانَ عمله- المفهوم من السياق- مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي بقدر ثقل حبة من الخردل، و هو تشبيه في الصغر و الخفة أَتَيْنا بِها أي أحضرنا تلك الحبة، و المراد إدراجها في الحساب، حسنة كانت أم سيئة وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ «بنا» فاعل «كفى» دخل فيه الباء، لأنه في معنى متعلق الأمر، تقول «اكتف بزيد» و «حاسبين» حال من الضمير، أي إننا يكتفى بنا في الحساب لأعمال هؤلاء من جهة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 549

[سورة الأنبياء (21): الآيات 48 الى 50]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

عدم نسيان أي جزء من جزئيات أعمالهم، فلا حاجة

إلى محاسب آخر، و إنما نحسب لنجازي كل أحد قدر عمله.

[49] و حيث بين السياق قصة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع القوم، ذكر بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إتماما للحجة على الكفار، و تقريرا للأصول التي دعا إليها كل الأنبياء وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ أي الكتاب و البرهان الذي يفرق بين الحق و الباطل وَ ضِياءً أي أعطيناهما ما يضي ء درب الحياة السعيدة في الدنيا و الآخرة، لئلا يقع الناس في الضلال من جراء الظلمة وَ ذِكْراً يذكر البشر بما أودع في فطرته من العقيدة و المعارف لِلْمُتَّقِينَ فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك كله، أما غير المتقي عن عذاب الله، فإنه لا ينتفع.

[50] ثم بين المتقين بأنهم هم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي يخافون عذابه بِالْغَيْبِ فإن الإنسان لا يحس الله سبحانه بإحدى حواسه الخمسة، و مع ذلك يخشاه، فهو غائب عن الحواس، و لكنه مرهوب للمتقين وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ أي القيامة مُشْفِقُونَ خائفون و وجلون، لأنهم لا يدرون ماذا يصنع بهم.

[51] و كما آتينا موسى و هارون الكتاب، كذلك آتينا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هذا القرآن ذِكْرٌ مذكر للناس ما أودع في فطرتهم من الأصول و المعارف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 550

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 599

[سورة الأنبياء (21): الآيات 51 الى 54]

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ

أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54)

مُبارَكٌ يوجب البركة و النمو، لمن أخذ به أَنْزَلْناهُ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليذكر الناس و يباركهم أَ فَأَنْتُمْ أيها الكفار لَهُ مُنْكِرُونَ تنكرون كونه من عند الله، و هذا استفهام توبيخ و تقريع.

[52] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي الحجج و الأدلة التي توجب إرشاده إلى الحق مِنْ قَبْلُ من قبل موسى و هارون، و قبل القرآن وَ كُنَّا بِهِ بإبراهيم عالِمِينَ نعلم أنه صالح للنبوة و الرسالة.

[53] إِذْ قالَ إبراهيم عليه السّلام، و الظرف متعلق ب «آتينا» لِأَبِيهِ أي عمه آزر، فقد جرت العادة بتسمية العم أبا وَ قَوْمِهِ حين رآهم يعبدون الأصنام ما هذِهِ التَّماثِيلُ جمع تمثال، و هو الشي ء المصنوع الشبيه بشي ء من خلق الله سبحانه، سواء كان المشبه به إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو غيرها، و قد يعم فيطلق على الشبيه بخلق الإنسان، فصنع قصر صغير للعب الأطفال أو سيارة صغيرة كذلك يسمى تمثالا الَّتِي أَنْتُمْ أيها القوم لَها عاكِفُونَ أي مستمرون دائمون على عبادتها و الخضوع لها؟

[54] قالُوا في جواب إبراهيم وَجَدْنا آباءَنا لَها أي لهذه التماثيل- و المراد جنسها- عابِدِينَ فإنا قد قلدناهم في عبادتهم لها.

[55] قالَ إبراهيم عليه السّلام لهم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ أيها القوم وَ آباؤُكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 551

[سورة الأنبياء (21): الآيات 55 الى 57]

قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

الذين عبدوها قبلكم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح إذ كيف تعبدون ما لا

يسمع و لا يبصر و لا يغني عنكم شيئا؟.

[56] قالُوا أي القوم، لما رأوا من إبراهيم الإصرار على نبذ عبادة الأصنام أَ جِئْتَنا بِالْحَقِ أي هل أنت جاد في كلامك هذا محق عند نفسك تريد بيان الحق بزعمك أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ تمزح و تلعب في كلامك؟ فقد كانوا يستبعدون أن ينكر عليهم أحد عبادة الأصنام التي ألفوها منذ دهور.

[57] قالَ إبراهيم عليه السّلام في جوابهم، ما يفيد أنه جاد محق، و لكن غير مجرى الكلام ليكون جوابه مع الدليل و البرهان فلا يبقى محل للمناقشة بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فليست هذه أربابا لكم، و إنما هو الله الَّذِي فَطَرَهُنَ أي خلق السماوات و الأرض، و الإتيان بضمير العاقل، إما باعتبار تغليب العقلاء الموجودين فيهما و إما باعتبار أن لهما مرتبة من الإدراك و الشعور وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ «ذا» اشارة إلى المطلب المتقدم، و هو أن الرب هو اله السماء و الأرض و «كم» خطاب للقوم مِنَ الشَّاهِدِينَ أي أشهد بذلك، و هذا لتأكيد الأمر، و إلا فكل مخبر شاهد لما يخبر عنه، و كأن المراد أن إخباري ليس تقليدا و إنما عن حضور و شهادة.

[58] وَ تَاللَّهِ حلف بالله لتأكيد ما يقول، و التاء للتعجب، و إنما جي ء بها لصعوبة الأمر الذي نواه حتى أن الآتي به يستحق التعجب منه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 552

[سورة الأنبياء (21): الآيات 58 الى 59]

فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)

لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي أدبّرن تدبيرا خفيا في باب الأصنام، يسوؤكم ذلك، يقال: كاده إذا دبّر تدبيرا خفيا يوجب مساءته بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا

مُدْبِرِينَ أي تعرضوا عن المدينة جاعلين ظهوركم عليها تريدون الاجتماع في يوم عيدكم، فقد كان لهم في كل سنة عيد يخرجون إلى خارج المدينة لأجله فيجتمعون هناك، ثم إذا رجعوا دخلوا بيت الأصنام يسجدون لها، و لما أرادوا الخروج دعوا إبراهيم للخروج معهم فلم يخرج، فلما خرجوا جاء إلى بيت الأصنام و قد خلا من الناس.

[59] و أخذ فأسا بيده فَجَعَلَهُمْ أي الأصنام- و قد مر وجه الإتيان بضمير العاقل- جُذاذاً أي قطعة قطعة فهو فعال بمعنى مفعول كالحطام، و أصله من الجذ بمعنى القطع إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي كبير الأصنام، فإنه عليه السّلام لم يكسره، و إنما أبقاه على حاله، و المراد أكبرهم جسما، أو أكبرهم عظمة عند القوم، و قد علق الفأس في عنق ذلك الكبير، و إنما فعل ذلك لَعَلَّهُمْ أي القوم إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم يَرْجِعُونَ فيسألون عن الفاعل للتحطيم، فينبئهم على خطئهم في العبادة.

[60] و لما رجعوا و رأوا أن الأصنام قد حطمت و كسرت قالُوا قال بعضهم لبعض مَنْ فَعَلَ هذا الكسر و التحطيم بِآلِهَتِنا؟ على نحو الاستفهام الاستنكاري، أو أن من مبتدأ خبره إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ الذي ظلم نفسه و قومه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 553

[سورة الأنبياء (21): الآيات 60 الى 63]

قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)

[61] قالُوا أي قال بعضهم في جواب السائلين سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي أن في المدينة شابا يذكر الأصنام بسوء لعله هو الذي صنع هذا الصنيع يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ لا شأن له

و لا أهمية، و من هذا يظهر أن إبراهيم عليه السّلام كان شابا حينما فعل ذلك.

[62] قالُوا قال بعض القوم لآخرين فَأْتُوا بِهِ فجيئوا بإبراهيم عليه السّلام عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ بحيث يراه الناس و يكون بمشهدهم و الإتيان بلفظ «على» لعله لكون العين تستوعب الشخص فكأنه عليها لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ بما قاله إبراهيم في شأن الأصنام، فتكون شهادتهم حجة عليه لا يتمكن من الإنكار، عند إرادة عقابه جزاء لما فعل.

[63] فذهب بعض القوم، و جاءوا بإبراهيم عند الجماهير الحاضرة ف قالُوا لإبراهيم عليه السّلام أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا الفعل الشنيع: الكسر و التحطيم بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ على نحو الاستفهام التقريري.

[64] لكن إبراهيم تهكم منهم، و صاغ الجواب في قالب يلفتهم إلى خطأ اتخاذهم لها أربابا قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا الذي بقي سالما و على عنقه الفأس، و الكلام صدق إذ المقصود من الكلام هو الذي يجعله صادقا أو كاذبا، لا القالب المصنوع، ألا ترى أنك لو قلت للبخيل «إنه كريم» لم يكن كذبا، حيث تريد بذلك التهكم، و كذا لو قلت لرجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 554

[سورة الأنبياء (21): الآيات 64 الى 65]

فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)

شجاع «أنه أسد» لو أردت المجاز، ثم ألفت إبراهيم، إلى موضع العبرة و الحجة بقوله فَسْئَلُوهُمْ أيها القوم، عمن فعل بهم هذا العمل إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فإنهم يخبرونكم عمن فعل بهم هذا، و قد أراد عليه السّلام بذلك إلفاتهم إلى أنهم كيف يتخذون الأصنام آلهة، و هي لا تنطق و لا تعلم من فعل بهم الكسر و التحطيم، و إلى ما ذكرنا في معنى

الآية تشير

الرواية الواردة في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: إنما قال بل فعله كبيرهم، إرادة الإصلاح، و دلالة على أنهم لا يفعلون «1»

[65] و هنا أخذت الموعظة مأخذها، و عمل التنبيه مفعوله فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي إلى أن القوم قال بعضهم لبعض، أو تفكروا في نفوسهم فَقالُوا إِنَّكُمْ أيها القوم أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسكم حيث تعبدون هذه الأصنام التي لا تقدر على دفع العدو عن نفسها، و حتى على النطق و إظهار من فعل الكسر بها.

[66] ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ كما هو عادة الذي قد تمت عليه الحجة فلا جواب له، و المراد نكسوا رؤوسهم، لكن فاعل النكس لم يظهر، و الإتيان ب «على» لإفادة أن هناك دافعا دفع الرؤوس من فوقها حتى نكست، و أخذوا يجمجمون- مخاطبين إبراهيم، أو أنفسهم- لَقَدْ عَلِمْتَ يا إبراهيم ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فكيف نسأل منهم، كما قلت «فاسألوهم»؟

______________________________

(1) الكافي: ج 2 ص 341.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 555

[سورة الأنبياء (21): الآيات 66 الى 69]

قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)

[67] و لما رأى إبراهيم عليه السّلام أنهم وصلوا إلى واقع الأمر، و أن عظته قد أثرت، أخذ يبث فيهم دعوته بنبذ الأصنام و اتخاذ الإله معبودا دونها قالَ إبراهيم عليه السّلام لهم أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ أي كيف تعبدون الأصنام التي هي لا تنفع و لا تضر، و لو كانت قدرت على

النفع و الضرر لدفعت المكروه عن نفسها؟

و الاستفهام توبيخي تقريعي.

[68] أُفٍّ لَكُمْ «أف» كلمة تضجر، أي تبا لأعمالكم و أفعالكم، وَ أف لِما تَعْبُدُونَ أي للأصنام التي تعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي التي هي غير الله سبحانه أَ فَلا تَعْقِلُونَ تتفكرون بعقولكم إنها ليست آلهة تستحق العبادة و التعظيم.

[69] و قد التجأ القوم- بعد تمام الحجة عليهم- إلى ما يلتجئ إليه كل جاهل معاند، من التخلص عن الحق بالقوة و العقاب ف قالُوا بعضهم لبعض حَرِّقُوهُ حرقوا إبراهيم بالنار جزاء لما فعل بالأصنام وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالتخلص من أعدائها، و إنزال العقاب الصارم بمن أهانها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ للنصرة لها، فأحرقوا إبراهيم عدوها.

[70] فأمر نمرود الملك الطاغي بجمع الحطب، و قد كان يكفي الحطب القليل لهذا الأمر، لكن الحقد أوجب أن جمعوا من الحطب قدرا مدهشا- بقدر حقدهم لا بقدر حرق إبراهيم- و صنعوا منجنيقا، تقذف، لأنهم لم يكونوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 556

[سورة الأنبياء (21): الآيات 70 الى 71]

وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71)

يتمكنون من اقتراب تلك النار الكثيرة المهولة، ثم وضعوا إبراهيم في فوهة المنجنيق، بمشهد من الملك و الجماهير، و قذفوه في النار قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً و قد كان أمرا تكوينيا، نحو (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) «1» و السلام أعم من البرد، فإن البرد إذا زاد لم يسلم الإنسان فيه عَلى إِبْراهِيمَ و المراد بالقول إما خلق الصوت، أو الإرادة.

[71] وَ أَرادُوا أي القوم بِهِ بإبراهيم عليه السّلام كَيْداً أي شرا و تدبيرا في هلاكه بالنار فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ إذ خسروا كيدهم، بل فوق ذلك أن ظهرت

عظمة إبراهيم عليه السّلام، مما سبب لنشر دعوته أكثر من ذي قبل فكأنهم جمعوا إلى خسارتهم بالنسبة إلى عقيدتهم الكافرة، خسارة المغلوبية، فهم الأخسرون.

[72] و قد بقي إبراهيم عليه السّلام في بابل العراق مدة يدعو فلم تنفع القوم الدعوة، بل أرادوا حرقة فلم ينجحوا، و سلط الله عليهم البعوض حتى أخذت لحومهم و شربت دماءهم و أهلكت واحدة منها نمرود الملك الطاغي، و من ثم هاجر إبراهيم عليه السّلام إلى الشام، لعل القوم هناك يقبلون الدعوة وَ نَجَّيْناهُ أي إبراهيم عليه السّلام وَ لُوطاً و هو من أرحام إبراهيم عليه السّلام، و في بعض التفاسير أنه ابن أخ إبراهيم إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها في تلك الأرض و هي الشام لِلْعالَمِينَ لجميع

______________________________

(1) البقرة: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 557

[سورة الأنبياء (21): الآيات 72 الى 73]

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (73)

الناس، فقد تواترت الأنبياء هناك، و قد كانت الشام تطلق سابقا على ما يشمل لبنان و سورية و فلسطين و الأردن و حواليها.

[73] وَ وَهَبْنا لَهُ لإبراهيم إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً إسحاق بن إبراهيم من سارة و قد دعا عليه السّلام أن يرزق ولدا فأعطاه الله إياه، و يعقوب ولد إسحاق، و قد وهبه الله سبحانه لإبراهيم- حيث إن الحفيد أيضا هبة للجد- و معنى «نافلة»: «زائدة» إذ لم يكن يعقوب حسب دعاء إبراهيم، و إنما كان لطفا محضا منه سبحانه عليه، و تأنيث نافلة باعتبار النفس، و لم يذكر إسماعيل عليه السّلام لعله لكونه على مجرى

الطبيعة، إذ «سارة» كانت كبيرة و عقيمة، أما «هاجر» فلم تكن كذلك، و إنما هي شابة ولودة وَ كُلًّا من إبراهيم و إسحاق و يعقوب جَعَلْنا صالِحِينَ للنبوة و الرسالة و الهداية و الإرشاد و سائر الفضائل.

[74] وَ جَعَلْناهُمْ أي الثلاثة أَئِمَّةً جمع إمام، و هو المقتدى، أي يقتدى بهم في أمور الدين و الدنيا يَهْدُونَ الناس إلى الحق بِأَمْرِنا و أرسلناهم إلى الناس ليرشدوهم وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي أوحينا إليهم أن افعلوا الأفعال الخيرة الموجبة للخير و السعادة في الدنيا و الآخرة وَ إِقامَ الصَّلاةِ أي إقامتها، فإن التاء في مصدر باب الأفعال جائز الحذف وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ أي إعطاءها، و تخصيصهما بالذكر بعد دخولهما في عموم الخيرات، لأهميتهما وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 558

[سورة الأنبياء (21): الآيات 74 الى 76]

وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)

يعبدوننا، قبال سائر الناس الذين كانوا يعبدون الأصنام.

[75] وَ لُوطاً الذي سبق ذكره، و قد كان نجي من «بابل» مع إبراهيم، إلى الأرض المباركة آتَيْناهُ أعطيناه حُكْماً أي قضاء بين الناس و حكومة، فإن منصب الحكم إنما هو لله سبحانه، ثم لأنبيائه و الأئمة، بإذنه وَ عِلْماً و الحكم غير العلم، و إن استلزم مقدارا منه وَ نَجَّيْناهُ؟ أنقذناه مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ و هي «سدوم» التي كان أهلها يتعاطون اللواط و السحق و الكفر و سائر المنكرات و الخبائث جمع خبيث، و

هو الشي ء أو العمل السيئ إِنَّهُمْ أي أهل تلك القرية كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ إضافة القوم إلى عملهم فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله سبحانه، فقد أمر الله سبحانه لوطا أن يخرج من القرية، ثم عذب أهلها بأنواع العذاب- كما مر تفصيله-.

[76] وَ أَدْخَلْناهُ لوطا عليه السّلام فِي رَحْمَتِنا بذلك الخروج عن القرية، فكأنه كان حينذاك في العذاب، فلما خرج دخل الرحمة إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ و لهذا استحق الدخول في الرحمة، و لم يبق في المدينة ليشمله العذاب و الهلاك.

[77] وَ اذكر يا رسول الله نُوحاً أو هو عطف على «لوطا» أي آتينا نوحا حكما و علما إِذْ نادى أي زمان دعا الله سبحانه مِنْ قَبْلُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 559

[سورة الأنبياء (21): الآيات 77 الى 78]

وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78)

من قبل إبراهيم و لوط، فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، و إنما جي ء به متأخرا مع أنه متقدم زمانا، لأن أهل مكة كانوا أقرب إلى إبراهيم زمانا و علما و نسبا، فكان ذكره أجلى، و في مذاقهم أحلى فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه بإهلاك الكفار فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ لعل المراد بهم المؤمنون به مِنَ الْكَرْبِ أي الحزن الْعَظِيمِ الذي لاقاه من الكفار طول تسعمائة و خمسين عاما، فقد كانوا يضحكون منه و يؤذونه و يضربونه.

[78] وَ نَصَرْناهُ أي نصرنا نوحا، بنجاته في السفينة و غرق الكفار بأجمعهم مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و إنما عدي «نصرنا» ب «من» دون «على» لإشراب الفعل معنى «المنع» و كأنه

قال: النصر بالسير من وسطهم نحو سرت من البصرة إِنَّهُمْ أي المكذبين كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فكأنهم كانوا قطعة من سوء، حيث إن عقائدهم و أعمالهم و أقوالهم كانت كلها سيئة فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ بأن أنزلناه السماء مدرارا، و فجرنا الأرض عيونا، حتى غرق كل شي ء في الماء، فلم ينج إلا نوح و من حمل معه في السفينة.

[79] وَ اذكر يا رسول الله، أو أعطينا الحكم و العلم داوُدَ وَ سُلَيْمانَ و هو ابن داود إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ أي الزرع إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 560

أي في الوقت الذي تفرقت فيه الغنم ليلا، فإن نفش بمعنى تفرق الإبل أو الغنم ليلا ليرعى بدون راع وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ حاضرين، نسمع و نرى كيف حكما، و الإتيان بالجمع «حكمهم» باعتبار الحاكمين و طرفي النزاع.

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال كان في بني إسرائيل رجل و كان له كرم و نفشت فيه غنم لرجل بالليل و قضمته و أفسدته، فجاء به صاحب الكرم إلى داود فاستعدى على صاحب الغنم فقال داود عليه السّلام: اذهبا إلى سليمان ليحكم بينكما فذهبا إليه فقال سليمان: إن كانت الغنم أكلت الأصل و الفرع فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم و ما في بطنها، و إن كانت ذهبت بالفرع و لم تذهب بالأصل فإنه يدفع ولدها إلى صاحب الكرم، و كان هذا حكم داود و إنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان وصيه بعده و لم يختلفا في الحكم و لو اختلف حكمهما لقال «كنا لحكمهما شاهدين» «1»

أقول: و كأن الحكم في تلك الأمة كان كذلك أما في شريعتنا فإن الحكم ضمان

صاحب الغنم ما أتلفته لصاحب الكرم، دون أن يكون الأرش معينا في الغنم، و قد روي هذا الحكم بشكل آخر، و إن داود و سليمان اختلفا في القضاء و كان حكم سليمان أقرب، و إن كان كلاهما صحيحا، و ذلك كما لو أتاك آت فقال: إن فلانا كسر إنائي، فقلت له: يعطيك إناء مثله، و قال قاض آخر: يعطيك ثمنه فكلاهما جائز بالتراضي، و إن كان المثل أقرب من القيمة، في المثلي،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 131.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 561

[سورة الأنبياء (21): الآيات 79 الى 80]

فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ (79) وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)

و بالعكس في القيمي.

[80] فَفَهَّمْناها أي علمنا سُلَيْمانَ كيفية الحكومة بين الراعي و الزارع وَ كُلًّا من داود و سليمان آتَيْنا أي أعطيناه حُكْماً في الخصومات، أو حكما على الناس وَ عِلْماً و كان تخصيص سليمان بقوله «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» لأن المقصود كان إظهار فضل سليمان ليعرف بنو إسرائيل من وصي داود، كما في الأحاديث وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ و معنى التسخير السير معه في التسبيح، فإنك إذا عودت طيرا أن يتكلم بما تكلمت به أنت، يقال أنك سخرت ذلك الطير، فكأنه صار طوع إرادتك يتكلم إذا تكلمت و يسكت إذا سكت يُسَبِّحْنَ الجبال معه، و الإتيان بضمير العاقل لأن التسبيح فعل العاقل وَ الطَّيْرَ عطف على الجبال، أي و سخرنا معه الطير، فإنها كانت تسبح بتسبيحه.

قال الصادق عليه السّلام: إن داود خرج يقرأ الزبور و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا

حجر و لا طائر إلا جاوبه

وَ كُنَّا فاعِلِينَ لذلك، و كان المراد بذلك أن هذا الأمر ليس عجيبا من قدرتنا، و إن كان مستغربا عندكم.

[81] وَ عَلَّمْناهُ أي علمنا داود صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللبوس هو السلاح الذي يلبس كالدرع، فإنه عليه السّلام أول من صنع الدرع، و قد كان الحديد لينا في يده كالعجين، يسرد منه الدروع لِتُحْصِنَكُمْ أي تحفظكم مِنْ بَأْسِكُمْ من وقع السلاح فيكم- كالسيف و الرمح- في الحرب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 562

[سورة الأنبياء (21): الآيات 81 الى 82]

وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ (81) وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)

فَهَلْ أَنْتُمْ أيها الناس شاكِرُونَ لهذه النعمة التي تقيكم من الأعداء، فإن الدرع أحسن وقاية للبدن مقابل الآلات الحربية.

[82] وَ سخرنا لِسُلَيْمانَ بن داود الرِّيحَ عاصِفَةً أي شديدة الهبوب، فإذا أراد أن تعصف الريح عصفت، و إذا أراد أن ترخي أرخيت تَجْرِي الريح بِأَمْرِهِ أي أمر سليمان إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها و هي الشام، التي بارك الله فيها بكثرة الأنبياء عليهم السّلام، و كثرة الثمار، و طيب الهواء، و قد سبق أن المراد بالشام ما يشمل سورية و فلسطين و لبنان و الأردن، فقد كان لسليمان عليه السّلام بساط يجلس عليه هو و حاشيته فتحمله الريح و يسير بهم من القدس إلى الشام- و قد كان السير بينهما يستغرق شهرا على الماشية- في نصف يوم، و كذلك ترجع بهم هذه المسافة في نصف يوم، كما قال سبحانه في آية أخرى:

(غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ) «1» و حيث أن

هذا كان مورد استغراب عقبه سبحانه بهذه الجملة فقال وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ فإنما أعطيناه ما أعطينا لعلمنا بالمصالح و طرف الأمور.

[83] وَ سخرنا لسليمان مِنَ الشَّياطِينِ و المراد بالشيطان هنا الجن، فإنهما مخلوقان أحدهما يضل البشر من نسل إبليس، و الآخر كالإنسان إلا أنه مختف، و الظاهر أنهما في الأصل كانا من جنس واحد، و لذا

______________________________

(1) سبأ: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 563

[سورة الأنبياء (21): الآيات 83 الى 84]

وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)

قال سبحانه في حق إبليس «كان من الجن» و يسمى كل واحد منهما باسم الآخر «الجن» لكونهما مستترين، «و الشيطان» لكونهما ذوي تدبير و حيلة، و الظرف في موضوع حال من سخرنا مَنْ يَغُوصُونَ في البحر، و الغوص هو أن ينزل في البحر لأجل إخراج اللؤلؤ و ما أشبه لَهُ أي لسليمان وَ يَعْمَلُونَ له عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي سوى ذلك، أو أدون من الغوص- من حيث الصعوبة- كبناء المحاريب و التماثيل و أشباههما وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي نحفظ الشياطين عن الإفساد و الهروب، و سائر ما ينبغي الحفظ منه.

[84] وَ اذكر يا رسول الله أَيُّوبَ حين دعا ربه لما امتدت به المحنة و البلاء إِذْ نادى رَبَّهُ مستجيرا ليشفيه قائلا في دعائه رب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ أي نالني الضر و المرض وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي أكثر رحما من رحم كل راحم، و هذا تأدب في طلب إزالة البلاء، فقد ابتلاه الله سبحانه بهلاك أولاده و ذهاب أمواله و المرض

في بدنه، كما يأتي قصته في سورة «ص» إن شاء الله تعالى.

[85] فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه و نداءه، و كان الإتيان من باب الاستفعال الظاهر في الطلب، لأجل أمره سبحانه بأن يجاب دعاءه، بما جعل من العلل الكونية و الأسباب التي تترتب عليها مسبباتها، فكأنه تعالى طلب أن يجاب أيوب فَكَشَفْنا ما بِهِ أي رفعنا و أزلنا الشي ء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 564

[سورة الأنبياء (21): آية 85]

وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)

الذي كان بأيوب مِنْ ضُرٍّ في بدنه و ماله و ولده، و كأن الضر ستر يشتمل على الإنسان، فإذا أزيل، انكشف ما تحته وَ آتَيْناهُ أي أعطيناه و رددنا إليه أَهْلَهُ أولاده الذين ماتوا ابتلاء و اختبارا وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ

قال الإمام الصادق عليه السّلام: إن الله سبحانه رد على أيوب أهله الذين هلكوا و أعطاه مثلهم معهم و كذلك رد الله عليه أمواله و مواشيه بأعيانها و أعطاه مثلها معها، و الله سبحانه قادر على إحياء الأموات، كما هو قادر على أن يعطي الإنسان أولادا و أموالا «1»

رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي إن كشف ضره و إعطاء ما فقده، و مثله معه، كان فضلا و لطفا من لدنا لأيوب، و كل رحمة منه سبحانه، إلا أن التخصيص هنا للتشريف وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي لأجل أن يكون ذلك موعظة و تذكيرا لمن عبدنا و أنه إذا أخذنا منه شيئا فإنا نرده إليه مع الزائد، و إن الأخذ لمصلحة و حكمة.

[86] وَ اذكر يا رسول الله إِسْماعِيلَ بن إبراهيم عليه السّلام و حيث لم يذكر هناك، ذكره هنا مستقلا وَ إِدْرِيسَ و هو أول من خاط اللباس بوحي الله

سبحانه وَ ذَا الْكِفْلِ

و قد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه يوشع بن نون

كُلٌ أي كل هؤلاء الأنبياء مِنَ الصَّابِرِينَ أي من الأنبياء الذين صبروا على مشاق التكليف، و لم

______________________________

(1) الخرائج: ج 2 ص 933.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 565

[سورة الأنبياء (21): الآيات 86 الى 87]

وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)

يزيغوا عن أوامره سبحانه.

[87] وَ أَدْخَلْناهُمْ أدخلنا هؤلاء الأنبياء عليهم السّلام فِي رَحْمَتِنا بأن غمرناهم في الرحمة بعد أن كانوا في مشقة و أذى من قومهم، و من التكاليف المتوجهة إليهم إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ فقد كانوا صالحين في حياتهم، و لذا جوزوا بتلك الرحمة التي غمرتهم، و حيث أن المقصود في سرد صبر الأنبياء أولا ثم فضل الله عليهم جزاء صبرهم ثانيا، ألمح السياق إلى هاتين الخصوصيتين، بالنسبة إلى هؤلاء الأنبياء بدون ذكر قصصهم، كما أن سائر القصص قد أتيت بإيجاز و إشارة.

[88] وَ اذكر يا رسول الله ذَا النُّونِ «النون» هو الحوت، أي صاحب الحوت، و هو يونس عليه السّلام، الذي التقمه الحوت إِذْ ذَهَبَ أي حين فارق قومه، و ذهب عنهم مُغاضِباً من غاضب، بمعنى غضب، و كأنه أتى من باب المفاعلة للدلالة على كون الغضب من الطرفين أو المراد المغاضب المراغم، يعني أنه خرج رغما على أنف قومه، حيث أراد إهلاكهم فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نضيق عليه، فقد ضاق هو بالدعوة و تكذيب القوم، فخرج من بين القوم ظانا أن ذلك ليس بترك أولى حتى يجزيه

سبحانه بضيق صدره ضيقا في مكانه، يهون عند ضيق مكانه ضيق صدره بالمكذبين من قومه.

و قد يقال: أن خروجه هل كان طاعة لله، أم عصيانا؟ فإن كان طاعة فلم ضيق الله عليه؟ و إن كان عصيانا كان ذلك خلاف ما هو مسلم من عصمة الأنبياء عليهم السّلام؟ و الجواب: أنه كان ترك أولى، فقد كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 566

من الأولى أن لا يخرج، و لم يكن عصيانا، كأكل آدم من الشجرة الذي كان ترك أولى، و على أي حال فقد أرسل الله سبحانه يونس إلى قوم كان عددهم مائة ألف أو يزيدون و لبث فيهم أكثر من ثلاثين سنة- كما

ورد- فلم يؤمن من القوم إلا نفران «روبيل» و «تنوخا» فخرج من القوم داعيا عليهم بالعذاب، و كان ذلك جائزا في نفسه، و إن كان الأولى بمقام النبوة أن يستأذن الله سبحانه لذلك، فوصل إلى شاطئ البحر و ركب سفينة كانت تريد الأبحار

- و في بعض التفاسير أنه عليه السّلام أراد أن يذهب إلى قوم آخرين يدعوهم- و لما توسطت السفينة البحر، جاء حوت فاتحا فاه، بحيث لم تتمكن السفينة من المضي إلا بإطعامه، فأقرعوا فيما بينهم من يطرحوه للحوت و خرج السهم باسم يونس، فألقوه في فم الحوت فابتلعه، لكن الله سبحانه حفظه عن أن يموت و هو قادر على كل شي ء «1» فَنادى يونس فِي الظُّلُماتِ ظلمة البحر، و ظلمة الليل، و ظلمة بطن الحوت أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها عن القبيح، و كأن الإتيان بالتسبيح في هذه المقامات دفعا لتوهم متوهم يظن أن العمل الصادر منه سبحانه ليس كما ينبغي إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ في خروجي

من المدينة و دعائي على أهلها، و الظلم هو وضع الشي ء في غير موضعه، و ذلك يلائم التحريم، و ترك الأولى، كما قال موسى عليه السّلام (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) «2»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 126.

(2) النمل: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 567

[سورة الأنبياء (21): الآيات 88 الى 90]

فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)

و قوله سبحانه لآدم و حواء: (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) «1» [89] فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه، فقد كان ذكره تعريضا بطلب خلاصه، في أدب و لطف وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ الذي أخذ به، بأن ألقاه الحوت إلى الشاطئ، بعد أربعين يوما كان في بطنه وَ كَذلِكَ أي كما أنجينا يونس نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ الذين يدعوننا و يستغفرون لسالف ذنوبهم [90] وَ اذكر يا رسول الله زَكَرِيَّا النبي عليه السّلام إِذْ نادى رَبَّهُ أي حين دعا الله سبحانه أن يعطيه الولد، حيث لم يكن له ولد يخلفه، فقال يا رَبِّ لا تَذَرْنِي أي لا تدعني فَرْداً وحيدا بلا أولاد، و بدون عقب وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ و قد كان هذا تأدبا من زكريا عليه السّلام فهو لا يطلب الولد لأنه غير معترف بأن وارثة الله خير وراثة، كما يظن بعض الناس أنهم إذا ماتوا بلا عقب لا أحد في الكون يرعى شؤونهم الدنيوية أو الدينية و إنما يطلب بعد الاعتراف لما يعرف من جريان العادة الكونية على أن الولد

و العقب هو السبب العادي الذي جعله الله سبحانه للخلافة و القيام مقام الآباء في إدارة شؤونهم.

[91] فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى ليخلفه من بعده وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ

______________________________

(1) البقرة: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 568

[سورة الأنبياء (21): آية 91]

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)

إذ كانت عقيمة لا تلد و كان الإتيان ب «وهبنا» قبل «أصلحنا» مع أنه بعده خارجا، لبيان المبادرة في استجابة دعائه عليه السّلام، كأنه لا فصل بين الدعاء و الهبة إِنَّهُمْ أي زكريا و زوجه و يحيى- كما هو ظاهر السياق- كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ في الأعمال الخيرية، مقابل الذين يتلكئون و يتباطئون في عمل الخير، و هكذا دائما أهل الآخرة إنهم يبادرون في الطاعة، بخلاف أهل الدنيا وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً راغبين في ثوابنا و خائفين من عقابنا، و هكذا الإنسان الكامل، إنه بين الخوف و الرجاء وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ خاضعين متواضعين لا كأهل الدنيا الذين يطغون و يستعلون عن الأوامر و الزواجر.

[92] و بمناسبة ذكر «زكريا» ذكر السياق «مريم» الطاهرة القريبة له وَ اذكر يا رسول الله المرأة الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي حفظت نفسها عن الفساد، و هذا لرد اليهود الذين قالوا فيهما شرا فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا النافخ كان جبرائيل لكنه حيث كان بأمر الله تعالى، نسب النفخ إليه تعالى، و الروح أضيف إليه سبحانه تشريفا، كإضافة البيت إليه، و قد كان النفخ في جيب ثوبها، و تكوّن من ذلك النفخ المسيح عليه السّلام وَ جَعَلْناها أي جعلنا مريم وَ ابْنَها المسيح آيَةً لِلْعالَمِينَ أي: دلالة على وجود الله و قدرته، و المراد

ب «آية» الجنس،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 569

[سورة الأنبياء (21): الآيات 92 الى 94]

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94)

فلا يقال: أنهما آيتان؟

[93] و بعد استعراض أحوال بعض الأنبياء عليهم السّلام مع أممهم- إجمالا- يأتي السياق ليدل على وحدة العقيدة، و وحدة الأمة، و وحدة الإله، و وحدة رسالة الأنبياء عليهم السّلام إِنَّ هذِهِ البشر المتناثر في الأرض المتباعد في الزمان أُمَّتُكُمْ أيها الأنبياء أُمَّةً واحِدَةً فلا أمم تحت لواء الأنبياء و إنما أمة واحدة، و من خالف و آمن ببعض و كفر ببعض أو قبل حكما و أعرض عن حكم فليس من الأمة، و ليس خاضعا حتى لتنبيه الذي يزعم أنه متبع له وَ أَنَا رَبُّكُمْ رب واحد فَاعْبُدُونِ أي أطيعوني و اتخذوني إلها دون غيري.

[94] لكن المنحرفون لم يكونوا من أنفسهم أمة واحدة، بل خالفوا و تفرقوا وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي فرقوا دينهم فيما بينهم، فإن قطّع و تقطع بمعنى واحد، و هل انتهى الأمر عند ذلك فلا حساب و لا جزاء لما اقترفوه من تقطيع الأمة الواحدة إلى ألوان و أشكال و أمم؟ كلا! كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فنجازيهم بما فعلوا من التقطيع و التفرقة، و معنى الرجوع إلى الله سبحانه الرجوع إلى حسابه و جزائه، تشبيه بمن يرجع إلى المحكمة بعد الذهاب عنها.

[95] فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الأعمال الصَّالِحاتِ أي من هذه الجنس، دون جنس السيئات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ صحيح العقيدة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 570

[سورة الأنبياء (21): الآيات 95 الى 96]

وَ حَرامٌ عَلى

قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)

فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ فلا يستر ما عمله و لا يبطل، بل يشكر و يثاب عليه وَ إِنَّا لَهُ أي لسعيه كاتِبُونَ و المعنى نأمر الملائكة أن يثبت سعيه لنجازيه عليه في الآخرة.

[96] أما من كفر و عصى، فأهلكناه في الدنيا بعذاب الاستئصال فلا يظن أحد أنه قد انتهى أمرهم، و أنهم أهلكوا فلا حساب بعد ذلك وَ حَرامٌ أي ممتنع، في الحكمة عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها بذنوبها أَنَّهُمْ إلينا لا يَرْجِعُونَ فإن عذابهم في الدنيا لم يكن نهاية أمرهم، بل يرجعون إلينا في الآخرة لنحاسبهم هناك على أعمالهم و نجزيهم بالنار، ف «حرام» مبتدأ، خبره «أنهم» أي ممتنع عدم رجوعهم، و قد عرفت أن تخصيصهم بالذكر دون سائر العاصين، لدفع التوهم المذكور.

[97] إن الأمر يبقى على هذا المنوال، مؤمن و كافر، و موت و هلاك حَتَّى يوم القيامة فينقطع التكليف و تقوم الساعة للحساب و الجزاء، و قد ذكر الله سبحانه علامة لذلك بقوله: إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ أي القبيلتان، و فتحت باعتبار كسر سدهما الذي بناه ذو القرنين، كما تقدم وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أي مرتفع من الأرض كالجبال و الآكام يَنْسِلُونَ يسرعون في السير نحو الصحاري و البلاد للفساد و الدمار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 571

[سورة الأنبياء (21): الآيات 97 الى 98]

وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)

[98] وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ أي الموعود الذي

هو حق، لا خلف و لا كذب فيه، و هو يوم القيامة فَإِذا هِيَ الضمير للشأن و القصة، يؤتى بها للتهيؤ، و ليستعد السامع لاستماع ما يأتي بعده شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا الشاخصة العين التي لا تطرف من شدة الهول، و لا تسكن، كالإنسان الشاخص الذي يسير بدون سكون و هدوء، فإن الكفار في يوم القيامة تشخص أبصارهم من شدة الهول، ينظرون هنا و هناك ليجدوا ملجأ أو شفيعا ينجيهم من الأهوال و الكربات، و قوله «فإذا» يتعلق ب «حتى» و معنى «فإذا هي» أن القصة شخوص أبصار الكفار، قائلين يا وَيْلَنا يا قوم ويلنا، أي يا ويلنا أحضر فهذا وقتك، و الويل هو الهلاك و العذاب قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم، فقد كنا في الدنيا لا نأبه و لا نعتني بهذا اليوم و بما ينجي الإنسان من أهواله بَلْ لم تكن غفلة، و إنما كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا حيث نعرض عن الإيمان و العمل الصالح.

[99] و ما مصيرهم هناك؟ إِنَّكُمْ أيها الكفار وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام التي تجعلونها آلهة تعبدونها حَصَبُ جَهَنَّمَ أي حطبها و وقودها، و الحصب كل حجر يرمى به، و لذا قيل للأحجار الصغيرة حصباء، و «ما» لما لا يعقل، فلا يشمل من عبده الناس من الأنبياء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 572

[سورة الأنبياء (21): الآيات 99 الى 102]

لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)

و الأئمة و الملائكة، و إنما تكون الآلهة

حصب جهنم مع أنها لا ذنب لها، إهانة لعبادها و إذلالهم أَنْتُمْ أيها الكفار لَها أي لجهنم وارِدُونَ داخلون، و ذلك جزاؤكم.

[100] لَوْ كانَ هؤُلاءِ الأصنام آلِهَةً كما تزعمون ما وَرَدُوها ما دخلوا النار و لامتنعوا منها وَ كُلٌ من العابد و المعبود فِيها أي في جهنم خالِدُونَ باقون أبد الآبدين.

[101] لَهُمْ أي للناس الذين خلدوا فِيها لكفرهم و عصيانهم زَفِيرٌ أي صوت كصوت الحمار و هو التنفس العالي المصاحب للألم و الحزن وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ فهم صمّ، مقابل ما كانوا في الدنيا يصمون عن الحق، و يقولون للمرسلين: في آذاننا و قر.

[102] رأينا حال الكفار في النار، فلننظر إلى المؤمنين في الجنة إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الكلمة الْحُسْنى بأن قلنا إن المؤمن لا يعاقب، بل يثاب، نفي لهم بما وعدناه أُولئِكَ عَنْها أي عن جهنم مُبْعَدُونَ يبعدهم الله سبحانه عنها، حتى لا يرون منظر العذاب، و لا يستمعون لزفيرها، و لا يحسون بحرارتها.

[103] لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي صوتها الذي يحس به

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 573

[سورة الأنبياء (21): الآيات 103 الى 104]

لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)

وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من الملذات و النعيم خالِدُونَ دائمون فلا زوال لهم عن الجنة و نعيمها، في مقابل أهل النار الذين لا زوال لهم عن الجحيم و العذاب.

[104] لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أي الخوف الأعظم، و هو فزع يوم القيامة المتصل بالدخول في النار، الباقي إلى الأبد وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تستقبلهم بالتهنئة و البشر، قائلين

لهم هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا، فأبشروا بالأمن و الفوز و ما أحوج الإنسان هناك أن يتلقاه شخص يهديه السبيل و يرشده الطريق، في يوم الأهوال و الأحزان، في ساحة يجتمع فيها الخلق كلهم، في مدة تطول خمسين ألف سنة، و وراءها إما عذاب دائم أو نعيم مقيم!.

[105] يَوْمَ منصوب على الظرفية، أي أن ذلك النعيم، و تلك الأهوال، إنما هي في يوم نَطْوِي السَّماءَ فيه، و معنى طي السماء، محوها، و تبديلها دخانا كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ السجل ما يسجل فيه، و هو قد يكون سجلا للكتاب و قد يكون سجلا في قصاص ورق، و السجل الذي يطوى هو سجل الكتاب، و في بعض الروايات، أن السجل اسم ملك يطوي صحف أعمال بني آدم، فالتشبيه إنما هو به، و في ذلك اليوم كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي كما تمكنا على الابتداء نتمكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 574

[سورة الأنبياء (21): آية 105]

وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)

على الإعادة أو في الشكل الذي خلقنا من كون الإنسان حاف عاري غير مختون كذلك تكون الإعادة، فالمراد بأول خلق «الخلق أولا» على التقديرين، لا أول الخلق- و هو آدم عليه السّلام- كما هو ظاهر، نعدكم ذلك وَعْداً مصدر تأكيدي عَلَيْنا إنجازه و إنفاذه إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ إنا فاعلون لهذا الوعد، و كان لمجرد الربط، لا بمعنى الماضي.

[106] و حيث رأينا إن العاقبة الحسنى في الآخرة لعباد الله الصالحين، فلنرجع إلى الأرض لنرى إن الأرض لمن؟ وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ إما المراد «زبور» داود و المراد بالذكر حينئذ «التوراة» لأنها كانت قبل الزبور،

و إما المراد بالزبور الصحف المنزلة على الأنبياء، فإنها من زبر بمعنى كتب، و المراد بالذكر، التذكير بالمبدأ و المعاد و المعارف، و على أي حال فالآية في صدد بيان أن سنة الله جرت على ذلك، و قد كتبها في الكتب السابقة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ فإن الأرض في آخر المطاف للصالحين، و إن سبق تملكها الفاسدون، و قد وردت أحاديث متواترة في تفسير الآية بالإمام الحجة المهدي عليه السّلام، و ذلك من باب أظهر المصاديق فإنه عليه السّلام يرث الأرض كلها و إن كان الأنبياء و الأئمة و الصالحون ورثوا الأرض قبل، إلى هذا الحين، فكلما قام باطل، قام حقه في عقبه ليرث الأرض منه و السر واضح فإن غير الصالح لا يملك إلا شقا واحدا، و الحياة لا تسير بشق واحد، أما الصالح الذي يجمع بين المادة و المعنى، و الإيمان و النشاط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 575

[سورة الأنبياء (21): الآيات 106 الى 108]

إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)

فإنه أصلح من الفاسد، و لذا تزحزح الحياة الفاسد- و إن طال أمده- لتخلف الصالح مكانه، ليكون السير عدلا متوازنا.

[107] إِنَّ فِي هذا الذي أخبرتكم به من أن العاقبة في الدنيا و الآخرة لعباد الله الصالحين لَبَلاغاً أي كفاية في البلوغ إلى القصد و هو الحق لِقَوْمٍ عابِدِينَ لله مخلصين في عبادتهم، و إنما خص هؤلاء، لأنهم الذين ينتفعون بالبلاغ.

[108] و إنا لم نكن خصصنا أمة بالبلاغ و إنما البلاغ عام، أما المنتفع به فهو من ألقى السمع و هو شهيد وَ ما

أَرْسَلْناكَ يا رسول الله إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ نعمة عليهم جميعا، أما المؤمن فواضح كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة بالنسبة إليه، و أما الكافر، فلأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نظم سبل الحياة و أرشد إليها فاقتبس منه الكفار و ما نرى اليوم من الحضارة و التمدن في العالم فليس إلا من هدى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما نرى فيه من الانحراف و الزيغ فذلك من تحريف مناهج الرسول، فإن حضارة الشرق الروسي مأخوذة من حضارة الغرب، و حضارة الغرب وليدة الحضارة الإسلامية، حيث دخل العلم بلاد الغرب من بلاد الإسلام.

[109] و قد بين سبحانه علة كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة، أنه يبشر بوحدة الإله، فإن الإذعان بذلك رأس الفضائل، و سبب أنواع الرحمة قُلْ يا رسول الله لهؤلاء القوم إِنَّما يُوحى إِلَيَ من عالم الغيب أَنَّما إِلهُكُمْ أيها البشر إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 576

[سورة الأنبياء (21): الآيات 109 الى 111]

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)

استفهام تقريري، أي مستسلمون منقادون لذلك، فتتركوا عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له.

[110] فَإِنْ تَوَلَّوْا بأن أعرضوا و لم يقبلوا الإسلام فَقُلْ يا رسول الله آذَنْتُكُمْ أعلمتكم بالتوحيد- و ليس وظيفتي إلا الاعلام و قد فعلت- عَلى سَواءٍ بدون ترجيح، فإن الإعلان عام للجميع، و قد أديت ما علي،

و بقي ما عليكم، فإن لم تؤمنوا كان مصيركم الهلاك، أما وقت هلاككم، فعلمه عند الله سبحانه وَ إِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب و النكال؟ فإن علم ذلك خاص به سبحانه.

[111] و لا يظنن أحد أن الله لا يعلم ما يعمل حتى يفكر الكفار، بأنهم ينكرون- غدا- ما صدر منهم إِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أي الكلام الظاهر وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي يعلم سركم، كما يعلم جهركم، و سوف يجازيكم على الجميع.

[112] أما تأخير العذاب فلحكمة اقتضته وَ إِنْ أَدْرِي ما أدري لَعَلَّهُ لعل تأخير العذاب فِتْنَةٌ و امتحان لَكُمْ حتى تظهر نوايا كل أحد جلية، فإن الإنسان كلما بقي ظهرت نواياه أكثر فأكثر وَ مَتاعٌ لأجل تمتعكم بمتاع الحياة إِلى حِينٍ أجلكم المقرر، فليس الإنعام إكراما،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 577

[سورة الأنبياء (21): آية 112]

قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)

بل استدراجا.

[113] و أخيرا، بعد إبلاغ الرسول، و بقاء بعض الكفار في غيهم قالَ رسول الله، يا رَبِّ احْكُمْ بيني و بين الكفار بِالْحَقِ و هذا لإظهار إن حكم الله حق فالقيد للتوضيح و التنبيه، لا للاحتراز وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الذي يرحمنا و يتفضل علينا جزاء ما تعبنا و أبلغنا، فلم يذهب البلاغ و الأتعاب سدى الْمُسْتَعانُ نستعين به على كيدكم و تكذيبكم عَلى ما تَصِفُونَ الرسول به من أنه كاذب و مفتر و ساحر و شاعر و مجنون و ما إلى ذلك، فإنه تعالى لا يترك الرسول، ليكيدوا له ما شاءوا، بل يأخذ بيده و يعينه على أمره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 578

22 سورة الحج مدنية/ آياتها (79)

سميت السورة بهذا

الاسم، لأن فيها أحكام «الحج» و لفظه و هذه السورة مدنية، إلا آيات منها، و لذا ذكر فيها التشريع الحكومي، كما هو شأن غالب السور المدنية، حيث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينظم دنيا المسلمين، إلى جنب دينهم، و يبين لهم الدساتير و المناهج و حيث اختتمت سورة الأنبياء بالتوحيد و الرسالة، ابتدأت هذه السورة بذكر المعاد، الذي هو ثالث الأصول الثلاثة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله في جميع الشؤون، فالله مصدر كل خير، فالاستعانة به في كل أمر من أمور الدين و الدنيا، و المال و الجاه، و السعادة و الرفاه، و الأمن و السلام، و غيرها، و كأنه لذلك اختير لفظ «الله» لإضافة «الاسم» إليه، و حيث إن النعم كلها تفضل خصص «الرحمن الرحيم» بإتيانهما وصفا له سبحانه، دون سائر الصفات و النعوت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 579

[سورة الحج (22): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

[2] يا أَيُّهَا النَّاسُ المراد العقلاء منهم القابلون للخطاب اتَّقُوا خافوا رَبَّكُمْ فلا تخالفوا أوامره و زواجره إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أي زلزلة الأرض حين قيام الساعة و هي يوم القيامة شَيْ ءٌ عَظِيمٌ هائل، فإن من أشراط الساعة زلزلة مهولة تعم الأرض.

[3] يَوْمَ تَرَوْنَها أي ترون تلك الزلزلة، أو تلك الساعة، و العامل في يوم «تذهل» أي إن الذهول في يوم رؤيتكم للساعة تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أي تغفل الأمهات عن أولادها الرضع،

مع شدة العلاقة للأم بالنسبة إلى ولدها الرضيع وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها فإن الحبلى إذا اشتد عليها الفزع طرحت جنينها، و هذا إما حقيقة، فإن الساعة تقوم على الناس، و فيهم الأمهات و الحبالى، أو كناية عن شدة الهول، نحو «فلان كثير الرماد» أو «مهزول الفصيل» مما يراد معناه الكنائي لا اللفظي وَ تَرَى أيها الرائي النَّاسَ سُكارى أي كالسكارى في الدهشة و الذهول من كثرة الخوف، فكما أن السكران لا يشعر كشعور الصاحي كذلك الناس في ذلك اليوم وَ ما هُمْ بِسُكارى من الشراب لم يشربوا الخمر، و إنما شربوا الفزع و الخوف وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ و أهوال القيامة التي يرونها شَدِيدٌ و من شدتها يصيبهم ما يصيبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 580

[سورة الحج (22): الآيات 3 الى 5]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)

[4] يا أيها الناس اتقوا و لا تجادلوا، فإن وراءكم هذا اليوم الشديد وَ لكن مع ذلك مِنَ النَّاسِ أي بعضهم مَنْ يُجادِلُ يخاصم و يناقش فِي

اللَّهِ من وجوده، في آياته، في صفاته، في سائر شؤونه بِغَيْرِ بدون عِلْمٍ و معرفة وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ أي أنه مستعد للضلال، فأي شيطان غاو مارد أخذ قياده بسلسلة له و اتبعه، و يا للسخف أن يترك الإنسان الإله، ليتبع كل شيطان مريد؟.

[5] كُتِبَ عَلَيْهِ أي على الشيطان، و المراد أن الشيطان هكذا أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ أي من اتبع الشيطان فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ أن الشيطان يضل ذلك المتبع وَ يَهْدِيهِ يوصله ذلك الشيطان إِلى عَذابِ السَّعِيرِ السعير اسم جهنم سميت به لأنها تسعر نارها، و المعنى أنه كيف يتبع هذا المجادل الشيطان الذي يضله في الدنيا، عن الطريق و بالآخرة يورده النار في الآخرة؟

[6] ثم استدل سبحانه على من ينكر البعث يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي في شك مِنَ الْبَعْثِ يوم القيامة، الذي يبعث و يحيى فيه الأموات، لاستغرابك أن يعود الإنسان حيا بعد ما مات و فنى؟

فاعتبروا بحالكم عند ابتداء الخلقة، إذ إنا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلقنا كل فرد منكم من الأرض، إذ الإنسان تراب ثم نبات يأكله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 581

الإنسان و الحيوان- الذي يأكله الإنسان- فيصير دما ثم منيا، ثم إنسانا، أو المراد ب «خلقناكم» خلقنا جدكم «آدم» عليه السّلام، و من قدر على صنع الإنسان من تراب يقدر على إعادته من تراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الإنسان بعد أن يصبح منيا يكون نطفة، و هي المني المستقر في الرحم ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ و هي القطعة من الدم المتجمد، فإن النطفة تنقلب علقة بعد مدة من بقائها في الرحم ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ و هي شبه قطعة ممضوغة من اللحم، فإن معنى المضغة مقدار ما

يمضغ بالأسنان.

مُخَلَّقَةٍ تلك المضغة وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي تام الخلقة و غير تام، أو متخذة شكلا بتحولها إلى العظم و اللحم و الصورة، أو تلفظها الرحم قبل ذلك فلا تتخذ خلقه الإنسان، و بناء على هذا المعنى يكون معنى «خلقناكم» إن أصل الإنسان هكذا، حتى يلائم «غير مخلقة» و إنما طورنا الإنسان في هذه المراحل لِنُبَيِّنَ لَكُمْ قدرتنا، و ندلكم على وجودنا و سائر صفاتنا، فمن يا ترى يقدر على مرحلة واحدة من هذه المراحل؟ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ من ولد و بنت، تام و غير تام، واحد و متعدد، حسن أو قبيح، و هكذا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة محدودة قد سميت عندنا، فمقدار بقاء الجنين في الرحم محدود معين عند الله سبحانه ثُمَ بعد تمام الأجل المقدر نُخْرِجُكُمْ أيها البشر طِفْلًا، و إنما جاء في اللفظ مفردا، باعتبار كل واحد واحد ثُمَ نسير بكم في مراحل الطفولة لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي وقت اشتداد القوى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 582

العقلية و البدنية و الغريزية فيكم، و هو مرحلة الشباب.

وَ مِنْكُمْ أي بعضكم مَنْ يُتَوَفَّى بصيغة المجهول، و المتوفى- باسم الفاعل- هو الله سبحانه، أي يكون موته قبل الكبر وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ أي يرجع إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أسوء العمر، و إنما قال «يرد» لأن حالة الشيخوخة كحالة الطفولة، فهو رد إلى تلك، و إنما كان حال الشيخوخة أسوأ العمر مع أنه كحالة الطفولة، لأن حالة الطفولة أفضل منها حيث أن الطفل في حالة النمو و الاكتمال، بخلاف حالة الشيخوخة، فإن الإنسان معها في التردي و الهبوط، و إنما يرد الإنسان إلى أرذل العمر لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي

لكي يخرج عن ذلك العلم الذي أتاه، فإن الإنسان ينسى معلوماته و يرتد جاهلا- أو شبه جاهل- و اللام إما للعاقبة، نحو (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً) «1» و إما فيه تلميح إلى أنه يسلب ما كان يتطاول به و يجادل في الله بسببه، أو لام الغاية، أي يرد إلى هذا الحال، فتضعف روحه كما ضعف جسمه، أي نرده إلى هذه الحالة، لكي لا يعلم، و يصير كيوم طفولته.

وَ كما جرت القدرة في خلق الإنسان بتلك الكيفية المتدرجة، كذلك تَرَى أيها الرائي الْأَرْضَ هامِدَةً أي ساكنة يابسة، لا حركة فيها، و لا نبات، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا أي على الأرض الْماءَ من

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 583

[سورة الحج (22): الآيات 6 الى 7]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

السماء بإنزال المطر، أو نحوه اهْتَزَّتْ الأرض بالنبات، و الاهتزاز شدة الحركة في الجهات وَ رَبَتْ أي انتفخت و نمت وَ أَنْبَتَتْ الأرض مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من أصناف النبات بَهِيجٍ مبهج مونق ذو لون جميل، و المراد بالاهتزاز، اهتزاز الأرض، فإن الأرض تتحرك فعلا و انفعالا بالنبات، و يحتمل أن يكون مجازا يراد به، اهتزاز النبات بعلاقة الحال و المحل، و إن كان هذا بعيدا من السياق.

[7] ذلِكَ الذي سبق ذكره من خلق الإنسان من التراب، ثم تطوره في مراحل الجنين و الطفولة و الشيخوخة، و صنع النبات من الأرض الهامدة بسبب أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُ و الإله الحق يقدر على كل شي ء، لا كآلهتكم الباطلة-

التي تجادلون في الله من أجلها- لا تقدر على أي شي ء وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى فالميت من الأرض أحياها إنسانا أو نباتا، لا كما أنكرتم البعث، و كنتم في ريب منه وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا تتعجبوا، كيف يمكن إعادة البشر، و أية قدرة تتمكن من ذلك، إن القادر على الابتداء، قادر على الإعادة.

[8] وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي ليست محل الريب، و إن ارتاب فيها المبطلون و المراد بالساعة القيامة وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ و يحيي مَنْ فِي الْقُبُورِ و قد جاء التأكيد للبعث، أكثر من التأكيد حول المبدأ، لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 584

[سورة الحج (22): الآيات 8 الى 9]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9)

الناس يستغربون من المعاد، أكثر مما يستغربون من المبدأ، و لذا يتخذون الآلهة و الأصنام، فكأن المبدأ أمر مفروغ منه، و إنما كلامهم حول تعيينه و تشخيصه، أما المعاد فأصله محل ريبهم و إنكارهم.

[9] وَ بعد هذه الدلائل الظاهرة على وجود الله سبحانه هناك مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ فينكر وجوده و قدرته بِغَيْرِ عِلْمٍ و قطع، و إنما هو شاك في نفسه وَ لا هُدىً يهديه إلى ذلك، و لو لم يكن علما وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ ينير القلب و الروح، فلا علم له، و لا دليل عقلي يؤيده، و لا دليل سمعي يستند إليه.

[10] و حاله في الكبر عن قبوله الحق شبيه بالمتكبر الظاهر عليه الكبر في جسمه و أطواره ثانِيَ

عِطْفِهِ العطف جانب الإنسان الذي يعطفه و يلويه عند الإعراض عن الشي ء، من تحت إبطه إلى حقوه، و الإنسان غير المعرض، عطفه مستقيم، فإذا أعرض لواه، و بذلك يكون قد ثناه إذ بقي الجانب التحتي قرب الحقو في مكانه و مال الجانب الفوقي تحت الإبط نحو اتجاه الخلف، و هذا كناية عن المتكبر المعرض، و الجملة حال لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فهو لا يحمل تبعة ضلال نفسه، و إنما يضل غيره أيضا، لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان و ذل و فضيحة، فإن الكفار دائما في هوان، حتى إذا ساروا ظاهرا، كما نرى من حال الغرب و الشرق- اليوم- وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار التي تحرقهم، و معنى الإذاقة، إحاطته بالنار، حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 585

[سورة الحج (22): الآيات 10 الى 11]

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)

يذوق عطفه المثنى جزاء عمله.

[11] و يقال له حين العذاب ذلِكَ العذاب، و جي ء بالإشارة البعيد، لتوهم الترفع عن قرب العذاب للقائل بِما قَدَّمَتْ يَداكَ من الكفر و العصيان، و نسب التقديم إلى اليد، لأنها الغالبة في إعطاء الأشياء وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ «ظلام» صيغة نسبة، لا مبالغة، كما قال ابن مالك:

و مع فاعل و فعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل

و قد تقدم تفصيله لِلْعَبِيدِ في تعذيبه، و إنما هم استحقوا ذلك بسوء صنيعهم.

[12] لقد رأينا بعض الناس ينكرون الله سبحانه، فلا يؤمنون به، و هناك نموذج

آخر من الناس، فلقد آمنوا، و لكن إيمانا، لا عن عمق و استقرار وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الحرف الطرف، و الجانب، أي على جانب واحد من جوانب الحياة، فهو يعبد حالة الرخاء، أو حالة الأمن أو حالة الغنى، و هكذا، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ أي بذلك الخير، و ركن إليه، و عبد الله الذي أعطاه ذلك الخير، وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ اختبار و ابتلاء، بفقر، أو مرض، أو خوف، أو ما أشبه انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ بأن كفر بالله، كالذي يقع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 586

[سورة الحج (22): الآيات 12 الى 13]

يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

على الأرض على وجهه، بحيث لا يرى، و لا يتنفس براحة، و لا يحس، بل هو في تعب و حرمان، شبّه بذلك الكافر، لأنه مثل ذلك المنقلب في الحرمان خَسِرَ الدُّنْيا إذ فقد الإيمان الموجب للرضا و الاطمئنان و الهدوء وَ الْآخِرَةَ لأنه كفر، و الكفر موجب للعذاب و النار ذلِكَ الخسران للدنيا و الآخرة هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الظاهر الذي لا خسران فوقه، و لا أسوأ حالا منه.

[13] و الذي يعبد الله على حرف، إذا أصابته فتنة يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ فإن الإنسان إذا قطع صلته بالله، لا بد و أن يدعو سواه، و سوى الله لا ينفع داعيه، و لا يضر تارك دعوته- فإن النفع و الضرر كليهما بيد الله سبحانه- ذلِكَ الدعاء لما لا يضر و لا ينفع هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ فهو

خارج عن الجادة، خروجا كثيرا، بحيث لا أحد أبعد منه، إذ ترك الله سبحانه، و اتخذ غيره- و قد مر معنى كون الضلال بعيدا-.

[14] يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إن ما يتخذ الإنسان من دون الله سبحانه سندا، سواء كان صنما أو إنسانا أو شيطانا، من حيث ذاته لا يضر و لا ينفع، و من حيث ما يترتب عليه من الثمار، ضره أقرب من نفعه، فالضر هو انحراف منهاج الحياة المترتب عليه، و العقاب الأخروي، و النفع هو البقاء في حلقة آبائه و أقربائه، الذين هم على شاكلته، و ما يعود لكهنة الأصنام من النذورات و القرابين، و ما أشبه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 587

[سورة الحج (22): الآيات 14 الى 15]

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)

هذه المنافع، و لكن الضر المترتب أقرب من النفع العائد- و هذا عبارة أخرى عن الضر الكثير، و النفع القليل، و لعل التعبير بأقرب، لأجل أن الضر يتوجه إلى الإنسان بمجرد عبادة الصنم، بخلاف النفع الذي هو متوقف على الإتيان بالنذر، أو نحو ذلك لَبِئْسَ الْمَوْلى أي أن الصنم بئس السيد للعابد له، إذ هو سيد يوجب ضره وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي الصاحب المعاشر المخالط، فهو لا يصلح خليطا و عشيرا، فكيف يصلح أن يكون سيدا؟

[15] مر بنا نموذجان من البشر، فلنمر بالقسم الثالث، و هو المؤمن، و نرى عاقبته إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله، و اليوم

الآخر، و سائر الأمور الاعتقادية وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة جَنَّاتٍ أي بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت قصورها و أشجارها و شوارعها، حتى يكون الإنسان مطلا على النهر حين التنقّل إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فليس مثل الأصنام التي لا تتمكن من نفع عبادها.

[16] أما المؤمن اليائس من نصرة الله، إذا وقع في الفتنة و البلاء، و لا يرى للآخرة أثرا، كما هو كثير في ضعاف الإيمان- فليفعل ما يشاء، و ليذهب إلى السماء إن تمكن، فإن الله سبحانه، يأبى، إلا أن يجري الأمور بأسبابها، و أن يمتحن الناس، حتى يرى مقاديرهم، و لا يغير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 588

[سورة الحج (22): آية 16]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)

أمره شي ء، و لا راد لقضائه مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا بالغلبة على الكفار، و حل مشاكله، و نجاته من الفتن التي وقع فيها وَ الْآخِرَةِ فهو ضعيف الإيمان بالآخرة، يقول إن لم ينصرني الله في الدنيا، و هي أهون، فكيف ينصرني في الآخرة؟ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أي فليوجد سببا موصلا إلى السماء ثُمَّ لْيَقْطَعْ الطرق حتى يصل إلى السماء بذلك السبب، و هذا عبارة عما هو شائع في الألسن- لدى بيان، أن الأمر لا يتغير عما هو عليه- من قولهم: لو ذهبت إلى السماء لم ينفعك، يريدون أن توسط السماء غير منتج لتغيير ما جرى قدر الله عليه فَلْيَنْظُرْ بعد ذلك، و الاستمداد بالسماء هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ أي تدبيره في الذهاب إلى السماء ما يَغِيظُ ما أوجب غيظه من المشكلة و الفتنة التي وقع فيها؟ و الاستفهام للنفي أي لا يذهب

حتى هذه الحيلة التي هي أبعد الحيل عن متناول البشر، للخروج عما قدره الله سبحانه، إذن فما ذا ينفع في الخلاص من المشاكل؟ إنه نصر الله سبحانه، إن عون الله و نصره هو الذي يحل المشكلة، أما من يئس من عونه، فلا شي ء ينفعه إطلاقا، حتى الذهاب إلى السماء.

[17] وَ كَذلِكَ الذي تقدم من بيان حالات الناس في الهدى و الظلال و التوسط، و عواقب كل طائفة أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا هذا القرآن آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات، لا لبس فيها و لا غموض، لنرشد الناس، إلى ما هم فيه من الهدى و الضلال، و نعرفهم مقاديرهم و عواقبهم وَ بيّنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 589

[سورة الحج (22): الآيات 17 الى 18]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (17) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)

أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أي يوصله إلى الغاية المطلوبة بعد البيان للكل، و إنما يريد الله هداية من اتبع الحق، فالإرشاد للكل «أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ» و الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب ل «من يريد» الله هدايته، لأنه جاء في طريق الحق، و استرشد بالآيات.

[18] أما لو اختلف الناس في قبول الحق و عدمه، بعد أن كان الإرشاد للجميع، فمصيرهم إلى الله و هو الحاكم بينهم يوم القيامة إِنَّ الَّذِينَ

آمَنُوا بأن اتخذوا الإسلام دينا وَ الَّذِينَ هادُوا الذين اتخذوا اليهودية مسلكا وَ الصَّابِئِينَ و فيهم خلاف، و لا يبعد أن يكون خليطا من الأديان، و لهم باقية إلى اليوم- يسمون «صبّي»- وَ النَّصارى و هم تابعوا عيسى المسيح عليه السّلام، و إن انحرفوا عن تعاليمه وَ الْمَجُوسَ و قد كان لهم نبي و كتاب، فقتلوا نبيهم و أحرقوا كتابهم وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله سواء اتخذوا الله و الشريك معا، أو اتخذوا الشريك فقط، و يدخل فيهم الدهرية إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يحكم بينهم، بأن أيهم المحق، و أيهم المبطل، و يجازيهم حسب أعمالهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ حاضر علما و سمعا و بصرا، فليس فصله إلا بالحق، فإنه مطلع على جميع الخصوصيات.

[19] إن البشر لو استكبروا عن عبادة الله و الخضوع لأمره و نهيه، فالكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 590

[سورة الحج (22): آية 19]

هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)

كله خاضع له مطيع لأمره أَ لَمْ تَرَ أي ألا تنظر و تعلم أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من عقلاء الملائكة و الجن، فإن الإنسان يعلم ذلك إذا تدبر في الخلق، و الخالق، و إن لم يره ببصره وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ من العلويات فإنها خاضعة لأمره، سائرة حسب ما قرر لها من المنهاج وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُ من الأرضيات، فإنها خاضعة لأمره، مستقرة أو متحركة حسب إرادته وَ يسجد له سبحانه كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ و هم المؤمنون سجودا متعارفا، و إن سجد الجميع له

سجودا تكوينيا، ثم ابتدأ قوله تعالى وَ كَثِيرٌ ممن أبى السجود و الإيمان، و اختار الكفر و العصيان، حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي ثبت و لزم، لأنه أبى و استعلى و تكبر وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ له بأن جعله ذليلا مهينا، حين تكبر و استعلى و لم يسجد فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ لا في الدنيا و لا في الآخرة، و ما حوله من الحفاوة، أياما قلائل، فإنما هي سراب زائل إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ فالأمور بيده، و الإكرام و الإهانة منه لا من غيره.

[20] و لننظر إلى من يهنه الله و من يكرمه هذانِ أي المؤمنون و الكافرون- و هم الفرق الخمسة المذكورة- خَصْمانِ و الخصم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 591

[سورة الحج (22): الآيات 20 الى 21]

يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ (20) وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)

يطلق على المفرد و المثنى، و المجموع بلفظ واحد اخْتَصَمُوا الإتيان بالجمع، باعتبار الجميع فِي رَبِّهِمْ أي في دين الله سبحانه، أو في وجوده، و سائر شؤونه، و قيل إنها نزلت في المؤمنين و الكافرين، الذين حاربوا يوم بدر، فالمؤمنون هم علي أمير المؤمنين عليه السّلام، و حمزة، و عبيدة، و الكافرون هم الوليد و عتبة و شيبة، و هذا من باب المصداق، كما أن ما ورد من أنها أهل البيت، و بني أمية، من باب المصداق أيضا فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي تفصل لهم الألبسة من عين النار، أو من جسم توقد فيه النار، كالحديد و نحوه يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي الماء الحار المغلي، لتعذب رؤوسهم بالنار و الحرارة كما تعذب سائر أعضائهم بالثياب.

[21] يُصْهَرُ بِهِ أي يذاب

و ينضج بذلك الماء الحميم ما فِي بُطُونِهِمْ من الأعضاء، كالقلب، و الرئة، و الأمعاء، و غيرها وَ الْجُلُودُ فهو حميم يشمل الظاهر و الباطن، و له من الحرارة، ما تذيب الأعضاء و الجلد.

[22] وَ لَهُمْ مَقامِعُ جمع مقمعة، و هي مدقة الرأس من قمع بمعنى دق، و هي أعمدة مِنْ حَدِيدٍ يضرب بها المجرم على رأسه، لشدة نكاله و عذابه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 592

[سورة الحج (22): الآيات 22 الى 23]

كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)

[23] كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها من النار مِنْ غَمٍ كلما حاولوا الخروج من النار، لأجل الغم و الكرب، الذي يصيبهم أُعِيدُوا فِيها أرجعوا إليها، و كأنهم يسيرون قدرا للخلاص، فيعادون إلى مكانهم وَ يقال لهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي عذاب النار المحرقة، فالحريق مضاف إليه، لا وصف.

[24] و قد رأينا حال الكافرين، فلننظر إلى أحوال المؤمنين إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا بما يلزم الإيمان به من الوصول وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي تصلح للحياة السعيدة، و ذلك بإتيان الواجبات، و ترك المحرمات، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت قصورها و أشجارها يُحَلَّوْنَ فِيها يعطون الحليّ و الزينة، التي يلبسونها مِنْ أَساوِرَ من جنس الأساور، و هي جمع سوار، و هو لتحلية اليد مِنْ ذَهَبٍ و كأن الفضة و الذهب هناك غيرهما هنا، فليس الذهب أعلى قيمة من الفضة، فلا يقال كيف قال سبحانه في «هل أتى» لأهل البيت عليهم السّلام «من فضة»

و هنا لسائر المؤمنين «من ذهب»؟ وَ يحلون فيها لُؤْلُؤاً في سائر مواضع أجسامهم وَ لِباسُهُمْ فِيها أي في تلك الجنات حَرِيرٌ و هو الديباج المنتوج من دود القز- هنا- أما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 593

[سورة الحج (22): الآيات 24 الى 25]

وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)

هناك، فلا نعلم مما ينتج.

[25] ذلك مقامهم، و تلك ألبستهم و زينتهم- في مقابل مكان أهل النار و لباسهم- فلننظر إلى ما يقال لهم، مقابل ما قيل لأهل النار «وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» وَ هُدُوا أي أرشد أهل الجنة- و المرشد هو الله سبحانه الملهم لهم بذلك- إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ فيقول بعضهم لبعض «سلام عليكم» و بالتسليم تتلقاهم الملائكة وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي صراط الله المحمود، و هو الصراط الذي يحمد صانعه الذي يسلكه، في مقابل أهل النار الذين «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها».

[26] و بمناسبة الكلام حول الكفار، يأتي السياق لبيان حال قسم خاص منهم و هم الذين يمنعون عن الحج، و عن الإيمان، ثم يستطرد السياق حول بعض خصوصيات البيت الحرام إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله، و اليوم الآخر وَ يَصُدُّونَ أي يمنعون الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريقه المؤدي إلى رضاه، و هو الإيمان به، و العمل الصالح حسب أمره وَ يصدون عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بأن يمنعون الناس عن الحج الَّذِي جَعَلْناهُ و أمر ببنائه لِلنَّاسِ عموما، فما حق الكفار يمنعون

الناس عن الحج؟ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ أي المقيم في «مكة» و الضمير راجع إلى المسجد الحرام، باعتبار ملابسته لمكة، فهو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 594

من باب علاقة الكل و الجزء، وَ الْبادِ أي الذي يطرأ و يأتي إليه من الخارج و سمي المسافر به لأنه يظهر و يتبين، بعد أن كان من الخارج، و المعنى أنه ليس لأحد أن يمنع أحدا، حتى أنه ليس لسكان مكة، أن يغلقوا أبوابهم بوجه المسافرين و لم يكن لدور مكة أبواب، حتى ابتدعها عثمان أو معاوية، كما ورد بذلك التاريخ و الروايات،

ورد أن هذه الآية نزلت في قريش حين صدوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مكة، و قد كتب الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إلى عامله بمكة و هو قثم بن العباس، و أمر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا، فإن الله سبحانه يقول سواء العاكف فيه و الباد

«1»، و العاكف المقيم به، و الباد الذي يحج إليه من غير أهله ثم أنه قد حذف خبر إن، لتهويل الأمر، حتى تبقى نفس السامع قلقة، ما مصير هؤلاء المجرمين؟ و ما يكون عقابهم و عذابهم؟

وَ مَنْ يُرِدْ مضارع من الرد، و حذف ياؤه بالجزم ب «من» أي الذي يريد فِيهِ أي في البيت الحرام، تغييرا، أو تبديلا، و قد حذف مفعول يرد ليذهب الذهن كل مذهب بِإِلْحادٍ الإلحاد العدول عن القصد، و منه يسمى اللحد لحدا، لأنه مائل عن استقامة القبر، و الملحد، ملحد لعدوله عن الإيمان بِظُلْمٍ أي ظلما، و هو متعلق بقوله «بإلحاد» أي من أراد في البيت الحرام شيئا غير جائز، بسبب أنه عدل عن القصد ظلما نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ

أَلِيمٍ مؤلم في الدنيا بإجراء الحد و التعزير عليه تشريعا، و ضربه بالبلايا و المحن تكوينا، و في

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 9 ص 358.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 595

[سورة الحج (22): الآيات 26 الى 27]

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)

الآخرة بإدخاله النار.

[27] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ بَوَّأْنا أي وطأنا و مهدنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ فإن إبراهيم هو الذي بنى البيت، و قد عرفه الله سبحانه، أين يبنيه، و يأتي هذا الكلام عقب الكلام السابق، ليدل على أن البيت، إنما بني لأجل التوحيد و الحج، فما بال الناس يمنعون عن البيت، و ما بالهم يردون فيه بإلحاد بظلم؟ و قلنا له أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً أي لا تجعل معي شيئا في العبادة، و إنما تبني البيت لتوحيدي، و فيه تعريض بالكفار، الذين نصبوا الأصنام حول البيت يعبدونها مع الله وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ من الأدناس المعنوية و الظاهرية لِلطَّائِفِينَ الذين يطوفون و يدورون حول الكعبة، و الطواف قسم من الخضوع، كأنه يريد أن يبين، أني فداء لصاحب هذا البيت وَ الْقائِمِينَ في عباداتهم تجاه الله سبحانه وَ الرُّكَّعِ جمع راكع السُّجُودِ جمع ساجد، أي الذين يركعون و يسجدون.

[28] وَ أَذِّنْ أي أعلم يا إبراهيم فِي النَّاسِ بِالْحَجِ الحج أصله القصد، ثم خصص بهذا القصد الخاص، و المراد أن يعلن، أن الناس يأتون إلى هذا البيت لعبادة ربهم، و إتيان المناسك المخصوصة الدالة على خضوعهم لله سبحانه،

و قد ورد عن الصادق

عليه السّلام أن إبراهيم لما أتم البيت، نادى هلم الحج هلم الحج، فلبى الناس، في أصلاب الرجال لبيك داعي الله، لبيك داعي الله، فمن لبى عشرا حج عشرا، و من لبى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 596

[سورة الحج (22): آية 28]

لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)

خمسا حج خمسا، و من لبى أكثر فبعدد ذلك، و من لبى واحدة حج واحدة، و من لم يلب لم يحج

«1»، و قد وعد الله إبراهيم أن يلبيه الناس، فقال يَأْتُوكَ أي يأتوا إليك يا إبراهيم، لأجل الحج أناس رِجالًا جمع راجل، و هو الماشي الذي لا مركوب له، يسعون على أقدامهم وَ أناس يأتوك عَلى كُلِّ ضامِرٍ من الضمر، و هو الهزال، قد جهده السير، فضمر من الجهد و الجوع و التعب، و إنما خصص هذين، دلالة لتلبية الناس له، حتى الضعفاء منهم الذين لا مركوب لهم، أو هم فقراء، حتى أن مركوبهم ضامر، ليس له ما ينفق عليه، و لا يريحه، حتى يسمن يَأْتِينَ تلك الحيوانات المركوبة الضامرة مِنْ كُلِّ فَجٍ أي طريق عَمِيقٍ بعيد، و هكذا يتقاطر الحجاج على البيت الذي تبنيه يا إبراهيم.

[29] و إنما أمروا بالحج لِيَشْهَدُوا أي يحضروا هناك مَنافِعَ لَهُمْ دنيوية، و أخروية، فالمنافع الدنيوية اقتصادية، و اجتماعية و نفسية، و ما أشبه، و المنافع الأخروية، الجنة و الثواب وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فيجددوا عهدهم به خالصا من كل شائبة فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ و هي أيام الحج، كما يظهر من السياق،

و قد ورد عن علي عليه السّلام أنه الأيام العشر

، و ورد أيضا أنه

الأيام الثلاث للتشريق

، و الظاهر أنها من باب

______________________________

(1) الكافي: ج 4 ص 206.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 597

[سورة الحج (22): آية 29]

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

بيان بعض المصاديق عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ الأنعام، هي الإبل و البقر و الغنم، و البهيمة هي التي لا تقدر أن تتكلم، فإنها من الإبهام، و ذلك أنها لا تفصح عن مرادها، كما يفصح الإنسان الناطق، و المراد ب «على» إما ذكر الله على الحيوان حين يذبح أو ينحر، أو المراد أنهم يشكرون الله على أن رزقهم اللحوم، و على أي حال، فهو مصداق للذكر فَكُلُوا أيها الحجاج مِنْها من تلك الأنعام، و الأمر للإباحة، أو للوجوب، فقد ذهب بعض علمائنا إلى وجوب أكل الحاج من ذبيحته وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ و هو الذي ظهر عليه أثر البؤس- أي الجوع و العري- الْفَقِيرَ و كأنه قيد احترازي، لأن يجتنب عن البائس الذي يظهر ذلك، و ليس بفقير واقعا.

[30] ثُمَ عطف لترتيب الكلام، لا لترتيب ما يأتي على ما تقدم لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ يقال تفث، يتفث «من باب علم يعلم» أي علاه التفث، و هو الوسخ، و تفثت الدماء مكانه أي لطخته، و يقال: قضى تفثه، أي أزال وسخه، كأنه أتى بما عليه تجاه الوسخ- و هو الإزالة- و المراد هنا إزالة الأوساخ من حلق الشعر، و نتف الإبط، و تنوير العانة، و قص الظفر، مما حرمه الإحرام، فإنها تحل في منى وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ التي نذروها من الذبح و النحر لله سبحانه- علاوة على الهدي- وَ لْيَطَّوَّفُوا أصله «تطوف» من باب التفعل، قلبت التاء طاء، و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء

بالساكن بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي البيت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 598

[سورة الحج (22): آية 30]

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

القديم، و الظاهر شمول هذا لكل أقسام الطواف، لما تقدم، من أن «ثم» لترتيب الكلام، لا لترتيب الأعمال.

[31] ذلِكَ هو الحج الذي أمر الناس أن يأتوه، فأصله و أعماله، و بناءه، و بانيه، كما ذكر وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ «حرمات» جمع حرمة، و هي ما لا يحل انتهاكه، أي الذي لم ينتهك حرمة البيت، و حرمة سائر ما شرع من الأعمال المرتبطة به فَهُوَ أي هذا التعظيم خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ إذ يجزيه بالثواب و اللطف، و حيث إن المشركين جعلوا من حرمات الله، البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، يأتي السياق ليبين إنها ليست من حرمات الله وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ أيها الناس الْأَنْعامُ جميع أقسامها إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في سورة المائدة، من المنخنقة و الموقوذة و غيرهما، فإن سورة المائدة نزلت متأخرة عن هذه السورة، و بمناسبة حرمات الله، يبين السياق، أن لا حرمة للأصنام- كما بين، أن لا حرمة للأنعام فَاجْتَنِبُوا أيها الناس، و لعل إتيان الفاء، لترتيب ذلك على الحالة النفسية التي تثار في هذه المشاعر، من التطهر، و الاتجاه إلى الله سبحانه، الرِّجْسَ و هو القذارة المعنوية الحاصلة للإنسان مِنَ الْأَوْثانِ الأصنام وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ أي الافك و البهت، فإن عبادة الأصنام، و جعلها شركاء لله سبحانه، من أكبر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 599

[سورة الحج (22): آية 31]

حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ

يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)

أقسام الافك، فقد كان المشركون ينتهكون حرمة البيت، و يحترمون الأصنام، و يحرمون ما أحل الله من الأنعام، و ينسبون كل ذلك إلى الله سبحانه، فجاء السياق ليشجب جميع هذه الأعمال، و حيث أن مركزها كانت مكة، حشر الجميع في سياق الحج.

[32] في حال كونهم حُنَفاءَ جمع حنيف، و هو المائل عن الشرك، أي ميلوا عن الشرك نحو الطريق المستقيم، و هو طريق الله تعالى، لِلَّهِ تعالى غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ لا تشركوا بالله غيره وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ و يعبد الأصنام من دونه، فهو مثل إنسان يسقط من السماء، و قبل أن يصل إلى الأرض، خطفته الطيور و الجوارح، ليمزقوه، و يأكلوه لقمة سائغة لهم، أو تأخذه الريح لتطرحه، في مكان بعيد عن الأنظار، حتى لا يبقى أثره، حتى أن جسمه يضيع، فلا قبر له و لا أثر، و هكذا المشرك، إنه خر من أوج الإيمان الرفيع، فأخذه الرؤساء الكافرون، ليجعلوا منه وسيلة لسيادتهم و دنياهم، فيعيشون على لحمه و شخصه، أو يبقى وحده، بلا أن يستهويه أحد، بل ضالا في الحياة، لا يدري من هو، و أين؟ حتى يأتيه الموت، فيضل في بحر الفناء، لا أثر له و لا خبر فَكَأَنَّما خَرَّ أي سقط مِنَ السَّماءِ إلى نحو الأرض فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ قبل أن يصل إليها أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أي تميله- فلا يقع على الأرض، ليراه الناس و يأبهوا به- فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أي بعيد عن الأنظار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 600

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 649

[سورة الحج (22): الآيات 32 الى 33]

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ

شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

[33] ذلِكَ الأمر كما ذكرنا من لزوم الإيمان، و ترك الشرك وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ جمع شعيرة، و هي الشي ء الملاصق للبدن، و سمي شعيرة، بعلاقة الملابسة، لأنه يصل بالشعر في البدن، و المراد هنا الأمور المرتبطة بالله، و هو عام يشمل كل ما ورد به دليل خاص، كالمناسك في الحج، أو دليل عام كالمدارس الدينية التي لم تكن في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام، و إنما تشملها الأدلة العامة، و الإتيان بهذه الجملة هنا، بمناسبة أن أعمال الحج من الشعائر فَإِنَّها أي أن تعظيم الشعائر مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ «الضمير» في «إنها» عائد إلى الشعائر، و المراد به تعظيم الشعائر، من باب الملابسة- مجازا- و إضافة التقوى إلى القلوب، لأن حقيقة التقوى في القلب، و إنما يظهر أثره على الجوارح و التعظيم حقيقة لا ينشأ إلا من تقوى القلب، أما صورة التعظيم الذي ينشأ من التقليد و نحوه، فإنه ليس تعظيما حقيقة، و إنما صورة تعظيم مجردة.

[34] لَكُمْ أيها الناس فِيها أي في الشعائر مَنافِعُ مادية و معنوية إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة معينة، قد سمي أجلها، و ذلك، فإن مصاديق الشعائر الأنعام التي تهدى إلى البيت، و يجوز للإنسان ركوبها، و شرب ألبانها، إلى وقت ذبحها ثُمَّ مَحِلُّها أي الموضع الذي تحل الشعائر فيها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي مكة، فإن الهدايا تساق إليها، حتى تذبح بها، ثم إن من البلاغة في القرآن، أن يذكر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 601

[سورة الحج (22): آية 34]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا

مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)

الدليل، و الحكم، كما يذكر العام، ليشمل الخاص، فلا غرابة في أن يراد بالشعائر العموم، و يراد ب «لَكُمْ فِيها مَنافِعُ .. إلى آخره-» خصوص الهدي، كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) «1» ف «إنا لا نضيع» عام، و دليل، في وقت واحد، و هكذا من أمثاله، و هو كثير.

[35] و ليس موضع عجب، أن يكون ذبح الأنعام من الشعائر في هذه الأمة، فقد كان ذبحها في كل الأمم من الشعائر، و الذين يثنون على ذبح الحيوان، لم يدركوا طبيعة البشر، التي لا تقوم، إلا باللحوم، و لم يدركوا أن لا فرق بين ذبح الحيوان و موته، فإن الألم الذي يصل إليه من الموت أكثر من الألم الذي يصل إليه من الذبح، و النقض بذبح الإنسان في غير مورده، إذ الإنسان خلق لنفسه، و له خلق الكون- كما يشهد بذلك نفس الكون- فهو غاية لا وسيلة، بخلاف الحيوان الذي هو وسيلة، ثم ماذا يقولون في ركوب الحيوان، و الحمل عليه؟ فهل يرون ذلك خلافا، و أنه مثل ركوب الإنسان و الحمل عليه؟ و ماذا يقولون، في استخدام الإنسان لجنسه في حوائجه الضرورية؟ و كون الألم هنا أقل فلا يبرر، إذ لو كان الإيلام ظلما، لم يكن فرق في أصل القبح بين الظلم القليل و الظلم الكثير، وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً المنسك موضع العبادة، من نسك بمعنى عبد، و النسيكة الذبيحة، لأنها تذبح قربة إلى الله تعالى، و المراد بالمنسك إما البيت، و إما الذبيحة، لأنها موضع

العبادة، إذ يقرب بها إلى الله، و الأول أقرب

______________________________

(1) الكهف: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 602

[سورة الحج (22): آية 35]

الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

إلى ظاهر اللفظ، و الثاني أقرب إلى السياق لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي إن جعل العبادة، أو الذبيحة، إنما هو لذكر الله على ما رزقهم من اللحوم، و لو كان المراد بالمنسك، محل العبادة، كان التعليل بمناسبة تلازم محل العبادة و ذبح الحيوان قربانا، كما نرى في الحج، و قد كان في الأمم السابقة، تشريع ذبح الحيوان لله، في محل العبادة، و إنما حرفها المشركون، حيث كانوا يذبحونها للشركاء فَإِلهُكُمْ أيها البشر إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فلا تذبحوا الذبائح لغيره كما كانت عادة أهل الجاهلية و «الفاء» تفريع على العلة في «ليذكروا» بمعنى أن تشريع الذبح، لما كان لذكر اسم الله، فلا تذكروا سواه فَلَهُ وحده أَسْلِمُوا أي انقادوا و أطيعوا وَ بَشِّرِ يا رسول الله الْمُخْبِتِينَ الذين يتواضعون لله تعالى، من أخبت خضع.

[36] ثم فسر المخبتين بقوله الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت و اضطربت، فإن الإنسان، إذا ذكر باسم عظيم يكون مآله إليه، و لا يدري هل أنه ناجح أم ساقط، يخشى و يخاف خوف الرسوب، و هذا يدل على كمال الإيمان وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المكاره و الأتعاب و البلايا، يصبرون لأجله سبحانه، و إطاعة لأمره وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ أصله مقيمين، حذف النون، للإضافة وَ الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 603

[سورة الحج (22): آية 36]

وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ

لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)

مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي يبذلون، كما أمر الله سبحانه و «الصابرين» و «المقيمي» عطف على «الذين» و «مما رزقناهم» عطف على «إذا ذكر» أو بتقدير الذين، حتى ينساق العطف في الجميع.

[37] وَ الْبُدْنَ جمع بدنة، و هي الإبل جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ التي تنحر في الحج تعظيما لأمر الله سبحانه، و خص البدن بالذكر، مع أن البقر و الغنم كذلك، لأن البدن أعظمها مثوبة، و أنفعها للناس، و لعل تخصيص الهدي بالذكر من بين سائر الشعائر، لأن فيها الدين و الدنيا، بخلاف سائر الشعائر، كالطواف و السعي و الرمي، و ما أشبه لَكُمْ أيها المسلمون فِيها أي في البدن خَيْرٌ تنتفعون بلحومها في دنياكم، و بثوابها في آخرتكم فإذا أردتم نحرها للهدي اذكروا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها في حال كونها صَوافَ أي قائمات، قد صففن أيديهن و أرجلهن، جمع صافة، و ذلك حين إرادة نحرها فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها بأن سقطت على الأرض، لموتها في أثر النحر، و هي إذا وقعت تقع على جنبها و ذلك كناية عن موتها فَكُلُوا مِنْها الأمر، إما للإباحة، لأن الأكل مباح، أو للوجوب على ما ذهب إليه جماعة من العلماء، من وجوب الأكل من الهدي وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ الذي يقنع بما أعطيته، و هو يسألك الطعام وَ الْمُعْتَرَّ من اعتر، بمعنى اعترى، و هو الفقير الذي يعتري رحلك من غير أن يسأل، و كان الإتيان بهذين الوصفين، لبيان العلة في الإعطاء، و الإلفات إلى خصوصيتها الموجبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 604

[سورة الحج (22): آية 37]

لَنْ يَنالَ

اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

للعطف و الرحمة كَذلِكَ الذي ذكرنا سَخَّرْناها لَكُمْ فإنها مع قوتها مسخرة لكم حتى تتمكنوا من أخذها، و إيقافها صواف و نحوها، بخلاف السباع الممتنعة التي هي لو كانت دونها لا تنقاد و لا تخضع لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا لطف الله و فضله.

[38] إن الأمر بذبح الهدي، ليس لانتفاع الله سبحانه، فإنه تعالى لا ينتفع بشي ء لَنْ يَنالَ اللَّهَ أي لن يصل إلى الله لُحُومُها ليأكل، أو ينتفع وَ لا دِماؤُها كما تنال الأصنام دماء قرابينها، فإنهم كانوا يلطخون الصنم بدم القربان، ليدل على أنهم عظموه بالقربان من أجله وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ فإن توجه القلوب إليه سبحانه، هو المطلوب المهم الذي أمر به سبحانه، و هو الشي ء الذي يريده، و لذا شبه بما ينال الإنسان و يصل إليه، و إلا فالتقوى أيضا لا يناله سبحانه، و المعنى أن المقصود بالهدي التقوى، لا الهدي في صورته المجردة، إذ لا انتفاع لله سبحانه بصورة الهدي، و إنما الصورة تفيد من يريد الأكل أو الاستعلاء بلطخ الدم كَذلِكَ أي كالذي ذكر من كون لحومها و دمائها باختياركم، سَخَّرَها أي سخر البدن لَكُمْ أيها البشر لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي تعظموه على هدايته إياكم، فإن الإنعام، يوجب الشكر على كل نعمة، فالهداية و التسخير و إن كانا نعمتان، لكن أحدهما توجب الشكر على الأخرى، فلا يقال مقتضى القاعدة أن يقال: «على ما سخر» لا «على ما هدى» وَ بَشِّرِ يا رسول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 605

[سورة الحج (22): الآيات 38 الى 39]

إِنَّ

اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)

الله الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في أعمالهم، فلا يأتون بالسيئات.

[39] و إذ بين سبحانه الشعائر و المشاعر بين جواز الدفاع عنها، فإن العقيدة و الشريعة، تحتاجان إلى دفاع أصحابها عنهما من الاعتداء، و بين سبحانه، أولا أنه هو المدافع، ثم أذن للمسلمين أن يدافعوا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فإنه يمنع الكفار عنهم، و ينصرهم على أعدائهم و الإتيان من باب المفاعلة، للالفات إلى المدافعة التي تقع بين الكفار، و بين الأمور التي جعلها الله سبحانه وسيلة للدفاع عن المؤمنين إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ قد خان عهد الله المودع في فطرته، بالتوحيد و الإيمان، و إنما كان خوانا، لأنه يخون في كل خطوة خطوة كَفُورٍ كثير الكفر، فإن الإنسان في كل حركة و سكون، إما يلابس الإيمان أو الكفر.

[40] و إذ تمادى الكفار في غيهم، و أخذوا في تضييق النطاق حول العقيدة و الإيمان، بصد الناس عن الإيمان، و تعذيب المؤمنين بالقتل و الإيذاء و التشريد أُذِنَ و الآذن هو الله سبحانه، و لم يذكر اسمه تعظيما لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي يقاتلهم الكفار، و قد حذف متعلق الإذن، و التقدير أذن لهم، أن يقاتلوا، و هذه أول آية نزلت في باب القتال بسبب بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي أن سبب الإذن، كون الكفار ظلموهم وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فلم يكن النصر إلقاء لهم، في التهلكة، بل بسبب أن الله يريد نصرتهم، و الجملة كناية عن إرادة النصرة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 606

[سورة الحج (22): آية 40]

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ

بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

لا بيان قدرة الله على النصر، فإن ذلك مثل أن يقال لك: اذهب إلى الحرب، فإني قادر على دفع أعدائك.

[41] ثم بين سبحانه كيفية مظلوميتهم توضيحا لقوله «بأنهم ظلموا» الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ و هم المهاجرون الذين أخرجهم الكفار لكثرة أذاهم، حتى اضطروهم إلى الخروج من ديارهم في مكة، بدون أن يكونوا قد اقترفوا إثما أو ذنبا إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فقد كان تمسكهم بالله سبحانه، هو سبب إخراج الكفار لهم عن بلادهم، و الاستثناء منقطع، و قد مر أن مثل هذا الاستثناء، لكون الكلام في المستثنى منه مأخوذا على التجرد، فالجملة تنحل إلى ثلاثة أشياء، هكذا «لم يخرجوا من ديارهم» «إلا لقولهم ربنا الله» «و كان إخراجا بغير حق» لكن الاقتصاد في الكلام، يوجب توصيف المستثنى منه بالجملة الثالثة، ثم بين سبحانه، أن الله يدفع غير المؤمنين بالمؤمنين، حتى تبقى معالم الدين وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي أن الله سبحانه يدفع الكفار بسبب الأخيار و ذلك الدفع بإيجابه سبحانه الجهاد و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و الإرشاد- في الظاهر- و نصره سبحانه لهم- في الباطن- لَهُدِّمَتْ جميع آثار الأديان صَوامِعُ جمع صومعة، و أصلها من الانضمام، و منه الأصمع للألصق الأذنين، و كل منضم فهو متصمع، و الصوامع هي محلات العبادة للنصارى، و لعل وجه تسميتها بهذا الاسم، لأنها تضم العباد و الرهبان وَ بِيَعٌ جمع بيعة، و

هي الكنائس لليهود، و محلات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 607

عبادتهم، و لعل وجه التسمية، أن الإنسان الذي يراودها قد باع نفسه من الله سبحانه وَ صَلَواتٌ أي محلات الصلاة، بعلاقة الحال و المحل، و لعله أريد به مواضع عبادة المجوس، و فيها احتمالات أخر وَ مَساجِدُ للمسلمين يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً الضمير إما عائد إلى المساجد، أو إلى جميع ما تقدم، و المراد أنها كانت تهدم كل في زمان النبي النافذ شرعه، فكانت تهدم البيع في زمان موسى، و الكنائس في زمان عيسى عليه السّلام، و هكذا، و أما أنها كانت تهدم في الوقت الحاضر، فإن هذه المواضع للعبادة خير من عدمها بتسلط أهل الطبيعة، و الدهرية، فإنها علائم من الدين، و آثار من السماء، و إن حرفها أهلها عن الأصل، و كانت باطلة في زمان الإسلام، غير المساجد، فإنه سبحانه له علاقة بها، في مقابل المعطلة و الدهرية، و منه اغتنم المسلمون حين انتصر الفرس على الروم، و كانوا يترقبون غلبة الروم، لأنهم نصارى، على الفرس عباد النار، قال سبحانه (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) «1» وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فإن من نصر شريعة الله، كان الله ناصره، و هذا من باب التشبيه، و إلا فالله غني عن النصرة، ثم إن الله ناصر لمن نصره طبيعي- كما هو غيبي مربوط بما وراء المادة- إذ المؤمن الذي يكمل قواه المادية، و يبرز في الميدان، يكون ضروريا بالقوتين المادية و الروحية، و للقوتين غلبة على القوة

______________________________

(1) الروم: 2- 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 608

[سورة الحج (22): آية 41]

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي

الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

الواحدة في الطرف المقابل، و هي القوة المادية المجردة، أما من لا يكمل قواه المادية، اعتمادا على قواه الروحية فقط، فقد خرج عن أوامر الله سبحانه، الذي قال (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) «1» و (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) «2» و (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ) «3» و (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) «4» و (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) «5» و غيرها إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ يقوى على نصرة المؤمنين عَزِيزٌ قاهر لا يغلبه أحد.

[42] ثم وصف سبحانه الذين أذن لهم في القتال، و أخرجوا من ديارهم بقوله أنهم هم الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بأن كانت لهم المكنة و السلطة أَقامُوا الصَّلاةَ أي أدوها بحقوقها و آدابها، و شرائطها وَ آتَوُا الزَّكاةَ أعطوها إلى من يستحق حسب موازينها وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ و هو كل شي ء أمر به الشرع، أو العقل إيجابا أو ندبا وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ و هو كل شي ء نهى عنه الشرع أو العقل تحريما، أو تنزيها، و ليس معنى هذا- المفهوم- بأنهم إن لم يمكّنوا لم يقيموا الصلاة- إلى آخره- بل هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ غير المتمكن في الأرض لا يتمكن من أداء هذه الأشياء على وجهها، أو

______________________________

(1) الأنفال: 61.

(2) الصف: 5.

(3) المائدة: 52.

(4) آل عمران: 104.

(5) الفتح: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 609

[سورة الحج (22): الآيات 42 الى 45]

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ

لُوطٍ (43) وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

من قبيل إن رزقت ولدا فاختنه، حيث لا محل للختان بدون رزق الولد وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إن الله يرث الأشياء، فالعاقبة، و الخاتمة له، و هذا وعد للمؤمنين، و إيجاد أمل فيهم، بأن يكافحوا و يقاتلوا، لأن الله هو الذي ينصرهم، و تكون العواقب مطابقة لمناهج المسلمين.

[43] ثم سلا سبحانه رسوله، فيما يلاقيه من تكذيب القوم، بأن له أسوة بالأنبياء السابقين وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا رسول الله فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا وَ عادٌ كذبت هودا وَ ثَمُودُ كذبت صالحا.

[44] وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ نمرود و أتباعه، كذبوا إبراهيم عليه السّلام وَ قَوْمُ لُوطٍ كذبت لوطا.

[45] وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ كذبت شعيبا وَ كُذِّبَ مُوسى كذبه فرعون و قومه، و لم يقل «و موسى» لأنه كان يوهم، أن قوم موسى- و هم بنو إسرائيل- كذبوه فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي كتبت أعمالهم، و أمهلتهم حتى استوفوا أعمارهم المقدرة لهم ثُمَ لما انقضى أمرهم أَخَذْتُهُمْ بأصناف العذاب فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ استفهام تقريري، أي كيف كان إنكارهم عليهم، ألم يكن في موقعه، فإنهم لما كفروا، أخذوا بجزاء أعمالهم.

[46] فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي كم من قرى، و المراد بها المدن، و «كم»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 610

[سورة الحج (22): آية 46]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

خبرية للتكثير أَهْلَكْناها و المراد إهلاك أهلها، بعلاقة الحال و

المحل، و ذلك لأن الهلاك يعم نفس القرية، كما يشمل أهلها، فتخرب منازلها و دورها وَ هِيَ ظالِمَةٌ أي أهلها بالكفر و العصيان فَهِيَ تلك القرية المأخوذة خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها أي سقوفها، فإن السقف إذا وقع، وقعت عليه الحيطان و الجدران، و هذا من أبشع أنواع الإهلاك، إذ أهل الغرفة و المحل إذا سقط عليهم السقف و سقطت الحيطان على السقف تحطمت عظامهم و كثيرا ما لا يظفر لهم على بدن وَ كأين من بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ تعطلت عن الرواد و ذكر البئر، لأن الماء كان من الآبار، في أكثر المدن و القرى، و تعطيلها كان علامة فناء أهلها، حتى أن هذا العصب الحي للحياة، قد تعطل عن العمل وَ كأين من قَصْرٍ مَشِيدٍ أي قد شيد و بني بالجص، و زين بالزخرفة، قد تعطل، فلا ساكن له، و إذ لا ساكن للقصر المشيد، فكيف بالدور و الدكاكين، و نحوها، مما لا قيمة لها في جنب القصر.

[47] أَ فَلَمْ يَسِيرُوا أي هؤلاء الكفار المكذبون بنبوتك فِي الْأَرْضِ اليمن و الشام، و سائر البلاد التي أهلك أهلها، لما كذبوا الرسل، حتى يعتبروا، و يقلعوا عن غيهم؟ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يرون من العبر، و آثار الخرائب التي بقيت بعد إهلاك الأمم السابقة، الذين كذبوا أنبياءهم أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أخبار الأمم السابقة، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 611

[سورة الحج (22): آية 47]

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)

الإنسان، إذا سافر، سمع من أهل بلد أخبار الماضين منهم، و أنهم كيف كانوا، و كيف ماتوا، حتى يحكوا لهم، أن أسلافهم أهلكوا حيث

كذبوا الأنبياء و عملوا بالكفر و المعاصي، فَإِنَّها الضمير للشأن و القصة، و يأتي هذا الضمير للإلفات و التنبيه، إلى أن ما بعده أمر مهم، فإذا كان مذكر، سمي ضمير الشأن، و إن كان مؤنثا سمي ضمير القصة، و الجملة ما بعد الضمير مفسرة له لا تَعْمَى الْأَبْصارُ الناظرة إذ البصر ينظر و يرى وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ و تنفلق عن الهدى الَّتِي فِي الصُّدُورِ و الإتيان بهذا الوصف للتعميم، كقوله (وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) «1» [48] وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا رسول الله، أي هؤلاء الكفار، فقد كانوا يطلبون من الرسول، أن يأتي به بِالْعَذابِ الذي وعدهم، استهزاء به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكن الله سبحانه لا يأتي بالعذاب، إلا في الوقت المحدد له حسب حكمته و مصلحته وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فقد وعد بالعذاب، فيأتيه، كما وعد لهم مدة معينة، فلا يأخذهم قبل انقضائها وَ إِنَّ يَوْماً و هو يوم القيامة عِنْدَ رَبِّكَ في حسابه كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ و هذا تهديد، أي أن وراءهم يوما يعادل ألف سنة، بحساب الإنسان، و إن كان عند الله سبحانه، يعد يوما واحدا، و هذا كما تقول للمجرم،

______________________________

(1) الأنعام: 39.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 612

[سورة الحج (22): الآيات 48 الى 50]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50)

سيأتي وقتك، و في حساب الحكومة لك يوم هو عشرون سنة في حسابك، تريد أن عليه الحبس تلك المدة.

[49] إنهم كيف

يستعجلون بالعذاب؟ ألم يعلموا ماذا صنع بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة؟ وَ كَأَيِّنْ أي: و كم مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها أي أمهلتها لتبلغ أجلها المقدر لها وَ هِيَ ظالِمَةٌ بالكفر و العصيان مستحقة، لتعجيل العقاب ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب لما انقضى أجلها وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي أن الكل يصيرون إلى عقابي و ثوابي و جزائي في القبر، و في القيامة، فلا يغرنهم الأجل المضروب لهم «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» و سيأتي وقت هؤلاء القوم، و إنا إذ ننظر إلى هذه الآيات، نرى أن وقت القوم المكذبين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قد انقضى، و أن الله قد أهلكهم و لم يبق اسمهم إلا للعنة، كما أنهم هناك معذبون في أشد العذاب.

[50] قُلْ يا رسول الله للناس يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ أنذركم بالعذاب في الدنيا و الآخرة مُبِينٌ واضح ظاهر، أنذركم بكل صراحة و وضوح.

[51] فَالَّذِينَ قبلوا الإنذار، بأن آمَنُوا إيمانا صحيحا بالأصول و المعارف وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ و لازم ذلك ترك السيئات- كما مر- لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي غفران، إذ هو مصدر ميمي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 613

[سورة الحج (22): الآيات 51 الى 52]

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)

وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ فيغفر الله ذنوبهم، و يتفضل عليهم بالجنة، التي فيها رزق كريم، مع الكرامة و الحفاوة.

[52] وَ الَّذِينَ لم يقبلوا الإنذار بل سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أي بذلوا الجهد

في إبطال آياتنا و أدلتنا الدالة على التوحيد، و الرسالة، و المعاد، في حال كونهم مريدين أن يعجزونا، و يسلبوا قدرتنا عن الهدى و الإرشاد و الإتيان من باب المفاعلة لأنهم يريدون تعجيز الأنبياء حتى لا يهدوا الناس و الأنبياء يريدون تعجيزهم حتى لا يصدوا السبيل أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ و هذا من باب كون أولئك مورد الكلام، و إلا فمن كفر كان محله النار، و إن لم يسع معاجزا.

[53] و بمناسبة الكلام حول من يسعون في آيات الله معاجزين، ذكر سبحانه بعض كيفيات سعيهم في إبطال الآيات و ذلك بأنهم يزيدون و ينقصون في الآيات، حتى يبطلوها و يحرفونها حسب أهوائهم، و هكذا يفعل المغرضون دائما بالمصلحين إنهم ينقلون عنهم الكلام بزيادة و نقيصة، يفسحون بذلك مجالا لافتراءاتهم و تخريباتهم، لكن الكفار لا يتمكنون إبطال الآيات بهذه الكيفية الشائنة لأن الله سبحانه من وراءهم يبطل ما حرفوه و يقوي آياته في القلوب، حتى تبقى كالفضة الخالصة لا غش فيها و لا دين وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله مِنْ رَسُولٍ يرسله الله سبحانه وَ لا نَبِيٍ ينبئه الله تعالى، و لعل الاختلاف بينهما- هنا- حسب العموم و الخصوص، فالرسول أخص من النبي،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 614

و إن كان كلاهما مرسلا إِلَّا إِذا تَمَنَّى التمني هو القراءة، يقال تمنى الكتاب إذا قرأه، قال الشاعر:

تمنى كتاب الله أول ليله و آخره لاقى حمام المقادر

أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي في قراءته و معنى الإلقاء التحريف بالزيادة و النقصان، و إنما نسب الإلقاء إليه، لأنه من وسوسته، و إغرائه لعملائه الكفار أن يزيدوا، و بهذا الإلقاء يريد الشيطان و أتباعه أن يعجزوا الرسول عن إتمام

رسالته- كما سبق قوله: «و الذين سعوا في آياتنا معاجزين» إذ إلقاء التشويش و الاضطراب، يوقف سيرة الدعوة و يكدر صفوها، لكن الله سبحانه يحفظ دينه و قرآنه عن الاختلال فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ بأن يبطله و يزيله بسبب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الرسول، إذ يبين الرسول للناس أن هذا زائد و هذا ناقص، و هذا أصيل و هذا دخيل ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ بأن يجعلها محكمة لا يتسرب إليها الدخيل فإن المؤمنين إذا علموا أن الكفار بصدد الزيادة و النقصان، التزموا بالكتاب أشد الالتزام مما يوجب إحكامه، فلا يتطرق إليه التغيير و التحريف و قد حاول الكفار ذلك بالنسبة إلى القرآن منذ عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكنهم لم ينجحوا و في زماننا حاول «أتاتورك» أن يلخص القرآن، و صنع منه مهزلة لم يدم إلا يسيرا، حتى نسخه الله، و أحكم آياته، و ثم حاول اليهود من «فلسطين» أن يغيروا القرآن، و طبعوا منه نسخا محرفة، و وزعوها في البلاد، لكنها لم تنجح أيضا، بل قيض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 615

[سورة الحج (22): آية 53]

لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)

الله المسلمين، لينبهوا على تحريفهم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يفعله الكفار بوسوسة من الشياطين حَكِيمٌ يعمل كل عمل عن حكمة و صلاح، فلا يدع الكتاب الموحي إلى النبي عرضة التلاعب و الزيادة و النقصان.

[54] و إنما لا يعجز الله الشيطان عن هذا العمل، بأن يسلب قدرته منه حتى لا يتمكن من هذه الزيادة و النقصان لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ في

الكتاب فِتْنَةً و امتحانا لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فإن من مرض قلبه بالشك و الريب، إذا رأى الزيادة و النقصان و الاضطراب رفع اليد عن الإيمان، و دخل في صف الكفار أو المنافقين وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الكفار الذين قست قلوبهم عن قبول الحق، فإن التحريف في الكتاب، على ما ألقاه الشيطان فتنة لهم، لأنه يزيدهم كفرا و ضلالا فإنه يعطيهم الدلالة، حتى يتمكنوا من الهدم أكثر من ذي قبل وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و النفاق لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ كأنهم في شقة منحرفة عن الجادة المستقيمة و الشقة التي فيها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعيدة جدا عن الجادة، فليسوا كالعصاة الذين هم في شقة قريبة، إذ انحراف العاصي يسير بالنسبة إلى انحراف الكافر و المنافق، و المعنى أن الكفار، و الذين في قلوبهم مرض، الذين يتخذون التحريف، وسيلة للريب و الهدم إنهم بعيدون عن الجادة المستقيمة، و إلا فما يمنعهم عن تصحيح القراءة بسبب الرسول و المؤمنين؟ إنهم يريدون الكفر و النفاق و الشك و التهريج، لا الحق، و لا الواقع، حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 616

[سورة الحج (22): الآيات 54 الى 55]

وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

يبحثوا الشي ء عن أصله و مورده.

[55] و كما أن التحريف يسبب ضلالا و كفرا للذين في قلوبهم مرض، و القاسية قلوبهم، كذلك يسبب هداية و إيمانا بالنسبة إلى المؤمنين إذ الإنسان الطالب للحقيقة،

إنما يقوي إيمانه، إذا رأى الاستقامة في وسط الاضطراب، و رأى الحق في جنب الباطل، فإن الأشياء تعرف بأضدادها فإذا رأى الذين أوتوا العلم القرآن، لم يتغير و لم يتبدل، و قاسوه بما ألقي فيه من التحريف ليروا الفرق الظاهر بين كلام الله و كلام الشيطان، ازدادوا إيمانا و يقينا وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي أعطوا العلم فهم عالمون فاهمون أَنَّهُ أي القرآن الذي أريد فيه الزيادة أو النقصان الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ و لذا بقي ناصعا مشرقا، لم يؤثر فيه التشويش و التحريف فَيُؤْمِنُوا بِهِ بالنسبة إلى غير من آمن إلى هذا الوقت و يثبتوا على الإيمان بالنسبة إلى المؤمن، فإن للإنسان في كل آن إيمان، و في كل لحظة هداية. فإن الإيمان فعل القلب الذي يصدر منه آنا فآنا فَتُخْبِتَ أي تخضع لَهُ أي للقرآن، المستفاد من قوله: إذا تمنى قُلُوبُهُمْ و تكون أكثر إيمانا به و التزاما له وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يهديهم في كل خطوة من خطوات الحياة المظلمة، فمن أسلس قيادة الله بالإيمان، هداه حينا بعد حين إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج فيه و لا انحراف.

[56] أما الكفار، فإنهم يبقون في غيهم إلى أن يموتوا، و ذلك، لأنهم لم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 617

[سورة الحج (22): الآيات 56 الى 57]

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)

يسلسوا القياد، و أخذوا في الضلال و الغواية وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من القرآن هل هو منزل أم لا؟ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي الموت، أو

القيامة بَغْتَةً فجأة، فلا مجال لهم للإيمان، حتى ينجوا من العذاب أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ بأن يأخذهم عذاب الاستئصال و الحاصل أنهم في شك حتى يموتوا، أو يعذبوا بإرسال الله العذاب عليهم، كما كان يعذب الأمم السابقة، و سمي اليوم عقيما، لأنه لا مثل له، فهو فرد كالإنسان العقيم الذي لا يلد، فهو فرد لا شريك و لا شبيه له.

[57] الْمُلْكُ و السيطرة المطلقة يَوْمَئِذٍ أي يوم إتيان الساعة أو العذاب لِلَّهِ لا شريك له في الملك، حتى ظاهرا بخلاف الدنيا، فإن هناك ملوكا ظاهرين، قد جعلوا الملك لهم يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بين المؤمن و الكافر فلا أحد هناك له سيطرة، لنقض حكم الله، و إبطال قضائه فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي لا فساد فيها فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ينعمون فيها، و الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، أي في نعيم الجنات.

[58] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله و المعاد وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي الأدلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 618

[سورة الحج (22): الآيات 58 الى 59]

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)

التي نصبناها للإرشاد و الهداية فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلهم، جزاء لكبريائهم في الدنيا، عن الحق و الإذعان.

[59] و حيث كان الكلام في الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، خصصوا بالذكر، بعد أن شملهم عموم «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» وَ الَّذِينَ هاجَرُوا أوطانهم و أهليهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لأجله، و بقصد امتثال أوامره، فكأنهم أخذوا يسيرون في الطريق الموصل إليه تعالى ثُمَّ قُتِلُوا

في الجهاد، حيث أذن لهم بالمقاتلة أَوْ ماتُوا في الغربة لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً و هو الرزق الذي لا يشوبه كدر و منقصة، أي في الجنة، في قبال تركهم طيبات الدنيا و أرزاقها، و الرزق أعم من المأكل و المسكن و الزوجة و نحوها وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فقد أطلق الرازق على كل من يتولى إعطاء الرزق لغيره، من أب، و زوج، و سيد و غيرهم، فالله سبحانه خيرهم، إذ رزقه أهنأ و أطيب و بدون من.

[60] لَيُدْخِلَنَّهُمْ الله سبحانه مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ «مدخل» وزن المفعول، و هو اسم مكان، و المراد به الجنة، فإنهم يرضون بها مقاما و منزلا، لما فيها من النعيم المقيم مما تشتهي الأنفس، و تلذ الأعين، وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بأحوالهم، و ما عملوا من الصالحات حَلِيمٌ و هذا تسلية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 619

[سورة الحج (22): آية 60]

ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)

لهم، بأن الله سبحانه إذا أمهل الكفار، حتى فعلوا ما فعلوا فلم يكن ذلك إحباطا لأعمال المسلمين و عدم الاعتناء بهم، و إنما هو بمقتضى حلمه، و سيعاقبهم على ما اقترفوا و يجزي المسلمين، بما أوذوا في سبيله.

[61] ذلِكَ أي أن الأمر، كما قصصنا عليك وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي جازى الظالم، بمثل ما صنع به من الظلم و التعدي، بأن قاتل المشركين، كما قاتلوه، و أخرجهم كما أخرجوه، و سمى العقاب عقابا، لأنه يلحق الإنسان و يأتي بعقبه، و كان الإتيان من باب المفاعلة، لأجل أن كلّا من الشخصين ليعاقب الآخر، فهذا يظلم ذاك و ذاك يرد عليه ما

عمل به، و سمي كل من الأمرين معاقبة للتشابه المسمى ب «الازدواج» كقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «1» ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي ظلمه الظالم مرة أخرى، و إنما ذكر ذلك، لأن المظلوم غالبا يبغى عليه مرة أخرى، إن اقتص من الظالم لظلمه أولا، فإن من يبتدئ بالعدوان، لا يترك المظلوم أن يجازيه إلا و يعاقبه مرة أخرى لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ فلا ييأس المظلوم من هذا الحيث، و ليعلم أن الله بالمرصاد، فليقدم على وضع حد للظالم برباطة جأش، و قوة قلب، و لعل هذا ليتعلم المسلمين أن لا يحجموا عن الفتك بمن ظلمهم خوف أن يعود الظالمون عليهم بالظلم و الأذى إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ أما البشر فلا يلزمهم الله بالعفو، لأنهم لا يقدرون

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 620

[سورة الحج (22): الآيات 61 الى 62]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

على ذلك غَفُورٌ يغفر الذنب، و ليس كذلك البشر، و إذا أذن لهم في رد الاعتداء و قتال من آذاهم و أضربهم.

[62] ذلِكَ النصر للمؤمنين المظلومين على الكافرين الظالمين، إنما يكون بدليل أن اللَّهَ سبحانه قادر على كل شي ء، كما يقدر على التصرفات الكونية، فمن يقدر على تحريك الكون العظيم، يقدر على نصرة المظلوم، أو المراد أن سنة الله الكونية قد جرت على التغيير و التبديل، فكما لا يبقى ليل و لا نهار أبدا، كذلك لا يكون الغلب للظالمين أبدا، فهو ينصر المظلوم عليهم كما يُولِجُ اللَّيْلَ

فِي النَّهارِ أي يدخله فيه، في أيام الصيف و الخريف، فتنقص من ساعات النهار، لتضاف على ساعات الليل، و ذلك من أول الانقلاب الصيفي إلى أول ليلة من الانقلاب الشتوي وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخله فيه في أيام الشتاء و الربيع، فتنتقص من ساعات الليل، لتضاف على ساعات النهار، و ذلك من أول الانقلاب الشتوي إلى أول يوم من الانقلاب الصيفي وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يدعو المؤمنين، فيجيب لهم بَصِيرٌ بأحوالهم، فينتقم لهم من الظالمين.

[63] ذلِكَ الذي ذكر من انتقام الله من الظالمين، و نصرة المؤمنين، و أنه هو المصرف للكون بسبب أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُ فهو المصرف، و هو المدافع عن المظلوم وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 621

[سورة الحج (22): الآيات 63 الى 64]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)

هُوَ الْباطِلُ فلا تقدر الآلهة الباطلة على تصريف للكون، كما لا تقدر على نصرة عبادها وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ فهو أعلى من كل شي ء يسمع و يرى كل شي ء و يقدر على كل شي ء الْكَبِيرُ الذي لا شي ء أكبر منه، حتى يتمكن من الوقوف أمامه، و نقض إرادته.

[64] و يشهد لكون التصرفات الكونية لله سبحانه، و أنه العلي الكبير، القادر على نصرة المظلومين، ما يراه الإنسان من الأحالات الطارئة الحكيمة التي تنتاب الكون، مما لا يمكن أن تنسب إلى صنم أو إنسان، أو صدفة مجردة أَ لَمْ تَرَ أيها الرائي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي

من جهة العلو، المطر فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟ مزينة بالخضرة و النبات، و في لفظ «تصبح» نكتة بديعة، حتى أنه أجلى أوقات الاخضرار إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ بعباده، و من لطفه بهم، زين أرضهم، بما ينتفعون به من الخضر خَبِيرٌ بأحوالهم و حوائجهم فما فعله حكمة و صلاح لهم.

[65] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فكل تصرف في الكون إنما هو منه وحده لا شريك له فيه، وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُ المطلق الذي لا يحتاج إلى مشاور و مشارك فهو وحده يدير الشؤون الكونية الْحَمِيدُ المطلق، الذي له كل الحمد إذ منه كل نعمة و فضل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 622

[سورة الحج (22): الآيات 65 الى 66]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)

[66] أَ لَمْ تَرَ أيها الرائي، استفهام إلفاتي للتنبيه أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ فمن هو الذي جعل المخلوقات الأرضية، مسخرة لكم تسيطرون عليها بإرادتكم، فسخر لكم الأنهار، لتجري نحو حوائجكم، و سخر المعادن لتنقاد لأموركم، و سخر الأنعام لمنافعكم، و هكذا وَ الْفُلْكَ على وزن أسد جمع أسد تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ سبحانه، لمنافعكم و مآربكم؟ فمن جعل الماء بحيث يحمل الفلك في قاعدة مطردة كشف عنها «أرخميدس» و المعنى سخر الفلك، في حال جريها في الماء، بإذن الله سبحانه، و إنما قال «بأمره» دون «إذنه» لأن التكوين يحتاج إلى الأمر بأن يقال للشي ء «كن» وَ يُمْسِكُ السَّماءَ يحفظها أَنْ تَقَعَ عَلَى

الْأَرْضِ فلا يبطل النظام الكوني، الذي جعله الله سبحانه حتى لا تقع الكواكب على الأرض، و إنما تسير الكواكب في أفلاكها المقررة لها، المعبرة عنها بالسماء، لسموها و علوها و ارتفاعها إِلَّا بِإِذْنِهِ فإذا أذن للسماء أن تقع، و يبطل النظام كما في يوم القيامة، حيث قال (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) «1» لم يمنع منها شي ء إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ و لذلك سخر لهم ما في الكون و أمسك السماء من الوقوع عليهم.

[67] وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم ترابا ميتا، بأن أعطاكم الحياة

______________________________

(1) الأنبياء: 105.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 623

[سورة الحج (22): آية 67]

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)

و الروح ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فهو سبحانه المميت، أما من ظن أنه المميت بقتله إنسانا أو غيره، فقد أخطأ، فإنه إنما يوجد السبب الذي جعله الله وصلة لذلك المسبب، فهو كمن يزعم أنه يحيي بإيجاده الماء العفن المولد للبعوض ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بعد الموت للحشر و النشور إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ كثير الكفر، حيث أنه يكفر بالإله، و يكفر بالبعث، و يكفر بالأدلة مع وضوحها و جلائها.

[68] و إذ قد وضح الدليل، و تمت الحجة، فلا داعي للرسول لأن يشغل نفسه بمنازعة الكفار المنكرين للمبدأ و المعاد لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً مصدر ميمي أي منهجا هُمْ ناسِكُوهُ أي ينتهجونه و يتبعونه في حياتهم فَلا يُنازِعُنَّكَ يا رسول الله، أي لا وجه لنزاع الكفار معك فِي الْأَمْرِ أي أمر الشريعة و أنها لم صارت هكذا؟ و هذا و إن كان في الصورة نهيا للكفار عن المنازعة، لكنه في الحقيقة إرشاد للرسول، بأن

لا يشغل نفسه بكلامهم و خصامهم فإن المعاند لا يفيد معه الخصام و الجدال وَ ادْعُ يا رسول الله إِلى رَبِّكَ غير مبال بهم، و لا ملتفت إليهم إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ قد شبه الهدى بالطريق المستقيم الذي يوصل الإنسان إلى مقصده، و الرسول على ذلك الطريق، فليس عليه أن يعارض و ينازع أصحاب الطرق المنحرفة، و إنما عليه الدعوة، حتى إذا رآه الناس، و رأوا طريقه اتبعوه تلقائيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 624

[سورة الحج (22): الآيات 68 الى 71]

وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)

[69] وَ إِنْ جادَلُوكَ الكفار في منهجك الاعتقادي و العملي، فلا تشغل نفسك بالجدال معهم، بل أجبهم بما يقطع كلامهم فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ و هذا كلام الإنسان الذي يريد إظهار خنجره و برمه بما يأتي خصمه من الأعمال، و إن أعماله باطلة، و هو يعلم ذلك [70] اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يفصل بينكم ليجازيكم على أعمالكم فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي تختلفون معي في العقيدة و العمل و كفى بالله عالما حاكما مجازيا، و بهذا ينهي الرسول جدالهم، و يقطع كلامهم، إذ لا فائدة في محاجة المعاند، الذي يرى الحق فينكره.

[71] أَ لَمْ تَعْلَمْ أيها الإنسان المجادل أو أنه قطع للكلام السابق و توجيه للخطاب نحو الرسول، ليلفت الناس بذلك أَنَّ

اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ فلا يخفى عليه شي ء كي يخفى عليه أعمال هؤلاء الكفار إِنَّ ذلِكَ الذي في السماوات و الأرض فِي كِتابٍ أي مثبت في اللوح المحفوظ فلا خافية إلا و الله سبحانه قد أثبتها في كتاب لديه إِنَّ ذلِكَ الثبت في الكتاب، لكل ما في السماوات و الأرض عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يأتي بمجرد الإرادة، بلا حاجة إلى تعب كتابة كما يحتاج الإنسان إلى ذلك.

[72] وَ بعد وضوح الأدلة، و تمام الحجة يَعْبُدُونَ أي هؤلاء الكفار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 625

[سورة الحج (22): آية 72]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله، و لعل في التعبير ب «من دون» نكتة هي أن ما يعبدونها دون الله في المرتبة، فليست لها رتبة الألوهية، و مقام الله سبحانه، مع إهانة في التعبير للأصنام، حيث عبر عنهم ب «دون» ما لَمْ يُنَزِّلْ الله بِهِ أي بذلك الشي ء الذي يعبدوه سُلْطاناً أي حجة و دليلا وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فلا دليل شرعي على تلك الآلهة أنزله الله، و لا دليل عقلي لهم يعلمونه، و إنما عبادتهم لمجرد تقليد و ظن وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ فإن الأصنام التي يعبدونها، و يقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) «1» لا تنصرهم، يوم يأخذهم و بال عبادتهم لها.

[73] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار آياتُنا الدالة على وجودنا، و سائر شؤوننا، في حال كون تلك الآيات بَيِّناتٍ واضحات ظاهرات تَعْرِفُ يا رسول الله فِي وُجُوهِ

الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي الإنكار، فإن «المنكر» هنا «مصدر ميمي» و المعنى أنه تظهر في وجوههم علامة الإنكار، بتقطيب الوجه و الإعراض، و من شدة حنقهم و غيظهم يَكادُونَ يَسْطُونَ من السطو، و هو البطش، للإخافة و الإيذاء، يقال: سطا يسطو، إذا بطش بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا فيفتكون بهم و يضربونهم، و يقولون فيهم الأقوال البذيئة، من

______________________________

(1) يونس: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 626

[سورة الحج (22): آية 73]

يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (73)

شدة غضبهم قُلْ يا رسول الله، لهؤلاء الكفار، الذين يكرهون سماع الآيات بهذا النحو من الكراهة الشديدة أَ فَأُنَبِّئُكُمْ أي هل تريدون أن أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ بما يسيئكم أكثر من القرآن، و الآيات التي تسمعونها؟ إنما هو النَّارُ التي تذوقونها جزاء أعمالكم، فإن كراهتكم لها أكثر وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا فإنها يلاقونها و يلقون فيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي المرجع و المأوى الذي تصيرون إليه و «المصير» فاعل، و المخصوص محذوف.

[74] ثم ضرب سبحانه مثلا لبطلان ألوهية الأصنام التي يعبدها الكفار يا أَيُّهَا النَّاسُ و المراد بهم الكفار ضُرِبَ مَثَلٌ و الضارب للمثل هو الله سبحانه، لكن حيث كان المقصود الفعل دون الفاعل، أتى الفعل مجهولا، كما قرر في البلاغة و قد سبق أن «الضرب» إنما هو باعتبار أن المثل يصطدم بأدمغة الناس فيحدث فيها نقشا و انفعالا فَاسْتَمِعُوا لَهُ و هذا لتأكيد الإلفات نحو المثل ليتركز في الذهن أكثر إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إن الأصنام التي تدعونها آلهة من

دون الله، و الإتيان «بالذين» الذي هو للعاقل، باعتبار توهم عبادها عقلها لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً على صغر الذباب، و قلة فائدته، و المراد لا يتمكنون من خلقه وَ لَوِ اجْتَمَعُوا هذه الأصنام المعبودة كلها لَهُ أي لخلق ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 627

[سورة الحج (22): الآيات 74 الى 75]

ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)

الذباب وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً بأن يأكل الذباب بعض الأطعمة لا يَسْتَنْقِذُوهُ أي لا تقدر هذه الأصنام على إنقاذ الشي ء المسلوب مِنْهُ أي من الذباب، فإن هذا مثل لعدم قدرة الآلهة المعبودة، إذ المثل هو بيان مصداق لكلي، فإذا قال الفاعل مرفوع، ثم طلب منه المثل، قال: كزيد، في «قام زيد» و هنا كذلك، فإن القاعدة هي أن هذه الآلهة، لا تقدر على شي ء و مثله: أنها لا تقدر على خلق ذباب، و لا على إنقاذ شي ء سلبه الذباب، قال ابن عباس: كان المشركون يطلون أصنامهم بالزعفران، فيجف فيأتي الذباب فيختلسه، و هناك رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام في تفصيل القصة، و إذا كانت الأصنام بهذه المكانة، من الضعف، و عدم القدرة فكيف تتخذونها آلهة؟

ضَعُفَ الطَّالِبُ و هو المشرك الذي يعبد الصنم، و يطلبه وَ الْمَطْلُوبُ الذي هو الصنم، و هنا أقوال أخرى.

[75] ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظمه سبحانه هؤلاء المشركون حق عظمته، حيث جعلوا الأصنام المنحوتة التي لا تقدر، و لا تشعر شركاء له إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ ليقوى على كل شي ء، فكيف يجعل الصنم الضعيف شريكا له؟ عَزِيزٌ غالب على ما يريد، فكيف يجعل الصنم المغلوب الذي

لا يملك من أمره شيئا شريكا له؟

[76] و إذ تبين، أن الأصنام ليسوا شركاء لله، لأنها بهذا العجز و الضعف، فليعلم الذين يعبدون الملائكة و الأنبياء، إنما يعبدون هؤلاء عبادا لله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 628

[سورة الحج (22): الآيات 76 الى 77]

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)

اصطفاهم الله و كيف يكون العبد المصطفى شريكا مع الإله المصطفي اللَّهُ يَصْطَفِي و يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى الأنبياء عليهم السّلام كجبرائيل إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كالملائكة الثلاثة الذين جاءوا إلى إبراهيم و لوط، و هكذا وَ يصطفي مِنَ النَّاسِ رسلا، كالأنبياء عليهم السّلام إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم بَصِيرٌ بأعمالهم، فلا يختار أحدا، يدعي الألوهية و هم تحت سمع الله و بصره، لا يقدرون على مخالفة أمره، و دعوة الناس إلى الاعتقاد بألوهيتهم.

[77] يَعْلَمُ سبحانه ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما يقدمه الأنبياء و الملائكة إلى الآخرة وَ ما خَلْفَهُمْ مما يدعون عند الناس من الشريعة، و الأخلاق و غيرها، فهو محيط بهم وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي أن الأمور كلها، مرجعها إلى الله ليحكم فيها، و يجازي العاملين عليها، فهو القوي العزيز، المختار، السميع، البصير، العالم، الحكم و المرجع، فهل مثل هذا الإله يقاس بما سواه من الأصنام و الملائكة و النبيين؟

[78] و إذ ظهر أن الله هو الإله الوحيد، فتوجهوا أيها الناس بالعبادة إليه وحده يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا خضوعا لله سبحانه وَ اسْجُدُوا لعظمته، و المراد بهما الإتيان بالصلاة و كني عنها بهما،

و أما الركوع و السجود لاستحبابهما في أنفسهما وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ بسائر أنواع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 629

[سورة الحج (22): آية 78]

وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (78)

العبادة وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ و هو جميع أنواع البر، فإن كل فعل يأتي من الإنسان، إما خير و إما شر، و إما لغو، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالفلاح و النجاح في الدنيا و الآخرة.

[79] وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ أي في سبيله سبحانه، و من أجله حَقَّ جِهادِهِ أي بالكيفية التي يستحق الجهاد في الله إياها، و هي بأن يكون الجهاد خالصا بكل ما أوتي الإنسان من قوة مادية أو معنوية، و المراد بالجهاد إما القتال و إما مجاهدة الإنسان في تطبيق ما أمر الله سبحانه، الذي يكون القتال مصداقا من مصاديقه هُوَ سبحانه اجْتَباكُمْ أي اختاركم لدينه، فمن اللازم أن تؤدوا الأمانة التي حملها عليكم و رآكم أهلا لها، و فضلكم- دون غيركم- بها وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و ضيق فإن الجهاد الذي أمركم به هو دون قدرتكم و طاقتكم رأفة بكم و رحمة عليكم، و لذا نرى أن جميع التكاليف، أقل من طاقة الإنسان و قدرته، الزموا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي طريقته، و عليكم بها هُوَ أي أن إبراهيم عليه السّلام أو المراد به «الله» سبحانه سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ من قبل أن تكونوا وَ

فِي هذا القرآن، أو في هذا الوقت أيضا سميتم «مسلمين» فأسلموا و سلموا حسب اسمكم، و إنما اجتباكم، و جعل الرسول فيكم، و سماكم المسلمين، و جعلكم ورثة إبراهيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 630

لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ يشهد على هذه الأمة بما عملت حيث أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القائم على أموركم و المبين لمنهجكم، و العالم الموجه القائم، يكون الشاهد لمن استقام و على من انحرف وَ تَكُونُوا أنتم أيها المسلمون شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ إذ المسلمون يوجهون الناس، و يحددون سلوكهم و يكونون الناظرين لأعمالهم من استقام و من انحرف، و ما ورد من أن المراد بذلك الأئمة عليهم السّلام فهو من باب المصداق الظاهر الجلي بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما لا يخفى و في هذه الآية الكريمة أنواع من التأكيد و التشجيع لقيام المسلمين على حفظ الإسلام و نشره، و الجهاد في سبيله، فالدين دين جدهم و التسمية تسمية إلههم، و هم المختارون لهذه المهمة، و ليس فيه ضيق و لا حرج، و الرسول شاهد عليهم، و هم مفوضون في البلاغ، قوامون على الناس قد جعلهم الإله شهداء على البشر، فما يمنعهم بعد هذه المرتبة الرفيعة، أن يقوموا بواجب الجهاد؟ و بعد هذا كله فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ و هذا كما تقول:

أحسنت إليك، فأدّ حقي وَ آتُوا الزَّكاةَ أي أعطوها وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ تمسكوا به سبحانه، في كل أفعالكم، فلا تحيدوا عن أوامره قيد شعرة هُوَ مَوْلاكُمْ سيدكم، و هل يعرض الإنسان عن مولى مثل الله سبحانه، ليتخذ سيدا غيره؟ فَنِعْمَ الْمَوْلى للبشر أجمع وَ نِعْمَ النَّصِيرُ فإنه ينصر أولياءه في الحياة الدنيا و في

الآخرة، و هل هناك مولى مثله يعطي حتى من عصاه، أو نصير يشبهه بيده أزمة الكون و الحياة؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 631

تقريب القرآن إلى الأذهان الجزء الثّامن عشر من آية (1) سورة المؤمنون إلى آية (21) سورة الفرقان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 632

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 633

23 سورة المؤمنون مكية/ آياتها (119)

سميت هذه السورة ب «المؤمنون» لافتتاحها بهذا اللفظ، و ذكر أوصاف المؤمنين فيها، «المؤمنون» علم للسورة، و لذا يغير إعرابها إضافة «السورة» إليها، و هي كسائر السور المكية، تعالج العقيدة و شؤون التوحيد و ما إليه، و لما أن ختم الله سبحانه سورة «الحج» بأمر المؤمنين بأفعال الخير افتتح هذه السورة بصفات المؤمنين الكاملين في الإيمان، فقال سبحانه:

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ استعانة باسم الله، و ابتداء بذكره الكريم، ليكون فاتحة خير و تعليما للمسلمين، كيف يبتدئون في أعمالهم، و قد وصف بالرحم مكررا، لأن الإنسان مجموعة عجز و ضعف و انهيار، و كل نقص، و ضعف فيه يحتاج إلى الرحم، ليسده و يلمه و يرأبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 634

[سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5)

[2] قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي فازوا بخير الدنيا و سعادة الآخرة، فقد شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، و لم يشاركهم أهل الآخرة في آخرتهم، و المؤمن هو المصدق، و إطلاقه في الشريعة

منصرف إلى المصدق بوحدانية الله، و بالرسالة، و بالمعاد، و بلوازم الكل.

[3] ثم وصف سبحانه المؤمنين الكاملين بهذه الصفات التالية الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أي إذا صلوا خشعوا و خضعوا، فإن الصلاة حيث كانت ذكرا و تسبيحا و تقديسا، و مكالمة مع الله سبحانه، تقتضي أن يكون الإنسان في حالة خضوع، فإنه يتكلم مع مالك الكون، كيف لا، و الإنسان يخضع لملك عاجز، ليس له من السطوة إلا ضئيلا! [4] وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ اللغو، كل فعل أو قول، أو تفكير، لا فائدة فيها، و من سمات المؤمن الكامل الإيمان، أن يعرض عن ذلك كله، و ما ورد في الأحاديث من تفسير اللغو، بالغناء، أو ما أشبه، فإنه تفسير لبعض المصاديق «1».

[5] وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي مؤدون معطون، و المراد بالزكاة، إما الصدقة الواجبة، و إما مطلق الصلة و الصدقة، و هذا أنسب بكون السورة مكية، لأن الزكاة المفروضة شرعت في المدينة.

[6] وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ فلا يزنون، و لا يلوطون،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 66 ص 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 635

[سورة المؤمنون (23): الآيات 6 الى 8]

إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (8)

و لا يستمنون، و لا يمكنون أحدا من أنفسهم، فإن الفرج اسم للعورتين.

[7] إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي نسائهم دائمة كانت، أو محللة، أو منقطعة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الإماء، و نسب الملك إلى الأيمان، لأن اليمين هي العضو الفعالة في الاكتساب فكأنها هي المالكة، من باب علاقة السبب و المسبب أو الكل و الجزء،

و الغرض بيان جنس المحللة، فلا ينافي ذلك وجوب اجتنابهن في حال الحيض و الصيام و الإحرام و ما أشبه، كما أن العكس يستفاد من الآية، فيجوز للزوجة و الأمة، بالنسبة إلى الرجال ما يجوز لهم بالنسبة إليها، و بقي ملك المرأة للعبد خارجا عن المنطوق، و عن اللازم فَإِنَّهُمْ أي الرجال بعدم حفظ فروجهم بالنسبة إلى الزوجة، و ملك اليمين غَيْرُ مَلُومِينَ أي لا يلامون، و كان الإتيان بهذه العبارة للمقابلة، فإن الذي لا يحفظ بالنسبة إلى غيرهما يلام، و من لا يحفظ بالنسبة إليهما لا يلام.

[8] فَمَنِ ابْتَغى أي طلب، و قد أطلق «الابتغاء» و أريد به «العمل» و قد تقدم، أن كلا من «الإرادة» و «الفعل» يستعمل بمعنى الآخر وَراءَ ذلِكَ الذي ذكر من حلية الأزواج و المملوكات فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي المتعدون لحدودهم المتجاوزون الشريعة.

[9] وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ أضيفت الأمانة إليهم، لأنهم محل إيداعها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 636

[سورة المؤمنون (23): الآيات 9 الى 11]

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)

و يكفي في الإضافة أدنى ملابسة وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ أي حافظون موفون، فإذا عاهدوا عهدا بالنسبة إلى الأمور الدينية، كالمعاهدة مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو عاهدوا بالنسبة إلى سائر المعاملات، كالعقود، و فوا بها.

[10] وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ فيقيمونها في أوقاتها بدون تضييع لها، مع آدابها و شرائطها، و قد كرر ذكر الصلاة لما لها من الأهمية، و لبيان أمرين، الأول الخشوع فيها، و الثاني المحافظة عليها.

[11] أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ و الوارث هو الذي ينتقل إليه شي ء من آخر، و المراد

به هنا إما إطلاقا، و يكون قوله «الذين يرثون» بيانا لمصداق من مصاديق إرثهم، و المراد حينئذ، إن الخيرات كلها لهم سواء في الدنيا، أو في الآخرة، و أما خصوص ما بيّن في قوله «الذين» فكأن المراد أن هؤلاء كانت لهم الدنيا غير قابلة، حتى أنها لا تكون عوضا لأتعابهم و أعمالهم، و إنما الجزاء الوافي هو الفردوس، فهم.

[12] الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ يصيرون إليها، بعد الأحوال المتقدمة في الحياة، كما يصير الوارث إلى ما تركه أقرباؤه- بلطف في عكس التشبيه- و الفردوس، هي البستان الجميل، و المراد بها هنا درجة من درجات الجنة هُمْ أي هؤلاء الذين و صفوا بتلك الأوصاف فِيها أي في الفردوس، و هي مؤنث مجازي خالِدُونَ دائمون باقون أبد الآبدين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 637

[سورة المؤمنون (23): الآيات 12 الى 14]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)

[13] ثم يأتي السياق ليعد منن الله على البشر، و لطفه بهم، مما ينبغي أن يطيعوا أوامره، و يكونوا كما وصفهم في الآيات المتقدمة وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي كل فرد من أفراده مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ السلالة، اسم لما يسل من الشي ء، فإن الإنسان في ابتداء خلقه يسل و يخرج من التراب النظيف، إذ هو الذي يتبدل نباتا، و لذا سمي طينا، لأن التراب ما لم يخلط بالماء لا يكوّن نباتا.

[14] ثُمَ بعد جعل التراب نباتا، صار حيوانا مأكولا، أو أكله إنسان فصار دما في جسمه، و بعد ذلك جَعَلْناهُ أي ذلك

الإنسان، الذي نريد تكوينه نُطْفَةً و هي المني إذا استقر في الرحم فِي قَرارٍ أي مستقر مَكِينٍ ذي تمكن على حفظها و تربيتها.

[15] ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً شبيه بالدم المنجمد فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً كقطعة لحم قد مضغت بالأسنان فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً و حيث إن العظام هي العنصر الأشد في الحياة، خصصت بالذكر، و إلا فالعلقة تكوّن الأعضاء الأصلية للإنسان، لا العظام فقط فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً كاللباس الذي يلبس على الجلد ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فقد نفخ فيه الروح الإنساني، الذي هو من قسم آخر من الخلق، ليس كالخلق المادي الحيواني، و النباتي و الجمادي فَتَبارَكَ اللَّهُ أي تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 638

[سورة المؤمنون (23): الآيات 15 الى 17]

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)

و دام خيره أَحْسَنُ الْخالِقِينَ و الخلق يطلق على الصنع، فالنجار خالق الباب، و البناء خالق القصر و الله سبحانه أحسن الخالقين، إذ لا يمكن لأحد من هذا النحو من الخلقة.

[16] ثُمَّ إِنَّكُمْ أيها البشر من بَعْدَ ذلِكَ الخلق التام لَمَيِّتُونَ تخرج أرواحكم، لتبقى أجساد بلا أرواح حينما تنتهي آجالكم في الدنيا.

[17] ثُمَّ إِنَّكُمْ أيها البشر يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي تقومون من قبوركم للحساب و الجزاء.

[18] و بعد بيان المبدأ للإنسان و معاده، يأتي السياق ليبين مننه سبحانه عليه في هذه الحياة وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ أيها البشر سَبْعَ طَرائِقَ المراد بها السماوات السبع- ظاهرا- و قد تقدم إن علماء الفلك المسلمين يقولون: إن المراد بالسماوات، مدارات الأفلاك، مؤيدين نظريتهم بالرواية الواردة عن الإمام الرضا عليه السّلام، و بعض الشواهد الأخرى،

و كونها فوقنا، باعتبار ما نحس، و إن كانت الأرض في الحقيقة، نجمة كسائر النجوم، و طرائق جمع طريقة، و إنما سمى السماء بها لتطارقها، أي كون بعضها فوق بعض وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ و لعل الإتيان بهذه الجملة هنا، لما يتبادر إلى الذهن البدائي، من أن المربي الخالق لهذا الكون العظيم لا مجال له- عند ذلك- لمراقبة الناس و أعمالهم، فهو يغفل عنهم كما يغفل الملك الكبير ملكه عن خصوصيات الناس و أعمالهم، لكنه سبحانه ليس كذلك، فيتساوى عنده كل معلوم صغيرا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 639

[سورة المؤمنون (23): الآيات 18 الى 19]

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (19)

كان أم كبيرا، و لا يشغله شأن عن شأن.

[19] وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ جهة العلو، و هذا مرتبط بخلق سبع طرائق ماءً و هو المطر بِقَدَرٍ و لا يخفى ما في هذا اللفظ من اللفظ، فإن الإنسان البدائي الذهن، حيث يرى كثرة المطر- يظن أنه ليس تحت حساب و تحديد، و لذا جاء هذا اللفظ هنا لينبه على ذلك، و إن المطر مهما كثر فهو بقدر و حد محدود معلوم لديه سبحانه فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا له مسكنا، فإن ماء المطر هو الذي يتسرب إلى باطن الأرض، ليجري من الثقوب الأرضية و الجبلية عيونا و أنهارا وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي أن نذهب هذا الماء المسكون في الأرض لَقادِرُونَ بأن نسربه في الأغوار العميقة، حتى لا ينتفع به الإنسان، أو نبخره في الجو، أو نعدمه إعداما

مطلقا، فإن من يقدر على إيجاد المعدوم، قادر على إعدام الموجود.

[20] لكنا لم نفعل ذلك حتى تهلكوا، و يهلك الحيوان و النبات، بل تفضلنا عليكم فوق ذلك فَأَنْشَأْنا أو جدنا و اخترعنا لَكُمْ أيها البشر بِهِ أي بسبب هذا الماء جَنَّاتٍ بساتين، و سمي البستان جنة، لأن أشجارها تجن و تستر أرضها مِنْ نَخِيلٍ جمع نخل، و هو شجر التمر وَ أَعْنابٍ جمع عنب، و المراد به الكروم بعلاقة الحال و المحل لَكُمْ أيها البشر فِيها أي في تلك الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ جمع فاكهة، و هي الثمرة، سميت بها لأن الإنسان يتفكه بها، و المراد أنواع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 640

[سورة المؤمنون (23): الآيات 20 الى 21]

وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (21)

الفواكه المختلفة، و كان تخصيص النخل و العنب، لكثرتهما في هذه البلاد و عموم الانتفاع بهما وَ مِنْها تَأْكُلُونَ أي من البساتين تأكلون مختلف أنواع الرزق مباشرة، أو بواسطة بيع و إيجار و صرف الثمن و الأجرة في سائر الأرزاق.

[21] و أنشأنا لكم بذلك المطر وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ و المراد بها شجرة الزيتون و «سيناء» اسم الموضع الذي به «جبل طور» قرب الشام، و لعله إنما حضر هذا المحل مع عموم الزيتون في كثير من الأماكن لجودة زيتونها، و اشتهارها لدى المخاطبين بالقرآن الحكيم، كما أن تخصيص الزيتون من بين الثمار بالذكر لنفعه العام في كثير من الحوائج تَنْبُتُ هذه الشجرة بِالدُّهْنِ أي مصاحبة للدهن، فإن الزيتون قطعة من الدهن المنجمد، و لذا يعصر

منه الزيت وَ صِبْغٍ عطف على «الدهن» لِلْآكِلِينَ و المعنى أن هذه الشجرة تنبت بالشي ء الجامع بين كونه دهنا يدهن به و يسرج منه و كونه أداما يصبغ فيه الخبز، أي يغمس فيه للائتدام، و سمي الإدام صبغا، لأنه يصبغ الخبز بلونه.

[22] وَ إِنَّ لَكُمْ أيها البشر فِي الْأَنْعامِ جمع نعم، و هي الإبل و البقر و الغنم لَعِبْرَةً أي اعتبارا و دلالة دالة على وجود الله سبحانه و علمه و قدرته نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي أجوافها من اللبن الطيب المذاق وَ لَكُمْ فِيها أي في الأنعام مَنافِعُ كَثِيرَةٌ فتركبون على الإبل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 641

[سورة المؤمنون (23): الآيات 22 الى 24]

وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)

و تحرثون بالبقر، و تضخون الماء بهما، و تنتفعون بأشعارها و جلودها و لحومها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ أي من بعضها، و هو اللحم و الشحم و ما أشبه، أو المراد بالأكل الانتفاع و التكسب بهما.

[23] وَ عَلَيْها المراد به الإبل خاصة وَ عَلَى الْفُلْكِ في البحر تُحْمَلُونَ فأحدهما للبر، و الأخر للبحر، كما قال سبحانه، (وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ) «1» و قد خصص سبحانه هاتين المنفعتين بالذكر لعمومهما، و كثرة الاحتياج إليهما.

[24] ثم يأتي السياق ليبين الرسالة، و بلاغ الرسل، في عقب بيان الأدلة الكونية، فقد كان شأن الرسل أن يلفتوا الناس إلى تلك الأدلة

الكونية التي سبق بعضها، ليؤمن الناس بالإله الخالق المنعم وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ليدعوهم إلى عبادة الله و إطاعة أوامره فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ آمنوا به و أطيعوه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فهذه الأصنام التي تعبدونها ليست بآلهة، و إنما الله إله واحد أَ فَلا تَتَّقُونَ استفهام إنكاري، أي ألا تخافون عقاب الله في ترك الإيمان؟

[25] فَقالَ الْمَلَأُ أي الأشراف، و سموا ملأ لأنهم يملئون العيون أبهة، و الصدور هيبة الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ بعضهم لبعض

______________________________

(1) الإسراء: 71.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 642

[سورة المؤمنون (23): الآيات 25 الى 27]

إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)

ما هذا الذي يدعوكم، و هو نوح إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فليس برسول، فإنهم كانوا يزعمون أن الرسول لا يمكن أن يكون بشرا يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي إنما يدعي النبوة لتطيعوه، فيترأس عليكم، و تكونوا أنتم من أتباعه، فيصير له كيان و رئاسة وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ إرسال رسول إلى البشر لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً للإرشاد و الإنذار، لا أن يرسل بشرا ما سَمِعْنا بِهذا الذي يدعو إليه نوح من وحدة الإله، و إنه رسول اللّه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي في الأمم الماضية أن ينبري أحدهم، فيدعي الرسالة، و يدعو الناس إلى إله واحد.

[26] إِنْ هُوَ ما هو إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، و ما هذه الدعوى التي يدعيها،

إلا من آثار ذلك الجنون فَتَرَبَّصُوا بِهِ انتظروا بنوح حَتَّى حِينٍ يأتيه الموت فتستريحوا منه، أو المعنى انتظروا به حتى يفيق، و يذهب جنونه فيرجع عن دعواه.

[27] و لما أن رأى نوح إصرار القوم على التكذيب و عدم الإيمان قالَ يا رَبِّ انْصُرْنِي عليهم بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إياي، كأنه العلة في نصرة الله، إذ لو لا التكذيب لم يحتج إلى نصرة الله تعالى.

[28] فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ هو مفرد على وزن قفل بِأَعْيُنِنا أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 643

إنك تحت نظرنا و مراقبتنا كالكبير الذي يقول لغيره: افعل كذا، فأنت مدّ نظري لا يصل إليك أحد بسوء، و أعين جمع عين، و من القاعدة أن يأتي بالجمع ما في الإنسان مثنى، أو باعتبار أن الكبير يتكلم بنحو الجمع دلالة على اشتراكه لمن معه في الرأي وَ وَحْيِنا فإنا نوحي إليك كيفية صنعها فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بإهلاك القوم، غرقا في الماء وَ فارَ التَّنُّورُ الذي كان علامة لابتداء العذاب و ورد أنه تنور في مسجد الكوفة جعله سبحانه علامة لابتداء الغرق، حتى إذا رأى نوح إنه يفور ماء يركب السفينة، و يحمل المؤمنين و الحيوانات فيها لينجوا جميعا من الغرق فَاسْلُكْ فِيها أي ادخل في السفينة من سلك بمعنى مشى في الطريق، كأنهم يتخذون طريقهم في السفينة مِنْ كُلٍ أي من كل نوع من أنواع الحيوانات زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكرا و أنثى، و ليس ذلك مستبعدا بالنسبة إلى قدرة الله سبحانه، و إن استبعده بعض، قالوا: كيف يمكن إدخال أهلك و عائلتك في السفينة إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه يهلك في الهالكين مِنْهُمْ أي من أهلك، و هو ولده كنعان الذي سبق

من الله سبحانه أن قال يغرق لعمله الفاسد، و حيث كان المقام أن يطلب نوح- حسب الرقة البشرية- نجاة الناس من الغرق، نهاه سبحانه عن ذلك مقدما بقوله وَ لا تُخاطِبْنِي أي لا تتكلم معي يا نوح فِي أمر الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان، بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 644

[سورة المؤمنون (23): الآيات 28 الى 30]

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

تتوسط في عدم إهلاكهم ف إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا محالة ورقة نوح عليه السّلام في ذلك الحين، لا ينافي دعائه بإهلاكهم قبلا، فإن للإنسان في حال البلاء رقة عاطفية.

[29] فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أي ركبت، و أخذت مكانك و استقرارك أَنْتَ يا نوح وَ استوى مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ أي السفينة فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا و خلصنا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان.

[30] وَ قُلْ يا رَبِّ أَنْزِلْنِي من السفينة بعد أن جف الماء على الأرض، مُنْزَلًا مُبارَكاً أي إنزالا مع بركة و يمن لكي نعمر الأرض من جديد، و «منزل» مصدر ميمي وَ أَنْتَ يا رب خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إذ أنت القادر على أن تبارك في الإنزال، و تكفي الإنسان شر الآفات دون سواك، ممن ينزل الإنسان منزلا.

[31] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من قصة نوح مع قومه لَآياتٍ دالّات على الشؤون المرتبطة بالإله و الرسالة وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ «إن» مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن محذوف، أي إنه كنا نحن مختبرين للعباد، بإرسال الرسل، حتى إذا لم يؤمنوا

أهلكناهم، و هذا شبه تهديد للكفار بأنهم إن لم يؤمنوا كان مصيرهم مصير أولئك في تعميمهم بعذاب الله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 645

[سورة المؤمنون (23): الآيات 31 الى 33]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (32) وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)

[32] ثُمَ بعد إهلاك أولئك أَنْشَأْنا أوجدنا و أحيينا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أي جماعة و أمة، و إنما سمي قرنا، لاقتران بعضهم ببعض في الزمان، و لعل المراد قوم صالح، لقوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) «1» فإنها أخذت قوم صالح «كما سبق».

[33] فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أي من أنفسهم، فلم يكن ملكا، و لا من غير قومهم، و هو صالح، فقال لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي ليس لكم إله غير الله، فهذه الأصنام التي تعبدونها باطلة أَ فَلا تَتَّقُونَ استفهام إنكاري، أي ألا تخافون عذاب الله؟

[34] وَ قالَ الْمَلَأُ جماعة الأشراف مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قوم صالح وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي قالوا إنهم لا يلاقون الآخرة، لاعتقادهم بعدم وجود الآخرة وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي أنعمنا عليهم في هذه الحياة، و كأن الإتيان بهذا الوصف للدلالة على سوء صنيعهم حيث بدلوا النعمة كفرا ما هذا الذي يدعي الرسالة، و هو صالح إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فكيف يمكن أن يكون رسولا؟ بزعمهم إن الرسول

______________________________

(1) الحجر: 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 646

[سورة المؤمنون (23):

الآيات 34 الى 37]

وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)

يجب أن يكون ملكا يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ من أنواع الطعام مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ من الأشربة، فما فضله عليكم حتى يكون رسولا؟.

[35] وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ أيها القوم بَشَراً مِثْلَكُمْ في جميع المزايا البشرية إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ قد خسرتم عقولكم باتباع بشر، و إسلاس قيادكم إليه، و لم يعرف أولئك إن الرسالة، إنما تتبع المزايا النفسية، التي هي متوفرة في صالح دونهم.

[36] ثم أخذ القوم يستغربون من دعوته، و إن هناك معادا يحيون فيه ليحاسبوا أَ يَعِدُكُمْ أي كيف يعدكم صالح أَنَّكُمْ أيها القوم إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً بأن تساقطت لحومكم، حتى صارت ترابا، و بقيت العظام المجردة أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من قبوركم، أحياء للحساب و الجزاء.

[37] هَيْهاتَ اسم فعل يعد يؤتى به لاستبعاد الأمر هَيْهاتَ كرر تأكيدا لِما تُوعَدُونَ اللام للبيان، أي بعيد في العقل ما يعدكم صالح من الإحياء بعد الموت، لا يمكن أن يكون ذلك.

[38] إِنْ هِيَ أي ليست الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي القريبة التي نحن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 647

[سورة المؤمنون (23): الآيات 38 الى 41]

إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

فيها نَمُوتُ في هذه الحياة وَ نَحْيا في هذه الحياة، فالحياة و الموت مخصوصان بهذه

الحياة، فلا حياة بعد الموت، و إنما قدم «نموت» لأن الموت أمامهم، حيث جاءوا إلى الحياة وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد ذلك إلى عالم آخر.

[39] إِنْ هُوَ أي ليس صالح رسولا، و إنما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الافتراء يلازم الكذب، و إنما جاء «كذبا» لتأكيده، و لأن أصل الافتراء من الفري، بمعنى القطع، كأن المفتري يقطع كلاما من الكلمات المكذوبة، ثم ينسبه إلى المفترى عليه وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ مصدقين كلامه فيما يقول.

[40] قالَ صالح عليه السّلام يا رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ بتكذيبهم، أي بسبب أنهم كذبوني فانصرني عليهم.

[41] قالَ الله سبحانه في جواب دعاء صالح عَمَّا قَلِيلٍ «ما» زائدة يؤتى بها لقصد القلة، أي بعد زمان قليل لَيُصْبِحُنَ القوم نادِمِينَ يندمون على الكفر و العصيان، حين يأخذهم العذاب.

[42] فلما تمادوا في كفرهم و عصيانهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة جبرائيل عليه السّلام، فقد صاح بهم صيحة أخذت ألبابهم، و أزهقت أرواحهم بِالْحَقِ أي كان باستحقاقهم، إذ الكفر و العصيان يعقبهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 648

[سورة المؤمنون (23): الآيات 42 الى 44]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)

الهلاك و الدمار فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً الغثاء ما يحمله السيل، من يابس النبات، و قصب و عيدان و ما أشبه، و المعنى جعلناهم أجسادا هامدة قد يبسوا كما يبس الغثاء، ملقون بغير إكرام و لا احترام فَبُعْداً أي أبعدهم الله عن رحمته، و طردهم عن كل خير لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و الطغيان.

[43]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد هؤلاء قُرُوناً آخَرِينَ أمما، و أهل أعصار، و جماعات آخرين، فكان القوم كلما عصوا و عتوا أخذناهم بالعذاب و أهلكناهم و جئنا بقوم آخرين مكانهم.

[44] أما ما يطلب هؤلاء الكفار من تعجيل العذاب عليهم، فقد كانوا يطلبون من الرسول- على وجه الاستهزاء- أن يعجل عليهم العذاب إن كان صادقا، فإن العذاب لا يأتي إلا في وقته الذي حدده الله سبحانه له، لا يتقدم و لا يتأخر ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي لا تسبق أية أمة من الأمم أَجَلَها بأن تهلك قبل إتيان الوقت المحدد لها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ أي لا يطلبون تأخير الأجل، بأن يتأخر عن الوقت المحدد له و المراد بعدم طلبهم للتأخير، إن طلب التأخير لا ينفع، فعبر عما لا ينفع فيه بالعدم، كما يعبر عن الرجل الذي لا ينفع فيه بأنه ليس برجل.

[45] ثُمَ من بعد صالح أَرْسَلْنا إلى الأمم رُسُلَنا تَتْرا من المواترة، و هي أن يتبع البعض البعض بدون فصل، فقد كانت الأنبياء يأتي بعضهم بعقب الآخر إتماما للحجة، و توضيحا للمحجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 649

[سورة المؤمنون (23): الآيات 45 الى 47]

ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47)

كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها الرسول فاعل، و الأمة مفعول كَذَّبُوهُ و لم يقروا بنبوته فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أتبعنا هلاك بعض الأمم بإهلاك بعضهم السابقين، فجي ء الرسول، و تكذب الأمة فتهلك، ثم فيجي ء رسول آخر، فتكذبه الأمة التالية فتهلك، و هكذا وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس عنهم على طريق المثل في الشر،

قالوا: و هو جمع أحدوثة، و لا يقال هذا في الخير، و المعنى إنا أفنيناهم حتى لم يبق بين الناس إلا حديثهم، بعد أن كانوا أمما لها الوجود و الكيان فَبُعْداً عن رحمة الله و فضله لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ إنهم طردوا عن الرحمة كما أهلكوا و طردوا عن الحياة.

[46] ثُمَ من بعد أولئك الرسل أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا أي بدلائلنا و حججنا وَ سُلْطانٍ برهان مُبِينٍ واضح ظاهر، و لعل المراد بالسلطان الحجة المنطقية، و بالآيات المعجزات الخارقة.

[47] إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي جماعته، أو أشراف قومه، و خصوا بالذكر لأنهم إن آمنوا تبعهم الناس، فكان التوجه الأولي إليهم فَاسْتَكْبَرُوا تكبروا عن قبول الحق وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ فقد علوا و اتخذوا الناس خولا لهم.

[48] فمن كبرهم و علوهم قالوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا أي كيف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 650

[سورة المؤمنون (23): الآيات 48 الى 50]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 699

فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ (50)

نصدق إنسانين- هما موسى و هارون- في حال كونهما مثلنا خلقة؟ إذ كيف يمكن أن يكون البشر رسولا على بشر مثله؟ وَ قَوْمُهُما أي و الحال أن قوم هذين- و هم بنو إسرائيل- لَنا عابِدُونَ يعبدوننا و يطيعوننا، إنهما و قومهما لنا تبع، فكيف نؤمن بهما؟

[49] فَكَذَّبُوهُما أي كذب فرعون و قومه موسى و هارون فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ الذين أهلكوا بتكذيبهم للرسل، حيث أغرقوا في البحر حتى لم يبق منهم أحد، و قد كان الغرق خاصا بفرعون و جنوده الذين

اتبعوا موسى، أما سائر أهل مصر فقد كانوا فيها لم يهلكوا.

[50] وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى عليه السّلام، بعد إهلاك فرعون و خروجهم من أرض مصر الْكِتابَ التوراة لَعَلَّهُمْ أي لعل بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى يَهْتَدُونَ إلى الحق و الصواب.

[51] وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ أي المسيح عليه السّلام وَ أُمَّهُ مريم الطاهرة عليها السّلام آيَةً خارقة في جميع شؤونها، فقد حملت بعيسى من غير زوج، و نطق عيسى بالكتاب و هو طفل في المهد، إلى سائر الخوارق، و حيث إن أحدهما كان متشابكا مع الآخر في المزايا، عبر عنهما جميعا ب «آية» و لم يقل «آيتين» وَ آوَيْناهُما أي المسيح و مريم، و الإيواء إعطاء المأوى و هو المنزل إِلى رَبْوَةٍ هي الموضع المرتفع من الأرض، و فيه فضل طيب الهواء، و عدم تسرب الأوساخ إليها، و قربها من أشعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 651

[سورة المؤمنون (23): الآيات 51 الى 52]

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)

الشمس إلى غير ذلك، و قد اختلف في موضع الربوة، و في بعض الأحاديث أن المراد بها النجف، و لعل ذلك بعد ولادتها له مباشرة ذاتِ قَرارٍ أي لم تكن الربوة موضعا صغيرا كالتل، و إنما ربوة فسيحة يتمكن الإنسان من القرار فيها، أو كونها ذات قرار باعتبار ما فيها الثمار و الأشجار، فيتمكن الإنسان من القرار فيها وَ مَعِينٍ أي ذات ماء جار على وجه الأرض ظاهر طيب.

[52] و بعد هذا يأتي الخطاب للرسل، و كأنهم مجتمعون في مكان و زمان ليبين وظيفتهم العامة، بعد بيان

أنهم يلازمون الطبيعة البشرية في الأكل و سائر لوازمه يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ فأنتم بشر، لا كما يزعمه الكفار، بأن الرسل يجب أن يكونوا من غير جنس البشر، فلا يأكلون الطعام و لا يمشون في الأسواق، و إنما فرق الرسل من غيرهم، إن الرسل لا يأكلون إلا الطيب، أما غيرهم فيأكلون الخبيث و الطيب- إن لم يهتدوا بهدى المرسلين- وَ اعْمَلُوا صالِحاً أي العمل الصالح، و لازمه عدم العمل الفاسد إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ أيها الرسل عَلِيمٌ فلا يحق أكل غير الطيب، و العمل غير الصالح، فإنكم بعين الله سبحانه.

[53] وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أيها الرسل، و قد جعل مجموع الأمم، كأمة واحدة للرسل جميعا، لأن للرسل رسالة واحدة إلى مجموع البشر، و إنما الاختلاف جاء من قبل الناس الذين كدروا صفو الأديان و المذاهب أُمَّةً واحِدَةً حال من «أمتكم» وَ أَنَا رَبُّكُمْ فالرب واحد، و الرسالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 652

[سورة المؤمنون (23): الآيات 53 الى 55]

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (55)

واحدة، و الأمة واحدة، و المنهاج هو استعمال الطيب، و العمل الصالح فَاتَّقُونِ أي اتقوني فلا تخالفوا أمري.

[54] لقد كانت الرسل كتلة واحدة لهم رسالة واحدة و منهج واحد، و لهم أمة واحدة، و لكن الناس لم يبقوا على تلك الوحدة فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي جعلوا دينهم الواحد قطعة قطعة، كل جماعة أخذت بقطعة منه، و لقد كان هذا التقطيع بينهم لا يرتبط بالرسل زُبُراً أي كتبا، جمع زبور و هو الكتاب، من زبره، بمعنى كتبه، أي أن كل أمة تمسكت

بكتاب واحد و نبذت سائر الكتب، كاليهود الذين نبذوا الإنجيل و القرآن و النصارى الذين نبذوا القرآن كُلُّ حِزْبٍ و أمة بِما لَدَيْهِمْ من الدين فَرِحُونَ راضون مع إنه سبحانه لم يشرع إلا حزبا واحدا و أمة واحدة.

[55] فَذَرْهُمْ اتركهم يا رسول اللّه فِي غَمْرَتِهِمْ أي غفلتهم، و إنما سميت الغفلة و الضلالة غمرة، لأنها تغمرهم كالماء الذي يغمر الإنسان، فكأنهم مغمورون في الضلالة، مغرقون فيها حَتَّى حِينٍ ينقضي أجلهم و يأتيهم الموت أو العذاب.

[56] ثم ذكر سبحانه إن ما يرون هؤلاء الكفار من أصناف النعم في هذه الحياة ليست تكريما لهم، و إنما هي فتنة و استدراج أَ يَحْسَبُونَ هل يظن هؤلاء أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ «ما» موصولة، أي أن الشي ء الذي نزيده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 653

[سورة المؤمنون (23): الآيات 56 الى 58]

نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)

و نعطيه لهم مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ يكون إكراما لهم.

[57] ف نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ و إنها جزاء أعمالهم و ثواب ما يأتون من الكفر و العصيان، كلا، ليس كذلك بَلْ لا يَشْعُرُونَ إنها استدراج و فتنة ليزيد طغيانهم و يبلغوا أجلهم، و قد تمت عليهم الحجة، و ليستحقوا العقاب الأبدي، و لعل الإتيان من باب المسارعة لكون الأصل في أعمال الخير أن يتسارع الناس إليها، ثم استعمل اللفظ في كل عمل خيري، و إن لم يكن هناك طرف آخر، كما قال سبحانه (وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) «1».

[58] و إذ بين سبحانه أحوال الكفار، ألمح إلى أحوال الأخيار إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ أي خوف و

عقاب رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ و وجلون، و كأن الخشية شي ء مرتبط بالطرفين الخائف و المخوف منه، و لذا صح «من خشية .. مشفقون» فلا يقال: إن الإشفاق ليس من الخشية، و إنما من نفس المخوف منه؟ حتى يحتاج إلى أن يتكلف لتصحيحة، بأن المراد الإشفاق من هذا القسم، لا من سائر أقسامه كالخوف من المرض و العدو و الفقر و ما أشبه.

[59] وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ أي بأدلته الكونية و حججه التي يأتي بها الأنبياء يُؤْمِنُونَ أي يصدقون.

______________________________

(1) آل عمران: 134.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 654

[سورة المؤمنون (23): الآيات 59 الى 61]

وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ (61)

[60] وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ و إنما ذكر هذا عقب الإيمان بالله، إذ من الممكن أن يؤمن أحد بالله، و مع ذلك يؤمن بالأصنام أيضا، كما كان المشركون كذلك إذ يقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1» و لعل الإتيان ب «هم» بعد «الذين» لتأكيد تصبيغهم بلون خاص، ف «هم» لا يخالطون بمن سواهم، فإن التركيز على هذه الخصوصية، لا يأتي بمجرد «الذين».

[61] وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من المال وَ الحال أن قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة مضطربة، أن لا تقبل نفقاتهم و صدقاتهم، فلا يرون فوائدها حيث يعلمون أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ فإن الإنسان المؤمن بالحساب و الجزاء خائف من أعماله بأنها لا تقبل، بخلاف غير المؤمن إذ لا يهمه عدم قبولها «فإنهم» في موضع العلة، أي أن علة الخوف كونهم يبعثون إلينا لنحاسبهم.

[62] أُولئِكَ المتصفون

بتلك الأوصاف يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى الطاعات و يسابقون إليها وَ هُمْ لَها أي للخيرات سابِقُونَ إما المراد أنهم يسابقون إليها، فيكون تأكيدا للجملة السابقة، أو المراد أنهم سابقون لأخذ تلك الخيرات في الجنة، فالخيرات لهم حيث عملوا بها، لا للكفار الذين قلوبهم في غمرة،

______________________________

(1) الزمر: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 655

[سورة المؤمنون (23): الآيات 62 الى 63]

وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)

و يظنون إنا «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ».

[63] إن ما نطلبه من المؤمنين من الإيمان و العمل الصالح، ليس فوق طاقاتهم، حتى يكون للكافر عذر في عدم الإيمان وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي بالمقدار الذي تسع النفس له من التكاليف وَ ثم إن ما يعمله المؤمن، لا يذهب أدراج الرياح بل لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ يكتب فيه كل عمل صالح عمله الإنسان، ليجزي عليه بأفضل مما عمل، و استعمال «النطق» في الكتاب مجاز أريد به الإبراز و الإظهار، لشبهه بالنطق الذي يكون به إبراز ما في ضمير الإنسان و يحتمل أن يكون المراد بالكتاب «اللوح» و قد ورد أن اللوح و «القلم» ملكان، فيكون المنطق حقيقة وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بأن يثبت في الكتاب لهم سيئة لم يعملوها، أو لا يثبت طاعة قد عملوها.

[64] إن الكفار و العصاة لم ينحرفوا لصعوبة التكليف، أو خوف أن ينقص من حسناتهم و يظلمون بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ و غفلة مطبقة تغمرهم مِنْ هذا الكتاب، أو من هذا الذي أرسلنا به الرسول، من مجموع الشريعة و العقيدة

وَ لَهُمْ أَعْمالٌ رديئة مِنْ دُونِ ذلِكَ الذي أنزلناه و أمرنا به هُمْ لَها أي لتلك الأعمال عامِلُونَ فهم في غفلة، و أعمالهم على غير هذا النحو، و هذا سبب إعراضهم عن الحق لا صعوبة التكليف و لا خوف أن يظلموا فلا يصلهم جزاء حسناتهم- إن عملوها-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 656

[سورة المؤمنون (23): الآيات 64 الى 66]

حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)

[65] و قد تمادى هؤلاء الكفار في غيهم و ضلالهم حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ و هم المتنعمون منهم بِالْعَذابِ و الاختصاص بهم، لأنهم، هم مورد الكلام، و سبب إضلال الناس، و طبيعي، أن يأخذ العذاب سائرهم، فإن العذاب إذا جاء عم إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي يضجون لشدة العذاب و يجزعون، قال «جأر» إذا رفع صوته مستغيثا،

و قد ورد في مصداق من مصاديق هذا العذاب أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا على الكفار، فقال: اللهم أشدد وطأتك على مضر، و اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فابتلاهم بالقحط، حتى أكلوا الجيف و الكلاب و العظام المحترقة و القذر، و الأولاد «1».

[66] فيقال لهم حينذاك لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ و لا تضجوا إِنَّكُمْ مِنَّا أي من جهتنا و طرفنا لا تُنْصَرُونَ فإن العذاب لا محالة نازل بكم حتى يلحقكم بالنار.

[67] هل نسيتم أعمالكم السابقة؟ و كلما كان يقال لكم: أقلعوا و توبوا، كنتم سادرين في غيكم لا تعيرون الدعوة أي بال؟ فل قَدْ كانَتْ آياتِي الدالة على التوحيد، و سائر الشؤون الدينية تُتْلى عَلَيْكُمْ تقرأ على مسامعكم فَكُنْتُمْ أيها الكفار الذين

أخذكم العقاب عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي تدبرون و ترجعون القهقرى، فإن الإنسان

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 128.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 657

[سورة المؤمنون (23): الآيات 67 الى 68]

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)

الراجع نحو خلفه يضع عقب قدمه أولا على الأرض، بخلاف الإنسان المقبل الذي يضع صدر قدمه أولا عليها، و النكوص رجوع القهقرى، و هو أقبح أقسام المشي، فقد شبه الإنسان المعرض عن الحق بالذي يتقهقر إذا سمع الحق، كأنه يريد الفرار، مع أن يكون رائيا له، حتى يغالي في الاستهزاء و الاستنكار.

[68] في حال كونهم مُسْتَكْبِرِينَ متكبرين عن قبول الحق بِهِ أي بسبب ما يتلى عليهم من الإيمان، فإن المعاند إذا سمع الحق زاد كبرا و عتوا سامِراً تَهْجُرُونَ أي تقولون الهجر- و هو الكلام البذي ء- حول الرسول و الرسالة، في لياليكم إذا تسمرون، و السمر هو التحدث ليلا، و الإتيان ب «سامر» مفردا مع أنه وصف للجميع، باعتبار كل واحد، و فيه تفنن في الألفاظ مفردا و جمعا، و هو نوع من البلاغة، و يحتمل أن يكون «به» متعلقا ب «تهجرون» أي تهجرون بما يتلى عليكم، و على كل فهذا إشارة إلى ما كان فيه كفار مكة- كما هو عادة كل كافر في كل زمان- أن يسامرون حلقا حلقا، فكان من حديثهم الطعن و الاستهزاء، بالقرآن و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[69] أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ الذي أنزل إليهم، حتى يعرفوا صدقه؟ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ فرأوه شيئا جديدا، و الناس لا يذعنون للشي ء الجديد، فلقد أرسل الله تعالى إلى البشر أنبياء

قبل الرسول، كموسى عليه السّلام و عيسى عليه السّلام، و إبراهيم عليه السّلام، و غيرهم، فما يمنع هؤلاء عن الإيمان؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 658

[سورة المؤمنون (23): الآيات 69 الى 71]

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)

[70] أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ بالصدق و الأمانة و الصفات الخيرة فَهُمْ لذا لَهُ أي للرسول مُنْكِرُونَ فإن الإنسان إذا رأى من أحد ادعاء كبيرا، و لم يعرف مزايا ذلك الشخص لم يرضخ له، و احتمل فيه الكذب و الدجل، لكن هؤلاء يعرفون الرسول حق معرفته.

[71] أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، و الكلام الذي يقوله إنما هو كلام المجنون؟ فليس هذا صحيحا، حتى عند أولئك الذين رموا به يريدون تنفير الناس عنه بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ الذي لا مرية فيه و لا شبهة وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ فإن هذا هو السبب الوحيد الذي يمنعهم عن الإيمان، و إلا فليس لهم ما يبرر موقفهم العدائي، و لو حجة ضئيلة واهية، و لقد كان هذا عادة الناس، فإن الحق لما يوجب زحزحة بعض مكانهم يكرهونه، و يختلقون حوله ألف و صمة و منقصة.

[72] إنهم يريدون أن يكون الرسول وفق أهوائهم و شهواتهم، حتى يصدقوه، و يعترفوا به، كما قال سبحانه: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) «1» وَ الحق لا يمكن أن يتبع الأهواء ف لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ و ميولهم، كأن يعترف بالأصنام و بسائر ما يأتون من المنكرات لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ فإن هوى

هذا الإنسان أن يمطر في غير فصله، و هوى ذاك أن يهلك أعداءه، و هكذا، أو المراد

______________________________

(1) القلم: 10.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 659

[سورة المؤمنون (23): الآيات 72 الى 73]

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)

باتباع الحق أهواءهم أن يجعل الله لنفسه شريكا يعطي له التصرف في الملك كما يتصرف هو تعالى، فإنه موجب لتغيير الأجرام و فساد الأوضاع، إذ ليس لأحد من الحكمة كالله سبحانه، و ربما قيل أن فساد السماء عدم المطر، و فساد الأرض عدم النبات، و فساد الناس فيهما بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي أرسلنا إليهم، ما يبقي ذكرهم لدى الأجيال بالخير لو آمنوا به- كما بقي ذكر من آمن بكل تجلة و احترام- فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ الذي فيه شرفهم و حسن سمعتهم مُعْرِضُونَ راضون بالخمول، و أن يذهب حسن سمعتهم أدراج أهوائهم، و لقد حاول القرآن الحكيم إقناعهم بكل الطرق حتى بهذا الطريق، لكنهم أبوا إلا العناد و اللجاج.

[73] أَمْ تَسْأَلُهُمْ يا رسول اللّه خَرْجاً أي أجرا على الرسالة، فإنهم لا يقبلون رسالتك خوفا من المال و الضريبة؟ فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي أجر الله سبحانه لك على إرشادك، و تعليمك خَيْرٌ مما ينتظر من البشر المحتاج المفتقر وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أفضل من جميعهم، لأنه يعطي كثيرا، و لا يطلب في المقابل شيئا، و لا يمن على من يمنحه الرزق.

[74] وَ إِنَّكَ يا رسول اللّه لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فلا التواء في العقيدة و لا انحراف في الشريعة، و إنما سائر العقائد و الطرق ملتوية منحرفة، فهل يخافون إن قبلوا دعوتك أن تضلهم و تحرفهم عن الجادة؟

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 3، ص: 660

[سورة المؤمنون (23): الآيات 74 الى 76]

وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (76)

[75] وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و هذا كناية عن عدم إيمانهم بالدين، إذ الإيمان بالدين كله يلازم الإيمان بالآخرة، و جي ء بهذا التعبير للدلالة على أنهم لا يعرفون مسئولية و جزاء حتى يعدلوا سلوكهم خوفا من العقاب عَنِ الصِّراطِ المستقيم لَناكِبُونَ أي عادلون مائلون، فدينك مستقيم و دينهم منحرف.

[76] و لقد صعب علاج هؤلاء فلا بالفضل يشكرون، و لا عند الضراء يرجعون وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ بأن تفضلنا عليهم وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ و قد سبق أن أهل مكة ابتلوا بالقحط الشديد على أثر دعاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي لتمادوا في ضلالهم، و «اللج» التمادي و التمسك الشديد بالباطل، و «عمه» عمى القلب، أي إن تفضلنا عليهم بطرتهم النعمة.

[77] و إن أبقيناهم في الضر و أخذناهم بالشدائد، لم تنفعهم في الإقلاع عما يفعلون وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي بالصعوبات، كالجدب و ضيق الرزق، و أمثالها فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ الاستكانة: التضرع و الانقياد وَ ما يَتَضَرَّعُونَ إلى اللّه، بأن يرجعوا إليه و ينقادوا لأوامره ليدفع عنهم البلاء، و هؤلاء عكس المؤمنين الذين هم إن أعطوا شكروا و إن منعوا استغفروا، فهم كما قال سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 661

[سورة المؤمنون (23): الآيات 77 الى 79]

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَ هُوَ الَّذِي

أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) «1» [78] و قد كان هذا دأب الكافرين، و حالتهم المستمرة حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ بأن لا يكون بعده موضع رجوع و توبة، سواء كان بالموت أو بالإهلاك أو في الآخرة، و في رواية أنه في الرجعة، و هو أيضا مصداق لذلك إِذا هُمْ فِيهِ أي في ذلك العذاب مُبْلِسُونَ من أبلس بمعنى تحير و يأس فإنهم سادرون في الكفر و الغي، حتى يصلوا إلى ذلك العذاب، حيث لا مرجع و لا توبة، بل يأس من الخلاص و إبلاس.

[79] ثم أخذ السياق يوقظ وجدان هؤلاء بالنعم الكثيرة التي تدل على وجود منعهما و علمه و قدرته و فضله وَ هُوَ اللّه الواحد الَّذِي أَنْشَأَ و خلق لَكُمُ أيها البشر السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد، و هو القلب، و الاختلاف في السمع بالإفراد، و في الأبصار و الأفئدة بالجمع، لتفنن بلاغي قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «قليلا» منصوب ب «تشكرون» أي تشكرون اللّه سبحانه قليلا، و «ما» زائدة للتقليل.

[80] وَ هُوَ اللّه الواحد الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم و أوجدكم فِي الْأَرْضِ فمن غيره خلقكم أيها البشر؟ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الحشر، هو الجمع، أي تجمعون بعد الموت للحساب و الجزاء، و كما قدر على

______________________________

(1) المعارج: 20- 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 662

[سورة المؤمنون (23): الآيات 80 الى 82]

وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ

الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)

الابتداء بأن «ذرأكم» يقدر على الإعادة.

[81] وَ هُوَ اللّه الواحد الَّذِي يُحْيِي الأموات كما أحيى التراب فجعله إنسانا و حيوانا وَ يُمِيتُ الأحياء كما نرى كل يوم، و من زعم انه قادر على الإماتة فقد أخطأ، فإنه قادر على إيجاد بعض الأسباب أما الإماتة فإنها من اللّه سبحانه، كما أن من زعم أنه قادر على الإحياء- بإلقاء الماء العفن في مكان حتى يولد البعوض- فقد أخطأ وَ لَهُ أي بخلقه و تقديره اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي مجي ء أحدهما خلفة للآخر، يقال اختلفا، إذا جاء أحدهما خلف الآخر، كما قال سبحانه (وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً) «1» أَ فَلا تَعْقِلُونَ؟ أي تعملون عقولكم و تتفكرون في هذه النعم الباهرة، إنها لا بد لها من إله قادر عالم متفضل حكيم.

[82] إن الكفار أعرضوا عن كل هذه الآيات و جميع هذه النعم بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ المنكرون للمبدأ و المعاد.

[83] و ماذا قال الأولون و اتبعهم هؤلاء في تلك المقالة؟ قالُوا أَ إِذا مِتْنا بكسر الميم من «مات» «يميت» على وزن «باع يبيع» وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أي كانت أبداننا ترابا، و بقيت عظامنا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ نحيى للحساب؟

______________________________

(1) الفرقان: 63.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 663

[سورة المؤمنون (23): الآيات 83 الى 86]

لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)

[84] لَقَدْ وُعِدْنا بهذا البعث،

و عدونا الأنبياء عليهم السّلام نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ أي من قبل وعدك لنا، وعد الأنبياء عليهم السّلام آباءنا إِنْ هذا أي ما هذا الوعد بالبعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأسطورة هي القصة التي لا حقيقة لها، يعني إن هذه الإخبارات حول المعاد، ليست إلا أكاذيب لفقها الأولون، و اتخذتها أنت يا محمد.

[85] قُلْ يا رسول اللّه في جواب هؤلاء الذين يستبعدون الحشر و الحساب، و يجعلون لله شركاء، فلقد كانوا مضطربي العقيدة، فقسم منهم يعترف بالله و مع ذلك يتخذ الأصنام، و لذا أراد القرآن أن يستدرجهم ليعترفوا بما هو مسلم فيردهم بذلك عن غيهم، و لذا أخذ يسألهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها؟ فمن خلقها و من مالكها، و كذلك من خلق ما في الأرض و من مالكها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أجيبوني عن هذا السؤال.

[86] سَيَقُولُونَ في الجواب، إن الأرض و من فيها لِلَّهِ وحده، و لعل الإتيان ب «السين» إفادة لتفكرهم مقدارا قليلا حتى يقولوا هذا الجواب قُلْ يا رسول اللّه لهم حين اعترفوا بأنها لله أَ فَلا تَذَكَّرُونَ بعد ذلك أن ليس للأصنام نصيب في الخلق، فلما ذا تتخذونها آلهة، و إن من يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة، فكيف لا تعترفون بالمعاد.

[87] و إذ أجابوا حول الأرض القريبة منهم، فليتوجه السؤال إلى السماء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 664

[سورة المؤمنون (23): الآيات 87 الى 88]

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)

قُلْ يا رسول اللّه لهم مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ؟ و كأنهم كانوا يعترفون

بأن السماوات سبعة وَ من رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟ فقد كانوا يقولون أيضا بوجود العرش، لما ترسخ في أذهانهم من آثار علم الأنبياء السابقين.

[88] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ كل ذلك قُلْ يا رسول اللّه لهم حينما أجابوا أَ فَلا تَتَّقُونَ أي ألا تخافون من هذا الإله الذي يملك كل شي ء أن يعمكم بعذاب إن خالفتم أمره و اتخذتم معه شركاء، و أنكرتم البعث و الحساب؟.

[89] قُلْ يا رسول اللّه لهم مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ الملكوت مبالغة في الملك، كالجبروت مبالغة في الجبر، و المراد بملكوت كل شي ء ملكه و جميع شؤونه، فإن هذه الشؤون التي تتغير في هذا العالم لا بد و أن يكون لها مالك و متصرف وَ هُوَ يُجِيرُ أي يغيث من يشاء، و يحفظه من أن يصل إليه سوء، يقال: أجاره، إذا آمنه من المكروه المتوجه إليه وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ أي لا يحفظه أحد من السوء إذا أراد بشخص سوءا، فلو أراد- مثلا- زيد بمحمد سوءا، أجاره اللّه من زيد، أما لو أراد اللّه برجل سوءا، فلا شخص يحفظ ذلك الرجل من عقوبة اللّه سبحانه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك، فأجيبوني؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 665

[سورة المؤمنون (23): الآيات 89 الى 91]

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)

[90] سَيَقُولُونَ في الجواب لِلَّهِ أي أن ملكوت كل شي ء و الإجارة و البطش الشديد الذي لا يجار منه، كلها لله سبحانه قُلْ يا رسول اللّه لهم حين أجابوا بذلك فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي

كيف يخيل إليكم الحق باطلا، و الصحيح فاسدا، إنكم بعد هذه الاعترافات كيف تجعلون لله شركاء و تنكرون قدرته على البعث و الإحياء، مخدوعين بالتقاليد، كالإنسان المسحور الذي يخيل إليه الباطل و يعرض عن الحق.

[91] بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ أي جئنا إليهم ما هو حق و واقع من التوحيد و البعث، و لم نأتهم بالكذب وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مقالهم، و هذا مقابل قولهم: إن الرسول كاذب، أو «أنهم» عطف على «بالحق» أي أتيناهم و بينا لهم «أنهم لكاذبون» لكنهم يصرون على كذبهم.

[92] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ كما يزعم النصارى إن المسيح ابن اللّه، و يزعم اليهود إن عزير ابن اللّه، و يزعم المشركون إن الملائكة بنات اللّه، و «من» لتقوية تعميم النفي، فلو كان المراد «التبني» كان المعنى إنه خلاف الواقع، و لو كان المراد «للولادة» كان المعنى إنه مستحيل وَ ما كانَ مَعَهُ أي مع اللّه سبحانه مِنْ إِلهٍ شريكا له إِذاً أي إذا كان معه إله آخر لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي ميز كل إله ما خلقه عما خلق الإله الآخر حتى يستقل بهم، و يمنع الإله الآخر عن الاستيلاء عليهم، و هذا كما يقال «ذهب كل رئيس مع أتباعه» و ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 666

[سورة المؤمنون (23): الآيات 92 الى 93]

عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93)

تشبيه بالذهاب في الأرض الموجب لتمييز الفرق بعضها من بعض وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي طلب بعض الآلهة قهر بعض و الغلبة عليه، ليستقلّ هو بالملك، كما يفعل الملوك في الدنيا، لا يقال أن حكمتهم مانعة عن ذلك؟ لأنا نقول تعدد الإله

موجب لإمكان الآلهة، و الإمكان يلازم صفات الممكن التي منها حب الاستعلاء و الغلبة بتوابعه، و قد سبقت الإشارة إلى دليل التمانع في بعض السور المتقدمة سُبْحانَ اللَّهِ أي أنزه اللّه تنزيها عَمَّا يَصِفُونَ الإله به، من قولهم «له ولد» و «له شريك» فإن هذا توصيف لله تعالى بالولادة و التبني و بالشريك.

[93] إنه سبحانه عالِمِ الْغَيْبِ أي ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ أي ما حضر لدى الحواس، بأن كان مرئيا أو مسموعا، أو ما أشبه، فهو وحده عالم كل غيب و شهادة، و لو كان معه إله آخر لعلم ذاك، كما يعلم هذا فَتَعالى أي ارتفع- و ليس في الفعل معنى الزمان، كما هو كذلك في كل فعل يجري عليه فيما كان من صفات الذات، نحو «علم» و «قدر» و ما أشبههما- عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الشي ء الذي يشركون الإله به، أو تعالى عن شركهم، فهو أعلى مما يزعم شريكا له.

[94] و حيث لم ينفع في القوم الدليل، يتوجه الخطاب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مرشدا له، أن يدعو اللّه سبحانه أن لا يشمله العذاب الذي يأخذ القوم- إن قدر لهم عذاب- بسبب كفرهم و إصرارهم في العناد قُلْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 667

[سورة المؤمنون (23): الآيات 94 الى 96]

رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)

يا رسول اللّه يا رَبِّ إِمَّا أصله «إن» الشرطية و «ما» الزائدة التي جي ء بها للتقليل تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ أي إن أريتني ما يوعد هؤلاء الكفار من العذاب و النقمة.

[95] يا رَبِّ فَلا

تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بل أخرجني من بينهم عند ما تريد إحلال العذاب بهم، لئلا يصيبني ما يصيبهم، و هذا الدعاء في مورده، إذ من الممكن أن تعم الكارثة الصالحين، ليكون زيادة لأجرهم و رفعة لدرجتهم، و في الآية تعريض بالكفار بأنهم حيث أصروا على العصيان و الطغيان، صاروا معرضا لعقوبة اللّه و عذابه.

[96] وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ يا رسول اللّه ما نَعِدُهُمْ أي ما نعد الكفار من العذاب و النكال لَقادِرُونَ و إنما نمهلهم استدراجا (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ) «1».

[97] و إذا كان الكفار يصرون في العناد، و يتصدون للنبي و المؤمنين بالإيذاء، أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يداريهم، فإن ذلك أكثر نجاحا للدعوة، و خير لتخفيف الأذى، فإن الظالم لا يجد عذرا في إدامة ظلمه لو رأى من الطرف اللين ادْفَعْ يا رسول اللّه بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق السَّيِّئَةَ التي يواجهونك بها، و ذلك بالإغضاء و العفو، و قد يقال: إن الأحسن هو أن يفعل ما يقتضي الحال من العفو

______________________________

(1) الأنفال: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 668

[سورة المؤمنون (23): الآيات 97 الى 99]

وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)

أو النكال، فإن الأحسن بالنسبة إلى بعض العفو، و بالنسبة إلى آخرين الأخذ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ اللّه و الرسول و الرسالة و القرآن و المعاد به فهم تحت علمنا و سنجازيهم على ما يصفون، و هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تهديد لهم، فإن معنى قول الملك «أنا أعلم

ما يفعله المجرم» إنه سيجازيهم بفعله السيئ.

[98] إنهم إنما يصفون ما يصفون من إلقاءات الشياطين و وساوسهم، فمن الجدير بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و إن كان معصوما في ذاته- أن يستعيذ بالله من الشيطان كي لا يهمزه، بل لا يحضر عنده مجرد حضور، فإن حضور الشيطان مكروه لذاته، فإنه يهمز الكفار، و يلقي عليهم الكفر مستمرا، حتى أن يأتيهم الموت وَ هناك يقولون رَبِّ ارْجِعُونِ بلا جدوى ف قُلْ يا رسول اللّه، يا رَبِّ أَعُوذُ بِكَ أي أعتصم و ألوذ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ حتى لا يتمكن الشيطان من همزي، و الهمز شدة الدفع، فإن الشيطان يدفع الإنسان دفعا قويا نحو الكفر و المعاصي، و لذا يجد العاصي من نفسه اندفاعا شديدا نحو العصيان.

[99] وَ أَعُوذُ بِكَ يا رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي يحضرون عندي، فإن حضور الشيطان مكروه، لما له من الشقوة و البعد من الرحمة و إن لم يهمز و لم يوسوس.

[100] لكن الشيطان يحضر الكفار و العصاة، و يدفعهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 669

[سورة المؤمنون (23): آية 100]

لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ «الموت» فاعل «جاء» قالَ ذلك الكافر و العاصي- الذي عبر عنه ب «أحدهم»- و قوله هذا إنما يكون إذا أشرف على الموت و رأى آثاره، يا رَبِّ ارْجِعُونِ و الإتيان بالجمع على العادة في التأدب عند مخاطبة الكبراء.

[101] لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي في تركتي بأن أودي حق اللّه أو في ما تركت من الدنيا، بأن أعمل حسب أوامر اللّه، و لفظة «ارجعون» و «تركت» باعتبار إشرافه على

الآخرة، و إلا فهو بعد في الدنيا، و إنما يرى الملائكة، و هو أخذ في مقدمات العز، أو أن ذلك القول بعد قبض روحه، و معنى «جاء» أنه مات، و الجواب لهذا الطلب كَلَّا لا رجوع إلى الدنيا إِنَّها أي مسألة الرجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها لا فائدة فيها، و لا أثر يترتب عليها، أو المراد أنه وعد كاذب، إذ (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) «1» وَ مِنْ وَرائِهِمْ و إنما جي ء بهذا التعبير، لأن وجهه إلى الدنيا، فكأن ما يأتي خلفه و وراءه بَرْزَخٌ و هو العالم المتوسط بين هذا العالم و عالم الآخرة، و البرزخ- لغة- بمعنى الحاجز بين شيئين إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فهم في العذاب و النكال هناك، و كان الإتيان بهذا، لئلا يظن ظان، أنهم معدومون، حتى يبعثوا، فليس لهم تعب و عذاب في هذه القطعة، فإن

______________________________

(1) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 670

[سورة المؤمنون (23): الآيات 101 الى 103]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)

قبر الكافر حفرة من حفر النيران.

[102] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ «الصور» هو البوق الذي ينفخ فيه ميكائيل معلنا قيام الساعة فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم النفخ، و الأنساب جمع نسب، و هو صلة الإنسان مع غيره بالأبوة و النبوة، و ما أشبههما، و المراد أن الأنساب لا تنفع هناك للنجاة من العذاب، فنفي الحقيقة باعتبار نفي الصفة نحو «يا أشباه الرجال، و لا رجال» وَ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا عن شي ء، فقد

ساد الموقف سكون الخوف، و سكوت الخشية حتى لا يتجرأ أحد على الكلام، و حيث إن مواقف القيامة كثيرة، لم يكن تناف بين السكوت و عدم التساؤل في موقف، و بين التكلم و التساؤل في موقف آخر.

[103] فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ «موازين» جمع «ميزان» و المراد، ثقل الميزان بالطاعات، و لعل الإتيان بالجمع، لأن لكل عمل ميزانا، فللصلاة ميزان، و للزكاة ميزان، و هكذا فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالدرجات الرفيعة.

[104] وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن ارتفعت كفة الصالحات، و ثقلت كفة السيئات فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فكأنهم باعوا نفوسهم بالمعاصي، فذهبت نفوسهم من أيديهم، فهم في تعب، و فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 671

[سورة المؤمنون (23): الآيات 104 الى 108]

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (108)

باقون أبد الآبدين، في مقابل المؤمنين الذين أعطوا الطاعة، و أخذوا النفوس، فربحوا نفوسهم، فهم في نعيم مقيم.

[105] تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ أي وجوه الخاسرين النَّارُ فاعل تلفح، و اللفح ضرب السموم للوجه، أي يصيب وجوههم لفح النار و لهيبها وَ هُمْ فِيها أي في النار كالِحُونَ من كلح، و الكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان، حتى تبدو كالرأس المشوية.

[106] و هناك يشتمون ليزداد عذابهم الروحي على عذابهم الجسمي، فيقال لهم أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي و أدلتي تُتْلى عَلَيْكُمْ و تقرأ عندكم، و الاستفهام تقريري توبيخي فَكُنْتُمْ بِها أي بالآيات تُكَذِّبُونَ فذوقوا جزاء تكذيبكم.

[107] قالُوا في الجواب، يا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا فقادتنا أنفسنا

الأمارة إلى هذا الشقاء وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ عن الطريق، يقولون هذا حيث لا مجال هناك إلا للاعتراف، يريدون بذلك الاسترحام.

[108] يا رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها من النار فَإِنْ عُدْنا إلى الكفر و التكذيب و العصيان فَإِنَّا ظالِمُونَ لأنفسنا بعد ذلك، و لا حجة لنا أبدا، و هم يظنون بذلك أنهم يغرون اللّه سبحانه.

[109] قالَ اللّه سبحانه، أو المالك للنار، و هو الملك بها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 672

[سورة المؤمنون (23): الآيات 109 الى 111]

إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)

اخْسَؤُا فِيها أي في النار، أي ابعدوا بعد الكلب، فإن هذه اللفظة لزجر الكلاب، و إنما يقال لهم للإهانة و الإذلال وَ لا تُكَلِّمُونِ أي لا تكلمونني، فأنتم لا تستحقون الخطاب و المكالمة، ألم تكونوا تستهزئون بالمؤمنين في الدنيا؟ فهذا جزاءكم في الآخرة.

[110] ألا تذكرون إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ أي جماعة مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ في الدنيا يا رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي كانوا يدعون بهذا الدعاء، بعد أن آمنوا بالله سبحانه، و عملوا الصالحات، و الفريق هم الأنبياء و الأئمة و المؤمنون.

[111] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي كنتم تسخرون و تستهزئون منهم، منسوب إلى السخرة، و هو من يسخر به، و كأن النسبة لزيادة الاستهزاء، فإن السخرة يهزأ به، فكيف بمن ينتسب إليه؟ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ أولئك الفريق ذِكْرِي فإن الإنسان إذا اشتغل بالسخرة نسي الذكر و أعرض عنه، و إنما نسب النسيان إليهم لأنهم السبب في التمسخر الموجب لنسيان الذكر وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ

أي من أولئك الفريق تَضْحَكُونَ و معنى «منهم» من أعمالهم و أقوالهم.

[112] إِنِّي جَزَيْتُهُمُ أي أعطيت جزاء أولئك الفريق المؤمنين الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم في الدنيا على التكاليف، و على تحمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 673

[سورة المؤمنون (23): الآيات 112 الى 114]

قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)

سخريتكم أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ الظافرون بما أرادوا، فجزاؤكم النار، و جزاؤهم الفوز و الجنة.

[113] ثم يتوجه إلى الكفار لزيادة تقريعهم و بيان أنهم إنما عصوا و ألقوا أنفسهم في هذا العذاب، لوقت قليل في عمر الدنيا قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ مكثتم و بقيتم أيها الكفار فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ أي من جنس هذا العدد مقابل عدد الأيام و عدد الشهور.

[114] قالُوا و قد نسوا مقدار بقاءهم في الدنيا فضؤل في أعينهم مدة البقاء لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالوا ذلك على وجه الحقيقة لنسيانهم المقدار، أو قالوه مجازا، تقليلا لمدة المكث، فإن الزمان إذا مضى يراه الإنسان قليلا فَسْئَلِ يا رب عن مدة مكثنا الْعادِّينَ أي الحسّاب الذين قد عدوا، فإنا لا ندري أ يوما بقينا، أو بعض يوم؟ و قد ورد أن المراد سؤال الملائكة الموكلين بهم، فإنهم عدوا أعمارهم و ساعاتها؟

[115] قالَ اللّه سبحانه، مظهرا، أن ليس المقصود مقدار المكث بالسنين و الشهور، و إنما المقصود بالسؤال أن بقاءكم في الدنيا كان قليلا فقد أذهبتم الآخرة لأجل شهوات زائلة في تلك المدة القليلة إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما كنتم و بقيتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا و لو كان سنوات لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و

تحسنون التقدير، لعلمتم أن بقاءكم في الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 674

[سورة المؤمنون (23): الآيات 115 الى 117]

أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117)

قليل بالنسبة إلى الآخرة التي لا فناء لها و لا زوال.

[116] أَ فَحَسِبْتُمْ و ظننتم أيها المنكرون للبعث أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً باطلا و لغوا، فلا حساب و لا ثواب و لا عقاب وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ و المراد إلى حكمنا و جزاءنا، إن ظنكم ذلك باطل كذب، و هذا إما كلام مستأنف خطاب للكفار في الدنيا، أو عطف على السابق، و أنه في جملة الكلام الذي يقال للكفار في الآخرة [117] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ تعالى أن يكون له شريك أو ولد- و هذا رجوع إلى الكلام السابق حول نفي الولد و الشريك- أنه هو الملك الحق، و ما سواه من دون الآلهة ملوك باطلة موهومة، لا حصة لها من الملك و الخلق لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده لا شريك له رَبُّ الْعَرْشِ أي الملك، أو العرش الذي هو محل تشريفي له سبحانه خلقه ملاذا للملائكة، كما خلق الكعبة ملاذا للناس الْكَرِيمِ فإن للعرش من الكرامة و العظمة قدرا كبيرا.

[118] وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بأن يجعل لله شريكا لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي في حال كونه لا حجة و لا دليل للداعي بذلك الإله الثاني فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي أن مقدار جزاء سيعلقه في تلك الدعوة الباطلة عند الله، و

هذا تهديد للمشركين، بأنه تعالى سوف يحاسبهم على ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 675

[سورة المؤمنون (23): آية 118]

وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

حسابا عسيرا إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي لا يفوزون، و لا يخلصون من العقاب.

[119] وَ قُلْ يا رسول الله، يا رَبِّ اغْفِرْ الذنوب، فأنت وحدك الغفار، و لا شفعاء من دونك، كما يزعم المشركون وَ ارْحَمْ أي تفضل بالرحم و الخير، فأنت وحدك الراحم المتفضل وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أفضل المنعمين و أكثرهم فضلا، بل كل نعمة منك، و إنما غيرك لا يملك إلا ما ملكته، فأنت الإله الواحد، و إن إليك المرجع، و إنك الغافر الراحم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 676

24 سورة النور مدنية/ آياتها (65)

سميت السورة بالنور، لاشتمالها على هذه اللفظة، و هي كسائر السور المدنية تتعرض إلى النظام، و تشريع القوانين، و لما اختتمت سورة المؤمنين، بأن الله سبحانه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر و النهي، ابتدأت هذه السورة بذكر الشرائع و فرض النظام الاجتماعي.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ استعانة باسم الإله، الذي يعين الإنسان، إذا استعان به، و هو رحمن رحيم، يرحم و يتفضل بما هو أهله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 677

[سورة النور (24): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

[2] هذه سُورَةٌ السورة مأخوذة من سور البناء، و هو ارتفاعه، و منه يسمى سور البلد سورا، و إنما سميت

سور القرآن بها، لأنها مرفوعة في النفوس، أو لأنها محيطة بجملة من العقيدة و الآداب أَنْزَلْناها أي أنزلنا هذه السورة، و الإنزال، إما باعتبار مجيئها من فوق، إذ الملك يهبط عن السماء، أو باعتبار أنها جاءت من طرف العلي الأعلى وَ فَرَضْناها أي أوجبنا العمل بها، و لعل هذا التأكيد لاشتمالها على الحد و ما أشبه، مما يحتاج إلى التأكيد البليغ، فإن الفرائض الشديدة تحتاج إلى قوة في البيان، حتى تحفز تلك القوة على تطبيقها وَ أَنْزَلْنا فِيها في هذه السورة آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات ظاهرات، و الظرف باعتبار المجموع، المظروف باعتبار كل قطعة قطعة، و آية آية لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لكي تتذكروا، ما هو كامن في فطرتكم من الأمور المرتبطة بالعقائد و الآداب و الأنظمة، فإن الله سبحانه جعل في النفس فطرة المعارف، كما جعل فيها فطرة الآداب، و إن كانت مجملة تحتاج إلى الشرح و البيان و ذكر المزايا التي لا تصل الفطرة إليها بمجردها.

[3] و بعد تلك المقدمة الشديدة، يأتي النظام الصارم لمن ينحرف عن العفاف الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي و لعل تقديم «الزانية» لكون عملها أشنع، و لأن العطف نحوها أكثر، لرقة جنس المرأة فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، و ذلك بضربهما بالجلد، الذي هو عود طويل على رأسه خيط طويل من الجلد، يؤلم الجسم كثيرا، يستعمله في هذا الزمان أهل الأفراس و العربيات، و لا يخفى أن هذا الحكم إنما هو مقيد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 678

[سورة النور (24): آية 3]

الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

ببعض القيود المستفاد من الشرع- كما هو مذكور في كتاب

الحدود- وَ لا تَأْخُذْكُمْ أيها الحكام المجرون للحد بِهِما أي بأي من الزاني و الزانية رَأْفَةٌ أي شفقة و رحمة فِي دِينِ اللَّهِ أي في هذا الحد المرتبط بالدين، الذي أنزله الله من السماء إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أي تعتقدون بالله، و تقرون بالبعث و النشور وَ لْيَشْهَدْ أي اللازم أن يحضر عَذابَهُما أي في حال جلد الزانية و الزاني طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي جماعة منهم، ليكون أردع للزناة، حيث يرون العذاب و الفضيحة، و ينشر الخبر بسبب أولئك مما شاهدوه عيانا، و من الغريب أن بعض الغربيين- الذين أباح قانونهم التنكيل بالبشر، بما لا يتحمل الإنسان على مجرد سماعه، كاستعمال الكلابيب للجسم، و الحقنة بالبيضة و القنينة و الماء الحار، و الحمامات الحارة و الباردة، التي تنقط على رؤوس مجرميهم، و كي البدن بالمكاوي الكهربائية، و أشباهها مما يتقزز منه الجسم، و يستبشعه، حتى من له أقل شعور يعيبون على الإسلام مثل هذا القانون المطهر للمجتمع عن كثير من أنواع الفساد و الرذيلة، نعم إنهم أرادوا أن يزنوا فأباحوا ذلك، و عابوا مثل هذا القانون و لو أرادوا الطهارة لرأوا أن هذا القانون هو القانون العادل الذي لا يجد الإنسان مطهرا للمجتمع مثله.

[4] ثم أراد سبحانه تفظيع الأمر عليهما، فقال الزَّانِي لا يَنْكِحُ أي لا يزني، و النكاح في اللغة هو الوطء إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 679

[سورة النور (24): آية 4]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4)

المؤمنة العفيفة لا تكون طرفا لزنى الرجل الزاني، و هذا كقوله سبحانه

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) «1» وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها أي لا يطأها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فإن المؤمن العفيف، لا يكون طرفا لزنى المرأة الزانية، و كأن هذا لدحض زعم بعض الناس الذين يتعاطون الزنى، زاعمين أنهم أعفاء، و إنما طرفهم فقط، رجل سيئ، أو امرأة سيئة، و قد يرى الإنسان رجلا، يدخل بيت الدعارة زاعما أنه يقضي حاجة، و إنما المرأة هي الزانية، أليس هو يقضي حاجة، و هي شغلها الزنى؟ و كذا في صورة العكس، و قد ذكروا في سبب نزول الآية ما

روي عن الإمامين الباقر و الصادق عليه السّلام، قالا هم رجال و نساء كانوا على عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشهورين بالزنى، فنهى الله عن أولئك الرجال و النساء

«2»، و في الآية احتمال آخر و ما ذكرناه هو الظاهر منها بملاحظة بعض القرائن الداخلية و الخارجية وَ حُرِّمَ ذلِكَ النكاح للزاني أو الزانية عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فالمؤمن لا يكون طرف زانية، و المؤمنة لا تكون طرف زان.

[5] ثم انتقل السياق إلى حكم من يرمي المؤمنة بالزنى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي يقذفون النساء العفيفات بالزنى، بنسبة الزنا إليهن، و «المحصنة» هي المرأة العفيفة و تسمى محصنة، لأنها أحصنت و حفظت نفسها بالعفاف، و لا مفهوم للآية حتى يدل على أن رمي غير

______________________________

(1) النور: 27.

(2) راجع مستدرك الوسائل: ج 14 390.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 680

[سورة النور (24): الآيات 5 الى 6]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)

المحصنة لا حكم له، و إنما سمي

بالنسبة رميا، لأنها رمي للقول كما أن قذف الحجارة و نحوها رمي للشي ء ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون على طبق كلام الرامي، بأنهم رأوا زناها عيانا فَاجْلِدُوهُمْ أي اجلدوا الرامين ثَمانِينَ جَلْدَةً و لا يقبل كلامهم بالنسبة إلى المقذوفة وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ لأولئك الرامين شَهادَةً أَبَداً إذا شهدوا على شي ء، ردت شهادتهم وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فلا يترتب عليهم ما يترتب على العدول، من الائتمام به، و تقليده، و صحة الطلاق عنده، إلى غير ذلك.

[6] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من هؤلاء القاذفين مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الرمي وَ أَصْلَحُوا أعمالهم، لم يفسقوا من جهة أخرى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر ذنبهم رَحِيمٌ بهم يتفضل عليهم، فإن هؤلاء تقبل شهادتهم و لا يحكم بفسقهم، بل يجري عليهم ما يجري على سائر الناس من الأحكام.

[7] وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي ينسبون زوجاتهم إلى الزنى وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون لهم على صحة ما قالوا إِلَّا أَنْفُسُهُمْ استثناء منقطع أي أنهم يدعون ذلك، و لا شاهد لهم، فاللازم أن يجلدهم الحاكم الشرعي حد القذف، إلا إذا تدارك ذلك بأن حلف خمسة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 681

[سورة النور (24): الآيات 7 الى 8]

وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8)

أيمان، أربع مرات يحلف أنه صادق، و مرة يحلف أن لعنة اللّه عليه، إن كان كاذبا فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ لدرء الحد عنه أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ أي يستشهد بالله لصدق مقاله في رمي الزوجة بالزنى فيحلف أربع مرات بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله أنها زنت.

[8] وَ الشهادة الْخامِسَةُ المتممة لتلك الشهادات الأربع الموجبة

لرفع حد القذف عنه أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ أي طرده عن الرحمة و عذابه عَلَيْهِ و يأتي بضمير المتكلم مكان الضمير الغائب إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما رمى زوجته به، فتكون هذه الأيمان الخمسة رافعة للحد الذي استحقه من جهة قذف زوجته بالزنا بدون شهود.

[9] و إذا حلف الرجل تلك الأيمان الخمسة ثبت الحد على المرأة، و قامت تلك الأيمان مقام الشهود الأربع، و لكن إذا حلفت هي أيضا خمسة أيمان، ارتفع عنها الحد و فرق بينهما، فلا يحل الرجل لها، و لا تحل هي له إلى الأبد وَ يَدْرَؤُا أي يدفع، و فاعله «أن تشهد» عَنْهَا أي عن المرأة الْعَذابَ أي حد الزنى الذي ثبت من حلف الرجل بتلك الأيمان أَنْ تَشْهَدَ المرأة أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ كأن الله سبحانه أخذها شهيدا لها على براءتها، حيث تحلف به إِنَّهُ أي الرجل لَمِنَ الْكاذِبِينَ فلم تزن هي، فتقول- أربع مرات- أشهد بالله، إنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 682

[سورة النور (24): آية 9]

وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)

لمن الكاذبين، فيما قذفني به من الزنى.

[10] وَ تشهد الشهادة الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها بأن تقول غضب الله علي إِنْ كانَ الرجل مِنَ الصَّادِقِينَ فيما قذفني به من الزنى و هذا الحكم هو المسمى باللعان،

و قد ورد في سبب نزول هذه الآيات، ما ذكره القمي، أنه لما جاء رسول الله، من غزوة تبوك، جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني و كان من الأنصار، و قال: يا رسول الله إن امرأتي زنى بها شريك بن سحماء، و هي منه حامل، فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأعاد عليه القول،

فأعرض عنه، حتى فعل ذلك أربع مرات، فدخل رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزله، فنزل عليه آية اللعان، فخرج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صلى بالناس العصر، و قال لعويمر ائتني بأهلك، فقد أنزل الله فيكما قرآنا فجاء إليها، فقال لها: رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدعوك و كانت في شرف من قومها، فجاء معها جماعة، فلما دخلت المسجد، قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعويمر: تقدم إلى المنبر، فقال: كيف اصنع؟ قال: تقدم و قل أشهد بالله إني إذا لمن الصادقين فيما رميتها به، فتقدم و قالها، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعدها، فأعادها، ثم قال: أعدها، فأعادها، حتى فعل ذلك أربع مرات، فقال له في الخامسة: عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رماها به، ثم قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن اللعنة موجبة إن كنت كاذبا ثم قال له: تنح فتنحى، ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد، و إلا أقمت عليك حد الله، فنظرت في وجوه قومها، فقالت: لا أسود هذه الوجوه في هذه العشية، فتقدمت إلى المنبر، و قالت: أشهد بالله أن عويمر بن ساعدة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 683

[سورة النور (24): آية 10]

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

من الكاذبين، فيما رماني به، فقال لها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعيديها فأعادتها، حتى أعادتها أربع مرات، فقال لها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: العني نفسك في

الخامسة، إن كان من الصادقين فيما رماك به، فقالت في الخامسة: إن غضب الله عليّ، إن كان من الصادقين فيما رماني به، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ويلك إنها موجبة لك، ثم قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لزوجها: اذهب فلا تحل لك أبدا، قال: يا رسول الله، فمالي الذي أعطيتها؟ قال: إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه، و إن كنت صادقا، فهو لها، بما استحلك من فرجها، ثم قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن جاءت بالولد أحمش الساقين، أنفس العينين، جعد قطط، فهو للأمر السيئ، و إن جاءت به أشهل و أصهب، فهو لأبيه، فيقال إنها جاءت به على الأمر السيئ فهذه لا تحل لزوجها، و إن جاءت بولد لا يرثه أبوه، و ميراثه لأمه، و إن لم يكن له أم، فلأخواله، و إن قذفه أحد، جلد حد القاذف

«1»، أقول: لقد روي في سبب نزول هذه الآيات، روايات و انتسبت القصة إلى أناس آخرين و لا بعد في ذلك كله، فكم من قضايا تتعدد، و كم من آية نزلت لأمرين أو أكثر.

[11] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بمنعكم عن الزنى و الفواحش و جعل الحدود عليها وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ كثير الرجوع على من عصى و تاب، حَكِيمٌ ذو حكمة في التشريعات، لنالكم عنت و إرهاق في الدنيا، و عذاب في الآخرة ففضله و رحمته في الدنيا يوجبان التيسير، إذ لو لا الفضل لكان يحد القاذف أو المقذوفة، و لو لا قبول التوبة لكان

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 90 ص 71.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3،

ص: 684

[سورة النور (24): آية 11]

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)

يعاقب المذنب في الآخرة، و قد حذف جواب لو لا ليترك في النفس فراغا يوجب قلقها، حتى يعظم لديها الفضل، و قبول التوبة.

[12] و بمناسبة ذكر الحد على القاذف يذكر القرآن الحكيم قصة «الإفك» الذي رمي به إحدى زوجتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «مارية» أو «عائشة» فقد نسب الخاصة القصة إلى «مارية». و نسب العامة القصة إلى «عائشة» و القصة هي:

قال الإمام الباقر عليه السّلام: لما هلك إبراهيم ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حزن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حزنا شديدا، فقالت له عائشة، ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جريح فبعث رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام و أمره بقتله، فذهب علي عليه السّلام إليه، و معه السيف و كان جريح القبطي في حائط، فضرب علي باب البستان، فأقبل إليه جريح ليفتح له الباب، فلما رأى عليا، عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعا، و لم يفتح باب البستان، فوثب علي عليه السّلام الحائط و نزل إلى البستان و اتبعه، و ولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة، و صعد علي عليه السّلام في أثره، فلما دنى منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال و لا للنساء فانصرف علي عليه السّلام إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال

له: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمي في الوبر، أمضي على ذلك أم أثبت؟ فقال: لا تثبت، قال عليه السّلام: و الذي بعثك بالحق ما له ما للرجال و ما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت

«1»،

و في حديث آخر فأتى به رسول الله، فقال له: ما شأنك يا جريح؟ فقال: يا رسول الله إن القبط يحبون حشمهم، و من يدخل إلى أهليهم و القبطيون لا يأنسون إلا بالقبطيين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 155. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 685

فبعثني أبوها لأدخل إليها و أخدمها و أؤنسها.

أقول: و لقد كان بعث الإمام- على هذا- ليتبين الأمر و إن كان بصورة إن يقتل جريح، أما ما ذكره العامة، فقد قال في الجوامع: إن سبب الإفك، إن عائشة ضاع عقدها، في غزوة بني المصطلق، و كانت قد خرجت لقضاء حاجة فرجعت طالبة له، و حمل هودجها على بعيرها ظنا منهم أنها فيها، فلما عادت إلى الموضع، وجدتهم قد رحلوا و كان صفوان من وراء الجيش، فلما وصل إلى ذلك الموضع و عرفها أناخ بعيره حتى ركبته، و هو يسوقه حتى أتى الجيش، و قد نزلوا في قائم الظهيرة.

أقول: و هناك نسب المنافقون إلى عائشة و صفوان الإثم و أخذوا يبثونه، و قد أطال العامة في الحديث، لكن الغالب أن طرقه غير صحيحة، و من المحتمل وقوع الأمرين كما في كثير من الآيات القرآنية التي يتعدد سبب نزولها إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي بالكذب العظيم الذي قلب وجه الحقيقة، و يقال للكذب الإفك، لأنه يقلب الحقيقة إلى غير واقعه، و أصل الإفك القلب، و

لذا قيل لمدائن لوط «مؤتفكات» لأنها قلبت ظهر البطن عُصْبَةٌ أي جماعة مِنْكُمْ أيها المسلمون، و لعل الإتيان بهذه الخصوصية، لإفادة أن الإفك، إنما كان وليد جماعة ذات هدف واحد، فليس كلاما قاله مغرض و إنما حركة مقصودة ضد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فليعرف المسلمون تلك العصبة و ليطلعوا على نواياهم لا تَحْسَبُوهُ أيها المسلمون شَرًّا لَكُمْ يذهب بشرفكم و رفعة مقامكم و طهارتكم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إذ يوجب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 686

[سورة النور (24): آية 12]

لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)

الأجر، و معرفة المنافقين و تمرين الأمة على الصعوبات كما قال الشاعر:

جزى الله النوائب كل خيرو إن جرعنني غصص بريقي

أهاجتني زمانا كي تريني على ملأ عدوي من صديقي

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من تلك العصبة التي جاءت بالإفك مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ قدر ما خاض في الحديث حول المرأة البريئة «مارية» وَ الَّذِي تَوَلَّى أي تحمل كِبْرَهُ أي القسط الأكبر مِنْهُمْ أي من العصبة لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ أي هو الذي أذاعه و أشاعه و أظهره للمجتمع.

[13] ثم عاتب الله سبحانه المسلمين الذين خاضوا في الحديث بدون دراية و معرفة، و إنما تفكها و حديثا لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ «لو لا» للردع، أي هلّا حين سمعتم الإفك من القائلين المغرضين ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً فإن مارية و جريح كانا من نفس المؤمنين و المؤمنات بأنفسهم خيرا فإن مارية و جريح كانا من نفس المؤمنين و المؤمنات، و لم يكونا خارجين عن دينهم، و المراد ظنوا بها خيرا، قال الشاعر:

قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني

سهمي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 687

[سورة النور (24): الآيات 13 الى 15]

لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

وَ قالُوا حين سمعوا الخبر هذا إِفْكٌ أي كذب مُبِينٌ ظاهر أي لماذا لم يقولوا هكذا؟

[14] لَوْ لا جاؤُ أي هلّا جاءت العصبة القاذفة عَلَيْهِ أي على الإفك الذي قذفوا مارية به بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ كما هو التشريع أن يأتي القاذف بأربعة شهود فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ أي حين لم يكن لهم شهيد يشهد بصدقهم فَأُولئِكَ الذين صنعوا هذا الإفك عِنْدَ اللَّهِ في حكمه هُمُ الْكاذِبُونَ لأن القاذف يرمى بالكذب حتى يقيم الشهود.

[15] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها المسلمون وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ بأن أمهلكم للتوبة، و لم يعاجلكم بالعقوبة لَمَسَّكُمْ أي أصابكم فِيما أَفَضْتُمْ أي خضتم فِيهِ من الإفك، و الإفاضة في الشي ء الدخول فيه عَذابٌ عَظِيمٌ مؤلم شديد، إذ الإفك كان كبيرا حيث إنه وقيعة في بيت النبي و شرفه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مما يوهن طهارة الرسالة في نظر الناس، فيقول الكفار و المنافقون كيف يأمر النبي بالطهارة، و زوجته على ما هي عليه؟

[16] إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أصله «تتلقونه» حذف إحدى التاءين على القاعدة، فيما إذا اجتمع في أول المضارع تاءان، و المراد تلقي بعضكم هذا الإفك عن بعض بالسؤال عنه و جاء «بألسنتكم» ليوضح، إن التلقي

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 3، ص: 688

[سورة النور (24): الآيات 16 الى 18]

وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)

لم يكن بمعناه المتعارف، و هو أخذ الشي ء باليد و نحوها وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ جمع فم ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ إذ لم تكونوا تعلمون ذلك، و مع ذلك كنتم تتكلمون حوله وَ تَحْسَبُونَهُ أي تظنون ذلك هَيِّناً سهلا وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ في الوزر، لأنه كذب و افتراء و هتك عرض، و إشاعة فاحشة.

[17] وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أي هلّا، إذ سمعتم هذا الإفك قُلْتُمْ لمن قاله ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا الحديث، أي لا يحل لنا أن نخوض في هذا الأمر سُبْحانَكَ ربنا هذا الذي قالوه بُهْتانٌ عَظِيمٌ أي كذب و افتراء عظيم عقابه، و قوله «سبحانك» لفظ يطلقه الإنسان لدى التعجب و الاستغراب من أمر.

[18] يَعِظُكُمُ اللَّهُ أيها المسلمون أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أي لئلا تعودوا لمثل هذا الإفك، أو كراهة أن تعودوا أَبَداً أي إلى الأبد، طيلة أعماركم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين بالله و الرسول و المعاد و الدين.

[19] وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أيها المسلمون الْآياتِ الدالة على أوامره و نواهيه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يصدر منكم حَكِيمٌ فيما يأمركم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 689

[سورة النور (24): الآيات 19 الى 20]

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ

رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)

و ينهاكم، فإنها طبق الصلاح و الحكمة.

[20] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي تنتشر و تظهر الصفة الفاحشة، من فحش بمعنى تعدى و تسمى المعصية الكبيرة فاحشة، لأنها تتجاوز الحد كثيرا و إن كان كل عصيان يتجاوز الحد المقرر، و هل المراد ب «يحبون» مجرد الميل القلبي حتى يكون لهذا الميل إثم، أو هو كناية عن القيام بالإشاعة لما سبق من أن كلا من الفعل و الإرادة يستعمل في الآخر فِي الَّذِينَ آمَنُوا أي بالنسبة إليهم، بأن يقذفوهم بها، أو يوسعون دائرة القذف، صدقا كان أم كذبا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع فِي الدُّنْيا بالجلد و التعزير وَ الْآخِرَةِ بالنار و النكال وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مضار إشاعة الفاحشة، و ما فيها من العقاب و النكال وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فلا تفعلوا ما لا تعلمون إضراره و عقوباته.

[21] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ أيها المسلمون حيث عفى عنكم، عن هذه الجريمة، و لم يعاجلكم بالعقاب و أمهلكم لتتوبوا وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بكم، لأخذكم العذاب في هذه النسبة التي نسبتموها إلى مارية زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد حذف جواب «لو لا» تهويلا، كما تقدم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 690

[سورة النور (24): آية 21]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

[22] و بعد أن أتم الكلام حول هذه الوقعة البشعة التي تبع عصبة

من المسلمين الشيطان في تلقيها و إشاعتها، خاطب الله سبحانه المؤمنين بصورة عامة، أن لا يتبعوا الشيطان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ تشبيه بمن يتبع أقدام غيره في السير خلفه، فكأن الشيطان يذهب في طريق العصيان، و العصاة يتبعونه و يجعلون خطواتهم مكان خطواته وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فليعلم إنه أي الشيطان يسلك به في طريق الغواية و الضلال، إذ هو يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ مؤنث أفحش نحو «حمراء أحمر» أي الصفة التي هي أفحش الصفات الرديئة لأن تعديها عن الحق كثير وَ الْمُنْكَرِ و هو مطلق الإثم، و خصص «الفحشاء» بالذكر لأن الكلام كان حول «الفاحشة» وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ و لعل الفرق بينهما «حيث يجتمعان» أن الرحمة يراد بها ستر الذنب، و الترحم بجبر المنقصة، و الفضل هو الإعطاء زائدا، مثل من كان له مائة، ثم خسر عشرا، إن أعطيته خمسة عشر و كانت العشرة رحمة، و الخمسة فضلا ما زَكى أي ما طهر، و لم ينم في الخير مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «من» زائدة لتعميم النفي وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي أي يطهر عن المعاصي و الآثام، و يسبب النمو و الزيادة له في الخير مَنْ يَشاءُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 691

[سورة النور (24): آية 22]

وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

من المؤمنين، من الذين ساروا في الطريق، و امتثلوا الأوامر، كما قال سبحانه (وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) «1» وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم يجزيكم

على حسبها عَلِيمٌ بضمائركم و نياتكم، فارتقبوا الأقوال و النيات لكي تحظوا برضاه و فضله.

[23] نقل في الجوامع عن بعض أن آية «و لا يأتل» نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشي ء من الإفك و لا يواسوهم وَ لا يَأْتَلِ من الألية- على وزن فعلية، بمعنى اليمين و الحلف أو من «الألو» بمعنى التقصير، أي لا يحلف أو لا يقصر أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي الزيادة في أموالهم عن قدر حاجتهم وَ السَّعَةِ أي التوسعة في أرزاقهم أَنْ يُؤْتُوا من فضلهم و سعتهم أُولِي الْقُرْبى أي أقربائهم فلا يحلفوا على عدم إعطاء أقربائهم من فضلهم وَ الْمَساكِينَ من غير أقربائهم وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن القرابة و المسكنة و المهاجرة توجب الترحم، و إعطاء الفضل- و إن كان أصحابها، قد أفاضوا في الإفك- وَ لْيَعْفُوا عنهم فيما اقترفوا من الذنب وَ لْيَصْفَحُوا كأنهم يعطون صفح وجههم إلى أولئك فإن من يريد أن يري الطرف أنه لم ير ما صدر منه أمال وجهه عنه و جعل صفح وجهه إليه أَ لا تُحِبُّونَ يا أصحاب الفضل و السعة أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ

______________________________

(1) العنكبوت: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 692

[سورة النور (24): الآيات 23 الى 24]

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)

فكما تحبون مغفرته، اغفروا لمن أساء فمن غفر الناس غفر الله له؟

أو المراد أن الله يغفر لكم إذا غفرتم لهم وَ اللَّهُ غَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ بعباده، فتخلقوا بأخلاقه، و تأدبوا بأدبه، و اغفروا لمن أساء يغفر الله لكم.

[24]

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ أي يقذفون و ينسبون الزنا إلى الْمُحْصَناتِ أي النساء العفائف الْغافِلاتِ عن الفواحش، فهن في غفلة عن الإثم، و إذا بهن يرين إلصاق التهمة البشعة بهن الْمُؤْمِناتِ بالله و رسوله و دينه و اليوم الآخر لُعِنُوا أي طردوا عن رحمة الله سبحانه فِي الدُّنْيا بأمره سبحانه بجلدهم على قذفهم وَ الْآخِرَةِ بالنكال و العذاب وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ و هو النار التي تنضج الأكباد و الكلى، و سائر ما أعد في جهنم من ألوان العذاب.

[25] يَوْمَ منصوب على الظرفية، أي أن ذلك العذاب يكون في يوم تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ بإنطاق الله لها، بدون أن يريدوا القول هم بأنفسهم، و إنما يشهد لحم اللسان وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بالمعاصي التي ارتكب كل واحدة منها، فتشهد اللسان- مثلا- بأنها كذبت و افترت، و تشهد اليد بأنها تناولت الحرام، و الرجل بأنها مشت إلى السرقة بِما كانُوا يَعْمَلُونَ كما قال سبحانه في آية أخرى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 693

[سورة النور (24): الآيات 25 الى 26]

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) «1» و في آية أخرى أنهم بعد أداء هذه الجوارح الشهادة يتوجهون إليها و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شي ء.

[26] يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم و هو يوم القيامة يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَ أي يعطيهم الله جزاءهم العادل، فإن الدين بمعنى الجزاء، أو المراد جزاء دينهم، فالمراد بالدين هو المعنى

المتعارف، وَ في ذلك اليوم يَعْلَمُونَ علما وجدانيا قطعيا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ و لا إله سواه، و أنه حق يعطي بالحق و يعاقب بالحق الْمُبِينُ أي الظاهر الذي لا غموض فيه.

[27] إن النفوس الخبيثة لا تألف إلا نفوس النساء الخبيثات، و النفوس الطيبة لا تألف إلا نفوس النساء الطيبات، فالزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، و الطاهر لا يباشر إلا طاهرة مؤمنة، و هكذا العكس، و لم يكن لمسلم أن يزني، و لا لمسلمة أن تزني، و لا يمكن للرسول الطاهر من كل دنس، أن يتزوج بامرأة فاحشة زانية، و الآية، و إن كانت عامة، إلا أنها بمناسبة حديث الإفك الْخَبِيثاتُ من النساء، و الخبيث هو ضد الطيب، و هو ما يكون في ذاته شي ء مكروه، أو عرض عليه ذلك عرض، فمثلا الدم خبيث، و الماء الملاقي له خبيث أيضا لِلْخَبِيثِينَ من الرجال وَ الْخَبِيثُونَ من الرجال لِلْخَبِيثاتِ من النساء

______________________________

(1) يس: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 694

[سورة النور (24): آية 27]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

وَ الطَّيِّباتُ من النساء لِلطَّيِّبِينَ من الرجال وَ الطَّيِّبُونَ من الرجال لِلطَّيِّباتِ من النساء أُولئِكَ الطيبات و الطيبون مُبَرَّؤُنَ منزهون مِمَّا يَقُولُونَ فيهم من الافتراء و القذف لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي غفران من الله سبحانه، و ستر لهم عن الفضيحة وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ فليس من رزقهم الخبيث، و إنما رزقهم مكرم لهم، و الرزق يطلق على كل عطية، و منحة منه سبحانه، و لو زوجا أو زوجة.

[28] لقد كان في الجاهلية، الرجل يدخل البيت، بلا استئذان، حتى إذا توسطه، قال «دخلت» و ذلك

كان خلاف العقل و الأدب، إذ لعل الرجل مع أهله، أو لعل المرأة عارية تغتسل، أو لعلهم يكرهون أن تقع العين على شي ء من أمورهم، و لذا نهى الله سبحانه عن ذلك، و أتى السياق- بمناسبة حكم الزوجين و القذف- إلى بيان حكم البيت الذي يريد الإنسان أن يدخله، فقال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ و أما بيت الإنسان نفسه، فلا مانع أن يدخل فيه فجأة، و إن كره في بعض الأحوال أيضا، كأن يطرق الإنسان أهله ليلا حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الاستيناس، طلب الأنس بالعلم أو غيره، يقال اذهب و استأنس، هل ترى أحدا؟ و المعنى حتى تستعلموا و تستأذنوا،

و قد روي إن رجلا قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: استأذن على أمي؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيري، أ فأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أ تحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاستأذن عليها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 695

[سورة النور (24): آية 28]

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)

وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أي على أهل البيوت، و هذا هو الترتيب الطبيعي، بأن يستأذن الإنسان، ثم يسلم ذلِكُمْ أي ذلك الدخول بالاستيذان، ثم التسليم و «كم» خطاب خَيْرٌ لَكُمْ أيها المؤمنون، أي ذلك حسن، فليس المعنى على التفضيل، أو أنه تفضيل بالنسبة إلى ما يرى الناس فيه خيرا من الدخول المجرد لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي نبين هذا الحكم لكي تتذكروا ما أودع في

فطرتكم، من كون ذلك الاستئذان من الأدب، و أنه خير بخلاف الدخول فجأة.

[29] فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أي في البيوت أَحَداً بأن لم تعلموا وجود أحد، كما لو استأذنتم، فلم يظهر أن أحدا في البيت فَلا تَدْخُلُوها لا تدخلوا تلك البيوت حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ بأن يأذن لكم أرباب الدار دخولها في أي وقت شئتم، و إن لم يكونوا فيها وَ إِنْ استأذنتم دارا ف قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا بهذا اللفظ، أو بلفظ يفيد معناه فَارْجِعُوا انصرفوا، و لا تلحوا في الدخول و هُوَ أي الانصراف، إذا ظهرت أمارات كراهية دخولكم الدار أَزْكى لَكُمْ أطهر و أحسن، و لعل الإتيان بلفظ «الزكاة» لما فيه من نمو النفس بالعفة، و نمو علاقات الحب بين الأفراد وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول قهرا، أو الانصراف عَلِيمٌ فيجازيكم حسب أعمالكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 696

[سورة النور (24): الآيات 29 الى 30]

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)

[30] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي لا حرج و لا ضرر عليكم أيها المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا بدون الاستئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أي لم تعد للسكنى كالخانات و الحمامات و الأرصية فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي استمتاع لكم في تلك البيوت، و هذا القيد عام يشمل حتى من يريد التفرج، لأنه يستمتع بذلك، أو المراد منه بيان أنه لا ينبغي للإنسان أن يدخل محلا لا متاع له فيه فإنه لغو وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي تظهرون من الأمور وَ ما تَكْتُمُونَ في أنفسكم و تخفونها،

فلا تفعلوا ما يخالف أوامره، و هذه الخاتمة لإيقاظ الضمير، حتى يكون الإنسان على نفسه رقيبا، أليس هو بعين الله الذي يعلم كل ظاهر و خاف.

[31] ثم انتقل السياق من حكم البيوت إلى حكم النظر، و هو مرتبط بقصة الحياة العائلية، كما كان الحكمان السابقان من حكم الإفك و القذف، و حكم الاستئذان لدخول البيوت مرتبطين بها نوع ارتباط قُلْ يا رسول الله لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أصل الغض النقصان، يقال: غض من صوته و من بصره، أي قلل منهما و نقص، و المعنى غمض العين عما لا يحل النظر إليه، و إنما جي ء بالغض، و «من» لأن الصرف عن الحرام لا يتوقف على الغمض، بل على الغض لبعض البصر بأن لا يمد عينه نحو المحرم وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن تعاطي اللواط و الزنا، و ما أشبه ذلِكَ الغض من البصر، و الحفظ للفرج أَزْكى لَهُمْ أي أطهر عن لوث المعصية، و قد تقدم أن في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 697

[سورة النور (24): آية 31]

وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

أمثال هذا المقام لا يراد التفضيل من نحو «أزكى» و معنى الزكاة الطهارة و

النمو، فإن حفظ العين و الفرج موجب لطهارة النفس، و نمو الأخلاق الرفيعة إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ أي عالم بِما يَصْنَعُونَ من النظر أو الغض، و تعاطي الحرام بالفرج و الحفظ.

[32] وَ قُلْ يا رسول الله لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ بأن لا يمدنها إلى ما لا يحل النظر وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ بأن لا يتعاطين الزنا، و ما أشبه، كالسحق و غيره وَ لا يُبْدِينَ أي لا يظهرن عن عمد زِينَتَهُنَ المراد، إما مواضع الزينة كالمعصم، و الأذن، و الرقبة، و الرجل، أو الزينة نفسها، و إذا صار اللفظ محتملا وجب الاجتناب عن الأمرين تحصيلا للبراءة عما علم إجمالا تحريمه إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي من الزينة، و الذي أراه ظاهرا من الآية، أنه استثناء عن الإبداء، يعني، أن ما ظهر بغير اختيارهن، ليس عليه بأس، كما إذا هبت الريح فرفعت العباءة و أبدت الزينة وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَ جمع خمار و هو ما تلف المرأة على رأسها خمارا، لأنه يستر الرأس و ما حولها، فإن مادة «خمر» بمعنى الستر، و منه سمي «الخمر» خمرا، لسترها العقل، عَلى جُيُوبِهِنَ الجيب، هو شق الثوب طرف الصدر، و ذلك لئلا يبدو الصدر من الشق، أو المراد به ستر الوجه و الصدر، فإن سدل طرف الخمار إلى الصدر، مستلزم لستر الوجه، و يؤيد ذلك

ما روي عن الإمام الباقر عليه السّلام: أنه استقبل شاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 698

من الأنصار امرأة بالمدينة، و كانت النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها و هي مقبلة، فلما جازت نظر إليها، و دخل في زقاق قد سماه لبني فلان، فجعل ينظر خلفها و اعترض عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه، فلما مضت

المرأة، نظر، فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و الله لآتين رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لأخبرنه، قال فأتاه، فلما رآه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال له ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرائيل بهذه الآية

وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ أي لا يظهرن الزينة «1»، و قد كرر ذلك تأكيدا، و في الاستثناء دلالة على ما ذكرناه سابقا، في معنى «إلا ما ظهر منها» إذ السياق الواحد إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ أي أزواجهن أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ أي أب الزوج أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ و يدخل في الآباء الأجداد، و في الأبناء الأحفاد أَوْ إِخْوانِهِنَ سواء كان أخا للأب أو للأم، أو للأبوين أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ فهن عمات لهم أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ فهن خالات لهم أَوْ نِسائِهِنَ أي النساء المؤمنات، أما أن يظهرن زينتهن لنساء اليهود و المجوس و النصارى و سائر الكفار، فقد أفتى جماعة بعدم حله،

قال الصادق عليه السّلام: لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين اليهودية و النصرانية، فإنهن يصفن لأزواجهن

«2» أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ من النساء الكافرات، فليس

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 521.

(2) الكافي: ج 5 ص 519.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 699

بأس عليهن أن يظهرن زينتهن إلى تلك الإماء، و إطلاق الآية بالنسبة إلى عبيد النساء مقيد بما

ورد عن الصادق عليه السّلام قال: لا يحل للمرأة أن ينظر عبدها إلى شي ء من جسدها، إلا إلى شعرها، غير متعمد ذلك

«1»، أقول: يعني إذا وقعت عينه عليه، و التخصيص بالشعر لأنه الذي يمكن أن يراه العبد غير متعمد، أما سائر الجسد ففي الغالب كونه مستورا أَوِ التَّابِعِينَ أي المولّى عليهم

من الحمقى و البله و من أشبههما و قيل لهم تابعين، لأنهم يتبعون غيرهم من الأولياء، ثم بين ذلك بقوله غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ أي غير أصحاب الحاجة في النساء، فإن «الإربة» بمعنى الحاجة مِنَ الرِّجالِ

قال الباقر عليه السّلام في تفسير الآية: هو الأحمق الذي لا يأتي النساء و قال الصادق عليه السّلام: الأحمق المولّى عليه الذي لا يأتي النساء، و إنما أبيح بالنسبة، إليه، لأنه لا يميز بين المرأة و غيرها، فهو كالحيوان

«2» أَوِ الطِّفْلِ و المراد به الجنس، و لذا جاء صفته بصيغة الجمع الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا أي لم يطلعوا من الظهور بمعنى الاطلاع عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لعدم تميزهم بين العورة و غيرها، أما الطفل الذي قد ظهر فالمفهوم من الآية الحظر منه، و لم يذكر في الآية الأعمام و الأخوال للإنسان، أو الأب أو الأم، قيل لدخولهم في «الإخوان» فإنهم إخوان الأب و الأم، و قيل لفهم ذلك- عكسيا- من بني إخوانهن، أو بني أخواتهن، فإذا حل نظر الولد على عمته و خالته، حل نظر العم

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 531.

(2) وسائل الشيعة: ج 20 ص 204.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 700

[سورة النور (24): آية 32]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 742

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)

و الخال إلى بنت الأخت و بنت الأخ وَ لا يَضْرِبْنَ النساء بِأَرْجُلِهِنَ على الأرض ضربا شديدا ليصوت الخلخال فيعلم أي يعلم الرجل الأجنبي ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ فإن ذلك يورث تهيجا في الرجال، و هل هذا حرام أو مكروه؟ احتمالان وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فيما تفرطون من مخالفة المحرمات، و بالأخص محرمات النظر، فإنه كثير الحدوث لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بسعادة الدارين ..

[33] و بمناسبة حكم النظر و حفظ الفرج يأتي السياق ليبين بعض الأمور المرتبطة بالنكاح وَ أَنْكِحُوا أيها المسلمون الْأَيامى مِنْكُمْ جمع «أيم» و هو الرجل الذي لا زوج له، و المرأة التي لا زوج لها، و المعنى زوجوا أيها المؤمنون رجالكم الذين لا زوجات لهم، و نسائكم اللاتي لا أزواج لهن.

و قد قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تناكحوا، تناسلوا، تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة و لو بالسقط «1»

و قال الإمام الصادق عليه السّلام: ركعتان يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب «2»

وَ انكحوا الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ أي الذين هم

______________________________

(1) جامع الأخبار: ص 101.

(2) الفقيه: ج 3 ص 384.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 701

[سورة النور (24): آية 33]

وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

صالحون من العبيد و الإماء، و هل المراد بالصالحين البالغون الذين يصلحون للنكاح، أو الصالحون من حيث الدين بأن يكونوا مسلمين، أو أن تكون أعمالهم صالحة؟ احتمالات إِنْ يَكُونُوا أولئك الأيامى و العبيد و الإماء، فُقَراءَ و تخشون زيادة فقرهم بالنكاح، فاعلموا أنه ليس كذلك بل يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و هذا كذلك حسب التجربة، و حسب الموازين الاجتماعية، فإن المتزوج الذي

يعلم أن وراءه النفقة يجدّ أكثر من العزب، كما أن الناس يعطفون عليه أكثر من عطفهم على غيره، هذا مع الغض عن أن يدين عاملتين تأتي بأكثر من ضعف إنتاج يد واحدة، و إن الله سبحانه يوسع بالطرق الغيبية وَ اللَّهُ واسِعٌ لطفه، و هو مجاز من باب نسبة الشي ء إلى سببه في اللطف و الرزق، و إنما نسب إلى الله تعالى، لأنه السبب عَلِيمٌ بأحوال الناس، فيعلم حال الفقير و يتفضل عليه.

[34] وَ لْيَسْتَعْفِفِ الاستعفاف هو التعفف بمنع النفس عن الشي ء المرغوب فيه، و لعل الإتيان بالفعل من باب الاستفعال للتنبيه على طلب العفة، و إن كانت النفس تائقة شائقة الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي ما يتوصل به إلى النكاح من المهر و النفقة و الزوجة المناسبة، حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بأن يوسع عليهم ما به يتمكنون من الزواج، و لا يدخلون في الفاحشة فإن الصبر و إن كان مرا لكن عاقبته حميدة، و هناك من العبيد من يتمكن من الزواج إن كان حرا لأنه يعمل و يكتسب ما يكفيه و عائلته،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 702

و لا يتمكن من الزواج و هو تحت رق المولى لأن مولاه فقير لا يملك إعالته و إعالة زوجته، و لذا يحاول أن بفك نفسه بالمكاتبة حتى يتحرر فيتزوج، و المكاتبة هي أن يكتب المولى و العبد كتابا على أن العبد إن دفع إلى مولاه المقدار الكذائي من المال صار حرا، و له أقسام و أحكام، و إذا طلب العبد ذلك ندب قبول طلبه و مكاتبته.

وَ العبيد الَّذِينَ يَبْتَغُونَ و يطلبون الْكِتابَ أي المكاتبة لتحريرهم مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «مما» بيان ل «الذين» أي من العبيد و

الإماء فَكاتِبُوهُمْ و جي ء من باب المفاعلة، لأن كل واحد من المولى و العبد يمضي ورقة الكتابة و الاشتراط إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي صلاحا و رشدا يقدرون بذلك على الوفاء بمال الكتابة وَ آتُوهُمْ أي اعطوا أولئك العبيد المكاتبون مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ بأن يخفف المولى شيئا من المال المقرر، فإن قرر ستة آلاف أخذ منه خمسة و عفى عن ألف، أو إن الخطاب عام بأن يعين الناس المكاتبين ليخلصوا من الرق، و قد قرر الله سبحانه إعطاء المكاتبين من الزكاة كما قال سبحانه: (وَ فِي الرِّقابِ) «1» وَ إذ كان الكلام حول العفاف و الطهر و النكاح و توابعه، جاء النهي الأكيد بالنسبة إلى الذين يكرهون فتياتهم على الزنى ليأخذوا أجره و لا تُكْرِهُوا أيها الرجال

______________________________

(1) البقرة: 178.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 703

[سورة النور (24): آية 34]

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

فَتَياتِكُمْ أي الفتيات المرتبطة بكم، و هي عامة لفظا تشمل كل فتاة مرتبطة بالإنسان سواء كانت أمة أم قريبة أم بعيدة، و من الجاهلية التي أعيدت في هذا العصر أجبر بعض الرجال الأسافل بعض نسائهم على البغاء لتحصيل منصب أو مال أو ما أشبه عَلَى الْبِغاءِ أي على الزنى، في المجمع قيل: أن عبد الله بن أبي كان له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنى، فلما نزل تحريم الزنى أتين رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فشكون إليه فنزلت هذه الآية، و روى القمي- كما في الصافي- عموم ذلك إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي تعففا و حصانة عن الزنى، و لا مفهوم للآية، بل المقصود أن

الفتاة مع نقص عقلها و كثرة شهوتها إذا لم ترد البغاء فالمولى أحق بعدم الإرادة و الامتناع، فكيف يكره الرجل الفتاة و هي تكره و لا تريد؟ لِتَبْتَغُوا أي تحصلوا بذلك عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي المال الذي هو عرض زائل وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَ لعل المعنى من كان يكرههن في زمان الجاهلية فلا ييأس من روح الله، فإنه إذا آمن و تاب فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَ على الزنى- مما قد سلف- غَفُورٌ يغفر سيئاته رَحِيمٌ يتفضل عليه، أو المراد إن كرهت امرأة و زنت عن إكراه فإن الله غفور لها، فقد رفع الإكراه في هذه الأمة، كما ورد في حديث الرفع و غيره.

[35] وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ أيها المؤمنون آياتٍ أي أدلة و براهين للأحكام مُبَيِّناتٍ قد أوضحت إيضاحا لا لبس فيها و لا غموض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 704

[سورة النور (24): آية 35]

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35)

وَ أنزلنا إليكم مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ حيث ظهر من ذلك المثل- و المراد به الجنس- أن الأمم السابقة لما تعدت و عصت أخذت بأنواع العذاب، لتعتبروا بذلك المثل وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ و إنما خص الموعظة بهم، لأنهم الذين ينتفعون بالعظة.

[36] و إذا ذكرت الآيات السابقة الأحكام الأخلاقية الاجتماعية المرتبطة بالطهارة و النزاهة للعين و الفرج و اللسان، و سمت بالإنسان من الآفاق المظلمة إلى

الآفاق المنيرة، ناسب ذلك التحدث عن عالم النور، عالم الإله الذي أنار كل شي ء بنور وجهه فقال تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و النور هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره، و هكذا الله سبحانه ظاهر في نفسه مظهر لغيره، بل أن النور الخارجي رشحة من نوره سبحانه الذي غمر الكون، و أظهر كل شي ء و أوجد كل موجود مَثَلُ نُورِهِ من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ليدركه الإنسان بقدر حسه كَمِشْكاةٍ لقد كان الناس في الماضي يخرجون كوة في الحائط ثم يجعلون على تلك الكوة لوحا من الزجاج ثم يجعلون المصباح- و هو محل الزيت و الفتيلة- في زجاجة- تسمى بالفانوس- ثم يجعلون تلك الزجاجة في الكوة، و إنما يجعلونها في الكوة ليشع من المصباح الضياء في الداخل و الخارج، و من المعلوم أن نور المصباح إذا أشرق على الزجاج، و كان منحصرا في كوة لا ينتشر كان ضياؤه قويا جدا، و بالأخص إذا كان الزيت نقيا جيدا، إن مثل هذا النور هو مثل نور الله سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 705

و اختلف في لفظ المشكاة هل أنها عربية أو غير عربية؟ فِيها أي في تلك المشكاة مِصْباحٌ و هو السراج الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ و هي «الفانوس» المصنوع من ألواح الزجاج الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ أي الكوكب المضي ء الذي يشبه الدر في ضيائه و صفائه يُوقَدُ ذلك المصباح مِنْ زيت شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أي كثيرة البركة و هي زَيْتُونَةٍ التاء للإفراد، نحو شجر و شجرة، و تمر و تمرة، و خص ذلك لأن دهن الزيت أصفى من سائر الأدهان فيكون نور المصباح الذي أوقد به أحسن و أكثر إضاءة لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ أي

أن منبتها في محل وسط فهي ضاحية للشمس تشرق عليها طول النهار، فليست في طرف الشرق حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت، و لا في طرف الغرب حتى لا تصيبها الشمس إذا شرقت، فإن الغالب أن الشي ء إذا كان في طرف كان هناك مانع عن إشراق الشمس عليه إذا كانت في طرف مقابل له يَكادُ زَيْتُها أي زيت هذه الشجرة يُضِي ءُ و ينير وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ أي أن الحاصل من مثل هذا المصباح نور مضاعف، بسبب تلك الأمور المذكورة يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي نور هذا المصباح مَنْ يَشاءُ من السائرين فإنهم إذا رأوا المصباح بهذه الكيفية المضيئة يهتدون إلى الطريق، و لا يبقون حائرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 706

[سورة النور (24): آية 36]

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (36)

في الصحراء، لا يعرفون طريقا، و لا يهتدون سبيلا، و من المحتمل أن يكون ضميره «لنوره» عائدا إلى الله، بأن يكون التمثيل إلى قوله «على نور» أي إن الله يهدي إلى نوره الذي ضرب له المثل من يشاء ممن اتبع الحق و لم يعاند وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ كما ضرب هذا المثل، لبيان نور ذاته، تشبيها للمعقول بالمحسوس تقريبا إلى الأذهان، و إلا فلا مثل ينطبق تمام الانطباق عليه سبحانه، و لذا قال (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) «1» وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم الأمثال المناسبة، التي توجب علما و فقها للناس، تقربهم إلى الحق و تبعدهم عن الباطل، و قد ورد روايات لتطبيق الآية على أهل البيت عليهم السّلام و هي من قبيل التأويل أو ذكر المصاديق و

التطبيقات «2».

[37] إن ذلك المصباح المتصف بتلك الصفات إنما هو فِي بُيُوتٍ عامرة بالتقوى ليضاف النور المعنوي إلى النور الظاهري، فإن مثل نور الله نور المصباح الموضوع في المسجد، كيف أن الإنسان يبهره ذلك النور المتلألئ الساطع من أقدس الأماكن و أطهرها، كذلك نور الله سبحانه أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ رفعا ظاهريا ببناء جدرانها رفيعة شامخة، و رفعا معنويا بأن تحترم و تقدر و تطهر من الأرجاس، و قد ورد في بعض الأحاديث أن بيوت الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام من تلك البيوت «3» وَ يُذْكَرَ فِيهَا أي في تلك البيوت اسْمُهُ الله تعالى في مقابل بيوت الكفار

______________________________

(1) النحل: 75.

(2) بحار الأنوار: ج 4 ص 18.

(3) راجع بحار الأنوار: ج 23 ص 327.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 707

[سورة النور (24): آية 37]

رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (37)

التي لم يأذن الله أن ترفع إذ من المكروه بناء دار الكافر أعلى من دار المسلم- كما قالوا- و بيوت النيران و المراحيض التي كره ذكر الله فيها بالصلاة و نحوها، و حيث إن الأرض لله، و الذكر مرتبط به سبحانه، كان ترفيع البيت و ذكر اسمه تعالى بحاجة إلى الإذن، و تلك البيوت تتصف بأنها يُسَبِّحُ لَهُ أي لله فِيهَا أي في تلك البيوت بِالْغُدُوِّ أي الصباح وَ الْآصالِ جمع أصيل، و هو طرف العصر، و إتيان «الغدو» مفردا جنسا، و الآصال جمعا من التفننات البلاغية.

[38] رِجالٌ هم المؤمنون لا تُلْهِيهِمْ أي لا تشغلهم، من التلهي، بمعنى: الاشتغال، و منه يسمى اللهو لهوا تِجارَةٌ هو مطلق الاكتساب و لو

بالرهن و المزارعة و نحوهما وَ لا بَيْعٌ و كان تخصيصه لشيوعه بين أنواع التجارات عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سبحانه وَ إِقامِ الصَّلاةِ أي عن إقامة الصلاة، أصله «إقامة» و الهاء عوض عن «الواو» في «أقوام» لأنه مصدر باب الأفعال، فلما أضيف إلى الصلاة قام المضاف إليه مقام العوض، و لذا حذف و إن جاز «إقامة الصلاة» أيضا وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ إعطائها أي إن أولئك الرجال بهذه الأوصاف حتى إن ذكر الله و العمل بمرضاته لديهم أهم من الاشتغال بمال الدنيا و أعراضها الزائلة، خلافا لكثير من الناس الذين يشتغلون بالدنيا عن الآخرة يَخافُونَ يَوْماً هو يوم القيامة تَتَقَلَّبُ فِيهِ أي في ذلك الْقُلُوبُ أي يتوجه القلب تارة إلى هنا و أخرى إلى هناك وَ الْأَبْصارُ فتنظر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 708

[سورة النور (24): الآيات 38 الى 39]

لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)

العين هنا و هناك، و هكذا عادة الخائف الوجل يفكر في مخلص و نجاة و يتوجه إلى هنا و هناك كي يرى ملاذا و شفيعا و مستندا.

[39] و إنما يفعل أولئك الرجال تلك الأفعال لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا و هي الطاعات، إنهم يترقبون جزاء طاعاتهم، و الطاعة هي أحسن ما عمله الإنسان من الطاعات و المباحات و المكروهات، أو المراد يجزيهم بأحسن مما عملوا، فقد عملوا- مثلا- ما يستحقون به دينارا، فيترقبون إعطاءهم عشرة حسب وعده بقوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «1» وَ

يَزِيدَهُمْ على ذلك الجزاء مِنْ فَضْلِهِ و زيادته كما قال (وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) «2» وَ اللَّهُ يَرْزُقُ أي يمنح و يعطي مَنْ يَشاءُ من أحسن بِغَيْرِ حِسابٍ كثيرا زائدا، لا يدخل تحت حساب الإنسان، أو المراد يتفضل على الإنسان، فلا يكون فضله مجازاة على عمل و إنما مجانا و تفضلا.

[40] و بمناسبة ذكر أحوال الرجال الصالحين و ما يجزون من الثواب في الآخرة يأتي ذكر الكفار و ما يلاقون من العذاب على كفرهم وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله و اليوم الآخر أَعْمالُهُمْ التي يعملونها و يعتقدون أنها حسنات كَسَرابٍ هو الحادث في الصحاري وقت الظهر من انعكاس أشعة الشمس على الهواء حتى يظن الإنسان- من بعد- أنه ماء بِقِيعَةٍ

______________________________

(1) الأنعام: 161.

(2) البقرة: 262.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 709

[سورة النور (24): آية 40]

أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

الباء حرف جر، وقيعة جمع قاع و هو الواسع من الأرض المنبسطة، و لعل الإتيان بالجمع، لتعدد الصعد التي يعمل الإنسان الكافر أعماله فيها، في صعيد العبادة للأصنام و في صعيد الإنفاق، و في صعيد الإحسان إلى الأرحام، و هكذا يَحْسَبُهُ أي يحسب ذلك السراب الظَّمْآنُ الذي عطش كثيرا ماءً و تخصيص الظمآن بالذكر، مع أن السراب يتراءى لكل أحد، من جهة أن الظمآن هو الذي يرجوه، فإذا جاءه لم يجده، و يخيب رجاءه في أحرج حالاته حَتَّى إِذا جاءَهُ أي ذهب إلى ذلك السراب ليشرب منه- بظن أنه ماء- فيطفئ عطشه لَمْ يَجِدْهُ أي لم

يجد ما زعمه ماء شَيْئاً إذ هو خيال الماء، لا الماء ذاته، و هكذا الكافر يحسب أن له أعمالا خيرة في الآخرة ينتفع بها في أحرج ساعاته، فإذا ذهب إلى الآخرة لم يجد أثرا من أعماله وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي عند عمله المزعوم أنه باق له، و المعنى أنه حيث كان يرجو الخير، يرى الحساب و النكال فَوَفَّاهُ أي أعطاه الله وافيا حِسابَهُ الموجب لجزائه على أعماله السيئة في الدنيا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فلا تعطيل هناك في حساب الخلائق على كثرتهم، و إنما يحاسب سبحانه الجميع في مقدار نصف ساعة- كما ورد- أو المراد سرعة زوال الدنيا و وصول الناس إلى جزاء أعمالهم.

[41] لقد كان المثال الأول للكافر بالنسبة إلى الشخص حال ظمأه يريد الارتواء، و يأتي السياق بمثال ثان لحال الكافر بالنسبة إلى وقت ضلاله يريد الاهتداء و النور فلا يجد، كالإنسان الذي ركب السفينة، فجاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 710

سحاب و أظلم الآفاق، و ارتفعت الأمواج التي تغمر السفينة، فلا يهتدي سبيلا لينقذه من هذه الهلكة أَوْ كَظُلُماتٍ أي أن أعمالهم كظلمات، بينما أعمال المؤمنين كأنوار تهديهم الطريق، كما قال سبحانه (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ) «1» فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ فالوقت ليل مظلم، و المكان بحر عظيم اللجة لا يرى ساحله، من «لجة» البحر و هي معظمه يَغْشاهُ أي يعلو ذلك البحر اللجي مَوْجٌ و ذلك حين تهب العواصف فتحمل الماء على متنها كالجبال و هو خليط من ماء و هواء مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي فوق ذلك الموج الأول موج آخر، إذ العاصفة إذا هبت كونت موجا و يمشي هذا الموج بسرعة سير العاصفة، فإذا جاءت عاصفة ثانية كونت

موجا ثانيا، و ربما يركب الموج الثاني على الموج الأول إذا كانت العاصفة الثانية أشد و حملت موجا كبيرا، أكبر من الموج الأول.

مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ حتى لا يرى بصيص من ضياء القمر و النجوم، حتى يكون الإنسان في وسط ذلك تغشاه ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ظلمة البحر المنعكسة في الهواء، و ظلمة الموج الأول، و ظلمة الموج الثاني، و ظلمة السحاب و ظلمة الليل، حتى أن الإنسان في تلك الظلمة إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ من تحت ثيابه لَمْ يَكَدْ يَراها أي

______________________________

(1) الحديد: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 711

[سورة النور (24): آية 41]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41)

لا يقرب رؤيتها لشدة الظلمات، إن لهذا الإنسان كيف حاله في عدم اهتداء الطريق للخلاص و النجاة، كذلك حال الكافر الذي وقع في وسط أعماله المظلمة المتراكمة عليه، فإنه لا يهتدي إلى طريق الهدى، و يكون مصيره الهلاك وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً يهتدي به إلى السعادة، و إنما لم يجعل له نورا لأنه أعرض عن الهدى، فحرم الضياء فَما لَهُ مِنْ نُورٍ لأن الله هو نور السماوات و الأرض، فإذا حرم إنسانا من نوره، لم يكن هناك نور آخر يستنير به الكافر.

[42] و من عجيب أمر الكفار أنهم يغمضون عيونهم في هذا الجو الذي حواهم يأسا بآيات الله سبحانه أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، أو: أيها الرائي، و المراد بالرؤية العلم، أي ألم يصل علمك إلى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ تسبيحا تكوينيا مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و إنا لنرى من في الأرض

ينزه خلقهم الله سبحانه عن التعطيل و العجز و الجهل و سائر الصفات السيئة.

و لا بد أن يكون من في السماوات كذلك بالفطرة و الوجدان، فهو مثل أن يقال: ألم تعلم أن النار في «الصين» تحرق، فإن الإنسان يعلم ذلك بالقياس الفطري، أو المراد وصول العلم إليهم بواسطة الأنبياء عليهم السّلام الذين بينوا أن الملائكة يسبحون الله سبحانه، و لعل المراد ب «من» الأعم من العقلاء، و إنما جي ء ب «من» تغليبا للعقلاء على من سواهم وَ يسبح الطَّيْرُ في حال كونها صَافَّاتٍ أي واقفات في الجو مصطفات الأجنحة في الهواء، و تسبيحها تنزيهها و دلالتها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 712

[سورة النور (24): الآيات 42 الى 43]

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43)

على وجود خالق قادر عليم حكيم، و كان تخصيص الطير بالذكر إلفاتا إلى هذا المشهد المكرر المدهش إذا فكر الإنسان فيه، فكيف أن الطير الثقيل لا يقع على الأرض، و هو واقف في الجو، بدون رفيف و حركة، و حيث أن المراد بالطير الجنس جي ء بضميرها مؤنثا كُلٌ من في السماوات و الأرض و الطير قَدْ عَلِمَ الله سبحانه صَلاتَهُ أي خضوعه لله وَ تَسْبِيحَهُ تنزيهه له، تكوينيا، أو بألسنتها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ من الأعمال، فعلمه تعالى واسع شامل لكل شي ء.

[43] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك المطلق، كما أنه العالم المطلق

وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي إلى حسابه و جزائه مآل الكل و مرجع الجميع فهو المبدئ المعيد العالم المالك! و بعد هذا كيف يكفر الإنسان بهذا الإله العظيم؟ إنه لمدهش حقا.

[44] أَ لَمْ تَرَ أي رؤية بالبصر، أو بالعلم، و المخاطب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو كل من يأتي منه الرؤية أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً الإزجاء الدفع و السوق، أي يسوق من هنا و هناك ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ بين أجزاء ذلك السحاب المتفرق الآتي من هنا و هناك ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما بعضه على بعض، حتى يتكون منه سحاب كثيف ذو ارتفاع و كثافة فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ و ثناياه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 713

[سورة النور (24): الآيات 44 الى 45]

يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45)

وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها أي جبال السحاب التي في السماء، و الإنسان إذا ركب الطائرة يرى السحاب مثل الجبال في جميع مزاياها، حتى لو لم يعلم الإنسان لظنها جبالا حقيقية، كما شاهدنا ذلك حينما رجعنا من مكة المكرمة إلى دمشق مِنْ بَرَدٍ أي الثلج بأنواعه المختلفة و «من» بيانية للمنزل المفهوم من الكلام، أي ينزل منزلا من جنس البرد فَيُصِيبُ بِهِ أي بذلك الودق أو البرد مَنْ يَشاءُ من عباده وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فلا ينزل المطر عليهم و لا يأتي إليهم البرد يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي

يقرب برق السحاب من أن يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ فيعمي العين و يخطفها لشدة لمعانه، فمن يا ترى جعل كل ذلك مما لا يقدر على جزء صغير منه البشر بكل قواه و وسائله؟.

[45] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أي يأتي بهذا و بذاك، كالإنسان الذي يقلب الدرهم في كفه فتارة يظهر وجهه و أخرى يظهر ظهره إِنَّ فِي ذلِكَ التقليب لَعِبْرَةً أي اعتبار و دلالة على وجود الله سبحانه و سائر صفاته لِأُولِي الْأَبْصارِ أي أصحاب بصر القلب، أما من لا يعتبر فهو أعمى لا بصر له.

[46] وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ أي كل حيوان يدب على وجه الأرض، و المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 714

[سورة النور (24): آية 46]

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

الأعم لأن ما لا تدب أيضا كذلك، و قد جرت العادة بإتيان جملة دلالة على الكل مِنْ ماءٍ الظاهر أن المراد الماء مطلقا لا خصوص المني- ليشمل مثل الحيوانات التي تتولد من مجرد الماء، كالعقرب التي تتولد من الأرض الندية- إذ صح أن الولادة من مجرد الماء، بدون أن تكون هناك بذور- فَمِنْهُمْ أي من الدواب مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالدود و الحية وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان و الطيور وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالأنعام و الوحوش، و كان هذا من باب المثال، و إلا فمنهما من لا تمشي أو تمشي على أكثر من أربع، و لعل الإتيان بما للعاقل من ضمير «منهم» و لفظة «من» تغليبا للإنسان على غيره، مع اقتضاء وحدة السياق لسوق الجميع بهيئة واحدة يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ من أنواع الحيوانات إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

و هل هناك على عموم قدرته سبحانه من هذه المخلوقات المختلفة، التي يعجز جميع البشر من خلق واحدة منها؟.

[47] لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ أي أدلة دالة على وجودنا مُبَيِّناتٍ واضحات ظاهرات وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ممن قبل الهداية ابتداء إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فإنّ الإرشاد إذا جاء، فقبل بعض الأفراد، أوصلهم الله سبحانه الطريق المستقيم أما من لم يقبل الإرشاد فيتركه سبحانه في ضلاله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 715

[سورة النور (24): الآيات 47 الى 48]

وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)

[48] و حيث تقدم ذكر المؤمنين و ذكر الكافرين يأتي السياق لبيان ما ينبغي أن يتصف به المؤمنون من الإذعان لكل أوامر الله و الرسول وَ يَقُولُونَ أي بعض الناس آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ و اعتقدنا بهما وَ أَطَعْنا في أعمالنا لهما ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يعرض بعض هؤلاء المدعين للإيمان، عن الأوامر مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الإظهار للإيمان و الإطاعة وَ ما أُولئِكَ الذين يتولون و يعرضون عن الطاعة بِالْمُؤْمِنِينَ إذ كيف يكون مؤمنا صحيح الإيمان من يعرض عن أحكام الإله؟ و قد ورد (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) «1».

[49] وَ إِذا دُعُوا أي دعاهم طرف النزاع معهم في قضايا المرافعات إِلَى اللَّهِ لينظروا ماذا في كتابه من الأحكام ليجعلوه حكما بينهم وَ رَسُولِهِ ليفصل القضية حسب الشريعة لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الرسول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي من هؤلاء القائلين بأنهم مؤمنون مُعْرِضُونَ

عن الخضوع للكتاب و للرسول، و كأن الإتيان بلفظة «إذا» لإفادة المفاجآت، كأن هذا كان مفاجأة أن يعرض عن الله و الرسول من يدعي الإيمان و الإطاعة.

______________________________

(1) النساء: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 716

[سورة النور (24): الآيات 49 الى 50]

وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)

[50] وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ أي علموا بأن الرسول يعطي الحق لهم يَأْتُوا إِلَيْهِ إلى الرسول مُذْعِنِينَ منقادين لقضائه و حكمه، إما حيث علموا أن الحق ليس لهم أعرضوا عن إتيان الرسول، يريدون أن يذهبوا إلى من يعطي لهم الحق- و إن كان باطلا في نظر الواقع-.

[51] أَ فِي قُلُوبِهِمْ استفهام توبيخي، أي هل في قلوب هؤلاء المعرضين عن حكمك يا رسول اللّه مَرَضٌ أي نفاق و ريب في نبوتك أَمِ ارْتابُوا بعد أن آمنوا، بأن شكوا في عدلك و قولك بالحق أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ أي يجور الله عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ في الحكم، بأن لم يشكوا في نبوتك و لم ينافقوا، و إنما يخافون من جور الحكم، كما هو شأن ضعاف الإيمان بَلْ لم يخافوا جور الحكم، و إنما أُولئِكَ المعرضون هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم حيث تولوا عن حكم الله و الرسول،

و قد ورد أن هذه الآيات نزلت في منازعة وقعت بين الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و عثمان بن عفان، و ذلك أنه كان بينهما منازعة في حديقة فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: نرضى برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عبد الرحمن بن عوف لعثمان: لا تحاكم إلى رسول الله صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم فإنه يحكم له عليك و لكن حاكمه إلى ابن شيبة اليهودي فقال عثمان لأمير المؤمنين عليه السّلام: لا نرضى إلا بابن شيبة اليهودي فقال عثمان لأمير المؤمنين عليه السّلام: لا نرضى إلا بابن شيبة اليهودي فقال ابن شيبة لعثمان: تأتمنون رسول اللّه على وحي السماء و تتهمونه في الأحكام؟ فأنزل الله عز و جل على رسوله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 717

[سورة النور (24): الآيات 51 الى 53]

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53)

«و إذا دعوا» الآيات «1».

[52] إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ الصحيحي العقيدة و الإيمان إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي إلى كتاب الله، و رسوله- فيما كان في الحياة- أو سيرته بعد وفاته لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي يقضي بينهم في الخصومات أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا قول الله و الرسول وَ أَطَعْنا أوامرهما وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدنيا و سعادة الآخرة.

[53] وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأوامر و النواهي وَ يَخْشَ اللَّهَ أي يخاف من عقابه إذا خالف وَ يَتَّقْهِ أي يتقي الله، و الفرق بينهما أن الخشية أمر قلبي، و الاتقاء عمل خارجي، و الخشية تنجر إلى التقوى فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ الظافرون بسعادة النشأتين.

[54] و بمناسبة الحديث عن المخالفين لأوامر الرسول يأتي الحديث عن بيان كذبهم في القول حتى فيما يحلفون على طبعه وَ

أَقْسَمُوا بِاللَّهِ أي حلفوا به جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي أغلظ أيمانهم، الذي كان على قدر جهدهم و منتهى طاقتهم، و «جهد» منصوب على المصدر أي يجهدون جهدا في إيمانهم لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالخروج للقتال لَيَخْرُجُنَ و لكن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 227.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 718

[سورة النور (24): آية 54]

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)

هل ذلك صحيح؟ كلا! إنهم لم يرضوا بالمحاكمة فكيف يرضون بإزهاق أنفسهم في القتال؟

قُلْ يا رسول الله لهم لا تُقْسِمُوا على إطاعتكم طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إما أن يكون هذا تهكما، أي أن طاعتكم معروفة، كما تقول للذي يحلف كاذبا إنه عمل كذا من الخير: لا تحلف، أعمالك الخيرية معروفة، أو المراد لا تأت بالحلف، و إنما أطع، فإطاعتكم طاعة معروفة حسنة خير من حلفكم و قولكم، كما تقول لمن يحلف أنه ينصرك: لا تحلف، انصر، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فهو يعلم أنكم لا تطيعون و إنما تحلفون حلفا مجردة عن العمل.

[55] قُلْ يا رسول الله لهم أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم و نهاكم في القرآن الحكيم وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما يأمركم و ينهاكم، و هذا شامل لسنته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن الطاعة، أصله «تتولوا» و هو خطاب لهم، حذفت إحدى تاءيه على ما هو القاعدة في ما إذا اجتمع تاءان في فعل المضارع فَإِنَّما عَلَيْهِ أي على الرسول ما حُمِّلَ و كلف من البلاغ و أداء الرسالة وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الطاعة و الاتباع، أي أن الرسول صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم غير مسئول عن إعراضكم فقد أدى ما عليه من الهداية و الإرشاد، و إنما الوزر عليكم حيث خالفتم وَ إِنْ تُطِيعُوهُ أيها المسلمون تَهْتَدُوا إلى الرشد و الصلاح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 719

[سورة النور (24): آية 55]

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)

وَ ما عَلَى الرَّسُولِ أي ليس الواجب عليه إِلَّا الْبَلاغُ أي تبليغكم الأحكام الْمُبِينُ أي بلاغا واضحا ظاهرا لا لبس فيه و لا غموض.

[56] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أيها المسلمون وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن صحّت عقيدتهم و عملهم و لعل الإتيان بلفظ «منكم» للتشريف بأن الوعد لهم، و إلا فالوعد عام يشمل كل مؤمن عامل بالصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي يجعلهم خلفاء لمن سبقهم، فيكونون سادة و ملوكا عقب الكفار الذين ملكوا الأرض و سادوا البلاد كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما جعل الله المؤمنين من الأمم السابقة خلفاء الكفار في سيادة البلاد، كما استخلف بني إسرائيل مكان الملوك الكافرة، و كما استخلف النصارى مكان اليهود، فصاروا سادة، و كذلك المسلمون إذا آمنوا إيمانا صحيحا و عملوا الصالحات يستخلفهم الله سبحانه في مكان الكفار ليكونوا هم ملوك الأرض و سادتها عوض الكفار، و قد أنجز الله هذا الوعد- كما يدل على ذلك التاريخ الإسلامي- بل لقد رأينا أن من بركة أولئك المؤمنين العاملين للصالحات، وصل ملك الأرض إلى من كان في زي الإسلام، و إن كان الإسلام منه بمعزل.

وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ أي يمكنهم من إقامة دينهم الذي هو الإسلام، أو المراد يمكن دينهم بأن يجعل له مكنة و قوة ليظهر على جميع الأديان، و يغلب عليها، فتذهب الأديان و تضمحل و يأخذ هذا الدين مكانها، و ارتضى لهم أي اختاره

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 720

[سورة النور (24): آية 56]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)

لهم دينا وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً فقد كانوا يخافون الكفار من إظهار دينهم و إعلام شعائره، لكن الله سبحانه- إذا آمنوا صدقا، و عملوا الصالحات- يجعلهم سادة حتى لا يخافون أحدا، فيتبدل خوفهم بالأمن، و هؤلاء يَعْبُدُونَنِي عبادة صادقة لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً فالخضوع له سبحانه، لا للمال و المنصب و الشهوات و ما أشبهها، إن من يمكنه الله في الأرض هو المتصف بهذا الوصف وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ الذي مكنه الله سبحانه في الأرض، بل خرج عن طاعة الله سبحانه بعد أن هيأ له الجو و مهد له البلاد فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن الحدود، فإن الفسق بمعنى الخروج، لأنهم خرجوا عن الشرط، و كأنه تهديد بالزوال، إذ من خرج عن الشرط هدد ملكه بالزوال، و قد رأينا ذلك في تاريخ الإسلام حين كفر الملوك بنعمة الله، و خرجوا عن أمره و شرطه، حيث انساقوا وراء الشهوات، و إذا بهم يخرجون عن الأرض، و تطوى سيادتهم و ملكهم، و قد وردت أحاديث كثيرة في أن الآية إنما هي في شأن الإمام المهدي الموعود عجل الله تعالى فرجه، و في شأن شيعة أهل البيت، و من المعلوم أن ذلك من أظهر مصاديق هذه الكلية

المذكورة في الآية.

[57] و إذ كان الشرط العمل الصالح يذكر السياق بعض أقسامه المهمة بقوله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بحدودها و آدابها وَ آتُوا أي أعطوا الزَّكاةَ إما المراد الزكاة المفروضة أو مطلق الصدقة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 721

[سورة النور (24): الآيات 57 الى 58]

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في كل ما يأمركم به لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي يرحمكم الله سبحانه و يتفضل عليكم جزاء أعمالكم.

[58] و إذ تقدم وعد الله لعباده الصالحين باستخلافهم الأرض ذكر أنه ليس الكفار أعجزوه سبحانه فلم يتمكن منهم، و إنما ذلك امتحان لأيام قلائل حتى يصيروا إلى النار لا تَحْسَبَنَ أي لا تظنن يا رسول الله، أو من يأتي منه الظن الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي قد أعجزونا عن أخذهم و إزالتهم و الانتقام منهم وَ مَأْواهُمُ النَّارُ أي مستقرهم و مصيرهم من «أوى» بمعنى اتخذ المأوى وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المأوى النار المعدة للكفار.

[59] و من أدب العائلة أن يكون للزوجين أوقات خلوة، لا يدخل عليهم من الخدم و الأطفال أحد إلا بعد الاستئذان، فقد تقدم لزوم الاستئذان لمن في خارج البيت إذا أراد الدخول، و هنا يبين السياق لزوم الاستئذان لمن في داخل البيت إذا أراد الدخول

في غرفة العائلة، و ذلك في ثلاثة أوقات، هي قبل وقت صلاة الفجر، و قبل وقت صلاة الظهر أو بعده، و بعد وقت صلاة العشاء حيث أن في هذه الأوقات يستريح الإنسان، و كثيرا ما تبدو العورات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ أي يلزم أن يطلبوا الإذن منكم إذا أرادوا الدخول في غرفتكم الخاصة و محل استراحتكم الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و هم العبيد و الإماء، و نسبة الملك إلى اليمين لأن اليد- و بالأخص اليمين- هي العضو الكثير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 722

العمل الذي يكتسب حتى ينفق الإنسان الثمن في شراء العبد وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ من الأطفال المميزين، أما سائر الناس كالأولاد الكبار و الأقرباء الذين يجمعهم دار واحدة، فقد سكتت عنهم الآية لوضوح أنهم مردوعون ذاتا عن اقتراف الدخول بلا استئذان، كما سيفهم من الآية الآتية. ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي في كل يوم مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ حيث الإنسان في فراش النوم، أو يبدل ثوبه للخروج وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ بعد الرجوع إلى الدار مِنْ بعد الظَّهِيرَةِ و المراد إما وقت القيلولة قبيل الظهر و إما وقت المنام بعد الظهر وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ حيث يخلع الإنسان ثيابه للمنام، هذه ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ و إنما سمي الأوقات بالعورة، لانكشاف العورة في هذه الأوقات غالبا، من باب الإسناد إلى السبب، فالأوقات مبدية للعورة، لا أنها عورة، أو من باب الإسناد إلى الظرف، فالأوقات ظرف لظهور العورة، و لا يخفى أن الملاك موجود في غير هذه الأوقات الثلاث فيما جرت العادة بالخلوة فيها لَيْسَ عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ أي الخدم و الغلمان بَعْدَهُنَ أي فيما بعد هذه الأوقات الثلاثة

و المراد ببعدهن، سائر الأوقات، لا خصوص بعد المقابل لقبل، نحو «من بعد الله» طَوَّافُونَ الطائف هو الذي يختلف إلى مكان، و منه سمي الطواف و السعي، في الحج، طوافا عَلَيْكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 723

[سورة النور (24): آية 59]

وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)

أولئك الخدم و الغلمان، و يظهر من الآية، أن الجناح في الأوقات الثلاثة ليس خاصا بالطائف، بل جناح على الزوجين أيضا، كما أن الظاهر من الآية عموم الحكم حتى بالنسبة إلى غير الزوجين ممن يخلو بنفسه في غرفته، لإطلاق الآية، و وجود العلة بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي طواف بعضكم و هم الخدم و الغلمان على بعض و هم الزوجان و من إليهما، و لعل الإتيان بهذه الجملة للإشارة إلى أنه لا ينبغي التحشم في غير الأوقات الثلاثة، ألستم جميعا بعض من كل؟ و هذا لبيان الأدب المتوسط بين الإفراط لمن يأذن حتى في هذه الأوقات- كما نرى عند بعض الجاهلين في هذا الزمان- و بين التفريط لمن لا يأذن حتى في غير هذه الأوقات ترفعا و أنفة، أو المراد طوافكم عليهم لطلب الحاجة و التربية، و طوافهم عليكم للخدمة، و كما بين الله لكم هذا الحكم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الأحكام و الآداب وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما هو صلاحكم حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهى عنه.

[60] وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أيها المؤمنون و التخصيص ب «منكم» لأن العبيد إذا بلغوا بقي حالهم كالسابق الْحُلُمَ أي وقت الاحتلام، و هو البلوغ فَلْيَسْتَأْذِنُوا أي يجب عليهم الاستئذان إذا أرادوا الدخول، في أي

وقت كان، فإن الإنسان يتأدب أما الحر الكبير ربما لا يتأدب أمام الطفل و العبد كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ ذكروا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأطفال و الخدم، في الأوقات الثلاث أو كما استأذن الذين بلغوا قبلهم من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 724

[سورة النور (24): آية 60]

وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

الأحرار، و كما بين الله سبحانه هذا الحكم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على الأخلاق و الأحكام وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمصالح حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهى، فاللازم أن يتبع الإنسان أحكامه لأنها صادرة عن علم و حكمة.

[61] و إذ قد تقدم حرمة إبداء النساء زينتهن و لزوم الحجاب، جاء السياق ليستثني عن ذلك النساء اللاتي تقدمن في السن، حتى خلت أجسامهن عن الإثارة، و عفت نفوسهن عن الشهوة، فلا يثرن شهوة، و لا يشتهين أمرا وَ الْقَواعِدُ جمع قاعدة، و هي التي قعدت عن الحيض و قابلية الزواج مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي جمع التي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يطمعن في النكاح و «يرجون» مشترك بين الجمع المذكر و المؤنث، كما لا يخفى. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ أي يتركن ثِيابَهُنَ المرتبطة بالنساء كالجلباب الذي تلبسه المرأة فوق الخمار و الحجاب و ما أشبه ذلك، فقد جاز لهن أن يخرجن بملابسهن العادية، بدون ستر البدن بجلباب كبير و بدون ستر الوجه و اليدين و القدمين، في حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ التبرج الظهور، أي غير ظاهرات مع زينة مثيرة، كالحلي، و الثياب الجميلة، و الزخارف الملونة، فاللازم أن يكون قصدهن التخفيف لإظهار الزينة وَ

مع ذلك أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 725

[سورة النور (24): آية 61]

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

بلبس الجلباب و عدم وضع ثيابهن خَيْرٌ لَهُنَ من وضعها، بأن يلبس الجلباب كسائر النساء فإن ذلك ثوب حشمة و وقار وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم التي تقولونها حول النساء القواعد، و التي تقولها النساء عن نفسهن عَلِيمٌ بما في قلوبكم، و قلوبهن، فإذا زاغت كلمة أو التوى قصد علمه الله سبحانه، و حاسبكم عليه.

[62] ثم يأتي السياق ليبين أحكام الأكل و المواكلة، مما يرتبط بالعائلة، و الأصدقاء، بعد ما بين حكم البيوت و الخلوة و الاستئذان في خارجها و داخلها

قال الإمام الباقر عليه السّلام: أن أهل المدينة- قبل أن يسلموا- كانوا يعتزلون الأعمى و الأعرج و المريض و كانوا لا يأكلون معهم و كان الأنصار فيهم تيه و تكرم، فقالوا: إن الأعمى لا يبصر الطعام و الأعرج لا يستطيع الزحام على الطعام و المريض لا يأكل كما يأكل الصحيح فعزلوا طعامهم على ناحية و كانوا يرون عليهم في مؤاكلتهم جناح، و كان الأعمى و الأعرج و المريض يقولون: لعلنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم فاعتزلوا من مواكلتهم، فلما قدم النبي صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم سئل عن ذلك: فأنزل الله عز و جل

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ «1» أي ليس عليه ضيق يوجب اعتزالهم وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ في أكله مع الناس وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ و من المعلوم أن الآية لم تسق للإطلاق من جهة أقسام الأمراض المعدية و إنما سيقت لبيان أمر آخر، فلا إطلاق فيها من هذه الجهة، ثم بين سبحانه حكما آخر و هو جواز أن يتناول الإنسان من

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 25 ص 53.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 726

البيوت المذكورة بدون استئذان أربابها.

وَ لا حرج عَلى أَنْفُسِكُمْ أيها المؤمنون أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي بيوت أزواجكم، فلا محل لأن يتحرج عن الأكل من بيته باحتمال أن يكون المأكول خاصا بالزوجة أو الزوج أو لشخص غريب وضعه هناك أمانة أو نحو ذلك، و ربما احتمل أن يكون المراد بيت الأولاد، فنسب بيت الأولاد إلى الإنسان نفسه أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ و يشمل الأجداد أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ و تشمل الجدات أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ سواء كان الآكل أخا أو أختا أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ من الأبوين أو من واحد منهما أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ و الظاهر شموله لأعمام الأب و الأم أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ و هي في الشمول لمطلق العمة كالسابق أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أخ الأم أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أخت الأم، و في عمومها ما سبق أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ مفاتح جمع مفتح، و هو المفتاح، أي البيت الذي عندكم مفتاحه،

قال الصادق عليه السّلام: الرجل له وكيل، يقوم في ماله فيأكل في غير إذنه أَوْ بيت صَدِيقِكُمْ فقد ورد عنهم عليهم السّلام إنهم قالوا: لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله

قدر حاجتهم من غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 727

إسراف «1».

و قال الصادق عليه السّلام: هؤلاء الذين سمى الله عز و جل في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر و المأدوم و كذلك تطعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه

«2».

و قال عليه السّلام في قوله «ليس عليكم جناح»: بإذن و بغير إذن

«3». لَيْسَ عَلَيْكُمْ أيها المسلمون جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فليس على الإنسان بأس أن يأكل مع غيره أو منفردا، و هذا بيان كيفية الأكل بعد ما بين سبحانه مكان الأكل، فقد كان بعض الناس يتحرج أن يأكل الطعام وحده، و أشتات جمع شتيت، و معناه المتفرق «و» إذ بين سبحانه كيفية الأكل و مكان الأكل جاء السياق لبيان بعض آداب البيوت عطفا على ما سبق من الآداب فقال فَإِذا دَخَلْتُمْ أيها المسلمون بُيُوتاً من تلك البيوت أو غيرها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ليسلم بعضكم على بعض،

قال الصادق عليه السّلام: هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم

«4» تَحِيَّةً منصوب على المصدر، إذ هو بمعنى تسليما، أي حيوا تحية و سلموا تسليما و أصل التحية أن الإنسان كان إذا رأى غيره قال «حياك الله» أو «لتحيى» و المعنى أن يبقى حيا، حتى شرع الإسلام السلام، و هو أفضل من التحية- بالمعنى المتقدم- إذ الحياة لا تلازم السلامة، أما السلامة فهي تلازم الحياة مع الزائد، و من هناك سمي كل ترحيب يبدي به عند اللقاء، بالتحية مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي أنها تحية جاءت من عنده

______________________________

(1) فقه القرآن: ج 2 ص 33.

(2) الكافي: ج 6 ص 277.

(3) وسائل الشيعة: ج 24 ص 283.

(4)

وسائل الشيعة: ج 12 ص 81.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 728

[سورة النور (24): آية 62]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

سبحانه، بأمره لكم أن تبدؤوا بها.

في حال كونها مُبارَكَةً أي لها البركة، فإن السلام يوجب الزيادة في العلاقات، مع ما له من الآثار الغيبية طَيِّبَةً لما فيها من طيب العيش بالتواصل و الأجر الكبير،

و قد ورد أن في السلام و الجواب مائة حسنة تسع و تسعون منها للمسلم و واحدة للمجيب،

و كما بين الله لكم هذه الأحكام كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أيها المسلمون الْآياتِ الدالة على الأحكام و الآداب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعملوا عقولكم فتسعدوا في الحياة.

[63] و إذ بين سبحانه علاقة المسلمين بعضهم مع بعض في المأكل، و الاجتماع و التحية، و سائر ما تقدم بيّن الأدب اللازم رعايته مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رئيس المسلمين الأعلى فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ بأن اعتقدوا بالله، و صدقوا بالرسول، عن حقيقة و قلب، لا بمجرد اللفظ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ أي مع الرسول عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي أمر يقتضي الاجتماع كالمشورة، و الحرب، و ما أشبه لَمْ يَذْهَبُوا من عنده حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ أي يطلبوا الإذن من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الذهاب و الانصراف إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يا رسول الله أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إيمانا صادقا راسخا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 729

[سورة النور (24): آية

63]

لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)

بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ إذ عدم الاستئذان دليل على عدم تمكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قلوبهم، و نشوب الإيمان في أعماقهم فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ يا رسول الله لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ و لعل الإتيان بهذه الجملة للتنبيه على أنه لا ينبغي لهم أن يستأذنوا اعتباطا للتخلص من التبعة، و إنما الاستئذان لبعض الأمور المحتاج إليها فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فإن إعطاء الإذن بيد الرسول، إن شاء أذن و إن شاء لم يأذن وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ أي اطلب لهم من الله الغفران، فلعل الاستئذان كان عبثا لمحاولة الفرار عن الأمر الجامع فهم في معرض سخط الله الذي لا يدفعه إلا الاستغفار إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر الذنب رَحِيمٌ يتفضل على المؤمنين باللطف و الرحمة،

و قد ورد أن هذه الآية نزلت في حنظلة، و ذلك أنه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد، فاستأذن رسول الله أن يقم عند أهله فأنزل الله عز و جل هذه الآية، فأقام عند أهله ثم أصبح و هو جنب فحضر القتال و استشهد، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء و الأرض، فسمي غسيل الملائكة «1».

[64] و من جملة الآداب التي يلزم مراعاتها مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما بينه سبحانه بقوله: لا تَجْعَلُوا أيها المسلمون دُعاءَ الرَّسُولِ نداءه عند

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 730

المخاطبة فيما

بَيْنَكُمْ و لعل الإتيان بهذه الكلمة، لبيان أنه ينبغي احترامه و هو بينكم، فإنه الرسول، في قبال من يحترم غيره في الخارج دون الخلوة فيما بينهما كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً كما ينادي بعضكم بعضا بالاسم، أو اللقب فلا تقولوا يا محمد، و يا أبا القاسم، بل قولوا يا رسول الله، يا نبي الله،

قال الصادق عليه السّلام: قالت فاطمة عليها السّلام: لما نزلت هذه الآية هبت رسول الله أن أقول له يا أبت، فكنت أقول يا رسول الله، فأعرض عني مرة أو اثنين أو ثلاثا ثم أقبل علي و قال: يا فاطمة إنها لم تنزل فيك و لا في أهلك و لا في نسلك أنت مني و أنا منك، إنما نزلت في أهل الجفاء و الغلظة من قريش أصحاب البذخ و الكبرياء، قولي يا أبت فإنها أحيا للقلب و أرضى للرب «1».

أقول: لعل المراد بالنسل الأئمة عليهم السّلام.

ثم رجع السياق إلى ما تقدم من لزوم الاستئذان لدى إرادة الانصراف قَدْ يَعْلَمُ قد للتحقيق، أو جار مجرى التعريض، فقد تقول لولدك- مهددا- قد أطلع إلى عملك، بمعنى أن احتمال اطلاعي كاف في أن ترتدع الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ التسلل الخروج في خفية و هدوء و حذر مِنْكُمْ أيها المسلمون لِواذاً و هو أن يتستر الإنسان بشي ء مخافة أن يراه أحد، من لاذ بمعنى: التجأ، فقد كان بعض المسلمين يقومون في هدوء و حذر و يتسترون ببعض الأصحاب الجالسين أو

______________________________

(1) المناقب: ج 3 ص 320.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 731

[سورة النور (24): آية 64]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (64)

الواقفين، لئلا

يراهم الرسول حين يريدون الانصراف، بدون الاستئذان، و في قوله «قد يعلم الله» تهديد لمن يفعل ذلك فَلْيَحْذَرِ أي يجب أن يحذر و يخاف الَّذِينَ يُخالِفُونَ أي يعرضون عَنْ أَمْرِهِ تعالى أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي بينة و عقوبة في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

[65] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالكل ملكه و الكل تحت تصرفه، فكيف يمكن أن يخالفه أحد و لا يخشاه؟ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الأعمال و الكلام في «قد» ما تقدم، و في هذا تهديد لمن يخالف وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ و هو يوم الموت، أو يوم القيامة، و المراد الرجوع إلى حسابه و جزائه فَيُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم، إخبارا يتعقبه الجزاء، و هذا كقولك لمن تريد وعده أو إيعاده «سأخبرك بما عملت» بِما عَمِلُوا من الطاعة و المعصية وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيجازي كلا حسب عمله و ما صدر منه، و «يوم» منصوب على الظرفية، أي «ينبئهم في يوم يرجعون إليه»، و إنما دخل «الفاء» لإفادة الترتيب بين الإخبار و بين و الرجوع.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 732

25 سورة الفرقان مكية/ آياتها (78)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الفرقان» و هي كسائر السور المكية تتعرض للعقيدة و ما يتبعها و حيث ختمت سورة النور بأن لله ما في السماوات و الأرض، ابتدأت هذه السورة بأن لله التشريع، لتلائم التشريع مع التكوين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله المستجمع لجميع صفات الكمال، و قد اعتاد الإنسان أن يجعل شعاره أفضل شي ء يشير إلى نفسيته و منهاجه، و هل هناك شي ء أفضل من اسم الله سبحانه ليجعل شعارا؟، و هل بعد ذلك شي ء أفضل من الرحمة التي

تعم التكوين و إعطاء الخير و الهداية، ليعقب باسم الإله؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 733

[سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)

[2] تَبارَكَ هو من باب التفاعل، من البركة، إما بمعنى تكاثر خيره، أو من البروك، بمعنى الاستقرار، أي دام و ثبت الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أي القرآن، و سمي فرقانا لأنه المفرق بين الحق و الباطل عَلى عَبْدِهِ محمد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِيَكُونَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِلْعالَمِينَ أي جميع عوالم العقلاء من الإنس و الجن في الأجيال المختلفة و الأصقاع المختلفة نَذِيراً أي منذرا عن المعاصي و الكفر و الآثام، و إنما ذكر هذا الوصف، لأن التنقية عن الشرك و المعاصي مقدم على التحلية بالإيمان و الطاعات.

[3] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك، و حق للمالك أن يشرع، كما أن المالك أعرف بما يصلح مملوكه من غيره، فهو أحسن نظاما و خير دينا من غيره وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما زعمت اليهود و النصارى و المشركون جعلوا عزيرا و المسيح و الملائكة أولاد الله تعالى وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ تعالى شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ يشاركه في الكون، كما زعم المشركون، حيث جعلوا الأصنام آلهة شريكة لله سبحانه وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فله الخلق، كما أن له الملك، و صرح بذلك لعدم التلازم بينهما فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً حسب الحكمة و الصلاح، أي وضع لكل شي ء حدا في الكيفية

و الكمية و مدة البقاء إلى غير ذلك من الأمور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 734

[سورة الفرقان (25): الآيات 3 الى 4]

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً (3) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (4)

المكتنفة بكل مخلوق.

[4] وَ اتَّخَذُوا أي اتخذ الكفار مِنْ دُونِهِ من دون الله آلِهَةً المراد بالجمع الجنس حتى يشمل الواحد، كما يراد بالجنس الجمع في كثير من الموارد، و تلك الآلهة لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً لا تقدر على خلق شي ء وَ هُمْ تلك الآلهة يَخْلُقُونَ مخلوقة لله سبحانه، و الإتيان بلفظ العاقل سيرا على مذهب القوم الذين كانوا يزعمون عقل الأصنام وَ لا يَمْلِكُونَ تلك الآلهة لِأَنْفُسِهِمْ فكيف لغيرهم ضَرًّا بأن تدفعه عن نفسها وَ لا نَفْعاً بأن يجلبونه لأنفسهم، في مقابل الله الذي يخلق و لم يخلق، و يتمكن على كل نفع و إضرار بالنسبة إلى جميع الناس وَ لا يَمْلِكُونَ لأحد مَوْتاً وَ لا لميت حَياةً وَ لا لأحد نُشُوراً أي إحياء بعد الموت، فكيف يترك الكفار عبادة الله القادر على كل شي ء و الخالق لكل شي ء و المالك لكل مملوك، و يعبدون هذه الأصنام التي لا تقدر على شي ء و لم تخلق شيئا و ليس لها شي ء؟.

[5] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا حول القرآن الذي أنزله الله على رسوله إِنْ هَذا أي ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ أي كذب افْتَراهُ الرسول، على الله سبحانه، بأن نسبه إليه تعالى بالكذب، وَ أَعانَهُ أعان الرسول عَلَيْهِ

على هذا الإفك قَوْمٌ آخَرُونَ فقد كانوا يقولون إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 735

[سورة الفرقان (25): آية 5]

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5)

عداس مولى حويطب و يسار غلام العلاء و حبر مولى عامر، هم الذين أعانوا الرسول على إنشاء هذا القرآن، و قد كان أولئك من أهل الكتاب.

و عن الباقر عليه السّلام: يعنون أبا فكيهة و حبرا و عداسا و عابسا مولى حويطب

«1» فَقَدْ جاؤُ أي هؤلاء الكفار ظُلْماً إذ ظلموا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذه النسبة إليه وَ زُوراً أي افتراء، فكيف يمكن للعبد أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي لا يمكن أن يأتي به فصحاء قريش و عقلائهم؟ كما قال سبحانه: (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) «2»؟.

[6] وَ قالُوا أي قال جماعة آخرون من الكفار أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها جمع أسطورة، و هي الحديث الخيالي الذي لا واقع له، أي قالوا أن هذا القرآن أحاديث المتقدمين و ما سطروه في كتبهم جمعها محمد و كتبها ليدعي بها النبوة فَهِيَ أي هذه الأساطير تُمْلى عَلَيْهِ تقرأ عليه يقرؤها عليه بعض أصدقائه بُكْرَةً وَ أَصِيلًا أي صباحا و عشيا، ليحفظها و يقرأها على الناس، و قد كانوا مناقضين في أقوالهم فمرة يقولون إفك افتراه، و مرة إنها أساطير الأولين، مع أن الرسول لم يكن كاتبا، ثم ينسبون الإلقاء إلى أفراد لم يكن لهم علم و لسان، و مع ذلك كله لم يقدروا على أن يأتوا بأقصر سورة مثله.

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 111.

(2) النحل: 104.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 736

[سورة الفرقان (25): الآيات 6 الى 7]

قُلْ

أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7)

[7] قُلْ يا رسول الله في جوابهم أَنْزَلَهُ أي أنزل هذا القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي الخفي فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو بعلمه الشامل يعلم مقدار قدرة البشر، و لذا ترى الذي أنزله فوق قدرتهم إذ لا يتمكنون أن يأتوا بمثله، و لو كان افتراء من عند جاهل لا يعلم مقادير قدرة الناس لأمكنوا من معارضته و الإتيان بمثله. إِنَّهُ سبحانه كانَ غَفُوراً حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، ليتوب من يتوب رَحِيماً يرحم العباد و يتفضل عليهم.

[8] لقد كان هذا قولهم في القرآن أما قولهم حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ أصل هذه الجملة تستعمل بمعنى «أي شي ء له» و لكن استعملت بعد ذلك في مجرد الاستفهام يَأْكُلُ الطَّعامَ أي كيف يكون رسولا و هو يأكل الطعام وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ فقد كانوا يظنون أن هذه الأمور تنافي شأن الرسالة لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ من السماء، كي نراه فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أي معينا له على الإنذار و التخويف و «لو لا» بمعنى «هلا» و لنسأل هؤلاء القائلين: لماذا يجب أن يكون الرسول لا يأكل الطعام، و لا يمشي في الأسواق؟ و لماذا يلزم أن يكون معه ملك يرى؟ إن الكفار لم يكن لهم منطق في هذه الكلمات إلا السخافة و الاقتراح المجرد و العناد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 737

[سورة الفرقان (25): الآيات 8 الى 10]

أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها

وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)

[9] أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ من جانب السماء، أو المراد يعطى كَنْزٌ من الذهب و الفضة و سائر الجواهر، حتى يكون ذا مال، فقد كانوا يستغربون أن يكون الرسول لا مال له أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ أي بستان يَأْكُلُ مِنْها من تلك البستان حتى لا يحتاج إلى اشتراء الفواكه و الخضر من السوق وَ قالَ الظَّالِمُونَ أي الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون أيها المؤمنون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً قد سحروه، و ذهب عقله، و من ذهاب عقله ادعائه النبوة، و كلامه بكلام المجانين.

[10] انْظُرْ يا رسول الله كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي الأشباه فتارة شبهوك بالمسحور، و تارة بالمجنون، و تارة بالشاعر، و هكذا فَضَلُّوا عن الطريق، و سبيل الهداية فَلا يَسْتَطِيعُونَ حيث أبعدوا أنفسهم عنك سَبِيلًا يهديهم إلى الحق، إنهم بعّدوا أنفسهم منك، و لا طريق إلى الله سبحانه سواك، فهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى الهدى.

[11] تَبارَكَ أي تقدس و تعالى- و قد تقدم معناه- الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ الذي اقترحوه، من الكنز و البستان، ثم فسر سبحانه ما هو خير بقوله جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 738

[سورة الفرقان (25): الآيات 11 الى 12]

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (12)

تحت أشجارها وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً

في هذه الدنيا، و لكن الإيمان حيث كان مرتبطا بالقلوب، و لأجل الامتحان، يلزم تجرد الأنبياء عن المال- بدء الدعوة- ليظهر صدق المؤمن، و إلا فالناس كلهم تبع للمال، يميلون حيث مال.

و لعل ذكر هذه المحاورات بين الرسول و بين القوم، و بيان ما كانوا يقولون في الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في القرآن، لأجل تعليم الناس كيفية الاحتجاج، و إرشاد الذين يريدون الإصلاح إلى الأتعاب التي يواجهونها في طريقهم، ليأخذوا أهبتهم عند الحركة، و يستعدون للدفاع و الكفاح حسب اطلاعهم على مقدار قوى الخصم، و لتظهر منزلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مكانته السامية.

[12] هؤلاء لا يكذبونك لأنهم لم يجدوا دليلا على صدقك بَلْ إنما يكذبونك لأنهم لا يخافون المعاد فقد كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي بالقيامة وَ أَعْتَدْنا هيئنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً نارا تسعر و تتلظى.

[13] إِذا رَأَتْهُمْ أي رأت النار هؤلاء الكفار مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ و إنما نسب الرؤية إلى النار، مع أن النار لا عين لها، لزيادة التهويل حتى كأن النار تراهم و تنظر إليهم نظرة الغضبان الحانق، و القلب من أنواع البلاغة كما قال الشاعر:

و لما أن جرى سمن عليهاكما طينت بالفدن السياعا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 739

[سورة الفرقان (25): الآيات 13 الى 15]

وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً (15)

سَمِعُوا لَها أي للنار تَغَيُّظاً فإنها تتقطع عند اشتدادها، كما يسمع الإنسان صوت الأعواد حين تنقطع في النار وَ زَفِيراً و هو

صوتها عند النفس و الالتهاب.

[14] وَ إِذا أُلْقُوا أي ألقي هؤلاء الكفار مِنْها من النار مَكاناً ضَيِّقاً أي في مكان ضيق من النار،

و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنهم في النار كالوتد في الحائط

مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم إلى بعض، أو قد قرن أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، أو قرنوا مع الشياطين دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً الثبور: الهلاك أي طلبوا هلاكهم، قائلين وا ثبورا، أي يا هلاك احضر و أرحنا من هذه المشقات.

[15] فيقال لهم حينذاك لا تَدْعُوا أيها الكفار الْيَوْمَ في النار ثُبُوراً واحِداً و هلاكا واحدا وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً و لعله كناية عن أن قول الويل لا ينفعكم و إن كثر، كما يقال لمن يبكي حزنا على فقد شي ء، ابكي كثيرا، يراد أن البكاء لا ينفع، و إن بكى الإنسان كثيرا.

[16] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يصرون على كفرهم و عصيانهم أَ ذلِكَ أي هل هذا المرجع و هذه العاقبة السيئة خَيْرٌ للإنسان أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أي: البساتين التي يخلد فيها الإنسان و لا يخرج منها إلى الأبد الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الذين يتقون الكفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 740

[سورة الفرقان (25): الآيات 16 الى 17]

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)

و العصيان؟ كانَتْ تلك الجنة لَهُمْ أي للمتقين جَزاءً على أعمالهم وَ مَصِيراً أي محلا يصيرون إليه.

[17] لَهُمْ فِيها أي في الجنة ما يَشاؤُنَ من أنواع النعيم و اللذات خالِدِينَ باقين إلى الأبد كانَ إدخالهم في الجنة- المفهوم من الكلام- عَلى رَبِّكَ وَعْداً

أي وعدهم ربك وعدا مَسْؤُلًا أي يسأل الله عن هذا الوعد، و السائلون هم الأتقياء فإنهم يسألون الله أن يفي لهم بالوعد، و هذا تأكيد للأمر، يعني إن الوعد وعد قطعي حتى إنه يسأل عنه، و ليس من قبيل وعد بعض الناس الذي هو مجرد لقلقة لسان.

[18] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي يجمع الله هؤلاء الكفار للحساب و الجزاء، و هو يوم القيامة وَ يحشر ما يَعْبُدُونَ من الآلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ و لعل المراد هنا المسيح و الملائكة و أمثالهم، أو الأعم منهم و من الأصنام، و ينطق الله الأصنام بقدرته ليتكلموا حتى يكون زيادة في تقريع الكفار.

فَيَقُولُ الله تعالى لهؤلاء المعبودين الذين جعلوا شركاء له أَ أَنْتُمْ أيها المعبودون أَضْلَلْتُمْ عِبادِي المشركين هؤُلاءِ الذين تشاهدونهم إلى جنبكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ بطغيانهم، بأن أشركوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 741

[سورة الفرقان (25): الآيات 18 الى 19]

قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)

فتاهوا طريق الحق و الرشاد؟.

[19] قالُوا أي قال أولئك المعبودون سُبْحانَكَ أي تنزيها لك، و هو مصدر منصوب بفعل مقدر أي نسبحك سبحانك ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أي ليس لنا أن نوالي أعداءك، فإنا لم نوال هؤلاء، فكيف نأمرهم بعبادتنا و اتخاذنا آلهة، فمن ليس بينه و بين أحد مجرد الصداقة و الولاية، كيف يكون داعيا له إلى نفسه؟ وَ لكِنْ إن هؤلاء هم ضلوا السبيل فقد

مَتَّعْتَهُمْ أي تفضلت عليهم بالنعم و متع الحياة الدنيا وَ متعت آباءَهُمْ حتى نشأوا في النعيم، فبطروا و استكبروا حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ المنزل على الرسل، فإن الإنسان إذا طال عمره في خير و أموال و أولاد، طغى، و لم يبال بالأوامر، حتى كأنه نسيها وَ كانُوا قَوْماً بُوراً أي هلكى فاسدين، فإن بور جمع بائر، و هو الهالك الذي لا نفع فيه، و منه يقال للخراب بائر.

[20] ثم يتوجه الخطاب إلى المشركين في دار الدنيا، بعد أن يتم الكلام حول تلك الحكاية عن حالهم مع المعبودين في القيامة فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أيها المشركون- أي كذبكم الشركاء، إذ بينوا أنهم لم يأمروكم بعبادتهم، خلاف ما كنتم تقولون من أن المسيح و الملائكة و من أشبههم أمروكم بعبادتهم بِما تَقُولُونَ من أمرهم لكم باتخاذهم شركاء فَما تَسْتَطِيعُونَ أيها المشركون، في الآخرة صَرْفاً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 742

[سورة الفرقان (25): آية 20]

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

للعذاب عن أنفسكم وَ لا نَصْراً لأنفسكم على عذاب الله، بأن تغلبون عليه حتى تخمدوه- مثلا- وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نفسه بالشرك و العصيان نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً أي عظيما شديدا.

[21] ثم ارتد السياق ليجيب عن بعض مجادلات الكفار مع الرسول في باب رسالته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا رسول الله مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لكانوا يأكلون الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ و أنت مثلهم فكيف يقول هؤلاء متعجبين ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق؟ وَ جَعَلْنا نحن بَعْضَكُمْ أيها الرسول

و يا أيها الكفار لِبَعْضٍ فِتْنَةً و امتحانا فالكفار يمتحنون بالرسول حتى يعلم من يؤمن و من لا يؤمن، و الرسول يمتحن بالكفار حتى يظهر صبره و صموده و سائر مزاياه، و يكون ذلك سببا لارتفاع درجته أَ تَصْبِرُونَ أيها الناس على الامتحان، حتى تخرجوا ناجحين، أم يسرع الكفار إلى شهوات الدنيا، فلا صبر لهم على الطاعة وَ كانَ رَبُّكَ يا رسول الله بَصِيراً بمن صبر و بمن لم يصبر، و بمن نجح في الامتحان و بمن لم ينجح- هذا هو الذي استظهره من الآية بمقتضى السياق- و قال بعض المفسرين معنى لا يلائم السياق، و الله العالم.

الجزء الرابع

[تتمة سورة الفرقان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السّلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 7

[سورة الفرقان (25): الآيات 21 الى 22]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)

[22] وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا و هم الكفار المنكرون للبعث، الذين ليس لهم حتى الأمل و الرجاء في لقاء جزاء الله و حسابه لَوْ لا أي هلّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ليخبرونا بأن محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبي أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا بذلك، و يأمرنا بإطاعة الرسول و اتّباعه، فرد عليهم الله سبحانه بقوله لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا أي تكبروا، و كان الإتيان من باب الاستفعال لإفادة أنهم إنما طلبوا الكبر، مع أن نفوسهم كانت مذعنة، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ

«1» فِي أَنْفُسِهِمْ أي في أمر أنفسهم حيث دفعوها إلى مستوى أن تنزل عليهم الملائكة أو يرون اللّه وَ عَتَوْا أي طغوا عُتُوًّا كَبِيراً أي طغيانا عظيما و تمردوا غاية التمرد.

[23] إنهم لا بد و أن يروا الملائكة لكن في وقت لا فائدة في إيمانهم حينذاك يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ عند قبض أرواحهم لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ إنما يبشرون بالجنة و الثواب في هذه الدنيا، قبل أن ينكشف لهم العالم الآخر، أما يوم الانكشاف عند قبض الروح، لا بشارة لهم، و إنما عذاب و نكال، و ذلك كناية عن رفع التكليف وَ يَقُولُونَ أي يقول الكفار في ذلك اليوم حِجْراً مَحْجُوراً كانت

______________________________

(1) النمل: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 8

[سورة الفرقان (25): الآيات 23 الى 25]

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)

العرب إذا رأى أحدهم من يريد قتله يقول حجرا محجورا دماءنا، أي حراما محرما، و هم حين يرون الملائكة يظنون إن هذا القول ينفع، و لقد كانت هذه الكلمة كالاستعاذة عندنا حين نرى مكروها، فنقول «نعوذ بالله».

[24] وَ قَدِمْنا أي قصدنا و تعمدنا، من باب استعمال المسبب في السبب، فإن القاصد إلى عمل يتقدم إليه إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ كانوا يظنون إنه عمل خيري فَجَعَلْناهُ أي ذلك العمل الخيري للكفار هَباءً و هو الغبار الذي يرى إذا أشرقت الشمس من الكوّة، و مفرده هباءه مَنْثُوراً أي منتشرا، فكما أن الهباء لا ينتفع به و لا يمكن التحصيل عليه كذلك أعمال هؤلاء الكفار التي ظنوها حسنات لم ينتفعوا بها، إذ شرط

القبول الإيمان، الذي فقدوه.

[25] أَصْحابُ الْجَنَّةِ و هم المؤمنون يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أي أفضل منزلا في الجنة، من أصحاب النار وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا أي موضع قائلة، و هي من القيلولة، و هو النوم قبل الظهر و الاستراحة فيه في وقت الحر، و قد كان هذا من فعل كبرائهم، و استحب في الشريعة لما فيه من التنشيط للعمل بعده، و قوله «خير» و «أحسن» يراد بهما الفضل لا الأفضلية، إذ لا خير في مكان أهل النار.

[26] وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ يأتي متعلقه في قوله «الملك يومئذ» و المراد بتشقق السماء انقلاب أوضاعها، ففي يوم القيامة تنقلب أحوال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 9

[سورة الفرقان (25): الآيات 26 الى 27]

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27)

الأرض و السماء، و لعلّ معنى التشقق أن الإنسان يرى كأنّ شقّا كبيرا أحدث في السماء، بأن ظهر لون غير اللون المرئي الآن، و لعل المراد بالغمام السحب التي تتراكم من الدخان و الأبخرة الحادثة من جراء الانقلابات الكونية، أو يأتي غمام يحمل الملائكة، و هو الذي يشقق السماء، و يكوّن لونا غير لون السماء، حتى يرى الإنسان فيها شقا وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا كما قال سبحانه «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ» و هذا حال يوجب الدهشة و الاضطراب لأهل الأرض، فقد عرفوا أن القيامة قد قامت، و أن الملائكة عمال الله سبحانه و تعالى للحساب و التنظيم و السيطرة على الموقف نزلوا.

[27] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي يوم تشقق السماء الْحَقُ أي الملك الذي هو الملك حقا، لا كملك ملوك الدنيا الذي

يكون زائلا لِلرَّحْمنِ و إنما خص الملك به في ذلك اليوم، لأن في الدنيا يرى بعض أقسام الملك للناس، أما هناك فلا أحد يملك شيئا حتى ملكا ظاهريا وَ كانَ ذلك اليوم يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي صعبا لشدته و هوله و مشقته.

[28] وَ يَوْمَ عطف على «يوم تشقق» يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ أسفا و ندما لما سبق منه من الظلم، و العض هو الأخذ بالأسنان، و كأن النادم إنما يفعل ذلك لإرادة إيلام جسمه انتقاما لما صدر منه مما ألقاه في هذا النادم، و العض على اليدين في الندم الشديد يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي ليتني اتبعت محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اتخذت معه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 10

[سورة الفرقان (25): الآيات 28 الى 29]

يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)

في سبيل الهداية حتى لا أبتلي بهذا اليوم العصيب.

[29] يا وَيْلَتى أي يا هلاكي احضر، أو يا قوم اطلبوا هلاكي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً أي الكافر الفلاني الذي أضلني خَلِيلًا أي صديقا حتى يقرأ في أذني و يضلني عن الرشاد، و المراد كل صديق يفسد الإنسان و يضله.

[30] لَقَدْ أَضَلَّنِي و أغواني و صرفني خليلي عَنِ الذِّكْرِ القرآن، أو الرسول بَعْدَ إِذْ جاءَنِي و حال بيني و بين الإيمان وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا أي كثير الخذلان، يقال خذله إذا تركه في الشدة، و لم ينصره، و هذا أما من تتمة كلام الظالم، متحير لماذا تبع الشيطان حتى يخذله في القيامة، أو ابتداء من الله سبحانه للإلفات إلى وجوب عدم اتباع

الشيطان، فإنه يخذل في أحرج الساعات.

قال ابن عباس نزل قوله «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ» في عقبة بن أبي معيط و أبيّ بن خلف، و كانا متخالين و ذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما فدعى إليه أشراف قومه و كان يكثر مجالسة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما و دعا الناس، فدعا رسول الله إلى طعامه فلما قرب الطعام قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله و أني رسوله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله، فبلغ ذلك أبيّ بن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 11

[سورة الفرقان (25): آية 30]

وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)

خلف، فقال صبأت يا عقبة؟ قال: لا و الله ما صبأت و لكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي و لم يطعم فشهدت له فطعم. فقال أبي: ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتيه فتبصق في وجهه، ففعل ذلك عقبة و ارتد و أخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فضرب عنقه يوم بدر صبرا، و أما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم أحد بيده في المبارزة

«1».

أقول: و بناء على هذا النزول يكون مصداق قوله «فلانا» «أبيّ» لأنه الذي كان خليلا مع عقبة، و

قد

ورد في حديث آخر أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين بصق في وجهه احمرّ وجهه المبارك، و مسح البصاق بيده

، كما

ورد أن الرسول جاء شاكيا إلى أبي طالب، فأمر أبو طالب بعض خدمه أن يأخذ رحم دابة، و جاء بها حتى رأى عقبة فأفرغها في رأسه، كما صنع بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[31] و قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك الموقف الهائل، شاكيا إلى قومه يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي هجروا القرآن و ابتعدوا عنه، و المراد بالقوم، إما قريش أو مطلق الناس، لأن المراد بقوم الأنبياء، من أرسلوا إليهم و هذا يناسب قول الظالم «لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ» و الآية و إن كانت ظاهرة في الكفّار إلا أنها أعم،

قال الإمام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 69. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 12

[سورة الفرقان (25): الآيات 31 الى 32]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً (31) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32)

الصادق عليه السّلام ليس رجل من قريش إلا و قد نزلت فيه آية أو آيتان تقوده إلى جنة أو تسوقه إلى نار، تجري فيمن بعده إن خيرا فخير، و إن شرا فشر

«1»، و على هذا فهجر القرآن- في هذا الزمان- ترك العمل بأحكامه و اتخاذ مناهج الكفار نظاما للحكم، دون دساتير القرآن.

[32] و يسلي الله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن ترك الأقوام للهدى إنما هو شي ء قديم، فقد كان للأنبياء أعداء

يهجرونهم، و يعادونهم وَ كما لك أعداء يهجرون كتابك و ينصبون لك العداء كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا و معنى جعل الله سبحانه أنه لا يأخذهم حيث يعادون الأنبياء، و إنما يتركهم و شأنهم، ليبلغوا أجلهم، و ليرفع مقام النبي بالصبر على المكاره. يقال: جعل الملك اللص في الطريق، إذا لم يضرب على يده و تركه يفعل ما يشاء مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي من الذين يأتون بالجرائم، و هي المعاصي وَ كَفى بِرَبِّكَ يا رسول الله هادِياً فإنه سبحانه يهدي الناس وَ نَصِيراً ينصر المؤمنين بالآخرة فلا يهمك أن يقف المجرم في طريق الدعوة و يكون له الغلب المؤقت.

[33] و بعد أن بين الله تعالى بعض كلمات الكفار حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن مثل «قالوا لو لا أنزل علينا الملائكة» ذكر بعض مناقشاتهم الأخر وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ أي على الرسول الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 89 ص 87، وردت عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 13

[سورة الفرقان (25): الآيات 33 الى 34]

وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (34)

لا منجما، فلو كان من عند الله كان قادرا على أن ينزله مرة واحدة كما أنزلت التوراة و الإنجيل من قبل جملة واحدة؟ و لعلهم كانوا يريدون بذلك تقوية افترائهم. أن الرسول إنما يتعلم القرآن من «عداس» و أضرابه، كما سبق منهم هذا الافتراء.

لكن جواب هذا أن القرآن إنما يأتي بالمناسبات، و التدرج خير لذلك من الإنزال جملة، و لذا يكون لكل آية شأن نزول،

لا يجمل لو نزلت قبل ذلك، أو بعده بزمان كَذلِكَ أنزلناه متفرقا لِنُثَبِّتَ و نقوّي بِهِ أي بالقرآن فُؤادَكَ أي قلبك، فإن الوحي إذا جاء متدرجا في كل حادثة و كل أمر كان ذلك موجبا لتقوية قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أن ينزل جملة واحدة، و هذا ضروري بالنسبة إلى البشر، و إن كان رسولا معصوما، أ رأيت أن المؤمن كامل الإيمان ليزداد قوة كلما مرّ عليه آي الكتاب وَ رَتَّلْناهُ أي رتلنا القرآن تَرْتِيلًا و هو التبيين من تثبيت و ترسّل.

[34] وَ لا يَأْتُونَكَ يا رسول الله، المشركون بِمَثَلٍ سيئ لك لإبطال أمرك، إذا أرادوا بذلك تشبيه الرسول بمن لا اتصال له بالوحي، حيث لا بد له أن يصنع الكلام تدريجا إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ في جواب ذلك المثل و دحضه وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً لعملك من تفسيرهم، فإنا نبيّن وجه عملك بما هو عليه، و ذلك أحسن من بيانهم الذين يريدون به إبطال أمرك.

[35] إن تفسير هؤلاء المقلوب، لأعمال الرسول، سيودي بهم إلى أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 14

[سورة الفرقان (25): الآيات 35 الى 36]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36)

يحشروا مقلوبين على وجوههم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ و يساقون عَلى وُجُوهِهِمْ سحبا على الوجوه إِلى جَهَنَّمَ ليلاقوا جزاء أعمالهم الكافرة في الدنيا أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي منزلا من غيرهم وَ أَضَلُّ سَبِيلًا فإن سبيلهم يؤدي إلى الهلاك، بينما سبيل المؤمنين يؤدي إلى الجنان، و هذا في مقابل قولهم في المؤمنين «أنهم لضالون». و «شر» و «أضل» لا يراد بهما التفضيل حقيقة.

[36] ثم ذكر سبحانه

قصص بعض الأنبياء عليهم السّلام الذين كذبهم الأقوام فكانت لهم العاقبة السيئة بسبب تكذيبهم، و هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنذار للمشركين وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً له يساعده في التبليغ و الإرشاد.

[37] فَقُلْنَا لهما اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و هم فرعون و قومه، و المراد بتكذيبهم، إما بعد إتيانهما إليهم، و إما قبل ذلك حيث لم يقبل فرعون و قومه ما بقي من علوم الأنبياء عليهم السّلام و آثار المرسلين، و جاء موسى و أخوه إليهم و دعياهم إلى الله فلم يقبلوا فَدَمَّرْناهُمْ أي أهلكنا فرعون و قومه بالغرق تَدْمِيراً أي إهلاكا عظيما.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 15

[سورة الفرقان (25): الآيات 37 الى 39]

وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَ كُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)

[38] وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ فإن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع رسل الله تعالى أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي عبرة و موعظة وَ أَعْتَدْنا أي هيأنا لِلظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالكفر و المعاصي عَذاباً أَلِيماً سوى ما حل بهم في دار الدنيا، أو المراد العموم أي أن كل ظالم قد هيئ له عذاب مؤلم موجع.

[39] وَ أهلكنا عاداً قوم هود عليه السّلام وَ ثَمُودَ قوم صالح وَ أَصْحابَ الرَّسِ ورد أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها «شاه درخت» و إنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوا بينهم في

الأرض و ذلك بعد سليمان بن داود عليه السّلام فأهلكوا بريح عاصفة شديدة الحمرة تحيروا فيها و ذعروا منها و تضام بعضهم إلى بعض، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبة جمرا يلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار وَ أهلكنا قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي بين هذه الأقوام الذين ذكروا من عاد و ثمود و قوم نوح و أصحاب الرس، و القرن هو الجيل، يقال لهم قرن لتقارن أعمارهم.

[40] وَ كُلًّا من تلك القرون و الأقوام التي أهلكناها بسبب كفرهم و فسادهم ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي ذكرنا لهم أنهم إن لم يؤمنوا عذبوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 16

[سورة الفرقان (25): الآيات 40 الى 41]

وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41)

كما عذب من سبقهم- و هذا كما نمثل لقوم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- وَ كُلًّا من أولئك القرون و الأقوام تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي أهلكناهم إهلاكا، يقال:

تبره بمعنى أهلكه.

[41] وَ لَقَدْ أَتَوْا أي مضوا و رأوا، و المراد كفار مكة عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني قرية لوط التي أمطرت عليها الحجارة، فإن قريته بين مكة و الشام، و قد كان أهل مكة يمرون عليها عند ذهابهم إلى الشام و لدى إيابهم أَ فَلَمْ يَكُونُوا هؤلاء الكفار يَرَوْنَها أي يرون تلك القرية؟ فلما ذا لا يخافون أن يصيبهم بتكذيبهم مثل ما أصاب تلك القرية؟ بَلْ رأوها، و لكنهم كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي أنهم إنما لم يعتبروا

بها لأنهم لا يقرون بالبعث و الحساب، و من أنكر الآخرة و أنكر المبدأ، حمل كل شي ء على غير وجهه و لعلهم كانوا ينسبون قصة قوم لوط إلى الصدفة، كما نشاهد أمثالهم في أيامنا هذه.

[42] وَ إِذا رَأَوْكَ الكفار، يا رسول الله إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي لا يحسبونك إِلَّا هُزُواً أي مهزوا به، كأنه أداة للسخرية و الاستهزاء، فيقولون على وجه السخرية أَ هذَا الرسول هو الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ إياه رَسُولًا أي كيف يمكن أن يكون هذا رسولا، و لم يكن استهزاءهم إلا عنادا و حسدا و كبرا، و إلا لم يكن لهم دليل و منطق على عدم رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 17

[سورة الفرقان (25): الآيات 42 الى 44]

إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)

[43] إِنْ كادَ «إن» مخففة من الثقيلة، يعني إنه كاد لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا فقد قارب أن يأخذنا إلى طريق إلهه، فنضل طريق عبادة آلهتنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي لو لم يكن صبرنا على عبادتها، فإنه أزالنا عنها، بما يأتي به من الأدلة و الحجج، إنهم سموا طريق الله سبحانه ضلالا وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ في الآخرة حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يحل بهم جزاء على شركهم و كفرهم مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا هل هم الضالون، أم الرسول و المؤمنون؟ و المعنى أنهم هناك يعرفون ضلال سبيلهم في الدنيا، حيث لا منجى و

لا مهرب.

[44] أَ رَأَيْتَ يا رسول الله، استفهام للتهكم بالمشركين مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ فهو يعبد ما تشتهيه نفسه، لا ما أرشده العقل و الدليل، و قد كان الرجل منهم يعبد حجرا ثم إذا رأى حجرا أحسن منه رماه و اتخذ الثاني إلها، و هكذا أَ فَأَنْتَ يا رسول الله تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا كفيلا تحفظه عن الضلال، و المعنى أنك لست عليه بوكيل حتى تحزن و تغتم لأجل انحرافه و ضلاله و إنما أنت مبلغ مرشد و قد بلغت و أرشدت.

[45] أَمْ تَحْسَبُ يا رسول الله، أي تظن أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ سماع تفهم و تعلم أَوْ يَعْقِلُونَ ما تقوله و تقرأه عليهم؟ و هذا و إن كان بصورة الاستفهام لكنه بمعنى النفي، أي أن أكثر هؤلاء لا يستمعون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 18

[سورة الفرقان (25): آية 45]

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45)

إليك للتفهم و لا يعطون ألبابهم و عقولهم للتدبير و إنما هم معاندون يريدون الإنكار إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي البهائم التي لا تسمع سماع تفهم، و لا عقل لها، و إنما تسمع النداء و الصوت فقط بَلْ هُمْ أي هؤلاء الكفار أَضَلُّ سَبِيلًا فإن الأنعام تهتدي إلى مصالحها أما هؤلاء فلا يعقلون صالحهم عن غير الصالح لهم و لذا يعرضون عن الحق.

[46] ثم يأتي السياق للتذكير بجملة من الآيات الكونية التي توقظ الضمائر، و تلفت العقول إلى الله سبحانه أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه الروية إِلى رَبِّكَ أي أ لم تعلم أن هذا الذي نذكره هو من فعل الله

سبحانه لا مدخلية للغير في ذلك كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ فإن الشمس إذا طلعت امتد لكل شي ء ظل طويل نحو المغرب، فمن يا ترى جعل للأجسام ظلال عند إشراق النور و الظل يوحي بالهدوء و البرد و الراحة، إنه الله الذي جعل هذه الظلال وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً لا يتحرك بأن يوقف الشمس في مكانها حتى يبقى الظل في مكانه، لكنه سبحانه حسب الحكمة العليا جعل الظل متحركا بحركة الشمس فمن يا ترى جعل الشمس متحركة حتى يتبعها في الحركة الظل؟ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ أي على الظل دَلِيلًا فإنها هي التي تحدده و تعيّنه و تدل على ماهيته، إذ لو لا الشمس و إشراقها، لم يعرف الظل، و الأشياء تعرف بأضدادها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 19

[سورة الفرقان (25): الآيات 46 الى 48]

ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48)

[47] ثُمَّ قَبَضْناهُ أي قبضنا الظل، بمعنى أخذناه إِلَيْنا تشبيه بالذي يقبض الشي ء إلى نفسه قَبْضاً يَسِيراً في يسر و سهولة، فإن الشمس كلما ارتفعت انتقص الظل حتى يعدم و لا يبقى منه شي ء، و القبض تدريجي كمن يقبض الشي ء بيسر لا عنف فيه و لا اندفاع.

[48] وَ هُوَ الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ أيها البشر اللَّيْلَ لِباساً فإنه يشتمل على الإنسان حتى يستره مثل اللباس يشتمل على الإنسان، و في الليل يقضي الإنسان من الأمور التي يحب سترها ما لا يقضي في النهار وَ النَّوْمَ سُباتاً أي راحة لأبدانكم و قطعا لأعمالكم، و السبات قطع العمل،

و منه سبت رأسه إذا حلقه و يوم السبت لأنه كان يوم قطع العمل وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً لانتشاء الروح في البدن فلا نوم، و لانتشاء الناس في حوائجهم.

[49] وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً مبشرات، فإن المصدر يستعمل للمفرد و التثنية و الجمع بلفظ واحد بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام رحمته التي هي المطر، فإن الرياح تثير السحاب، فإذا جاءت الرياح في فصل المطر استبشر الناس بأن وراءها الأمطار، فيفرحون للمنافع المترتبة على المطر وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي جهة العلو ماءً أي المطر طَهُوراً طاهرا في ذاته مطهرا لغيره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 20

[سورة الفرقان (25): الآيات 49 الى 51]

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51)

[50] لِنُحْيِيَ بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً قد ماتت بالجدب و عدم الماء، و إحيائها بالماء، حيث ينبت بالمطر الزرع، و يسمن الحيوان، و يكون وسيلة لنمو حياة الإنسان و ازدهارها، و ذكر البلدة إنما هو لأن فائدة المطر تعود إليها، و إن كانت الحياة تظهر مظاهرها- غالبا- في الصحاري وَ نُسْقِيَهُ أي نسقي بذلك الماء مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً أي الحيوانات التي خلقناها وَ أَناسِيَ جمع إنسان جعل الياء عوضا عن النون كَثِيراً أي كثير من أفراد الناس، و لعل تأخير الإنسان لأن احتياج الأنعام إلى ماء المطر أكثر، فإن الإنسان يستخرج الماء إن لم يجده على ظاهر الأرض، و هكذا بالنسبة إلى النبات و الحيوان، فإن احتياج النبات أكثر.

[51] وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ أي صرفنا المطر بَيْنَهُمْ بأن أدرناه في جهات

الأرض لانتفاع الكل، فلا يمطر مكانا دون مكان لِيَذَّكَّرُوا نعم الله سبحانه، بما أودع فيهم من الفطرة، أصله «تذكر» أدغمت التاء في الذال- على القاعدة- ثم جي ء بهمزة الوصل لئلا يمتنع الابتداء بالساكن فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا للّه سبحانه و لفضله و إحسانه، و يحتمل أن يكون الضمير في صرفناه عائدا إلى القرآن.

[52] وَ لَوْ شِئْنا بأن كانت المصلحة تقتضي ذلك لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 21

[سورة الفرقان (25): الآيات 52 الى 53]

فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (53)

ينذرهم و لكن توحيد الناس تحت لواء واحد بما في ذلك من فوائد التعاون اقتضى أن يرسل رسولا واحدا، ثم ينتشر البلاغ منه إلى سائر الناس، و هذا بالنسبة إلى وقت إرسال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا ينافي قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «1» و هذه الآية أنسب إلى كون الضمير في «صرفناه» للقرآن لا للمطر.

[53] فَلا تُطِعِ يا رسول الله الْكافِرِينَ فيما يدعونك من المداهنة و الإجابة إلى بعض رغباتهم و ترك التبليغ مدة من الزمان وَ جاهِدْهُمْ و المراد الكفاح معهم بِهِ أي بالقرآن جِهاداً كَبِيراً فإن صبر الأعزل على الأذى أكبر من قتال المسلح مع الكفار في ميدان الحرب.

[54] ثم يرجع السياق إلى عدّ الآيات الكونية وَ هُوَ الله الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ بحر المياه المالحة، و بحر المياه الحلوة فإن مياه البحار مالحة، و المياه التي تنزل من السماء فتسكن في أجواف الأرض كالبحار حلوة

حتى تخرج من النفق الموجودة في الجبال، و الله سبحانه حيث جعل بحيث يتلاقى هذين البحرين إذ مياه الأنهر تصبّ في البحار المالحة، في جميع أطراف الأرض، حتى كان بعضها مختلط ببعض و مع ذلك لا يطغى البحر المالح على البحر العذب، حتى يفسده و يسقطه عن الانتفاع في الزرع و الشرب.

هذا يعني أحد البحرين عَذْبٌ فُراتٌ أي طيب شديد الطيب

______________________________

(1) فاطر: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 22

[سورة الفرقان (25): الآيات 54 الى 55]

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)

سائغ شرابه وَ هذا أي البحر الثاني مِلْحٌ أي كالملح في الملوحة، و إنما قيل ملح مبالغة، مثل زيد عدل أُجاجٌ شديد الملوحة وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بين البحرين بَرْزَخاً أي حجابا أو حاجزا من قدرة الله وَ حِجْراً أي منعا مَحْجُوراً ممنوعا دخول بعض المياه إلى بعض، حتى يفسد العذب بالمالح، و هذا لتأكيد المبالغة في عدم اختلاطهما اختلاطا مفسدا، و إن «مرج» أخيرا بعد أخذ الأرض و الناس حاجتهما منه، و هذا من بديع القدرة حيث جعل قرار المياه العذبة فوق سطح البحر.

[55] وَ هُوَ الله الَّذِي خَلَقَ و أوجد مِنَ الْماءِ أي المنى، أو الماء المكون للنبات و الحيوان، حتى يأكلهما الإنسان، فيتحول في بدنه منيا بَشَراً أي إنسانا، قيل سمي بشرا، لظهور بشرته، بخلاف غالب الحيوانات المكسي جلدها بالريش أو الشعر أو ما أشبه فَجَعَلَهُ أي جعل البشر بكيفية يتلاقى بعضهم مع بعض بسببها نَسَباً وَ صِهْراً فالأولاد و الأحفاد يتلاقون بالمصاهرة و الزواج،

و التقدير «جعله ذا نسب و صهر» و الصهر من صهر بمعنى قرب، و منه يقال للشي ء المذاب منصهر، لأنه يقترب بعضه إلى بعض وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً أي قادرا على كل شي ء، و لذا خلق هذه المخلوقات المدهشة، بهذا النظام و الكيفية العجيبين.

[56] إن الله سبحانه هو الذي خلق كل شي ء، كما نشاهد في الآيات الكونية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 23

[سورة الفرقان (25): الآيات 56 الى 57]

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)

وَ مع ذلك يَعْبُدُونَ أي هؤلاء المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه سبحانه ما لا يَنْفَعُهُمْ بذاته وَ لا يَضُرُّهُمْ فإن الأصنام أشياء جامدة لا تقدر على النفع و لا الضرر و المراد لا ينفعهم إن عبدوها، و لا يضرهم إن لم يعبدوها وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً الظهير العون، أي أن الكافر يعين الشيطان على ضد ربه و إلهه بينما اللازم على الإنسان العاقل أن يعين ربه على عدوه لا أن يعين عدوه ضد ربه.

[57] وَ ما أَرْسَلْناكَ يا رسول الله إِلَّا مُبَشِّراً لمن آمن و أطاع بالثواب وَ نَذِيراً لمن كفر أو عصى بالعقاب، فليس عليك انحراف هؤلاء، و إنما أنت مبلغ و مرشد فمن قبل فلنفسه و من أبى فعليها.

[58] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ و الإرشاد مِنْ أَجْرٍ و ثمن تعطونه لي عوض تبليغي و أتعابي إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا إما أن الاستثناء منقطع بمعنى أنه ما أسألكم إلا أن تتخذوا سبيلا إلى ربكم، و قد ذكرنا سابقا أن

المستثنى منه لأنه مشتمل على أصل شي ء و قيده، فقد يستثني من الأصل و يكون الاستثناء حينئذ منقطعا و قد يستثني من مجموع القيد و المقيد فيكون الاستثناء متصلا، و إما أن الاستثناء متصل، و المراد أني لا أسألكم أجرا و لكني لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضات الله سبحانه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 24

[سورة الفرقان (25): الآيات 58 الى 59]

وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)

و لا يخفى أن الخمس ليس أجرا، بل هو تعيين قسم من المال لقسم من الفقراء.

[59] وَ تَوَكَّلْ يا رسول الله، و معنى التوكل إيكال الأمر إلى الغير عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ فإنه خير من وكله الإنسان، إذ هو لا يموت فيضطرب أمر الوكالة، و قيد «الذي لا يموت» للتخصيص، إذ سائر الأحياء يموتون، توكل عليه، في أمر التبليغ و ما تلاقيه من العنت و الإرهاق في سبيل الدعوة وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي نزهه تنزيها بالثناء، فإن التنزيه يكون بنفي النقائص و قد يكون بإثبات الكمالات المستلزمة لنفي النقائص وَ كَفى بِهِ الضمير فاعل كفى، و أدخل حرف الجر على الفاعل، لأنه بمعنى اكتفى به بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي عالما، فإنه يعلم ما يذنب العباد و سيجازيهم عليه، فلا تهتم بكفر الكافرين فإن حسابهم على الله، و إنما أنت مبلغ تسبح بحمد الله، و تتوكل في أمرك عليه.

[60] ثم يبين السياق وصف الإله ليوقظ في الناس ما فطر فيهم من أنّ الكون لا بد له

من خالق فرجعوا إلى ما غفلوا عنه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من أنواع الملائكة و البشر و الحيوان و سائر المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ و خصوصية ستة أيام لأجل أنه أحد أفراد التحديد، كما في خصوصية الإبطاء، مع أنه تعالى كان قادرا على أن يخلقها في لمح البصر لما عليه سنّة الله من تدريجية تكوينه في هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 25

[سورة الفرقان (25): آية 60]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً (60)

الكون، كما نشاهد أن الزرع و الجنين و غيرهما بحاجة إلى زمان حتى وقت الإكمال ثُمَّ اسْتَوى أي استولى عَلَى الْعَرْشِ بمعنى الإحاطة على الكون، و هذا كما يقال: بنى الملك المدينة ثم استقر على السرير، يراد أنه أحاط بالسلطة، لا أن هناك سريرا جلس عليه، و الإتيان ب «ثم» مع أن الاستيلاء كان من الأول، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و كأن الإتيان بهذا الكلام لإفادة أن مثل هذا الإله يلزم التوكل عليه، فإنه لا يخيب من فوض أمره إليه الرَّحْمنُ قالوا: بأنه خبر، ل «الذي» أي أنه هو الرحمن الذي يتفضل بالرحم على كل شي ء فما أجدر بالإنسان أن يكل أموره إليه فَسْئَلْ يا رسول الله بِهِ أي بواسطته خَبِيراً و المعنى إن تسأله عن شي ء فإنه خبير بذلك الشي ء، و هذا كناية عن أنه عالم بكل شي ء فإخباره عن أي شي ء كان، مطابق للواقع، و قد ذكر أهل الأدب إن من البلاغة أن يتوهم الإنسان شيئا على وصفين، وصف الأصالة و وصف التوسط، ثم يقصد الأصيل بواسطة المتوسط، كما يقال: شربت به ماء، و الضمير

للماء، أو قتلت به كافرا، أو وجدت به عالما متحدثا، و هكذا، و هذه الجملة لإفادة إن أخباره في أصل الخلقة هو الحق.

[61] وَ بعد هذه الآيات الكونية، و الإلفاتات الجمّة إِذا قِيلَ لَهُمُ أي للكفّار اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ و اخضعوا له، فإنه الخالق الراحم قالُوا على طريق الكبر و الاستعلاء وَ مَا الرَّحْمنُ و قد أتوا بلفظ «ما» الذي هو لما لا يعقل استهزاء، فقد كانوا لا يعترفون بهذا «اللفظ» من جملة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 26

[سورة الفرقان (25): الآيات 61 الى 62]

تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً (61) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)

سخافاتهم الكثيرة أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا استفهام إنكار، أي نترك آلهتنا و نسجد لمن لا نعترف به وَ زادَهُمْ ذكر الرحمن نُفُوراً أي تنافرا عن الحق و الإيمان.

[62] و ارتد السياق ليبين جملة أخرى من الآيات الكونية تَبارَكَ أي تعالى و تقدس الإله الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً من برج إذا ظهر، و هي البروج المعروفة الإثنى عشر، و هي منازل للكواكب السبع السيارة، أو يراد هنا بالبروج نفس الكواكب، لظهورها وَ جَعَلَ فِيها أي في السماء، و هي سماعي سِراجاً أي مصباحا هي الشمس وَ قَمَراً مُنِيراً أي مضيئا.

[63] وَ هُوَ الإله الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً أي يخلف أحدهما الآخر، فإن «خلفة» هي كل شي ء بعد شي ء، و تقديم الليل- في الكلام- لأنه أشبه بالأصل، إذ النور يشقه و يمحيه لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يتفكر و يستدل بذلك على الإله، فإن الغاية من خلق الأشياء هو الإنسان، و الغاية

من خلق الإنسان العبادة، و هي لا تتحقق إلا بالمعرفة، فصح أن يقال: خلقهما للتذكر، و سمي تذكرا لما أودع في فطرة الإنسان من الاعتراف، و إنما الأشياء مذكرات أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي أراد شكر النعمة فإنهما نعمتان عظيمتان و من أهم ما يوجب الشكر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 27

[سورة الفرقان (25): الآيات 63 الى 65]

وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً (64) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65)

[64] و بعد الإلفات إلى هذه الآيات نرى عباد الله العقلاء يخضعون لله سبحانه، و يعتدلون في سلوكهم، و ينتهجون المنهج المقرر لهم وَ عِبادُ الرَّحْمنِ في مقابل الذين كانوا ينفرون من اسم الرحمن الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً هذا خبر «عباد الرحمن» و المعنى مشيهم مشية المتواضع، فيمشون هينا بسكينة و وقار، و لا يمشون بكبرياء و تجبّر، فإن «هون» مصدر «هين» وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ بخطاب يكره و يثقل على الإنسان قالُوا في جواب الجهال سَلاماً أي سدادا من القول، و ما يوجب السلامة، لا ما يوجب الخصام و النزاع، فليس المراد هذه اللفظة بالذات، بل المعنى الدفع بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «1».

[65] وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ من بات بمعنى أوصل الليل بالصباح لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً جمع ساجد و قائم، و إنما خص الليل، لأن العبادة فيه أشق و أبعد من الرياء و أقرب إلى فراغ القلب، و لعلّ تخصيص هذين الأمرين، لأنهما الأكثر في العبادة دون

الركوع و الجلوس.

[66] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ بمعنى عدم الوقوع

______________________________

(1) فصلت: 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 28

[سورة الفرقان (25): الآيات 66 الى 68]

إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (66) وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68)

فيها، و كأن التعبير بلفظ الصرف، لأجل استحقاق الناس للنار بأعمالهم، فالمطلوب صرفها إِنَّ عَذابَها أي عذاب جهنم، فإنها مؤنثة سماعية كانَ غَراماً أي غرامة تلحق الإنسان أو لازما دائما، و إنما سمي الغريم غريما لملازمته و إلحاحه، و فلان مغرم بفلان أي ملازم له عاشق.

[67] إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً أي أن جهنم بئس موضع قرار و إقامة.

[68] وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا في سبيل الله لَمْ يُسْرِفُوا بأن يكون إنفاقهم في غير محله، أو زيادة لا يعترف بها الشرع وَ لَمْ يَقْتُرُوا من القتر، بمعنى البخس و عدم الإعطاء بقدر الحق الذي أمر به الشرع وَ كانَ إنفاقهم بَيْنَ ذلِكَ الذي ذكر من الإسراف و الإقتار قَواماً و هو ما أقام الإنسان، أي إنفاقا يقيم الإنسان، فلا يدخله في المبذرين و لا في البخلاء، أو كان إنفاقا ذا قوام، وسطا بدون إسراف و تقتير.

[69] وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا يجعلون له سبحانه شريكا، بل يوحّدونه، و يوجهون عبارتهم إليه وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ أي الإنسان الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها، و إتيان الضمير المؤنث، لأن النفس مؤنث سماعي إِلَّا بِالْحَقِ لأجل كونه كافرا حربيا، أو

لأجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 29

[سورة الفرقان (25): الآيات 69 الى 70]

يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)

القصاص، أو الحد، أو ما أشبه ذلك، و الاستثناء من الأصل، و قوله «حرم الله» تلميح إلى وجه عدم إقدامهم على القتل وَ لا يَزْنُونَ و هو الفجور بالمرأة وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الذي ذكره من الشرك و القتل و الزنى، و إنما خص هذه الأمور، ليشرعها عند الجاهليين، بل و حتى الآن، و كونها من أعظم المعاصي الموجبة للفساد، في العقيدة، أو في الحياة يَلْقَ أَثاماً أي عقوبة و جزاء على ما عمل يقال: أثمه الله أي جازاه جزاء الإثم.

[70] يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ و لعلّ المراد المضاعفة بالنسبة إلى سائر المعاصي، يعني إن عذاب هؤلاء أكثر من عذاب غيرهم، و إن كان بقدر استحقاقهم وَ يَخْلُدْ أي يبقى دائما فِيهِ أي في العذاب مُهاناً في حال كون ذاك العذاب على وجه الإهانة، و من المعلوم أنّ الخلود بالنسبة إلى الكفار لا بالنسبة إلى المؤمن فإنه تدركه الشفاعة.

[71] إِلَّا مَنْ تابَ أي رجع إلى الله سبحانه عما اقترفه من الآثام وَ آمَنَ فإن الإيمان في أثر التوبة؟ و لذا ذكر بعقبها وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً المراد به الجنس، أي أتى بجنس العمل الصالح، الذي يصلح لإسعاد الإنسان فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي يمحي عنهم السيئات و يكتب مكانها حسنات، و من المحتمل أن يراد إعطاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 30

[سورة الفرقان (25): الآيات 71 الى 72]

وَ مَنْ تابَ وَ

عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)

الثواب على نفس السيئة التي ارتكبها، بعد أن آمن و عمل صالحا و تاب، فمثلا كان قد زنى، فإنه إذا تاب توبة نصوحا، أعطاه سبحانه ثواب النكاح لزناه ذلك- كما قال بذلك بعض- وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يغفر الذنب لمن أذنب رَحِيماً يتفضّل عليهم، فليس غفرانا مجردا، بل مغفرة و فضلا.

[72] وَ مَنْ تابَ مما سلف عنه من المعاصي وَ عَمِلَ عملا صالِحاً بأن صحت عقيدته و عمله فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أي أنه هو الذي يرجع إلى الله مَتاباً أي رجوعا حقيقيا، أما من آمن و لم يعمل صالحا، أو عمل صالحا و لم يؤمن فإنه لم يرجع إليه حقيقة، إذ لو اعترف الإنسان بالله اعترافا عميقا لا بد و أن يؤمن و يعمل صالحا أو المراد أنه يرجع إليه مرجعا عظيما من قبيل فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ «1» و «المتاب» مصدر ميمي، من تاب بمعنى رجع.

[73] وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ شهادة الزُّورَ أي الكذب، و أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حق، من «زوّره تزويرا» وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي الباطل، أو الشامل له و لما لا فائدة فيه- كما هو الظاهر- مَرُّوا كِراماً جمع كريم، أي يفعلون عند مشاهدة الباطل، ما يفعله الإنسان الكريم الرفيع النفس، ففي مقام النهي ينهون، و في مقام السكوت

______________________________

(1) طه: 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 31

[سورة الفرقان (25): الآيات 73 الى 74]

وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً (73) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا

قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)

يسكتون، و في مقام التأديب يتأدبون، و هكذا، يقال: تكرم فلان عما يشينه أي تنزه، و أكرم فلان نفسه، أي لم يهو بها في مهوى المهانة و الانحطاط.

[74] وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا أي ذكرهم الناس، أو ذكرتهم الحياة، بأن رأوا صاعقة تلفت الأنظار، أو زرعا جميلا يذكّر خالقه، و هكذا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالة على وجوده و صفاته و سائر الشؤون المتعلقة به لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها أي لم يقعوا على تلك الآيات صُمًّا جمع أصم وَ عُمْياناً جمع أعمى، أي لم يطلعوا عليها اطلاع الأصم الأعمى الذي لا يرتب الأثر إذ لا يسمع و لا يبصر، فإن الإنسان إنما يرتب الأثر على الأشياء من جهة السماع أو الإبصار، و كأن الإنسان الأصم الأعمى يقع على الشي ء المرغوب فيه بلا استفادة منه، أو المنفور منه بلا فرار عنه، يخر على الأوراد، و على الكنيف، و هذا كناية عن عدم الاستفادة، بخلاف السميع البصير، فإن السميع يجلبه الترغيب و ينفّره الإنذار، و البصير يرى فيقدم أو يحجم، و المؤمن يسمع الآيات، و يشاهد الآثار، فيرتب الأثر، بخلاف الكافر.

[75] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ من دعائهم، يا رَبَّنا هَبْ لَنا أي أعطنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا أي أولادنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي أولاد تقرّ بهم العين، و هو كناية عن الولد الصالح، فإن الإنسان إذا صلح ولده أو سرّ بشي ء آخر، قرّت عينه، بخلاف الإنسان المحزون الذي أصيب ببؤس أو ولد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 32

[سورة الفرقان (25): الآيات 75 الى 77]

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي

لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

سيئ، فإنه يقلّب طرفه هنا و هناك ليجد ملجأ أو حيلة للتخلص، و قوله مِنْ أَزْواجِنا يراد الأولاد الصلبيين، و «ذرياتنا» الأحفاد وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي نكون أئمة أهل التقى، و ذلك لا للاستعلاء، بل لأن ينالوا تلك الدرجات الرفيعة التي يحصل عليها الإنسان في الآخرة، إذا أرشد و أفاد إرشاده التقوى، إذ معنى الإمامة للمتقي أن يكون مصدرا للتقوى.

[76] أُوْلئِكَ الذين هذه صفاتهم يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أي يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة، فاللام في الغرفة، للعهد الذهني بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على طاعة الله سبحانه، و ثباتهم على أوامره و نواهيه وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً أي تتلقاهم الملائكة فيها بالتحية و السلام، كأن يقال لهم «حياكم الله حياة طيبة، و سلام عليكم» أو كناية عن الترحيب بهم.

[77] في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي في الغرفة- أي الجنة- فهم دائمون لا يزالون هناك في نعيم جسمي و روحي حَسُنَتْ تلك الغرفة مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً أي محل استقرار و إقامة، فالإنسان فيها مستقر غير متزلزل، باق غير متحول.

[78] و إذ بيّن سبحانه أدعية المؤمنين، بعد ما بين أنهم آمنوا و عملوا صالحا، قال قُلْ يا رسول الله، للناس ما يَعْبَؤُا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 33

بِكُمْ رَبِّي أي ما يبالي بكم الله، يقال لم يعبأ به أي لم يبال به، فكان وجوده و عدمه سواء لَوْ لا دُعاؤُكُمْ أي توجّهكم إلى اللّه سبحانه فإن البشر هيّن في جنب الله لا شأن له لو لا أن يتوجه إليه سبحانه فتكون له قيمة بهذا الترفع الذي يحصّله من جراء توجهه إلى الله تعالى فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيها الكفار

ما أخبرتكم به من المبدأ و العقيدة و المعاد فَسَوْفَ يَكُونُ التكذيب، أي جزائه المترتب عليه من النار و النكال لِزاماً أي ملازما لكم لا يفارقكم، و لا يخفى أن من مصاديق «دعاؤكم» هو الدعاء المعتاد الذي ندعو الله به لقضاء حوائجنا، و لذا جي ء بهذه الآية هنا، حيث تقدم دعاء المؤمنين، و إن كان الظاهر أن قوله: «لو لا دعاؤكم» يراد به التوجه إلى الله سبحانه بالإيمان و العمل الصالح و الدعاء و غيرها- بصورة عامة- كما يناسب ذلك «فقد كذبتم»، و من هذا يعرف ما للدعاء من الأهمية، فقول بعض المنحرفين: إن الدعاء لا ثمره له إذ لو قدّر شي ء يكون، و لو لم يقدّر لا يفيد الدّعاء، هو غلط، إذ التقدير: أن يكون ذلك الشي ء بالدعاء كما أن التقدير أن يأكل الإنسان الشي ء و يحصّل على الشي ء بالعمل و الطلب، و الله الهادي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 34

26 سورة الشعراء مكية/ آياتها (228)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «الشعراء» و ما يتعلق بهم. و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، قالوا: إنها مكية إلا من قوله «و الشعراء .. إلى آخر السورة». و حيث ختمت سورة الفرقان بقصة تكذيب الكفار للرسول، جاء مفتتح هذه السورة تسلية للرسول أن لا يهتم بهم بعد الإنذار.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع بذكر اسم الإله الذي له كل شي ء، و من أبرز صفاته الرحم، مما يحتاج إليه الإنسان في كل خطوة من خطى الحياة، فإن الإنسان مجموعة نواقص، فلو لا رحمه سبحانه لتكميله من آنات الحياة، لذهب عاطلا لا ينتفع و لا ينتفع به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 35

[سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)

[2] طسم «طاء» و «سين» و «ميم».

[3] تِلْكَ الحروف و ما يجانسها من حروف الهجاء آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الواضح الظاهر الذي لا ريب فيه و لا غموض، فإن كان مكذوبا، فأتوا بمثله إذ هو مركب من لغتكم و حروفكم التي تلهجون بها طيلة أعماركم، و قد ذكرنا سابقا، إن الإتيان بحروف خاصة ك «طاء» و نحوها من باب الإشارة إلى حروف الهجاء و إن «تلك» و ما أشبه مما يقع بعد هذه «المقطعات» خبر لمبتدأ هو تلك الحروف المقطعة، هذا على أحد الأقوال في معنى «الحروف المقطعة» و في إعرابها، و هناك أقوال أخر.

[4] لَعَلَّكَ يا رسول الله باخِعٌ نَفْسَكَ من بخع بمعنى أهلك، أي مهلك نفسك حزنا و أسفا، ب أَلَّا يَكُونُوا هؤلاء الكفار مُؤْمِنِينَ فقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحزن حزنا شديدا على عدم إيمانهم، فسلّاه الله سبحانه بذلك و «لعل» بمعنى «الاحتمال» و إنما يستعمل للترجّي، لأنه «احتمال المطلوب» و الجملة يراد بها النهي الإرشادي الإشفاقي، كما لا يخفى.

[5] إِنْ نَشَأْ جبر الناس على الهدى نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً أي معجزة مجبرة لهم على الإيمان فَظَلَّتْ أي صارت أَعْناقُهُمْ أي أعناق هؤلاء الكفار لَها لتلك الآية خاضِعِينَ و إنما نسب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 36

[سورة الشعراء (26): الآيات 5 الى 7]

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى

الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)

الخضوع إلى الأعناق لأنها أول ما يظهر عليها الخضوع تميل نحو الأرض، لكن الله سبحانه لا يشاء ذلك لأنه مخالف لكون الدنيا دار اختبار و امتحان، نعم وردت بعض الروايات الدالة على أنها تكون في زمان المهدي عليه السّلام «1».

[6] وَ ما يَأْتِيهِمْ أي البشر مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ «من» زائد لتأكيد العموم، و لعل الإتيان بلفظة «الرحمن» للدلالة على أن المراد بذلك الذكر ما يسبب لهم الرحمة مُحْدَثٍ أي جديد، كالقرآن إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ يعرضون عنه، فقد اعتاد الناس على أن لا يخضعوا إلا للتقاليد و إن رأوا الحق و الصدق في الشي ء الجديد، فقد كانوا يتعاملون مع كل كتاب جديد هذه المعاملة، من غير فرق بين التوراة و الإنجيل و القرآن، و سائر الكتب.

[7] فَقَدْ كَذَّبُوا بالقرآن، و المراد كفار مكة، فَسَيَأْتِيهِمْ أي عند الموت، أو في يوم القيامة أَنْبؤُا أخبار ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و المراد عاقبة أعمالهم، و هذا كما تقول لمن تريد تهديده، سأخبرك بما كنت تعمل.

[8] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي ألم ينظر هؤلاء الكفار إلى الآيات الكونية؟ فلينظروا

______________________________

(1) تأويل الآيات: ص 383.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 37

[سورة الشعراء (26): الآيات 8 الى 12]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)

إِلَى الْأَرْضِ ليروا كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي كل صنف من أصناف النبات كَرِيمٍ حسن نافع جميل، و المعنى ذي كرامة و رفعة.

[9] إِنَّ فِي

ذلِكَ الإنبات لَآيَةً دلالة على الإله و على صفاته وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بالله و بما يجب الإيمان به، عنادا و تقليدا لآبائهم.

[10] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لا يضره إعراض هؤلاء فإنه لَهُوَ الْعَزِيزُ له العزة و الغلبة الرَّحِيمُ فإنه يرحمهم مع قدرته كيما يندموا و يعودوا عن غيهم.

[11] ثم بدأ السياق ليذكر فصلا من قصة موسى عليه السّلام فيها العبرة و الذكر و التسلية للرسول و التبشير للمؤمنين بغلبتهم على أعدائهم و لو بعد حين وَ اذكر يا رسول الله إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي اذهب إليهم.

[12] ثم بين المراد بالقوم الظالمين بقوله قَوْمَ فِرْعَوْنَ و المراد هو و قومه، كما هو الشائع في مثل هذا التعبير أَ لا يَتَّقُونَ أي أما آن لهم أن يتقوا الكفر و العصيان؟ و هذا تعجب في لفظ الاستفهام، حكاية لما قاله سبحانه لموسى عليه السّلام.

[13] قالَ موسى عليه السّلام يا رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أي يكذبني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 38

[سورة الشعراء (26): الآيات 13 الى 15]

وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)

فرعون و قومه فيما أدعوهم إليه، و قد قال موسى ذلك تمهيدا لطلبه مؤازرته هارون له، و إلا لم يكن موسى عليه السّلام يريد بذلك الفرار عن حمل التبليغ.

[14] وَ يَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم المتوقع، و السبب أن الإنسان إذا كذب، هاج، و غلبته الحرارة فتنتفخ الرئة لجذب الهواء المبرّد للقلب، و بذلك يضيق الصدر الذي هو مكان الرئة وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي بالكلام، فقد كان

في لسان موسى عليه السّلام عقدة قبل أن يرسله الله تعالى ثم حل العقدة من لسانه فَأَرْسِلْ يا رب إِلى هارُونَ أخي ليكون رسولا معي يؤازرني في الرسالة.

[15] وَ لَهُمْ أي لقوم فرعون عَلَيَّ ذَنْبٌ هم يعتبرونه ذنبا، و إن لم يكن ذنب حقيقي، فقد سبق أن قتل موسى قبطيا حين تشاجر مع إسرائيلي، فعده آل فرعون ذنبا، و إن كان قتل موسى له بحق فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي يقتلني آل فرعون بمجرد ما يروني، قصاصا على قتيلهم.

[16] قالَ الله تعالى في جواب موسى كَلَّا لا تخف، فإنهم لا يتمكنون من إيذائك و قتلك، أما دعاءك بإطلاق لسانك فقد استجيب، و أما دعاءك أن نجعل هارون نبيا لك فقد قبلناه فَاذْهَبا أنت و أخوك إلى فرعون و ملأه بِآياتِنا أي الأدلة و المعاجز الدالة على التوحيد و الرسالة و المعاد إِنَّا مَعَكُمْ أي مع الجميع، أنتما و آل فرعون مُسْتَمِعُونَ فيكون ما يدار بينكم من الحديث بمسمع منّا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 39

[سورة الشعراء (26): الآيات 16 الى 19]

فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)

و هذا تشجيع لهما، إذ الإنسان إذا علم أنه بمنظر و مسمع الملك كان أربط جأشا و أقوى احتجاجا.

[17] فَأْتِيا فِرْعَوْنَ أي اذهبا إليه فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ إفراد لفظ «الرسول» باعتبار كل واحد واحد، أرسلنا الله إليك لندعوك إلى عبادته و طاعته و الإيمان بنا.

[18] و قد أمرك الله ب أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فإن فرعون كان

قد سجن جمعا من بني إسرائيل و هم أحفاد يعقوب عليه السّلام، كما قد استعبد جماعة آخرين منهم، و كان هؤلاء لهم صبغة التوحيد، و عدم عبادة فرعون، و لذا أمر الله موسى عليه السّلام أن يقول لفرعون، بإطلاق سراح بني إسرائيل، ليقودهم موسى عليه السّلام إلى حيث خيرهم و صلاحهم، بعد ما كانوا قلة مضطهدة.

[19] فأتى موسى و هارون فرعون، و بعد اللقاء، و بيان أنهما رسولان إليه، و أنّ الله يأمره بإطلاق سراح بني إسرائيل قالَ فرعون لموسى عليه السّلام أَ لَمْ نُرَبِّكَ يا موسى فِينا في منزلنا و محلنا وَلِيداً أي في حال كونك طفلا صغيرا أخذناك من البحر و ربيناك حتى صرت فتى قويا؟

وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي كنت في بلاطنا سنوات متعددة من عمرك، و هي اثنتي عشرة سنة، عل حديث، أو ثمانية عشر على قول؟

[20] وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ أي قتلت ذلك القبطي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 40

[سورة الشعراء (26): الآيات 20 الى 21]

قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)

وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنا و بما أنعمنا عليك، فقد خالفت طريقتنا بعد تلك النعم و ذلك الاجرام.

[21] قالَ موسى عليه السّلام في جواب فرعون: فَعَلْتُها أي فعلت تلك الفعلة و هي القتل إِذاً في ذلك الزمان وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ يقال يضل لمن انحرف عن الطريق، سواء أريد بالطريق طريق الحق، أم طريق الباطل، كما قال سبحانه وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ «1» يريدون: ضالون عن طريقنا الذي هو كفر، و لعل مراد موسى عليه السّلام ذلك، أي

أني ضال عن طريقتك يا فرعون، فلم يكن القتل إجراما كما تزعم أنت، و إنما كان ضلالا عن منهجك، و إلا فقد كان في موقعه حيث إنه قتل كافرا مهاجما على مسلم.

[22] فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ فإن موسى عليه السّلام لما قتل ذلك القبطي، قرر فرعون و ملأه أن يقتصوا من موسى، فجاءه رجل قائلا إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ «2» فخرج منها خائفا يترقب لَمَّا خِفْتُكُمْ على نفسي من القتل فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً بأن جعلني حاكما في الأرض فإن الحكومة ليست إلا لله و لمن وهبها له وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فقد أرسلني إليكم لأهديكم سبيل الرشاد.

______________________________

(1) المطففين: 33.

(2) القصص: 21.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 41

[سورة الشعراء (26): الآيات 22 الى 25]

وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ (25)

[23] قدّم موسى عليه السّلام جواب قول فرعون «فعلت فعلتك» لأنه كان إلصاق تهمة القتل، و من البلاغة أن يقدم الإنسان جواب الأهم من كلمات الخصم، لئلا يبقى و لو لمدة تعمل أثر الكلمات في أدمغة السامعين فيذهب بالموقف عن يد المتهم، ثم رجع عليه السّلام ليجيب عن كلامه الأول و هو امتنانه عليه بأنه ربّاه في قصره، فقال وَ هل تِلْكَ التربية نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ فإن تربيتك كانت من جهة أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي جعلتهم عبيدا مضطهدين، حتى اضطرت أمي لإلقائي في البحر لنجاتي من السفاكين الذين جعلتهم لقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل، إنها، بالأحرى، عليك لا لك، فلو لم تكن عبّدت بني إسرائيل لكفّلوني،

و لم يكون لك سبيل إليّ.

[24] قالَ فِرْعَوْنُ بعد أن انقطع عن المحاورة مع موسى حول التربية و الجريمة وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ أيّ شي ء هذا الذي تدعوني إلى عبادته، و كأنه لم يقل «من» استخفافا.

[25] قالَ موسى عليه السّلام في جواب فرعون: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي خالقهما و مبدعهما وَ ما بَيْنَهُمَا من الإنسان و الملك و الحيوان و الجماد و غيرها إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم أصحاب يقين لعلمتم أن لهذه الأشياء ربّا، و كأن في مقابل ذلك، من لا يبالي و لا يهتم حتى لا يعلم الارتباط و أن لكل شي ء مؤثرا، ككثير من الجهال.

[26] قالَ فرعون لِمَنْ حَوْلَهُ من الوزراء و الحكام أَ لا تَسْتَمِعُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 42

[سورة الشعراء (26): الآيات 26 الى 28]

قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)

إلى مقالة موسى؟ إني أسأله ما جنس الإله؟ و هو يجيب بما فعل و أبدع، و هذا الجواب ليس مرتبطا بالسؤال، لكن موسى عليه السّلام أراد بذلك أن يلقم فرعون الحجة، فهل يتمكن أحد أن ينكر أن للكون إلها؟ أما جنسه فهو غير مرتبط بهذا المقام.

[27] لكن موسى عليه السّلام لم يأبه لاستخفاف فرعون، و أخذ يسرد الحجج الدالة على وجوده سبحانه، كي يركّز الألوهية في الأذهان، و يتم الحجة ف قالَ ثانيا إن الله الذي أدعوا إليه رَبُّكُمْ أيها الملأ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ و في هذا كان ردا على فرعون إذ كان يدعي أنه الرب، فمن كان رب آبائكم هل هو فرعون؟ و هذا

ما لا يقول به، أم غيره؟ إذا ثبت بطلان ربوبية فرعون.

[28] و لما رأى فرعون أن موسى غلبه في الحجة، رماه بما يرمى به كل مصلح حين لا يقدر خصمه من إقامة المنطق ف قالَ فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ و الإضافة للاستهزاء الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ و ما يدعيه من الرسالة دعوى جنونية.

[29] لكن موسى عليه السّلام لم يهتم باتهام فرعون، بل أخذ يفيض في الكلام، مستدلا بالآيات الكونية على الله، موجها أنظار الملأ إليها ف قالَ موسى إن الله هو رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما من أصناف الخلق إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن أعملتم عقولكم لعلمتم أن لهذه الأشياء ربّا و خالقا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 43

[سورة الشعراء (26): الآيات 29 الى 34]

قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)

قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34)

[30] و هنا التجأ فرعون إلى التهديد ف قالَ مهددا لموسى عليه السّلام لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي بأن اعتقدت بإله آخر و دعوت إلى ذلك الإله لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أي أسجنك جزاء لهذه العقيدة.

[31] قالَ موسى عليه السّلام أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ أي هل تحبسني حتى إذا جئتك بدليل واضح دال على نبوّتي؟.

[32] قالَ فرعون فَأْتِ بِهِ أي جي ء بما تدعيه من الحجة و المعجزة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك النبوة.

[33] فَأَلْقى حينئذ موسى عليه السّلام على الأرض عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية عظيمة مُبِينٌ ظاهر واضح أنه ثعبان و

ليس شعوذة و سحرا.

[34] وَ أدخل يده في جيبه، أو تحت إبطه ثم نَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من ذلك المكان فَإِذا هِيَ اليد بَيْضاءُ منيرة كنور الشمس لِلنَّاظِرِينَ إليها، و لم يكن حديثا يسمع، و إنما رأوها رأي العين.

[35] قالَ فرعون لِلْمَلَإِ أي الأشراف و سموا ملأ لأنهم يملئون العيون هيبة حَوْلَهُ أي الذين كانوا حوله إِنَّ هذا الرجل، يعني موسى عليه السّلام لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسحر و الحيلة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 44

[سورة الشعراء (26): الآيات 35 الى 38]

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)

[36] و إنه إنما يدعي النبوة و يظهر السحر يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي مصر، لأنه لو سيطر، اضطر فرعون و الملأ أن يفروا منه، كما هي عادة الملوك لدى الانهزام بسبب سحره و هنا أراد فرعون أن يجلب انتباه الأشراف لئلا يميلوا إلى موسى، أليس يريد إخراجهم من أرضهم؟ فاللازم أن يقفوا صفا واحدا ضده فَما ذا تَأْمُرُونَ أيها الأشراف، أن نفعل ضد موسى؟

[37] قالُوا و قد خانوا موسى، و صدقوا مقالة فرعون أَرْجِهْ أخره، وَ أَخاهُ أي أبقهما عندك وَ ابْعَثْ أرسل فِي الْمَدائِنِ أي المدن المرتبطة بك جماعة حاشِرِينَ يحشرون و يجمعون لك السحرة، من «حشر» بمعنى جمع.

[38] يَأْتُوكَ أي الرسل الذين أرسلتهم لجمع السحرة، يأتون إليك بِكُلِّ سَحَّارٍ أي كثير السحر عَلِيمٍ في علم السحر، حتى يقابلوا موسى في سحره فإذا جاءوا و أظهروا تفوقا عليه بطل سحر موسى، و انفضح أمام الناس، و بطلت حجته، فلم يتبعه أحد حتى يخشى

منه.

[39] و ذهبت الرسل إلى البلاد و أخبروا السحرة بأن فرعون يطلبهم و يدعوهم إلى أن يحضروا أرض مصر فَجُمِعَ السَّحَرَةُ جمع ساحر لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي لوقت يوم خاص، فإن «ميقات» اسم للزمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 45

[سورة الشعراء (26): الآيات 39 الى 42]

وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)

و للمكان، و المراد باليوم المعلوم، يوم الزينة، فقد كان لهم يوم عيد يخرج فيه الجميع خارج المدينة، للمعايدة.

[40] وَ قِيلَ أي قال فرعون و ملأه لِلنَّاسِ و هم أهل مصر هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ هذا طلب بصورة الاستفهام؟ نحو قوله (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) «1».

[41] لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أي السحرة المعارضين لموسى، و المراد باتباعهم عدم ترك دينهم إلى دين موسى، فكنى عن ذلك باتباع السحرة، لتقابله مع أتباع موسى عليه السّلام إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على موسى و هارون.

[42] فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ و حضروا بين يدي فرعون قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً، هل لنا أجر و جزاء عندك إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ على موسى و هارون؟

[43] قالَ فرعون نَعَمْ لكم الأجر و الجزاء وَ إِنَّكُمْ بالإضافة إلى ما تعطون من الجزاء إِذاً أي إذا غلبتم عليهم لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي أقربكم إلى نفسي، حتى تكونوا من خواصي، فلكم المال و الجاه معا.

______________________________

(1) النازعات: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 46

[سورة الشعراء (26): الآيات 43 الى 46]

قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ

إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46)

[44] و اجتمع الجميع في يوم الزينة، و اصطف الطرفان، فهنا موسى و هارون، و هناك فرعون بملئه و السحرة و سائر النظارة قالَ لَهُمْ أي للسحرة مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ تحداهم عليه السّلام بذلك، بأن يأتوا بما عندهم من أنواع السحر حتى يبطلها، و ليس هذا طلبا حتى يقال:

كيف يطلب النبي السحر و هو حرام؟

[45] فَأَلْقَوْا أي السحرة حِبالَهُمْ جمع حبل وَ عِصِيَّهُمْ جمع عصا، فقد صوروا الحبال و العصي بصورة الحيّات و لونوها و طلوها بالزئبق و غيره، بحيث تتحرك فيظن الناس أنها حيات و ثعابين وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ حلفوا بذلك، و أصل الحلف أن الإنسان يبدي ما في ضميره مبينا أنه مؤكد عنده بسبب ربط كلامه بشي ء عظيم واقعا، أو عند الاجتماع، و كأنه يريد أن يبين أن مسلمية ما يقول كمسلمية ذلك الشي ء العظيم، و العزة هي القوة و الغلبة إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ زعما منهم أن موسى لا يقدر على ما قدروا عليه.

[46] فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ أي ألقاها من يده فَإِذا هِيَ تنقلب حية عظيمة تَلْقَفُ أي تأكل بالتهام ما يَأْفِكُونَ أي إفكهم و هو الكذب، لأن حياتهم كانت مكذوبة لا حقيقة لها.

[47] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ فإنهم قد رأوا الحق في موسى عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 47

[سورة الشعراء (26): الآيات 47 الى 49]

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)

و عصاه، إذ هم

أهل خبرة بالسحر، و علموا أن عصاه ليست بسحر، فاندهشوا بحيث ملكهم الأمر و ألقوا أنفسهم للسجود لله سبحانه إظهارا لاستسلامهم و خضوعهم، و الإتيان ب «ألقي» مجهولا، للدلالة على دهشتهم حتى كأنهم لم يسجدوا اختيارا، و إنما اضطرارا من أنفسهم، فقد حدث في حالة ألقتهم إلى السجود.

[48] قالُوا أي السحرة آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ صدقنا بأنه الإله، لا فرعون و الأصنام.

[49] رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ و إنما عطفوا بذلك، لئلا يتوهم أن مرادهم برب العالمين هو «فرعون» إذ فرعون كان يقول أنا ربكم الأعلى.

[50] و عند ذلك سقط فرعون في يده، إذ ظهرت غلبة موسى أمام الجماهير فتوجه إلى السحرة مهددا لهم قالَ كيف آمَنْتُمْ لَهُ أي لرب العالمين، أو لموسى قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ و قد كان فرعون يرى نفسه فوق الكل حتى أنه لو أراد أحد الإيمان كان اللازم أن يستأذنه، ثم أراد أن يموه الأمر على السذج فقال إِنَّهُ أي موسى لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فهو أستاذكم و معلمكم و قد تواطأتم أنتم و موسى على هذا الأمر، بأن يأتي هو بسحر فوق سحركم حتى تظهروا للناس أنه نبي و تسيطروا على الأمر فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ العقاب الذي يحل عليكم، ثم فسر ما هدده بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي اليد من جانب و الرجل من جانب، و هذا أبلغ في التنكيل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 48

[سورة الشعراء (26): الآيات 50 الى 52]

قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)

من قطعها من طرف واحد وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ

و الصلب هو أن يعلق الجسم بعمود طويل إما بدق الجسم عليه بالأوتاد، أو بربطه بالحبل و نحوه، فيموت فورا أو بعد زمان.

[51] قالُوا أي قالت السحرة المؤمنون في جواب فرعون لا ضَيْرَ أي لا ضرر علينا مما تفعله بنا، يقال: ضاره يضيره ضيرا، بمعنى يضره ضررا، ف إِنَّا إِلى رَبِّنا الله مُنْقَلِبُونَ راجعون إلى ثوابه و لطفه فيجازينا على إيماننا و صبرنا بما هو خير لنا من الدنيا، و من المعلوم أن الإنسان لا يعد الألم القليل لفوائد كثيرة ضررا، قال بعض المفسرين:

إن فرعون لم يقدر على قتل أحد من السحرة، و قد ورد أن جمعا آمنوا بموسى فحبسهم مع السحرة، حتى أرسل الله على آل فرعون الجراد و القمل و الضفادع، فأطلق سراحهم.

[52] إِنَّا نَطْمَعُ أي نرجو أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا السالفة من الكفر و السحر و العصيان، حيث أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بموسى عليه السّلام و بما دعانا إليه، فإن أول الناس إيمانا أعظم أجرا، لما يتوجه إليه من الخطر و الضرر الذين لا يتوجهان إلى سائر المؤمنين من بعده.

[53] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد ما أطلق فرعون عن بني إسرائيل و سائر المؤمنين أَنْ أَسْرِ أي سر ليلا إلى خارج مصر بِعِبادِي أي مع عبادي المؤمنين إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي أن وجه الأمر بالسير ليلا، إنكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 49

[سورة الشعراء (26): الآيات 53 الى 57]

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (57)

إن سرتم نهارا يتبعكم الطلب ليحولوا بينكم و بين الخروج من مصر، أو هذا إخبار بأن فرعون

يتبعهم فليعلموا ذلك سلفا.

[54] و حيث تقابل قومي موسى و فرعون من حيث المؤمنين بالطرفين، تفكر فرعون لصد الناس عن الإيمان بجمع الجيش لمحاربة موسى فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ جمع مدينة، أي البلاد التي كانت تحت سلطته حاشِرِينَ أي أناسا حاشرين، من حشر بمعنى جمع، أي جماعة يجمعون المال و العسكر، لتهيئة حرب تبيد موسى و المؤمنين به معا.

[55] قال فرعون لمن حوله إِنَّ هؤُلاءِ أي موسى و المؤمنين به لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ أي عصابة من الناس قليلة، فإن شرذمة كل شي ء بقيته القليلة، و في بعض التفاسير أنهم كانوا ستمائة ألف، فقد أراد التقليل لهم و التنقيص من شأنهم.

[56] وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ يقال غاظه أي أغضبه، أي أغضبونا حيث خالفوا معنا في الطريقة، و هكذا يقول المتكبرون دائما و كأنهم هم المحور حتى أن إغضابهم يوجب النكال و التدمير.

[57] وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ أي جماعة حاذِرُونَ أي خائفون شرهم، من «حذر» بمعنى خاف و استعمل الحزم في الأمور.

[58] و خرج موسى عليه السّلام و قومه ليلا من مصر، و اتبعهم فرعون بعد ما عرف خروجهم بجيشه الجرار، يريد حربهم أو إرجاعهم، و هكذا أخرج الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 50

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 99

[سورة الشعراء (26): الآيات 58 الى 61]

وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)

فرعون من البلاد كما قال فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون و آله مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَ عُيُونٍ جمع عين، أي: العيون الجارية في أراضيهم و بساتينهم.

[59] وَ كُنُوزٍ جمع كنز، و هو المال المخبأ، أي عن أموالهم الثمينة التي

اختزنوها وَ مَقامٍ كَرِيمٍ مقامهم المتصف بالكرامة، لأنهم كانوا يكرمون في ذلك المقام.

[60] كَذلِكَ الأمر قد كان وَ أَوْرَثْناها أي تلك النعم من الجنات و العيون و الكنوز و المقام الكريم بَنِي إِسْرائِيلَ المؤمنين بالله، فإن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر و صاروا فيها سادة.

[61] و بعد بيان تلك الخاتمة- فورا- يأتي السياق لبيان القصة كيف صار الطرفان، و هل تلاقيا فَأَتْبَعُوهُمْ أي أتبع فرعون و آله، لموسى و المؤمنين مُشْرِقِينَ أي حين شروق الشمس و ظهور ضوئها، بعد أن خرج موسى و المؤمنون، ليلا، و ساروا مسافة طويلة، و وصل موسى و المؤمنون إلى البحر، و ها هم يرون فرعون بجيشه يتبعهم، فما ذا يصنعون؟

[62] فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقابل جمع موسى مع جمع فرعون، بحيث رأى كلّ صاحبه قالَ أَصْحابُ مُوسى في خوف و اضطراب إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي سيدركنا جماعة فرعون و لا طاقة لنا بهم، فإنهم لم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 51

[سورة الشعراء (26): الآيات 62 الى 65]

قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)

يكونوا حملوا السلاح للمقاتلة.

[63] قالَ موسى عليه السّلام كَلَّا لا يدركونا، ثقة منه عليه السّلام بنصر الله تعالى إِنَّ مَعِي رَبِّي أي معي نصرته و لطفه سَيَهْدِينِ أي سيرشدني إلى طريق النجاة.

[64] فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ و هو البحر الأحمر الذي وصلوا إليه، فضرب موسى عصاه على البحر كما أمر الله سبحانه فَانْفَلَقَ البحر أي انشق، و ظهر فيه اثني عشر طريقا بين كل طريقين حاجز من

الماء، و ظهر القعر يابسا فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي كل قطعة من البحر، التي كانت حاجزة بين طريق و طريق كَالطَّوْدِ أي الجبل الْعَظِيمِ جبل من الماء ممتد عبر البحر، و طريق، ثم جبل و طريق، و هكذا إلى اثني عشر طريقا وسيعا جافا في قلب البحر.

[65] وَ أَزْلَفْنا أي قربنا، من زلف بمعنى قرب ثَمَ أي هناك، نحو البحر الْآخَرِينَ أي فرعون و قومه، قربناهم إلى البحر، فإنهم اقتربوا ليحاربوا موسى و من معه، و نسبة الإزلاف إليه سبحانه، لأنه هو الذي أمر موسى بالخروج، فهو السبب الأول لإخراج فرعون.

[66] و لما وصل فرعون إلى البحر، و رأى أن موسى و أصحابه في وسطه، دخل البحر ليدرك موسى وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ حيث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 52

[سورة الشعراء (26): الآيات 66 الى 70]

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70)

وصلوا إلى ساحل البحر سالمين، حين وصل فرعون بجيشه منتصف البحر.

[67] ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ بأن أمرنا ماء البحر أن يرجع إلى محله، فتلاطم الماء و انصبّ على فرعون و جيشه فغرقوا.

[68] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من نصرة موسى على فرعون لَآيَةً أي دلالة على نصرة الله للمؤمنين على الكافرين، أو دلالة على الله و صفاته و سائر شؤونه وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر الناس مُؤْمِنِينَ مصدقين بهذه الآيات، أو أن آل فرعون رأوا تلك الآية فما آمنوا، فلا تستوحش يا رسول الله من عدم إيمان قومك.

[69] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا

رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الغالب، كما غلب على فرعون و قومه الرَّحِيمُ بخلقه، و من رحمته سبحانه أنه، يمهلهم، مع كفرهم و معاصيهم، حتى إذا لم يبق أمل في إيمانهم أهلكهم، أو المراد أنه عزيز غالب على الأعداء، رحيم عطوف بالمؤمنين.

[70] وَ اتْلُ يا رسول الله، أي اقرأ عَلَيْهِمْ أي على الناس نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي خبره، و فيه تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عظة للعرب الذين كانوا من نسله، حتى ينظروا إلى جدهم، و يتبعوا طريقته.

[71] إِذْ قالَ أي في زمان، و المراد تلاوة هذه القطعة من قصته لِأَبِيهِ آزر، و المراد عمه، فإن العرب تسمي العمّ أبا، لأنه بمنزلة الأب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 53

[سورة الشعراء (26): الآيات 71 الى 74]

قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74)

وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي أيّ شي ء هذا الذي تعبدونه من دون الله؟ قال ذلك على وجه الإنكار.

[72] قالُوا في جواب إبراهيم عليه السّلام نَعْبُدُ أَصْناماً جمع صنم فَنَظَلُّ لَها لتلك الأصنام عاكِفِينَ نعكف عليها و نقيم في عبادتها.

[73] قالَ إبراهيم عليه السّلام يريد إبطال عملهم، و أن عبادتهم لها في غير موقعها هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ أي هل تسمع هذه الأصنام كلامكم و دعاءكم؟ إِذْ تَدْعُونَ إياهم.

[74] أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ بجلب خير لكم؟ أَوْ يَضُرُّونَ بإيقاع ضرر عليكم؟

و إذ كان الجواب على ذلك بالسلب و النفي، فلما ذا تعبدون ما لا يسمع و لا يضر و لا ينفع؟.

أقول: و لم يكن للقوم أن يقولوا: نعم، في الجواب، إذ ذلك يحتاج إلى دليل، كما

أنه ليس للقوم النقض على إبراهيم بأن الله أيضا كذلك و يطلبوا الدليل، إذ الآثار تدل على المؤثر فهناك ما لا يحصى من الأدلّة على أن في الكون قوة خارقة تضر و تنفع و تخلق و تميت و تعطي و تمنع، و ما ذاك إلا الله سبحانه.

[75] قالُوا في جواب إبراهيم، إنما ليس لنا دليل على ألوهية هؤلاء، و إنما نعبدها تقليدا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا و أجدادنا كَذلِكَ الذي نفعل من عبادة الأصنام يَفْعَلُونَ فقلدناهم الأمر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 54

[سورة الشعراء (26): الآيات 75 الى 79]

قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79)

[76] قالَ إبراهيم عليه السّلام معلنا براءته من الأصنام بعد أن اعترف القوم بأنهم لا دليل لهم أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ من الأصنام.

[77] أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ المقدمون عليكم، «و أنتم» للماضي، أي الأصنام التي تعبدونها أنتم و كان آباؤكم يعبدونها.

[78] فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي فقد جعل الأصنام كالأعداء، لأنه كما يضر العدو، تضر الأصنام، فإن عبادتها تورث النار و الخزي، و الإتيان بضمير العاقل للأصنام بقوله «فإنهم» جريا على ما يراه القوم من عقلها، و تنسيقا للكلام الدائر بينه و بينهم إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ حيث إن قوله «ما كنتم» عام يشمل جميع معبوداتهم، و قد كانوا يعترفون بالإله، استثنى عليه السّلام عن قوله «عدو» الله سبحانه، فإنه الرحيم الخليل لإبراهيم دون سائر الأصنام.

[79] ثم أخذ عليه السّلام يصف الله سبحانه بالصفات التي هي له، و فيه تعريض بالقوم، بأنّ أصنامكم لا تضر و لا تنفع الَّذِي خَلَقَنِي

أخرجني من العدم إلى الوجود فَهُوَ يَهْدِينِ أي يهديني طريق السعادة، كما خلقني، كما قال سبحانه (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «1» [80] وَ الَّذِي هُوَ لا غيره يُطْعِمُنِي أي يعطيني الطعام، و سائر الناس

______________________________

(1) طه: 51.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 55

[سورة الشعراء (26): الآيات 80 الى 83]

وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)

وسائط، و إلا فالمطعم الحقيقي هو الله الذي خلق الطعام وَ يَسْقِينِ الماء إذا عطشت.

[81] وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أي يشفيني من المرض فهو الشافي حقيقة، و إنما الطبيب وسيلة.

[82] وَ الَّذِي يُمِيتُنِي إذا انقضى أجلي ثُمَّ يُحْيِينِ يوم القيامة للبعث و الحساب و سقوط ياء المتكلم في هذه الأفعال تخفيفا، لوضوحها بالإضافة إلى حصول التناسق بحذفها.

[83] وَ الَّذِي أَطْمَعُ أي أوجد أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي و الأنبياء معصومون، إلا أنهم يعدون حتى عملهم بالمباحات خطايا، إذا ما يعرفون من مقام الله و عظمته يقتضي أن يكونوا دائما في خدمته، حتى لا يشتغلوا بنوم أو أكل أو مباشرة، أ رأيت لو جاءك إنسان كبير، و أنت وسخ الثياب تعتذر منه و تخجل، و إن لم يكن ذلك سيئة، و كنت مضطرا إلى هذه الثياب؟ يَوْمَ الدِّينِ أي في يوم الجزاء.

[84] ثم توجه إبراهيم عليه السّلام إلى اللّه بالدعاء قائلا رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً فإن كون الإنسان حاكما في الأرض حكومة مشروعة لا يكون إلّا لله سبحانه، فإذا منحه لأحد كان حاكما شرعيا، و إن لم يمنحه كان غاصبا لا حق له فيه وَ أَلْحِقْنِي

بِالصَّالِحِينَ أي اجعلني في زمرتهم و معهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 56

[سورة الشعراء (26): الآيات 84 الى 89]

وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88)

إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

[85] وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ أي ثناء جميلا صادقا فِي الْآخِرِينَ أي الأمم التي تأتي من بعدي، فيثنون عليّ ثناء صادقا، بأن أكون قدوة لهم، فالمراد باللسان الثناء، بعلاقة الحال و المحل، و المراد بالصدق أن يكون الثناء صدقا، في مقابل الثناء الكاذب و قد أجاب الله سبحانه دعاء إبراهيم، فقد مرت عشرات القرون، و الأمم كلهم يثنون على إبراهيم، و يذكرونه بتجلة و إكبار.

[86] وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي الذين يرثونها كالإرث الذي ينتقل إلى الإنسان.

[87] وَ اغْفِرْ لِأَبِي بأن تهديه إلى الحق حتى يستحق الغفران إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ المنحرفين الذي ضلوا الطريق، و المراد «بأبي» عمه آزر، و إلّا فقد كان أبوه عليه السّلام مؤمنا راشدا.

[88] وَ لا تُخْزِنِي من الخزي، و هو أن يترك الإنسان لشأنه حتى يذل يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة، و هذا أيضا كما تقدم في قوله عليه السّلام «خطيئتي».

[89] يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ لإنجاء الإنسان من الهلكة، و إسعاده بالجنة وَ لا بَنُونَ يدافعون عن الإنسان، و يهيئون له المكان الحسن الوثير.

[90] إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي لا ينفع شي ء إلا القلب السليم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 57

[سورة الشعراء (26): الآيات 90 الى 94]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ

لِلْغاوِينَ (91) وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ (94)

و هذا استثناء منقطع، و قد ذكرنا وجهه سابقا، و أنه استثناء عن أصل المطلب، لا عن المطلب بقيوده، و المراد بالقلب السليم، القلب السالم عن المعاصي و الآثام، و إنما نسب إلى القلب لأنه مبعث الخيرات و الشرور.

[91] وَ يوم أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت، إما قربا زمانيا، لأن أيام الدنيا انقضت، و جاء دور الآخرة، و إما قربا مكانيا، فإنّ الأرض تكون ساحة الحشر، و الجحيم تظهر في أطباقها، و الجنة- التي لا تبعد أن تكون في أعالي الفضاء- تقرّب إلى الأرض ليراها المؤمنون لِلْمُتَّقِينَ الذين كانوا يتقون المحارم في الدنيا.

[92] وَ بُرِّزَتِ أي أظهرت، و المظهر هو الله سبحانه الْجَحِيمُ و هي جهنم- مؤنثة سماعا- لِلْغاوِينَ من غوى، بمعنى ضل، أي الضالين الذين أغواهم الشيطان، فعملوا الكفر و العصيان.

[93] وَ قِيلَ لَهُمْ أي للغاوين أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أي أين ذهبت الأصنام التي كنتم تعبدونها؟

[94] مِنْ دُونِ اللَّهِ أي عوض عبادة الله هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم، في هذا اليوم أَوْ يَنْتَصِرُونَ هم لأنفسهم بأن لا يكونوا حصب جهنم.

[95] فَكُبْكِبُوا أي جمعوا، بمعنى دفعوا و طرح فيها بعضهم فوق بعض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 58

[سورة الشعراء (26): الآيات 95 الى 100]

وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)

فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100)

فِيها أي في الجحيم هُمْ أي الآلهة وَ الْغاوُونَ أي الكفار الضالون الذين كانوا يعبدونها، أو

المراد ب «هم» هؤلاء عبدة الأصنام و سائر الغاوين كالطبيعيين و من إليهم.

[96] وَ كبكب فيها جُنُودُ إِبْلِيسَ من اتبعه من ولده و ولد آدم و عصاة الجن أَجْمَعُونَ حتى لا يبقى منهم أحد خارج النار.

[97] قالُوا أي قال هؤلاء الذين في النار وَ الحال أن هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يخاصم بعضهم بعضا.

[98] تَاللَّهِ قسم بالله، و التاء تأتي غالبا لأمر مستنكر أو غريب إِنْ أي إنه، ف «إن» مخففة حذف اسمها كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي واضح ظاهر.

[99] إِذْ نُسَوِّيكُمْ الخطاب للأصنام، و الإتيان بضمير العاقل، باعتبار جعلهم مخاطبين بِرَبِّ الْعالَمِينَ بمعنى إذ سويناكم بالله، و جعلناكم عدلا له، فعبدناكم من دونه، و هكذا يتبرّأ المشركون هناك من الأصنام.

[100] وَ ما أَضَلَّنا عن طريق الحق، إلى عبادتكم إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي كبرائنا الذين أجرموا فأغرونا عن الحق.

[101] ثم يتضرع المشركون إلى الناس كي ينقذوهم من العذاب قائلين في صورة استفهام و استعطاف فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يشفعون لنا كي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 59

[سورة الشعراء (26): الآيات 101 الى 105]

وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)

ننجو من العذاب؟

[102] وَ لا صَدِيقٍ أي و لا من صديق حَمِيمٍ أي ذي قرابة فإن الحميم هو القريب الذي ترده و يردك؟ و المعنى هل ليس لنا شافع من الأباعد أو صديق من الأقارب؟

[103] فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً يتمنون أن يكون لهم رجوع إلى الدنيا، من «كرّ» إذا رجع فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حتى إذا متنا ثانيا فزنا بالنعيم و تخلصنا

من الجحيم.

[104] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرناه من قصة إبراهيم عليه السّلام لَآيَةً أي دلالة على وحدة الله سبحانه و سائر صفاته و شؤونه و المعاد، أو حجة على هؤلاء القوم الذين يتمسكون بإبراهيم و يعتبرونه نبيا و جدا لهم وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر هؤلاء الذين عاصروك يا رسول الله، أو أكثر أولئك الكفار في زمن إبراهيم مُؤْمِنِينَ مصدقين، و إنما راكبون رؤوسهم يعاندون في الأمر.

[105] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الغالب على أمره، و بعزته يأخذ الكفّار و ينتقم منهم الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين فينصرهم، أو رحيم بالكفار فلا يعاجلهم بالعقوبة.

[106] ثم انتقل السياق من قصة إبراهيم عليه السّلام إلى قصة نوح شيخ المرسلين فقال سبحانه: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ و إنما دخلت التاء في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 60

[سورة الشعراء (26): الآيات 106 الى 110]

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (108) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (110)

كذبت، باعتبار الجماعة، كما قال ابن مالك:

و التاء مع جمع سوى السالم من مذكر كالتاء مع إحدى اللبن

ففي غير الجمع السالم يجوز إدخال التاء باعتبار الجماعة، و إنما قال «المرسلين» لأنّ تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الأنبياء.

[107] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ و سماه أخا، لأنه كان من قبيلتهم أَ لا تَتَّقُونَ عذاب الله؟ أي أ فلا تخافون من العذاب في تكذيبي و إصراركم على الكفر و العصيان؟

[108] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبل الله سبحانه أَمِينٌ على الرسالة فيما أقول لكم.

[109] فَاتَّقُوا اللَّهَ بتوحيده، و

إطاعته وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني فيما آمركم و أنهاكم.

[110] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على البلاغ و الإرشاد مِنْ أَجْرٍ «من» زائدة دخلت لتعميم النفي أي لا أطلب منكم أجرا و جزاء على الرسالة إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فهو الذي يعطيني جزائي و أجري.

[111] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ كرّر تأكيدا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 61

[سورة الشعراء (26): الآيات 111 الى 115]

قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)

[112] قالُوا أي قال الكفار في جواب نوح عليه السّلام أَ نُؤْمِنُ لَكَ أي كيف نصدقك وَ الحال أنه اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ أي سفلة الناس، و هو الحقير السافل، و المعنى أنا لا نستعد أن نردف أنفسنا بهؤلاء السفلة.

[113] قالَ نوح عليه السّلام في جوابهم وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا أعلم أعمالهم ما يصنعون، و هذا كناية عن عدم الارتباط بين إيمانهم و بين صنائعهم و أعمالهم، يقال: لا أعلم ماذا يقول فلان، و يراد لا أرتبط بقوله، فقد كان الأنبياء مكلّفين بالبلاغ و الإرشاد، أما أعمال الناس و ما كانوا في زمان كفرهم، فليس ذلك من مهمة الأنبياء.

[114] إِنْ حِسابُهُمْ أي ما حساب هؤلاء إِلَّا عَلى رَبِّي فهو الذي يحاسبهم على مهنهم و أعمالهم لَوْ تَشْعُرُونَ أي لو كنتم تشعرون ذلك و تعلمون إن حساب الناس على الله، لما عبتموني بأن أتباعي أراذل.

[115] وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي لا أطردهم لإرضائكم، و قد كان دأب الكبراء دائما ذلك، حيث يأنفون

أن يكونوا في صف الضعفاء، و لذا كانوا يشترطون على الأنبياء طرد أولئك حتى يؤمنوا، و هكذا قالوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[116] إِنْ أَنَا أي ما أنا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي منذر لكم عن عذاب الله و نكاله، واضح الإنذار و التخويف و هذا شأني أما أن أطرد بعضا لأقبل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 62

[سورة الشعراء (26): الآيات 116 الى 120]

قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120)

آخرين فلست بعامل ذلك.

[117] قالُوا أي القوم، لما انقطعوا عن الحجة لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عن هذه الدعوة التي تدعونا بها لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي الذين يرجمون بالحجارة.

[118] هناك دعا نوح ربّه قالَ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ أي كذبوني فيما دعوتهم إليه.

[119] فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً و المراد النصر له عليهم، و قيل للنصر فتح، لأنه يفتح الطريق المسدود أمام الإنسان وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من هؤلاء الكفار، الذين لا يفيد فيهم النصح.

[120] فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أي السفينة الْمَشْحُونِ من شحنه إذا ملأه، أي السفينة المملوءة من الإنسان و الحيوان، فقد أمر عليه السّلام بصنع سفينة و ركوبها و سائر المؤمنين و من كل حيوان يحمل زوجين اثنين- كما تقدم-.

[121] ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي بعد أن ركب نوح و سائر المؤمنين السفينة الْباقِينَ الذين بقوا على الأرض و لم يركبوا السفينة، و هم الكفار الذين لم يؤمنوا، فقد أخذ

الماء وجه الأرض حتى غرق كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 63

[سورة الشعراء (26): الآيات 121 الى 126]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (126)

[122] إِنَّ فِي ذلِكَ الحوار بين نوح و قومه حول التوحيد و سائر المعارف لَآيَةً دلالة واضحة على وجوده سبحانه، أو في ذلك الغرق دلالة على نكال الله بالكافر وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بالله، أو المراد ما كان أكثر الكفار المعاصرين للرسول مؤمنين بهذه الآية التي هي غرق أعداء نوح عليه السّلام.

[123] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه القاهر، و بعزته أخذ أولئك بالغرق الرَّحِيمُ بالمؤمنين ينصرهم على أعدائهم بالآخرة أو يمهلهم رحمة منه حتى إذا سدوا أبواب الهدى على أنفسهم فلا رجاء فيهم أخذهم.

[124] و بعد تمام قصة نوح يأتي السياق لينقل قصة عاد قوم هود النبي عليه السّلام كَذَّبَتْ عادٌ أي قبيلة عاد الْمُرْسَلِينَ فإن تكذيب هؤلاء كان تكذيب لسائر الأنبياء عليهم السّلام، فمن لم يقبل نبيا فكأنه لم يقبل جميع الأنبياء.

[125] إِذْ قالَ أي كان التكذيب في زمان قال لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسب هُودٌ النبي أَ لا تَتَّقُونَ الله باجتناب المعاصي، و هل تخافون عقابه و نكاله؟

[126] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبل الله أَمِينٌ على تبليغ الرسالة.

[127] فَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه و نكاله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 64

[سورة الشعراء (26): الآيات 127 الى 129]

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَ تَبْنُونَ

بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)

وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني فيما آتيتكم به من قبل الله سبحانه.

[128] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على البلاغ و الإرشاد مِنْ أَجْرٍ فإني لا أريد الأجرة منكم حتى تخافون ذلك، فتعرضون عن رسالتي إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري و جزائي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فإنّه يجازيني على أتعابي و ما تحملته في سبيل الرسالة من المشاق.

[129] ثم ذكر المعصية البارزة من معاصيهم، كما هو عادة الأنبياء، أن يكثر من النهي عن المعصية البارزة من المعاصي، فقال أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ الريع هو الارتفاع من الأرض، و جمعه أرياع و ريعة أي تبنون في المحلات المرتفعة من الصحراء آيَةً أي ما يبدوا كأنها علامة للمارة، و لكنها ليست بعلامة، أو ما من شأنها أن تكون علامة لهداية المارة، و لكنكم لا تبنونها لذلك و إنما تَعْبَثُونَ أي عبثا و ترفا، فإن من عادة المترفين أن يصرفوا المال فيما هو مستغنى عنه و كذلك الحكومات المترفة.

[130] وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ و هي جمع مصنع، و كأنّ المراد مواضع صنع الآلات و الأسباب للأبنية و القصور، و سائر مرافق الحياة، فإن القوم يكونون دائما هكذا، لهم مصانع، و ليسوا كالبدائيين الذين يكون بناؤهم بسيطا، فلا يحتاج إلى معامل و مصانع لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي تظنون خلودكم بهذه الاستحكامات و التصنيعات، و لم يكن القوم يرجون البقاء الأبدي، و إنما كان حالهم حال من يرجو البقاء، لأنّهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 65

[سورة الشعراء (26): الآيات 130 الى 135]

وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ

(133) وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (134)

إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

كانوا يعملون أعمال الباقين إلى الأبد.

[131] وَ إِذا بَطَشْتُمْ أصل البطش هو الأخذ الأليم باليد، ثم استعمل في كل إنزال عقوبة، يعني إذا عاقبتم أحدا بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي عاقبتم عقوبة الجبابرة الذين يتعدون عن الحدّ، بلا رأفة و حساب، و كل هذه الثلاثة من مظاهر البذخ و الكبر و نسيان الآخرة، و إذا رقت الحضارة و لم يرافقها الإيمان كانت كذلك، كما نرى هذه الأمور الثلاثة في زماننا جلية، و كانت عاد تسكن الأحقاف، و هي الجبال قرب حضرموت، من ناحية اليمن، و كانت ذات حضارة قديمة.

[132] فَاتَّقُوا اللَّهَ و لا ترتكبوا معاصيه وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني فيما آمركم به، و حذفت الياء تخفيفا.

[133] وَ اتَّقُوا الَّذِي أي الله الذي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أي أعطاكم مددا، باستمرار، ما تعملون من أنواع الخير و الرفاه و مرافق العيش.

[134] أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ فأكثر لكم من الأولاد و الأنعام، و هي جمع نعم هو الحيوان ذو الأربع.

[135] وَ جَنَّاتٍ أي بساتين وَ عُيُونٍ جمع عين.

[136] إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن تماديتم في الغي و الطغيان عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 66

[سورة الشعراء (26): الآيات 136 الى 139]

قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)

و المراد إما العذاب الذي يأخذهم في الدنيا إن استمروا على كفرهم و شقاقهم، و إما عذاب يوم القيامة.

[137] قالُوا أي قالت عاد في جواب نبيهم هود سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ

مِنَ الْواعِظِينَ فإنّ وعظك و عدم الوعظ متساويان عندنا، لا يؤثر الوعظ فينا شيئا.

[138] إِنْ هذا أي ما هذا الذي تقول إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي كذب السابقين أو عادة السابقين، فإن خلق يأتي بمعنى الكذب و بمعنى العادة، و هكذا المجرمون في كل زمان ينسبون المصلحين إلى القدم، ففي زماننا يقولون «رجعية» و «ارتجاع» و بالفارسية «كهنه پرستى»، و في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانوا يقولون «أساطير الأولين» و في زمان هود قالوا «خلق الأولين»، و لعلّ المراد أن ما نبينه و نفعله عادة آبائنا، فلا نتركه لأجلك.

[139] وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فمن يقدر على عذابنا؟ أما ما تقولون من عذاب الله، فهو يحبنا، أليس قد أنعم علينا بهذه النعم؟ كما قال ذلك الكافر (وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) «1».

[140] فَكَذَّبُوهُ أي كذب عاد هودا فَأَهْلَكْناهُمْ بريح سخرت عليهم

______________________________

(1) الكهف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 67

[سورة الشعراء (26): الآيات 140 الى 145]

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (144)

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)

فأماتهم جميعا إِنَّ فِي ذلِكَ التبليغ لهم، أو الإهلاك لَآيَةً لأولئك، أو لقوم الرسول وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بذلك البلاغ، بالنسبة إلى أولئك، أو بذلك الإهلاك بالنسبة إلى هؤلاء.

[141] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على الكفّار الرَّحِيمُ بالمؤمنين، و قد تقدم تفصيله.

[142] كَذَّبَتْ ثَمُودُ أي قبيلة ثمود الْمُرْسَلِينَ فإنهم بتكذيبهم صالحا، كأنهم كذبوا جميع الأنبياء.

[143] إِذْ قالَ

لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أي أن التكذيب كان في زمان قال لهم أخوهم في النسب صالح النبي عليه السّلام أَ لا تَتَّقُونَ الله باجتناب الكفر و المعاصي.

[144] إِنِّي لَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ من قبل الله أَمِينٌ على أداء الرسالة.

[145] فَاتَّقُوا اللَّهَ و خافوا عقابه، و اتركوا معاصيه وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني فيما آمركم به.

[146] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على الإرشاد و التبليغ مِنْ أَجْرٍ و جزاء، و «من» لتعميم النفي إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 68

[سورة الشعراء (26): الآيات 146 الى 150]

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (150)

إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فإنه هو الذي يجزيني.

[147] أَ تُتْرَكُونَ أي هل تظنون أنتم أنكم تتركون فِي ما هاهُنا أي في الأرض، و في هذه النعم الموجودة لديكم آمِنِينَ من الموت، و التغير؟ و هو استفهام استنكاري إلفاتي.

[148] فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ في بساتينكم و قرب عيون الماء الجارية.

[149] وَ زُرُوعٍ جمع زرع، و كأنّه النبات الذي لا ساق له وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ الطلع هو الشي ء الذي يخرج من النخل، و في وسطه صغار التمر، سمي طلعا لطلوعه، و «هضيم» بمعنى اللطيف الناضج الحسن.

[150] وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً في حال كونكم فارِهِينَ بسهولة، و يسر، من فره، أي هل تظنون أنكم تبقون في هذه النعم، فالجنات ملتفة، و العيون جارية، و النخيل في ثمر و طلع، و البيوت الفارهة المنحوتة، و كل الحياة تنحو نحو الخير و التقدم لكم، و أنتم آمنون؟

كلا! لا يكون هذا.

[151] فَاتَّقُوا

اللَّهَ و لا تخالفوا أوامره وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني في رسالتي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 69

[سورة الشعراء (26): الآيات 151 الى 155]

وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)

[152] وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الذين يسرفون في أعمالهم و حركاتهم، فإن لكل عمل مقياس وحد إذا جاوزه كان سرفا، و كان فاعله مسرفا.

[153] الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ و كأنه جي ء بهذا العطف لإفادة أنهم لا يأتي منهم إلا الفساد في العقيدة و المنهج و الأخلاق، لا كمن يأتي منه الصلاح و الفساد معا.

[154] قالُوا أي قالت ثمود في جواب صالح إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ فقد سحروك و ذهب عقلك- فإنّ الإنسان المسحور يختل عقله و إدراكه- و لذا تدعي النبوة و تقول هذه الكلمات، و لعلّ المراد أنك قد سحرت مرة بعد أخرى، و لذا جي ء من باب التفعيل الدال على التكثير.

[155] ما أَنْتَ يا صالح إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فكيف تدعي النبوة؟ فَأْتِ بِآيَةٍ أي معجزة دالة على صدقك في دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنك نبي مبعوث من قبل الله تعالى.

[156] قالَ صالح عليه السّلام آتي بالآية، فما ذا تريدون؟ قالوا نريد أن تخرج من هذا الجبل ناقة كبيرة، فسأل الله صالح ذلك، فأخرج لهم من الجبل ناقة كبيرة فقال لهم هذِهِ ناقَةٌ كما طلبتم لَها شِرْبٌ أي حصة من الماء وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فليس لكم شرب كل يوم،

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 4، ص: 70

[سورة الشعراء (26): الآيات 156 الى 159]

وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

و إنما تشرب هذه الناقة ماء النهر كاملا، في يوم، و تعطيكم الحليب عوض الماء، و لكم ماء النهر في اليوم الآخر، لا تزاحمكم الناقة في الشرب.

[157] وَ لا تَمَسُّوها أي لا تمسوا الناقة بِسُوءٍ بشي ء سيئ كأن تؤذوها، أو تضربوها، أو تنحروها فإنكم إذا فعلتم ذلك فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عليكم، و إنما كان اليوم عظيما بعلاقة الحال و المحل، و إلا فإن العذاب الذي يحل فيه هو العظيم.

[158] لكن القوم عتوا، و قالوا لا نريد أن تشرب الناقة كل ماء النهر يوما بين كل يومين و لا نريد لبنها، فاللازم أن نقتلها لكي نتخلص منها فَعَقَرُوها أي أهلكوها، بالنحر، أو ضرب القوائم، و قسموا لحمها بينهم و إنما أسند العقر إليهم مع أن عاقرها كان واحدا لرضى كلهم بذلك فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ حين شاهدوا العذاب، فقد ندموا على كفرهم و معاصيهم و عقرهم للناقة.

[159] فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الذي خوفهم صالح عليه السّلام منه فقد خسفت أرضهم- كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام- إِنَّ فِي ذلِكَ البلاغ، أو العذاب لَآيَةً لهم، أو لقوم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ من أولئك، أو هؤلاء- على تفصيل مضى- مُؤْمِنِينَ

[160] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه القاهر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 71

[سورة الشعراء (26): الآيات 160 الى 164]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ

أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)

للأعداء الرَّحِيمُ بهم يمهلهم، لعلهم يرجعون، أو الرحيم بالمؤمنين ينصرهم على أعدائهم.

[161] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ النبي عليه السّلام الْمُرْسَلِينَ فإن تكذيب لوط كان تكذيبا لجميع الأنبياء عليهم السّلام، أو المراد بالجمع الجنس- فقد ذكرنا سابقا- إن كلّا من الجمع و الجنس يحل محل الآخر، تقول: هكذا قال المفسرون، و تريد أن هذا الجنس قالوا كذلك، و لا تريد الجمع، بل الكلام صادق و إن كان واحد منهم تكلم بذلك الكلام، فإنه في قبال قال النحويون، و قال المتكلمون، لا في قبال قال مفسر واحد.

[162] إِذْ قالَ لَهُمْ أي كان التكذيب في زمان قال للقوم أَخُوهُمْ في النسب لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ الله باجتناب الكفر و العصيان.

[163] إِنِّي لَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ من عند الله أَمِينٌ على أداء الرسالة لا أزيد فيها و لا أنقص.

[164] فَاتَّقُوا اللَّهَ باجتناب الكفر و المعاصي وَ أَطِيعُونِ أطيعوا أوامري، أو أطيعوا أوامر الله، فالمراد بالتقوى عدم الإتيان بالمنكرات و بالإطاعة الإتيان بالواجبات.

[165] وَ ما أَسْئَلُكُمْ أيها القوم عَلَيْهِ أي على الإرشاد و البلاغ مِنْ أَجْرٍ و جزاء، فلا تخافون إن آمنتم بي أن أرهقكم بالضرائب و الجزاء، إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 72

[سورة الشعراء (26): الآيات 165 الى 167]

أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)

إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فهو يعطيني الجزاء.

[166] ثم بين المعصية

الظاهرة فيهم، ناهيا لهم عنها فقال أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ على نحو الاستفهام الإنكاري أي كيف تصيبون الذكر، باللواط معهم مِنَ الْعالَمِينَ أي من جملة خلائق العالم، و لعلّ هذا التعبير لأنهم كانوا يفعلون الفاحشة بكل من وجدوه من أهل المدينة أو المسافرين.

[167] وَ تَذَرُونَ أي تتركون ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ لأجل قضاء الوطر مِنْ أَزْواجِكُمْ و نسائكم، فقد عطلوا إتيان الأزواج، و تعاطوا إتيان الذكور، حتى اضطرت النساء إلى المساحقة لقضاء وطرهن، فإذن فليس ذلك لأجل أنكم تريدون قضاء الشهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ظالمون تتعدون الحلال إلى الحرام، و إلا فلو كنتم تريدون قضاء الوطر كانت أزواجكم حاضرة، و الإنسان المعتدي يكون هكذا، يضرب عن الحق الذي يكفيه الى الباطل، تجاوزا و اعتداء.

[168] قالُوا أي قال القوم في جواب لوط عليه السّلام لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ و ذلك بأن لا تستمر في تبليغك و نصحك لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي نخرجك من بلادنا، كما في آية اخرى (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) «1».

______________________________

(1) الأعراف: 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 73

[سورة الشعراء (26): الآيات 168 الى 173]

قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)

[169] قالَ لهم لوط عليه السّلام إِنِّي لِعَمَلِكُمْ هذا، و المراد به اللواط مِنَ الْقالِينَ يقال «قلى» أي كره و أبغض، أي فإني أعلمكم أني أكره و أبغض عملكم، فإن إظهار التنفر من الحرام، مرتبة من مراتب النهي عن المنكر.

[170] و لما استيأس منهم دعا اللّه سبحانه فقال، يا رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي أي

و نجّ أهلي، و المراد بناته مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من عاقبة عملهم، أي العذاب الذي يحل بهم، أو المراد أن يبعده عنهم حتى لا يرى عملهم، فوضع «مما يعملون» مكان «منهم» لإفادة العلة في الدعاء.

[171] فَنَجَّيْناهُ أي نجينا لوطا وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ بأجمعهم بحيث لم يبق منهم أحد.

[172] إِلَّا عَجُوزاً هي زوجته السيئة فِي الْغابِرِينَ كانت مع الباقين في المدينة ليأخذها العذاب معهم، فقد أمر لوط أن يسرى في المدينة بأهله ليلا، حتى لا يشمله العذاب الذي ينزل بالقوم.

[173] ثُمَ من بعد خروج لوط و آله عن القرية دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم بالخسف و تقليب الأرض، بأن رفع أرضهم جبرائيل ثم قلبها.

[174] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً من الحجارة، و لعلّه كان قبل تقليبهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 74

[سورة الشعراء (26): الآيات 174 الى 178]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)

فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس مطر الحجارة الذي أمطر على الأشخاص الذين أنذروا فلم يقبلوا.

[175] إِنَّ فِي ذلِكَ البلاغ لهم لَآيَةً دالة على صدق لوط وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بلوط و ما جاء به من عند الله، أو المراد أن في ذلك التعذيب لهم لدلالة على مصير الكفّار، و لكن أكثر كفّار مكة لا يؤمنون و لا ينفع فيهم النذر.

[176] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ القاهر للكفّار الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

[177] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هي الغيظة، مجتمع الشجر في مفيض ماء الْمُرْسَلِينَ و المراد به شعيب عليه السّلام، فقد أرسل إلى قبيلة «مدين» و لعلّ

أنّ هناك بالقرب من مدينتهم كانت أيكة ذات أشجار فكانوا يعرفون بها، أو كما ورد أن شعيبا أرسل إلى أصحاب الأيكة، و إلى مدين.

[178] إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ قال بعض المفسرين: لم يقل «أخوهم شعيب» كالسياق السابق، لأنّ شعيبا لم يكن من قبيلتهم، و إنما كان من قبيلة مدين أَ لا تَتَّقُونَ الله بإطاعة أوامره و اجتناب نواهيه؟

[179] إِنِّي لَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ من قبل الله سبحانه أَمِينٌ على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 75

[سورة الشعراء (26): الآيات 179 الى 183]

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)

أداء الرسالة.

[180] فَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه في مخالفته وَ أَطِيعُونِ أي:

أطيعوني فيما أبلغكم.

[181] وَ ما أَسْئَلُكُمْ أيها القوم عَلَيْهِ أي على البلاغ و الإرشاد مِنْ أَجْرٍ أطلبه منكم إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري و جزائي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فإنه يتفضّل عليّ بالجزاء على تحمل المشاق، في سبيل التبليغ و الإرشاد.

[182] ثم أخذ ينبههم على العصيان الشائع بينهم، فقد كان من دأب الأنبياء- كما مرّ بنا جملة من ذلك- أن يركزوا اهتمامهم على نقطة الضعف في المجتمع أَوْفُوا الْكَيْلَ أي أعطوا الكيل- في المعاملات- وافيا غير ناقص وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي ممن ينقص الكيل، و يدخل في الكيل جميع ما يحسب كالوزن و العدد و الزرع.

[183] وَ زِنُوا أمر من «وزن» حذف واوه بالإعلال، فالأمر منه «زن» و الواو عاطفة بِالْقِسْطاسِ أي الميزان الْمُسْتَقِيمِ العدل الذي لا حيف فيه،

لا بالميزان الناقص.

[184] وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ البخس هو النقص فيما يجب على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 76

[سورة الشعراء (26): الآيات 184 الى 187]

وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَ ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)

الإنسان إعطائه، و المراد لا تعطوا للناس ناقصا، و إنما قال «أشياءهم» لأن المقدار المسروق لدى الكيل و الوزن، للغير و هو المشتري- مثلا- وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي لا تسعوا في الأرض بالفساد، فإن العثي أشد الفساد، و الإتيان بالمفسدين إما للتأكيد، و إما بمعنى عازمين الفساد قاصدين له.

[185] وَ اتَّقُوا أي خافوا الله الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ خلق الْجِبِلَّةَ أي الخليقة الْأَوَّلِينَ فلا تخالفوا أوامره، و لا تأتوا بنواهيه.

[186] قالُوا في جواب شعيب إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ فقد سحروك مرة بعد مرة، حتى ذهب عقلك، فما دعواك النبوة إلا من جراء ذهاب عقلك و نقص إدراكك.

[187] وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا في جميع المزايا فكيف تدّعي النبوة؟

وَ إِنْ مخففة من الثقيلة، أي أنّا نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فتكذب في دعواك النبوة، و المعنى أنّا نظنك كاذبا، في جملة من يكذب، و الإتيان بالظن، لعله لأن القوم أرادوا أن يظهروا أنفسهم بمظهر المنصف البري ء عن الكذب، حتى أنهم لا يقولون «نتيقن» بل «نظن».

[188] فإن كنت صادقا فيما تقول فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا، جمع كسفة بمعنى القطعة مِنَ السَّماءِ فإن النبي بيده أزمة الكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 77

[سورة الشعراء (26): الآيات 188 الى 190]

قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188)

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في ادعائك.

[189] قالَ شعيب عليه السّلام في جوابهم رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ فقد كان عليّ البلاغ، فعملت بما هو تكليفي، أما أنتم- بعد ذلك- فحسابكم على من يعلم أعمالكم، و في هذا القول تهديد لهم، و تخويف من عذاب الله.

[190] فَكَذَّبُوهُ أخيرا، و لم ينجح فيهم الإرشاد و النصح فَأَخَذَهُمْ جزاء لتكذيبهم عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ سمي بذلك، لأنه جللتهم سحابة، و أظلتهم، و في المجمع: أصابهم حرّ شديد سبعة أيام و حبس عنهم الريح ثم غشيتهم سحابة فلما خرجوا إليها طلبا للبرد من شدة الحر الذي أصابهم، أمطرت عليهم نارا فأحرقتهم فكان من أعظم الأيام في الدنيا عذابا «1»، ذلك إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وصف للعذاب، أو لليوم باعتبار علاقة الحال و المحل.

[191] إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب لَآيَةً لكفار مكة وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ إذ لا يتدبرون الآيات، أو أن في بلاغ شعيب كان آية و لم يكن أكثر قومه مؤمنين به.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 350.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 78

[سورة الشعراء (26): الآيات 191 الى 196]

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)

[192] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر المنتقم من الأعداء الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

[193] وَ إِنَّهُ أي أن هذا القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ كما أنزل على من قبلك من الرسل.

[194] نَزَلَ بِهِ أي بالقرآن الرُّوحُ أي

جبرائيل، و لعلّه إنما سمي روحا، لعدم وجود آثار الجسم فيه الْأَمِينُ في تبليغ الرسالة و الوحي.

[195] عَلى قَلْبِكَ يا رسول الله، و إنما جي ء بهذا اللفظ، لأن الشي ء يدخل القلب عن طريق الحواس لِتَكُونَ يا رسول الله مِنَ جملة الأنبياء الْمُنْذِرِينَ للكفار و العصاة المنحرفين الذين لهم بأس الله و عذابه.

[196] و قد نزل بِلِسانٍ عَرَبِيٍ أي بلغة عربية هي لغة الجزيرة مُبِينٍ أي موضح للناس المعارف، أو ظاهر واضح، ليس فيه عجمة و غلط.

[197] وَ إِنَّهُ أي ذكر القرآن النازل عليك لَفِي زُبُرِ جمع زبور، و هو الكتاب، من «زبر» بمعنى كتب الْأَوَّلِينَ أي أن البشارة بالقرآن مذكورة في كتب الأنبياء السابقين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 79

[سورة الشعراء (26): الآيات 197 الى 200]

أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)

[198] أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار آيَةً و دليل على صدق القرآن، متصفة أَنْ يَعْلَمَهُ أي يعلم القرآن عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ

أليس التبشير بالقرآن موجودا في كتب بني إسرائيل حتى يعلموه و يصدقوا به؟ و في هذا تعريض بهم، أنهم كيف أنكروا و الحال أن الأدلة موجودة في كتبهم، و هي تدل على صدق القرآن.

[199] ثم سلا الله سبحانه نبيه بأن لا يغتم لإعراض هؤلاء فإنهم معاندون حتى لو أنزل الله القرآن على رجل أعجمي فقرأه عليهم لم يؤمنوا، لما في قلوبهم من الكبر و العناد وَ لَوْ نَزَّلْناهُ أي القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ جمع أعجم، و المراد به إما البهيمة، لأنها تسمى بالأعجم، و إما

الرجل الأعجمي الذي لا يعرف التكلم بالعربية إطلاقا.

[200] فَقَرَأَهُ أي قرأ القرآن عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ مع ما في قراءة البهيمة أو الأعجمي من دلالة واضحة على أنه خارق، إن أناسا مثل هؤلاء معاندون، فلا يحزن الإنسان إذا رأى إعراضهم عن الحق.

[201] كَذلِكَ الذي ذكر من أن القرآن بلسان عربي مبين سَلَكْناهُ و أدخلناه فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ العاصين حتى تتم عليهم الحجة و لكنهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 80

[سورة الشعراء (26): الآيات 201 الى 206]

لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205)

ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)

[202] لا يُؤْمِنُونَ و لا يصدقون بِهِ بالقرآن حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم الموجع، بالموت، أو المراد عذاب الآخرة.

[203] فَيَأْتِيَهُمْ العذاب بَغْتَةً فجأة فلا مجال لهم للإيمان و العمل الصالح وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ لا يدركون وقت نزول العذاب.

[204] فَيَقُولُوا حينذاك في طلب و استعطاف هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي مؤخرون لنؤمن و نصدق و نعمل صالحا، لكنهم يجابون (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) «1».

[205] و قد كان الكفار يطلبون من الرسول أن يأتيهم بالعذاب إن كان صادقا، فيأتي إليهم الاستفهام الإنكاري بقوله سبحانه أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي كيف يستعجل هؤلاء عذابنا؟ أ فلا يعلمون أن العذاب أليم شديد؟

[206] أَ فَرَأَيْتَ يا رسول الله إِنْ مَتَّعْناهُمْ في الدنيا سِنِينَ أي سنوات متعددة طويلة.

[207] ثُمَّ جاءَهُمْ لدى انقضاء مدتهم ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب.

______________________________

(1) المؤمنون: 101.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 81

[سورة الشعراء (26): الآيات 207 الى 211]

ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ

(207) وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ (211)

[208] ما أَغْنى عَنْهُمْ أي ما أفادهم ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي مدة متعتهم و بقائهم في الحياة، و في هذا تنبيه على أنهم و إن أخّر عنهم العذاب لكن إذا أتاهم، لم يكونوا يأبهون بما متعوا به في الحياة، فإن النعيم إذا زال، كان كأن لم يكن، و لم تنفع تلك المدة الطويلة من التنعم في التخفيف من العذاب.

[209] وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ «من» لزيادة التعميم إِلَّا و لَها مُنْذِرُونَ فليخف هؤلاء أن يهلكهم الله سبحانه، إذ أرسلت إليهم النذر فلم يؤمنوا.

[210] فقد أرسلنا المنذرين ذِكْرى أي لأجل تذكرهم بفساد عقيدتهم و عصيانهم فلما أبوا الإطاعة أهلكناهم وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ لهم في عقابهم، بل لقوا جزاء كفرهم و ظلمهم.

[211] و قد كان المشركون يجعلون القرآن من قسم الكهانة التي تنزل بها الشياطين، فجاءت الآية في مقام ردّهم، إذ لو كانت كهانة لقدر على مثلها سائر الكهان وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ أي بالقرآن الشَّياطِينُ يقال تنزل به إذا نزل معه.

[212] وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ أي إنزال القرآن، إذ الشيطان يأمر بالفساد و الكفر و المنكر، فلا يلائمه الإصلاح و الإيمان و المعروف وَ ما يَسْتَطِيعُونَ لأنه خارج عن قدرة المخلوق، و الله سبحانه يحرس الإعجاز عن قدرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 82

[سورة الشعراء (26): الآيات 212 الى 214]

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)

غيره تعالى، نعم يتمكن الشيطان أن يأتي بالخارقة

المفضوحة كونها ليست آية، كما تفل مسيلمة في بئر- لينبع الماء- فجف.

[213] إِنَّهُمْ إن الشياطين عَنِ السَّمْعِ أي استماع القرآن و تلقيه من قبل الله سبحانه لَمَعْزُولُونَ فلا يتمكنون أن يتلقوه من الله ليأتوا به إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل الذي يسمعه هو جبرائيل، أو المراد أن الشيطان لا يسمح له باستماع ما في الملأ الأعلى، إذ يرصد هناك بالشهب، فكيف يتمكنون من تلقي القرآن و الإتيان به.

[214] و إذ قد تبين لك الحق فَلا تَدْعُ يا رسول الله، و لا بدع في توجه هذا الكلام إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإن جميع الأوامر و النواهي متوجهة إليه بلا إشكال و في جملتها هذا النهي مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كما يفعله المشركون فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ أي تعذب بهذا العمل، و تكون في جملة من عذبوا.

[215] وَ أَنْذِرْ يا رسول الله عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ إليك، و إنما خصوا بالذكر، لأجل لزوم الاهتمام بالعشيرة أكثر من سائر الناس، فإنهم إن آمنوا كانوا عونا و مساعدين، و إن لم يؤمنوا كانوا أقوى الأعداء، و أشد الألداء،

و قد ورد أن هذه الآية نزلت بمكة فجمع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني هاشم و هم أربعون رجلا كل واحد منهم يأكل كثيرا و يشرب القربة فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا بسم الله فدنى القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم: اشربوا باسم الله، فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 83

[سورة الشعراء (26): الآيات 215 الى 218]

وَ اخْفِضْ جَناحَكَ

لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218)

ما سحركم به الرجل فسكت صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ و لم يتكلم ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام و الشراب، ثم أنذرهم رسول الله فقال: يا بني عبد المطلب إني نذير إليكم من الله عز و جل و البشير فأسلموا و أطيعوني تهتدوا، ثم قال: من يؤازرني و يكون وصيي بعدي و خليفتي في أهلي و يقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا؟ كل ذلك يسكت القوم، و يقول عليّ عليه السّلام أنا، فقال في المرة الثالثة: أنت، فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب أطع ابنك، فقد أمّر عليك

«1».

[216] وَ اخْفِضْ جَناحَكَ أصل خفض الجناح، أن يسفل الطائر جناحه أمام والديه تواضعا و استعطافا. ثم استعمل بمعنى التواضع و اللين و حسن الخلق لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فتواضع لهم، و ألن جانبك نحوهم.

[217] فَإِنْ عَصَوْكَ أي خالفوك أقاربك و لم يؤمنوا فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من عبادة الأصنام و إتيانكم لسائر المعاصي و الآثام.

[218] وَ تَوَكَّلْ يا رسول الله، أي فوض أمرك عَلَى الْعَزِيزِ الغالب بعزته على الكفار الرَّحِيمِ بالمؤمنين، فلا يهونك إعراض قومك و عشيرتك عن الإيمان.

[219] الَّذِي يَراكَ أي يحيط علمه بك، أو ينظر إليك حِينَ تَقُومُ

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 38 ص 220.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 84

[سورة الشعراء (26): الآيات 219 الى 222]

وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)

بالدعوة و تصدع بالبلاغ،

فإنك على عينه، و من رعته عين الله سبحانه لا بد و أن ينجح في مرامه.

[220] وَ يرى تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي تصرفك بالذهاب و المجي ء، و التنظيم و التحريض و التعليم في جماعة المؤمنين الذين يسجدون لله، و أتى بالسجود لأنه غاية الخضوع، و هو من سمات المؤمنين، و

قد روي في تفسير هذه الآية عن الباقر عليه السّلام

الذي يراك حتى تقوم بالنبوة و تقلبك في الساجدين أي في أصلاب النبيين

«1».

و

روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام قالا: في أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه السّلام

«2».

[221] إِنَّهُ تعالى هُوَ السَّمِيعُ لأقوالك الْعَلِيمُ بأحوالك فتوكل عليه يكفيك كل مهمة.

[222] و حيث نفى سبحانه أن ينزل على الرسول الشيطان، أراد إثبات ذلك بالنسبة إلى الكفار المفترين عليه هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أي هل أخبركم أيها الناس عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ للوسوسة و إلقاء الباطل.

[223] تَنَزَّلُ أصله «تتنزل» حذفت إحدى تاءيه للقاعدة في باب المضارع إذا اجتمع عليه تاءان عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ مبالغة من الإفك، و هو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 229.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 203.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 85

[سورة الشعراء (26): الآيات 223 الى 225]

يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)

الكذب، أي كل إنسان يكذب كثيرا أَثِيمٍ آثم آت بالمعصية.

[224] يُلْقُونَ السَّمْعَ أي أن الشياطين يلقون ما يسمعونه من هنا و هناك إلى الكهنة و الأفاكين وَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر الشياطين كاذِبُونَ لأنهم يكذبون عمدا، بالإضافة إلى أنهم يتلقون كلما وصل إليهم من صدق الأخبار و كذبها،

فمثلا يسمع الشيطان من قصّاص في الروم قصة حول خلقة آدم، فيلقيها على الكاهن، و هكذا.

[225] و قد كان بعض الكفار يرمون الرسول بأنه شاعر، و لما أبطل السياق كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاهنا- كما كان يقول بعض- جاء لإبطال كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاعرا وَ الرسول ليس بشاعر إذ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ من غوى بمعنى ضل، أي أن المنحرفين هم الذين يتبعون الشعراء، و لا يتبع الرسول إلا كل مؤمن مهتدي، فكيف يمكن أن يقال عنه: إنه شاعر؟

و هذا أبلغ من أن يقال: إن الشعراء أهل الغواية و الفساد و الهوى، إذ تبعية الغاوي لأحد، يدل على شدة الغواية في المتبوع.

[226] أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه الرؤية أَنَّهُمْ أي الشعراء فِي كُلِّ وادٍ أي في كل طريق من طرق الضلال و الهوى و الفسق و الفحش يَهِيمُونَ أي يذهبون هائمين، كالهائم الحيران في الصحراء الذي لا يعلم أين يذهب و ماذا يريد؟ و هكذا الشعراء، فمرة يمدحون، و مرة يذمون، و مرة يشببون، و مرة يكذبون في بطولاتهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 86

[سورة الشعراء (26): الآيات 226 الى 227]

وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

و فسقهم و مجونهم و هكذا.

[227] وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ حول بطولات و فسوق و ترغيب و تحريض و تنقير و إنذار ما لا يَفْعَلُونَ من تلك الأمور التي ينسبونها إلى أنفسهم، و الرسول بالعكس من ذلك كله فهو يمشي وفق منهج

مستقيم ذي فضيلة و عدل و إحسان، و إنه لا يكذب و إنما يفعل ما يؤمر به، و ينتهي عما يزجر عنه.

[228] ثم استثنى سبحانه عن هذا العموم الشاعر الذي ليس كذلك، فإن الشعر ليس مذموما لذاته، و إنما هو مذموم لهذه الاعتبارات المذكورة في الآية السابقة، و لذا قال سبحانه إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الشعراء وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً حتى لم يشغلهم الشعر إلى نسيان الله سبحانه، حتى يكذبوا و يفعلوا ما لا يليق بالمؤمنين وَ انْتَصَرُوا من المشركين، للرسول و المؤمنين مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي ظلمهم الكفار بسبهم و هجائهم في الشعر و نحوه وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا عند الموت، أو في القيامة أَيَّ مُنْقَلَبٍ أي مرجع و يسمى المرجع و المصير المنقلب، لانقلاب الإنسان من حاله إلى ذلك المحل يَنْقَلِبُونَ و يصيرون إليه، و هذا تهديد لهم، و لذا كان أمير المؤمنين عليه السّلام و كثير من أولاد المعصومين عليهم السّلام يقولون الشعر، كما وردت بذلك متواتر الروايات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 87

27 سورة النمل مكيّة/ آياتها (94)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «النمل» و قصة منهم، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و إذ كان موضوع القرآن، من أخريات مواضيع سورة الشعراء، افتتحت هذه السورة بذكر القرآن.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أستعين، أو نستعين باسم الإله، و تخصيص «الله» بالذكر، بأنه علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، و ما أجدر أن يجعله الإنسان أول عمله، و أن يستعين به في أموره، فإنه هو الرحمن الرحيم، المتفضل بالرحم، و قد ذكر أهل المعنى أن التكرار في ذكر اسم من أسماء الله سبحانه، ليستعطف فضله في توصفه الإنسان بذلك

القبيل من الوصف، فالمكرر لاسم «الغنيّ» يثرى، و لاسم العطوف يعطف، و هكذا، و هذا صحيح فإن علم النفس يقر إن للتكرار إيحاء على النفس.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 88

[سورة النمل (27): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)

[2] طس «طاء» و «سين» و هما نموذج من حروف الهجاء تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ ف «طس» مبتدأ، و «تلك» خبره، و هذا أحد الأقوال في المسألة، أو هي رموز بين الله و بين خاتم الأنبياء، كما ورد على قول آخر، أو غير ذلك مما تقدمت الإشارة إلى بعضها وَ كِتابٍ مُبِينٍ أي واضح ظاهر لا غموض فيه و لا التواء، و إنما أتى بوصفين للدلالة على أنه يقرأ و يكتب، و لعلّه إشارة إلى لزوم الاحتفاء بالقرآن من جميع النواحي، فإنه للكتابة و القراءة.

[3] هُدىً أي في حال كونه هداية إلى طريق الحق وَ بُشْرى أي بشارة بالثواب و السعادة لِلْمُؤْمِنِينَ به فإنهم هم الهادون المبشرون أما غيرهم فإنهم ضالون منذرون.

[4] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بإتيانها في أوقاتها مع شرائطها و آدابها و يداومون عليها وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعطونها، و المراد الزكاة المستحبة أي الصلاة و الصدقات، لأن السورة مكية و لم تفرض هناك الزكاة، أو المراد الأعم باعتبار التشريع مستقبلا وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ أي بالنشأة الآخرة من سؤال القبر و البعث و الجزاء و غيرها هُمْ يُوقِنُونَ أي لا يشكون، فهم معترفون بالمعاد، و تكرار «هم» لعلّه لإفادة أن غير

مقيم الصلاة و مؤتي الزكاة لا يوقن بالآخرة، و إن اعترف لسانا بها.

[5] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و أعرضوا عن قبول الإيمان، فإن الإيمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 89

[سورة النمل (27): الآيات 5 الى 6]

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

بالآخرة يلازم الإيمان بسائر أصول الاعتقاد زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ بأن جعلنا الإنسان بحيث إذا تكرر منه شي ء زيّن في نظره للملكة الحاصلة له من التكرار، فإنهم لما وقفوا في الصف المقابل للمؤمنين و عملوا بالكفر و المعاصي و تمادوا فيها، حصلت لهم ملكة حسب أعمالهم تدريجيا، حتى ترسخت الرغبة قلوبهم، و من المعلوم أنّ اللّه خلق البشر هكذا، فيصبح نسبة التزيين إليه تعالى، باعتبار أنه الخالق و السبب الأول، أو باعتبار عدم الضرب على أيديهم، كما يقال أفسد الملك اللص الفلاني، بمعنى أنّه لم يضرب على يده و لم ينتقم منه، و من المعلوم أن التزين لأعمالهم في نظرهم لا ينافي أنهم يعلمون بطلان طريقتهم، كما نشاهد الفساق المنصفين يعترفون بأن أعمالهم باطلة، مع أن العمل مزين في نظرهم، حتى لا يتمكنون بسهولة من مفارقتها فَهُمْ يَعْمَهُونَ العمه عمى القلب، أي يمشون في المعاصي، كما يمشي الإنسان الأعمى في الطريق، لا يهتدي سبيلا.

[6] أُوْلئِكَ الَّذِينَ لم يؤمنوا بالآخرة لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ أي العذاب السيئ و هو عذاب النار وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ أي في الدار الآخرة هُمُ الْأَخْسَرُونَ إذ لم يربحوا شيئا و قد خسروا أنفسهم، حيث ألقوها في العذاب و النار الأبدية، و المراد ب «الأخسر» إما التفضيل باعتبار أنهم أكثر خسارة من العصاة، و إما منسلخ

عن معنى التفضيل في مقابل أهل الجنة، فالمعنى هم الخاسرون.

[7] وَ إِنَّكَ يا رسول الله، لست كما يقولون إن قرآنك شعر أو كهانة، بل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 90

[سورة النمل (27): آية 7]

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)

لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي لتعطى القرآن، و التلقي الأخذ مِنْ لَدُنْ أي من طرف إله حَكِيمٍ في أمره يفعل الأشياء حسب المصالح و يضع الأمور في مواضعها عَلِيمٍ عالم بالأشياء، و لا تلازم بين الوصفين خارجا، و لذا جي ء بهما، إذ رب عالم لا حكمة له، أو رب حكيم لا علم له.

[8] ثم يأتي السياق لينقل طرفا من قصة موسى عليه السّلام تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تنبيها للكفّار على عاقبة المجرمين، و قد تكررت هذه القصة في القرآن الحكيم، لكن بمزايا و خصوصيات و ملامح مختلفة، فاذكر يا رسول الله إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ أي زوجته بنت شعيب لما رجع من بلاده يقصد مصر، و قد كان وحيدا في الصحراء في ليلة مظلمة، و أخذ زوجته الطلق، و ضل الطريق إِنِّي آنَسْتُ أي أبصرت، ما يؤنس و يفرح فقد رأيت ناراً فقد رأى من بعيد ما يشبه النار في شجرة سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ فالزموا مكانكم، حتى أذهب و أجي ء بخبر النار هل يمكن الاستفادة منها أم لا؟ و إنها لمن؟ لعلنا نتمكن أن نذهب إلى أصحابها ليعاونونا في مشكلتنا أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ أي بشعلة منها، و الشهاب قطعة منها و قبس بمعنى الشي ء الذي يؤخذ و يقتبس لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ و الاصطلاء الاستدفاء بالنار، من صلّى، و أصله «اصتلى» بالتاء،

قلبت «طاء» على قاعدة باب التفعيل و إنما أتى بالضمائر جمعا، مع أن المراد زوجته فقط، إما تعظيما، أو لما سبق،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 91

[سورة النمل (27): الآيات 8 الى 9]

فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

من أن كلا من الجمع و الجنس يقوم مقام الآخر، فيراد من الجمع الواحد فما فوق، و من الجنس، الجمع.

[9] فَلَمَّا جاءَها أي جاء موسى عليه السّلام نحو النار و وصل إليها نُودِيَ من قبل الله سبحانه، و المنادي إما هو الله سبحانه، بأن خلق صوتا سمعه موسى عليه السّلام، أو بعض الملائكة بإذنه سبحانه أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها و لم يكن ما رآه موسى عليه السّلام نارا، و إنما هو نور يتراءى كالنار، و الذين كانوا فيها هم الملائكة و الأرواح الطاهرة، و الذين كانوا حولها هم موسى و الملائكة الحافين بها و به عليه السّلام، و المراد بالبركة هي الخير الكثير، و المعنى أن موسى و الملائكة أنعموا- بتفضيل الله لهم- و منحوا الخير الكثير الدائم، و لعلّ ظهور النار لأجل الإشارة إلى الهداية، فكما يهدي الضياء الحائر إلى الطريق، كذلك تهدي الرسالة الناس إلى السعادة، و الظاهر أن قوله «أن بورك» دعاء بهذا اللفظ، و هو تبريك بالرسالة، كما يبارك الإنسان من يظفر بمنصب أو نعمة وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ سبحان منصوب على تقدير فعل محذوف أي أسبح و أنزه الله تنزيها، و لعل الإتيان بهذه الجملة هنا، لإفادة أن أول الإيمان هو تنزيه الله من الشرك، أو لأجل دفع أن

يتوهم أن الله جسم موجود في تلك النار، و هو الذي يتكلم بفمه و لسانه.

[10] يا مُوسى إِنَّهُ أي المتكلم أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه القاهر لأعدائه الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شي ء بالحكمة و الصلاح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 92

[سورة النمل (27): الآيات 10 الى 11]

وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)

[11] وَ أَلْقِ أي اطرح من يدك عَصاكَ فلقد كانت في يده عليه السّلام عصا، فألقاها فصارت حية فَلَمَّا رَآها موسى عليه السّلام، و إتيان الضمير مؤنثا، لكون العصي مؤنث سماعي تَهْتَزُّ أي تتحرك بشدة، كَأَنَّها جَانٌ و هي الحية الصغيرة، و المراد أنها في خفة حركتها- مع عظم جثتها- كالحيّة الصغيرة التي تتحرك بكل سرعة و خفّة وَلَّى موسى عليه السّلام مُدْبِراً فجعل يركض إلى الوراء خوفا منها وَ لَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع و لم يلتفت، فكأنّ الراجع و الملتفت يعقب الأمر السابق، بخلاف الماشي في طريقه الذي لا يلتفت، و لعلّ إلقاء هذا الخوف في قلب موسى عليه السّلام كان لحكمة التدريب على تحمل المشاق فإن الإنسان ينضج بسبب المخاوف و الأتعاب، فيكون أصلح لإدارة دفة الحياة.

و هناك خوطب بقوله سبحانه يا مُوسى لا تَخَفْ من هذه الحية إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ فإنهم بعين الله سبحانه، و معنى «لديّ» لدى لطفي بهم و عنايتي لهم و هذا الكلام كان تمهيدا لتقوية قلب موسى حتى يلاقي المكذبين و المهددين برباطة جأش و قلب قويّ غير و جل.

[12] إِلَّا مَنْ ظَلَمَ استثناء

منقطع، و قد ذكرنا أن مثل هذا الاستثناء إنما يؤتى به بملاحظة انسلاخ المستثنى منه عن القيد، فكأنه قال «إني لا يخاف لدي أحد» «إلّا من ظلم» «أما المرسلون فلا يخافون» ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي تاب- و هو حسن- بعد العصيان- و هو سوء-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 93

[سورة النمل (27): آية 12]

وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12)

فإنه يخاف أن لا يغفر ذنبه، و خصص الخوف بهؤلاء، لأن من لم يسي ء، و من أساء و لم يتب، لا يخافان فإن الأول لا موجب لخوفه، و الثاني لا يعترف و إلّا تاب، و غير المعترف لا يخاف، و في الكلام انتقال من الخوف من الأسباب الخارجية- كالحيّة- إلى الخوف من عذاب الله و انتقامه و من تاب بعد العصيان فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أغفر ذنبه، و أتفضل عليه و هو فوق الغفران، فإنك قد تغفر للمذنب ثم تعطيه فوق ذلك دينارا، و كان هذا الكلام «إلا من ظلم ... إلى آخره» تمهيد لحال الكفار و العصاة الذين يرسل إليهم موسى عليه السّلام و تعليم لموسى بأنّ الله غفّار لمن تاب.

[13] وَ أَدْخِلْ يا موسى يَدَكَ فِي جَيْبِكَ و هو شق الثوب الأعلى طرف الحلق، فكان يدخل يده من الشق، و يجعلها تحت إبطه تَخْرُجْ اليد حين تخرجها بَيْضاءَ مشرقة كالشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير أن يكون البياض من أجل المرض و البرص، و هي آية أخرى زوّد بها موسى عليه السّلام حجة على نبوته فِي تِسْعِ آياتٍ أي إنا أرسلناك في تسع معجزات، و الإتيان ب

«في» لتشبيه الإنسان الحائز لها، بالّذي في وسط الشي ء، لأنها تحيط بها و تحرسها و كأنّها مشتملة عليه كما يقال جاء فلان في جلالة إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ القبط الكافرين بالله و باليوم الآخر إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن طاعة الله سبحانه، و أمره، من فسق بمعنى خرج.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 94

[سورة النمل (27): الآيات 13 الى 14]

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

[14] فذهب موسى إلى فرعون بتلك الآيات، و أظهرها له فَلَمَّا جاءَتْهُمْ أي جاءت فرعون و قومه آياتُنا معاجزنا التي زودنا بها موسى عليه السّلام مُبْصِرَةً أي في حال كون تلك الآيات تبصّر عن العمى، و تهدي السبيل قالُوا هذا الذي جئت به يا موسى سِحْرٌ مُبِينٌ واضح ظاهر، فليس ما جئت به إعجازا، و إنما هو سحر.

[15] وَ جَحَدُوا أي أنكر آل فرعون بِها أي بالآيات و الباء في «بها» من قبيل «الباء» في (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) «1» كما تقدم في تفسير الآية وَ اسْتَيْقَنَتْها أي علموا أنها معاجز علم يقين أَنْفُسُهُمْ فاعل استيقنتها أي تيقنت نفوسهم بالآيات، و إنما جي ء بلفظ «أنفسهم» للدلالة على رسوخ اليقين و الاطمئنان في النفوس، و إنّما جحدوا بعد اليقين ظُلْماً على أنفسهم بالكفر، و على بني إسرائيل الذين اضطهدوهم وَ عُلُوًّا أي طلبا للعلو و الرفعة و تكبرا فَانْظُرْ يا رسول الله، أو كل من يتأتّى منه الرؤية، و المراد رؤية القلب كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي فرعون و قومه الذين أفسدوا بالكفر و العصيان فقد كانت عاقبتهم أن أغرقهم الله سبحانه في

البحر، حتى لم تبق منهم باقية، و أورث أرض مصر بني إسرائيل، و جعل كلمته هي العليا، و كلمة الذين كفروا السفلى.

______________________________

(1) الفرقان: 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 95

[سورة النمل (27): الآيات 15 الى 16]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)

[16] ثم يأتي السياق لبيان قصة داود و سليمان و هما من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، و إذ شاهدنا بعض قصص موسى فلنشاهد بعض قصص هذين النبيين العظيمين، مع الارتباط لما ذكر هنا بموضوع العقيدة ارتباطا وثيقا وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ و هو ابن داود عليهما السّلام عِلْماً أي علما عظيما، و من جملة علومهم كان علم الحكومة و الفصل في القضايا وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بالرسالة و العلم و سائر الأمور عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ و إنما قالوا «على كثير» لأن جملة من عباد الله المؤمنين- و هم جماعة من الأنبياء- مساوون لهما أو أفضل منهما.

[17] وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ في الأمور المعنوية و المادية، و بهذه الآية استدلت الصديقة الطاهرة عليها السّلام، على أن الأنبياء عليهم السّلام يورثون في مقابل

الحديث المختلف الذي نسبوه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذبا و زورا ب «إنا 2 معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة»

وَ قالَ سليمان عليه السّلام على وجه الشكر و الاعلام يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي نطقها، فإن الطيور تتكلم بعضها

مع بعض، و قد منح الله سبحانه فهم نطقها لسليمان عليه السّلام و المنطق مصدر ميمي بمعنى النطق وَ أُوتِينا أي أعطينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ ما يحتاج إليه الأنبياء عليهم السّلام و الملوك، من العلم و القدرة و المال و الجاه و غيرها إِنَّ هذا الذي منحنا الله سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 96

[سورة النمل (27): الآيات 17 الى 19]

وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ الظاهر الذي تفضل علينا به.

[18] وَ حُشِرَ أي جمع لِسُلَيْمانَ عليه السّلام، في ذات يوم جُنُودُهُ فقد أحضر الجميع بخدمته مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فقد كان الجميع مسخرين له بأمر الله سبحانه و قدرته فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يمنعون، و يحبس أولهم عن المضي ليلحقه الأخير من الجيش فيجتمعون، من وزع بمعنى منع، يقال ليس لفلان وازع، أي مانع يمنعه عن العمل الفاسد.

[19] حَتَّى إِذا أَتَوْا سليمان مع الجنود عَلى وادِ النَّمْلِ إضافة إلى النمل لكثرة النمل في ذلك الوادي قالَتْ نَمْلَةٌ و التاء للوحدة كتمرة و تمر، و شجرة و شجر يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ و جحوركم لا يَحْطِمَنَّكُمْ التحطيم التكسير و التهشيم أي لا يكسرنكم و لا يدوسكم بالأقدام سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و لا يلتفتون إلى تحطمكم فإن الإنسان

لا يبالي بتحطيم النمل و صغار الحيوان، و يظهر من هذا أنهم كانوا ركبانا و مشاة، لا محمولين على الريح في الهواء.

[20] و شاء الله سبحانه أن يسمع سليمان كلام النملة فَتَبَسَّمَ سليمان ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها التبسم هو مقدمة الضحك، فإنه ضحك خفيف، و الإتيان بضاحكا، لإفادة أنه عليه السّلام ضحك ضحكا كثيرا لكن على نحو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 97

[سورة النمل (27): آية 20]

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20)

التبسم لا على نحو القهقهة، و إنما ضحك عليه السّلام أن الإنسان إذا سمع أو رأى ما لا عهد له به أخذه التعجب ثم الضحك، ثم توجه إلى الله سبحانه شاكرا لهذه النعمة التي أنعمها عليه بتعريفه منطق الحيوانات وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني من وزع بمعنى كفّ و المعنى اجعلني أزع شكر نعمتك أي أكفّه و امنعه أن يذهب عني فلا أنفك عنه أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ و المراد بالنعمة الجنس فإن سماع كلام النملة ذكّره بنعم الله عليه، كما إن الإنسان إذا رأى نعمة تذكر سائر النعم وَ عَلى والِدَيَ فقد أكرمت أبي بالنبوة و الحكمة و فصل الخطاب و أن الحديد كان يلان في يده و أكرمت أمي بأن جعلتها زوجة نبي و والدة نبي بما كان لها من الطهارة و النزاهة وَ ألهمني أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً أي عملا صالحا، و المراد به الجنس، نحو ربنا آتنا في الدنيا حسنة، و السرّ في ذلك أن لفظ المفرد له جهتان جهة المادة و جهة الأفراد، فقد يراد الأولى فيفيد الجنس، و قد يراد الثانية مع الأولى فيفيد الفرد تَرْضاهُ بأن يكون صلاحه

من هذا النوع الذي أنت ترضاه، لا صلاحا- بنظر الناس- و لكنك لا ترضاه وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ يا رب فِي عِبادِكَ أي في جملة الصَّالِحِينَ بأن أكون في جملتهم في الدنيا و الآخرة.

[21] ثم ينتقل السياق إلى قصة أخرى من قصص سليمان عليه السّلام وَ في ذات يوم تَفَقَّدَ سليمان عليه السّلام الطَّيْرَ أي تعرّف على أحوال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 98

[سورة النمل (27): الآيات 21 الى 22]

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)

الطيور ليرى أيها حاضر و أيها مفقود، فلم يجد الهدهد من بينها فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أي ما للهدهد لا أراه، و كان هذا تعبير مؤدّب، حتى كأن الإنسان أصابه شي ء- كغفلة أو ذهول أو جهل- حتى لا يرى ما يطلبه، و إن كان المطلوب حاضرا أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ فهو غائب حتى لم أره، و المعنى أني لا أراه مع حضوره، أم إنه غائب و لذا لا أراه؟

[22] لَأُعَذِّبَنَّهُ أي أعذبن الهدهد عَذاباً شَدِيداً كنتف ريشة أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ جزاء لغيبته بدون رخصة، فيعتبر بذلك أبناء جنسه أَوْ لَيَأْتِيَنِّي أي يجي ء إليّ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة واضحة ظاهرة تبين عذره في غيبته بدون رخصة، و إنما تسمى الحجة، سلطانا، لأنها تسيطر على الخصم فلا مفلت له منها.

[23] فَمَكَثَ أي لبث سليمان مكثا غَيْرَ بَعِيدٍ في المدة، أي انتظر زمانا يسيرا قليلا، و قد رأى الهدهد راجعا، فَقالَ لسليمان أَحَطْتُ أي علمت، و يقال للعلم إحاطة، لأنه يحيط بالمعلوم، و نسبة الإحاطة إلى الشخص من باب علاقة الحال و المحل،

إذ الإنسان وعاء العلم بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أنت يا سليمان، و كأنّه أراد بذلك أن يبدي عذره في غيبته و أنه لم يشتغل بأمر نفسه، و إنما كانت غيبته لأجل الفحص و البحث في أطراف ملك سليمان، كجولة استطلاعية يريد بها خير سليمان عليه السّلام لا خير نفسه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 99

[سورة النمل (27): الآيات 23 الى 25]

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (25)

وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ و هي مدينة في اليمن، سميت باسم رجل كان يسمى «سبأ» لسكونة أولاده فيها «بنبإ» أي بخبر- متعلق ب «جئتك» يَقِينٍ لا كذب فيه.

[24] إِنِّي وَجَدْتُ في ذلك البلد امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ أي أنها ملكة عليهم، و مراده بالمرأة «بلقيس» و معنى تملكهم تتصرف فيهم تصرف الملّاك في أملاكهم وَ أُوتِيَتْ أي أعطيت مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه الملوك، من المال و الجلال و الجاه و نفوذ الكلمة و ما أشبهها وَ لَها عَرْشٌ أي كرسي تجلس عليه عَظِيمٌ و بعد ما ذكر الهدهد ملكها بين دينها.

[25] قال وَجَدْتُها وَ قَوْمَها أي أتباعها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فلا يسجدون لله سبحانه، و إنما سجدتهم للشمس وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ حيث أن الشيطان هو الذي يوحي و يوسوس إلى الكفار و العصاة بكفرهم و عصيانهم فَصَدَّهُمْ أي منعهم عَنِ السَّبِيلِ الحق، و هو سبيل الدين، و سبيل الله سبحانه

فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إلى السبيل حيث إن الشيطان منعهم عنه.

[26] فقد منعهم عن السبيل لكي أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 100

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 149

[سورة النمل (27): الآيات 26 الى 28]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28)

أي المخفي من الأشياء فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإن المخلوقات كلها مخفية في كتم العدم و إنما يخرجها الله سبحانه إلى الوجود، و لعلّ توصيف الهدهد، لله سبحانه بهذا الوصف، لأجل أنه سبحانه زوده بنظر حادّ يرى به الماء تحت الأرض كما يرى الإنسان الماء في القارورة وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ في أنفسكم، و في أسراركم، و من مخابئ في الأرض وَ ما تُعْلِنُونَ من الكلام و من سائر الأشياء.

[27] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له، من شمس أو غيرها رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي الملك العظيم، الذي وسع كرسيّه السماوات و الأرض، فما ذكرته من كون عرش بلقيس عظيم، إنما هو عظيم بالنسبة إلى عروش الدنيا، أما العرش العظيم الذي هو أعظم من كل شي ء فهو عرش الله سبحانه، و قد يحتمل أن يكون هذا من كلام سليمان، أو من كلامه تعالى في القرآن.

[28] و لما أخبر الهدهد سليمان عليه السّلام بهذا الخبر قالَ سليمان سَنَنْظُرُ في قولك و نبحث عن خبرك لنرى أَ صَدَقْتَ في مقالك أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي في جملتهم و منهم.

[29] ثم كتب سليمان عليه السّلام كتابا يأمر فيه بلقيس بالإيمان و بأن تسافر إليه و أعطاه إلى الهدهد

ليوصله إليها و قال له اذْهَبْ يا هدهد بِكِتابِي هذا الذي كتبته فَأَلْقِهْ أي اطرحه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 101

[سورة النمل (27): الآيات 29 الى 32]

قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)

إِلَيْهِمْ أي إلى أهل سبأ، و المراد إلى الملكة و قومها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض كأنك راجع، و استتر في محل تسمع كلامهم فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ أي ماذا يردون في جواب الكتاب، و يقولون بينهم عنه؟

[30] فمضى الهدهد بالكتاب و ألقاه في مجلس بلقيس، فأخذته و فضته و قرأته ثم قالَتْ لمن حضرها من الوزراء و الأشراف يا أَيُّهَا الْمَلَأُ و يسمى الأشراف ملأ لأنهم يملئون العيون جلالا و الصدور هيبة إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ أي رفيع، فإن الكتاب الرفيع يكرم و يحترم.

[31] إِنَّهُ أي الكتاب مِنْ سُلَيْمانَ النبي وَ إِنَّهُ أي الشي ء المكتوب فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[32] أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ هاتان الجملتان كانتا كل ما في الكتاب الذي أرسله سليمان إلى بلقيس، و معناها، آمركم أن لا تظهروا الكبر و العلو عليّ، بعدم إطاعة أمري، و آمركم أن تسيروا- أي الملكة و من في حاشيتها- نحوي في حال كونكم مسلمين منقادين لي، أو مسلمين لله تعالى.

[33] و لما قرأت بلقيس الكتاب عليهم قالَتْ للأشراف و الوزراء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 102

[سورة النمل (27): الآيات 33 الى 34]

قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي

ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)

يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أي الجماعة أَفْتُونِي أي أشيروا عليّ فِي أَمْرِي أي الأمر المرتبط بي من التسليم لسليمان أو الحرب معه، و الفتوى الحكم بالصواب أي احكموا بالصواب في هذه القضية ما كُنْتُ أنا قاطِعَةً أَمْراً أجزم فيه برأيي وحدي حَتَّى تَشْهَدُونِ أي تحضرون و تشيرون فعن رأيكم و مشورتكم أمضى في الأمر.

[34] قالُوا في جوابها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ أي أصحاب قوة و قدرة و سلاح و جيش وَ أُولُوا بَأْسٍ أي شجاعة شَدِيدٍ لا يغالبنا أحد فإن شئت أن لا تسلمي حاربنا و إن شئت أن تسلمي صالحنا وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ أي مفوض إليك في القتال و عدمه فَانْظُرِي و فكري في أمرك ما ذا تَأْمُرِينَ أي ما الذي تأمريننا به لنمتثله؟

[35] قالَتْ في جوابهم، إن الأصلح أن لا نحاربهم، فإنا إذا حاربناهم و غلبوا علينا أذلّونا ف إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أي مدينة، و المراد دخلوها بالعنوة و الغلبة أَفْسَدُوها بالإهلاك و التدمير و السلب و النهب وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أي أهانوا أشرافها و كبراءها، لأن الأشراف لا يخضعون لهم، فلا بدّ لهم أن يذلوهم حتى يستقيم لهم الأمر وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ الظاهر إن هذا من تتمة كلام بلقيس، فإن الإنسان غالبا يؤكد الكلام بالتصديق الإجمالي، فإنك بعد أن تقص قصة تقول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 103

[سورة النمل (27): الآيات 35 الى 36]

وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ

(36)

«هكذا كان» و بعد أن تأمر أمرا «هكذا فأفعل».

و قد أراد بعض الذين بهرتهم الديمقراطية الغربية أن يطبق هذه الآية عليها، بتقريب أن اللازم أن يكون للرئيس مجلس يراجعهم في شؤون الدول، و هم يظهرون ما لديهم من قوة و مال و فكر و يكون المرجع الأخير هو الرئيس، و لكن لا ربط لهذه الآية بذلك، إذ إنما استشارت بلقيس الوزراء و الأشراف، و هذا هو المعتاد في كل حكومة ملكية و إن لم يكن لهم مجلس و برلمان بالإضافة إلى ذلك حكاية عن عمل جماعة من عبّاد الشمس الكافرين، و لا يدل على تقرير الله لهم.

[36] وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ أي إلى سليمان و قومه بِهَدِيَّةٍ لأصانعهم و أليّن جانبهم حتى لا يطمعوا في ملكي فَناظِرَةٌ أي أنظر و أنتظر بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي بقبول أو ردّ- من جانب سليمان- يرجعون رسلي الذين أرسلهم مع الهدية.

[37] ثم أرسلت رسولا بهدية فَلَمَّا جاءَ الرسول سُلَيْمانَ عليه السّلام قالَ سليمان للرسول أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ على نحو الاستفهام الإنكاري؟ فإني لا أحتاج إلى مالكم، و «تمدون» جمع المخاطب من فعل المضارع، من باب الأفعال و الهمزة للاستفهام و النون الثانية للوقاية، و قد حذفت ياء المتكلم تخفيفا فَما آتانِيَ اللَّهُ أي أعطانيه من أنواع النبوة و الملك و الجاه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي أعطاكم من أموال الدنيا بَلْ أَنْتُمْ أي من لا حظ له كحظي بِهَدِيَّتِكُمْ أي هدية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 104

[سورة النمل (27): الآيات 37 الى 39]

ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)

قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)

بعضكم إلى بعض تَفْرَحُونَ أما مثلي فلا يفرح بالهدية.

[38] ارْجِعْ أيها الرسول إِلَيْهِمْ إلى بلقيس و قومها فقل لهم إن لم يسلموا فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي لا طاقة لهم و لا قدرة لهم على دفعها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها من مدينتهم، إن بقوا مصرين على الكفر أَذِلَّةً جمع ذليل، أي في حال كونهم أذلاء وَ هُمْ صاغِرُونَ أي صغيروا القدر.

[39] و رجع الرسول إلى بلقيس يخبرها بأمر سليمان عليه السّلام، و قد ذكر لها علائم كونه نبيّا، لا ملكا فقط و لذا تجهزت بلقيس للمسير إليه حسب أمره «و أتوني مسلمين»، و أخبر سليمان بأنها خرجت من اليمن مستعدة للسفر إليه حينذاك قالَ سليمان عليه السّلام يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا لمن حضر عنده من الأشراف و العظماء أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها أي كرسي بلقيس، فلقد كان لها كرسي عظيم تجلس عليه قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي أي تأتي بلقيس و أشراف قومها إليّ، لأنها سافرت في عدّتها مُسْلِمِينَ أي في حال كونهم مسلمين، و لعلّ وجه طلب سليمان عرشها أنه أراد أن يريها مقدرته على مثل ذلك الأمر الخارق، حتى تذعن بنبوته، و تصدق دعوته، فكان من قبيل معاجز الأنبياء لإثبات الرسالة.

[40] قالَ في جواب سليمان عليه السّلام عِفْرِيتٌ أي قوّي مِنَ الْجِنِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 105

[سورة النمل (27): آية 40]

قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ

فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

الذين كانوا بحضرة سليمان أَنَا آتِيكَ بِهِ أي أجي ء إليك بالعرش قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي مجلسك، فإنه من الطبيعي أن يمتد جلوس الملوك إلى وقت الظهر ثم يقومون من محلهم للصلاة و الراحة و الغذاء- مثلا-.

و لقد كان ذلك العفريت يريد أن يطير فيأتي بالعرش بالطريق العادي لدى الجن وَ إِنِّي عَلَيْهِ أي على إتيان العرش لَقَوِيٌ قادر على حمله أَمِينٌ آتيك به بدون خيانة.

[41] قال سليمان عليه السّلام أريد أسرع من ذلك قالَ آصف بن برخيا و كان وزير سليمان و ابن أخته و يعرف الاسم الأعظم لله سبحانه الذي إذا دعا به أجاب الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ و المراد الكتاب المخزون المكنون عند الله سبحانه، الذي لا يطلع عليه إلا من شاء من الأنبياء و الأئمة و الصالحين أَنَا آتِيكَ بِهِ بالطلب من الله سبحانه باسمه الأعظم قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ارتداد الطرف رجوعه بعد النظر إلى مكان ما، فإن الإنسان إذا نظر إلى مكان ثم أراد أن يأخذ نظره منه إلى أمام رجله، يقال ارتد إليه طرفه، لأن الطرف رجع إلى نفسه بعد أن كان إلى محل آخر، قال آصف هذا الكلام و دعا باسم الله الأعظم، و إذا يرى سليمان أن عرش بلقيس حاضر أمامه.

فَلَمَّا رَآهُ أي رأى سليمان العرش مُسْتَقِرًّا في حال استقرار و ثبات عِنْدَهُ بعد أن ارتد طرفه إلى قرب محلّه قالَ هذا الإحضار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 106

[سورة النمل (27): الآيات 41 الى 42]

قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا

الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ (42)

مِنْ فَضْلِ رَبِّي و نعمه إليّ حيث وهب لي خليفة كآصف يتمكن من هذا العمل العجيب و قد كان سليمان قادرا على أن يحضره هو بالذات، لكنه أراد إظهار فضل آصف على قومه، و قد فضلني بهذا لِيَبْلُوَنِي البلاء الامتحان و الاختبار، أي ليمتحنني أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ أي هل أشكره سبحانه على النعمة، أم أكفر نعمته و لا أشكره؟ فإن الله سبحانه إذا منح أحدا نعمة كان اختبارا ليظهر هل أنه يشكر أم يكفر بالنعمة- لا ليعلم الله، فإنه عالم، بل- ليستحق المحسن الثواب و المسي ء العقاب وَ مَنْ شَكَرَ لله تعالى فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ إذ فائدة الشكر تعود إليه بالذات وَ مَنْ كَفَرَ و لم يشكر النعمة فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ عن شكر الشاكرين كَرِيمٌ متفضل على عباده شاكرهم و كافرهم.

[42] قالَ سليمان عليه السّلام نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي غيروا سريرها إلى حالة تنكرها و لا تعرفها، إذا رأته، و قد قيل أنه عليه السّلام أراد بذلك اختبار عقلها و إنها هل تعرف أم لا، ل نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي إلى معرفة عرشها بفطنتها أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ قيل فنزع ما كان على العرش من الفصوص و الجوهر و غيرت ألوان مواضعه الملونة، فجعل ما كان أحمر أخضر و هكذا.

[43] فَلَمَّا جاءَتْ بلقيس إلى محلّ سليمان قِيلَ لها أَ هكَذا عَرْشُكِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 107

[سورة النمل (27): الآيات 43 الى 44]

وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ

إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

أي هل أن عرشك مثل هذا العرش الموضوع ها هنا؟ قالَتْ و قد أدركت بفطنتها الحقيقة كَأَنَّهُ أي كأن هذا العرش الموضوع هُوَ العرش الذي لي و خلفته ورائي جئتم به إلى هنا ثم قالت وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ بقدرة الله سبحانه، و صحبة نبوة سليمان مِنْ قَبْلِها أي من قبل هذه الخارقة التي نشاهدها بالنسبة إلى العرش وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ بسليمان، فلا نعجب من إتيان العرش إلى هنا.

[44] ثم ذكر سبحانه، إنها إنما أسلمت بعد كتاب سليمان، و إلا فإنها كانت تعبد الشمس، كما قال «الهدهد» وَ صَدَّها أي منعها- سابقا- عن الإسلام ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي عبادتها للشمس، و إنما عبدت الشمس ل إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي نشأت فيهم و كانت منهم، و لذا اعتقدت كما كان يعتقد قومها، فإن للمحيط أثرا قاهرا على النساء.

[45] و قد أمر سليمان عليه السّلام أن يبني لها «صرح» أي موضع منبسط من قوارير كالقصر، و قد أجرى الماء تحت أرض الصرح بحيث كان يبدو أنه ماء واقف على الأرض، و لعلّه أراد بذلك اختبار عقلها أيضا، هل تعرف إنه صرح أم تظن أنه ماء، و قيل أن الشياطين خافت أن يكون لها ولد منه، فنفروا سليمان منها، قائلين إن رجلها كرجل حمار، فأراد سليمان أن يعرف صدق ذلك، أقول: و إن صدق هذا، لم يكن فيه دليل على إن سليمان أو بعض الرجال نظروا إلى ساقها، فلعلّ سليمان كان قد أحضر نساء للنظر إلى ساقيها، بدون أن يقلن لها اكشفي عن ساقك، كما أنه ليس دليل على إن قول الشياطين أثّر في

سليمان، إذ هو عليه السّلام أعلم منهم، و إنما أراد الكشف للناس عن كذبهم بما تشهده النساء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 108

[سورة النمل (27): آية 45]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45)

و لما جاءت بلقيس قِيلَ لَهَا و القائل بعض الخدم ادْخُلِي الصَّرْحَ و هو المحلّ المعدّ لاستقبالها فَلَمَّا رَأَتْهُ أي رأت بلقيس الصرح حَسِبَتْهُ أي ظنته لُجَّةً من الماء، و اللجة معظم الماء، فاستعدت لخوضها بأرجلها وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها أي رفعت ثوبها عن رجليها، لتدخل الماء، و لا يبلل ثوبها قالَ سليمان، أو بعض الخدم إِنَّهُ أي ما ترين ليس ماء، و لعلهم أعلموا سليمان بأنها أخذت في كشف قدميها لخوض الماء- بظنها- صَرْحٌ أي قصر مُمَرَّدٌ قد مرّد و ملّس، و منه يقال لمن لا شعر له، أي هو مملّس مِنْ قَوارِيرَ جمع قارورة، و المراد بها الزجاج، و إذ دهشت الملكة من هذا الحادث جعلت تستغفر عن ذنبها، فإن من عادة الإنسان طلب الغفران حين يدهش و يصاب بكارثة، إذ يزول الكبرياء، حينذاك قالَتْ مناجية، يا رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعبادتي للشمس في سالف الزمان وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فالإسلام لله تعالى، لكنه مع سليمان النبي، و لعلّ الإتيان بهذه اللفظة، للاعتراف برسالته، و أرادت أن تبدي اعترافها بالمبدأ و الرسالة.

[46] و بعد تمام قصة سليمان، يأتي السياق ليبين طرفا من قصص سائر الأنبياء وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أي قبيلة ثمود أَخاهُمْ في النسب صالِحاً فقال لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له فَإِذا هُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 109

[سورة النمل (27): الآيات 46 الى

47]

قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

أي ثمود فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ مؤمنون، و كافرون، و كل يخاصم الفريق الآخر يقول أنت على باطل و أنا على حق.

[47] قالَ صالح عليه السّلام لمن بقي في الكفر يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ فقد كانوا يقولون لصالح عجّل علينا بالعذاب الذي وعدتنا إن بقينا على الكفر،- على وجه الاستهزاء- فقال لهم صالح لم تطلبون عجلة العذاب قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي قبل التوبة، و سمي العذاب سيئة لأنه يسي ء إلى الإنسان، و المراد ب «قبل الحسنة»، عوض طلبكم الحسنة، فإنه كثير ما يأتي قبل لا بمعنى الزمان، بل بمعنى العوض لَوْ لا أي هلّا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ تطلبون غفرانه بسبب الإيمان و العمل الصالح؟

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لكي ترحموا بسبب الاستغفار.

[48] قالُوا في جواب صالح عليه السّلام اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ أي تشأمنا بك و بمن على دينك من المؤمنين فأنتم شؤم علينا تجلبون لنا الفقر و القحط و المشاكل، و أصل «اطير» تطير، أدغمت التاء في الطاء، و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن قالَ لهم صالح طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي أن الشؤم أتاكم من عند الله حيث كفرتم و للكفر نكبة و مشاكل كما قال سبحانه (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1» و قد كانت الأمم تتشاءم بالطائر الخاص، كالبوم، و الغراب، لما كان عندهم

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 110

[سورة النمل (27): الآيات 48 الى 49]

وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا

بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (49)

مشهورا أن الإنسان إذا وقع نظره على الطائر الفلاني عند حاجة له فإنها لا تقتضي تأثّرا من ذلك الطائر، ثم سمى كل تشاؤم بالشر طائرا، و إن كان تشاؤما من الشخص أو حيوان بري، و اشتق منه «التطير» بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي تختبرون بالخير و الشر، فإن الفتنة بمعنى الاختبار، كما قال تعالى (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) «1» يعني ليس هذا الذي يصيبكم من المشاكل بسببي و إنما هي فتنة و امتحان لكم.

[49] وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ التي بها صالح، و هي «الحجر» تِسْعَةُ رَهْطٍ أي تسعة أشخاص يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بإلقاء الفتن و تدبير المكر وَ لا يُصْلِحُونَ لعلّ الإتيان بهذه الجملة لإفادة أنه لم يكن في عملهم إصلاح، و إنما فساد محض.

[50] قالُوا أي قال بعض هؤلاء الرهط المفسدون لبعضهم الآخر تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أي ليحلف بعضكم لبعض، ف «تقاسموا» فعل أمر، من باب التفاعل لَنُبَيِّتَنَّهُ أي لنقتلن صالحا وَ أَهْلَهُ بياتا أي بالليل ثُمَّ لَنَقُولَنَ صباحا إذا ظهر قتله و رمينا بذلك- و إنما قالوا هذا لأنهم كانوا معروفين بالفساد فإذا حدث حادث رموا به فلا بد لهم من إحضار الجواب- لِوَلِيِّهِ أي ولي صالح الذي يطالب بدمه، و المراد إما الحكومة أو ذووا رحمه أو من أشبههما ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ

______________________________

(1) الأنفال: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 111

[سورة النمل (27): الآيات 50 الى 52]

وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً

لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)

أي هلاك أهل صالح، و يطلق الأهل على العائلة حتى الرئيس، و مهلك مصدر ميمي، أو اسم زمان أي زمان هلاكهم أو اسم مكان أي مكان الهلاك وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما نقول، هكذا دبروا حيلة أن يفعلوا الفعلة ثم يقولوا لوليه هذه الجملة ليبرّءوا ساحتهم من القتل.

[51] وَ مَكَرُوا هؤلاء مَكْراً بتدبير هذه الخطة وَ مَكَرْنا مَكْراً أي دبّرنا تدبيرا خفيا بحيث لم يعلموا به- فإن المكر هو التدبير الخفي لإلقاء الخصم إلى الهلاك- فقد أمر الله سبحانه بعذاب ثمود وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمكر الله لهم،

فقد روي أنهم لمّا أرادوا قتل صالح وقعت عليهم قطعة من الجبل فهلكوا جميعا و أنجى الله صالح من أيديهم

«1».

[52] فَانْظُرْ يا رسول الله أو كل من يتأتى منه النظر، و المراد اعلم و اعتبر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ فهل مكرهم نفذ أم ردّ إلى نحرهم؟ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أي أهلكناهم وَ قَوْمَهُمْ بأن صاح عليهم جبرائيل صيحة صاروا كهشيم المحتضر أَجْمَعِينَ حتى لم ينجح منهم أحد، و بقي صالح، و المؤمنون في سلامة و عافية.

[53] فَتِلْكَ التي يراها الرائي في طريقه من الحجاز إلى الشام و قد مرّ بها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في غزوة تبوك بُيُوتُهُمْ و آثارها الباقية خاوِيَةً أي في

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 7 ص 392.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 112

[سورة النمل (27): الآيات 53 الى 55]

وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (53) وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

حال كونها خاوية، أي خالية منهدمة بِما ظَلَمُوا

أي بسبب ظلمهم أنفسهم بالكفر و العصيان إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآيَةً على بأس الله سبحانه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يعلمون الأمور، أما الجهّال فإنّهم لا يدركون العبر و العظات.

[54] أهلكنا الكفار وَ أَنْجَيْنَا من العذاب الَّذِينَ آمَنُوا بصالح وَ كانُوا يَتَّقُونَ المعاصي و الآثام.

[55] ثم يأتي السياق لبيان قصة لوط وَ اذكر يا رسول الله لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ منكرا عليهم العصيان أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ و المراد بها اللواط؟

أي كيف تلوطون، و الفاحشة، صفة لمقدر، أي الفعلة الفاحشة و سميت فاحشة لأنها تفحش و تتجاوز الحد، من فحش بمعنى تجاوز الحد وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي و الحال أنكم تعلمون أنها فاحشة.

[56] أَ إِنَّكُمْ أيها القوم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تعملون مع الرجال شَهْوَةً إما مفعول أو تمييز، و أصلها ما تشتهيه النفس مِنْ دُونِ النِّساءِ فقد تركوا نساءهم، و اشتغلوا بالرجال، إن ذلك ليس لقضاء الشهوة، و إلا كانت النساء أحسن بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ما في هذا العمل من الإثم و العقاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 113

تقريب القران الى الأذهان الجزء العشرون من آية (57) سورة النمل إلى آية (46) سورة العنكبوت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 114

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 115

[سورة النمل (27): الآيات 56 الى 59]

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى

آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

[57] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ للوط إِلَّا أَنْ قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي لوط و آله- و قد مرّ إن «آل فلان» يطلق عليه و على آله، تغليبا- مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي مدينتكم إِنَّهُمْ أُناسٌ أي جماعة يَتَطَهَّرُونَ عن إتيان أعمالنا، و كان هذا على وجه السخرية.

[58] فَأَنْجَيْناهُ أي أنجينا لوطا وَ أَهْلَهُ بناته اللاتي كنّ معه إِلَّا امْرَأَتَهُ التي كانت تساعد القوم على أعمالهم الفاسدة قَدَّرْناها أي هكذا جرى تقديرنا بالنسبة إليها إنها مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في القرية لتعذب بعذابها.

[59] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أي على أهل القرية مَطَراً من الحجارة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس المطر مطر الذين أنذروا فلم ينفع فيهم الإنذار.

[60] و بعد ذكر جملة من أحوال الأمم السالفة و كيف أن الله عذبهم لما تمردوا عن الأوامر يرجع السياق إلى الرسول و حاله مع قومه و كيفية تبليغهم قُلِ يا رسول الله الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي وفقنا للإيمان، و نجاة المؤمنين و هلاك الكافرين وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى أي تحية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 116

[سورة النمل (27): آية 60]

أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

على الرسل المتقدمين الذين اصطفاهم الله سبحانه و اختارهم لوحيه، و معنى «السلام» أن يكونوا سالمين في تلك الدار من الأخطار، و إن غلب معنى التحية عليه، عند العرف آللَّهُ خَيْرٌ هنا همزتان، أحدهما للاستفهام، و الثانية همزة «أل» و إذا اجتمعت همزتان جاز أن تخفف أحدهما في صورة مدّ، أي: هل الله

خير أَمَّا يُشْرِكُونَ أي الأصنام التي يشركونها بالله تعالى؟ و قد تقدم أن الله كيف نجى المؤمنين، و أهلك من كان يعبد الأصنام، و على هذا فالجواب- الطبيعي- بعد تلك المشاهدات: أنّ الله خير.

[61] أَمَّنْ أصله «أم» «من» فأدغمت إحدى الميمين في الثانية خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أي ما تشركون خير أم خالق السماوات و الأرض وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ أي جهة العلو ماءً و هو المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ بذلك الماء، و هذا من الالتفات من الغيبة إلى التكلم و هو فن من فنون البلاغة حَدائِقَ جمع حديقة، و هي مجتمع الورود و الأشجار ذاتَ بَهْجَةٍ أي منظر حسن يبتهج به من رآه و يسر و يفرح ما كانَ لَكُمْ أيها الناس أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي أنتم لا تتمكنون من إنبات أشجارها، لو لا أن الله أنبتها فلا يزعم زاعم أنه هو الذي ينبت حيث يحرث و يكدّ و يسقي، إنه سبب ضعيف، و إنما الذي ينبت هو الله سبحانه أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي هل هنا لك في الكون إله آخر مع الله سبحانه؟ و هذا استفهام إنكاري، يأتي بعد الإلفات إلى صنع الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 117

[سورة النمل (27): الآيات 61 الى 62]

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62)

سبحانه بَلْ ليس معه إله و إنما هؤلاء المشركون هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يجعلون غير الله عدلا لله تعالى.

[62] أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً

أي مستقرا لا تميل و لا تضطرب و تصلح للسكنى لما هيّئ فيها من الوسائل وَ جَعَلَ خِلالَها أي وسطها و في مسالكها أَنْهاراً من الماء تجري لسقي الأرض و الإنسان و الحيوان وَ جَعَلَ لَها أي للأرض رَواسِيَ جمع راسية، و هي الجبال التي حفظت الأرض من التفكك و الاضطراب، فإن الأرض كرة تسبح في الجو، و لو لا الجبال التي هي كالأوتاد الحافظة للخشبات المتعددة من التفكك، لتفككت الأرض و انتشرت في الفضاء وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي بحر الملح و المراد به بحار الدنيا، و بحر العذب المراد به المياه الجارية العذبة حاجِزاً أي مانعا من شقوق الأرض حتى لا يختلط بعضها ببعض- كما تقدم في سورة الفرقان- أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ

صنع ذلك أو بعض ذلك، أم هو الله وحده؟ فلما ذا تشركون؟ بَلْ ليس إله مع الله و إنما أَكْثَرُهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ إنه ليس إله مع الله و لذا يشركون به.

[63] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ اضطرّ فعل متعد، يقال اضطر زيد خالدا، فخالد مضطر بصيغة المفعول إِذا دَعاهُ و إنما جي ء باسم «المضطر»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 118

[سورة النمل (27): آية 63]

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)

مع إنه سبحانه يجيب كل من دعاه، لأن إجابة المضطر أوقع و ألزم حيث إنه لا علاج له و لا ملجأ يلجأ إليه، و المراد إجابة دعائه و كشف ضره و حاجته وَ يَكْشِفُ السُّوءَ النازل بالشخص من فقر و مرض و سجن و غيرها، ثم إما المراد كشف سوء المضطر، فيكون كعطف

بيان، أو كشف مطلق الأسواء، فيكون تأسيسا لا تأكيدا، و هنا نكتة لا بأس بالتنبيه عليها، و هي أن بعض الأخيار، سلكوا هذه الجملة من الآية سلك الختوم تفؤلا، و اتباعا لما

ورد من «خذ القرآن ما شئت لما شئت»

فقراءتها من باب التعريض، لا من باب الطلب، حتى يقال، إنها عدل لما يشركون، و لا دعائية لها، فليست مثل «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» «1» فهذا من قبيل ما لو قال أحد الكرماء: أنا الذي أطعم الجائع، فجاء جائع يريد إشباعه، فإنه يقول: «أنا الذي أطعم الجائع» يريد التعريض به حيث إن هذا الكلام صدر منه وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي تخلفون آباءكم في ديارهم و أعمالهم، فمن غير الله سبحانه يهلك قرنا و يخلف قرنا آخر مكانه، و يفني جيلا و يجعل جيلا آخر خلفا له؟ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك؟ كلا! و لكن قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي قليل تذكركم و اتعاظكم، لأنكم لا تتفكرون و لا تعتبرون، و «ما» زائدة، لتأكيد القلة.

[64] أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ أي يرشدكم إلى طرقكم و مقاصدكم فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حيث تقطعون الصحراء أو البحار في الليالي المظلمة. إنه

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 119

[سورة النمل (27): آية 64]

أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)

هو الله الذي يهديكم بما جعل للطرق من علائم بالكواكب، و القمر، و مهب الرياح، و معالم الجبال، و غيرها، و إنما خصّ الظلمات بالذكر، مع أن الهادي في النهار هو الله أيضا، لشدة الحاجة في الليل المظلم إلى الهادي، و هناك يدرك الإنسان حاجته

إلى الاهتداء أكثر من إدراكه في النهار وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ الجامعة للسحاب و المثيرة له من أطراف السماء بُشْراً أي لأجل البشارة بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام رحمته التي هي المطر؟ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك بالاستقلال أو بالإشراك؟

كلا! تَعالَى اللَّهُ أي أن الله أعلى- و ليس في الفعل معنى الماضوية، و إنما يفيد معنى المادة فقط- عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الأصنام التي يشركونها بالله، أو تنزّه عن شركهم، على أن «ما» مصدرية.

[65] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشأ الخلق و يوجده من كتم العدم ثُمَ يميته ثم يُعِيدُهُ حيّا يوم القيامة للحساب و الجزاء؟ و قسم من الكفار و إن لم يكونوا يعترفون بالإعادة، لكن قسما آخر منهم كاليهود و النصارى يعترفون بذلك مع أنهم مشركون وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإدرار المطر وَ الْأَرْضِ بإنبات النبات؟ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك؟ قُلْ يا رسول الله للمشركين هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي هاتوا حجتكم على الشرك، و إن هناك إلها مع الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 120

[سورة النمل (27): الآيات 65 الى 66]

قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)

في دعواكم تعدد الآلهة و إن الأصنام شريكة لله سبحانه في الألوهية.

[66] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء، إن كان هناك شريك مع الله لزم أن يعلم الغيب إذ لا يكون الإله جاهلا، لكن لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وَ الْأَرْضِ من البشر الْغَيْبَ الذي غاب عن الحواس إِلَّا اللَّهُ وحده، و إنما يعلم الأنبياء

و الأئمة و من إليهم بعض الغيب بإرادة الله و تعليم الله لهم، كما قال سبحانه (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) «1» و لا منافاة بين الأمرين بأن لا يعلم الغيب أحد إلا الله، و أن يعلم غير الله الغيب بدلالة الله، أو يقال: إن المراد بالغيب في الآية مطلق الغيب- كما هو مقتضى كون «الغيب» جنسا محلى باللام- و هذا لا يعلمه أحد وَ ما يَشْعُرُونَ هذه المعبودات أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أيّ وقت بعثهم، فكيف يمكن أن يكون إلها ما لا يعلم الغيب، و ما لا يعلم وقت بعثه؟

[67] و بمناسبة الحديث عن عدم شعور المعبودات بالآخرة و وقت بعثها يأتي الكلام حول إنكار الكفار لها، كما ينكرون التوحيد، و الرسالة بَلِ إضراب عن الكلام الماضي الذي كان يدور حول الشرك و تعدد الآلهة إلى كلام مستأنف حول القيامة ادَّارَكَ أصله «تدارك» من باب «التفاعل» أدغمت «التاء» في «الدال» و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و التدارك هو متابعة الشي ء للشي ء، يقال: تدارك

______________________________

(1) الجن: 27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 121

[سورة النمل (27): الآيات 67 الى 68]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)

القوم أي تلاحقوا و جاء بعضهم إثر بعض، و المعنى تلاحق عِلْمُهُمْ و تتابع فِي باب الْآخِرَةِ فانتهى علو حدودها، و قصر عن الوصول إليها يقال هذا ما أدركه علمي أي بلغه و لم يلج فيه فهو منتهى العلم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي من الآخرة، فكيف يعرفوا موعدها و خصوصياتها؟ بَلْ

هُمْ مِنْها أي من الآخرة و معرفتها عَمُونَ جمع عمى، و هو أعمى القلب لتركه التدبر و النظر، و هذه مراتب ثلاث متدرجة في الشدة، فالأولى أن لا يعلمها إطلاقا، و الثانية أن يشك فيها، و الثالثة أن يكون أعمى عنها حتى لا يكون قابلا لتعلمها، و حيث إن كل مرتبة أشد من سابقتها صحت الرتبة و الإضراب- و هذا هو الذي نستظهره من الآية، و الله العالم-.

[68] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و اليوم الآخر أَ إِذا كُنَّا تُراباً بأن متنا و تحولنا إلى التراب وَ آباؤُنا كانوا ترابا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ من القبور للبعث و الحساب؟ قالوا ذلك على وجه التعجب و الإنكار، لأنهم أنكروا أن يتحول التراب إنسانا كما كان.

[69] لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي البعث نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ فيما مضى على لسانك و لسان الأنبياء، و لم يظهر أثر لذلك إِنْ هذا أي ما هذا الوعد و الإخبار بالبعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي إخباراتهم الخالية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 122

[سورة النمل (27): الآيات 69 الى 72]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)

عن الصحة، جمع أسطورة، و هي القصة الخيالية.

[70] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المكذبين، إن تماديتم في تكذيبكم و إنكاركم أصابكم مثل ما أصاب المكذبون السابقون و سِيرُوا فِي الْأَرْضِ حتى تصلوا إلى بلاد الأقوام الذين أهلكوا بتكذيبهم الأنبياء فَانْظُرُوا بأعينكم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا و عصوا، فإنكم ستشاهدون آثارهم الدراسة و

بلادهم الخربة و لا ترون من نسلهم أحدا.

[71] وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يا رسول الله كيف أنهم يعصون حتى تكون النار مصيرهم وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ نفسي مِمَّا يَمْكُرُونَ أي يدبرون في أمرك، لإبطال دينك و قتلك، فإن مكرهم سيرد إلى نحورهم، و الحزن على المعاند مما لا ينبغي.

[72] وَ يَقُولُونَ أي هؤلاء الكفار المنكرون للبعث مَتى هذَا الْوَعْدُ أي في أي زمان يكون العذاب أو بعث الأموات؟ إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون القائلون به صادِقِينَ بأنه يكون.

[73] قُلْ يا رسول الله عَسى أي لعل أَنْ يَكُونَ هذا الوعد بالبعث أو العذاب رَدِفَ لَكُمْ أي وراءكم رديفا لكم يلحقكم عن قريب، من الرديف الذي هو الإنسان الراكب على دابة ردف الآخر و خلفه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 123

[سورة النمل (27): الآيات 73 الى 76]

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (74) وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)

بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ من العذاب و البعث.

[74] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ و من فضله أنه يؤخّر عذاب هؤلاء، لعلهم يرجعون و يندمون فلا يلاقوا العذاب و المهانة وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَشْكُرُونَ نعمه و فضله.

[75] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما تخفيه صدورهم من الكفر و المكر و الرذيلة وَ ما يُعْلِنُونَ من أنواع الشرك و المعاصي، و مع ذلك يتفضل عليهم و يمهلهم.

[76] و ليس

علمه سبحانه خاصا بما يفعله هؤلاء من الأسرار و الإعلان بل وَ ما مِنْ غائِبَةٍ أي خصلة، أو عين غائبة عن الحواس فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كتاب ظاهر لدينا، فإنّا نعلم كل شي ء غاب عن الحواس.

[77] ثم عطف السياق- بعد الألوهية و المعاد- إلى ذكر القرآن فقال سبحانه إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و تخصيصهم بالذكر هنا، لأن هذه السورة تعرضت إلى ذكر جملة من قصصهم كقصة سليمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 124

[سورة النمل (27): الآيات 77 الى 79]

وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)

و موسى و داود عليهم السّلام و معنى القصة نقل الخبر أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من القصص و الأحكام، فقد حرفت كتبهم و لذا اختلفوا في القصص، و القرآن يبين الحق الواقع، و لذا ورد في وصفه قوله (وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ). «1» [78] وَ إِنَّهُ أي القرآن لَهُدىً هداية ترشد الطريق الذي يوجب سعادة الإنسان في دنياه و عقباه وَ رَحْمَةٌ أي سببا لتفضل الله على البشر و رحمته بهم لِلْمُؤْمِنِينَ و إنما خصتهم، لأنهم هم المنتفعون به الفائزون بجزاء عمله على طبقه.

[79] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين المختلفين من بني إسرائيل في قصص الأنبياء عليهم السّلام و جهات المبدأ و مزايا المعاد بِحُكْمِهِ أي على طبق حكمه الواقعي، لا على ما في كتبهم المحرفة، و المراد القضاء بينهم يوم القيامة ليجزي كلّا حسب ما عمل، كما يقول الحاكم: سأفصل بينكم، يريد الفصل مع الجزاء وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب

على أمره فيفعل ما يشاء الْعَلِيمُ بما فعل كل أحد، فيكون الجزاء طبق العمل بلا زيادة أو نقصان.

[80] و إذ كان الله سبحانه عزيزا عليما فَتَوَكَّلْ يا رسول الله عَلَى اللَّهِ و فوض أمورك إليه، فإنه غالب

______________________________

(1) المائدة: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 125

[سورة النمل (27): الآيات 80 الى 81]

إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

عالم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي الواضح، إنك على الحق، و تحت سيطرة إله غالب فلا يتمكن أحد من السوء بك، عالم فيجازيك بما لقيت من الأتعاب في سبيل التبليغ.

[81] أما هؤلاء الذين يعاندون، فلا تغتم لهم، و لا يلقون اليأس في نفسك، فإنهم كالأموات و كالأصم إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي سماعا نافعا، فإن الميت لا يتحرك و لا يتجه حسب ما وجهه الإنسان و هؤلاء المعاندون كالأموات في عدم تأثير الكلام فيهم و «موتى» جمع ميت وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَ جمع «أصم» و هو الفاقد لحاسة السمع الدُّعاءَ أي الدعوة و الكلام الذي تناديه به إِذا وَلَّوْا أي أعرضوا عنك مُدْبِرِينَ أي بحيث كان دبرهم نحو الإنسان، و هذا للمبالغة في عدم السماع، فإنه لا مطمع في إفهام الأصم المدبر، و إن كان كل أصم لا يسمع الكلام و إنما لو كان وجهه مقابلا أمكن إفهامه و إلّا لم يمكن.

[82] وَ ما أَنْتَ يا رسول الله بِهادِي الْعُمْيِ أي لا يمكنك يا رسول الله أن تهدي الأعمى من هؤلاء و المراد المعاند الأعمى القلب، شبّه بالأعمى بصرا الذي لا يهتدي إلى الطريق، إذ درك

المعارف يتوقف على بصر القلب، كما أن درك الطريق يتوقف على بصر العين عَنْ ضَلالَتِهِمْ بأن تصرفهم عن ضلالتهم و انحرافهم إلى طريق الرشاد، إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع سماعا مفيدا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي ليس معاندا إذا سمع الحق قلبه فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي يسلمون أنفسهم لله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 126

[سورة النمل (27): آية 82]

وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)

و الدين و ينقادون لأوامرك.

[83] و من علامات الساعة التي كان الكفار يكذبون بها إن الله سبحانه يظهر للناس «دابة» أي حيوانا مهولا يكلم الناس بلسان يفهمونه و لعل هذا من أهوال الساعة وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي وجب العذاب لهم، و ثبت وقت ما قلنا من أنهم يعذبون أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ و هل المراد بالإخراج أنها تخرج من الأرض كما يخرج النبات منها، أو المراد به ظهورها؟ و لفظة «من الأرض» في مقابل من السماء، و قد ورد في بعض الروايات، إن المراد بدابة الأرض حيوان مدهش «1»، كما ورد في روايات أخرى إن المراد بها الإمام المرتضى عليه السّلام «2»- و الدابة تطلق على كل ما يدب على وجه الأرض- كما أن خروج الدابة في بعض الروايات من أشراط الساعة، و في بعضها من علائم ظهور المهدي عليه السّلام «3» و لا منافاة بين الأمرين، في الموضعين، لتعدد الدابة و كون كل واحدة مصداقا، و لكون ظهور المهدي «عجل الله فرجه الشريف» أيضا من أشراط الساعة، بل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أيضا، من علائم الساعة تُكَلِّمُهُمْ أي تتكلم تلك الدابة

مع الناس، و من كلامها معهم أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي بأدلتنا الدالة على وجودنا و سائر شؤوننا، و قد لاءمت هذه الآية جو السورة التي تعالج العقيدة، كما لاءمت مع تكلم الحيوانات و الجن مع البشر، في قصة الهدهد،

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 6 ص 300.

(2) تأويل الآيات: ص 399.

(3) راجع تأويل الآيات: ص 400.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 127

[سورة النمل (27): الآيات 83 الى 85]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)

و النملة، و عفريت الجن، و هاهنا دابة تتكلم.

[84] وَ اذكر يا رسول الله لهؤلاء يَوْمَ نَحْشُرُ أي نجمع مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا، و إذ تقدم بعض علائم القيامة من خروج دابة الأرض، جاء السياق ليتم مشهد القيامة، و جاء ذكر المكذبين فقط لأنهم محل الكلام و محور البحث في تكذيب المعاد، فلننظر ماذا يكون مصيرهم؟ و قوله «ممن» بيان «فوجا» أي نجمع من كل أمة فوجا هم من الذين يكذبون بالآيات فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبسون، حتى يجتمعوا جميعا من «وزع» بمعنى «حبس» فإن أول الفوج يحبسون لآخر الفوج، حتى يجتمع الجميع.

[85] حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف الحساب قالَ الله تعالى لهم أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ الحال أنكم لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟ أي كيف كذبتم و ليس لكم علم بكذبها؟ و حيث إن المقام مقام أن يكذب الكفار قائلين لم نكذب بها، يأتي السياق ليقول لهم ثانيا- سادّا عليهم طريق الإنكار- أَمَّا ذا كُنْتُمْ

تَعْمَلُونَ إن لم تكونوا كذبتم بالآيات فما ذا كان عملكم؟ لكنهم لا يقدرون أن يقولوا كنا نعمل صالحا، و بهذا ينقطعوا عن الجواب، و لا يتمكنون من الإنكار.

[86] وَ وَقَعَ الْقَوْلُ أي ثبت القول الذي قلنا: إنهم يعذبون جزاء كفرهم عَلَيْهِمْ فالعذاب يأخذهم بعد ذلك الحوار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 128

[سورة النمل (27): الآيات 86 الى 87]

أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)

بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ في هذا الموقف، و إن نطقوا في المواقف الأخر، و في جملة من الأحاديث تفسير «يوم نحشر»- إلى آخره- بزمان ظهور المهدي عليه السّلام، و ذلك من باب المصداق، فإن اللفظ عام مستعمل في الأمرين، القيامة، و ظهور الإمام عليه السّلام و إن لم نقل بالعموم و المصداق، نقول إنه من باب البطن، أو من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى و ذلك جائز لدى وجود القرينة، و القرينة هي الروايات المفسرة.

[87] أَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء المنكرون للمبدأ و المعاد، آياتنا الدالة على وجودنا، و التي تدل على إله عليم حكيم، و تدل على القدرة الكاملة، التي لا يمتنع لديها إحياء الأموات؟ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ أي أوجدناه لِيَسْكُنُوا فِيهِ عن الحركة و التعب وَ جعلنا النَّهارَ مُبْصِراً أي موجبا لبصر الإنسان، و هو من المجاز بنسبة ما للحال إلى الزمان، نحو «يا سارق الليلة»، كما أن جري النهر، من نسبة ما للحال إلى المكان إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر لَآياتٍ

دلالات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم يستدلون منها على وجود الله العليم القدير، و الاختصاص بهم لأنهم هم الذي يستدلون، أما غيرهم، فإنهم معرضون غافلون.

[88] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ هو البوق الذي يشبه قرن الحيوان ينفخ فيه إسرافيل عليه السّلام لإحياء الأموات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 129

[سورة النمل (27): الآيات 88 الى 89]

وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)

فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي خافوا جميعا من هول قيام الساعة إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أن لا يفزع و هم بعض الأنبياء و بعض الملائكة وَ كُلٌ من الأموات الذين أحيوا من النفخ أَتَوْهُ أي يأتون المحشر، أو يأتون الله سبحانه- و المراد من إتيان الله الإتيان إلى الموضع المعد لهم، نحو إني ذاهب إلى ربي- داخِرِينَ أي أذلاء صاغرين، من دخر بمعنى ذل.

[89] وَ تَرَى الْجِبالَ أيها الرائي، في ذلك اليوم، في حال كونك تَحْسَبُها و تظنها جامِدَةً في مكانها، كالسابق، واقفة غير متحركة، و الحال أنها وَ هِيَ تَمُرُّ و تسير مَرَّ السَّحابِ أي مثل مرور السحاب سيرا حثيثا سريعا، و قد صار الكل كالقطن المندوف، إن قلع الجبال و تسييرها إنما هو صُنْعَ اللَّهِ منصوب على المصدر أي صنع الله ذلك صنعا الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ فأتقن أهوال المعاد بقلع الجبال و تسييرها، كما أحيى الأموات و جعلهم هائمين يسيرون في فزع و خوف إِنَّهُ خَبِيرٌ أي عالم بِما تَفْعَلُونَ فيجازيكم عليها.

[90] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ المراد بها الجنس

و هو الإيمان و العمل الصالح، نحو «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» فإن المراد بهما الجنس أيضا فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي يضاعف ثوابها عشرة أضعاف أو أكثر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 130

[سورة النمل (27): الآيات 90 الى 92]

وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)

وَ هُمْ أي الذين جاءوا بالحسنة مِنْ فَزَعٍ و خوف يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة آمِنُونَ فلا يفزع المؤمن حيث يفزع الناس.

[91] وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ و المراد السيئة الكاملة التي لا حسنة معها، و هي الكفر و المعاصي، حتى صحّ أن يقال: إنه جاء بالسيئة فَكُبَّتْ الكب هو الإلقاء منكوسا وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي ألقوا على وجوههم في النار، و يقال لهم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ استفهام في معنى النفي، أي ليس هذا إلا جزاء أعمالكم من الكفر و العصيان.

[92] قل يا رسول الله لهؤلاء الكفار بعد تهديدهم بالعذاب إِنَّما أُمِرْتُ أنا بأمر الله سبحانه أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أي رب مكة، لا الأصنام التي نحتّموها بأيديكم الَّذِي حَرَّمَها أي الله الذي حرم هذه البلدة بأن جعلها محترمة لا يحل فيها القتال، أو الدخول بدون الإحرام، أو الإتيان ببعض الأعمال كتنفير الصيد و قلع الشجر و نحوهما وَ لَهُ أي لله كُلُّ شَيْ ءٍ بيده وَ أُمِرْتُ من قبله سبحانه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ و هذا لا يدل على

عدم كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسلما فيما قبل، إذ الأمر قد يكون للابتداء، و قد يكون للاستدامة نحو:

«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».

[93] وَ أمرت أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أقرأه على مسامعكم و أدعوكم لما فيه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 131

[سورة النمل (27): آية 93]

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

فَمَنِ اهْتَدى إلى الحق و عمل بما فيه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فإن فائدة هدايته تعود إلى نفسه حيث تسعد في الدنيا و الآخرة وَ مَنْ ضَلَ عن القرآن و انحرف عن أحكامه و أوامره فَقُلْ له يا رسول الله إن ضلالك لا يعود إليّ ف إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ الذين يخوّفون من عذاب الله، و قد خوفتك، فعدم عملك إنما يعود سيئه عليك.

[94] وَ قُلِ يا رسول الله الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هداني و جعلني منذرا سَيُرِيكُمْ أيها الناس آياتِهِ بإلفاتكم إليها، أو إيجادها لترونها فَتَعْرِفُونَها بأنها آيات الله و الأدلة على وجوده و سائر شؤونه وَ ما رَبُّكَ يا رسول الله بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أيها الناس، و في هذا التفات من المخاطب إلى غيره من سائر الناس لأن «كاف» تعود إلى الرسول و «تعملون» إلى الناس.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 132

28 سورة القصص مكيّة/ آياتها (89)

سميت السورة بهذا لاسم لاشتمالها على قصص موسى عليه السّلام مع فرعون، و شعيب عليه السّلام و قارون و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة و لما ختمت سورة النمل بتلاوة الرسول للقرآن، جاءت هذه السورة مفتتحة بتلاوة بعض قصص القرآن، و هي قصة موسى و فرعون.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الذي يستعان به في كل حاجة، و هو الرحمن

المتفضل بالرحم، الرحيم الذي يرحم العباد، بل كل شي ء، كما قال سبحانه (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) «1» فإن الرحم هو التفضل، و قد تفضل سبحانه على الأشياء حيث خلقها من غير استحقاق و إن كان فضله على الإنسان أكثر حيث إنه كلما زيدت النعم زيد الفضل.

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 133

[سورة القصص (28): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

[2] طسم «طاء» و «سين» و «ميم».

[3] تِلْكَ أي من هذه الحروف الهجائية التي تركبون منها كلماتكم أيها العرب العاجزون عن الإتيان بمثل القرآن آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي الظاهر الواضح الذي لا غموض فيه، فإن الكتاب قد يكون سريا، غير واضح، و قد يكون غامضا غير ظاهر المعنى و المراد، و قد يكون غير معلوم الانتساب، و كل ذلك مفقود في القرآن الحكيم، و في مقطعات السور، و إعرابها أقوال أخر تقدم بعضها.

[4] نَتْلُوا أي نقرأ عَلَيْكَ يا رسول الله مِنْ نَبَإِ أي خبر مُوسى وَ فِرْعَوْنَ أي بعض أطراف خبرهما، و لذا دخلت «من» بِالْحَقِ أي بالصدق، فإن خبر الله سبحانه عنهما حق لا كذب فيه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي أن ما نتلو عليك إنما هو لقوم مؤمنين أما غيرهم فلا يعتبرون بالقرآن، و لا يصدقون ما فيه من القصص و الأحكام.

[5] إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا أي ترفع و تكبر فِي الْأَرْضِ و المراد بها أرض مصر وَ جَعَلَ أَهْلَها أهل أرض مصر

شِيَعاً أي طوائف، جمع شيعة، و هي الطائفة التي تتبع مسلكا خاصا، من شايعه إذا تابعه، و هذا دأب الطغاة دائما، إذ لو لم يجعلوا الناس طوائف متناحرة، حتى يشتغل بعضهم ببعض، خافوا من أن يتحدوا ضدهم في حال كونه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 134

[سورة القصص (28): الآيات 5 الى 6]

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)

يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ و المراد بهم بني إسرائيل، فقد كان بعضهم ضعيفا في مصر، و لذا يؤذيهم و يسخرهم في الأعمال الشاقة، و يفعل بهم ما ذكره سبحانه يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ إنما جي ء من باب التفعيل للدلالة على التكثير، فإن هذا الباب يدل على ذلك، فإن فرعون كان يكثر القتل في أبناء إسرائيل، حينما سمع بأن زوال ملكه على يد رجل منهم يولد في ملكه، فقد وكّل بكل حامل إسرائيلية قابلة حتى إذا ولدت أخبرت الجلادين فيأتون و يقتلون الولد وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي يبقيهن أحياء، كأنه يطلب حياتهن لاستخدامهن في البيوت إِنَّهُ أي فرعون كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون في الأرض بالكفر و المعاصي و الظلم.

[6] إن فرعون كان يريد إهلاك بني إسرائيل و إفنائهم وَ نُرِيدُ نحن بعكس ذلك، و جي ء بفعل المضارع لأنه حكاية عن ذلك الوقت أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ أي نمن على بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً في الحق، بأن يكونوا مقتدى الناس و ملوكهم وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لفرعون بأن يرثوا الأرض، و يكونوا خلفا لهم.

[7] وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ

أي نجعل بني إسرائيل قادرين على أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 135

[سورة القصص (28): آية 7]

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)

يتصرفوا في أرضي كيفما شاءوا وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وزيره وَ جُنُودَهُما من سائر الذين تعاونوا معهما على إيذاء بني إسرائيل مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي من طرف بني إسرائيل و على أيديهم، ما كانوا يخافون من الإفناء و الإبادة، و قد أصدق الله وعده فأهلك فرعون و هامان و جنودهما، و جعل بني إسرائيل ملوك الدنيا و سادتها، و بعث فيهم الأنبياء.

و قد ورد في جملة من الأحاديث تطبيق الآيتين الكريمتين على الشيعة و الأئمة عليهم السّلام، و أعدائهم «1»، و هذا مما لا مجال للشك فيه، فإن آيات القرآن الحكيم دائما مدى الدهر، تجري في اللاحقين كما جرت في السابقين، كما دل على ذلك العقل، و ورد به روايات كثيرة.

[8] ثم بين سبحانه كيف نصر بني إسرائيل و كيف أهلك فرعون و جنوده وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى و الإيحاء هو الإلقاء في القلب، و نحوه قوله سبحانه (فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً) «2» و قوله (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) «3» أَنْ أَرْضِعِيهِ أي أعطيه اللبن في الفترة التي لم تخافي على موسى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من القتل، و في بعض التفاسير، المراد بذلك أن ذلك إذا أظهر الصوت فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ أي اطرحيه في البحر، بجعله في

______________________________

(1) مشكات الأنوار: ص 95 فصل 5.

(2) المائدة: 32.

(3) النحل: 69.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 136

[سورة القصص (28): آية 8]

فَالْتَقَطَهُ آلُ

فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8)

صندوق و إلقائه فيه وَ لا تَخافِي عليه الغرق و الهلاك وَ لا تَحْزَنِي لمفارقته إِنَّا رَادُّوهُ أي نرد موسى إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ أي نجعله فيما بعد مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال في المجمع: و في هذه الآية أمران و نهيان و خبران و بشارتان، و حكي إن بعضهم سمع بدرية تنشد أبياتا فقال لها ما أفصحك؟ فقالت الفصاحة لله تعالى و ذكرت هذه الآية و ما فيها «1».

[9] فولدت أم موسى بموسى عليه السّلام، و جعلته في صندوق و ألقته في البحر، و قالت لأخت موسى اذهبي في أثره حتى ترين ماذا يصنع به، و جاء الصندوق تحمله الأمواج حتى ألقته في شط يمر بدار فرعون، فَالْتَقَطَهُ أي أخذه آلُ فِرْعَوْنَ أي حاشيته لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً هذه «اللام» تسمى لام العاقبة، لأنها بمعنى «كي تكون العاقبة» و ليست للعلة، نحو قوله «للقتل ما ولدوا للنهب ما جمعوا» أي كانت عاقبة الالتقاط أن يكون موسى لهم عدوا، و موجبا للحزن، لما كان الكلام موهما تعدي موسى عليهم، قال سبحانه إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما الذين تصافقوا على إذلال بني إسرائيل كانُوا خاطِئِينَ قد أخطئوا حيث اختاروا الكفر و العصيان، على الإطاعة و الإيمان، و لهذه الخطأ صار موسى عدوا لهم، و أهلكهم الله سبحانه.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 416.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 137

[سورة القصص (28): الآيات 9 الى 10]

وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ

كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)

[10] و لما جي ء بموسى من الصندوق إلى فرعون و كان جالسا مع زوجته «آسية» أمر بفتح الصندوق، و إذ ما رأيا فيه غلاما ألقى الله محبته في قلبهما، كما قال سبحانه (وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) «1» ثم أراد فرعون قتله لأنه علم أنه إسرائيلي، و لكن «آسية» حالت دون ذلك وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ أيها الملك إنه قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ أي يوجب هذا الولد قرار عيوننا، فإن الإنسان المسرور تقر عينه في مكانها، فلا تطير هنا و هناك طالبة المفزع و الملجأ، بخلاف الإنسان الواله و الخائف، و لم يكن لهما ولد و لذا طمعت في أن يكون موسى كالولد لهما. لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أي لعله ينفعنا في المستقبل، بأن نستخدمه أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي نجعله بمنزلة ولدنا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ إن هلاكهم على يده، و

قد روي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنه لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها.

[11] فلنرجع إلى أم موسى كيف صنعت بعد ما ألقت طفلها في البحر وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا من الاتزان كالإناء الفارغ الذي لا شي ء فيه، لما دهمتهما من المصيبة و الغم بفقد ولدها، كيف ألقت به في اليم؟ و كيف صنعت به هذا الصنع العجيب؟ و هل الولد في حضن الأم يخشى عليه، أما في اليم فلا يخشى عليه؟ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ

______________________________

(1) طه: 40.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 138

[سورة القصص (28): الآيات 11 الى 12]

وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ

قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12)

و «إن» مخففة، و اسمها محذوف، أي أنها- و المراد أم موسى- كادت و قربت أن تظهر للمجتمع قصة ابنها، كما هو شأن النساء، إذا فجعن بفقد عزيز ينقلن الأمر للناس، ليجدن من يساعدهن في الغم و المصيبة لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بأن حفظناه حتى لا يظهر ما فيه من الهم و الألم، و لا تنتقل القصة إلى اللسان لتذيعه في الناس، و قد شبه قلبها بشي ء لا يستقر، فإذا ربط عليه برباط، استقر و لم يتحرك لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإن إخبارها كان خلاف تصديقها بوعد الله «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» فربطنا على قلبها، لتكون من المصدقين بوعدنا، فإن ربط القلب بالثبات و الصبر كان سببا لإيمانها، و إلا فلو اضطرب قلبها و أبدى ما فيه لم تكون مصدقة بالوعد.

[12] وَ قالَتْ الأم لِأُخْتِهِ أي أخت موسى، و كانت صغيرة قُصِّيهِ أي اتبعي أثر موسى لنرى ماذا يصنع به البحر؟ من قص إذا اتبع الأثر، و منه سميت القصة قصة، لأنها تتبع المقصوص عنهم، و جاءت الأخت حتى دخلت دار فرعون، و كان كبلاط الملوك في السابق يدخل فيها كل أحد فَبَصُرَتْ الأخت بِهِ أي بموسى عَنْ جُنُبٍ أي عن بعد، فإنها لم تدن، لئلا تعرف وَ هُمْ أي فرعون و أهله لا يَشْعُرُونَ بأنها أخت موسى، و جاءت لاستقاء الأخبار.

[13] و لما كان موسى طفلا، لم يصبر عن الثدي، و أخذ يطلب اللبن، فأمر فرعون بأن تؤجر له مرضعة، و جاءت النساء لتحوز هذا الفخر

و لكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 139

[سورة القصص (28): آية 13]

فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)

موسى أبى أن يقبل ثدي امرأة إطلاقا وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ جمع مرضعة، أي منعنا موسى عن الارتضاع من ثديهن، فلم يكن يميل إليهن، بل تأبى نفسه من الارتضاع منهن مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن يؤتى بهن، و ذلك بجعل نفسه أبيّة عنها.

فَقالَتْ الأخت و كانت تشاهد القصة هَلْ أَدُلُّكُمْ أرشدكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ عائلة يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ يقبلون أن يرضعوا موسى و يقوموا بخدماته لأجلكم وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ أي تلك العائلة ناصحة لموسى لا تدّخر جهدا في القيام بخدماته؟

[14] و قد قبل فرعون ذلك و ذهبت الأخت إلى الأم و حكت لها القصة و جاءت الأم إلى بيت فرعون و لما أرضعت موسى قبل موسى الثدي بكل إصرار و شوق و سر فرعون و أهله بقبول موسى فَرَدَدْناهُ أي أرجعنا موسى إِلى أُمِّهِ حسب ما وعدناها «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي لأجل أن تسر و تفرح فتقر عينها عن الحركة و الاضطراب- كما تقدم- وَ لا تَحْزَنَ عليه في مقابل ما سبق منها حيث قال سبحانه «وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ فقد و في سبحانه بوعده حيث أرجع إليها ابنها وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ أن وعد الله حق، و يظنون أن مواعيده تخلف، و ليس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 140

[سورة القصص (28): الآيات 14 الى 15]

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ

كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

هكذا، فإن الله سبحانه لا يخلف الميعاد.

[15] و كبر موسى عليه السّلام في بيت فرعون يختلف إلى أمه فتفرح به وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ و قد ورد عن الصادق عليه السّلام: إن المراد بلوغه ثمانية عشر سنة «1» وَ اسْتَوى أي اعتدل قوامه آتَيْناهُ أي أعطيناه حُكْماً بأن يحكم الناس، فإن منصب الحكم خاص بالله سبحانه لا يجوز لأحد أن يستقل به إلا بإذنه سبحانه وَ عِلْماً أي علمناه علم الأشياء مما يليق بمقام النبوة وَ كَذلِكَ أي و كما جازينا موسى لصلاحه بهذا المنصب الخطير كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في عقيدتهم و عملهم، بإعطائهم أجورهم.

[16] وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ أي مدينة من مدائن مصر عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي في وقت غفلة الناس عن تتبع الأمور و قد ورد أنه كان بين المغرب و العشاء، فإن في هذه الساعة حيث يسدل الظلام ستاره و الناس من حال إلى حال يكونون غافلين، غير ملتفتين إلى ما يقع فَوَجَدَ موسى عليه السّلام فِيها أي في تلك المدينة رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يختصمان، و لعل المراد القسم الخاص من الاختصام، و هو ما يؤدي إلى القتل هذا أي أحدهما مِنْ شِيعَتِهِ شيعة موسى، و قد كان إسرائيليا وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ أي من جملة أعدائه- و المراد بالعدو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 284.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 141

[سورة القصص (28): آية

16]

قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)

الجنس- فإنه كان قبطيا فَاسْتَغاثَهُ أي استغاث و استجار بموسى الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ و هو الإسرائيلي عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ بأن ينصره عليه و يعينه فَوَكَزَهُ مُوسى أي دفع القبطي بالوكز و هو اللكم، بجمع الكف فَقَضى موسى عَلَيْهِ أي أهلكه و أماته، ثم قالَ موسى عليه السّلام غاضبا على القبطي المقتول هذا الاختصام منه للإسرائيلي مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فإنه هو الذي أمره بالاختصام فيما لم يكن له الحق، حتى يؤدي به إلى هذه الحالة إِنَّهُ أي الشيطان عَدُوٌّ للإنسان مُضِلٌّ مُبِينٌ واضح العداء و الإضلال، و قد أضل القبطي حتى سبب له القتل.

[17] و لما قتل القبطي خاف من مكر فرعون و أن يقتص منه، و لذا تضرع إلى الله سبحانه في أن يستر له هذا الأمر حتى لا يؤخذ به عند فرعون قالَ موسى عليه السّلام، مناجيا، يا رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي و الظلم هو وضع الشي ء في غير موضعه، و منه يسمى التعدي ظلما، إذ هو أن يعمل الإنسان ما لا ينبغي، و المعنى إني وضعت نفسي في غير موضعها حيث جئت إلى هذه المدينة التي سببت لي هذه المشكلة فَاغْفِرْ لِي الغفران هو الستر، و منه تسمى المغفرة مغفرة لأنها تستر الذنب، و المعنى فاسترني من كيد فرعون فَغَفَرَ الله لَهُ بأن ستره عن كيد فرعون، و إن اطلع عليه، لكنه لم يتمكن أن يقتص منه إِنَّهُ سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 142

[سورة القصص (28): الآيات 17 الى 18]

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ

بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)

هُوَ الْغَفُورُ الساتر كثيرا الرَّحِيمُ الذي يرحم الناس و يتفضل عليهم.

[18] و هناك شكى موسى ربه و قالَ يا رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ أي بما تفضلت علي من القوة حتى تمكنت من قتل بعض أعدائك فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً و ناصرا لِلْمُجْرِمِينَ و إنما سمي الناصر ظهيرا لأنه يأخذ ظهره في مقابل الأعداء و المعنى أني أشكر نعمة قوتك لي بأن لا أصرفها في مناصرة المجرمين.

[19] و شاع قتل موسى للقبطي فَأَصْبَحَ موسى فِي الْمَدِينَةِ التي قتل فيها القبطي خائِفاً من كيد فرعون يَتَرَقَّبُ أي ينتظر الأخبار حتى يعرف إلى أي مدى أثر هذا القتل، و ماذا يفعله القوم من عقاب موسى، و مرّ على مكان في المدينة فَإِذَا به يرى الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ أي الاسرائيلي الذي طلب نصرة موسى بِالْأَمْسِ في حين كان يختصم مع القبطي يَسْتَصْرِخُهُ أي يطلب من موسى أن ينصره على قبطي آخر تخاصم معه، و المعنى أن الاسرائيلي يختصم مع شخص آخر و يطلب من موسى أن ينصره على عدوه كما نصره بالأمس على ذلك القبطي المقتول قالَ لَهُ أي للاسرائيلي مُوسى عليه السّلام محذرا له عن المخاصمة مع القبط الذين هم من الكثرة بمكان إِنَّكَ أيها الاسرائيلي لَغَوِيٌ أي ظاهر الغواية و الخسران إذ من يقاتل كل يوم قبطيا في حكومتهم يخسر- بالآخرة- و يقع في كيدهم، و الغواية كما تطلق على العاصي لأنه خسر الآخرة، كذلك تطلق على من يأتي بما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 143

[سورة القصص (28): الآيات 19 الى 20]

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ

إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

لا يحمد عقباه، لأنه يخسر الدنيا مُبِينٌ أي ظاهر الغواية.

[20] و استعد موسى لتلبية الطلب و أن ينصر الاسرائيلي على القبطي فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى عليه السّلام أَنْ يَبْطِشَ بالضرب بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي بالقبطي الذي هو عدو لموسى و للاسرائيلي، ظن الاسرائيلي أن موسى يريد أن يبطش به، لا بالقبطي، حيث سبق منه أن قال «إنك لغوي» قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ حيث قتلت ذلك القبطي؟ قاله على نحو الاستفهام الإنكاري، و من المحتمل إن هذا قول القبطي حيث اشتهر الخبر و عرف أن موسى هو قاتل القبطي إِنْ تُرِيدُ أي ما تريد إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً و هو الظالم، و سمي جبارا، لأنه يجبر الناس على المكروه فِي الْأَرْضِ كأن الإتيان بهذا اللفظ هنا لزيادة التشنيع، فليس جبارا في مدينة، أو محل خاص، و إنما جبارا في الأرض وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ يا موسى مِنَ الْمُصْلِحِينَ الذين يصلحون بين الناس، و هذا تأكيد للجملة السابقة، فتلك عقد إيجابي و هذا عقد سلبي.

[21] و إذ قد انتشر خبر قتل موسى رجلا من القبط ائتمر فرعون برجاله و قرروا قتل موسى قصاصا لما فعل وَ جاءَ رَجُلٌ

قد ورد أنه كان خازن فرعون و كان مؤمنا بموسى يكتم إيمانه تقية

مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 144

[سورة القصص (28): الآيات 21 الى 22]

فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ

الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22)

أي آخرها يَسْعى أي يسرع ليصل إلى موسى لئلّا يلحقه القبض قبل إعلامه بالواقعة قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ أي الأشراف، و هم فرعون و حاشيته يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي يتشاورون فيك، و يأمر بعضهم بعضا لِيَقْتُلُوكَ قصاصا فَاخْرُجْ من هذه المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ و كأن الله سبحانه شاء ذلك لموسى حتى ينضج، فإن الرئيس يحتاج إلى أكبر قدر من النضج حتى يتمكن من إدارة الأمة.

[22] فَخَرَجَ موسى عليه السّلام مِنْها من مصر خائِفاً عن أن يلحقه الطلب يَتَرَقَّبُ خلفه هل يأتي ورائه أحد أم لا، من المراقبة و هي ملاحظة الأمر لئلا يقع ما يحذره الإنسان قالَ ضارعا إلى الله سبحانه يا رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، و هم فرعون و آله.

[23] وَ لَمَّا تَوَجَّهَ موسى عليه السّلام تِلْقاءَ أي حذاء و مقابل مَدْيَنَ أي صرف وجهه نحو «مدين» شعيب و هي مدينة سميت باسم أول من مدّنها و هو «مدين بن إبراهيم» و لم تكن تلك المدينة تحت سلطان فرعون و كان بينها و بين مصر ثلاثة أيام- كما ورد- قالَ عَسى رَبِّي أي لعل الله سبحانه أَنْ يَهْدِيَنِي و يرشدني سَواءَ السَّبِيلِ أي الطريق المستوي الموصل إلى المقصد، بأن لا أضل حيث المتاهة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 145

[سورة القصص (28): الآيات 23 الى 24]

وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى

الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

و الهلاك، و كان هذا دعاء منه بلفظ الخبر.

[24] و طوي الليل و النهار حتى اقترب من المدينة وَ لَمَّا وَرَدَ وصل موسى عليه السّلام ماءَ مَدْيَنَ بئر كانت لهم يستقون منها أنعامهم و مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ أي على الماء أُمَّةً جماعة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ أنعامهم و مواشيهم، و حذف مفعول السقي لأنه لا حاجة إليه في موضوع الكلام وَ وَجَدَ موسى عليه السّلام مِنْ دُونِهِمُ أي من خلفهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ ذاد بمعنى منع، أي تمنعان أغنامهما عن الورود على الحوض فقد كرهتا الاشتراك مع الرجال، و أن تختلط مواشيهما بمواشي القوم، فكانتا تنتظران أن يذهب القوم ثم تسقيان الأغنام قالَ موسى عليه السّلام لهما ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما و ما العلة في عدم إسقاء أغنامكما مع القوم؟ قالَتا لا نَسْقِي عند المزاحمة مع الرجال حَتَّى يُصْدِرَ من أصدر إذا رجعت عن الماء ماشيتهم الرِّعاءُ جمع راع، و هو الذي يرعى الماشية، أي ننتظر حتى يرجع الرعاة مواشيهم، فيبقى فضول الماء في الحوض، فنسقي أغنامنا، ثم اعتذرتا عن إتيانهما و هما امرأتان قائلتين وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يطيق أن يخرج و يتولى السقي بنفسه، و لذا نحن نقوم مقامه.

[25] فَسَقى موسى عليه السّلام الغنم لَهُما أي لأجلهما، بأن ساق الغنم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 146

[سورة القصص (28): آية 25]

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

حتى شربت من الحوض، مع مواشي الناس ثُمَّ تَوَلَّى أي أعرض و رجع إِلَى الظِّلِ من

حر الشمس، و جلس تحته و هو متعب جائع فَقالَ يا رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أي إني فقير محتاج لما تنزله إلي من أقسام الخير، الطعام و المأوى و الكنف المطمئن، فقوله، «لما» متعلق بقوله «فقير» و «من خير» للعموم، لأن الإنسان الغريب الفقير الخائف يريد كل شي ء ليهنأ و يستريح.

[26] و قد كانت البنتان ترجعان كل يوم بعد مدة، و قد رجعتا اليوم قبل الموعد المقرر، فتعجب أبوهما من ذلك و سأل السبب؟ فأخبرتاه بقصة موسى عليه السّلام فقال لإحداهما علي به فَجاءَتْهُ أي جاءت إلى موسى إِحْداهُما و في بعض التفاسير أنها الكبرى تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مستحية كما هي عادة النساء الخفرات إذا أردن الذهاب إلى رجل أجنبي للتكلم معه أو معاملته أو نحوهما، و لما وصلت إلى موسى قالَتْ له إِنَّ أَبِي شعيب يَدْعُوكَ أن تأتي إليه لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا أي ليعطيك جزاء سقيك لأغنامنا، و ذهب موسى معهما فَلَمَّا جاءَهُ أي جاء موسى إلى شعيب وَ قَصَ موسى عليه السّلام عَلَيْهِ أي على شعيب الْقَصَصَ التي سبقت له من قتل القبطي و فراره من القوم لما أرادوا قتله و سائر أحواله في مصر قالَ شعيب له لا تَخَفْ بعد هذا، فقد نَجَوْتَ و تخلصت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 147

[سورة القصص (28): الآيات 26 الى 27]

قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)

مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم

بالكفر و العصيان، يريد فرعون و آله.

[27] قالَتْ إِحْداهُما أي أحدى البنتين، و

قد ورد إن اسمهما «صفوراء»

«1» يا أَبَتِ التاء عوض عن الياء، كما قال ابن مالك:

و في النداء أبت أمت عرض بعد النداء و من اليا، التاء عوض

اسْتَأْجِرْهُ أي اتخذه أجيرا، و لعلها أرادت إيجاره ليكفي عنهما شأن السقي إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي أن خير الأجراء الذي يكون قويا يتمكن من العمل، أمينا لا يخون المستأجر، و هذا تعريض بأن موسى قوي أمين، كقولك: قبّل يد زيد إن خير يد تقبل يد العالم الورع، تريد العريض بأن زيدا عالم ورع،

قال الإمام الكاظم عليه السّلام قال لها شعيب يا بنية هذا قوي قد عرفته برفع الصخرة، و الأمين من أين عرفتيه؟ قالت: يا أبت إني مشيت قدامه فقال: امشي من خلفي فإن ضللت فأرشديني إلى الطريق فإنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء

«2».

[28] قالَ شعيب عليه السّلام لما عرف موسى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ أي أزوجك إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ اللتين رأيت سوادهما عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 58.

(2) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 148

[سورة القصص (28): آية 28]

قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

أي تكون أجيري، فإن الأجير يؤجر نفسه للمستأجر في مقابل ثمن يأخذه، و الثمن هنا كان تزويج البنت، فقد جعل شعيب عليه السّلام مهر بنته عمل موسى عليه السّلام له ثَمانِيَ حِجَجٍ جمع حجة، و هي العام أي تعمل لي ثمان سنوات، و ثمان حجج ظرف زمان، أي تكون أجيري في هذه المدة فَإِنْ أَتْمَمْتَ

عَشْراً بأن عملت لي عشر سنوات، مقابل تزويجي لك ابنتي فَمِنْ عِنْدِكَ أي أن السنتين الزائدتين تفضل من عندك، لا واجب عليك، و إن كنت راغبا في ذلك، و المعنى من عندك تفضلا لا من عندي إلزاما وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ في هذه السنوات الثمان، بأن أكلفك ما يشق عليك من الخدمة سَتَجِدُنِي يا موسى لدى معاشرتك لي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في السيرة و المعاشرة، و قيل للصالح صالح، لأنه يصلح للدنيا و الآخرة، ثم إن الظاهر من الآية كون ذلك كان جائزا في شريعة شعيب، بأن يكون المهر للأب، و يحتمل أن يكون «على» بمعنى الشرط، و إنما كان المهر شيئا آخر، و على أي حال فقد كان ذلك لموسى عليه السّلام نعمة كبري حيث يجد الزوجة، و الأهل و المأوى، و المعيشة، و

قد ورد أن موسى و في بأبعد الأجلين، و إنها كانت هي التي ذهبت تدعوه إلى أبيها

«1».

[29] قالَ موسى عليه السّلام في جواب شعيب ذلِكَ التزويج، بمقابل عشر

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 13 ص 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 149

[سورة القصص (28): آية 29]

فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)

سنوات بَيْنِي بأن أعمل أنّا وَ بَيْنَكَ بأن تزوج أنت، و كأن هذه الجملة لإبرام العهد، بمعنى أنّا لا نخرج عن ذلك الذي قلنا، إذ لو خرج أحدهما عن الشرط فكأنه لم يصر بين الطرفين، و إنما طرف مربوط بالموفى، و طرف آخر مقطوع لا يرتبط بأحد أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ أي المدتين و هما ثمان، و

عشر سنوات قَضَيْتُ و عملت بطبقه فَلا عُدْوانَ عَلَيَ أي ليس ظلم علي بأن أكلف أكثر من ذلك الذي أريد، و لا أطالب بالزيادة وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي نكله في أن يشهد المعاقدة بيننا، حتى نعلم أنه وسط و شاهد، فمن أراد الخلف كان خلفا مع الله، إذ هو الموكّل في الأمر، حسب توكيلنا له.

[30] و تزوج موسى عليه السّلام بالبنت، و خدم شعيب عشر سنوات فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ و وفى بما وعد من خدمة شعيب، هاجت به العاطفة نحو أمه التي خلفها في مصر، فاستأذن شعيبا أن يزور أمه، فأذن له، فخرج من «مدين» وَ سارَ بِأَهْلِهِ أي مع زوجته، و لعلهما كانا يسيران في اختفاء لئلا يظفر بهما فرعون، و في ذات ليلة إذ الهواء بارد، و الليلة مظلمة، أخذ زوجته الطلق، فاحتاج إلى الغذاء و التدفئة و حينذاك آنَسَ أي رأى ما يوجب الأنس، و هو اطمئنان النفس و فرحها مِنْ جانِبِ الطُّورِ و هو صحراء في الشام ناراً تشتعل، فسر بذلك لأنه قصد أن يذهب إليها، ظانا إن لها أهلا، فيستعين بهم في حل مشكلته قالَ موسى عليه السّلام لِأَهْلِهِ أي لزوجته امْكُثُوا أي الزموا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 150

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 199

[سورة القصص (28): الآيات 30 الى 31]

فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)

مكانكم لا تسيروا منه، حتى إذا رجعت لا أضل محلكم،

و الإتيان بضمير الجمع لقصد الاحترام، كما هو الشائع في كلام المتأدبين.

إِنِّي آنَسْتُ ناراً أرى هناك نارا تشتعل، أذهب إليها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها أي من النار بِخَبَرٍ لنذهب إلى أهلها، و نستعين بهم في أمرنا، أو نسترشدهم الطريق أَوْ آتيكم ب جَذْوَةٍ أي قطعة مِنَ النَّارِ إذا لم يمكن السير إليها، لمحذور كعدم حسن الطريق أو ما أشبه لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون بها.

[31] فَلَمَّا أَتاها أي وصل موسى قرب النار نُودِيَ و المنادي هو الله سبحانه، بأن خلق الصوت فسمعه موسى عليه السّلام مِنْ شاطِئِ أي جانب الْوادِ الْأَيْمَنِ صفة للشاطئ، أي الجانب الأيمن من وادي سيناء فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ أي القطعة من الأرض التي بوركت بنزول الوحي فيها مِنَ الشَّجَرَةِ التي كانت ثابتة هناك أَنْ يا مُوسى بيان ل «نودي» أي كان النداء هو؛ يا موسى إِنِّي المتكلم معك أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي خالقهم و مربيهم.

[32] وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ أي اطرحها على الأرض من يدك، و قد ورد أن عصاه كانت من الجنة، و أعطاها شعيب له حينما أراد السفر، فألقاها موسى من يده، و إذا بها انقلبت حية عظيمة تسرع في الحركة و القفز

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 151

[سورة القصص (28): آية 32]

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)

فَلَمَّا رَآها موسى عليه السّلام تَهْتَزُّ و تتحرك كَأَنَّها جَانٌ و هي الحية السريعة الحركة، و قد كان التشبيه بها- مع إنها كانت كبيرة- لأجل سرعة حركتها، فإن الحية الصغيرة أسرع حركة من الكبيرة- كما قالوا- وَلَّى أي أعرض عن الحية،

و أخذ يسرع في الهرب منها مُدْبِراً فقد أعطاها قفاه و وجهه إلى جانب الصحراء، راكضا للفرار منها وَ لَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع إليها، و لم ينظر، كما هو شأن الخائف الفار، إنه لا يرجع و لا ينظر عقبه، لئلا يلحقه- في هذه الفترة- الطلب و حينذاك نودي يا مُوسى أَقْبِلْ إلى نحو الحية وَ لا تَخَفْ من ضررها إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من شرها، فإنها معجزة لك و ليست حية تؤذي.

[33] ثم نودي ثانيا اسْلُكْ أي أدخل يا موسى يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي في شق ثوبك الأعلى من طرف النحر تَخْرُجْ اليد حين تخرجها بَيْضاءَ مشرقة كالشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي بدون أن يكون ذلك البياض من قبيل بياض البرص، و إنما قيد بهذا القيد لاعتياد أن بياض اليد، أو سائر الجسم إنما هو من البرص، و قد ورد إنه إذا أراد إرجاع الحية عصا، أخذها، و إذا أراد إرجاع اليد إلى حالتها السابقة، أدخلها ثانيا في جيبه، فإذا أخرجها صارت كالسابق وَ اضْمُمْ يا موسى إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ و قد أخذ يرتعد و يرتعش من خوف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 152

[سورة القصص (28): الآيات 33 الى 34]

قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)

الموقف، فنودي أن يضم يديه إلى نفسه كالطائر الذي يضم جناحيه، فإن ذلك موجب لشدة الأعصاب فلا يرتعش الإنسان فالمراد من «جناحك» يدك، و معنى «من الرهب» لأجل الخوف الذي عرض عليك.

فَذانِكَ أي العصا، و اليد البيضاء، و إنما جي ء بالمذكر باعتبار المشار إليه، و هو «برهان» بُرْهانانِ اثنان، و

خارقتان تدلان على نبوتك، و الكاف في «ذانك» للخطاب مِنْ رَبِّكَ أي من طرفه سبحانه إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي جماعته إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله، و لذا احتيج إلى بعث الرسول إليهم، و تزويده بالخارقة ليكون أقرب إلى التصديق.

[34] قالَ موسى عليه السّلام يا رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً و هو القبطي الذي قتله حينما تخاصم مع الإسرائيلي فَأَخافُ إن ذهبت إليهم لأدعوهم أَنْ يَقْتُلُونِ أي يقتلونني قصاصا.

[35] وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فقد كانت في لسان موسى عقدة، من جراء أن جعل الجمر على لسانه في صغره- في قصة تقدمت- و قد دعا موسى عليه السّلام أن يزيلها بقوله: «وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» فأزالها سبحانه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رسولا رِدْءاً أي معينا لي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 153

[سورة القصص (28): الآيات 35 الى 36]

قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)

على تبليغ رسالتك، يقال فلان ردء فلان، أي ظهره و معينه و ناصره يُصَدِّقُنِي فيما أؤديه من الرسالة إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أي يكذبونني فيما أدعيه من الرسالة، و الخوف يطلق على المقطوع، كما يطلق على المشكوك و المظنون.

[36] قالَ الله سبحانه، في جواب طلبه سَنَشُدُّ عَضُدَكَ أي نقويك بِأَخِيكَ فنجعله نبيا معك، و هذه استعارة تشبيها بشد بعض الأشياء إلى بعض الموجب لتقوية الجمع حتى لا يؤثر فيها الكسر، و نسبة الشدّ إلى العضد لأن الإنسان يعمل بيده، و العضد مظهر القوة في اليد، و لو

قيل سنشد يدك، كان بعيدا عن الذوق وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي سلطة و سيطرة على فرعون و قومه، بالحجة و البرهان، فَلا يَصِلُونَ أي فرعون و قومه إِلَيْكُما بالإيذاء بسبب ما تزودان به من آياتنا الخارقة كالعصا، و اليد، و غيرهما، و هذا في جواب قول موسى «فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» أَنْتُما يا موسى و هارون وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا من المؤمنين الْغالِبُونَ على فرعون و أتباعه.

[37] و رجع موسى عليه السّلام إلى أهله يخبرهم بما كان من أمر النار، و قد سهل الله لهم الأمر، حتى سارا و وصلا إلى مصر، و أخبر هارون بقدوم موسى، إذ كان في ذلك الوقت في مصر، فأوحى الله إليه و جعله نبيّا، ثم جاءا إلى فرعون فَلَمَّا جاءَهُمْ أي فرعون و قومه مُوسى و أخوه بِآياتِنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 154

[سورة القصص (28): الآيات 37 الى 38]

وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38)

الدالة على نبوته بَيِّناتٍ أي واضحات ظاهرات قالُوا عن الآيات ما هذا الذي أتيت به من أنواع الخارقة إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي أنت اختلقته و نسبته إلى الله سبحانه، و ليس هناك إله أعطاك هذه الأمور وَ ما سَمِعْنا بِهذا الذي تقوله من وجود الإله، و ما أعطيته دليلا على نبوتك فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي لم يظهر فيهم بمثل هذا، حتى ينقل إلينا، و نسمعه، فهو أمر جديد مختلق.

[38]

وَ قالَ مُوسى في جواب تكذيبهم رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ فإن هذا من عند الله، و ليس افتراء، و هو هداية لا سحر، و الله يعلم ذلك، و لو كان افتراء و ضلالا حال بيني و بينه حتى لا أكون سببا للإضلال وَ ربي أعلم ب مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ و هذا تعريض بهم بأن العاقبة الحسنة لنا لا لكم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يفوزوا بعاقبة الدار، و قوله عليه السّلام «و من تكون» تهديد، يعني إنكم إن لم تؤمنوا تكون عاقبتكم سيئة، و نسبة العاقبة إلى الدار من باب النسبة إلى المكان مجازا، و المراد عاقبة الإنسان في الدار، أو المراد آخر الدار، فالنسبة حقيقة.

[39] و لما انقطع فرعون عن الاحتجاج مع موسى التفت إلى قومه يحفظهم عن السير مع موسى و يقويهم ليبقوا على باطلهم وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 155

[سورة القصص (28): آية 39]

وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39)

الأشراف من قومي ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فلا إله إلا أنا، ثم توجه إلى وزيره هامان فقال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي أجج النار و اصنع الآجر، فإن الطين سواء أو قد تحته أو فوقه طبخ و صار أقوى في البنيان فَاجْعَلْ لِي أي ابن لي صَرْحاً أي قصرا عظيما مشيدا من الآجر، ليكون أقوى استحكاما لَعَلِّي اصعد عليه و أَطَّلِعُ أي أشرف من فوق القصر إِلى إِلهِ مُوسى فقد أراد أن يلبس على العوام أن إله موسى في الأرض فإذا صعد الإنسان السطح العالي أشرف عليه حتى

يراه و يعرف مزاياه وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ أي أظن موسى مِنَ الْكاذِبِينَ في مقاله أن للكون إلها، و أنه رسوله، و الإتيان بلفظ «لأظنه»، للتلبيس على الناس بأنه منصف حتى أنه لا يقول الكلام الخشن، بل الكلام المنصف المريد العثور على الواقع.

[40] وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ أي فرعون وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ أي ترفعوا أنفسهم فوق مقدارها بِغَيْرِ الْحَقِ أي ترفعا بالباطل، في مقابل ترفع الإنسان عن الدنايا، فإنه ترفع بالحق وَ ظَنُّوا بأن لم يكونوا متيقنين بل ظانين أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ في الحشر حتى نحاسبهم على أعمالهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 156

[سورة القصص (28): الآيات 40 الى 41]

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41)

[41] فَأَخَذْناهُ تعظيم للعذاب، و تحقير له حتى كأنه يؤخذ باليد وَ جُنُودَهُ الذين ظاهروه على الكفر و الطغيان فَنَبَذْناهُمْ أي طرحناهم- بكل مهانة كمن يأخذ جرادة و يطرحها في مهلكة- فِي الْيَمِ أي في البحر، و هو البحر الأحمر في مصر الموجود إلى الآن فَانْظُرْ يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه النظر، و المراد بالنظر الاعتبار و العلم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، و هذا تصديق لقوله تعالى (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) «1».

[42] وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً جمع إمام، أي مقتدون للناس، و نسبة الجعل إليه سبحانه باعتبار أنه خلقهم و هيئ الأشياء و الأسباب لهم، و لم يمنعهم منعا تكوينا عن أعمالهم يَدْعُونَ الناس إِلَى النَّارِ فإن الدعوة إلى الكفر و المعاصي دعوة إلى النار، و هذا كما يقول الملك

«جعلت فلانا مثالا للعصيان و محلا للمتمردين» يريد أنه لم يضرب على يده و لم يأخذه وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ عن النار، فإنهم يدخلونها أذلاء، كما لم ينصروا هنا عن الغرق، بل أغرقوا في اليم، فليعلم أتباعهم إنهم معذبون في الدنيا و الآخرة.

______________________________

(1) الأنعام: 136.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 157

[سورة القصص (28): الآيات 42 الى 44]

وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)

[43] وَ أَتْبَعْناهُمْ أي أردفنا بعقبهم فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً بأن أمرنا المؤمنين بلعنهم و البراءة منهم، و جعلناهم بعداء عن الخير و السعادة طرداء عن الرحمة وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ فهنا لك لهم القبح و الخزي و العار و المقت و النار.

[44] ثم يأتي السياق ليؤكد سنّة الله في إهلاك الكافرين، كما أهلك فرعون و من قبله وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى حيث كذبوا أنبياءهم، مثل قوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم و المراد بإتيان الكتاب: الإرسال، أي كان إرسال موسى بعد إهلاك المجموع المكذبين بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي في حال كون الكتاب براهين تبصر الناس أمور دينهم و دنياهم، و إنما أوتي بلفظ الجمع، باعتبار الجمل التي في الكتاب وَ هُدىً يهدي إلى الحق وَ رَحْمَةً موجبا لرحمة الناس، فإن من عمل بالكتاب يرحمه الله سبحانه لَعَلَّهُمْ أي لعل قوم موسى يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم

من الفطرة حول الأصول و الآداب، فقد أودع في فطرة الإنسان المبدأ و المعاد و الرسالة- إجمالا- كما أودع فيه حسن الأشياء الحسنة و قبح الأشياء القبيحة.

[45] و إنك يا رسول الله إنما تنقل هذه القصص بوحي من الله، و إلا لم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 158

[سورة القصص (28): آية 45]

وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

تكن حاضرا في تلك الأزمنة حتى تشاهدها بعينك، ثم تحكيها، و إنما هي دالة على أنك نبي، و إلا فمن أين يعلم من لم يقرأ و لم يكتب و لم يشهد وقت القصة، التفاصيل و المزايا؟ وَ ما كُنْتَ يا رسول الله بِجانِبِ الْغَرْبِيِ أي بجانب الجبل الواقع في طرف الغرب و هو جبل طور الذي كلم الله فيه موسى و أعطاه التوراة إِذْ قَضَيْنا أي أرسلنا و عهدنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ بإعطائه الكتاب و الشريعة وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين في ذلك الزمان مع بني إسرائيل لتعرف عن مشاهدة قضايا موسى عليه السّلام التي تنقلها في القرآن.

[46] و لكن إخبارك إنما هو عن الوحي، و إنما أوحينا إليك لأن الرسل قد انقطعوا، و رجعت الناس إلى الضلالة، فأرسلناك و أوحينا إليك بهذه الأخبار وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً و أجيالا جديدة بعد عهد النبوات السابقة فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي ابتعد عنهم قضايا تلك الأزمنة السابقة، لأن تطاول عمر الأجيال يستلزم نسيان الأنباء القديمة التي تدل على نصرة الله للأنبياء و إهلاكه للظالمين، فقوله «تطاول» من باب إقامة السبب مقام المسبب، لأن المراد به «نسيان الأمور السابقة».

و حيث أن هذا الجيل المعاصر

لك، لا يعلمون الأمور، و ينكرون الألوهية الصحيحة و المعاد و أرسلناك إليهم لتذكرهم، و تذكرتك عن الوحي، و إلا لم تكن أنت مع موسى، و لا مع قومه وَ ما كُنْتَ يا رسول الله ثاوِياً أي مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ شعيب، حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 159

[سورة القصص (28): آية 46]

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)

تَتْلُوا عَلَيْهِمْ على أهل مكة آياتِنا التي سبقت في أهل مدين، حتى تكون أخبارك عن قضايا مدين لأنك شاهدتها بعينك و كنت مقيما في تلك المدينة في زمان شعيب وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك و بالوحي نعلمك تلك القضايا حتى تقرأها على قومك حجة على صدقك، و لقائل أن يقول فمن أين يعلم أهل مكة صدق الرسول؟ و الجواب إنهم يعلمون ذلك باستحضار الأخبار من أهل الكتاب، كما قال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) «1».

[47] وَ ما كُنْتَ يا رسول الله بِجانِبِ الطُّورِ الذي صار موسى فيه نبيا إِذْ نادَيْنا موسى فقد كان لموسى ميقاتان، الأول حين أرسل رسولا إلى فرعون و الثاني حين أرسل إليه الكتاب بعد إهلاك فرعون و خروجهم من مصر وَ لكِنْ كان إخبارك عن تلك الأحوال رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تفضل بها عليك حيث جعلك رسولا، و على أمتك حيث أرسلك إليهم لِتُنْذِرَ قَوْماً هم أهل مكة، تخوفهم من الكفر و المعاصي ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ فإن جيل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يبعث فيهم نبي قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم من الفطرة

فيرجعوا عن غيّهم و ضلالهم، بسبب القرآن الهادي لهم إلى ما

______________________________

(1) النحل: 44.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 160

[سورة القصص (28): الآيات 47 الى 48]

وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)

أودع في فطرتهم.

[48] ثم قال سبحانه إنه لو لا عدم إتمام الحجة على هؤلاء من قومك لما أرسلناك إليهم، أما حيث إنهم ابتعدوا عن النبوات السابقة، و غمرهم الجهل، أرسلناك إليهم وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ أي تصيب قومك مُصِيبَةٌ من العقاب بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر و المعاصي فَيَقُولُوا محتجين على الله في أن عاقبهم بدون إتمام الحجة: يا رَبَّنا لَوْ لا أي هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا إلى الحق حتى لا نعصي فنستحق العقاب فَنَتَّبِعَ آياتِكَ و ما أنزلت و أمرت وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و جواب «لو لا» محذوف أي لو لا عدم تمام الحجة عليهم، لم نرسلك، أما و إنهم لم تتم الحجة عليهم لبعدهم عن الأنبياء، فقد أرسلناك و ها هم يعاندون و لا يؤمنون، و هناك قول آخر بأن جواب «لو لا» «لجعلنا لهم العقاب» إنهم كانوا يقولون هكذا لو لم نرسل، و عذبناهم، فها نحن قد أرسلنا، و لم يؤمنوا.

[49] فَلَمَّا جاءَهُمُ أي جاء أهل مكة الْحَقُ الذي هو الرسول و القرآن مِنْ عِنْدِنا حيث أرسلنا الرسول و أنزلنا القرآن قالُوا تبريرا لموقفهم ضد الرسول لَوْ لا أي هلا أُوتِيَ

محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى لو كان هذا نبيا لأتى بمثل معاجز موسى من فلق البحر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 161

[سورة القصص (28): آية 49]

قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49)

و العصا و اليد و غيرها.

فهل إنا لو أعطيناك مثل ما أعطينا موسى أ كانوا يقبلون؟ كلا! و الشاهد على ذلك إن الناس الذين هم من جنس هؤلاء كفروا بمعاجز موسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى من الخوارق و المعاجز؟ مِنْ قَبْلُ أي من قبل إرسالك قالُوا سِحْرانِ مبالغة في كونهما ساحرين، مثل زيد عدل، أي قالوا إن موسى و هارون ساحران تَظاهَرا صار أحدهما ظهر الآخر و عونه وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍ منهما كافِرُونَ و لو فرض أن النبي جاء بمثل تلك المعاجز قالوا فيها ما قالوا لموسى و هارون، بالإضافة إلى أنهم لم يدركوا أن المعجزة يجب أن تلائم أهل الزمان، و لذا جاء موسى بتلك المعاجز حيث كثر في زمانه السحر، و جاء عيسى بالإحياء و الإبراء، حيث كثر في زمانه الطب، و جاء الرسول بالقرآن حيث كثر في زمانه الفصاحة و البلاغة- كما ذكر مفصلا في علم الكلام-.

[50] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين لا يقبلون منك القرآن و يريدون إعجازا مثل عصا موسى فَأْتُوا أي هاتوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي أكثر هداية من التوراة و القرآن حتى أَتَّبِعْهُ و آخذ بأحكامه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن القرآن لا يكفي للهداية، و إنما يجب أن يكون خارق حتى نهتدي بك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 162

[سورة القصص (28): الآيات

50 الى 52]

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)

[51] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا أي هؤلاء الكفار لَكَ يا رسول الله، بأن لم يتمكنوا من إتيان كتاب هو أهدى من القرآن فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ فإنهم يكفرون بالقرآن عن هوى و ميل نفس لا عن حجة و برهان، فقد انسد عليهم باب البرهان وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أكثر ضلالا منه، حيث يترك أحكام الإله و يتبع الهوى، و قوله «بغير هدى» تأكيد، فهو جانب السلب من القصة و إذا أريد بالتأكيد جي ء بالجانبين، فيقال: زيد يسمع كلام الشيطان و لا يسمع كلام الرحمن- مثلا- و اعلم: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى الإيمان الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين عاندوا الحق بعد ما رأوه، فإنه لا يلطف بهم الألطاف الخفية بل يتركهم و شأنهم.

[52] وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أي جئنا بآية بعد أخرى، متصلة الآيات لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم من الفطرة، فإن لدوام الوعظ و الإنذار أثرا في التذكير و الإيقاظ.

[53] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ إعطاء بسبب الأنبياء عليهم السّلام، و قد أخذوه حق الأخذ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل الرسول، أو من قبل القرآن هُمْ بِهِ أي بالرسول أو بالقرآن يُؤْمِنُونَ لأنهم يعرفون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 163

[سورة القصص (28): الآيات 53 الى 54]

وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ

يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54)

الرسول، و قد تهيأت نفوسهم للإيمان حيث لا يتبعون الأهواء، أما من لا يؤمن من أهل الكتاب فكأنه لم يعط الكتاب، إذ غير العامل به و الذي لم يعط على حد سواء، و

قد ورد أن الآية نزلت في جماعة من مؤمني أهل الكتاب

«1».

[54] وَ إِذا يُتْلى القرآن عَلَيْهِمْ أي على أهل الكتاب المؤمنين قالُوا آمَنَّا بِهِ أي بالقرآن إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ليس باطلا اختلقه الرسول كما يقول المشركون إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي قبل نزوله مُسْلِمِينَ حيث رأينا صفات النبي في التوراة و الإنجيل.

[55] أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أي يعطيهم الله أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة لتمسكهم بدينهم حتى جاء الرسول، و مرة لإيمانهم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الإيمان بالكتاب الأول، و بالقرآن وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون بالأعمال الحسنة السيئات، إن هذا فوق الصبر فإنهم إذا رأوا سيئة، لم يصبروا عليها فحسب، بل دفعوها بالحسنة، كما قال سبحانه (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) «2» وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الله سبحانه، و الرزق أعم من المال و العلم و الجاه و سائر ما أعطى الله الإنسان- و إن كان المنصرف هو المال-.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 64 ص 264.

(2) المؤمنون: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 164

[سورة القصص (28): الآيات 55 الى 56]

وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

[56] وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي الهزء

و السفه من الكلام و اللغو الذي لا فائدة منه أَعْرَضُوا عَنْهُ أي عن ذلك الكلام، و لم يقابلوه بالمثل، و لم يخوضوا مع اللاغين في اللغو وَ قالُوا لأولئك اللاغين لَنا أَعْمالُنا و ديننا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ و دينكم فكل منا يجازى على أعماله سَلامٌ عَلَيْكُمْ فأنتم في سلام و أمن من ناحيتنا لا نقابلكم بالمثل و لا نقصد لكم سوء لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي لا نطلب مجالستهم و معاونتهم و التخاصم معهم، و إنما هم فئة، و نحن فئة.

[57] و بعد ما بين السياق إن أهل الكتاب يؤمنون بهذا القرآن، بين إن الكفار الذين لا يؤمنون ليس على الرسول حسابهم، حتى يجهد نفسه لكي يهديهم، بل إنما عليه البلاغ إِنَّكَ يا رسول الله لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي لا تتمكن من هداية من تحب أن يهتدي من الناس، فإن الرسول كان يحب هداية عمه أبي لهب و غيره من أشراف قريش، بل الناس أجمعين، و لكنه لم يكن يتمكن من ذلك، و المراد بالهداية العمل الذي يجبرهم على الإسلام، لا مجرد إرائة الطريق، وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بأن يلطف به الألطاف الخفية حيث يراه مستعدا للإيمان مهيأ نفسه للإذعان، فإرائة الطريق من الله و الرسول، عامة لكل أحد أما الألطاف الخفية فالرسول لا يقدر عليها، و الله قادر عليها لكنه إنما يلطف بها على من أعد نفسه و أخذ يأتي في الطريق. و ممن تنطبق هذه الآية الكريمة عليه هو «سيد قطب» صاحب كتاب «في ظلال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 165

القرآن» الذي لم يهتد بنور الإيمان إذ ملأ قلبه بالحقد و الغل للرسول و آله و ذويه، فتراه في

عرض تفسير و طوله، ينتقص من الرسول و عمه و سائر ذوي قرابته، في لفائف من الكلام المزيف، بالتقليد الأعمى عن الأمويين أعداء الله و الرسول، و الشجرة الملعونة في القرآن، فقد أخذ يطبق هذه الآية الكريمة على أبي طالب، مع أنه قد ورد من طرق العامة و الخاصة أن أبي طالب من أول المؤمنين بالرسول، و هو القائل:

و لقد علمت بأن دين محمدمن خير أديان البرية دينا

و لو كان أبو طالب أبا لأحد كبرائهم لأهالوه بمقام الملائكة المكرمين، لكن ذنبه الوحيد أنه أبو علي أمير المؤمنين، و ماذا يقال في من يطبق آية «عبس و تولى» على رسول الله، ليبرئ ساحة عثمان الذي وردت فيه الآية عن التولي؟ و هكذا و هلم جرا، و قد صدق الله سبحانه حيث يقول «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» و هل من محمل لعمل من يخوض دقائق الأمور، فيعرف الشعرة في الليل المظلم، ثم لا يرى الشمس الضاحية في وسط السماء، إلا العناد، و انه استحق عليه كلمة العذاب؟. و قد كنت أريد أن أنزه هذا السفر عن مثل هذه الأمور لكن غلو «قطب» جرني إلى ذلك فإنه أتى بكل ما لفقته الأموية النكراء، و لكن في لفائف حريرية، و قفازات براقة، فيظن الغير أنه برئ عن العصبية الجاهلية (وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) «1» «2» وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي القابلين للهداية، أو الذين

______________________________

(1) الشعراء: 228.

(2) راجع كتاب «مؤمن قريش» للاستاذ الخنيزي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 166

[سورة القصص (28): آية 57]

وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً

مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)

اهتدوا فيجازيهم حسب علمه.

[58] و لقد كان من أعذار كفار مكة، في عدم إيمانهم، أنهم إن آمنوا بالرسول، يسلب مقامهم، لأن القبائل المجاورة، لا تخضع لهم بعد ذلك، فيكونون مجبورين أن يخرجوا من هناك إلى حيث يتمكنون من العيش، و هذا هو الخطف، فإن الخاطف قد يكون إنسانا، و قد يكون تقديرا، كذا ذكر بعضهم، و ذكر بعض أنهم خافوا أن يختطفهم فارس و الروم إن علموا باختراع العرب دينا جديدا و منهجا جديدا، و

قد روي عن السجاد عليه السّلام إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و الذي نفسي بيده لأدعون إلى هذا الأمر الأبيض و الأسود و من على رؤوس الجبال، و لجج البحار و لأدعون إليه فارس و الروم، فتجبّرت قريش و استكبرت و قالت لأبي طالب: أما تسمع إلى ابن أخيك ما يقول؟ و الله لو سمعت بهذا فارس و الروم لاختطفتنا من أرضنا و لقلعت الكعبة حجرا حجرا فأنزل الله تعالى هذه الآية

«1» وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ يا رسول الله بأن نؤمن كما تقول نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي نستلب من أرض مكة، فيأخذوننا الناس أسراء و لا طاقة لنا بهم أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً؟

أي ألم نجعل لهم مكانا آمنا هو الحرم، و هم كافرون، فمن يقدر على هذا يقدر على ان يأمنهم إذا أسلموا يُجْبى إِلَيْهِ أي يؤتى إليه و يجلب نحو محلهم ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ من الفواكه، و الصنائع، و أنواع الأقمشة، و غيرها، فإن مكة حيث كانت مطافا للعرب، كانت تروج

______________________________

(1) روضة الواعظين: ج 1 ص 54.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص:

167

[سورة القصص (28): آية 58]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)

أسواقها بثمرات الجزيرة، و ثمرات الشام و اليمن، التي كانت ثمارها أيضا تجبى- بدورها- من الهند و الصين و الروم و غيرها رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا نرزق به أهل مكة وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنا قدّرنا لهم هذا التقدير بأن جعلنا محلهم أمنا، و رزقهم وفرا. فإذا آمنوا كانوا أحق بذلك، و قد صدق الله سبحانه، فقد دل التاريخ- و الذي نشاهده الآن- إن أهل مكة منذ أن آمنوا قويت مكانتهم أكثر و صار الأمن و الرزق فيهم أوفر.

[59] أما إن بقوا على هذه الحالة ففي ذلك الوقت يختطفون بالهلاك و العذاب، و تقل أرزاقهم، كما كان كذلك القرى التي لم تؤمن، و انحرفت عن جادة الصواب وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية، بعلاقة الحالة و المحل، و لأن إهلاك الأهل مستلزم لإهلاك نفس القرية بخرابها بَطِرَتْ مَعِيشَتَها البطر هو الطغيان عند النعمة، أي طغت في المعيشة، فالمعيشة منصوبة بنزع الخفض و المعنى أعطيناهم المعيشة الواسعة، فجرتهم تلك إلى أن يكفروا من باب (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1» فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ التي يمر عليها المارة في طرف الشام، و طرف اليمن، كأراضي لوط، و شعيب، و صالح لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا فقد انقرضوا بالهلاك، و باءت قراهم بالخراب، فلم يسكن في بلادهم إلا نفر قليل من الناس الذين جاءوا من بعدهم

______________________________

(1) العلق: 7 و 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 168

[سورة القصص (28): الآيات 59 الى 60]

وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها

رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (60)

وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ لديارهم فلم يكن وارث يرث الأرض منهم، و لذا بقيت كسائر الأراضي لا مالك لها إلا الله سبحانه.

[60] وَ ما كانَ رَبُّكَ يا رسول الله مُهْلِكَ الْقُرى التي تكفر و تعصي الله حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها المركز لها رَسُولًا يقيم الحجة عليهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على المعارف و أصول الدين، فإذا أعرضوا عن الرسول، و لم يؤمنوا استحقوا الهلاك و النكال وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى أصله «مهلكين» حذف النون للإضافة إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ أنفسهم بالكفر و العصيان فالهلاك معلول لأمرين، الأول ظلم أهل القرية، و الثاني إتمام الحجة عليهم ببعث الرسول.

[61] فلا تغترّوا أيها الناس بالحياة الدنيا التي تصدكم عن الإيمان، لأجل المال و المنصب و التقليد و ما أشبه وَ ذلك لأن ما أُوتِيتُمْ أي أعطيتم مِنْ شَيْ ءٍ من الزخارف فهو متاع الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها أي هو شي ء تتمتعون به في هذه الحياة القريبة و تتزينون به وَ ما عِنْدَ اللَّهِ أي الجنة، و المراد بكونها عند الله، إن الله هيّأها للصالحين خَيْرٌ من هذه النعم وَ أَبْقى أي هي أكثر بقاء أَ فَلا تَعْقِلُونَ ألا تتفكرون بعقولكم حتى تميزوا بين الآخرة الباقية، و الدنيا الفانية؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 169

[سورة القصص (28): الآيات 61 الى 63]

أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ

الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63)

[62] أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً أي الذي وعدناه بالجنة، و هو المؤمن فَهُوَ لاقِيهِ أي نفي له بالوعد، فيلاقي الشي ء الحسن الموعود به كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي كالذي متع بمتاع هذه الحياة فقط ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي يحضر للعقاب و الجزاء، فهل هذا و ذاك متساويان؟ فكما أن متع الحياة لا تتساوى مع ما عند الله كذلك لا يتساوى المؤمن الذي وعد بالخير، و غيره الذي يحضر لأجل العذاب، و إنما يطلق «المحضر» على من حاله سي ء إذ الذي علم أن حاله حسن لا يحتاج إلى الإحضار، بل يحضر هو بنفسه.

[63] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي الله الكفار و المراد يوم القيامة فَيَقُولُ الله لهم على نحو استفهام تقريعي أَيْنَ شُرَكائِيَ أي من جعلتموهم شركاء لي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إنهم شركاء لي؟ لقد ذهب الشركاء، فلا شريك هناك، و عنت الوجوه للحي القيوم.

[64] و إذ يرى قادة الكفار إن ذنب أتباعهم يلقى على عواتقهم، يتبرءون منهم، قائلين إنهم لم يقسروهم على الكفر، و إنما هم تبعوهم في الغواية قالَ الكفار الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبت عليهم قول الله سبحانه الذي وعد الكفار بالنار، و المراد ب «الذين» الرؤساء، يا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 170

[سورة القصص (28): الآيات 64 الى 65]

وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)

رَبَّنا هؤُلاءِ أتباعنا الَّذِينَ أَغْوَيْنا هم عن الطريق

و أضللناهم أَغْوَيْناهُمْ لا بقسر منا، بل كَما غَوَيْنا نحن بلا قسر أحد فليس تبعة أعمالهم علينا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم و من أفعالهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ فهؤلاء ليسوا عبّادا لنا، و علينا تبعتهم، بل عبدوا الشياطين و أطاعوهم فلا قسرناهم، و لا عبدونا، و لذا لا نتحمل تبعة أعمالهم.

[65] وَ قِيلَ و القائل من جانب الله سبحانه ادْعُوا أيها الأتباع شُرَكاءَكُمْ أي الأصنام و القادة الذين جعلتموهم لله سبحانه شركاء، حتى ينجوكم من العذاب، و إنما أضيف الشركاء إليهم، لما تقرر من أنه يكفي في الإضافة أدنى ملابسة فَدَعَوْهُمْ و تضرعوا إليهم حتى ينجوهم من العذاب فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا أي المتبوعين لَهُمْ أي للأتباع وَ رَأَوُا الْعَذابَ بعد ما لم يجدوا ناصرا و شافعا لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ في الدنيا، لم يروا العذاب، أو هو حكاية كلامهم هناك، فإن المستلزم من عمل و قد فات الأوان يقول: لو إني فعلت كذا، أي لم أقع في هذا المحذور.

[66] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي الله الكفار فَيَقُولُ لهم ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ أي ما كان جوابكم للذين أرسلوا إليكم من النبيين؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 171

[سورة القصص (28): الآيات 66 الى 68]

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)

[67] فَعَمِيَتْ أي اختفت كالأعمى الذي يختفي عليه الطريق عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أي الأخبار، يعني صارت الأخبار كالعميان الذين لا يهتدون يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، حتى أنهم لا يدرون ماذا يقولون في جوابه

سبحانه إن قالوا الصدق عوقبوا، و إن قالوا الكذب فضحوا؟ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب المنجي، إذ الإنسان المحسن يأتي بالجواب، و الشاك يتساءل، أما المجرم الذي يعلم أن جرمه لا يخفى، و أن إقراره فضيحة، فهو لا يجيب و لا يتساءل عن زملائه كيف يجيب؟.

[68] هكذا حال المكذبين، رؤساء و أتباعا فَأَمَّا غيرهم ف مَنْ تابَ عن الكفر و العصيان وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً أي عملا صالحا، بأن أطاع فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي لعله يكون فائزا، و إنما جي ء ب «عسى» لأن المؤمن العامل بالصالحات، لا يدري هل يبقى على الإيمان، أم تكون عاقبة أمره خسرا.

[69] و قد تقدم أن الكفار كانوا يقولون إن نتبع الهدى نتخطف من أرضنا، فهل لهم أن يختاروا طريق الأمن و السعادة، في الدنيا أو في الآخرة؟

كلا! إن الاختيار لله وحده، كما أنه ليس للكفار أن يختاروا قادة ضلّالا، فإن اختيار القادة بيد الله، و بأمره تنصب الرؤساء للدين و الدنيا، كما أن جميع النعم منه، فله كل حمد وَ رَبُّكَ يا رسول الله يَخْلُقُ ما يَشاءُ و هذا تمهيد لقوله وَ يَخْتارُ فإن من له الخلق هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 172

[سورة القصص (28): الآيات 69 الى 71]

وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (69) وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ (71)

الذي له الاختيار، إذ كيف يمكن أن يخلق و يملك شخص،

و يكون الاختيار بيد غيره؟ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي ليس للكفار أن يختاروا لأنفسهم، كما كانوا يختارون الكفر خوفا من الاختطاف، و الخيرة، اسم من الاختيار، أقيم مقام المصدر سُبْحانَ اللَّهِ أي أنزه الله تنزيها عن أن يكون أعطى الاختيار بيد الناس، حتى يعملوا كيفما يشاءون وَ تَعالى أي ترفع، و المعنى أنه أرفع عَمَّا يُشْرِكُونَ فليست الأصنام شركاء له سبحانه، و ليس لهم أن يختاروها آلهة.

[70] وَ رَبُّكَ يا رسول الله يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ فهو الخالق الذي يختار العالم بالضمائر وَ ما يُعْلِنُونَ أي ما يخفون و ما يعلنون.

[71] وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له في خلق أو اختيار أو علم بما في الكون لَهُ الْحَمْدُ أي أنه هو المستحق الوحيد للحمد، إذ جميع النعم منه فِي الْأُولى أي الدنيا وَ الْآخِرَةِ لأن خيراتهما بيده لا بيد من سواه فيستحق بعض الحمد وَ لَهُ الْحُكْمُ أن يحكم و يشرع ما يشاء وَ إِلَيْهِ أي إلى جزائه تُرْجَعُونَ أيها البشر، بعد الموت، فكيف يتخذ غيره مما لا ميزة من هذه الميزات له إلها يعبد، و شريكا له في الألوهية؟.

[72] ثم ألفت السياق إلى جملة من الآيات الكونية التي يذعن الكفار أنها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 173

[سورة القصص (28): آية 72]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (72)

ليست مربوطة بالأصنام، ليبرهن بذلك لزوم التوحيد في العبادة، و بطلان الشرك قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار المشركين أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما أبدا، بحيث لم تطلع الشمس

أبدا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بأن وقفت الأفلاك عن الحركة مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أي بنور يضي ء لكم الأرض كضوء الشمس أَ فَلا تَسْمَعُونَ أيها الكفار إلى هذا الأمر؟ و ماذا جوابكم؟ و بالطبع يقولون لا إله سواه يأتي بالنهار، فلما ذا يجعلون غيره شريكا له؟.

[73] ثم قُلْ يا رسول الله لهم أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً أي باقيا دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بأن بقيت الشمس على أفقكم فلم تزل مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ بأن يزحزح الشمس حتى يأتي الليل تَسْكُنُونَ فِيهِ أي تستريحون فيه و تجعلونه وقتا لمنامكم و راحتكم أَ فَلا تُبْصِرُونَ أيها الكفار المشركون إلى هذه الآية العظيمة، ليل و نهار و كلاهما بيد الله؟ و هل من شركائكم من يقدر على ذلك؟ و إذ كان الجواب الطبيعي عدم قدرة أحد على ذلك فلما ذا اتخذتم شركاء لله، و هم لا يقدرون على شي ء؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 174

[سورة القصص (28): الآيات 73 الى 75]

وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)

[74] ثم من جعل الليل و النهار؟ وَ مِنْ رَحْمَتِهِ تعالى، لا من أثر غيره من الآلهة الباطلة جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ بأن خلقهما، فإن الظلمة كسائر الأشياء مخلوقة، إلا أن يقال أنها عدم و العدم غير مخلوق، و إنما جعله بجعل ضده و هو النهار- بأن يكونا من باب العدم

و الملكة- لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل وَ لِتَبْتَغُوا أي تطلبوا الرزق و المعاش مِنْ فَضْلِهِ تعالى، في النهار، أو أن «فيه» يرجع إليهما باعتبار كل واحد، و كذلك «لتبتغوا»، فإن الإنسان ينام بعض النهار، كما يكتسب في بعض الليل وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعم الله سبحانه التي أعطاها لكم منّا و فضلا، و لا يخفى أن جعل الليل و النهار، غير تصريفهما بهذا الشكل المنظم، ففي الآية الأولى تذكير بالأمر الثاني، و في هذه تذكير بالأمر الأول.

[75] و إذ ذكر السياق جملة من النعم التي لا مناص للكفار من الإذعان بأنها من الله وحده، رجع إلى الكلام السابق حول شركهم وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُنادِيهِمْ الله تعالى، و المراد به يوم القيامة فَيَقُولُ لهم أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء معي؟ لكن الشركاء هناك لا أثر لهم و لا عين، و هذا الاستفهام إنما هو للتقريع و التبكيت.

[76] و ليس لهم أن يقولوا إنا لم نكن نعلم وحدة الإله فهناك الشهداء- من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 175

[سورة القصص (28): آية 76]

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

الأنبياء و الأئمة و المرشدين- الذين يشهدون عليهم بأنهم بلّغوا لكنهم عصوا إلا الشرك و الكفر وَ نَزَعْنا أي أخرجنا و أظهرنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم شَهِيداً يشهد عليكم بالتبليغ و الإرشاد فَقُلْنا للكفار هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي ائتوا بحجتكم التي تدل على تعدد الآلهة فَعَلِمُوا هناك أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وحده لا لشركائهم، لكن حيث لم ينفعهم العلم وَ ضَلَّ

عَنْهُمْ أي ذهب و تاه ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الكذب على الله حيث كانوا يقولون إن الله اتخذ لنفسه شريكا، إن آلهتهم بطلت، و لا برهان لهم، و الشهداء، شهدوا عليهم بالإنذار و علموا صحة قولهم، فما هو جزاؤهم؟ ليس إلا النار و الخزي، حيث لا منجى و لا مهرب.

[77] و بعد إتمام قصة موسى مع فرعون، و تعقيب القصة بجملة من المشاهد في القيامة و بعض تعقيبات القصة، يأتي السياق لينقل حلقة أخرى من حياة موسى عليه السّلام، و هي حياته مع قارون الذي كان قريبا لموسى عليه السّلام و كان عالما حافظا للتوراة كثير المال، لكنه لما ظلم لم ينفعه علمه و ماله و قرابته و حفظه للكتاب، و فيه تنبيه لأهل الكتاب، كما في الآيات السابقة و تنبيه للكفار كي يعتبروا بما أصاب فرعون حيث قابل موسى بالكفر إِنَّ قارُونَ

و هو ابن خالة موسى عليه السّلام، كما ورد عن الصادق عليه السّلام

«1» كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى من بني إسرائيل المؤمنين به

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 459.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 176

فَبَغى أي استطال و تكبر عَلَيْهِمْ أي على قوم موسى حيث اغتر بماله و كماله و قرابته وَ آتَيْناهُ أي أعطيناه مِنَ الْكُنُوزِ جمع كنز و هو المال المدخور في خابية أو صندوق أو نحوهما ما أي مقدارا كثيرا حتى إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مفتح، بمعنى المفتاح، يعني مفاتيح بيوت أمواله و صناديق ذهبه و فضته لَتَنُوأُ أي تثقل بِالْعُصْبَةِ أي جماعة الرجال أُولِي الْقُوَّةِ فما كانوا يتمكنون أن يحملوها إلا بمشقة، يقال: ناء بحمله إذا نهض به مع ثقله، و

قد ورد أن العصبة ما بين العشرة إلى

تسعة عشر

«1»، و كان يحمل مفاتيح خزائنه بين هذين العددين من الرجال الأقوياء إذا أراد نقل المفاتيح من مكان إلى مكان، و لا بعد في ذلك، فإن المفتاح غالبا يصنع من الحديد و لو قدرنا أن عشرة مفاتيح تعادل ال «كيلو» و إن عشرة كيلوات تثقل الإنسان، و إن الأموال كانت في صندوق ثم في غرفة، ثم في بيت، و لكلّ مفتاح خاص، لم يتجاوز المال من بضع ملايين، و في عصرنا في العراق من قدر ماله ب «ملايين الدنانير» إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ المؤمنون من بني إسرائيل، لا تَفْرَحْ بهذا المال فرحا يؤدّي إلى البطر إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ جمع «فرح» و هو الذي يفرح من البطر و الكبرياء، و المراد ب «لا يحب» إنه يكرههم، إذا لا وساطة بين حب الله و كراهته، فإن الإنسان إذا كان طائعا أحبه الله، و إن كان عاصيا كرهه،

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 144.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 177

[سورة القصص (28): الآيات 77 الى 78]

وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

و لعل الإتيان ب «لا يحب» للتأدب.

[78] وَ ابْتَغِ أي اطلب يا قارون فِيما آتاكَ اللَّهُ أي ما أعطاك من الأموال الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تنفق منها في الخيرات و على الفقراء حتى تشتري الآخرة بها وَ لا

تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا إما بمعنى أطلب الدنيا بمالك كما تطلب الآخرة، و كان ذلك نهيا عن بذل جميع الأموال، كما قال سبحانه (وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) «1» أو المراد لا تنس نصيبك من الدنيا التي أقبلت عليك لتحصّل بها الآخرة، فتكون الجملة تأكيدا للجملة السابقة، و إنما الفرق أنها للجانب السلبي، و الجملة الأولى للجانب الإيجابي وَ أَحْسِنْ إلى الناس، أو إلى نفسك بفعل الطاعات كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ بإعطائك المال و الجاه و سائر النعم وَ لا تَبْغِ أي لا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إما بمنع الحقوق و الإنفاق، فإنه فساد و موجب لحرمان جماعة من الناس، و إما بصرف المال في المصارف المحرمة إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون في الأرض، بمنع الحقوق، أو بتعاطي الفساد.

[79] قالَ قارون في جواب نصيحة القوم إِنَّما أُوتِيتُهُ أي أعطيت هذا المال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فما للناس يتحكمون بي فأنا حصّلته

______________________________

(1) الإسراء: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 178

بعلمي؟، و هو إما بمعنى إن الله أعطاني ذلك بسبب علمي و فضلي، و إما بمعنى إن ذكائي و فطنتي هما ورّثاني هذا المال، فلا حق لأحد فيه، و حيث إني قد جمعته بفضلي فلي أن أعمل فيه بما أشاء، و إما بمعنى علمي بالكيمياء، كما قيل إنه كان يعلم بالكيمياء، و قد جمع ماله من تبديل الصفر ذهبا أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ قارون أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ و سمي القرن قرنا، لتقارن أعمار الأشخاص فيه بعضهم مع بعض مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ أي من قارون قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً للمال، فليس المعيار أن يكون الإنسان جمع المال لعلمه و فضله

و إنما المعيار كيفية التصرف في المال، فإن تصرف الإنسان في المال تصرفا حسنا بقي له، و إن تصرف تصرفا سيئا، فنى المال و أهلكه معه. إن قارون كان ينبغي أن يعلم هذا، لا ما تكبر به حيث قال «أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي».

فمن تكبر و عتى، و تصرف في المال تصرفا سيئا، فإنه مجرم، مصيره الهلاك، و المجرم يؤخذ بغتة وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فلا يقال لهم ماذا فعلتم؟ إذا أريد إهلاكهم في الدنيا، و إن كان في الآخرة يسألون عن ذنوبهم لزيادة التقريع و التأنيب كما قال سبحانه: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) «1» و قال

______________________________

(1) الحجر: 93.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 179

[سورة القصص (28): الآيات 79 الى 80]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)

(وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) «1».

[80] إن قارون لم ينفع فيه النصح، بل بقي على تطاوله و كبريائه فَخَرَجَ ذات يوم عَلى قَوْمِهِ مستعرضا ماله و ترفه فِي زِينَتِهِ و في أبّهة و جلال، يريد أن يري بني إسرائيل ثروته و عزته قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي الحياة القريبة، من ضعفاء الإيمان- و هم كثيرون في المؤمنين دائما- يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من الأموال و الثروة و الزينة إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي نصيب وافر من الدنيا، فقد تمنوا مثل ماله و منزلته.

[81] وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ علم الآخرة و ما أعد الله فيها من الثواب للمؤمنين المتقين

وَيْلَكُمْ أيها المتمنون ثروة قارون و جلاله، و «ويل» كلمة تستعمل بمعنى الدعاء على المقصود به، يعني «الهلاك لكم» أو «سوء الحال لكم» ثَوابُ اللَّهِ المعد للأخيار خَيْرٌ مما أوتي قارون لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ عملا صالِحاً فلا تتمنوا مثل أمواله، كي تبتلون بطغيانه و يفوتكم الثواب وَ لا يُلَقَّاها أي لا تعطى الجنة- المشار إليها بقوله «ثواب الله»- إِلَّا الصَّابِرُونَ الذين

______________________________

(1) الصافات: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 180

[سورة القصص (28): آية 81]

فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81)

يصبرون في الحياة الدنيا عن الثروة إذا لم يجدوها فلا يحصلون عليها من الحرام.

[82] و قد صار مال قارون وبالا عليه فَخَسَفْنا بِهِ أي بقارون وَ بِدارِهِ التي فيها الأموال الْأَرْضَ أي انخسفت الأرض معهما، فذهب قارون هالكا، و ذهبت أمواله ضياعا. قال القمي: و كان سبب هلاك قارون أنه لما أخرج موسى بني إسرائيل من مصر و أنزلهم البادية أنزل الله عليهم المن و السلوى ففرض الله عليهم دخول مصر و حرمها عليهم أربعين سنة و كانوا يقومون من أول الليل و يأخذون في قراءة التوراة و الدعاء و البكاء و كان قارون منهم و كان يقرأ التوراة و لم يكن فيهم أحسن صوتا منه و كان يسمى «المنون» لحسن قراءته و كان يعمل الكيمياء، فلما طال الأمر على بني إسرائيل في التيه و التوبة و كان قارون قد امتنع من الدخول معهم في التوبة و كان موسى عليه السّلام يحبه فدخل عليه موسى فقال له: يا قارون قومك في التوبة و أنت قاعد هاهنا؟ ادخل معهم و إلا ينزل بك

العذاب فاستهان به و استهزأ بقوله فخرج موسى من عنده مغتما فجلس في فناء قصره و عليه جبة شعر و في رجله نعلان من جلد حمار شراكهما من خيوط شعر و بيده العصا فأمر قارون أن يصب عليه رماد قد خلط بالماء فصب عليه فغضب موسى غضبا شديدا و كان في كتفه شعرات كان إذا غضب خرجت من ثيابه و قطر منها الدم فناجى موسى ربه فأوحى الله عز و جل إليه قد أمرت الأرض أن تعطيك فمرها بما شئت و قد كان قارون قد أمر أن يغلق باب القصر فأقبل موسى فأومأ إلى الأبواب فانفرجت و دخل عليه فلما نظر إليه قارون علم أنه قد أوتي بالعذاب فقال: يا موسى أسألك بالرحم الذي بيني و بينك فقال له موسى: يا بن لاوى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 181

[سورة القصص (28): آية 82]

وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)

لا تزدني من كلامك. و قال عليه السّلام: يا أرض خذيه فدخل القصر بما فيه في الأرض، و دخل قارون في الأرض إلى ركبتيه فبكى و حلفه بالرحم فقال له موسى: يا بن لاوي لا تزدني من كلامك يا أرض خذيه فابتلعته بقصره و خزائنه «1»، أقول: لقد كان موسى عليه السّلام في منتهى الحلم و الرقة و لكن انحراف بني إسرائيل الشديد، كان يسبب له في بعض الأحيان أن يغضب لله سبحانه، و الغضب لله تعالى من أفضل صفات الأنبياء، كما قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) «2».

فَما كانَ لَهُ أي

لقارون مِنْ فِئَةٍ أي جماعة، و سميت الجماعة فئة، لأن الإنسان يعود و يرجع إليها كلما دهمه أمر، من «فاء» بمعنى: رجع يَنْصُرُونَهُ أي ينصرون قارون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سوى الله، يعني أن الله وحده كان قادرا على دفع العذاب عنه أما غيره فلا أحد كان يقدر على ذلك. و هذا من قبيل الاستثناء المنقطع الذي مرّ الكلام في وجهه مكررا وَ ما كانَ قارون بنفسه مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي يقدر على أن ينصر نفسه.

[83] وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ حين خرج عليهم في زينته فقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون يَقُولُونَ متعجبين مما نزل بقارون من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 251.

(2) الفتح: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 182

[سورة القصص (28): آية 83]

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)

العذاب وي اسم فعل بمعنى «عجب» وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بأن يوسعه عليه وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق على من يشاء من عباده، فإنهما تابعان لمصالح خفية لا لكرامة تقتضي البسط و لا لهوان يوجب النقص لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا حيث لم يوسع علينا حتى نطغى لَخَسَفَ الأرض بِنا كما خسف بقارون وي أعجب من هذه القصة كأنه لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فلا يفوزوا بثواب الله و لا ينجوا من عقابه، فالحمد لله الذي لم يعطنا ما أعطاه حتى نبتلي بما ابتلى به. و قارون لم يظهر الكفر، و إنما قالوا ذلك لأن فعله كان فعل الكافرين و لذا جوزي بجزائهم، و الإتيان ب «كأن» تعبير عرفي لمن يريد أن يتراجع عن كلامه السابق، فإذا قلت:

إن فلانا زيد، ثم أردت أن ترجع عن كلامك بعد ما تبينته فرأيته عمروا تقول: كأنه عمرو، و ذلك للتدرج الحاصل للنفس من أحد الطرفين إلى الطرف الآخر.

[84] ثم بين سبحانه أن الآخرة إنما هي لمن لا يريد الاستكبار و الفساد، في مقابل قارون الذي استكبر و طلب الفساد في الأرض، حتى يعلم المؤمن، أن الاستكبار و الفساد يباينان الإيمان بالعالم الآخر تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ يعني الجنة نَجْعَلُها و نقدرها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي استكبارا و تجبرا وَ لا فَساداً أي لا يريدون عملا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 183

[سورة القصص (28): الآيات 84 الى 85]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)

بالمعاصي وَ الْعاقِبَةُ الجميلة المحمودة لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون عقاب الله، فلا يعصونه.

[85] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي بالصفة الحسنة، من الإيمان، و العمل الصالح فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها عند الله، فإنه يعطي عشرة أضعاف جزائه، فمثلا من تصدق بدينار أعطي عشرة دنانير وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ و تسمى سيئة لأنها تسي ء إلى الإنسان فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بمقدار السيئة لا أزيد منها، و إنما أعد العذاب الشديد للسيئات لأنه بقدر جزائها حسب العقل و المنطق كما يجزي الساب للملك- مثلا- بالقتل.

[86] و إذ انتهت قصص موسى مع فرعون و بني إسرائيل و قارون، يتوجه السياق إلى الرسول، الذي كانت تلك القصص تسلية له، بقدر ما كانت تهديدا لكفار قريش فيقول إِنَ الله الَّذِي

فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أوجب عليك العمل بأحكامه لَرادُّكَ أي يردك و يرجعك إِلى مَعادٍ أي محل العود و المراد به مكة، فلا تشرّد عن بلادك بدون أن ترجع إليها ظافرا منتصرا، كما رجع موسى إلى أرض مصر- التي خرج منها خائفا يترقب- ظافرا منتصرا، و قد قالوا: إنها نزلت حين خروج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مكة مهاجرا إلى المدينة، حينما أراد الكفار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 184

[سورة القصص (28): الآيات 86 الى 87]

وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)

قتله قُلْ يا رسول الله لهؤلاء رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى منا، و منكم، فقد كان الكفار يرون أنفسهم على حق و هدى، و يرون الرسول على باطل وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إنه يعلم ذلك و سينصر الهادي، و يخذل الضال، و هذا كلام من يرى أن لا أثر في الجدال مع المعاند يسلى نفسه و يهدد طرفه، بالعاقبة.

[87] إنك لا بد و أن ترجع إلى مدينتك، و إنك لا بد و أن تنتصر على الكفار، فإن رحمة الله لم تزل معك، ألم يلقي إليك الكتاب، و ما كنت ترجو ذلك لو لا رحمته؟ فإن رحمته التي أوجبت إلقاء الكتاب عليك هي التي تنصرك و تردك إلى وطنك وَ ما كُنْتَ يا رسول الله تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعني إنه لم يكن رجاء لو لا الرحمة، و هذا صحيح، فلا يقال كيف لم

يرج الرسول إلقاء الكتاب، و قد كان نبيا و آدم بين الماء و الطين؟ فَلا تَكُونَنَ يا رسول الله ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي معينا لهم، بل جانبهم و باعدهم و حاربهم، فإن الذي رحمك في إلقاء الكتاب إليك، سيرحمك بنصرتك عليهم و إرجاعك إلى بلادك سيدا منتصرا.

[88] وَ لا يَصُدُّنَّكَ أي لا يمنعنك الكفار عَنْ آياتِ اللَّهِ أي اتباع آيات الله، و إبلاغها للناس بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ لا يمنعنّك عن تنفيذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 185

[سورة القصص (28): آية 88]

وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

رسالتك خوفك منهم، فإن الله ناصرك وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ بالإيمان به و اتباع أوامره وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يجعلون لله شريكا.

[89] وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ و كان الفرق بين «وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» و بين هذا أن الأول نهي عن مجرد الشرك و لو القلبي منه، و الثاني نهي عن الدعوة و الدعاء إلى إله آخر، و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان منتهيا عن ذلك بدون نهي، و إنما جي ء تعريضا على المشركين، كما تقول لولدك المطيع: بني أطعني، تريد التعريض بخادمك الذي لا يطيعك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الله وحده لا شريك له، فهو الإله الأزلي كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فهو الإله الأبدي، و المراد بالوجه «الذات» يقال هذا وجه الرأي أو وجه الطريق، و يراد الرأي و الطريق، و لعل التعبير بالوجه للتنبيه على بقاء جهة الاتجاه إليه سبحانه، فليتوجه الإنسان إليه تعالى لأن وجهه باق أبدي، كلما أراد الإنسان

أن يتجه إليه و يطلب منه الحاجة، قابله تعالى بوجهه، و هذا مجاز، و إلا فليس لله سبحانه وجه و سائر الأمور الجسمية و العرضية، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لَهُ الْحُكْمُ فهو الحاكم في الكون، و لا يصدر شي ء إلّا عن حكمه و إرادته وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أيها البشر، في القيامة ليجزي كل إنسان بما عمل من شر أو خير، فهو واحد أزلي أبدي، بيده الحكم و إليه المرجع.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 186

29 سورة العنكبوت مكية أو مدنية/ آياتها (70)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «عنكبوت» و هي كسائر السور المكية تبين موضوع العقيدة الدائرة بين المبدأ و المعاد و الرسالة، و لما ختمت سورة القصص بالوعد و الوعيد، افتتحت هذه السورة بذكر الامتحان الذي من خرج منه ناجحا نال الوعد، و من خرج منه ساقطا نال الوعيد.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو بدأ التكوين و التشريع، فمن الجدير أن يجعل اسمه الكريم بدء كل حركة و سكون، و التوصيف له بالرحم- مكررا- للنيل من فيض رحمته الواسعة الموجبة للسعادة في الدنيا و الآخرة فلو لا رحمة الله سبحانه لهلك الإنسان جسدا و روحا، و بعد فإنه لو لا رحمته ابتداء لم يوجد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 187

[سورة العنكبوت (29): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)

[2] الم «ألف» و «لام» و «ميم» من أمثالها تركّب سور القرآن، تركيبا يوجب الإعجاز حتى لا يتمكن البشر من الإتيان بمثلها، أو التقدير:

هذه «الم» فهو خبر

مبتدأ محذوف، و قد تقدم التلميح إلى بعض الأقوال في «مقطعات السور» معنى، و إعرابا.

[3] أَ حَسِبَ النَّاسُ أي هل ظن الناس أَنْ يُتْرَكُوا في أمن و راحة، مجرد أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا ثم تدرّ عليهم الخيرات و البركات و يسعدوا في الآخرة و الأولى وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ أي لا يمتحنون بأنواع الشدائد، في طريق الإيمان، حتى يميز بين الصادق و الكاذب، و المجاهد و القاعد؟ هل ظنوا ذلك؟ إنهم أخطئوا إن ظنوا إن مجرد التلفظ بالإيمان كاف في نيل السعادة.

[4] و كيف يقتنع عنهم بمجرد التلفظ بالإيمان وَ الحال إنا لَقَدْ فَتَنَّا و امتحنا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المؤمنين الذين أظهروا الإيمان، في الأمم السابقة، امتحانهم بأنواع الشدائد و المحن، فكيف نترك هؤلاء بلا امتحان؟ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ أي يمتحن ليعلم بالتأكيد الَّذِينَ صَدَقُوا في إيمانهم حتى أنه لا يزول بالمصائب و المحن وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ الذين كذبوا في دعوى الإيمان، بل كان لقلقة لسان، و المراد بالعلم تعلق العلم بالمعلوم بوقوعه في الخارج، فإنه يقال «علم» لمن جهل ثم علم، كما يقال: «علم» لمن علم و لكن لم يكن معلومه خارجيا ثم أوجد المعلوم في الخارج، فإنّ العلم الفعلي إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 188

[سورة العنكبوت (29): الآيات 4 الى 6]

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6)

يتحقق بتحقق المعلوم الفعلي.

[5] لقد كان ذلك للمؤمنين، أما الكافرون، فإن موقفنا معهم أشدّ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ «أم» منقطعة، أي: هل حسب و ظن العاملون

بالمحرمات أَنْ يَسْبِقُونا أي يفوتوننا، فلا نلحقهم تشبيه بمن يلحق المجرم الذي فرّ، و قد سبقه في الفرار حتى لم يلحق به، إن من أجرم بالنسبة إلى أوامر الله، لا يفوت الله، بل يدركه الطلب و إن فرّ إلى كهوف الجبال ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ساء الحكم حكمهم، الذي حكموا حسب ظنهم بأنّا لا ندركهم و لا ننتقم منهم، فالله سبحانه يمتحن، و من رسب في الامتحان يدركه و ينتقم منه، فليخش الناس مؤمنهم و كافرهم، و برهم و فاجرهم من عقاب الله سبحانه.

[6] أما من آمن و نجح في الامتحان فليطمئن بنصر الله مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي يأمل ثوابه سبحانه، بأن آمن و عمل صالحا، فإنه هو الذي يرجو، أما غيره فقوله أنا راج، كذب، لأنه من قبيل من لم يبذر و يقول أنا راج ريع زرعي فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي الوقت الذي وقّته الله للقائه و ثوابه- و الإضافة لأدنى مناسبة- لَآتٍ أي يأتي قطعا، فلا خلف في وعده وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال عباده الْعَلِيمُ بأعمالهم و نياتهم، فيكون جزائه عادلا لا ظلم فيه.

[7] وَ مَنْ جاهَدَ الشيطان و نفسه و الأعداء، و هو مشتق من «جهد» بمعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 189

[سورة العنكبوت (29): الآيات 7 الى 8]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

أتعب نفسه في دفاعه لأجل الإيمان فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إذ فائدة الجهاد تعود إليه إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فهو لا يحتاج

إلى جهاد المؤمنين، و إنما المؤمنون يحتاجون إلى الجهاد لنيل السعادة لأنفسهم.

[8] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله و اليوم الآخر و ما جاء به الرسول وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ الملازم لعدم السيئات لَنُكَفِّرَنَ أي نبطلنّ و نمحون عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي اقترفوها حتى يبقون بلا سيئة وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أي نعطيهم الجزاء ب أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ إما المراد أحسن جزاء أعمالهم، كأن يكون الجزاء مثلا للعمل الفلاني درجة واحدة فنعطيهم درجتين، و إما المراد يعطون جزاء أحسن أعمالهم، أما الأعمال السيئة التي توجب النكال، و الأعمال التي توجب خفة الإنسان و نزول رتبته في أعين الناس، فلا نجزيهم عليها.

[9] و حيث ذكر سبحانه جزاء من عمل الصالحات أشار إلى ما هو من أهمّ الأعمال الصالحة، الذي هو بر الوالدين فقال وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أي أمرناه أن يعاشر والديه حُسْناً بإطاعتهما، و النزول عند رغبتهما.

وَ إِنْ جاهَداكَ أيها الإنسان، و ألزماك لِتُشْرِكَ بِي بأن تجعل لي شريكا، حيث كانا مشركين ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «ما» مفعول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 190

[سورة العنكبوت (29): الآيات 9 الى 10]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10)

«تشرك» أي تجعل شيئا شريكا لي، و ليس لك بذلك الشريك علم، من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ تعلم إنه ليس لي شريك، فلا شريك حتى تعلمه، كما يقال: لا يعلم الله لنفسه شريكا، يعني إنه لا شريك له حتى يعلمه

فَلا تُطِعْهُما في الإشراك بي إِلَيَ أي إلى حسابي و جزائي مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم أيها البشر، و «مرجع» مصدر ميمي فلا تخالفوا أوامره حتى تبتلوا بالعقاب و النكال فَأُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و المراد بالإخبار الجزاء على العمل، كما تقول لمن تريد وعده أو إيعاده: سأخبرك بعملك.

[10] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ رجوع إلى ما سبق ليرتب عليه قوله لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في جملتهم و زمرتهم.

[11] و إذ قد سبق امتحان الله للمؤمنين و لزوم الجهاد في سبيله ذكر السياق من ليس كذلك ممن يظهر الإيمان و لا يجاهد و يرسب عند الامتحان وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ بمجرد قولة اللسان فَإِذا أُوذِيَ آذاه الكفار فِي اللَّهِ أي في جهة علاقته بالله و إيمانه به جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ و يظن أنه إن ترك الإيمان لا يعذّب بعذاب الله أكثر من هذا العذاب الذي يلقاه بواسطة إيمانه، و لذا يفكر في الرجوع عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 191

[سورة العنكبوت (29): الآيات 11 الى 12]

وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12)

الدين، لأنّ عذاب الله آجل، و عذاب الناس له- المساوي في زعمه لعذاب الله- عاجل، و لم يعذّب نفسه عاجلا خوفا من عذاب آجل؟

هذا هو مقدار إيمانه في البلاء، فإنه لا يطيق و يسقط عند الامتحان، و إذ ذهب الإيذاء و جاء النصر، بسط ادعائه في وجه المؤمنين قائلا أنه كان معهم في ساعة الشدة ليجعل نفسه في

مقدمة القافلة فيحوز الجاه العريض، بعد تلك الانتكاسة وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ يا رسول الله، لك و للمؤمنين، و ذهب أذى الكفار لَيَقُولُنَ ذلك الساقط في الامتحان المتراجع عند الإيذاء إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أيها المؤمنون في ساعة العسرة أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإيمان و النفاق، و ألم يعلم سبحانه أن هذا كيف انتكس عند البلاء؟

فهيهات أن يجعل كالصابرين القانتين الصامدين أمام الإغراء و الإيذاء.

[12] وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بحقيقة الإيمان فدخل الإيمان قلوبهم حتى أن الافتتان لا يصرفهم عن حقيقة إيمانهم وَ لَيَعْلَمَنَ الله الْمُنافِقِينَ الذين آمنوا ظاهرا، فإذا فتنوا جعلوا فتنة الناس كعذاب الله.

[13] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله لِلَّذِينَ آمَنُوا بحقيقة الإيمان اتَّبِعُوا سَبِيلَنا في الكفر و الطغيان وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ فنحن نحمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 192

[سورة العنكبوت (29): الآيات 13 الى 14]

وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14)

آثامكم عنكم، و مرادهم بذلك أن لا إثم حقيقي في اتباع الكفر و العصيان، و إنما هو إثم خيالي، إذ لا بعث و لا نشور، ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ إن كفروا و كذبوا مِنْ شَيْ ءٍ قليل أو كثير، فإن الله سبحانه لا يعذب أحدا بذنب آخر، نعم إن على هؤلاء عقاب الإضلال، لكن ذلك لا يخفف من عقاب الأتباع شيئا، بل للمضل عقاب إضلاله، و لمن ضل عقاب ضلاله إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.

[14]

وَ لَيَحْمِلُنَ هؤلاء الذين أضلوا أَثْقالَهُمْ أي أوزار أعمال أنفسهم وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي أوزار إضلالهم للناس وَ لَيُسْئَلُنَ يسألهم الله سبحانه يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من أنه لا ذنب للكفر و العصيان كما يقولون للمؤمنين يريدون إغواءهم، و المراد بسؤالهم منهم أنهم يسألون مقدمة للعقاب، فإن المجرم يسأل عنه سؤال تقرير ليعذّب حسب جوابه.

[15] ثم ينتقل السياق إلى بعض قصص الأنبياء لإنذار كفار مكة بأنهم إن لم يؤمنوا كان مصيرهم مصير الأقوام من قبلهم حيث كذبوا الرسل فأخذهم الله بعقاب كفرهم و عصيانهم وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ليدعوهم إلى الإيمان و الطاعة فَلَبِثَ فِيهِمْ أي مكث داعيا لهم إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 193

[سورة العنكبوت (29): الآيات 15 الى 16]

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)

الإيمان أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي تسعمائة و خمسين سنة فلم يجيبوه، و لم يؤمن إلا نفر قليل منهم، و مثل هذا العمر ممكن فقد وصل العلم الحديث إلى إمكان تمديد العمر بواسطة الأغذية و الأدوية فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ و هو أن نزل من السماء المطر و تفجرت الأرض عيونا، حتى علا الماء و أغرق الكل، و الطوفان الماء الكثير الغامر سمي طوفانا لأنه يطوف- بكثرته- في نواحي الأرض، أو في النواحي التي يقع الكلام فيها وَ هُمْ ظالِمُونَ قد ظلموا أنفسهم بالكفر و الطغيان.

[16] فَأَنْجَيْناهُ أي خلصنا نوحا منهم و من الطوفان وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ فقد أمر نوح أن يصنع سفينة و يركبها هو و المؤمنون و ركبها و نجا من الغرق وَ جَعَلْناها

أي السفينة، أو هذه القصة بكاملها آيَةً دالة على التوحيد، أو على عذاب المكذبين لِلْعالَمِينَ أي الخلائق الذين يأتون بعد ذلك.

[17] وَ لقد أرسلنا إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ و لا تعبدوا سائر الآلهة الباطلة وَ اتَّقُوهُ بإتيان أوامره و اجتناب نواهيه ذلِكُمْ «ذلك» إشارة إلى ما ذكره من العبادة لله و التقوى و «كم» خطاب خَيْرٌ لَكُمْ من الكفر و العصيان، و التفصيل هنا منسلخ عن معنى الفضل، أو المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 194

[سورة العنكبوت (29): آية 17]

إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

بالنسبة إلى الخير الذي هم فيه مع الكفر إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كان لكم علم بالواقع لعلمتم أنّ الإيمان و التقوى خير.

[18] إِنَّما تَعْبُدُونَ أنتم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غير الله أَوْثاناً جمع «وثن» و المراد به الصنم أي أنكم تعبدون حجارة لا تضر و لا تنفع وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً أي تقولون كذبا، في قولكم إنّ هذه الأوثان آلهة، و الكذب يسمى خلقا باعتبار أن الكاذب يخلقه و يأتي به من العدم إلى الوجود مع أنه لا حقيقة له، بخلاف الصدق الذي هو حكاية من الواقع و الخارج إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام، و إنما أتى بضمير العاقل، جريا على كلام القوم عند الحوار، كما قال الشاعر:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخةقلت اطبخوا لي جبة و قميصا

لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فليست أرزاقكم التي ترزقونها مملوكة لهذه الأصنام حتى تقولوا إنا نعبدها لما تهيئ لنا من الرزق، أو تقولوا

إنما نعبدها لتدر علينا الأرزاق فَابْتَغُوا و اطلبوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فإنه هو المالك للرزق و المعطي له. و كم يقبح أن يتصرف الإنسان في رزق الله، و يعبد غيره، و يطلب من لا يكون بيده الرزق و يترك الطلب ممن بيده الرزق؟ وَ اعْبُدُوهُ وحده وَ اشْكُرُوا لَهُ على ما أنعم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 195

[سورة العنكبوت (29): الآيات 18 الى 20]

وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

عليكم، فهو الإله و هو المتنعم إِلَيْهِ تعالى تُرْجَعُونَ أي إلى حسابه و جزائه مرجعكم إذا متم و إذا قامت القيامة، فهو المبدئ، و هو المعيد، و هو المعطي لكم الرزق الآن.

[19] ثم قال لهم إبراهيم عليه السّلام وَ إِنْ تُكَذِّبُوا قولي و لم تؤمنوا بي فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أنبياءهم، فلم يضر التكذيب الأنبياء وَ إنما ضر المكذبين إذ ما عَلَى الرَّسُولِ أي ليس عليه شي ء إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي أن يبلغ بلاغا ظاهرا واضحا، فإذا أنجز عمله فقد ترى من عهدة ما كلف و يلقى جزائه الحسن.

[20] أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار، و هذا إما من تتمة كلام إبراهيم، أو هذه الآية و السابقة و اللواحق، معترضة بين أثناء الكلام، جي ء بها للإيقاظ و التنبيه كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ من العدم إلى الوجود ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الإماتة، كما أنشأه من العدم، فإن من يقدر على الابتداء

قادر على الإعادة إِنَّ ذلِكَ الإرجاع و الإعادة بعد الموت عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل هيّن، فكيف ينكرون البعث و هم يرون النشأة الأولى؟ كما أنهم كيف ينكرون وجود الله و هم يرون آثاره؟ و كيف ينكرون الرسالة و قد رأوا المكذبين كيف أهلكوا؟.

[21] قُلْ يا رسول الله، للكفار سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بالسفر إلى البلاد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 196

[سورة العنكبوت (29): الآيات 21 الى 22]

يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (22)

و المرور على الصحاري و القفار فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الله الْخَلْقَ فإنّ الإنسان يألف الجو الذي ينشأ فيه و لذا يتفتح قلبه إلى مشاهد الخلقة الخارجية التي تظهر في الأولاد إذا ولدوا، و النبات إذا نبت، و هكذا أما إذا سار لفت نظره إلى رؤية البلاد، و تقلب الأحوال ثُمَّ اللَّهُ بعد إهلاك الناس أجمع يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ فإنه كما أنشأها ابتداء ينشأوها ثانيا، و معنى الإنشاء الإيجاد إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فإنه سبحانه على الإنشاء و الإفناء و الإعادة قادر، فكيف ينكر هؤلاء المعاد؟.

[22] إنه يعيد الخلق ليجازيهم حسب أعمالهم ف يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن كفر و عصى، فإنّ الله سبحانه حكيم لا يفعل عبثا أو خلاف العدل وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ من آمن و أطاع وَ إِلَيْهِ أي إلى جزائه و حسابه تُقْلَبُونَ أيها البشر، و معنى تقلبون: ترجعون، لأن الرجوع هو انقلاب الإنسان من حال إلى حال.

[23] و إنكم أيّها الكفار لا تقدرون على الإفلات من عقاب الله سبحانه، فإن الإنسان تحت قدرة

الله، يقلبه كيف يشاء، و يفعل به ما يشاء، سواء كان في الأرض أو في السماء وَ ما أَنْتُمْ أيّها الكفار بِمُعْجِزِينَ الله تعالى بأن تصنعوا صنعا يمنع من أخذكم و العذاب على أعمالكم، سواء كنتم فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ على تقدير إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 197

[سورة العنكبوت (29): آية 23]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)

تمكنتم من الذهاب إليها، كما

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم* غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

«1» وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه مِنْ وَلِيٍ يلي أموركم وَ لا نَصِيرٍ ينصركم، فلا أحد يتولى شؤونكم، و لا أحذ ينصركم، فما تظنون من أن الأصنام تنفع فهو ظن باطل، إذن فأنتم بذاتكم لا تتمكنون من إعجازه سبحانه، و لا ناصر لكم حتى يقف ذلك الناصر دون بأس الله.

[24] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بأن كذبوا الآيات التكوينية و لم يعترفوا بدلالتها على وجود الله، و كذبوا بآيات الله المنزلة بأن قالوا إنّها ليست من قبل الله تعالى وَ لِقائِهِ فقالوا أن لا بعث و لا نشور، و المراد لقاء ثوابه و جزائه أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي فإنه لا عمل لهم حتى يستحقّوا الثواب، فيكون لهم رجاء، و المعنى إنهم يائسون حقيقة، و إن كان فيهم من لا يأس له، و هذا كقوله «لا رَيْبَ فِيهِ» حيث يراد فيه أنه ليس محلا للريب، و إن ارتاب فيه المبطلون، و هذا من تتمة قوله «وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ» حتى لا يزعم الكفار أنهم يدخلون في زمرة من يرحمهم الله، كما قال

ذلك الكافر:

______________________________

(1) ديوان الإمام علي عليه السلام: ص 321.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 198

[سورة العنكبوت (29): الآيات 24 الى 25]

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)

(وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) «1» وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع في النار، و هذا بالتأكيد، فهو طرف الإيجاب، و يئسوا، طرف السلب.

[25] لقد كان إبراهيم عليه السّلام يحتج على قوله بأنواع الاحتجاج، كما سبق بعضه فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي قوم إبراهيم عليه السّلام و هم نمرود و سائر الكفار المعاصرون له إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أي اقتلوا إبراهيم جزاء على دعوته إلى التوحيد و تعييبه الأصنام أَوْ حَرِّقُوهُ بالنار و أخيرا استقر رأيهم على إحراقه، و ألقوه في النار فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إذ قال سبحانه للنار: كوني بردا و سلاما على إبراهيم إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من قصة إبراهيم: دعوته، و كيد الأعداء، و إنجائه لَآياتٍ دالة على أنه كيف ينصر الله أوليائه، و يخذل أعدائه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أن اللّه ينصر أولياءه، و يخذل أعداءه أما غيرهم فلا يعتبرون بهذه القصص، و لذا لا ينتفعون بهذه الآيات.

[26] وَ قالَ إبراهيم عليه السّلام لقومه، إما بعد نجاته من النار، و إما قبل إلقائه في النار، و آخر السياق هذه الجملة، لاستعجال المخاطب أن يعرف كيف صارت النتيجة- كما هو الطبيعي في أمثال هذه القصص-

إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ أيها القوم مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أي أصناما، لأجل

______________________________

(1) الكهف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 199

[سورة العنكبوت (29): آية 26]

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإنّ الأصنام كانت تجمعهم على العقيدة الواحدة، فإذا أراد أحدهم الخروج عن عبادتها انفصمت مودته عن سائر أقربائه و أصدقائه، و لذا كان يحافظ على هذه المودة بالاستمرار في عبادتها، فاتخاذكم للأصنام للمجاملة لا للعقيدة، لكن هذه المودة تنقلب عداوة يوم القيامة ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي يتبرأ بعض الكفار من بعض، القادة من الأتباع و الأتباع من القادة وَ يَلْعَنُ و يسب بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيلعن الأتباع القادة الذين أضلوهم، و يلعن القادة الأتباع لئلّا يحملوا إثم الأتباع وَ مَأْواكُمُ أي مرجعكم و مصيركم النَّارُ جزاء لشرككم وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونكم و يدفعون العذاب عنكم.

[27] إنّ القوم لم يؤمنوا بإبراهيم، فَآمَنَ لَهُ أي لإبراهيم لُوطٌ النبي عليه السّلام، و هو ابن أخت إبراهيم و معنى آمن أنه صدقه في دعوته، و إن كان هو أيضا نبيا وَ لما أن رأي إبراهيم أنهم لا تنفع فيهم الدعوة قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ من بلادكم و قد كان قرب الكوفة إِلى رَبِّي أي إلى المكان الذي يختاره ربّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب سلطانه، فلا يذل من نصره الْحَكِيمُ الذي يفعل الأشياء بالحكمة و الصواب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 200

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 249

[سورة العنكبوت (29): الآيات 27 الى 28]

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ

لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28)

[28] وَ وَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم إِسْحاقَ من سارة زوجته العقيمة، فقد كان إعطائه الولد منها خارقا، أما إسماعيل عليه السّلام، فقد كان من الطريق المألوف وَ يَعْقُوبَ ابن إسحاق، جد بني إسرائيل وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ أي في ذرية إبراهيم عليه السّلام النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فقد بعث الله منهم أنبياء كثيرين و ما موسى و عيسى و محمد «صلوات الله عليهم أجمعين» إلا من ذريته عليه السّلام، و قد أعطي التوراة و الإنجيل و القرآن وَ آتَيْناهُ أي أعطينا إبراهيم أَجْرَهُ أي جزاء بلاغه و صموده في الدعوة فِي الدُّنْيا حيث رفعنا مقامه، و جعلنا له الذكر الحسن، و جعلنا السيادة و الملك و النبوة في أولاده و أحفاده وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ بأن يكون في زمرة الأنبياء العظام.

[29] وَ أرسلنا لُوطاً إلى قومه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ و يجوز أن يكون التقدير، و اذكر لوطا حين تكلمه مع قومه إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي لتعملون الخلة الفاحشة في الإثم، فإن فحش بمعنى تجاوز الحدّ، و اللواط إذ كان كبيرة جدا، يسمى بالفاحشة ما سَبَقَكُمْ بِها أي بهذه الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ فإنكم اخترعتموها، و من المعلوم أن البادئ في العمل القبيح أظلم، لأنه يعلّم غيره و يمهد السبيل لغيره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 201

[سورة العنكبوت (29): الآيات 29 الى 31]

أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31)

[30] أَ إِنَّكُمْ أيها القوم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تفعلون معهم وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ فقد اشتهر عملهم الفاحش في القرى المجاورة، و إن من يمر بهم يفعلون به، و لذا ترك الناس المرور بمدنهم، خوف الفضيحة وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ؟ النادي هو محل الاجتماع، مشتق من النداء، لأن بعض الناس ينادي بعضا آخر للاجتماع و الذهاب إليه، فقد كانوا يتحابقون في النادي بغير حشمة و احترام، و لعلّ أن نواديهم كانت مركزا لأنواع الفسوق، كما هو الطبيعي في مثل تلك الأمة، و نشاهد مثلها في زماننا هذا، و من المعلوم أن الاستفهام إنكاري فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي قوم لوط إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا و جي ء إلينا بِعَذابِ اللَّهِ الذي تعدنا على كفرنا و منكرنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك و ما تقول بأن البقاء على الكفر و العصيان موجب للعذاب.

[31] عند ذاك قالَ لوط عليه السّلام مناجيا ربه، يا رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بتعذيبهم، و نجاتي منهم، و قد دعا بذلك بعد ما يأس من اهتدائهم.

[32] و قد استجاب الله دعاء لوط، فأرسل جبرائيل و معه ملكين آخرين لتعذيب أهل القرية، و في طريقهم إلى بلاد لوط مرت الملائكة على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 202

[سورة العنكبوت (29): الآيات 32 الى 33]

قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ

مِنَ الْغابِرِينَ (33)

إبراهيم عليه السّلام وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ جلسوا عنده في زيّ لم يعرفهم، ثم عرفهم، و زفّوا إليه بِالْبُشْرى أي البشارة بإسحاق، و إن الله يرزقه ولدا من زوجته «سارة» بعد ذلك قالُوا أي الملائكة إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي قرية قوم لوط، و قد كانت قريبة من محل إبراهيم عليه السّلام إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ كافرين مرتكبين للفواحش و المنكرات.

[33] قالَ إبراهيم عليه السّلام للرسل إِنَّ فِيها أي في القرية لُوطاً و هو عبد صالح، فكيف تهلكون القرية و هو فيها؟ قالُوا أي قالت الملائكة في جواب إبراهيم نَحْنُ أَعْلَمُ من غيرنا بِمَنْ فِيها فلا نريد إهلاك الجميع حتى لوط عليه السّلام لَنُنَجِّيَنَّهُ أي نخلص لوط وَ أَهْلَهُ المؤمنين بإخراجهم من القرية إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنها تبقى لتعذب فيمن يعذّب لأنها فاسدة ظالمة كسائر القوم كانَتْ المرأة مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين لتعذب مع القوم، من «غبر» بمعنى مضى، كأنها تمضي فيمن يمضي.

[34] وَ تحركت الملائكة من عند إبراهيم قاصدين قرى لوط و لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا أي الملائكة لُوطاً عليه السّلام سِي ءَ بِهِمْ أي ساء لوط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 203

[سورة العنكبوت (29): الآيات 34 الى 35]

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

مجي ء الرسل، فإنه لم يعرفهم ابتداء و ظنهم ضيوفا آدميين، و قد كانوا أصحاب جمال، فخاف لوط إن اطلع القوم أن يعملوا معهم الفاحشة وَ ضاقَ لوط بِهِمْ أي بسبب الرسل ذَرْعاً هذا تمييز ل «ضاق» أي ضاق من حيث الذرع، و هو الطاقة، و قد عرف القوم بمكان الضيوف، و جاءوا لأخذهم

و عمل الفاحشة، فخاف لوط من الفضيحة، و هناك أظهر الرسل حقيقة أمرهم وَ قالُوا للوط لا تَخَفْ علينا و لا على نفسك وَ لا تَحْزَنْ بما نفعله بالقوم من العذاب، أو لا تحزن علينا، فإنهم لن يصلوا إلينا و لا إليك إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ أي ننجيك من العذاب الذي يشملهم إِلَّا امْرَأَتَكَ الكافرة فإنا لا ننجيها بل نذرها مع القوم كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ من جملة الباقين لتعذب بعذابهم.

[35] إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ التي أنت بها، و هي «سدوم» رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم و خروجهم عن طاعة الله بالكفر و العصيان.

[36] ثم خرج لوط و المؤمنون ليلا، و نزل العذاب على أهل القرية وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي أبقينا من القرية آيَةً بَيِّنَةً أي علامة واضحة، و هي آثار منازلهم الخربة، و أرضهم التي لا تنبت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 204

[سورة العنكبوت (29): الآيات 36 الى 38]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإذا ذهب الإنسان من الحجاز إلى الشام، أو رجع رأى أرضهم اليباب في الطريق.

[37] وَ أرسلنا إِلى مَدْيَنَ اسم قبيلة سميت باسم جدهم الأعلى «مدين» أَخاهُمْ شُعَيْباً فإن شعيب كان من نفس تلك القبيلة فَقالَ لهم يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له و لا تتخذوا الأصنام آلهة شركاء مع الله وَ ارْجُوا الْيَوْمَ

الْآخِرَ أي اعتقدوا به، راجين لثوابه، و ذلك كناية عن طلبه لهم- فوق الاعتقاد بالقيامة- العمل الصالح لأجل لقائه وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يقال «عثى» إذا أفسد فسادا كثيرا، و لعل التأكيد ب «مفسدين» لإفادة أن لا يكون فسادهم عن قصد و تعمد، أي لا تفسدوا في الأرض عامدين.

[38] فَكَذَّبُوهُ و قالوا له أنت تكذب في وحدة الإله، و وجود اليوم الآخر، و إنك رسول من قبل الله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ صاح بهم جبرائيل صيحة رجفت و اضطربت منها أجسامهم فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ التي ينبغي أن يكونوا في أمن و سلام فيها، فإن الإنسان يصاب بالمكروه في الأسفار لا في الديار جاثِمِينَ من جثم، بمعنى بقي بدون حركة، و هو كناية عن موتهم من تلك الصيحة.

[39] وَ أهلكنا أيضا عاداً بعد ما أنذرهم النبي هود عليه السّلام، فلم يقبلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 205

[سورة العنكبوت (29): آية 39]

وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ (39)

قوله وَ ثَمُودَ بعد ما أنذرهم النبي صالح فكذبوه وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ يا كفار قريش، بعض مِنْ مَساكِنِهِمْ الباقية في أطراف بلادكم، فكان «حجر» بلاد ثمود في طرف الشام، و الأحقاف بالقرب من حضرموت يمن بلاد عاد وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فكانت أعمالهم العصيانية مزينة في أعينهم، و المزين هو الشيطان، لأنه الذي يوسوس بالقبائح إلى الإنسان فَصَدَّهُمْ أي منعهم عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الله وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ يبصرون الأمور و يميزون بين الحق و الباطل، و مع ذلك ارتكبوا المعاصي فأهلكوا، و المراد بهذا أنهم، قد تمت عليهم الحجة.

[40] وَ أهلكنا قارُونَ الذي كان من

قوم موسى، و مرت قصته في السورة السابقة وَ فِرْعَوْنَ الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى وَ هامانَ وزير فرعون وَ لَقَدْ جاءَهُمْ أي جاء إلى هؤلاء الثلاثة مُوسى النبي عليه السّلام بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الواضحات من العصا و اليد، و فلق البحر و غيرها فَاسْتَكْبَرُوا أي طلبوا الكبرياء فِي الْأَرْضِ و لم يخضعوا لأوامر موسى، لما قد ظنوا أن في ذلك منافاة لمقامهم و عظمتهم وَ ما كانُوا سابِقِينَ أي لم يفوتنا، تشبيه بمن يسبق الطالب في الفرار، فلا يتمكن من اللحاق به ليعاقبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 206

[سورة العنكبوت (29): الآيات 40 الى 41]

فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)

[41] فَكُلًّا من تلك الأقوام، و أولئك الأفراد الذين عتوا عن الحق، و لم يطيعوا الأنبياء أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أي عذبناه حسب معصيته فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً و هي الحجارة، و هم قوم لوط الذين أمطروا بالحجارة وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ و هم ثمود، و أهل مدين، حيث صاح بهم جبرائيل فأهلكوا من شدة وقع الصيحة في قلوبهم و على أرواحهم وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ فذهب في الأعماق، و هو قارون وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا في البحر، و هو فرعون و هامان و قومهما وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ في تعذيبهم بهذه الأنواع من العذاب من غير ذنب، و بدون إتمام الحجة

وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فقد ظلموا أنفسهم بالكفر و الطغيان فرأوا جزاء أعمالهم.

[42] ألا فليعتبر كفار قريش بهذه العبر، و إلا أصابهم ما أصاب أولئك، و ماذا يتخذ الكفار من الآلهة؟ فهل هؤلاء الأولياء يقاسون بالله؟ كلا إنها أوهن من بيت العنكبوت، و مثل هؤلاء الذين يتخذون الأصنام آلهة كمثل العنكبوت التي تبقى و تحرز نفسها بالبيت الضعيف الذي صنعته من خيوط واهية لا بقاء له، و لا يقيها من شر الأعداء مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ و هي الأصنام التي كان المشركون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 207

[سورة العنكبوت (29): الآيات 42 الى 43]

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)

يتولونها، و يجعلونها أولياء لهم عوض أن يتخذوا الله وليا كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها لتأوي إليه، و يقيها الكوارث، فكما أن بيت العنكبوت لا يفيدها شيئا، كذلك أولياء هؤلاء لا يفيدونهم شيئا و لا يضرونهم في الدنيا، و لا في الآخرة وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ التي تصنعها الحيوانات لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ فإن بيتها يطير بنفح من وهنه و ضعفه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كان هؤلاء يدركون الواقع، لعلموا أن أولياءهم كبيت العنكبوت الذي لا يغني شيئا.

[43] فليعملوا ما شاءوا، و ليتخذوا من شاءوا أولياء، فهم بعلم الله، و سيجزيهم بما اقترفوا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي أنه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار من الأصنام، فهو يعلم دعوتهم، كما يعلم معبوداتهم، و هذا تهديد لهم، كما تقول: أنا أعلم من تجالس، تريد تهديده في هذه المجالسة وَ هُوَ

الْعَزِيزُ سلطانه، فإذا أراد شيئا تمكن عليه الْحَكِيمُ لا يفعل شيئا إلا حسب المصلحة، فتأخير إهلاك هؤلاء، ليس عجزا، بل عن حكمة و صلاح.

[44] وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ الأشباه و النظائر التي نشبه بها بعض الأمور، كتشبيه أولياء الكفار ببيت العنكبوت نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي نذكرها لهم، و قد سبق أنه يسمى «ضربا» باعتبار أنه يوجد اصطداما في الذهن، مما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 208

[سورة العنكبوت (29): الآيات 44 الى 45]

خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)

يسبب تركيز المطلب و بقائه وَ ما يَعْقِلُها أي ما يفهم الأمثال إِلَّا الْعالِمُونَ فإن العلماء هم الذين تهز مشاعرهم الأمثال، أما من سواهم، مما لا فكر له و لا تدبير، فيبقى جامدا لا حراك لذهنه.

[45] إن كل ما يذكره سبحانه للحق لا للهو، و منه ضرب المثل، فقد خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ فلم يكن خلقهما لأجل اللعب و اللهو، فكيف من يخلق الأشياء بالحق يأتي بالمثل لعبا؟ إذ فعل الواحد بعضه يشبه بعضا؟ إِنَّ فِي ذلِكَ أي في خلق الكون لَآيَةً دالة على وجود الله و صفاته لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم المنتفعون بهذه الآية، و إن كان كونه علامة عامة لجميع العقلاء، فكيف يتخذ الكفار من دونه أولياء؟

[46] اتْلُ أي أقرأ يا رسول الله ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي القرآن وَ أَقِمِ الصَّلاةَ أي أدّها بحدودها و آدابها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ الفحشاء صفة للمعصية المقدرة، و هي أعظم من المنكر لاعتبار كونها فاحشة

في الحرمة متعدية للحدود تعديا كثيرا، من فحش بمعنى تعدى، و المنكر كل عصيان ينكره العقل و الشرع، و إنما كانت الصلاة ناهية عن المنكرات، لأنها- باستمرارها- تولد في الإنسان ملكة الخوف من الله الموجب لاجتناب المعاصي وَ لَذِكْرُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 209

اللَّهِ بأن يكون الإنسان متذكر لله سبحانه دائم الأوقات، حتى لا يصدر منه عصيان إطلاقا، لخوفه منه تعالى أَكْبَرُ من الصلاة، لأن الصلاة من إحدى مصاديق الذكر و لوازمه وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ أيها البشر، فاعملوا الطاعات، و لا تعملوا المعاصي، فإنكم تحت اطلاعه و علمه، لا يفوته شي ء من أعمالكم، و لعل المراد بهذه الآية، إعلام النبي، بأنه يستمر في عمله و دعوته، فلا يهتم بما يفعله المشركون و العصاة، إنه مأمور بالسير فمن شاء تبعه، و من لم يشأ بقي في كفره و ضلاله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 211

تقريب القران الى الأذهان الجزء الحادي و العشرون من آية (47) سورة العنكبوت إلى آية (31) سورة الأحزاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 212

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 213

[سورة العنكبوت (29): آية 46]

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

[47] و لما ذكر سبحانه لزوم الدعوة إليه سبحانه، و تقدم قسم من الاحتجاجات مع المشركين، بين كيفية دعوة أهل الكتاب، و خصهم بالذكر لأنهم أكثر خطرا على الدعوة الإسلامية من المشركين،

فإنهم إن ثارت حفيظتهم عملوا عملهم في هدم الإسلام، فقال سبحانه وَ لا تُجادِلُوا أيها المسلمون، و الجدال الاحتجاج مع الخصم في مطلب مختلف فيه أَهْلَ الْكِتابِ و هم اليهود و النصارى و المجوس إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالطريقة التي هي أحسن الطرق، بأن تكون بعيدة عن آثار الغضب، قريبة إلى النصفة، قوية في الحجة، برفق و لين إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالاعتداء في البحث و الإفراط، فإن أخذ طرف اللين، و جانب الرفق، يوجب تقوية جانبهم، فإنه مباح أن تكون المجادلة حينئذ بالمثل وَ قُولُوا لهم عند الجدل آمَنَّا نحن المسلمين بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا و هو القرآن وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ و هو التوراة أو الإنجيل- مثلا- وَ إِلهُنا نحن المسلمين وَ إِلهُكُمْ أنتم أهل الكتاب واحِدٌ فلا نعبد إلها لا تعبدونه وَ نَحْنُ لَهُ لذلك الإله مُسْلِمُونَ قد خضعنا و أنقذنا، و إذ كان لنا و لكم أمور مشتركة، فلنجتمع عليها، و ندع الأمور المفرقة، ككون البشر الفلاني ابن الله، و نحو ذلك و هذا مثل قوله سبحانه (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ) «1»

______________________________

(1) آل عمران: 65.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 214

[سورة العنكبوت (29): الآيات 47 الى 48]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48)

[48] وَ كَذلِكَ أي كما أنزلنا على موسى و عيسى عليهما السّلام الكتاب أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول الله الْكِتابَ الذي هو القرآن، فالكتب كلها منزلة من عند إله واحد، لغاية واحدة،

و إنما التحريف حصل من أهواء قوم قد ضلوا أو أضلوا فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ بأن كانوا حقيقة من أهل الكتاب لا من أهل الأهواء و التعصب يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بهذا الكتاب الذي أنزل إليك وَ مِنْ هؤُلاءِ الكفار الذين في مكة مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا ينكرها، و لا يعترف بها إِلَّا الْكافِرُونَ الذين كفروا بالله، و لا يريدون الحق، سواء كانوا في زي أهل الكتاب، أو في زي المشركين و إلا فالأدلة الدالة على صدق هذا الكتاب متوفرة، فما يمنعهم عن الإيمان، إلا بالكفر و الجحود؟

[49] و قد حفظنا هذا القرآن عن كل شبهة، لمن أراد الحق و الإنصاف، فقد جعلنا الرسول أميّا لم يختلف إلى معلم قط، فلم يكن القرآن محل شبهة أن يكون الرسول تعلم قبلا ثم جاء به وَ ما كُنْتَ يا رسول اللّه تَتْلُوا و تقرأ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن مِنْ كِتابٍ فلم يكن الرسول قارئ حسب الموازين الاجتماعية، و إن كان يعرف القراءة بإلهام الله تعالى وَ لا تَخُطُّهُ أي لم تكن تكتب الكتاب بِيَمِينِكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 215

[سورة العنكبوت (29): الآيات 49 الى 50]

بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

أي بيدك، و إنما خصّ اليمين، لأنه الغالب في الكتابة إِذاً أي لو كنت تقرأ أو تكتب لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لوجد المبطلون طريقا للتشكيك في القرآن، و لقالوا إنما جمعه مما تعلمه سابقا، و إنما قال «المبطلون» لأن الارتياب

أيضا في ذلك الوقت كان في غير محله إذ إن الكاتب القارئ، لا يتمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن.

[50] إذن لم يكن القرآن مجموعا من علوم سابقة تعلمها الرسول، ثم جاء بها بهذه الصورة بَلْ هُوَ أي القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ واضحات في كونها خارقة من عند الله سبحانه، لا من صنع بشر، و تأليف إنسان فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فمن كان عالما، يعلم أن هذا القرآن، لا يمكن أن يأتي به بشر، فقوله «في صدور» متعلق ب «بينات» أي أنها واضحة عند أهل العلم، أما الجهّال، فإنهم لا يميزون بين المعجز، و بين المؤلف، كما لم يميزوا بين عصا موسى، و سحر السحرة، و بين إحياء عيسى و طب الأطباء وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا و ينكرها، بل يقول إنها مختلقة اختلقها الرسول إِلَّا الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف عن منهج الحق، فتمسكوا بالافتراء لإطفاء نور الإسلام.

[51] وَ قالُوا أي الكفار لَوْ لا أي هلّا، و لماذا ما أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ خارقة، كخارقة العصا، و اليد البيضاء؟ فإنه لو كان نبيا لأتى بمثل ما أتى موسى، فقد أعرضوا عن القرآن المعجز الباقي، إلى طلب معجزة مادية مؤقتة قُلْ يا رسول الله، في جوابهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 216

[سورة العنكبوت (29): آية 51]

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)

إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فإذا شاء أنزلها، و إن لم يشأ لم ينزلها، أما ما يكفي للحجة، فقد أتيتكم به، و أما للمعاند، فلا تكفي حتى تلك الآيات المادية وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي منذر واضح إني من قبل الله تعالى،

أما كيفية المعجزة، فهو سبحانه أعلم بمصالح العباد، و قد كان هؤلاء معاندون، و إلا ألم يكفر الناس بموسى (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) «1» ثم إن الله خصّ كل نبي بآية تناسب زمانه، و زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث كان زمن الفصاحة و البلاغة، كان المناسب له الإتيان بهذا الجنس من الإعجاز- كما قرر ذلك في علم الكلام مفصلا-.

[52] أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أي ألا يكفي هؤلاء الكفار، دليلا على صدقك و نبوتك أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا رسول الله الْكِتابَ الذي هو القرآن يُتْلى عَلَيْهِمْ و يقرأ لديهم، فلا يتمكنون من الإتيان بأقصر سورة منه، مع أنهم فصحاء بلغاء؟ إِنَّ فِي ذلِكَ الإنزال للكتاب لَرَحْمَةً حيث يقرر القرآن مناهج السعادة للبشر وَ ذِكْرى تذكر البشر، بما أودع فيهم من الفطرة بالنسبة إلى المعارف و الآداب، و أصول الاجتماع لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إنما خصهم، لأنهم هم المنتفعون بالقرآن، و إلا فالقرآن ذكرى لجميع البشر، و هل بعد هذا الكتاب العظيم، يطلب

______________________________

(1) القصص: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 217

[سورة العنكبوت (29): الآيات 52 الى 53]

قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (53)

منك الكفار أن تأتيهم بآية مادية، لا تقرر للحياة منهجا، و لا تذكر الإنسان تذكيرا؟

[53] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يناقشون في نبوتك و يطلبون الخوارق المادية للإيمان برسالتك كَفى بِاللَّهِ أي كفى الله، و إنما جي ء بالباء، لأنه بمعنى

اكتفى فلان بالله بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً فالنزاع الذي بيني و بينكم حول رسالتي، يشهد الله لي، و ذلك لأنه أجرى هذه الخارقة- و هو القرآن- على لساني، و لو كنت كاذبا لتمكن كل فصيح أن يأتي بمثله، و لا مجال، لأن تقولوا إن الله لا يعلم بادعائك هذا، حتى يرد عليك و يمنعك، فإنه يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكيف لا يعلم بي، و بادعائي وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ بأن عبدوا الأصنام، و جعلوها آلهة وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ بأن أنكروه أو أشركوا به أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم، فعوض أن يعطوا النفوس، ليحصلوا على الجنة، أعطوا النفوس فحصلوا على النار، حتى ابتليت نفوسهم، كالخاسر الذي يذهب رأس ماله، و حيث إن طرف كلام الرسول كان المشركين الذين ينكرون التوحيد، و الرسالة، و المعاد، جاءت الآيات معترضة لكل ذلك، فلا يقال أي ربط بإنكارهم للرسالة التي كان التعرض عليها في أول الآية، مع الذين آمنوا بالباطل؟

[54] وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا رسول الله بِالْعَذابِ أي يطلبون عجلة العذاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 218

[سورة العنكبوت (29): الآيات 54 الى 55]

يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

لأنفسهم، فإنهم كانوا يقولون للرسول، إن كان حقا، فادع ربك أن ينزل علينا العذاب- استهزاء- لأن يقولوا، حيث لم تقدر على إنزال العذاب، فأنت كاذب، لا اتصال لك بالله وَ لَوْ لا أَجَلٌ و وقت قدّره الله لهم مُسَمًّى قد سمّي ذلك الوقت في اللوح المحفوظ لَجاءَهُمُ الْعَذابُ الذي استحقوه، فإنه سبحانه قدّر لهم أجلا، للامتحان، و لإيمان بعض الكافرين، لذا ترى

أنه لو عجل على كفار مكة العقاب، فات إيمان جماعة منهم آمنوا بعد ذلك وَ لا يستبطئ الكفار العذاب، فإنهم إن بقوا على كفرهم لَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب بَغْتَةً أي فجأة بدون سابق إنذار، و ذلك عند مماتهم، أو عند حرب الرسول لهم، و قتلهم و أسرهم، أو ما أشبه، كما ابتلى جماعة منهم بأنواع الأمراض المهلكة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت إتيان العذاب حتى يأخذوا حذرهم.

[55] يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي إن هؤلاء، إنما يطلبونك يا رسول الله، بأن تجعل لهم العذاب في الدنيا، فلنأخذ أنهم لم يعذبوا هنا- لبعض المصالح- فهل لهم إفلات عن عذاب جهنم؟ كلا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ مشتملة عليهم بحيث لا مفرّ لأحد منهم، منها، و سيلاقونها و يعذبون فيها بأنواع العذاب.

[56] إن عذاب جهنم ليحيط بهم في يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ و يسترهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 219

[سورة العنكبوت (29): الآيات 56 الى 57]

يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57)

مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فهم في وسط النار المحيطة بهم وَ يَقُولُ الله لهم ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء أعمالكم فقد أسند ما للمسبب إلى السبب، إذ العمل سبب العذاب.

[57] و إذ رأينا جزاء الكافرين فلننظر إلى المؤمنين كيف يجازون، و قد كان الكفار يؤذونهم و هم في مكة، و يخاف المؤمنون إن بقوا هناك أن يقتلوهم- كما قتلوا ياسرا و سمية- و إن خرجوا أن يقتلوهم، لئلا ينشروا الدعوة خارج البلاد، و لذا عقّبوا جعفرا حين ذهب إلى الحبشة، فخاطبهم سبحانه بقوله يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فأنتم عبادي، و هذه أرضي واسعة أمامكم

فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ و لا تشركوا بي شيئا، فإن تمكنتم من عبادتي في بلادكم، فهو، و إلا فاخرجوا منها إلى حيث تتمكنون من عبادتي فيها.

[58] و إن خفتم من القتل و الموت عند الهجرة؟ فهوّنوا على أنفسكم ذلك، أليس مصير كل إنسان إلى الفناء؟ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي تذوق الموت حتما «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» فلا تخافوا من الموت، إن احتملتم لقائه في هجرتكم ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم على حسن أعمالكم، و هذان سببان محفّزان لعدم مبالاة المؤمن بالموت، الأول، أن الموت يدرك الإنسان لا محالة، و الثاني، أنه يرجع إلى الله الذي أعد له كل ثواب و جزاء حسن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 220

[سورة العنكبوت (29): الآيات 58 الى 60]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

[59] و هناك الجنة التي فيها ما تشتهي الأنفس، و تلذ الأعين وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله و ما جاء به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ بأن عملوا بالأوامر، و اجتنبوا النواهي لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي لننزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً يتخذونها مبوّء، و محلّا لسكناهم، و غرف جمع غرفة، و هي العالية من البناء المشرفة على الأرض تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فإنها جارية على الأرض، فهم فوقها خالِدِينَ فِيها أي في حال كونهم دائمين في تلك الجنة و النعمة نِعْمَ ذلك أَجْرُ الْعامِلِينَ الذين عملوا بالطاعة، و اجتنبوا المعصية، أي أنه أجر حسن.

[60] ثم وصف العاملين بأهم الصفات التي يحتاج إليها

الإنسان الذي وقع في فتنة و اختبار الَّذِينَ صَبَرُوا على دينهم، و إن لاقوا صنوف الأذى وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يفوضون أمورهم إليه، و يوكلونه في مهامهم.

[61] و إذ أمر المسلمين بالهجرة، و ذكر لهم أن خوفهم من الموت- المحتمل للمهاجر- لا ينبغي أن يعبأ به، بيّن أن ما يخافه المهاجر، من اختلال أمر معيشته- حيث إن الإنسان في غربته عن وطنه، لا يتمكن من تحصيل المعاش- أيضا مما لا ينبغي أن يعتنى به، أليس الله هو الرازق للدواب التي لا تعرف تحصيل الرزق؟ فهو قادر على أن يرزق المهاجرين، حينما ينقطعون عن موارد أرزاقهم، التي كانت مهيأة في أوطانهم وَ كَأَيِّنْ هي بمعنى «كم» الخبرية، أي و كم مِنْ دَابَّةٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 221

[سورة العنكبوت (29): الآيات 61 الى 62]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (62)

تدب على وجه الأرض لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي لا تقدر على حمل و تحصيل رزقها لضعفها، و عدم شعورها على التحمل و الطلب اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ أي يرزق تلك الدابة الضعيفة و يرزقكم وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بنياتكم، فلا تقولوا و لا تنووا شيئا ينافي إيمانكم.

[62] ثم يرجع السياق إلى المحاورة مع الكفار المنكرين للتوحيد و الرسالة و المعاد، فيقول سبحانه وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت الكفار، يا رسول الله، أو أيها السائل مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بأن أنشأها و أخرجهما من العدم إلى الوجود وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ذللهما حتى يسيران بهذا السير المنظّم لمنافع

العباد لَيَقُولُنَ في جواب ذلك اللَّهُ هو الخالق المسخّر، إذ لا يتمكنون أن يقولوا صنع كل ذلك الصنم فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي بعد هذا الاعتراف، كيف يصرفون من عبادة الإله، إلى عبادة الأصنام؟ من أفك بمعنى صرف، و يسمى الكذب إفكا، لأنه صرف الكلام عن الحقيقة نحو خلاف الواقع.

[63] اللَّهُ هو الخالق المسخر، و هو الرازق المقدر، فلما ذا يعبدون الأصنام؟ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أن يوسّع عليه وَ يَقْدِرُ لَهُ أي يضيق الرزق لمن يشاء من عباده، من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 222

[سورة العنكبوت (29): الآيات 63 الى 64]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)

«قدر» بمعنى ضيق، و الظاهر أن لفظ «له» عائد إلى لفظ «من يشاء» لا إلى معناه حتى يستلزم التناقص، و يحتاج في جوابه إلى التزام تعدد الوقت إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم مصالح العباد، و طبق ذلك العلم الواسع يوسع في الرزق لبعض، و يضيق فيه لبعض.

[64] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت الكفار العابدين للأصنام مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي المطر فَأَحْيا بِهِ أي بذلك الماء الْأَرْضَ بأن أوجد فيها حركة تقتضي إنبات النبات مِنْ بَعْدِ مَوْتِها حيث لا حركة لها و لا إنماء- أو إن الإحياء للنبات، و نسب إلى الأرض بعلاقة الحال و المحل- لَيَقُولُنَ في الجواب اللَّهُ يحيي الأرض بعد موتها قُلِ يا رسول الله، بعد ما سمعت هذا الاعتراف منهم الْحَمْدُ لِلَّهِ

فقد اعترفتم بأن الله هو الوحيد في إدارة الكون، كما اعترفتم من قبل بأنه هو الوحيد في الخلق و الرزق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ توحيد الإله مع إقرارهم بأنه الخالق الرازق المصرف.

[65] إنهم بعد أن اعترفوا بالإله، يلفتهم السياق إلى المعاد وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ موجبة لأن يلهو الإنسان، و ينسى الحقائق و الغرض الأصلي من الخلقة وَ لَعِبٌ كلعب الأطفال يشغل الإنسان مدة ثم يزول و ينصرم وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة الحقيقية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 223

[سورة العنكبوت (29): الآيات 65 الى 66]

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

التي يصح أن يقال لها حياة، و حياة و حيوان، بمعنى واحد، يقال حيي حياة و حيوانا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو علموا الفرق بين الحياتين لرغبوا في تلك، و زهدوا في هذه.

[66] إن هؤلاء الذين يشركون بالله، قد دلت فطرتهم على وحدة الإله، حتى أنهم ليتوسلون في المشاكل إليه وحده، أما إذا انحلت المشكلة، رجعوا إلى كفرهم، جريا حسب المألوف عندهم، و التقليد فَإِذا رَكِبُوا أي هؤلاء الكفار فِي الْفُلْكِ أي السفينة، و اضطربت بهم الأمواج دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي توسلوا إليه في حال كونهم يخلصون له الطريقة و الدعوة، فلم يدعوا الشركاء لأنهم يعلمون أن لا منجي إلا الله سبحانه فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ بأن لم يهلكوا و أتوا إلى البر سالمين بفضله سبحانه إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي عادوا إلى شركهم، كما كانوا سابقا، و كان الإتيان بلفظة «إذا» لإفادة المبالغة، فإنه كان من التوقع منهم

أن يبقوا موحدين بعد تلك الكارثة، فإذا بهم يفاجئون الناس بالشرك.

[67] لِيَكْفُرُوا لعل اللام لام الأمر، جي ء للتهديد نحو «افعل ما شئت» أي فليكفر هؤلاء بِما آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم من الحياة، و الصحة و الغنى و سائر الخيرات وَ لِيَتَمَتَّعُوا بمتاع الحياة من مأكل و مشرب، و ملبس و منكح و مركب فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم، و هي النار و العذاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 224

[سورة العنكبوت (29): الآيات 67 الى 69]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

[68] و من عجيب أمر هؤلاء، أن الله قد أنعم عليهم، و هم يبدلون نعمة الله كفرا، فقد أعطاهم حرما آمنا، ثم هم يجعلون الحرم مركزا للأصنام، فمن يا ترى جعل الحرم آمنا غير الله؟ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم هؤلاء الكفار أَنَّا جَعَلْنا لهم حَرَماً آمِناً يحترم فيه دماءهم و أموالهم من القتل و الغارة وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يختطفهم أعداءهم، فالقبائل تغير بعضها على بعض، فيقتلوا و يأسروا، أليس هذا يقتضي أن يشكروا الله على هذه النعمة و يوحدوه؟ أَ فَبِالْباطِلِ و هي الأصنام يُؤْمِنُونَ فيجعلونها آلهة؟ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ التي أنعمها عليهم يَكْفُرُونَ فيجعلون الحرم الذي هو نعمة الله عليهم، محلا للأصنام و الأوثان، فإن كفران النعمة أن تصرف في معصية الله.

[69] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي لا أظلم من هكذا إنسان- و الحصر إضافي- مِمَّنِ

افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ككفار مكة الذين جعلوا لله شركاء افتراء و كذبا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ أي كذّب بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن لَمَّا جاءَهُ يريد إرشاده و هدايته أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي محل ثوى و إقامة لِلْكافِرِينَ فليعملوا ما يشاءون، فإن مصيرهم إلى النار، و هل هناك كفر أعظم من الشرك و تكذيب الرسل؟

[70] إن في وسط هذا الزحام الخانق، و الجو الكافر، من يجاهد في الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 225

بالإيمان، و الأعمال الصالحة، فإنه يهتدي إلى طريق الحق، الموصل له إلى سعادة الدنيا و الآخرة وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي من أجلنا، و ابتغاء مرضاتنا و طاعتنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا جمع سبيل و هو الطريق الذي قررنا لأجل الرشاد و الصلاح و الخير و السعادة، و هذا عام، فكل من جاهد في طريق فتح أمامه باب الحق و الصدق وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في نياتهم و أقوالهم و أعمالهم، فإنه تعالى معهم بالنصرة و الغلبة و السعادة في الدارين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 226

30 سورة الروم مكيّة/ آياتها (61)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الروم» و إشارة إلى قصة لهم مع الفرس، و هي كسائر السور المكية، تطرق طرفا من العقيدة و التوحيد و الرسالة و المعاد، قال في المجمع: أجمل في آخر العنكبوت ذكر المجاهدين، ثم فصل في هذه السورة، فقال.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي إن ابتدأ به شي ء، كان الشي ء مطبوعا بطابع الإيمان، فله سمة المؤمنين في الظاهر، و عليه رعاية الله في الباطن، فإن من هتف باسم شخص جعله ظهيرا لنفسه، أليس أبدى إنه من جمعه

و حزبه؟ و استمداد من الرحمة المطلقة و الفيض العميم الذي وسع كل شي ء، لتشمله الرحمة الخاصة، و اللطف المخصوص.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 227

[سورة الروم (30): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)

[2] الم رمز بين الله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو المراد، إن هذا الكتاب من جنس «ألف» «لام» «ميم» أو غير ذلك من الأقوال البالغة نيفا و عشرين، و هو خبر مبتدأ محذوف، أي «هذا: الم» حذف خبره، أي «الم: هذا الكتاب».

[3] غُلِبَتِ الرُّومُ فقد كان بين الروم، و هم المسيحيون، و كانوا في طرف غرب الجزيرة، تقريبا، و بين الفرس، و هم المجوس، و كانوا في شرق الجزيرة، تقريبا حروب دامية على طول الخط، فتارة يغلب هؤلاء على هؤلاء، و أخرى بالعكس، و اتفقت إحدى حروبهم في بدء الإسلام حين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بمكة، فغلبت الفرس على الروم، حتى أخذت الفرس مركز المسيحيين «بيت المقدس» و فرح الكفار بذلك، لأن الفرس كانت مثلهم في عدم الاعتقاد بالإله، كما حزن المسلمون، لأن الروم كانت ذات دين و كتاب و اعتقاد، و كانت بينهم و بين المسلمين جهات مشتركة، و لذا سلّى الله سبحانه المسلمين، بأن مغلوبية الروم لا تدوم، و إنما هم يغلبون بعد سنوات قلائل.

[4] فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي أقرب أرضهم من أرض الجزيرة في بيت المقدس وَ هُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي غلبة الفرس عليهم، في

هذه الحادثة سَيَغْلِبُونَ و ينتصرون عليهم بإرجاع بلادهم منهم.

[5] و إنما يغلب الروم الفرس فِي بِضْعِ سِنِينَ بضع القطعة من العدد ما بين الثلاثة إلى العشرة، يقال بضع و عشرون، أي أن فوق عشرين عدد، هو ما بين الثلاثة إلى العشرة، و هذا من أخبار القرآن الغيبية، و ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 228

[سورة الروم (30): الآيات 5 الى 6]

بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)

أكثرها، فقد كان كذلك، إذ وقعت حرب أخرى بين الطرفين، فغلبت روم الفرس، و استردت ما أخذوا منها من البلاد لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ أي من قبل الغلب، و من بعد الغلب، فلا يقع شي ء إلا بإذنه، و في هذا تسلية للمؤمنين، بأنه إن غلبت فارس، فليس ذلك موجبا لحزنهم، إذ الأمور بيد الله الذي هو وليهم و ناصرهم، كما تقول لابنك: إن رأيت غلبة بعض أعدائك، فلا يهمك، إني أريد ذلك، و الحاصل أن غلبة الفرس، ليست انتصار للكفر على الإيمان، و إنما شي ء مؤقت بقضاء الله و قدره، و الله لا يترك الإيمان حتى يغلبه الكفر وَ يَوْمَئِذٍ أي يوم غلبة الروم على الفرس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ المعتقدون بالرسول.

[6] بِنَصْرِ اللَّهِ للإيمان على الكفر- و إن كان نصر الله إنما هو للإيمان المسيحي- فإن كل مرتبة من مراتب الإيمان خير مما يقابلها من الكفر يَنْصُرُ الله مَنْ يَشاءُ فيمن توفرت فيه شروط النصرة، كما أمر، و كما أجرى أسباب الكون وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب سلطانه، فلا يغلبه أحد الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين، فلا يتركهم نهب الكفار يفعلون بهم ما يشاءون.

[7]

وَعْدَ اللَّهِ أي وعد الله ذلك وعدا، فهو مصدر تأكيدي لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ الذي وعد بغلبة الروم على الفرس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 229

[سورة الروم (30): الآيات 7 الى 8]

يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ الذين لا يؤمنون بالله، و لا يصدقون كلامه لا يَعْلَمُونَ صحة وعد الله، و إنه لا خلف فيه، فإن الذي يخلف وعده إما لعجز أو لجهل أو لخبث، و الله سبحانه منزه عن ذلك كله.

[8] إنهم لا يقدرون الأشياء حق قدرها، فيزعمون أن لا قوة خارقة غيبية تسير الكون، بل يظنون أن كل الأمر كائن فيما يشاهد من القوى الظاهرة يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا من قواها و أسبابها و مسبباتها، و سائر الخصوصيات الظاهرة وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ و بهذه الغفلة تختل مقاييسهم للأمور، فلا يصدقون بوعد الله و لا يرقبون جزاءه، و لا يقدرون قوته الغيبية، الخاضعة لها الأشياء، و كان إقامة هذه الجملة مقام «و هم عن الله غافلون» لأجل إفادة، أن منكر المعاد، منكر الله سبحانه، فهو من إقامة المسبب مقام السبب، فإن سبب الغفلة عن المعاد، هو الغفلة عن الله تعالى، و الإتيان بلفظ «هم» مكررا، للتأكيد في غفلة هؤلاء.

[9] أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا أي هؤلاء الغافلون عن الآخرة، الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فِي أَنْفُسِهِمْ أي في حالة خلوتهم بأنفسهم حيث لا جدال و لا إنكار- لو ظهر الحق- فإن

الإنسان بينه، و بين نفسه يعترف، بما لا يعترف به عند الملأ خوفا، أو استكبارا ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الإنسان و الحيوان و النبات و الهواء و غيرها إِلَّا بِالْحَقِ فلو لم يكن هناك إله، كما يزعمون، فمن يا ترى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 230

[سورة الروم (30): آية 9]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)

خلق كل هذه الأمور؟ و معنى «بالحق» إن الخلق لغاية و غرض، مما يدل على الإله العليم الحكيم القدير المريد وَ أَجَلٍ مُسَمًّى أي و لمدة محدودة، قد سميت تلك المدة عنده، فليست الأشياء بقاؤها اعتباطا، بل تبقى بمقدار قدر الله لها من المدة، فإن الإنسان إذا علم إن جملة من الأشياء، لغاية و مقصود علم بذلك إن سائر الأشياء كذلك، ألا ترى إنك إذا نظرت إلى «الساعة» فعلمت إن بعض آلاتها لماذا، تعتقد إن كل الآلات لها إنما حكمت و صنعت عن قصد، و إن كنت لا تعلم الحكمة فيها، و إما عرفان الأجل المسمى، فلما يرى الإنسان أن الأشياء تحدد بحدود معنية، حتى أن كل محاولة لنفيها قبل المدة عبث، كما أن كل محاولة لإبقائها بعد المدة لغو وَ مع ذلك إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي لقاء جزائه و حسابه لَكافِرُونَ غير معترفين، مع أن إحكام الصنع، يدل على أنه، لا بد أن يكون هناك حساب و جزاء، و إلا كان الخلق لغوا، و تمكين الظالم من

الظلم خلاف الحكمة.

[10] أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا أي هؤلاء المكذبون فِي الْأَرْضِ فإن السير يوجب اطلاع الإنسان على مساكن الذين ظلموا، فأهلكوا، كمدائن عاد و ثمود، و قوم لوط، و قوم نوح فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي يعلموا ذلك بالاستخبار عمن في أطراف تلك البلاد، فإن كل أمة تحفظ أطراف تلك البلاد، و إن كل أمة تحفظ أخبار أسلافها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 231

[سورة الروم (30): آية 10]

ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فقد وصلت حضارتهم إلى حدود مدهشة، كما يحدث التاريخ بذلك وَ أَثارُوا الْأَرْضَ من الإثارة بمعنى التقليب، لأجل الزرع و الإنبات وَ عَمَرُوها بالبيوت و ما أشبه أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء، فقد كانت وسائلهم، أكثر، و لذا كانت عمارتهم أجمل و أكثر وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة البينة الواضحة، فجحدوا الرسل، و كذبوا بما قالوا، فأهلكهم الله سبحانه فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ حين أهلكهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر و العصيان، فأخذهم وبال أعمالهم، و هؤلاء الكفار المعاصرون للرسول، إن كذبوا أهلكوا، فإنهم أقل قوة، و أقل عمارة و زراعة من أولئك.

[11] ثُمَ بعد تلك الحضارة و العمار كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا بالكفر و العصيان السُّواى اسم كان، أي كانت الخلة، و العاقبة السوء- أي السيئة- عاقبة الذين أساءوا، فإنهم بالكفر، فعوقبوا بما أساءهم من الهلاك و الدمار: على أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فلم يقبلوها وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ و منها يضحكون، و يحتمل أن يكون «أن كذبوا» اسم «كان» و معنى أساءوا السّوءى، عملوا السّوءى من باب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص:

232

[سورة الروم (30): الآيات 11 الى 13]

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13)

المصدر التأكيدي، نحو ضرب الضرب، فيكون المعنى: كان التكذيب بآيات الله عاقبة الذين عملوا بالمعاصي، فإن الإنسان يتدرج من المعاصي إلى الكفر، و على هذا المعنى، ف «ثم» للعطف لفظا، لا معنى.

[12] و كيف يكذب الكافر بآيات الله، و بالمعاد، و هو يرى أن الخلق كيف يبتدأ مما يدل على إله عليم قدير، قادر على الإعادة، كما قدر على الإنشاء اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي يخلقهم ابتداء ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت، ليحيي من جديد للحساب و الجزاء ثُمَّ إِلَيْهِ أي إلى جزائه و حسابه تُرْجَعُونَ أيها البشر.

[13] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ من بلس بمعنى يئس من الخير، فإنهم ييأسون من الرحمة، و ينقطعون من الجواب.

[14] وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ أي لا يشفع لهم الأصنام، التي جعلوها شركاء اللّه سبحانه، و أضيف الشركاء إليهم، لأنهم اخترعوها وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ إذ يظهر الحق هناك، و قد كانوا عبدوها في الدنيا قائلين (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1»، و هناك يتبين إنها لا تنقذ أنفسها، فإنها تصبح حصب جهنم، فكيف تتمكن من شفاعتهم.

______________________________

(1) الزمر: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 233

[سورة الروم (30): الآيات 14 الى 17]

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ

(17)

[15] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ و تأتي القيامة يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم يَتَفَرَّقُونَ أي يتميز المؤمنون عن الكفار، فالمؤمنون واقفون في طرف اليمين، بالبشر و السرور، و الكفار في طرف الشمال بالحزن و التقطيب.

[16] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به من التوحيد و الرسالة و المعاد، و سائر ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ الملازم لترك السيئات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ و هي الجنة يُحْبَرُونَ الحبرة المسرة، أي يسرون سرورا يظهر أثره على وجوههم، من النعيم الذي هم فيه.

[17] وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بما يجب الإيمان به وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا التي نصبناها للدلالة علينا، و على الرسالة وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ بأن ينكروا البعث و المعاد فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي يحضرون إلى العذاب، كالمجرم الذي يحضر إلى السجن و التعذيب، و لا يأتي هو برجله.

[18] ثم ينتقل السياق من العالم الآخر إلى هذا العالم ليشهد الإنسان، دلائل الكون، التي كان الكفار بها يكذبون حتى صاروا إلى ذلك المصير الهائل فَسُبْحانَ اللَّهِ مصدر منصوب بفعل مقدر من سبّح، أي أنزه الله تنزيها، و الفاء للتعقيب على تلك الخاتمة، أي و إذا كان لله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 234

[سورة الروم (30): الآيات 18 الى 19]

وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

تلك الخاتمة أسبحه تسبيحا حِينَ تُمْسُونَ أي تدخلون المساء، و هو الليل وَ حِينَ تُصْبِحُونَ أي تدخلون الصباح، فهو منزه دائم الأوقات، لا كالملوك الذين لا يستحقون الحمد و

الثناء، في بعض أحوالهم لعدم رعايتهم الأمور في تلك الأوقات.

[19] وَ لَهُ الْحَمْدُ الثناء الجميل، لما عمله من الجميل فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المستحق للحمد في جميع الكون وَ عَشِيًّا أي له الحمد في وقت العصر وَ حِينَ تُظْهِرُونَ أي تدخلون في الظهيرة، و هي وقت الظهر، فإنه المحمود المنزّه في جميع الأكوان، و كافة الأوقات، و هذا من بلاغة القرآن العجيب، حيث ذكر هذا الموضوع، في هذه الجملات الحية النديّة، التي تفتح الذهن، و تسير بالنفس إلى الآثار الكونية، و الأوقات الزمنية.

[20] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالنبات من النوات الميتة، و الطير من البيضة الميتة، و الإنسان من الأرض الميتة، بواسطة النبات وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ كالفضلات الميتة من الإنسان و الحيوان الحي، و البيضة الميتة من الطير الحيّ و هكذا وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بنمو النبت بَعْدَ مَوْتِها حيث تكون غبراء قاحلة لا نمو فيها و لا نبات وَ كَذلِكَ أي تحيى الأرض تُخْرَجُونَ أنتم أيها البشر من قبوركم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 235

[سورة الروم (30): الآيات 20 الى 21]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

بعد الموت للحساب و الجزاء.

[21] وَ مِنْ آياتِهِ أي أدلته الدالة على وجوده، و سائر صفاته أَنْ خَلَقَكُمْ أيها البشر مِنْ تُرابٍ فالتراب ينقلب نباتا، و حيوانا، يأكلهما الإنسان، فيصيران منيا، ثم جنينا إنسانا ثُمَ بعد أن كنتم ترابا إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ في الأرض تسيرون و تتّجرون، و تعملون، و إذا للمفاجات، فكيف صار

التراب اليابس الراكد، بشرا سميعا بصيرا، ينتشر و يتصرف في مختلف الشؤون؟

[22] وَ مِنْ آياتِهِ أي أدلة الله سبحانه الدالة على وجوده، و سائر أوصافه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أيها البشر مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من هذا الجنس أَزْواجاً للرجال نساء، و للنساء رجالا، فإن كون الزوجين من جنس واحد أكثر هنأة و لطفا لِتَسْكُنُوا أي لتطمئنوا، و لتألفوا إِلَيْها أي إلى تلك الأزواج- و هذه قرينة- على أن المراد بالأزواج: الزوجات.

وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ أيها البشر، أي بين الرجال و النساء مَوَدَّةً يود بها بعضكم بعضا، و يحب أحدكم الآخر وَ رَحْمَةً فيرحم بها أحدكم الآخر، مما يهنئ العيش و يسعد الحياة إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق للأزواج، و جعل المودة و الرقة لَآياتٍ أي أدلة على وجود الله تعالى، و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في هذه الأمور، و إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 236

[سورة الروم (30): الآيات 22 الى 23]

وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)

خصهم، لأنهم هم الذين يدركون هذه الآيات، و إلا فهي آيات لكل أحد، و قد يزعم البعض، إن الصفات النفسية، من قبيل المودة و الرحمة، و الشجاعة و الجبن و السخاء، و ما إليها، ليست أمورا مخلوقة، لكنها نظر سطحي، و إلا فمن أين هذه الظواهر؟ إنها ألوان للنفس، لا تدرك إلا بآثارها، و إلا فكيف هذا يكون مقداما سخيا، و كيف ذاك الذي على شكله يكون جبانا بخيلا؟ و قد ذكر في أول كتاب «البحار» جنود العقل و الجهل، و إنها

مخلوقات له سبحانه.

[23] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده، و سائر صفاته خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فمن خلق المدارات و الكواكب؟ و من خلق الأرض، و ما فيها؟ إن الخالق هو الله العليم القدير الحكيم وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ جمع لسان، و المراد به اللغة فإنه تعالى، لو لم يفعل ذلك، من كان يقدر على منح هذا الاختلاف من عربي، و فارسي، و تركي، و هندي، و غيرها؟ بالإضافة إلى الاختلاف، في النغمة و الصوت و الخشونة و النعومة و غيرها وَ اختلاف أَلْوانِكُمْ من أبيض و أحمر و أسود، و بنّي و حنطي، و غيرها، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ بالإضافة إلى مزايا كل إنسان في لونه و شكله، حتى يعرف كل أحد من غيره إِنَّ فِي ذلِكَ الاختلاف لَآياتٍ لأن كل لون، و كل نعمة آية لِلْعالِمِينَ أي العلماء، فإنهم هم الذين يتدبرون في هذه الآيات، و ينشغلون منها، إلى من أوجدها و صنعها.

[24] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على توحيده، و سائر أوصافه تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 237

[سورة الروم (30): آية 24]

وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)

مَنامُكُمْ مصدر ميمي، بمعنى نومكم بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ فما هو النوم؟ و من خلفه؟ إنه من خلق الله سبحانه، سواء كان عدما بإخراج بعض الأرواح عن الإنسان موقتا، أم وجودا بإضافة شي ء على بدنه يوجب له هذه الحالة وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فقد جعل فيكم صفات أوجبت، أن تطلبوا الرزق فمن يا ترى جعل هذه الصفات في الإنسان؟

إِنَّ فِي ذلِكَ المنام و الابتغاء لَآياتٍ أي

أدلة دالة على الله سبحانه، و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ و المراد أنهم يسمعون الآيات، فيتدبرونها، و يتفكرون فيها، لا أن يعرضوا عنها، كما قال سبحانه (وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) «1».

[25] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده، و سائر صفاته، أن يُرِيكُمُ الْبَرْقَ في خلال السحاب، و هو كما قالوا: يحدث من اصطكاك السحب بعضها ببعض، فيتولد فيها الكهرباء، و لا ينافي هذا كونه، صوت ملك، كما لا يخفى خَوْفاً من الصاعقة، و إنزال المطر المضر وَ طَمَعاً في إنزال المطر المفيد، و نصب هذين، بتقدير اللام، أي لتخافوا خوفا، و لتطمعوا طمعا وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ أي جهة العلو ماءً هو المطر فَيُحْيِي بِهِ أي بذلك الماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

______________________________

(1) يوسف: 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 238

[سورة الروم (30): الآيات 25 الى 26]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26)

بالجدب، و عدم النبات إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور سابقا لَآياتٍ لأن كل واحد من الأمور المذكورة، آية دالة على الله و على صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يعملون عقولهم، فينتقلون من الأثر إلى المؤثر.

[26] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده تعالى، و سائر أوصافه أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ فإن بقاء السماء بهذه الكيفية المنظمة، و بقاء الأرض بهذا الترتيب العجيب الدائم، لا يكون إلا بقدرة الله سبحانه، و أمره التكويني، و إلا فمن يدير الكون، بهذا النحو المنظم المدهش؟

ثُمَ إن الله سبحانه الذي رأيتم قدرته و آياته إِذا متم ثم دَعاكُمْ

دَعْوَةً و طلبكم طلبا مِنَ الْأَرْضِ التي دفنتم فيها إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أحياء كما كنتم سابقا، و ذكر هذا للتركيز على المعاد، بعد بيان آياته الدالة على عمله و قدرته، و نفوذ إرادته، فمن يقدر على تلك، يقدر على هذا.

[27] وَ لَهُ أي لله سبحانه بالملكية المطلقة مَنْ فِي السَّماواتِ وَ من في الْأَرْضِ من العقلاء، و غيرهم، و غلب العقلاء، و لذا، جي ء ب «من» كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي خاضعون مطيعون، فهل يتمكن أعظم الملوك، أن يخالف أوامر الله التكوينية، بأن لا يموت، أو لا يشيب أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 239

[سورة الروم (30): آية 27]

وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

يبقى إلى أمد يحبه؟ كلا، نعم قد أعطى الله سبحانه، زمام الإرادة بيد الإنسان ليختبره، أما الأزمة التكوينية، حتى دورة الدم، في بدن الإنسان، و حركة الأجهزة الباطنية، و القوى الظاهرة، فهي كلها تحت قدرته و إرادته.

[28] وَ هُوَ الله سبحانه الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بإنشائه بعد العدم ثُمَّ يُعِيدُهُ إلى الحياة- بعد الموت- للجزاء و الحساب وَ هُوَ أي «أن يعيد» أَهْوَنُ و أسهل في قياس البشر عَلَيْهِ أي على الله سبحانه، فإن الإنسان في مقاييسه، يرى إن إعادة الشي ء، أسهل من ابتدائه، و مع ذلك فكيف يظن، إن الإعادة عسيرة عليه تعالى، و إنما قلنا «في قياس البشر» لأن الله سبحانه كل شي ء لديه سواء ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) «1» لا يقال: كلا! إن الإعادة ليست أهون، فإن من يصنع شيئا، قد يكون لا يقدر على إعادته

إذا هدم، قلنا: إن عدم القدرة منه، لعدم علمه، أو لتعبه، أو أشباه ذلك، أما من توفرت فيه الشروط، فالإعادة عليه أيسر من جهة أن في ذهنه مثالا لذلك المصنوع، مما يسهل صنعه ثانيا وَ لَهُ سبحانه الْمَثَلُ الْأَعْلى المثل هو الشبيه للشي ء الذي يؤتى به لمعرفة ذلك الشي ء، و الله سبحانه لا يمثل له، فلا مثل له، من جميع الجهات، كما قال: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) «2»، و إنما قد يمثل له بأمثلة تقريبية، لاستيناس

______________________________

(1) يس: 83.

(2) النحل: 75.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 240

[سورة الروم (30): آية 28]

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)

الذهن، كما قال تعالى (مَثَلُ نُورِهِ) «1» و إذا أريد المثل، فله أعلى الأمثلة و أحسنها، كأن يمثل لنوره بالمصباح النيّر، أو يمثل بملكه بملك أعظم الملوك، و هكذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ففي كل مكان أريد أن يضرب له المثل، لا بد و أن يكون له المثل الأعلى، و ليس كالملك، في قطر خاص، الذي له أعلى الأمثلة في قطره، أما في خارج قطره، فليس له أعلى الأمثلة، ففي قطره يقال إن مثله، كمثل أعظم الناس ملكا، أما في خارج قطره يقال، إنه كمثل الملك الآخر، أو المالك الكذائي وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل شي ء لا يغلبه أحد الْحَكِيمُ فكل ما يفعل، إنما هو بالحكمة و الصواب.

[29] ثم ضرب سبحانه مثلا لعدم الشريك له، و ذلك بالاستفهام، عن هؤلاء المشركين، أنهم هل يقارنون بين السيد و العبد، و إذا قالوا: لا قبل لهم، فلم تقارنون- في

الألوهية- بين الله، و بين الأصنام؟ مع أن البون بينهما أبعد من البون بين السادة و العبيد ضَرَبَ لَكُمْ أيها المشركون، و الذي ضرب المثل هو الله سبحانه مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ بيّن لكم شبها في حال كونه من أنفسكم، فليس مثلا، من الملائكة، أو الجن، و النبات، و الحيوان، و الجماد هَلْ لَكُمْ أيها المشركون مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي عبيدكم، و إمائكم، و إنما نسبت الملكية إلى اليد، لأنها العاملة المحصلة للمال الذي به يشتري العبد

______________________________

(1) النور: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 241

[سورة الروم (30): آية 29]

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)

مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ بأن يشترك العبيد معكم في أموالكم التي هي لكم، و رزقكم الله إياها فتكونون أنتم و العبيد فِيهِ أي فيما رزقناكم سَواءٌ بأن تكون الأموال لكم و لهم على حد سواء تَخافُونَهُمْ أي تخافون عبيدكم، إذا أردتم التصرف في أموالكم، لأنهم شركاؤكم، و الشريك يخاف من شريكه، إذا أراد أن يستقل في التصرف بالمال المشترك كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما تخافون سائر شركاؤكم الأحرار، هل عبيدكم شركاء لكم؟ و إذا أجبتم بالنفي، و إن العبيد لا يشتركون معنا في أموالنا، حتى نخافهم خوف الحر شريكه الحر، قيل لكم، فكيف جعلتم الأصنام التي هي مملوكة لله، و مخلوقة له شركاء لله في الألوهية؟ كَذلِكَ أي كما بينا هذا المثل، لأن يردعكم عن عبادة الأصنام نُفَصِّلُ الْآياتِ نذكرها مفصلة حتى تظهر، لا مجملة حتى تكون غامضة، لا تعرف لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يعملون عقولهم، ليدركوا، و إنما خص هؤلاء بالذكر، لأنهم المنتفعون بالمثل و الآية، أما من لا يعتني فهو

لا يدرك، و لا يعلم.

[30] إن إشراك هؤلاء، ليس لأنهم لا يعلمون بَلِ لأنهم يتبعون الهوى و إن علموا ببطلان أعمالهم، فقد اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالشرك بالله، و أتى بهذا الوصف مكان الضمير، لبيان أنهم بشركهم، قد ظلموا أنفسهم أَهْواءَهُمْ التقليدية بِغَيْرِ عِلْمٍ فليس عملهم مستندا إلى العلم، و إنما هو مستند إلى الهوى، و لذا ابتعدوا عن الهدى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 242

[سورة الروم (30): آية 30]

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)

فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي تركه يعمل ما يشاء، بعد أن رأى الهدى، فأعرض عنه، و قد ذكرنا سابقا إن نسبة الإضلال إليه سبحانه، باعتبار، أنه تركه حتى يضل، و لم يلطف به اللطف الخفي وَ ما لَهُمْ أي لهؤلاء المشركين الضالين مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من عذاب الله و نكاله في يوم القيامة، و هذا في مقابل زعمهم إن الأصنام تنصرهم و تشفع لهم.

[31] و إذ انحرفت نفوس عن هذا الدين فَأَقِمْ أنت يا رسول الله، أو أيها الإنسان العاقل وَجْهَكَ و نسبة الإقامة إلى الوجه، لأنه العضو الذي يبين اتجاه الإنسان، و ميله الكامن في نفسه لِلدِّينِ فتوجه نحو دين الإسلام، لا إلى سائر المبادئ و الأديان حَنِيفاً في حال كونك مستقيما، غير مائلا إلى هنا أو هناك، أو في حال كون الدين مستقيما، لا يزيغ نحو الباطل و الانحراف، و اتبع فِطْرَتَ اللَّهِ أي الكيفية التي خلقها الله سبحانه، فإنه خلق الإنسان بحيث لا يصلحه، إلّا الدين الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي خلق الناس على تلك الفطرة، فالدين، كالمنهاج للبشر

الذين خلقوا على نحو لا تستقيم أمورهم، إلا إذا ساروا على هذا المنهاج، و هكذا كما لو صنع شخص «جهازا» ثم كتب «كتابا» فيه كيفية عمل الجهاز، فإنه يقول: اتبع هذا الكتاب، فإن الجهاز ركبّ هكذا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا يتغير الخلق عن تلك الفطرة، حتى يلائمهم منهاج آخر، غير منهاج الإسلام و الدين ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 243

[سورة الروم (30): الآيات 31 الى 32]

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

إن الدين الذي يلائم الفطرة، هو الدين صاحب القوام، الذي به قوام البشر و سعادتهم، أما سائر الأديان، فإنها لا تلائم الفطرة، مثلا إن الإنسان ركب بحيث، إذا اغتسل من الجنابة، سلم بدنه من الأمراض، أما إذا لم يغتسل، ابتلى بمختلف العاهات، فالدين الذي يأمر به، هو الدين الذي به قوام الإنسان، و سواه لا يتمكن من التحفظ على صحة الإنسان، و هكذا سائر التشريعات وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صحة ذلك، و يظنون الدين، إنما هو منهج من بين مئات المناهج، فأيها اتبعها الإنسان، كان كافيا في إقامة الحياة.

[32] و حيث إن قوله «أقم» عام لكل المكلفين، إما من باب الأسوة بالرسول المخاطب ب «أقم» و إما من باب كون الخطاب عاما- ابتداء- جاء الحال لفاعل «أقم» بلفظ الجمع، فقال سبحانه مُنِيبِينَ أناب، بمعنى رجع، أي في حال كونكم أيها البشر راجعين إِلَيْهِ أي إلى الله، عن الطرق التي كنتم تسيرون فيها، مما تخالف الدين وَ اتَّقُوهُ أي خافوا عقابه وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بالاستمرار في إتيانها

بآدابها و شرائطها، فإنها توجب التقوى و الاستقامة وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذي يجعلون لله سبحانه شريكا.

[33] مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ فلم يتبعوا دينا واحدا، أنزله الله سبحانه، بل اتبع كل فئة دينا، و هكذا تكون التفرقة، إذا عملت الأهواء في الناس وَ كانُوا شِيَعاً جمع شيعة، و هي الفئة التابعة لمسلك خاص، أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 244

[سورة الروم (30): الآيات 33 الى 34]

وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)

كان كل طائفة منهم، شيعة لمسلك و مبدأ كُلُّ حِزْبٍ و شيعة بِما لَدَيْهِمْ من الدين و المسلك فَرِحُونَ إذ يعتبرون دينهم، أحسن الأديان، و طريقتهم خير الطرق.

[34] و من متناقضات المشركين ما بينه سبحانه بقوله وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي لامسهم و نزل بهم ضرر مالي أو جسمي، أو ما أشبه دَعَوْا رَبَّهُمْ لكشف ذلك الضر، و لا يدعون الشركاء، لأنهم يعلمون إن الكاشف للضر، هو الله وحده دون شركائهم مُنِيبِينَ أي راجعين إِلَيْهِ وحده، بدون الرجوع إلى الشركاء معه ثُمَّ إِذا لبّى دعاءهم، و كشف ضرّهم و أَذاقَهُمْ مِنْهُ أي من قبله تعالى رَحْمَةً و فضلا كأن يغنيهم من فقرهم، أو يأمنهم من خوفهم، أو ما أشبه ذلك إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي جماعة من أولئك الذين مسهم الضرّ، فأنابوا إلى ربهم، فأذاقهم منه رحمة بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فيجعلون له شريكا، و الإتيان ب «إذا» لبيان المفاجآت، و إن هذا الإشراك لم يكن مترقبا، بعد تلك الأمور.

[35] فقد أشركوا بقصد الكفران لنعم الله لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم من النعم، أو

أن اللام للعاقبة، أي كانت عاقبة إذاقة هؤلاء الرحمة، كفرانهم، أو كفرهم فَتَمَتَّعُوا أيها المشركون، و هذا أمر للتهديد، أي تلذذوا، و خذوا متع الحياة مدة يسيرة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 245

[سورة الروم (30): الآيات 35 الى 37]

أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)

عاقبة كفركم، و هذا تهديد لهم، بأنهم سيجازون بالعذاب، و النكال.

[36] ثم يأتي السياق للتفهيم منهم استفهام عارف، ليعرفهم خطأهم، فهل كفر هؤلاء بلا حجة و برهان أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أي حجة، و دليلا، يدل على تعدد الآلهة؟ فَهُوَ أي فذلك البرهان يَتَكَلَّمُ المراد يظهر و يبين ذلك البرهان بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ كلا: لم ينزل سلطان عليهم، و إنما كفروا و أشركوا، بلا حجة و برهان.

[37] إن المؤمن لا ييأس عند الشدة، و لا يبطر عند النعمة، أما الكافر، و من ضعف إيمانه، فإنه- لخفة نفسه و عدم اتزان روحه- إن أعطي بطر، و إن منع يئس وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي أتيناهم نعمة و فضلا فَرِحُوا بِها أي بتلك الرحمة بطروا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي بلاء و مصيبة، و سمي ذلك سيئة لأنها تسي ء إلى الإنسان بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب بعض أعمالهم التي عملوها، و إنما نسب التقديم إلى اليد، لأنها الغالبة في مزاولة الأعمال إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ و ييأسون عن روح الله المفرّج لهذه السيئة.

[38] أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء

الذين يبطرون بالنعمة، و يقنطون بالسيئة أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ مما اقتضت المصلحة توسعته وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق لمن يشاء من «قدر» بمعنى «ضيّق» فليست

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 246

[سورة الروم (30): آية 38]

فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)

التوسعة دليلا على إكرام الله، حتى تسبب البطر، و لا التضييق دليلا على إذلال الله، حتى يسبب اليأس، كما أنهم إن وسّع عليهم لزم أن يشكروا، و إن ضيق عليهم، وجب أن يصبروا، و يدعوا، لا أن يقنطوا، ف (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) «1» إِنَّ فِي ذلِكَ البسط و التضييق لَآياتٍ دلالات على أن ذلك من الله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالله إذ:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا.

[39] و إذ تقدم الكلام، في أن توسعة الرزق منه سبحانه، كما أن تضييقه منه تعالى، فلينفق الإنسان حسب المستطاع، فإن الإنفاق لا يضر، كما أن الإمساك لا ينفع، كما قال:

إذا قبل الدنيا عليك فجد بهاعلى الناس طرا قبل أن تتفلت

فلا الجود مفنيها إذا هي أقبلت و لا البخل مبقيها إذا هي ولت

فَآتِ أي أعط يا رسول الله ذَا الْقُرْبى أي صاحب القرابة حَقَّهُ أي حقه الذي قرره الله له، من الصلة و الإنفاق و غيرها، و هذه الآية، و إن كانت عامة تشمل إعطاء كل أحد قرابته، ما جعل الله له من حق، إما بأن يكون «آت» خطابا لكل مسلم، أو خطابا للرسول

______________________________

(1) يوسف: 88.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 247

[سورة الروم (30): آية 39]

وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً

لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)

و عمومه من باب الأسوة إلا أنه وردت روايات خاصة صحيحة في أنها نزلت بالنسبة إلى إعطاء فاطمة عليها السّلام «فدكا» «1» و لا منافاة، فإن ذلك من باب المصداق وَ آت الْمِسْكِينَ و هو الفقير وَ ابْنَ السَّبِيلِ و هو الذي سافر، ثم لا نفقة له لمصرفه، أو لعوده، و ذلك بأن يعطيهما الإنسان حقهما الواجب من الزكاة و الخمس، أو الأعم حتى يشمل كل مساعدة لهما، و لو من غير الزكاة و الخمس ذلِكَ الإعطاء لهؤلاء حقوقهم خَيْرٌ من عدم الإعطاء لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي يعطون قربة إلى الله، لا رياء و سمعة، فإن المنع يوفر على الإنسان المال، و الإعطاء يوفر على الإنسان السعادة في الدارين، و السعادة خير من ذلك المال القليل وَ أُولئِكَ الذين يعطون هذه الحقوق هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بثواب الله تعالى، في الدنيا و الآخرة، فإنهم يقوّمون بذلك الاجتماع، و تقوية الاجتماع عائدة إلى تقوية نفس الشخص أيضا، كما أن ذلك موجب لجزيل الأجر في الآخرة.

[40] و قد كان بعض أصحاب الأموال يعطي الهدية أو نحوها لغيره، ليعوض عنها بالأزيد، فبين سبحانه، أن هذه الكيفية لا تسبب الزيادة و النمو، و إنما تسبب الزيادة و النمو، الزكاة و الصلاة وَ ما آتَيْتُمْ أي أعطيتم مِنْ رِباً «الربا» هو الزيادة من «ربي» بمعنى زاد، و منه «الرابية» بمعنى الأرض العالية، و سمي ما يعطي الإنسان «ربا» لأنه زيادة في الإعطاء، و ليس حقا واجبا لِيَرْبُوَا ذلك الربا فِي أَمْوالِ النَّاسِ

______________________________

(1) راجع الكافي: ج 1 ص 543.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 4، ص: 248

أي ينمو ذلك الذي أعطيتموه في أموال المهدي إليهم، و المعنى يجعل عليه، و يردّ إليكم، فكأنه زاد في أموالهم، حيث إنه إنما ضوعف، حين اختلط بمالهم، و هذا النحو من الإعطاء ليس حراما، و لكنه لا أجر له فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ و لا يعطي الله أجرا على هذه الهدية المراد بها أن تزاد و ترد، هكذا وردت الروايات في تفسير الآية، و هناك احتمال آخر، و هو أن يكون هذا منعا لإعطاء المقترض الربا، و المعنى إن الربا الذي تعطونه بزعم إنه يزاد، في أموال المقترضين، إنما هو مجرد زعم، و إلا فالله سبحانه لا يجعله سببا للزيادة، من قبيل (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) «1» و إنما توجه النهي نحو المقترض، لأنه إن أبى لم يجد المقرض وسيلة لاقتراف هذا الحرام، من قبيل

قوله عليه السّلام لا تكن عبد غيرك، و قد جعلك الله حرا

«2»، و على هذا، فلام «ليربوا» لام العاقبة وَ ما آتَيْتُمْ أي أعطيتم مِنْ زَكاةٍ واجبة أو مندوبة، و إن كان الأنسب- بكون السورة مكية- إرادة المندوبة تُرِيدُونَ بإعطائها وَجْهَ اللَّهِ لا الرياء و السمعة، و إنما قال «وجه الله» لأن إرضاء شخص يوجب أن يوجّه وجهه إلى المرضي، فالمعنى من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، للتقريب إلى الذهن فَأُولئِكَ المزكون هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي الذين يضعفون أموالهم، كما قال سبحانه (وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ) «3» و قد دلّ العلم، على أن إعطاء الصدقات،

______________________________

(1) البقرة: 277.

(2) تحف العقول: ص 76.

(3) البقرة: 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 249

[سورة الروم (30): الآيات 40 الى 41]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ

شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)

توجب زيادة المال، بالإضافة إلى دلالة العقل على ذلك.

[41] و بعد ذكر بعض الأمور المرتبطة بالإنفاق، و ما إليه- بالمناسبة- يرتد السياق إلى ذكر ما صيغ لأجله الكلام، و هو نفي الشرك اللَّهُ هو الَّذِي خَلَقَكُمْ أوجدكم من العدم ثُمَّ رَزَقَكُمْ أعطاكم أنواع الرزق ثُمَّ يُمِيتُكُمْ لدى انقضاء أجلكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ لأجل الحساب و الجزاء هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أيها المشركون أي الذين جعلتموهم شركاء لله مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ الأمور، و «كم» للخطاب مِنْ شَيْ ءٍ؟ و طبعا يكون جوابهم بالنفي سُبْحانَهُ أي أن الله منزه عن الشريك وَ تَعالى أي أنه أرفع من أن يمكن أن يكون له شريك عَمَّا يُشْرِكُونَ عن الأصنام التي يشركونها مع الله.

[42] إن شرك هؤلاء لم يسبب انحرافا في عقيدتهم فحسب، بل انحرافا في جميع مرافق الحياة إذ إنّ الشرك لا يتخذ المنهج من الله سبحانه، و إنما يسير على نهج منحرف، و ذلك يوجب الفساد ظَهَرَ الْفَسادُ من القتل، و هتك الأعراض، و نهب الأموال، و سائر المشاكل فِي الْبَرِّ و المراد به الأعمّ من البلد و الصحراء وَ الْبَحْرِ فإن السفن السائرة في البحر، يظهر عليها أثر الفساد، بالحروب فيما بينها و الخوف الناشئ من الاضطراب في البلاد إلى غير ذلك بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 299

[سورة الروم (30): الآيات 42 الى 43]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ

أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)

فليس ذلك ظلما منه سبحانه، بل تابعا لما عملته الناس بأنفسهم، و النسبة إلى اليد من باب علاقة الكل بالجزء، لأنها العنصر الفعال في الحياة و الاكتساب، و إنما ترك الله سبحانه الناس حتى يظهر فيهم الفساد لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي جزاء بعض أعمالهم، من باب علاقة السبب و المسبب، فإن الذي عملوا سبب للعقوبة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا عن غيهم و ضلالهم و يتخذوا، منهج الله سبحانه، الملازم للتوحيد، و عدم الشرك.

[43] قُلْ يا رسول الله، مهددا لهؤلاء المشركين، بأنهم إن بقوا على شركهم و انحرافهم، أصابهم مثل ما أصاب المشركين من قبل سِيرُوا فِي الْأَرْضِ لتصلوا إلى بلاد الأمم الهالكة، التي ترون آثارها في مسيركم إلى الشام، و إلى اليمن فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ العصاة الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي كانوا من قبلكم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فجوزوا على شركهم بالنكال و الدمار، فإن ذلك يسبب لهؤلاء الإقلاع عن الشرك و الانحراف.

[44] و إذ تبين لك ما يسببه الشرك و الانحراف من المآسي، و الويلات فَأَقِمْ يا رسول الله، أو خطاب عام، إما لفظا، أو للأسوة، بأن يكون من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة» وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ فلا تنحرف عنه، و قد سبق معنى الآية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 251

[سورة الروم (30): الآيات 44 الى 45]

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ المرد مصدر ميمي، أي لا رد له، و المراد بذلك اليوم و هو يوم

نزول العذاب، أو الموت، أو القيامة، فإن الأمر بالاستقامة، إنما هو لأجل أن لا يقع الإنسان في مشكلة لا دفع لها مِنَ اللَّهِ إي إن ذلك اليوم، من قبل الله، أو إنه لا رد لما يكون فيه، مما يأتى من قبل الله تعالى يَوْمَئِذٍ في ذلك يَصَّدَّعُونَ أي يتفرقون، فالمؤمنون في الجنة و الكفار في النار، من «اصدّع» أصله «تصدع» من باب «التفعل» أدغمت التاء في الصاد، فجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و معنى الصدع، هو الكسر و التفريق، كما قال (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) «1».

[45] و هل يضر كفر أحد إلّا نفسه؟ فمن كفر ليعلم إنه يضر بذلك نفسه مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي أن ضرر كفره، ليعود عليه، و لا يعاقب أحد بسبب كفره وَ مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ من مهد، بمعنى وطئ منزله، ليكون مريحا، أي أنهم يجعلون أنفسهم حسنا.

[46] و إنما قرر سبحانه الجزاء الحسن للمؤمن، و الجزاء السيئ للكافر لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بالأصول وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ فإنما قرر للإنجاز، كما تقول: قررت دينارا لزيد لأعطيه مِنْ فَضْلِهِ فليس الجزاء استحقاقا، بل فضلا و إحسانا، و إلا فما أعطاه الله

______________________________

(1) الحشر: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 252

[سورة الروم (30): الآيات 46 الى 47]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

للإنسان في دار الدنيا هو أكثر من استحقاقه بسبب أعماله، و ل إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فقد قرر «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ

كُفْرُهُ» و المراد بعدم الحب الكراهة، لأنه لا واسطة بينهما، بالنسبة إليه سبحانه، و يحتمل أن يكون، لام «ليجزي» للعاقبة، أي أن عاقبة الكفر عدم الحب و عاقبة الايمان الجزاء الحسن.

[47] ثم يعطف السياق إلى الأدلة، الدالة على وجوده سبحانه، بعد ما أخذ شوطا حول المعاد، و هكذا عادة القرآن، أن يفنن في الكلام، لئلا يورث الضجر و الكسل من المطلب الرتيب الواحد، وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده و سائر صفاته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ فإن الرياح في موسم المطر، تبشر بالسحاب و المطر، لأنها تجمع السحب من هنا، و هناك، حتى إذا اغتمت السماء أمطرت وَ لِيُذِيقَكُمْ الله مِنْ رَحْمَتِهِ فإنه يرسل الرياح للبشارة و التفضل وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي السفينة في البحار بسبب الرياح بِأَمْرِهِ تعالى، فإن جريان الفلك، يحتاج إلى أمر الله تعالى، بالإضافة إلى الرياح وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة في السفن و بالزراعة، و باستعمال المياه في الحوائج وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا فضله عليكم.

[48] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ بالهداية و الإرشاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 253

[سورة الروم (30): آية 48]

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)

فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إي الأدلة الواضحات الباهرات، و إذ لم يؤمن بهم المجرمون المعاندون فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالبقاء على الكفر و العصيان، و المعنى عاقبتهم بتكذيبهم و كفرهم بالعذاب و النكال، و فيه تهديد لمعاصري الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنهم إن بقوا على إجرامهم كان مصيرهم مصير أولئك وَ كانَ

حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ بدفع أعدائهم، و إعلاء كلمتهم.

[49] و بمناسبة ما تقدم من إرسال الرياح، و إنزال المطر، يأتي السياق ليفصّل الأمر في صورة أخرى اللَّهُ هو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ و إرسالها، إما بخلقها، و إما بتحريكها من مكان إلى مكان، و قد ذكر علماء الفلك تفصيلا، في كيفية خلق الرياح فَتُثِيرُ أي تهيج الرياح سَحاباً المراد بالسحاب الجنس، فإن الرياح تأتي بالسحب، من هنا و هناك فَيَبْسُطُهُ أي يبسط الله السحاب فِي السَّماءِ أي جهة العلو كَيْفَ يَشاءُ عرضا و طولا و ارتفاعا، و في أي موضع شاء، وَ يَجْعَلُهُ يجعل الله السحاب كِسَفاً قطعا متراكبة بعضها على بعض، حتى يغلظ، و يثخن فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر، و الخطاب إما للرسول، و إما لكل من يرى يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي خلال السحاب و ثناياه فَإِذا أَصابَ الله بِهِ أي بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 254

[سورة الروم (30): الآيات 49 الى 51]

وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (50) وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

نزل المطر في أرضهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون و يبشر بعضهم بعضا، حيث يوجب الرخص بكثرة النبات و تسمين الأنعام.

[50] وَ إِنْ كانُوا أولئك الذين أصاب المطر أرضهم مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ المطر عَلَيْهِمْ و على بلادهم مِنْ قَبْلِهِ للتأكيد، أو المراد به، من قبل إثارة الرياح للسحاب لَمُبْلِسِينَ أي قانطين آيسين متحيرين، لا يدرون ماذا يصنعون بزرعهم و ضرعهم.

[51] فَانْظُرْ يا رسول

الله، أو أيها الناظر إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ و المراد بها النبات المتنوع، و الأنهار الجارية، و الأشجار النظرة، التي غسلها المطر، فإنها آثار المطر الذي هو رحمة الله كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد أن كانت مواتا يابسة، لا حركة فيها، و لا نبات، و لا ماء إِنَّ ذلِكَ الله الذي أحيى الأرض بعد موتها لهو محيي الْمَوْتى يحييهم، بعد أن ماتوا، للحساب و الجزاء وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فكما قدر على إحياء الأرض، يقدر على إحياء الأموات، و هذا ردّ على منكري البعث، كيف ينكرون ذلك، و قد رأوا إحياء الأرض.

[52] لكن هل هذا الإنسان الذي يستبشر بالرحمة، هو مؤمن بالله من أعماق نفسه، و راض بقضائه حتى أنه يصبر على بلائه كما يشكر على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 255

[سورة الروم (30): آية 52]

فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)

نعمائه؟ كلا! إنهم قد عبدوه على حرف، فإن أصابهم خيرا اطمئنوا به و إن أصابتهم فتنة، انقلبوا على أعقابهم وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا عوض الريح المثيرة للسحاب رِيحاً هوجاء فَرَأَوْهُ أي رأوا النبت مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد إرسال الريح الهوجاء الموجبة لاصفرار النبات، و هلاكه يَكْفُرُونَ بقضاء الله و قدره، قائلين: لماذا فعل الله بزرعنا هذا؟

[53] و ليس كون هؤلاء الناس، هكذا لا يصبرون عند البلاء، لعدم كمال البلاغ، و إنما لعدم لياقة أنفسهم فَإِنَّكَ يا رسول الله لا تُسْمِعُ الْمَوْتى فكما أن الميت، لا يسمع سماعا مفيدا يرتب الأثر عليه كذلك، إن هؤلاء الذين هم بمنزلة الأموات، في عدم حصول الخير منهم، لا يسمعون العظة سماعا مفيدا، حتى إذا رأوا بلاء

صبروا و لم يكفروا وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَ جمع أصم، و هو الفاقد لحاسة السمع الدُّعاءَ أي إذا ما دعوته ليقبل إليك إِذا وَلَّوْا أولئك الصم، بأن كانوا مُدْبِرِينَ فإن الأصم، و إن كان لا يسمع، و إن كان وجهه في طرف الداعي، إلا أنه يفهم الإشارة، فيرتب الأثر، أما إذا أدبر، فلا يسمع، و لا يرتب الأثر، و هو للمبالغة، في عدم إمكان إفهامه، و هذا تشبيه إثر تشبيه لحال الكفار الذين لا يؤثر فيهم البلاغ و الإرشاد، و كأنه للترقي نزولا عند رغبة المخاطب، إيهاما بأن هناك مخاطبا، يستبعد أن يكونوا كالأموات فإنهم أحياء؟ فيأتي السياق ليقول: سلمنا إنهم ليسوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 256

[سورة الروم (30): الآيات 53 الى 54]

وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

بأحداث، إلا أنهم كالأصم الذي ولى دبره، حيث لا ينتفع بالعظة و الإرشاد.

[54] وَ ما أَنْتَ يا رسول الله بِهادِ الْعُمْيِ أي بقادر على أن تهدي إلى الطريق الذين هم عميان البصيرة عَنْ ضَلالَتِهِمْ متعلق ب «هادي» أي لا تقدر على هدايتهم عن ضلالتهم، لأن مثلهم مثل الأعمى الذي كلما أراد الإنسان أن يريه الطريق، لا يهتدي و لا يعرف إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع إسماعا مفيدا أحد من الناس إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي بأدلتنا الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا، فإن من سلك طريق الهداية، سمع أقوالك سماعا نافعا فَهُمْ مُسْلِمُونَ لك منقادون لأوامرك.

[55] و كيف يكفر هؤلاء

بالله، و قد علموا أنه هو الذي خلقهم، و يقلبهم من حال إلى حال اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ من نطف ضعيفة، أو أطفالا ضعافا، و هذا من باب المجاز، إذ جعل ذو الضعف، و كأنه قطعة من الضعف، مثل زيد عدل، و (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) «1» ثُمَّ جَعَلَ لكم مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ كان فيكم قُوَّةً الحياة، و قوّة الشباب ثُمَّ جَعَلَ لكم مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً حتى يرتد الإنسان إلى

______________________________

(1) هود: 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 257

[سورة الروم (30): الآيات 55 الى 56]

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56)

حالته الأولية، و المراد الشيبة، حالة الشيخوخة يَخْلُقُ ما يَشاءُ من قوي و ضعيف، و قوة و ضعف، فهما خلقان من خلقه وَ هُوَ الْعَلِيمُ عليم بمصالح عباده، و لذا يصرفهم من حال إلى حال الْقَدِيرُ على ما يريد.

[56] إن هذا الإتقان في الخلق و التقليب في الخلقة، من عليم قدير، لا بد و أن تكون له نهاية متقنة، و غرض مقصود، هي القيامة، فليستعد الإنسان لها، أما من أجرم، فيذهب عمره هباء، و كأنه لم يلبث في الدنيا، إلّا يسيرا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف الذين أجرموا في الدنيا بأنهم ما لَبِثُوا و لم يبقوا في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ واحدة، حيث يستضئلون أيام الدنيا، كما قال (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) «1» كَذلِكَ أي كما صرفوا هناك عن الصدق، في مدة بقائهم كذلك كانُوا في

الدنيا يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الصدق، بالنسبة إلى الألوهية، و الرسالة و المعاد.

[57] و كان هذا الكلام من الكفار، إنما هو بحضور المؤمنين، فيقول لهم المؤمنون، و أية فائدة في هذا الكلام: هل طويل كان عمر الدنيا أم قصير، و إنما المقصود، كان العمل لأجل هذا اليوم، و قد فاتكم وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ أي أعطوا علما بالمعارف، و إيمانا

______________________________

(1) المؤمنون: 114.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 258

[سورة الروم (30): الآيات 57 الى 58]

فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58)

بالألوهية و الرسالة و المعاد- فهم كما كانوا في الدنيا علماء مؤمنين، لا يفارقهم هذان هناك- لَقَدْ لَبِثْتُمْ و بقيتم فِي كِتابِ اللَّهِ أي في علم الله و قضائه، و ما كتبه لكم إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ و هذا كما يقول الإنسان لمن ينازع في مدة بقائه في سفر سافره: إنك في ما سجلت، أنا بقيت عشرة أيام، فإن بقاءكم إلى يوم البعث، هو المهم، أما أنه طويل أو قصير، فليس بمهم، فقد أبقاكم الله في الدنيا للعمل الصالح، و لم تعملوا فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم تنكرونه وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك في الدنيا، و لذا وقعتم في العذاب هنا.

[58] فَيَوْمَئِذٍ أي في القيامة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان مَعْذِرَتُهُمْ أي اعتذارهم، بما يظهرون من أنواع العذر، بأنهم ما علموا، أو أضلهم الرؤساء، أو أرجعونا نعمل صالحا، أو ما أشبه وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم الإعتاب و الرجوع إلى الحق، كما

كان يطلب منهم في الدنيا.

[59] وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينفع في إيقاظ الناس عن جهلهم و غيهم، كتمثيلهم بالأموات، و الصم، و تمثيل آلهتهم ببيت العنكبوت، إلى غير ذلك وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ يا رسول الله بِآيَةٍ لإرشادهم، مشتملة على مثل أو غير مثل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 259

[سورة الروم (30): الآيات 59 الى 60]

كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا للذين آمنوا إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم إِلَّا مُبْطِلُونَ أي أصحاب أباطيل، يقال أبطل، إذا جاء بالباطل.

[60] كَذلِكَ أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء الكفار، بعد أن أعرضوا عن الحق، و قد سبق، أن معنى الطبع، هو أن يترك الله الإنسان حتى ينحرف و يقسو قلبه، بعد أن أرشده إلى الطريق فلم يقبل، و إنما نسب الطبع إليه، كما ينسب الإفساد إلى الوالد، فيقال أفسد فلان ابنه، إذا تركه «بعد أن أرشده، فلم يقبل» حتى فسد يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ التوحيد و الرسالة و المعاد، بأن تركوا التعلم حتى جهلوها.

[61] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه، على أذى هؤلاء الكفار، و كفرهم و عنادهم، فسيأتيك المدد إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ فسينصرك و يخذلهم وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ أي لا يستفزنك، يقال استخفه، إذا طلب خفته، بأن يستعتبه لنفسه الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بالله و اليوم الآخر، بأن تترك مهمتك، أو تداهنهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 260

31 سورة لقمان مكية/ آياتها (35)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على ذكر «لقمان» الحكيم، و بعض وصاياه، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة بأصولها المختلفة، من توحيد،

و رسالة، و معاد، و لوازمها، و بعض الأمور الأخلاقية، و لما اختتمت سورة الروم، بذكر القرآن، ابتدأت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الله، و لا منافاة بين تقدير الابتداء و الاستعانة معا، بإشراب أحد الفعلين معنى الفعل الآخر، كما إن الاستعانة باسم الإله، تنافي التعظيم، كما قال بعض متوهما لزوم أن يكون اسم الإله آلة من قبيل كتبت بالقلم، فقد قال سبحانه (وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ) «1» و هو الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحمة المكثرة، لمن استعان به، و طلب رحمته.

______________________________

(1) يوسف: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 261

[سورة لقمان (31): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

[2] الم من جنس «ألف» و «لام» و «ميم» هذا القرآن المعجز الذي لا يتمكن الجن و الإنس على الإتيان بمثله، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أو إنها رموز بين الله و رسوله، و فائدته لنا، إن الرسول يسر به إلى من يعلمه أهلا لذلك.

[3] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ خبر لقوله «الم» و كون الكتاب حكيما، بمعنى أنه قرر منهجا محكما، لا يدخله زيغ و فساد، فإن الحكمة، وضع الأشياء موضعها اللائق بها.

[4] في حال كون هذا الكتاب هُدىً أي هداية و إرشادا وَ رَحْمَةً موجبة للرحم و التفضل، فإن الله سبحانه، لم ينزل هذا القرآن، إلا لأن يرحم العباد لِلْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في عقيدتهم و عملهم، و تخصيصهم بالذكر، لأنهم هم المنتفعون به، و إن كان في القرآن صلاحية الهداية و الرحمة للجميع.

[5] ثم وصف سبحانه المؤمنين بقوله

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بإتيانها دائما حسب آدابها و شرائطها وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطون الأموال الموجبة لطهارة الأموال و تزكيتها، و الظاهر أن المراد بها، الصدقة المستحبة، إذ لم تجب الزكاة المفروضة في مكة وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يعتقدون، و الإتيان ب «هم» مكررا للتأكيد، و لإفادة، إن المصلي المزكي، هو المعتقد بالآخرة، أما غيره ممن يدعي ذلك، و لا يقوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 262

[سورة لقمان (31): الآيات 5 الى 6]

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6)

بهذين الأمرين، فإنما كلامه لقلقة لسان، لا خارج من أعماق الجنان.

[6] أُولئِكَ المتصفون بتلك الأوصاف عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ كأنّ الهدى جادة، و الضلال جادة، فمن عمل بما ذكر، كان سائرا على تلك الجادة المسماة بالهدى، و أن الهدى من ناحية إلههم و خالقهم وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدنيا و الآخرة.

[7] ثم ذكر سبحانه من يقابل طائفة المؤمنين، و هم طائفة الكفار و المنافقين وَ مِنَ النَّاسِ أي بعضهم مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ فإنه ينفق عمره في سبيل الأحاديث الملهية الباطلة، و هذا عام ليشمل كل الأحاديث الملهية و من جملة ذلك «الغناء» و لذا ورد تفسير الآية به لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يضل الناس عن طريق الهداية فإنه يحدثهم ليجمعهم حوله، فلا يجتمعوا حول الهدى، و قد ورد، أنها نزلت في النضر بن حارث، كان يتّجر فيخرج إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم، و يحدث بها قريشا، و يقول لهم: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد و ثمود،

و أنا أحدثكم بحديث رستم و اسفنديار، و أخبار الأكاسرة، فيستمعون حديثه، و يتركون استماع القرآن «1» بِغَيْرِ عِلْمٍ فإن العاصي جاهل، و إن كان عالما حسب الظاهر، إذ لو علم بحقيقة العلم ما يجره إلى نفسه من النار و النكال لم يقترب إلى المعصية أبدا، كما قال:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 263

[سورة لقمان (31): الآيات 7 الى 8]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)

(مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) «1» وَ يَتَّخِذَها أي يتخذ سبيل الله- فإن السبيل مؤنث مجازي- هُزُواً آلة استهزاء و سخرية، فإن الإنسان، إذا أراد الاستهزاء، جعل شيئا محور استهزائه أُولئِكَ الذين صفتهم ما تقدم لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي يهينهم ذلك العذاب، و يذلهم في مقابل ما كانوا يستكبرون و يتعاظمون في الدنيا.

[8] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أي تقرأ عليه آيات القرآن الحكيم وَلَّى و أعرض مُسْتَكْبِراً أي في حالة كبر و استعلاء يرى نفسه أكبر من أن يخضع لآيات القرآن كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها و إلا فالإنسان العاقل إذا سمع الهدى و الرشاد اتبعه و اقترب منه و خضع له كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً «الوقر» الحمل الثقيل، أي كان في مسامعه حمل ثقيل يمنعه عن الاستماع، حتى يهتدي فَبَشِّرْهُ يا رسول الله، و تسميته التخويف بشارة، استهزاء، كما كان يستهزأ بآيات القرآن بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع في القيامة.

[9] و في مقابلهم المؤمنون إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به من المعارف و الاعتقادات وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ بأن أتوا

______________________________

(1) الأنعام: 55.

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 4، ص: 264

[سورة لقمان (31): الآيات 9 الى 10]

خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)

بالواجبات، و تركوا المحرمات، فإنه لا يقال، فلان يعمل صالحا، إلا إذا كان آتيا بالواجب تاركا للمحرم لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي بساتين يتنعمون فيها في الآخرة، في مقابل العذاب الأليم الذي للكفار.

[10] في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي دائمين لا زوال لهم عنها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعد الله ذلك وعدا حقا يتحقق في الخارج، لا خلف فيه وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره، فما أراده، من تعذيب الكفار، و تنعيم المؤمنين عمله الْحَكِيمُ يفعل الأشياء بالحكمة و المصلحة.

[11] إن الكفار الذين لا يعترفون بالإله لينظروا إلى آثاره، و المشركون الذين يجعلون له شريكا، فليأتوا بدليل من الخلق، يدل على شريكهم خَلَقَ السَّماواتِ و هي مدارات الكواكب، أو أجسام هنالك، لم يصل إليها العلم، و سير البشر المحدود في الفضاء بِغَيْرِ عَمَدٍ جمع عمود، أي لا عماد للسماوات تَرَوْنَها أي ترون أن لا عماد للسماوات، و إنما تدور الكواكب، و تسير بقدرته سبحانه، أو المراد، إن السماوات ثابتة بدون أعمدة مرئية، و إنما عمادها الجاذبية، التي خلقها الله فيها، مما لا يراها الإنسان وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا راسية ثابتة تمنع الأرض عن التحرك و الاضطراب و التفكك، فهي كأوتاد الأخشاب، و إلا جذبتها جاذبية النيران، كما تجذب ماء البحار- فيحدث المد و الجزر- أو تفككت في سيرها السريع، و انتثرت في الفضاء،

و إنما ألقى في الأرض رواسي: كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ من «ماد» بمعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 265

[سورة لقمان (31): آية 11]

هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)

اضطرب، أي لئلا تضطرب الأرض معكم أيها البشر وَ بَثَ أي نشر، و فرق فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ دابَّةٍ من جميع أنواع الدواب المختلفة الأشكال، و الألوان و الحجوم و المزايا وَ أَنْزَلْنا على قاعدة الالتفات من الغيبة إلى التكلم الذي هو من أقسام البلاغة مِنَ السَّماءِ من جهة العلو ماءً هو المطر فَأَنْبَتْنا فِيها في الأرض بسبب ذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي من كل صنف من أصناف النبات كَرِيمٍ أي مكرّم محترم، لما فيه من الفوائد و الخواص.

[12] هذا الذي ذكر من صنوف الخلق خَلْقُ اللَّهِ فإنه سبحانه، هو الموجد لهذا كله فَأَرُونِي أيها المشركون القائلون بأن لله شريكا ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الآلهة الذين هم غير الله، و الإتيان ب «الذين» للمجاراة مع عبّاد تلك الأصنام، في المكالمة و المخاطبة ليتناسق التعبير أخذا و عطاء، و ليس لأحد من المشركين، أن ينسب بعض تلك المخلوقات إلى آلهتهم، كما نسب الثنوية المضار إلى إله الشر، إذ توحيد النظام، و التنسيق دال على توحيد الخالق، فإن النظام الواحد لا يصدر، إلا من المنظم الواحد، ثم ماذا يقيمون من الأدلة، على أن الشي ء الفلاني من الله، و الشي ء الفلاني من الشركاء؟ إلا الادعاء، و إن شئت قلت: إن هناك مخلوقات، تدل على خالق واحد، فمن يقول بالأكثر، فعليه الدليل بَلِ الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 266

[سورة لقمان

(31): آية 12]

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

بالكفر و الشرك و العصيان، لا دليل لهم على تعدد الآلهة، و إنما هم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح.

[13] و إذ كان الكلام حول التوحيد و الشرك، ينتقل السياق إلى قصة «لقمان» الحكيم الذي كان يأمر بالتوحيد، و ينهى عن الشرك وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ و هو معرفة مواضع الأشياء، و علم الارتباط بين الأسباب و المسببات، بحيث يعلم كيف ينهج الإنسان، حتى يسعد في الحياة،

عن الصادق عليه السّلام إنه سئل عن لقمان و حكمته التي ذكرها الله عز و جل فقال: أما و الله، ما أوتي لقمان الحكمة بحسب و لا مال و لا أهل، و لا بسط في جسم، و لا جمال، و لكنه، كان رجلا قويا في أمر الله متورعا في الله ساكتا سكّيتا عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغني بالعبر، لم ينم نهارا قط، و لم يتك في مجلس قط، و لم يتفل في مجلس قط، و لم يعبث بشي ء قط، و لم يره أحد من الناس على بول و لا غائط، و لا اغتسال لشدة تستره، و عمق نظره، و تحفظه في أمره، و لم يضحك من شي ء قط، مخافة الإثم في دينه، و لم يغضب قط، و لم يمازح إنسانا قط، و لم يفرح بشي ء، بما أتاه من الدينا، إن أتاه من أمرها، و لا حزن منها على شي ء قط، و قد نكح من النساء، و ولد له الأولاد الكثير، و قدم أكثرهم إفراطا، فما بكى على موت أحد منهم، و

لم يمر برجلين يختصمان، أو يقتتلان إلا أصلح بينهما، و لم يمض عنهما حتى تحابا، و لم يسمع قولا قط عن أحد استحسنه إلا سأله عن تفسيره، و عن من أخذه فكان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء، و كان يغشي للقضاة و الملوك، و السلاطين، فيرثي القضاة مما ابتلوا به، و يرحم الملوك و السلاطين، لعزتهم بالله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 267

و طمأنينتهم في ذلك، فيعتبر و يتعلم ما يغلب به نفسه، و يجاهد به هواه، و يحترز به من الشيطان، و كان يداوي قلبه بالتفكر، و يداوي نفسه بالعبر، و كان لا يصغي إلا فيما ينفعه، و لا ينظر إلا فيما يعنيه، فبذلك أوتي الحكمة، و منح العصمة- أي الاعتصام من الزلل- و إن الله تبارك و تعالى، أمر طوائف من الملائكة، حين انتصف النهار، و هدأت العيون بالقائلة، فنادوا لقمان حيث يسمع، و لا يراهم، فقالوا: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض، تحكم بين الناس؟

فقال لقمان: إن أمرني ربي بذلك، فالسمع و الطاعة، لأنه إن فعل بي ذلك، أعانني عليه، و علّمني و عصمني، و إن هو خيّرني قبلت العافية، فقالت الملائكة: يا لقمان لم قلت ذلك، قال: لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل من الدين، و أكثر فتنا و بلاء ما يخذل، و لا يعان، و يغشاه الظلم من كل مكان، و صاحبه منه بين أمرين، إن أصاب فيه الحق، فبالحري أن يسلم، و إن أخطأ أخطأه طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا ضعيفا كان أهون عليه في المعاد، من أن يكون فيها حكما سريا شريفا، و من اختار الدنيا على تلك الآخرة يخسرهما

كلتيهما، تزول هذه، و لا يدرك تلك، قال: فعجبت الملائكة من حكمته، و استحسن الرحمن منطقه، فلما أمسى، و أخذ مضجعه من الليل، أنزل الله عليه الحكمة، فغشاه بها من قرنه، إلى قدمه، و هو نائم، و غطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ، و هو أحكم الناس في زمانه، و خرج على الناس، ينطق بالحكمة و يبثها فيهم

«1»، و قلنا له أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ فيما أعطاك، و الشكر هو صرف النعمة، فيما أمر الله سبحانه وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 409- 411.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 268

[سورة لقمان (31): الآيات 13 الى 14]

وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

فإن فائدة شكره تعود على نفسه، فإن الشكر يوجب الزيادة في النعم و الثواب في الآخرة وَ مَنْ كَفَرَ بأن لم يشكر، و صرف النعم في معصية الله، كأن يصرف نفسه و ماله في الكفر و الشرك و الفسوق و العصيان فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌ عن شكر الشاكرين، و التقدير، و من كفر فليعلم إنه لا يضر الله، لأنه سبحانه غني حَمِيدٌ محمود على أفعاله، فإن ترك هذا الإنسان للحمد و الشكر، لا يخرج الله عن كونه محمودا في السماوات و الأرض.

[14] ثم ذكر سبحانه جملة من حكمة لقمان، و ما كان يبثه بين الناس، من المواعظ و النصائح وَ أذكر يا رسول الله إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ و الحال إنه كان هُوَ يَعِظُهُ أي يؤدبه بالأخلاق الحسنة

و يعلمه الخير و الرشد يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ أي لا تجعل له شريكا ف إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ و هل هناك ظلم أعظم، من أن يربط الإنسان أعمال الإله، بمخلوق له، ما يسبب فساد دينه و دنياه، و فساد دنيا و دين من اتبعه؟

[15] و بهذه المناسبة، يأتي السياق ليبين جملة من كلام الله سبحانه حول الإنسان، من جهة أبويه، فإن احترام الوالدين في طول إطاعة الله، فكما يجب امتثال أوامر الله، لأنه الخالق، كذلك يلزم الإحسان إليهما، لما تعباه في تكوين الأولاد و تربيتهما وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أي أمرناه، بإطاعة الوالدين و شكرهما، و الإحسان إليهما، ثم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 269

[سورة لقمان (31): آية 15]

وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

ألمع السياق إلى بعض أسباب لزوم الاحترام للأم، فقد حَمَلَتْهُ أي حملت الإنسان أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي في حال كون الإنسان الجنين، يوجب لها ضعفا فوق ضعف، فلم تزل تضعف كل يوم أكثر من الضعف في اليوم السابق، حتى تلد، فقد أطلق «وهن» على «الموهن» كأنه قطعة، من قبيل «زيد عدل» وَ فِصالُهُ أي أن مدة فصال الإنسان عن الرضاع، بعد الولادة فِي عامَيْنِ فإن الرضاع الكامل، إنما هو عامان، و يفصل عن اللبن عند تمامها، كما قال سبحانه، (وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) «1» أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ هذا تفسير قوله «و وصينا» مع الزيادة، و هو لفظة «لي» أي كانت وصيّنا للإنسان،

أن يشكر لله و لوالديه، و كان الإتيان ب «لي» لإفادة كون شكر الوالدين، في عرض شكره سبحانه إِلَيَّ الْمَصِيرُ فمن تكاسل في الشكر، عوقب بالنكال، كما أن من عمل بالأمر جوزي بالجنة.

[16] وَ إِنْ جاهَداكَ أي جاهد معك الأبوان، بأن أتعبا أنفسهما مع الولد عَلى أَنْ تُشْرِكَ أيها الإنسان بِي بأن تجعل لي شريكا، فيما كان هما مشركين، و أرادا جرّ الأولاد إلى دينهما و طريقتهما ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي تجعل الصنم الذي ليس علم لك بكون ذلك الصنم شريكا

______________________________

(1) البقرة: 234.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 270

[سورة لقمان (31): آية 16]

يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)

لي، و هذا لأجل أن ما لا يكون، لا يتعلق به علم، و إن تعلق به القطع، فهو جهل مركب فَلا تُطِعْهُما في الإشراك بي وَ لكن صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي أحسن إليهما، و أرفق بهما، في سائر الأمور ما دامت في الدنيا، فإن شركهما لا يسبب قطع الصلة عنهما، و معروفا منصوب لكونه صفة، لمصدر محذوف، أي مصاحبة معروفة، مقابل المصاحبة المنكرة وَ أما في الأمور الدينية، ف اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ أي رجع إليّ بالإطاعة و الامتثال، و إنما سمي الامتثال إنابة، باعتبار أنّ الكفار قد أعرضوا عن الله، فإذا جاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجع جماعة منهم، و من أولادهم إلى الله بعد الإعراض منهم، أو من آبائهم ثُمَّ إِلَيَ أي إلى جزائي و حسابي مَرْجِعُكُمْ جميعا الأبوين المشركين، و الأولاد المؤمنين، و المرجع مصدر ميمي، بمعنى

الرجوع فَأُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الدنيا، لأجازيكم عليه، و الإخبار إنما هو للتذكير، حيث لا يحسب الإنسان الجزاء ظلما أو عبثا.

[17] ثم رجع السياق إلى كلام لقمان مع أبيه، و قد كان من دأب القرآن الحكيم، أن يأتي بالجمل المعترضة، في أواسط الكلام، مما لها ربط به، لتنشيط الذهن بالتفنن في الكلام يا بُنَيَّ إِنَّها أي فعلة الإنسان المفهوم من قوله «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي كان ثقل النمل في عالم المعنويات، مقدار ثقل حبة خردل من عالم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 271

[سورة لقمان (31): آية 17]

يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)

الماديات فَتَكُنْ تلك الخردلة، أو تلك الفعلة فِي صَخْرَةٍ حيث إن الحبة المخفية في صخرة صماء صعب الاطلاع عليها و استخراجها من الصخرة أَوْ فِي السَّماواتِ فإن الحبة إذا أضيفت في السماوات الوسيعة، لا يقدر على العثور عليها أحد لسعة السماوات أَوْ فِي الْأَرْضِ و هل توجد حبة ضاعت في الأرض، فهل يعلم أنها في أي مكان منها؟ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي بتلك الفعلة، و هذا لإيقاظ الإنسان، أن لا يترك خيرا صغيرا بعيدا عن الأنظار بزعم أنه لا يطلع عليه أحد، فلما ذا يعمله؟ أو يفعل شرا صغيرا بعيدا عن الأنظار، بزعم أنه لا يراه أحد، فيجتنب عنه؟ إن العمل مهما كان صغيرا، في أرض كان أو سماء، أو في كهف جبل، أو في أعماق البحار، فإن الله مطلع عليه، و يأتي بحسابه يوم القيامة، أو يأتي بنفسه- إن قيل بتجسيم الأعمال- إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ فيعلم

الأشياء اللطيفة الدقيقة خَبِيرٌ عالم بالأشياء، و اللطيف أخص من الخبير، و جي ء به هنا للمناسبة مع كون العمل صغيرا مضاعا في السماوات أو الأرض، أو مخفيا في جوف صخرة صماء.

[18] يا بُنَيَ هو تصغير «ابن» و قد أضيف إلى ياء المتكلم، و جي ء بالتصغير لطفا و شفقة، لا تحقيرا و إهانة أَقِمِ الصَّلاةَ بآدابها و أركانها وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ و هو كل شي ء حسن عقلا، أو شرعا، و سمي معروفا، لأنهم يعرفونه، و لا ينكرونه وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هو كل قبيح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 272

[سورة لقمان (31): الآيات 18 الى 19]

وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

يستقل به عقل أو شرع، و سمي منكرا لأن الناس ينكرونه وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الأذى في سبيل الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، أو كل ما أصابك من مكاره الدنيا، فلا تجزع و لا تخرج عن نطاق الأدب و الشريعة في المكاره إِنَّ ذلِكَ الصبر على ما أصابك، أو كل ما سبق مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ العزم، هو عقد القلب على شي ء، أصله بمعنى القطع، كأن من نوى شيئا، فقد قطع هذا الطرف من الأمر ليسير عليه، و من يتصف، بأنه يتمكن أن يقطع الأمور، و يبنى على الطرف منها، فقد اتصف بصفة كبري، حيث لم يعط للشك مجالا لتهديم استقامته، و صبره و صموده فيما يريد.

[19] وَ لا تُصَعِّرْ من «صعر» بمعنى أمال خَدَّكَ أي صفحة وجهك لِلنَّاسِ بأن تتكبّر عليهم، فتعرض عنهم بوجهك

حين يطلبون منك حاجة، أو يواجهونك بكلام وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي مشيا مرحا، و هو مشي الكبر و الخيلاء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ من اختال بمعنى تكبر فَخُورٍ يفخر على الناس، و معنى لا يحب يكره، لما سبق من التلازم بين عدم حب الله لشي ء، و كراهته له، و لعل التعبير ب «لا يحب» لإفادة أن مجرد عدم محبة الله، كاف في ترك الإنسان لشي ء، فكيف إذا كرهه؟.

[20] وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ القصد في كل شي ء هو حد الوسط فيه بدون إفراط أو تفريط، أي ليكن مشيا متوسطا، لا بسرعة تذهب بالبهاء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 273

[سورة لقمان (31): آية 20]

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)

و لا ببطء من الخيلاء، أو المراد من المشي الأعم من الحركة، يقال فلان حسن المشي، فيما كانت سيرته حسنة، فيكون المراد بالآية، القصد في كل شي ء من إنفاق، و مأكل، و سيرة، و عشرة، و غيرها وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي اخفض بعض صوتك، بأن لا تظهر كل الصوت عند التكلم، بل تنقّص بعضه، فإن الأدب في التكلم، أن يتكلم الإنسان كلاما هادئا، بدون جهر شديد، و صياح، ثم استدل لقمان لقبح الصوت الرفيع، بقوله إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ حين ينهق، فإن صوته يزعج السامع، و ليس ذلك إلا لأجل رفعه، و الجهر الشديد به، فإذا أزعج الإنسان صوت الحمار، فليتأدب عند إخراج صوت نفسه، كما روي إنه قيل لأحد

الحكماء: ممن تعلمت الأدب؟ قال:

ممن لا أدب له، حيث رأيت قبح عمله، فتركته.

[21] ثم انتقل السياق للحوار مع المنكرين لله، و الجاعلين له شريكا، الذين من أجلهم سيق قصة لقمان أَ لَمْ تَرَوْا أيها المنكرون له، أو المعترفون به الجاعلون معه شريكا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من الشمس و القمر و النجوم، فإنها تسير لمصالحكم، و منافعكم، و كذلك الهواء و الحساب و غيرها وَ ما فِي الْأَرْضِ من الحيوان، و النبات، و المياه، و المعادن، و غيرها فقد جعلها تحت اختياركم، و لمنافعكم وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ أي أوسع عليكم نِعَمَهُ جمع نعمة كالغنى، و الصحة، و الأمن، و غيرها ظاهِرَةً وَ باطِنَةً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 274

[سورة لقمان (31): آية 21]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)

فالظاهرة كالخلق و الحياة، و ما ينتفع منها الإنسان، في حياته و عيشه، و الباطنة، ما وهب الله للإنسان من الإدراك، و العقل، الذي به يسيّر حياته حسب المصلحة و الخير، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ و من النعم الباطنة، الرسل، و الأئمة و الإسلام، و من الناس من ينسب كل هذه النعم إلى الصدفة أو الطبيعة، فلنسأل: هل لهاتين من عقل و تدبير؟ فإن قال: نعم، قلنا: ما تسميه الصدفة و الطبيعة مما له إدراك و تدبير، و تقدير، و علم، و حكمة- إلى غيرها مما يستلزمها هذه المخلوقات- هو ما نسميه نحن «الله» إذن فالنزاع في اللفظ، و إن قال: لا، قلنا من ذلك يلزم، ما لا عقل له عقل، فكيف لا يقدر

جميع الأقوياء من الأطباء أن يصنعوا عينا لأعمى، أو عقلا لمجنون، و الطبيعة الجاهلة العاجزة، تصنع ملايين العيون و العقول؟ وَ بعد هذه الأدلة القاطعة مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أي في أصل وجوده سبحانه، أو وحدته، بأن يعطل الكون عن الإله، أو يجعل له شريكا بِغَيْرِ عِلْمٍ فلا علم له قطعي بما يقول، و إنما هو ظن و تقليد وَ لا هُدىً أدلة قطعية عقلية وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ أي كتاب واضح، ظاهر يوجب تنوير الفكر بالبراهين، و الحجج، و الحاصل إنه لا دليل عقلي لهم، و لا دليل نقلي، و لا لهم علم، بما يقولون، و إنما ظنون و أهواء و تقاليد.

[22] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فهذا كتاب منير عوض العلم، و الدليل العقلي، الذين يفقدونهما في باب المبدأ و المعاد قالُوا في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 275

[سورة لقمان (31): آية 22]

وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)

جواب ذلك بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فإنا نقلدهم، فيما كانوا يقولون من أمر المبدأ و الإله، و المعاد، و سائر هذه الشؤون الأصولية أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ بسبب هذا التقليد إِلى عَذابِ السَّعِيرِ الهمزة للاستفهام، و الواو للعطف، و الاستفهام إنكاري، أي إنهم يقلدون آباءهم، حتى إذا كان التقليد من دعوة الشيطان الموجبة، لأن يدخل الإنسان النار في خاتمة المطاف، و السعير اسم من أسامي جهنم، سميت به لاستعارها و اشتعالها.

[23] هذا حال الكفار المجادلون المقلدون لآبائهم، أما وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن يخضع له، و نسبة التسليم إلى الوجه، باعتبار

أن الإنسان الخاضع نفسه، يظهر آثار الخضوع على وجهه وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله، بأن كانت عقيدته، و عمله صحيحتين فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أي تمسك و أخذ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فقد شبهت الحياة، بمحل مهول لا ينجو منه، إلا من تمسك بشي ء، كالعروة، فمن الناس من يتمسك بعروة واهية تنقطع، و تنفصل، و منهم من تمسك بعروة وثقى- مؤنث أوثق- التي لا تنفصم، حتى ينجو الإنسان عن الأهوال وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فهو في الحياة مستمسك بأقوى العرى، و مصيره إلى الله، الذي عمل لأجله، و حسب أمره في الحياة، و لا بد أن تكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 276

[سورة لقمان (31): الآيات 23 الى 25]

وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25)

عاقبته حسنة، فأواخر الأمور و هي جزاؤها مربوطة بالله، فمن أحسن، جزاه بالخير، و من أساء أخزاه بالشر، فكان كل أمر له ابتداء هو ما يعمله الإنسان، و انتهاء هو جزاءه الذي يحصّله من جزاء عمله.

[24] و إذ تبين الحق، فلا يحزن الإنسان لمن عاند، حتى وصل إلى العذاب وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ يا رسول الله كُفْرُهُ فإن الإنسان لا يحزن للمعاند إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي إلى جزائنا رجوعهم، و هناك فَنُنَبِّئُهُمْ أي نخبرهم بِما عَمِلُوا من الكفر و العصيان، و معنى الإخبار، بيان ما عملوا، حتى يعرفوا، أنهم استحقوا العذاب، الذي يراد بهم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما يجول فيها من الكفر و العصيان،

فلا يفوته شي ء، و يكون إخباره إخبار عالم، و جزائه جزاء عادل، لا ينقص من عذابهم شيئا، و لا يزيد فيه شيئا.

[25] و إنما نمهلهم في الدنيا للاختبار و الامتحان نُمَتِّعُهُمْ أي نعطيهم من متع الحياة الدنيا قَلِيلًا فإن أيام الدنيا قليلة، و إن طالت عشرات السنوات، بالنسبة إلى الآخرة الباقية، التي لا فناء لها ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي ندخلهم في الآخرة بكره منهم و اضطرار، و اضطر فعل متعد، و لذا يأخذ المفعول بلا واسطة، أصله «اضتر» من باب الافتعال، قلبت التاء «طاء» على القاعدة إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أي شديد، يغلظ عليهم و يصعب.

[26] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت هؤلاء المشركين الذين يشركون بالله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 277

[سورة لقمان (31): الآيات 26 الى 27]

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

الأصنام مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ هل الله خلقها، أم الأصنام، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ خلقها، إذ لا يتجرأ أحدهم، أن ينسب هذا الخلق العظيم، إلى أصنام من الطين و الحجارة، أو سائر المعادن و الأشجار قُلِ يا رسول الله، إذا قالوا ذلك، و تمت عليهم الحجة، في أصنام هي باطلة الْحَمْدُ لِلَّهِ إذ اعترفوا بوحدة الخالق، و أقروا بما يلزم بطلان آلهتهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن اعترافهم بوحدة الخالق، موجب لوحدة الإله، إذ لو لم يكن لأصنامهم شراكة في الخلق، فما ذا أوجب أن تكون آلهة؟

[27] و إذن فباعتراف الطرفين لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المتفرد بالخلق و الملك، إذ الخالق

هو المالك إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ عما سواه من الشركاء، إذ له كل شي ء إلى من ليس له شي ء؟ الْحَمِيدُ المستحق للحمد، وحده بدون شريك، إذ من يعطي كل شي ء، هو المستحق للحمد دون من لا يعطي.

[28] و لا يظن ظان، أن ما في السماوات و الأرض، أمور معدودة تحيط بها الكتابة و التسجيل، ليستدل بذلك على محدودية خلق الله، إن ما خلقه الله سبحانه، لا يحيط به كتاب، و إن كانت الأشجار أقلاما، و البحار و أصفافها مدادا، و هذا هو الإله الحق، أما الأصنام، فمن المضحك أن يتفوه الإنسان، بأنها في عداد الإله؟ وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 278

[سورة لقمان (31): آية 28]

ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

على كثرتها المدهشة أَقْلامٌ للكتابة، و البحار كلها مداد و حبر- لا هذه البحار فحسب- بل وَ الْبَحْرُ و المراد به الجنس يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ أي سواه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ أخرى، و الإتيان بلفظ السبعة، لا للخصوصية، بل هذا العدد، كان كناية عن الكثرة، نحو «السبعين» كما قال (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) «1» ثم أخذ الكتّاب، يكتبون بتلك الأقلام، و ذلك المداد الهائلين- كثرة- نعم الله سبحانه و مخلوقاته ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أي لم تخلص بحيث تحيط بها الكتابة، و الكلمة تطلق على المخلوق، باعتبار، أنه يخرج، بالإرادة الأزلية من العدم إلى الوجود، كما يخرج اللفظ من الفم إلى الخارج، فإن الله سبحانه، حيث كان لا يتناهى، كانت مخلوقاته الطويلة أيضا، لا تتناهى، فلا يحيط ما يتناهى بما لا يتناهى، و هذا لا يدل على أن الكلمات المخلوقة فعلا، لا

تتناهى، حتى يقال: قد دلت الأدلة على استحالة ما لا يتناهى في عالم الماديات؟ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره، يفعل ما يشاء حَكِيمٌ فكل ما يخلق، إنما هو حسب الحكمة و المصلحة.

[29] و لا يظن ظان أن هذه الخلقة المدهشة، توجب تعبا على الخالق، فإن الله يخلق ملايين العوالم بالإرادة، و لا فرق لديه بين خلق شي ء واحد و ملايين العوالم ما خَلْقُكُمْ أيها البشر

______________________________

(1) التوبة: 80.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 279

[سورة لقمان (31): آية 29]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)

وَ لا بَعْثُكُمْ بعد الموت إِلَّا كخلق و بعث نفس واحِدَةٍ فالأمران: خلق الواحد، أو الجميع، و بعثه، عنده سبحانه سيّان إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم بَصِيرٌ بنياتكم، فقد كانت قريش تقول: إن الله خلقنا أطوارا نطفة فعلقة فمضغة، فلحما، فكيف يعيدنا جميعا، في ساعة واحدة؟ و كانت هذه الآية تدمغهم.

[30] أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو كل من منه الرؤية، قدرة الله العظيمة، فكيف يقول أناس: إنه لا يقدر على البعث، أو ينكرون وجوده؟ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ بأن ينقص من النهار، ليزيد على الليل، أو يدخل ليلة كل يوم نهارها، حتى إن غابت الشمس، توجه جند الليل من ناحية المشرق، ليغزوا النهار المنتشر في السماء، و الإيلاج هو الإدخال وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ على أحد المعنيين السابقين وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ذللهما حتى أنهما يسيران طوع أمره و إرادته كُلٌّ يَجْرِي في فلكه بصورة مستمرة دائمة لينتهي إِلى أَجَلٍ و مدة مُسَمًّى

قد سمي ذلك عنده سبحانه، فليس سيرهما اعتباطا، بلا تحديد و تقدير وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ و قد أدرج هذا الأمر المعنوي إلى ذينك الأمرين الحسيين لإفادة من يخلق و يتصرف بما تقدم، لا بد و أن يعلم أعمال الخلائق، و لذا صح عطفه على قوله «أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 280

[سورة لقمان (31): الآيات 30 الى 31]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)

الله يولج» و على هذا، فالمراد بالرؤية المعنى الجامع بين البصر و البصيرة.

[31] ذلِكَ الذي تقدم من التصرف في الليل و النهار، و الشمس و القمر، و العلم بأعمال العباد، إنما كان من شأن الله بسبب أن اللَّهَ هُوَ الإله الْحَقُ و الإله الحق يتأتى منه كل ذلك وَ لازم كون الله حقا أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام الْباطِلُ فليست تلك بآلهة وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ الرفيع الْكَبِيرُ العظيم، و إن التصرفات الكونية، و العلم الشامل، إنما هي من شأن الإله العلي الكبير، فهل يتمكن أحد، أن ينسب إلى الأصنام هذه الصفات، أو تلك الأمور التكوينية؟

[32] ثم ينتقل السياق إلى إلفات هؤلاء نحو خارقة كونية أخرى، لا محيص لهم عن الاعتراف، بأنها لله، لا لأصنامهم أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو لكل من يتأتى منه الرؤية أَنَّ الْفُلْكَ أي السفينة تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ فقد أنعم على البشر بإجراء السفينة في البحار لنقلهم من هنا إلى هناك، و تسهيل تجارتهم

بسببها، و لِيُرِيَكُمْ الله في هذا المسير مِنْ آياتِهِ أي بعض آياته الدالة على عظم قدره، و جلالة شأنه، فإن في البحار عجائب صنع الله سبحانه، مما يراها من ركب البحر، و قوله «ليريكم» بيان لإحدى علل إجراء السفينة في البحر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 281

[سورة لقمان (31): آية 32]

وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

فإن إجراءها للسفر و التجارة، و رؤية الآيات إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء في البحر لَآياتٍ دالة على الله و صفاته لِكُلِّ صَبَّارٍ يصبر عند البلاء شَكُورٍ يشكر عند الرخاء، و كان الإتيان بهاتين الصفتين هنا، لما يطرأ على الإنسان، من هاتين الحالتين، عند ركوب البحر من الأهوال المحتاجة إلى الصبر، و الإنجاء المحتاج إلى الشكر، فإن الصابر الشاكر- و هو المعترف بالله- هو الذي يدرك الآيات، أما الجاهل المضطرب النفس، فلا يدرك الآيات، و لا يعيرها أهمية.

[33] وَ إِذا ركب الناس السفينة و غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ فإن الموج أحيانا يركب على السفينة، كالظلة التي تلقى عليها، فيدخل فيها قسم من ماء الموج، و إنما جاء بالجمع في قوله «كالظلل» و هو جمع ظلة، لأن للموج طبقات، تعلو طبقة على طبقة دَعَوُا اللَّهَ أي الركاب، في حال خوفهم من الموج أن يغرق السفينة بمن فيها، في حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي قد أخلصوا له الطريقة، بأن صار توجههم إليه وحده، و انصرف المشركون من الراكبين عن آلهتهم فَلَمَّا ذهب الموج، و أمنوا الخطر، و نَجَّاهُمْ الله إِلَى الْبَرِّ بأن خرجوا من السفينة بسلام فَمِنْهُمْ أي بعض أولئك الراكبين مُقْتَصِدٌ، أخذ طريق

القصد و العدل، فيبقى على إيمانه بالله وَ منهم راجع إلى كفره و شركه، و ما يَجْحَدُ بِآياتِنا الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا، و من تلك الآيات الإنجاء، من أهوال البحر إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 282

[سورة لقمان (31): آية 33]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

من ختر، بمعنى غدر بالعهد كَفُورٍ لله سبحانه، في المجمع: قيل إن هذا كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل، و هو إخلاصهم الدعاء في البحر، فقد روي السدّي عن مصعب بن سعد عن أبيه، قال لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله، الناس، إلا أربعة نفر، قال: اقتلوهم، و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، عكرمة بن أبي جهل، و عبد الله بن أخطل، و قيس بن صبابة، و عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فأما عكرمة، فركب البحر، فأصابته ريح عاصفة، فقال أهل السفينة أخلصوا، فإن آلهتكم، لا تغني عنكم شيئا هاهنا، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر، إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر غيره؟ اللهم إن لك علي عهدا، إن أنت عافيتني مما أنا فيه، أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوا كريما، فجاء فأسلم «1» ... و قد قبل النبي إسلامه، و من طريف الأمر إن الإنسان كلما وقع في مشكلة، لا بد و أن يعرف ما ينجيه، و ما لا ينجيه، ثم إذا ارتفعت المشكلة، رجع إلى تقاليده البالية، و ما يفرضه العرف و الاجتماع عليه.

[34] و

إذا أتم الاحتجاج مع الناس حول الألوهية و المعاد، جاء السياق لتخويفهم عاقبة أمرهم، بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي خافوا عقابه وَ اخْشَوْا يَوْماً هو يوم القيامة لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي لا يغني أحد أحدا، حتى أن الأب الرؤوف بأولاده لا يتمكن من

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 95.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 283

[سورة لقمان (31): آية 34]

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

خلاصهم وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً و الابن لا يغني عن أباه، حتى الشي ء القليل إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و الجزاء حَقٌ آت لا ريب فيه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن تصرفكم زهرتها عن الإيمان حتى تذوقوا العذاب يوم القيامة وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ أي لا يجرأنكم على عصيان الله، الشيطان الْغَرُورُ الذي يغر كثيرا.

[35] إِنَّ اللَّهَ هو العالم القادر، هو عالم بما تعملون، و قادر على البعث و الجزاء، ألا ترون إلى آثار علمه و قدرته عندكم، فإنه سبحانه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ بمعنى، في أي وقت تقوم القيامة وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي المطر الدال على كمال قدرته وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي أرحام النساء، من ذكر و أنثى، صحيح أو سقيم، جميل أو قبيح، و هكذا، و لو لم يعلم ذلك لم يتمكن من صنعه بهذه الدقة المدهشة، أما أنتم أيها البشر، فأسرعوا في التوبة و الرجوع، إلى هذا الإله العالم القادر، و العمل الصالح وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً من خير

أو شر، فلا تسوّفوا التوبة و العمل لغد، فلعلّ ما أردتم فيه، لم تتمكنوا من إنجازه وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فلعله مات في نفس مكانه، لم يقدر على الجري، ليصلح شأنه، إن سوّف التوبة، و العمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 284

الصالح، فيبادر الإنسان في زمانه، و مكانه إلى الرجوع إليه سبحانه، قبل أن يتحسر و يندم، و لات ساعة مندم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأعمالكم و ضمائركم خَبِيرٌ و لعل الفرق بين الوصفين، إن الثاني أدق من الأول، في إفادة المراد، لدى اجتماعهما، فالخبير، من يعلم كنه الأشياء، و جميع مزاياها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 285

32 سورة السجدة مكيّة/ آياتها (31)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على مادة السجدة، في قوله «خروا سجدا» و هي كسائر السور المكية، تعالج قضايا العقيدة بشعبها المختلفة، قال في المجمع: ختم الله سبحانه السورة التي قبلها بدلائل الربوبية، و افتتح هذه السورة أيضا بها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم الإله الذي يرحم العباد، نبتدئ السورة، لكي نجعله عنوانا لنا، و شعارا لأمورنا، و نسترحم لطفه، و عنايته، بتذكر اسمه الرحمن الرحيم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 286

[سورة السجده (32): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

[2] الم «ألف» و «لام» و «ميم» جنس لحروف هذه السور، التي عجز البشر من الإتيان بمثلها، أو إنها رموز بين الله و الرسول، أو لأن المشركين، كانوا يصيحون حين يبدأ الرسول بالقرآن، ليمنعوا الناس عن سماع صوته و إيقاعه في الغلط، فكانت تنزل

المقطعات لتوجب الدهشة فيهم فينصتوا استغرابا و هناك يلقّنوا القرآن، أو غيرها من الأقوال.

[3] تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر، ل «الم» و اللام في «الكتاب» للعهد، أي أن «الم» أو هذه الآيات، تنزيل الكتاب الذي وعدتم به من قبل، على لسان الأنبياء، أو لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد وضع المصدر، و هو «تنزيل» موضع المفعول، فهذه الآيات، هو الكتاب المنزل، أو «الم» هو الكتاب المنزل، كما وضع المصدر موضع الفاعل في «زيد عدل» أي عادل لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس الكتاب محل ارتياب، و إن ارتاب فيه المبطلون، كما تقول: لا ريب في أن وقت طلوع الشمس أو الصبح، يعني ليس محل ارتياب، و إن كان هناك «سوفسطائيون» ينكرون ذلك، أو يشكون فيه مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ و إلا فلو لم يكن من رب العالمين، فلما ذا لا يتمكن البشر من الإتيان كمثله.

[4] أَمْ يَقُولُونَ أي بل يقول هؤلاء الكفار افْتَراهُ أي نسب الرسول القرآن إلى الله كذبا، و ليس الأمر كما يقولون بَلْ هُوَ الْحَقُ المطابق للواقع مِنْ رَبِّكَ أي من طرفه سبحانه، و ليس مفترى على الله تعالى، كما زعموا، و قد أنزله سبحانه لِتُنْذِرَ يا رسول الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 287

[سورة السجده (32): آية 4]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)

قَوْماً بأنهم إن بقوا على الكفر، و عملوا بالمعاصي، كان مصيرهم إلى النار ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ فإن كفار مكة، لم يأتهم رسول ينذرهم قبل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لكي يهتدوا إلى طريق الله سبحانه.

[5] ثم بين سبحانه «رب العالمين» بقوله أنه هو اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من أنواع الحيوان، و الإنسان و النبات، و الهواء، و الملائكة، و غيرها فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ و قد جرت عادته سبحانه على التدريج في الخلق، كما نشاهد في خلق الإنسان، و النبات، و الحيوان، و على هذا الناموس العام، كان خلق الكون تدريجيا في ستة أيام و السر في هذا العدد الخاص، هو السر، في أي عدد كان، و هو السر في تسعة أشهر للحمل، و المدة الفلانية في النبات، و الحيوان، و هكذا، فهو أحد مصاديق التدريج، و الظاهر، أن المراد مقدار ستة أيام، و إلا فقبل الشمس، لم يكن نهار و ليل ثُمَّ اسْتَوى سبحانه عَلَى الْعَرْشِ أي استولى عليه، و هذا معنى كنائي، كما يقال:

استوى الملك على سرير الملك، يراد أنه، أخذ زمام السلطة بيده، و إن لم يكن هناك سرير، و الإتيان بثم مع أنه سبحانه، كان قائما على كل شي ء، لأنه لم يكن قبل خلق الكون شي ء، حتى يقال: استولى عليه، فتحقق الاستيلاء، إنما هو بتحقق المستولى عليه ما لَكُمْ أي ليس لكم أيها البشر مِنْ دُونِهِ أي سواه سبحانه مِنْ وَلِيٍ يلي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 288

[سورة السجده (32): آية 5]

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

أموركم، و يقدر و يدبر شؤونكم، فإن الأصنام مخلوقة، لا تملك لنفسها شيئا، فكيف تملك لكم؟ وَ لا شَفِيعٍ في إنجائكم من الهلكات الدنيوية، و الأخروية، فإن الخلق، و الولاية، و الشفاعة،

كلها له وحده، فإن أراد إنقاذ أحد أشار هو بشفاعة نبي أو عظيم ليشفع له، كما قال (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1» أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ أيها البشر، ما أودع فيكم من الفطرة الدالة على أن للكون إلها قويا يسيّره، و ليس ذلك لهذه الأصنام، أو ما أشبهها؟

[6] و هو سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي جنس الأمر المرتبط بهذا العالم، فيأتي مِنَ السَّماءِ و إنما جعل سبحانه تدبير أمر الأرض في السماء، حسب حكمته البالغة، كما قال (وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ) «2» و إلا لم يكن له حاجة إلى ذلك، و ليس ذلك، لأنه تعالى أقرب إلى السماء منه إلى الأرض، بل الجميع لدى عظمته سواء، و لا مكان له و لا جسمية، حتى يكون أقرب إلى بعض من بعض إِلَى الْأَرْضِ أي تدبيرا ينتهي إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ أي يصعد الأمر إِلَيْهِ تعالى، و الظاهر، أن التعبير، ب «يعرج» باعتبار ارتفاع مقام الله سبحانه، كما إذا سألت أحدا من أعضاء الحكومة أمرا، يقول: «أراجع فوقي» يريد فوقه في الرتبة، لا في المكان، و معنى صعود الأمر إليه، أن النتائج و الآثار التي ظهرت من الأمر، يكون بنظره سبحانه، أو أن العروج،

______________________________

(1) الأنبياء: 29.

(2) الذاريات: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 289

[سورة السجده (32): الآيات 6 الى 7]

ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7)

و النزول، باعتبار، أن تقديرات الأرض تكون في السماء، ثم تصعد الآثار إلى السماء فِي يَوْمٍ أي أن النزول و العروج منسوبان إلى يوم، فإن «في» بمعنى النسبة كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فهما في

زمان يسير، لكن المسافة الحقيقة، هي تقطع في ألف سنة، خمسمائة سنة نزولا، و خمسمائة سنة صعودا، أو أن المراد، أن نتائج الأعمال، إنما ترفع إلى مقام جلال الله سبحانه، في يوم القيامة، الذي يعادل ألف سنة.

[7] ذلِكَ الذي خلق السماوات و الأرض بتلك الأوصاف عالِمُ الْغَيْبِ أي يعلم ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ الأشياء، التي يشاهدها الإنسان بإحدى حواسه الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الرَّحِيمُ الذي يرحم الخلق، و يتفضل عليهم بأنواع النعم.

[8] الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ بأن أتى بأحسن المزايا و الخصوصيات، التي يمكن أن يكون الخلق عليها، على نحو يقتضي الحكمة و الصلاح، فحتى الإنسان الأعمى أحسن الله في خلقه غاية الإحسان، فإن العمى، و إن كان نقصا في ذاته، إلا أنه جعله عبرة و عظة، و ما أعدّ له من الثواب، إن صبر و عمل صالحا، يردفه في جملة ما حسّن خلقه وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ فإن آدم خلق من الطين، الذي هو تراب مخلوط بالماء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 290

[سورة السجده (32): الآيات 8 الى 10]

ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)

[9] ثُمَّ جَعَلَ الله سبحانه نَسْلَهُ أي ولده و ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي صفوة، قد سلّت من غيرها، و يسمى ماء الرجل سلالة، لانسلاله من صلبه مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي حقير، من هان، بمعنى حقر، و المراد به «المني» فإنه حقير مهان لرائحته و قذارته.

[10] ثُمَّ

سَوَّاهُ أي جعله بشرا سويا، بإعطائه الآلات و الحواس و الأعضاء وَ نَفَخَ فِيهِ أي في ذلك الماء الذي سواه مِنْ رُوحِهِ أي الروح الذي خلقه، و الإضافة تشريفية، كإضافة البيت إلى الله سبحانه في قولنا «بيت الله» للكعبة و المسجد، و حيث أن الروح جوهر لطيف عبر بالنفخ، كما ينفخ الهواء في الزق وَ جَعَلَ الله لَكُمُ أيها البشر السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد، و هو القلب، و تخصيص هذه الأعضاء بالذكر، لما يشاهد لها من الفوائد الجمة، كما أن الإتيان بالسمع مفردا مرادا به الجنس، بخلاف الأبصار و الأفئدة، جمعا للتفنن في الكلام، الذي هو من أبواب البلاغة قَلِيلًا ما «ما» زائدة لتأكيد «قليلا» تَشْكُرُونَ نعم الله سبحانه.

[11] و بعد ذكر المبدأ، أتى السياق، لذكر المعاد وَ قالُوا أي من أنكروا البعث أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ بأن صرنا ترابا، و تفرقت أجزاؤنا، بحيث لا يقدر على تميزها من غيرها، من أراد التمييز أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 291

[سورة السجده (32): الآيات 11 الى 12]

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)

بأن نرجع إلى الحياة؟ إن هذا لا يمكن أبدا، فإن تمييز أجزائنا عن غيرها، لا يمكن، فكيف بجمعها و صنعها إنسانا من جديد بَلْ هُمْ أي هؤلاء الكفار بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي لقاء جزائه و حسابه كافِرُونَ و إلا فلم يدل دليل على امتناع ذلك، و المعنى أن قولهم هذا ناشئ من كفرهم، لا عن دليل دلّهم على استحالة الإعادة.

[12] قُلْ يا رسول

الله لهم يَتَوَفَّاكُمْ أي يميتكم مَلَكُ الْمَوْتِ أي الملك الموكل بإماتة الناس، و هو عزرائيل عليه السّلام الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ وكله الله سبحانه، لوفاتكم، فالوفاة هكذا، و ليست اعتباطا، كما يزعم الجاهلون، فإنهم حيث لا يرون أحدا يظنون أن الأسباب الظاهرة، هي العلة التامة للوفاة ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ إلى حسابه و جزائه رجوعكم.

[13] و هناك يأتي المجرمون نادمين على ما فرطوا في دار الدنيا من الكفر و العصيان وَ لَوْ تَرى يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه الرؤية، و جواب «لو» محذوف، و التقدير «لرأيت أمرا فظيعا» إِذِ الْمُجْرِمُونَ الذين أذنبوا ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ قد طأطؤوها حياء، و ندما، و ذلا عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في موقف الحساب، و هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و عند ذلك يقولون: يا رَبَّنا أَبْصَرْنا ما كنا نعمى عنه، في دار الدنيا وَ سَمِعْنا ما كنا نصم عنه في الحياة فَارْجِعْنا إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 292

[سورة السجده (32): الآيات 13 الى 14]

وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً كما تأمر إِنَّا مُوقِنُونَ قد تيقنا صدق كلامك و وعدك، و لكن هل يرجعون؟ كلا! و هل يصدقون في أنهم لو رجعوا عملوا صالحا؟ كلا! إنها كلمة هو قائلها.

[14] وَ لَوْ شِئْنا أن نجبر الناس على الهداية لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي أعطيناهم الهداية بالجبر، بأن نلجأهم إلى الإيمان، و العمل الصالح، و لكن ذلك يبطل التكليف، كما يبطل الثواب و العقاب، و يكون الناس

حينئذ، كالحجارة، التي لا مدح لها و لا ذم، فإنما تفعل، ما تفعل بالطبع و القسوة لا بالاختيار و الرغبة وَ لكِنْ لأن شاء ذلك، و قد حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي ثبت و لزم ما قلته سابقا، من إعطاء الاختيار للناس، حتى يذهب بعض إلى الجنة، ممن أطاع و آمن، و لَأَمْلَأَنَ من ملأ بمعنى الإكثار من المظروف حتى يمتلئ الظرف، و لا يكون له بعد مجال لأخذ الزائد جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ أي الجن وَ النَّاسِ الكفار و العصاة أَجْمَعِينَ و إنما ذكر هذا الشق، من شقي الناس و الجان، لأنه محل الكلام، فإن الحديث بالنسبة إلى المجرمين.

[15] و إذ يدخل النار الكفار، من الصنفين يخاطبون من قبل الله سبحانه فَذُوقُوا العذاب، و المذوق هو الإدراك بحاسة اللسان، أو حاسة اللمس، أو مطلق الحواس بِما نَسِيتُمْ أي بسبب نسيانكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 293

[سورة السجده (32): آية 15]

إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)

و التعبير بالنسيان، باعتبار جعل الإنذار مهملا غير معتنى به، كالناسي للشي ء، و المراد باليوم القيامة إِنَّا نَسِيناكُمْ أي أهملناكم، و لم نعتن بكم، لننقذكم من العذاب، و إنما استعمل النسيان في الإهمال، لعلاقة المشابهة وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب الذي هو خالد، لا زوال له بسبب ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من أنواع الكفر و العصيان.

[16] لقد رأينا الكفار، و ما صاروا إليه من العذاب الدائم، فلنعطف النظر إلى المؤمنين و مصيرهم الكريم، فمن هو المؤمن، و ما مصيره؟ إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا يصدق بها، و يتفكّر فيها، ليستدل بها على الصانع و صفاته الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها

بأن ذكرهم الرسول، أو بعض المؤمنين بتلك الآيات، بأن أروهم الآيات الكونية، أو الآيات القرآنية، ثارت فيهم غريزة الإيمان ف خَرُّوا سُجَّداً جمع ساجد، أي ألقوا بأنفسهم على الأرض، في هيئة الساجد بوضع جباههم على التراب تعظيما لله سبحانه، و شكرا لنعمه وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي نزهوه عن النقائص، بنحو الحمد و الثناء الجميل، فإن التنزيه، قد يؤدى بالنحو السلبي، كأن يقال: «فلان ليس بجبان»، و قد يؤدى بالنحو الإيجابي، كأن يقال: «فلان شجاع» فإنه تنزيه و حمد، و الأول، لا يلازم الثاني، بخلاف الثاني، فإنه حمد و تسبيح وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن التواضع لله، عملا بالسجود، و لسانا بالحمد و الثناء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 294

[سورة السجده (32): الآيات 16 الى 18]

تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18)

[17] و من صفاتهم أنهم تَتَجافى من التجافي، و هو الابتعاد، أي تبتعد و ترتفع جُنُوبُهُمْ جمع جنب عَنِ الْمَضاجِعِ جمع مضجع، و هو محل النوم، أي أنهم يقومون بالليل لأداء الصلاة يَدْعُونَ رَبَّهُمْ و يناجونه خَوْفاً أي لأجل الخوف من عذابه وَ طَمَعاً في ثوابه وَ هم مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الله، و «مما رزقنا» عام يشمل العلم، و المال، و الجاه، و غيرها. و هاتان الآيتان، مشتملتان على السجدة الواجبة، فإذا تلاهما الإنسان، أو سمعها، وجب أن يسجد.

[18] إن المؤمنين هم أولئك الذين ذكرت أوصافهم، فلننظر إلى مصيرهم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مؤمنة بالله، عاملة للصالحات ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ

أَعْيُنٍ أي ما خبأ الله لهم من النعيم، الذي يسبب قرة أعينهم، الموجب لاستقرار العين، رضا و طمأنينة، في مقابل الإنسان الخائف الذي تتحرك عينه هنا و هناك، ليجد ملجأ و ملاذا، و

قد ورد أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال إن الله يقول أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، و إنما أخفي للمؤمنين هذا النعيم العظيم

جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإيمان بالأصول، و الصالحات فإن الإيمان أيضا عمل، أو على تغليب العمل على العقيدة، لأنه أكثر منها عددا.

[19] ثم بين سبحانه، إن التفاوت في الجزاء، إنما هو للتفاوت بين الأعمال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 295

[سورة السجده (32): الآيات 19 الى 20]

أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)

أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ و هذا استفهام للتقرير، أي ليس المؤمن كالفاسق، و المراد به أعم من الفسق في العقيدة، أو في العمل لا يَسْتَوُونَ أي لا يعادل أحدهما مع الآخر، و لذا اختلف جزاءهما.

[20] أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله و برسوله، و بما جاء به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي هي الإتيان بالفرائض، و اجتناب الرذائل فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى «و مأوى» اسم مكان من آوى، بمعنى اتخذ المنزل، و المسكن، و المراد الجنات، التي هي مسكن للمؤمنين نُزُلًا هو ما يعد للضيف، أو ينزلهم الله فيها نزلا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم، التي عملوها في دار

الدنيا.

[21] وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أي خرجوا عن طاعة الله، إما بالكفر أو العصيان فَمَأْواهُمُ أي مصيرهم، الذي يأوون إليه النَّارُ في جهنم كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي كلما هموا بالخروج من شدة العذاب و ألم النار أُعِيدُوا أي ردتهم الملائكة الموكلة بهم فِيها فلا مخلص لهم من العذاب وَ قِيلَ لَهُمْ إهانة و ازدراء بهم ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فقد كانوا يكذبون بالنار تكذيبا عقيديا كالكفار،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 296

[سورة السجده (32): الآيات 21 الى 23]

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23)

أو عمليا كالفساق.

[22] وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ أي الفساق مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى

و هو ضنك العيش في الدنيا، و عذاب القبر، و من مصاديق العذاب الأدنى، ما يلاقيه المجرمون زمن ظهور الإمام الثاني عشر، كما ورد في الحديث

«1» دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي قبل أن نذيقهم من العذاب الأكبر في الآخرة، و هي جهنم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا عن كفرهم و عصيانهم، فإن الإنسان، إذا رأى الأذى، و العذاب جاش في نفسه حب الخير، و العمل الصالح.

[23] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي أيّ شخص أكثر ظلما مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي ذكره الأنبياء و الأوصياء و المرشدون ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها و لم يقبلها؟

و المعنى لا أحد أظلم من هذا الشخص- و ذلك إضافي، كما مر غير مرة- و لا يظن مثل هذا الشخص، إنه لا يرى وبال إعراضه، ف إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ الذين

أجرموا بالكفر و العصيان مُنْتَقِمُونَ بإحلال العقاب بهم.

[24] ثم يأتي السياق ليسلّي الرسول فيما يتحمله من الأذى، و يسلي المؤمنين بأن لهم العاقبة المحمودة، فإن حال الرسول حال موسى-

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 8 ص 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 297

[سورة السجده (32): آية 24]

وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)

فإنهما يتلاقيان في الأصول و الفروع، إلا في اختلافات، لا ترجع إلى جوهر الدين- و حال المؤمنين بالرسول، حال بني إسرائيل، فكما نصرنا موسى عليه السّلام و بني إسرائيل على أعدائهم، ننصر الرسول و المؤمنين به على أعدائهم وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة، و هذا كناية عن إرساله إلى القوم لهدايتهم فَلا تَكُنْ يا رسول الله فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْ لِقائِهِ أي من الالتقاء بموسى في العقيدة و الشريعة. و هذا كما يقال يتلاقى فلان و فلان في العقيدة، و هذه الجملة كناية عن أول طريق الرسول طريق موسى، فمصيره كمصيره، في النصرة و الغلبة على الأعداء وَ جَعَلْناهُ أي الكتاب هُدىً أي هداية و إرشادا لِبَنِي إِسْرائِيلَ فإنهم اهتدوا بالتوراة عن الضلالة و الانحراف.

[25] وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل أَئِمَّةً جمع إمام، و هو المقدم في الدين يَهْدُونَ بِأَمْرِنا و إذننا لهم في الهداية، فإنه لا يحق لأحد أن ينصب نفسه علما للهداية، إلّا بإذن لَمَّا صَبَرُوا أي أن جعلهم أئمة، بسبب صبرهم على المكاره و أذى الجهال، و صمودهم في تطبيق أوامرنا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ لا يشكون فيها، اللازم لو أن يعملوا على طبقها، فإن صاحب اليقين يعمل صالحا، و يترك السيئ، و هذا تعريض بالمؤمنين بالرسول،

بأنهم إن صبروا و جعلناهم أئمة، كما تقول لأحد ولدك: لقد أمرت ابني فلانا بكذا، و أنت في نفس طريقه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 298

[سورة السجده (32): الآيات 25 الى 26]

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ (26)

و أعطيته المال و جعلت جماعة يتبعونه، تريد التعريض بهذا الولد المخاطب، بأن عاقبته كعاقبة ذلك الابن الأول.

[26] و حيث ينتهي الكلام إلى هنا يختلج في ذهن السامع، أن يسأل، فما بال هؤلاء اليهود الذين نراهم ليسوا كذلك؟ و يأتي الجواب، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي بين بني إسرائيل الصالحين منهم، و الطالحين يَوْمَ الْقِيامَةِ فصلا يؤدي إلى إعطاء كلّ ما يستحق من النعيم أو الجحيم فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فإن بعضهم غيّروا شريعة موسى، و لعبت أهواؤهم بها، و بعضهم بقوا على الشريعة، بلا تغيير أو تحوير.

[27] ثم يرجع السياق إلى قصة الكفار أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ استفهام إنكاري، أي كيف لم يبصرهم كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ و الأجيال، التي كانت تكذب بآيات الله، و تعصي أحكام الله يَمْشُونَ أي هؤلاء الكفار فِي مَساكِنِهِمْ أي في مساكن أولئك، فإنهم في رحلتهم الشتائية، إلى اليمن، و الصيفية إلى الشام، كانوا يمرون بمساكن عاد و ثمود، و قوم لوط، و غيرهم إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لأولئك الكفار لَآياتٍ دلالات دالة على وجود الله، و علمه و قدرته، و انتقامه من الظالمين أَ فَلا يَسْمَعُونَ أي ألا يسمع هؤلاء الكفار تلك الآيات سماعا يؤدي إلى رجوعهم، عن غيّهم إلى

الحق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 299

[سورة السجده (32): الآيات 27 الى 29]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ (27) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)

[28] و كيف يكفر هؤلاء الكفار بالله، مع أنهم يرون آياته، و آثاره؟ و حيث هددهم في الآية السابقة بالعذاب، ذكر لهم نعم الله عليهم، لعلهم يشكرونه، فالعذاب و الرحمة، كلاهما ماثلان أمام أعينهم، ليؤمنوا رهبة أو رغبة أَ وَ لَمْ يَرَوْا استفهام إنكاري، أي كيف لا يرون هذه النعمة، ليؤدوا شكرها؟ أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ بواسطة المطر أو الأنهار إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ و هي الأرض اليابسة، التي ليس فيها نبات، من قولهم سيف جراز، أي قطاع لا يبقي شيئا إلا قطعة، فالأرض قد جرز نباتها، أي قطع و أزيل، فلا نبات لها فَنُخْرِجُ بِهِ أي بالماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أي من ذلك الزرع أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ مما يعود بالخير إليهم أَ فَلا يُبْصِرُونَ نعم الله عليهم؟ ليشكرون.

[29] وَ يَقُولُونَ أي يقول الكفار مَتى هذَا الْفَتْحُ الذي تقول يا محمد، أنت تفتح البلاد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أيها المسلمون في ادعائكم، إنكم ستفتحون البلاد؟ ففي أي وقت يكون؟ و لماذا لم يتحقق إلى الآن؟.

[30] قُلْ يا رسول الله لهم يَوْمَ الْفَتْحِ الذي نفتح فيه لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ بعد الفتح، و وقوعهم أسرى في أيدي المسلمين، فإن ذلك لا يفك أسرهم، أو المراد بالفتح، يوم مدتهم، حيث يقولون للملائكة، أمهلونا، حتى نؤمن، فلا يمهلونهم، كما قال سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 4، ص: 300

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 349

[سورة السجده (32): آية 30]

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

(وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «1» وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يمهلون.

[31] فَأَعْرِضْ يا رسول الله عَنْهُمْ اتركهم و شأنهم بعد ما لم يؤثر النصح، و التهديد، و الترغيب فيهم وَ انْتَظِرْ موعد الفتح إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ و هذا تسلية للرسول و وعيد لهم، و المراد ينتظر الفريقان، حتى يرون الجميع لمن العاقبة الحسنة؟ و لمن العاقبة السيئة؟ و قد كان كما أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقد انتصر المسلمون، و فتح الله لهم.

______________________________

(1) النساء: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 301

33 سورة الأحزاب مدنيّة/ آياتها (74)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على لفظة «الأحزاب» و طرفا من قصتهم، و هي كسائر السور المدنية، تشتمل على الأحكام و النظام، و الحرب، و غيرها، و إذا ختمت تلك السورة، بانتظار الرسول يوم الفتح، جاءت السورة مفتتحة لسير النبي في طريقه المرسوم له، بلا أن يحرفه الكفار و المنافقين، حتى يصل العاقبة المحمودة؟

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي إن ابتدأ به شي ء باركه و أتمه، كما ورد كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله، فهو أبتر- المفهوم منه، إنه إن بدأ بالبسملة كان غير أبتر- و هو الرحمن الرحيم، المتصف بالرحمة المتزائدة، فإن تكثير الوصف يوجب تكثير الصفة، كيف لا، و لو لم تدرك الرحمة الإنسان (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) «1»

______________________________

(1) فاطر: 46.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 302

[سورة الأحزاب (33): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا

تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)

[2] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ بإطاعة أوامره، و اجتناب نواهيه، و الرسول، إنما كان مؤدبا بتعليم الله، الذي منه هذا الأمر، فلا يقال إنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان متقيا، فكان الأمر لغوا؟ و بالإضافة إلى أن معنى ذلك أدم على تقواك نحو اهدنا الصراط المستقيم وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ و المنافق هو الذي يظهر الإيمان، و يبطن الكفر إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالحكم و المصالح حَكِيماً فلا يأمر إلا بالصالح، و لا ينهى إلا عن الضار، فإن بين العلم و الحكمة عموما وجه، كما هو واضح، فمن الممكن أن يكون العالم غير حكيم، أو الحكيم غير عالم،

قال في مجمع البيان

إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، و عكرمة بن أبي جهل، و أبي الأعور السلمي، قدموا المدينة، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليكلموه، فقاموا، و قام معهم عبد الله ابن أبيّ، و عبد الله بن سعد بن أبي سرح، و طعمة بن أبيرق، فدخلوا على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا يا محمد، أرفض ذكر آلهتنا، اللات، و العزى، و منات، و قل أن لها شفاعة لمن عبدها، و ندعك و ربك، فشق ذلك على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان، و أصر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخرجوا من المدينة، و نزلت الآية، «وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ» من أهل

مكة، أبا سفيان، و أبا الأعور، و عكرمة، و المنافقين، ابن أبيّ، و ابن سعد، و طعمة

«1»، و قيل: نزلت في أناس من ثقيف، قدموا على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فطلبوا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 303

[سورة الأحزاب (33): الآيات 2 الى 4]

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

منه أن يمتعهم باللات، و العزى سنة، قالوا لتعلم قريش منزلتنا منك.

[3] وَ اتَّبِعْ يا رسول الله ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من الأحكام و الشرائع إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ أي أنت و أمتك، و يأتي خطاب الرجل العظيم بالجمع، باعتبار أتباعه معه خَبِيراً فيعلم من اتبع أمره ليجازيه عليه.

[4] وَ تَوَكَّلْ يا رسول الله عَلَى اللَّهِ أي فوض أمرك إليه، حتى لا يتمكن الأعداء من الوصول إليك، و لا تخاف أحدا، و لا ترجو أحدا وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فإنه قائم بأمرك و حفظك، و حيث إن معنى «كفى» «اكتف» جاء متعديا إلى الفاعل بالباء.

[5] و بمناسبة لزوم اتباع الوحي، و عدم اتباع الكفار، يأتي السياق ليقرر، أنه لا يمكن للإنسان اتجاهان، فليس له قلبان حتى يتجه بكل قلب إلى وجهة مضادة للوجهة الأخرى، و لهذه العلة التي تقرر عدم إمكان اتجاهين يقرر السياق، أن لا يمكن الجمع بين كون امرأة زوجة و أما، أو

كون رجل أجنبيا و ولدا، و بهذا يبطل أقوال و عادات جاهلية، قال في المجمع: و قوله: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ» نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب النهري، و كان لبيبا حافظا لما يسمع، و كان يقول: إن في جوفي لقلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، و كانت قريش تسميه ذا القلبين، فلما كان يوم بدر، و هزم المشركون، و فيهم أبو معمر، و تلقاه أبو سفيان بن حرث، و هو آخذ بيده إحدى نعليه، و الأخرى في رجله، فقال له يا أبا معمر: ما حال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 304

الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك و الأخرى في رجلك، فقال أبو معمر: ما شعرت إلا أنها في رجلي، فعرفوا يومئذ أنه لم يكن له إلا قلب واحد، لما نسي نعله في يده «1» ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فإن كل إنسان له قلب واحد، و ذكر الرجل من باب المثال، و إلا فالمرأة و الطفل كذلك فلا يمكن أن يكون للإنسان اتجاهان، اتجاه نحو الإيمان، و اتجاه نحو الكفر، فيطيع الكفار و يطيع الله في آن واحد وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي جمع التي، و المراد بالأزواج الزوجات، فإن زوج يطلق على الرجل، و المرأة تُظاهِرُونَ مِنْهُنَ أي تقولون لهن «أنت عليّ كظهر أمي» فقد كانت العرب تطلق نساءها بهذا اللفظ، فلما جاء الإسلام أبطل الطلاق به، و إنما جعله موجبا للكفارة كما سيأتي تفصيله، و كأنهم كانوا يقصدون أن الزوجة صارت كالأم، فكما تحرم الأم تحرم الزوجة، التي قيل لها هذا اللفظ أُمَّهاتِكُمْ فالزوجة لا تكون

أما، و إن قيل لها ألف لفظ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ جمع دعي، و هو ما كان مرسوما عند العرب، أن يتخذ الرجل الرجل ابنا له فكان له ما للأب و الابن في جميع المزايا الاجتماعية أَبْناءَكُمْ فإن التبني لا يجعل الأجنبي ابنا، و إن تعارف الاجتماع على ذلك، و قد أبطلت هذه الآية الكريمة عادتين، كانتا عند العرب لم يرتض بهما الإسلام، في أنظمته

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 305

و تشريعاته،

قال في المجمع نزلت في زيد بن شراحيل الكلبي من بني عبد ود، تبناه النبي قبل الوحي، و كان قد وقع عليه السبي، فاشتراه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسوق عكاظ، فلما نبي ء رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعاه إلى الإسلام، فأسلم و قدم أبو حارثة مكة، و أتى أبا طالب، و قال سل ابن أخيك، فإما أن يبيعه، و إما أن يعتقه، فلما قال ذلك أبو طالب، لرسول الله. قال: هو حر، فليذهب حيث شاء، فأبى زيد أن يفارق رسول الله، فقال حارثة: يا معشر قريش اشهدوا إنه ليس ابني، فقال رسول الله: اشهدوا إنه ابني فكان يدعى زيدا بن محمد، فلما تزوج النبي زينب بنت جحش، و كانت تحت زيد بن حارثة، قالت اليهود و المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، و هو ينهي الناس عنها؟ فقال رسول الله: ما جعل الله من تدعونه ولدا، و هو ثابت النسب من غيركم ولدا لكم.

«1» ذلِكُمْ «كم» خطاب، و «ذلك» إما إشارة إلى كل واحد من الأمرين «الظهار» و «التبني» أو إلى الأمر الثاني فقط قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فهو لفظ تقولونه،

لا يوجب حقيقة و واقعا وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَ في أنه لا تصبح الزوجة أمّا، و الأجنبي ولدا بمجرد هذا اللفظ، و لم يكن تبني الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لزيد بمعناه الجاهلي، حتى يقال:

كيف يمكن أن يعمل الرسول شيئا غير ممضي من قبل الله سبحانه؟ بل للتشريف، كما

قال الإمام المرتضى «محمد ابني من صلب أبي بكر»

«2» و هذا كان في مقابل طرد أبيه، و سلبه شرفه الانتسابي، فشرفه الرسول بالنسبة إلى نفسه من قبيل

«سلمان منا أهل البيت»

«3» وَ هُوَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 172.

(2) بحار الأنوار: ج 42 ص 162.

(3) بحار الأنوار: ج 11 ص 313.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 306

[سورة الأحزاب (33): الآيات 5 الى 6]

ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)

سبحانه يَهْدِي السَّبِيلَ أي يرشد إلى الطريق الحق، و يدل عليه.

[6] ادْعُوهُمْ أي ادعوا الأولاد لِآبائِهِمْ فقولوا «زيد بن حارثة» لا «زيد ابن محمد» هُوَ أَقْسَطُ أي أقرب إلى العدل، و أفعل منسلخ عن معنى التفضيل، و إنما يأتي بهذه الصورة، لما يزعم البعض من أن طرفه الثاني، عدل أيضا عِنْدَ اللَّهِ و إن كان عندكم لا قسط فيه، أو العكس هو الأقسط فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أي تعرفوا آباءَهُمْ بأعيانهم و أسمائهم، حتى تنسبوهم إليهم، فقولوا يا

أخ فإنهم إخوانكم فِي الدِّينِ إذ الآخرة هي العلقة الحاصلة بين طرفين، بقرابة، أو لسان، أو وطن، أو دين، أو ما أشبه وَ مَوالِيكُمْ أي عبيدكم، إذا كانوا في الرق، فقولوا يا مولاي، و هذا مولى فلان وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و حرج، إذا قلتم «فلان ابني» للدعي فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ سهوا و خطأ، بعد النهي عن ذلك وَ لكِنْ الجناح إنما يكون في ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ بأن قصدتم هذا القول قصدا، بعد أن نهى الله سبحانه عنه وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن عصى، ثم ندم و تاب رَحِيماً بكم يتفضل عليكم بالرحم مضافا إلى الغفران.

[7] ثم يأتي السياق ليقرر الولاية العامة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يحيط أزواجه بهالة من الأمومة الروحية و من ثم يقرر ولاية بعض الأقرباء لبعض، بمناسبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 307

ما تقدم من ذكر بعض الروابط الاجتماعية، التي كانت قبل الإسلام بالنسبة إلى بنوّة الدعي، و أمومة المظاهر منها، فالدعي ليس ابنا، و إنما الأمة أبناء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المظاهر منها ليست أمّا، و إنّما زوجات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمهات النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فكما يحق للإنسان أن يتصرف في شؤون نفسه المباحة، كأن يبقى، و يذهب، و يعمل، و غيرها، كذلك للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا الحق، بل أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أولى فإذا أمر الرسول بشي ء، و أراد الإنسان شيئا آخر لزم تنفيذ أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من هذه الآية الكريمة، استنبط الفقهاء القاعدة الفقهية

«الناس مسلطون على أنفسهم» وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ فما للأم من الاحترام و الإكرام ثابت لزوجات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من تلك حرمة نكاحهن بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من المعلوم أن هذه الشرافة تتبع طاعة الله سبحانه فإذا خرجت بعضهن إلى معصيته تعالى لم يبق لها ذلك الشرف، و لذا

ورد إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعلي عليه السّلام يا أبا الحسن، إن هذا الشرف باق ما دمن على الطاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك، فأطلقها في الأزواج، و أسقطها من تشريف الأمهات، و من شرف أمومة المؤمنين ..

ثم إن من المعلوم، إن ذلك شرف خاص، فلا يتعدى إلى أقربائهن، حتى يكون هناك جد المؤمنين و عم المؤمنين، و خال المؤمنين، و خالة المؤمنين، و هكذا وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي أن فيما كتبه الله سبحانه على المؤمنين، أن أصحاب الرحم، و هم الأقرباء بعضهم أولى ببعض، في الإرث و الولاية، و سائر الأمور، فلا توارث، و لا ولاية، إلا للأرحام،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 308

[سورة الأحزاب (33): آية 7]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7)

إلا بقدر ما بيّنه الشارع، كولاية السادة، و الإمام، و ضامن الجريرة مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فلا ولاية غير النصرة الإسلامية، بين المؤمنين، بأن يرث بعضهم بعضا، سواء كانوا مهاجرين أم لا، قال بعض المفسرين: إن المهاجرين لما ذهبوا إلى المدينة، كان بعضهم، إذا مات قسمت تركته بين سائر المؤمنين و

هذه الآية جاءت لتمنع عن ذلك، أقول: لم يعلم أن ذلك كان من باب الإرث، بل يحتمل أنه كان من باب ولاية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العامة، و إلا فلم يدل دليل، على أن الوارث المسلم، لم يكن يرث ليرث المهاجر المسلم، حتى تكون هذه الآية ناسخة قوله «من المؤمنين» و الله العالم، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا أيها المؤمنين إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً و هذا استثناء منقطع، و المعنى، إن الولاية للأقرباء، إلا أن يفعل بعض المؤمنين بأصدقائه المؤمنين معروفا، بأن يوصي لهم بشي ء من ماله، أو يوصي إلى أحدهم بأيتامه، فإنه تنفذ هذه الوصية في الحدود المقررة في الشريعة كانَ ذلِكَ الحكم بأن أولي الأرحام، أولى إلا أن يفعل الإنسان إلى أوليائه معروفا فِي الْكِتابِ المحفوظ عند الله سبحانه مَسْطُوراً قد كتب و قرر.

[8] و بمناسبة ما كتب في الكتاب من حكم الولاية بين أولي الأرحام، يأتي ما سطر فيه من أخذ الميثاق عن النبيين، و عن المؤمنين، فإن هذا الحكم- و هو أولوية أولي الأرحام- من مصاديق ذلك الميثاق العام، فمن أعطى ذلك الميثاق العام، لزم عليه الوفاء بهذا الميثاق وَ اذكر يا رسول الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 309

[سورة الأحزاب (33): آية 8]

لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)

إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ و المراد به العهد الأكيد بالقيام بالدعوة و التبليغ، و بعد ذكر هذا العموم يأتي ذكر بعض الأنبياء المعروفين وَ مِنْكَ يا رسول الله وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ و هؤلاء الخمسة هم أولوا العزم من الأنبياء الذين بعثوا إلى شرق الأرض و غربها، و قد

خصصوا بالذكر، ليعلم أنهم مع جلالة قدرهم و عظم شأنهم، قد أخذ منهم الميثاق في العمل بما يأمر الله سبحانه، و أخذ الميثاق، إنما كان قبل تحميلهم حمل الرسالة في عالم الذر وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً شديدا بالوفاء و القيام، و ذلك لأهمية هذا المنصب الخطير، الذي لا يساويه منصب مهما عظم.

[9] و قد فعل الله ذلك، ليكون الناس مقطوعي العذر، قد تمت عليهم الحجة، حتى يكون الصادق من الناس، معرضا للثواب، و الكافر معرضا للعقاب، و هذا كما تقول: قد أخذت من المعاون العهد الأكيد بالقيام على مهمة المدرسة، لأنجح الطلاب العاملين، و أطرد الخاملين منهم، تريد أن هذا العهد، إنما كان ليقوم المعاون بالمهمة، فتم الحجة على الطلاب لِيَسْئَلَ الله الصَّادِقِينَ في الإيمان و المنهج، فإن المؤمن صادق، و المطيع صادق إذ من يجعل مع الله شريكا، أو يكفر به، فقد كذب في عقيدته، و قوله، كما أن من يعصي، قد كذب في عمله- فإن الكذب هو الخروج عن الحقيقة، في قول أو عمل- عَنْ صِدْقِهِمْ أي عن عقيدتهم، و قولهم و عملهم، فيجازيهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 310

[سورة الأحزاب (33): الآيات 9 الى 10]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)

بالجنات، فإن السؤال، إنما هو للجزاء وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ بعد أن يسأل عنهم عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما موجعا، و قد تفنن السياق، بذكر السؤال عن المؤمن و العقاب للكافر، و حذف

في الأول النتيجة، و في الثاني السؤال.

[10] ثم يذكّر الله سبحانه المؤمنين ببعض نعمه عليهم، مما يقوي فيهم روح الإيمان و يستمروا على الصدق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إما خاص بمن كان في الواقعة، و إما عام شامل لكل المؤمنين باعتبار، أن ذلك النصر عاد على الجميع بالخير اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ في قصة غزوة الأحزاب إِذْ جاءَتْكُمْ أيها المؤمنون جُنُودٌ من الكفار لتدميرهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً هبت عليهم حتى أكفأت قدورهم، و نزعت فساطيطهم، و رمت بالرمل و الحصباء في وجوههم وَ أرسلنا جُنُوداً من الملائكة لإلقاء الرعب في قلوبهم لَمْ تَرَوْها بأعينكم وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً فإنه سبحانه أبصر أتعابكم و أعمالكم في حفر الخندق، و تنظيم الجيش و العمل لأجل إنجاح المؤمنين، و غير ذلك.

[11] و اذكروا إِذْ جاؤُكُمْ أي جاءكم جنود الكافرين مِنْ فَوْقِكُمْ أي فوق الوادي قبل المشرق، و هم قريظة و نضير و غطفان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 311

[سورة الأحزاب (33): آية 11]

هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)

وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من قبل المغرب من ناحية مكة، أبو سفيان في قريش، و من تبعه وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ من المؤمنين خوفا، و زيغ البصر ميله عن كل اتجاه نحو اتجاه العدو، فلا يكون كالبصر العادي يتحرك هنا و هناك وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ جمع حنجرة، و هي منتهى الحلق، و ذلك لأن الإنسان الخائف تنفتح رئته فتضغط على قلبه، فيصعد قلبه نحو الحنجرة وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي الظنون السيئة، أو المراد الظنون المختلفة، فظن المؤمنون النصر، و المنافقون الهزيمة.

[12] هُنالِكَ في تلك الوقعة ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ امتحنوا و اختبروا ليظهر الصادق منهم من

الكاذب، و الصابر و الجازع وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي حركوا بسبب الخوف تحريكا عنيفا، في معتقدهم و أقوالهم، و أعمالهم، فكما أن الزلزلة تحرك الأجسام، فالحوادث تحرك الأشخاص، و مختصر القصة «1»

في غزوة الأحزاب و تسمى الخندق يئس المشركون و اليهود و القبائل من إمكان القضاء على الإسلام بانفرادهم فتفكروا في تجميع قواهم لضرب الإسلام فتجمعت عشرة آلاف مقاتل من قريش، و بني سليم و أسد، و فزارة، و أشجع، و غطفان، عدا يهود بني قريظة، و لما علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالأمر استشار أصحابه في الأمر؟ فإن هذه القوة الهائلة، لا يمكن الصمود أمامها،

______________________________

(1) قادة الإسلام للمؤلف. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 312

و أخيرا قرر الرسول عدم الخروج من المدينة- بإشارة سلمان الفارسي- بأن يحفر خندق حولها، و يجعل للخندق جهة خاصة للقتال، لئلا يحيط العسكر بالمسلمين، فيبيدوهم عن آخرهم، و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عهد بحسن الجوار، مع بني قريضة، و هم يهود قرب المدينة، لكن «الأحزاب» تمكنت من استمالة بني قريظة، لنقض العهد، و بذلك دخل في قلوب المسلمين رعب عظيم، و بعد أن فرغ المسلمين من حفر الخندق، أتتهم الجيوش كالسيل، كما وصفها الله سبحانه «إذ جاءوكم .. إلى آخره» و بعد ما تم حفر الخندق، خرج الرسول في ثلاثة آلاف من المسلمين، ليواجهون الأحزاب و بينهما الخندق، و طال الأمر بين الطرفين بضعا و عشرين ليلة، لم يكن بينهما إلا الرمي، فإن الأحزاب لم يقدروا على العبور، و المسلمين لم يشاءوا ذلك و بعدها، جاء عمرو بن عبد ود، و عكرمة بن أبي جهل، و جماعة آخرون،

من أقوى شجعان الأحزاب، فعبروا الخندق من مضيق كان فيه، ثم أخذوا يجولون، و يصولون، يطلبون المبارزة من المسلمين، لكن المسلمين قد أخذتهم الرهبة فلم يجرأ أحد منهم على الإقدام، فأنشأ عمرو بن عبد ود، و لقد بححت من النداء* بجمعكم هل من مبارز إلى آخر الأبيات، و هنا قام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، يستأذن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمبارزته، و لكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يأذن له ليمتحن بعض المسلمين، و أخيرا أذن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للإمام، فخرج الإمام من معسكر المسلمين، يريد مبارزة عمرو و أنشد يقول في جوابه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 313

لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز* ذو نية و بصيرة، و الصدق منجي كل فائز إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز* من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز و لما تقابل الإمام، و عمرو، قال له الإمام: إنك كنت تقول في الجاهلية، لا يدعوني أحد إلى ثلاث، إلا قبلت واحدة منها؟ قال عمرو: أجل، قال الإمام، فإني أدعوك إلى الشهادتين، قال عمرو: يا ابن أخي أخر هذه عني، قال الإمام: و الثاني، أن ترجع من حيث أتيت «أي تترك الحرب و ترجع إلى أهلك» قال عمرو: و لا تحدث قريش بهذا أبدا، قال الإمام: و الثالثة أن تنزل من على فرسك، فتقاتلني، فقبل عمرو ذلك، لكن امتلأ عمرو رعبا من الإمام و تبادلا السيف، فأصاب سيف عمرو رأس الإمام فشجه، فغضب الإمام، و ضرب عمرو ضربة أسقط رجليه، فخر على الأرض، و علت الغبرة، و مدّ الطرفان أعناقهما، ليروا الغالب من

المغلوب و لما انجلت الغبرة، رأوا الإمام جالسا على صدر عمرو، و كبّر الإمام تكبيرة عالية، و بهذا المنظر و التكبير، قويت قلوب المسلمين، و تزلزلت قلوب الكافرين، ثم قطع الإمام رأس عمرو، و أقبل به إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قتل بعض آخر ممن اقتحم الخندق، و فرّ الباقون، و تشتت كلمة الأحزاب، و ألقي الرعب في قلوبهم، و لم يطيقوا إدامة الحصار، و تخلت عنهم الأعراب، و بنو قريظة، و لذا تفرقوا من أطراف المدينة إلى مكة، و سائر محالهم، و قد كان قتلى المسلمين ستة، و قتلى الكفار دون العشرة، و مرّ الأمر بسلام، و زادت قوة المسلمين المعنوية، إلى حد هائل ممّا يئس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 314

[سورة الأحزاب (33): الآيات 12 الى 13]

وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)

الكفار، من النيل منهم بعد ذلك.

[13] وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الذين أظهروا الإسلام، و أبطنوا الكفر وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و المراد بهم ضعاف الإيمان، و إن لم يصلوا إلى حد النفاق، و المراد بالقلوب «النفوس» فإن الأخلاق المنحرفة، ضعف و مرض في القلب، كما أن أنواع العاهات ضعف و مرض في البدن ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ من النصرة على الأعداء إِلَّا غُرُوراً من «غار» و إنما سمي غرورا مبالغة، كأن الوعد قطعة من الغرور، من قبيل «زيد عدل»، قال ابن عباس: إن

المنافقين قالوا: يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى و قيصر، و نحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء هذا و الله الغرور «1».

[14] و إذ قد اشتد الخوف بالمسلمين، قال عبد الله بن أبيّ المنافق لأصحابه: ليس لكم هنا محل، فقوموا نرجع إلى المدينة، و جاء بعضهم إلى الرسول يستأذنوه معتذرين، بأن بيوتهم في المدينة، ليست بحريزة، فيخافون عليها اللصوص وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ أي جماعة مِنْهُمْ أي من المنافقين، و الذين في قلوبهم مرض يا أَهْلَ يَثْرِبَ فقد كانت المدينة تسمى «يثربا» قبل هجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم سميت بمدينة الرسول، ثم «المدينة» لا مُقامَ لَكُمْ أي لا محل لإقامتكم هنا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 193.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 315

[سورة الأحزاب (33): آية 14]

وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)

خارج المدينة بتوقع الظفر على الكفار فَارْجِعُوا إلى المدينة، حتى لا يصيبكم ما يصيب محمدا و المسلمين من الكفار، فقد زعموا أن الكفار يغلبون المسلمين لا محالة وَ يَسْتَأْذِنُ أي يطلب الإذن، في الرجوع إلى المدينة فَرِيقٌ مِنْهُمُ أي من أولئك المنافقين النَّبِيَ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هم بنو حارثة، و بنو سلمة يَقُولُونَ للرسول في عذرهم للانصراف إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي ليست حصينة، من عور إذا نقص، و منه الأعور، و يقول الله سبحانه في تكذيب عذرهم وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ أي كذبوا في عذرهم، إن بيوتهم لم تكن عورة يخشى عليها من اللصوص و الأعداء، فقد كانت حريزة حصينة إِنْ يُرِيدُونَ أي ما يريد هؤلاء المستأذنون إِلَّا فِراراً من الحرب و

هربا من القتال و أتعابه.

[15] ثم يمثل الله سبحانه نفسية هؤلاء المنافقين، بأنهم كانوا بحيث إذا دخل الأعداء المدينة ثم طلبوا من هؤلاء الشرك، و أن يكونوا معهم في صف واحد مقابل المسلمين، لأسرعوا في إجابتهم، فكيف لم تكن بيوتهم عورة، حينذاك، و بيوتهم عورة، حين كانوا مع المسلمين؟

وَ لَوْ دُخِلَتْ المدينة، أو البيوت عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المنافقين مِنْ أَقْطارِها أي من جوانبها، بأن ظفر الكفار، و دخلوا بيوت هؤلاء من جوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي سأل الكفار الغازون هؤلاء المنافقين، أن يشركوا و يكونوا معهم في صف قبال الرسول و أصحابه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 316

[سورة الأحزاب (33): الآيات 15 الى 16]

وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)

لَآتَوْها أي لأعطوا هؤلاء المنافقون الكفار ما أرادوا من الفتنة، و انضموا تحت لوائهم وَ ما تَلَبَّثُوا بِها أي ما مكثوا و تريثوا في قبول الفتنة، كأنهم باقون فيها، لم يرفضوا و لم يقبلوا كالإنسان الماكث بالمدينة، في مقابل من خرج من الفتنة بالجزم، إما بالقبول أو الرفض إِلَّا يَسِيراً فإنهم لم يكونوا يترددون في قبول الفتنة، إلا في زمان قليل، ثم يفتتنون بقبول الشرك و الدخول في صف الأحزاب المشركة.

[16] و كيف يولي هؤلاء الدبر، و يرون الفرار من الجهاد وَ الحال أنهم لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل الخندق لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ فإنهم لما بايعوا النبي حلفوا أن ينصروه و أن يقفوا في صفه، و أن لا يسلموه لعدوه وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ

مَسْؤُلًا أي يسأل عنه يوم القيامة، ماذا فعلوا بعهده، هل وفوا أم نقضوا؟

[17] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المنافقين الذين يريدون الفرار خوف القتل لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ في تأخير آجالكم إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ بأن خفتم الموت خوفا أَوِ الْقَتْلِ بأن يغلب الأعداء فيقتلوكم، فإن آجالكم إن حضرتم أخذتكم و لو في غير ساحة القتال، و إن لم تحضر لم يأخذكم الأجل، و لو في ساحة القتال وَ إِذاً أي إذا فررتم من الموت أو القتل لا تُمَتَّعُونَ في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا فإن مدة الحياة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 317

[سورة الأحزاب (33): الآيات 17 الى 18]

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)

قليلة تنقضي و تنصرم بسرعة.

[18] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يريدون الفرار إن فراركم غير مفيد، فإن أراد الله بكم سوءا جاءكم، و لو في بيوتكم، و إن أراد بكم رحمة جاءتكم الرحمة، و لو في ساحة القتال، فما فائدة الفرار؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أي يحفظكم من أمره و بأسه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً موتا أو قتلا أو عذابا؟ أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً من ذا الذي يتمكن أن يحول بينكم و بين الرحمة، التي يريدها الله بكم؟ فكل شي ء من طرفه سبحانه، و لا يتمكن أحد من تغيير أمره وَ لا يَجِدُونَ أي هؤلاء الذين يريدون الفرار لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه وَلِيًّا يلي أمورهم و يتولى شؤونهم وَ لا نَصِيراً

ينصرهم، و يغلبهم على أعدائهم.

[19] ثم هدد الله سبحانه الذين يثبطون غيرهم عن الجهاد بقوله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ و قد، إما للتحقيق، قالوا فإنها تدخل- أحيانا- على المضارع، بمعنى التحقيق، لا التقليل الذي هو الأصل فيه، و إما للتقليل للإشارة إلى أن احتمال علم الله بتعويقهم كاف، في أن ينتهوا، كما تقول لمن تريد تهديده: يمكن أن أعلم عملك، تريد أن الإمكان كاف في انقلاعه عن عمله السيئ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ و المعوق هو المثبط غيره عن الجهاد بتخويفه من الأعداء وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ أحزابهم من المنافقين هَلُمَّ إِلَيْنا أي أقبلوا إلينا نتنحى عن القتال ناحية، و لا نوقع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 318

[سورة الأحزاب (33): آية 19]

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)

أنفسنا في التهلكة وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي يحضرون القتال إِلَّا قَلِيلًا فيما إذا أجبروا و خافوا على سمعتهم، أو حضروه، رياء، بخلاف المؤمنين، فإنهم أسرع شي ء إلى القتال، و كيف لا يحضرون، و هم يعلمون إن قتلوا أو قتلوا كان جزاءهم الجنة؟

[20] و إن هؤلاء المنافقين الذين يعوقون الناس، و لا يحضرون الحرب، يكونون أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون الصادقون، و أشحة جمع شحيح، بمعنى البخيل، أي أنهم بالنسبة إليكم بخلاء، لا يبذلون مالا و لا نفسا فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ بأن تجمعت الأعداء، و وجب الجهاد رَأَيْتَهُمْ أيها الرسول، أو أيها الرائي يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي تتقلب من هنا و هناك كما هي عادة الخائف، يدور بعينه ليجد ملجأ و

ملاذا، و إنما يكفي النظر إلى الرسول، أو إلى المؤمنين، ليرى ماذا يأمر، و يقولون: هل ما ينفعهم حتى يستريحوا؟ أم ما يزيد خوفهم؟

حتى يفكروا في النجاة و الخلاص، فيكثرون النظر، لئلا يفوتهم شي ء كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ و هو الذي قرب موته و غشيته أسبابه، فإنه يكثر النظر هنا و هناك يتطلب علاجا و مناصا فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ و جاء الأمن و الغنيمة سَلَقُوكُمْ أيها المؤمنون، و سلق، بمعنى صاح و رفع صوته بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي أنهم تكلموا معكم حول جهادهم المزعوم، و حول حصتهم من الغنائم، و حديد ضد الكليل أي ألسنة ذرية بليغة، في جهر و صياح و جرأة، كأنهم كانوا كل شي ء، و هكذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 319

[سورة الأحزاب (33): آية 20]

يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)

دائما الجبناء يعملون قليلا و يقولون كثيرا أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي الغنيمة، فهم بخلاء غاية البخل، أن يذهب و يفوتهم شي ء من الغنيمة، التي ما اشتركوا فيها أُولئِكَ الذين تلك صفاتهم، و هم المنافقون في كل زمان لَمْ يُؤْمِنُوا إيمانا من الأعماق، و إنما تظاهروا بالإيمان نفاقا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أبطل ما عملوا من الأعمال الظاهرية، لأنها لم تصدر من الإيمان وَ كانَ ذلِكَ الإحباط لأعمالهم عَلَى اللَّهِ يَسِيراً فإنه لا يجازيهم، لا يتمكن أحد منهم من معارضته، كما كانوا يتمكنون من معارضة المؤمنين في الدنيا.

[21] إن هؤلاء المنافقين يَحْسَبُونَ أي يظنون الْأَحْزابَ التي جاءت لقتال المسلمين لَمْ يَذْهَبُوا و لم يرجعوا، و قد ظنوا ذلك لجبنهم، فإن الإنسان الجبان يخيل

إليه أن الخوف بعد باق لم ينكشف وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ مرة ثانية، بأن يرجعوا إلى القتال يَوَدُّوا أي هؤلاء المنافقون لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي يكونون في البادية مع الأعراب، و معنى «بادون» ظاهرون، فكأن الإنسان الذي في المدينة مستور أما في الصحراء، فهو ظاهر باد يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي أخباركم هل غلب المؤمنون أم الكفار؟ و هكذا يكون الأناس الجبناء يحبون أن يكونوا بمعزل عن الحوادث، و إنما يجترون بالأخبار، لقتل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 320

[سورة الأحزاب (33): الآيات 21 الى 22]

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً (22)

الوقت، و إملاء فراغ حياتهم، بعكس الشجعان و العاملين الذين لا يحبون إلا المعارك و المقام وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ حين رجوع الأحزاب، و يكونون هم- حسب رغبتهم- في البادية ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي قتالا قليلا لمجرد الرياء و السمعة، لا عن إيمان و عقيدة.

[22] و اللازم على المؤمن أن يقتدي بالرسول، كيف يجاهد و يصبر في المعارك لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المسلمون فِي رَسُولِ اللَّهِ أي في سيرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صبره و عنائه في الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ مقتدى صالحا، بحيث يراه الناس فيعملون كما يعمل، و الأسوة من الاتساء «كما أن القدوة من الاقتداء» بمعنى الاقتداء، و المتابعة لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ أي يرجو ثواب الله و نعيمه، و يرجو أن يكون في

اليوم الآخر من الفائزين، و «لمن» بدل من «لكم» و الرسول أسوة حسنة لمطلق الناس، و إنما من كان يرجو الله يتأسى، فكان أسوة له، إذ الانتفاع بهذا المقتدى عائدا إليه وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً فإن من ذكره سبحانه ترسخ في كيانه، الخوف من الله سبحانه، فيطيع أوامره، و يقتدي برسوله، فيما عمل و سار.

[23] وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ الذين تحزبوا لقتال الرسول، و إبادة الإسلام قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ

فقد روي إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 321

[سورة الأحزاب (33): آية 23]

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)

قال سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، و العاقبة لكم عليهم

«1»، و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما سائرون إليكم بعد تسع أو عشر

، و لذا لما رآهم المؤمنون، قالوا: هذا ما وعدنا الله و رسوله وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ فيما أخبرنا من المبدأ و العاقبة، و الإتيان باسم الله، لأن الرسول كان ينقل ما يقول عن الله سبحانه وَ ما زادَهُمْ لقاء عدوهم إِلَّا إِيماناً فإن الإنسان كلما كثر عنده شواهد الإيمان قويت ملكته، و اشتدت حالته النفسية في العلاقة و الانقياد وَ تَسْلِيماً لأوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[24] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ صدقوا في كلامهم و عهدهم مع الله، إن يصبروا و يثبتوا أمام الأعداء فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ النحب النذر، و يقال للموت، نحب، لأنه كنذر ثابت لازم في ذمة الإنسان و على رقبته، و المراد

منهم من قد قتل و استشهد في سبيل إنجاز عهده وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الاستشهاد وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أي ما غيروا العهد الذي عاهدوا الله عليه، بأن يفروا من الميدان، كالمنافقين الذين ورد فيهم (وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) «2» و

قد ورد أن من قضى نحبه، حمزة و جعفر بن أبي طالب، و من ينتظر علي عليه السّلام

«3»، و هذا من باب أظهر المصاديق، و إلا فالآية عامة، كما لا يخفى.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 144.

(2) الأحزاب: 16.

(3) بحار الأنوار: ج 22 ص 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 322

[سورة الأحزاب (33): الآيات 24 الى 25]

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)

[25] و إنما ابتلى الله المؤمنين بهذا الابتلاء الذي زلزلوا فيه زلزالا شديدا، لإظهار كوامن المسلمين لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ من المؤمنين، في عهدهم بسبب صدقهم في الثبات و الصبر وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ بنقض عهدهم و فرارهم و خذلانهم إِنْ شاءَ إن بقوا على النفاق، فإن مشيئته سبحانه معلقة على ذلك أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا، و هذا ليس مما دخله «اللام» المقدر في «ليعذب» و إنما بيان لأمر خارجي إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لمن استغفر و أناب رَحِيماً فيتفضل على التائب فوق الغفران بالفضل و الإحسان.

[26] وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أرجع الأحزاب، لما ألقى في قلوبهم من الرعب بِغَيْظِهِمْ أي بدون أن ينالوا من المسلمين، و يستشفوا غيظ قلوبهم الكامن على المسلمين و الإسلام، و الباء

بمعنى «مع» لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي مالا، بأن يقتلوا المسلمين، و ينهبوا أموالهم، و المال يسمى خيرا، لأنه سبب للخير و الإحسان و الضيافة، و غيرهما، كما قال سبحانه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) «1» و قال (وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) «2» وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ فلم يقع قتال يؤذي المسلمين و إنما كفاهم الله

______________________________

(1) البقرة: 181.

(2) العاديات: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 323

[سورة الأحزاب (33): آية 26]

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)

سبحانه بواسطة الإمام أمير المؤمنين الذي قتل «عمروهم»، و بدد جمعهم بما ألقى في قلوبهم من الرعب وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا قادرا على ما يشاء من نصر المؤمنين، و هزيمة الكفار عَزِيزاً غالبا في سلطانه لا يغلبه أحد.

[27] و قد كانت بين المسلمين و بين بني قريظة معاهدة حسن الجوار، و لما جاء الأحزاب ذهب بعضهم إلى بني قريظة، يستميلهم في حرب الرسول، حتى نقضوا العهد، و جاءوا مع الأحزاب للقتال، مما أوسع المجال للرسول، أن يعاقبهم بعد الفراغ من غزوة الأحزاب، حيث ابتدءوا بالاعتداء على المؤمنين، في أحرج الساعات، و قصتهم، كما في «قادة الإسلام» «1» إن هؤلاء اليهود غدروا بالمسلمين في أشد أحوالهم، في حال حرب الأحزاب، و لو فرض أن غدرهم كان ينجح، لكان معناه إبادة المسلمين جميعا، و لذا

نزل جبرائيل عليه السّلام على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا: وضعت السلاح، و لم يضعه أهل السماء؟ انهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب، فو الله لأدقهم دق البيضة على الصخرة، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا

يصلي الناس العصر، إلا عند بني قريظة، و أعطى اللواء الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و معه المهاجرون، و انهالت قطعات الجيش الإسلامي صوب قريظة، حتى اكتملت ثلاثة آلاف، و لم يظلم ليل ذلك اليوم، إلا و المسلمون قد طوقوا الحصون، و انهارت أعصاب اليهود رعبا و خوفا، فها هم المسلمون الذين انتصروا يوم أمس على الأحزاب بكثرة عددها و عددها، و لذا استشاروا فيما

______________________________

(1) للمؤلف. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 324

بينهم حول الأمر؟ قال قائل منهم: أسلموا، لكنهم أبوا، و لم يرضخوا للإسلام، فقالوا انزلوا للحرب، لكنهم خافوا بأس المسلمين مع توفر السلاح و العتاد و المال و الطعام و الماء لديهم، و أخيرا أرسلوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستأذنونه الخروج، إلى «أذرعات» الشام؟ لكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبى، و بعد فكر و استشارة، و تداول رأى، أرسلوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يطلبون منه أن يفوض أمرهم إلى «سعد» فما شاء فعل فيهم، و قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قام «سعد» بالتحكيم، بعد ما أخذ العهود على الجانبين، ثم أمر أن ينزل قريظة عن حصونهم، و أن يضعوا السلاح

«1» ...، و لما نزلوا، حكم بقتل رجالهم الذين تآمروا على سلالة الإسلام و المسلمين، جزاء وفاقا، و قسمت الغنائم بين المسلمين وَ أَنْزَلَ الله الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي اليهود الذين صاروا عونا و ظهرا للأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بيان الذين- و هم اليهود قبيلة بني قريظة- مِنْ صَياصِيهِمْ أي من حصونهم، فقد أمر سعد أن ينزلوا من الحصون، و الصياصي جمع «صيصية» و هو

الحصن الممتنع وَ قَذَفَ أي ألقى فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى لم يتمكنوا من المحاربة فَرِيقاً منهم تَقْتُلُونَ أنتم أيها المسلمون، و هم الرجال وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً و هم الأطفال و النساء.

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 20 ص 159- 160.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 325

[سورة الأحزاب (33): الآيات 27 الى 28]

وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (27) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28)

[28] وَ أَوْرَثَكُمْ أي أعطاكم الله إرثا أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ أي حصونهم وَ أَمْوالَهُمْ وَ أورثكم أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي لم تأخذونها بالقتال، فإن الوطء هو الذهاب في الأرض، و لعلها كانت أرضا لبني قريظة خارج حصونهم، أو المراد أرض خيبر، أو مكة، أو غيرها، مما صارت بعد ذلك للمسلمين و لم يطأها بعد في هذا الحادث وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً و بقدرته أظفركم على هؤلاء اليهود بهذه السهولة و اليسر.

[29] و بمناسبة قصة الفتح و الغنيمة يأتي السياق ليشير إلى قصة وقعت بعد فتح خيبر،

قالوا لما رجع رسول الله من غزوة خيبر، أصاب كنز آل أبي الحقيق، فقلن أزواجه: أعطينا ما أصبت، فقال لهن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قسمة بين المسلمين على ما أمر الله عز و جل، فغضبن من ذلك، و قالت بعضهن: لعلك ترى، إنك إن طلقتنا، أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا؟ فلم يقع هذا الكلام من الرسول موقعا حسنا، فاعتزلهن رسول الله صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم في مشربة أم إبراهيم تسعة و عشرين يوما، ثم أنزل الله هذه الآية- و هي آية التخيير

«1»-.

فقامت أم سلمة أول من قامت، فقالت: قد اخترت الله و رسوله، فقمن كلهن، و قلن كما قالت أم سلمة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 189.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 326

[سورة الأحزاب (33): الآيات 29 الى 30]

وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

أي نساءك إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها أي سعة العيش، و كثر المال، و سائر زينة الدنيا فَتَعالَيْنَ أي هلمن إلي، ل أُمَتِّعْكُنَ و هي ما يعطى للمرأة عند طلاقها جبرا لكسر خاطرها بالطلاق وَ أُسَرِّحْكُنَ أي أطلقكن، فإن الطلاق تسريح للمرأة عن قيد الزواج سَراحاً جَمِيلًا و السراح الجميل، هو الطلاق من غير خصومة، و لا أكل حق لها.

[30] وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ ثواب اللَّهَ وَ تردن عشرة رَسُولَهُ بدون إرادتكن زينة الحياة الدنيا، زائدة على القدر اللائق بالرسول وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ و إرادتها عبارة عن العمل الصالح لأجلها فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ و إنما جاء بهذا، لأن مجرد الإرادة، لا تكفي للثواب، و إنما تحتاج إلى العمل أَجْراً عَظِيماً يعطيه لكنّ في الآخرة.

[31] يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي معصية ظاهرة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ في الآخرة ضِعْفَيْنِ ضعف للعصيان، و ضعف لأنها أسوة للنساء، و لمكانها من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و

المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 327

بالضعف المثل وَ كانَ ذلِكَ التعذيب ضعفين عَلَى اللَّهِ يَسِيراً فإن الأمر بيده، و يفعل كيفما يشاء مما تقتضيه الحكمة و الصلاح، و تقديم «الفاحشة» على «القنوت» لأن الكلام كان حول معصيتهن، بمخاشنة الكلام مع الرسول، كما أن الإتيان بلفظ «الفاحشة» التي هي المعصية المجاوزة للحد، و تأكيدها ب «المبينة» بمناسبة الموضوع، فإن عصيان النساء للرسول، كان من أعظم المعاصي، و إلا فكل معصية، أتين بها ظاهرة تكون كذلك، أما المعصية الخفية، فهل عذابها مضاعف أم لا، احتمالان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 329

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثاني و العشرون من آية (32) سورة الأحزاب إلى آية (28) سورة يس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 330

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 331

[سورة الأحزاب (33): الآيات 31 الى 32]

وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)

[32] وَ مَنْ يَقْنُتْ و القنوت هو الطاعة و الخضوع مِنْكُنَ يا نساء النبي لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ بأن تطع أوامرهما وَ تَعْمَلْ صالِحاً أي تأتي بهذا النوع من العمل، و هو الصالح دون الطالح، و كأن القنوت مقدمة على العمل، إذ هو الخضوع نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ مرة في الدنيا بالإعظام و الإكرام، و مرة بالآخرة بجنات النعيم، أو المراد نعطيها أجرين و ثوابين في الآخرة بمقابلة «يُضاعَفْ لَهَا

الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» وَ أَعْتَدْنا أي هيئنا في الآخرة لَها رِزْقاً كَرِيماً نرزقها بإكرام و إعظام، و قيل الكريم ما سلم من كل آفة و نقص.

[33] يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَ أنتنّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي كسائر النساء، فإنكن أعظم شأنا، و أعلى منزلة لمكانكن من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنِ اتَّقَيْتُنَ أي إن كنتن متقيات خائفات من الله سبحانه فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي إذا أردتنّ الكلام في محضر حضره الأجنبي، فلا ترققن الكلام و لا تلن في الحديث، و الخضوع عبارة عن الكيفية، و إن كان مفهوم الآية شامل لمادة الكلام أيضا، بأن لا يكون مثيرا مهيجا فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ و هو من انحرفت نفسه عن الجادة، حتى إذا سمع الكلام الرقيق، هاجت نفسه طمعا، و إن لم يكن يريد شيئا وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً جميلا حسنا، لا غزلا و تشبيبا، بريئا من كل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 332

[سورة الأحزاب (33): آية 33]

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)

التواء و انحراف.

و لا يخفى أن نساء النبي، حيث أنهن كن أسوة للنساء- أسوة طبيعية- كانت الآيات موجهة إليهن، و إلا فما اشتملت عليه هذه الآيات، عامة لكل النساء، و إن كان في حقهن أكثر إلا ما خرج بالدليل ككون نسائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمهات المؤمنين، أما قوله «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» فإنما هو للترغيب و التحريض، و بيان أن منزلتهن تقتضي التحفظ بهذه الوصايا أكثر، كما يقول العالم لولده:

إنك لست كسائر الناس، فلا تقامر، و لا تشرب الخمر، و هكذا.

[34] وَ قَرْنَ أي أقررن و استقررن فِي بُيُوتِكُنَ أي منازلكن، فلا تخرجن للحرب و ما أشبه وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي لا تخرجن من البيوت باديات الزينة، كما كانت نساء الجاهلية تفعل، فإنّ برج، بمعنى ظهر، و منه تسمى البارجة، و برج السور، و بروج الكواكب، لبروجها أي ظهورها، و من مصاديق التبرج، إلقاء المرأة عباءتها بين الرجال، كما كانت تفعله نساء الجاهلية وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ بالمداومة عليها بآدابها و شرائطها وَ آتِينَ الزَّكاةَ أي أعطين الزكاة المفروضة، أو مطلق الصلة وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمران به إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ هذا من قبيل الالتفات المذكور في علم البلاغة، الذي هو من محاسن الكلام، فإن المراد بأهل البيت «الرسول و علي و فاطمة و الحسن و الحسين» عليهم السّلام، بإجماع المفسرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 333

[سورة الأحزاب (33): آية 34]

وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)

المنصفين من العامة و الخاصة، كما وردت بذلك روايات متواترة «1»، و قد مر بنا غير مرة، إن من فنون البلاغة في القرآن الكريم، أن يوسّط كلاما جديدا، بين الجمل المتناسقة، اتقاء عن ملالة السامع من كلام رتيب، و المراد بأهل البيت عليهم السّلام، بيت الرسول، و الذي يشهد أن المراد بالآية، ليست النساء، تغيير الأسلوب، فإن الخطاب كان بلفظ الجمع المؤنث «لستن» «اتقيتن» «لا تبرجن» و هكذا، و كذلك ما بعد الآية «و اذكرن» «في بيوتكن» حتى إذا وصل إلى هذا قال «عنكم» «يطهركم» و لا يخفى

أن الأئمة عليهم السّلام داخلون في أهل البيت بالنصوص المتواترة وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و معنى الإرادة، الإرادة التكوينية، و هي الموجبة للعصمة، و هي المراد بالطهارة، و إلا فالإرادة التشريعية عامة للجميع، كما أن الطهارة عن القذارة الظاهرية عامة لا تختص حتى المسلمين، و لذا استدل علماؤنا بهذه الآية على عصمة الرسول و الصديقة و الأئمة الاثنى عشر (صلوات الله عليهم أجمعين)، و معنى العصمة أن يكون في الإنسان- بلطف الله سبحانه- وازع يمنعه عن العصيان مطلقا بدون أن ينافي ذلك اختياره، كالأم الحنون التي فيها وازع يمنعها عن قتل ولدها، و هذا الوازع من قبله سبحانه، و لا ينافي اختيارها و محل تفصيل الكلام في علم الكلام.

[35] وَ اذْكُرْنَ يا نساء النبي ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ أي ما يقرأ، و القارئ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الإتيان بلفظ في «بيوتكن» لعله للحث و التحريض، فإن ما يتلى في بيت الإنسان من القرآن يزيده شرفا و عزا،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1 ص 424.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 334

[سورة الأحزاب (33): آية 35]

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (35)

فمن الجدير أن يستمسك بعزه و فخره مِنْ آياتِ اللَّهِ أي القرآن وَ الْحِكْمَةِ لعل المراد بها كلمات الرسول و حكمه، و المراد بالذكر، إما التحفظ و القراءة، و إما التذكر إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً ذا فضل و

من لطفه و فضله، خصكن بهذه الكرامة خَبِيراً يعلم ما تصنعن من الأمور، فيجازيكن على أعمالكن.

[36] ثم ذكر الله سبحانه استواء الرجال و النساء في أحكام الإيمان- إلا ما خرج بالدليل.

روي في المجمع عن مقاتل بن حيان، أنه قال: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت: هل نزل فينا شي ء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة و خسار، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و مم ذلك؟ فقالت: لأنهن لا يذكرن بخير، كما يذكر الرجال، فانزل الله هذه الآية

«1» إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ و المسلم هو الذي سلّم لأوامر الله و الرسول، سواء دخل الإيمان قلبه أم لا، كما قال سبحانه: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) «2» وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ و المؤمن هو الذي دخل التصديق قلبه، و التزم بأحكام الإسلام وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 158.

(2) الحجرات: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 335

و القنوت، هو الخضوع لله سبحانه، فإن الخضوع رتبة فوق الإيمان أو المراد بالقانت المداوم على الطاعة، أو الداعي وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ و الصادق هو الذي يصدق في عقيدة و قول و عمل، فالشرك كذب و قول لا إله للكون كذب، و العمل الريائي كذب وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ و الصبر إما على الطاعة، و إما عن المعصية، و إما في المصيبة، بأن يحفظ الإنسان نفسه،

فلا يترك الطاعة، أو يعمل بالمعصية أو يلقي نفسه في الجزع وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ الخشوع هو الخضوع أو الخوف وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ التصدق هو إخراج الصدقات و الزكوات وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ بالإمساك عن المفطرات، قربة إلى الله تعالى، بشرائطه و آدابه، و لعل عدم ذكر الصلاة و الزكاة، لأنهما داخلات في الإسلام وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ عن الزنا و اللواط و السحق و الاستمناء، و ما أشبه، وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً بدوام تذكر الله سبحانه حتى لا يصدر من الإنسان ما يخالف رضاه وَ الذَّاكِراتِ لله كثيرا، و قد حذف المتعلق لدلالة الكلام عليه، و كذا في «و الحافظات» أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي للمتصفين بهذه الصفات مَغْفِرَةً مصدر ميمي بمعنى الغفران، أي غفرانا لذنوبهم وَ أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا في الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 336

[سورة الأحزاب (33): آية 36]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)

[37] و إذ تقدمت قصة زوجات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أردن منه أموال خيبر، و امتنع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن إعطائهن، جاء السياق ليذكر الناس عامة، بأنه ليس لأحد أن يحكم بخلاف حكم الرسول وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً بأن أمرا بشي ء، أو نهيا عن شي ء أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي الاختيار مِنْ أَمْرِهِمْ أي من جهة أمر أنفسهم، بعد أوامر الله و الرسول وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بمخالفة أوامرهما، فَقَدْ

ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً أي انحرف عن طريق الهدى انحرافا واضحا،

قال في المجمع «نزلت في زينب بنت جحش الأسدية، و كانت أمها أميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فخطبها رسول الله على مولاه، زيد بن حارثة، و رأت أنه يخطبها على نفسه، فلما علمت أنه يخطبها على زيد، أبت و أنكرت، و قالت: أنا ابنة عمتك، فلم أكن لأفعل، و كذلك قال أخوها، عبد الله بن جحش، فنزل، و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة ..

الآية، يعني عبد الله بن جحش و أخته زينب، فلما نزلت الآية، قالت:

رضيت يا رسول الله، و جعلت أمرها بيد رسول الله، و كذلك أخوها، فأنكحها رسول الله زيدا، فدخل بها، و ساق إليها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة دنانير و ستين درهما مهرا، و خمارا ملحفة، و درعا، و إزارا، و خمسين مدّا من الطعام، و ثلاثين صاعا من تمر»

«1»، أقول و قد هدم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 337

[سورة الأحزاب (33): آية 37]

وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)

بذلك، ما كان مرسوما في الجاهلية من تكافؤ الدماء القبلي.

[38] لقد تزوج زيد زينب، ثم أراد الله سبحانه، أن يزيل العقبة التي كانت بعد

أمام المسلمين في أمر التزوج بنساء أدعيائهم، فقد كانوا يرون أن ذلك من قبيل نكاح الأب زوجة ابنه، و لذا لما طلق زيد زينبا- و لعله كان لما نقل أنها كانت حادة المزاج، فلم يتلاءم الزوجان- نكحها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تتميما للتشريع الذي سبق في أول السورة «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» و من غريب الأمر، أن جماعة من الناس اختلقوا حول هذه القصة روايات تنافي أصول الإسلام و العقيدة، حتى أن علي بن إبراهيم القمي، على جلالته لم يسلم من الوقوع ضحية ذلك الاختلاف، كما لم يسلم من الوقوع ضحية قول المعاندين في أن آية (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) «1» نزلت في أبي طالب عم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فسبحان من لم يخلق الإنسان معصوما إلا الأنبياء و الأئمة، و من إليهم وَ اذكر يا رسول الله إِذْ تَقُولُ لزيد بن حارثة الذي دعوته ابنا لك قبل نزول آية «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام و الإيمان، و مصاحبة الرسول وَ أَنْعَمْتَ أنت عَلَيْهِ بالكفاية و التربية و التحرير و التعليم، و تزويجه بزينب الشريفة الهاشمية أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ و لا تطلقها، فقد وقعت بينهما المشاجرة، فأراد زيد طلاقها- و قد تقدم أنها كانت ذات حدة في أخلاقها، كما ذكروا- و الإتيان بلفظ عليك، لما في الإمساك من الثقل، حتى كأنه

______________________________

(1) القصص: 57.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 338

حمل على الإنسان وَ اتَّقِ اللَّهَ يا زيد في مفارقتها و مضارتها، و معاشرتها، فلا تعاشرها إلا حسنا جميلا وَ قد كان الله سبحانه أخبر الرسول أنه سيطلق زينبا، و

أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتزوجها لرفع قاعدة «البنوة» الجاهلية، و لما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم ما يحدثه هذا العمل من الضجة، في ذلك المجتمع الجديد العهد بالإسلام، خشي إظهاره، و لذا قال سبحانه له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تُخْفِي فِي نَفْسِكَ يا رسول الله، إرادتك زواجها بأمر الله بعد طلاقها مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي الشي ء الذي يظهره الله بعد ذلك وَ تَخْشَى النَّاسَ و قد قال بعض: كيف يخشى النبي الناس؟ فلنقل:

هل كان النبي يخشى من العقرب أن تلدغه، أو السبع أن يفترسه؟ فإن قالوا نعم، قلنا: ما الفرق حتى أجزتم تلك الخشية، و لم تجوزوا هذه الخشية، من كلام الناس و طعنهم؟ و إن قالوا: لا، قلنا: فأيّ دليل على أن الخشية من المضر أو المؤذي ينافي مقام العصمة، فإن ما ثبت، أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معصوم، لا إنه مسلوب عنه صفات البشرية من خشية و اضطراب، و جوع و عطش، كما في قصة موسى عليه السّلام (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) «1» (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً) «2»، و في قصة يعقوب (وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ) «3»، و أما قوله وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فهو من باب الجناس المليح، نحو قوله (وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) «4» و

قول الرضا عليه السّلام «إن كنت باكيا لشي ء، فابك للحسين عليه

______________________________

(1) طه: 46.

(2) القصص: 22.

(3) يوسف: 14.

(4) الروم 56. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 339

[سورة الأحزاب (33): آية 38]

ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ

فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)

السلام»

«1» فإن الإنسان إذا هاج به وصف نفسي، قيل له، وجّه هذا الوصف إلى جهة أصلح، فمن هاجت به العاطفة نحو جاره، قلنا له:

اعطف على ولدك، أو نقول: إن ولدك أحق بالعطف، و لا نريد بذلك، أن العاطفة نحو الجار غير حسنة، و إنما نريد توجيهه نحو ما هو الأصلح بحاله فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها أي من زوجته زينب وَطَراً أي حاجة، بأن تم حاجته فيها، و طلقها، حيث لم يتلاءما زَوَّجْناكَها أي أمرنا بتزويج زينب لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ أي لتكون أنت أول من ينقض هذه العادة الجاهلية عملا حتى لا يتحرج المؤمنون بعدك من الزواج بزوجة المتبنى لهم إِذا قَضَوْا أولئك الأدعياء مِنْهُنَ أي من زوجاتهم وَطَراً أي حاجة، بأن طلقوهن، فإن الطلاق لا يكون إلا بعد عدم الرغبة، و الحاجة في الزوجة وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي أن الشي ء الذي يريده الله، لا بد و أن يفعل و يؤتى في الخارج، فتزوجها رسول الله و ضمها إلى نسائه.

[39] و إذ أثار هذا الأمر ضجة كبري بين الناس، جاء السياق ليردها، فقال سبحانه ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي عسر و ضيق و غضاضة فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي في الحكم الذي أثبته الله للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 14 ص 502.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 340

[سورة الأحزاب (33): آية 39]

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)

و الإتيان بلفظ «له» لأنه كان لنفع النبي صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم، و لا مثل سائر الواجبات، التي هي «عليه» فيها مشقة و كلفة سُنَّةَ اللَّهِ منصوب على المصدر، أي سنّ الله ذلك سنة، أي إن هذا التحليل، كان كسائر سنن الله في الأنبياء عليهم السّلام، و الأمم الماضين فِي الَّذِينَ خَلَوْا أي مضوا مِنْ قَبْلُ قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد كان سبحانه، يرفع الحرج عنهم، و يحل لهم ما فيه الصلاح وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً أي بقدر و قضاء مَقْدُوراً قد قدّر و حكم به ان ينفذ، فليس اعتباطا و ارتجالا،

روى عن الإمام الباقر عليه السّلام أن زينب مكثت عند زيد ما شاء الله، ثم أنهما تشاجرا في شي ء إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فاستأذن زيد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في طلاقها، و قال أن فيها كبرا، و أنها لتؤذيني بلسانها، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اتق الله، و أمسك عليك زوجك، و أحسن إليها، ثم أن زيدا طلقها، و انقضت عدتها، فأنزل الله سبحانه نكاحها على رسوله»

«1».

[40] و من هم الذين خلوا من قبل؟ هم الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ أي يؤدّونها إلى الناس كاملة، و باعتبار أن كل حكم رسالة، سميت الشريعة رسالات وَ يَخْشَوْنَهُ سبحانه، فيما أمر و نهى وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي لا يتركون حكما من أحكام الله خشية أحد، فإنهم لا يخشون إلا الله وحده، نعم من الممكن، أن يخشون الناس في أمر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 218.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 341

[سورة الأحزاب (33): الآيات 40 الى 41]

ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ

مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41)

آخر، كما قال (وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) «1» وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي حافظا لأعمال خلقه، و محاسبا و مجازيا عليها.

[41] و لما تزوج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زينب، جعلت الألسنة المنافقة تلوك، بأن الرسول تزوج زوجة ابنه، فقال سبحانه ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ فهو ليس أبا لزيد حتى يكون التزويج بزوجته تزويجا بزوجة الابن، و في الآية أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ليس أبا لرجالهم- و زيد من رجالهم- و ليس فيها أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس أبا لأحد، فإن القاسم و الطيب و الطاهر، و إبراهيم، كانوا أبناءه الصلبيين، و الإمامين الحسن و الحسين عليهما السّلام، كانوا أبناءه بواسطة سيدة نساء العالمين وَ لكِنْ كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَسُولَ اللَّهِ فينفّذ ما أمره الله سبحانه وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ أي آخرهم، قد ختمت به النبوة، و لذا يلزم عليه أن يبطل كل ما يخالف الصلاح العام، و ليس كالأنبياء الذين تقدموا، إن لم يمكن لهم إبطال أمر، جاء بعدهم نبي أخر ليبطله، و لذا كانت شرائعهم تتناسخ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً لا يخفى عليه المصالح و المفاسد، فلذا يأمر بالصالح، و لا يخفى عليه قول المنافقين في الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[42] و يأتي السياق بعد ذلك يربط القلوب بالله سبحانه، حتى لا يتحرجوا من حكم يفرضه مهما كان خلاف المألوف لديهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ

______________________________

(1) الأنفال: 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 342

[سورة الأحزاب (33): الآيات 42 الى 44]

وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)

هو تذكرة عند الأعمال، حتى لا يزيغ الإنسان في قول، أو عمل، أو نيّة، ذِكْراً كَثِيراً في مختلف أحوالكم و شؤونكم.

[43] وَ سَبِّحُوهُ و التسبيح هو التنزيه له سبحانه لفظا أو قلبا أو عملا بُكْرَةً صباحا وَ أَصِيلًا عصرا، و لعل ذلك كناية عن دوام التسبيح و استمراره.

[44] إن الله سبحانه يلطف بكم و يهديكم السبيل، فمن اللازم أن تقابلوه بالمثل، تذكروه و تسبحوه هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ و الصلاة في اللغة العطف و الميل، كما قال الشاعر «صلّى على جسم الحسين سيوفهم» و من المعلوم، أن صلاته سبحانه، الرحمة بالناس، و المغفرة لهم وَ مَلائِكَتُهُ أي تصلي ملائكته عليكم- و لا يكون ذلك إلا بإذنه- فالفضل يعود إليه تعالى أيضا، و صلاة الملائكة عطفهم نحو البشر بطلب المغفرة و الرحمة لهم و حفظهم عن الأخطار، بقدر ما يأذن الله لهم لِيُخْرِجَكُمْ الله، أيها المؤمنون مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فإن دروب الحياة مظلمة لا يراها الإنسان حتى يسير فيها بسلام، و إنما يقع في المشاكل و الاضطرابات كالإنسان الذي يسير في الظلمة يقع في الحفيرة، و يصطدم بالجدران، و صلاته سبحانه، و صلاة ملائكته، توجب إنارة الطريق، لأنه يرحم و برحمته يحفظ الإنسان من الزلّة وَ كانَ الله بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً يرحمهم و يلطف بهم.

[45] هذا للمؤمنين في الدنيا أما تَحِيَّتُهُمْ إذ يحييهم الله سبحانه

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 4، ص: 343

[سورة الأحزاب (33): الآيات 45 الى 47]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (46) وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47)

يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أي يلقون جزاءه و ثوابه، فهو سَلامٌ لفظي إذ يسلم الملائكة عليهم، و يبعث الله من يقول للمؤمن، إن ربك يقرؤك السلام، و معنوي فإن لهم السلامة من جميع الآفات و الأخطاء، إلى الأبد وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً أي ثوابا جزيلا يكرمهم.

[46] ثم يخاطب القرآن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلطف به في مقابل ذلك العمل الشاق الذي قام به من زواج زينب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ على الناس شاهِداً تشهد عليهم، ماذا صنعوا، و ماذا يصنعون؟ فإن الإنسان المعتدل يمكن أن يكون شاهدا، لا الإنسان المنحرف وَ مُبَشِّراً بالجنة و الثواب، لمن آمن و أطاع وَ نَذِيراً بالنار و العقاب لمن كفر أو عصى.

[47] وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ فأنت تدعو إلى الإذعان بالله، و إطاعته بِإِذْنِهِ فإن كل عمل يرتبط به سبحانه يحتاج إلى إذنه، حتى الدعوة إليه وَ سِراجاً أي مصباحا مُنِيراً يهتدى بك في الحياة، كما يهتدى بالمصباح في ظلمة الليل.

[48] وَ بَشِّرِ يا رسول الله الْمُؤْمِنِينَ الذين آمنوا و أطاعوا بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً فإنه يتفضل عليهم بفضل عظيم، هو إعطائهم خير الدنيا و سعادة الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 344

[سورة الأحزاب (33): الآيات 48 الى 49]

وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ

مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)

[49] وَ لا تُطِعِ يا رسول الله الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ بأن تسمع بعض كلامهم- الذي يزعمون أنه في صالحك، أو صالح المؤمنين- وَ دَعْ أَذاهُمْ أي اترك أن تؤذيهم فيما يفعلون ضدك، فإن كيدهم ضعيف يضمحل، أو المراد لا تعتن بأذيتهم لك، فإن أذاهم لا يضرك، فلا ينبغي أن تعير له أهمية، و لا يخفى أن هذا غير القتال، فإن ذلك بالنسبة إلى الأمور العادية، كالبذى ء من القول، لا بالنسبة إلى المناهج و الخطوط و الأنظمة وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ اجعله وكيلك في الأمور يجلب إليك الخير، و يدافع عنك الضر و الشر وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي كافيا و متكفلا و حافظا، و حيث أن الأصل «اكتف» جاء الباء في فاعل «كفى».

[50] و بمناسبة قصة نكاح زينب و طلاق زيد لها، يأتي السياق ليبين بعض أحكام الطلاق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أي زوجتموهن ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ أي من قبل الدخول بهن، فإن المس كناية عن ذلك، لا إنه بمعنى الإحساس فَما لَكُمْ أيها المؤمنون عَلَيْهِنَ أي على تلك المطلقات مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي تستوفونها بالعدد، فإذا طلقت المرأة قبل الدخول جاز لها أن تتزوج من ساعتها، لعدم وجود حكمة العدة فيها، فإن الحكمة- كما ذكروا-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 345

[سورة الأحزاب (33): آية 50]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها

لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)

استبراء رحمها- و إن كان هذا حكمة، لا علة تامة- فَمَتِّعُوهُنَ بما لهن عليكم من الحقوق الواجبة و المستحبة، و منها إعطائها المتعة، فيما إذا لم يفرض لها فريضة، و

قد ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام، أنه قال في هذه الآية «فَمَتِّعُوهُنَّ» أي جملوهنّ بما قدرتم عليه من معروف، فإنهن يرجعن بكآبة و وحشة، و همّ عظيم و شماتة من أعدائهن، فإن الله كريم يستحي «أي يفعل فعل المستحي» و يحب أهل الحياء، إن أكرمكم، أشدكم إكراما لحلائله»

«1» وَ سَرِّحُوهُنَ أي أطلقوهن و أخرجوهن من حبالتكم بعد الطلاق سَراحاً جَمِيلًا بلا إيذاء، و ذكر معايب و إهانة و منع حق- مما يعتاده الجهّال- و قد ذكروا، إن رجلا أراد طلاق زوجته، فقيل له: لماذا، قال: هي زوجتي و إن الرجل لا يذكر معايب زوجته، ثم طلقها، فقيل له: الآن، قل ما كان فيها من العيب، فقد خرجت عن زوجيتك، فقال: هي أجنبية، و إن الرجل لا يذكر معايب النساء الأجنبيات.

[51] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي جمع التي آتَيْتَ أي أعطيت أُجُورَهُنَ أي مهورهن، فإن المهر أجر على البضع، و لقد كان الرسول أعطى نساءه الموجودات عنده وقت نزول الآية، مهورهن، فليس القيد احترازيا، بل توضيحيا، و الآية، في مقام بيان النساء المحللات للرسول، فالمعنى أنه يحل لك طوائف من النساء، هؤلاء النسوة، الموجودات عندك و الوصيفات، و بنات العم و العمة،

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 506.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 4، ص: 346

و بنات الخال و الخالة، و المرأة التي تهب نفسها للنبي، ثم بيّن سبحانه أن للرسول الخيار في حفظ بعض زوجاته، و طلاقها، كما بيّن سبحانه، أن لا يحل له أن يأخذ فوق هذا العدد الموجود عنده من سائر النساء، أو تبدل بعضا ببعض، بأن تطلق من زوجاته، ليأخذ مكانها امرأة أخرى، و قد خصه الله سبحانه بجواز التسع، حين كف عنده، و نزلت آية (مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ) «1» فتفضل الله سبحانه بإحلاله للرسول، إبقاء جميع النسوة وَ أحللنا لك ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي الأمة، و إنما سميت ملك اليمين، لأن اليد اليمنى هي أكثر الأعضاء اكتسابا، فيكون الثمن عليها و الملك لها- مجازا- مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي أعطاك الله من الغنيمة و الأنفال، و سمي فيئا لأنه يرجع إلى صاحبه الأصلي، و هو الرسول، و كأن المال في يد الكفار مغصوب، فإذا رجع بأمر الله إلى المؤمنين كان فيئا و رجوعا إلى أصحابه الأصليين، و قد كانت زوجة النبي، مما ملكت يمينه مارية القبطية أم إبراهيم وَ بَناتِ عَمِّكَ و المراد مطلق الأعمام وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ و الاختلاف بين العم و العمة بالإفراد و الجمع للتفنن في الكلام، الذي هو من أبواب البلاغة وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ في اختلاف اللفظين ما تقدم اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قال في المجمع: «إن المراد ببنات العمة، نساء قريش، و ببنات الخالة نساء بني زهرة» «2»، و لعل التخصيص بهؤلاء النسوة،

______________________________

(1) النساء: 4.

(2) مجمع البيان: ج 8 ص 170.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 347

لعدم وجود غيرهن عند الهجرة، حتى تحل، كما إن تخصيصهن يهاجرن معك، لإفادة تحريم غير المهاجرات- و

لم يعلم أن الحكم نسخ بعد ذلك- وَ أحللنا لك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ بأن قالت، وهبت نفسي لك يا رسول اللّه، فإنه يجوز له نكاحها، و الحلية بلفظ الهبة، تخلص إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ يا رسول الله مِنْ دُونِ سائر الْمُؤْمِنِينَ فلا يحل لهم النساء، بلفظ الهبة قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أمر أَزْواجِهِمْ فإن المفروض للمؤمنين أن لا يتزوجوا فوق الأربع، و لا أن ينكحوا بلفظ الهبة، تمشيا مع نظام الصالح العام، أما الرسول فقد استثنى له بعض الأحكام لظروف خاصة، أحاطت به، كما أنه وجب عليه أمور لتلك الظروف أيضا وَ قد علمنا ما فرضنا في ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ حيث أبحنا لك الصفوة من الغنائم، إذا كانت جارية، و لم تبحها للمؤمنين، و معنى قد علمنا، أن هذا الحكم ليس اعتباطا، و إنما صادر عن علم و حكمة بالمصالح و المفاسد العامة و الخاصة، ثم بيّن ذلك بقوله لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ و ضيق في أمر الأزواج، فإن الرسول أكثر شغلا من أن يحرج عليه بعض الأمور الخاصة، كما أنه يقع في ضيق، إن أمر بطلاق، أو فك بعض نسائه التسع وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 348

خالف الأوامر، ثم تاب، كما وقع العصيان من بعض الأزواج، في قصة غنائم خيبر رَحِيماً يتفضل بالرحم و النعمة على رسوله و المؤمنين،

روى عن الإمام الباقر عليه السّلام، أنه قال جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو في منزل حفصة، و المرأة متلبسة متمشطة فدخلت على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

فقالت: يا رسول الله، إن المرأة لا تخطب الزوج، و أنا امرأة لا زوج لي منذ دهر، و لا ولد، فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك، إن قبلتني، فقال لها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خيرا، و دعا لها، ثم قال: يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا، فقد نصرني رجالكم، و رغبت فيّ نساؤكم، فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك و أجرأك و أنهمك للرجال؟

فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كفي عنها يا حفصة، فإنها خير منك، رغبت في رسول الله، فلمتيها و عبتيها، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للمرأة: انصرفي رحمك الله، فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك فيّ، و تعرضك لمحبتي و سروري، و سيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عز و جل، (وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً)

«1» «2»، و

عن الصادق عليه السّلام، قال «تزوج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخمسة عشر امرأة، و دخل بثلاثة عشر منهن، و قبض عن تسع، فأما اللتان لم يدخل بهما، ف «عمرة» و «السناة» و أما الثلاثة عشر اللواتي دخل فيهن، فأولهن «خديجة» بنت خويلد، ثم «سودة» بنت زمعة، ثم «أم سلمة» و اسمها هند بنت أبي أمية، ثم «أم عبد الله» ثم «عائشة» بنت أبي بكر، ثم «حفصة» بنت عمر، ثم «زينب» بنت خزيمة بن

______________________________

(1) الأحزاب: 51.

(2) الكافي: ج 5 ص 568. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 349

[سورة الأحزاب (33): آية 51]

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ

تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)

الحارث أم المساكين، ثم «زينب» بنت جحش، ثم «أم حبيب» أرملة بنت أبي سفيان، ثم «ميمونة» بنت الحارث، ثم «زينب» بنت عميس، ثم «جويرية» بنت الحارث، ثم «صفية» بنت حيّ بن أخطب، و التي وهبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و «خويلة» بنت حكيم السلمي، و كان له سريّتان يقسم لهما مع أزواجه «مارية القبطية» و «ريحانة الخندقية»، و التسع اللواتي قبض عنهن، عائشة، و حفصة، و أم سلمة، و زينب بنت جحش، و ميمونة بنت الحارث، و أم حبيب بنت أبي سفيان، و صفية، و جويرية، و سودة، و أفضلهن خديجة بنت خويلد، ثم أم سلمة، ثم ميمونة»

«1».

[52] تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ الإرجاء، هو التأخير، و المراد تبعد عن نفسك من تشاء من أزواجك وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي تجعل لها الإيواء، بأن تقربها إلى نفسك، قالوا: «و قد نزلت هذه الآية، إثر إعراض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنهن لما طالبن بغنائم خيبر، و أغلظن له في القول، فقد خيره الله سبحانه، بين الابتعاد عن بعضهن و الاقتراب منهن» «2» وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن- حسب اختيارك- و تضمها إليك فلا جناح عليك في ذلك ذلِكَ التفويض إلى مشيئتك في الإرجاء و الإيواء أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ أي يفرحن، فإن من فرح، قرت عينه،

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 20 ص 244.

(2) راجع مستدرك الوسائل: ج 15 ص 310.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص:

350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 399

[سورة الأحزاب (33): آية 52]

لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52)

و لم تضطرب هنا و هناك، ليجد ملجأ و مستقرا وَ لا يَحْزَنَ تأكيد لتقر أعينهن وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ أي بالحكم الذي ساويت فيه جميعهن، لأنك إن رجحت بعضا على بعض، كان ذلك مثار سخط المرجوحة، أما إذا سويت بينهن كلهن، في ذلك، و علمن أنك تنظر إليهن بنظرة واحدة رضين جميعهن وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خطاب عام، لكنه يراد به هنا الرسول و أزواجه، إذا وقع بينهما غضاضة، يوسوس الشيطان في قلوبهن وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بما في قلوبكم، لأنه يعلم كل شي ء حَلِيماً يحلم عنكم فيما تنوون و تعملون مما لا يرضاه.

[53] لا يَحِلُّ لَكَ يا رسول الله النِّساءُ مِنْ بَعْدُ هذه الأصناف المذكورة في الآيات المتقدمة وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ أي بهذه النساء مِنْ أَزْواجٍ بأن تطلق بعضهن، و تأخذ مكانها امرأة أخرى- كما هو ظاهر السياق، و قاله المفسرون- و وردت في بعض الروايات أن المراد أن يأخذ مما حرمته الآية في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) «1» «2» و على هذا فالمراد تبديل نوع المحلل بنوع المحرم، لا تبديل الشخص بشخص آخر، و هناك قول آخر ذكره جوامع الجامع، قال: قيل أن

______________________________

(1) النساء: 24.

(2) مستدرك الوسائل: ج 14 ص 361.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 351

[سورة الأحزاب (33): آية 53]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ

وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)

التبدل المحرم، هو ما كان يفعل في الجاهلية، يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك، و أبادلك بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه، و

يحكى «أن عيينة بن حصين، دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عيينة أين الاستئذان؟

قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط منذ أدركت، ثم قال:

من هذه الجميلة إلى جنبك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذه عائشة بنت أبي بكر «و لعله قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك خوفا، من أن يظن به الظنون» قال عيينة: أ فلا أنزل لك من أحسن الخلق، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد حرم ذلك، فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ فقال أحمق مطاع، و إنه على ما ترين لسيد قومه»

«1»! وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ بأن توصف المرأة للرسول، فتقع في قلبه لما وصف له من حسنها، و هذا ليس غريبا، فقد جرت العادة أن الآباء، أو من إليهم، يصفون بناتهم أمام العظماء للمشاورة في أمر نكاحهن، أو نحو ذلك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ بأن كانت أمة، فإنها تحل لك، و لعل

إتيان هذه الجملة، مع أنها كانت مذكورة سابقا، لئلا يتوهم، أن «لا يحل لك النساء» قد نسخ ذلك الحكم السابق وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً مراقبا محافظا، فمن خالف له أمرا عاقبه و جازاه بما عمل.

[54] و بمناسبة ذكر الرسول، و بعض أحكامه العائلية، يأتي السياق ليبين بعض الأحكام الخاصة به، و إن كان ذلك أدبا عاما بالنسبة إلى سائر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 238.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 352

الناس يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ و لعل هذا كان بمناسبة دخول عيينة دار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدون الاستئذان، و على أي، فدخول دار الرسول بحاجة إلى أن يأذن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكم إِلى طَعامٍ أي دخولا لطعام أضافكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ يقال أنى الطعام يأني إذا بلغ النضج في الطبخ، أي غير منتظرين نضجه و طبخه، و المعنى لا تدخلوا بيت الرسول بغير إذن و قبل نضج الطعام انتظارا لنضجه، فيطول لبثكم و مقامكم عنده وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا في وقت الدعوة، لا قبل الوقت، كأن يذهبوا من الصباح انتظارا لطعام الظهر فَإِذا طَعِمْتُمْ أي أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا أي اخرجوا و تفرقوا، فلا تبقوا بعد الطعام في البيت اعتباطا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ عطف على «غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» أي في حال كونكم لا تبقون بعد الطعام تحدثون ليؤنس بعضكم بعضا بحديثه إِنَّ ذلِكُمْ إشارة إلى ما نهى عنه في هذه الآية، من الدخول بغير استئذان، أو الإسراع في الذهاب قبل نضج الطعام، و الجلوس

بعد ذلك متحدثين، و «كم» للخطاب كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ لأن له أعمالا تنافي جلوسكم فيتأذى بجلوسكم، كما يتأذى بدخولكم داره بدون الإذن فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ في أن يجابهكم بالإخراج، أو الزجر و النهي وَ اللَّهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 353

لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ أي أنه سبحانه لا يترك إظهار الحق حياء،

نقل في المجمع في سبب نزول الآية: «أن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنى بزينب بنت جحش و أولم عليها، قال أنس: أو لم عليها بتمر و سويق، و ذبح شاتا، و بعث إلى أمي أم سليم بحيس في تور من حجارة، فأمرني رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أن أدعوا أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون و يأكلون و يخرجون، ثم يأتي القوم، فيأكلون و يخرجون، قلت: يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال ارفعوا طعامكم، فرفعوا طعامهم، و خرج القوم و بقي ثلاث نفر يتحدثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قمت معه لكي يخرجوا، فمشى حتى بلغ حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع و رجعت معه، فإذا هم جلوس مكانهم، فنزلت الآية»

«1». أقول: و إن كانت الآية خاصة، إلا أنها عامة المفاد، إذ ما اشتملت عليه أدب رفيع، بالنسبة إلى عدم الدخول بلا استئذان، و عدم الدخول قبل الوقت، و عدم المكث بعد الطعام، و لذا قال بعض العلماء: هذا أدب أدّب الله به الثقلاء وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَ أي سألتم نساء النبي مَتاعاً أي شيئا تحتاجون إليه فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن يكون فاصلا بين الرجل، و بين المرأة المسؤولة،

و هذه الآية تفيد وجوب الحجاب، لعدم الخصوصية لنساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عدم الخصوصية في سؤال المتاع ذلِكُمْ أي السؤال من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَ إذ الرؤية مثار الخواطر الشيطانية

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 173.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 354

[سورة الأحزاب (33): آية 54]

إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (54)

و الوساوس النفسية، و المراد الطهارة من الريبة و الشك و الوسوسة وَ ما كانَ لَكُمْ ايها المسلمون أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي لا يحق لكم أذاه بمخالفته أوامره، أو قصد سوء بالنسبة إلى نسائه بعد وفاته، و هذا توطئة و تمهيد لقوله تعالى وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ أي زوجات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ بَعْدِهِ أي بعد وفاته أَبَداً إلى آخر العمر، فلسن كسائر النساء، إذا انقضت العدة جاز نكاحهن إِنَّ ذلِكُمْ أي الإيذاء و نكاح الأزواج بعد وفاته كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً في الإثم و العصيان،

فقد ورد أنه لما نزل قوله تعالى (وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) «1» غضب طلحة، فقال يحرم محمد علينا نساءه، و يتزوج هو بنسائنا، لئن أمات الله محمدا لنركضن- أي نتحركن- بين خلاخيل نسائه، كما ركض بين خلاخيل نسائنا، فأنزل الله عز و جل «وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ».

[55] إِنْ تُبْدُوا أي تظهروا أيها المسلمون شَيْئاً من هذه المنهيات على لسانكم، بأن تقولوا نتزوج نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَوْ تُخْفُوهُ بأن تقصدوه في صدوركم بدون إظهار فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً يعلم ظواهركم و بواطنكم، و سيجازيكم على ما اقترفتم من الآثام،

و قد

______________________________

(1) الأحزاب: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 355

[سورة الأحزاب (33): آية 55]

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (55)

روي أن حكم تحريم زوجات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، جرى بعده فيمن لم يمسها الرسول، و لم يدخل بها.

[56] و لما نزل قوله تعالى، «إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» قال الآباء و الأبناء و الأقارب، و نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب- يا رسول الله؟- فأنزل الله سبحانه لا جُناحَ عَلَيْهِنَ أي لا حرج على نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فِي عدم التستر من آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَ و يشملان الأجداد و الأحفاد وَ لا إِخْوانِهِنَ و لعله أعم من الأعمام و الأخوال، لأنهم إخوان الآباء و الأمهات وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ فلا بأس لهن أن يراهن هؤلاء الرجال، فيما تعارف رؤيته وَ لا نِسائِهِنَ أي النساء المؤمنات، في قبال اليهودية و النصرانية، و المجوسية، و المشركة، فقد قالوا أنه لا يجوز التكشف لديهن، لأنهن يصفن لأزواجهن وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ أي الوصائف المملوكات لهن، و إن كن غير مسلمات، فإنهن تحت السيطرة، و لا مجال لهن لينقلن للكفار محاسن نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اتَّقِينَ يا نساء النبي اللَّهَ بترك معاصيه، و الإتيان بطاعته إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً أي شاهد لا يغيب عنه شي ء، فمن أطاع أو عصى علم بما فعل.

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 356

[سورة الأحزاب (33): الآيات 56 الى 57]

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57)

[57] و لما كان الكلام حول تعظيم النبي و توقيره، و بعض أحكامه يأتي السياق ليبين تعظيم الله سبحانه له و الذي هو فوق كل تعظيم إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ و الصلاة بمعنى العطف و اللطف، و من المعلوم أن صلاة الله على الرسول، رحمته و لطفه به، كما أن صلاة الملائكة عطفها و طلب رحمتها من الله له يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ باللفظ و العمل وَ سَلِّمُوا عليه تَسْلِيماً بلفظ السلام، و التسليم لأوامره،

سئل الكاظم عليه السّلام، ما معنى صلاة الله، و صلاة ملائكته، و صلاة المؤمن؟ قال: «صلاة الله رحمة من الله، و صلاة الملائكة تزكية منهم له، و صلاة المؤمنين دعاء منهم له»

«1»، و

سئل الصادق عليه السّلام كيف نصلي على محمد و آله؟ قال: «تقولون صلوات الله و صلوات ملائكته و أنبيائه و رسله و جميع خلقه على محمد و آل محمد و السلام عليه و رحمة الله و بركاته»

«2»، أقول: و الظاهر كفاية الصيغ المعهودة اللهم صل على محمد و آل محمد و سلم عليهم أو صلّى الله عليه و آله و سلّم، أو الصلاة و السلام عليك يا رسول الله، و على آلك الطاهرين، و أمثالها.

[58] الناس مأمورون بالصلاة و السلام على الرسول، فما هو حال من يؤذي الرسول؟ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ بترك أوامره، و السعي في إطفاء نوره،

و هدم أحكامه، و إيذاء أوليائه، فإن الله سبحانه منزه عن أن

______________________________

(1) تأويل الآيات: ص 451.

(2) وسائل الشيعة: ج 7 ص 196.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 357

[سورة الأحزاب (33): آية 58]

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (58)

يؤذى و لكن هذا من باب التشبيه وَ رَسُولَهُ و أذية الرسول، إما في جهة التشريع، كما لو سعى شخص في إبطال أحكام الرسول، و إما في جهته الشخصية كما يؤذي بعض الناس بعضا لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ بأن بعّدهم عن الخير، و عذّبهم؛ أما في الدنيا فإنه (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1» و أما في الآخرة، فإنه سبحانه يظهر لعنهم و البراءة منهم وَ أَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة عَذاباً مُهِيناً يهينه و يذله عوض ما كان يؤذي، و

قد ورد في علي و فاطمة عليهما السّلام «إن من آذاهما فقد آذى الرسول، و من آذى الرسول، فقد آذى الله»

«2».

[59] وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ باعتبار كل واحد، كما قالوا في البلاغة: إذا قيل باع القوم أمتعتهم بالقوم أريد به أن كل واحد باع متاعه بواحد منهم، و الأذية أعم من اللسانية و العملية بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي من غير أن يعمل المؤمنون و المؤمنات عملا يستحقون به الأذى، كما لو عملوا ما يستحق الجلد، أو الاغتياب، أو الإرداع فَقَدِ احْتَمَلُوا أي الذين يؤذون بُهْتاناً البهتان هو الكذب على الغير، و لعل تسمية الإيذاء بهتانا باعتبار، أن الإيذاء يظهر منه

______________________________

(1) طه: 125.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 17 ص 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 358

[سورة الأحزاب (33): آية 59]

يا أَيُّهَا

النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)

الاستحقاق لمن يؤذي، و الحال أنه غير مستحق وَ إِثْماً مُبِيناً أي عصيانا ظاهرا، و من هذا يظهر أنه كان في المدينة من يفعل ذلك بالنسبة إلى المؤمنين، و هذا غالبا في كل أمة نامية، فإن هناك أفراد يتولون أذاهم منهم و من غيرهم.

[60] و بمناسبة تقدم الحديث عن النساء و التنصيص على حجاب زوجات الرسول في قوله «وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» يأتي السياق لنص عام على وجوب التحجب على كل امرأة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ أي نسائك وَ بَناتِكَ فقد كانت للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاطمة عليها السّلام و لعل بعض بناته الأخر، كانت في الحياة وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ جمع جلباب، و هو ما كانت المرأة تجعل على رأسها، فقد أمرن، بأن يقرّبن الجلبات نحو أنفسهن، و هو الوجه و الرقبة و الصدر، فإن الجلباب، يدنى من هذه المواضع ذلِكَ الإدناء للجلباب ليكون لهن زيّ خاص أَدْنى أي أقرب إلى أَنْ يُعْرَفْنَ بأنهن عفائف نجيبات فَلا يُؤْذَيْنَ فإن عادة الفساق، دائما، حتى في زماننا هذا أن يتعرضوا إلى المرأة المتبذلة بظهور وجهها و شعرها، أما إذا كانت متسترة عرفت بالستر و النجابة، و لم يتعرض لها الفساق وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يغفر ما يصدر منهن، بدون تعهد و قصد، فإن المرأة مهما كانت محجبة، لا بد و أن يظهر بعض مفاتنها في نادر الأوقات رَحِيماً يتفضل بالرحمة- فوق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 359

[سورة الأحزاب (33): آية

60]

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60)

الغفران- على المطيعات، و إنما قال «من جلابيبهن» لأن المرأة ترخي بعض جلبابها، أقول: قد ذكر بعض المفسرين كلاما حول كون الآية، إنما هي بالنسبة إلى الحرائر، لا الإماء، لكن إطلاقها، و حكمة الإسلام في الحجاب، بأن لا تمازح المرأة مهما كانت، ينفيان هذا التفصيل الذي لم يعلم وجهه، ثم أن الظاهر من الآيات و الروايات، لزوم الحجاب بستر الوجه، و قد كانت سيرة المسلمات، منذ زمانه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على هذا، و لذا استثنى وجه المرأة حالة الإحرام، إلى غير ذلك من الشواهد، حتى جاء الغربيون و انهزم أمامهم بعض المسلمين الأغراء، فقالوا: بأن الحجاب موجب لخنق المرأة، و عدم ازدهار الحياة، كل ذلك لإشباع الشهوات الدنيوية، و هناك وجدوا عملاء ينفذون الأوامر بالحديد و النار، حتى وقعت المرأة المسلمة ضحية هذه الأهواء، و لم تنج من هذه الكوارث، إلا زمرة قليلة من الصالحات، و الله غالب على أمره.

[61] ثم هدد سبحانه الذين يؤذون الرسول و المؤمنين، و الذين كانوا يتعرضون للمؤمنات بأنهم إن لم يتركوا أعمالهم، أمر الرسول بتأديبهم لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ أي لئن لم يمتنع المنافقون عن الإيذاء و التعرض وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و هو ضعف إيمان، يسبب أن يخالف بعض الأوامر، و إن لم يكن منافقا، فمثلا قد يكون الشخص يشرب الخمر، لأنه منافق، لا يعتقد بالرسول إطلاقا، و قد يكون معتقدا بالرسول، لكنه يجد الشرب، فيشرب لا النفاق، بل لعدم مبالاة وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ يقال أرجف إذا دبّر المكائد، و نشر

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 360

[سورة الأحزاب (33): الآيات 61 الى 62]

مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)

الأكاذيب، لأنه يوجب بعمله تزلزل الناس و رجفهم، و المرجف يمكن أن يكون غير الأولين، باعتبار أنه يحب نشر الأخبار، و تتبع الآثار، كما يشاهد الإنسان في كل مجتمع هذه الألوان الثلاثة من الناس لَنُغْرِيَنَّكَ يا رسول الله بِهِمْ و الإغراء تسليط الشخص على غيره ليؤذيه و يهينه و يعاقبه، يقال أغرت الحكومة الشرطة على فلان و بفلان، إذا أمرتهم بمعاقبته و مطاردته، و المراد نسلطك يا رسول الله عليهم، و نأذن لك في عقابهم ثُمَ إذا أغريناك بهم، لم يطيقوا العقاب، و صاروا مضطرين للهروب من المدينة لا يُجاوِرُونَكَ فِيها أي لا يبقون بجوارك في المدينة إِلَّا قَلِيلًا أي زمانا قليلا.

[62] ثم بيّن بعض أنواع الإغراء بقوله مَلْعُونِينَ أي في حال كونهم يلعنون و يطردون أَيْنَما ثُقِفُوا أي في كل مكان وجدوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا فلا يبقى أحد منهم سالما من الطرد و القتل، و الإتيان بباب التفصيل- الدال على التكثير- باعتبار قتلهم جميعا، و إبادتهم كل فرد فرد.

[63] سُنَّةَ اللَّهِ منصوب على المصدر أي سن الله ذلك سنة، و المراد أن أخذ المنافقين المرجفين و أمثالهم من سنن الله و طرائقه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي مضوا سابقا فقد كان سبحانه يأمر الأنبياء بمطاردة المنافقين و المرجفين وَ لَنْ تَجِدَ يا رسول الله لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا فإنه سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 361

[سورة الأحزاب (33): الآيات 63 الى 65]

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ

وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (65)

يسنّ الطريقة الصالحة للناس، و يستمر عليها فلا يغيرها، و لا يبدلها.

[64] و إذ بيّن سبحانه، ما أعد للكافرين و المنافقين، الذين يؤذون الله و رسوله و المؤمنين في الدنيا من اللعنة و الطرد و القتل، عطف السياق، نحو ما أعدّ لهم في الآخرة، مع ذكر ما يرتبط بذلك من وقت القيامة، فإنها لما كانت بعيدة عن الأذهان، كانوا يكثرون السؤال عنها، فقال سبحانه يَسْئَلُكَ يا رسول الله النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة؟

قُلْ يا رسول الله لهم إِنَّما عِلْمُها أي العلم بوقت وقوعها عِنْدَ اللَّهِ سبحانه، فهو وحده يعلم وقتها وَ ما يُدْرِيكَ أيّ شي ء يدريك و يعلمك يا رسول الله عن وقت قيامها، و هذا كناية عن أنك لا تدري لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً فإن الشي ء المجهول وقته يحتمل قربه و بعده، و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما هو تهديد للكفار.

[65] إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ أي بعدهم عن الخير، فإن اللعن بمعنى الطرد، و التبعيد عن الخير وَ أَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة سَعِيراً نارا تسعر و تلتهب.

[66] في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي في النار، فلا يزولون عنها، و لا تزول عنهم أَبَداً دائم الزمان لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يلي أمورهم حتى يخلّصهم من النار وَ لا نَصِيراً ينصرهم على الله سبحانه و على عذابه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 362

[سورة الأحزاب (33): الآيات 66 الى 68]

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَ قالُوا رَبَّنا

إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)

[67] ذلك الإعداد و الخلود إنما هو، في يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ التقليب، تصريف الشي ء في الجهات، فإن أهل النار ينقلون وجوههم في الجهات الست، تخلصا من الحرّ و تطلبا للنجاة، كالذي يقع في مشكلة كيف يقلب وجهه هنا و هناك ليجد ملاذا و معاذا يَقُولُونَ بتأسف و تمني يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ فيما أمرنا وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا في الدنيا حتى لا نبتلي بهذا العذاب المقيم.

[68] وَ قالُوا أي الأتباع الذين اتبعوا رؤساءهم الكافرين، يا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا في الكفر و العصيان سادَتَنا جمع سيد، و هو كبير القوم وَ كُبَراءَنا جمع كبير، و كأن السيّد أجلّ قدرا من الكبير، أو المراد بالكبير، الأكبر سنا، و بالسيد الأعلى رتبة فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي حرّفوا بنا عن الطريق.

[69] رَبَّنا آتِهِمْ أي اجعل لهم ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي نصيبين نصيبا لضلالهم، و نصيبا لإضلالهم إيانا، و هم يريدون بذلك الانتقام منهم، حيث أوقعوهم في هذه المشكلة العظيمة وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي اطردهم من رحمتك طردا كبيرا حتى يبتعدوا عن رضاك بعدا زائدا، و هذا بالنسبة إلى العذاب الروحي، و الأول بالنسبة إلى العذاب الجسمي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 363

[سورة الأحزاب (33): الآيات 69 الى 71]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)

[70] و حيث تقدم أذى بعض المسلمين

للرسول كما قال سبحانه «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عطف السياق عليهم ناهيا و مؤدّبا في مثال و قصة عن الأمم السابقة، ليكون أدخل في الذهن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا في إيذائكم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى النبي عليه السّلام فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي أظهر الله براءته عليه السّلام، مما قال فيه بنو إسرائيل على وجه الإيذاء له وَ كانَ موسى عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي ذا جاه و عظمة، فلم يكن يتركه نهب أذى بني إسرائيل،

فقد ورد عن علي عليه السّلام «أن موسى و هارون صعدا الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل أنت قتلته، فأمر الله الملائكة فحملته، حتى مروا به على بني إسرائيل، و تكلمت الملائكة بموته، حتى عرفوا أنه قد مات، و برأه الله من ذلك»

«1».

[71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه، و امتثلوا أوامره و نواهيه وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي تكلموا بالصواب، لا بالإيذاء، و الإفساد.

[72] فإنكم إن فعلتم ذلك يُصْلِحْ لَكُمْ الله أَعْمالَكُمْ باللطف عليكم حتى تستقيموا، فإن الإنسان إذا واظب مدة على الطاعة، و ضبط النفس، استقامت أعماله عن الانحراف و الزيغ و الفساد وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 364

[سورة الأحزاب (33): آية 72]

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)

السابقة، فإن الحسنات يذهبن السيئات وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمران به و ينهيان عنه فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي أفلح أعظم أقسام

الفلاح، فإنه يفوز بخير الدنيا و سعادة الآخرة.

[73] إن الإيمان أمانة في عنق الإنسان، يجب عليه أن يردّ هذه الأمانة سالمة، بلا أن يشوبها، بخيانة الكفر و العصيان، و لقد كانت هذه الأمانة ثقيلة، بحيث أن أضخم المخلوقات لا تتحمل أن تقبلها، أما الإنسان الضعيف، فقد قبلها، لكنه يخون بها لظلمه و جهله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أمانة الإيمان عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ ليقبلوها، بأن توضع عندها أمانة الإيمان فيتحفظون عليها فَأَبَيْنَ هذه الأشياء و امتنعن أَنْ يَحْمِلْنَها أي يحملن الأمانة و يقبلنها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها أي خفن إن قبلوا الأمانة أن يخونوا فيها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ قبلها لما عرضت عليه لكنه هل يؤدي الأمانة كما قبل؟ كلا إِنَّهُ أي أن الإنسان كانَ ظَلُوماً كثير الظلم جَهُولًا كثير الجهل، فتارة يخون فيها لجهله، و أخرى يخون فيها لعصيانه، و هذه الآية كناية عن صعوبة التحفظ على الإيمان، فقد اعتاد البلغاء أن يشبهوا الأشياء المعنوية بالأمور الحسية، للتقريب من الذهن،

قالت فاطمة عليها السّلام

صبت عليّ مصائب لو أنها* صبت على الأيام صرن لياليا

«1»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 79 ص 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 365

[سورة الأحزاب (33): آية 73]

لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)

و قال الشاعر:

و لو أن ما بي من شديد رزيةعلى جبل قد ساخ في الأرض ذاهبا

و قال:

لو كان في الجبل الأصم سروره رقصت له أحجاره البرش

و يحتمل بعيدا أن يكون الكلام على الحقيقة- لا المجاز- بأن عرضت الأمانة على هذه الأشياء، هل يقبلنها؟ فأبين، قال في الصافي: المراد بالأمانة التكليف، و بعرضها عليهن النظر إلى

استعدادهن و بإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة و الاستعداد، و بحمل الإنسان قابليته و استعداده لها و كونه ظلوما جهولا، لما غلب عليه من القوة الغضبية و الشهوية، و هو وصف للجنس باعتبار الأغلب «1»، أقول: و على هذا المعنى، فما ورد في الأحاديث من كونها ولاية علي عليه السّلام، أو نحوها، فالمراد بيان بعض المصاديق.

[74] و إنما عرض سبحانه على الإنسان ليقبلها- فإن حمل الإنسان لها- لم يكن إلا بعد العرض و القبول، و ليجري الامتحان، و يصح الثواب و العقاب، كما يقول مدير المدرسة: إنما جعلت الامتحان لأرفع الناجحين و أطرد الراسبين لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ و إنما قدمهم على المشركين، لأن الكلام فيهم، حيث كانوا يؤذون

______________________________

(1) تفسير الصافي: ج 4 ص 206.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 366

الرسول و يرجفون وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الذين ضيعوا الأمانة بالكفر و العصيان وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ فإنهم حين كانوا كفارا- قبل الإسلام- كان الله معرضا عنهم، فإذا قبلوا الإيمان، و قاموا بشرائطه تاب الله- أي رجع سبحانه بلطفه- عليهم وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً للذنوب رَحِيماً يتفضل على المؤمنين بسابغ نعمه، علاوة على غفرانه ذنوبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 367

34 سورة سبأ مكيّة/ آياتها (55)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «سبأ» و قصة القوم الذين كانوا ساكنين فيها، و هي بلدة في يمن، و هي كسائر السور المكية- غالبا- مشتملة على أصول العقيدة، و بعض القصص التي تقوي هذا الجانب، و لما ختم الله سبحانه سورة الأحزاب بعاقبة الكافر و المؤمن، بدأ هذه السورة، بأن له تعالى، ما في الكون ابتداء و إعادة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الله

سبحانه المتجمع لجميع الكمالات، فإن الله علم للذات الواجب وجوده المتجمع لجميع الكمالات، و هذا هو سر تخصيص اسم الله بالتقديم، و الاستعانة باسمه، لا به، تعظيما و تأدبا، كأن الله سبحانه أجل من أن يستعان به، بل اللازم أن يستعان باسمه، و ذكر صفة الرحمة لأنها أكثر الصفات احتياجا، كما قال سبحانه «و لذلك- أي للرحم- خلقهم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 368

[سورة سبإ (34): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)

[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ أي أن جنس الحمد له سبحانه، إذ جميع المحامد راجعة إليه الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «له» بالخلق، و الملك و التربية، و غيرها، و المراد الظرف و المظروف، و إنما يذكر أحدهما تغليبا و اختصارا وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ كما له الحمد في الأولى، و المعنى أنه يستحق الحمد هنا و هناك، لما يولي عباده من الجميل في الدارين، و لذا يقول أهل الجنة «الحمد لله الذي هدانا لهذا» و «الحمد لله الذي صدقنا وعده» «1» وَ هُوَ الْحَكِيمُ في جميع أفعاله، و الحكمة هي وضع الأشياء مواضعها اللائقة بها تكوينا و تشريعا، فمن يصنع عبثا أو يأمر عبثا لم يكن حكيما الْخَبِيرُ العالم المطلع على الأشياء، فكل ما يعمل إنما هو عن علم و حكمة.

[3] يَعْلَمُ سبحانه ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ الولوج الدخول، أي يعلم ما يدخل في الأرض،

من مطر، أو كنز أو ميت، أو حبة، أو ماء، أو مائع، أو غيرها وَ ما يَخْرُجُ مِنْها من زرع، أو عين، أو نبات، أو جواهر، أو حيوان، أو غيرها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من مطر أو رزق، أو ملك أو شيطان، أو جسم كالنيازك أو طير، أو غيرها وَ ما يَعْرُجُ أي يصعد فِيها أي في السماء من ملك، أو شيطان، أو طير، أو عمل، أو نحوها، فإن المراد بالسماء جهة العلو وَ هُوَ الرَّحِيمُ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 192.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 369

[سورة سبإ (34): آية 3]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3)

بعباده، و سائر خلقه الْغَفُورُ يغفر ذنوبهم و يستر عيوبهم.

[4] فالكون إذن كله بيده، و رهن إشارته، و بقدرته سبحانه، جعل المعاد، كما بقدرته خلق الخلق وَ مع ذلك يرى الناس من ابتداء الخلقة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا و أنكروا البعث لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ من باب السالبة بانتفاء الموضوع، يعني لا قيامة أصلا حتى تأتينا قُلْ لهم يا رسول الله بَلى تأتيكم وَ رَبِّي أي و حق الله الذي أوجدني و خلقني لَتَأْتِيَنَّكُمْ القيامة بكل تأكيد، و ليس الحاكم هناك كالحكام هنا أناسا لا يعلمون ما صدر من المحكومين، بل الحاكم هناك عالِمِ الْغَيْبِ يعلم كل ما غاب عن الحواس، فكيف بالأشياء الظاهرة البارزة؟

لا يَعْزُبُ عَنْهُ الغروب، كالغروب لفظا و معنى، أي لا يفوته مِثْقالُ ذَرَّةٍ أي ما كان في الثقل بقدر الذرة، و هي الهباءة،

التي ترى إذا دخلت الشمس في مكان مظلم من كوّة صغيرة فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ فإنه عالم بكل ذلك وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ من مثقال ذرة وَ لا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كتاب واضح لديه سبحانه، و هذا كناية عن علمه بذلك كله مع تفنن في تعبير العلم ب- لا يغرب- مرة، و ب- في كتاب- أخرى، و المراد بالكتاب إما اللوح، أو علمه سبحانه تشبيها، أو ما يكتبه الملائكة الحفظة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 370

[سورة سبإ (34): الآيات 4 الى 6]

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

[5] و إنما تأتي الساعة، و تقوم القيامة لِيَجْزِيَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بما يستحقونه من الإيمان بالله، و العمل الصالح حسب أمره أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم، و «مغفرة» مصدر ميمي بمعنى الغفران وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ و المراد بالرزق كل نعمة ينعم الإنسان بها من جنة، و مأكل و غيرها، و المراد بالكريم كونه خاليا عن الفساد، و الأذية، أو أنه مع كرامة و تعظيم.

[6] و ليجزي الذين كفروا و عملوا السيئات بما يستحقونه من العذاب وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي عملوا بجهدهم في إبطال آياتنا و حججنا مُعاجِزِينَ في حال كونهم مريدين أن يعجزونا، فلا نتمكن من إظهار الدين و نشره في الآفاق، و إنما جي ء من باب المفاعلة، لأن كلّا من الطرفين، يريد تعجيز الآخر عن تنفيذ مبدئه

و مرامه أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ و هو العذاب السيئ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[7] إن الكفار يرون أن القرآن باطل و أن الرسول ليس بحق، و لذا يسعون لإحباط عمله و تعجيزه عن القيام بمهمته وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي أعطوا العلم بالله، و بالحقائق، و المراد العلماء الذين يدركون الأشياء الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مفعول «يرى» و المراد به «القرآن» مِنْ رَبِّكَ متعلق بالذي، و من تتمة المفعول الأول هُوَ الْحَقَ مفعول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 371

[سورة سبإ (34): الآيات 7 الى 8]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)

ثان، ليرى أي أنهم يرون و يعلمون، أن القرآن حق من جانب الله سبحانه، و ليس مختلفا، كما يقول الكفار وَ يرون أنه يَهْدِي و يرشد إِلى صِراطِ الله الْعَزِيزِ الغالب سلطانه الْحَمِيدِ الذي هو محمود في جميع أفعاله، فهو من قبل مالك السماوات و الأرض، و إنه للصلاح و الرشاد، إذ منزله الله الحميد الذي يستحق الحمد بكل ما يفعل- لحسنه و كونه صلاحا-.

[8] لقد ألمع إلى التوحيد و الرسالة و القرآن، ثم جاء دور المعاد وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و أنكروا المعاد، قال بعضهم لبعض هَلْ نَدُلُّكُمْ و نرشدكم و نريكم عَلى رَجُلٍ يعنون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُنَبِّئُكُمْ و يخبركم أنه إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي متم و صرتم أجزاء ممزقة مقطعة بعضها عن بعض، بجميع أنواع التمزيق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي يقول لكم إنكم تخلقون

بهذه الصورة من جديد، حتى تكونوا كما كنتم؟ و قد كان هذا استفهاما استهزائيا، يريدون بذلك استبعاد الأمر.

[9] ثم أخذوا يرددون بين أنفسهم، و ينسبون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى هذه الأمور أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي هل أنه في كلامه هذا مفتري على الله، فالله سبحانه لم يبعثه، و لم يقل له ذلك، و إنما هو ينسب إلى الله ذلك كذبا؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، و يسمى زوال العقل جنونا لأن المرض يستر العقل؟ و مرادهم أنه لا يخلو أن يكون إما عاقل كاذب، أو مجنون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 372

[سورة سبإ (34): آية 9]

أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

لا يشعر ما يقول، ثم رد الله سبحانه عليهم بأنه صادق عاقل، فليس الأمر كما قالوا بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المتعجبون من قول الرسول فِي الْعَذابِ هناك وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ هنا، فقد أثبت لهم أمرين، كما أنهم أثبتوا للرسول أحد أمرين، و المراد أن ضلالهم و انحرافهم عن الطريق بعيدا جدا، لا كالعاصي الذي هو ضال، و لكنه قريب إلى الطريق.

[10] إنهم كيف يستبعدون المعاد، و هم يرون الخلق العظيم أمامهم من قدرة الله، و هم يعلمون أنه سبحانه إن يشأ أن يعذبهم لتمكن من ذلك؟ فمن له قدرة على ذلك، كيف لا يكون له اقتدار على إعادة الأجساد؟ أَ فَلَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار، و الاستفهام إنكاري إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما في قدامهم وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ

وَ الْأَرْضِ المحيطة بهم، و الإتيان بهذين الجانبين كناية عن الإحاطة، فإن الإنسان مهما نظر أمامه، أو خلفه رأى السماء الرفيعة، و الأرض المنبسطة إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ بأن تفور الأرض، و هم عليها في الأعماق أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً أي قطعا، جمع كسفة بمعنى القطعة، أي نسقط عليهم قطعات مِنَ السَّماءِ لتهلكهم، فإن الأنجم أراضي كبيرة وسيعة ربما بلغت بعضها أكثر من مليون مرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 373

[سورة سبإ (34): آية 10]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)

كبرا من الأرض، فإذا شاء سبحانه أسقط على البشر قطعا منها حتى تهلكهم إِنَّ فِي ذلِكَ الذي يرون من السماء و الأرض، و ما يعلمون من قدرتنا على إهلاكهم بالخسف أو الإسقاط لَآيَةً دليلا واضحا على قدرة الله سبحانه على بعث الإنسان بعد موته لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قد أناب- أي رجع- إلى الله سبحانه عن كفره و عصيانه، فإنه هو الذي يستفيد بهذه الآية، أما الكافر العاصي، فلا يستفيد منها، بل يزداد عنادا و عتوا.

[11] و كيف ينكر هؤلاء قدرتنا، و قد كان لبعض عبيدنا قدرة هائلة، فداود كان يتصرف في الجبال و الحديد، و سليمان كان يتصرف في الهواء و يسخر الجن؟ و لعل الأمر كان معروفا لدى كفار مكة، بواسطة إخبار أهل الكتاب لهم، فكان من الممكن الاستدلال لعظيم القدرة، بما يصدر من هؤلاء الأنبياء العظام وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا داوُدَ النبي عليه السّلام مِنَّا من طرفنا، لا بكسب كسبه أو علم يعلمه فَضْلًا زيادة على سائر الناس من الإنعام و الإكرام، فقد قلنا للجبال يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «آب» بمعنى

رجع، أي ارجّعي صوت التسبيح مع داود، فكان إذا سبّح عليه السّلام، سبّحت الجبال معه وَ الطَّيْرَ أي يا طير أرجع مع داود في التسبيح، فقد كان داود عليه السّلام، إذا مرّ بالبراري يقرأ الزبور، و تسبح الجبال و الطير معه، و الوحوش، و إنما قال «أوّبي» لأنها كانت كالطفل الذي يرجع الصوت بعد سماعه وَ أَلَنَّا من ألانه لَهُ الْحَدِيدَ أي كان الحديد ليّنا في يده كالشمع، فكان يعمل منه الدروع.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 374

[سورة سبإ (34): الآيات 11 الى 12]

أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)

[12] و قد قلنا لداود عليه السّلام أَنِ اعْمَلْ بالحديد دروعا سابِغاتٍ جمع سابغة، بمعنى التامة الوسيعة، و منه سبوغ النعمة بمعنى وسعتها وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي عدّل في نسج الدروع، فإن السرد هو نسج الدرع مأخوذ من سرد في الكلام إذا تابع بعض جمله بعضا، و المراد بالتقدير جعل حلق الدرع متناسبة بقدر و شبه، فلا تكون بعضها وسيعة، و بعضها ضيقة،

روي عن الصادق عليه السّلام «أن الله أوحى إلى داود، نعم العبد أنت، إلا أنك تأكل من بيت المال، فبكى داود أربعين صباحا، فألان الله له الحديد، و كان يعمل كل يوم درعا، فيبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة و ستين درعا، فباعها بثلاثمائة و ستين ألفا، فاستغنى عن بيت المال»

«1» وَ اعْمَلُوا خطاب لداود و آله صالِحاً أي عملا صالحا، و المراد

به الجنس إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أرى أعمالكم فأجازيكم عليها.

[13] وَ سخرنا لِسُلَيْمانَ بن داود عليه السّلام الرِّيحَ فكان يجلس على بساط، فتحمله الريح، فإن الشي ء إنما يسقط، لأن الهواء و الريح تنخرق من تحته، أما كبت الهواء بعضه في بعض كالهواء المكبوس في الزق، لم تنخرق حتى يسقط ما يعلوها غُدُوُّها أي حركة الريح في الغدوة، و هو الصباح شَهْرٌ فإذا تحركت بسليمان صباحا، سارت به مقدار ما يسير الإنسان في مدة شهر هلالي وَ رَواحُها شَهْرٌ أي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 326.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 375

[سورة سبإ (34): آية 13]

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)

و كانت تسير بسليمان عصرا، مقدار شهر من الزمان، فكانت في كل يوم تسير مقدار شهرين وَ أَسَلْنا من الإسالة بمعنى الإذابة، حتى يكون للشي ء سيلان كالمائعات لَهُ أي لسليمان عليه السّلام عَيْنَ الْقِطْرِ أي أذبنا له عين النحاس، و المراد بالعين معدنه حتى يتمكن من استعماله في الظروف و الأواني، و ما أشبه من الأشياء النحاسية وَ سخرنا لسليمان عليه السّلام مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ كالعبد المطيع بِإِذْنِ رَبِّهِ فقد أمر الله سبحانه الجن، أن تكون مسخرة بأمر سليمان تعمل في حوائجه وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ من زاغ إذا انحرف و عصى، أي من كان يعصي من الجن عَنْ أَمْرِنا الذي أمرناهم به من إطاعة سليمان، فلم يكن يطيعه فيما يأمر نُذِقْهُ أي نذق ذلك الجن العاصي مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي عذاب الدنيا، بأن كان سليمان يؤدبه، و سمي سعيرا تشبيها، أو من عذاب

النار في الآخرة، و سمي سعيرا، لاستعار النار و اشتعالها.

[14] يَعْمَلُونَ أي الجن لَهُ أي لسليمان عليه السّلام ما يَشاءُ صنعه و عمله مِنْ مَحارِيبَ جمع محراب، و لعل المراد بها المساجد، و إنما سمي محرابا، لأنه محل المحاربة مع الشيطان و النفس وَ تَماثِيلَ جمع تمثال، و هو الشي ء المصنوع، من معدن، أو طين، أو حجر، أو خشب، شبه شي ء آخر، كتماثيل القصور و الأشجار و الأنهار و غيرها،

قال الصادق عليه السّلام «و الله ما هي تماثيل الرجال و النساء، و لكنها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 376

الشجر و شبهه»

«1» وَ جِفانٍ جمع جفنة، و هي جفنة الطعام كَالْجَوابِ أصله «الجوابي» جمع «جابية» كالروابي جمع رابية، و المراد بها الحياض الكبار، و سمى الحوض جابية لأنها تجمع فيها الماء، و منه يسمى الذي يجمع الضرائب و الأموال «جابي» و إنما كانوا يصنعون له مثل هذه الظروف الكبار، حتى تصلح لطعام جيش سليمان عليه السّلام، و قد قال بعض: أنه كان يجتمع حول كل جفنة ألف رجل يأكلون منها وَ قُدُورٍ جمع قدر، و هو ما يطبخ فيه الطعام راسِياتٍ جمع راسية بمعنى الثابتة في الأرض، فإن القدر الكبير، الذي يراد دوام الطبخ فيه، يبنى في الأرض، حتى لا يزول، و لا يتحرك، و قلنا لسليمان، و سائر أهل بيته اعْمَلُوا آلَ داوُدَ أي يا آل داود شُكْراً فإن الشكر قد يكون بالقلب، و هو أن يعترف الإنسان في قلبه، بأن الإحسان من الله سبحانه، و قد يكون باللسان؛ كأن يقول «الشكر لله» و قد يكون بالعمل بأن يصلي و يصوم، و يأتي، بسائر الواجبات، و يترك سائر المحرمات، فإن الشكر هو المظهر للجميل الاختياري،

الذي يأتي به أحد تجاه الإنسان وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «الشكور» صفة مشبهة، بمعنى من تكرر منه الشكر، أي أن العباد الشاكرين لله، فيما أنعم عليهم قليلون، و كأن الإتيان بهذه الجملة لتأكيد أن يشكروا، فإن الإنسان إذا علم قلة من على شاكلته في أمر قوي عزمه للعمل أكثر ممن يعلم كثرة أعوانه و أمثاله.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 377

[سورة سبإ (34): آية 14]

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)

[15] و قد استمر سليمان في ذلك الجلال و الملك، حتى جاءه الموت فَلَمَّا قَضَيْنا أي حكمنا عَلَيْهِ أي على سليمان عليه السّلام الْمَوْتَ كان قد اتكى على عصاه في قبة، و هو ينظر إلى الجن كيف يصنعون له، إذ حانت منه التفاتة، فإذا هو برجل معه في القبة، ففزع منه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أقبل الرشا، و لا أهاب الملوك، أنا ملك الموت، فقبض روحه، و هو متكئ على عصاه، فمكثت الجن، تدأب في العمل، و لما كانوا رأوا من سليمان العجائب، ظنوا أنه واقف، و لكنه لا يتحرك لحكمة و علة، حتى بعث الله عز و جل الأرضة، ف ما دَلَّهُمْ أي أرشدهم و أعلمهم عَلى مَوْتِهِ أي موت سليمان عليه السّلام إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي الأرضة، فأخذت تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ و تنخر فيها، فوقع سليمان على الأرض، و قد كان آصف وصيه يدبّر أمر الملك في مدة موته و اتكائه فَلَمَّا خَرَّ أي فلما سقط سليمان، بعد ما وهت عصاه، بفعل

الأرضة فتكسرت، لثقل جسم سليمان عليها تَبَيَّنَتِ الْجِنُ أي علمت الأجنة، و إنما أوتى بالفعل مؤنثا، باعتبار أن المراد ب «الجن» الجنس، فهي بمعنى الجماعة أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ أي ما غاب عن الحواس- فقد كانت الجن تزعم، أنها تعلم الغيب، لما كانت تعلم بعض ما لا يعلمه الإنس من الأشياء البعيدة الخفية- ما لَبِثُوا و بقوا تلك المدة التي مات فيها سليمان متكئا على عصاه فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي في شدة العمل و تعبه الذي يهينهم و يذلّهم فإن العمل كان عذابا عليهم، و شدة لهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 378

[سورة سبإ (34): الآيات 15 الى 16]

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)

[16] و إذ تمت قصة داود و سليمان عليما السّلام أتى السياق، لبيان قصة قوم سبأ، و ما وصلت إليه حالتهم لأجل كفرانهم للنعمة، في مقابل ما سبق من قصة داود و سليمان، و آلهما، و ما وصلت إليه حالتهم لأجل شكرهم للنعمة لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ أي لتلك القبيلة المسماة باسم سبأ، التي كانت تسكن في جنوبي اليمن، كان لهم في محل سكناهم آية دالة على لطف الله و فضله، فقد ارتقى القوم، في مراقي الحضارة، حتى تمكنوا أن يصنعوا من بعض الجبال، خزانا كبيرا من الماء، بإقامة سدّ، يسمى «سد مأرب» أمام الماء، فكان يسقي أراضيهم، حتى أن المار إليهم، يرى في الطريق بساتين متصلة، و قد فسر سبحانه

«آية» بقوله جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ أي يمين الماء و شماله، و قيل لهم كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ الأمر للإباحة، أي أبحنا لكم هذا الرزق الطيب العميم وَ اشْكُرُوا لَهُ أي لله سبحانه، فبلدتكم بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ كثيرة الفواكه و الأرزاق طيبة الماء و الهواء وَ رَبٌّ غَفُورٌ أي أن إلهكم إله يغفر الذنوب، و يستر العيوب.

[17] فَأَعْرَضُوا عن الدين، و انحرفوا في طرق الضلال فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ واحدهما عرمة مأخوذة من عرامة الماء، و هي ذهابه كل مذهب، أي السيل العظيم الشديد، و قد قال بعض المفسرين: «إن الماء كان يأتي أرض سبأ، من أودية اليمن، و كان هناك جبلان، يجتمع ماء المطر و السيول بينهما، فسدوا ما بين الجبلين، فإذا احتاجوا إلى الماء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 379

[سورة سبإ (34): آية 17]

ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)

نقبوا السدّ، بقدر الحاجة، فكانوا يسقون زروعهم و بساتينهم، فلما كذبوا رسلهم، و تركوا أمر الله، بعث الله جرذا نقب ذلك الردم، و فاض الماء عليهم، فأغرقهم» «1» وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ أي عوضا عن الخصب الذي كان لهم المكنى عنه بالجنتين عن اليمين و الشمال جَنَّتَيْنِ من شكل آخر، و هذا من باب الازدواج في الكلام نحو، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «2» ذَواتَيْ تثنية ذات أُكُلٍ خَمْطٍ «أكل» اسم للثمرة مهما كانت، و «خمط» كل شجر له شوك، و المراد مرّ بشع، و ذلك شجرة أم غيلان، التي تنبت في الصحاري القاحلة وَ أَثْلٍ الطرفاء وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ هو النبق قَلِيلٍ فقد كان الخمط و الأثل، أكثر منه، و هذا دليل على عدم الماء و

الزرع و الحضارة، حتى بقيت الصحاري يباسا، لا تنبت، إلا نباتات الصحراء، التي لا ينتفع بها إلا قليلا.

[18] ذلِكَ السيل العرم و التبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بسبب كفرهم وَ هَلْ نُجازِي بمثل هذا الجزاء السيئ إِلَّا الْكَفُورَ استفهام معناه النفي، أي لا نجازي بمثل هذا الجزاء إلا لمن كفر النعمة، و لم يشكر.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 210.

(2) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 380

[سورة سبإ (34): الآيات 18 الى 19]

وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

[19] وَ قد كان من قصة قوم سبأ، قبل أن يكفروا النعم، أن جَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين بلادهم في اليمن وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا أي الشام التي باركنا فِيها مبعث الأنبياء عليهم السّلام، و طيب الهواء و كثرة الزراعة و الفواكه قُرىً ظاهِرَةً أي متظاهرة متواصلة في عرض الطريق، فقد كان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام، و كانوا يبيتون بقرية، و يقيلون بأخرى، حتى يرجعوا في أمن و دعة و سلام، و كانوا لا يحتاجون إلى زاد من وادي سبأ إلى الشام، و كانت القرية ترى من القرية التي قبلها لظهور بعضها على بعض و قرب أحدها من الأخرى وَ قَدَّرْنا فِيهَا أي في تلك القرى السَّيْرَ أي جعلناه مقدرا ممكنا للأمن و السلامة، و سهولة الطريق، أو المعنى كان بين كل قرية و قرية بقدر مسير نصف يوم، و قلنا لهم سِيرُوا فِيها أي في هذه

الطريق أو في تلك القرى لَيالِيَ وَ أَيَّاماً فلا خوف، و لا صعوبة سواء سرتم ليلا أو نهارا آمِنِينَ من كل خطر و نصب، و جوع و عطش.

[20] و لكنهم لم يشكروا هذه النعم العظيمة، و لم يسمعوا كلام الله و أوامره، بل بغوا و بطروا فَقالُوا يا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا فقد مللنا من الأسفار القصيرة بين القرى المتقاربة التي لا يرى فيها الصحراء، و لا نتمكن من ركوب الرواحل، و تجهيز القوافل، فإنا نريد الصحاري القاحلة «لنلتذ لذة السفر»، و هذا كما بطرت اليهود النعمة فقالوا:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 381

[سورة سبإ (34): آية 20]

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)

(يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها) «1» وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب الكفر و المعاصي، فأخذناهم بكفرهم فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم و شأنهم و يضربون بهم المثل، فيقولون «تفرقوا أيادي سبأ» إذا أرادوا أن يبينوا تشتت جماعة أكبر تشتت وَ مَزَّقْناهُمْ أي فرقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ كل تفريق، و ذلك تشبيه بالثوب الذي يمزق في مختلف جوانبه، فقد تفرق أهل سبأ في مختلف البلاد، و ذهبت نعمهم جميعا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من قصة قوم نعمتهم و كفرهم و نقمتهم لَآياتٍ دالة على الأسباب و العلل، لترقي الأمم و انحطاطها لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر شَكُورٍ كثير الشكر، فإن من يصبر عند البلاء و يشكر عند الرخاء، يعرف سبب النعمة و النقمة، و يعرف كيف يعالج النعم للبقاء، و كيف يواجه بالصبر البلاء، أما غيره، فإنه يرى الآيات حتى يعرف المسببات من الأسباب.

[21] وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ أي

على قوم سبأ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي جعلهم موردا لظنه، الذي قال (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) «2» فصدّق الظن عليهم، حيث أغواهم و أبعدهم عن الطريق فَاتَّبَعُوهُ أي اتبع قوم سبأ إبليس فيما أمرهم من الكفر و العصيان إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «من» للتبين أي جماعة منهم فقط لم يتبعوه، و إلّا فالباقون اتبعوا الشيطان.

______________________________

(1) البقرة: 62.

(2) ص: 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 382

[سورة سبإ (34): الآيات 21 الى 22]

وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)

[22] وَ الحال أن الشيطان ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ أي على قوم سبأ مِنْ سُلْطانٍ أي سلطة، و ولاية يتمكن من جبرهم، و إنما كان يلقي إليهم، و يوسوس في صدورهم، و بهذا فقط باعوا دينهم و دنياهم، و حيث أن هنا يختلج سؤال أنه كيف مكّن الله إبليس عليهم؟ قال سبحانه إِلَّا لِنَعْلَمَ أي لم يكن تمكينه منهم، إلا لأجل أن يقع معلومنا في الخارج، فقد سبق، أن العلم إنما يتحقق بكماله، إذا كان هناك معلوم خارجي، فقولنا: علم الله، بمعنى أن معلومه صار خارجيا، و إن كان يعلم الأشياء من الأزل مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ عبّر عن المؤمن بذلك، للتلازم بين الإيمان بالله و الرسول، و بين الإيمان باليوم الآخر مِمَّنْ هُوَ مِنْها أي من الآخرة فِي شَكٍ فلا يؤمن بالآخرة، و الحاصل أن يتمكن الشيطان منهم، كان لأجل الاختبار و الامتحان، ليستحق

المؤمن الثواب، و الكافر العقاب وَ رَبُّكَ يا رسول الله عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ يحفظ ما عملوا ليجازيهم بأعمالهم.

[23] و إذ تمت قصة سبأ، يأتي السياق إلى المقصد الذي سيقت له تلك القصص من الإيمان بالله، و جاءت القصص لبيان عاقبة المؤمن و الكافر قُلِ يا رسول الله لهؤلاء الكفار ادْعُوا الأصنام الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ فانظروا، هل يستجيبون لكم، و هل يكشفون ضركم؟ كلا: إنهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي مقدار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 383

[سورة سبإ (34): آية 23]

وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

ثقل هباءة فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ فمن لا يملك شيئا كيف يتمكن أن يضر أو ينفع؟ و الإتيان بضمير الجمع العاقل، مماشاة مع القوم، و توحيدا للسياق في الرد و النقض، إذ كان الكفار يعتبرون الأصنام عاقلة عاملة وَ ما لَهُمْ أي للأصنام فِيهِما أي في السماوات و الأرض مِنْ شِرْكٍ أي من اشتراك، بأن خلق الله بعضهما، و خلقت الأصنام بعضهما وَ ما لَهُ أي لله سبحانه مِنْهُمْ أي من الأصنام مِنْ ظَهِيرٍ عاونه و عاضده على أمر، فهي ليست مالكة لشي ء، و لا شريكة في خلق، و لا معاونة في أمر، و من هذا شأنه، كيف يتمكن من دفع ضرّ، أو جلب نفع للمشركين الذين يعبدونه؟

[24] و أما ما يزعم هؤلاء، بأن الأصنام تشفع يوم القيام لهم، قائلين (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) «1» فإنه كذب، و وهم وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ تعالى إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فمن أذن الله له في

الشفاعة، شفع و قبلت شفاعته، و من لم يأذن له لم يتمكن من الشفاعة أصلا كما قال سبحانه (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» فالأصنام، لا تشفع، و الكفار ليسوا قابلين لأن يشفعهم أحد، فكلّا وهم المشركين، في الشافع و المشفوع

______________________________

(1) يونس: 19.

(2) الأنبياء: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 384

[سورة سبإ (34): آية 24]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)

له هباء باطل، و قد ظن هؤلاء الكفار، أن الشفاعة، و موقف القيامة، أمر هيّن، حتى أن الأصنام لتشفع، كلا! إنهم يحشرون في موقف رهيب، و يأخذ الفزع منهم كل مأخذ، حتى إذ أسماعهم لا تسمع- كما يكون الإنسان عند الخوف الرهيب- إذ تعطل حواسه- و كلهم منتظرون لإصدار الأوامر حتى يعرفوا ماذا مصيرهم؟ و يبقون في تلك الحالة حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي كشف الله الفزع عن قلوبهم و رجعوا إلى حالتهم الأولية، من الوعي و الإدراك «و يقال فزع عنه» أي كشف عنه الفزع، و هناك يسأل بعضهم بعضا إذ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ حول مصير الناس، كما يتساءل بعض المجرمين من بعضهم الآخر عن قرار المحكمة في حقهم- إذا لم يفهمه-؟ قالُوا أما الملائكة، أو المسؤولون من أمثالهم الْحَقَ فإنه سبحانه لا ينطق إلا بالحق، و هذا- على الاحتمال الثاني- مثل ما إذا سأل بعض من بعض عن قرار المحكمة، فإنه يجيب بقوله «على طبق القانون» وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي الرفيع العظيم، لا ينازع فيما قال، و هذا جواب يائس يستسلم للقضاء، فإن موقف القيامة، هكذا، فكيف تشفع الأصنام، في مثل ذلك الموقف المهول

المدهش.

[25] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين احتجاجا عليهم لإبطال شركهم مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ بإنزال المطر وَ الْأَرْضِ بإنبات النبات؟ فهل الرازق هو الله، أم آلهتكم؟. و طبيعي أن يسكت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 385

[سورة سبإ (34): آية 25]

قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)

المشركون عن الجواب إذ لو قالوا هو الله، كان حجة عليهم، و لا يملكون أن يقولوا هو الصنم، لوضوح كذب هذه المقالة و إذا فليرد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، الجواب قُلْ لهم إذا سكتوا اللَّهُ هو الذي يرزقكم، لا الأصنام وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ أيها المشركون لَعَلى هُدىً في طريقتنا أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ضلال واضح، و هذا على وجه الإنصاف، و إلا فالرسول كان يعلم أنه على هدى، و إنهم على ضلالة، كما

قال الإمام عليه السّلام في الأبيات المنسوبة إليه

قال المنجم و الطبيب كلاهما* لن يحشر الأموات، قلت إليكما إن كان قولكما، فلست بخاسر* أو كان قولي، فالخسار عليكما

«1» [26] قُلْ يا رسول الله، لهؤلاء الكفار لا تُسْئَلُونَ أيها الكفار، أنتم عَمَّا أَجْرَمْنا أي اقترفنا من الذنوب- بنظركم- أو المراد مجموع المؤمنين، فلا ينافي عصمة الرسول وَ لا نُسْئَلُ نحن يوم القيامة عَمَّا تَعْمَلُونَ أنتم أيها الكفار، و هذا كقوله (لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ) «2» فإن لم تقبلوا مقالي، فذنبكم عليكم، لا يرتبط بنا، و جي ء بقوله «لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا» توطئة و تمهيدا.

______________________________

(1) ديوان الإمام علي عليه السّلام: ص 396.

(2) الكافرون: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 386

[سورة سبإ (34): الآيات 26 الى 28]

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ

(26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)

[27] قُلْ يا رسول الله لهم يَجْمَعُ بَيْنَنا نحن و أنتم رَبُّنا يوم القيامة لنحاسب، فيعلم من المحق، و من المبطل؟ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ أي يحكم بيننا حكما حقا، و كأن الأمر مسدود بين الخصمين، و الحاكم يفتح بينهما، حين يعطي لكل حصته، لئلا يبقى الأمر بينهما مختلطا متصلا وَ هُوَ سبحانه الْفَتَّاحُ كثير الفتح، و الحكم بين المتخاصمين الْعَلِيمُ العالم، بما صدر عن كل، و بما يستحق كل واحد، فيكون حكمه حقا عدلا.

[28] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين أَرُونِيَ الأصنام الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ لهم بِهِ أي بالله شُرَكاءَ أي في حال كونهم شركاء لله، في زعمكم؟ و هذا استفهام توضيحي، كما تقول لمن يساوي جاهلا بعالم: أرني من هو المساوي لهذا العالم، تريد أن تبين له أن من تزعم مساواته، لا يتمكن الإنسان، حتى من التفوه بمساواته له، و إتيان اسمه عند ذكر اسم العالم كَلَّا ليس كما تزعمون في كون الأصنام شركاء لله تعالى بَلْ الإله واحد لا شريك له، و هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الغالب سلطانه الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شي ء بحكمة و صواب، فهل للأصنام سلطان؟ أم هل لها من حكمة؟

[29] وَ ما أَرْسَلْناكَ يا رسول الله إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي للناس عامة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 387

[سورة سبإ (34): الآيات 29 الى 31]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا

الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)

و كان تقديم «كافة» لإفادة أن الغرض المسوق له الكلام، هو عموم الرسالة، و إنما كان كافة بمعنى عامة، لأنها إذا عمّتهم، فقد كفتهم- و صفتهم- أن يخرج منها أحد منهم بَشِيراً تبشر المؤمنين المطيعين بالجنة و الثواب وَ نَذِيراً تنذر الكفار و العصاة، بالنار و النكال وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ رسالتك لإعراضهم عن الحق.

[30] و إذ تقدم الكلام عن التوحيد و الرسالة، جاء دور المعاد وَ يَقُولُونَ أي الكفار المنكرون للبعث مَتى هذَا الْوَعْدُ أي في أي زمان تقوم القيامة التي تعدوننا بها؟ إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون صادِقِينَ في دعواكم وجود القيامة، و حشر الأجساد بعد الموت؟

[31] قُلْ يا رسول الله في جوابهم لَكُمْ أيها الكفار مِيعادُ يَوْمٍ أي ميقات يوم ينزل بكم ما وعدتم من العذاب و النكال، و المراد وقت وفاتهم، أو يوم القيامة عند بعثهم لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً أي لا تتأخرون عن ذلك اليوم مقدار ساعة- التي هي جزء الزمن- وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ أي لا تتقدمون عليه مقدار ساعة، و كان الإتيان من باب الاستفعال، لبيان، أن طلب التقديم و التأخير، لا ينفع فلكلّ أجل و كتاب.

[32] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ الذي نزل على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 388

[سورة سبإ (34): آية 32]

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي بالكتب

التي أنزلت قبل القرآن، كالتوراة و الإنجيل، فإن أهل الكتاب، كانوا يصدقون، بتلك الكتب، أما الكفار، فإنهم كانوا يفكرون بكل شي ء وَ لَوْ تَرى يا رسول الله، أو كل من يأتي منه الرؤية إِذِ الظَّالِمُونَ في يوم القيامة مَوْقُوفُونَ للحساب عِنْدَ رَبِّهِمْ جزاء لإنكارهم، و كفرهم يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ إما المراد ما سيأتي من المحاورة بينهم، و إما أنهم، كالمجرمين في الدنيا، إذا أحضروا للمحاكمة، فإن هذا يرد القول إلى ذاك، و ذاك إلى هذا، كل يريد أن يتخلص من تبعة الجواب، و يؤمّن على نفسه فلا يجيب، حتى و إن علم بالأمر يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي طلب ضعفهم الرؤساء، فاستغلوهم لضعف أفكارهم، و ضعف إمكانياتهم لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا من الأشراف و الكبار المستكبرين عن قبول الحق لَوْ لا أَنْتُمْ تضلونا عن السبيل لَكُنَّا نحن الأتباع مُؤْمِنِينَ بالله و اليوم الآخر، في دار الدنيا، و إنما أنتم أضللتمونا عن طريق الهداية و الإيمان.

[33] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في جواب المستضعفين لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ أي هل نحن منعناكم عَنِ الْهُدى و الإيمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 389

[سورة سبإ (34): آية 33]

وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)

بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ يقولون ذلك، على نحو الاستفهام الإنكاري، أي إنّا لم نصدكم، و لم نمنعكم، إذ لم تكن سلطة لنا عليكم بَلْ كُنْتُمْ أنتم بأنفسكم مُجْرِمِينَ تبتّون الباطل، و ترغبون عن الهدى و الحق، فليس علينا تبعة ذنبكم، و إنما على أنفسكم.

[34]

وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي المتبوعين من الأشراف إنا لم نك بأنفسنا، و إنما أنتم صددتمونا عن الهدى بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي ما كنتم تمكرونه، ليلا و نهارا هو الذي منعنا عن قبول الحق، أي تدبيراتكم الخفية، و إلقاءاتكم علينا هي التي وقفت دون إيماننا إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً جمع ند، و هو المثل و الضد، أي كنتم تقولون لنا، اجعلوا لله شركاء وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفوا ندمهم عن أعمالهم السابقة، فلم يظهروا أنهم نادمين خوف الفضيحة لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ فإن الإنسان في حال الحزن الشديد، لا يتكلم، و إنما تظهر عليه ملامح الندم، ساعة مندم وَ بعد ذلك، يقدمون للعذاب، ف جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا بأن يغلّون في النيران، كما قال سبحانه (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) «1» و هنا يأتي الاستفهام ليبين أن ذلك جزاء

______________________________

(1) الحاقة: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 390

[سورة سبإ (34): الآيات 34 الى 36]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)

أعمالهم، و ليس ظلما عليهم هَلْ يُجْزَوْنَ هؤلاء الكفار إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يجزون إلا جزاء أعمالهم.

[35] و قد كان الانحراف عن الهداية، عادة عامة لجميع الأشراف، لدى مواجهة الرسل، فإن شرفهم المزعوم، كان يصدهم عن قبول الحق، و انخراطهم في سلك المؤمنين وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ينذر الناس من عاقبة

أعمالهم، و وبال كفرهم و عصيانهم إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي الأغنياء المتنعمون بالترف، و الرفاه إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أيها الأنبياء كافِرُونَ لا نصدق به، و لا نقبله.

[36] وَ قالُوا للأنبياء عليهم السّلام على وجه الكبر و التجبر نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً نحن أكرم منكم على الله، إذ لو لا كرامتنا لم يتفضل الله علينا، بهذا المال الكثير، و الأولاد العديدين وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ يوم القيامة فإن الله سبحانه لا يعذبنا، كما تقولون أنتم الأنبياء، إن الله يعذب الكافر العاصي.

[37] و هكذا كان يقول أشراف مكة في مقابل الرسول قُلْ يا رسول الله في جوابهم، إن كثرة الأموال و الأولاد، ليست دليلا على حب الله للشخص، و إنما التوسعة و التضييق حسب المصلحة و الحكمة، ف إِنَّ رَبِّي الذي خلقني و أرسلني يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عبيده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 391

[سورة سبإ (34): آية 37]

وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37)

وَ يَقْدِرُ أي يضيق حسب ما يراه حكمة و صلاحا فالتوسعة على المؤمن للثواب و الجزاء، و على الكافر للإملاء وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيظنون أن كثرة المال و الأولاد، لكرامة الشخص على الله تعالى.

[38] وَ ما أَمْوالُكُمْ أيها البشر وَ لا أَوْلادُكُمْ التي منحتموها بالمكانة التي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى مصدر زلف بمعنى قرب، و هو منصوب على المصدرية أي تقربكم تقربا إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فإن الإيمان و العمل الصالح مقربا لله سبحانه، و الاستثناء منقطع، و الأصل لا تقرب إلا الإيمان،

و العمل الصالح، لا الأموال و الأولاد- كما سبق، في وجه الاستثناءات المنقطعة- فَأُولئِكَ الذين آمنوا و عملوا الصالحات لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي إن جزاءهم مضاعف، فهو أضعاف أعمالهم، كما قال سبحانه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «1» بسبب ما عَمِلُوا من الإيمان و الصالحات وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ جمع غرفة و هي البيت فوق البناء، أي في غرف الجنة آمِنُونَ من الأهوال، و الأحزان، و المصائب.

______________________________

(1) الأنعام: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 392

[سورة سبإ (34): الآيات 38 الى 39]

وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

[39] وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي لإبطال آياتنا و أدلتنا مُعاجِزِينَ يريدون تعجيز الأنبياء عليهم السّلام بأعمالهم، حتى لا يتمكنوا من الإرشاد و التبليغ، و الإتيان من باب «المفاعلة» لأن كلا من الطرفين يريد تعجيز الآخر عن تنفيذ مبدئه و صد الآخر عن التنفيذ، فالنبي يريد عجز الكفار، و هم يريدون عجز النبي أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي يحضرهم الله سبحانه في العذاب، بالقوة و القهر، كما يحضر المجرم في السجن.

[40] و إذ كان الرزق بتقدير الله سبحانه، فالذي يبقى منه، هو المنفق في سبيله، فليس سعة الرزق دليل حب الله سبحانه- كما زعم الكفار- و إنما الإنفاق منه، موجب لحب الله تعالى قُلْ يا رسول الله إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي يعطيه الرزق الواسع المبسوط وَ يَقْدِرُ لَهُ أي يقدر لمن يشاء، فالضمير يعود، إلى لفظ «من» لا إلى

معناه، فالمبسوط له غير المقتر عليه، قال في المجمع: «و إنما كرره سبحانه لاختلاف الفائدة، فالأول توبيخ للكافرين، و هم المخاطبون به، و الثاني، وعظ للمؤمنين» «1» وَ ما أَنْفَقْتُمْ أيها الناس مِنْ شَيْ ءٍ قليل أو كثير، من مختلف أنواع الرزق فَهُوَ سبحانه يُخْلِفُهُ أي يعطيكم خلفه و عوضه، في الدنيا بزيادة الرزق، و في الآخرة بالأجر و الثواب

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 222.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 393

[سورة سبإ (34): الآيات 40 الى 41]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)

وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنه يعطي بلا منّ، و لا توقع جزاء، و لا لغاية أخرى، بخلاف سائر الرازقين من الناس، الذين يقصدون بإنفاقهم غاية و مقصدا، أما الشكر فإنه سبحانه يطلبه لنفع الخلق، لا لنفعه.

[41] وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي نحشر الكفار الذين كانوا يعبدون الملائكة جَمِيعاً العابدين و المعبودين، و المراد بذلك اليوم، هو يوم القيامة ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ بقصد فضح العابدين لهم أَ هؤُلاءِ الكفار إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ و القصد من هذا السؤال تبرؤ الملائكة منهم، حتى يبقوا بلا ناصر حتى من معبوديهم.

[42] قالُوا أي قالت الملائكة سُبْحانَكَ أي ننزهك يا رب تنزيها عن الشريك، و سبحان منصوب على المصدر، أي نسبح سبحانا أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي من دون هؤلاء الكفار، و المعنى أنه لا ولاية بيننا و بينهم بَلْ كانُوا أي كان هؤلاء يَعْبُدُونَ الْجِنَ أي الشياطين، حيث أنهم أطاعوا الشياطين الذين يوحون إليهم بعبادة الملائكة، فإن الشياطين من الجن، كما قال سبحانه (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ)

«1» أَكْثَرُهُمْ أي أكثر هؤلاء بِهِمْ أي بالجن مُؤْمِنُونَ مصدقون لما

______________________________

(1) الكهف: 51.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 394

[سورة سبإ (34): الآيات 42 الى 43]

فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَ قالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)

يوسوسون إليهم، و كأن الملائكة يريدون بذلك التكثير من تبكيت الكفار بأن مرجع عبادتهم للملائكة كان إلى عبادتهم للشياطين، و الإتيان بلفظ «الجن» لتسمية الشيطان في الجاهلية، ب «الجن».

[43] فَالْيَوْمَ يعني يوم القيامة الذي يقع فيه ذلك المشهد و الحوار لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ أي لا يملك المعبودين للعابدين نَفْعاً وَ لا ضَرًّا لا ثوابا و لا عقابا، و إنما الثواب و العقاب بيد الله وحده، و هكذا يخسر العابدون، حتى من نصر المعبودين وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم، بعبادة غير الله ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها أي بتلك النار تُكَذِّبُونَ في الحياة الدنيا، حين أنكرتم البعث و النشور.

[44] ثم يرجع السياق إلى حال الكفار في الدنيا، بعد أن بين لهم، أن حالهم هناك الخزي و العذاب، أن تمادوا في ضلالهم وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي يقرأ الرسول و المؤمنون على الكفار آيات القرآن، في حال كونها واضحات قالُوا أي قال الكفار بعضهم لبعض ما هذا الذي يدعي الرسالة، و يأتي بهذه الآيات إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ أي يمنعكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الأصنام، و الملائكة، و الجن،

و غيرها، فقد رأوا أن في عبادة الله هدما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 395

[سورة سبإ (34): الآيات 44 الى 45]

وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)

لتقاليدهم وَ قالُوا بعضهم لبعض ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب مُفْتَرىً نسبه الرسول إلى الله افتراء، فإنه لم ينزل من عنده، و إنما اختلقه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نسبه إليه سبحانه وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ أي للقرآن لَمَّا جاءَهُمْ لهدايتهم إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح، إذ يؤثّر في الناس، فيجلب الأتباع، و لا يمكن للفصحاء الإتيان، بمثله، فالرسول كاذب مفتري، و القرآن سحر- في منطق الكفار الأعوج-.

[45] إن هؤلاء الكفار الذين يقولون، إن القرآن كذب و سحر أميّون، لم يأتيهم قبل هذا كتاب و رسول حتى يميزوا بين الوحي و غيره، و بين الرسول و المفتري، فقولهم حول القرآن و الرسول، قول الجاهل المأفون وَ ما آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم، و أنزلنا إليهم مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي يقرءونها درسا حتى يعرفوا ما هو الوحي؟ و يميزوا بين المنزل و المفترى وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ أي إلى هؤلاء الكفار قَبْلَكَ يا رسول الله مِنْ نَذِيرٍ حتى يميزوا بين الرسول و الساحر، فقولهم، فيك و في كتابك قول جاهل أمي، فهم معاندون متبعون للهوى في أقوالهم، لا إنها عن علم و دراية و خبرة.

[46] وَ كَذَّبَ الأمم الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار قومك، رسلهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 396

[سورة سبإ (34): آية 46]

قُلْ إِنَّما

أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)

و ما أتاهم الله من الكتب وَ ما بَلَغُوا أي ما بلغ هؤلاء الكفار مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي معشار القوة و المال، و طول العمر التي أعطيناها إلى تلك الأمم، و معشار بمعنى عشر فَكَذَّبُوا أولئك الأمم رُسُلِي الذين أرسلوا إليهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟ أي إنكاري و عقوبتي على المكذبين، فقد عاقبتهم، بأشد العقوبات مع تلك القوة و المال، فليحذر هؤلاء الضعفاء- من قوم الرسول- عقوبتي إن تمادوا في غيّهم و كفرهم؟.

[47] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار إِنَّما أَعِظُكُمْ الوعظ هو النصيحة بِواحِدَةٍ أي أنصحكم بجملة واحدة، و هي أَنْ تَقُومُوا بهذا العمل، لا من القيام مقابل القعود لِلَّهِ بأن كان عملكم له، خالصا عن التقليد و العصبية و الأهواء مَثْنى وَ فُرادى اثنين اثنين، و واحدا واحدا، فمن كان له قدرة في التفكر حول الرسول بنفسه بلا معين، فليفكر في نفسه، و من لا قدرة له في التفكر منفردا، فليتخذ صديقا ليداول معه الحديث حول الرسول، و القرآن و الإسلام ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ أي ليس بالرسول الذي هو صاحبكم مِنْ جِنَّةٍ أي شيئا و أثرا من الجنون فإنكم إذا فعلتم ذلك، و خرجتم عن ضوضاء الجماعات إلى الانفراد و التثنية في تفكير هادئ «لله» لعلمتم ذلك إِنْ هُوَ أي ليس الرسول إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ ينذركم عن التمادي في الكفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 397

[سورة سبإ (34): الآيات 47 الى 49]

قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (47)

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (49)

و العصيان بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فإنه يأتي من ورائه عذاب القيامة، إن بقيتم في الكفر و الضلالة، فهو يريد إنقاذكم.

[48] قُلْ لهؤلاء الكفار يا رسول الله ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي كل أجر أسأله منكم على أدائي للرسالة فَهُوَ لَكُمْ و هذا تعبير آخر عن عدم سؤاله للأجر، فإن تزعمون أني أدعي الرسالة لتحصيل المال، فإني لا أريد منكم المال، و قيل إن معناه، أن كلّ ما سألته من أجر- من المودة في القربى- فإنما ذلك عائد إليكم، فإن قرباي يرشدونكم إلى الحق، فهذا ليس عائدا لي، بل عائد لكم، كمن يجمع المال من الناس، ليبني لهم دورا و قصورا، فإن ما يأخذه يعود إليهم إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري على البلاغ و الرشاد إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو يعطيني جزاء عملي و أتعابي وَ هُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ حاضر، فيعلم مقدار أجري، و يعطيني كاملا غير منقوص.

[49] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ أي يلقيه إلى أنبيائه، فهذا الإسلام و القرآن حق، قذفه الله إليّ، و ليس سحرا أو إفكا، كما تزعمون عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي الله سبحانه كثير العلم بالغيب، فلا يلقي إلا ما يعلم أنه صالح للبشر، كما لا يلقي إلا إلى من يصلح للقيام به.

[50] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار جاءَ الْحَقُ و هو الإسلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 398

[سورة سبإ (34): الآيات 50 الى 51]

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَ لَوْ تَرى

إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)

وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ أي زهق الباطل، و ذهب بحيث لم يبق له أثر فلا مبدئ له، و لا معيد، فلا يأتي أحد يجدد الباطل من الابتداء أو يعيده بعد الاندثار، كما لو كتب إنسان كتابا راقيا في بطلان عبادة الأصنام، يقول لا يأتي أحد يستدل بصحة عبادة سائر المعبودات الباطلة من جديد، و لا أحد يستدل بصحة عبادة الأصنام، و المراد عدم وجود باطل يتمكن أن يقوم مقابل هذا الحق الذي هو الإسلام، سواء كانت أباطيل تخترع جديدة، أو أباطيل سابقة، يراد إعادة جدتها و رونقها، و هذا كقوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) «1» [51] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يقولون عنك، إن محمدا قد ضل عن طريقة قومه إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق كما تدعون فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي يرجع و بال ضرري عليّ، فإن رأيتم أني ضال، فلا تؤمنوا بي، و لماذا تتعرضون لي بالمنع و الإيذاء؟ وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ إلى الحق فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي بفضل الله سبحانه، تكون هدايتي، حيث أوحى إليّ، و أرشدني إلى الطريق إِنَّهُ سبحانه سَمِيعٌ لأقوالنا قَرِيبٌ منا، فلا يخفى عليه المحق من المبطل.

[52] وَ لَوْ تَرى يا رسول الله، أو أيها الرائي إِذْ فَزِعُوا أي خاف هؤلاء الكفار من أهوال القيامة فَلا فَوْتَ أي فلا يفوت من عذاب

______________________________

(1) البقرة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 399

[سورة سبإ (34): الآيات 52 الى 53]

وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53)

الله منهم أحد، و

لا ينجو من بأسه كافر وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ و هو القبر، فمكانهم ليس بعيدا على الله يحتاج في أخذهم إلى صعوبة، و طول مدة، كما يكون كذلك بالنسبة إلى حكام العالم، حيث يبتعد منهم المجرمون، فيكون في أخذهم لهم صعوبة و طول مدة، و جواب «لو» محذوف، أي لو رأيت ذلك لرأيت أمرا فظيعا مهولا.

[53] وَ قالُوا أي قال الكفار حين ذاك آمَنَّا بِهِ أي آمنا بالله و الرسول و ما جاء به وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي من أين يكون لهم الانتفاع بإيمانهم هناك، و التناوش بمعنى التناول، أي لا يتمكنون من تناول الإيمان المفيد لحالهم مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فالدنيا قد ابتعدت عنهم، و الإيمان المفيد كان في الدنيا لا في الآخرة، و من أين لهؤلاء أن يتناولوا الإيمان النافع الذي خلّفوه وراءهم في الدنيا؟ و هذا على ضرب من الاستعارة اللطيفة.

[54] وَ قَدْ كَفَرُوا أي هؤلاء الكفار بِهِ أي بالإسلام و الدين مِنْ قَبْلُ في الدنيا وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي أنهم يقولون لا جنة و لا نار، و ذلك غيب بعيد، و إنما قولهم ظن، و المعنى أنهم يرجمون الظن بالمكان الغائب عن حواسهم، و هم بعيدون عنه- و المراد بذلك المكان الآخرة- فكما أن الحجارة إذا رجمت من البعيد في مكان غائب لا يراه الراجم، لا تصيب الهدف، كذلك ظن هؤلاء بالنسبة إلى الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 400

[سورة سبإ (34): آية 54] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 449

[سورة سبإ (34): آية 54]

وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

[55] وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ أي فرق

بين هؤلاء الكفار- يوم القيامة- وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من النعيم و الكرامة، فلا يرون نعيما، و لا كرامة، بعد ذلك كَما فُعِلَ مثل ذلك بِأَشْياعِهِمْ أي بأمثالهم من الكفار السابقين، و الأشياع هم المقتدون، مقابل الأتباع مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء إِنَّهُمْ إنما فعل ذلك بهم لأنهم كانُوا في الدنيا فِي شَكٍ من البعث و النشور مُرِيبٍ موجب للريب و الانعزال عن الحق، فإن الإنسان إذا شك، و لم يظهر أثرا، قيل له شك، فإذا أظهر أثر الشك، قيل له ريب و هذا إشارة إلى أنهم لم يكونوا يقطعون بعدم المعاد، و لكنهم كانوا شاكين، و إنما قادهم إلى الإنكار تقليدهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 401

35 سورة فاطر مكية/ آياتها (46)

و تسمى بسورة الملائكة أيضا لاشتمالها على كلا اللفظين، و هي كسائر السور المكية- غالبا- تعالج قضايا العقيدة، و أصول الدين، و إذ ختمت سورة «سبأ» بالمحاورة مع الكفار و المنكرين للألوهية و المعاد، ابتدأت هذه السورة بشؤون اللّه تعالى، الدالة على توحيده، و تصرفه في الكون.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله، ليكون شعارا لفظيا للمسلم، فإن لكل أمة واعية شعارات لفظية، عند القراءة و كتابية عند الكتابة، و إشارية عند الإشارة، و اسم الله، أعظم من جميع الشعارات المتصورة، فإنه اسم من يرتبط به الخلق و الأمر، و الإتيان بوصفي الرحمن الرحيم، للإشارة إلى أن ما اتخذناه شعارا متصف بالرحمة المكررة، و هو من أجلب الصفات للإنسان، فإن كل خير له مرتبط بالرحمة و الفضل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 402

[سورة فاطر (35): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ

ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)

[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ أي أن جنس الحمد، راجع إلى الله سبحانه، إذ جميع النعم منه، حتى ما يصل إلى الإنسان بواسطة أحد، فإنه منه سبحانه ابتداء، و إنما يأتي بالواسطة فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي خالقهما من «فطر» بمعنى خلق جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا جمع رسول، و هو الآتي بالكلام من قبل شخص إلى غيره، فإن الملائكة يأتون بالرسالات من الله سبحانه إلى الأنبياء، في حال كونهم أُولِي أَجْنِحَةٍ أي أصحاب أجنحة، كأجنحة الطير، ليتمكنوا بها من الهبوط و العروج، و إن كان جناحهم من شكل غير مدرك- إلا إذا شاء الله ذلك- مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فمنهم من له جناحان، و منهم من له ثلاثة أجنحة و منهم من له أربعة أجنحة، و هذا صفة لأجنحة، معدولة عن اثنين اثنين، و ثلاثة ثلاثة، و أربعة أربعة يَزِيدُ الله سبحانه فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي أن الخلق بيد الله سبحانه، فلم يعجز تعالى عن خلق ما زاد عن السماوات و الأرض و الملائكة، بل إنه كلما شاء خلقا خلقه إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يمتنع عليه شي ء.

[3] إن الله هو الخالق القادر، و إنه هو المعطي المانع ف ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها أي ما يفيضه عليهم من النعم و الخير، لا أحد هناك يتمكن من المنع عنها، و الإمساك لها حتى لا تصل إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 403

[سورة فاطر

(35): الآيات 3 الى 4]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)

الناس وَ ما يُمْسِكْ الله من رحمة فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الله سبحانه، فإنه إذا لم يرد إعطاء أحد شيئا لم يكن هناك من يقدر على إعطائه وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره الْحَكِيمُ في أفعاله يفعلها حسب الحكمة و الصلاح، فكل شي ء صنعه بحكمته و مصلحته، كما أن كل شي ء أراده صار لأنه العزيز القادر.

[4] و إذ تقدم التذكير ببعض نعم الله على البشر، و بعض آثار عظمته و جلاله، يتوجه السياق إلى المشركين ليوقظهم من غفلتهم يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ و كأنّ الإنسان يعلم في باطنه نعم الله لكنه ينسى، فاللازم أن يتذكر هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ و الجواب كلا لا خالق إلا الله سبحانه، ثم هل من أحد غير الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإنزال المطر وَ من الْأَرْضِ بإنبات النبات؟ و الجواب كلا، فلا رازق إلا الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و إذ ثبت أن لا خالق و لا رازق إلا الله، ثبت أنه لا إله إلا هو فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف تصرفون عن طريق الحق إلى الضلال؟ من أفك بمعنى انصرف، و منه يسمى الإفك إفكا، لأنه صرف للكلام عن الحقيقة إلى خلاف الواقع.

[5] و إذ تقدم الكلام حول التوحيد، يأتي الكلام حول الرسالة وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ هؤلاء الكفار، يا رسول الله، فيقولون، لست أنت، بنبي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص:

404

[سورة فاطر (35): الآيات 5 الى 6]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)

فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه ليس الوحيد الذي كذبه قومه، و إنما الرسل هكذا، فإن أقوامهم يكذبونهم وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي أمر تكذيب هؤلاء يعرض على الله سبحانه، فيجازيهم على تكذيبهم، و أمرك يعرض عليه، فيجازيك على صبرك، و صمودك.

[6] ثم يأتي السياق لبيان المعاد- الذي هو الأصل الثالث من الأصول- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و الحساب و الجزاء حَقٌ لا كذب فيه، فكلكم تحشرون للجزاء فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فتغترون بملاذها و رئاستها، فتعصون الله لأجلها حتى يكون مصيركم إلى النار وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ أي بالنسبة إلى الله سبحانه الْغَرُورُ الشيطان الكثير الخداع، فترون سكوته سبحانه، و عدم تعجيله العقاب، فتمادون في الغي و الطغيان، فيأتيكم العذاب بغتة، و أنتم في غفلة.

[7] إِنَّ الشَّيْطانَ الذي يدعوكم إلى الكفر و العصيان لَكُمْ أيها البشر عَدُوٌّ يريد لكم الهلاك و العذاب فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي اعملوا معه، عمل العدو مع عدوه، بأن لا تطيعوه و اجتنبوا عن مكره و خدعه إِنَّما يَدْعُوا الشيطان حِزْبَهُ أي أنصاره و أعوانه من العصاة لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي النار المستعرة الملتهبة، فلا تتبعوه ليوردكم النار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 405

[سورة فاطر (35): الآيات 7 الى 8]

الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ

سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)

ذات اللهب و الاشتعال.

[8] الَّذِينَ كَفَرُوا بالله، لاتباع الشيطان، و امتثال أمره لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله، و بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ و ذلك يلازم ترك السيئات- كما سبق- لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي غفران لذنوبهم، فإن «مغفرة» مصدر ميمي وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ جزاء على إيمانهم و أعمالهم الصالحة.

[9] أَ فَمَنْ الهمزة للاستفهام الانكاري، و الفاء عاطفة، أي هل الذي زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ أي زين الشيطان في عينه عمله السيئ كالكفار و العصاة، الذين يبرّرون أعمالهم السيئة بألف مبرّر موهوم فَرَآهُ حَسَناً أي رأى عمله السي ء حسنا و هذا بطبيعة الحال في سطح الذهن، أما في أعماقه، فإنه يعلم بقبح عمله، و لذا لو خلى بنفسه و تفكر، أو ذكّره بعض الناس، و كان منصفا، اعترف بقبح عمله، و قد حذف عدل الهمزة، أي أ فمن كان كذلك، كمن ليس هكذا؟ و الجواب الطبيعي أنهما لا يتساويان، و إنما جي ء بهذا العدل فقط لأن سوق الكلام كان حول الكفار، ثم يأتي السياق ليسلّي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يأسف على هؤلاء الذين انحرفوا عن علم و دراية فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ممن أرشده للطريق، و بلّغه فلم يقبل، فإنه سبحانه يتركه يضلّ و ينحرف، و لا يلطف به الألطاف الخفية، و هذا كما يقال أفسد الملك شعبه، إذا تركهم يفسدون، و لم يجبرهم على الاستقامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 406

[سورة فاطر (35): الآيات 9 الى 10]

وَ اللَّهُ الَّذِي

أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ممن قبل البلاغ و الرشاد، فإنه سبحانه يلطف به الألطاف الخفية فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ يا رسول الله، و معنى ذهاب النفس هلاكها، أو شدة حزنها و غمها، حتى تكون كالهالكة عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار حَسَراتٍ منصوب على المصدر، أي لا تذهب نفسك تتحسر عليهم حسرات، و الحسرة شدة الحزن على ما فات، أو يفوت من الأمر المرغوب فيه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ من الكفر و العصيان، و مثل هذا الإنسان المعاند، لا يستحق أن يتحسر الرسول عليه.

[10] ثم يرجع السياق إلى أدلة الألوهية و التوحيد، في قبال الكفار و المشركين وَ اللَّهُ هو الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بخلقها، أو تصريفها من هنا إلى هناك فَتُثِيرُ أي تهيج الرياح سَحاباً المراد به الجنس، لا الفرد فَسُقْناهُ أي سقنا السحاب إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ مات زرعه، و جفّت أنهاره فَأَحْيَيْنا بِهِ أي بسبب ذلك السحاب الماطر الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بالجدب، و عدم النبت، بأن أنبتنا فيها الكلأ، بعد أن لم يمكن كَذلِكَ النُّشُورُ أي كما حييت هذه الأرض الجدبة الميتة كذلك نشور البشر و حياتهم بعد الموت، فإن الله القادر على إحياء الأرض، قادر على بعث الإنسان، و نشوره بعد أن مات.

[11] إن الكفار لا يؤمنون خوفا من ذهاب عزتهم الدنيوية، حيث يطردهم المجتمع الكافر، لكن اللازم أن لا يمنع الإنسان هذا عن الإيمان، فإن العزة لله سبحانه، و إذا

أراد الإنسان ببقائه على الكفر، أن تسمع له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 407

الكلمة، و يقبل له العمل عند أصدقائه الكفار، فإن الكلام الإسلامي، و العمل الصالح، يقبلان عند الله سبحانه، الذي هو أعظم من مجتمع هؤلاء الكفار مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الدنيوية، بأن يكون عزيزا عند الناس، نافذا الكلمة لديهم فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي فليطلبها من عند الله تعالى، إذ جميع أنواع العزة له، حتى أن العزة الموجودة لدى الكفار، هي منحة الله لهم، كما منحهم الرزق و الحياة، و سائر الخيرات للامتحان و الاختبار إِلَيْهِ تعالى يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ الكلم جمع كلمة، و الطيب صفة مشبهة، أي أن الكلمات الطيبة، من كلمة الإيمان و الإرشاد و النصيحة و غيرها، كلها تصعد إليه سبحانه، نافذة لديه، فإذا آمن الإنسان، كان مسموع الكلمة لديه تعالى، و هو خير من كونه مسموع الكلمة عند الكفار وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الذي هو الخير المأمور به في الشريعة كالصلاة و الزكاة، و صلة الرحم، و بر الوالدين، و غيرها يَرْفَعُهُ سبحانه إلى نفسه، فمن يريد الكفر، ليكون عمله مقبولا عند الكفار، فإن من آمن، رفع عمله إلى الله سبحانه خالق الكون، و هل تقاس المقبولية، عند الله بالمقبولية عند الناس؟ و المراد بالصعود و الرفع الرتبي، باعتبار رفعة الله سبحانه، و سموه المعنوي، أو المراد الخارجي، فإن الأقوال و الأعمال ترفع إلى السماء، حيث محل الملائكة، و مأوى أرواح الصالحين وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يدبرون دفّة الأعمال السيئة في خفية، فإن المجرمين دائما يدبرون الاجرام و المعاصي في الليالي، و في بعد عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 408

[سورة فاطر (35): آية 11]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ

تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

عيون الناس لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ من «بار» إذا فسد، أي أن مكرهم يفسد، و لا ينفّذ، فنهاية العمل و القول الصالحين، الرفعة و العزة، و نهاية عمل السيئات و مكرها لتحقيق العزة هي البوار و الهلاك.

[12] وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ أيها البشر مِنْ تُرابٍ فإن التراب ينقلب نباتا، و يأكله الإنسان، أو يأكل الحيوان الذي تكون من النبات، فيصير مبدأ النطفة ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ هي القطعة المائعة من المني، و أصل النطفة الماء القليل ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكرا و أنثى، أو المراد أصنافا و أشكالا وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى «من» زائدة لتأكيد النفي، أي لا تحمل أيّ أثر وَ لا تَضَعُ حملها إِلَّا بِعِلْمِهِ فالله خالق الإنسان، و العالم بأطواره، حين حمله، و وضعه وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ المعمّر- بصيغة المفعول من باب التفعيل- هو الإنسان، الطويل العمر، أي لا يمدّ في عمر واحد، و عبّر عنه بالمعمّر، باعتبار الأول، من باب

«من قتل قتيلا فله سلبه»

وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي من عمر ذلك المعمّر، و المراد به كل أحد، و النقص، إنما هو باعتبار الأعمار العادية، فالعمر العادي إذا كان خمسين سنة، كان الموت قبل ذلك تنقيصا بالنظر العرفي إِلَّا فِي كِتابٍ عند الله سبحانه، فقد كتب كل ذلك، و قدر الأعمال، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 409

[سورة فاطر (35): آية 12]

وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ

شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

قدر سائر الأشياء، و لا يتصور الإنسان كيف يمكن أن يحيط كتاب بهذا القدر الكبير من الأعمار المختلفة للأفراد المتشتتة في مشارق الأرض و مغاربها ف إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ هيّن، فهو محيط بجميع الأشياء، أو المراد ب «ذلك» كل ما تقدم من التقديرات، و العلم بها.

[13] ثم ينتقل السياق إلى بعض آخر من الآثار الكونية، الدالة على وجود الإله، و صفاته العظيمة وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ بحر المياه المالحة، و بحر المياه العذبة، فإن الأنهر غالبا تتصل بعضها ببعض، حتى أنها لتكون تحت الأرض، و فوقها بحارا من المياه المتصلة، ثم أن المراد بالبحر الجنس، لا الشخص هذا أي أحدهما عَذْبٌ أي طيب فُراتٌ صاف سائِغٌ شَرابُهُ إذا شربه الإنسان، لا يلتوي في الحلق، و لا يؤذي اللهات وَ هذا الآخر مِلْحٌ كأنه من كثرة ملوحته، قطعة ملح، نحو زيد عدل أُجاجٌ من ينشب في الحلق، فمن خلق هذين البحرين يا ترى؟ وَ مِنْ كُلٍ من البحرين تَأْكُلُونَ أنتم أيها البشر لَحْماً طَرِيًّا جديدا، هو السمك، فمع اختلاف البحرين يأتيان بشي ء متماثل لمنفعة الإنسان، و إنما سمي السمك، لحما طريا، لما اعتادوا- في زمن الجاهليين- من أكل القديد، بتجفيف لحوم الأنعام وَ تَسْتَخْرِجُونَ أي تخرجون بالطلب و الغوص، من البحر حِلْيَةً أي زينة، هي اللؤلؤ تَلْبَسُونَها للتزين وَ تَرَى أيها الرائي الْفُلْكَ بالضم على وزن أسد، جمع فلك على وزن قفل-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 410

[سورة فاطر (35): آية 13]

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ

فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)

فالمفرد و الجمع متساويان وزنا، مختلفان ميزانا- فِيهِ أي في البحر مَواخِرَ جمع ماخرة، يقال مخرت السفينة الماء إذا شقته لتسير، فمن يا ترى أقدر السفينة على ذلك، و جعل الماء سهلا، يقبل السير فيه؟ إنه هو الله تعالى، و إنما جعل ذلك لِتَبْتَغُوا أي لتطلبوا أنتم أيها البشر مِنْ فَضْلِهِ سبحانه بالتجارة، و الانتقال من هنا إلى هناك للاكتساب وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه عليكم فتسحتقون بذلك الثواب.

[14] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي يدخل الليل في النهار، إما بزيادة طول الليل و قصر طول النهار، حتى كأن الليل دخل فيه، و إما بإتيان الليل مكان النهار، فهو يدخل في محل النهار، من طرف المشرق، و يطرده رويدا رويدا، حتى يأخذ مكانه وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بأحد المعنيين السابقين وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ فهما يجريان حسب تدبيره منظما، بلا تفاوت أو اختلال كُلٌ منهما يَجْرِي باستمرار لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي لوقت معلوم، هو يوم القيامة، كما قال سبحانه (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) «1» و قال (وَ خَسَفَ الْقَمَرُ) «2» ذلِكُمُ اللَّهُ ذلك إشارة إليه سبحانه، و، «كم» خطاب، أي ذلك المتّصف بتلك الصفات، هو، أيها البشر رَبُّكُمْ الذي لا إله إلا

______________________________

(1) التكوير: 2

. (2) القيامة: 9

.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 411

[سورة فاطر (35): آية 14]

إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

هو لَهُ الْمُلْكُ فالمملكة الكونية كلها له بلا شريك وَ الأصنام الَّذِينَ تَدْعُونَ أي تدعونهم

أيها المشركون مِنْ دُونِهِ أي من دون الله تعالى ما يَمْلِكُونَ من الكون مِنْ قِطْمِيرٍ هو قشر النواة، أي اللفافة التي فوقها، و المعنى أن الأصنام لا تملك من الكون، بهذا القدر، فكيف تجعلونها شركاء الله؟

[15] إِنْ تَدْعُوهُمْ أي تدعون تلك الأصنام، و الإتيان بضمير العاقل، لتوحيد السياق، بين كلام المشركين و ردّهم، فإنهم كانوا يعتبرون الأصنام عقلاء مدركين لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ في كشف ضر، أو جلب نفع، فإن قالوا: يسمعون، قلنا: ما الدليل؟ وَ لَوْ سَمِعُوا دعاءكم على فرض محال مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي لا يمكنهم أن يجلبوا نفعا، أو يدفعوا ضرا، إذ لا يقدرون على ذلك وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ حين ترجون شفاعتهم لكم، حيث كانوا يقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) «1» يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يتبرءون منكم، و من أنكم اشركتموهم مع الله في العبادة، فيقولون لم عبدتمونا؟ و نحن لا نستحق العبادة؟

و ذلك بإنطاق الله تعالى، للأصنام، لأن يفضحوا عبدتهم وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي لا يخبرك أيها المستفهم الجاهل أحد مثل ما يخبرك

______________________________

(1) يونس: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 412

[سورة فاطر (35): الآيات 15 الى 18]

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)

الخبير المطلع، فالله مطلع على أحوال الأصنام، فهو خير من يخبركم عن أحوالها، فاقبلوا كلامه، و

اتركوا عبادتها، لئلا تقعوا في العذاب و النكال.

[16] يا أَيُّهَا النَّاسُ كيف تنحرفون عن إطاعة الله، أو تكفرون به؟

و الحال أَنْتُمُ الْفُقَراءُ المحتاجون إِلَى اللَّهِ سبحانه، في جميع شؤونكم وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُ عنكم، و الذي بإمكانه أن يسد جميع حوائجكم الْحَمِيدُ المستحق للحمد، بما له من الإنعام و الإفضال، فكيف تتركون الله، لتأخذوا الأصنام الفقيرة التي لا تستحق حمدا و لا شكرا، إذ لا شي ء لها إطلاقا؟

[17] و هو القادر على أن يعاقبكم بأعمالكم- فهو الذي بيده العطية و العقوبة، فاعبدوه رغبة أو رهبة- إِنْ يَشَأْ الله يُذْهِبْكُمْ أي يفنيكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يخلقه من العدم، و يأتي به إلى الوجود، كما خلقكم بعد أن لم تكونوا.

[18] وَ ما ذلِكَ الإفناء لكم، و الإتيان بخلق جديد عَلَى اللَّهِ سبحانه بِعَزِيزٍ أي بممتنع، بل هو الغالب على أمره، إن شاء شيئا كوّنه و أوجده.

[19] إن الإنسان إلى جنب فقره إلى الله تعالى، و إنه تحت سلطة الله سبحانه، حامل لتبعة أعماله بنفسه، فلا صديق يحمل من الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 413

ذنبه، و لا قريب يفيد الإنسان قربه في التخفيف من آثامه، فليعدل الإنسان سلوكه، نحو الله، الذي كان الإنسان بحاجة دائمة إليه، و إن عصى جازاه بنفسه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة إثم نفس أخرى، بل كل امرء بما كسب رهين، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره، و لا يلقى ذنب أحد على أحد وَ إِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ بالآثام، غيرها إِلى حِمْلِها أي حمل آثامها، كأن يدعو العاصي صديقه، ليحمل بعض آثامه و خطاياه لا يُحْمَلْ أي لا يحمل ذلك الغير مِنْهُ أي من ذلك

الحمل شَيْ ءٌ قليل وَ لَوْ كانَ ذلك الغير المدعو ذا قُرْبى أي صاحب قرابة مع هذا العاصي الحامل لأوزار نفسه، قال ابن عباس: يقول الأب و الأم، يا بني احمل عني، فيقول حسبي عملي، و لا تيأس يا رسول الله، من عدم تأثير بلاغك في هؤلاء الكفار، فإن بلاغك يؤثر في المؤمنين، و ذلك كاف لك إِنَّما تُنْذِرُ يا رسول الله الإنذار المؤثر الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي أنهم يخافون من الله سبحانه، و هو غائب عن حواسهم وَ أَقامُوا الصَّلاةَ بإتيانها كاملة بشروطها و آدابها وَ مَنْ تَزَكَّى أي تطهّر بعمل الطاعة، و الاجتناب عن المعصية فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي أن فائدة طهارته، تعود إلى نفسه وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فمن آمن و تزكى، جزاه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 414

[سورة فاطر (35): الآيات 19 الى 22]

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ (19) وَ لا الظُّلُماتُ وَ لا النُّورُ (20) وَ لا الظِّلُّ وَ لا الْحَرُورُ (21) وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)

بجنات النعيم، و من كفر و تولى، عاقبه بالنار و الجحيم، و معنى إلى الله: إلى ثواب الله و عقابه، تشبيها للصيرورة المعنوية، بالصيرورة الحسية.

[20] وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ فالكافر كالأعمى لأنه تعامى عن الحق، و المؤمن كالبصير، لأنه أبصر، و رأى الحق و الحقيقة.

[21] وَ لَا يستوي الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ «لا» زائدة للتأكيد، و الشرك كالظلمة، إذ لا يرى الإنسان الذي فيه الحقائق و الإيمان، كالنور الذي يرى فيه الإنسان الأشياء، و الإتيان بظلمات جمعا، لأن الشرك مستلزم لأنواع المعاصي، و كل واحد

منها ظلمة و حلوك.

[22] وَ لَا يستوي الظِّلُ الذي يستريح فيه الإنسان وَ لَا الْحَرُورُ و هي الريح الحارة السامة، التي تهب في الشمس، و توجب الهلاك، أو المرض و الأذية، و هما مثل الجنة و النار، أو الإيمان و الكفر.

[23] وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ فالكافر كالميت، إذ لا يأتي منه الخير، كما لا يأتي من الميت خير، و المؤمن كالحي، إذ يتأتى منه جميع صنوف الخير لنفسه و لغيره، و لا تغتم يا رسول الله، إذا رأيت إعراض الكفار، فإنهم، حيث أعرضوا عن الهدى، لم يلطف الله بهم ألطافه الخفية، و لذا تاهوا في ظلمات الكفر و الضلالة إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي إسماعا نافعا، و إنما يشاء سبحانه إسماع من إذا رأى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 415

[سورة فاطر (35): الآيات 23 الى 24]

إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)

الحق تبعه، أما من إذا رأى الحق ابتعد عنه و أعرض، فلا يسمعه الله- فوق أصل الإبلاغ- شيئا آخر من قبيل الألطاف الخفية الموجبة للسعادة وَ ما أَنْتَ يا رسول الله بِمُسْمِعٍ أي بقادر على أن تسمع إسماعا نافعا مَنْ فِي الْقُبُورِ فإن هؤلاء الكفار كالأموات في المقابر، الذين لا يتمكن الرسول من إسماعهم، فكما حال الموت بين أولئك، و بين السماع النافع، كذلك حال موت القلوب، و انحراف النفوس بين هؤلاء، و بين أن يسمعوا إنذار الرسول و إرشاده.

[24] إِنْ أَنْتَ أي ما أنت يا رسول الله إِلَّا نَذِيرٌ تنذر و قد أنذرت هؤلاء، أما هدايتهم، فليست عليك، فلا تحزن عليهم.

[25] إِنَّا أَرْسَلْناكَ يا رسول

الله بِالْحَقِ أي إرسالا بالحق، لا بالباطل، لأجل اللهو و اللعب، و الإفساد، و ما أشبه، من الإرسالات الباطلة، فإذا أرسل أحد آخر للإفساد، كان إرسالا باطلا، و إذا أرسل أحد آخر للإصلاح، كان إرسالا بالحق، في حال كونك بَشِيراً تبشر المؤمنين المطيعين بالجنان وَ نَذِيراً تنذر الكفار و العاصين بالنيران، فشأنك البشارة و الإنذار، و لا يرتبط بك، من آمن، و من لم يؤمن وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ ما من أمة من الأمم السابقة إِلَّا خَلا أي مضى فِيها في تلك الأمة نَذِيرٌ ينذرهم إذا كفروا و عصوا، قوبلوا بالعقاب و النكال، فأنت مثل أولئك المنذرين، و كما أنه لم يضرهم عدم استجابة الأمم كذلك لا يضرك عدم استجابة الناس لك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 416

[سورة فاطر (35): الآيات 25 الى 27]

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ (27)

[26] وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا رسول الله، هؤلاء الكفار، بأن يقولوا، أنت كاذب، لست من قبل الله سبحانه فليس شيئا جديدا، إذ قد كَذَّبَ الأمم الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم، حين جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ جمع رسول، و يجوز الإتيان بالفعل، مذكرا و مؤنثا، إذا كان الفاعل، جمع غير مذكر سالم، قال ابن مالك:

و التاء مع جمع سوى السالم مذكر كالتاء مع إحدى اللبن

بِالْبَيِّناتِ أي الحجج الواضحة الدالة على كونهم مرسلين، كالمعجزات، و الخوارق وَ بِالزُّبُرِ كالكتب المتفرقة التي فيها الحكم و النصائح، كما

جاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بالأحاديث القدسية، و قطعا من حكم موسى و عيسى عليهما السّلام وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي النيّر الذي فيه تعاليم السماء، كان الأنبياء يأتون إلى الأمم بكل ذلك، و مع ذلك كانت الأمم تكذبهم.

[27] ثُمَّ أَخَذْتُ بالعذاب و النكال الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و أنبيائه، بعد إتمام الحجة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري، للمكذبين؟ و هذا استفهام استشفائي، فيه تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنذار لكفار مكة.

[28] ثم يرتد السياق ليذكّر الكفار، بجملة من الآيات الكونية أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، و الخطاب، و إن كان له لكن المراد به العموم، أو ألم تر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 417

[سورة فاطر (35): آية 28]

وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

أيها الرائي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر فَأَخْرَجْنا على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم الذي هو فن من فنون البلاغة بِهِ أي بذلك المطر ثَمَراتٍ جمع ثمرة، و هي فاكهة الشجر التي تجتنى منها مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي ألوان تلك الثمرات، فأحمر، و أخضر، و أبيض، و أصفر، و أزرق، و غيرها، من سائر الألوان، و ذو لونين، و ذو ألوان، و هكذا، و يحتمل أن يراد باللون الأعم من جميع ما يدرك بسائر الحواس، من الأشكال و الحجوم و الطعوم، و الروائح و غيرها، فإن اللون قد يطلق توسعا على الجميع وَ كما أن الثمار، مختلفة الألوان كذلك مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ مفردها جدة، كغرف، و غرفة، و المراد بها الطرق بِيضٌ وَ حُمْرٌ أي طرق

في الجبال- إما المراد طرق السير، و إما الامتدادات، فإن الإنسان يرى الجبل فيه قطعة ممتدة حمراء، و قطعة ممتدة بيضاء، و سميت طريقا تشبيها- و بيض جمع أبيض، كما أن حمر جمع أحمر مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها أي ألوان تلك الطرق الموجودة في الجبال وَ غَرابِيبُ سُودٌ جمع غربيب، و هو الشديد السواد، الذي يشبه لون الغراب، و سود جمع أسود، أي و من تلك الطرق مثل لون الغراب أسود، فسود عطف بيان لغرابيب.

[29] وَ كما أن الثمار، و الجبال مختلف ألوانها، كذلك مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِ جمع دابة، و هي الحيوانات التي تدب في الأرض وَ الْأَنْعامِ جمع نعم، و هي الإبل و البقر، و الغنم، خلق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 418

[سورة فاطر (35): آية 29]

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)

مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي كالذي تقدم من الثمار و الجبال، فهذا إنسان حبشي أسود، و هذا صيني أصفر، و هذا آسيوي أبيض و أحمر، و هذه هرة بيضاء، و هذه هرة سوداء، و هذه نعجة حمراء، و تلك صفراء، و هكذا، فمن يا ترى خلق هذه الألوان؟ و من يا ترى خلط هذه الألوان، بأجسام هذه المخلوقات؟ و قد تقرر في العلم الحديث، أن أقسام الألوان «ثلاثمائة ألف» إنه هو الله الخالق المبدع المنشئ العظيم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مفعول يخشى مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فاعل يخشى، أي يخشى من الله، العلماء من أقسام عباده، فإن الإنسان، إنما يخاف من الأسد- مثلا- إذا عرفه، أما الجاهل بوجوده، أو ببأسه، فإنه لا يخاف منه، و كذلك الجاهل، بأصل وجود الله أو ببأسه

و بطشه لا يخشاه، و إنما العالم به و بعذابه، لمن عصاه يخشاه تعالى، و يخافه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب في سلطانه، فاللازم أن يخشاه العصاة غَفُورٌ لمن آب و أناب، فلا ييأس من عفوه، و غفرانه، العاصون.

[30] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يقرءون حق قراءته للعمل و الاتباع، و المراد بكتاب الله هو القرآن وَ أَقامُوا الصَّلاةَ بآدابها، و شرائطها، و الاهتمام بالصلاة، في كل مكان، لأجل أنها خير وسيلة لتركيز الإيمان في القلب، بسبب استمرارها، و إيحائها بعظمة الله و ارتفاعه، في النفوس، و لذا كان المصلون أقل الناس شرا و إثما، و أكثرهم رحمة، و خيرا و نزاهة وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ عام يشمل جميع أنواع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 419

[سورة فاطر (35): الآيات 30 الى 31]

لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)

الرزق، من مال و جاه، و غيرهما سِرًّا وَ عَلانِيَةً أي في جميع أحوالهم، فلا يفرق عندهم، السر و العلانية، في البذل و الإنفاق يَرْجُونَ بهذه الأعمال تِجارَةً لَنْ تَبُورَ أي لن تفسد، و لن تهلك، و المراد بالتجارة، نتيجة التجارة، و هي الثواب العائد إليهم من جزاء أعمالهم الصالحة، فلا يريدون بأعمالهم الرياء و السمعة، و إنما وجه الله سبحانه و ثوابه.

[31] و إنما يفعلون هذه الأعمال، و يرجون الثواب، لأن يوفيهم الله أُجُورَهُمْ كما تقول عملت لزيد، و رجوته، ليعطيني أجري، و معنى وفاء الأجور، إعطائها كاملة، غير منقوصة وَ يَزِيدَهُمْ على ما يستحقون مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه، كما قال تعالى، (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ

فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «1» ... و خبر «إنّ» محذوف، أي إن الذين يعملون تلك الأعمال، للأجر و الثواب، يعطيهم الله ما يترقبونه، و إنما حذف لدلالة قوله إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ عليه، فمن عمل ذلك، غفر الله ذنبه، و شكر عمله، و شكر الله للعمل: إعطاء جزائه و ثوابه لمن عمل.

[32] و بمناسبة الحديث، عن الذين يتلون الكتاب، يأتي السياق، لبيان حال الكتاب وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول الله مِنَ الْكِتابِ أي القرآن هُوَ الْحَقُ الصحيح لا يشوبه فساد، و باطل، كأن تكون قصصه

______________________________

(1) الأنعام: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 420

[سورة فاطر (35): آية 32]

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

كاذبة، أو أحكامه موجبة للفساد، في حال كونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي يصدق الكتب السابقة عليه من التوراة و الإنجيل، و غيرهما، من سائر كتب الأنبياء إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ مطلع على أحوالهم، يعلم ما يصلحهم، و ما يفسدهم، كما يعلم من يؤمن، ممن لا يؤمن بَصِيرٌ ناظر إلى أعمالهم.

[33] ثُمَ بعد إنزال الكتاب عليك، يا رسول الله أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي القرآن الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا أي أعطيناه للمسلمين بالإرث، و المراد بالإرث، انتقاله إليهم، كما ينتقل المال من المورث إلى الوارث، فقد انتقل القرآن من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المسلمين، و قد اصطفى الله المسلمين، لحمل هذه الرسالة، كما قال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) «1» ثم بين سبحانه، إن هؤلاء العباد، على ثلاثة أقسام فَمِنْهُمْ أي بعضهم، و هم الأغلب ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يرتكب بعض المعاصي، و هذا لا

ينافي الاصطفاء، فإن المراد، اصطفاء المجموع، من حيث المجموع، في مقابل الكفار و المشركين، و أهل الكتاب وَ مِنْهُمْ أي بعضهم، و هم الأقل مُقْتَصِدٌ متوسط، بين الطاعة و المعصية فليس من الظالمين، و لا من الصلحاء الأخيار وَ مِنْهُمْ و هم الأقل سابِقٌ بِالْخَيْراتِ أي ليسبق الناس في عمل الأعمال

______________________________

(1) آل عمران: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 421

[سورة فاطر (35): آية 33]

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33)

الخيرية بِإِذْنِ اللَّهِ و مشيئته، و هذا من أظهر مصاديقه الأئمة الطاهرين، ثم الأصلح فالأصلح من الأمة، و لذا

قال الباقر عليه السّلام

«أما السابق بالخيرات، فعلي بن أبي طالب، و الحسن و الحسين عليهم السّلام و الشهيد منا، و أما المقتصد فصائم بالنهار و قائم بالليل، و أما الظالم لنفسه، ففيه ما في الناس، و هو مغفور له»

«1» ذلِكَ التوريث، للكتاب لهذه الأمة هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إذ قد رآهم الله سبحانه، أهلا لحمل هذه الأمانة الرفيعة، و إبلاغها للناس.

[34] و لهؤلاء جَنَّاتُ عَدْنٍ عدن بالمكان، بمعنى أقام فيه، أي البساتين التي يخلو فيها من يدخل يَدْخُلُونَها أي يدخلون تلك الجنات «عبادنا» حتى الظالم منهم، بعد أن يكون من ورثة الكتاب بالإيمان الكامل، و إنما عصى جهلا، كسائر العصاة، الذين صحت عقيدتهم، و إنما خلطوا عملا صالحا، و آخر سيئا، أما من اختل إيمانه، فليس بمسلم مؤمن، حتى يشمل في عموم «عبادنا» يُحَلَّوْنَ فِيها أي يلبسهم الله الحلو مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة، و مفردها سوار، و هو ما يجعل في اليد بين المرفق، و الزند مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً أي و يحلون فيها لؤلؤا، و قد كان

مرسوم الملوك و الكبراء لبس الأساور وَ لِباسُهُمْ فِيها أي في تلك الجنات حَرِيرٌ و هو الإبريسم المحض.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 218.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 422

[سورة فاطر (35): الآيات 34 الى 36]

وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)

[35] و بالإضافة إلى هذه النعم الجسمية، يتنعّم أهل الجنة بالنعم الروحية وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ الأحزان، التي تنتاب الإنسان في الدنيا، فلا حزن هناك و لا غم، بل سرور و حبور إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ لذنوبنا و معاصينا شَكُورٌ لطاعاتنا و عبادتنا، و من شكره، أنه تفضل علينا بهذه النعم الجسام، فإن الشخص إنما يعطي العامل الجزاء، إذا شكر عمله، و قبله بقبول حسن.

[36] الله الَّذِي أَحَلَّنا أي أنزلنا دارَ الْمُقامَةِ أي دار الخلود، التي نقيم فيها إلى الأبد مِنْ فَضْلِهِ و كرمه، و إلا فليست أعمالنا بقدر تستحق به هذا الجزاء العظيم لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي لا يصيبنا في دار المقامة عناء و مشقة و تعب وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ و هو المشقة في طلب المعاش، أو نحو ذلك.

[37] و في مقابل هؤلاء، الكفار الذين لم يقبلوا هذا الكتاب، فلننظر ماذا لهم هناك؟ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله، و اليوم الآخر، و ما يلزم الإيمان به لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ جزاء على كفرهم لا يُقْضى عَلَيْهِمْ بالموت أي لا يحكم الله عليهم بالموت فَيَمُوتُوا

و يستريحوا من العذاب وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي لا يقلل عذاب جهنم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 423

[سورة فاطر (35): الآيات 37 الى 38]

وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)

كَذلِكَ الذي ذكرنا من تعذيب هؤلاء الكفار بالنار نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ كثير الكفر المستمر عليه.

[38] وَ هُمْ أي الكفار يَصْطَرِخُونَ أي يتصايحون من شدة العذاب، أصله «صرخ» بمعنى صاح، و هذا من باب الافتعال، قلبت تائه طاء على القاعدة فِيها أي في جهنم، يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا من جهنم نَعْمَلْ عملا صالِحاً، بعد إخراجنا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من الكفر و المعاصي، لكن يأتيهم التوبيخ و التقريع أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ أي نعطيكم العمر الكثير في الدنيا، بقدر ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ أي في ذلك العمر مَنْ تَذَكَّرَ فلو كنتم تريدون التذكر و التوبة، كان لكم من العمر ما يكفي ذلك وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ و هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ و مع ذلك لم تؤمنوا، و لم تطيعوا، و قد أخبر سبحانه في آية أخرى بقوله (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) «1» فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ينصرهم، و يدفع عنهم العذاب.

[39] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالله سبحانه، كما أنه

______________________________

(1) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 424

[سورة فاطر (35): الآيات 39 الى 40]

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا

يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)

خالقهما، عالم بما غاب عن الحواس، في السماوات و الأرض إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأشياء، التي تدور في صدور الناس، و لعل الإتيان بهذه الجملة هنا، باعتبار أنه يعلم ما في صدور الكفار، من أنهم، لا ينوون الإقلاع، صدقا، إن رجعوا إلى الدنيا، كما هو شأن المعاند دائما، و لذا قال سبحانه «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».

[40] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ أي خلفاء للسابقين فِي الْأَرْضِ تخلفونهم، في مكانهم، لتعتبروا بهم، و أنهم حين عصوا أهلكوا فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي أن عاقبة كفره السيئة على نفسه، فإنه يتضرر بجزاء كفره وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً و هو أشد الغضب، فكلما بقوا في الكفر إزداد غضب الله عليهم وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً خسارة لخير الدنيا، و سعادة الآخرة، فلهم عذاب نفسي، هو مقت الله لهم، و عذاب جسمي هو الخسارة.

[41] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أخبروني عن هؤلاء الشركاء أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ فهل خلقوا بعض الأشياء الموجودة في الأرض؟

أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أم هل اشتركوا في خلق بعض الأمور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 425

[سورة فاطر (35): آية 41]

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ

إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)

الكائنة في السماء؟ حتى تقولون أنهم شركاء لله سبحانه، في العبادة، لأنهم اشتركوا معه، في خلق بعض الأشياء، في الكون أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً أي أنزلنا على هؤلاء المشركين كتابا يصدق عقيدتهم، بأن ينصر ذلك الكتاب على وجود شركاء لله سبحانه فَهُمْ أي هؤلاء الكفار عَلى بَيِّنَةٍ أي على حجة ظاهرة مِنْهُ أي من الشرك، فلهم حجة ظاهرة عليه، أو من ذلك الكتاب؟ لكن لم يكن مستند شركهم، لا هذا، و لا ذاك، و لا ذلك بَلْ إِنْ يَعِدُ أي ما يعد الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً فيقول بعضهم لبعض أن طريقتنا أحسن و أن النصر لنا بالآخرة، و الغرور هو الذي يطمع فيه، و لكن لا حقيقة له.

[42] إن السماوات و الأرض، كلها مخلوقة لله سبحانه، و كما خلقهما يحفظهما عن الزوال، و التفكك، و ليس لصنم شرك في خلقهما أو إبقائهما إِنَّ اللَّهَ تعالى يُمْسِكُ أي يحفظ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بمن فيهما أَنْ تَزُولا أي كراهية أن تزولا عن مواضعهما، فلو انقطعت عناية الله عنهما، و عن هذا النظام، لاضطربت أوضاع الكون، فزالت المدارات و الأنجم من مواضعها، و هلك كثير من السكان، و اضطربت الأرض، كما أنه لو انقطعت العناية، عن أصل وجودهما عدمتا في اللحظة و الآن وَ لَئِنْ زالَتا أي قدّر زوالهما إِنْ أَمْسَكَهُما أي ما أمسكهما، و ما قدر على حفظهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 426

[سورة فاطر (35): الآيات 42 الى 43]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)

مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الله سبحانه، فليس هناك أحد يتمكن أن يحفظ شيئا منهما إِنَّهُ كانَ حَلِيماً و من حلمه، لا يعجل بالعقوبة على الذين يجعلون لله شركاء غَفُوراً يغفر الذنب لمن أناب، و في هذا فتح التوبة على المشركين، كي لا ييأسوا من روح الله، فإنه تعالى يقبلهم إن رجعوا عن شركهم.

[43] إن الكفار بالإضافة إلى رذيلة الكفر، ارتكبوا رذيلة خلف الحلف و العهد وَ ذلك لأنهم أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي بأيمان غليظة، حسب غاية قدرتهم و طاقتهم، و «جهد» مصدر، أي جهدوا في القسم جهدا، أو أقسموا هنا النوع من القسم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي رسول ينذرهم لَيَكُونُنَّ أَهْدى أي أقبل للهداية مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الماضية، فقد كانوا يسمعون أنباء الأنبياء مع قومهم- من أهل الكتاب- فيقولون، إن جاءنا رسول، نقبل قوله فورا، بلا معارضة، أو مناقشة، و يحلفون على ذلك بالأيمان المغلطة فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً أي تباعدا عن الحق، فقد كان قلبهم، يلين للحق سابقا، أما إذا رأوه فقد ابتعدوا عنه، ابتعادا كبيرا.

[44] و إنما نفروا نفورا اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي لأنهم استكبروا و تجبروا عن أن يكونوا تبعا للرسول، فقد طلبوا الكبرياء في الأرض لأنفسهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 427

وَ مَكْرَ السَّيِّئِ أي قصدوا أن يمكروا المكر السيئ بالمؤمنين و المكر حيث كان بمعنى التدبير الخفي ضد العدو، صح إضافته إلى السيئ، لأن من المكر، ما هو حسن، إذا كان ضد عدو الدين، كما قال

«و مكر الله» وَ لكنهم غفلوا من أنه لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ صفة مكر، و في ما تقدم، كان مضافا إلى السيئ، و المعنى لا يحيط جزاء المكر السيئ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي بأهل المكر، كما قالوا: «من حفر بئرا لأخيه، وقع فيه» فقد قرر سبحانه، أن يرجع المكر السيئ إلى من مكر، كما قال: (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) «1» فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء الكفار المستكبرين الماكرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ بأن تجري فيهم، عادة الله في الأمم السابقة، التي كانت تكذب أنبياءها عليهم السّلام، و العادة هي أن يعمهم الله بعقاب يهلكهم أي هل ينتظر هؤلاء عقاب الله؟ و إلا فلما ذا لا يؤمنون، بعد أن رأوا الحق ظاهرا، فإن كانوا ينتظرون ذلك فَلَنْ تَجِدَ يا رسول الله لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا و المعنى، فسيأتيهم العذاب، إذ لا تبدّل سنة الله، التي سنّها للمكذبين، من أنه لما تمت عليهم الحجة، و لم يرتدعوا عمهم بالعقاب، و النكال وَ لَنْ تَجِدَ يا رسول الله لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا فالتبديل مثل أن يكون جزاء المكذب المرض، فيبدّله الله سبحانه، بأن

______________________________

(1) الأنفال: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 428

[سورة فاطر (35): آية 44]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)

يجعل جزاء المكذب الصحة، و التحويل مثل أن يكون جزاء المكذب المرض في الدنيا، فيحوله إلى المرض في الآخرة، أو أن يكون المرض في المكذبين، فيحوله إلى المرض في المؤمنين، و إنما جي ء، ب «ينظرون» مكان

«ينتظرون» لأن المنتظر لشي ء، ينظر ليرى، هل صار أم لا، و هذا لا يكون، إلا قرب وقت الشي ء الذي ينتظره، فكأنه قرب العذاب إليهم، فهم ينظرون ليروه، بخلاف «ينتظرون» فإنه يلائم الأمر البعيد المرتقب.

[45] أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا أي هؤلاء الكفار فِي الْأَرْضِ التي أهلك أهلها، كأرض عاد و ثمود، و أرض سدوم، و غيرها فَيَنْظُرُوا بأعينهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الذين كذبوا أنبياءهم، فأخذهم الله بالعقاب وَ كانُوا أولئك الذين أهلكوا أَشَدَّ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار قُوَّةً في أبدانهم، و في سائر مرافق حياتهم وَ إذ صار وقت هلاكهم، لم يقف دون إرادة الله قواهم الكثيرة، إذ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ بأن تكون القوة سببا لعجز الله عن تنفيذ إرادته في هلاك القوم فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ أي ليس، في السماء و لا في الأرض، شي ء يقف أمام إرادة الله، فإذ قد أهلك أولئك الذين كانوا أشد من هؤلاء قوة، فهل يتمكن هؤلاء الأضعفون، إن يقفوا أمام العذاب؟ إِنَّهُ تعالى كانَ عَلِيماً بجميع الأشياء يعلم ما يفعل كل إنسان قَدِيراً بأن يجازيه حسب عمله، فليقلع هؤلاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 429

[سورة فاطر (35): آية 45]

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

الكفار، عن غيهم و كفرهم، و إلا كان مصيرهم، مصير الأمم الماضية.

[46] وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من الكفر و العصيان ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ تدب على وجه الأرض، إذ قد خلقت الأشياء لأجل الإنسان، فإذا

أهلك الإنسان لكفره و عصيانه لزم فناء سائر الحيوانات، لأنه قد فنى ما لأجله خلقت، أو أن المراد، أن العذاب، لو نزل لعمّ الكل، فلا تبقى دابة في الأرض، فإنه إذا كان هناك جماعة بعضهم مجرم، و بعضهم صالح، و جاء السيل لأخذ المجرم، أخذ البري ء معه، و هذا لا ينافي العدل، إذ يكون ذلك سببا لرفع درجات البري ء- كما قرر في علم الكلام- بأن الآفات إما للتأديب أو للتعذيب، أو لرفع الدرجة وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ الله سبحانه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي قد سماه في اللوح المحفوظ، فقد علّم على مدة بقاء زيد بسنة كذا و لبقاء عمرو بسنة كذا، و هكذا، و الاسم في اللغة بمعنى العلامة، و منه سمي علم الأشخاص اسما فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً عارفا بأحوالهم، فيجازيهم حسب ما عملوا، كما يقول الحاكم، مهددا للمجرمين إذا جاء يوم المحاكمة، أنا أعرف الناس، أي لا أشتبه في الحكم على المجرم بالعقاب، و أميزه على الصالح البري ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 430

36 سورة يس مكيّة/ آياتها (84)

سميت السورة بهذا الاسم، لابتدائها، ب «يس» و هو كما ورد من أسماء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما لا ينافي في أن يكون «رمزا» أيضا، و ينطبق عليه بعض الأقوال الأخر، في المقطعات، و هي كسائر السور المكية، تعالج قضية العقيدة، في أسلوب جذّاب، و إذ كان في أواخر سورة فاطر، أنهم لم يؤمنوا بالرسول، بعد إذ جاءهم، افتتحت هذه السورة، بالحلف الأكيد، على كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرسلا من قبل الله سبحانه.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي من ابتدأ باسمه في أعماله، كان

العمل قريبا بالخير، و التمام، و إن لم يبتدأ به، كان أبعد عن الخير، و إن تمّ في الظاهر، فإن طابع الله سبحانه، إذا لم يوضع على شي ء فنى فيما يفني من زهرة الحياة الدنيا، و الإتيان بوصفي الرحمن و الرحيم، للتأكيد على هاتين الصفتين في الإله سبحانه، مقابل آلهة الكفار الذين يتصفون بالقساوة و الغلظة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 431

[سورة يس (36): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)

[2] يس اسم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما

ورد عن الباقر عليه السّلام، قال «إن لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسة أسماء في القرآن، محمد، و أحمد، و عبد الله، و يس، و نون»

«1»، أو رمز بين الله و بين الرسول و الأئمة عليهم السّلام، أو غير ذلك من الأقوال، و على الأول يكون «منادى» أي «يا رسول الله».

[3] وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حلف بالقرآن و إنما سمي القرآن حكيما، لما فيه من الأحكام الحكيمة، التي جاءت حسب الصلاح، و الحكمة هي وضع الأشياء مواضعها.

[4] إِنَّكَ يا رسول الله لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فلست كاذبا، كما يزعم هؤلاء بل قد أرسلك الله إلى الناس بشيرا و نذيرا.

[5] في حال كونك عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي تسلك الطريق الذي لا انحراف له، في العقيدة و العمل، و إنما جي ء ب «على» تشبيها بمن كان يمشي على الطريق، لاستعلائه عليه.

[6] في حال كون القرآن تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ العزيز في سلطانه، فلا يريد شيئا، إلا عمله، الرحيم بعباده.

[7] لِتُنْذِرَ قَوْماً

و هم كفار مكة ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي لم ينذر آباؤهم، لأنهم كانوا، بلا أنبياء، في زمن فترة بين المسيح و الرسول عليهما السّلام، أو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16 ص 96.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 432

[سورة يس (36): الآيات 7 الى 8]

لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)

أن «ما» موصولة، أي تنذرهم، كما أنذر آباؤهم، لكن ظاهر «الفاء» تفيد الأول فَهُمْ غافِلُونَ عن الأصول و الآداب، و النظام، و إنما عبّر بالغفلة، لأن الإنسان يكمن في نفسه الأصول و الآداب (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) «1» و إنما يغفل عنها، بسبب الأهواء، و الشهوات، و التقاليد.

[8] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ ثبت القول بالعذاب، على أكثر هؤلاء القوم، لعنادهم و لجاجهم في الأمر، بعد تبين الحق، و وضوح الحجة فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فقد علم الله عدم إيمانهم، أو أن المراد، أنه ثبت القول، بعدم الإيمان عليهم، بما علم الله فيهم من العناد و اللجاج، فهم لا يؤمنون.

[9] إن هؤلاء الكفار في إعراضهم كالإنسان الذي غلّت يديه مع عنقه، و غشي على بصره، فكيف أنه لا يتمكن أن يشرئب عنقه ليرى، و لا أن يلمس بيده ليعلم، و لا أن ينظر ببصره ليرى، فإن هذه الأعضاء الثلاثة تتعاون في فهم الشي ء، و حيث أن الله سبحانه، يرى من إنسان الإعراض عن الحق و اللجاج، يتركه حتى يضل و يتيه في أودية العماية، فكأنّه أضلّه لأنه تركه، كما يقال: الملك أفسد الناس إذ تركهم حتى فسدوا إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أي أعناق هؤلاء الكفار المعاندين أَغْلالًا جمع غل، و هو السلسلة التي

يربط بها المجرم في عنقه أو يده أو رجله فَهِيَ أي تلك الأغلال إِلَى الْأَذْقانِ بأن

______________________________

(1) الروم: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 433

[سورة يس (36): آية 9]

وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)

كانت كبيرة، حتى وصلت إلى أذقانهم، ليرفعها نحو الفوق، فلا يتمكنون من النظر بعيونهم أمامهم، فإن رؤوسهم بسبب تلك الأغلال مرفوعة نحو السماء، و قيل أن المراد أيديهم مغلولة إلى الأعناق، ف «هي» عائدة إلى الأيدي المفهومة من السياق، و أذقان جمع ذقن، و هو النتو وسط الفك السفلي فَهُمْ مُقْمَحُونَ من قمح، بمعنى رفع رأسه إلى فوق، فإن الأغلال، لما امتدت إلى تحت أذقانهم، رفعت رؤوسهم إلى السماء، حتى لا يتمكنون من النظر أمامهم.

[10] وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا أي أمامهم سدّ عن قبول الحق وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فكما أن الإنسان الذي حصر بين سدين، لا يتمكن من السير و الحركة، كذلك هؤلاء لا يتمكنون من السير مع الحق، و إنما هم جامدون في مكانهم فَأَغْشَيْناهُمْ أي جعلنا على أبصارهم غشاوة، تمنعهم عن الإبصار فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الحق، و

قد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، و نفر من أهل بيته، و ذلك «أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قام يصلي، و قد حلف أبو جهل لعنه الله، لئن رآه يصلي ليدمغنّه فجاءه و معه حجر و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قائم يصلي، فجعل كلما رفع الحجر ليرميه، أثبت الله عز و جل يده إلى عنقه، و لا يدور الحجر بيده، فلما رجع إلى أصحابه، سقط الحجر من يده، ثم

قام رجل آخر، و هو من رهطه أيضا، فقال: أنا أقتله، فلما دنا منه جعل يستمع قراءة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأرعب، و رأى كأن فحلا حائلا بينه و بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فرجع إلى أصحابه، فقال:

حال بيني و بينه، كهيئة الفحل يخطر بذنبه- أي يحرك ذنبه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 434

[سورة يس (36): الآيات 10 الى 12]

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)

غضبا- فخفت أن أتقدم»

«1».

[11] وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار أَ أَنْذَرْتَهُمْ يا رسول الله أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ عن العقاب و النار لا يُؤْمِنُونَ إذ قد عاندوا الحق، و المعاند يتساوى عند الإنذار و عدمه.

[12] إِنَّما تُنْذِرُ أي ينفع إنذارك، في مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن، فقد أنذر الرسول الجميع لكن الذين انتفعوا به هم المؤمنون وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي في حال كون الرحمن غائبا عن الحواس، و المعنى آمن بالله، و إن لم يره فَبَشِّرْهُ يا رسول الله بِمَغْفِرَةٍ أي غفران لذنبه وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ لما أتي به من الإيمان و العمل الصالح، و إنما كان الأجر الكريم، لعدم شوبه بما يفسده و ينقصه، أو لأنه يقدم إلى المؤمن مع الإكرام و الاحترام.

[13] ثم بعد الكلام، حول الألوهية و الرسالة، يأتي دور المعاد، فقال سبحانه إِنَّا نَحْنُ التكرار للتأكيد و الإلفات إلى أن المتكلم ذو مقام عظيم نُحْيِ الْمَوْتى جمع

ميت، أي ليوم القيامة، لنجازيهم وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي قدم الناس لآخرتهم من الأعمال الصالحة، أو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 435

[سورة يس (36): آية 13]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)

الفاسدة وَ آثارَهُمْ أي الأعمال التي أبقوها بعدهم، كمن عمر مسجدا و مخمرا، فإنه يكتب له الثواب و العقاب، و هو في القبر وَ كُلَّ شَيْ ءٍ من الأعمال الصالحة و الطالحة، و سائر الأشياء أَحْصَيْناهُ من الإحصاء، و هو التعداد بالإثبات و الكتابة فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي كتاب ظاهر، و إنما سمي الكتاب إماما، لأنه يجعل مصدر الأخذ، كما أن الإمام، مصدر الاقتداء و الأخذ، و لعل المراد بذلك اللوح المحفوظ،

و في جملة من الأحاديث، «أن الإمام المبين، هو الإمام أمير المؤمنين»

عليه السّلام «1»، و ذلك، إما تأويل أو مصداق، فإن الأعمال تعرض على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الأئمة عليهم السّلام، حتى يكونوا شهداء عليها، فيعلمون أعمال الناس، و لا تنافي، بين أن يكون هناك كتاب صامت، و كتاب ناطق.

[14] وَ اضْرِبْ لَهُمْ يا رسول الله مَثَلًا أي بيّن لهم مثالا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي قرية أنطاكية،

روي عن الباقر عليه السّلام أنه سئل عن تفسير هذه الآية، فقال: «بعث الله رجلين إلى أهل مدينة أنطاكية، فجاءهم بما لا يعرفون، فغلظوا عليهما، فأخذوهما و حبسوهما في بيت الأصنام، فبعث الله الثالث، فدخل المدينة، فقال: أرشدوني إلى باب الملك، فلما وقف على الباب، قال: أنا رجل كنت أتعبد في فلاة من الأرض، و قد أحببت أن أعبد إله الملك، فأبلغوا كلامه الملك، فقال:

أدخلوه إلى بيت الألهة، فأدخلوه، فمكث سنة مع صاحبيه، فقال

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 212. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 436

لهما: بهذا ينقل قوم من دين إلى دين؟ بالخرق، أ فلا رفقتما؟ ثم قال لهما: لا تقرّان بمعرفتي، ثم أدخل على الملك، فقال له الملك:

بلغني أنك كنت تعبد إلهي، فلم أزل و أنت أخي؟ فسلني حاجتك، فقال: ما لي من حاجة أيها الملك، و لكن رأيت رجلين في بيت الألهة فما حالهما؟ قال الملك: هذان رجلان أتياني ببطلان ديني، و يدعواني إلى إله سماوي، فقال: أيها الملك، فمناظرة جميلة، فإن يكن الحق لهما اتبعناهما، و إن يكن الحق لنا دخلا معا في ديننا، و كان لهما ما لنا و عليهما ما علينا؟ فبعث الملك إليهما، فلما دخلا عليه، قال لهما صاحبهما: ما الذي جئتما به؟ قالا: جئنا ندعوه إلى عبادة الله الذي خلق السماوات و الأرض، و يخلق في الأرحام ما يشاء، و يصور كيف يشاء و أنبت الأشجار و الثمار، و أنزل القطر من السماء، فقال لهما:

إلهكما هذا الذي تدعوان إليه، و إلى عبادته، إن جئنا بأعمى أ يقدر أن يرده صحيحا؟ قالا: إن سألناه أن يفعل فعل إن شاء، قال أيها الملك:

عليّ بأعمى لم يبصر شيئا قط؟ فأتى به، فقال لهما: ادعوا إلهكما أن يرد بصر هذا، فقاما و صليا ركعتين، فإذا عيناه مفتوحتان، و هو ينظر إلى السماء، فقال: أيها الملك، عليّ بأعمى آخر؟ فأتى به، فسجد سجدة، ثم رفع رأسه، فإذا الأعمى يبصر، فقال أيها الملك: حجة بحجة، عليّ بمقعد، فأتي به، فقال لهما مثل ذلك، فصليا، و دعوا الله، فإذا المقعد، قد أطلقت رجلاه، و قام يمشي، فقال: أيها الملك علي بمقعد آخر فأتي به فصنع به

كما صنع أول مرة، فانطلق المقعد، فقال: أيها الملك قد أتيا بحجة آتينا بمثلها، و لكن بقي شي ء واحد، فإن كانا هما فعلاه دخلت معهما في دينهما؟ ثم قال أيها الملك بلغني أنه كان للملك ابن واحد، و مات، فإن أحياه إلههما، دخلت معهما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 437

[سورة يس (36): آية 14]

إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)

دينهما فقال له الملك: و أنا أيضا معك، ثم قال لهما: قد بقيت هذه الخصلة الواحدة، قد مات ابن الملك، فادعوا إلهكما أن يحييه، فخرا ساجدين لله عز و جل، و أطالا السجود، ثم رفعا رأسهما، و قالا للملك: ابعث إلى قبر ابنك تجده، قد قام من قبره إن شاء الله، فخرج الناس ينظرون، فوجدوه، قد خرج من قبره ينفض رأسه من التراب، قال: فأتى به الملك، فعرف أنه ابنه، فقال له: ما حالك يا بني، قال:

كنت ميتا، فرأيت رجلين بين يدي ربي الساعة ساجدين، يسألانه أن يحييني، فأحياني قال: يا بني تعرفهما إذا رأيتهما، قال: نعم، فأخرج الناس جملة إلى الصحراء، يمرّ عليه رجل رجل، فيقول له أبوه انظر، فيقول لا، ثم مروا عليه بأحدهما بعد جمع كثير، فقال هذا أحدهما، و أشار بيده إليه، ثم مروا أيضا بقوم كثيرين، حتى رأى صاحبه الآخر، فقال و هذا الآخر، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، صاحب الرجلين: أما أنا فقد آمنت بإلهكما، و علمت أن ما جئتما به هو الحق، فقال الملك: و أنا أيضا آمنت بإلهكما، و آمن أهل مملكته كلهم»

«1»،

و في بعض الروايات «أن عيسى عليه السّلام، كان هو الذي بعث بالرسولين، أولا ثم

بعث وصيه شمعون ثانيا» «2»

، كأنّ الإتيان بهذا المثل للدلالة على قدرة الله على الإحياء، إرشادا للمنكرين للبعث إِذْ جاءَهَا أي جاء إلى أهل تلك القرية الْمُرْسَلُونَ الذين أرسلوا من قبلنا بتوسط عيسى المسيح عليه السّلام.

[15] إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ أي إلى أهل تلك القرية اثْنَيْنِ أي رسولين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 240.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 14 ص 266.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 438

[سورة يس (36): الآيات 15 الى 18]

قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ ما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18)

فَكَذَّبُوهُما أهل القرية، و قالوا لستم أنتم رسلا من قبله سبحانه، و إنما رجلين كاذبين فَعَزَّزْنا أي قويناهما برسول ثالث هو شمعون فَقالُوا جميعا لأهل القرية إِنَّا إِلَيْكُمْ أيها القوم مُرْسَلُونَ فقد كانوا هم أنبياء بأنفسهم و رسل عيسى عليه السّلام.

[16] قالُوا لهم أهل القرية ما أَنْتُمْ أي لستم أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فلا تصلحون للرسالة من قبل الله، كما لسنا نحن رسلا، فكانوا يظنون أن الرسول يجب أن لا يكون بشرا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ تدعوننا إليه إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيها المدعون للرسالة إِلَّا تَكْذِبُونَ أي كاذبون، فيما تدعون من أنكم أنبياء لله تعالى.

[17] قالُوا أي قالت الرسل الثلاثة في جواب القوم رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ و الدليل على أن ربنا يعلم أنه أجرى الخوارق على أيدينا.

[18] وَ ما عَلَيْنا أي لا يجب علينا إِلَّا الْبَلاغُ أي إبلاغ الدين الْمُبِينُ بأن نبلغكم بكل

جلاء و وضوح، بلا اختفاء و التواء، فإن آمنتم نفعكم إيمانكم، و إن لم تؤمنوا ضركم، أما نحن، فقد أدينا الأمانة، و بلغنا الرسالة.

[19] قالُوا أي قال أهل القرية للرسل- بعد أن لم يتمكنوا من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 439

[سورة يس (36): آية 19]

قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)

رد حجتهم- إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاءمنا بواسطتكم، فنخاف أن يصيبنا شؤمكم، فنقع في البلاء من طالعكم السيئ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن دعوتكم هذه لَنَرْجُمَنَّكُمْ من الرجم، و هو الرمي بالحجارة، أي نرميكم بالحجارة، حتى نقتلكم، فقد كان الرجم، من أبشع أنواع القتل، يعاقبون به أخطر أنواع المجرمين وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا أي من طرفنا عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[20] قالُوا أي قالت الرسل، في جواب الكفار و تهديدهم طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي إن شؤمكم معكم، حيث أقمتم على الكفر و العصيان، و الإقامة على الكفر، موجب للشؤم، كما قال سبحانه: (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1» فليس بلاؤكم منا، بل من أنفسكم أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ أي هل تذكيرنا لكم بالله، و اليوم الآخر، موجب لهذا القول لنا؟ و هذا استفهام إنكاري، كما تقول لمن هددك، حيث نصحته: هل نصيحتي توجب التهديد؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فلا تهددونا، لأنكم وجدتمونا كاذبين، و أسباب شؤم و بلاء، بل لأنكم قوم تجاوزون الحق تجاوزا كثيرا، و لذا مع علمكم بصدقنا، و إننا أسباب خير و يمن تقولون لنا هذه الأقوال، و تهددونا بالرجم و العذاب.

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 440

[سورة يس (36): الآيات 20 الى 22]

وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)

اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)

[21] و قد كان رجل يسمى حبيب النجار آمن بالرسل عند ورودهم المدينة، و كان له بيت في آخر المدينة، فلما سمع بمحاورة القوم مع الرسل، أتى إلى القوم لينصحهم وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ أي آخرها رَجُلٌ يَسْعى أي يركض و يسرع في المشي، لئلا يفوته الموقف، و قد قيل إن القوم أرادوا قتل الرسل، فجاء حبيب لإنقاذهم من القتل، فلما وصل إلى المجتمع قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلهم الله إليكم لهدايتكم و إنقاذكم من الكفر و العصيان.

[22] اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً فهم، لا يريدون جزاء و ثمنا على تبليغهم، و إنما يقصدون بذلك الثواب، عند الله سبحانه، فما لكم لا تتبعون الناصحين الذين ينصحون، بلا ثمن و جزاء؟ وَ هُمْ في كلامهم مُهْتَدُونَ قد هداهم الله سبحانه، فليسوا ضلالا، و لا كاذبين، و لا طالبين للأجر.

[23] ثم التفت حبيب من الخطاب إلى التكلم، فقال وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي أيّ شي ء لي في عدم عبادتي لله الذي خلقني؟ فإن «فطر» بمعنى خلق، و كان هذا الكلام للقوم، بصورة مؤدبة لا تثيرهم، و لا تزعجهم وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أيها القوم، في يوم القيامة، فهو المبدئ و المعيد، فكونه خالقا موجب للشكر و العبادة و كونه مرجعا موجب للخوف و العبادة، فإن الإنسان إنما يطيع أحدا، إذا تفضل عليه، أو خاف عقابه، و الأمران مجتمعان فيه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 441

[سورة يس (36): الآيات 23 الى 25]

أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي

شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)

[24] أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله آلِهَةً بأن أعبد الأصنام، عوض عبادة الله تعالى؟ و هذا استفهام إنكاري، أراد التعريض بالقوم، كيف يعصون الخالق، و يعبدون الأصنام؟ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ أصله «يردني»، فعل مضارع من «أراد» و النون للوقاية، و ياء التكلم، محذوف، لدلالة الكلام عليه، أي إن إرادة الله أن يضرني لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ أي شفاعة الأصنام- الآلهة- شَيْئاً فإنها لا تشفع، و لو شفعت لم تفد شفاعتها، أو المعنى لا شفاعة لهم، فتغني و تفيد، على طريق السالبة بانتفاء الموضوع وَ لا يُنْقِذُونِ أي لا ينقذونني عن الضرّ الذي أراده الله بي، و قد أراد بهذا تنبيه القوم على ما هم كانوا يعترفون به في قرارة أنفسهم، من أن الأصنام، لا شأن لها إطلاقا، حتى إن أقل شي ء لا يصدر منها، و الإتيان بالجمع العاقل للأصنام، لملاحظة وحدة السياق، مع كلام القوم، و اعتقادهم بأنها تسمع و تعقل.

[25] إِنِّي إِذاً أي إذا عبدت الأصنام، مع أنها لا تنفع لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح لا شك فيه.

[26] إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ أيها الرسل، أو أيها القوم فَاسْمَعُونِ سماعا يفيدكم، بأن تفعلوا مثل فعلي، أو المراد، فاشهدوا لي بهذه الشهادة، فإني مؤمن بربكم الذي أوجدكم من العدم، لا الأصنام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 442

[سورة يس (36): الآيات 26 الى 27]

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

[27] قالوا، فاجتمع القوم، و قتلوا حبيبا، فنودي، حين أن قتل من قبله تعالى، و قِيلَ له

ادْخُلِ الْجَنَّةَ المعدة لك بسبب إيمانك قالَ و هو ميت بعد استشهاده، كما ورد يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ

[28] بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أي بغفران ذنوبي، ليرغبوا في ثوابه، و يدخلوا في الدين، بترك الكفر و العصيان وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ الذين أكرمهم، بالإضافة إلى الغفران بالثواب و الجنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 443

تقريب القران إلى الأذهان الجزء الثّالث و العشرون من آية (29) سورة يس إلى آية (32) سورة الزمر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 444

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 445

[سورة يس (36): الآيات 28 الى 30]

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)

[29] ثم إن الكفار يجب أن يعلموا أن الله سبحانه إذا أراد إهلاكهم، لا يرسل إليهم جنودا حتى يقاتلونهم، فيرجون احتمال غلبهم على جنود الله، حتى يقولوا إذا جاءت الجنود نتهيأ لها، بل إن الله إذا أراد الإهلاك، أرسل إليهم ملكا يصيح بهم صيحة واحدة تدمرهم، حتى إنه ليس لهم مجال لحركة أو عمل، فليعتبروا من قوم حبيب النجار، فإن جماعة منهم بقوا على الكفر، بعد إيمان الملك و حاشيته، و أرسلنا عليهم جبرئيل، أو ملكا آخر صاح بهم صيحة واحدة أو خلقنا صيحة في الفضاء، أهلكتهم جميعا، حتى لم يبق منهم حيّ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ أي قوم الرجل الذي جاء، من أقصى المدينة يسعى

مِنْ بَعْدِهِ أي بعد قتلهم له مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ من الملائكة، يحاربونهم، حتى تكون لهم فرصة المقاتلة، و احتمال الغلبة وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي ليس شأننا، إنزال الجند، إذا أردنا إهلاك قوم، أو كما ننزل فيما سبق، لا ننزل في المستقبل- و هذا تهديد لكفار مكة-.

[30] إِنْ كانَتْ أي ما كانت كيفية إهلاك أولئك القوم إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاح بهم الملك، أو بخلق الصيحة في الفضاء فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ساكنون، قد ماتوا، من الخمود ضد الاشتعال، كأنهم قد أطفئوا في أثر الصيحة.

[31] يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ الحسرة هي الندامة، فالمعنى أيتها الندامة على العباد، احضري فهذا وقتك، كما قالوا في مثل «يا ويله» و «يا عجبا» أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 446

[سورة يس (36): الآيات 31 الى 33]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)

المعنى، يا قوم أتحسر حسرة، و من المعلوم إن الله سبحانه لا يتحسر بمعناها في البشر، و إنما المراد نتيجة الحسرة، كما في سائر الصفات، كالغضب و الرضى، و ما أشبه، و لذا قالوا خذ الغايات، و اترك المبادئ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ «من» «لتعميم» النفي إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يضحكون منه، و يجعلونه محلا للسخرية، و حيث كان الكلام في السابق، حول مواجهة الأقوام للأنبياء، بالأذى و التكذيب، جاء السياق لبيان عموم الأذى، و إنه كان من شعبة السخرية.

[32] أَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار المعاصرون للرسول، و معنى الرؤية العلم، على نحو الاستفهام التقريري، أي ألم يصل علمهم كَمْ أَهْلَكْنا

قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء مِنَ الْقُرُونِ كعاد و ثمود، و قوم لوط، و القرن يسمى الجيل و الأمة، باعتبار تقارن أعمارهم أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ أي أن تلك القرون إلى هؤلاء لا يَرْجِعُونَ فقد أخذهم العذاب، فلم تبق منهم باقية؟ فليعتبروا بأولئك، و ليعلموا أن مصير هؤلاء إن بقوا على كفرهم و تكذيبهم مصير أولئك.

[33] وَ إِنْ كُلٌ أي ما كل تلك الأقوام لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «لما» بمعنى إلّا، أي إلا أن الجميع يحضرون لدينا يوم القيامة للحساب و الجزاء، و لعل «كل» باعتبار كل قوم، و «جميع» باعتبار كل فرد من كل قوم.

[34] ثم كيف يكفر هؤلاء بالله سبحانه، و أمام أعينهم، آثاره الظاهرة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 447

[سورة يس (36): الآيات 34 الى 35]

وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (35)

و أعلامه الباهرة؟ وَ آيَةٌ أي علامة دالة على وجود الله لَهُمُ أي لهؤلاء المنكرين وجود الله سبحانه الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ التي لا نبات فيها، و لا حركة أَحْيَيْناها بالإنبات بواسطة المطر، أو سائر المياه وَ أَخْرَجْنا مِنْها من تلك الأرض الحبوب، فإن حَبًّا يراد به الجنس، و الحب، كالحنطة، و الشعير، و الأرز، و غيرها فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي من ذلك الحب، و المراد بعضه، لأن بعضه الآخر، يكون نصيب الحيوانات و الطيور.

[35] وَ جَعَلْنا فِيها أي في الأرض جَنَّاتٍ أي بساتين مِنْ نَخِيلٍ جمع نخل، و هو ما يعطي التمر وَ أَعْنابٍ جمع عنب، و أطلق العنب على شجرته باعتبار السبب و المسبب، و إنما خصّا بالذكر لكثرة أقسامهما خصوصا في تلك البلاد وَ فَجَّرْنا أي

أخرجنا فِيها في تلك الأرض الميتة، أو في تلك الجنات مِنَ الْعُيُونِ جمع عين، و هي محل خروج الماء العذب من الأرض.

[36] و إنما فعلنا ذلك لِيَأْكُلُوا أي ليأكل البشر مِنْ ثَمَرِهِ أي من ثمر النخل و ما أشبه، و توحيد الضمير باعتبار كل واحد واحد وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أي لم تعمل كل عمل، من تلك الأعمال أيدي هؤلاء، فإنهم، و إن عملوا، و لكنهم أسباب ضعيفة ظاهرية، و إنما الخالق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 448

[سورة يس (36): الآيات 36 الى 38]

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)

المكون هو الله تعالى أَ فَلا يَشْكُرُونَ الله، بإعطائهم هذه النعم المتواترة؟

[37] سُبْحانَ الَّذِي منصوب بفعل مقدر أي أنزهه تنزيها، و أسبحه تسبيحا خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها المراد بالأزواج الأصناف، أي أن من خلق هذه الأصناف الكثيرة الموجودة في العالم، منزه عن الشريك و النقص، بل هو الواحد الذي لا نقص فيه مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ بيان «الأزواج» أي خلق أزواج النبات و أصنافه وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ خلق الأزواج، ذكرا و أنثى وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ من الجن و الملائكة، و ما في بطون الأرض، و قعر البحر، و أجواء السماء، و أصناف النجوم و غيرها.

و ستأتي الإشارة إلى خلق الأنعام، و لعله لذا لم يذكر هنا.

[38] وَ آيَةٌ لَهُمُ أي دلالة على وجود الله، و سائر صفاته، لهؤلاء المنكرين لله سبحانه اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فكأنّ النهار كان جلدا على جسم الليل، فإذا جاء الليل، كأنّه

سلخ النهار من الليل، حتى يبدو الليل، كما يسلخ جلد الشاة منها، فيبدو جسمها، فهو كقولنا «لحم الشاة نسلخ منه الجلد» فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام.

[39] وَ الشَّمْسُ تَجْرِي كل يوم، لأن يأتيهم بالنهار لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 449

[سورة يس (36): الآيات 39 الى 40]

وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

إلى محل قرار لها- عند الناس- و هو تحت الأرض، أو إلى وقت قرار لها، و هو يوم القيامة ذلِكَ الإجراء تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في سلطانه، فما أراد كان الْعَلِيمِ بالمصالح، فيعمل ما فيه صلاح البشر و الكون.

[40] وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ أي قدرنا له مَنازِلَ ففي كل يوم في منزل، فإن للقمر ثمانية عشر منزلا، كما ذكر علماء الفلك، أو المراد المنازل المرئية من هلال و قمر و بدر، في أحوالها المختلفة زيادة و نقيصة حَتَّى عادَ القمر في آخر الشهر كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ العرجون هو العذق اليابس المقوّس، فإن القمر في آخر الشهر يعود كما بدأ هلالا ضعيفا مقوسا.

[41] لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أي لا تتمكن أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سيرها فإن الشمس تقطع دورة الفلك في سنة كاملة، و التي يقطعها في شهر، أو أن حركاتهما في أفلاكهما نظّمتا بحيث لا يصطدم أحدهما بالآخر، و هذا بيان لحكمة الله سبحانه، في أنه نظمهما، بحيث لا يتلاقيان، و يسببا فساد الأنظمة الكونية وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ بأن يأتي الليل قبل تقضي وقت النهار، كالإنسان الذي يسبق الآخر الذي يأتي حتى يلحقه، ثم يترادفان في المسير حتى يتقدم ذلك المتأخر،

فإن الليل لا يزاحم النهار في أفق واحد، حتى يرى الإنسان ليلا و نهارا في حال واحد، ثم يتقدم الليل، و يتأخر النهار، و هذا كناية عن دقة التنظيم الذي لا يتزلزل وَ كُلٌ من الشمس و القمر فِي فَلَكٍ و مدار خاص يَسْبَحُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 450

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 499

[سورة يس (36): الآيات 41 الى 43]

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)

كالذي يسبح في الماء بكل سهولة و يسر، و الإتيان بضمير العاقل، إما من باب أن لهما عقلا- و ذلك غير بعيد- و يؤيده ما

ورد في الدعاء من خطاب القمر، ب «أيها الخلق المطيع»

و إما من جهة أنه حيث نسب إليهما السباحة، و هي من فعل العاقل، ناسب الإتيان بضمير العاقل.

[42] وَ آيَةٌ أي دلالة دالة على وجود الله سبحانه، و سائر صفاته لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار، أو البشر عامة أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أي نسلهم، و لعل نسبه الحمل إلى الذرية، مع أن الحمل عام للآباء و الأبناء، إن الذرية أحوج إلى الحمل فإن الإنسان الكبير، يمكن أن يعبر مضايق البحار بالسباحة، و ما أشبه، أما الذرية فلا علاج لسيرهم إلا بالسفينة فِي الْفُلْكِ أي السفينة الْمَشْحُونِ من «شحن» إذا ملأ، بمعنى السفينة المليئة بالناس و الأثاث، و معنى «حملنا» جعلنا الماء بحيث يمكن أن يحمّل عليه، بمثل السفينة المملوءة، فمن جعل ذلك يا ترى؟ إنه هو الله تعالى القادر على كل شي ء، فبينما القطعة الصغيرة من الحجر تعوم في الماء، لتسير على

ظهره السفينة المحمّلة بالأثقال.

[43] وَ خَلَقْنا لَهُمْ أي للبشر، أو للذرية مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ عليه في البر من الأنعام التي تحمل أثقالهم إلى البلاد النائية.

[44] وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ في البحر، حين كانوا راكبين في السفينة، و ذلك بتهييج الرياح و العواصف، أو ما أشبه فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي فلا أحد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 451

[سورة يس (36): الآيات 44 الى 46]

إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)

يغيثهم، إن أردنا إغراقهم وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ أي لا يخلصون من الغرق، إذا أردناه، و لعل الفرق بين الأمرين، أن الصريخ أعم من المنقذ، فالصريخ من يترحم عليهم، سواء قدر على إنقاذهم أم لا.

[45] إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا أي لا منقذ لهم، إلا رحمنا بهم و فضلنا عليهم، فإنه هو الذي بنجيهم من مخاطر البحر وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ أي و لأجل أن يبقوا أحياء مدة عمرهم حسب تقديرنا، إلى حين يوافيهم الأجل، أي أنقذناهم رحمة و إمتاعا.

[46] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ لهؤلاء الكفار الذين يشاهدون هذه الآيات الدالة على قدرتنا، و سائر صفاتنا اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أي ما أمامكم من الآخرة، فلا تعصوا حتى يحل عليكم عذاب ذلك اليوم وَ ما خَلْفَكُمْ فإن الإنسان العاصي يعاقب في الدنيا في مستقبل عمره بالعيش الضنك، كما قد يبتلي أولاده بما صنع، و هذا هو «ما خلف الإنسان» لأن الإنسان يخلف الدنيا وراءه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي يرحمكم الله تعالى، فلا يؤاخذكم بسيئات أعمالكم، و

جواب «إذا» محذوف تقديره «أعرضوا» و لم يقبلوا، و قد استدل لذلك بقوله.

[47] وَ ما تَأْتِيهِمْ أي تأتي هؤلاء الكفار مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ كالمعجزات التي يأتي بها الأنبياء، و الآيات التي تظهر في الكون،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 452

[سورة يس (36): الآيات 47 الى 49]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (49)

و كالآيات المنزلة بقصد التشريع، و ما أشبه إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعرضون عن تدبرها، و العمل بموجبها، و إنما هم قد ركبوا أهواءهم، و عملوا بما توحي إليهم أنفسهم و تقاليدهم، و بهذا يخسرون الدنيا و الآخرة، و يلقون في العذاب.

[48] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من المال قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا الذين يأمرونهم بالإنفاق أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ على نحو الاستفهام الاستنكاري، أي لماذا نطعم من لا يشاء الله إطعامه، إذ لو شاء إطعامه، تمكن من إطعامه؟

و قد أرادوا بذلك الفرار، عن بذل بعض أموالهم، ثم يقولون للمؤمنين مستهزئين إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيها المؤمنون إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح، حيث تأمروننا بالإنفاق لمن لا يريد الله إطعامه.

[49] و قد كان المؤمنون ينذرون الكفار، بأنهم إن لم يؤمنوا، عاقبهم الله إما في الدنيا أو في الآخرة وَ لذا كان الكفار يَقُولُونَ منكرين قولة المؤمنين مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدوننا به من نزول العذاب بنا إن بقينا على الكفر

إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون صادِقِينَ فيما تقولون؟

[50] ما يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تصاح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 453

[سورة يس (36): الآيات 50 الى 51]

فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)

بهم بإذن الله، كما صيحت بالأقوام السابقين تَأْخُذُهُمْ و تهلكهم، فهل يريد هؤلاء تلك الصيحة؟ و هذا الكلام من باب الإهانة لهم، و بيان أن أمرهم يسير جدا، حتى أن صيحة واحدة تكفي لإبادتهم وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ أي تأخذهم الصيحة في حال كونهم، يختصمون في أمورهم، فتأخذهم على غرّة و غفلة من أمرهم، من «خصّم» أصله «اختصم».

[51] فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً فإذا أخذتهم الصيحة بغتة، لم يقدروا على الإيصاء وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ إذا أخذتهم الصيحة خارج بيوتهم، فإن اختصامهم معناه أنهم في الأسواق، و في محل أعمالهم و أشغالهم، و يحتمل، أن يراد ب «الصيحة» النفخة الأولى، فإن إسرافيل ينفخ في الصور، فيهلك جميع البشر، دفعة واحدة، كما ورد في الأحاديث، أي أنهم لا يؤمنون، حتى تأخذهم الصيحة على نحو الاستفهام الإنكاري.

[52] و بهذه المناسبة، يأتي السياق، لبيان بعثهم بعد موتهم، فقد رأينا، كيف ماتوا، بصيحة خارقة، أو بقبض روحهم، بواسطة عزرائيل، الذي هو شبيه بالصيحة، أو بنفخ إسرافيل، فلننظر إلى حشرهم وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ هو شبيه بالبوق، ينفخ فيه إسرافيل، حين يريد الله إحياء الناس للقيامة و المعاد فَإِذا هُمْ أي فإذا بالكفار بغتة و فجأة مِنَ الْأَجْداثِ جمع جدث، و هو القبر إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ و المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 454

[سورة يس (36): الآيات 52 الى 54]

قالُوا يا وَيْلَنا

مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

الموضع الذي قرره الله سبحانه للحشر و الحساب، و إلا فلا مكان له سبحانه، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، لتقريب الذهن، و معنى ينسلون، يخرجون سراعا إلى الموقف، فإن النسول هو الإسراع في الخروج.

[53] قالُوا لما رأوا أهوال القيامة يا وَيْلَنا يا هلاكنا، احضر فهذا وقتك، أو يا قوم، ندعو على أنفسنا بالويل مَنْ بَعَثَنا أي أقامنا مِنْ مَرْقَدِنا محل رقدتنا، و الرقدة هي النوم، و المراد من قبورنا، ثم يقولون هذا البعث هو ما وَعَدَ الرَّحْمنُ في دار الدنيا، فلم نك نصدّقه وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي الأنبياء عليهم السّلام، الذين أخبروا بذلك، فلم نك نصدقهم، فالآن نشاهد صدقهم، و هم في القبر، لم يكونوا نياما، و إنما قالوا ذلك، باعتبار، أن قبرهم قد خلص، و صاروا إلى حال آخر، إذ حيوا كما كانوا في الدنيا.

[54] و ليس أمر البعث صعبا على الله سبحانه إِنْ كانَتْ أي ما كانت بعثتهم إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها إسرافيل في الصور النفخة الثانية فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ترد أرواحهم إلى أجسادهم، و يحضرون في موقف الحشر للحساب و الجزاء.

[55] فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بأن يزاد في سيئاته،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 455

[سورة يس (36): الآيات 55 الى 58]

إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ

رَحِيمٍ (58)

أو ينقص من حسناته وَ لا تُجْزَوْنَ أيها البشر إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فجزاء كل حسب عمله، أو المراد إن الأعمال تجسّم فكل يرى عمله.

[56] قد رأينا أحوال أصحاب النار، و أنهم يدعون بالويل، فلننظر إلى أحوال أهل الجنة إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الذين صدقوا بالله، و بالرسول، و بالمعاد الْيَوْمَ أي في ذلك اليوم فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ قد شغلهم النعيم، الذي لا عين رأت مثله، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، و معنى فاكهون، فرحون، ناعمون، متنعمون.

[57] هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ من حور العين، أو حلائلهم الدنيوية، أو أشكالهم من سائر صنوف المؤمنين فِي ظِلالٍ هي ظلال أشجار الجنة و قصورها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة، و هي السرير الذي يصنع للعروس مُتَّكِؤُنَ فهم في كمال راحة، فإن الاتكاء أفضل أحوال الجالس.

[58] لَهُمْ فِيها أي في الجنة فاكِهَةٌ هي ثمر أشجار الجنة وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي يتمنون و يشتهون، يقال ادّع عليّ ما شئت أي تمنّ.

[59] و لهم بالإضافة إلى كل ذلك النعيم الجسماني نعيم روحي، و هو سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي يقول الرب الرحيم لهم قولا، هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 456

[سورة يس (36): الآيات 59 الى 62]

وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)

سلام، فإنه سبحانه يحيّيهم بالسلام.

[60] وَ في القيامة يقال للكفار امْتازُوا أي انفصلوا عن جماعة المؤمنين الْيَوْمَ أي في هذا اليوم أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فكونوا على حدة، و ذلك لإهانتهم، فإن المجرم

إذا كان بين أناس آخرين لا تزدريه العيون، بخلاف ما إذا انفصل عنهم.

[61] ثم يقال لهم من قبله سبحانه أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أي ألم آمركم و أعاهدكم على لسان الأنبياء أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أي لا تطيعوه فيما يأمركم إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، فلما ذا عبدتموه، و أطعتموه، حتى تردوا هذا المورد؟.

[62] وَ ألم أقل لكم أَنِ اعْبُدُونِي وحدي هذا أي عبادتي صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا انحراف فيه، و لا عوج، يوصلكم إلى خير الدنيا و سعادة الآخرة، فلما ذا تركتم عبادتي؟.

[63] وَ لَقَدْ رأيتم في الدنيا، أن الشيطان قد أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا أي خلقا كَثِيراً دعاهم إلى الضلالة، فقبلوا منه و انحرفوا أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ إن الشيطان يضلكم إن اتبعتموه، كما أضل جماعات كثيرة من جنسكم؟ و هذا استفهام إنكاري، يعني أنكم بعد ما رأيتم إضلال الشيطان، لجماعات منكم، كيف اتبعتموه؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 457

[سورة يس (36): الآيات 63 الى 66]

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)

[64] و إذ قد انحرفتم، و لم تسمعوا العظة، و النصيحة، ف هذِهِ التي تشاهدونها جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا، فلم تكونوا تصدقون بها.

[65] اصْلَوْهَا أي ادخلوها، لا زمين لها، من صلى، بمعنى لزم الشي ء الْيَوْمَ أي في هذا اليوم بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم.

[66] و هناك يشرع الكفار في الجدال و الكذب ظانين أن ذلك ينجيهم، كما كانوا يفعلون في الدنيا، فيحلفون بالله كذبا، قائلين

(وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1» و لكن كذبهم لا ينطلي هناك الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي نضع الختم على فمهم، لئلا يتمكنون من النطق وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ بأن نقدر أيديهم على الكلام، فتشهد الأيدي بأعمالها التي اقترفتها جرما و عصيانا وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بما كان يعمل هؤلاء المجرمون، فمثلا تقول اليد «إني سرقت»، و تقول الرجل «إني مشيت إلى الزنى» و هكذا يفضحون هناك، حيث لا مخلص لهم، عن مثل هذه الشهادة الدامغة، و في آية أخرى (وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ) «2».

[67] و لا يظنن هؤلاء الكفار، أنا لا نتمكن من النكال بهم في الدنيا، فإنا

______________________________

(1) الأنعام: 24.

(2) فصلت: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 458

[سورة يس (36): الآيات 67 الى 68]

وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ (67) وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ (68)

إنما نمهلهم هنا، و إلا فنقدر على مسخهم، و إنزال مختلف صنوف العقاب بهم جزاء على أعمالهم وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أي لأعميانهم، يقال طمس على عينه إذا محاها حتى لم يبق منها أثر فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ تسابقوا على الصراط، أي الطريق، فإن العميان حين يتسابقون لسلوك الطريق، يرى الإنسان منظرا مضحكا فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي كيف يبصرون الطريق بعد العمى، حتى لا يصطدم بعضهم ببعض، و لا يسقط بعضهم بعضا؟

[68] وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ و المسخ تبديل الإنسان حيوانا، كما مسخ اليهود قردة عَلى مَكانَتِهِمْ التي هم فيها، في ذلك الطريق الذي تسابقوا فيه فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أي يمضون إلى مقصدهم وَ لا يَرْجِعُونَ أي لا

يتمكنون من الرجوع، فهم في قبضتنا، حتى إنّا نتمكن أن نعميهم أو نمسخهم في لحظة، و مع ذلك لا نفعل بهم ذلك رحمة و إمهالا لهم لعلهم يرجعون.

[69] و هل يظن هؤلاء أنّا لا نقدر على مسخهم، أو طمس عيونهم؟ فلينظروا إلى الشباب كيف نبدلهم إلى شيوخ لا يقدرون على شي ء، بعد القوة و النضارة، فمن يقدر على ذلك، و هم يرونه كل يوم يقدر على المسخ و الطمس وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ أي نعطيه عمرا كثيرا نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 459

[سورة يس (36): الآيات 69 الى 70]

وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)

ننكس قواه و خلقته، فيصير بعد القوة ضعيفا، و بعد العقل خرفا، و بعد النضارة ذابلا، و بعد العلم جاهلا، و هكذا، فهو راجع إلى حالة الطفولة أَ فَلا يَعْقِلُونَ هؤلاء الكفار إن من يقدر على هذا التنكيس، قادر على ذلك التنكيس، بالطمس و المسخ؟

[70] و قد كان الكفار يقولون، إن محمدا شاعر، و إن القرآن شعر، فرجع السياق إلى ما بدأ: حيث قال «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» قائلا وَ ما عَلَّمْناهُ أي ما علمنا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشِّعْرَ فليس القرآن شعرا وَ ما يَنْبَغِي لَهُ أن يقول الشعر من عند نفسه، ثم ينسبه إلى الله سبحانه، و

قد رووا إنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان لا ينشد الشعر إطلاقا، حتى أنه إذا أراد أن يقرأ شعرا، بدّله حتى يخرج عن كونه شعرا، فقال ذات يوم بدل «كفى الشيب و الإسلام للمرء

ناهيا» ب «كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا»

أما ما

ورد من أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال «أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب»

«1»، فلم يثبت أنه قرأه على طريقة الشعر، فلعله لم يقف على «كذب» إِنْ هُوَ أي هذا الذي يقرأه من قبله تعالى إِلَّا ذِكْرٌ للناس وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ واضح، و ليس بشعر، و المراد بالذكر، إنه يذكّر الناس خالقهم الذي نسوه، بعد ما أودع في فطرتهم، و لعل الإتيان، ب «الذكر» لأن الشعر كان في الغالب لهوا و تشبيبا، فالذكر مقابل له.

[71] لِيُنْذِرَ الله بواسطته، أو لينذر الرسول، أو لينذر القرآن مَنْ كانَ حَيًّا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 140.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 460

[سورة يس (36): الآيات 71 الى 73]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (73)

في أنه يسمع و يعقل، مقابل الإنسان الميت، الذي لا ينفعه الإنذار، و إنما شبّه بالميت، لأنه و الميت سواء، في عدم الاجتناب عن الشي ء المخوف وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ أي يثبت القول بالعذاب عَلَى الْكافِرِينَ بأن يتم عليهم الحجة، ففائدة القرآن، هداية العقلاء، و إتمام الحجة على الكفار.

[72] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي هؤلاء الكفار المنكرون لله تعالى أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ أي لمنافعهم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا كناية عن تفرده سبحانه بالخلق، و النسبة إلى «اليد» للتشبيه بالمحسوس تأكيدا لعدم الاشتراك في خلقها أَنْعاماً جمع نعم، و هي الإبل و البقر و الغنم فَهُمْ لَها مالِكُونَ فهم أنها ملكوها، بفضلنا و إحساننا؟ فمن يا ترى

خلق لهم هذه الأنعام غيرنا؟

[73] وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ أي سخرناها لهم، حتى صارت منقادة ذليلة تطيعهم، فلو كانت الأنعام، كسائر السباع، أو الحشرات- حتى مثل الفأر- فمن يا ترى كان يمكنه تسخيرها و تذليلها؟ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي من تلك الأنعام لفائدة الركوب كالإبل وَ مِنْها يَأْكُلُونَ أي و منها لفائدة الأكل، كالبقر و الغنم.

[74] وَ لَهُمْ للبشر فِيها في تلك الأنعام مَنافِعُ كلبس أصوافها و أوبارها، و إشعال فضلاتها، و ما أشبه ذلك وَ مَشارِبُ جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 461

[سورة يس (36): الآيات 74 الى 75]

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)

مشرب، و هو مصدر ميمي، و المراد لبنها أَ فَلا يَشْكُرُونَ هذه النعم، التي منحناها لهم، بترك الكفر، و الدخول في زمرة المؤمنين و المطيعين.

[75] إنهم بعد أن علموا بجزيل إحساننا، و فضلنا عليهم، اتبعوا طريق الكفر و العصيان وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً المراد الجنس، فيشمل الواحد أيضا، فإن الجنس و الجمع يقومان مقام الآخر لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي لكي تنصرهم تلك الآلهة، من بأس الله سبحانه، كما قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1» و قالوا (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) «2».

[76] و لكنهم أخطئوا في انتظار النصرة من الآلهة لا يَسْتَطِيعُونَ أي تلك الآلهة، و الإتيان بضمير العاقل، لتوحيد السياق في الحوار، بين المؤمنين، و الكفار، فإن الكفار كانوا يعبرون عن الأصنام، بألفاظ العقلاء زعما منهم، إنها تعقل و تدرك نَصْرَهُمْ أن تنصر هؤلاء الكفار وَ هُمْ أي الكفار لَهُمْ أي لتلك الآلهة جُنْدٌ كالجند، لأن الأتباع، كالجند مُحْضَرُونَ جميعا في النار، أو المراد إن هؤلاء

هم جنود الآلهة المحامون عنها، فكيف يمكن أن تكون الآلهة هي المحامية عنهم؟

______________________________

(1) الزمر: 4.

(2) يونس: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 462

[سورة يس (36): الآيات 76 الى 78]

فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (76) أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78)

[77] فَلا يَحْزُنْكَ يا رسول الله قَوْلُهُمْ قول هؤلاء الكفار فيك، إنك شاعر، أو ما أشبه ذلك إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم، و بينهم في مجالسهم الخاصة وَ ما يُعْلِنُونَ في الملأ حولك، و حول رسالتك، من الوقيعة فيك، و نسبتك إلى الجنون و الكهانة و السحر، و ما أشبه.

[78] و إذ ذكر السياق جملة حول الرسالة، رجع إلى الكلام حول المعاد، و قد كان من بلاغة القرآن الحكيم، إنه لا يأتي بكلام واحد في تفصيل، و إنما يقطع الكلام المختلف تقطيعا، و يذكر بعض نوع في خلال نوع آخر، حذرا من الإسهاب، و ملالة السامع أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ المنكر للمعاد أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ أي قطرة من المني؟ و المراد بالرؤية العلم فَإِذا هُوَ إنسان كبير خَصِيمٌ لنا، أي يخاصمنا في أوامرنا و أخبارنا مُبِينٌ ظاهر الخصومة، فإنه يخاصم في قدرتنا على البعث، و قد رأى كيف قدرنا على أن نصنع إنسانا، من قطرة مني؟

[79] وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي ضرب مثلا لإنكاره المعاد بالعظم البالي وَ نَسِيَ خَلْقَهُ أي ترك النظر في خلق نفسه، حيث إن تصيير المني إنسانا، أصعب في نظر العامة، من تصيير العظم البالي إنسانا قالَ و هذا هو مثله

مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ أي بالية؟ و الاستفهام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 463

[سورة يس (36): الآيات 79 الى 80]

قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)

إنكاري تعجبي، أي لا يمكن أن تحيى العظام البالية،

فقد ذكروا إن أبي بن خلف، أو العاص بن وائل، جاء إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعظم بال متفتت، و قال: يا محمد أ تزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

نعم، و نزلت الآية

«1».

[80] قُلْ يا رسول الله، في جوابه يُحْيِيهَا أي العظام الَّذِي أَنْشَأَها و أبدعها و خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي في ابتداء الأمر، فمن كان قادرا على الإيجاد، فهو قادر على الإعادة وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ فليس لأحد أن يقول: هناك فرق بين الإيجاد و الإعادة، فإن الإعادة بالإضافة إلى احتياجها إلى القدرة، تحتاج إلى علم واسع، لكي يعلم الشخص إن أجزاء الميت الفلاني أين تفرقت و تناثرت، حتى يجمعها بأعيانها، ليكون المعاد، هو الأول، لا غيره؟ فإن الجواب، إن الله سبحانه، كما هو قادر على كل شي ء، عالم بكل شي ء.

[81] ثم بيّن سبحانه، بعض آثار قدرته، دليلا على قدرته على إحياء الأموات الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ أي الرطب، غير اليابس، و إنما يسمى الرطب بالأخضر، لأن الماء إذا كان داخلا في الأعواد، كان لون الشجر أخضر، فإذا يبس، مال لونه إلى السواد و الغبرة ناراً، ف «المرخ» و «العفار» شجرتان، إذا اصطكت بعض أحدهما ببعض الآخر، خرج النار من بينهما، فمن قدر على

إخراج النار من الشجر الرطب المضاد للحرارة، قادر على إيجاد الحياة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 464

[سورة يس (36): الآيات 81 الى 83]

أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

في العظم البالي فَإِذا أَنْتُمْ أيها البشر مِنْهُ أي من ذلك الشجر المخرج للنار تُوقِدُونَ أي تشعلون الحطب، فمن يا ترى جعل النار في الشجر الريان بالماء؟ و من يا ترى جعل الشجر، بحيث يختزن من شعاع الشمس، مقدار يخرج و يتقد بمجرد الحك و الدلك؟ إنه هو الله القادر على كل شي ء.

[82] ثم أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ هذين المخلوقين العظيمين بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بأن يصبّ أجزاءهم البالية في القالب، حتى يخرج إنسان مثل الإنسان الأول؟ بَلى قادر على ذلك وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إذ هذه العملية، تحتاج إلى قدرة و علم، و كلاهما متوفران لديه سبحانه.

[83] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ و بمجرد هذه اللفظة، أو معناها- و هي الإرادة- يبدع ذلك الشي ء، المراد فَيَكُونُ أمرا موجودا في الخارج، فلا يحتاج سبحانه، إلى آلات و أسباب و زمان، حتى يوجد شيئا، و قد ذكرنا سابقا إن «كن» إما حقيقة بأن يخلق سبحانه صوتا، أو إشارة إلى إرادته تعالى حدوث ذلك الشي ء.

[84] فَسُبْحانَ منصوب بفعل مقدر، أي أسبح سبحان الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ و المعنى أنزهه تعالى عن عدم القدرة، أو عدم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4،

ص: 465

العلم، و المعنى إن تمت قدرته ملك كل شي ء، فهو قادر على الإيجاد و الإعادة، فإن «ملكوت» هو الملك، و زيد فيه التاء للعظمة، نحو «جبروت» و ملكوت كل شي ء ما يقوم به ذلك الشي ء، و لفظة «بيده» للكناية، فإن اليد هي الآخذة بالمملوكات، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و إلا فليس لله سبحانه يد كأيدينا، فإنه سبحانه منزه عن الجسمية، و عوارضها وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تردون إلى جزائه و حسابه، حيث لا يملك أحد شيئا، إلا هو وحده فيجازيكم حسب أعمالكم الكافر و العاصي بالعقاب، و المؤمن و المطيع بالثواب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 466

37 سورة الصافات مكيّة/ آياتها (183)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه اللفظة في قوله «و الصافات» و هي كغالب السور المكية، تعالج قضايا العقيدة، بأصولها الثلاث، التوحيد و الرسالة و المعاد، في أسلوب قصصي رائع، و لما ختمت سورة «يس» بشؤون الإله سبحانه، ابتدأت هذه السورة بتلك، مع فصل آيات سيقت للحلف على ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الواحد، الذي له كل شي ء جميل، و هو منزه عن كل شي ء قبيح، فإن لفظ «الله» بما هو علم للذات المستجمع لجميع الكمالات، يوحي إلى هذا المعنى، و الرحمن الرحيم، وصفان مشتقان من الرحمة، يوحي مبدأ اشتقاقهما بالفضل و الرحم، و تكرارهما، بقوة هذه الصفة في ذاته سبحانه، و الرحمن صفة الفعل، و ليس صفة الذات، فالمعنى أنه سبحانه يفعل ما يفعله الرحيم، لا إن له حالة نفسية، توجب ذلك و لذا قالوا في مثل هذه الصفات «خذ الغايات و اترك المبادي».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 467

[سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ

الصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ (5)

[2] وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا «الصافات» جمع صافة، و هي الملائكة التي تصف أقدامها للصلاة و الإطاعة، أو أجنحتها حال الصعود و الهبوط و «صفا» تأكيد له، أي قسما بالملائكة الصافات، الذين يصطفون صفا، و إنما جي ء بالجمع المؤنث، باعتبار الجماعة.

[3] فَالزَّاجِراتِ أي ثم قسما بالملائكة التي تزجر الكفار حين قبض أرواحهم، أو تزجر من أمر الله، بزجره زَجْراً مصدر تأكيدي لفعل محذوف.

[4] فَالتَّالِياتِ ذِكْراً أي ثم قسما بالملائكة التي تتلو القرآن، أو سائر الكتب المنزلة، و حيث إن معنى التاليات يلازم الذكر جي ء تأكيده بلفظ «ذكرا».

[5] قسما بهؤلاء الطوائف من الملائكة إِنَّ إِلهَكُمْ أيها الناس لَواحِدٌ لا شريك له، و قد نرى في القرآن الحكيم القسم من الله سبحانه، بأصناف و أنواع مختلفة من الخلق، دلالة لعظمتها في أنفسها، و إن لا يصح لنا أن نحلف إلا باسمه الكريم، كما

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان حالفا، فليحلف بالله، أو ليسكت

«1».

[6] رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما و مربيهما وَ ما بَيْنَهُما من الهواء، و الإنسان و الملائكة، و غيرها وَ رَبُّ الْمَشارِقِ جمع مشرق،

______________________________

(1) متشابه القرآن: ج 2 ص 198.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 468

[سورة الصافات (37): الآيات 6 الى 8]

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8)

و هو موضع طلوع الشمس، فإن الشمس في كل يوم تطلع من موضع جديد، فلمن هذا الموضع في كل يوم؟ إنه لله سبحانه.

[7]

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي السماء القريبة إلى الأرض، مؤنث «أدنى» و إنما خصها بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة، و لعل المراد بالسماء الدنيا مدار الأرض- كما يقوله العلم الحديث- بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ فإن الكواكب تزين الأرض، و الإضافة للنوع، أي بهذا النوع من الزينة، فإن السماء بجمالها تمتّع الإنسان، مع ما فيها من الفوائد الأخر.

[8] وَ حفظناها حِفْظاً فإن السماء محفوظة مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ متجرد خبيث خال من الخير، فقد يظهر من الأحاديث، أن في أعالي الجو، يقدر أمور الأرض، و كأنها مراكز للملائكة المدبرة للأمور- بإذن الله سبحانه- فالشياطين تريد الصعود إلى تلك المراكز، لاستراق بعض الكلمات، لتعلم ماذا يحدث في الأرض، لكن السماء محفوظة عن وصول الشياطين و «مارد» مشتق من «مرد» و هو المنجرد، و منه يسمى بالأجرد، من لا شعر له، فكان الشيطان مجرد عن الخير لا يتأتى منه عمل حسن.

[9] لا يَسَّمَّعُونَ من أسمع أصله من باب الافتعال «استمع» ثم قلبت التاء سينا، على القاعدة، أي إنما حفظنا السماء من كل شيطان لكي لا يستمعون إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى و هم أشرف الملائكة الذين وكّل إليهم بعض أمور الأرض و لهم مراكز في تلك الطبقات الرفيعة في الفضاء وَ يُقْذَفُونَ أي يقذف الشيطان الذي تجرأ و ذهب إلى هناك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 469

[سورة الصافات (37): الآيات 9 الى 11]

دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)

للاستماع مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء بالشهب، كاللص الذي يرميه الإنسان، إذ رآه يريد سرقته، فقد جعل الله سبحانه الكواكب محلات للإرصاد، فهناك

ملائكة ينظرون إلى الملأ الأعلى، فمهما اقترب منه شيطان رموه بالشهب- و هي النيازك- ينحونه عن الاقتراب، و هذا لا ينافي في تعليل النيازك، بعلل ظاهرة، فإنه سبحانه جعل للأشياء عللا ظاهرة، و عللا خفية، كالميت الذي إنما يموت بالسم ظاهرا، و بقبض ملك الموت لروحه باطنا، و كالكسوف الذي هو لكثرة المعاصي باطنا، و لحيلولة القمر بين الأرض و الشمس ظاهرا.

[10] دُحُوراً أي دفعا لهم بالعنف، و طردا، يقال دحره، إذا طرده بالعنف وَ لَهُمْ أي لأولئك الشياطين عَذابٌ واصِبٌ أي عذاب دائم ثابت إلى يوم القيامة.

[11] إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ الخطف هو سلب الشي ء خلسة بسرعة، و المعنى إن الشياطين لا يسمعون إلى الملائكة، إلا من اقترب خفية، فاختلس بعض الكلمات، التي تدار بين الملائكة، بأن لقفها بسرعة فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ أي لحقته و أصابته جمرة من نار مضيئة تثقب و تحرق الشيطان من حرارتها و حدتها، و هذه هي النيازك التي نراها في الليالي، و ذلك لا ينافي ما يعلله علم الفلك لها من أنها قذائف جوية.

[12] و بعد تذكير هؤلاء بما خلقنا من السماوات و الكواكب، و غيرها من المخلوقات العظيمة فَاسْتَفْتِهِمْ أي اسألهم يا رسول الله أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 470

[سورة الصافات (37): الآيات 12 الى 15]

بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (12) وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَ قالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)

أي أحكم صنعا، و أصعب في نظرهم أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الملائكة و السماوات و الأجرام؟ فكيف أن هؤلاء مع ضحالتهم يتكبرون عن الانقياد، بينما إن ما هو أشد منهم خلقا خاضعون منقادون؟ إِنَّا خَلَقْناهُمْ

مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي طين يلصق باليد، و هو الطين الصافي، و هذا بالنسبة إلى كل أحد أحد، فإن أصل كل فرد هو الطين- كما تقدم- فكيف أنهم مع وهن أصلهم يستكبرون؟

[13] بَلْ عَجِبْتَ يا رسول الله من كفر هؤلاء، و شدة إنكارهم، مع وضوح الأمر وَ يَسْخَرُونَ بينما أنت- مع عظمك- تعجب، كيف غفلوا و تمردوا؟ و هؤلاء يسخرون بك، و بما تقول من الحقائق الواضحة الظاهرة للعيان.

[14] وَ إِذا ذُكِّرُوا بآيات الله، أي ذكرتهم بالله و المعاد، مما هو كامن في فطرة كل أحد لا يَذْكُرُونَ أي لا ينتفعون بالتذكير، فقد أقيم عدم السبب مقام عدم المسبب، إذ التذكير علة الانتفاع، فهم حيث لم ينتفعوا كأنهم لم يذكروا.

[15] وَ إِذا رَأَوْا آيَةً دالة على وجود الله، و سائر صفاته، أو على رسالتك، و صدق ما تقول يَسْتَسْخِرُونَ أي يستهزئون بتلك الآية قائلين: إنها سحر، و الآتي بها ساحر، و جعلوا يضحكون منك و منها.

[16] وَ قالُوا لتلك الآية إِنْ هذا أي ما هذا الذي عمله الرسول من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 471

[سورة الصافات (37): الآيات 16 الى 20]

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)

الإعجاز إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح ظاهر.

[17] ثم أخذوا يظهرون التعجب من قولك بأنهم يبعثون يوم القيامة قائلين أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً بأن صارت لحومنا ترابا، و بقيت عظامنا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي محيون بعد الموت؟

[18] أَ وَ يبعث آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الذين ماتوا،

و صاروا ترابا، و الهمزة للاستفهام، و الواو عاطفة.

[19] قُلْ يا رسول الله، في جواب استفهامهم الإنكاري نَعَمْ أنتم و آباؤكم تبعثون وَ الحال أَنْتُمْ داخِرُونَ أي صاغرون أذلاء، من دخر، بمعنى صغر و ذل.

[20] و ليس بعثكم أمرا مشكلا فَإِنَّما هِيَ أي بعثتكم بعد الممات زَجْرَةٌ أي صيحة واحِدَةٌ، هي نفخة إسرافيل في الصور، و إنما سمي النفخ زجرا لأنهم قد زجروا عن الحالة التي هم عليها إلى الحشر فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ إلى القيامة التي كذبوا بها.

[21] وَ قالُوا حين يرون القيامة يا قوم وَيْلَنا أو يا ويلنا احضر، فهذا وقتك، و ويل كلمة يقولها الإنسان عند توجه مصيبة إليه، كأنه يتمنى الهلاك فرارا عن تلك المصيبة هذا يَوْمُ الدِّينِ أي يوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 472

[سورة الصافات (37): الآيات 21 الى 24]

هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)

الحساب الذي كذّبنا به.

[22] فيردّ عليهم من قبل الله سبحانه، أو الملائكة، أو المؤمنين، ب هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الذي يفصل فيه بين المؤمن و الكافر، و المبطل و المحق الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فتقولون- و أنتم في الدنيا- لا حساب و لا جزاء.

[23] ثم يقال من قبل الله تعالى احْشُرُوا أي اجمعوا من ساحة المحشر الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ أي نساءهم الظالمات، أو المراد أشكالهم، فإن الزوج بمعنى الشكل، و كأنّ «الذين ظلموا» مراد به كبراء الظالمين، و يراد ب «أزواجهم» أشباههم من صغار الظالمين وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ أي الأصنام التي كانوا يعبدونها.

[24] مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سوى الله

سبحانه، و إنما الاستثناء باعتبار أن المشركين، كانوا يعبدون الله و الأصنام، فالاستثناء لتخصيص الأمر حتى في الصورة و اللفظ- بالأصنام فَاهْدُوهُمْ أي أرشدوهم و أروهم- بعد جمعهم جميعا- إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي الطريق التي تنتهي إلى النار، و إنما جي ء بلفظ الهداية لشباهة إراءتهم لطريق النار بإراءة المؤمنين طريق الجنة.

[25] وَ قِفُوهُمْ من «وقف» أي أوقفوا هؤلاء الكفار، قبل إلقائهم في النار إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي يلزم أن يسأل عنهم، عما فعلوا لزيادة التقريع،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 473

[سورة الصافات (37): الآيات 25 الى 28]

ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28)

ثم يلقون في النار، و قد ورد في بعض الأحاديث سؤالهم عن ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «1»، و ذلك من باب بعض المصاديق لما يسأل عنه هناك.

[26] ثم يقال لهم تقريعا و تبكيتا ما لَكُمْ أيها الكفار لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا، لإنجائكم من أهوال القيامة؟ أصله «تتناصر» حذفت إحدى تائيه للقاعدة.

[27] بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون، لما يفعل بهم، حيث لا يتمكنون من المعارضة، و ليس هناك كالدنيا، التي كان بعضهم ينصر بعضا- فيها- ضد الحق، و لإخماد نوره.

[28] وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ أي بعض أولئك الكفار عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فإن الأتباع يسألون القادة عن سبب إضلالهم؟ و يلقون عليهم تبعة ضلالهم.

[29] قالُوا أي قالت الأتباع للقادة إِنَّكُمْ أيها القادة كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي عن طريق اليمن و البركة، فتقولون لنا إن كفرتم، و لم تؤمنوا بقيت لكم البركة و السعادة الدنيوية، فلم كنتم تغوونا بهذه الغواية حتى نلاقي هذا المصير السيئ؟

أو المراد كنتم تأتون عن طرف

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 24 ص 272.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 474

[سورة الصافات (37): الآيات 29 الى 33]

قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33)

يميننا للإسرار في آذاننا، فإن الذي يريد أن يناجي، يسر في الأذن اليمنى، لأنها أكثر احتراما و استماعا، لأنها في طرف القلب.

[30] قالُوا أي القادة للأتباع، يريدون بذلك تبرئة ساحتهم عن تبعة كفر الأتباع بَلْ لَمْ تَكُونُوا أنتم بالذات مُؤْمِنِينَ فإنكم كنتم معرضين عن الله و الرسول، و إنا لم نسبب ضلالكم، حتى تكون التبعة علينا.

[31] وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ أيها الأتباع مِنْ سُلْطانٍ أي سلطة و قهر نجبركم على الكفر، لو لا أنكم كنتم تحبون الكفر بَلْ كُنْتُمْ أيها الأتباع، في أنفسكم، و بدون إغوائنا قَوْماً طاغِينَ قد طغيتم، و تجاوزتم حدود الإيمان فتبعتكم على أنفسكم، لا نحن معاشر القادة.

[32] فَحَقَّ عَلَيْنا جميعا التابع و المتبوع قَوْلُ رَبِّنا بأنا معذّبون، فقد قال الله سبحانه: إن من كفر، سيعذب، و قد ثبت، و انطبق علينا هذا القول، ف إِنَّا لَذائِقُونَ عذابنا على الكفر.

[33] و إذ قد ثبت علينا و انطبق العذاب فَأَغْوَيْناكُمْ حسب استعدادكم الذاتي، حيث انزلقتم معنا في حضيض الكفر إِنَّا كُنَّا بأنفسنا غاوِينَ و الطيور على أشكالها تقع.

[34] ثم يحكي سبحانه حالتهم جميعا، بقوله فَإِنَّهُمْ القادة و الأتباع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 475

[سورة الصافات (37): الآيات 34 الى 37]

إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ

اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)

يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ لكونهم جميعا، كانوا كفارا مشتركين في الضلال- في الدنيا- فاشتركوا في العذاب، هناك.

[35] إِنَّا كَذلِكَ أي كما فعلنا بهؤلاء من التعذيب نَفْعَلُ بسائر المجرمين فهم معذبون بما صدر منهم من الكفر و العصيان، و كأنّ الآية ذكرت سابقا جماعة خاصة، دار حولهم الكلام- و هم المشركون- ثم أرادت تعميم الأمر على سائر من يجرم.

[36] ثم بين سبحانه علة تعذيبهم بقوله إِنَّهُمْ كانُوا في الدنيا إِذا قِيلَ لَهُمْ قولوا لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ و اتركوا عبادة الأصنام يَسْتَكْبِرُونَ أي يطلبون الكبرياء، و يرون أنفسهم فوق هذا الاعتراف، أ ليسوا هم أكبر قدرا من أتباع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ بزعمهم.

[37] وَ يَقُولُونَ أي يقول بعضهم لبعض أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا أي هل إنّا نترك الأصنام لقول شاعر مَجْنُونٍ يعنون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الاستفهام إنكاري، أي لا نفعل ذلك.

[38] فرد الله عليهم ذلك بقوله، إن الرسول ليس شاعرا و لا مجنونا بَلْ جاءَ بِالْحَقِ الذي هو التوحيد، و سائر الشؤون الأصولية وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذين كانوا من قبله، و هل يقال لمثله شاعر، أو يقال له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 476

[سورة الصافات (37): الآيات 38 الى 43]

إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42)

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)

مجنون؟ فهذا كلامه، ليس بشعر، و هذه حركاته ليست بحركات ذي جنون.

[39] إِنَّكُمْ أيها الكفار

لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ أي المؤلم الموجع، فإن استمراركم في الكفر لا ينتج إلا ذاك.

[40] وَ ما تُجْزَوْنَ يوم القيامة إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي على قدر إجرامكم، أو نفس جرائمكم- بناء على تجسيم الأعمال-.

[41] و لما كان الخطاب، في «إنكم» يوهم العموم لكل الناس، استثنى سبحانه عن ذلك بقوله إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لنفسه، فلا يعملون، إلا لله سبحانه، فإن هؤلاء بمعزل عن العذاب الأليم.

[42] أُولئِكَ لَهُمْ في الجنة رِزْقٌ مَعْلُومٌ قد علم و قدّر جزاء لأعمالهم، و الحصة المعلومة، أقر للعين من الحصة المجهولة، التي لا يدري مقدارها.

[43] ثم بين سبحانه بعض ذلك الرزق المعلوم، بقوله فَواكِهُ جمع فاكهة، و هي ثمرة الأشجار، يتفكهون بها و يتنعمون فيها وَ هُمْ مُكْرَمُونَ فلهم النعمة الروحية،- بالإكرام- إضافة على النعمة الجسمية بالجنة و الفواكه.

[44] و ذلك الإكرام و الفواكه فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي البساتين التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 477

[سورة الصافات (37): الآيات 44 الى 48]

عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)

يتنعم فيها الإنسان.

[45] و المؤمنون هناك عَلى سُرُرٍ جمع سرير مُتَقابِلِينَ حال عن أولئك، أي في حال كون بعضهم في مقابل بعض ليتم السرور عليهم بالتنعم في المجالس مع الأصدقاء يرى بعضهم بعضا.

[46] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ و هي الإناء الذي فيه المائع اللذيذ، و معنى يطاف إن الحور و الولدان، يدورون عليهم بالكأس المملوءة مِنْ مَعِينٍ و المعين الماء الجاري، النابع من العين.

[47] بَيْضاءَ و من ذلك يعرف، إن ما في الكأس «خمر» لوصفه بالمؤنث، و بما سيأتي

لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ فكأنها من كثرة اللذة قطعة منها، نحو زيد عدل.

[48] لا فِيها أي في تلك الخمر غَوْلٌ هو فساد يلحق الشي ء، يعني ليس في ذلك الخمر فساد وَ لا هُمْ أي الشاربين عَنْها أي عن تلك الخمر يُنْزَفُونَ أي يسكرون، فليس في خمر الجنة سكر، من نزف إذا ذهب عقله، أو بمعنى يطردون من نزف بمعنى طرد، فالشرب لهم دائم لا ينقطع مهما أرادوا.

[49] وَ عِنْدَهُمْ زوجات قاصِراتُ الطَّرْفِ «الطرف» العين، و المعنى قصرن أعينهم على أزواجهن، فلا يرغبن في غيرهم عِينٌ جمع «عيناء» و هي المرأة واسعة العين- مما يزيدها جمالا و رونقا- يعني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 478

[سورة الصافات (37): الآيات 49 الى 53]

كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ (53)

إنهن واسعات العيون.

[50] كَأَنَّهُنَ أي كأن أجسام تلك الزوجات من البياض بَيْضٌ مَكْنُونٌ بيض قد حفظ في مكان، فلم يذهب بياضه، بواسطة الوسخ و الغبار.

[51] و هناك لما يستقرون و يتنعمون، بأنواع النعم يذهب بهم الفكر إلى أحوال الدنيا، و ما كانوا فيها، ثم يتذكرون الكافرين الذين كانوا يستهزئون بهم، حيث إنهم يصدقون بالمعاد فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ أي بعض أهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ عن أحوالهم السابقة، فقد التقوا هناك، و كثيرا ما لم يكن لأحدهم معرفة بالآخر.

[52] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة لبعض أصدقائه إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ أي شخص مقارن معي في دار الدنيا، بالجوار أو النسب أو الصداقة.

[53] يَقُولُ لي على وجه الإنكار و الاستهزاء أَ إِنَّكَ لَمِنَ

الْمُصَدِّقِينَ أي من جملة الذين يصدقون بالحساب و الجزاء؟

[54] ثم يستهزئ قرينه بما اعتقده قائلا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً لحومنا وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون بأعمالنا من دانه، بمعنى حاسبه و جازاه، أي كيف يمكن أن يجزي تراب و عظام؟ فإن هذا لا يكون أبدا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 479

[سورة الصافات (37): الآيات 54 الى 58]

قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)

[55] قالَ هذا المتسائل- بعد أن يحكي قول قرينه- هَلْ أَنْتُمْ أيها الجلساء مُطَّلِعُونَ أي تحبون الاطلاع، و الإشراف على النار، لترون ذلك القرين المكذب؟

[56] فيقولون نعم نحب الاطلاع، فانظر أنت لتعرف مكانه، حتى ترينا، فإنّا لا نعرفه فَاطَّلَعَ هو بنفسه، و أشرف على النار فَرَآهُ أي رأى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي في وسط النار، فإن «سواء الشي ء» وسطه، و طبيعي أنه حين رآه، أراه إخوانه الذين قال لهم «هل أنتم مطلعون».

[57] و إذ قد رأى قرينه الكافر في النار، يتوجه إليه بالتكلم معه قالَ له المؤمن تَاللَّهِ التاء للقسم، و تأتي غالبا لأمر غريب، أو نحوه إِنْ كِدْتَ أي قد اقتربت، لَتُرْدِينِ أي ترديني و تهلكني بوسوستك، و حذف «ياء» المتكلم تخفيفا.

[58] وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي و فضله بي، حيث عصمني من أن أسمع كلامك، فأصير كما صرت لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ الذين أحضروا إلى الحشر و الحساب بالقهر- لا بالرضا- لأنهم علموا بمصيرهم السّي ء، و لذا كرهوا الحضور، حتى أجبروا عليه.

[59] ثم يردّد المؤمن، ما كان يقوله الكافر في الدنيا، ترديدا بإنكار

و تقريع أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ أي كنت تقول في الدنيا، ما نحن نموت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 480

[سورة الصافات (37): الآيات 59 الى 62]

إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)

[60] إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى فليس موت بعد الحياة في القبر، فإن الإنسان إذا حوسب في القبر مات ثانيا، ثم يحيى يوم القيامة، كما قال سبحانه (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) «1» وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ يوم القيامة، ألم تكن تقول ذلك؟ فهل كان صحيحا؟ أو إن الكفار كانوا يقولون «ما وراءنا إلا موتة واحدة، فلا عذاب» و حينئذ معنى «الأولى» المتعارفة، لا في مقابل الموتة الثانية.

[61] ثم يأتي السياق ليبين فوز أهل الجنة- بعد إسدال الستار على قصة تلك المحاورة- إِنَّ هذا الذي ينعّم المؤمن في الجنة لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز و لا فلاح أعظم منه.

[62] لِمِثْلِ هذا الفوز و الثواب فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي الذين يريدون العمل، فإنه أحسن نتيجة يحصل عليها العامل.

[63] و بعد أن تقدم شطر من أحوال المؤمنين، يأتي السياق ليقابل بهم أحوال الكفار أَ ذلِكَ الثواب في الجنان خَيْرٌ نُزُلًا «النزل» هو ما يعد للضيف، و نصبه لكونه تمييزا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ التي أعدت نزلا للكفار؟ قالوا، و هي شجرة صغيرة الورق زفرة مرة تكون بتهامة، شبهت بها الشجرة التي تنبت في النار لتكون ثمرتها قوتا لأهل النار.

______________________________

(1) غافر: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 481

[سورة الصافات (37): الآيات 63 الى 67]

إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ

(65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67)

[64] إِنَّا جَعَلْناها أي جعلنا تلك الشجرة فِتْنَةً أي محنة و عذابا لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان في الدنيا فابتلوا بأكلها.

[65] إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي تنبت من هناك، و تعلوا أوراقها و أغصانها إلى سائر الدركات.

[66] طَلْعُها أي ثمرها و حملها، و يقال للثمر الطلع، لأنه يطلع و يظهر كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ في بشاعة المنظر، فإنها بالإضافة إلى طعمها السيئ لها منظر مهول، و الإنسان، و إن لم ير الشيطان، و رأسه، إلا أن تصويره جسما مهولا بشعا كاف في التشبيه، أو لأنها ثمرة تسمى بذلك.

[67] فَإِنَّهُمْ أي الظالمين لَآكِلُونَ مِنْها أي من تلك الشجرة، اضطرارا من جوعهم الشديد الذي لا يطاق فَمالِؤُنَ مِنْهَا أي من تلك الشجرة الْبُطُونَ أي بطونهم، و «اللام» عوض الضمير.

[68] ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي بعد أكل تلك الشجرة لَشَوْباً أي شرابا مشوبا، ليس بصافي مِنْ حَمِيمٍ أي الماء الحار، و هذا كما يقال:

شرب الماء على الطعام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 482

[سورة الصافات (37): الآيات 68 الى 73]

ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)

فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)

[69] ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي مأواهم و مصيرهم، بعد أكل الزقوم، و شرب الحميم لَإِلَى الْجَحِيمِ و كأن محل طعامهم و شرابهم، بعيد عن الجحيم فإذا أكلوا و شربوا رجعوا إلى محلهم، كما قال سبحانه (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) «1».

[70] إِنَّهُمْ أي هؤلاء الكفار، إنما يصرون على

الكفر و الفساد تقليدا فقط، بلا حجة أو دليل، فقد أَلْفَوْا أي وجدوا، من ألفى يلفي بمعنى وجد آباءَهُمْ ضالِّينَ فقد رأوهم منحرفين عن طريق الهداية.

[71] فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ أي يسرعون في تقليدهم، فإن الإهراع الإسراع.

[72] وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الكفار أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم السابقة.

[73] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ أي في أولئك الأولين مُنْذِرِينَ أنبياء ينذرونهم من الضلال و الكفر.

[74] فَانْظُرْ يا رسول الله، أو أيها الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ

______________________________

(1) الرحمن: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 483

[سورة الصافات (37): الآيات 74 الى 78]

إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)

حيث إن الله سبحانه، أهلكهم بعذابه لما انحرفوا، و هذا تهديد لهؤلاء بأنهم إن انحرفوا، أخذهم العذاب، كما أخذ السابقين.

[75] إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ بصيغة اسم المفعول، أي الذين أخلصهم الله سبحانه لنفسه، فكانوا يعملون لله سبحانه، لا لغيره، و هذا استثناء من «المنذرين» يعني إن المنذرين أهلكوا إلا عباد الله منهم.

[76] ثم يأتي السياق ليبين طرفا من أحوال الأمم و أنبيائهم تنبيها و إيقاظا و تبيانا لقوله «و لقد أرسلنا» وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ بعد ما يئس من إيمان قومه، لننصره عليهم فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن لنوح، فلقد أجبناه لما سئل من إنجائه من الكفار.

[77] وَ نَجَّيْناهُ أي خلصناه وَ أَهْلَهُ عائلته- إلا ولده- مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي المكروه الذي كان ينزل به من قومه، بأن حملناه في السفينة، و أهلكنا الكفار.

[78] وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ أولاده و أحفاده هُمُ الْباقِينَ في الأرض، فالناس كلهم-

بعد نوح- من ولده، إذ هلك سائر الناس بالغرق.

[79] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ أي أبقينا له ذكرا جميلا فِي الْآخِرِينَ أي الأمم الآخرين الذي جاءوا بعده، و هكذا عاقبة المجاهد في سبيل الله، نجاة، و بقاء الذرية، و ذكر جميل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 484

[سورة الصافات (37): الآيات 79 الى 84]

سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83)

إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)

[80] سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إما جملة مستأنفة، تحية لنوح من الله سبحانه، و معنى هذا إنه سالم في جميع العوالم، سالم الذكر، سالم الشخص، سالم المبدأ، أو إنه من تتمة الكلام السابق، أي تركنا عليه أن يسلم الناس عليه إلى يوم القيامة، فكل جيل من الأجيال عالم يحيّي نوحا بالسلام.

[81] إِنَّا كَذلِكَ أي كما أنجينا نوحا نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ بإنجائهم من الأعداء.

[82] إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ و في هذه الآية مدح للمؤمنين حيث جعل نوح عليه السّلام منهم.

[83] ثُمَ بعد إنجاء نوح عليه السّلام في السفينة أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي الكفار.

[84] وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي شيعة نوح لَإِبْراهِيمَ و الشيعة من المشايعة، بمعنى المتابعة، أي أن إبراهيم كان من الذين شايعوا نوحا في منهاجه و دعوته إلى التوحيد و الشريعة، و الإذعان بالمعاد، و الانقياد لأوامر الله سبحانه.

[85] إِذْ جاءَ إبراهيم عليه السّلام رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم من الشرك و العصيان و الرذائل، و معنى «جاء» توجه إلى الله سبحانه، مع قلب طاهر نظيف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 485

[سورة الصافات (37): الآيات 85 الى 89]

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85)

أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)

[86] إِذْ قالَ إبراهيم عليه السّلام لِأَبِيهِ آزر، و المراد عمه، فإن الاصطلاح على تسمية العم، أبا، احتراما وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ أي أيّ شي ء تعبدونه.

[87] أَ إِفْكاً الإفك هو الكذب آلِهَةً بدل من إفكا دُونَ اللَّهِ أي غير الله تُرِيدُونَ قال ذلك على نحو الاستفهام الإنكاري، أي كيف تعبدون آلهة دون الله بالكذب و الإفك؟

[88] فَما ظَنُّكُمْ أيها المشركون بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي ما تظنون أن يفعل بكم إذا أشركتم؟ و هذا تهديد لهم في عبادتهم دون الله.

[89] و لما رأى إبراهيم عليه السّلام، إن الكلام لا يؤثر فيهم عزم على أن يحطّم الأصنام، ليحدث فيهم ضجة، و دائما في الضجة، تظهر القلوب النقية، و تصطدم التقاليد، فيولد في الناس حب الاستطلاع و الرجوع إلى مناهجهم ليروا أيها صحيحا، و أيها فاسدا، و قد كان للقوم عيد يخرجون فيه إلى الصحراء، و يضعون الطعام أمام الأصنام، لتبارك عليه، ثم إذا رجعوا أخذوه للتبرك و الاستشفاء، و لما أرادوا الخروج، قالوا لإبراهيم، هلم معنا إلى العيد فَنَظَرَ إبراهيم عليه السّلام نَظْرَةً فِي النُّجُومِ و لعل نظره إليها، كان لأجل التفكر، فإن الإنسان إذا أراد أن يفكر- سريعا- صرف نظره عمن يقابله، إلى محل آخر، لئلا يشغله المخاطب، فيفكر في أمره.

[90] فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ فقد كان قلبه حزينا على إصرار القوم على الكفر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 486

[سورة الصافات (37): الآيات 90 الى 94]

فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93)

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)

و السقم كما يطلق على المرض الجسدي، يطلق على ضجر النفس و عدم خلوها من الهمّ و المعنى لا حالة لي على الخروج معكم، فإن مشغول القلب بالهم، لا حالة له على التنزه و التفرج.

[91] و لما عرف القوم، بأنه لا يخرج معهم تركوه فَتَوَلَّوْا عَنْهُ أي أعرضوا عن مصاحبته للعيد مُدْبِرِينَ أي ولوه الدبر ذاهبين إلى العيد.

[92] فَراغَ أي مال إبراهيم إِلى آلِهَتِهِمْ أي الأصنام، فإنه حين رأى خلو المعبد من العباد، مال نحو الأصنام فَقالَ لها أَ لا تَأْكُلُونَ

و قد كان هذا سؤال العارف يريد أن يسمع غيره، لتتم عليه الحجة، و المراد بالأكل وجود الحس و الحياة، و إلا فإله الحق أيضا لا يأكل، و قد تقدم أن أمام الآلهة كانت أطعمة للقوم.

[93] ما لَكُمْ أيها الأصنام لا تَنْطِقُونَ و لا تتكلمون؟ و الإتيان بالضمائر على غرار العاقل، توحيدا مع سياق كلام القوم.

[94] فَراغَ أي مال إبراهيم عَلَيْهِمْ أي على الأصنام ضَرْباً بِالْيَمِينِ فقد أخذ فأسا بيمينه، و شرع يحطمهم و يكسرهم، و إنما أخذ باليمين، لأنها أقوى في العمل.

[95] و لما رجع القوم من العيد، و دخلوا بيت الأصنام رأوها محطمة مكسرة، و علموا إن ذلك من فعل إبراهيم، لأنه هو الذي بقي في المدينة، و إنه كان مخالفا للأصنام فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 487

[سورة الصافات (37): الآيات 95 الى 98]

قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)

يَزِفُّونَ أي يسرعون في المشي، فإن «زف» بمعنى الإسراع في المشي لنيل مطلوب، أو

الانتقام من عدو، أو ما أشبه.

[96] و أخذوا إبراهيم، و أثبتوا التحطيم عليه، ف قالَ لهم إبراهيم عليه السّلام أَ تَعْبُدُونَ أيها القوم ما تَنْحِتُونَ على نحو الاستفهام الإنكاري، أي كيف تعبدون الأصنام، التي تنحتونها من الأحجار بأيديكم، و هل يمكن أن يكون الإله مصنوعا للإنسان؟

[97] وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ أيها القوم وَ ما تَعْمَلُونَ من الأصنام، فإن أصنامكم التي تعملونها و تنحتونها مخلوقة له سبحانه.

[98] و لما لم يتمكن القوم من رد حجة إبراهيم، و تفكروا في التخلص منه قالُوا قال بعضهم لبعض ابْنُوا لَهُ لإبراهيم بُنْياناً محلا ليلقى فيه الحطب، فيشعل، ثم يقذف فيه إبراهيم ليحترق، و احتراق الإنسان لا يحتاج إلى ذلك، و إنما أراد القوم إظهار حقدهم على إبراهيم بذلك فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي النار، و كل نار عظيمة، تسمى جحيما.

[99] و صنعوا البنيان، و جمعوا الحطب، و أشعلوه، و قذفوا فيه إبراهيم، لكنه لم يحترق فَأَرادُوا أي القوم بِهِ بإبراهيم كَيْداً حيلة للخلاص منه فلم ينجحوا بل جعلناهم الْأَسْفَلِينَ و أعلينا إبراهيم عليهم، إذ (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) «1».

______________________________

(1) الأنبياء: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 488

[سورة الصافات (37): الآيات 99 الى 102]

وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)

[100] و إذ خرج إبراهيم من النار ظافرا، و رأى أن القوم لا يؤثر فيهم الكلام، و إنما هم مصرون على عبادة الأصنام، أراد هجر تلك الديار،

إلى مكان آخر، لعله يجد آذانا واعية وَ قالَ إبراهيم عليه السّلام إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي إلى حيث أمرني ربي إلى الديار المقدسة، و هذا كما يسمى من يذهب إلى الحج، إنه ذاهب إلى الله سَيَهْدِينِ أي يهديني ربي- فيما بعد- إلى المكان الذي يختاره لي، فإني مهاجر من هذه البلاد، منتظر أمر ربي لاختيار المكان الذي أقطن فيه.

[101] ثم دعا ربه أن يهب له ولدا، ليكون خلفه في إقامة الدين، فقال يا رَبِّ هَبْ لِي ولدا مِنَ الصَّالِحِينَ بأن يكون من جملتهم.

[102] فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ أي ولد حَلِيمٍ ذو حلم و أناة، و هذا من أعظم صفات المصلحين، إذ الإصلاح يحتاج إلى التحلّم من الجهال، و تلقّي أذاهم بصبر و أناة، و المراد بالغلام «إسماعيل» جد نبينا عليهما السّلام.

[103] و أعطاه الله سبحانه الولد، و بقي معه حتى شبّ و كبر فَلَمَّا بَلَغَ الغلام مَعَهُ السَّعْيَ أن يسعى مع إبراهيم في أعماله، فإن الولد ما دام طفلا، لا يتمكن أن يشارك الأب في مهامه، فإذا كبر و شب، يبلغ مبلغا يتمكن أن يسعى مع أبيه في حوائجه قالَ إبراهيم عليه السّلام له يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أي رأيت في النوم أَنِّي أَذْبَحُكَ و قد كان نومه وحيا من الله سبحانه، و كان هذا امتحانا آخر لإبراهيم عليه السّلام، بعد تلك المصاعب و الأحزان، و الطرد من الوطن، و إسكان الأهل في واد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 489

[سورة الصافات (37): الآيات 103 الى 105]

فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)

غير ذي زرع فَانْظُرْ يا بني ما ذا تَرى أي

ما رأيك في هذا الأمر؟ فهل تقبل أن أذبحك أم لا؟ قالَ إسماعيل عليه السّلام يا أَبَتِ أصله «أبي» و التاء عوض عن الياء افْعَلْ ما تُؤْمَرُ من ذبحي، فإني مستعد لذلك سَتَجِدُنِي عند الذبح إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أصبر على ألم الذبح، و مفارقة الحياة.

[104] فَلَمَّا أَسْلَما أي استسلم إبراهيم لذبح ولده، و إسماعيل لأن يذبح وَ تَلَّهُ أي أضجعه، فإن التل هو الصرع، و منه يسمى تل التراب تلا، لأن التراب يصرع و يجمع هناك لِلْجَبِينِ الجبين، ما عن يمين الجبهة و شمالها، أي أنام إبراهيم ولده إسماعيل على جنبه ليقتله.

[105] أظهرنا له ما كنا نقصده من عدم الذبح- و إنما الامتحان- وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ فإتيان «الواو» هنا للإشارة إلى وجهة في الكلام، و ذلك من فنون البلاغة.

[106] قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي أتيت بما يصدقها، و التصديق كما يكون بالعمل، كذلك يكون بالتهيؤ القريب مع النية الجازمة إِنَّا كما جازينا إبراهيم بالعفو عن ذبح ولده، و إعطائه أجر الذبح كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في عملهم تجاه الله سبحانه بإطاعة أوامره، و اجتناب نواهيه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 490

[سورة الصافات (37): الآيات 106 الى 107]

إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)

[107] إِنَّ هذا الذي امتحن به إبراهيم من ذبح ولده لَهُوَ الْبَلاءُ الامتحان الْمُبِينُ الظاهر، فإن تهيؤ الإنسان لذبح ولده بعد كبره و شدة علاقته معه، لمن أعظم الامتحانات.

[108] وَ فَدَيْناهُ أي جعلنا عوض ذبح إسماعيل، فإن الفدية هو العوض عن شي ء وجب على الإنسان بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الذبح هو المذبوح، فقد جاء جبرئيل من الجنة بكبش ذبح عوض إسماعيل، و من المعلوم أن ذبح كبش

الجنة فدية أعظم أقسام الذبح قربة إلى الله تعالى، أو المراد إنه كان عظيما، حيث أمر الناس بالاقتداء به، و السير خلفه، و إلى هذا اليوم يذبحون الأغنام، في الأضحية تجديدا لتلك الذكرى، و قد ورد إن كل ما يذبح بمنى، فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة.

في حديث عن الباقر و الصادق عليهما السّلام، يذكر قصة حج إبراهيم، قال ثم أفاض إلى المزدلفة، فسميت المزدلفة، لأنه ازدلف إليها، ثم قام على المشعر الحرام، فأمره الله أن يذبح ابنه، و قد رأى فيه شمائله و أخلاقه و آنس مما كان إليه، فلما أصبح أفاض من المشعر إلى منى، فقال لأمه: زوري البيت أنت، و احتبس الغلام، فقال يا بني هات الحمار و السكين؟ حتى أقرّب القربان، سأل الراوي: ما أراد بالحمار و السكين؟ قال: أراد أن يذبحه ثم يحمله، فيجهزه و يدفنه، قال: فجاء الغلام بالحمار و السكين، فقال: يا أبت أين القربان؟ قال: ربك يعلم أين هو، يا بني أنت و الله هو، إن الله قد أمرني بذبحك، فانظر ما ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، قال: فلما عزم على الذبح، قال: يا أبت خمّر وجهي، و شد وثاقي، قال: يا بني الوثاق مع الذبح؟ و الله لا أجمعهما عليك اليوم، قال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 491

الباقر عليه السّلام:، فطرح له قرطان «برذعة» الحمار، ثم أضجعه عليه، و أخذ المدية فوضعها على حلقه، قال فأقبل شيخ، فقال: ما تريد من هذا الغلام؟ قال: أريد أن أذبحه، فقال: سبحان الله، غلام لم يعص الله طرفة عين تذبحه؟ فقال: نعم إن الله قد أمرني بذبحه، فقال: بل ربك

ينهاك عن ذبحه، و إنما أمرك بهذا الشيطان في منامك، قال:

ويلك الكلام الذي سمعت، هو الذي بلغ بي ما ترى، لا و الله لا أكلمك، ثم عزم على الذبح، فقال الشيخ: يا إبراهيم إنك إمام يقتدى بك، فإن ذبحت ولدك، ذبح الناس أولادهم فمهلا، فأبى أن يكلمه، ثم قال عليه السّلام: فأضجعه عند الجمرة الوسطى، ثم أخذ المدية فوضعها على حلقه، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم انتحى عليه المدية، فقلبها جبرئيل عليه السّلام عن حلقه، فنظر إبراهيم، فإذا هي مقلوبة، فقلبها إبراهيم عليه السّلام على حدها، و قلبها جبرئيل عليه السّلام على قفاها، ففعل ذلك مرارا، ثم نودي من ميسرة مسجد الخيف، يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا، و اجترّ الغلام من تحته، و تناول جبرئيل الكبش من قلّة ثبير، فوضعه تحته، و خرج الشيخ الخبيث، حتى لحق بالعجوز حين نظرت إلى البيت، و البيت في وسط الوادي، فقال: ما شيخ رأيته بمنى فنعت نعت إبراهيم عليه السّلام، قالت: ذاك بعلي، قال: فما وصيف رأيته معه؟

و نعت نعته، فقالت: ذاك ابني، قال: فإني رأيته أضجعه، و أخذ المدية، ليذبحه؟ قالت: كلا ما رأيته، إبراهيم إلّا أرحم الناس، و كيف رأيته يذبح ابنه؟ قال: و رب السماء و الأرض، و رب هذه البنية، لقد رأيته أضجعه؟ و أخذ المدية ليذبحه، قالت: لم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذبحه، قالت: فحق له أن يطيع ربه «الحديث»

«1».

______________________________

(1) الكافي: ج 4 ص 207.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 492

[سورة الصافات (37): الآيات 108 الى 113]

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ

(112)

وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

[109] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ أي على إبراهيم عليه السّلام ذكرا جميلا فِي الْآخِرِينَ في الأمم التي أتت من بعده، فإن جميع الأمم، يمدحون إبراهيم عليه السّلام، جزاء لجهاده، و إطاعته لله سبحانه.

[110] سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ إما جملة مستأنفة، أي سلامة من الله على إبراهيم في دنياه بالذكر الجميل، و في آخرته بالجنة و النعيم، أو من تتمّة «و تركنا» أي أبقينا له تسليم الناس له و تحيتهم إياه.

[111] كَذلِكَ الذي جزينا إبراهيم عليه السّلام نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ كل من أحسن عقيدة و عملا.

[112] إِنَّهُ أي إبراهيم عليه السّلام مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الذين آمنوا بنا، و في هذا تلميح إلى رفعة درجة الايمان.

[113] وَ بَشَّرْناهُ أي بشرنا إبراهيم، جزاء لخدماته و أتعابه بِإِسْحاقَ فقد كانت زوجته «سارة» لا تلد، لكن الله سبحانه شاء أن يتفضل عليهما بالولد فولدت له إسحاق في حال كونه نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي من جملتهم، و في جماعتهم، و هذا ترغيب في الصلاح، و حيث إن النبي مع عظم درجته يعدّ منهم.

[114] وَ بارَكْنا عَلَيْهِ أي على إبراهيم وَ عَلى إِسْحاقَ بأن جعلنا فيهما البركة و الزيادة: زيادة النسل، و زيادة الذكر، و زيادة الخير إلى غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 493

[سورة الصافات (37): الآيات 114 الى 116]

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ (114) وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116)

ذلك، و يحتمل بعيدا أن يكون ضمير «عليه» راجعا إلى «إسماعيل» المفهوم من قوله «بنيّ» و قد صدق سبحانه، فإن من نسل إسحاق «اليهود» و من نسل إسماعيل كثرة من

المسلمين، و قد بعث فيهم كثرة من الأنبياء، و بقوا إلى هذا اليوم وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما أي ذرية إبراهيم- و بالطبيعة يرجع ذلك إلى إسماعيل- و ذرية إسحاق مُحْسِنٌ بالإيمان و الطاعة وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر أو العصيان مُبِينٌ صفة لكلا الأمرين، باعتبار كل واحد منهما، و كانت هذه الجملة، للتعريض بالظالم كيف يظلم، و آبائه هؤلاء الأنبياء العظام المحسنون؟

[115] و بعد تمام قصة إبراهيم يعطف السياق إلى قصة موسى و هارون الذين هما من نسل إبراهيم عليه السّلام وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ أي أنعمنا عليهما بنعم كثيرة لطفا و منّة، لا استحقاقا، فقد جعلناهما، نبيين عظيمين، و ملكناهما الأرض إلى غير ذلك من النعم، التي تفضل الله بها عليهما.

[116] وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما أي خلصناهما و بني إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ و هو إسار فرعون الذي كان يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم.

[117] وَ نَصَرْناهُمْ على فرعون بإغراقه مع جيشه، و غلبة هؤلاء عليهم فَكانُوا هُمُ أي موسى و هارون، و بنو إسرائيل الْغالِبِينَ على فرعون و قومه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 494

[سورة الصافات (37): الآيات 117 الى 123]

وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)

إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)

[118] وَ آتَيْناهُمَا أي أعطينا موسى و هارون الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ يقال استبان الأمر إذا أظهر ظهورا جليا، و المراد بالكتاب «التوراة» التي كانت ظاهرة جلية.

[119] وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دللناهما الطريق الذي يوصل إلى المطلوب بأقصر مسافة.

[120] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما أي أبقينا على موسى و هارون

الذكر الجميل فِي الأقوام الْآخِرِينَ بأن عرّفناهما للناس، حتى يثنون عليهما.

[121] سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ إما جملة مستأنفة، و إما من تتمة «تركنا» كما تقدم.

[122] إِنَّا كَذلِكَ أي كما جزيناهما نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في العقيدة و العمل.

[123] إِنَّهُما مِنْ جملة عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ و فيه إشارة إلى مدح الإيمان، حتى أن موسى و هارون يستحقان، آيتين عليهما بكونهما مؤمنين.

[124] و إذ فرغ السياق من ذكر موسى و هارون، يأتي لذكر «إلياس» النبي عليه السّلام وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ في المجمع، قالوا: إنه بعث بعد حزقيل، لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل، و كان يوشع لما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 495

[سورة الصافات (37): الآيات 124 الى 128]

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)

فتح الشام، بوأها بني إسرائيل و قسمها بينهم، فأحل سبطا منهم ببعلبك و هم سبط إلياس، فبعث فيهم نبيا إليهم، فأجابه الملك، ثم إن امرأته حملته على أن ارتد و خالف إلياس، و طلبه ليقتله، فهرب إلى الجبال و البراري، إلى أن قال: و سلط الله على الملك و قومه عدوا لهم، فقتل الملك و امرأته.

[125] إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ المعاصي و تخافون الله؟ على وجه الاستفهام الإنكاري، أي لماذا لا تتقون.

[126] أَ تَدْعُونَ بَعْلًا اسم صنم لهم، أي كيف تدعون بالألوهية «بعلا» وَ تَذَرُونَ أي تتركون أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي الله فلا تتخذونه إلها؟

[127] تذرون اللَّهَ رَبَّكُمْ بدل من «أَحْسَنَ الْخالِقِينَ» وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فإنه هو الخالق لكم جميعا، فكيف يترك الإنسان خالقه ليأخذ

غيره؟

[128] فَكَذَّبُوهُ في دعوته و لم يؤمنوا به، بل قالوا إنك تكذب في ادعائك بوجود الله، و أنك رسوله، فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ يحضرون في القيامة بالعنف، و الكره منهم، حيث يعلمون شدة الحساب عليهم، و سوء الجزاء، بخلاف المؤمنين الذين يحضرون الموقف رغبة منهم، إذ يعلمون الجزاء الحسن.

[129] إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ من قوم «إلياس» فإنهم ليسوا بمحضرين،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 496

[سورة الصافات (37): الآيات 129 الى 132]

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

أو استثناء منقطع، حيث إن المراد، إن كل إنسان محضر، إلا من أخلصه الله سبحانه لنفسه، من الصالحين- و قد ذكرنا سابقا وجه الاستثناء المنقطع-.

[130] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ أي على إلياس، ذكرا جميلا فِي الأقوام الْآخِرِينَ فإنهم يعظمونه.

[131] سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إما جملة مستأنفة، بأن يكون السلام من الله عليه، أو مرتبطة بما قبلها، أي تركنا عليه تسليم الأقوام عليه بالإضافة إلى الذكر الجميل، و «آل ياسين» لغة «في إلياس» أو باعتبار ما قالوا:

من أن الكلمة إذا كانت عجمية، جاز التصرف فيها بكل وجه، و لذا جاز في «جبرئيل» لغات، و ما ورد من أن المراد «آل ياسين» يعني آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1»، فذاك من باب التأويل، أو باعتبار استعمال اللفظ في أكثر من معنى- على المختار من جوازه بالقرينة-.

[132] إِنَّا كما جزينا إلياس كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في العقيدة و العمل.

[133] إِنَّهُ أي إن إلياس مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بنا و بشريعتنا، و من المعلوم إن منتهى مفخرة الأنبياء، إنهم من المؤمنين، و لذا قال (وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ

أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) «2» و قال تعالى:

______________________________

(1) تأويل الآيات: 489.

(2) آل عمران: 103.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 497

[سورة الصافات (37): الآيات 133 الى 138]

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)

وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (138)

(آمَنَ الرَّسُولُ) «1».

[134] و بعد تمام قصة إلياس، يأتي السياق للإشارة إلى قصة لوط وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلهم الله إلى قومهم.

[135] فقد جاء ليرشد قومه في ترك الكفر، و اجتناب الفاحشة، التي كانوا يرتكبونها، لكن وعظه لم ينفع في قومه، و أخيرا قدر الله سبحانه الهلاك على القوم، و إنجاء لوط من براثنهم إِذْ نَجَّيْناهُ أي لوط وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ من تلك القرية التي كانت تعمل الخبائث، بأن أمرناهم بالخروج منها ليلا.

[136] إِلَّا عَجُوزاً هي زوجة لوط المنافقة فِي الْغابِرِينَ أي كانت في الباقين الذين أهلكوا.

[137] ثُمَ بعد خروج لوط و أهله من القرية دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ التدمير هو الإهلاك، أي أهلكنا القوم بتقليب أرضهم ظهرا لبطن، و رجمهم بالحجارة.

[138] وَ إِنَّكُمْ يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ أي على أراضي قوم لوط مُصْبِحِينَ أي صباحا، من أصبح، بمعنى دخل في الصباح.

[139] وَ بِاللَّيْلِ فإن أهل مكة كانوا إذا سافروا إلى الشام، مروا بأراضي

______________________________

(1) البقرة: 286.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 498

[سورة الصافات (37): الآيات 139 الى 141]

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)

قوم لوط المدمرة، و رأوا أماكنهم أَ فَلا تَعْقِلُونَ أي أليس لكم عقل حتى تعتبروا بأولئك القوم، و تعلموا أن من تمادى في الكفر و الطغيان،

كان مصيره، مثل مصير أولئك؟

[140] ثم أتى السياق للإشارة إلى قصة يونس عليه السّلام وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلوا إلى أقوامهم لإرشادهم.

[141] فقد جاء إلى قومه، و كانوا كفارا عصاتا، و عددهم مائة ألف، أو يزيدون، فدعاهم إلى الله مدة مديدة، لكنهم لم يستجيبوا له، فضاق بهم ذرعا و دعا عليهم بالعذاب، لكن دعائه عليهم، كان خلاف الأولى، و لذا شاءت إرادة الله سبحانه، أن ينبهه على ذلك إِذْ أَبَقَ أي فرّ من قومه تضجرا، لئلا يحضر وقت نزول العذاب بهم إِلَى الْفُلْكِ أي السفينة الْمَشْحُونِ أي المملوء بالناس و الأحمال، من شحنه إذا ملأه.

[142] فَساهَمَ أي قارع، و ذلك لأن حوتا أخذ طريق السفينة، فاستقر رأي القوم على أن يقرعوا باسم الأشخاص الراكبين، فمن خرج اسمه في القرعة، ألقوه للحوت ليأكله، فيفتح عليهم الطريق، و إنما قال «ساهم» لأن القوم كلهم، و منهم يونس، قبلوا القرعة، فهو من باب إسناد الفعل إلى السبب فَكانَ يونس مِنَ الْمُدْحَضِينَ يقال أدحضه إذا أسقطه، أي من الساقطين في البحر، فقد أسقطه القوم حسب خروج اسمه على القرعة، و الإتيان بالجمع «المدحضين» باعتبار السياق، و توهم كلّي له أفراد في سائر السفن، و تلك السفينة، فلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 499

[سورة الصافات (37): الآيات 142 الى 144]

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)

ينافي ذلك، إن لم يكن أحد مدحضا سواه.

[143] فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه الحوت الذي كان سادا طريق السفينة، و قد أمره الله سبحانه أن لا يؤذي يونس، كما أوقف أجهزة هضمه عن هضم يونس، فكان عليه السّلام في بطنه حيّا،

و إن كان في صعوبة و مشقة وَ هُوَ مُلِيمٌ أي مستحق للوم، يقال ألام الرجل، بمعنى أتى بما يلام عليه، فهو مليم، أو المراد أنه كان يلوم نفسه، لإتيانه بذاك المخالف للأولى، و معناه الشي ء الذي يكون تركه أولى، فإذا أضفت إنسانا، كان الأولى أن تحضر له ماء غسل اليد قبل الطعام مثلا فإن لم تحضر له، كان ذلك خلاف الأولى، فتلوم نفسك لم ما أحضرت؟ و قد ثبت عقلا و نقلا، إن الأنبياء منزهون عن العصيان، فما يرى من هذا القبيل، يكون من باب «ترك الأولى» كما حقق في علم الكلام.

[144] فَلَوْ لا أَنَّهُ أي يونس كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ فإنه عليه السّلام كان يقول في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) «1».

[145] لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ أي يبقى في بطن الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة، و إنما نجّاه من بطن الحوت لتسبيحه و تنزيهه لله سبحانه، و ليس بدعا من قدرة الله سبحانه، أن يبقي الإنسان حيا، فإنه على ما يشاء قدير، و ما يقال: إن عمل يونس، كان تركا للأولى، و ترك الأولى، لا عقاب له، فكيف عوقب يونس بحبسه في بطن الحوت؟ فالجواب إن مقام يونس

______________________________

(1) الأنبياء: 88.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 500

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 549

[سورة الصافات (37): الآيات 145 الى 147]

فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ (145) وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)

الرفيع، يقتضي أن يكون ترك الأولى منه كالعصيان من سائر الناس، ألا ترى إن رئيس الوزراء، لو أتى عند الملك بما ينافي الآداب، عدّ عاصيا- بلحاظ مقامه- و

إن كان الأكبر من مثل ذلك العمل، لا يعدّ عصيانا من سائر الناس، و من هاهنا قيل

«حسنات الأبرار سيئات المقربين».

[146] و بعد زمان من مكث يونس في بطن الحوت فَنَبَذْناهُ أي أمرنا الحوت بطرحه بِالْعَراءِ و هو المكان الخالي من الشجر وَ هُوَ سَقِيمٌ ذو علّة من تعب بطن الحوت.

[147] وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ لظلاله شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ و هو القرع، فكان يمصه، و يستظل به و بورقه، و قد كان تساقط شعره عليه السّلام، ورّق جلده.

[148] وَ أَرْسَلْناهُ إما بعد ذلك، كما روى إنه رجع إلى أهل نينوى بعد خروجه من البحر، أو حكاية لما قبل ذهابه عنهم إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ إما أن «أو» بمعنى الواو، كما قال ابن مالك:

و ربما عاقبت الواو إذالم يلف ذو النطق للبث منفذا

أو بمعنى الترديد، لأجل عدم الاهتمام بالخصوصية، و

قد روى عن الصادق عليه السّلام إنهم زادوا ثلاثين ألفا

«1»، و يمكن أن يكون الترديد باعتبارين، فباعتبار المدينة، كانوا مائة ألف، و باعتبار أطرافها كانوا يزيدون.

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 174.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 501

[سورة الصافات (37): الآيات 148 الى 151]

فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)

[149] فَآمَنُوا به إما المراد أن القوم الجدد الذين أرسل إليهم آمنوا به، أو المراد القوم الأول، و قد كانوا حين ذهب يونس آمنوا بالله و بما قاله يونس حين رأوا العذاب،

فقد ورد عن الباقر عليه السّلام إن يونس جاءه الوحي من قبله سبحانه، يقول: إن أهل نينوى قد آمنوا و اتقوا، فارجع إليهم

«1» فَمَتَّعْناهُمْ أي رفعنا

عنهم العذاب، و أبقيناهم يمتّعون بالحياة إِلى حِينٍ الموت، حيث ماتوا بآجالهم المقدرة لهم.

[150] و بعد نقل هذه القصص، يعود السياق مع كفار مكة، ليوقظهم من غفلتهم، و ينبههم على خرافاتهم، فقال سبحانه فَاسْتَفْتِهِمْ أي سلهم يا رسول الله أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ أي هل لله أولادا إناثا وَ لَهُمُ الْبَنُونَ

فقد كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فكانوا يخصصون البنات- و هم يكرهونها- بالله، أما البنون فلهم وحدهم.

[151] أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً أي هل خلقنا الملائكة نساء؟ وَ هُمْ شاهِدُونَ أي حاضرون وقت خلقنا لهم، حتى رأوا أنهم نساء، و هذا على وجه الاستفهام الإنكاري.

[152] أَلا فليتنبه السامع إِنَّهُمْ أي الكفار مِنْ إِفْكِهِمْ و كذبهم، و «من» نشوية، أي من منشأ الكذب لَيَقُولُونَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 383.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 502

[سورة الصافات (37): الآيات 152 الى 158]

وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156)

فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)

[153] وَلَدَ اللَّهُ حين زعموا إن الملائكة أولاد الله وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم، إن لله أولادا، و إن الملائكة إناث.

[154] أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ أصله «أ أصطفى» بهمزتين، أحدهما للوصل، و الثانية للاستفهام، فحذفت همزة الوصل تخفيفا، أي هل اختار الله سبحانه، البنات على البنين، حين زعمتم إنه جعل ملائكته نساء؟ و المعنى الإنكار عليهم في أن يختار الله، الأدنى- بنظرهم- على الأعلى، و هو قادر على كل شي ء.

[155] ما لَكُمْ أيها الكفار كَيْفَ تَحْكُمُونَ بهذا الحكم الباطل؟

و أصل «مالك»

أي شي ء لك، ثم استعمل في الإنكار.

[156] أَ فَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون و ترجعون عن غفلتكم.

[157] أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي هل تحكمون بذلك اعتباطا بدون دليل، أم لكم على ذلك دليل واضح؟ فإن السلطان بمعنى الدليل، لأنه يسلط الإنسان على خصمه الخالي من الدليل.

[158] فإن تزعمون إن لكم دليلا على قولكم فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الذي فيه الحجة على أن الملائكة إناث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم.

[159] وَ أغرب من هذا، أن جَعَلُوا أي الكفار بَيْنَهُ تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 503

[سورة الصافات (37): الآيات 159 الى 161]

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ (161)

وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً إما هو حكاية، لما كانوا يقولون: إن الله تزوج امرأة من الجن فولدت له الملائكة، أو لما كانوا يقولون: إن الله أخ لإبليس- و هو من الجن- فالله خالق الخير و إبليس خالق الشر، و الله أعلم بمراده وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي يحضرون بالكره لموقف القيامة، و لو كانت الجنة قريبة في النسب لله سبحانه، كان تعالى يكرمهم، و هذا كقوله (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) «1»؟ و المعنى أن هؤلاء يزعمون إن الجن نسيب مع الله، و الحال إن الجن هم يعلمون إنهم عباد له يحضرهم للحساب و الجزاء كسائر العبيد.

[160] سُبْحانَ اللَّهِ أي أنزه الله تنزيها عَمَّا يَصِفُونَ أي عن الشي ء يصفون الله به من كونه صاحب الأولاد أو البنات، و إنه نسيب الجنة.

[161] و إذ كان في قوله سبحانه (إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ) «2» عموم لفظي، استثنى من «إنهم» المؤمنين بالرسول المنزهين عن هذه الأقوال إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لنفسه، فهم لا

يقولون بهذه الأقوال الفارغة و الخرافات.

[162] ثم بين سبحانه إن هؤلاء الكفار لا يتمكنون من إضلال كل أحد، إلا الذين هم منحرفون ذاتا، و كأنه تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و للمؤمنين، بأن لا يخافوا على الدعوة أن تذهب سدى فَإِنَّكُمْ أيها الكفار وَ ما تَعْبُدُونَ

______________________________

(1) المائدة: 19.

(2) الصافات: 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 504

[سورة الصافات (37): الآيات 162 الى 165]

ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَ ما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)

أي الأصنام التي تعبدونها، أو المراد مطلق المعبودات حتى الملائكة.

[163] ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي على الله سبحانه بِفاتِنِينَ يقال فتنة إذا أضلّه و حرّفه عن الطريق، أي أنكم لا تتمكنون من إضلال الناس، على خلاف الله سبحانه.

[164] إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ و إنما تتمكنون على إضلال جماعة خاصة، هم يصلون الجحيم، و يلازمونها، فإن «صلى» بمعنى دخل النار ملازما لها، فمن سبق في علمه سبحانه أنه منحرف، يصلى النار لا محالة، هو الذي يضل بإضلالكم، لا كل أحد، فالاستثناء من المقدر، أي «بفاتنين الناس، إلا ..».

[165] ثم جاء السياق ليحكي جملة من خطاب الملائكة للكفار، في رد قولهم، إن الملائكة بنات الله، و إنها آلهة شركاء لله- فقد كان بعض الكفار يعبد الملائكة- و قيل: إن كلام الملائكة يبتدأ من قوله «فإنكم» وَ ما مِنَّا معاشر الملائكة، و ما ورد من إرادة أهل البيت عليهم السّلام، بذلك، فإنه من باب التأويل، أو استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى، أو نحو ذلك، إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ لا يتمكن أن يتعدى ذلك المقام، فكيف يمكن أن

يكون من بهذه الصفة إلها يعبد؟ فإن الإله لا حد له، و لا محل خاص يكنفه.

[166] وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ صفوفا في الصلاة، أو المصطفون كالخدم، ننتظر الأوامر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 505

[سورة الصافات (37): الآيات 166 الى 171]

وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)

[167] وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزّهون لله عن الشريك، و عن النقائص، فكيف يمكن أن يكون من هذا وصفه إلها، يعبد من دون الله؟

[168] وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ «إن» مخففة من الثقيلة، أي أن الكفار، كانوا يقولون قبل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[169] لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي كتابا، من كتب الأنبياء السابقين، بأن كان أرسل إلينا رسول، كما أرسل إلى تلك الأمم.

[170] لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي كنا من الذين يخلصهم الله لعبادته، بأن كنا مطيعين له غاية الإطاعة، فإن كفار مكة، حيث كانوا يرون أهل الكتاب منحرفين، و يسمعون قصص أسلافهم، كانوا يتعجبون من انحراف أهل الكتاب، و يقولون: لو كان أرسل إلينا رسول لكنا مطيعين لله، منقادين لأوامره، فلما أتاهم الرسول، صاروا مثل تلك الأمم في إيذاء الرسول و تكذيبه.

[171] فلما جاءهم الرسول أو الكتاب فَكَفَرُوا بِهِ و لم يقبلوه فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم، و هذا تهديد لهم بالعقاب و النكال.

[172] وَ لكن كفر هؤلاء لا يضر الأنبياء عليهم السّلام، ف لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا بالنصر، أي إنّا قبل أن نبعث الأنبياء، كنا نقول- و المراد بالقول:

التقدير- إنهم سينتصرون على أعدائهم لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلوا من

قبلنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 506

[سورة الصافات (37): الآيات 172 الى 176]

إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)

[173] إِنَّهُمْ أي الأنبياء- و هذا تفسير «كلمتنا»- لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ أي الغالبون على الكفار، فإنا ننصرهم على أعدائهم، و الإتيان، ب «لهم» للتأكيد، كما أنه كذلك في الآيات السابقة «و إنا لنحن» في قصة الملائكة، ثم أن الله سبحانه لم يخلف وعده، فإن الأنبياء انتصروا في نهاية المطاف، و سادت مناهجهم الحياة، و الانتصار هو هذا، و إن عذبوا و قتلوا، ألا ترى إنا نقول: انتصرت الدولة الفلانية، إذا غلبت في نهاية المطاف، و إن قتل أكثر شبابها، و خربت ديارها.

[174] وَ إِنَّ جُنْدَنا أي المؤمنين لَهُمُ الْغالِبُونَ على سائر الأعداء، و كونهم جند الله، باعتبار نصرهم لدينه.

[175] فَتَوَلَ يا رسول الله، و المعنى: أعرض، عَنْهُمْ عن هؤلاء، بأن لا تقابلهم بالأذى حَتَّى حِينٍ نأمرك بقتالهم، فقد كانت حكمة الله، أن تشمل الدعوة بالسلم التام، حتى تنمو و تقوى، ثم تصول بالقوة، كما هو طريقة العقلاء.

[176] وَ أَبْصِرْهُمْ أي أنظرهم بدون أن تحاربهم، فإن الإنسان الذي تقع عليه الكوارث، قد يقوم بالمدافعة، و قد يجلس ينتظر و ينظر، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عاقبة أمرهم حين تؤمر بالجهاد، كيف يتضاءلون أمام الحق، و حين يؤخذون للعذاب، كيف لا قوة لهم و لا ناصر؟

[177] إنهم من جهلهم يقولون: لو كنت يا محمد صادقا، أنزل علينا العذاب، و هذا مستغرب جدا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 507

[سورة الصافات (37): الآيات 177 الى 181]

فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)

وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي كيف يطلب هؤلاء العذاب؟ أما يخافون منه؟

[178] و سيأتي يوم العذاب فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ أي بأفنية دورهم فَساءَ الصباح وقت ذاك صَباحُ الْمُنْذَرِينَ بصيغة اسم المفعول، أي صباح هؤلاء الذين أنذرهم الرسول، فلم ينفعهم الإنذار.

[179] وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض يا رسول الله عن هؤلاء بعد أن دعوتهم، فلم تنفعهم الدعوة حَتَّى حِينٍ يأتي الأمر بقتالهم.

[180] وَ أَبْصِرْ أمرهم ناظرا إلى ما يصنعون فقط لتكون شاهدا عليهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ إنما كرر للتأكيد، أو لأن المراد بأحدهما عذاب الدنيا و بالآخر عذاب الآخرة.

[181] و أخيرا نزّه الله سبحانه نفسه، عما ينسب إليه من الصاحبة و الولد و الشريك، و سائر الخرافات سُبْحانَ رَبِّكَ «سبحان» منصوب بفعل مقدّر، أي أسبح ربك تسبيحا، و المعنى أنزهه عما لا يليق به رَبِّ الْعِزَّةِ أي مالك العزة و خالقها، و من لوازم العزة المطلقة، أن لا يكون له ولد و شريك، و زوجة ليشاركوه العزة عَمَّا يَصِفُونَ هؤلاء، أي يصفون الله به.

[182] وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تحية عليهم منا، أو سلامة و أمان لهم، من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 508

[سورة الصافات (37): آية 182]

وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)

أن ينصر عليهم أعدائهم.

[183] وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فجنس الحمد للّه، إذ جميع المحامد منه، و هو رب العوالم، خالقها و مربيها، و العوالم باعتبار عالم الإنسان، و عالم الحيوان، و عالم الجن و الشياطين، و عالم الملائكة، و عالم الدنيا، و عالم الآخرة، إلى غير ذلك، فإن اللّه سبحانه، هو رب الكل لا شريك له فيها.

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 4، ص: 509

38 سورة ص مكيّة/ آياتها (89)

سميت السورة بهذا الاسم لابتدائها بهذه اللفظة «ص» و هي كسائر السور المكية تبين العقيدة بأصولها الثلاثة، في أساليب قصصية رائعة، للتقريب إلى الذهن، و التركيز على الحقائق، و إذ ختمت سورة الصافات، بذكر المكذبين للرسل، و للكافرين بالله، و الجاحدين للقرآن، ابتدأت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم الإله الرحمن الرحيم نبدأ السورة إعلانا على الصبغة العامة للمسلم، بأنه مربوط بالله، و ذكرا لله الذي لا ينسى من ذكره، و يبارك كل شي ء ابتدأ به، و استمطارا لشآبيب رحمته، ليغمر القارئ بالفضل و الرحم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 510

[سورة ص (38): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ (3)

[2] ص فيه أقوال: منها إنه رمز بين الله و الرسول، و منها أن المراد، إن القرآن الذي لا تتمكنون- أيها الكفار- من الإتيان بأقصر سورة منه، من جنس حروف الهجاء، ل «ص» و غيره،

و منها إنه: اسم لعين تنبع من تحت العرش، كما ورد عن الصادق عليه السّلام

، و منها إنه اسم من أسماء الله تعالى إشارة إلى اسم لكونه إشارة إلى «الصابر» أو «الصادق» إلى غيرها من الأقوال، و في إعرابه أيضا خلاف تبع الخلاف الأول وَ الْقُرْآنِ أي قسما بهذا القرآن الذي هو ذِي الذِّكْرِ أي صاحب الشرف، كما يقال: لفلان ذكر أي شرف بسببه يذكر في المجامع، أو المراد أنه صاحب التذكير بالله و اليوم الآخر، و لا ينافي أن يكون هو ذكر- باعتبار بعض آياته- و

أن يكون صاحب الذكر- باعتبار مجموعة و جواب القسم محذوف: أي أنه لحق، دلّ عليه قوله «بل الذين».

[3] فليس في القرآن نقص، يوجب عدم إيمانهم، فإنه حق ظاهر لا مرية فيه بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و اليوم الآخر فِي عِزَّةٍ أي تكبر عن قبول الحق، فإن الإنسان العزيز يعرض عن الرضوخ لغيره- سواء كانت عزة واقعية، أو عزة مزعومة- وَ شِقاقٍ أي مخالفة للرسول، و العدو مهما يرى الحق في جانب خصمه، لا يرضخ له، و لا يقبل منه، مشتق من شق، كأنّه في شق و طرف، و الخصم في شق آخر.

[4] و لكن هل يبقون هؤلاء كذلك معرضين عن الحق، أعداء للرسول؟

كلا، فليعتبروا بالأمم المكذبة، التي سبقتهم، ف كَمْ أَهْلَكْنا «كم» للخبر يراد به التكثير مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل هؤلاء الكفار مِنْ قَرْنٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 511

[سورة ص (38): الآيات 4 الى 5]

وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (5)

أي من أمة، و تسمى الأمة قرنا، باعتبار تقارن أعمار أفرادها فَنادَوْا عند إتيانهم العذاب بالاستغاثة و الضراعة، لكن لم يفيدهم النداء، في نجاتهم من العذاب وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ أصل «لات» «لا» زيدت عليه التاء، بمعنى «ليس» و «مناص» من «النوص» و هو التأخر يقال:

ناص ينوص إذا تأخر، و قد حذف خبر «لات» أي ليس الوقت الذي استغاثوا فيه، وقت التأخر للعذاب و النجاة لهم، فقد كانوا في مهلة، ما دام أجلهم باق، أما إذا حقّت عليهم كلمة العذاب، فلا تفيدهم الضراعة و الاستغاثة.

[5] وَ عَجِبُوا أي الكفار أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ أي رسول من قبل الله

سبحانه لإنذارهم و تخويفهم عن بأس الله، بأنهم إن تمادوا على الكفر و العصيان، أخذهم العذاب، و أرجعوا إلى النار مِنْهُمْ أي من جنسهم، فقد كانوا يقولون: لو لا يكون الرسول علينا ملائكة وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا الرسول ساحِرٌ كَذَّابٌ فإنه يسحرنا، حين لا نتمكن من الإتيان، بمثل القرآن، حين يأتي بخوارق، و هو يكذب على الله، بأنه رسوله، و إن الله إله واحد لا شريك له، و لا صاحبة، و لا ولد.

[6] ثم جعلوا يستفهمون مستنكرين بقولهم أَ جَعَلَ أي هل جعل هذا الرسول الْآلِهَةَ المتعددة التي نقول بها إِلهاً واحِداً؟ أي كيف يقول، أن لا إله إلا إله واحد، و الحال أن لنا آلهة متعددة؟ إِنَّ هذا الذي يقوله محمد من وحدة الإله لَشَيْ ءٌ عُجابٌ أي لأمر عجيب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 512

[سورة ص (38): آية 6]

وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ (6)

مفرط في العجب،

قال بعض إن قبيلة، كانت لها آلهة متعددة، تبعا لتنازع كان يقع بينهم، و قد كانوا يقولون: إن هذه الكثرة من الآلهة، لا تكفينا، فيجب صنع آلهة جديدة، فلما قال لهم الرسل أن الإله واحد، قالوا، إنا لم نكتف بهذا العدد العديد من الآلهة، فهو يدعونا إلى إله واحد؟ و هناك ظريفة تحكى، هي أن الكفار اجتمعوا، و قالوا إن في القرآن كلمات غير فصيحة، و ظنوها مأخذا على الرسول، و جمعوا تلك الكلمات في ثلاث، هي «كبار» و «يستهزئ» و «عجاب» و أتوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ناقدين للقرآن فقال الرسول: ائتوني بأفصحكم، فذهبوا، و جاءوا بشيخ كبير، قالوا: إنه أفصحهم، و لما

حضر بين يدي الرسول أراد الجلوس، فقام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخذ في القيام، فجلس الرسول، فأخذ الشيخ في الجلوس، فقام الرسول، فاستشاط الشيخ غضبا من هذا العمل، و قال: يا محمد أ تستهزئ بي، و أنا شيخ كبار، هذا أمر عجاب؟ و هناك نظر بعض القوم إلى بعض، و قد أبطل الشيخ دعواهم في جملة واحدة و انصرفوا خائبين، و نقل إن المشركين، اجتمعوا حول الرسول، ليفاوضوه في ترك الدعوة؟ فقال لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تعطون كلمة واحدة تملكون بها العرب و العجم؟ فقال أبو جهل: لله أبوك نعطيك ذلك و عشرة أمثالها؟ فقال: قولوا لا إله إلا الله، فقاموا و قالوا: أ جعل الآلهة إلها واحدا؟ فنزلت هذه الآيات

«1».

[7] وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ المراد بالانطلاق، انطلاق الألسنة بالكلام، فقد قال الأشراف- و هم الملأ- بعضهم لبعض، و لأتباعهم أَنِ امْشُوا

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 343.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 513

[سورة ص (38): الآيات 7 الى 8]

ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)

أي سيروا في طريقكم التقليدي الذي يقول: بتعدد الآلهة، و لا تعيروا كلام محمد بالا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ المتعددة، و تحملوا المشاقّ في سبيلها، لئلا يغلبكم محمد إِنَّ هذا البقاء على ديننا، و الصبر على المشاق، في سبيل الآلهة لَشَيْ ءٌ يُرادُ منّا، فنحن مطلوبون عند العرف الاجتماعي بالحماية عن الشرك.

[8] ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقوله الرسول من وحدة الإله، و عدم الشرك فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أي ملة

أهل الكتاب، التي هي خير الملل، بعد الوثنية، و ما أشبههما، و كأنهم أرادوا بذلك التموية على العوام، بأن أهل الكتاب أيضا، لا يقولون بوحدة الإله، فكيف يدعي محمد، إنه مثل موسى و عيسى، يدعي ما لا يقولا به إِنْ هذا الذي يقوله الرسول من التوحيد إِلَّا اخْتِلاقٌ أي الكذب، فقد خلقه و صنعه محمد، و لا نصيب له من الواقع و قد رأى الكفار أهل الكتاب، الذين انحرفوا عن منهاج التوحيد، فجعلوهم حجة في مقابل الرسول، و إلا فالأنبياء جميعا لم يقولوا إلا بالتوحيد، و هكذا أكد التوراة و الإنجيل على ذلك.

[9] ثم جعلوا يستغربون، عن أن الرسول يكون موحى إليه من بينهم؟ ظانين إنهم مثل الرسول في المؤهلات، إن لم يكونوا أفضل منه، فاللازم أن يوحى إليهم دونه، أو إليهم و إليه على حد سواء أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على الرسول الذِّكْرُ أي القرآن مِنْ بَيْنِنا؟ كيف ذلك يكون، و فينا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 514

[سورة ص (38): آية 9]

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)

من هو أكبر منه سنا، و مالا، و جاها، و أولادا؟ لكنهم غفلوا، من أن مؤهلات الرسالة، غير مؤهلات العرف و العادة، و الرسول منفرد فيها، فليس قولهم هذا لنقص رأوه في الرسالة و الرسول بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي الذي أنزلته على الرسول، و لم يكن الشك بحق، فإنهم، لو تفكروا علموا بصدق الرسول، و إنما شك المقلد الجاهل، الذي يرى الحق في طرف، و التقليد في طرف آخر بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي عذابي، حذف «ياء المتكلم» تخفيفا، و هذا تهديد لهم، بمعنى أنهم، إنما يقولون ما يقولون لا لعدم صحة الرسالة و

الدعوة، بل لأنهم منحرفون محتاجون إلى التأديب، و سيذوقون العذاب.

[10] أمّا ما يقولون من أن اللازم نزول الذكر عليهم، دون الرسول، و قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) «1» فالجواب: إن ذلك فضل الله يعطيه من يشاء أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ حتى يفتحون خزائن الرسالة، فيهبونها لمن شاءوا، دون من يريده الله سبحانه؟ الْعَزِيزِ في سلطانه، يفعل ما يشاء الْوَهَّابِ العطايا لمن يشاء، و من المعلوم، إن الله سبحانه لا يهب، إلا حسب المصلحة و الحكمة، فإنما ينزل الرسالة لمن يؤهلها، كما قال سبحانه (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) «2» و قال (وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) «3».

______________________________

(1) الزخرف: 32.

(2) الأنعام: 125.

(3) الدخان: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 515

[سورة ص (38): الآيات 10 الى 12]

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12)

[11] أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما حتى إذا شاءوا، أن لا يكون محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، رسولا، سدّوا أبواب الوحي على وجهه، لأنهم يملكون طرق الوصول من السماء إلى الأرض؟ و إذا قالوا: إنهم يملكون ذلك فَلْيَرْتَقُوا أي يصعدوا فِي الْأَسْبابِ الموصلة لهم إلى السماوات، ليمنعوا مسالك الرسالة، لئلا يوحى بالقرآن إلى الرسول.

[12] إنهم ليسوا بمالكي خزائن الله، و لا لهم ملك السماوات و الأرض، و إنما جماعة منبوذة تجمعت من لفيف جنود للباطل، في ابتعاد عن التصرف في الشؤون الكونية، إنهم جُنْدٌ ما نكرة غير مربوطين بشأن من الشؤون هُنالِكَ منبوذة في زاوية

من زوايا العالم، لا يرتبط بأمر من أمور الكون مَهْزُومٌ هزمهم المنطق و الحق مِنَ الْأَحْزابِ ملتفة من أحزاب مختلفة، و مذاهب متشتتة، فلم يجمعهم الحق، و إنما الحسد و العناء و الكبر، و إلا فما يجمع بين اليهودي و المسيحي، و المشرك تحت قيادة أبي سفيان لمحاربة الرسالة الإلهية العظمى؟ و «جند» مبتدأ، و «هنا لك» خبرة، و «مهزوم» صفة جند.

[13] إن مصير هؤلاء، هو مصير من قبلهم من الكفار، حيث كذبوا الأنبياء، فأهلكهم الله سبحانه، بما كذبوا، و إن بقي هؤلاء في كفرهم و غيهم، سيلاقون ذلك المصير المهلك كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الكفار قَوْمُ نُوحٍ نوحا عليه السّلام وَ عادٌ كذبت هودا عليه السّلام وَ فِرْعَوْنُ كذب موسى و هارون عليه السّلام ذُو الْأَوْتادِ صفة فرعون، و

قد سئل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 516

[سورة ص (38): الآيات 13 الى 15]

وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)

الصادق عليه السّلام، لأي شي ء سمي فرعون ذا الأوتاد؟ فقال: لأنه كان إذا عذب رجلا، بسطه على الأرض على وجهه، و مدّ يديه و رجليه، فأوتدوها بأربعة أوتاد في الأرض و ربما بسطه على خشب منبسط، فوتد رجليه و يديه بأربعة أوتاد، ثم تركه على حاله حتى يموت

«1».

[14] وَ كذبت ثَمُودُ صالحا عليه السّلام وَ قَوْمُ لُوطٍ لوطا عليه السّلام وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ و هم قوم شعيب، و قد كانت إلى جنبهم غيضة ذات أشجار، و هي الأيكة، كذبوا شعيبا عليه السّلام أُولئِكَ الْأَحْزابُ الذين كذبوا الرسل، و كان قومك

حزب من تلك، فما كان مصيرهم؟

[15] إِنْ كُلٌ أي ما كل من أولئك الأقوام إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ الذين أرسلوا إليهم فَحَقَ أي ثبت و لزم عليهم عِقابِ أي عقابي، و حذف الياء تخفيفا، و المراد بالعقاب أخذهم بأنواع عذاب الاستئصال في الدنيا قبل الآخرة.

[16] وَ إذ قد عرف قومك مصير أولئك المكذبين، فما بقاؤهم في الكذب و الكفر، إلا انتظارا لتلك العاقبة السيئة ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً يصيح بهم جبرئيل، أو ملك آخر، حتى يهلكهم جميعا، كما حدث في بعض الأمم السابقة، أو المراد النفخة الأولى ما لَها أي ليس لتلك الصيحة مِنْ فَواقٍ أي إفاقة، بأن

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 8 ص 347 ..

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 517

[سورة ص (38): الآيات 16 الى 17]

وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)

تنقطع قبل هلاك القوم، فيرجعوا عن غيهم، و ضلالهم، يقال: أفاق من مرضه إذا طاب، و فواق الناقة، هي المدة بين الحبستين، لأن فيها يعود اللبن إلى الضرع.

[17] و إذ كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يهدد الكفار بالعذاب، كانوا يقولون:- مستهزئين له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- عجل لنا بالعذاب! وَ قالُوا أي الكفار رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي قدم لنا نصيبا من العذاب قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ و «القط» هو النصيب، من «قطّ» بمعنى قطع، لأن النصيب، يقطع و يعين في مقدار خاص.

[18] قال الله سبحانه في جوابهم تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، اصْبِرْ يا رسول الله عَلى ما يَقُولُونَ أي

ما يقوله هؤلاء الكفار في تكذيبك، و الاستهزاء بك وَ اذْكُرْ جماعة من الأنبياء عليهم السّلام الذين آذوهم قومهم، فصبروا، أو كانت لهم القوة الدنيوية، بالإضافة إلى الإيمان الذي هو قوة معنوية تقوية لقلوب المؤمنين، و لئلا يقول المرجفون:

إن الإيمان، لا يلائم الحياة الدنيا، فاذكر يا رسول الله عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي صاحب القوة، فإن «أيد» جمع يد، ثم استعملت في النعمة و القوة، لأن اليد من أسبابهما إِنَّهُ عليه السّلام، مع كونه، ذا قوة عظيمة دنيوية أَوَّابٌ أي تواب يستغفر ربه في دائم الأحوال، من آب يئوب إذا رجع، و كأن الانشغال بأمور الدنيا، كان انصرافا عن الله سبحانه- و لو انصرافا مباحا- فكان يرجع إليه تعالى، بصرفه نفسه كلها إليه كل صباح و مساء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 518

[سورة ص (38): الآيات 18 الى 21]

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ (18) وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (20) وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21)

[19] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ أي جعلناها مسخرة مع داود في كونها يُسَبِّحْنَ بتسبيح داود بِالْعَشِيِ أي العصر وَ الْإِشْراقِ أي عند شروق الشمس، فإن داود كان إذا سبّح الله تعالى في هذين الوقتين، كانت الجبال تردد معه التسبيح، و قوله «يسبّحن» بلفظ العاقل، لأن صدور محل العقلاء من الجبال يدخلها في جملتهم.

[20] وَ سخرنا لداود عليه السّلام الطَّيْرَ المراد به الجنس أي كل الطيور، في حال كونها مَحْشُورَةً أي مجموعة له كُلٌ من الجبال و الطير لَهُ أي لداود أَوَّابٌ أي رجّاع فكانت الطيور تردّد معه التسبيح، كما تردد الجبال، و قيل

إنها كانت تطيعه، فيما يأمر به.

[21] وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوينا ملك داود بالحرس و المال، و كثرة العدة و العدة وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ المراد بها، إما النبوة، أو أن يكون بحيث يعرف مواضع الأشياء، فإن الحكمة هي عبارة عن علم وضع الشي ء في موضعه اللائق به وَ فَصْلَ الْخِطابِ أي الخطاب الفاصل بين الحق و الباطل، و المراد به علم القضاء، فإنه كان يعرف كيفية الحكم بين الناس و معرفة تمييز المحق من المبطل، و قد كان من ذلك قاعدة «البينة على المدعي، و اليمين على من أنكر».

[22] ثم ينتقل السياق لينقل قصة امتحن الله بها داود عليه السّلام، فقد جاء خصمان إلى داود في شكوى، و لما سمع داود من المدعي كلامه حكم له، بدون أن يستمع من المنكر، و كان هذا الاستعجال تركا للأولى،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 519

بالنسبة إليه، ثم توجه و أناب إلى الله سبحانه، و قد كان أمثال هذه المخالفات- المسماة بترك الأولى- تصدر من الأنبياء أحيانا لإثارة النشاط في نفوسهم، لتقوى اتصالاتهم بالله سبحانه، و هي لم تكن معصية، كما لا يخفى، كما أن نقلها في القرآن لعلها، بسبب أن لا يعتقد الناس فيهم الألوهية، فإن من عادة الناس، أن يرفعوا الإنسان النزيه فوق مرتبته، كما رفعوا المسيح و على بن أبي طالب عليهما السّلام إلى مقام الألوهية، أما إذا علموا بصدور ترك الأولى منهم، كان ذلك حاجزا دون الغلو، و من غريب الأمر إن جماعة اختلقوا حول هذه القصة أكاذيب استنادا إلى «العهدين» المحرّف، فذكروا قصة «أوريا» كما نسبوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسطورة قصة «زينب»، و

قد روى في المجالس عن

الصادق عليه السّلام، أنه قال رضى الناس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط، ألم ينسبوا إلى داود، إنه تبع الطير، حتى نظر إلى امرأة «أوريّا» فهواها، و إنه قدم زوجها أمام التابوت، حتى قتل، ثم تزوج بها

«1»، و

قد روي عن الإمام المرتضى عليه السّلام، إنه قال: لا أوتي برجل يزعم، إن داود تزوج امرأة أوريا، إلا جلدته حدين حدا للنبوة، و حدا للإسلام «2»

وَ هَلْ أَتاكَ يا رسول الله، و هذا للتشويق نحو القصة، التي ستذكر نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر الخصمين، و المراد «بالخصم» الجنس، و لذا يشمل النفرين، أي هل بلغك خبر الخصمين إِذْ تَسَوَّرُوا أي صعدوا على السور لينزلوا الْمِحْرابَ محل عبادة داود عليه السّلام؟ فقد كان في المحراب، إذ رأى نفرين نزلا من سور

______________________________

(1) الأمالي للصدوق: ص 102 المجلس 22.

(2) تنزيه الأنبياء: ص 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 520

[سورة ص (38): الآيات 22 الى 23]

إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23)

المحراب، أي جداره، فهاله أمرهم، إذ لم يدخلوا من الباب، و إنما جي ء بلفظ الجمع، فقال «تسوروا» لأن الخصم جنس، و الجنس عام، و يتحمل أن يكونوا أكثر من اثنين، بأن أتياه مع بعض متعلقيهم، كما هو العادة في المنازعات.

[23] إِذْ دَخَلُوا الخصوم عَلى داوُدَ من السور فَفَزِعَ و خاف مِنْهُمْ لأنهم دخلوا من غير الباب، و بدون الإذن، و في غير الأوان قالُوا لداود لا تَخَفْ فلسنا نريد إيذاءك، فإن الإنسان قد

اعتاد أن يخاف من المفاجئ، لأنه يظن كون المجي ء للإيذاء، و إلا كان يأتي على نحو المعتاد، لا فجأة ... إنما نحن خَصْمانِ أي نفران، أو طرفان بَغى و ظلم بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فجئنا إليك لتحكم بيننا فَاحْكُمْ يا داود بَيْنَنا بِالْحَقِ و العدل وَ لا تُشْطِطْ من الشطط، بمعنى الميل عن الحق و الكذب، و الالتواء، و هذا القول لم يكن لأجل احتمالهم، إن داود يكذب و يجور، بل هكذا يقول الإنسان المخاصم، ليري طرفه و السامعين، إنه واضح للحق مائل إليه، لا يريد جورا و ظلما و تعديا وَ اهْدِنا أي أرشدنا في قضيتنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وسط الطريق، الذي لا جور فيه، و لا انحراف.

[24] ثم قال أحدهما لداود عليه السّلام إِنَّ هذا الخصم أَخِي في النسب، أو من باب الشفقة و اللين في الخطاب لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 521

[سورة ص (38): آية 24]

قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (24)

الشاة وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فقط فَقالَ أخي لي، يريد سلب شاتي، لتكمل له مائة شاه أَكْفِلْنِيها أي ضم شاتك إلى نعاجي، و اجعلني كفيلها حتى تكون لي وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في الكلام و مخاطبته معي، بأن خاشنني في الكلام بقصد أن يقهرني و يأخذ شاتي.

[25] و بمجرد أن سمع داود كلام المدعي، بدون أن يطلب من خصمه الردّ قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ أخوك، و جار عليك في طلبه بنعجتك

بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ ليضمها إِلى نِعاجِهِ ثم بين داود، أن الظلم من عادة بعض الشركاء على بعض وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ جمع خليط، و هو الشريك، لأنه يخالط الإنسان، لأجل اشتراك أموالهما لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ حيث إن الأقوى منهم يريد أكل الأضعف، ثم استثنى من هذا العموم المؤمنين بقوله إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن كانوا مستقيمين عقيدة و عملا، فإنهم لا يظلمون أحدا، و لم يكن حاجة إلى هذا الاستثناء، لأنه نص أولا بقوله «كثيرا» و إنما جي ء بالاستثناء، لئلا يوهم، إن الكثير من المؤمنين، للتنصيص على إن أحدا من المؤمنين ليس بداخل في ذلك الكثير وَ قَلِيلٌ ما هُمْ «ما» لزيادة التقليل، فإن المؤمن المستقيم في جميع شؤونه، قليل جدا، و إذ حكم داود بهذا الحكم قبل أن يستفسر من المدعى عليه الحال، تنبّه إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 522

[سورة ص (38): الآيات 25 الى 26]

فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)

استعجاله الذي كان خلاف الأولى وَ ظَنَ حينذاك داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي امتحناه بهذه الحكومة، و يظهر من لفظ «ظن» إنه لم يتيقن، و إنما ترجح في نظره ذلك فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أي طلب منه غفرانه، فإن ترك الأولى موجب للتنقيص من الثواب، فاستزادته بحاجة إلى الستر و الغفران، و فرض أنه لم يكن وَ خَرَّ أي سقط داود لوجهه راكِعاً معظما له سبحانه، فإن الركوع يطلق على مطلق التعظيم، و

لو بنحو السجود، كما يدل عليه «خر» و هو الأنسب بمثل هذا المقام وَ أَنابَ أي رجع إلى ربه، بعد الانشغال بتلك القضية، و قد ورد في بعض الأحاديث إن الخصمين كانا ملكين.

[26] فَغَفَرْنا لَهُ أي لداود ذلِكَ الترك للأولى وَ إِنَّ لَهُ أي لداود عِنْدَنا أي في المحل المعد المكرم بكرامتنا- تشبيها للمعقول بالمحسوس- لَزُلْفى أي قربى و كرامة، من زلف بمعنى اقترب وَ حُسْنَ مَآبٍ أي المرجع الحسن في الآخرة.

[27] ثم خاطبه الله سبحانه بقوله يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ الخليفة هو الذي يجلس مكان غيره خلفا له، و الأنبياء خلفاء الله سبحانه، حيث إنه قررهم للقيام بأمره، و إنفاذ حكمه في الأرض، و كأن الإتيان، بقوله «في الأرض» لإفادة العموم، فليس خليفة له في بلدة أو قطر فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ المطابق للواقع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 523

[سورة ص (38): آية 27]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)

وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى الذي يأمر بالانحراف، حسب العواطف و الميول فَيُضِلَّكَ اتباع الهوى عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و طريقه، و هذا ليس معناه، إن داود كان محتمل الانحراف، و إنما الأوامر الصارمة، توجّه إلى الأنبياء، كما توجّه إلى غيرهم، كما قال سبحانه (وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) «1» إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ينحرفون عن طريق الله، بالحكم أو الفتوى أو الدعوة إلى الباطل لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي بسبب نسيانهم، و المراد بالنسيان تركهم أحكام الله، و حيث إن النسيان غالبا سبب لترك الأوامر،

كان الإتيان بالنسيان، و إرادة الترك مجازا من علاقة السبب و المسبب، و يوم الحساب، إما متعلق، ب «بما نسوا» أي بسبب نسيانهم ليوم الحساب، أو متعلق ل «عذاب شديد» أي لهم عذاب شديد، يوم الحساب بسبب نسيانهم أوامر الله.

[28] و إذ وصلت القصة إلى هذا الموضع، ألفت السياق الأذهان إلى حقيقة كبري، هي إن العالم لم يخلق باطلا، حتى يلائمه الحكم في القضايا بالباطل، بل العالم خلق بالحق و للحق، فاللازم أن تكون الأمور العملية من حكم و فتوى، و غيرهما على الحق، و إلا كانت العاقبة الانهيار و الدمار وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من البشر

______________________________

(1) الزمر: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 524

[سورة ص (38): الآيات 28 الى 29]

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)

و الملك و الهواء، و غيرها باطِلًا عبثا و اعتباطا، بلا غاية، أو غرض، حتى يكون الباطل من القول و العمل و الحكم، ملائما للخلق، و لا يكون له مصير مؤلم ذلِكَ أي كون الخلق باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و جحدوا حكمه، و إنما قال «ظن» لأنهم يرجحون ذلك، و لا يستيقنونه فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ التي تحرقهم لكفرهم، و ظنهم، أن الخلق عبث باطل.

[29] ثم توجه السياق إلى تنبيه الكفار، بأنهم ليسوا سواء و المؤمنين، لا في الدنيا، و لا في الآخرة، بل المؤمنون فوقهم مقاما و منزلة أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا أي هل من الممكن أن نجعل المؤمنين وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ اللازم منه عدم العمل بالمعاصي كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ فإن كل

كافر و عاصي مفسد، أي عامل بالفساد مفسد لنفسه، أو غيره؟ كلا! لا نجعل المؤمن كالمفسد أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا معاصي الله بعد الإيمان كَالْفُجَّارِ الذين عصوا و فجروا؟ من الفجر، و هو الشق، كأن الفاجر يشق ستر الهدى، و ينفذ نحو الباطل، و لعل المراد بالسؤال الثاني، بيان عدم استواء المطيع و العاصي من المؤمنين، بعد بيان عدم استواء المؤمن و الكافر.

[30] و من ثم ياتي الكلام حول القرآن الحكيم، ليلفت بعد بيان القصص و الآداب، إلى أنه كتاب عظيم، حيث اشتمل على مثل هذه الحقائق الرائعة، و قد ذكر في علم القرآن إلقاء المطلب في الذهن، بعد الإتيان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 525

[سورة ص (38): الآيات 30 الى 31]

وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31)

بأمر معجب أنفذ من الإلقاء في الذهن الخالي غير المتحرك، ألا ترى إن الإنسان إذا رق قلبه لأمر كان أسرع إلى العمل من أجله؟ و هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا رسول الله مُبارَكٌ ذو بركة و زيادة و نماء كثير نفعه و خيره، لأنه يهدي و يرسم الخطط الموجبة، للزيادة و الخير لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي يتفكروا فيها و يتعظوا بها وَ لِيَتَذَكَّرَ مما أودع فيهم من الحقائق بالفطرة أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن اللبّ بمعنى العقل، أما غيرهم فإنهم لا يتذكرون و لا يتدبرون.

[31] و إذ تمت قصة داود، يأتي السياق لبيان قصة سليمان وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ و معنى الهبة العطية المجانية، و الأولاد هبات للآباء، و لذا قال سبحانه (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) «1» إنه نِعْمَ الْعَبْدُ إذ كان

كأبيه يعمل بأوامرنا إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى الله سبحانه في جميع أموره، و قد سبق أن الإنسان إذا صرف إلى ضروريات حياته، فكأنّه ابتعد عن الله سبحانه، إذ لم يكن بجميع سرائره مشغولا نحوه تعالى، و لذا كان الالتفات إليه بعد ذلك أوبا و رجوعا.

[32] اذكر يا رسول الله إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ أي على سليمان بِالْعَشِيِ أي في آخر النهار الصَّافِناتُ جمع صافنة، و هي الخيل الواقفة على

______________________________

(1) الشورى: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 526

[سورة ص (38): الآيات 32 الى 33]

فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ (33)

ثلاث قوائم الواضعة السنبك الرابع على الأرض. يقال صفنت الخيل إذا وقفت كذلك، و هي من علامة الجودة الْجِيادُ جمع جيد و هي الفرس الأصيلة النجيبة، و نجابة الفرس بعرفانها صاحبها، و سرعة سيرها، و الاهتمام بخلاص راكبها من المشكلة التي يقع فيها.

[33] فاشتغل سليمان بتلك الأفراس، حتى فاتت صلاة مندوبة، كان يصليها في ذلك الوقت، حتى غابت الشمس، و مضى وقت صلاته المندوبة، و هناك تأثر سليمان من ذلك، و أمر أصحابه بردّ الأفراس إليه، ليوقفها في سبيل الله، كفارة لفوت صلاته المندوبة، أو يذبحها ليطعمها الناس كفارة، و هذا المعنى، قد استفدناه من بعض الأخبار، مع التحفظ على ظاهر الآية، و ما ثبت من عصمة الأنبياء عليهم السّلام، و إن كان الواقع في القصة لا يعلمه إلا الله، و الراسخون في العلم، و لما نظر سليمان إلى غروب الشمس، و ذهاب وقت نافلته فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي أحببت الخير حبا، و الخير هو الفرس، و كل مال هو

خير، كما قال سبحانه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) «1» عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي آثرت الاشتغال بعرض الأفراس عن ذكر الله حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ كأنها عروس تستر نفسها بالحجاب حين تغيب و تستتر تحت الأفق، فلم أصلّ نافلتي.

[34] ثم قال سليمان لأصحابه رُدُّوها أي ردوا الصافنات عَلَيَ

______________________________

(1) البقرة: 181.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 527

[سورة ص (38): الآيات 34 الى 35]

وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)

فردوها إليه فَطَفِقَ أي شرع سليمان يمسح مَسْحاً بِالسُّوقِ أي سوق الأفراس جمع ساق وَ الْأَعْناقِ أي و يمسح أعناقها، و «اللام» عوض عن الضمير و المعنى يمسح سوقها و أعناقها تسبيلا في سبيل الله، و وقفا لها على جهات الخير، أو ضربا بالسيف ليطعمها الفقراء، كل ذلك، لتكون كفارة عن فوت نافلته، بسبب اشتغاله بها.

[35] وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي امتحناه، و ذلك بأنه ولد له مولود، فخاف عليه من إيذاء الشياطين، و جعله في السحاب، ليكبر هناك- و قد كان السحاب مسخرا له- و لكن ذلك، كان خلاف التوكل من مثله عليه السّلام، و لذا مات الولد، و ألقي على كرسي حكمه، فلما رآه عرف أنه ترك الأولى في إيداع الولد السحاب وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ أي سرير حكمه جَسَداً لولده الميت ثُمَّ أَنابَ أي رجع عن تركه للأولى.

[36] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي اعتمادي على السحاب في إبقاء ولدي، و عدم أذى الشياطين له وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لعله أراد نوعا من الملك، يكون ذو إعجاز لا يتمكن أحد من

الإتيان مثله، كما إن عصا موسى، و إحياء عيسى، و قرآن الرسول، كانت بحيث لا ينبغي لأحد من بعدهم، فلم يرد سليمان البخل، و تخصيص رحمة الله بنفسه بل أراد الإعجاز، و الذي يؤيد ذلك، إن الملك الذي وهب له كان معجزة، إذ هو تسخير الريح، و عبارة «لا ينبغي لأحد» يراد به الناس، لا حتى الأنبياء عليهم السّلام، فإن مثل هذا التعبير شائع،

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 528

[سورة ص (38): الآيات 36 الى 38]

فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ (37) وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)

«ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء على ذي لهجة، أصدق من أبي ذر»

«1» و لم يرد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ترجيحه على الأئمة، كما أن قوله سبحانه في القرآن الحكيم (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) «2» أريد به ممن آمن و عصى، لا من كل أحد، و هكذا، و مثله تعبير عرفي شائع إِنَّكَ يا رب أَنْتَ الْوَهَّابُ الكثير الهبة، فتفضل عليّ بذلك.

[37] فَسَخَّرْنا أي ذللنا بأمره لَهُ أي لسليمان الرِّيحَ التي كانت تحمل بساطه و تسير به إلى حيث شاء تَجْرِي الريح بِأَمْرِهِ أي أمر سليمان رُخاءً أي لينة بدون عنف حَيْثُ أَصابَ أي إلى كل مكان أراد الذهاب إليه، و الإصابة هي الوصول إلى الشي ء، و كأن المعنى حيث أصاب نظره و إرادته.

[38] وَ سخرنا له الشَّياطِينَ أي الأجنة، و قد سبق أن الشيطان قسم من الجن، و إن كان له نوعان، نوع يسمى جنا، و نوع يسمى شيطانا

كُلَّ بَنَّاءٍ يبني له القصر و الدار، و ما أشبه، في المدن و الصحاري وَ غَوَّاصٍ في البحر يذهب في الماء ليأتي له بالجواهر و اللئالي، و «كل» بدل من الشياطين، بدل بعض من الكل.

[39] وَ سخرنا له شياطين آخَرِينَ غير البناء و الغواص في حال

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 426.

(2) السجدة: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 529

[سورة ص (38): الآيات 39 الى 41]

هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (40) وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (41)

كونهم مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ جمع صفد، و هو الغلّ، فقد كان يجمع بين بعض الشياطين مع بعض في السلسلة تعذيبا لهم على تمردهم، أو لئلا يفر المتمرد منهم أو كان يغل المتمرد يديه و رجليه، و هذا كناية عن إعطاء زمامهم بيده، حتى أنه يتمكن من استخدامهم و عقاب المجرمين منهم.

[40] و بعد هذا الملك الوسيع الخارق، قال الله سبحانه لسليمان- زيادة لا كرامة- هذا الملك عَطاؤُنا لك فَامْنُنْ على من شئت بإعطائه ما تشاء أَوْ أَمْسِكْ عمن شئت، بأن لا تعطيه شيئا في حال كونك بِغَيْرِ حِسابٍ أي أنك لا تحاسب عما تفعل، أو أعط بغير حساب و تعداد من شئت، فهو متعلق ب «امنن».

[41] وَ إِنَّ لَهُ أي لسليمان عِنْدَنا لدينا لَزُلْفى قربا منّا فإنه ذو جاه و منزلة عند الله سبحانه وَ حُسْنَ مَآبٍ أي مرجعا حسنا في الآخرة.

[42] وَ اذْكُرْ يا رسول الله عَبْدَنا أَيُّوبَ كيف صبر على البلاء، فإنه عليه السّلام ذهب ماله و أهله و أولاده، و تمرض في جسده، بأشد أنواع المرض،

و لم يزل يذكر الله و يشكره، حتى إذا بلغ الأمر منتهاه، و أراد الله سبحانه له الشفاء، بعد أن أحسن الصبر و نجح في الامتحان إِذْ نادى رَبَّهُ تعالى قائلا يا رب أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 530

[سورة ص (38): الآيات 42 الى 43]

ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ (42) وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43)

فإن الشيطان هو الذي صار سببا لبلاء أيوب، و قد مكّنه الله سبحانه منه، بأن لم يصده عن إيذائه، كما لم يصده عن الوسوسة لآدم عليه السّلام، امتحانا لأيوب، و ليرتفع بذلك مقامه، و «النصب» هو البلاء، و «العذاب» هو الألم، و لعله أراد باللفظين الألم الجسمي و الروحي، أو ألمه في أهله و ماله و أولاده، و ألمه في نفسه.

[43] و بعد أن دعا أيوب ربه، لينجيه من البلاء خوطب من قبله سبحانه ارْكُضْ بِرِجْلِكَ أي ادفع برجلك الأرض، فإن الركض، هو الدفع بالرجل على جهة الإسراع، و منه يسمى المشي السريع ركضا، فركض عليه السّلام برجله الأرض، فظهرت عين ماء، فقيل له هذا الذي تراه مُغْتَسَلٌ أي موضع يغتسل فيه، و قد أريد بذلك، تنبيهه على الاغتسال في ذلك الماء بارِدٌ الإتيان بهذا الوصف للترويح عن النفس المريضة الملتهبة التي تطلب الماء البارد وَ شَرابٌ يشرب منه، و قد اغتسل أيوب في ذلك الماء، و شرب منه، فصح جسمه كأن لم يكن به مرض أبدا.

[44] وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ الذين ماتوا في البلاء، بأن أحياهم الله سبحانه وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ إما بأن ولد له أولاد آخرين على عدد أولئك الأولاد، حتى

صار له من الأولاد ضعف أولاده قبل البلاء، و إما بأن المراد إعطاء أهله الذين ماتوا قبل البلاء، و الذين ماتوا في البلاء، و ذلك لأنه استحق الذين ماتوا في البلاء، لا الذين ماتوا قبله بآجالهم الطبيعية، و إنما فعلنا ذلك رَحْمَةً مِنَّا له و تفضلا عليه، فليس أحد يستحق على الله شيئا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي، و ليتذكر أصحاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 531

[سورة ص (38): آية 44]

وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

العقول، بأن الله سبحانه، إذا أخذ من أحد شيئا، فلا يفعل ذلك اعتباطا و عبثا، و إنما ليعطيه ذلك الشي ء مع الزيادة- إذا كان أخذه، لم يصدر عن عقاب و تأديب- و هذا هو شأنه سبحانه في جميع ما يأخذ، كما قال في باب الإنفاق (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً) «1».

[45] وَ خُذْ يا أيوب بِيَدِكَ ضِغْثاً و هو مل ء الكف من الشماريخ للتمر فَاضْرِبْ بِهِ أي بذلك الضغث امرأتك وَ لا تَحْنَثْ حلفك، فقد رأى أيوب من زوجته قولا، أو عملا ساءه ذلك، فحلف أن يضربها عددا من السوط، أو نحو ذلك- مما سكتت عنه الآية، و لما أن عوفي خفف الله سبحانه ذلك، بأن يضربها بالشماريخ ضربة واحدة، لا تؤذي كثيرا، بأن يجعل لكل مرة شمراخا، و قد كان حلف أيوب على ضربها مشروعا، إذ لعلها كانت عاصية في قولها أو عملها الذي ساء أيوب و للزوج حق تأديب الزوجة، و لذا وجب الوفاء بها، كما أن عدم الحنث بذلك تخفيف من الله سبحانه، مع أنه عليه السّلام، أتى بما يشبه

المحلوف، فلا يقال: كيف قال تعالى «لا تحنث» و الحال أن المحلوف غير هذا؟ إِنَّا وَجَدْناهُ أي وجدنا أيوب صابِراً على البلاء الذي ابتلي به نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى الله سبحانه من آب بمعنى رجع، و قد ذكرنا معنى رجوع الأنبياء عليهم السّلام، و أنه من اشتغالهم بالأمور الدنيوية.

______________________________

(1) البقرة: 246.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 532

[سورة ص (38): الآيات 45 الى 48]

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)

[46] وَ اذْكُرْ يا رسول الله عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ ابن إبراهيم وَ يَعْقُوبَ ابن إسحاق أُولِي الْأَيْدِي أي أصحاب القوة و التمكن، فقد كان هؤلاء الأنبياء عليهم السّلام أصحاب ثروة و نعمة و جاه وَ الْأَبْصارِ يبصرون أمور دينهم، فقد جمعوا بين الدنيا و الآخرة، و إنما أمر الرسول بذكرهم ليقتدى بهم الناس في دينهم و دنياهم، فلا يتركوا أحدهما للآخر، كما قال تعالى (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) «1».

[47] إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي جعلناهم لنا خالصين، فلا يعملون شيئا إلا لأجلنا بِخالِصَةٍ أي بخلصة، و صفة خالصة لا شوب فيها: هي ذِكْرَى الدَّارِ الآخرة، فقد كانوا دائمي التذكر لها، و من المعلوم، أن الإنسان إذا كان دائم التذكر للآخرة، لا تزل له قدم، و قوله «ذكرى» بدل من «بخالصة».

[48] وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ جمع مصطفى أي اصطفيناهم، و اخترناهم للنبوة، و معنى عندنا، في حسابنا، و ما كتبناه، لهم ليجزون

عليه الْأَخْيارِ جمع خير، كأموات جمع ميت، و هو الذي يفعل الأشياء الكثيرة الحسنة.

[49] وَ اذْكُرْ يا رسول الله إِسْماعِيلَ بن إبراهيم عليه السّلام، و كأنه لذكره

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 533

[سورة ص (38): الآيات 49 الى 51]

هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ (51)

هنا، لم يذكر هناك مع أبيه و أخيه وَ الْيَسَعَ قال بعضهم كان من أنبياء بني إسرائيل وَ ذَا الْكِفْلِ هو يوشع بن نون، وصي موسى عليه السّلام، على بعض الأقوال وَ كُلٌ من هؤلاء مِنَ الْأَخْيارِ الخيّرين.

[50] هذا الذي سميناهم هنا في القرآن ذِكْرٌ لهم، و شرف في الدنيا، باق بقاء الأبد وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الذين أولئك الأنبياء من ساداتهم لَحُسْنَ مَآبٍ أي مآب حسن، و المآب هو المرجع، من آب بمعنى رجع.

[51] ثم بين سبحانه المراد بذلك بقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه، و الجنة هي البستان، سمى بها لأن الأشجار تجن و تستر أرضها، أي جنات إقامة لا زوال لأحد عنها، في حال كونها مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ و الإتيان من باب التفعيل، للدلالة على كثرة الأبواب المفتحة لهم، لأن من معاني باب التفعيل التكثير، و في ذلك إشارة إلى عظم رتبتهم، حيث إن كل الأبواب تفتح في وجوههم، حتى يكون لهم أن يدخلوها من حيث شاءوا.

[52] في حال كونهم مُتَّكِئِينَ فِيها أي مستندين أهل الجنة إلى المساند، و ذلك للدلالة على كمال راحتهم الجسدية و الروحية يَدْعُونَ فِيها أي يطلبون في تلك الجنات بِفاكِهَةٍ هي ثمرة الأشجار كَثِيرَةٍ حسب ما أرادوا وَ شَرابٍ بقدر ما اشتهوا،

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 534

[سورة ص (38): الآيات 52 الى 56]

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56)

من خمر و من عسل و من لبن و غيرها.

[53] وَ عِنْدَهُمْ زوجات قاصِراتُ الطَّرْفِ قد قصرت عيونهن على أزواجهن، فلسن كبعض نساء الدنيا اللاتي ينظرن إلى غير أزواجهن، من حيث إنهن يرون غيرهم أعلى جاها، أو مالا، أو جمالا، أو غير ذلك، من أزواجهن أَتْرابٌ جمع ترب، و هي التي بسن الزوج، فليس أعمارهن أقل أو أكثر من أزواجهن، حتى يكونا مختلفي الجسم أو العقل.

[54] هذا الذي تقدم في وصف الجنان و نعيمها ما تُوعَدُونَ أيها الناس لِيَوْمِ الْحِسابِ فإذا أحسنتم استحقتم كل ذلك.

[55] ثم إنه لا انقطاع لنعيم الجنة، بل يقال لأهل الجنة إِنَّ هذا الذي ترون من النعيم لَرِزْقُنا لكم أيها المؤمنون ما لَهُ أي ليس لهذا الرزق مِنْ نَفادٍ أي فناء و انقطاع بل باق إلى الأبد.

[56] هذا ما يقدم للمتقين، فلننظر الكفار وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ الذين طغوا على الله سبحانه و تجاوزوا الحد بالكفر و العصيان لَشَرَّ مَآبٍ أي مآب شرير في مقابل «حسن المآب» للمتقين.

[57] جَهَنَّمَ تفسير لشر مآب يَصْلَوْنَها من صلى الشي ء إذا لازمه، أي يدخلونها ملازمين لها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي بئست جهنم مسكنا لهم، و المهاد هو المحل الذي يمهده الإنسان، و يهيئه لنفسه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 535

[سورة ص (38): الآيات 57 الى 60]

هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ

صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60)

[58] أما شرابهم هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ أي هذا حميم و غساق، فليذوقوا كل واحد منهما، و الحميم هو الماء الحار، و غساق، ما يغسق أي يسيل من صديد أهل النار و تحميمهم.

[59] وَ آخَرُ أي و لهم ضرب آخر من الطعام و الشراب مِنْ شَكْلِهِ من شكل الحميم و الغساق أَزْواجٌ ألوان و أنواع متشابهة في الشدة، و صعوبة المذاق.

[60] تلك دارهم، و ذاك طعامهم و شرابهم، و لهم صنوف أخرى من العذاب، من جملة تلك ضيق المكان، حتى أنهم في جهنم من الضيق، كالوتد دقّ في الحائط- كما ورد- و ذلك إن القادة يدخلون النار أولا فيجدون ضيقا و إرهاقا، ثم يؤتى بالأتباع، و إذا يراهم القادة، يقولون: لا مكان هنا لهؤلاء، فيقول مالك النار هذا الجمع الذي تشاهدونهم فَوْجٌ أي جماعة مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ من الاقتحام، و الدخول في الشي ء بشدة، و صعوبة، أي داخلون في ثناياكم و خلالكم لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا رحبت عليهم الأرض، و لا اتسعت لهم أماكنهم، و هذا حكاية لقول القادة، الذين هم في النار، يقولون لأتباعهم ذلك، و هو عكس التحية إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي يدخلونها ملازمين لها.

[61] و إذ يسمع الأتباع هذا الترحيب المعكوس من قادتهم قالُوا بَلْ أَنْتُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 536

[سورة ص (38): الآيات 61 الى 63]

قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63)

أيها القادة لا مَرْحَباً بِكُمْ أي لا اتسع بكم

المكان، و لا حييتم إلا بالسوء أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ أي قدمتم هذا العذاب لَنا حيث حملتمونا على الكفر و العصيان فَبِئْسَ الْقَرارُ و المقر الذي نستقر عليه.

[62] و كان القادة يجيبون بأنّا لم نقدم لكم هذا العذاب، و إنما أنتم كنتم منحرفين عن الجادة، كما سبق شبه هذا الحوار بين السادة و الأتباع في بعض السور السابقة، و لذا يلتجئ الأتباع إلى الله لينتقم لهم من القادة الذين غرّوهم ثم لا يقبلون حتى أن يسمعوا ذلك الكلام من أتباعهم قالُوا أي قالت الأتباع يا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا العذاب و هيأه، لأن ندخله فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً عذابا لضلاله بنفسه و عذابا لإضلاله لنا فِي النَّارِ و إلى هنا ينتهي الحوار بين القادة و الأتباع.

[63] ثم إن الكفار في النار يفتقدون المؤمنين، الذين سخروا منهم في الدنيا، و كذبوا كلامهم حول الوعيد، فيتساءل بعضهم عن بعض حولهم وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا مؤمنين كُنَّا نَعُدُّهُمْ في دار الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ؟ جمع شر، فقد كان الكفار في الدنيا يقولون، إن المؤمنين أشرار، حيث يرونهم يأمرون بالمعروف، و ينهون عن المنكر، و يسبون الأصنام.

[64] أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أي هل إن عدم رؤيتنا لهم في النار، لأجل أن سخريتنا بهم- في الدنيا- كان خطأ، فذهبوا إلى النعيم، و لذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 537

[سورة ص (38): الآيات 64 الى 67]

إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)

لا نراهم، أَمْ أن سخريتنا كانت صحيحة، فهم معنا في الجحيم، و لكن زاغَتْ

أي مالت و انحرفت عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي أبصارنا، فعدم رؤيتنا لهم، لأن أبصارنا عدلت عنهم، فلا تراهم، و إن كانوا معنا في الجحيم؟

[65] إِنَّ ذلِكَ التخاصم بين القادة و الأتباع المنجرّ إلى ذلك الكلام حول المؤمنين لَحَقٌ كائن لا محالة تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ بدل عن ذلك، أي أن ذلك التخاصم بين أهل النار حق ثابت لا شك فيه.

[66] قُلْ يا رسول الله إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ مخوف لكم، إن بقيتم على الكفر و العصيان، لتلاقون هذا اليوم العصيب الذي سبق الحديث عنه وَ ما مِنْ إِلهٍ يحق له العبادة إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا شريك له الْقَهَّارُ لجميع خلقه يقهرهم على ما يريد بهم من الأمور التكوينية، فلا يعز الإنسان، ما يرى من إسلاس القياد له في دار الدنيا، للاختبار و الامتحان.

[67] رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا من الملك و الإنس و الجن و غيرها الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه، فلا يمتنع منه شي ء الْغَفَّارُ لذنوب عباده، فمن ندم و تاب، غفر ذنبه، و قبل توبته.

[68] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء هُوَ أي ما أخبركم به عن المبدأ و المعاد، و سائر الأمور نَبَأٌ عَظِيمٌ أي خبر ذو عظمة، تكون سعادة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 538

[سورة ص (38): الآيات 68 الى 71]

أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71)

الإنسان، و شقوته تابعة لتصديقه، أو تكذيبه.

[69] أَنْتُمْ أيها الكفار عَنْهُ أي عن هذا النبأ مُعْرِضُونَ لا تعيرونه اهتماما، كأنه ليس بمهم.

[70] إنه ليس كهانة أو سحرا أو شعرا، كما كانوا

يذكرون، و إنما هو وحي، و إلا فمن أين أدري أنا، ماذا جرت بين الله و بين الملائكة، من محادثات حول أصل الخلقة، فإنه ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ يقال لكل تخالف في الرأي اختصاما، و قد كان في ابتداء الخلقة أمر الله سبحانه طرفا، و فكرة الملائكة طرفا آخر، أو إن المراد اختصام الشيطان مع الله في الملأ الأعلى.

[71] إِنْ يُوحى إِلَيَ أي ما يوحى إليّ إِلَّا ل أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فلو لم أكن نبيا منذرا من أين كنت أعلم بماذا جرى في الملأ الأعلى، و إنما أعلم ذلك، لأنه يوحى إليّ حيث أني نذير ظاهر، و رسول من قبل الله سبحانه، فليس النبأ أمرا هينا، كما تزعمون أنتم من أنه نزاع بين «محمد» و «الكفار» فحسب، و إنما أمر مهم جدا هو أمر الوحي من الله إلى الأرض، لتقرير المنهج العام للبشرية في هذه الحياة، و الحياة الآخرة.

[72] ثم بين السياق قصة اختصام الملأ الأعلى، الذي كان إخبار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، له دليلا على نبوته، و أنه يوحى إليه، و قد كان أمثال هذه العلوم في ذلك الزمان خاصا برؤساء أهل الكتاب، حتى أن أحدا لم يكن يعلم من تلك شيئا- حتى بالمقدار الخرافي المحرّف الذي كان مدرجا في التوراة و الإنجيل- فإذا أخبر بذلك في صورة صحيحة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 539

[سورة ص (38): الآيات 72 الى 74]

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)

رجل أمي، كان دليلا على اتصاله بالوحي، كما لو

أخبر في هذا اليوم، رجل أمي عن أسرار الذرة، و غوامض علم الفلك بصورة صحيحة، لم يصل إليها بعد أعظم علماء الفيزياء و الفلك إِذْ قالَ رَبُّكَ يا رسول الله لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ أي أريد أن أخلق، فاسم الفاعل بمعنى المستقبل بَشَراً مِنْ طِينٍ يعني آدم عليه السّلام.

[73] فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي سويت خلق هذا البشر و تمت أعضاؤه وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أحييته، و جعلت فيه الروح المضاف إليّ تشريفا، و معنى النفخ، أن يخلق سبحانه روحا، ثم يدخله في آدم على طريقة النفخ فَقَعُوا الفاء عاطفة، و «قعوا» أمر من وقع يقع لَهُ ساجِدِينَ أي اسقطوا على الأرض، للسجود لآدم.

[74] ثم إن الله سبحانه خلق آدم، و نفخ فيه الروح فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لآدم عليه السّلام حسب أمر الله سبحانه، و الإتيان بتأكيدين، لرفع استبعاد أن يكون الملايين من الملائكة المتفرقين في مختلف الفضاء الوسيع المدهش، قد سجدوا لآدم و لزيادة التقريع على إبليس حيث أبى السجود، مع سجود الجميع.

[75] إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي جعل نفسه أكبر و أعظم من أن يسجد لآدم وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ «كان» لمجرد الربط، أو بمعنى صار، أو باعتبار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 540

[سورة ص (38): الآيات 75 الى 78]

قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78)

إنه في علم الله، كان كافرا في ضميره، فظهر ما كان كامنا.

[76] قالَ الله سبحانه لإبليس يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ

أنا بِيَدَيَ هذا سؤال للتوبيخ و التقريع، أي ما هو سبب امتناعك من السجود لمثل الإنسان الشريف، الذي كرّمه الله سبحانه، بأن خلقه بلا واسطة؟ و قوله «بيدي» إضافة تشريفية، كناية عن وساطة سببت في خلقه، ثم قال له سبحانه أَسْتَكْبَرْتَ أي هل استكبرت عن السجود، بلا حق أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ بأن كنت في الحقيقة و الواقع، أعلى رتبة من آدم، و لذا لم تسجد؟.

[77] قالَ إبليس في جواب الله سبحانه، بل كنت أعلى رتبة من آدم، إذ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي أشرف من آدم، و ذلك لأنك يا رب خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ فإن أصلي النار وَ خَلَقْتَهُ أي خلقت آدم مِنْ طِينٍ و النار أشرف من التراب.

[78] قالَ الله سبحانه للشيطان، إذ رأى كبره و غروره و تمرده فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة، فقد كان الجميع في الجنة فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود مبعّد، يقال رجمه أي طرده.

[79] وَ إِنَّ عَلَيْكَ يا شيطان لَعْنَتِي طردي و غضبي إِلى يَوْمِ الدِّينِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 541

[سورة ص (38): الآيات 79 الى 84]

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)

قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ (84)

أي يوم القيامة، حيث تحاسب هناك و تلقى في النار.

[80] قالَ إبليس عند ذلك، يا رَبِ أي ربي، و حذف ياء المتكلم تخفيفا فَأَنْظِرْنِي أي امهلني، بأن أبقى حيا إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة الذي يبعث و يحشر و يحيى فيه الناس؟

[81] قالَ الله تعالى في جوابه فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من جملة الذين يبقون إلى النفخة الأولى.

[82] إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ

الْمَعْلُومِ الوقت المعلوم، هو النفخة الأولى التي يموت فيه كل حيّ، فلم يمهله الله سبحانه إلى يوم القيامة، بل إلى النفخة الأولى، و ما ورد في بعض الأحاديث، من أنه عند ظهور الإمام عليه السّلام، فهو ببعض الاعتبارات، كما سبق.

[83] قالَ الشيطان، إذ علم بالمهلة فَبِعِزَّتِكَ حلفي يا رب، أي أقسم بقدرتك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أي لأضلّن بني آدم أَجْمَعِينَ

[84] إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لنفسك، فلا أقدر على أولئك، و معنى إغوائه لهم دعوته إلى الغواية.

[85] قالَ الله سبحانه فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ جملة معترضة، أي قولي حق، دائما ثابت لا كذب فيه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 542

[سورة ص (38): الآيات 85 الى 88]

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

[86] و «الحق» مبتدأ خبره قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ أي حقا إملاء النار مِنْكَ و المراد به هو و ذريته وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ أي اتبع كلامك مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «منهم» بيان «من تبعك» و الضمير يعود إلى بني آدم، المفهوم من السياق، و «أجمعين» تأكيد لمن تبع، أي كل متتابع، بحيث لا أدع متابعا لك خارج جهنم.

[87] و أخيرا قُلْ يا رسول الله للناس ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي تبليغ الوحي و القرآن مِنْ أَجْرٍ أي مال تعطونه لي في مقابل أتعابي وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ للقرآن من تلقاء نفسي، فليس القرآن كذبا، تكلفته أنا، و لا وسيلة، لأخذي مالا منكم.

[88] إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يذكرهم بما كمن في فطرتهم من التوحيد و المعاد و الآداب،

و ما أشبه، و المراد بالعالمين، الأجيال، لأن كل دور من أدوار الدنيا، عالم مستقل، و إن اتصلت الحلقات بعضها ببعض.

[89] وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أي خبر القرآن و صدقه بَعْدَ حِينٍ في الدنيا، حيث ترون غلبته على الكفر و الكفار، و في الآخرة، حيث ترون صدقه في ما أخبر به من الجنان و أهلها، و النيران و أصحابها، و قد علم الكفار، و سائر الناس، صدق أنبائه بالنسبة إلى مستقبل الدنيا، و سنرى صدق أنبائه بالنسبة إلى الآخرة، جعلنا الله من أهل الجنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 543

39 سورة الزمر مكيّة/ آياتها (76)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه اللفظة «زمرا» و هي كسائر السور المكية باستثناء آيات، قالوا إنها مدنية، تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و لما ختمت سورة «ص» بذكر القرآن، فتحت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الله، الذي لا يخيب من استعان به، و هو خير مستعان يستعين به الإنسان في مختلف حوائجه، و التوصيف بالرحمن و الرحيم، التماس للرحمة، التي وسعت كل شي ء، كي ينال الإنسان المستعين من ذلك المعين الذي لا ينضب فضلا و رحمة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 544

[سورة الزمر (39): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)

[2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي نزول هذا الكتاب، إنما هو مِنَ اللَّهِ فهذا خبر لتنزيل الكتاب الْعَزِيزِ الغالب

في سلطانه الْحَكِيمِ الذي يحكم بما يريد وفق المصلحة، و يفعل ما يشاء على طبق الصلاح، فبحكمته أحكم الكتاب، و بعزته أنزله للهداية و الإرشاد، و ليس سحرا أو تقوّلا أو كهانة كما يقول المشركون.

[3] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول الله الْكِتابَ أي القرآن بِالْحَقِ فليس إنزاله لأجل الباطل أو اللعب، أو ما أشبه، كما لو كتب رئيس إلى نائبه، أن اقتل الناس، فإنه إرسال بالباطل، و الإتيان بمادة «نزل» في الآيتين، إما لعلو مقام المنزل، فنزل العلو رتبة منزلة العلو حسا، و إما حقيقة باعتبار، إن القرآن جاء من السماء إلى الأرض فَاعْبُدِ اللَّهَ وحده لا شريك له، كما أمرنا في الكتاب مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي في حال كونك تخلص له الدين- و هو الطريقة، في العقيدة و العمل- و لا تجعل له ندا أو شريكا، كما يفعل المشركون.

[4] أَلا فلينتبه السامع لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ يعني إن الطريقة الناصعة الخالصة من الانحراف و الالتواء، و كل سوء هي لله سبحانه، أما سائر الطرق، فإنها ليست خالصة، بل في كل منها التواء و كذب و غش، و المراد بالدين الخالص هو الإسلام وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله أَوْلِياءَ أي أصناما يوالونهم، يقولون:- في سبب الاتخاذ-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 545

ما نَعْبُدُهُمْ أي إنا لا نعبد الأصنام- و الإتيان بضمير العاقل، باعتبار إن الكفار كانوا يعتبرون الأصنام عقلاء- إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى اسم مصدر زلف بمعنى قرب، فهو مفعول مطلق، ب «يقربونا» أي يقربونا تقريبا، فقد كانوا يعتقدون إن الأصنام توجب القرب من الله سبحانه، لكنهم كاذبون في هذا الزعم، و إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يوم القيامة فِي ما هُمْ

فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمور الدين، فقد كان المشركون على اختلاف كبير بين الطوائف و العقائد، أو أن ضمير «بينهم» يعود إلى الناس عامة، مؤمنهم و كافرهم، و المراد بالحكم القضاء، و بيان أيهم مبطل، و أيهم محق، أو بيان أيهم مغرق في الباطل، و أيهم ليس بتلك المثابة، و إن كان الكل على باطل- و هذا بناء على رجوع ضمير بينهم إلى الكفار فقط- إِنَّ اللَّهَ بعد بيان الطريق، و انحراف البعض لا يَهْدِي بالألطاف الخفية، بالنسبة إلى من انحرف، و هو الذي عبّر عنه بقوله سبحانه مَنْ هُوَ كاذِبٌ على الله و على رسوله كَفَّارٌ أي كثير الكفر، فكلما رأى حقا كفر به، بخلاف من آمن، فإن الله يهديه، بأن يلطف به الألطاف الخفية الزائدة على أصل الهداية، ليزداد هدى، كما قال تعالى (زادَهُمْ هُدىً) «1» و (وَ زِدْناهُمْ هُدىً) «2».

______________________________

(1) محمد: 18.

(2) الكهف: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 546

[سورة الزمر (39): الآيات 4 الى 5]

لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)

[5] لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما يزعم هؤلاء الكفار من أن لله ولدا لَاصْطَفى أي لاختار هو بنفسه مِمَّا يَخْلُقُ من الإنسان و الملك ما يَشاءُ فكان ينتخب الأليق به، لا أن يترك الأمر إلى الكفار، حتى يضيفوا إليه من شاءوا من الأولاد، كما أضاف اليهود عزيرا إليه، و النصارى المسيح، و المشركون الملائكة، فمثلا كان يختار موسى ابنا، و محمّد ابنا

سُبْحانَهُ أي أسبحه سبحانه، فهو منزّه عن الأولاد، ولادة و تبنيا، و هؤلاء كاذبون في إضافة الأبناء إليه، فإنه هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا شريك له، و لا صاحبة و لا ولد الْقَهَّارُ الذي يقهر الكون طبق إرادته، و لو كان له ولد، شاركه في الألوهية، فلم يكن واحدا، و لا قادرا على قهره.

[6] خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ فلا باطل في شأنه، حتى يتخذ ولدا بالتبني، و لا شريك له حتى يكون له ولد صلبي، إذ لو كان له ولد لشاركه في الخلق بمقتضى كونه إلها يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ تشبيه بمن يلف شيئا على شي ء، فإذا جاء الليل كان، كأنه لفّ على النهار حتى ستره وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ فإذا جاء النهار، كان كأنه لف أيضا على الظلمة حتى سترها وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ بأن ذللهما و أجراهما حسب الصلاح و الحكمة كُلٌ منهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 547

[سورة الزمر (39): آية 6]

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

يَجْرِي في مداره لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى غاية محدودة، يوم يقفان عن السير، و هو يوم القيامة، أَلا فلينتبه السامع هُوَ الله الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْغَفَّارُ فمن تاب من الكفار و العصاة، غفر له ذنبه، و إنما أتي بهذا الوصف، لإلقاء الرجاء في قلوب من لاذت قلوبهم نحو الحق، فلا ييأسوا من سالف أعمالهم، أن تقبل توبتهم.

[7] خَلَقَكُمْ أيها البشر، بعد خلق السماوات و الأرض، و الشمس و القمر مِنْ

نَفْسٍ واحِدَةٍ هي نفس آدم عليه السّلام، يعني أن أصل خلقتكم من شخص واحد، كل الناس ينتهون إليه ثُمَ هذا إنما هو للتراخي في الكلام، لا التراخي في الخارج، كقوله «إن من ساد ثم ساد أبوه، ثم قد ساد بعد ذلك جده» فإن سيادة الأب قبل الابن خارجا، و إنما أتي، ب «ثم» للتراخي في التكلم، و بيان أن هذا الكلام بإثر ذلك الكلام جَعَلَ مِنْها أي من تلك النفس زَوْجَها إما أن يراد كون حواء عليها السّلام، من فاضل طينة آدم، أو أنها من نفس ذلك الجنس، فليست زوجة آدم من جنس الملائكة، أو الجن، و هذا فضل منه سبحانه، لأن «كل جنس لجنسه يلف» وَ أَنْزَلَ أي بسبب ما أنزله من المطر أنشأ لَكُمْ أيها البشر مِنَ الْأَنْعامِ و هي الإبل و البقر و الضأن و المعز ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ من كل زوجين ذكر و أنثى يَخْلُقُكُمْ أيها البشر فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 548

[سورة الزمر (39): آية 7]

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

فنطفة فعلقة فمضغة، فعظام فإنسان سوي، فحياة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن، و ظلمة الرحم، و ظلمة المشيمة، فإن هذه الأغلفة الثلاثة محيطة بالولد حال تكوينه ذلِكُمُ «ذا» إشارة، و «كم» خطاب اللَّهُ رَبُّكُمْ أيها البشر، فإنه هو الذي خلقكم من الابتداء إلى حال الوجود، بتلك الكيفية المدهشة لَهُ الْمُلْكُ كما أن له الخلق لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا شريك له من صنم أو

وثن، أو غيرهما فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق، أي إلى أين يصرفكم الشيطان و الكفار؟ حتى تقولون بالشريك لله سبحانه.

[8] إِنْ تَكْفُرُوا أيها البشر، فهو يضركم، و لا يضر الله سبحانه فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ غير محتاج إليكم، حتى يضره كفركم وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فإنه لم يأمر بذلك، و هذا لنقض قول الكفار، حيث كانوا يقولون: إن الله أمرنا بهذا وَ إِنْ تَشْكُرُوا أيها البشر و رأس الشكر، أن توحدوه يَرْضَهُ أي يرضى الشكر لَكُمْ و يجازيكم عليه جزاء حسنا و ليعلم الكافر أن القادة لا يحملون تبعة كفرهم، كما يقولون في الدنيا، حيث قالوا (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) «1» وَ لا تَزِرُ أي لا تحمل نفس وازِرَةٌ أي حاملة وِزْرَ أُخْرى أي ذنب الشخص

______________________________

(1) العنكبوت: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 549

[سورة الزمر (39): آية 8]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)

الآخر، بأن تخفف نفس ذنب شخص آخر، نعم إن الضال يحمل وزرين، وزر ضلاله، و وزر إضلاله ثُمَ بعد الدنيا، أيها البشر إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ مصدر ميمي، أي رجوعكم فَيُنَبِّئُكُمْ يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يجازيكم على أعمالكم، فإن الإخبار مقدمة الجزاء، كما يقول الحاكم للمجرم: سأخبرك بما عملت إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأشياء التي تدور فيها، فعلمه شامل لكل شي ء، فلا يظن البشر أنه يتمكن من الإخفاء منه.

[9] و عجيب أمر هذا الإنسان الذي يكفر بالله، بعد أن يعتقد في باطنه به وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ من

مرض، أو فقر أو بلاء دَعا رَبَّهُ و توجه إلى الله تعالى مُنِيباً إِلَيْهِ من أناب بمعنى رجع، أي راجعا إلى الله وحده راجيا إيّاه دون سواه ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه الله نِعْمَةً مِنْهُ أي من قبله نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى أن يكشفه من قبل هذه النعمة، و معنى النسيان ترك التوحيد و الشكر، و يستعمل النسيان في الترك، لأنه من أسبابه، بعلاقة السبب و المسبب، كما قال (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) «1»، أو باعتبار أن الشرك غالبا يجر إلى النسيان وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً جمع ند و هو المثل و الضد،

______________________________

(1) التوبة: 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 550

[سورة الزمر (39): آية 9] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 599

أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)

و المراد بها الأوثان لِيُضِلَ الناس عَنْ سَبِيلِهِ أو يضل نفسه عن سبيل اللّه، و اللام للعاقبة، إذ جميع الكفار لا يريدون بالشرك إضلال الناس، أو ضلال أنفسهم، و إنما عاقبة الشرك الضلال و الإضلال قُلْ يا رسول الله، لمثل هذا الشخص تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا الأمر للتهديد، أي تنعم بنعمة الدنيا، التي جرها إليك كفرك، فكأنه تنعم بالكفر، و الباء سببية، نحو تنعم بالعلم أو بالمال إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ الملازمين لها كملازمة الصاحب لصاحبه.

[10] فهل هذا الإنسان الذي يكفر و يكون مصيره النار خير أَمَّنْ يؤمن، و يعمل الصالحات، حتى يصير إلى الجنة؟ ف هُوَ قانِتٌ من القنوت بمعنى الخضوع لله تعالى آناءَ اللَّيْلِ جمع «أنى»

بمعنى ساعات الليل، و إنما خص الليل بالذكر، لأن القيام في ساعاتها للعبادة، أدل على قوة الإيمان من الطاعة في ساعات النهار، في حال كونه ساجِداً مرة وَ قائِماً في الصلاة و التلاوة، أخرى يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي يخاف من عذابها وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ و الجنة قُلْ يا رسول الله في صدد المقارنة بين الكافر و المؤمن هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ و من الواضح، أنهما لا يستويان، و إذا لا يستوي المؤمن العالم بالله و اليوم الآخر، و الكافر الذي لا يعلم بالمبدأ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 551

[سورة الزمر (39): الآيات 10 الى 11]

قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11)

و المعاد إِنَّما يَتَذَكَّرُ بهذه المواعظ و الإرشادات أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول الذين يعملون عقولهم، لاستفادة الحق، أما غيرهم، فهم في غفلة من هذا.

[11] قُلْ يا رسول اللّه يا عِبادِ و أصله يا عبادي الَّذِينَ آمَنُوا فعل ماضي اتَّقُوا أيها الناس رَبَّكُمْ أي خافوا عقابه، فلا تخالفوا أوامره، فإنه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في العقيدة و العمل فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ المراد بها الجنس، فإن اتباع مناهج الله سبحانه، يوجب الغنى، و الصحة، و الأمن، و العلم، و الفضيلة، و سائر الخيرات، كما دلّ عليه الدليل و التجارب وَ إذا رأيتم أنكم لا تتمكنون من الإتيان بالطاعة في مكان فهاجروا، ف أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إلى حيث تتمكنون من أن تحسنوا هناك، و حيث إن الهجرة توجب أتعابا جمّة، قال سبحانه إِنَّما يُوَفَّى و يعطى وافيا

الصَّابِرُونَ في الشدائد أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ فإنه لكثرته، لا يتمكن الإنسان من عدّه، و إن كان بقدر معلوم عند اللّه سبحانه.

[12] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وحده مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي أخلص له في طريقتي، فلا آخذ عقيدة أو عملا، إلا من طرفه وحده، لا أعتقد بغيره و لا أعبد سواه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 552

[سورة الزمر (39): الآيات 12 الى 15]

وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)

[13] وَ أُمِرْتُ من قبله سبحانه لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ الذين يسلمون لأوامره، و إنما أكون أولهم، لأدرك الفضل في السبق إلى الطاعة، فإن من سبق إلى خير جمع الفضل و الأجر.

[14] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالكفر أو الإثم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة، الذي لا منجى و لا مفر منه، و عذابه في غاية الشدة، و الخوف يمكن أن يكون مع القطع بالضار كما يمكن أن يكون مع الشك و الظن و الوهم.

[15] قُلِ يا رسول الله لهؤلاء المشركين اللَّهَ أَعْبُدُ لا غيره مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أي أخلص له طريقتي، فلا أعبد أحدا معه، و هذا تكرار لما سبق للتأكيد و تفريغ ما يأتي عليه.

[16] فَاعْبُدُوا أنتم أيها الكفار ما شِئْتُمْ من الأصنام و البشر مِنْ دُونِهِ أي من دون الله، و هذا الأمر للتهديد، أي افعلوا ما شئتم فستلقون جزاءه، و لذا قال

تعالى قُلْ يا رسول الله لهم إِنَّ الْخاسِرِينَ الذين يحق أن يقال لهم خاسرون هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن ذهبت نفوسهم إلى النار، و تفرقت عنهم أهاليهم إلى الجنة أو إلى النار، و الخاسر هو الذي يذهب رأس ماله، بخلاف الرابح الذي يبقى أصل ماله و يزاد عليه، فإن المؤمن بقيت نفسه في راحة و أهله معه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 553

[سورة الزمر (39): الآيات 16 الى 17]

لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17)

ثم ربح النعيم، أما الكافر، فإنه لم يحصل شيئا، و بالإضافة إلى ذلك، أتلف نفسه و أهله أَلا ذلِكَ الذي ذكر من خسارة النفس و المال هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الواضح الذي لا خسارة فوقه.

[17] لَهُمْ أي للخاسرين مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ «ضلل» جمع «ظلة» و هي السترة العالية، يعني فوقهم أطباق النار وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي فرش، و تسمية ما تحتهم «ظلل» إما باعتبار المشاكلة اللفظية، من قبيل قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) «1» و إما من جهة، أن ما تحت كل طائفة سقف لمن في الدرك و الأسفل منه، إذ النار دركات و أطباق بعضها فوق بعض ذلِكَ الذي تقدم من العذاب يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ حتى لا يعصوه فيلقون فيه يا عِبادِ حذف ياء المتكلم تخفيفا فَاتَّقُونِ أي اتقوني فلا تعصوني، فقد ألزمت عليكم الحجة، و أرشدتكم إلى السبيل.

[18] وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ المراد به الشيطان، أو كل قائد ضال شديد الطغيان، و يطلق

على الأوثان تشبيها، و إلا فليست الأوثان تطغى و تجاوز الحدّ أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال للطاغوت، أي اجتنبوا عبادتها، وَ أَنابُوا أي رجعوا عن الكفر و العصيان إِلَى اللَّهِ بأن

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 554

[سورة الزمر (39): الآيات 18 الى 19]

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)

آمنوا و أطاعوا، و الرجوع، إنما هو بالنسبة إلى من كان كافرا عاصيا، و يدخل غيره في العموم بالملاك لَهُمُ الْبُشْرى أي البشارة بخير الدنيا و سعادة الآخرة فَبَشِّرْ يا رسول الله عِبادِ أصله عبادي حذف ياء المتكلم تخفيفا.

[19] الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وصف للعباد، أي إذا سمعوا من المجتمع قولا، يتركون منحرفه فلا يعملون به، بل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي أولاه بالاتباع، فإن الإنسان يستمع في المجتمع الكفر و الإيمان، و الطاعة و العصيان و الفضيلة و الرذيلة، فالإنسان الخير يتبع الأحسن مما يستمع، و الإنسان الشرير يتبع الأسوأ مما يستمع، و الأحسن منسلخ عن معنى التفضيل، أو يراد به الأحسن عرفا، و إن لم يكن في طرف مقابله حسن حقيقة أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ أي أن من صفته اتباع الأحسن، هو الذي تفضل الله عليه بالهداية، و المراد بها اللطف الخفي، أما الهداية بمعناها العام، فهي لكل بر و فاجر وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن اللب بمعنى العقل، نقل في المجمع عن بعض إنه قال: إن هاتين الآيتين، نزلت في «زيد» و «أبي ذر» و «سلمان» حيث كانوا يعترفون بالتوحيد في زمن الجاهلية «1».

[20] ثم يسلي الله رسوله في عدم

إيمان جماعة من المعاندين، فلا يهتم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 392.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 555

[سورة الزمر (39): آية 20]

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)

لهم أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أي ثبتت كلمة العذاب في شأنه، بأن علم الله سبحانه، أنه لا يؤمن إلى الأبد، فأثبت في شأنه العذاب، و قال فيه «إنه معذب» أَ فَأَنْتَ يا رسول الله تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ بأن تهديه حتى لا يدخل النار، و هذه الجملة عبارة عن «تتمكن من إنقاذه» على سبيل الاستفهام الإنكاري، أي أنك يا رسول الله، لا تتمكن من إنقاذ هذا القسم من الناس، و إنما أتت هذه الجملة، في قالب الاستفهام، لزيادة الإنكار، و قوله «من في النار» باعتبار، الأول، نحو، (وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) «1»، و كما نقول «السلطنة ساقطة» حيث نرى فيها آثار السقوط.

[21] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن خافوا عقابه، فأطاعوه لَهُمْ غُرَفٌ جمع غرفة، و هي البيت فوق الدار، و تلك أحسن من التحت لقربها من الشمس، و دخول الهواء فيها، و إشرافها و غير ذلك مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مبنية، فهم في قصور ذات طبقات، كما أن من في النار في عذاب ذي أطباق، من فوقهم ظلل، و من تحتهم ظلل مَبْنِيَّةٌ أي قد بنيت تلك الغرف، و الإتيان بهذا الوصف، لامتداد البشارة، فإن الإنسان كما أطال وصف المطلوب، امتدت في نفسه البشائر تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت تلك الغرف الْأَنْهارُ فهم ينظرون إلى الأنهار و الأشجار، من فوق مما يزيد في سرورهم، فإن الإشراف على المحبوب من الأعلى

يشع في النفس بهجة و حبورا وَعْدَ اللَّهِ أي

______________________________

(1) التوبة: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 556

[سورة الزمر (39): آية 21]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)

وعدهم الله بذلك وعدا، فهو مفعول مطلق لفعل مقدر، و لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ الذي يعده، لأن الخلف ناشئ، إما من الجهل أو العجز أو الخبث، و الله سبحانه منزه من ذلك كله.

[22] و بعد أن ذكر سبحانه قسما من التوحيد و المعاد و الرسالة، ذكر بعض أدلة التوحيد أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو أيها الرائي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً و هو المطر فَسَلَكَهُ أي أدخل ذلك الماء في يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ جمع ينبوع، و هو محل اختزان الماء، و تجمعه كالعيون و القنوات و الأنهار، و ما أشبهها ثُمَّ يُخْرِجُ الله بِهِ أي بسبب ذلك الماء زَرْعاً أي نباتا مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ من أخضر و أحمر و أزرق و أصفر و أبيض، و غيرها، أو المراد بالألوان جميع الصفات من طعوم و روائح، و حجوم، و أشكال و غيرها، فإن اللون له إطلاقان: إطلاق بمعنى ما يدرك بالبصر فقط، و إطلاق بمعنى ما يدرك بجميع الحواس، بل أعم من ذلك، كالخواص و الفوائد ثُمَّ يَهِيجُ أي يجف الزرع و ييبس، من هاج أي ثار، فكأن النبات يثور عن حالته الأولى فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد ما كان ذا لون آخر ثُمَّ يَجْعَلُهُ الله حُطاماً رفاتا منكسرا متفتتا، فإن الحطم هو الكسر للشي ء اليابس إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من إنزال

الماء، و إنبات النبات مع تلك الأوصاف المذكورة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 557

[سورة الزمر (39): آية 22]

أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)

لَذِكْرى أي تذكير بما كمن في النفوس من التوحيد لِأُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن لب كل شي ء أحسنه، و لب الإنسان عقله.

[23] و إذا كانت الآيات الكونية تدل على ما يقوله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان الذي أعرض قاسيا، لا يدخل النور قلبه، و كان الذي يقبل و يسلم رحب الصدر قابلا لأنّ يدخل فيه الإسلام، كالظرف الوسيع القابل لأخذ الشي ء أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ و إنما نسب الشرح إلى الله، لأنه لطف به الألطاف الخفية، بعد أن كان هو بصدد الإيمان، مقابل الكافر الذي لا يشرح الله صدره، بأن يعرض الله عنه، إذا رآه بصدد التعامي عن الحق، و إنما نسب الشرح إلى الصدر، لأنه مركز القلب الذي هو مصدر قبول الإيمان، أو رفضه، فهو من باب سبك مجاز من مجاز، أو باعتبار أن المعرض تشتد فيه حرارة القلب، فتنتفخ الرئة كثيرا لتجذب الهواء الكثير لتبريد القلب، فتكون آخذة موضعا وسيعا من الصدر، و لذا يحس الإنسان بضيق صدره، لضيق مجاري الدم و ما أشبه، بسبب ضغط الرئة، و بالعكس من ذلك الذي يهدأ و يسرّ بالإسلام، فإن حرارته تخف، فلا تحتاج الرئة إلّا إلى حركة يسيرة، حتى يبقى أكثر مواضع الصدر فارغا، فلا ضغط من الرئة على الأوردة و الشرايين، و بذلك يحس الإنسان بسعة صدره فَهُوَ عَلى نُورٍ كأنه في طرق الحياة، على قطعة نور، يبصر

به طريقه جيدا، فلا يقع في مشاكل الحياة مِنْ رَبِّهِ «من» نشوية أي نور ناشئ من قبل الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 558

[سورة الزمر (39): آية 23]

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)

تعالى، و قد حذف عدل الاستفهام، أي أ فمن شرح الله صدره، كمن ليس كذلك؟ و حذفه لنكتة هي، إن من ليس كذلك غير قابل حتى للذكر، و كأنه لا شي ء، فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الهلاك و السوء، للذي قسى قلبه، حتى لم يجد الإيمان محلا له فيه مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي قساوة من هذا النوع، و إن كان رقيق القلب من جهات أخرى أُولئِكَ القاسية قلوبهم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح بيّن.

[24] و إذ تقدم الحديث عن الإسلام، يأتي السياق ليصف القرآن الحكيم، الذي هو مصدر أحكام الإسلام و إرشاداته اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ المراد بالحديث الجنس، أي أحسن نوع من هذا الجنس، و الحديث هو الخبر، سمي حديثا، لأنّه يحدث و يتجدد بعد أن لم يكن، فإن المخبر يجدّده و يذكره، و إنما سمى القرآن حديثا، لأنه كلام الله و إخباراته و إن كان فيه بعض الإنشاء، فإنه بصورة عامة، حديث من باب التغليب كِتاباً بدل من أحسن الحديث، أو حال أي في حال كونه مكتوبا لا ملفوظا فقط مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا، فلا تفاوت في ألفاظه فصاحة و إعجازا، و لا في معانيه و أحكامه، إحكاما و إرشادا، فلا اختلاف فيه، و لا تناقض مَثانِيَ جمع مثنى،

أي أن قصص هذا الكتاب، و إخباراته، و أحكامه، تذكر مثنى مثنى، في قوالب مختلفة للتركيز في الأذهان، و يكون أبلغ في التحدي و الإعجاز، و وصف الكتاب بالمثاني- جمعا- باعتبار سوره و آياته

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 559

[سورة الزمر (39): آية 24]

أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)

و فصوله تَقْشَعِرُّ أي ترتجف مِنْهُ من هذا الكتاب جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فتأخذهم قشعريرة خوفا من وعيده و رهبة و جلالا ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ بعد الانكماش بالقشعريرة وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فإنّ وعوده سبحانه توجب الهدوء و الطمأنينة، كما قال تعالى (وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) «1» و من عادة الإنسان، أنه إذ ذكر الوعيد تفكر، فيذكر الوعد، و هناك الاطمئنان للقلب الوجيف، و الجلد المقشعر ذلِكَ أي القرآن هُدَى اللَّهِ الذي هدى بسببه الناس إلى طريق الحق و الرشاد يَهْدِي بِهِ أي بالقرآن مَنْ يَشاءُ و ليست مشيئته سبحانه اعتباطية، بل لمن سلك الطريق الحق و كان في صدد الهدى، و المراد بالهداية هنا، الألطاف الخاصة، و إلّا فالهداية عامة لكل مؤمن و كافر وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يتركه حتى ينحرف بعد أن لم يقبل الهدى فَما لَهُ مِنْ هادٍ إذ اللطف منه سبحانه، فإذا أعرض الإنسان عن السلوك في الطريق، لم يكن له من يلطف به، حتى يهتدي.

[25] أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ بأن يكون وجهه في مقابل لفح النار و لهبها يَوْمَ الْقِيامَةِ خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة، لا يرى النار

______________________________

(1) التغابن: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 560

[سورة الزمر (39): الآيات 25 الى 26]

كَذَّبَ الَّذِينَ

مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)

أبدا؟ و واضح أن الجواب من يأتي آمنا خير، و إنما قال «الوجه» لأنه أشرف الأعضاء، فيكون عذابه أكثر إيلاما من عذاب سائر الأعضاء وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في الدنيا بناء على تجسيم الأعمال، أو المراد ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون، بعلاقة السبب و المسبب، فإن الكسب علة الجزاء، و إنما حذف.

[26] و يعتبر هؤلاء الكفار بمن سبقهم حيث إنهم لما كذبوا عوقبوا و أهلكوا كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل هؤلاء الكفار من الأمم الماضية فَأَتاهُمُ الْعَذابُ أي جاءهم عذاب الله في الدنيا مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي لا يعرفون، فقد كانوا آمنين في بلادهم، و إذا بهم يرون عذاب الاستئصال من صيحة أو خسف أو قذف، أو ما أشبه يعمهم.

[27] فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ أي أذاق أولئك الأمم المكذبة الْخِزْيَ و الهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بأن عذبهم و أهلكهم وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ الذي أعدّ لهم لتكذيبهم و كفرهم أَكْبَرُ من عذاب الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو علموا بالعذاب المهيئ لهم، لعلموا أن ذلك أكبر من عذاب الدنيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 561

[سورة الزمر (39): الآيات 27 الى 29]

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)

[28] وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يفيدهم و يهديهم

إلى الطريق، كما مثلنا هنا لهم بأحوال المكذبين السابقين لَعَلَّهُمْ أي لكي يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم من الفطرة الدالة على أن من أساء، فإنه يرى السوء، و إن من أحسن يرى الحسنى.

[29] لقد بينا الأمثلة في هذا القرآن في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا يفهمون معناه، فهو بلغتهم غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي ليس صاحب اعوجاج، و ميل عن الحق، فهو لفظا بلغتهم، و معنى لا انحراف في أحكامه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يتقوا الكفر و العصيان، فلا يأتيهم العذاب.

[30] ثم بين سبحانه، مثلا للموحد و المشرك، فالموحد كالعبد الذي هو لإنسان واحد، و المشرك كالعبد الذي هو لعدة سادة يتنازعون ما بينهم، في الأمور، فيجر كل واحد العبد إلى جانبه، أيها خير؟ و من الطبيعي إن العبد الذي لسيد واحد خير، من ذلك العبد المشترك بين سادة كثيرين ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للموحد و المشرك، فللمشرك رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ أي جماعة سادة مشتركون مُتَشاكِسُونَ من شكس بمعنى خاصم، فالمتشاكسون بمعنى المتنازعون المتخاصمون فيما بينهم، فهل هذا العبد أحسن حالا؟ أم العبد الذي هو لسيد واحد وَ رَجُلًا و هو مثال الموحد سَلَماً لِرَجُلٍ أي خالصا لسيد واحد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 562

[سورة الزمر (39): الآيات 30 الى 31]

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

يطيع أوامره، و ينتهي عن زواجره هَلْ يَسْتَوِيانِ أي العبدان مَثَلًا أي من حيث المثل، و إذ كان الجواب العدم، فاللازم أن يعرف المشرك، أن له أسوأ المثل، فليقلع عن غيه الْحَمْدُ لِلَّهِ فلا شريك له يستحق الحمد، بل جميع المحامد راجعة إليه، و لذا يستحق كل حمد بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن الإله واحد، و

لذا يعبدون آلهة متعددة، و كما إن العبد لسيد واحد، ينعم براحة البال، كذلك الموحد ينعم بالراحة و الاطمئنان، و كما إن العبد لعدة شركاء موزع القلب لا يدري ماذا يصنع، قلق الضمير، كذلك المشرك قلق لا يدري، هل يرضي الله أم الشركاء، فهو مكلوم الفؤاد.

[31] إن الدنيا تنقضي، و إن الرسول و المشركين، سيموتون، و هناك تشكّل محكمة كبري، أمام الله سبحانه، و يظهر من المحق و من المبطل؟

و هذا تهديد لهم بأنكم إن بقيتم على غيكم، ستلاقون يوما عسيرا، حين يخاصمكم الرسول يوم القيامة إِنَّكَ يا رسول الله مَيِّتٌ بعد مدة وَ إِنَّهُمْ أعداؤك و خصماؤك المشركون مَيِّتُونَ جمع ميت.

[32] ثُمَّ إِنَّكُمْ بعد انقضاء مدة البرزخ بين الدنيا و الآخرة يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي المحل الذي أعده للحساب، و إلا فليس لله سبحانه، مكان تَخْتَصِمُونَ فيظهر من المحق و من المبطل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 563

تقريب القران إلى الأذهان الجزء الرّابع و العشرون من آية (33) سورة الزمر إلى آية (47) سورة فصّلت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 564

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 565

[سورة الزمر (39): الآيات 32 الى 34]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)

[33] ثم بين سبحانه حال الفريقين الموحدين و المشركين فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن ادعى أن له ولدا أو

شريكا وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ و هو الرسول و القرآن إِذْ جاءَهُ و المعنى لا أظلم من مثل هذا الشخص، و قد سبق، أن هذا الاستفهام، و كون من ذكر أظلم الناس، إنما هو إضافي لا حقيقي، ثم بين سبحانه مصير هؤلاء بقوله أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي منزلا، من ثوى بمعنى اتخذ المنزل، و محل السكنى لِلْكافِرِينَ و المعنى أن مثوى هؤلاء هو جهنم.

[34] وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ أي بالأمر الذي هو صدق، كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي جاء بالقرآن صدقا، و جاء بشريعة هي صادقة وَ الذي صَدَّقَ بِهِ أي صدق بمن جاء بالصدق، كالمؤمنين الذين صدقوا بالرسول أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين اتقوا عذاب الله و نكاله، بأن أطاعوه فيما أمر و نهى.

[35] لَهُمْ أي لهؤلاء الرسول و المؤمنين ما يَشاؤُنَ من أنواع النعيم و الملذات الجسمية و الروحية عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الجنة، و قد سبق، أن كونه عند الله، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، فهناك موضع اختاره الله سبحانه، فقريب من رضاه و فضله ذلِكَ الذي أن يكون لهم ما يشاءون جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا في العقيدة و العمل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 566

[سورة الزمر (39): الآيات 35 الى 36]

لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36)

[36] و إنما «لهم ما يشاءون» لأن الله سبحانه يريد أن يحقق لهم فضلا و كرامة لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي عن هؤلاء المحسنين أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا المراد كل سيئة، فإنها أسوأ من حسناتهم، إما بتجريده

من معنى التفضيل، أو بالمقايسة العرفية، يقال، الزنى أسوأ من النكاح، يراد أحد الأمرين، إما بمعنى أن الزنى يسي ء دون النكاح، أو بمعنى أن العرف يرى، أن الزنى، أسوأ من النكاح- فيما يرى كليهما شيئا-، و معنى «التكفير» الحبط و المحو وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ أي بمقابل أحسن الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ و المراد ب «الذي» الجنس، أي أحسن الأعمال التي كانوا يعملونها، و هذا كالسابق أيضا، فالمراد جزاؤهم بكل حسنة، و في الأحسنية، الاحتمالان، فالله سبحانه يجزي المحسنين، بما يشاءون لتحقيق تكفير خطاياهم و جزاؤهم بحسناتهم.

[37] و قد كان المشركون يخوفون الرسول، بأنه إن استمر في دعوته أصابه منهم و من آلهتهم المكروه، فرد الله عليهم بقوله أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ استفهام للإنكار، أي أن الله يكفي عبده، كل ما أهمه، فلا يمكن الأعداء من الوصول إليه وَ يُخَوِّفُونَكَ يا رسول الله بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي بالأصنام، و عبدتها الذين هم دون الله، فقد كانوا يقولون للرسول، إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا لأنك تعيبها وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يترك لطفه الخاص عنه، بعد أن أراه الطريق، فانحرف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 567

[سورة الزمر (39): الآيات 37 الى 38]

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)

فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه سبل الرشاد، إذ الهداية خاصة به سبحانه، و هي هدايتان ظاهرة، و قد أعرضوا عنها،

و خفية، و الله منعهم إياها، حيث رأى إعراضهم عن الهداية العامة.

[38] وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بأن لطف به ألطافه الخاصة، بعد أن جاء في الطريق بمجرد الهداية العامة فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ أي لا أحد يتمكن من إضلاله، لأن لطف الله يرعاه أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ يعز من سلك طريقه فلا يقوى أحد على إضلاله بعد أخذ الله بيده ذِي انْتِقامٍ ممّن انحرف عن الجادة، و انتقامه منه أن يتركه في الدنيا ضالّا لا يعتني به، و في الآخرة يذيقه من النار، و الاستفهام للإنكار، يعني أن الله عزيز منتقم.

[39] ثم يأتي السياق لعدة مباحثات مع المشركين حول شركهم وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت يا رسول الله هؤلاء المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ هل الله أم شركاؤكم؟ لَيَقُولُنَ في الجواب اللَّهُ خلقهما، لأنهم، لا يتجرءون أن يقولوا أن الأصنام خلقتهما قُلْ يا رسول الله لهم، بعد أن اعترفوا بأن الله خلق السماوات و الأرض أَ فَرَأَيْتُمْ أي أخبروني هل إن الله إذا أضرّ أو نفع، الأصنام تقدر على خلاف ذلك؟ و طبيعي أن الجواب: لا، إذا فما شأن الأصنام في الكون، أو في نفس الإنسان، حتى يتخذها الإنسان آلهة؟ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 568

[سورة الزمر (39): آية 39]

قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)

تدعونها، سوى الله إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي قصد الله إضراري، بمرض أو فقر أو بلاء هَلْ هُنَ أي الأصنام، و الإتيان بضمير العاقل، لتوحيد السياق بين كلام الكفار الذين اعتقدوا، أن الأصنام عقلاء، و بين كلام القرآن في المناقشة معهم كاشِفاتُ ضُرِّهِ أي دافعات للضر

الذي جاء من قبل الله تعالى؟ أَوْ أَرادَنِي الله بِرَحْمَةٍ من غنى أو صحة، أو أمن، أو جاه، أو نحوها هَلْ هُنَ أي الأصنام مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بأن تقدر على أن تمانع الله حتى لا يتمكن سبحانه من الرحمة و الفضل؟ و إذا أجاب الكفار بالنفي، كان المجال لأن يقال لهم، إذا فما فائدة الأصنام حتى يعبدها الإنسان؟

قُلْ يا رسول الله، إذن، حَسْبِيَ اللَّهُ أي يكفيني الله عن غيره من الآلهة، فلا أعبد إلا إياه عَلَيْهِ أي على الله يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ أي أن اللازم، أن يتوكل عليه من يريد التوكل، و يفوض أمره إليه دون سواه.

[40] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء القوم يا قَوْمِ إذا لم تقبلوا عظتي، ف اعْمَلُوا أنتم عَلى مَكانَتِكُمْ أي حالكم الذي أنتم عليه، و هذا تهديد، كما تقول للمجرم، اعمل ما شئت، و المراد سترى جزاؤك السيئ إِنِّي عامِلٌ على مكانتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ في الدنيا أو الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 569

[سورة الزمر (39): الآيات 40 الى 42]

مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

[41] مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يذله و يهينه؟ هل هو أنا أم أنتم؟ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة، و لعل المراد، ب «عذاب يخزيه» عذاب الدنيا.

[42] إن إيمان المؤمن يعود نفعه على نفسه، و ضلال الكافر يعود ضرره على نفسه، فلا

يهمك يا رسول الله، من ضل بعد إتمام الحجة إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن لِلنَّاسِ أي لهداية الناس بِالْحَقِ أي إنزالا بالحق، فلم يكن إنزالا بالباطل، أو لأجل الباطل، فَمَنِ اهْتَدى بالقرآن فَلِنَفْسِهِ أي تعود فائدة هدايته إلى شخصه وَ مَنْ ضَلَ و انحرف عن الطريق فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي على ضرر نفسه، إذ تعود عقوبة الضلال على نفسه وَ ما أَنْتَ يا رسول الله عَلَيْهِمْ أي على الناس، أو على من ضل بِوَكِيلٍ حتى تكون مسئولا، عمن لم يقبل الهداية، و إنما أنت مبلغ و منذر.

[43] إن الخلق بيد الله، و إيصال الضرر و النفع منه- كما مرّ- و الإماتة بإذنه، فما يكون بعد ذلك شأن الأصنام، التي يعبدونها هؤلاء؟ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي يميتها، و «توفى» متعد، و لذا، فالمتوفي بصيغة الفاعل هو الله، و المتوفي بصيغة المفعول هو الإنسان حِينَ مَوْتِها أي حين الموت المقدر لها، و انقضاء أجلها، و المراد بالأنفس، هي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 570

[سورة الزمر (39): آية 43]

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ (43)

الإنسان، لا نفس الإنسان- بمعنى روحه- حتى يقال، إن الروح لا تموت وَ الَّتِي أي النفس لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها بأن كان الإنسان نائما، و لم يخرج روحه الذي به الحياة بعد، فإنه في قبضة الله، فإذا شاء أماته، بأن لا يرسل روحه الذي أخذه، و إن شاء أرسله حتى يستيقظ، و من المعلوم، أن الروح الذي أخذه سبحانه عند المنام، هو ما به من الحس و العقل، فإذا شاء موته، أخذ بقية الروح أيضا، و إن شاء عدم موته، أرسل

المقدار الذي أخذه فَيُمْسِكُ الَّتِي أي النفس التي قَضى الله و حكم عَلَيْهَا الْمَوْتَ فلا يعيدها إلى البدن وَ يُرْسِلُ الله النفس الْأُخْرى التي لم يقض عليها الموت لأن تبقى في البدن إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة محدودة، قد سميت في اللوح المحفوظ إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من الإماتة للإنسان اليقظ، و الإماتة للإنسان النائم، و إرجاع الروح إلى بعض النائمين ليبقى حيا إلى مدة محدودة مقدرة لَآياتٍ دلالات على وجود الله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ و إلا فمن أمات الإنسان في اليقظة؟ و من أمات بعض النائمين؟ و من أعاد الروح لبعض النائمين حتى يقوم؟ و قوله «و التي لم تمت» عطف على «الأنفس» من باب عطف الخاص على العام، و إنما جاء بهذا العطف تمهيدا للتفضيل الذي ذكره بعد.

[44] فالأصنام، إذن لا شأن لها في الكون، بقي للمشركين أن يقولوا، أنهم يعبدونها، لأجل أنها تشفع لهم يوم القيامة أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 571

[سورة الزمر (39): الآيات 44 الى 45]

قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

أي قالوا بأنها شفعاؤهم، و معنى من دون الله، أن الشفاعة لله مسلمة، فهم إنما اتخذوا غيره شفيعا قُلْ يا رسول الله، في رد هذه الحجة أَ وَ لَوْ كانُوا أي الأصنام لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من أمر الشفاعة وَ لا يَعْقِلُونَ يعني حتى في هذه الصورة تعتبرون الأصنام شفعاء؟ و الإتيان بضمير العاقل للأصنام، لتوحيد السياق، مع كلام المشركين.

[45] قُلْ يا رسول الله لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً

فأمرها بيده، ليس لأحد، فإذا شاء أن يشفع لأحد أمر نبيا أو إماما أو صالحا أن يشفع لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و من جملة أملاكه ملكه للشفاعة، فلا يغتر القوم، بأن يعبدوا الأصنام بزعم الشفاعة ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أيها البشر، فهو المبدئ، و هو المعيد، و هو بيده الشفاعة وحده، حتى إن الأنبياء، و من إليهم (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1».

[46] وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ بأن لم يأت الذاكر بذكر غيره، من الأصنام اشْمَأَزَّتْ الاشمئزاز الانقباض و النفور عن الشي ء، أي نفرت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ممن كفروا بالله، و جعلوا له

______________________________

(1) الأنبياء: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 572

[سورة الزمر (39): الآيات 46 الى 47]

قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)

شركاء، و إنما أتى بهذا الوصف للتلازم بين عدم الإيمان بالتوحيد و عدم الإيمان بالآخرة وَ إِذا ذُكِرَ الأصنام الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي يفرحون، فإذا قال قائل «الله» نفروا، و إذا قال «اللات» فرحوا، و هذا عجيب إذ إنهم، كانوا يعبدون الله و الشركاء- في زعمهم- فما الذي أوجب اشمئزازهم من «الله» و لم يوجب إلا فرحهم من «اللات» مثلا؟.

[47] قُلِ يا رسول الله اللَّهُمَ أي يا الله، و الميم عوض عن ياء النداء، يا فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي يا خالقهما و مبدعهما، من فطر بمعنى خلق، يا

عالِمَ الْغَيْبِ الذي غاب عن الحواس، سواء كان موجودا غير محسوس، أو مما سيوجد وَ الشَّهادَةِ أي الشي ء المشهود الحاضر، الذي يحس بالحواس أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ المؤمنين و المشركين فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من التوحيد و الشرك، و سائر الأمور، فبيدك الخلق و المعاد، و أنت العالم بكل شي ء، و في هذا تعريض بالآلهة الباطلة، التي لا خلق لها و لا علم، و لا تملك من الإعادة شيئا.

[48] و هناك في القيامة لا ينفع الكفار شي ء، فليتأهبوا لذلك اليوم من ها هنا قبل أن يبلسوا وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 573

[سورة الزمر (39): الآيات 48 الى 49]

وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49)

ما فِي الْأَرْضِ من الأموال و المعادن و الثروات جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ و هذا من باب المثال، و إلا فعشرة أضعافه أيضا بذلك الحكم لَافْتَدَوْا بِهِ أي جعلوا مالهم بدلا عن أنفسهم مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ليفكوا أنفسهم من النار، و يخلصوها من العقاب، و لكن لو فرض ذلك؟ هل كان ينفعهم؟ كلا وَ بَدا لَهُمْ أي ظهر لهم هناك مِنْ طرف اللَّهِ سبحانه ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي صنوفا من العذاب لم يكونوا يظنون أن الله أعدها لهم، من كثرتها، و شدة ألمها و وقعها.

[49] وَ بَدا لَهُمْ أي ظهر لهم هناك سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي جزاء أعمالهم التي كسبوها، فكأنّ الجزاء سيئة لما عمل الإنسان وَ

حاقَ بِهِمْ أي حل و أحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فقد كانوا يستهزءون بالعذاب، و يوم القيامة ينزل بهم العذاب، الذي استهزءوا به و ضحكوا منه.

[50] و من عجيب أمر هؤلاء المشركين أنهم يتذكرون الله عند الشدة، فإذا تفضل عليهم بالرخاء نسوه، و نسبوا الفضل إلى ذكائهم الشخصي و علمهم فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ من مرض، أو فقر، أو بلاء، أو عدو، أو ما أشبه دَعانا استغاث بنا لكشفه و إنقاذه منه ثُمَّ إِذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 574

[سورة الزمر (39): الآيات 50 الى 51]

قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)

استجبنا دعاءه و خَوَّلْناهُ أي أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا أي من طرفنا بأن بدلنا مرضه صحة، و فقره غنى، و هكذا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ أي أعطيت هذا الشي ء المخول إلي، و المراد به النعمة عَلى عِلْمٍ مني، و لا يرتبط بالتقدير، و إعطاء الله سبحانه، فقد أدت فطنتي و عملي إلى الحصول على هذا بَلْ هِيَ أي هذه النعمة فِتْنَةٌ امتحان و اختبار، ليعرف بذلك قدر شكره، فليس حصوله بعلمه، و إنما أعطاه الله سبحانه ليمتحنه، هل يبقى على عهده الذي دعا الله فيه أم لا؟ فيجازيه حسب عمله وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ أن النعم من الله- لا من فطنتهم- و أنها للاختبار، لا مجرد نعمة فحسب.

[51] قَدْ قالَهَا أي قال مثل هذه الكلمة، و هي «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» كما سبق من كلام قارون الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل هؤلاء، فكل ضعيف الإيمان، إذا رأى

النعمة ظنها من فطنته فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي أن كسبهم لم يغن عنهم، و لم يفدهم في دفع عذاب الله تعالى.

[52] و إذ بطروا عند النعمة، و لم يؤدّوا حقها و شكرها فَأَصابَهُمْ أي أولئك الذين من قبلهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي وصل إليهم عقاب أعمالهم السيئة، فإضافة «سيئات» إلى «ما» من باب إضافة الصفة إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 575

[سورة الزمر (39): الآيات 52 الى 53]

أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)

الموصوف، أو أن المراد من «السيئات» العقاب، سمي سيئة، لمشاكلته للسيئة، مثل (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «1» وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ القوم المعاصرين للرسول سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا كما أصاب أولئك الأقوام وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي أنهم لا يتمكنون من إعجاز الله سبحانه، حتى لا يتمكن من أخذهم و عقابهم، لفرارهم من ملكه، أو امتناعهم من نفوذ إرادته فيهم.

[53] إن هؤلاء يظنون أن النعمة، إنما أتتهم من علمهم و فطنتهم أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي يوسعه عليه وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق على من يشاء، فليس لعلمهم مدخل في توسعة الرزق، و لذا نرى أناسا كثيرين لهم فوق فطنة أولئك، و ذكائهم، و مع ذلك رزقهم ضيق لا وسعة فيه، كما نرى أناسا دون فطنتهم و علمهم، و رزقهم أوسع من هؤلاء إِنَّ فِي ذلِكَ البسط و الضيق لَآياتٍ أي دلالات دالة على وجوده

سبحانه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إنما خصهم لأنهم المنتفعون بالآيات.

[54] و إذ تبين خطأ هؤلاء، فإن الباب أمامهم مفتوح إذا أرادوا الدخول، و ليس العاصي آيسا من رحمة الله، فإنه يقبل التائب مهما كان

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 576

[سورة الزمر (39): الآيات 54 الى 55]

وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)

عصيانه قُلْ يا رسول الله للعصاة، تحكي لهم كلامي الذي وجهته إليهم يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بارتكاب الكفر و الآثام، و الإسراف هو التعدي عن الحدود، فإن الكافر و العاصي يتعديان عن حدود العبودية، أمام الله سبحانه لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي لا تيأسوا من غفرانه و فضله، ف إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمن جاءه نادما تائبا إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْغَفُورُ لذنوب عباده الرَّحِيمُ بهم يتفضل عليهم بالرحمة فوق غفران ذنبهم.

[55] وَ أَنِيبُوا الإنابة، هي الرجوع عن الذنب، أي أيها العصاة، توبوا إِلى الله رَبِّكُمْ و ارجعوا إليه وَ أَسْلِمُوا لَهُ أي انقادوا إليه بالطاعة، فيما يأمركم و ينهاكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ في الدنيا بالهلاك، أو في الآخرة في القبر، أو يوم القيامة ثُمَ إذا جاء العذاب لا تُنْصَرُونَ أي لا ينصركم أحد من الأصنام، أو أصدقائكم العصاة.

[56] وَ اتَّبِعُوا أيها الناس أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ فمثلا أنزل الله إباحة المنام، و استحباب العبادة في الليل، فاتباع الأحسن، هو العبادة- في المثال- و هذا على سبيل الترغيب، لا الإلزام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 577

[سورة

الزمر (39): آية 56]

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً أي فجأة بدون إنذار سابق وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ به و بوقته، فإذا ترون أنفسكم فيه حيث لا مناص و لا خلاص، و عدم اتباع الأحسن لا يوجب ذلك، و إنما الموجب العصيان، فهذا مربوط بالآية السابقة، و إنما كرر «العذاب» لترتيب أمرين عليه، الأول أنهم لا يضرون، و الثاني إتيانه بغتة حين لا يشعرون.

[57] أنيبوا إلى الله و أسلموا قبل إتيان العذاب، حتى لا تتحسروا- إن بقيتم على الكفر و العصيان- ل أَنْ لا تَقُولَ نَفْسٌ أي شخص، أو كراهة، أن تقول نفس يا حَسْرَتى أي يا قوم لي الحسرة، أو يا حسرتي احضري، فهذا وقتك، و التحسر، هو التأسف على ما فات، و الالف بدل من ياء المتكلم، قال ابن مالك:

و اجعل منادي صح، أن يضف لياكعبد عبدي عبد عبدا عبديا

عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي على تفريطي و تقصيري في إطاعة أمر الله سبحانه، و الحال قد كنت عند الله سبحانه، و هذا كما يقول أحدنا: كنت إلى جنب العالم، و لم أتعلم منه، و الله سبحانه منزه عن الجنب، و لكن قرب أحكام الدين و المرشدين إلى الإنسان، نزلّ منزلة القرب من الله تعالى تشبيها للمعقول بالمحسوس، لتقريب الذهن، و هذا هو المراد مما

ورد عن الباقر عليه السّلام، أنه قال «نحن جنب الله»

«1».

______________________________

(1) مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 179.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 578

[سورة الزمر (39): الآيات 57 الى 59]

أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ

حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)

وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ «إن» مخففة من الثقيلة، أي يا حسرتي عليّ، إني كنت من المستهزئين بالرسول، و بأحكام الله.

[58] أَوْ تَقُولَ نفس لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي في الدنيا و أرشدني لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ فقد أراكم الله الطريق، حتى لا يكون لكم هذا العذر هناك.

[59] أَوْ تَقُولَ نفس حِينَ تَرَى الْعَذابَ الذي يحيط بها لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي ليت لي رجوعا إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ حتى إذا مت ثانية، لا أرى العذاب، فإنّا ننصحكم، بأن تنيبوا و تسلموا قبل أن تقولوا هذا القول، حيث لا ينفعكم، و يقال لكم (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) «1».

[60] و حينذاك يقال لهذا المتحسر و المتمني بَلى أي ليس كما قلت، فإن «بلى» تأتي غالبا لنفي ما تقدم، نحو (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «2» فإنك، لا ترجع بعد أن ظهرت سيئاتك، حين ما أتاك الدليل و الحجة فلم تقبل قَدْ جاءَتْكَ آياتِي على لسان الأنبياء و الأئمة، فقد أوضحوا لك الحجج و الأدلة فَكَذَّبْتَ بِها و لم تقبلها وَ اسْتَكْبَرْتَ بأن استعليت

______________________________

(1) المؤمنون: 101.

(2) الأعراف: 173.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 579

[سورة الزمر (39): الآيات 60 الى 62]

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (62)

على أن تقبلها وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بالله و بما أنزل.

[61] وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ

تَرَى يا رسول الله، أو أيها الرائي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فزعموا أن له شريكا أو ولدا، أو أنه ليس بعادل، أو لم يرسل رسولا، أو ما أشبه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ شديدة السواد، فقد تكبروا هنا- و مظهر الكبر هو الوجه- و هناك يعاقب الوجه بهذا العقاب الظاهر، لكل رأس يذل صاحبه و يهينه أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي محل ثوي، و هو المنزل، من ثوى، إذ اتخذ المنزل و المسكن لِلْمُتَكَبِّرِينَ استفهام يريد به الإنكار، أي أن جهنم مثواهم.

[62] وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي خافوا، فلم يكفروا، و لم يعصوا بِمَفازَتِهِمْ المفازة مصدر ميمي، أي بسبب فوزهم، حيث أنهم قد فازوا في الدنيا بالإيمان و العمل الصالح، و يكون لهم في الآخرة النجاة و الفلاح من النار و العذاب لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي العذاب و الشدة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما يراد بهم، إذ لا حزن لهم.

[63] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فلا شريك له في خلق أو تكوين وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي حفيظ حارس، فكما أن الوكيل يعمل للموكل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 580

[سورة الزمر (39): الآيات 63 الى 65]

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65)

و يحفظ ما يتعلق به، كذلك الله سبحانه يربي كل شي ء و يكلؤه، بحراسته و حفظه، فليس للأصنام خلق و لا حفظ.

[64] لَهُ مَقالِيدُ جمع مقلاد، و هو المفتاح السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فمفتاح كل شي ء بيده، مثلا: مفتاح المطر

الريح، و مفتاح النبات المطر، و مفتاح المرض السموم، و هكذا، فإن كل شي ء بيده مفتاحه، و هذا كناية عن أن الأمور الكونية، كلها بيده، و ليس للأصنام شي ء وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ دلائله و حججه، بأن أنكروه، أو جعلوا له شريكا أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين يخسرون دنياهم و آخرتهم، أما الدنيا، فإن لهم فيها معيشة ضنكا، و أما الآخرة، فإن لهم فيها النار.

[65] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يعيبون عليك توحيدك لله سبحانه أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أصله «تأمرونني» ثم أدغمت نون الوقاية في نون الجمع أَيُّهَا الْجاهِلُونَ فأنتم تريدون، أن أشرك بالله، كما أشركتم، و هذا جهل بالحقيقة، فإن الله لا شريك له، و الأصنام جهل بالحقيقة، فإن الله لا شريك له، و الأصنام ليست بشي ء؛ فإن مستواها أنزل من مستوى نبتة صغيرة، فكيف تجعلونها شريكة الله.

[66] ثم أكد الله سبحانه شأن التوحيد، حتى أن كل أحد أشرك حبط عمله، و لو كان نبيا، و قد تقرر في الأدب و المنطق، أن صدق الشرطية بصدق التلازم، و إن استحال خارجية أحد الطرفين، كما لو قلت: لو جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 581

[سورة الزمر (39): الآيات 66 الى 67]

بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

النقيضان تغير وجه العالم، فإن كلا من جمع النقيضين، و تغير وجه العالم، هكذا، مستحيل، إلا أن القضية صادقة للتلازم، و من هذا الباب قوله سبحانه وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ يا رسول الله وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء و الرسل

لَئِنْ أَشْرَكْتَ بالله، و دعوت معه غيره لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ و حبط العمل بطلانه، بأن لا يكون له ثواب، أي لم يكن لك أجر على أعمالك الحسنة وَ لَتَكُونَنَ حين أشركت مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم و أهليهم، دنياهم و آخرتهم، و توجه الخطاب إلى الرسول، و سائر الرسل، لتنبيه الناس، بأن الأمر هكذا، حتى بالنسبة إلى أعظم الناس.

[67] بَلِ اللَّهَ وحده فَاعْبُدْ يا رسول الله وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمائه.

[68] وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ أي الكفار حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق عظمته، حيث جعلوا له شريكا، و أنكروا قدرته على البعث، و الحال أنه قادر على كل شي ء وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً بجميعها، و جميع ما فيها قَبْضَتُهُ و القبضة هي ما قبضت عليه بجميع كفك يَوْمَ الْقِيامَةِ أي أن يوم القيامة تكون الأرض تحت قدرته سبحانه، كالشي ء الذي في قبضة الإنسان وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي ملفوفات بعضها حول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 582

[سورة الزمر (39): آية 68]

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68)

بعض، و كلها في يده اليمنى، و إنما قال «بيمينه» لأن اليمين أقدر على القبض، و هذا من باب التشبيه، يعني أن الكون كله تحت قدرته القوية، حتى أن السماوات بالنسبة إليه، كالثوب المطوي، في يد أحد أفراد الإنسان، و أن الأرض بالنسبة إليه، كالشي ء المقبوض في الكف، و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس للتقريب إلى الذهن، كما يقال: أن المملكة خاتم في إصبع فلان، يراد قدرته الزائدة على إدارتها، كقدرة الشخص على إدارة خاتمه، و إنما قال «يوم القيامة»

مع أن السماوات و الأرض، هكذا، بالنسبة إليه، قبل ذلك؟ لأن الكلام حول قدرة الله سبحانه، على إعادة الأرواح إلى الأجساد، في ذلك اليوم، فالآية بصدد أن قدرته تعالى في ذلك اليوم، بهذا القدر الهائل، فكيف لا يقدر على بعث الناس، و قد فهم- بالتلازم- بطلان الشركاء، إذ الكون كله تحت قدرته وحده بلا شريك و لا ظهير سُبْحانَهُ أي أسبحه سبحانا، و أنزهه تنزيها وَ تَعالى أي أنه رفيع، فإن الفعل منسلخ عن معنى الماضي، كما في سائر صفات الذات عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الأصنام، التي يشركونه بها.

[69] وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ قد تقرر في البلاغة، أن المضارع المتحقق وقوعه، يؤتى بصيغة الماضي، لإفادة أنه لمعلومية وقوعه، كأنه قد وقع و انقضى، و الصور بوق ينفخ فيه إسرافيل مرتين، مرة علامة لانقضاء العالم، و رحيل الجميع منه إلى الآخرة، و بذلك يموت الناس كلهم، و مرة علامة، لابتداء عالم الآخرة، و بذلك يحيى الناس كلهم، و هذا كالذي يصنعه أمير القافلة، حين إرادة الرحيل، و إرادة النزول، من النفخ في البوق، و المراد بهذا النفخ هنا هو الأول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 583

[سورة الزمر (39): آية 69]

وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)

فَصَعِقَ أي مات مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة و غيرهم وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من أفراد البشر و غيرهم إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ كالأملاك الأربعة، جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل، و عزرائيل، و غيرهم، و التفصيل في كتاب «البحار» ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي في الصور نفخة أُخْرى حين إرادة ابتداء القيامة، و الشروع في العالم

الآخر فَإِذا هُمْ أي البشر و الملائكة، و غيرهم قِيامٌ أي قائمون من قبورهم، و هو جمع «قائم» يَنْظُرُونَ إلى المحشر، منتظرين ماذا يفعل بهم؟ و قوله «فإذا هم» للدلالة على سرعة قيامهم عقيب النفخة، فإن الإحياء فجائي.

[70] وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي بعدله سبحانه، كما يقال: أشرق البلد بنور فلان إذا أخذ بالزمام، حيث أنه يعدل و يحسن في مقابل سالف الأيام، التي كانت الأرض مظلمة، بظلم الظالمين وَ وُضِعَ الْكِتابُ أي وضعوا الكتاب في الوسط، و هو كتاب أعمال العباد، و كأنه كان قبل ذلك في زاوية بعيدة، ثم أتى به للمحاسبة، و هذا كما يقال للمحاسب: ضع الدفتر حتى نحاسب، و الكتاب اسم جنس يشمل كتب الخلائق كلهم وَ جِي ءَ في ساحة المحاكمة بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ جاء بهم الله سبحانه، ليحاكموا الأمم، و يشهدوا عليهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 584

[سورة الزمر (39): الآيات 70 الى 71]

وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71)

فالمراد بالشهداء الذين يشهدون على العباد بما عملوا، و هم صالحوا كل أمة، إذ كانوا في وسط الأمة ناظرين إلى أعمالهم، فيشهد الصالح الفلاني، بأن القوم، كانوا يضلون، و الصالح الفلاني، بأن القوم كانوا يشربون الخمر، و هكذا وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي حكم الله، و من جعله حاكما هناك «بينهم» أي بين الناس بِالْحَقِ و العدل بإعطاء كل ذي حق حقه، بلا حيف و

لا جور وَ هُمْ أي الخلق لا يُظْلَمُونَ في الحكم بأن ينقص من حق، أو يزاد اعتباطا.

[71] وَ وُفِّيَتْ أي أعطيت وافيا كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي يعطى كل إنسان حسب أعماله وافيا، فالمحسن يوفّى بالإحسان، و المسيئ بالنكال وَ هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ في الدنيا، فيجازيهم حسب ما علم، بلا تغيير أو خطأ، أو زيادة و نقيصة.

[72] وَ بعد تمام الحساب سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ساقهم الملائكة بالجبر و العنف إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً جمع زمرة، و هي الفوج، أي يساقون زمرة فزمرة، و فوجا ففوجا، كل فوج مشتمل على متشابهي الأعمال، كالزناة و المقامرين، و هكذا حَتَّى إِذا جاؤُها أي وصلوا إلى جهنم فُتِحَتْ أَبْوابُها لهم، و هي سبعة أبواب، حتى يدخل كل فوج من الباب، المناسب بحالهم و المقرر لهم وَ قالَ لَهُمْ أي لأولئك الكفار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 585

[سورة الزمر (39): آية 72]

قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

خَزَنَتُها جمع خازن، و هو الموكل بالشي ء، أي الموكلون بجهنم أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيها المجرمون رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ أي يقرءون على مسامعكم آياتِ رَبِّكُمْ أدلته و حججه وَ يُنْذِرُونَكُمْ أي يخوفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي من مشاهدة هذا اليوم و عذابه، و هذا الاستفهام منهم، إنما هو على وجه التقريع و التبكيت، و إلا فالخزنة يعلمون ذلك قالُوا أي قال الكفار في جواب الخزنة بَلى قد جاءتنا رسل ربنا، و خوفونا من هذا اليوم وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ فإنا قد كفرنا، فثبت في حقنا ما قاله سبحانه، بأن من كفر يعاقب بالنار، و هذا، كما يقول أحدنا «هكذا مصيري» في يأس و

انقطاع، و إنما لم يقولوا «علينا» مكان «على الكافرين» لإفادة، أن سبب عذابهم، هو كفرهم، فهو حكم مع ذكر العلة.

[73] و حينذاك قِيلَ و القائل الخزنة ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي ادخلوها من أبوابها خالِدِينَ فِيها أي في حال كونهم باقين فيها أبد الآبدين فَبِئْسَ هذا المحل- في جهنم- مَثْوَى أي محل إقامة الْمُتَكَبِّرِينَ الذين تكبروا في الدنيا عن الحق، حتى صاروا إلى هذا المكان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 586

[سورة الزمر (39): الآيات 73 الى 74]

وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74)

[74] وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ أي خافوا في الدنيا عذابه، فأطاعوه، فيما أمر و نهى، و إنما يساقون بإكرام و إعظام إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً زمرة فزمرة، كل فوج في أشكالهم، فالمصلون صلاة الليل زمرة، و التالون للقرآن زمرة، و هكذا حَتَّى إِذا جاؤُها أي وصلوا إليها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخل كل فوج من الباب المناسب لعمله المعدّ له، و للجنة ثمانية أبواب و الإتيان بالواو في «و فتحت» دون «فتحت» في الآية السابقة للتفنن الذي هو نوع من البلاغة وَ قالَ لَهُمْ أي لأهل الجنة خَزَنَتُها جمع خازن، و هو الموكل بالشي ء سَلامٌ عَلَيْكُمْ إما بقصد التحية، و إما بمعنى، أن السلامة من الآفات و البليات عليكم، تظللكم دائما، و لذا لم يقل «لكم» فإن «على» تفيد معنى الإحاطة و الشمول طِبْتُمْ أي صرتم طيبين هنا بسبب أعمالكم الطيبة في دار الدنيا فَادْخُلُوها أي ادخلوا الجنة، من

أبوابها خالِدِينَ أي في حال كونكم، دائمين فيها أبد الآبدين، لا خروج لكم عنها، و كان الإتيان بواو العطف في الجملتين، لإيجاد فراغ في الذهن، حتى يبقى منتظرا لأصناف الكرامة، و ألوان اللذة، فليس الأمر ينتهي بقول الخزنة، و إنما، ل «حتى» جواب طويل عريض باق مدى الأبد.

[75] وَ قالُوا أهل الجنة بعد دخولها الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 587

[سورة الزمر (39): آية 75]

وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)

صدق في وعده لنا بأنا إن عملنا صالحا أدخلنا الجنة وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة، نقلها إلينا، كالميراث الذي ينقل إلى الوارث، و لعل التعبير بلفظ الأرض، لبيان أنهم جازوا أرض الجنة، و غرفها، حيث قالوا بعد ذلك نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي نأخذ المنزل من قصورها، أيّ محل شئنا فما هو مقدر لنا- و في ذلك إشارة إلى سعة قصورهم، و أرض الجنة لكل إنسان- و «نتبوأ» من «تبوّأ» بمعنى اتخذ المنزل، أصله «باء» إذا رجع، إذ المنزل مرجع الإنسان، كلما خرج عاد إليه فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ بالخيرات، الجنة.

[76] وَ تَرَى يا رسول الله، أو أيها الرائي الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ قد أحاطوا بعرش الله سبحانه، و العرش هو موضع جعله الله سبحانه محلا تشريفيا، أحاطه بعنايته و لطفه، و جعله مصدر أمره و نهيه، كما أن البيت الحرام في الدنيا محل تشريفي له سبحانه، ذاك بالنسبة إلى الملائكة، و هذا بالنسبة إلى البشر، و يلتذ المؤمنين بهذه الرؤية، كمن يلتذ إذا نظر إلى قصر الملك المحاط بالجيش، و رجال التشريفات،

فإن الإنسان يتقوى روحيا إذا نظر إلى محل القوة و العزة، و هم يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهونه عما لا يليق به بسبب الحمد، فإذا قال الإنسان «سبحان الله» كان تنزيها فقط، أما إذا قال «الحمد لله» كان تحميدا و تنزيها، فإن وصف الممدوح بالجميل، حمد و تنزيه له عن القبيح، بخلاف التنزيه عن القبيح، فإنه ليس حمدا-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 588

كما مر- وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الناس بِالْحَقِ و هذا كموجز لما تقدم للتركيز عليه وَ قِيلَ و القائل كل من هنالك الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و هذا هو منتهى أهل التقوى في الدنيا، و أكرم به من عاقبة جميلة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 589

40 سورة غافر مكية/ آياتها (86)

و تسمى أيضا بسورة «المؤمن» لاشتمالها على لفظي «غافر» و «مؤمن»، و هي كسائر السور المكية، تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث، الألوهية، و الرسالة، و المعاد، و لما ختمت سورة «الزمر» بالحمد لله رب العالمين، ابتدأت هذه السورة بذكر صفاته سبحانه، التي بها استحق الحمد.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله، المستجمع لجميع صفات الكمال، شعارا للمؤمن في مقابل شعار الكفار الذين كانوا يبتدئون «باسم اللات» و نحوه، و شعار النصارى الذين يبتدئون باسم «الأب و الابن و روح القدس» و هكذا سائر الكفار و المنحرفين، و قد اعتادوا في زماننا أن يقولوا «باسم الشعب» في الحكومات الديمقراطية ..

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصفان من مادة واحدة، إفادة لقوة الرحمة، في ذاته سبحانه، كما قال (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) «1».

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 590

[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

(2) غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)

[2] حم «حاء» و «ميم» و جنسهما من سائر حروف الهجاء، هي مادة هذا القرآن الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله، أو هو رمز بين الله و رسوله، أو أن معناه، الحميد المجيد، فهو ابتداء بعد البسملة، باسمين من أسمائه سبحانه، على طريق الرمز، أو غير ذلك.

[3] تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي هذا هو إنزال القرآن مِنَ قبل اللَّهِ الْعَزِيزِ الغالب سلطانه الْعَلِيمِ الذي يعلم كل شي ء، فيعلم الصالح من غيره، أو أن «تنزيل الكتاب» مبتدأ «من الله» خبره.

[4] غافِرِ الذَّنْبِ صفته، ل «الله» أي أنه سبحانه يغفر ذنوب عباده، و هذا على نحو القضية الطبيعية، لا أن معناه أنه سبحانه، يغفر كل ذنب وَ قابِلِ التَّوْبِ جمع توبة، كدوم جمع دومة، أو مصدر من تاب يتوب توبا، و المعنى إن من تاب و رجع إليه سبحانه، قبل توبته، و لم يرده عن بابه خائبا شَدِيدِ الْعِقابِ لمن كفر و عصى ذِي الطَّوْلِ الطول هو الإنعام الذي تطول مدته لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المرجع في المعاد، فهو إله واحد له الفضل، يغفر لمن استغفره، و يعاقب من عصاه، و بيده العاقبة.

[5] و إذ كان الإله واضحا وجوده و صفاته، من الآيات الكونية، فإنه ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ الدالة على وجوده و صفاته إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 591

[سورة غافر (40): آية 5]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا

بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5)

فإنهم يخاصمون حول أصل وجود الإله، أو صفاته، و إلا فالمصنف لا بد و أن يستدل من الآيات الكونية على وجوده سبحانه فَلا يَغْرُرْكَ يا رسول الله تَقَلُّبُهُمْ أي تقلب الكفار و تصرفهم فِي الْبِلادِ بالعزة و التجارة، بأن يوجب هذا التصرف للمشاهد شكا في أنه لو كان هناك إله لأخذهم أخذ مقتدر، و ضيّق عليهم المسالك، فهو يغتر، و يخدع- عن الحقيقة- بهذا التقلب و التصرف، فالخطاب، و إن كان حسب الظاهر متوجها إلى الرسول، إلا أنه في الحقيقة لإيقاظ الناس عامة، أو أن المخاطب هو العام، أي «لا يغررك أيها الناظر إلى الكفار».

[6] فإنهم إنما يتقلبون بمهلة الله لهم حتى يستنفدوا كل أمرهم، و تظهر ضمائرهم، و هناك الأخذ الشديد، كما كان يفعل سبحانه بالأمم السابقة، فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل كفار مكة قَوْمُ نُوحٍ رسولهم نوحا عليه السّلام وَ كذبت الْأَحْزابُ أي الأمم الذين تحزبوا على الرسل، رسلهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد قوم نوح، كعاد و ثمود و قوم لوط و قوم إبراهيم، و غيرهم وَ هَمَّتْ أي قصدت كُلُّ أُمَّةٍ من تلك الأمم المكذبة بِرَسُولِهِمْ قصد سوء لِيَأْخُذُوهُ أي يأخذوا الرسول، للحبس أو القتل أو النفي وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ أي خاصموا رسلهم بمجادلات و محاورات باطلة، حول الألوهية و الرسالة و المعاد لِيُدْحِضُوا أي يبطلوا بِهِ أي بسبب الجدال الباطل الْحَقَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 592

[سورة غافر (40): الآيات 6 الى 7]

وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا

وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7)

الذي أتى به الأنبياء فَأَخَذْتُهُمْ أي أخذت تلك الأمم بالعقاب، بعد أن لم يبق رجاء في هدايتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي لهم؟

و حذف ضمير المتكلم تخفيفا، و هذا تهديد لكفار مكة، بأنهم، إن تمادوا في غيهم، كان مصيرهم، كمصير أولئك الأقوام، و الاستفهام تقريري للإيقاظ و الإلفات.

[7] وَ كما ثبتت كلمة العذاب على أولئك الأمم الذين كذبوا الرسل كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي ثبتت كلمة ربك بالعذاب، بأن قال «سأعذبهم» و ستنطبق هذه الكلمة عليهم عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة، يا رسول الله أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ إما بمعنى، لأنهم أصحاب النار، فلذا ثبت في حقهم عذاب الدنيا، أو «أنهم» تأكيد «حقت» فيكون التشبيه في «كذلك» من حيث أصل العذاب، و إن كان المراد بالعذاب في الأمم السابقة عذاب الدنيا و الآخرة، و في هذه الأمة في الآخرة فقط.

[8] إن أقرب الملائكة إلى الله سبحانه منزلة هم مؤمنون بالله، فكيف لا يؤمن هؤلاء؟ و أنهم يستغفرون للمؤمنين، فمن آمن فاز باستغفارهم، فليستبشر المؤمنون الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ و هم جماعة من الملائكة، خلقهم الله سبحانه، واضعين العرش على أكتافهم، زيادة في الهيبة و الجلال، كما لو شاهد الإنسان سرير ملك محمولا على جماعة من الأشراف، و من الواضح أن الملائكة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 593

لا يتأذون بذلك، كما أن العرش إنما هو محل شرّفه الله سبحانه، لا أنه محله؛ فإنه منزه عن المكان وَ مَنْ حَوْلَهُ أي حول العرش من الملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهون الله سبحانه، تنزيها بالمدح، فإن من قال زيد- مثلا- شجاع كان حامدا

له و منزها له عن الجبن، بخلاف من قال أنه ليس بجبان، فإنه تنزيه فقط وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بربهم معترفين بوحدانيته، و سائر صفاته، و لعل تأخير الإيمان، عن التسبيح لأجل أن فيهم أظهر، فإذا رآهم أحد، سمع منهم التسبيح، أما الإيمان فإنه يعلم بالملازمة وَ يَسْتَغْفِرُونَ أي يطلبون من الله الغفران لِلَّذِينَ آمَنُوا من أهل الأرض، بأن يغفر الله لهم زلاتهم، و ما أسلفوا من الكفر و العصيان، و يقولون، إذ يريدون الاستغفار للمؤمنين، يا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً أي وسعت رحمتك كل شي ء، فارحم المؤمنين و اغفر لهم وَ عِلْماً فإنك تعلم أنهم مطيعون، و إنما يزلهم الشيطان، أو المراد، نطلب منك الغفران على علمك بزلاتهم، كما يقال «على علمك فاعف» يعني مع أنك عالم نطلب العفو، في مقابل طلب العفو من الذي لا يعلم، فإنه أسرع عفوا، إذ لا يعلم بالتفاصيل فَاغْفِرْ يا الله لِلَّذِينَ تابُوا عن الكفر و العصيان وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أي طريقك الذي هو الإسلام وَ قِهِمْ أي و احفظهم، من «وقى» «يقي» و الأمر «ق» فالواو عاطفة عَذابَ الْجَحِيمِ حتى لا يعذبوا بها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 594

[سورة غافر (40): الآيات 8 الى 9]

رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

[9] يا رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ أي أدخل المؤمنين جَنَّاتِ عَدْنٍ أي بساتين إقامة، من «عدن» إذا أقام الَّتِي وَعَدْتَهُمْ على ألسنة الأنبياء، و لعل هذا الدعاء بمعنى أثبتهم على الإيمان حتى يدخلوا الجنان، و إلا فالله

سبحانه، يفي بوعده حتما، فلا حاجة إلى الطلب، أو أنه على طريق الضراعة و الانقطاع وَ أدخل الجنات مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ أي نسلهم، ليكمل أنسهم بذلك، فإن الإنسان، عند أحبائه آنس، و معنى من صلح، من آمن و عمل صالحا إِنَّكَ يا رب أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر على ما تشاء الْحَكِيمُ في أفعالك تفعلها، حسب الصلاح و الحكمة، و لقد كان من الصلاح، أن وعدتهم بالجنة، فأكمل ذلك لهم، بإدخالهم فيها.

[10] وَ قِهِمُ أي احفظهم، يا رب من السَّيِّئاتِ حتى لا يعملوا في الدنيا ما يوجب سخطك، و على هذا فجملة وَ مَنْ تَقِ مستأنفة للمشابهة، أو المراد قهم جزاء السيئات، أو أنواع العذاب التي هي سيئات، و على هذا فجملة «و من تق» تتمة وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ أي تحفظه من جزاء المعاصي يَوْمَئِذٍ أي في الآخرة فَقَدْ رَحِمْتَهُ رحمة عظيمة وَ ذلِكَ أي حفظهم من العذاب هناك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز مثله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 595

[سورة غافر (40): الآيات 10 الى 11]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)

[11] و إذ يرون الكفار النار، و جزاء أعمالهم في الآخرة، يغضبون على أنفسهم، لم فعلوا ما يستحقون به هذه النار و النكال؟ فيناديهم الملائكة أنّ غضب الله عليكم بسبب أعمالكم أشد من غضبكم على أنفسكم! و هذا لتأليمهم روحيا، فإن الإنسان إذا علم غضب الملك العظيم عليه يتألم كثيرا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ من قبل الملائكة يوم القيامة لَمَقْتُ اللَّهِ أي غضب الله

عليكم أَكْبَرُ أي أشد و أكثر مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي من غضبكم على أنفسكم، و ذلك المقت إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أي إن هذين المقتين، إنما كانا من وقت دعيتم إلى الإيمان فكفرتم.

[12] قالُوا و هم معترفون أذلاء، قد رفع عن أعينهم الغشاء، يا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ موتا حين كنا ترابا، و موتا بعد الحياة الدنيوية، أي جعلنا ميتا مرتين، و الإماتة بالنسبة إلى الموت الترابي، و إن كان خلاف المنصرف، إلا أنه غير بعيد، بالنسبة إلى ما ورد في أحوال الإنسان، حيث لا موت جديد، بعد الموت الدنيوي، و ما ورد أنه بالنسبة إلى الرجعة، فالظاهر أنه من باب المصداق، و إلا فالكفار كلهم لا يحبون الرجعة، و ظاهر الآية أنه بالنسبة إلى الكلي وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي حياتين، حياة بالتولد في الدنيا، و حياة بعد الموت في القيامة، و إنما يقول الكفار ذلك خضوعا و تخشعا، كالمجرم الذي يعترف بذنبه تخشعا، و يريدون بذلك اعترافهم، بأن أزمّة الأمور بأيدي الله سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 596

[سورة غافر (40): الآيات 12 الى 13]

ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13)

فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، حيث كفرنا بك و عصينا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ من حالة القيامة و النار، إلى الدنيا لنعمل صالحا مِنْ سَبِيلٍ و هذا طلب بتأدب خوفا و وجلا من الطلب الصريح.

[13] لكن لا مجال لهم في الخروج، و يقال: (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) «1» (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) «2» ثم يقال لهم

ذلِكُمْ العذاب الذي حل بكم، و «كم» خطاب بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ و إنه لا إله إلّا هو، كما كان يدعوه المؤمنون كَفَرْتُمْ و أنكرتم أن يكون واحدا وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ أي بالله تُؤْمِنُوا بالآلهة المتعددة كما كان يفعل المشركون فَالْحُكْمُ أي فصل هذه القضية، و الحكم عليكم في الآخرة بالنار و العذاب لِلَّهِ الْعَلِيِ الرفيع الذي لا شريك له، فهو أرفع من كل شي ء الْكَبِيرِ الذي لا أكبر منه، في ذاته و صفاته.

[14] ثم يأتي السياق ليبين بعض آياته سبحانه الدالة على وجوده، و سائر صفاته هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي أدلته الكونية، الدالة على ذاته و صفاته، و معنى الإرائة إيجادها، كالليل و النهار و المطر، أو إلفاتكم إليها، و إن كانت مستقرة ثابتة وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ أيها البشر مِنَ السَّماءِ رِزْقاً

______________________________

(1) المؤمنون: 101.

(2) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 597

[سورة غافر (40): الآيات 14 الى 15]

فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)

و هو المطر الموجب لكل رزق، أو المراد أنه سبحانه يقدر في السماء أرزاقكم، فينزل الأمر به من هناك وَ ما يَتَذَكَّرُ أي يلتفت إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي يتوب، فإن التذكر المفيد، إنما هو تذكر التائب دون غيره.

[15] فَادْعُوا أيها البشر اللَّهَ وحده مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي في حال كونكم توجهون عبادتكم إليه، و تجعلون دينكم له دون غيره وَ لَوْ كَرِهَ إخلاصكم و توحيدكم لله الْكافِرُونَ فلا تبالوا بهم.

[16] إنه سبحانه رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي يرفع درجات الناس في الجنة، فبيده الملك و الملكوت، و مثله يحق أن

يعبد دون سواه، أو إن المعنى أنه سبحانه صاحب درجات رفيعة، و المراد بالدرجات الصفات، فهو ذو العلم الرفيع و الإحسان الرفيع، و الحلم الرفيع، و هكذا، فلا يبلغ شأنه شي ء من الأصنام، أو غيرها، حتى يجعل شريكا له، و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ذُو الْعَرْشِ فله عرش السلطة، وحده بلا شريك و منازع يُلْقِي الرُّوحَ أي الحياة للبشرية، التي هي الوحي، فقد شبه الوحي بالروح، تشبيها بالروح الذي به حياة الإنسان، و في الوحي حياته الواقعية من العمى و الضلالة، أو المراد الروح لنبوة الشخص مِنْ أَمْرِهِ أي أن الإلقاء صار من أمره لا جبر له فيه، إذ قد يلقى الإنسان شيئا مجبورا من أمر غيره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و هم الأنبياء عليهم السّلام، و مشيئته سبحانه باعتبار صلاحية النبي لذلك،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 598

[سورة غافر (40): الآيات 16 الى 17]

يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)

لمؤهلاته النفسية لِيُنْذِرَ الله بسبب الإلقاء، أو ينذر الرسول يَوْمَ التَّلاقِ أصله «التلاقي» حذف الياء تخفيفا، حيث يلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض، كما عن الصادق عليه السّلام «1».

[17] يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي ظاهرون من قبورهم لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ أي من الناس شَيْ ءٌ فكل شي ء منهم من الأجساد، و الأعمال، و النوايا، منكشفة لديه سبحانه، و يقول الله سبحانه، حينذاك لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ تقريعا للذين اغتصبوا الملك في الدنيا، و لمن أشركوا بالله بزعم أن لله شريكا في الملك، و يأتي الجواب من قبله أو قبل صلحاء

الناس و الملائكة لِلَّهِ الْواحِدِ الذي لا شريك له الْقَهَّارِ الذي يقهر الكون حسب ما يشاء.

[18] الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فالمحسن يجزى بالإحسان، و المسي ء بالإساءة لا ظُلْمَ على أحد الْيَوْمَ فلا ينقص من ثواب المحسن و لا يزاد على عقاب المجرم إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يعني إن الآخرة قريبة، أو إن حساب الخلائق في ذلك اليوم، يكون سريعا، فلا مجال للّف و الدوران، كما في الدنيا، حتى يحتمل المجرم التملص.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 599

[سورة غافر (40): الآيات 18 الى 19]

وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ (19)

[19] وَ أَنْذِرْهُمْ يا رسول الله، أي خوّفهم من العذاب يَوْمَ الْآزِفَةِ من أزف بمعنى دنى، و يسمى يوم القيامة، بالآزفة لدنوها، و الآزفة ليست رفعة لليوم- في المقام- و إنما مضاف إليها، نحو يوم القيامة إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ فإن الإنسان إذا خاف كثيرا حدثت فيه الحرارة الزائدة، و لذا تنتفخ الرئة، و تكبر لجلب الهواء الكثير لتبريد القلب، فتضغط على القلب، و ترفعه عن موضعه، فيأتي قريب الحنجرة كاظِمِينَ أي في حال كونهم امتلأوا غما و غيضا، لكنهم كظموه و أخفوه، فلم ينطقوا بشي ء خوفا و رعبا، يقال: كظم فلان غيظه إذا أخفاه ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان من صديق هناك، إذ أصدقاؤهم في الدنيا يفرون منهم وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ فإن هناك لا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن، و الإتيان ب «يطاع» لبيان النتيجة، أي لا خلاص لهم، و

إلا فهناك لا شفيع لهم إطلاقا.

[20] و قد علم سبحانه جميع أعمالهم و نياتهم، فيجازيهم حسب الأعمال يَعْلَمُ تعالى خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي خيانة العين، بأن تنظر إلى ما حرمه الله تعالى، و إنما سمي خيانة، لأنها تنظر بسرقة و خيانة، لئلا يعرف الناس أنه نظر إلى الشي ء الفلاني وَ يعلم ما تُخْفِي الصُّدُورُ و تنويه فهو مطلع على النيات، و إنما نسب الاختفاء إلى الصدور، لأن القلب في الصدر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 600

[سورة غافر (40): الآيات 20 الى 21]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 649

وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21)

[21] وَ اللَّهُ يَقْضِي و يحكم في يوم القيامة بِالْحَقِ فهو القاضي الوحيد هناك وَ الأصنام الَّذِينَ يَدْعُونَ أي يدعونهم المشركون آلهة مِنْ دُونِهِ من دون اللّه لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إذ لا حكم لهم هناك، لا بحق، و لا بباطل، و الإتيان، للأصنام بضمير العقلاء، لتوحيد السياق بين كلام أصحابها، و كلام الله و المؤمنين إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الذي يسمع كل شي ء الْبَصِيرُ الذي يرى كل مرئي، أما الأصنام فهي جمادات، لا تسمع و لا تبصر، فكيف تتمكن أن تحكم؟

[22] أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا أي يذهبوا و يسافروا، هؤلاء الكفار فِي الْأَرْضِ هنا و هناك فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السابقة، الذين كذبوا أنبياءهم، كقوم هود و صالح و لوط

و غيرهم، مما بقيت آثارهم الخربة في البلاد و الصحاري كانُوا هُمْ أي أولئك الأقوام أَشَدَّ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار قُوَّةً في أبدانهم وَ أكثر آثاراً فِي الْأَرْضِ أي عمارة و بناء و زراعة و صناعة، جمع أثر و هو الذي يبقى بعد الإنسان أثرا له، و علامة منه فلما كفروا، لم تفدهم قوتهم و آثارهم، بل فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أي عاقبهم، و أنزل عليهم العذاب بسبب ذنوبهم كفرهم و عصيانهم وَ ما كانَ لَهُمْ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 601

[سورة غافر (40): الآيات 22 الى 24]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24)

لأولئك الأقوام مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ «الواق» أصله «واقي» من وقى، بمعنى حفظ، أي لم يكن لهم حافظ يحفظهم من بأس الله و عذابه، و هؤلاء إن تمادوا في كفرهم و عصيانهم كان مصيرهم مصير أولئك.

[23] ذلِكَ العذاب الذي نزل بهم، إنما كان لأجل كفرهم و تماديهم في العصيان بسبب أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بالآيات البينات أي الواضحات، و المعاجز الظاهرات الباهرات فَكَفَرُوا و لم يؤمنوا بعد إتمام الحجة فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بذنوبهم، بأن عذبهم و أهلكهم إِنَّهُ سبحانه قَوِيٌ يقوى على ما يريد شَدِيدُ الْعِقابِ فإذا عاقب أحدا تمكن من ذلك، و عقابه شديدا أليما.

[24] ثم مثل سبحانه لبعض أولئك الأمم الذين أهلكهم سبحانه، بنقل قصة موسى و فرعون وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي مع آياتنا و أدلتنا، كالعصا، و اليد البيضاء، و غيرهما وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ أي دليل واضح، فقد كان موسى عليه

السّلام مزودا بحجة قوية يحتج و يستدل للألوهية، كما هو شأن الأنبياء عليهم السّلام، فلهم معاجز، و لهم أدلة منطقية على إرشاداتهم.

[25] إِلى فِرْعَوْنَ الملك وَ هامانَ وزيره وَ قارُونَ الطاغي الذي كان مؤمنا، ثم انحرف، و إنما خص هؤلاء بالذكر، لأنهم كانوا رؤساء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 602

[سورة غافر (40): الآيات 25 الى 26]

فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26)

الكفار و المنافقين فَقالُوا عوض الإيمان ساحِرٌ كَذَّابٌ إنه يسحر في خوارقه، كذاب كثير الكذب، في ادعاءاته بوجود الإله، و أنه رسوله، و أن هناك دارا آخرة.

[26] فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى عليه السّلام بِالْحَقِ أي مع الحق الذي هو التوحيد و المعاد و الشريعة مِنْ عِنْدِنا أي كان من طرفنا، فإن الآتي بالحق، قد يكون غير مرسل، كالصلحاء و العلماء الذين يرشدون الناس قالُوا أي فرعون و هامان، و أشراف القبط اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و هم بنو إسرائيل الذين آمنوا بموسى وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ فقد أمر فرعون، قبل ولادة موسى بقتل أبناء بني إسرائيل، حيث أخبره منجم، بأنه يولد في بني إسرائيل ولد يكون على يده ذهاب ملكه، و أمر بعد نبوة موسى بذلك، حيث أراد عدم كثرتهم ليقوى الصف المخالف، كما كان يبقي النساء أحياء لاستخدامهن و إذلالهن، لكن الله سبحانه منع عن ذلك بإرسال الضفادع و الجراد و القمل و الدّم- كما سبق- وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي أن ما يكيدون يضل

و يضيع فلا يظهر له أثر مقصود.

[27] وَ قالَ فِرْعَوْنُ لمن حوله من الأشراف ذَرُونِي أي اتركوني، و لا تشيروا علي بالخلاف أَقْتُلْ مُوسى لأستريح منه، و قد قال ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 603

[سورة غافر (40): الآيات 27 الى 28]

وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)

إظهارا لسطوته، و إلا فقد أراد غير مرة، قتل موسى، فلم يتمكن وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ بما شاء، فقد كان يخاف من دعوة موسى لله سبحانه، بإنزال العذاب عليهم، كما شاهد من قبل، و هذا كما يقول أحدنا، أفعل ذلك، كائنا ما كان، و قوله «ليدع» أمر يراد به الخبر، أي و إن دعا ربه عليّ، و إنما أريد قتل موسى ل إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ بأن يمنعكم عن عبادتي، و عبادة الأصنام، إلى عبادة الله أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ بأن يجهز الجيوش للحرب و القتال، فقتله يريحنا من إفساده في ديننا أو دنيانا.

[28] وَ قالَ مُوسى عليه السّلام- و كأنه قال ذلك لما سمع بإرادة فرعون قتله- إِنِّي عُذْتُ من عاذ، بمعنى لجأ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ يا بني إسرائيل، أو أيها القبط، إن كان خطابه لهم مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ كفرعون الذي تكبر و لا يخاف المعاد.

[29] وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ بالله و بموسى مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ

أي من ذويه، و قد كان ابن عمه، كما في بعض الأحاديث، و كان اسمه حزقيل يَكْتُمُ إِيمانَهُ عن فرعون و قومه أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 604

أي كيف تقتلون موسى، و هو يقول أمرا لا يضركم؟ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة الواضحة، و هذا الكلام لا ينافي كتمان إيمانه، فإن الخصوم دائما يظهرون فيما بينهم حقائق خصومهم، و يعترفون بمزاياهم و فضائلهم مِنْ رَبِّكُمْ أي من طرف إلهكم و خالقكم، و قد كان حتى فرعون يعترف بالإله في خلواته، و لذا تضرع إليه سبحانه وقت انقطاع النيل وَ إِنْ يَكُ موسى كاذِباً في دعواه النبوة فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أي أن ضرر كذبه يعود إليه، لا إليكم، فإن الكاذب يتضرر من كذبه وَ إِنْ يَكُ صادِقاً فيما يقول يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فإن موسى كان يعدهم بالهلاك و العذاب إن بقوا في كفرهم و طغيانهم، و إنما قال «بعض» تلطفا في الخطاب، و توسعا في الكلام، و كأنه قال، أقل ما في الأمر، أنه يصيبكم بعض ما يقوله موسى من نكال الدنيا و عذاب الآخرة، و معنى «يصيبكم» يصل إليكم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي بالألطاف الخفية الموجبة للسعادة الأبدية مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أي متجاوز في العصيان حدّ المتعارف، أو متجاوز حدود الشريعة كثير الكذب، و قد أراد بهذا، إما فرعون و قومه بمعنى أنكم إذا قتلتم موسى، كنتم من المسرفين الكذابين، الكثيري التكذيب لما يقوله موسى من الأمور المربوطة بالمبدأ و المعاد و الشريعة، و إما موسى عليه السّلام، بأنه إن كان موسى مسرفا كذابا، لم يهده ربه، و قد قال ذلك تأكيدا لقوله «وَ إِنْ

يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 605

[سورة غافر (40): الآيات 29 الى 30]

يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30)

[30] يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ و السلطة في هذا الْيَوْمَ في حال كونكم ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي غالبين عليها، فإن الإنسان صاحب السلطة يكون ظاهرا للناس يعرفوه، و لا يخفى عليهم فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟ من يمنعنا من عذاب الله، إن جاءنا عند قتل موسى، فإن هذا الملك يذهب، و يحلّ محله العذاب، و إنما قال «لكم الملك» إما تذكيرا بالنعيم، في مقابل التخويف بالعذاب، و إما لبيان، أن أصحاب السلطة دائما أقرب إلى سخط الله و نكاله، حيث أنهم يعصون كثيرا، فإذا تجمعت حل بهم العذاب، بخلاف غير أصحاب السلطة، الذين هم بمعزل عن العصيان، فيكون احتمال عقابهم أبعد، و بعد هذا النصح كله قالَ فِرْعَوْنُ القاسي المظلم القلب ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم إلا ما أراه صوابا في رأيي و فكري، فقتل موسى صواب في نظري وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي ما أرشدكم إلّا الطريق الذي هو صحيح، و فيه الرشد و الهداية.

[31] وَ قالَ الَّذِي آمَنَ من قوم فرعون و هو حزقيل يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أيها القوم إن تقدمتم إلى قتل موسى عليه السّلام أن يصيبكم مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي الأحزاب التي عارضت الرسل و كفرت، و لكل حزب يوم، و إنما جمعهم المؤمن، لبيان

أن كل حزب، خالف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 606

[سورة غافر (40): الآيات 31 الى 33]

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)

الرسل، حقت عليه كلمة العذاب، ثم فصل ذلك بقوله.

[32] مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ الدأب العادة، و معنى ذلك، أخاف عليكم، مثل سنة الله في قوم نوح، حيث أغرقهم سبحانه وَ عادٍ قوم هود النبي عليه السّلام وَ ثَمُودَ قوم صالح عليه السّلام وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من الأمم التي كذبت الأنبياء عليهم السّلام وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فلا تفعلوا ما تستحقون الظلم بأنفسكم.

[33] وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ أصله «التنادي» مصدر باب التفاعل، و إنما حذف الياء تخفيفا، و المراد به، إما يوم نزول العذاب، فإن فيه ينادي كل إنسان، صاحبه بالفرار و الحذر، و إما يوم القيامة، حيث ينادي أهل النار أهل الجنة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا) «1» و ينادي أهل الجنة أهل النار (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) «2»؟

[34] يَوْمَ تُوَلُّونَ عن العذاب، فأين منه مُدْبِرِينَ بزعم أن الفرار ينجي من عذاب الله ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي لا يحفظكم من بأس الله أحد، فإذا جاء العذاب، لا يتمكن أن يمنع عنه مانع وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن تركه في الظلمات، حتى يفعل ما يشاء، و قطع عنه الألطاف

______________________________

(1) الأعراف: 51.

(2) المدثر: 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 607

[سورة غافر (40): آية 34]

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ

مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)

الخفية، بعد أن أرشده إلى الطريق، فلم يقبل فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي ليس له أحد يهديه، بأن يفيض عليه من ألطافه الخاصة، فاحذروا أن تكونوا من أولئك الزمرة.

[35] وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب بن إبراهيم عليهم السّلام مِنْ قَبْلُ أي قبل موسى عليه السّلام بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة الواضحة، فقد كان يوسف رسولا إلى أهل مصر، بالإضافة إلى كونه ملكا، و بعد يوسف، امتدت السلطات الخيرة، ثم المتوسطة، ثم الشريرة، حتى وصلت النوبة إلى فرعون، حيث قال «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَما زِلْتُمْ و المراد، لم يزل آباؤهم فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من التوحيد، فقد كان أهل مصر يعبدون الأصنام، في ذلك الزمان، و لذا قال يوسف، لأهل السجن:

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ) «1»؟ حَتَّى إِذا هَلَكَ أي مات يوسف، و هلك يستعمل في مطلق الموت، كما قال سبحانه (كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) «2» و إن كان يتبادر منه- أحيانا- موت السي ء قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كأنكم استرحتم من موت يوسف، كما يستريح المجرم من موت السلطان، إذ يتمكن من إبداء إجرامه، فأنتم- أيها القوم- مسرفون في الكفر و الضلال، قديما و حديثا، فلم هذا الكفر، و لم هذا الضلال؟ كَذلِكَ أي كما ترك

______________________________

(1) يوسف: 40.

(2) القصص: 89.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 608

[سورة غافر (40): آية 35]

الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ

قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

الله سبحانه أسلافكم ضلّالا غير معتن بشأنهم، لمّا لم يؤثر فيهم إرسال الرسول، و إقامة الحجة يُضِلُّ اللَّهُ بترك لطفه عن مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في الكفر و الضلال مُرْتابٌ أي شاك في الله و المعاد و الشريعة، من ارتاب، بمعنى شك.

[36] ثم بين لهم كيف يقطع الله لطفه عن بعض الناس، حتى يتيهون في الضلال و الانحراف الَّذِينَ يُجادِلُونَ أي يعاندون فِي البحث، حول آياتِ اللَّهِ أي أدلته الدالة على وجوده و سائر صفاته بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي حجة أَتاهُمْ ذلك السلطان، من عقل أو نقل، فجادلهم عن الهوى، لا عن الدليل و البرهان كَبُرَ ذلك الجدال مَقْتاً أي من حيث المقت، فإن الغضب على ذلك المجادل كبير عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فالله يلعن المجادل، و المؤمنون يبغضونه كَذلِكَ أي بهذا النحو من الطبع، و هو ختم القلب على الكفر بعد أن جاء الهدى، فجادل بدون الدليل يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فكبره عن الحق و تجبّره في الأرض، أورث، أن ختم الله على قلبه، و قد سبق أن القلب قابل لكل شي ء، فإذا أعرض الإنسان عن الحق إلى الباطل، يستمر إيحاء الباطل على قلبه في كل مناسبة، حتى يكون الباطل ملكة له، فلا يقبل الهدى أبدا، لا بالاضطرار، و إنما بالاختيار و النفرة عن الحق عنادا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 609

[سورة غافر (40): الآيات 36 الى 37]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)

[37] وَ

قالَ فِرْعَوْنُ بعد أن سمع مواعظ حزقيل، و كأنّ هناك كان مجلس حوار بين حزقيل، و بين القوم يا هامانُ و هو وزير فرعون ابْنِ لِي صَرْحاً أي قصرا مشيدا عاليا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ بأن أصعد عليه، و أنظر هناك في ملكوت السماوات.

[38] ثم فسر «الأسباب» بقوله أَسْبابَ السَّماواتِ أي أسباب الاطلاع على السماوات، و ما فيها! فكما أن أسباب العز «السيارة» و أمثالها، كذلك أسباب الاطلاع على السماوات «المرتقى العالي» و «المجهر» و ما أشبه، فإذا بني بعضه كان الرجاء أن يبلغ فَأَطَّلِعَ بالنصب لأنه جواب بالفاء، أي إذا بلغت اطلعت إِلى إِلهِ مُوسى و قد قصد بهذا التمويه على الناس العوام، بأنه إن كان موسى صادقا، في أن له إلها خلق السماوات، فإني قادر على الاطلاع عليه و محاربته وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ أي أظن موسى كاذِباً و قد أراد بهذا الخداع للناس، في أنه منصف مع موسى، حتى يتورع أن يقال أنه علم كذبه، بل يريد الاستطلاع هل صدق موسى أم كذب؟ و إن كان ظنه أنه كاذب.

ثم قال سبحانه وَ كَذلِكَ أي كما زيّن لهؤلاء الكفار أعمالهم السيئة، أو كما ذكر من حكاية أعمال فرعون و أقواله زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ و المزين هو نفسه، أو الشيطان سُوءُ عَمَلِهِ أي رأى عمله السي ء حسنا وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أي منع عن طريق الهداية و المانع له هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 610

[سورة غافر (40): الآيات 38 الى 40]

وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً

مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)

الشيطان، أو نفسه الأمارة بالسوء وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ و مكره الذي عمله لإطفاء نور موسى إِلَّا فِي تَبابٍ أي هلاك و خسارة و اضمحلال، من «تبّ» بمعنى هلك و خسر، فلم ينفع كيده، لإطفاء نور موسى عليه السّلام.

[39] و لما رأى حزقيل إصرار القوم على ضلالهم، ألقى عليهم نصيحته الأخيرة وَ قالَ الَّذِي آمَنَ من قوم فرعون، و كان يكتم إيمانه يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ حذف ياء المتكلم تخفيفا، و بقيت الكسرة، دليلا عليه أَهْدِكُمْ جزم الفعل، لأنه في جواب الأمر، أي إن تتبعوني أهدكم سَبِيلَ الرَّشادِ، أي طريق الرشد، و المراد اتبعوا كلامي، فإن فيه الهداية و الرشد.

[40] يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا أي الحياة القريبة، و «دنيا» مؤنث «أدنى» مَتاعٌ أي مورد انتفاع قليل، ثم يزول عن قريب وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ التي يستقر فيها الإنسان، أبد الآبدين، فلا تبيعوا آخرتكم بدنياكم، لتزول الدنيا عن أيديكم بعد قليل، و تخسروا الآخرة.

[41] مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أي مثل تلك السيئة، بلا زيادة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 611

[سورة غافر (40): آية 41]

وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)

عليها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ مصدق بالله و رسله، و اليوم الآخر، بأن صحت عقيدته و عمله فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ جزاء لإيمانهم و تصديقهم، و عملهم الصالح يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ فلا يعدّ ما يعطون من الأجر و الثواب، و إن كان كل شي ء عنده بحساب و عدّ، لا يغيب عن علمه شي ء، فآمنوا

و اعملوا الصالحات، أيها القوم، حتى تنالوا ذلك الثواب العظيم، و لا تكفروا حتى تدخلوا في النار- و قوله، فلا يجزى إلا مثلها، لبيان لطفه سبحانه، و للمقابلة، و إلا فلم تكن هذه الخصوصية في معرض الكلام-.

[42] وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ؟ «ما لي» كان في الأصل استفهاما عن النفع العائد إلى الشخص، ثم استعمل في كل استفهام، بعلاقة، الجزئي و الكلي، كما يقال: ما لي أراك حزينا؟ أي لماذا تحزن، و المعنى، أخبروني كيف صرتم هكذا حتى إني أدعوكم إلى ما فيه نجاتكم من عذاب الدنيا و الآخرة وَ أنتم تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ بأن أشرك بالله، و أعصي حتى أستحق النار، و كأن المؤمن خرج هنا من كتم الإيمان، و جعل يحاورهم بصفته مؤمنا، و لذا قال سبحانه «فوقاه الله» كأنهم أرادوا قتله لما علموا إيمانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 612

[سورة غافر (40): الآيات 42 الى 44]

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)

[43] ثم بين دعوتهم له بقوله تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بأن لا أعتقد بوحدانيته وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي أجعل الصنم- الذي لا علم لي بكونه إلها- شريكا لله تعالى، و قوله «ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فإن من علم أن شيئا ليس بإله، فإنه لا يعلم ألوهيته، و

لعل الإتيان بهذا التعبير، لعدم جرح عواطفهم، حتى يتألبون عليه وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الغالب في سلطانه، لا كالصنم الذي لا حول له و لا قوة الْغَفَّارِ فإنكم إذا آمنتم به غفر ذنوبكم.

[44] لا جَرَمَ «جرم» بمعنى قطع، و يستعمل مع «لا» بمعنى حقا، لأن الحق لا قطع فيه عن الواقع، كالكذب الذي فيه قطع عن الواقع إلى الخيال و الوهم أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الأصنام لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا فإنها لا تدعو أحدا لا في الدنيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ بل الله هو الداعي إلى عبادته و طاعته، أو المراد أنه لا يستجيب دعوة الداعي، لا في الدنيا، و لا في الآخرة، فأي نفع في عبادته وَ أَنَّ مَرَدَّنا أي رجوعنا، مصدر ميمي، من «ردّ» بمعنى رجع إِلَى اللَّهِ فكيف نترك طاعته و رجوعنا إليه؟ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا في الكفر و العصيان، و تجاوزوا الحدّ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها.

[45] ثم هددهم، بأنهم إن لم يقبلوا كلامه يأتيهم يوم يذكرون فيه مقالته

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 613

[سورة غافر (40): الآيات 45 الى 46]

فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)

حيث لا ينفعهم التذكر فَسَتَذْكُرُونَ أيها القوم ما أَقُولُ لَكُمْ من النصائح يوم يأخذكم العذاب، أو يوم القيامة وَ أما أنا، ف أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي أكل أموري إليه حتى لا يمسني السوء منكم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فهو يبصرني و يتمكن على نجاتي.

[46] و قد أراد القوم به سوء، إذ همّ فرعون بقتله، لكن الرجل، فرّ من

بين أيديهم إلى جبل فَوَقاهُ اللَّهُ أي حفظه الله من سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا فإن مكرهم، كان يشتمل على نتائج سيئة من قتله و ما يلازم القتل من الإيذاء و الإهانة و ما أشبه وَ حاقَ أي أحاط و حل بِآلِ فِرْعَوْنَ و المراد هو و آله، فقد ذكرنا سابقا، أنه قد يقال «آل- فلان» و يراد هو و آله سُوءُ الْعَذابِ بالغرق في البحر في الدنيا.

[47] و ما في البرزخ، ف النَّارُ يُعْرَضُونَ أي آل فرعون عَلَيْها على النار غُدُوًّا صباحا وَ عَشِيًّا عصرا، بأن يعذبون كل يوم مرتين، مقابل المؤمنين، الذين لهم رزقهم بكرة و عشيا، و هذا عذاب برزخهم وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي إذا قامت القيامة، يقال للملائكة الموكلين بهم أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أي هو و آله أَشَدَّ أنواع الْعَذابِ لكفرهم و طغيانهم، فقد نتج تمردهم تعذيبهم في العوالم الثلاثة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 614

[سورة غافر (40): الآيات 47 الى 49]

وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49)

[48] و بمناسبة الحديث، عن عمل فرعون و اتباع قومه له، بدون تبصر و اهتداء، يأتي السياق لنقل جملة من حوار أهل النار وَ اذكر يا رسول الله إِذْ يَتَحاجُّونَ أي يتخاصم الرؤساء و الأتباع فِي النَّارِ في الآخرة فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ عقيدة و إمكانية، و هم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا من القادة و الرؤساء، أي تكبروا عن قبول الحق إِنَّا كُنَّا لَكُمْ معاشر الرؤساء

تَبَعاً جمع تابع، كخدم جمع خادم، أو مصدر من قبيل «زيد عدل»، فقد كنا نسمع أوامركم، ضد الدين و الشريعة فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا أي دافعون عنا نَصِيباً و قسما مِنَ النَّارِ التي أحاطت بنا؟

[49] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في جواب الضعفاء إِنَّا كُلٌ أي كل واحد منا و منكم فِيها أي في النار، فلسنا خالين من العذاب، حتى نتحمل بعض عذابكم إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ بأن يتحمل كل جزاء ما عمله من شرك و عصيان.

[50] ثم إنهم يتوجهون إلى الملائكة الذين هم موكلون بالنار وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ بصورة عامة، من الأتباع و المتبوعين لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 615

[سورة غافر (40): الآيات 50 الى 51]

قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)

خازن، و هو الحافظ، و المراد بهم الملائكة، الذين يتولون أمور أهل جهنم ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ حتى نستريح، و لو قليلا، و إنما يقولون ذلك لأنهم لا يطمعون في انقطاع العذاب.

[51] قالُوا أي قال الخزنة في جوابهم أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج القاطعة الواضحة، ثم عاندتم و لم تقبلوا قالُوا أهل النار في الجواب بَلى جاءونا، فلم نقبل قالُوا أي قالت الخزنة لهم بعد هذا الاعتراف فَادْعُوا أنتم، حتى يخفف الله عنكم، فإنّا لا ندعو و ذلك لعلم الخزنة، بأن الدعاء لا يفيد وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي ضياع و بطلان، فلا تفيد دعوتهم شيئا.

[52] ثم يرجع السياق إلى

قصة الرسل، و من يعاندهم إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كما نصر سبحانه، حيث نرى، أنّ الدين واضح ظاهر، بينما معاندوا الأديان، ليس لهم إلا الخسران، و قد نصر سبحانه، عيسى، و موسى، و محمدا، و إبراهيم، و غيرهم، من الرسل عليهم السّلام بالأتباع الكثيرين، و علوّ الاسم و الاحترام، ففي دنيا اليوم، و نفوسها «ثلاثة آلاف مليون و خمسة عشر مليونا» «1» أكثر من

______________________________

(1) كان ذلك في وقت كتابة الكتاب أما الآن فنفوس العالم أكثر من ذلك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 616

[سورة غافر (40): الآيات 52 الى 53]

يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53)

ثلثي العالم متدينون، و هل النصرة فوق هذا؟ و هل كان مقصد الرسل و المؤمنين بهم أكثر من هذا؟، أما من يتصور أن النصرة معناها، أن لا يقتل الرسول- أو المؤمنون به في ساحة حرب، و أن لا يهان، فقد اشتبه، ألا ترى أنه يقال: انتصرت الدولة الفلانية على الدولة الفلانية، و إن ذهب شبابها ضحايا، و أموالها نهبا، حين لم تسقط، و لم يستول عليها الأجنبي، و لم تمح عن الخارطة؟ وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ جمع شاهد، كأصحاب و صاحب، و المراد يوم القيامة، و هم الذين يشهدون على الناس، بالإيمان و الكفر و الإطاعة و العصيان.

[53] ثم بين وصفا لذلك اليوم، يناسب حال الكفار- الذين كان الكلام حولهم- يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أي أن اعتذارهم من الكفر و العصيان، لا يفيدهم في دفع العذاب عنهم، و ليس كالدنيا حيث ينفع المعتذر عذره وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ

أي البعد و الطرد عن رحمة الله و فضله وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي الدار السيئة، من إضافة الصفة إلى الموصوف.

[54] وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْهُدى أي الهداية، التي بها يهدي الناس إلى الحق- و هذا رجوع إلى قصة موسى عليه السّلام، التي سبقت، و تسلية للمؤمنين بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي أعطينا التوراة إرثا لهم، باعتبار الكتب السابقة، فكأن كتاب الله الذي فيه شريعته شي ء واحد، يتوارثه المؤمنون جيلا بعد جيل، و إن كان ذا قوالب متعددة، كالتوراة و الإنجيل و القرآن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 617

[سورة غافر (40): الآيات 54 الى 55]

هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (55)

[55] هُدىً أي لأجل هدايتهم إلى الحق و إرشادهم طريق السعادة وَ ذِكْرى أي و لأن يكون مذكرا بالله و برسله و بالمعاد- مما يكمن في فطرة كل إنسان، بصورة إجمالية- لِأُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول جمع لب، و هو العقل.

[56] فَاصْبِرْ يا رسول الله على أذى قومك، فإن مصيرك و مصير المؤمنين، كمصير موسى، الذي غلب على فرعون، و مصير بني إسرائيل، الذين علا كعبهم على أعدائهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك، و إهلاك الكفار حَقٌ مطابق للواقع، لا كذب فيه، وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فإن الأنبياء كانوا يعدّون اشتغالهم بالأمور الدنيوية الضرورية ذنبا، ألا ترى، أن من أصابه وجع الرجل، حتى لا يتمكن من جمعها، إذا اضطر إلى أن يبسطها في مجلس أمام أناس محترمين، اعتذر منهم، و طلب عفوهم؟ مع أن عمله ذاك ضروري ليس باختياره، و هكذا

أشغال الأنبياء الدنيوية، أمام الله سبحانه، و إن كانوا مضطرين إليها كل اضطرار تقويما للبدن، فإنه بنظرهم ذنب، أمام الله الذي ينبغي أن لا يشغل عنه الإنسان، و لو طرفة عين، و هناك قول، بأن الآية على طريقة «إياك أعني و اسمعي يا جارة» وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه بالحمد، فإن الإنسان إذا أثنى على الله بالعلم مثلا، كان حمدا و تنزيها عن الجهل، في آن واحد بِالْعَشِيِ و هو من زوال الشمس إلى الليل وَ الْإِبْكارِ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و المراد الاستمرار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 618

[سورة غافر (40): الآيات 56 الى 57]

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)

على الاستغفار و التسبيح.

[57] إِنَ الكفار الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي يخاصمون الرسول و المؤمنين في إبطال آيات الله و أدلته الكونية، و خوارق الأنبياء بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي بغير دليل أَتاهُمْ من عقل، أو شرع، و إنما يجادلون عبثا و اعتباطا بعد ما تم عليهم الحجة إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ أي ليس احتجاجهم، و خصامهم، إلا لأجل أن في صدورهم، تكبرا عن قبول الحق، و لكن ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي لا يبلغون ما يريدون من العظمة التي تمنعهم عن قبول الحق، فإن الله سبحانه يذلّهم، حتى لا يبلغوا كبرياءهم، و من غريب الأمر، أن الإنسان يرى كل متكبر عن الحق هكذا أنه يظن إن هو قبل الحق يهان، و يجرح كبرياءه، فلا يقبل، بل يتكبر، زعما بأنه،

إن فعل ذلك يصل إلى عظمة، و ارتفاع في المجتمع، و الأمر دائما خلاف ذلك، فالحق يعلو، و المتكبر يذل فَاسْتَعِذْ يا رسول الله بِاللَّهِ من شر هؤلاء الكفار المتكبرين، أو من الابتلاء، بمثل هذا النحو من الكبر الصادف عن الحق إِنَّهُ تعالى هُوَ السَّمِيعُ لقولك و استعاذتك الْبَصِيرُ بما يجول في خاطرك، و ما أنت عليه من الخضوع للحق، و القبول له.

[58] و كيف يتكبر هؤلاء الكفار، و هم يرون حولهم السماوات و الأرض، و خلقهما، أكبر من خلقهم؟ و الإنسان العاقل، إذ رأى نفسه وسط هذا الكون الفسيح، لا بد و أن يتضاءل، و يعترف بصغر نفسه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 619

[سورة غافر (40): الآيات 58 الى 59]

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لا الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)

لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بما فيهما من عجيب الصنع، و صفوف الخلق أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ و لعل التعبير بأكبر، لأن خلق الإنسان أدق، و لذا لما خلق الله الإنسان، قال: (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) «1» وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك لأنهم لا يتفكرون، و الإنسان إذا لم يتفكر في الكون يغتر بنفسه و يتكبر.

[59] إن الكفار كالأعمى، حيث أغلقوا بصائرهم عن الإدراك، و التفكر، و المؤمنين كالبصير، لأنهم فتحوا منافذ عقولهم، فأدركوا الحقائق وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ كما هو واضح لكل ذي عقل وَ لا يستوي الَّذِينَ آمَنُوا بالله و اليوم الآخر، و ما يلزم الإيمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة وَ لَا الْمُسِي ءُ الذي أساء

بالكفر و العصيان قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ «ما» مصدرية، أي قليل تذكرهم لهذه الحقيقة، و هي عدم استواء الكافر و المؤمن، و المحسن و المسي ء، أو أن «ما» مصدرية، أي قليل تذكرهم لهذه الحقيقة، و هي عدم استواء الكافر و المؤمن، و المحسن و المسي ء، أو أن «ما» تأكيدية.

[60] إِنَّ السَّاعَةَ أي القيامة لَآتِيَةٌ تأتي قطعا لا رَيْبَ فِيها أي

______________________________

(1) المؤمنون: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 620

[سورة غافر (40): آية 60]

وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)

ليست محل ارتياب، و إن ارتاب فيها المبطلون، و هذا كما نقول «لا شك أن هذه شمس» و إن شك فيها السوفسطائيون وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بإتيان الساعة لكفرهم، أو عدم رسوخ الإيمان في أعماقهم.

[61] و إذ جرى حديث الإيمان و المتكبرين عن قبوله، يأتي السياق لتوجيه الناس إلى الله سبحانه بالدعاء و الضراعة إليه، و أن من تكبر عنه، فجزاؤه النار، فالإيمان و الدعاء، كلاهما توجه إلى الله، و الاستكبار عن الإيمان و عن الدعاء كلاهما ابتعاد عنه، و هنا مناسبة أخرى، أن لا ييأس الكافر و العاصي، فإن أبواب الدعاء بطلب التوبة و نحوه مفتوحة وَ قالَ رَبُّكُمُ أيها الناس ادْعُونِي اطلبوا حوائجكم، صغيرها و كبيرها أَسْتَجِبْ لَكُمْ «استجب» مجزوم جوابا للأمر، أي إن تدعوني، أستجب لكم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي و من جملتهم من يستكبر عن الدعاء، إذ الدعاء قسم من العبادة، فإن العبادة اعتراف الإنسان بسيادة الله، و العمل طبقه، و الدعاء قسم منه سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ في الآخرة، و لذا جي ء، ب «السين» داخِرِينَ من دخر، بمعنى ذل و صغر، و هم صاغرون،

في مقابل تكبرهم، في الدنيا عن الدعاء، و لا يقال: كيف قال سبحانه «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» و إنّا نرى أن كثيرا من الأدعية لا تستجاب؟ فإن الجواب، أن القضية طبيعية، أي أن من طبيعة الدعاء أن يستجاب، كسائر القضايا، فلو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 621

[سورة غافر (40): آية 61]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61)

قلنا: الشمس مشرقة أو النار محرقة، أو العقار الفلاني مقوي، أو ما أشبه، لم يناف مع عدم إشراق الشمس وقت الكسوف، أو عدم إحراق النار إذا لم يشأ الله، كنار إبراهيم، أو عدم تقوية العقار في بدن بلغ من الضعف إلى حيث لا يتمكن من هضم العقار، و هكذا في سائر القضايا، فإن الملحوظ، في أمثالها الطبيعة، لا كل فرد، و الطبيعة قد يمنع عنها مانع، أو عدم تمامية المقتضى، و قد قال سبحانه (وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) «1»، فمن لم يف بعهده سبحانه، بأن ارتكب الكفر و العصيان، لم يكن عليه سبحانه، أن يفي بما عهد، و كذا قال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «2» فمن لم يتق، لم يكن لدعائه، قبول و استجابة .. و لا يقال: إنا لا نرى الفرق البين بين الداعي و غيره، فلكل منهما مشاكل و لكل منهما سعادة؟ إذ الجواب أنه منقوض بمن يقول: إنا لا نرى فرقا بين من يراجع الطبيب، و بين من لا يراجع، فإن لكليهما صحة حينا و مرض حينا آخر، و الحلّ: إنا نرى الفرق شاسعا، فالداعون، أسعد هناء عيشا، و أقل مشكلة من غيرهم، و هذا يعلم، عند المقايسة

الدقيقة، كما هو الجواب عن مثال مراجع الطبيب و غيره.

[62] ثم بين سبحانه جملة من الآيات الكونية، الملفتة إلى وجوده تعالى، و سائر صفاته اللَّهُ وحده، هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ معاشر البشر اللَّيْلَ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، أو إلى طلوع الشمس لِتَسْكُنُوا و تستريحوا، من الأتعاب فِيهِ بالنوم و الراحة

______________________________

(1) البقرة: 41.

(2) المائدة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 622

[سورة غافر (40): الآيات 62 الى 63]

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)

وَ جعل لكم النَّهارَ مُبْصِراً أي موجبا، لأن تبصرون فيه حوائجكم و سبلكم، فتشتغلوا و تسيروا إلى مآربكم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يتفضل عليهم بأنواع النعم، بدون استحقاق منهم وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ نعمه و فضله، بل يجحدون بها و يكفرون به.

[63] ذلِكُمُ ذا إشارة إلى الله سبحانه، جاعل تلك الآيات المذكورة، و «كم» خطاب للسامعين اللَّهُ رَبُّكُمْ أيها البشر خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ، فهو بالإضافة إلى جعله تلك الأمور، و كونه ربا لكم، خالق لكل شي ء موجود في الكون لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له من صنم، أو بشر أو ملك أو غيرها، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي إلى أين تصرفون أيها المشركون حيث تتخذون مع الله شريكا له؟ من أفك بمعنى انصرف و قلّب الأمر، و لذا يسمى الكذب إفكا.

[64] كَذلِكَ أي كما أفك هؤلاء بالشرك بالله، بعد رؤية الآيات يُؤْفَكُ و يصرف عن الحق الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ من الأمم السابقة، فكل جاحد للآيات الكونية، لا بد و أن يصرف عن التوحيد إلى الشرك، و الذي يأفك هؤلاء نفوسهم الأمارة، و رؤساؤهم

الكافرون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 623

[سورة غافر (40): آية 64]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)

[65] اللَّهُ وحده، هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أي تستقرون عليها وَ جعل السَّماءَ بِناءً أي بناها بناء، و المراد بالسماء الأفلاك و الهواء، التي قد أحكمت إحكاما دقيقا، و إن لم يكن جسما ملموسا، حتى إن هذا الإحكام لو أزيل، لاختلت الحياة، و اضطربت الأرض و الكون وَ صَوَّرَكُمْ أي أعطاكم الله الصور أيها البشر فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي أجملها و زينها، و المراد بالصورة هنا أعم من الشكل و اللون و الحجم، فإن الصورة تطلق على ذلك، كما تطلق على اللون فقط، أو الشكل فقط، أو الحجم و الكيفية فقط وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ التي خلقها من ماء عذب، و أثمار شهية و ألبان و عسل و سائر المطاعم، بل و المشارب و المساكن و المناكح و العلوم و غيرها، فإن الجميع داخلة في الرزق، و المراد بهاتين القضيتين، كغالب القضايا الطبيعية، فلا ينافي ذلك عدم حسن صورة بعض الأفراد، أو عدم رزقهم الطيب طيلة عمرهم ذلِكُمُ «ذا» إشارة إليه سبحانه الذي فعل ما تقدم و «كم» خطاب للبشر اللَّهُ رَبُّكُمْ أيها البشر، و لا شريك له في ذلك فَتَبارَكَ اللَّهُ أي جلّ سبحانه، فإنه الدائم الذي ينمي الأشياء، و يجعل فيها الخير و البركة- و قد تقدم معنى تبارك- رَبُّ الْعالَمِينَ عالم الإنسان و الملائكة و الحيوان و الجن و غيرهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 624

[سورة غافر (40): الآيات 65 الى 66]

هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ

فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66)

[66] إن الذي أنعم عليكم بهذه النعم هُوَ الْحَيُ المطلق الذي لا موت له لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له و لا ظهير فَادْعُوهُ أيها البشر مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي دعوة بإخلاص في دينكم و طريقتكم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فإن له الحمد وحده، حيث أن كل شي ء محمود منه، لا يشركه فيها أحد، و اللام في الحمد للجنس، أي أن جنس الحمد له، أما من جعل اللام للاستغراق، فقد ابتعد عن سياق الكلام.

[67] قُلْ يا رسول الله، لهؤلاء الكفار إِنِّي نُهِيتُ نهاني الله سبحانه أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام التي تدعونها آلهة و هي سوى الله سبحانه لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحات على التوحيد، أي حين أتاني الحجج و البراهين مِنْ رَبِّي أي من قبله سبحانه، و ذلك الحين قبل خلق آدم، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين»

«1» فلا تدل هذه الآية على أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قبل نزول القرآن، غير عارف ببعض المعارف وَ أُمِرْتُ من قبله تعالى أَنْ أُسْلِمَ في جميع أعمالي و عقائدي لِرَبِّ الْعالَمِينَ الذي يملك العوالم كلها، و هو المدبر و المربي الوحيد لها، و الإسلام هو

______________________________

(1) مفتاح الفلاح: ص 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 625

[سورة غافر (40): الآيات 67 الى 68]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ

ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

الاستسلام و الانقياد.

[68] هُوَ الله تعالى وحده الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها البشر مِنْ تُرابٍ فإن الإنسان تراب، ثم يكون نباتا، و النبات يأكله الحيوان، فيكون لحما و قسما من اللحم و قسما من التراب يأكله معا الإنسان، فيكون دما في جسمه ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الدم ينقلب منيا، و هو النطفة ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ و هو المنى المتحول إلى علقة من الدم ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا و المراد، كل واحد منكم طفلا، فلا تنافي بين الإتيان، ب «كم» جمعا، و ب «طفلا» مفردا ثُمَ يبقيكم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و هو حال استكمال القوة و الشباب ثُمَ يبقيكم لِتَكُونُوا شُيُوخاً جمع شيخ، و هو الكبير السن، البالغ عمر الشيخوخة و الضعف وَ مِنْكُمْ أيها البشر مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أن يبلغ سن الشباب أو الشيوخ و يموت بعضكم قبل ذلك، وَ يفعل الله ذلك بكم لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي المدة التي سميت في اللوح المحفوظ، فإن الله سبحانه، قدر لكل إنسان أجلا محدودا لا يتجاوزه وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي و لكي تتفكروا و تعقلوا أمر دينكم، فإن خلق الإنسان، و إبلاغه الأجل المسمّى إنما هو للتعقل و التفكر.

[69] و هُوَ الله الَّذِي يُحْيِي الناس من التراب، ثم يحييهم بعد موتهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 626

[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 71]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ

الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)

ليوم القيامة وَ يُمِيتُ الإنسان بعد حياته فَإِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ لفظا، أو إرادة فَيَكُونُ و يوجد في الخارج، و هذا لدفع استبعاد الحياة بعد الموت، فإن الله الذي تمكن من خلق الإنسان، يتمكن من إعادته بعد الموت.

[70] أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو أيها الرائي إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي المشركين الذين يريدون إبطال الآيات و الحجج الدالة على وجود الله و صفاته، و يوم القيامة أَنَّى يُصْرَفُونَ أي إلى أين من الضلال، يصرفهم الشيطان و أنفسهم الكافرة.

[71] الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بأن لم يؤمنوا بالقرآن، و نسبوه إلى الكذب وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من الشرائع و الأحكام، بأن لم يقبلوا ما جاء به الأنبياء من الأصول و الأحكام فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ في القيامة، عاقبة تكذيبهم بالكتاب، و بالشريعة.

[72] إِذِ ظرف ل «يعلمون» أي يعلمون سوء أعمالهم حين تكون الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ كما يغل المجرم في الدنيا، و الغل في العنق، إما للإهانة و الألم، و إما للربط وَ السَّلاسِلُ في أعناقهم يُسْحَبُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 627

[سورة غافر (40): الآيات 72 الى 74]

فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74)

أي يجرّون، و الأغلال جمع غل، و هو طوق يدخل في العنق، و السلاسل جمع سلسلة، و هي حلق حديدية متشابكة يربط بها المجرم.

[73] فِي الْحَمِيمِ متعلق ب «يسحبون» أي يجرون في المحل الحار المنتهي حرارته غايتها ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ من سجّر

التنور، إذا أوقده، و لعل المعنى يكونون وقودا في النار، حتى تشعل النار بهم، كما قال سبحانه (وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ) «1».

[74] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ تقول لهم الملائكة الموكلة بالنار، على وجه الإهانة و الإذلال أَيْنَ ذهبت ما كُنْتُمْ أي الأصنام التي كنتم تُشْرِكُونَ أي تجعلونها شريكة لله سبحانه؟

[75] مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق ب «تشركون» فإنهم لما كانوا يعبدون الله، و يعبدون الأصنام، استثنى «الله» سبحانه قالُوا أي المشركون في الجواب ضَلُّوا عَنَّا أي ضاعوا عنا، و لا نجدهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ في الدنيا شَيْئاً، و هذا إما يقولونه إنكارا، لعلهم يتخلصون بهذا الإنكار، من تبعة عبادة الأصنام، كما في آية أخرى يقولون (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «2» و إما أن مرادهم، أن ما كنا ندعوا

______________________________

(1) البقرة: 25.

(2) الأنعام: 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 628

[سورة غافر (40): الآيات 75 الى 76]

ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)

في الدنيا، لم يكن شيئا يستحق العبادة، و ينفع أو يضر، نحو

«يا أشباه الرجال و لا رجال»

فقد نفوا الذات مريدين نفي الصفة كَذلِكَ أي كما أبطل الله سبحانه عبادة هؤلاء للأصنام يُضِلُّ اللَّهُ سائر الْكافِرِينَ فلا يهديهم طريق الجنة، و يبطل عبادتهم و أعمالهم، أو المعنى يضلهم في الدنيا، بأن يتركهم و شأنهم، حين رآهم لم يقبلوا الهدى، فلا يلطف بهم الألطاف الخفية، حتى يعملوا ما ينتفعون به في الآخرة.

[76] ذلِكُمْ «ذا» إشارة إلى العذاب الذي يحيط بهم، و «كم» خطاب بسبب ما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ بأن كنتم تبطرون و تتكبرون بالأعمال الإجرامية وَ بِما

كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ من مرح، و هو الفرح بالباطل بتوسع فهو أخص من الفرح، و هكذا يكون المجرمون دائما، إن فرحهم بالباطل، و هم يوسعون في الفرح، بخلاف المؤمنين الذين فرحهم بالحق، و هم يفرحون بقدر، حيث يعلمون أن وراءهم يوما مهولا، كما قال الله (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) «1».

[77] ادْخُلُوا أيها الكفار أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي من أبوابها السبعة، كل فوج، حسب بابه و أعماله في حال كونكم خالِدِينَ فِيها إلى الأبد، لا انقطاع لعذابها، و لا خلاص لكم منها فَبِئْسَ مَثْوَى من «ثوى»

______________________________

(1) القصص: 77.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 629

[سورة غافر (40): الآيات 77 الى 78]

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

بمعنى اتخذ المحل، أي المنزل الْمُتَكَبِّرِينَ الذين تكبروا عن قبول الحق، و الظاهر أن هذا الكلام تأكيد للكلام السابق، و هو «يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون» لا إنّ ذلك، كان قبل دخولهم جهنم، و إن كان محتملا، بأن يكون هناك أنهر من المياه الحارة، و الأودية النارية، فيسحبون أولا، في تلك المياه، و يعذبون بتلك النار، ثم يدخلون في النار.

[78] ثم يرجع السياق إلى الرسول ليصبّره عما يلاقي من الأذى في سبيل البلاغ فَاصْبِرْ يا رسول الله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ لك بالنصر و الأجر و لأولئك بالعذاب و الإذلال و الانهزام حَقٌ لا خلف فيه فَإِمَّا أصله «إن» الشرطية، و «ما» الزائدة نُرِيَنَّكَ يا رسول

الله بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فإن الله وعدهم عذاب الدنيا و الآخرة، و المراد بالبعض عذاب الدنيا أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ بأن نقبض روحك قبل تعذيبهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ في الآخرة، لنعذبهم العذاب الشديد، و ليس من المهم عذابهم هنا، حتى يحتم أن تراه، و إنما المهم أنهم لا يفوتوننا، و معنى «إلينا» إلى حكمنا و عقابنا.

[79] و قد كان الكفار يطلبون من الرسول، أن يأتيهم بالخوارق، كعصا موسى، و إحياء عيسى، فيأتي السياق، لردّ هذا الطلب، فقد أتى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقرآن الذي هو أعظم الخوارق حجة و دليلا، فمن كفر بعد ذلك، فهو معاند، أما الإتيان، بسائر الآيات، فذلك حسب إرادة الله، إن شاء جاء بها و إن لم يشأ لم يأت- بعد أن تمت الحجة- أما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 630

[سورة غافر (40): آية 79]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (79)

الخوارق لإثبات وجود الله سبحانه، فهي الآيات الكونية المثبوتة، في كل جهة من جهات الكون وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أحوالهم، كإبراهيم، و نوح، و موسى، و عيسى، و لوط، و يونس، و غيرهم وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أحوالهم، كسائر الأنبياء عليهم السّلام، بل الأكثر منهم، لم تقص أحوالهم في القرآن- و ليس المهم القصة- وَ إنما المهم أنه ما كانَ لِرَسُولٍ أي لم يكن حسب مقدوره أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ أي بمعجزة خارقة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بأن يأذن اللّه للرسول حتى يتمكن أن يؤتي بها فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بهلاك القوم، بعد أن أتاهم الرسول بالخارقة، و لم يؤمنوا قُضِيَ عليهم بالهلاك و الدمار بِالْحَقِ بسبب

أنهم عاندوا فاستحقوا العقاب وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ خسروا دينهم و دنياهم، و في هذا تلميح، بأنه إنما لا يؤذن للرسول بالخارقة، لأنه إن جاءهم بالخارقة و لم يقبلوا استحقوا العقاب، و الله سبحانه لا يشاء عقاب هؤلاء بهذه العجالة.

[80] ثم يأتي السياق، ليذكر جملة من الآيات الكونية، الدالة على وجوده تعالى و صفاته، و التي هي أحسن من الخارقة الموقتة، ألا ترى أنه لو صنع إنسان صنعا، هل يحتاج بعد ذلك أن يأتي بدليل على وجوده،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 631

[سورة غافر (40): الآيات 80 الى 81]

وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

أو علمه، بمجي ء خارق؟ اللَّهُ وحده هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ أي خلقها لكم، و المراد بالأنعام، الإبل و البقر و الغنم لِتَرْكَبُوا مِنْها أي بعضها و هي الإبل وَ مِنْها أي من جميعها تَأْكُلُونَ لبنا و لحما.

[81] وَ لَكُمْ أيها الناس فِيها مَنافِعُ من جهة الصوف و الشعر و الوبر، و حمل الأثقال، و غير ذلك وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بأن تركبوها لمقاصد بعيدة، و الوصول إليها حاجة في صدوركم، و هذا أخص من الركوب، الذي سبق في الآية المتقدمة، فإن الركوب أعم من ذلك، و أهمية هذا القسم من الركوب، هي التي أوجبت تخصيصها بالذكر، و قوله «لتبلغوا» عطف على «لتركبوا» وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ الأنعام للبر، و الفلك، و هي «السفينة» للبحر، و تكرار «عليها» تمهيد ل «على الفلك» فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ و هل يحتاج الإنسان بعد ذلك إلى خارقة للبرهنة على وجود

الله، أو صفاته؟

[82] وَ يُرِيكُمْ الله سائر آياتِهِ و أدلته الدالة على وجوده، و سائر صفاته، من الآيات الآفاقية و الأنفسية، إما بخلق جديد، أو بإلفاتكم إلى المخلوق السابق فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أيها البشر، تنكرون وجودها، أو دلالتها على الله المتصف بالعلم و القدرة، و سائر الصفات؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 632

[سورة غافر (40): الآيات 82 الى 83]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)

[83] و بعد الاحتجاج على الكفار بصنوف الاستدلال لتهديدهم، إن تمادوا في الغي و الضلال، و إنه يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة، لما تمادوا في الكفر و الطغيان أَ فَلَمْ يَسِيرُوا أي يسافروا هؤلاء الكافرين فِي الْأَرْضِ إلى الشام و إلى اليمن فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة، و النظر إنما هو بالنظر إلى أراضيهم و طلالهم، و السؤال عن أحوالهم، من الساكنين هناك كانُوا أولئك الأمم أَكْثَرَ مِنْهُمْ عددا وَ أَشَدَّ قُوَّةً بدنية و علمية و غيرهما وَ أكثر آثاراً فِي الْأَرْضِ بالزراعة و العمارة و الصناعة، و نحوها فَما أَغْنى عَنْهُمْ أي ما أفادهم في دفع العذاب عنهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ما كسبوه من البنيان و العمارة و الأموال و القوى، و غيرها.

[84] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة البينة الواضحة، الدالة على وجود الله، و سائر صفاته فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي فرح الكفار بعلمهم الوراثي التقليدي حول الأصول، و استحقروا علم

الرسل وَ استهزءوا بما أتت به الرسل، ف حاقَ أي حل و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب، فقد كان الكفار يستهزءون بما يعدهم الرسل من العذاب، و أخيرا وقعوا فيه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 633

[سورة غافر (40): الآيات 84 الى 85]

فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)

[85] فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي عذابنا النازل بهم قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ لا شريك، كما قال الرسل وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أي بالأصنام التي كنا نشركها بالله.

[86] فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا و عذابنا، كما قال سبحانه (وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) «1» سُنَّتَ اللَّهِ أي سنّ الله عدم قبول إيمان من نزل به العذاب سنّة الَّتِي قَدْ خَلَتْ و سبقت و استمرت فِي عِبادِهِ الكفار، و ذلك لأن العذاب لا ينزل إلا بعد أن يظهر عناد الكفار، بحيث يعلم أنهم لا يؤمنون باختيارهم أبدا، و هذا و إن كان معلوما لله سبحانه من الأزل إلا أن مظهره ذلك وَ خَسِرَ هُنالِكَ عند نزول العذاب الْكافِرُونَ بأن ذهبت دنياهم و آخرتهم، فلم يفوزوا بما أعدّ الله للصالحين من الثواب و الجنان.

______________________________

(1) النساء: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 634

41 سورة فصلت مكيّة/ آياتها (55)

سميت هذه السورة، ب «فصلت» لاشتمالها على هذه الكلمة، و سميت ب «حم السجدة» لابتدائها، ب «حم» و وجود السجدة الواجبة فيها، فأضيف «حم» إلى السجدة، لتميزها عن غيرها من «الحواميم» و هي كسائر السور المكية،

تحوم حول العقيدة بأصولها الثلاث، و لما ختم سبحانه سورة المؤمن «غافر» بذكر الذين يتكبرون عن آيات الله سبحانه، و الإيمان به، ابتدأ في أوائل هذه السورة، بذكرهم، و ما كانوا يقولون حول الإيمان.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الله المستجمع لجميع صفات الكمال، ذي الرحمة الموكّدة التي وسعت كل شي ء، و ذكر الله بصفة خاصة، يستمطر من تلك الصفة على الذاكر، فمن أكثر ذكر، الغني، يغني، و من أكثر ذكر، العظيم، يعظم، و من أكثر ذكر المؤمن يقوى إيمانه، فالإكثار من ذكر «الرحمن الرحيم» يوجب اتصاف الذاكر بالرحم، هذا بالإضافة إلى إيجابه أن يرحمه الله سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 635

[سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)

[2] حم أي هذا حم، أو «حاء» و «ميم» «تنزيل» و قد تقدم في فواتح السور بعض التي منها أنها رموز بين الله و الرسول، و منها أنها للإشارة، إلى أن القرآن المعجز من جنس هذه الحروف التي تتلفظون بها ليل نهار، و قال بعض: أن الكفار تبانوا أن يصفقوا و يلفظوا عند قراءة الرسول، استهزاء و منعا للناس عن الاستماع، فكان كلما وجد مثل هذا المجال، افتتحت السورة بالمقطعات، لأنهم كانوا ينصتون لها لما قد دهشهم، فيلقى الوحي الموقظ.

[3] تَنْزِيلٌ أي أن القرآن تنزيل مِنَ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذي الرحمة المكررة، فإنه يرحم العباد في الدنيا و الآخرة، و يرحمهم بالحياة، و سائر اللوازم، إلى غيرهما من الأقوال في وجه التكرار- و قد تقدم بعضها-.

[4] هو كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بيّنت آياته تبيانا تاما، بحيث، لم تجمل

و لم تدمج، بل أوضحت، كما يقال، فصلت الأمر لزيد، حيث أوضحه له و ذلك، لأن التفصيل و التوضيح متلازمان غالبا، و هذا لا ينافي إجمال بعض الآيات لحكمته، لأن القضية طبيعية، أي أن طبيعة القرآن، تفصيل آياته و توضيحه في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا بهذه اللغة التي يفهمها أهل الجزيرة و القرآن، من قرأ، بمعنى جمع بعضه إلى بعض، و أنه يقرأ، كما أنه يسمى كتابا لأنه يكتب لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي أنزل هذا القرآن، لأهل العلم، و إنما خصوا بذلك- مع أنه عام- لأنهم هم المستفيدون منه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 636

[سورة فصلت (41): الآيات 4 الى 5]

بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)

[5] في حال كون هذا القرآن بَشِيراً للمؤمن و المحسن، بالجنة و الثواب وَ نَذِيراً للكافر و العاصي، بالنار و العقاب، و ذلك بما اشتمل عليه من آيات الوعد و الوعيد فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر المخاطبين به- إلى حين نزول هذه السورة- و المراد بهم أهل مكة فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ القرآن، استماع تفكر و تعقل و فائدة.

[6] وَ قالُوا أي الكفار المعرضون قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي في أغطية، فإن «أكنة» جمع «كن» و هو الغطاء مِمَّا تَدْعُونا يا محمد إِلَيْهِ من التوحيد و المعاد، و سائر الأصول و الفروع، فلا نفقه ما تقول، كالشي ء الذي عليه غطاء، حيث لا ينفذ فيه البصر و السمع لحيلولة الغطاء بينه و بين الإبصار و الاستماع، و كانوا يقولون هذا القول استهزاء بالرسول و القرآن وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ أي

حمل ثقيل، فلا نسمع ما تلفظ منه، من آي القرآن وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ يا محمد حِجابٌ لا نراك و لا ترانا فقلبنا و سمعنا و بصرنا، غير مستعدة لك و لكلماتك، و كما كان قوم نوح يفعلون ذلك (وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) «1» فقوم الرسول، كانوا يقولونه قولا فَاعْمَلْ يا محمد على طبق وحيك إِنَّنا عامِلُونَ على طبق تقاليدنا، و هذا يشبه الاستهزاء أو التهديد، قريب من قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ) «2».

______________________________

(1) نوح: 8.

(2) الكافرون: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 637

[سورة فصلت (41): الآيات 6 الى 7]

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)

[7] قُلْ يا رسول الله في جواب هؤلاء الأشخاص، إنني لست شخصا عجيبا، حتى أستحق، كل هذه الأقوال الفارغة بل أنا بشر يوحي الله إليّ لإرشادكم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي من هذا الجنس، فلا أدعي لنفسي مقاما فوق هذا، منتهى الأمر، أنه يُوحى إِلَيَ من قبل الله سبحانه أَنَّما إِلهُكُمْ أيها الكفار إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له، كما تزعمون فَاسْتَقِيمُوا في عقيدتكم و أعمالكم إِلَيْهِ استقامة منتهية إليه سبحانه دون انحراف إلى اليمين أو الشمال وَ اسْتَغْفِرُوهُ أي اطلبوا غفرانه فيما سلف من معاصيكم وَ وَيْلٌ أي الهلاك و النكال، فإن «ويل» كلمة تطلق للأمر السيئ أيّا ما كان لِلْمُشْرِكِينَ الذين يشركون بالله سبحانه.

[8] ثم بين سبحانه أظهر صفات المشركين بقوله الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي لا يعطونها، و الظاهر أن المراد بالزكاة مطلق الإنفاق، لا الزكاة المفروضة، لأنها لم تكن وجبت في مكة، و

السورة كما عرفت مكية، و هذا لأجل أن المشرك لا يعتقد بالله و اليوم الآخر، حتى ينفق، فالذم راجع إلى عدم الاعتقاد، لا إلى عدم الإعطاء، حتى يقال، لو كانت الزكاة مندوبة، لم يكن وجه للويل؟ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إنما كرر «هم» تأكيدا، و بيانا للتلازم بين الكفر و بين عدم الإيمان بالآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 638

[سورة فصلت (41): الآيات 8 الى 10]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10)

[9] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الملازم لعدم عمل السيئات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي جزاء على أعمالهم غير مقطوع، فإن «ممنون» من «منّ» بمعنى «قطع» أو من «المنّ» بمعنى الأذى الذي يكدّر الإحسان، أي غير مكدّر بالمن.

[10] قُلْ يا رسول الله منكرا على الكفار أَ إِنَّكُمْ أيّها الكافرون لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أي كيف تكفرون بهذا الإله العظيم، الذي خلق أرضكم الوسيعة- هذه- في مدة يومين فقط؟

وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً أي أضدادا، أو أمثالا، من الأصنام، تعبدونها معه، ذلِكَ الذي خلق الأرض رَبُّ الْعالَمِينَ فليس دونه إله و لا شريك له.

[11] وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جمع راسية، أي الجبال الثابتات، من «رسى» بمعنى ثبت مِنْ فَوْقِها أي من فوق الأرض، حتى أنتم تشاهدونها وَ بارَكَ فِيها أي جعل في الأرض البركة و النمو، فليس ما في الأرض جامدا لا ينمو، إنما فيها الثمار

و الحيوان و غيرهما من أنواع الخيرات وَ قَدَّرَ فِيها أي في الأرض أَقْواتَها جمع قوت، و هو الرزق، بأن قدّر لكل إنسان و حيوان رزقه و مأكله فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي في تتمة أربعة أيام، فيومان للخلق، و يومان للتقدير، و هذا كما يقال:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 639

[سورة فصلت (41): آية 11]

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)

خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، و إلى الكوفة في خمسة عشر يوما يراد في خمسة، حتى تمت السفرة في خمسة عشر سَواءً أي أربعة أيام مستوية، كاملة من غير زيادة و نقصان لِلسَّائِلِينَ عن مدة خلق الأرض، و تقدير الأقوات فيها، و قد أوصل بعض انهزاميتهم الغربية على أن يتصرف في الآية و يطبقها على العلم الحديث، فيقول بأن «يومين» يعني «ألفي مليون سنة» إلى آخر أمثال هذه الثرثرة الفارغة، و من غريب الأمر أن نرى أناسا يهتبلون كل كلمة غربية و إن قالها رجل في كتاب، و يتركون ظواهر الكتاب و السنة، و لم؟ لإرضاء الغرب و المتغربين، كأنهم لم يسمعوا قوله (وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) «1» و رفع اليد عن الظاهر، لا يكون إلا بدليل قاطع من عقل أو نقل، و إلّا، حصل التزلزل في جميع أصول الإسلام و فروعه، ثم ما المانع في أن يكون الخلق في مقدار يومين من أيامنا، كما هو الظاهر؟

[12] ثُمَّ اسْتَوى الله سبحانه إِلَى السَّماءِ أي قصد نحو خلقها، يقال:

استوى إلى مكان كذا، بمعنى توجّه إليه توجها، لا يلفته شي ء، و الإتيان ب «ثم» للتفاوت

بين الخلقين، لا للتراخي بين الزمانين وَ هِيَ دُخانٌ أما المراد هو الدخان المتعارف، بأن خلق سبحانه أولا دخانا، ثم جعله سماء، أو المراد الهواء المتخلخل بالماء، الذي صعد من ضرب الماء بعضه ببعض، و سمي دخانا لشباهته به، فإن الدخان هواء متخلخل بالرماد، و كلاهما يرى في النظر على نحو واحد، و هل هناك

______________________________

(1) البقرة: 121.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 640

[سورة فصلت (41): آية 12]

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

في المدارات، ما أصله الدخان، مما يشبه هوائنا المجاور للأرض، أو المراد من خلق السماء خلق الكواكب من الدخان؟ أو غير ذلك؟

احتمالات فَقالَ الله سبحانه لَها أي للسماء- فإنها مؤنثة سماعية- وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا و أقبلا السير على وفق حكمتنا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً و هذا كناية عن تطلب الحركة منهما، كما يتطلب الإنسان من العاقل شيئا قالَتا أَتَيْنا و انقدنا للأوامر طائِعِينَ جمع طائع، و هذا كناية عن خضوعها التكويني، لما أجرى الله فيهما من السنة، كما يقال: قلت لداري لا تهدمي، فامتثلت، يراد أنها لم يحن بعد وقت انهدامها، و يحتمل بعيدا أن يكون هناك خطاب حقيقي، و جواب حقيقي، فإن ظاهر (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) «1» إن للأشياء مرتبة من الإدراك و التجارب، و إنما قال «طائعين» لأن الجمع قد يستعمل بمعنى الجنس، أو باعتبار تغليب العقلاء الذين فيهما.

[13] فَقَضاهُنَ أي صنع السماوات، و أحكم خلقهن سَبْعَ سَماواتٍ مدارات للكواكب السيارة- كما قالوا- أو هناك طبقات تسمى كل طبقة سماء، و لا حجة في قول علماء الفلك على النفي، إذ الفضاء

وسيع مدهش، و لم يدرك الإنسان حسب اعترافهم إلّا شيئا ضئيلا في الفلك، نسبة إلى ما لم يدرك كنسبة الذرة إلى الصحراء الوسيعة فِي يَوْمَيْنِ أي مقدارهما- كما هو الظاهر- وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها بأن دبّر

______________________________

(1) الإسراء: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 641

[سورة فصلت (41): الآيات 13 الى 14]

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)

أمرها، فإن الوحي يطلق على التيسير حسب الصلاح و الحكمة، نحو (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) «1» أو المراد أوحى إلى الملائكة الذين فيها، بأمور السماء و تنظيم شؤونها وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي السماء القريبة من الأرض بِمَصابِيحَ أي النجوم، فإن جعل الفضاء الملاصق للأرض، بحيث يخرقه النور، حتى يراه الإنسان قد تزيّن له، و إنما سمى الكواكب مصابيح، لأنها كالمصابيح تضي ء وَ حِفْظاً أي لأجل الحفظ، فإن الكواكب مراكز لرجم الشياطين، الذين يريدون اختلاس الكلمات، التي تدار هناك حول الأرض، فإنهم يرجمون من الكواكب بالشهب ذلِكَ الذي ذكر تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في سلطانه الغالب على كل شي ء الْعَلِيمِ بالمصالح.

[14] فَإِنْ أَعْرَضُوا أي أعرض هؤلاء الكفار عن الإيمان فَقُلْ يا رسول الله لهم أَنْذَرْتُكُمْ أي أخوّفكم صاعِقَةً أي عذابا، و إنما سمي العذاب صاعقة، لأنه يصعق الإنسان و يهلكه، و التأنيث، باعتبار أنها وصف للنار النازلة من السماء، في العذاب غالبا مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ أي كعذاب قوم هود و صالح، حيث لم يؤمنوا فأهلكوا.

[15] إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ أي نزل بهم العذاب حين أتتهم رسل الله

______________________________

(1) النحل:

69.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 642

[سورة فصلت (41): آية 15]

فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15)

مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أي من كل طرف من أطرافهم قبلهم و بعدهم، حتى يحيطوا بهم لعلهم يؤمنوا- و هذا كناية عن إصرار الرسل عليهم بالإيمان، أو المراد أنذروهم من جهة دنياهم و آخرتهم، إن لم يؤمنوا، قائلين لهم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فلا تشركوا به عبادة الأصنام، لكن هؤلاء الأقوام لم ينفعهم الإنذار، بل قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا أن نؤمن به وحده، و لا نشرك به شيئا، و لا نفعل المعاصي- كما تقولون- لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً لدعوتنا إلى هذه الأمور فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ إذ لا نعتقد بأنكم رسل من الله تعالى.

[16] فَأَمَّا عادٌ قوم هود عليه السّلام فَاسْتَكْبَرُوا و تجبّروا فِي الْأَرْضِ حين وصفوا أنفسهم فوق حقيقتهم، بل رأوها أعظم من الإيمان بالله و اتباع رسله بِغَيْرِ الْحَقِ فلم يكن ترفيعهم نفوسهم بالحق لعلم أو إيمان، أو ما أشبه، بل لمجرد الظلم و الطغيان وَ قالُوا مغترين بقواهم البدنية و المالية، و ما أشبه مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً حتى يتمكن من تعذيبنا، فقد هددهم نبيّهم بالعذاب، إن تمادوا في الطغيان، فقالوا نحن نقدر دفعه، إذ لا أقوى منا، حتى يتمكن من تعذيبنا، و قد ردهم الله سبحانه بقوله أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً فلو شاء أهلكهم، و لم يتمكنوا من دفع عذابه بقواهم، التي هي من قبل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 643

[سورة فصلت

(41): الآيات 16 الى 17]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)

الله أيضا وَ كانُوا بِآياتِنا أي أدلتنا الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا يَجْحَدُونَ أي ينكرون و لا يعترفون.

[17] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ الريح الصرصر، هي الريح الباردة من الصرّ بمعنى البرد، أو هي الريح العاصفة، ذات الصوت الشديد، و الصيحة المزعجة، و نحسات، جمع نحس، و هي الأيام المشؤومة المنحوسة، و إنما كانت الأيام نحسات، لما يحدث فيها من العذاب، و النكال، و إنما أرسلنا هذه الريح عليهم لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي العذاب الذي يخزيهم و يذلهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي في هذه الحياة القريبة قبل حياة الآخرة وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعدّ لهم أَخْزى أكثر إذلالا لهم وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ أي لا ينصرهم أحد من بأس الله تعالى.

[18] وَ أَمَّا ثَمُودُ قوم صالح عليه السّلام فَهَدَيْناهُمْ أي بيّنا لهم طريق الخير و الشر و الإيمان و الكفر فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي اختاروا التعامي عن الحق على الهداية، و سلوك طريق الدين، و معنى استحب طلب حب الشي ء فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي العذاب ذو الذلّ و الهوان، صعقهم و أهلكهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من تكذيب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 644

[سورة فصلت (41): الآيات 18 الى 20]

وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (18) وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا

يَعْمَلُونَ (20)

صالح و عقر الناقة- كما مرت قصتهم سابقا-.

[19] وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا في هاتين القصتين وَ كانُوا يَتَّقُونَ المعاصي، فلم يصيبهم العذاب.

[20] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُحْشَرُ أي يجمع أَعْداءُ اللَّهِ و هم الكفار و العصاة إِلَى النَّارِ أي منتهين إلى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم ليلحق بهم آخرهم، من وزع، بمعنى حبس، و منع و المعنى إذا حشروا حبسوا هناك على حافة النار قبيل دخولها، و فيه زيادة إهانة و إرهاب.

[21] حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي وصلوا إلى النار، و «ما» زائدة جي ء بها، لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور- كما في الصافي- شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ بالاستماع إلى المحارم وَ أَبْصارُهُمْ بالنظر إلى المحرمات وَ جُلُودُهُمْ بلمس الحرام، من أخذ، و مشي عليه، و زنا، و ما أشبه بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من أنواع المعاصي، كما قال سبحانه (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) «1» فإن الله سبحانه، يجعل فيها حاسة النطق و التكلم، كما جعل في اللسان.

______________________________

(1) يس: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 645

[سورة فصلت (41): الآيات 21 الى 22]

وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)

[22] وَ قالُوا أي قال أعداء الله لِجُلُودِهِمْ و الظاهر أن المراد تغليب الجلود، لا أن خطابهم خاص بها لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ حتى نبتلي بالعقاب، و تتم الحجة علينا، يقولون ذلك معاتبين قالُوا أي قالت الجلود في جوابهم، و

إنما جي ء بلفظ العاقل، لأنهم حيث أخذوا في التكلم، صاروا كأنهم عقلاء أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ من الأشياء الناطقة، و إنما جي ء ب «كل شي ء» لأن الجلود من الأشياء، و ليست من الأشخاص، فقد ردفت ردف «اللسان» في الإنسان، و الطيور الناطقة و نحوهما وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ الظاهر أنه جملة مستأنفة خطاب من الله للكفار في الدنيا، أي كيف تنكرونه، و هو خالقكم؟

وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة، و الرجوع إنما هو إلى حكمه و حسابه و جزائه، و يحتمل أن يكون هذا من تتمة كلام الجلود- و لكن بتأوّل-.

[23] ثم رجع السياق إلى كلام الجلود مع الكفار يوم القيامة، إذ تقول لهم «ما سترتم المعاصي خوف شهادتنا عليكم، بل كان ستركم لها ظنكم بعدم علم الله إن سترتم» و تريد الأعضاء أن تثبت بهذا الكلام، رذيلة أخرى على الكفار- فوق ارتكابهم العصيان- و هي أنهم كانوا يظنون عدم علم الله تعالى بأحوالهم و اطلاعه على عصيانهم، و هذا كما لو قال الشاهد للمجرم: إنك لم تخف مني، و لذا لم يكن سترك من خوفي، و إنما كان سترك للجريمة، لأنك لا تعتقد بعقاب الحاكم لك وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ المعاصي بإتيانها في السرّ مخافة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 646

[سورة فصلت (41): الآيات 23 الى 24]

وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ فإنكم لم تكونوا تخافون منها، حتى يكون ستركم للعصيان خوفا من هذه الجوارح وَ لكِنْ كان ستركم حيث ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ

كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ فكنتم ترون أن الله لا يعلم السرائر، و إنما يعلم العلانية فقط، فأسررتم المعاصي، حتى لا يعلم بها اللّه سبحانه.

[24] وَ ذلِكُمْ «ذا» إشارة و «كم» خطاب ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أي أهلككم، و المعنى أن ظنكم بأن الله لا يعلم سركم، هو الذي أوجب هلاككم، إذ نزّلتم الله سبحانه، دون منزلته، و أنكرتم علمه الشامل، حتى هانت لديكم المعاصي، فأدى إلى الكفر، و في الإعراب «ذلكم» مبتدأ، و «ظنكم» بدل منه، و «أرداكم» خبر فَأَصْبَحْتُمْ أيها الكفار مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا دنياهم و أخراهم،

روى عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال ينبغي للمؤمن، أن يخاف الله خوفا، كأنه يشرف على النار، و يرجوه رجاء، كأنه من أهل الجنة، إن الله تعالى يقول «وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ... الآية» ثم قال، إن الله عند ظن عبده، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر

«1».

[25] و بعد هذا كله، فحق هؤلاء الكفار النار فَإِنْ يَصْبِرُوا على ما يلاقون

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 311.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 647

[سورة فصلت (41): آية 25]

وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)

من النيران و الهوان فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي منزل لهم من «ثوى» بمعنى اتخذ المنزل، و المعنى أن صبرهم لا ينفعهم، كما كان ينفع في الدنيا وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي ليطلبوا العتبى، و هي بمعنى «الرضا» أي يطلبوا رضاه سبحانه عنهم حتى ينجيهم مما فيه فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ بصفة اسم المفعول- أي ممن يرضى عنه، فإن المعتب

هو الذي يقبل عتابه، و يجاب إلى ما سأل.

[26] و قد جرت عادة الله في الكون، أن الإنسان، إذا عاشر الأخيار، يقودونه إلى الخير، و إن عاشر الأشرار، يقودونه إلى الشر، و إذا انحرف الإنسان لما رأى الهدى، لا بد و أن يلتحق بقافلة الأشرار، و هذا معنى تهيئة الله لرفقاء السوء، فإنه حيث جرت سنته الكونية على ذلك نسبت التهيئة، لقرين السوء إليه وَ قَيَّضْنا أي هيئنا لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار قُرَناءَ جمع قرين، و هو الصديق المقارن للإنسان فَزَيَّنُوا أولئك القرناء لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمور الدنيا الحاضرة، بأن زينوا لهم الكفر و العصيان وَ ما خَلْفَهُمْ من أمور الدنيا الآتية، كتأسيس أسباب الفسق و العصيان، كالبدع الباقية، و بناء محلات الفساد، و ما أشبه ذلك، و لعل العموم شامل للشياطين أيضا، كما قال سبحانه (وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) «1»

______________________________

(1) الزخرف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 648

[سورة فصلت (41): آية 26]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)

وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبت في حقهم العذاب، فقد صاروا في قطيع الكافرين، و أهل النار، فهم داخلون فِي أُمَمٍ كافرة كانت قَدْ خَلَتْ و مضت مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل هؤلاء الكفار مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فهؤلاء داخلون في زمرة أولئك إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ حيث خسروا سعادة الدنيا و الآخرة.

[27] ثم يأتي السياق لبيان حال الكفار، أمام القرآن و صنيعهم لإبطاله، و عدم وصوله إلى الناس وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة، بعضهم لبعض لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ الذي يقرأه الرسول، لئلا تتأثروا به،

و يجذبكم إلى الإيمان وَ الْغَوْا فِيهِ أي عارضوه باللغو الباطل لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ الرسول، فقد كان بعض الكفار، إذا قرأ الرسول القرآن، جاءوا، و رفعوا أصواتهم بالكلام الهدر، ليخلطوا على الرسول، فلا يتمكن من القرآن، و لئلا يسمع الناس الذين يستمعون إلى كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى يؤثر فيهم القرآن، و فوق ذلك، إن بعض الكفار، كان يقف على باب المسجد الحرام، فإذا أراد أحد الدخول، في المسجد للطواف- و الرسول جالس قرب الكعبة يتلو- ملأ أذنه قطنا، و يحذره من سماع القرآن، قائلا أن فيه سحرا يؤثر، كما فعلوا ذلك بالوفد الذي أتى من المدينة، للإصلاح بين الأوس و الخزرج.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 649

[سورة فصلت (41): الآيات 27 الى 29]

فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

[28] فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً في الدنيا بالقتل و الأسر و الضنك، و غيرها، و في الآخرة بالنار و الهوان وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي نجازيهم بأقبح أعمالهم، أما أعمالهم الحسنة، فإنها تحبط، أو نجازيهم بأقبح جزاء في مقابل العصاة المعادين الذين لا يجازون إلا بالقبيح.

[29] ذلِكَ الذي تقدم من «أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ «ذلك» مبتدأ، و «جزاء» خبره، و النَّارُ بدل من «جزاء» أي ذلك الذي ذكرنا هو النار لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ فهم مخلدون في النار أبد الآبدين جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي ينكرون

الآيات الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا، من الآيات التكوينية و التشريعية، كالقرآن الحكيم.

[30] وَ إذ دخل الكفار النار، أرادوا الانتقام من الذين أضلوهم في الدنيا، و قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و المراد بالجن الشيطان، و المراد الطائفتين لا الشخصين، فهم يريدون الانتقام من الشياطين الموسوسين لهم، و البشر المضلين إياهم، لكي نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا في النار، لنسحقهم، أو ليكونوا أشد عذابا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 650

[سورة فصلت (41): الآيات 30 الى 31]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 660

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31)

إذ طبقات النار كلما سفلت ازدادت حرارة و نكالا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ أي من جملتهم، حتى يكون عذابهم أكثر من عذابنا، و هنا لا يأتي الجواب، و قد مرّ في آية أخرى، أنه سبحانه يقول (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) «1».

[31] في مقابل أهل النار أهل الجنة الذين آمنوا و عملوا الصالحات إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي اعتقدوا ذلك، لا مجرد لقلقة لسان ثُمَّ اسْتَقامُوا في العمل و السلوك بالإيمان، بما يلزم الإيمان به و العمل الصالح تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ إما دائم الأوقات،

فإن الملائكة تنزل على الأخيار، و إن لم يروها «2» أو عند الموت- كما روي عن الصادق عليه السّلام

«3» و يؤيده ظاهر الآية- قائلين لهم أَلَّا تَخافُوا من أهوال الآخرة وَ لا تَحْزَنُوا و هو بعد الخوف، فإن الإنسان، إذا علم بالمكروه، أو وصل إليه حزن

وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في الدنيا.

[32] ثم يقولون لهم على وجه التبشير نَحْنُ معاشر الملائكة أَوْلِياؤُكُمْ أحبائكم و نلي أموركم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإنا معكم لا

______________________________

(1) الأعراف: 39.

(2) راجع تأويل الآيات: ص 524.

(3) بحار الأنوار: ج 56 ص 162.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 651

[سورة فصلت (41): الآيات 32 الى 33]

نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)

يصيبكم مكروه ما دمتم في الحياة- و هذا لا ينافي كون التنزل عند الموت، إذ يراد به حينئذ هذه الساعات القلائل التي بقيت من أعمارهم في الدنيا- وَ فِي الْآخِرَةِ حيث نهديكم الطريق إلى أن تصلوا إلى الجنة، فإن الإنسان من أحوج ما يكون إلى المرشد و الصديق في محلات الأهوال و الأحزان وَ لَكُمْ فِيها أي في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من أنواع الملذات و الكرامات وَ لَكُمْ فِيها أي في الآخرة ما تَدَّعُونَ أنه لكم، من «ادّعى» «يدعي».

[33] ثم يرونهم، بأنها من إحسان الله إليهم، حتى تبهج نفوسهم بالكرامة، كما بهجت بالملذة نُزُلًا أي في حال كون هذا الإنعام، بما تشتهي الأنفس إنزالا مِنْ غَفُورٍ لذنوبكم رَحِيمٍ بكم، و الإنزال إنما هو باعتبار علو مرتبة المعطي، لا الرفعة المكانية.

[34] ثم يأتي السياق توجيه الناس إلى دعوة الرسول، و أنها ليست إلا إلى الخير، و للخير، فلما ذا يفر منها الكفار و العصاة؟ وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا استفهام يراد به النفي، أي لا أحد أحسن قولا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ الذي هو خالق البشر و مالك كل شي ء وَ عَمِلَ صالِحاً الملازم لعدم السّيئ وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين

أسلموا لله تعالى، في كل أمر و نهي، و ممن أرشد و دعا، فهو مسلم، عامل للصالحات، داع إلى الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 652

[سورة فصلت (41): الآيات 34 الى 35]

وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)

تعالى، و هل هناك أحسن منه؟

[35] و إذ جرى حديث الدعوة، لا بد و أن يسير السياق إلى واجب الداعي أمام الأتعاب و المصاعب التي يواجهها الدعاة إلى الله وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ فإن الحسنة المأمور بها الداعي في مقابل الجهال، خير من السيئة، التي هي مقتضى تقابل السيئة بمثلها، و هذه الجملة كمقدمة لقوله ادْفَعْ يا رسول الله، أو أيها الذي تواجه بالسيئة بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع أذى الكفار و كيدهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق في دفع الأذى و الكيد، و

قد جمع الإمام السجاد عليه السّلام، ذلك في قطعة من «دعاء مكارم الأخلاق» هي «سدّدني لأن أعارض من غشني بالنصح و أجزي من هجرني بالبر، و أثيب من حرمني بالبذل، و أكافئ من قطعني بالصلة، و أخالف من اغتابني إلى حسن الذكر و أن أشكر الحسنة، و أغضي عن السيئة»

«1» فَإِذَا فعلت ذلك كان الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ و غضاضة كَأَنَّهُ وَلِيٌ أي موال لك حَمِيمٌ كثير المودة و المحبة.

[36] وَ ما يُلَقَّاها أي ما يلقّى هذه الفضيلة و الصفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا في مقابلة الجهال، بأن لم تثر أقوال الأعداء و حركاتهم وَ ما يُلَقَّاها

أي هذه الخصلة المذكورة إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ

______________________________

(1) الصحيفة السجادية: ص 92 و من دعائه عليه السلام في مكارم الأخلاق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 653

[سورة فصلت (41): الآيات 36 الى 37]

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)

أي نصيب وافر من العقل، و الرأي، و الحكمة، فإن الإنسان يقابل السي ء بالأسوإ، ثم بالمثل و آخر طاقته أن يسكت في مقابل السيئة، أما أن يفعل الحسن، بل الأحسن، فإنه بحاجة إلى حظ عظيم و عظيم جدا.

[37] وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ يا رسول الله، أو أيها المخاطب، بأن تدفع بالتي هي أحسن مِنَ الشَّيْطانِ أي من طرفه نَزْغٌ النزغ هو النخس بما يدعو إلى الفساد، فإن الشيطان ينخس الإنسان، و يهيجه للباطل خصوصا عند الخصام، و في المعركة- و هذا من تتمة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن- فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي اطلب العوذ و الإجارة و الحفظ من الله سبحانه، «من الشيطان الرجيم» الطريد، المرجوم باللعن و الشهب كما قال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) «1» و هذا بخلاف غير المتقي الذي يستمر في خصامه و لجاجه،

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «الحدة ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم فإن لم يندم فجنونه مستحكم»

«2» ف إِنَّهُ أي اللّه هُوَ السَّمِيعُ يسمع ما تقولون و هو الْعَلِيمُ يعلم ما تعملون.

[38] ثم رجع السياق ليحاج المشركين بإتيان الأدلة على الله الواحد الأحد الذي لا شريك له وَ مِنْ آياتِهِ أي آيات الله الدالة

على وجوده و سائر

______________________________

(1) الأعراف: 202.

(2) نهج البلاغة: ص 681- الباب الثالث في المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السّلام الرقم 257.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 654

[سورة فصلت (41): آية 38]

فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)

صفاته اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ فمن يا ترى أبدعها و خلقها، هل هي الأصنام الجاهلة العاجزة الجامدة؟ أم الله العلي العظيم؟ لا تَسْجُدُوا أيها الناس لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ فإنهما من آيات الله سبحانه، و ليسا بإله يسجد له وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ أي خلق الشمس و الليل و النهار، و الإتيان بجمع العاقل، لتوحيد السياق مع قول المشركين، فإنهم كانوا يعتبرون هذه المخلوقات من العقلاء، حيث اتخذوها آلهة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي إن كنتم تريدون عبادة الله فاعبدوه وحده و لا تشركوا به، و هذا كما يقول «إن كنت تريدني فاسمع كلامي، و لا تسمع كلام غيري» تريد أن سماع كلامك، و كلام غيرك عندك، بمنزلة عدم سماع كلامك أصلا.

[39] فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي تكبر هؤلاء الكفار عن قبول كلامك و اتباعك في التوحيد، بل عبدوا الشركاء مع الله، فليس بمهم، إذ هناك من هو أعلى منهم، و أرفع رتبة، يخضع لله و يسجد له وحده، و هذا كما تقول لمن عصاك «إن تعصي، فإن عندي من هو أحسن منك يطيعني» تريد الاستهانة بشأنه، و أنك لا يهمك عصيانه، فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي الملائكة، و المراد عنده رتبة و منزلة، لا مكانا، فهو سبحانه منزه عن المكان و المكانيات يُسَبِّحُونَ لَهُ أي ينزهونه عن الشركاء و النقائص

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 655

[سورة فصلت

(41): الآيات 39 الى 40]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)

بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ في دائم الأوقات وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ من سأم بمعنى تعب، أي لا يتعبون من التسبيح و العبادة.

[40] وَ مِنْ آياتِهِ الكونية الدالة على وحدته، و سائر صفاته و على المعاد أَنَّكَ يا رسول الله، أو أيها الرائي تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً و خشوعها اغبرارها، و عدم وجود النباتات المتحركة فيها، بواسطة الجدب، فحالها حال الإنسان الخاشع، الذي لا حراك له، و هو مغبر غير نضر فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ من المطر اهْتَزَّتْ أي تحركت، فإن الماء ينشط الأرض و يحركها بالانتفاخ و تعلية الأملاح وَ رَبَتْ أي ارتفعت لدخول الماء و الهواء خلالها إِنَّ الَّذِي أَحْياها أي أحيا الأرض بعد الموت و الخشوع لَمُحْيِ الْمَوْتى فكما يقدر على هذا يقدر على ذلك إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فكيف ينكر الكافر قدرته على إعادة الأموات، و هو يرى هذه القدرة الباهرة كل يوم؟

[41] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي يميلون عن الإيمان بآياتنا، من «ألحد»، بمعنى، مال، فينكرون قدرتنا، و سائر صفاتنا، فإنهم حيث انحرفوا عن الإيمان، كانوا بمنزلة من انحرف عن الدليل الدال عليه لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فإنهم تحت سمعنا و بصرنا، نرى أعمالهم و نسمع أقوالهم، حتى نجازيهم على ما اقترفوا من الميل و الانحراف، و يكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 656

[سورة فصلت

(41): الآيات 41 الى 42]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)

مصيرهم النار، بخلاف مصير المؤمنين الذي هو الجنة أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ و هم الملحدون أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً من عذاب الله يَوْمَ الْقِيامَةِ و مصيره إلى الجنة؟ ثم يتوجه الخطاب إلى الناس مبينا لهم، أن كل عمل يعملونه من خير أو شر سيجازون عليه اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ من الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية إِنَّهُ تعالى بِما تَعْمَلُونَ من الخير و الشر بَصِيرٌ عالم لا يخفى عليه شي ء، فستحاسبون عليه و تعطون جزاءه، فاختاروا لأنفسكم ما شئتم.

[42] ثم هدد سبحانه الكافرين بالقرآن، بعد أن هدد الكافرين به، أو بالمعاد، بقوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ و هو القرآن، بأن جحدوه، و قالوا أنه ليس من عند الله لَمَّا جاءَهُمْ من عند الله تعالى وَ الحال إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ذو عزة و رفعة، لا يتمكن البشر أن يأتيه لفصاحته و بلاغته و اشتماله على الأنظمة البديعة و الخوارق، و قد حذف خبر إنّ لأجل التهويل، فالتقدير مثلا ليلاقوا جزاءهم الأليم على هذا التكذيب و الكفر، و قد تقرر في علم البلاغة، أن حذف الخبر، و ما أشبه في مثل هذا المقام يفيد التهويل، كما تقول للمجرم: إن اقترفت هذه الجريمة، تريد تهويله من الجزاء الذي يحل به.

[43] ثم وصفه سبحانه بقوله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بأن يأتي في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 657

[سورة فصلت (41): آية 43]

ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ

وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)

زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يماثله في فصاحته أو نظامه، أو أخباره، كأن يأتي أفصح منه، أو أجمل نظاما، أو ما يدل على أن أخباره عن الأمم السابقة أو اللاحقة، أو حول الأصول باطلة وَ لا مِنْ خَلْفِهِ بأن يأتي بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من يبدي بطلانه في إحدى تلك الأمور، و روى في المجمع عن الباقر و الصادق عليه السّلام، أن معناه ليس في أخباره عما مضى باطل و لا في أخباره عما يكون في المستقبل باطل، بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها «1»، أقول: و كان هذا بيان لمصداق من مصاديق الكلى الذي ذكرناه، و هو الظاهر من عموم الآية تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ في أفعاله، فإنه سبحانه، أنزل القرآن حسب الحكمة و الصلاح، و لذا لا يتطرق إليه الباطل حَمِيدٍ محمود في كل شي ء، و لذا لا يأتي بما لا يحمد مما هو قابل للبطلان.

[44] ثم ربط سبحانه بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و سائر الرسل، و بين القرآن، و سائر الكتب السابقة بقوله ما يُقالُ لَكَ يا رسول الله، أي لا يوحي إليك إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ بأن أوحى إليهم إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أي غفران للمذنبين إذا تابوا وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ مؤلم لهم إذا بقوا في كفرهم و عصيانهم، فليختاروا ما شاءوا من المغفرة التابعة للإيمان، أو العقاب التابع للعصيان.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 658

[سورة فصلت (41): آية 44]

وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ

هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)

[45] ثم عطف السياق نحو القرآن بقوله وَ لَوْ جَعَلْناهُ أي جعلنا هذا القرآن قُرْآناً أَعْجَمِيًّا بغير لغة العرب لَقالُوا أي لقالت العرب لَوْ لا أي هلّا فُصِّلَتْ و بينت بلغتنا آياتُهُ حتى نفهمه، فنؤمن به، و قالوا تبريرا لعدم إيمانهم أَعْجَمِيٌ القرآن وَ عَرَبِيٌ من خوطب به: كيف يكون هذا؟ و جعلوا ذلك وسيلة لعدم الإيمان، أمّا و القرآن عربي، و الرسول منهم (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) «1» فما عذرهم؟ قُلْ يا رسول الله هُوَ القرآن أنزله الله عربيا، حتى يقطع عذركم، فهو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً من الضلالة وَ شِفاءٌ من أمراض القلب كالحسد و الغل و القلق، و سائر الأوجاع النفسية، أو الأعم منها، و من الأوجاع البدنية وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالقرآن ليس من جهة نقص في القرآن، بل من جهة أنهم فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ أي حمل ثقيل مانع عن استماعه، و هذا كناية عن إعراضهم عن الحق، فهم كالأصمّ الذي في أذنه ثقل لا يسمع، فلا يسمع حتى يعلم- بعلاقة المشابهة- وَ هُوَ أي القرآن عَلَيْهِمْ أي على الذين لا يؤمنون عَمًى إذ أن القرآن يوجب أن ينصرفوا عن الحق، انصراف الأعمى عن الطريق، فكأنه يولد فيهم العمى، و الإنسان يرى بعض الناس، يقرون بالحق نوعا ما، فإذا جاءهم الحق واضحا، تعاموا حتى عما

______________________________

(1) الجمعة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 659

[سورة فصلت (41): آية 45]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ

مُرِيبٍ (45)

كانوا يعترفون به، عنادا و حسدا، أو المراد أنهم كالأصم و الأعمى، لا يبصرون الحق، و لا يسمعون الصدق أُولئِكَ الكفار كالذين يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ حيث لا يسمعون و لا يفهمون، كمن إذا نودي من البعد، لا يسمع و لا يفهم، فهذا من باب تشبيه حالهم في الإعراض، بمن ينادى من بعيد.

[46] و لا غرر في ذلك، فإن الأمم قد اعتادت تكذيب الأنبياء وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا ل مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ اختلف فيه الناس، فبعضهم آمنوا به، و بعضهم لم يؤمنوا، كما اختلفوا في القرآن، و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا رسول الله، بتأخير العذاب عن قومك، لأنك فيما بينهم (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ) «1» لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لحكم الله بين المؤمن و الكافر، بإبقاء المؤمن و إهلاك الكافر، بإنزال العذاب عليهم، كما أهلك القبط بالغرق، حين كفروا بموسى وَ إِنَّهُمْ أي قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من القرآن مُرِيبٍ أي موجب للريب و الاضطراب، فإن الشك إذا لم يظهر أثره لا يسمى مريبا، و هذا كفذلكة للكلام، أو المراد، أنهم في شك من قولنا «لو لا كلمة .. إلى آخره» أي لا يصدّقون، بأن الكلمة أخّرت عذابهم إلى يوم القيامة، بل يظنون أنك

______________________________

(1) الأنفال: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 660

[سورة فصلت (41): آية 46]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)

تكذب، و لذا لا أثر لكلامك و تهديدك.

[47] و أخيرا مَنْ عَمِلَ صالِحاً بالإيمان بالله و الإتيان بأوامره فَلِنَفْسِهِ عمل إذ هو يرى

جزاءه الحسن، و ثوابه العاجل و الآجل وَ مَنْ أَساءَ عقيدة أو عملا فَعَلَيْها أي كان ضرره على نفسه وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ أي بذي ظلم، فإن «فعّال» من صيغ النسبة، كما قال ابن مالك:

و مع فاعل و فعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل

أو يراد به المبالغة، و ذلك لأن كل صنعة جازت في الله، بلغت إلى أقصى حد، فإن جاز فيه الخلق كان خلاقا، أو الرزق كان رزاقا، و هكذا، فنفي المبالغة، موجب لنفي الصفة لِلْعَبِيدِ جمع عبد، فما يرى الإنسان من السوء في الدنيا أو الآخرة، فإنما هو جزاؤه العادل بما عمل من الكفر و العصيان.

الجزء الخامس

[تتمة سورة فصلت

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 7

[سورة فصلت (41): الآيات 47 الى 48]

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

[48] و بمناسبة ما تقدم من أوصافه سبحانه، و ذكر المعاد، يأتي السياق يؤكد ذلك، حتى يعرف الناس، أن ما يعملون، إنما هو باطلاعه سبحانه، ثم يجازيهم عنه إِلَيْهِ سبحانه يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ التي هي القيامة، و المعنى أنه، إذا سئل عن وقت القيامة، رد علمه إلى اللّه، و قيل اللّه عالم، إذ لا يعلمه سواه وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي لا تخرج ثمرة من وعائها و غلافها، إلا بعلمه

سبحانه، و أكمام جمع كم، و هو الغلاف، يقال تكمم الرجل بثوبه إذا تلفف به وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى إنسانا كان أو حيوانا وَ لا تَضَعُ مولودها إِلَّا بِعِلْمِهِ تعالى، و حيث إن القيامة عبارة عن ظهور عالم جديد، ناسب ذلك الإتيان بظهور الثمرة، و ظهور الحمل، و ظهور الولد، فعلمه سبحانه عامّ لكل شي ء وَ اذكر يا رسول اللّه يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي اللّه سبحانه المشركين، قائلا لهم أَيْنَ شُرَكائِي الذين زعمتم أنهم مشتركون معي في صفة الألوهية؟ و هذا الاستفهام للتقريع قالُوا أي المشركين آذَنَّاكَ أي أعلمناك، و المعنى نعلمك و نعترف لك بأنه ما مِنَّا أي ليس منا جماعة المشركين مِنْ شَهِيدٍ يشهد بأن لك شريكا، يريدون بذلك التبرؤ من أعمالهم الإشراكية.

[49] وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي ضاع عنهم الآلهة، التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 8

[سورة فصلت (41): الآيات 49 الى 50]

لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)

كانوا يعبدونها قبل يوم القيامة، في دار الدنيا، فلم يجدوها في المحشر وَ ظَنُّوا بأنهم ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي ملجأ و مهرب و إنما قال ظنوا حكاية عنهم، فإن الإنسان لا يقر نفسيا بما يؤلمه، و إن كان في قرارة نفسه يعلم بوصول المكروه إليه، أو إنهم ظنوا حقيقة لاحتمالهم النجاة.

[50] ثم يأتي السياق ليصف حال الكفار في الدنيا، بعد أن أرى جانبا من

حالهم في الآخرة، ليبين وجه إصلائهم النار في الآخرة، إنه لانحرافهم في الدنيا، فبالإضافة إلى كفرهم، إنهم منسلخون عن الفضيلة لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ أي لا يمل و لا يكل مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ و يطلبه، فهو يدعو الخير و يطلبه لنفسه دائما أبدا لا قناعة له و لا رضى في نفسه، مما حصل عليه بقدر الكفاية وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ مجرد إحساس، من فقر و مرض و خوف و ما أشبه فَيَؤُسٌ أي شديد اليأس من الفرج قَنُوطٌ من رحمة اللّه تعالى.

[51] وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ أي أعطينا هذا الإنسان المتصف بتلك الصفة رَحْمَةً مِنَّا أي فرجا من كربه، بالصحة و الغنى بعد المرض و الفقر، أو ما أشبه ذلك مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي وصلت إليه لَيَقُولَنَ منكرا فضل اللّه و إحسانه في كشف كربه هذا الخير الذي جاءني لِي فأنا فاعله، و الآتي به، عوض أن يشكر ربه، و يعرف أنه من إحسانه و فضله وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ أي القيامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 9

[سورة فصلت (41): آية 51]

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)

قائِمَةً أي سوف تكون، فإن الإنسان إذا وجد نعمة بطر و نسي ربه و ميعاده، فلا يشكر، و لا يصرف النعمة في حقها، فيعرض ميعاده، بل يقول إن النعمة لي، و يصرفها في الشر قائلا، لا قيامة، حتى أعمل صالحا بالنعمة، ثم فوق ذلك يظن أنه مكرم عند اللّه- كما هو تمني الجهّال- فيقول وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي بأن صدق قول الناس المؤمنين بوجود الميعاد إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي المنزلة الحسنى، و هي الجنة، فكما أعطاني في

الدنيا، يعطيني في الآخرة، و هنا يأتي السياق ليبين مصير هذا الإنسان فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي لنخبرن هؤلاء الكفار بِما عَمِلُوا في الدنيا من الكفر و العصيان، و الإخبار إنما هو لأجل التقرير، و إفضاحهم أمام الملأ العام وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ هو النار و النكال، لما عملوا من الأعمال السيئة.

[52] وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ و المراد به الإنسان المنحرف، كما سبق في الآية السابقة أَعْرَضَ عن اللّه سبحانه وَ نَأى بِجانِبِهِ أي بعد بجانبه عن الاعتراف باللّه و شكره، تشبيه بالإنسان المعرض عن شي ء، حيث يبعد نفسه منه بعدا حسيا وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض و فقر و خوف و ما شابه فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ يكثر الإلحاح و الطلب منا لرفع ضره، و «العريض» أبلغ من «الطويل»، إذ العريض لا يكون إلا طويلا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 10

[سورة فصلت (41): الآيات 52 الى 53]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53)

و إلا لا يسمى عريضا، بخلاف الطويل، فإنه لا يلازم العريض.

[53] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار المنكرين، لكون القرآن من عند اللّه تعالى أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بأن أنزله عليّ لا كما تقولون من أنه افتراء مختلق ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ و جحدتموه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ؟ أي من يكون- حينذاك- أكثر ضلالا منكم؟ و إنما أتى بهذا الوصف، تقريعا. و رهانا، لكونهم أضل، إذ هم في

شقاق بعيد عن الحق، فهم شق و الحق في شق، و بينهما تباعد كثير.

[54] سَنُرِيهِمْ آياتِنا الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا فِي الْآفاقِ جمع أفق، و هو أطراف الكون، لأن كل طرف أفق، من سماء و أرض، و شمس، و قمر، و نجوم، و جبال، و شجر، و حيوان، و بحار، و غيرها وَ فِي أَنْفُسِهِمْ و ما فيها من لطائف الصنع، و عجائب التراكيب، التي تدل على وجود اللّه و علمه، و قدرته، و إرادته، و سائر صفاته، و معنى الإرائة، إلفاتهم إلى الآيات، بواسطة التوجيهات في القرآن، و كلمات الرسول و الأئمة، و الإلقاء في قلوبهم حَتَّى يَتَبَيَّنَ أي يظهر لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار أَنَّهُ أي اللّه سبحانه، أو الرسول، أو القرآن الْحَقُ فإن الأدلة الكونية ترشد إلى كل ذلك- و إن كان الأول أقرب- أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ يا رسول اللّه، و الباء في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 11

[سورة فصلت (41): آية 54]

أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ (54)

«بربك» زائدة دخلت على الفاعل، إذ الأصل في المعنى «أو لم تكف بربك» أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أي حاضر، و هذا برهان على أنه الإله الحق، إذ الإله يحضر و يشهد كل شي ء بخلاف سائر الأشياء، فإنها لا تشهد «اللّه» إذ الإله سابق عليها، و الشاهد يلزم أن يكون حاضرا من البدء إلى الختم، و ليس لأحد أن يقول: من أين نعلم، أن اللّه شاهد على كل شي ء؟ إذ الجواب هل هناك شي ء أول شهد كل شي ء، أم لا؟

فإن قال نعم قلنا ذلك هو اللّه، و ثبت المطلوب، و إن قال لا، قلنا

هذا خلاف الضروري، إذ لا يعقل أن لا يكون هناك شي ء أول، و إن قال، بل يمكن أن يكون الأول متعددا، فلا وحدة في الأول قلنا اعترفت بالواحد، فعليك الدليل على الأكثر، ثم لا يمكن تعدد الأول، لما ثبت في علم الكلام، من أن التعدد في الأزلي غير معقول، إذ يلزم من التعدد التركب، و من التركب، عدم الأولوية- فهو خلف-.

[55] أَلا إِنَّهُمْ أي الكفار فِي مِرْيَةٍ و شك مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي لقاء حسابه و جزائه- على سبيل تشبيه المعقول بالمحسوس- و هذا على سبيل التسفيه لعقيدتهم، فكيف يمكن أن يكون الخلق عبثا، لا حساب لهم و لا جزاء؟ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ إحاطة علم و قدرة، فهو عالم بهم، و لا يخرجون عن قبضته، فسيأتي يوم يحاسبهم بما علم، و يعطيهم جزاء كفرهم و إنكارهم، فلا مفر لهم منه، و لا مجال للإنكار، لما اقترفوه من الكفر و الآثام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 12

42 سورة الشورى مكية- مدنية/ آياتها (54)

و تسمى ب «حمعسق» أيضا لاشتمالها على كلمة «الشورى» و «حمعسق»، و هي كسائر السور المكية، تعالج قضايا العقيدة، قالوا و نزلت بعض آياتها في المدينة، كآية «القربى» و حيث ختمت سورة فصلت، بذكر إنكار الكفار للأصول، ابتدأت هذه السورة، بتقريرها، و تأكيدها، فقال سبحانه:

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع في السورة، باسم اللّه، و الإتيان، ب «الاسم» دون أن يقال «باللّه» للتحليل و التصريح، إذ قوله «باللّه» أيضا تؤول إلى «باسم اللّه» و للمعارضة لما يقوله أهل سائر الأديان، و الطرق كقول المسيحي «باسم الأب و الابن و الروح القدس» و التأكيد على صفتي «الرحمن الرحيم» للتوجيه إلى أهم الصفات التي تنفع الناس في دنياهم و

آخرتهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 13

[سورة الشورى (42): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)

[2- 3] حم* عسق أي أن هذا القرآن مؤلف من حروف الهجاء، التي منها «حاء» «ميم» «عين» «سين» «قاف»- على قول- أو رمز بين اللّه و الرسول- على آخر- أو هو إشارة إلى أسامي للّه تعالى،

فمعناه الحليم المثيب العالم السميع القادر- على رواية عن الصادق عليه السّلام «1»

- أو غير ذلك من الأقوال الكثيرة، في فواتح السور.

[4] كَذلِكَ أي كهذا الذي ذكرها من «حم عسق» أو كالوحي الذي تقدم من سائر سور القرآن يُوحِي إِلَيْكَ يا رسول اللّه وَ إِلَى الأنبياء الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ فاعل يوحي الْعَزِيزُ في سلطانه، فلا غالب عليه الْحَكِيمُ في تكوينه و تشريعه، فإنه يخلق الأشياء حسب الحكمة و الصلاح، و يأمر و يشرع، حسب الحكمة و الصلاح، فإنزال الوحي عليك، و على الأنبياء السابقين، تابع للحكمة، لا عبث فيه، و لا اعتباط، و لا محاباة.

[5] لَهُ تعالى بالخلق و الملك و التدبير ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ المراد الظرف و المظروف، فإن أحدهما يطلق، و يراد به الآخر- في كثير من الأحيان- إيجاز في الكلام وَ هُوَ الْعَلِيُ أي الرفيع الذي لا أرفع منه، و المراد رفعة المنزلة لا رفعة المكان، فإنه تعالى منزه عن المكان و المكانيات الْعَظِيمُ الذي هو أعظم من كل شي ء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 89 ص 373.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 14

[سورة الشورى (42): آية 5]

تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ

مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)

علما و قدرة، و من حيث سائر الصفات.

[6] ثم بين سبحانه بعض عظمته في الكون التي أوجبت أن تقترب السماوات إلى الإنفطار و الانشقاق خوفا و روعة، و أوجبت تنزيه الملائكة، و طلب غفرانهم لأهل الأرض العصاة، كما نرى من اعتذار الوزير من الملك، عمّن عصاه، لما يرى شدة بطشه، و لما يخاف من أن تحل نقمته- تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أي يتشققن مِنْ فَوْقِهِنَ أي جهة أعلاهن، لأن الأعلى، أقرب إلى ما ارتكز في الذهن من علوه سبحانه، و إن كان العلوان مختلفان، فعلوه سبحانه معنوي و علوها حسي، و المعنى أن عظمته سبحانه، بحيث تؤثر في السماوات، حتى أنها تقترب من الانشقاق، و هذا كقوله سبحانه وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «1» و قوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ) «2» وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهونه بذكر محامده، فإن من قال فلان شجاع، كان حمدا و تنزيها عن الجبن، بخلاف ما لو قال إنه ليس بجبان، فإنه لا يلزم أن يكون شجاعا وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ بأن يغفر اللّه لهم، أما مؤمنهم، فيغفر له عصيانه، و أما كافرهم فبأن يهيئ سبحانه مغفرته بالإيمان، حتى لا يحل بهم العذاب مما يرهب منه، حتى الملائكة، و إن كان تعذيبا لغيرهم، فإن الشخص يرهب العذاب، حتى إذا نزل بغيره أَلا فيتنبه البشر إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ

______________________________

(1) الرعد: 32.

(2) الأحزاب: 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 15

[سورة الشورى (42): الآيات 6 الى 7]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ

(6) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)

لذنوب عباده الرَّحِيمُ بهم يتفضل عليهم بالإحسان فوق الغفران.

[7] وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه أَوْلِياءَ أي الأصنام بأن عبدوها اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي أنه يحفظهم، فالأصنام موهومات، لا حقيقة لألوهيتها، و إنما اللّه هو الحافظ لهم، و هكذا كما يقول الرئيس: إن فلانا الذي يحاربني، يأكل رزقي و عطائي، وَ ما أَنْتَ يا رسول اللّه عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فإنك غير مسئول عن كفرهم، و إنما أنت مسئول عن تبليغهم، و قد فعلت ذلك.

[8] وَ كَذلِكَ أي كما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أو المعنى، «هكذا أوحينا إليك» و إنما جي ء ب «ذلك» لتنزيل رفعة القرآن معنى، منزلة بعده حسا- كما ذكروا في علم البلاغة- قُرْآناً عَرَبِيًّا فإنه بلغة العرب ليفقهوا ما فيه لِتُنْذِرَ يا رسول اللّه أُمَّ الْقُرى و هي مكة، و المراد أهلها وَ مَنْ حَوْلَها أي حول مكة من سائر القرى في العالم، فإنها حيث صارت أمّا صارت كل قرية حولها، فإن البنات حول الأم، و إنما سميت أم القرى، لأن الأرض دحيت من تحتها، كالأولاد الذين يخرجون من الأم بالولادة، و كأن هذا الإنذار، بالنسبة إلى الأمور الدنيوية، فإن من أعرض عن ذكره تكون معيشته ضنكا وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ هو يوم القيامة، الذي يجمع فيه الخلائق، بأن من كفر أو عصى، عذب بالنار و النكال لا رَيْبَ فِيهِ و إن ارتاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 16

[سورة الشورى (42): الآيات 8 الى 9]

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً

واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (9)

فيه كثيرون، إذ المعنى، إنه ليس محلّا للريب، كما قال سبحانه، بالنسبة إلى القرآن (لا رَيْبَ فِيهِ) «1» و كما تقول «لا ريب في نور الشمس» و إن أنكره السوفسطائيون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ و هم المؤمنون المطيعون وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي النار المستعرة الملتهبة، و هم الكفار و العصاة، فتنذرهم، بأن لا يتمادوا في الكفر و العصيان، حتى يكونوا من أصحاب السعير.

[9] وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أن يجبر الناس على دين واحد لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً و لكن هذا نقض للغرض، فإن الغرض من الخلقة التكليف، حتى يترتب عليه الثواب و العقاب، و لو كان الناس مجبورين، لكانوا كالأحجار و النبات في الفعل وَ لكِنْ خيّرهم، و أعطى الزمام بأيديهم، ل يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ ممن آمن و عمل صالحا فِي رَحْمَتِهِ بالسعادة في الدنيا، و الجنة في الآخرة وَ الظَّالِمُونَ الذين اختاروا الكفر و العصيان ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ يواليهم و يلي أمورهم وَ لا نَصِيرٍ ينصرهم.

[10] أَمِ منقطعة، بمعنى «بل» أي أن الكفار ضربوا عن عبادة اللّه و ولايته، و اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ هي الأصنام التي والاها الكفار فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ و إنما الأصنام أحجار لا تضر و لا تنفع، فهي

______________________________

(1) البقرة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 17

[سورة الشورى (42): الآيات 10 الى 11]

وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ

جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)

لا توالي أحدا و لا تنفع ولاية الناس لها وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى فمبعث الخلق بيده، لا بيد غيره، و يلزم من ذلك، أن يخاف الناس عقابه، حيث إن بيده الحكم وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من الإحياء و الإماتة و الرزق، و غيرها، بخلاف الأصنام، التي لا تقدر على شي ء، و اتخاذ القادر وليا أولى من اتخاذ العاجز.

[11] أما هذه الاختلافات التي حدثت بين الناس، فالحكم الوحيد فيها هو اللّه تعالى، إذ هو المطلع على الصدق و الكذب و الحقيقة و الزيف وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ الضمير عائد إلى «ما» أي كل شي ء اختلفتم فيه فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ و هو الحكم العالم الذي يحق له الحكم، أما من سواه، فبين جاهل، و بين ما لا يحق له الحكم، و إن كان عالما، إذ الفصل في القضايا و نفوذها أمر يحتاج إلى السلطة، و لا سلطة إلى له سبحانه ذلِكُمُ «ذا» إشارها، و «كم» خطاب اللَّهُ رَبِّي أي أن الذي يحكم بين المختلفين هو ربي، لا الأصنام العابرة الجاهلة عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في مهامي وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع في جميع أموري، أو المعنى، أتوب إليه.

[12] ثم وصف سبحانه بأنه فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي خالقهما و مبدعهما، من فطر بمعنى خلق، و هو الذي جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 18

[سورة الشورى (42): آية 12]

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (12)

مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنس نفوسكم أَزْواجاً ليسكن الإنسان إليها، فإن «كل

جنس لجنسه يألف» و لا يقال فكيف تكون في الآخرة زوجة الإنسان حورية؟ إذ هناك يلطف الإنسان، حتى يكون كالملك فيتجانسان وَ جعل مِنَ الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم أَزْواجاً ذكرا و أنثى، لتكميل المنافع و النتاج، لبقاء النسل، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ يَذْرَؤُكُمْ ذرأ، بمعنى أوجد، أي يخلقكم- أنتم و الأنعام- فِيهِ أي في هذا الجعل، فإن امتداد نسل الإنسان و الحيوان، إنما هو بجعل الأزواج، و لذا ينقطع من لا زوج له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ من الأصنام و غيرها من سائر المعبودات، و الكاف إما زائدة لتأكيد النفي- كما هو شأن الزوائد غالبا- أي ليس مثله شي ء، قطعا، أو هذا مبالغة، فإن الشي ء إذا لم يكن لما يشابهه مثل، لم يكن له مثل بطريق أولى، مع أنه سبحانه لا يشابه أحدا، فهو غير منقطع عن خلقه وَ هُوَ السَّمِيعُ للمسموعات الْبَصِيرُ للمبصرات، فهو غير منقطع عن خلقه، فقد أحاطهم علما و إدراكا.

[13] لَهُ سبحانه مَقالِيدُ جمع مقلاد و هو المفتاح السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإن مفتاح الصحة و المرض، و الغنى و الفقر، و الحياة و الموت، و الإيجاد و الإعدام، و غيرها ...، بيده، و هذا من باب التشبيه، فإن من بيده المفتاح يكون مسيطرا على الخزينة التي منها العطاء و المنح يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ من عباده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 19

[سورة الشورى (42): آية 13]

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ

يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)

وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق لمن يشاء، حسب حكمته في التوسعة و التضييق، و ليس معنى هذا، أن لا مدخلية للطلب، إذ الطلب من جملة الأشياء التي قررها سبحانه للرزق، كما أن الزواج من جملة الأسباب التي قررها سبحانه للولد، و إن كان الولد من خلقه تعالى إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و من علمه جعل بعض الناس أغنياء، بأن وسع عليهم، و جعل بعضهم فقراء، بأن ضيق عليهم.

[14] ثم أن هذا الخالق العظيم، الذي بيده كل شي ء، و هو سميع بصير بكل شي ء، هو الذي شرع الدين لرفاه البشر، و نظامه أفضل الأديان و الأنظمة، إذ يعرف ما يلائم حياة الإنسان، و ما لا يلائم، ثم إن نظامه خال من الأغراض، و الأهواء و الميول شَرَعَ لَكُمْ أيها المسلمون مِنَ الدِّينِ أي الإسلام، و معنى الشرع، جعل النهج و النظام و أصله من الظهور، و منه الشريعة لظهور محل أخذ الماء على الشاطئ، أو من الشروع بمعنى الابتداء ما وَصَّى بِهِ نُوحاً فالإسلام دين الأنبياء، من شيخ المرسلين نوح الذي كان بدء العالم الجديد وَ هو الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى فهؤلاء الأنبياء، و غيرهم من سائر الأنبياء، إنما بشروا بدين واحد، كما قال اللّه سبحانه إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «1» و قد ذكرنا في بعض

______________________________

(1) آل عمران: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 20

المؤلفات، إن الدين ينقسم إلى أصول و فروع و أخلاق، و الكل غير قادر للتبدل، فالأصول: التوحيد، و العدل، و النبوة، و الوصاية، و المعاد، و هل هذا قابل للاختلاف؟ و الفروع: خضوع يسمى الصلاة،

و إنفاق يسمى الزكاة، و إمساك يسمى الصيام، و ذهاب إلى محل يذكر اللّه يسمى الحج، و أمر بالمعروف، و نهي عن المنكر، و هل هذا قابل للنسخ؟ ثم بيع و شراء و إجارة و إرث، و ما أشبه، و رذائل محرمة، كالخمر و القمار، و فضائل لازمة، كالصلة و بر الوالدين، و هل يمكن تحريف شي ء منها؟ و الأخلاق شجاعة و غيرة و بذل و معونة و عفة، و ما أشبه، و هل يمكن أن تنقلب الشجاعة رذيلة، و الجبن فضيلة، و هكذا؟

نعم اختلاف في الحدود، و القيود، و الآداب، لا في الجوهر و الأصل أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ متعلق، ب «وصّى» أي أوصيناهم بإقامة الدين، بأن يكون قائما غير دارس وَ لا تَتَفَرَّقُوا أيها الأنبياء عليهم السّلام أو أيها الناس- بأن يكون من باب الالتفات- فِيهِ أي في الدين ثم ذكر اللّه سبحانه، إن الكفار يستعظمون دعوتك إلى التوحيد، لأنهم عباد أصنام قد توارثوها عن الآباء كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ باللّه ما تَدْعُوهُمْ من التوحيد و الإخلاص إِلَيْهِ أو المراد كبر عليهم دعوتك إلى نفسك بالرسالة، إذ قالوا، كيف صار رسولا من بيننا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1»؟ و هذا المعنى أقرب إلى الجملة التالية اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي أن اللّه سبحانه يختار من يشاء للرسالة،

______________________________

(1) الزخرف: 32.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 21

[سورة الشورى (42): آية 14]

وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

و لفظ «إليه» إنما هو لأن

المختار ينضم و ينتهي إلى من اختاره و اجتباه، و لا يختار اللّه إلا من هو قابل للرسالة، فليس اعتباطا و جزافا، أو تابعا للمال و الشرف الظاهري وَ يَهْدِي إِلَيْهِ بالألطاف الخفية مَنْ يُنِيبُ أي من يتوب إليه، و يرجع عن كفره و عصيانه، فإنه إذا هدى شخصا و أرشده الطريق، فأناب و تاب، لطف به بألطافه الخفية.

[15] وَ ما تَفَرَّقُوا أي لم يختلف أهل الكتاب فيما بينهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بوحدة الدين، و حقيقة جميع الأنبياء، فقد أرشدهم سبحانه، فلم ينيبوا و لم يرجعوا، و لذا تركهم سبحانه و لم يلطف بهم الألطاف الخفية، و لم يزدهم هدى، و إنما تفرقوا بَغْياً أي حسدا و ظلما بَيْنَهُمْ بأن بغى بعضهم على بعض حسد بعضهم بعضا، و المراد ظلم أهل الكتاب بعضهم بعضا، و كان الإتيان بلفظ «بينهم» لإفادة أنهم لم يظلموا الأجانب عن الإيمان بل حسدوا و ظلموا من هم على شاكلتهم في الدين و الإذعان وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بأن يمهلهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد سمي ذلك الأجل و الأمد في اللوح المحفوظ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي قضى اللّه سبحانه بينهم، بتقوية الحق، و إهلاك المبطل، لكن اللّه سبحانه، حيث حكم ببقائهم مدة معينة- لمصلحة رآها في ذلك- أخّر العذاب عنهم وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ بأن صاروا من أهل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 22

[سورة الشورى (42): آية 15]

فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ

بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

الكتاب، بعد أولئك الأنبياء، أو بعد آبائهم المختلفين لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من هذا القرآن أو من الدين مُرِيبٍ موجب للتشكيك و الريب، فهؤلاء كآبائهم في الاختلاف و التفرق، أو المعنى، أن أخلاف أهل الكتاب، لفي شك من كتابهم، إذ التفرق و الاختلاف، يوجب الشك و الريب في أن ما بيد الإنسان، هل هو صحيح أم لا؟

[16] فَلِذلِكَ أي لاختلاف هؤلاء في الدين بحيث لم يبق الدين واضحا قائما فَادْعُ يا رسول اللّه إلى اللّه سبحانه وَ اسْتَقِمْ في الدعوة، و لا تبالي بما تلاقي من أنواع الأذى و صنوف المكروه كَما أُمِرْتَ أي كما أمرك اللّه سبحانه بالدعوة و الاستقامة وَ لا تَتَّبِعْ يا رسول اللّه أَهْواءَهُمْ أي أهواء أهل الكتاب الذين حرفوا الدين، و زادوا فيه، و أنقصوا منه وَ قُلْ يا رسول اللّه معلنا وحدة الأديان و الكتب و الرسالات آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ فكل الكتب للهداية، و التبشير من جانب اللّه تعالى وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ فمن طبيعة دين اللّه العدل بين جميع الناس، فلا يحابي أحدا، و لا ينقص أحدا قدره اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ أيها الناس، فلا إله سواه لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ فكل امرئ مجزي بأعماله، إن كان خيرا فخير، و إن كان شرا فشر، فكفر الكافر لا يضر إلا نفسه، كما أن إيمان المؤمن لا ينفع إلا نفسه، و قد ظهر الحق ف لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ فقد تم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 23

[سورة الشورى (42): آية 16]

وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ

وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)

الاحتجاج، و ظهر الحق، واضحا جليا، إذ الاحتجاج إنما يكون قبل ظهور الحق، أما بعده، فلا فائدة فيه اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا للحساب يوم القيامة، حتى يظهر هناك، من المحق، و من المبطل وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي إلى ثوابه و عقابه، فالمؤمنون مصيرهم نعيم اللّه سبحانه و جنانه و الكافرون مصيرهم سخط اللّه و نيرانه.

[17] وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ في ذاته، أو صفاته مِنْ بَعْدِ تلك الحجج الواضحة، و قد ما اسْتُجِيبَ لَهُ استجاب للدعوة الزمرة المؤمنة حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي باطلة زائفة، إذ الاحتجاج بعد تمام الدليل، و التفات المؤمنين حول الدعوة لا قيمة له، نعم لو لم تثبت الحجة، أو لم يكن هناك جماعة مستجيبة، يأوي إليها الإنسان من شر الخصوم و العداء، لكان لهم بعض الحق، في الجدل و الخصومة، أما و قد بان الطريق، و سلكه الناس، فلا حجة، لمن لا يسلك عِنْدَ رَبِّهِمْ و إن كان بعض الناس يعطيهم الحق في بقائهم على الكفر، و لكن عند اللّه سبحانه، و في حسابه لا حق لهم، و لا مفهوم لقوله «من بعد ما استجيب له» بل ذلك بيان لشدة ضلال هؤلاء، حتى أنه بعد الاستجابة، يبقون على كفرهم و ضلالهم وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ من اللّه سبحانه وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يوم القيامة، أو أعم منه، و من الدنيا، و حيث إن اللّه سبحانه، ليس غضبه، بمعنى ما فينا- مما هو ملازم للنفس- كان معناه نتيجة الغضب، و هو الانتقام، و ذلك أعم من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 24

[سورة الشورى (42): الآيات 17 الى 18]

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ

(17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)

العذاب الشديد، فلا يقال بأنه موجب للتكرار.

[18] اللَّهُ الذي يحاجون فيه، هو من أنزل الشريعة و بيده المعاد، و هل يحاج الإنسان في جاعل النظام، و إليه مصير الأنام؟ فإن اللّه هو الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ أي القرآن بِالْحَقِ أي إنزالا بالحق، و لأجل إقامة الحق، فلا الإنزال بالباطل، كإنزال الشياطين على الكهنة، و لا المنزل باطل، كما لو أمر صاحب الدار بخراب داره، فإن له الحق في الإنزال، لأنه صاحب السلطة، لكن ليس له حق في الأمر المنزّل، و هو خراب الدار وَ أنزل الْمِيزانَ الذي يوزن به بين الحق و الباطل في العقائد، و الأعمال و الأقوال وَ ما يُدْرِيكَ يا رسول اللّه، أي من أين تدري- و هذا للتهويل- أو المراد، ما يدريك أيها المخاطب لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي القيامة، فلا يغر الإنسان، ما يراه من الأمن و السلامة، فلعل محكمته قربت، فاللازم أن يكون الإنسان على خوف و وجل منها.

[19] يَسْتَعْجِلُ بِهَا أي يطلبون عجلة الساعة، بأن تأتيهم عاجلا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها و إنما استعجالهم على وجه الاستهزاء و السخرية، كما يسخر غير المؤمن بالساعة إذا ذكّر بها وَ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و المعاد مُشْفِقُونَ أي خائفون مِنْها أي من الساعة، لما يعلمون من أهوالها، و لخوفهم، بأن يكونوا قد قصروا، فيسألهم عقابها و نكالها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا أي الساعة الْحَقُ الذي لا كذب فيه مقابل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 25

[سورة الشورى (42): الآيات 19 الى 20]

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ

وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

الكفار، الذين يظنون أنها باطلة، لا حقيقة لها أَلا فليتنبه السامع إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ أي يجادلون من المراء، و هو الجدال فِي السَّاعَةِ ليثبتوا بطلانها، منكرين لوجودها لَفِي ضَلالٍ و ابتعاد عن الصواب بَعِيدٍ كالإنسان الذي يضل عن الجادة كثيرا، و مقابل العصاة، الذين هم في ضلال، و لكن ليس بذلك البعد، فإنهم أقرب إلى الجادة، من منكر المعاد.

[20] إن اللّه سبحانه خلق الدنيا للامتحان، و لذا يرزق المؤمن و الكافر فيها، لتهيئة وسيلة السعادة، أما الآخرة، فليس رزقها، إلا لمن آمن و عمل صالحا، و هذا لتنبيه الكفار، بأن الآخرة، التي يوعدونها ليست بمثابة الدنيا يرزق فيها كل صالح و طالح، و إنما مقياس تلك غير مقياس هذه الدار اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يلطف بهم ليسعدهم، فيهيّئ لهم وسائل السعادة، سواء كانوا صالحين أم طالحين يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ كيف يشاء في سعة أو ضيق وَ هُوَ الْقَوِيُ القادر على الإعطاء و المنع و التوسعة و التضييق الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه، فلا يتمكن أحد من معارضته، [21] و إذا كان اللّه رازقا هنا، فليعلم العباد أن من طلب رزق الدنيا يؤتيه بقدر، و لا نصيب له في الآخرة، و من طلب رزق الآخرة- بالإيمان و العمل الصالح- يعطى أكثر من كسبه مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله حَرْثَ الْآخِرَةِ أي زرعه، فكأن العمل هنا بذر يعطي هناك ثماره نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ إذ يعطيه اللّه سبحانه من عشرة أضعاف إلى ما فوق سبعمائة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 26

[سورة

الشورى (42): الآيات 21 الى 22]

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)

ضعف وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا بأن عمل وكد و اجتهد للدنيا فقط، بدون لحاظ للآخرة في عمله نُؤْتِهِ أي ذلك المريد مِنْها أي من الدنيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ لأنه لم يزرع حتى يحصد.

[22] لقد تقدم، أن الدين شرع اللّه سبحانه الذي بشر به الأنبياء جميعا، أما طريقة هؤلاء الكفار، فمن ذا الذي شرعها لهم، بعد أن لم يأذن بها اللّه سبحانه؟ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا أي هل لهؤلاء الكفار أصنام شرعوا و نهجوا تلك المنهاج لَهُمْ مِنَ الدِّينِ و الطريقة في العقيدة، و العمل ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ و هذا سؤال استنكاري، أي كيف يحق لهم أن ينهجوا نهجا لم يأذن اللّه سبحانه به؟ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي الكلمة التي قالها اللّه سبحانه، في شأن تأخير العذاب عن هؤلاء و التي هي فاصلة بين حياتهم، و بين عذابهم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي حكم عاجلا، فيما بين هؤلاء الكفار، و بين المؤمنين، بإنزال العقوبة على هؤلاء، لانحرافهم عن الطريق وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يؤلمهم جزاء على كفرهم و عصيانهم.

[23] تَرَى يا رسول اللّه، و أيها الرائي الظَّالِمِينَ في يوم القيامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 27

[سورة الشورى (42): آية 23]

ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ

اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

مُشْفِقِينَ أي خائفين مِمَّا كَسَبُوا إذ يتجلى هناك لهم، أن أعمالهم أثمرت النيران و النكال وَ هُوَ أي ما كسبوا- و المراد جزائه، إلا أن يقال بتجسيم الأعمال- واقِعٌ بِهِمْ قطعا فلا مفر لهم منه وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة فصحت عقيدتهم و عملهم فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ الروضة هي الأرض الخضرة، بحسن النبات، و الجنة الأرض التي يحفها الشجر، و يجنها عن الشمس و الأبصار لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من أنواع الملاذ عِنْدَ رَبِّهِمْ فلهم شرف القرب المعنوي من اللّه سبحانه، كما أن لهم ما يشتهون من الملذات الجسمية ذلِكَ الثواب الذي ينعم اللّه سبحانه عليهم به هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي تفضل اللّه سبحانه عليهم، و إلا فالإنسان مهما كان عمله، لا يستحق على اللّه سبحانه شيئا.

[24] ذلِكَ الثواب و الفضل الكبير، هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ به عِبادَهُ الصالحين الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ فليرغب فيه الناس، و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لا يطلب عوض هذه البشرى، و هذه الهداية المنتهية إلى تلك النعم، و ذلك الفضل الكبير مالا و أجرا، و إنما يريد من الناس أن يوالوا أقربائه، فاطمة و الأئمة الأطهار، و ذلك ليس له أيضا، و إنما لهم، إذ إن الأئمة عليهم السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 28

يرشدون الناس إلى الخير و الصلاح، و يهدونهم إلى الحق و الصواب و الصدق قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الذين بشرتهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ

أي على ما جئتكم به من الهداية و البشرى أَجْراً و ثمنا إِلَّا الْمَوَدَّةَ أي الود و الحب فِي الْقُرْبى أي في أقربائي، و من الواضح، أن المودة الواجبة هي بالنسبة إلى فاطمة و الأئمة، صلوات اللّه عليهم أجمعين، أما بالنسبة إلى سائر ذرية الرسول- غير من كفر منهم- فالمودة مستحبة، و

قد قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أكرموا ذريتي الصالحين للّه و الطالحين لي»

، و

قال «المرء يحفظ في ولده»

«1» و ينسب إلى الشافعي، أنه قال:

يا آل بيت رسول اللّه حبكم فرض من اللّه في القرآن أنزله كفاكم من عظيم الفخر أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له و قد ورد إن المشركين تسألوا، هل يريد محمد من رسالته أجرا، فنزلت هذه الآية وَ مَنْ يَقْتَرِفْ أي يعمل حَسَنَةً من عقيدة أو عمل أو مودة لآل البيت نَزِدْ لَهُ فِيها أي في تلك الحسنة حُسْناً بأن نجعل له ثوابا في الآخرة فالتصدّق- مثلا- حسن في الدنيا، فمن تصدق نزيد صدقته حسنة، بجعل ثواب لها في الآخرة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

______________________________

(1) الاحتجاج: ج 1 ص 102.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 29

[سورة الشورى (42): آية 24]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)

للسيئات، فلا ييأس المذنب من عفوه و غفرانه- و هذا بمناسبة ذكر الكفار و الظالمين-. شَكُورٌ يشكر حسنات العباد، و شكره سبحانه، بإعطائه الزيادة هنا، و الأجر هناك- و هذا بمناسبة ذكر المؤمنين العاملين للصالحات-.

[25] إن هؤلاء الكفار يصمون عن الحق، و لا ينظرون في الأدلة أَمْ أي بل يَقُولُونَ افْتَرى محمد عَلَى اللَّهِ

كَذِباً حيث نسب القرآن إليه كذبا، و هو من كلامه، و لكن هذا الكلام منهم كذب، إذ ليس اللّه سبحانه يدع أحدا يدعي النبوة، و يأتي بالخارقة، ثم يذره فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ حين يراك كاذبا- كما زعموا- يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فلا تتمكن من تلاوة القرآن، كالظرف المختوم الذي لا يخرج منه شي ء مما فيه وَ لا يهمك يا رسول اللّه هذا الافتراء منهم، فإنه يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ من أقوالهم و يزيله، فلا يتعلق به أحد، و لا يرى كلامهم صوابا وَ يُحِقُّ الْحَقَ أي يظهر كونه حقا، إذ معنى «أحق» أثبت بِكَلِماتِهِ أي يظهر حقية الرسول، بما ينزله من القرآن الذي لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله، فيبطل دعواهم، إذ لو كان الأمر، كما قالوا لتمكن فصحاؤهم من الإتيان بمثله إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ أي عالم بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأمور التي تدور في صدورهم حولك لإبطال أمرك، فلا يترك مؤامراتهم و أفكارهم تنفذ فيك، و تطبق عليك، بل يحبطها و يبطلها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 30

[سورة الشورى (42): الآيات 25 الى 27]

وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)

[26] و لا ييأس هؤلاء الكفار عن رحمة اللّه و فضله و عفوه، فإن تابوا مما هم فيه، تاب عليهم وَ هُوَ اللّه الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فمن تاب و رجع إليه قبل توبته وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ أي المعاصي، و

هذا في مقابل أن يقبل التوبة، و يضم التائب إلى جماعته، لكنه ينتقم منه لما فعل سابقا وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أيها البشر من عصيان و طاعة و إدبار و توبة فلا يظن أحد أنه مختف عليه سبحانه، لا يرى سيئته، فيعاقبه، أو حسنته فيجازيه بالثواب.

[27] وَ هو الذي يَسْتَجِيبُ أي يجيب الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ فهو يعطي طلباتهم إن رأى ذلك صلاحا، و إلا أخّرها إلى القيامة، كما ورد بذلك الأحاديث وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فليس إجابة الدعاء فحسب، بل إثابة على الدعاء، فمن طلب من اللّه ولدا أعطاه، و تفضل عليه بالثواب حيث دعاه، أو المراد أنه يزيد على الطلب لطفا و كرما، فمن طلب ولدا أعطاه ولدين- مثلا- وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في مقابل المؤمنين لهم الإجابة و الفضل.

[28] و إذ تقدم أنه سبحانه، يستجيب للمؤمنين، و يزيدهم من فضله، يأتي سؤال أنه، لماذا نرى حاجة كثير من المؤمنين و فقرهم، و إنهم يدعون ليل نهار؟ و الجواب وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ بأن وسع عليهم في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 31

[سورة الشورى (42): آية 28]

وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

دار الدنيا، كما يريدون لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ف إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1»، و لذا يضيق عليهم، حتى يحفظهم من البغي و التعدي و قد حكي: إن معدما سأل موسى أن يطلب من اللّه- في مناجاته- أن يتفضل عليه، فلما سأل موسى، أجابه اللّه بذلك، و أعلمه أن التوسعة على هذا، لم يكن صلاحا، و إنما أجاب الدعاء، و حين

رجع موسى من «الطور» رأى المعدم، و هو يؤخذ للقضاء، فقالوا: إنه أثرى فشرب الخمر و سكر، و قتل إنسانا فهو يؤخذ للقصاص وَ لكِنْ يُنَزِّلُ اللّه الرزق بِقَدَرٍ ما يَشاءُ مما يراه صلاحا، و إن قيل، فلما ذا يفقر بعض الصالحين، كالأنبياء، و يثري بعض الفاسدين كالفراعنة؟ فالجواب، أن الفقر هناك، لترفيع الدرجات، و هنا لإزهاق أرواح هؤلاء بالمال، حيث تظهر منهم بعض السيئات، فيستحقون التوسعة للنكال و العذاب إِنَّهُ تعالى بِعِبادِهِ جمع عبد خَبِيرٌ مطلع على أحوالهم بَصِيرٌ يراهم، فهم تحت علمه الشامل، و رؤيته النافذة، و لذا يدبرهم على نحو الصلاح و الحكمة.

[29] وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي المطر من السماء مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي بعد أن يئسوا عن المطر، و جدبت أراضيهم، و قحلت وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ بإخراج النبات و الثمر، و تنمية الزرع و الضرع، فيرى الإنسان نعمه سبحانه، منتشرة في سهول الأرض و جبالها وَ هُوَ الْوَلِيُ الذي يلي شؤون عباده الْحَمِيدُ المحمود في أفعاله، فما يتفضل به يستحق به

______________________________

(1) العلق: 7 و 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 32

[سورة الشورى (42): الآيات 29 الى 30]

وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)

الحمد و الشكر.

[30] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده، و سائر صفاته خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فمن خلقهما و أوجدهما، إنه هو اللّه وحده لا شريك له وَ ما بَثَّ فِيهِما أي نشر في السماوات و الأرض مِنْ دابَّةٍ تدب على وجه الأرض، أو تطير في السماء وَ

هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ الجمع قَدِيرٌ و المراد بالجمع، إما الحشر- كما قال تعالى: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ «1»- و إما أن يجمعهم في مكان واحد، و هذا لإلقاء ظلّ قوي من القدرة الوسيعة، في ذهن المخاطب، حتى أنه سبحانه، يتمكن من جميع هذه الكثرة الهائلة المتشتتة من صنوف الحيوان.

[31] أرأيتم فضل اللّه و قدرته؟ فاعلموا أن انحرافكم عن منهاجه، يوجب التضييق على أنفسكم، فما يصيبكم من الأذى، إنما هو من أعمالكم، و إلا ففضله سبحانه عام، كما أنكم لا تقدرون على الفرار من بأسه، إذا شاء بكم الأذى، فإنه صاحب القدرة الوسيعة وَ ما أَصابَكُمْ أيها الناس مِنْ مُصِيبَةٍ مالية أو بدنية، أو غيرهما فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ من الكفر و العصيان، و النسبة إلى اليد لأنها الآلة العاملة في تحصيل الكثير من الآثام، كالسرقة و الضرب، و النهب و القتل، و ما أشبه، و لا يخفى أن هذا العام مخصص بمن لم يكن له كسب سيّ ء، فإن ما أصابه، إنما هو لزيادة الأجر و المنزلة، كما هو معلوم عقلا و نقلا وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ فليس يعاقب عليها.

______________________________

(1) التكوير: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 33

[سورة الشورى (42): الآيات 31 الى 33]

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (31) وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)

[32] وَ ما أَنْتُمْ أيها البشر بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا تتمكنون من تعجيز اللّه سبحانه، بأن تفرون منه، فلا يقدر على عقوبتكم التي استحققتموها، و لعل الإتيان ب «في الأرض»

للتعميم، فإن بعض المجرمين أيضا، لا يتمكنون من تعجيز سلطاتهم في البلاد التي هم مسيطرون عليها، أما عدم التعجيز في الأرض كلها، فذلك خاص به سبحانه وَ ما لَكُمْ أي ليس لكم أيها البشر مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه مِنْ وَلِيٍ يلي أموركم، و يدبر شؤونكم، و يدفع العذاب عنكم وَ لا نَصِيرٍ ينصركم من بأس اللّه سبحانه، و هذا لتنبيه الكفار على أن معاصيهم، لا بد من الجزاء عليها، فلا يظنوا أنهم يتمكنون من الفرار، أو أن أولياءهم، يتمكنون من دفع العذاب عنهم، أو أن أنصارهم يقدرون على التغلب على إرادة اللّه سبحانه.

[33] وَ مِنْ آياتِهِ أي آيات اللّه سبحانه الدالة على وجوده و سائر صفاته الْجَوارِ جمع جارية، و هي السفينة، سميت بها لجريها في الماء فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ جمع علم، و هو الجبل الطويل، فمن جعل الماء بحيث يحملها، و من سخر الهواء، بحيث تجريها إلى حيث تشاء؟

[34] إِنْ يَشَأْ اللّه سبحانه يُسْكِنِ الرِّيحَ بأن لا تتحرك فَيَظْلَلْنَ أي تلك السفن، و الإتيان بضمير العاقل، لعله باعتبار من فيها رَواكِدَ جمع راكدة، و هي الواقفة في محلها عَلى ظَهْرِهِ أي ظهر الماء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 34

[سورة الشورى (42): الآيات 34 الى 36]

أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)

لا تتحرك من أماكنها، و هذا بالنسبة إلى السفن الهوائية لا البخارية إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من تسخير الماء و الهواء، لتسيير السفن لَآياتٍ دلالات متعددة من البحر

و الريح و السير، و غيرها لِكُلِّ صَبَّارٍ يصبر عند البلاء شَكُورٍ يشكر عند النعماء، فإن مثل هذا الإنسان، الذي نضج عقله، حتى أنه صار صبارا شكورا، هو الذي يلتفت إلى هذه النعمة العظيمة، و يراها الدالة على وجود اللّه سبحانه، و سائر صفاته.

[35] أَوْ إن يشأ اللّه سبحانه يُوبِقْهُنَ أي يهلك السفن، بأن يجعل الريح عاصفة حتى تغرقها بِما كَسَبُوا أي كسب أهلها من الكفر و العصيان وَ يَعْفُ اللّه سبحانه عَنْ كَثِيرٍ فإذا أهلكهم، فببعض ذنوبهم لا بكلها، و إلا كان الكل مقتضيا، لإهلاك العاصي قبل ذلك، و إن رحمهم، فبعفوه عن جميع الذنوب، بمعنى عدم معالجته بعقوبتها.

[36] وَ هناك، إذا وقفت الريح أو عصفت يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا أي يجادلون لإبطال آياتنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي لا نجاة لهم من تلك التهلكة، و إنما خصهم، لأنهم هناك يعترفون، أما غيرهم، و هم المؤمنون، فاعترافهم دائم الأوقات.

[37] و إذ بين اللّه سبحانه بعض نعمه على البشر في البر و البحر، ألفت الناس إلى أن كل هذه في جنب نعيم الآخرة، هين يسير فَما أُوتِيتُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 35

[سورة الشورى (42): الآيات 37 الى 38]

وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)

أي أعطيتم أيها البشر مِنْ شَيْ ءٍ من هذه النعم فهي متاع الْحَياةِ الدُّنْيا أي تتمتعون بها في الحياة القريبة الزائلة وَ ما عِنْدَ اللَّهِ و المراد عند رتبته، بل شرّفها، و أعلى رتبتها عن رتبة ما في الدنيا، و إلا فليس للّه تعالى مكان خَيْرٌ من

متع هذه الحياة وَ أَبْقى أي أكثر بقاء، لأنها تبقى دائم الأبد، و أنها لِلَّذِينَ آمَنُوا بأن صحت عقيدتهم وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أمورهم، و ذلك دليل الإيمان، حيث يرون اللّه سبحانه، مالك كل شي ء، و بيده أزمة كل شي ء.

[38] وَ الَّذِينَ عطف على «للذين» و المعنى أن ما عند اللّه سبحانه، إنما هو لمن اتصف بهذه الصفات يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ مثل الزنى و القمار و الربا، و ترك الصلاة، و الزكاة، و ما أشبه، و إنما قال «كبائر الإثم» لأن الصغائر تقع من غير المعصوم، لا محالة وَ الْفَواحِشَ و هي المعصية الفاحشة التي تتجاوز الحد كثيرا، و كأن هذا أعظم من الكبائر، أو المراد التي تسمى في العرف فاحشة، كالزنى و اللواط و السحق و ما أشبه وَ إِذا ما غَضِبُوا «ما» زائدة للتأكيد أو مصدرية، أي حين الغضب هُمْ يَغْفِرُونَ ذنب الذي أوجب غضبهم، بأن أزادوا على الحلم، عن المغضب غفران ذنبه.

[39] وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ بأن أجابوه سبحانه في كل ما دعاهم إليه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 36

من أمور الدين وَ أَقامُوا الصَّلاةَ خصصها بالذكر لأهميتها، و لصعوبتها على الإنسان و لأنها إذا استقامت، نهت عن الفحشاء و المنكر بطبعها وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ يتشاورون في أمورهم، هي «فعلى» من المشاورة، و هي المفاوضة في الكلام ليظهر الحق، و المراد بالأمور، هي جميع شؤونهم، التي لم يجعل لها اللّه حدا خاصا، و ذلك من المستحب، في الزواج، و البيع، و الإجارة، و التعلم، و الاكتساب، و غيرها، و قد تمسك بعض ممن تأثرت أفكارهم بأنظمة الغرب، بهذه الآية، لتصحيح الديمقراطية الغربية، من أحزاب، و برلمان، و مجلس الشيوخ،

و انتخابات، و ما أشبه، و هذا بالإضافة إلى أنه غلط في نفسه، و إن وقع فيه كثير من بلاد الغرب، كما التثليث «في الدين المسيحي» غلط وقعت فيه جماعات كثيرة، مخالف للإسلام، و لم يطبقه المسلمون في يوم من الأيام، و ذلك دليل عدم فهمهم من الآية ذلك و لم يفسرها الرسول أو الأئمة عليهم السّلام بذلك، فلنأخذ أهل السنة أنهم قالوا، بأن الرسول مات بلا تعيين، فأبو بكر خليفة بالقوة- كما يظهر ذلك لمن راجع تاريخ السقيفة- و عمر بالوصاية من أبي بكر فقط، و عثمان بجعل من عمر في ستة فقط- و إن سماه شورى، و هل نصب الملوك لشخص في مشاورة سداسية تعتبر انتخابات على ما يريدون هؤلاء؟ و علي عليه السّلام بانتخاب الثوار و جماعة من أهل المدينة، و إن كثرت الأصوات له بالنسبة إلى سابقيه نوعا ما، و مجي ء علي إلى الحكم، لأنه عرف نفسه أحق، لا لأنه انتخب، و لذا

قال في خطبة الشقشقية «و هو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى» و «أرى تراثي نهبا»

، و الحسن عليه السّلام بالوصاية، أو انتخاب جماعة من أهل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 37

الكوفة، و معاوية بالسيف و يزيد بالوصاية، و هكذا دامت السيف و الوصاية إلى آخر خليفة عثماني، و عمر بن عبد العزيز جاء بالوصاية، ثم بانتخاب أهل المسجد فقط- خوفا من السلطان، كما هو معلوم في مثل هذه الأحوال، قديما و حديثا- فأين من هذا «الديمقراطية» و إن طورها أحزاب اليوم ألف تطوير، لإلصاقها بالإسلام، و يظنون أنه فتح للإسلام، فبينما هو هدم لأقوى دعائمه، ثم لنأخذ الشيعة: فنعتقد نحن أن اللّه كما عين الرسول،

عين الأئمة الاثنى عشر، ثم عين الأئمة الفقهاء الجامعين للشرائط، و كل ملك شيعي كان فقيها جامعا للشرائط، أو كان مأذونا من فقيه جامع للشرائط فهو بحق أصالة أو وكالة، و كل من فقد هذين الوصفين، فهو باطل، و نرى في تاريخ ملوك الشيعة الأقسام الثلاثة، بدون أن يكون فيهم اسم انتخاب و لو في يوم واحد إلى آخر ملوك القاجار في إيران .. ثم إن الانتخابات بجميع صورها باطلة ليست من الإسلام، أما انتخابات هذا اليوم فهي أشنع و أبشع، و لذا أفتى علماء حول مجلس إيران، بأنه ضلال و انحراف، و أرادوا تحريره، فقتل «الشيخ فضل اللّه النوري» و «السيد عبد اللّه البهبهاني» و «الشيخ الآخوند المولى محمد كاظم الخراساني» فقد كان قصدهم من «المشروطة» التي أقدموا عليها، أن يكون للملك جماعة من العلماء العدول، أقلهم خمسة، و بعض الناضجين حين ما يريد إنفاذ حكم من أحكام الإسلام، و تطبيقه على الأمة، و أرادوا بذلك إحياء سنة الرسول، و سيرة الخلفاء و الملوك الأقدمين حيث كانت مجالسهم لا تخلو من علماء لإرشادهم سبيل الدين، و ناضجين لإرشادهم سبيل الدنيا- بالنسبة إلى غير النبي و الوصي- أما هما فاستشارتهم، كانت لجلب الخواطر، و إلا فهم أغنى عن ذلك ... و أفتى علماء العراق حول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 38

[سورة الشورى (42): الآيات 39 الى 40]

وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)

مجلس الأمة، حين أراد «فيصل» فتحه بأمر الإنكليز، لهدم الإسلام، بأن «المنتخب و المنتخب كلاهما في النار» و قد لقوا جزاء فتياهم تشريدا و

تسميما و إهانة و هتكا، فمن أراد اليوم إعادة «المجلس» أو «الانتخاب» أو «الديمقراطية» أو «الأحزاب» أو ما شابه ذلك، بزعم أنه خدمة للإسلام و خلاص للمسلمين، فليعلم- إن كان مخلصا- أنه يبني من جديد لهدم الإسلام، في لباس الإسلام، و سيرى في الدنيا انقلاب الأمر عليه، و في الآخرة الخسارة و النكال، فإن هذا أساس غربي بحت لا يمت إلى الإسلام بصلة أصلا، و من كان شاكا فليدرس الإسلام من جديد، لا على ضوء الأنظمة الغربية، و ما ارتكز في ذهنه من سموم الأجواء التي نشرها الغرب و عملائه، بل على ضوء الكتاب و السنة، و فتوى الفقهاء، الذين هم أعرف الناس بالإسلام و بنظمه وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ من المال و العلم و الجاه، و غيرها- حسب عموم الآية- و إن كان المنصرف خصوص المال يُنْفِقُونَ في سبيل اللّه.

[40] وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ أي الظلم، بأن ظلمهم أحد هُمْ يَنْتَصِرُونَ بأن ينتقموا ممن تعدى عليهم، لئلا يصيبهم الذل، و لئلا يجرأ الظالم على التمادي في غيه، إن رأى الباب أمامه مفتوحا، و غير خاف أن هذا لا ينافي قوله «إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» فلكل شي ء مجاله.

[41] ثم بين سبحانه حد الانتصار لئلا يتجاوز المظلوم على مقدار ما ظلم انتقاما و تشفيا وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ يوردها الظالم سَيِّئَةٌ مِثْلُها يردها المظلوم، و سميت سيئة، من باب المزاوجة، لكون الرد شبيه التعدي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 39

[سورة الشورى (42): الآيات 41 الى 42]

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42)

في الشكل، و

منه قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «1» و قوله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ «2» فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ بأن عفا عن المعتدي فيما كان ذلك ثوابا، لا عقابا، بأن أذل نفسه، و جرأ المعتدي على التمادي في العدوان، و أصلح فيما بينه و بين اللّه، بأن كان عفوه للّه سبحانه، لا لغاية دنيوية، أو أصلح بين عدوه و نفسه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فإنه يثيبه جزاء عفوه و إصلاحه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فليس ترغيبه في العفو، لأنه أخذ جانب الظالم، بل لأجل، أن بعض الناس يصلحهم العفو أكثر مما تصلحهم العقوبة، و لأنه موجب لعظيم مثوبة المظلوم.

[42] وَ لَمَنِ انْتَصَرَ لنفسه من ظالمة، بأن رد اعتدائه بالمثل بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد أن ظلمه الظالم فَأُولئِكَ المنتصرون، و إنما جي ء بالجمع، باعتبار معنى «من» و قد تقرر في الأدب أنه يجوز في من و ما مراعاة اللفظ، و المعنى ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي من إثم و عقاب في الآخرة، لأنه أخذ حقه و لم يتعد.

[43] إِنَّمَا السَّبِيلُ في عقاب الدنيا بواسطة السلطان و عقاب الآخرة عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ابتداء وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ أي

______________________________

(1) البقرة: 195.

(2) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 40

[سورة الشورى (42): الآيات 43 الى 44]

وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)

يفسدون في الأرض، و إنما جي ء، ب «في الأرض» لبيان أن كل بغي، إنما يظهر أثره في الأرض، و أن ظنه الظالم

صغيرا موضعيا «1» بِغَيْرِ الْحَقِ فإن كل بغي بغير الحق و إنما جي ء بهذا الوصف، لإظهار البشاعة، و تعليل «إنما السبيل» أُولئِكَ الباغون لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع في الدنيا بالحد و التعزيز، و في الآخرة بالنار و النكال.

[44] وَ لَمَنْ صَبَرَ على الأذى وَ غَفَرَ أي عفى عن المؤذي- فيما كان الغفران خيرا- إِنَّ ذلِكَ منه لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي الأمور التي تحتاج إلى عزيمة قوية في النفس، و ليس من الأمور التي تأتي عفويا، حسب إرادة عادية، فإن ذلك بحاجة إلى شجاعة نفسية فائقة.

[45] و بعد استعراض صورة للمؤمنين في دنياهم و آخرتهم، يأتي السياق لنقل حال الكافرين في النشأتين وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يتركه و شأنه، بعد أن أراه الطريق فلم يسلكه، و هذا هو معنى الإضلال، كما سبق فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ يلي أموره، و يأخذ بيده مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد اللّه سبحانه، إذ لا هادي إلا اللّه تعالى وَ تَرَى يا رسول اللّه أو أيها الرائي الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يوم القيامة يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ أي رد إلى الدنيا، فإن

______________________________

(1) العدالة الإسلامية للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 41

[سورة الشورى (42): آية 45]

وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45)

«مرد» مصدر ميمي مِنْ سَبِيلٍ تمنيا منهم للرجوع إلى الدنيا، حتى يعملوا صالحا- بظنهم-.

[46] وَ تَراهُمْ أي ترى الظالمين يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي النار، و المعنى تعرض النار عليها، و إنما جي ء هكذا، لأنهم يذهب بهم من عند النار

أو من باب «القلب» كقوله «كما طينت بالفدن السياعا» خاشِعِينَ أي متواضعين مِنَ الذُّلِ الذي أخذهم حيث وجدوا مرارة النكال و الحكم، عليهم بالعذاب و الهوان يَنْظُرُونَ إذا أرادوا النظر إلى شي ء مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ فإن الإنسان الذي لم يجرم ينظر إلى الإنسان و الأشياء بكل عينه، أما المجرم فإنه يختلس النظر بخفاء، لئلا يراه أحد فيشتمه أو يؤذيه، أو يخجل منه، فإن الحياة غالية في العين وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا تعريضا بهم و جوابا لما قال الظالمون لهم، في الحياة، بأنهم يخسرون بسبب الإيمان سعادتهم و مستقبلهم إِنَّ الْخاسِرِينَ هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ حيث عذبوها و أوقعوها في النار وَ أَهْلِيهِمْ حيث فارقوهم، سواء كانوا من أهل الجنة، أو من أهل النار يَوْمَ الْقِيامَةِ فإن هذا هو الخسارة الكبرى، لا ذهاب بعض المنافع الدنيوية، كما كان يقول الكفار للمؤمنين، في دار الدنيا أَلا فليتنبه السامع إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ لا يتحول عنهم أبدا، و المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 42

[سورة الشورى (42): الآيات 46 الى 47]

وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)

بالظالمين المعاندين من الكفار، فإنهم هم المخلدون.

[47] وَ ما كانَ لَهُمْ أي للظالمين مِنْ أَوْلِياءَ جمع ولي، أي أصدقاء و أحباء يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من عذاب اللّه، بأن يدفعوا عنهم عذابه و نكاله، أو أن «من دون اللّه» متعلق ب «أولياء» أي لا ولي غير اللّه، ينصر وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يتركه و

شأنه، بعد أن أراه الطريق، فلم يهتد فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ يوصله إلى المقصد، و هو السعادة، إذ السبيل الوحيد، هو سبيل اللّه، فإذا تركه الإنسان، لم يكن هناك سبيل آخر يوجب النجاة و الخلاص.

[48] اسْتَجِيبُوا أيها الناس، و لعل الإتيان من باب «الاستفعال» لفرض بيان أن الإجابة يلزم أن تكون من القلب بطلب و إرادة، لا مجرد إجابة لفظية، و عمل سطحي لِرَبِّكُمْ بالإيمان به، و إطاعة أوامره مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ هو يوم القيامة لا مَرَدَّ لَهُ أي لا رجوع لذلك اليوم، بأن يتأخر عن موعده، حتى يجد العصاة فرصة لاستئناف العمل مِنَ اللَّهِ إما بمعنى، إن اللّه لا يرده، أو أنه لا يرد على اللّه، بأنه يرده أحد خلافا لإرادة اللّه ما لَكُمْ أيها البشر مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ تلجئون إليه، و تقون أنفسكم بسببه عن عذاب ذلك اليوم وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي منكر ينصركم، أو إنكار: بمعنى أنكم لا تقدرون على الاستنكار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 43

[سورة الشورى (42): آية 48]

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)

لشدة الهول و الفزع، أو لما ترون من عدم الفائدة في إنكاره.

[49] فَإِنْ أَعْرَضُوا يا رسول اللّه، و لم يؤمنوا فلا يهمك أمرهم، و لا تذهب نفسك عليهم حسرات، إذ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي مأمورا بحفظهم حتى يكون خروجهم خلاف مسئوليتك، و ما كلفت به إِنْ عَلَيْكَ أي ما عليك يا رسول اللّه إِلَّا الْبَلاغُ فأنت مأمور بالتبليغ و الإرشاد، و قد فعلت ذلك وَ هؤلاء بعداء عن

الإيمان، لما جبلوا عليه من البطر حالة الرخاء و الكفر حالة البلاء و كيف هؤلاء يخالفون حتى يبتلوا بالنار- مع هذا الطبع الرقيق الذي لا يتحمل نقمة و لا شدة-؟ ف إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ و المراد به هؤلاء، لا كل إنسان، و إنما جي ء باللفظ العام، لأن ذلك هو الطبع الغالب مِنَّا رَحْمَةً أي أوصلنا إليه من طرفنا رحمة فَرِحَ بِها أي بطر و تجاوز الحد، كما قال له قومه لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي صفة تسؤهم كالفقر و المرض و الخوف، و ما أشبه بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي كانت تلك السيئة جزاء لبعض أعمالهم، و النسبة إلى «اليد» لأنها العضو الغالب في الإتيان بالأفعال، و إلا فالمراد كل معصية فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ يجزع من البلاء، و ينسى النعماء.

______________________________

(1) القصص: 77.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 44

[سورة الشورى (42): الآيات 49 الى 51]

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

[50] و النعم كلها من اللّه سبحانه، حتى أعظم النعم التي توجب امتداد الإنسان- و هي الذرية- فلم يبتعد الإنسان عن اللّه، و هو المنعم و المتفضل عليه؟ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو خالقهما و مالكهما، و المراد الظرف و المظروف معا يَخْلُقُ ما يَشاءُ فله الملك، و بيده الخلق، و منه الإعطاء، و المنع يَهَبُ أي يعطي

على وجه الهبة المجانية لِمَنْ يَشاءُ من الناس إِناثاً جمع أنثى، أي البنات، و المراد بالجمع الجنس- و قد سبق، أن كلا من الجمع و الجنس، يخلف الآخر في المعنى- وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ جمع ذكر، أي البنين.

[51] أَوْ يُزَوِّجُهُمْ أي يجمع لهم، يقول العرب: زوجت إبلي، أي جمعت بين كبارها و صغارها ذُكْراناً وَ إِناثاً فيعطيهم من الجنسين، إما في بطن واحد، أو بطون متعددة وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ من الرجال أو النساء عَقِيماً لا يصير له ولد، إما بضعف مني الرجل، أو ضعف رحم المرأة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بالمصالح قَدِيرٌ لما يشاء.

[52] و إذ تقدم جملة من شؤون المعاد، و الألوهية، جاء السياق لبيان بعض شؤون الرسالة، كما هي العادة في السور المكية، تبين من كل هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 45

[سورة الشورى (42): آية 52]

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)

الأصول نتفا و أطرافا، و قد كان الكفار يطلبون من الرسول أن يروا اللّه يكلمهم وجها لوجه، حتى يصدقوا كما قالوا لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ «1» فجاء الجواب وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أي لا يمكن للبشر مهما كان عظمه و قدره أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وجها لوجه، فإنه سبحانه لا يمكن رؤيته، إذ ليس جسما، و لا جسمانيا، حتى يرى إِلَّا وَحْياً بأن يلقي في قلبه إلقاء، فإن أصل الوحي، هو الإلقاء الخفي بحيث لا يعرفه غير المخاطب أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن يتكلم اللّه معه، و لا يراه تعالى، فكان حجابا فاصل بينهما، و

هذا كناية عن عدم الرؤية أَوْ يُرْسِلَ سبحانه رَسُولًا أي ملكا، ليكلم الإنسان عن اللّه سبحانه فَيُوحِيَ بواسطة ذلك الملك أو يوحي الملك، و يلقي في قلب الرسول بِإِذْنِهِ أي بإذن اللّه تعالى ما يَشاءُ من المعارف و الأحكام، و الإتيان بلفظ «بإذنه» لإفادة، أن كلّا من مجي ء الملك، و تكلمه مع الرسول، بحاجة إلى الإذن و الأمر إِنَّهُ سبحانه عَلِيٌ أي رفيع عن إدراك البشر، فلا يراه أحد حَكِيمٌ في جميع أفعاله فلا يكلم أحدا إلا الرسول، أو ما أشبه، أما أن يكلم كل أحد، فليس ذلك من الحكمة لعدم قابلية مطلق البشر لكلام اللّه مباشرة.

[53] وَ كَذلِكَ أي كما أوحينا إلى الأنبياء السابقين، أو بمعنى هكذا-

______________________________

(1) البقرة: 119.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 46

على تقريب تقدم بيانه- أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه رُوحاً و المراد به الشريعة، إذ هي روح الحياة السعيدة، فإن الإنسان بدون الشريعة، كالميت الذي لا يعقل، و لا يشعر، و لا يبصر، و لا يسمع، إذ هو خال عن الحقائق الكونية، ضال عن طريق الرشد مِنْ أَمْرِنا أي ناشئا تلك الروح من أمرنا و إرادتنا، فهو صادر عنا، فإن الإنسان، قد يعطي من نفسه، و قد يعطي من غيره، و ما يعطي من النفس، أكثر خيرا و تكرمة، و لعل الإتيان، ب «من أمرنا» لبيان ذلك ما كُنْتَ تَدْرِي يا رسول اللّه مَا الْكِتابُ قبل أن يوحى إليك وَ لَا الْإِيمانُ قبل أن تتلقنه، و من البديهي أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل إلقاء اللّه إليه الكتاب و الإيمان، لم يكن يعلمهما، و إنما الكلام في أن الآية ساكتة عن وقت ذلك، و الظاهر أنه

قبل خلق العالم، فهو حكاية عن ابتداء خلقة الرسول في العوالم العلوية، كما

ورد «كنت نبيا، و آدم بين الماء و الطين»

«1» وَ لكِنْ نحن الذين أعلمناك جَعَلْناهُ أي جعلنا الكتاب و الإيمان- باعتبار كل واحد منهما- نُوراً لدروب الحياة المظلمة نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ من الذين يقبلون الدعوة، فالمراد بالهداية: الألطاف الخاصة، أما إرشاد الطريق، فهو عام لكل أحد مِنْ عِبادِنا جمع عبد وَ إِنَّكَ يا رسول اللّه لَتَهْدِي و ترشد

______________________________

(1) مفتاح الفلاح: ص 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 47

[سورة الشورى (42): آية 53]

صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

الناس إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا التواء فيه، و لا انحراف، فكتابك نور، و أنت هاد، و الدرب الذي تهدي إليه، صراط مستقيم موصل إلى السعادة.

[54] صِراطِ اللَّهِ الذي قرره و جعله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فله التكوين و له التشريع و المبدع المكون أعلم بما يصلح مما يفسد، و لذا فإن نظامه أفضل الأنظمة، و أصلحها للبشر أَلا فليتنبه السامع إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ فمنه البدء، و إليه الختام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 48

43 سورة الزخرف مكية/ آياتها (90)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «زخرف» و هي كسائر السور المكية بصدد بيان العقيدة، و الاستدلال عليها و حيث ختمت سورة الشورى بذكر القرآن، ابتدأت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه، تيمنا، فإن الشعار يؤثر في الشي ء تأثيرا خارجيا، لأن الإنسان يعامل بشعاره، و واقعيا فإن لكل من الرحمن و الشيطان جنودا، فإذا ذكرت اللّه وحده فرّت جنود الشياطين منهزمين، و الرحمن الرحيم و صفان جي ء بهما لأجل استمطار

شآبيب الرحمة من ساحة القدس، فمن ذكر اللّه بوصف طالبا منه تعالى أن يتفضل عليه أعطاه كما قال وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1».

______________________________

(1) غافر: 61.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 49

[سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)

[2] حم «حاء» و «ميم» و ما أشبههما من سائر حروف الهجاء مادة هذا القرآن المعجز الذي لا يتمكن البشر من الإتيان بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أو رمز بين اللّه و الرسول، أو غيرهما من سائر الأقوال.

[3] وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي قسما بهذا القرآن الواضح الذي يظهر الحق و يبينه.

[4] إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلغة العرب، حين اختار منهم من يحمل هذه الرسالة، و اختار محلهم منبثقا لهذا الوحي الثمين لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و هذا هو المقسم به، أي أن الغاية من إنزال القرآن عربيا تعقلكم و تفهمكم للحقائق، يا معشر العرب.

[5] وَ إِنَّهُ هذا القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ و هو اللوح المحفوظ، و إنما سمي بذلك لأنه أصل الكتب السماوية و غيرها، حيث إن كل شي ء مدروج فيه على نحو الصواب و الحكمة، فهو المرجع الوحيد الصحيح، كالأم التي هي أصل الإنسان، و منها جاء و إليها يأوي لَدَيْنا أي الذي عندنا لَعَلِيٌ أي رفيع ذو قيمة و رتبة حَكِيمٌ قد وضع الأشياء موضعها اللائق بها من تشريع و أخبار و بيان و غيرها، فإن الحكمة وضع الأشياء مواضعها اللائقة بها، و يسمى الكتاب حكيما باعتبار اشتماله على الأشياء

الحكيمة.

[6] و إذا كان هذا القرآن بهذه المثابة، فهل ترفع اليد عنه بمجرد أن جماعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 50

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 99

[سورة الزخرف (43): الآيات 6 الى 8]

وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

كذبوا به و أسرفوا في الابتعاد عنه؟ أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ يا معشر الناس الذِّكْرَ أي القرآن صَفْحاً أي أ نترك الوحي؟ و أصله من ضرب الحيوان على صفحة وجهه ليميل عن طريقه إلى ما يراد به، ثم استعمل في كل تحريف لشي ء عن الطريق أَنْ كُنْتُمْ أي لأجل أنكم كنتم قَوْماً مُسْرِفِينَ تسرفون و تجاوزون في الكفر و العصيان؟ كلا! لا يكون هذا، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ «1» بالإضافة إلى أنه إتمام الحجة، و توضيح للمحجة.

[7] و ليس هذا الأمر غريبا من هؤلاء فقد كانت عادة الأمم تكذيب الأنبياء وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ في الأمم الماضية، و «كم» خبرية للتكثير.

[8] وَ ما يَأْتِيهِمْ أي الأولين مِنْ نَبِيٍ من: لتعميم النفي إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فإن الجهال إذا انقطعوا عن الحجة استهزءوا و تمسخروا حتى يغلبوا خصمهم بسبب انهيار أعصابه أمام الاستهزاء، فلا يتمكن من مواصلة الاحتجاج.

[9] فَأَهْلَكْنا بسبب الاستهزاء و عدم الإيمان أَشَدَّ مِنْهُمْ أي من هو

______________________________

(1) الأنعام: 90.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 51

[سورة الزخرف (43): الآيات 9 الى 10]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)

أشد

من هؤلاء القوم بَطْشاً أي قوة و منعة، فلا يغتر هؤلاء المشركون بالقوة و العدة، فإنها أمام إرادة اللّه سبحانه لا مجال لها وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي قد سلف في القرآن أمثال أولئك الأقوام الذين أهلكناهم، و قصصهم، فقد سبق شباهة أولئك الكفار السابقين بهؤلاء الكفار من قومك.

[10] و إذ قدم بعض الكلام حول الرسالة و القرآن يأتي الكلام حول التوحيد وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت هؤلاء الكفار يا رسول اللّه مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ هل هو اللّه أم الأصنام؟ لم يجدوا بدّا من الاعتراف بالحقيقة، لأنهم لا يجدون سبيلا إلا القول بكون الخلق للأصنام ف لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَ و الإتيان بضمير العاقل، أما من جهة تغليب من فيها عليها، أو لما قالوا من جواز الأمرين- من «هن» و «ها» في غير العاقل- الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْعَلِيمُ بكل شي ء فإن هذا الخلق المدهش لا يمكن إلا أن يكون من صنع قادر عالم، و الأصنام عاجزة جاهلة.

[11] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي محلا للسكنى، فتستقرون فيها- و هذا من باب الالتفات المذكور في علم البلاغة- وَ جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر فِيها أي في الأرض سُبُلًا جمع سبيل و هو الطريق،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 52

[سورة الزخرف (43): الآيات 11 الى 13]

وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)

ليتمكن الإنسان من السير و السفر لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى خالقكم حيث

ترون هذه الآثار الباهرة الدالة على عالم قدير حكيم.

[12] وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي المطر، و المراد بالسماء جهة العلو بِقَدَرٍ فليس المطر- على ما يزعمه الغافل- يكون بكثرة لا قدر لها، فإن اللّه قد حسب ذلك حسابا دقيقا، و أنزله بقدر الحاجة لا زائدا و لا ناقصا فَأَنْشَرْنا بِهِ أي أحيينا بسبب المطر بَلْدَةً مَيْتاً أي جافة يابسة لا حركة فيها، كالميت الذي لا حراك له، و الإحياء إنما هو بإخراج النبات و الثمار، و المراد أرض البلدة التي في أطرافها، و إنما أضيف الإحياء إليها لأنها المنتفعة بالمطر كَذلِكَ أي رأيتم من إحياء الأرض بعد موتها تُخْرَجُونَ أنتم من القبور بعد الموت للنشر و القيامة.

[13] وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الذكر و الأنثى من الإنسان و الحيوان و النبات و المعدن و غيرها، أو المراد بالأزواج الأصناف وَ جَعَلَ لَكُمْ أي لمنافعكم مِنَ الْفُلْكِ أي السفن وَ الْأَنْعامِ الإبل ما تَرْكَبُونَ عليه في البحر و البر، و إنما قال من «الفلك» لأن بعض السفن ليست صالحة للركوب كما أن بعض الأنعام كالغنم مثلا كذلك.

[14] لِتَسْتَوُوا أي تركبوا باستواء بلا صعوبة التمايل و الانحراف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 53

[سورة الزخرف (43): الآيات 14 الى 15]

وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)

عَلى ظُهُورِهِ أي ظهور ما جعل لكم من الفلك و الأنعام، و يسمى محل الركوب ظهرا، باعتبار باطن السفينة و الحيوان، الذي هو داخل فيهما لا يمكن و لوجه أو الاستقرار فيه ثُمَّ تَذْكُرُوا أي تتذكروا و يأتي إلى ذهنكم نِعْمَةَ رَبِّكُمْ التي أنعم عليكم إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فتشكروه

على تلك النعمة وَ تَقُولُوا في ذكركم سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي أنزهه عن المثل و الشريك و القبائح، «هذا» يعني المركب سفينة كانت أم حيوانا وَ ما كُنَّا لَهُ أي لهذا المركب مُقْرِنِينَ أي مطيقين مقارين له، فلو لا تسخير اللّه إياه لنا، لم نتمكن من ركوبه، فإن الإقران الإطاقة يقال أقرنت لهذا البعير أي أطقته.

[15] وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي راجعون، من انقلب، بمعنى تغيّر حاله من حال إلى حال، و هذا من باب تذكر الجنازة و سفر الآخرة، من المركب و سفر الدنيا- و ذلك من تتمة الدعاء الذي يقال عند ركوب المركب-.

[16] وَ بعد هذه الآيات الكونية جَعَلُوا أي جعل الكفار لَهُ تعالى مِنْ عِبادِهِ و هم الملائكة و المسيح و عزيز جُزْءاً فقالوا إنهم أولاد اللّه، فإن الولد جزء من الوالد، لأنه خلق من دمه السائل في عروقه إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي كثير الكفر، فيكفر باللّه تعالى في كل أمر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 54

[سورة الزخرف (43): الآيات 16 الى 17]

أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (17)

في ذاته، في صفاته، في توحيده في الرسالة، في المعاد مُبِينٌ أي بيّن الكفر ظاهره.

[17] ثم إن الكفار قالوا: الملائكة بنات اللّه فيأتي السياق لاستنكار قولهم هذا، بالإضافة إلى استنكار أصل اتخاذه- سبحانه- ولدا أَمِ اتَّخَذَ أي هل اتخذ اللّه سبحانه مِمَّا يَخْلُقُ من صنوف الخلق بَناتٍ بأن جعل الملائكة بناتا له وَ أَصْفاكُمْ أي أخلصكم بِالْبَنِينَ فلو كانت البنت مكروهة- كما في عرفكم- كيف تنسبون المكروه إليه، و تقولون إنا مختصون بالذكور؟ و

هل هذا إلا تنزيل لقدر اللّه دون مرتبتكم.

[18] وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ أي أحد هؤلاء الكفار الذين قالوا إن الملائكة بنات اللّه بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي بما جعل شبها للّه، فإن ولد كل شي ء شبهه و نظيره، و المراد إذا بشر أحدهم بأن ولدت زوجته بنتا له ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي انقلب وجهه إلى السواد لكثرة الغم الذي يصيبه من هذه البشارة، فإن الإنسان إذا اغتاظ، توجه الدم إلى وجهه، و حيث إن الدم يضرب إلى السواد يظهر من تراكمه لون السواد، و لعل التعبير ب «ظل» لبيان دوام الاسوداد في وجهه مدة أيام، لكثرة الحنق و الغيظ وَ هُوَ كَظِيمٌ أي مملوء غضبا، كاظما نفسه، لئلا يبدو منه ما ينافي شأنه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 55

[سورة الزخرف (43): الآيات 18 الى 19]

أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ (19)

[19] فكيف يجعل هؤلاء الكفار البنت التي يكرهونها بهذا النحو من الكره للّه سبحانه؟ أَ وَ الهمزة للاستفهام و الواو للعطف أي هل هؤلاء الكفار يجعلون للّه مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي يكبر و يتربى في الزينة، و هي البنت فإنها تزين بالملابس و الذهب و الفضة من صغرها حتى تكبر وَ هُوَ فِي الْخِصامِ أي في المخاصمة و الاحتجاج غَيْرُ مُبِينٍ غير متمكن من إظهار حجتها و دليلها، فإن المرأة حيث يغلب عليها جانب العاطفة لا تتمكن أن تقاوم الرجل الذي غلب عليه جانب العقل و الاتزان، و إنما جي ء بالضمائر مذكرا باعتبار «من» و قد جاز في «من» و «ما» مراعاة

اللفظ و المعنى، و الحاصل أنه كيف يجعل هؤلاء للّه البنات الناعمة جسدا، العاجزة حجة، و يجعلون لأنفسهم البنين العاملين الأقوياء في الحجاج، و هل هذا إلا انتخاب الشي ء الحقير- بنظرهم- للّه تعالى، و اختيار الرفيع لأنفسهم؟

[20] ثم صرح سبحانه بذلك بقوله وَ جَعَلُوا أي هؤلاء الكفار الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ كسائر العبيد إِناثاً بأن زعموا أنهم بنات اللّه أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي هل حضر هؤلاء الكفار خلق الملائكة حتى رأوا بأنهم إناث؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بهذا الكذب الشائن، و لعل الإتيان ب «السين» لما ورد من تأخير كتابة العصيان مدة، رجاء أن يتوب الإنسان، فلا تكتب السيئة في ديوانه وَ يُسْئَلُونَ عن هذه الشهادة يوم القيامة من أين قالوها؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 56

[سورة الزخرف (43): الآيات 20 الى 23]

وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)

[21] و قد كان الكفار يعبدون الملائكة وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ بأن يمنعنا عن عبادتهم، و قالوا ذلك في جواب المؤمنين الذين اعترضوا عليهم و كيف تعبدون الملائكة؟ ما لَهُمْ بِذلِكَ بأن اللّه شاء عبادة الملائكة مِنْ عِلْمٍ فمن أين لهم أن يثبتوا أن اللّه شاء عبادتهم للملائكة؟ إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يكذبون في نسبة المشيئة إليه سبحانه.

[22] أَمْ آتَيْناهُمْ أي هل أعطينا و أرسلنا

إلى هؤلاء عبّاد الملائكة كِتاباً فيه أن اعبدوهم- بأن لم يعلموا المشيئة عقلا و إنما علموها نقلا- مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل هذا القرآن الناهي لهم عن ذلك فَهُمْ بِهِ أي بذلك الكتاب مُسْتَمْسِكُونَ متمسكون آخذون به تبريرا لعبادتهم للملائكة؟

[23] كلا! لا علم لهم و لا كتاب بَلْ قالُوا لتبرير موقفهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على طريقة هي عبادة الملائكة وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ و ما بقي من تقاليدهم و عاداتهم مُهْتَدُونَ فالأمر لا يخرج عن تقليد صرف.

[24] و ليس التقليد للآباء في الضلال و الانحراف خاصا بهؤلاء الكفار بل الكفار السابقون يقولون بمثل هذا القول في مقابل الأنبياء وَ كَذلِكَ أي كحال هؤلاء ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 57

[سورة الزخرف (43): الآيات 24 الى 25]

قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

فِي قَرْيَةٍ من القرى، و المراد بها المدينة مِنْ نَذِيرٍ أي رسول ينذرهم من الكفر و المعاصي إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي المتنعمون فيها، من أترف بمعنى تنعم، و المراد به الرؤساء و الكبراء، لأنهم دائما يقابلون المصلحين بالإنكار و التخاصم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على طريقة و ملة وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ نقتدي بهم، فلا نخالفهم في الطريقة باتباعكم أيها الأنبياء، و ذلك لأن في اتباعهم إبقاء لكيانهم، بالإضافة إلى أن الألفة توجب تزين الأليف في النظر دون الجديد.

[25] قالَ يا رسول اللّه لهم أَ تبقون على طريقة آبائكم وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ يعني لو كان ما أدعوكم إليه

أكثر رشدا و هداية من طريقة الآباء؟ قالُوا في الجواب إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ من الدين و الشريعة كافِرُونَ سواء كان أهدى أم غيره.

[26] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي من أولئك الذين تمردوا على طاعة الأنبياء عليه السّلام و تمسكوا بالتقاليد البالية فَانْظُرْ يا رسول اللّه، أو أيها الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ للأنبياء؟ و في هذا تهديد لكفار مكة إن لم يؤمنوا كانت عاقبتهم كعاقبة أولئك، و المراد بالنظر: العلم و التفكير في أمرهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 58

[سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 28]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)

[27] ثم يأتي السياق لنقل قطعة من قصة إبراهيم عليه السّلام لشباهتها لقصة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن قومه كانوا يعبدون الأصنام فأظهر التبرؤ منهم وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزر، و كان عمه، و إنما اسم أبيه «تارخ» و أطلق عليه لفظ «الأب» احتراما فإن الناس يسمون العم «أبا» و الخالة «أما» كما في قصة يوسف عليه السّلام «و رفع أبويه» على ما ذكره جماعة، من أن المرأة كانت خالته لا أمه وَ كما قال لأبيه قال ل قَوْمِهِ حين كانوا يعبدون الأصنام و الكواكب إِنَّنِي بَراءٌ مصدر «برء» يطلق على المفرد و التثنية و الجمع مذكرا و مؤنثا بلفظ واحد، فهو من قبيل «زيد عدل» و إلا فالأصل «ذو براء» مِمَّا تَعْبُدُونَ من الأصنام.

[28] و حيث إن العام شامل حتى اللّه سبحانه استثنى بقوله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني و أوجدني من العدم فَإِنَّهُ

سَيَهْدِينِ أصله سيهديني حذف ضمير المتكلم تخفيفا و تنسيقا، و حيث إن الهداية شي ء يحتاج إليها الإنسان في كل خطوة من خطوات الحياة، صح الإتيان بالفعل المستقبل، و لا ينافي ذلك وجودها في الإنسان سابقا، و من ذلك «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».

[29] وَ جَعَلَها أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد- المستفادة من قوله «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي»- كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي في نسله و ذريته بأن وصاهم بالتزامه و التمسك بها، كما قال سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 59

[سورة الزخرف (43): الآيات 29 الى 30]

بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)

وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1» لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كلما انحرفوا عن الطريق، بأن يتذكروا الوصية فيرجعوا إلى التوحيد فإن الإنسان- حسب المحيط- ينحرف فإذا تذكر وصية جده رجع و تاب.

[30] بَلْ لندع حديث إبراهيم إلى أحوال هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول، الذين جاءهم الحق عيانا فقالوا إنه سحر- فإنّا لم نكتف بالنسبة إليهم بكلمة إبراهيم في إرشادهم، بل أرسلنا إليهم رسولا آخر، و مع ذلك انحرفوا- مَتَّعْتُ هؤُلاءِ أي أنعمت عليهم بالصحة و النعمة و طول العمر وَ آباءَهُمْ إذ كل جيل يلاقي الجيل السابق حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ و هو القرآن أو الشريعة وَ رَسُولٌ مُبِينٌ أي ظاهر مبيّن للنهج، و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[31] وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ أي القرآن أو الشريعة أو الرسول قالُوا هذا سِحْرٌ ظاهر الآية يناسب كون المراد بالحق القرآن لأن غيره يحتاج إلى

التأويل وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ فليس من عند اللّه تعالى، و إنما الذي جاء به ساحر يريد السيطرة و الاستعلاء بسحره، و قد بين في هذه الآيات مختلف صنوف النعم و الإرشاد على هؤلاء: تمتيعهم لأنفسهم، و إبقاء آبائهم، و وصية إبراهيم عليه السّلام، و مجي ء الرسول،

______________________________

(1) البقرة: 133.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 60

[سورة الزخرف (43): آية 31]

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)

و مع ذلك لم يؤمنوا.

[32] وَ قالُوا لَوْ لا أي هلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي رجل من هذه القرية أو رجل من تلك عَظِيمٍ صفة رجل، أي رجل عظيم من مكة أو الطائف.

في تفسير الإمام أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش «إلى أن قال»: قال له عبد اللّه بن أبي أمية: لو أراد اللّه أن يبعث لنا رسولا لبعث أجلّ من في ما بيننا مالا و أحسنه حالا؟ فهلا نزل هذا القرآن الذي تزعم أن اللّه أنزله عليك و أبعثك به رسولا، على رجل من القريتين عظيم، إما الوليد بن المغيرة بمكة و إما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف؟ فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و أما قولك لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، فإن اللّه ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت و لا خطر له عنده كما له عندك، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة، لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء، و ليس قسمة اللّه إليك بل اللّه القاسم للرحمات

و الفاعل لما يشاء في عبيده و إمائه، و ليس هو عز و جل ممن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله و حاله، فعرفته بالنبوة لذلك، و لا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع فيخصه بالنبوة لذلك، و لا ممن يحب أحدا محبة الهوى كما تحب أنت فتقدم من لا يستحق التقديم و إنما معاملته بالعدل، فلا يؤثر لأفضل مراتب الدين و جلاله إلا الأفضل في طاعته و الأجدّ في خدمته و كذلك لا يؤخر في مراتب الدين و الجلالة إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 61

[سورة الزخرف (43): آية 32]

أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)

أشدهم تبطرا عن طاعته، و إذا كانت هذه صفته لم ينظر إلى مال و لا إلى حال بل هذا المال و الحال من تفضله و ليس لأحد من عباده عليه ضربة لازب، فلا يقال له إذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضا؟ لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده و لا إلزامه تفضلا، لأنه تفضل قبله بنعمه، ألا ترى يا عبد اللّه كيف أغنى واحدا و قبّح صورته؟ و كيف حسّن صورة واحد و أفقره؟ و كيف شرّف واحدا و أفقره؟ و كيف أغنى واحدا و وضعه؟ ثم ليس لهذا الغني أن يقول هلّا أضيف إلى يسري جمال فلان؟ و لا للجميل أن يقول هلّا أضيف إلى جمالي مال فلان؟ و لا للشريف أن يقول هلا أضيف إلى شرفي مال فلان؟ و لا للوضيع أن يقول هلا

أضيف إلى صفتي شرف فلان؟ و لكن الحكم للّه يقسم كيف يشاء و يفعل كما يشاء و هو حكيم في أفعاله، محمود في أعماله

«1».

[33] و أجابهم اللّه تعالى بقوله أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي النبوة، أي هل تقسيم النبوات بيد هؤلاء حتى ينتخبوا فلانا للنبوة دون محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ كلا! فإن اللّه سبحانه لم يجعل بأيديهم قسمة أرزاقهم فكيف يعطي مقاليد النبوة بأيديهم؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ و هو ما يستعيشون به فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي في هذه الحياة القريبة على حسب المصلحة و الحكمة وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ أي بعض هؤلاء فَوْقَ بَعْضٍ رزقا و جاها و قوّة و في سائر الشؤون دَرَجاتٍ فلم نفوض

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري: ص 506.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 62

إليهم أمور نفسهم مع عدم أهميتها فكيف نفوض إليهم أعظم الأمور و هي النبوة؟ لِيَتَّخِذَ أي إنما جعلنا بعضهم فوق بعض لأن يستخدم بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا و هو الذي يسخّر في الحوائج و يستخدم في المهام، فإنه بذلك يتم نظام العالم و يستقيم، إذ لو كان الكل سادة من كان يعمل؟ و لو كان الكل أقوياء كثر التنازع و الفناء، و لو كان الكل فقراء من كان يجلب الطعام و الحوائج ليبيعها في وقتها عند الحاجة؟

و لو كان الكل أغنياء من كان ينكس و يطبخ و يخبز و يدير الأمور الصغيرة كالفلاحة و البناء و ما أشبه؟ و قد أراد بعض السخفاء ك «ماركس» اليهودي و أضرابه، أن يهدموا نظام الغنى و الفقر، فلم يتمكنوا و غاية ما صنعوا أنهم أضافوا إلى الأغنياء مع غنائهم السلاح، فجعلوا الناس فقراء، و الأغنياء بيدهم

الحكم، لكي يتمكنوا من امتصاص دماء الفقراء بالمال و القوة معا، بعد ما كان كل من هذين العاملين للاستعلاء و الترفع في فئة، فكان الفقراء يجدون مناصا من طغيان كلّ بالالتجاء إلى الآخر، و لقد كان نظامهم مغلوطا إلى أبعد الحدود، و لذا نرى اليوم- و بعد نصف قرن من قيام دولتهم في الشرق- يستجدون الحنطة و الرزق من بلاد الرأسماليين كل عام ... و لقد منع الإسلام عن كل من الرأسمالية بالمعنى الغربي و الشيوعية و الاشتراكية، و إنما نظّم الأمور خير تنظيم، مما لا مجال هنا لتفصيله «1» وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ يا رسول اللّه خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأموال فكيف يمكن أن

______________________________

(1) راجع الاقتصاد للشهيد السيد حسن الشيرازي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 63

[سورة الزخرف (43): الآيات 33 الى 35]

وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

يترك اللّه الخير- بيدهم- و الحال أنه لم يترك ما يجمعون بأيديهم؟ أو المراد أن النبوة خير من الأموال، فما عندك خير مما عند رجل من القريتين عظيم، الذين يرون تفضيلهما عليك.

[34] إذ قيمة المال و الزخرف في نظر اللّه سبحانه تافه جدا حتى أنه لو لم تكن مخافة انحياز الناس إلى الكفار لأسبل اللّه على الكفار الأموال و الزخارف بكل ألوانها، فهل هذا المال الذي هكذا شأنه يكون ميزانا لإعطاء النبوة و إرسال الرسول حتى يقول الكفار أنه «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ»؟

وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي لو لا مخافة أن يجتمع الناس على الكفر فيكونوا جميعا كفارا، حيث يرون ان الدنيا للكفار و المؤمنين صفر اليد منها لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً جمع سقف مِنْ فِضَّةٍ بأن أكثرنا عليهم من الفضة حتى يصنعوا السقوف منها وَ مَعارِجَ من فضة، و هو جمع معراج أي السلم، أي كانت سلالم بيوتهم فضة عَلَيْها يَظْهَرُونَ أي على تلك المعارج يصعدون و يعلون، فإن الصاعد يظهر بما لا يظهر الذي في البيت.

[35] وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً من فضة وَ لأنفسهم سُرُراً جمع سرير، من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ عند الجلوس.

[36] وَ زُخْرُفاً أي جعلنا لهم في السقف و المعارج و الأبواب و السرر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 64

[سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 37]

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)

الزخرف، و هو الذهب، و المعنى أغرقناهم في الذهب و الفضة حتى يكون كل شي ء لهم منهما وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ من الفضة و الذهب و الدر و سائر أنواع التجمل و الزينة لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «أن» نافية و «لما» بمعنى إلا، أي ما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، أي الحياة القريبة، التي يتمتع بها الإنسان في أيام قلائل وَ الْآخِرَةُ التي عِنْدَ رَبِّكَ قربا شرفيا، لا مكانيا لِلْمُتَّقِينَ الذين آمنوا و أطاعوا، فمن الضروري أن يحصل الإنسان على الآخرة لا على الدنيا الفانية التي لا قيمة لها.

[37] و إذ تبين أن لا قيمة للماديات، فالكافر لا أهمية له بنظره سبحانه و إن كان ذا رئاسة أو مال، بل

إن مستواه المعنوي لمنحط جدا حتى أنه دائم الملازمة للشيطان الذي يغويه، فهل مثل هذا صالح للنبوة؟ وَ مَنْ يَعْشُ أي يعرض و يتعامى عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أصله من «العشو» و هو ضعف البصر، فكأن الكافر ضعيف البصر، بالنسبة إلى الشريعة و الدين نُقَيِّضْ أي نرسل لَهُ لذلك الإنسان شَيْطاناً يوسوس إليه و يؤذيه و يصده عن الحق فَهُوَ أي الشيطان لَهُ لذلك الإنسان قَرِينٌ أي ملازم، و ذلك لأنه لما أعرض عن الحق خلّى سبحانه بينه و بين الشياطين يفعلون به ما يشاءون، و هذا معنى «التقييض».

[38] وَ إِنَّهُمْ أي الشياطين القرناء مع الكفار، و إنما جي ء بالجمع، لأن المراد ب «شيطانا» الجنس، لا الواحد لَيَصُدُّونَهُمْ أي يمنعون هؤلاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 65

[سورة الزخرف (43): الآيات 38 الى 39]

حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)

الكفار عَنِ السَّبِيلِ طريق اللّه سبحانه بالوسوسة و إلقاء الشبهة وَ يَحْسَبُونَ هؤلاء الكفار أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي أنهم في سبيل الحق، حيث زين لهم كفرهم و عصيانهم، حتى زعموا أنهم على هدى، و أن المؤمنين على ضلالة، كما قال سبحانه وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ «1».

[39] و يبقى الشيطان مع هذا الكافر حَتَّى يوم القيامة ف إِذا جاءَنا أي حضر للحساب و الجزاء في يوم المحشر و ظهر له جزاءه السي ء قالَ مخاطبا للشيطان الذي كان يغويه في دار الدنيا، و يمنعه عن الاهتداء يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أيها الشيطان، بعدا مثل بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي المشرق و المغرب، و غلب المشرق، لقاعدة تغليب الأشرف، أو الأقرب إلى

القصد، و لذا يقال للشمس و القمر «شمسان» و «قمران» فَبِئْسَ الْقَرِينُ كنت لي في الدنيا حيث أوصلتني إلى هذه الحالة، و هذا العقاب الأليم.

[40] و إذا كان المقام محل توهم أن يخفف الشيطان المقارن للكافر- في الآخرة- بعض عذابه، كما هو المعتاد في الدنيا أن يخفف أحد القرينين بعض آلام الآخر، جاء الخطاب للكافر بقوله وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ أيها الكفار و الشياطين القرناء لهم الْيَوْمَ أي يوم القيامة إِذْ ظَلَمْتُمْ

______________________________

(1) المطففين: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 66

[سورة الزخرف (43): الآيات 40 الى 42]

أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)

أنفسكم في الدنيا بالكفر و العصيان أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ هذا فاعل «لن ينفعكم» أي لا يفيدكم اشتراككم في العذاب لتخفيفه عنكم بل لكل عذاب نفسه، بدون أن يحمل قرينه بعض عذابه.

[41] ثم جاء السياق ليسلي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنسبة إلى هؤلاء الكفار الذين لا يسمعون وعظه و إرشاده ببيان أن التقصير ليس منك، و إنما من الكافر نفسه حيث عاند حتى صار كالأصم الأعمى لا يسمع و لا يبصر أَ فَأَنْتَ يا رسول اللّه، و الاستفهام للإنكار تُسْمِعُ الصُّمَ أي تقدر على إسماع من به صمم في أذنه، و «صم» جمع أصم أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ أي تقدر على إرشاد الأعمى بالكلام هو و الأصم سواء من لا ينتفع بما يرى هو و الأعمى سواء وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ضلال ظاهر بين، و هذا في قبال أولئك فإن من ضل قلبه عن الحق و

عاند يكون غير قابل للهداية، فهؤلاء لا ينتفعون بأبصارهم و أسماعهم و قلوبهم.

[42] و لا بد أن ننتقم من هؤلاء الكفار سواء انتقمنا في حياتك أو بعد موتك فَإِمَّا أصله «إن» الشرطية و «ما» الزائدة للتأكيد نَذْهَبَنَّ بِكَ يا رسول اللّه، أي نميتك قبل تعذيب هؤلاء الكفار فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعدك.

[43] أَوْ إن أردنا أن نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ من العذاب و النكال، بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 67

[سورة الزخرف (43): الآيات 43 الى 45]

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

نعذبهم في حياتك فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فإنهم لا يتمكنون من الفرار أو الانتصار علينا.

[44] فما عليك يا رسول اللّه أمر هؤلاء، و إنما أنت منتدب إلى البلاغ باستمرار سواء قبل الناس أم لم يقبلوا فَاسْتَمْسِكْ يا رسول اللّه أي تمسك بشدة بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من القرآن و الشريعة إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يوصل إلى السعادة بأقرب الخطوط.

[45] وَ إِنَّهُ أي الذي أوحي إليك من القرآن و الشريعة لَذِكْرٌ لَكَ أي مذكر لك ما أودع في فطرتك من الأصول وَ لِقَوْمِكَ أي العرب، أو من بعثت إليهم من جميع البشر، و لذا

كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول «اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون»

«1» حين كان يؤذيه الكفار و لو كانوا غير قومه، و يحتمل أن يكون المراد بالذكر «الشرف» أي أنه شرف باق لكم وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ عنه يوم القيامة هل عملتم بما في هذا الذكر أم لا؟.

[46] وَ سْئَلْ يا رسول اللّه مَنْ

أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا كنوح و إبراهيم و موسى و عيسى و غيرهم عليه السّلام، و هذا مجاز يراد به الفحص عن مقالاتهم، كما يقال سل الأطباء عن هذا المرض، أي راجع كتبهم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 68

[سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 47]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47)

أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي سواه آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي هل قررنا عبادة آلهة أخرى، و هذا الكلام لتقريع أهل الكتاب في المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم متبعون للأنبياء و مع ذلك كانوا يشركون باللّه زاعمين أن اللّه أباح لهم الشرك و قالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا «1» و قالوا هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ «2» و هذا لا ينافي ما روي من أن الأنبياء جمعوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المعراج، و خوطب بهذا الخطاب هناك.

[47] ثم يأتي السياق ليذكر نتفا من قصة موسى عليه السّلام، تسلية للرسول، حيث قابله القبط بما قابل المشركون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي مع آياتنا، و هي المعجزات الباهرة، من عصا، و يد، و جراد، و دم، و غيرها إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي الأشراف من قومه، و تسمى الأشراف ملأ لأنهم يملئون الصدور رهبة و العيون هيبة، و ذكر الملأ يغني عن ذكر سائر القبط، لأنهم تابعون دائما، فلا يحسب حسابهم فَقالَ موسى لهم إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ إليكم.

[48]

فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى عليه السّلام بِآياتِنا أي مع المعاجز التي أعطيناها لتثبيت نبوته إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي يستهزئون بالآيات، و هذه

______________________________

(1) النحل: 36.

(2) يونس: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 69

[سورة الزخرف (43): الآيات 48 الى 50]

وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

حيلة العاجز يتخذها وسيلة لإخماد صوت خصمه القوي حيث لا يتمكن من إبطال حجته.

[49] وَ ما نُرِيهِمْ أي ما أريناهم، و إنما جي ء بالمستقبل لأنه حكاية حال ماضية مِنْ آيَةٍ أي خارقة من الخوارق التسع إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها فما ترادف عليهم كان الثاني أكبر من الأول و الثالث أكبر من الثاني و هكذا في الباقي أو انه عبارة عرفية لبيان كبر جميع الآيات، و لذا يقول القائل لي أولاد واحد منهم أحسن من الآخر- يريد وصول كل واحد إلى منتهى درجة الحسن- وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فقد كانت بعض تلك الآيات عذابا لهم، كالدم و القمل و الضفادع لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم و ضلالهم.

[50] وَ قالُوا أي قال فرعون و ملأه لموسى، عند ما نزل بهم العذاب يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا أي لأجل رفع عذابنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فقد عهد اللّه إلى موسى أنهم إن أرسلوا معك بني إسرائيل بأن أطلقوا سراحهم من السجون و التسخير يكشف العذاب عنهم، كما سبق في بعض الآيات، أو أنهم لما ضاق بهم الخناق وعدوا أن يؤمنوا إذا كشف العذاب عنهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ إلى الإيمان أو إطلاقهم.

[51] و على أيّ فقد

دعا موسى ربه و كشف اللّه عنهم العذاب فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ كأن العذاب ستر عليهم، فإذا رفع، كشف عنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 70

[سورة الزخرف (43): الآيات 51 الى 53]

وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)

ليظهروا من تحته غير معذبين إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي ينقضون العهد و يبقون على كفرهم، أو يبقون بني إسرائيل على إسارهم كالسابق.

[52] وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ حين رأى أن أمر موسى أخذ في العلو و الظهور، فأراد الحطّ من قدر موسى و إظهار نفسه قويا عظيما لدى أهل مصر، لئلّا يميلوا إلى موسى فجمعهم و خطبهم قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ على نحو الاستفهام التقريري، أي أن لي هذا الملك الوسيع وَ هذِهِ الْأَنْهارُ كالنيل و نحوه تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي من تحت أمري و سلطتي، فلي أرض و ماء أَ فَلا تُبْصِرُونَ هذا الملك العظيم؟.

[53] أَمْ تبصرون و تعلمون أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ يريد موسى عليه السّلام، و المراد بالمهين الذليل الحقير، من هان بمعنى ذل و سهل أمره وَ لا يَكادُ يُبِينُ أي لا يكاد يفصح بكلامه، فقد كان موسى عليه السّلام قبل النبوة يعقد لسانه إذا أراد الكلام، و لذا قال في دعائه «وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» و قد استجاب اللّه دعاءه فكان فصيحا، لكن فرعون استغل جهل الناس بذلك، و أنهم كانوا قد

عهدوه قبل النبوة غير مفصح، و لذا خدعهم بأنه بعد باق على حالته السابقة.

[54] فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أي على موسى أَسْوِرَةٌ جمع سوار و هو الحلية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 71

[سورة الزخرف (43): الآيات 54 الى 56]

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)

التي تلبس في اليد بين المرفق و الزند مِنْ ذَهَبٍ أي إن كان صادقا فلما ذا لا يلقي عليه ربه مقدارا من الذهب يثري و يغني أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ أي متتابعين يعينونه على أمره؟ و إذ لا ذهب يبقى و لا ملائكة معه فهو كاذب، و أي ربط بين النبوة و إلقاء الأسورة؟ أم أي حاجة إلى نزول الملائكة بعد تلك الآيات؟ و إنما أراد فرعون خداع الجماهير بهذه التلفيقات الباطلة.

[55] فَاسْتَخَفَ فرعون قَوْمَهُ بأن حسبهم خفيفي العقول يتمكن من إنهاضهم لنصره بمجرد خطاب و مغالطة، كما هي عادة الطغاة دائما أمام الجماهير فَأَطاعُوهُ فيما دعاهم إليه من رفض الإسلام و اتباع موسى، و البقاء على الكفر و العصيان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن طاعة اللّه تعالى، و لذا اتبعوا فرعون.

[56] فَلَمَّا آسَفُونا أي أغضبونا ببقائهم في الكفر و العناد، و اللّه سبحانه لا يغضب- كما يغضب الإنسان- بل المراد وصلوا في كفرهم و عصيانهم إلى حد من شأنه أن يغضب انْتَقَمْنا مِنْهُمْ جزاء كفرهم و إثمهم فَأَغْرَقْناهُمْ في البحر أَجْمَعِينَ و لم نبق واحدا منهم سالما.

[57] فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي متقدمين إلى النار و على سائر الكفار وَ مَثَلًا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 72

[سورة الزخرف (43): آية 57]

وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ

مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)

أي عبرة و موعظة يمثل بهم لأجل العظة و التذكير لِلْآخِرِينَ الذين يجيئون بعدهم.

[58] و بمناسبة الحديث عن قصة موسى عليه السّلام يقدم على ذلك مقدمة

و هي ما ذكره بعض المفسرين من أنه لما نزل قوله تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» فرح بعض المشركين بأنهم وجدوا مأخذا على الرسول، فجاء ابن الزبعرى و هو القائل:

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل و قال للرسول ألم يعبد المسيح و عزيز و الملائكة؟ فقال الرسول بلى قد عبدوا، فقال: فكيف يكون هؤلاء «حصب جهنم» كما ذكرت و أنت تثني عليهم؟ و إذا جعلتهم من أهل النار فنحن نرضى بأن نكون كالمسيح، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ويلك! ما أجهلك بلسان قومك؟ «ما» لما لا يعقل، فأقحم ابن الزبعرى و ارتد خائبا

، و في قول آخر إن الرسول انتظر الوحي، فنزل إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «2» و قد أراد اللّه سبحانه من إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ «3» الأصنام، لأن الخطاب موجه إلى المشركين، فكان قولهم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مغالطة و جدلا، و لذا أوضحت الآية ذلك، و هناك روايات أخرى لا يهمنا التعرض لها وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي لما ضرب ابن الزبعرى المثل بعيسى و أراد أن يجعله مثلا لقوله «و ما

______________________________

(1) الأنبياء: 99.

(2) الأنبياء: 102.

(3) الأنبياء: 99.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 73

[سورة الزخرف (43): الآيات 58 الى 60]

وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)

إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)

تعبدون» إِذا قَوْمُكَ يا رسول اللّه، و المراد بهم الكفار مِنْهُ أي من هذا المثل يَصِدُّونَ أي يضجون ضجيج المجادلة، لظنهم أنهم غلبوك و أبطلوا أمرك.

[59] وَ قالُوا في جدالهم معك أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ من عيسى أَمْ هُوَ خير؟

فإذا كان عيسى في النار- كما تقول أنت يا محمد- فلتكن آلهتنا في النار أيضا، فإنا راضون بمقام عيسى ما ضَرَبُوهُ أي لم يضرب هذا المثل ابن الزبعرى لَكَ يا رسول اللّه إِلَّا جَدَلًا فهم يريدون الجدل لا الحقيقة، كسائر المعاندين بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي يريدون الخصومة و الجدل لدفع الحق بالباطل.

[60] ثم يأتي السياق لبيان حال عيسى، بقول وسط بين إفراط النصارى و تفريط اليهود إِنْ هُوَ أي ما عيسى إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوة، فليس إلها، و لا لغير رشده كاذبا وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي مثلا للدين و الفضيلة، فإن القدوة يكون مثلا به، ألا ترى أنك تمثل للرسالة بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و للزهد بالمقدّس الأردبيلي، و بالشقاوة بابن ملجم فإن الفرد الكامل في صفته يجعل مثلا، و إنما كان مثلا لبني إسرائيل لأنه عليه السّلام بعث فيهم.

[61] وَ لَوْ نَشاءُ أيها الناس لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي بدلا منكم معاشر بني آدم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 74

[سورة الزخرف (43): الآيات 61 الى 62]

وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)

مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ فإن إفناءكم و جعل الملائكة مكانكم يَخْلُفُونَ و يكونون

خلفكم في الأرض، أمر يسير علينا، فلا يظن الكفار أن اللّه غير قادر على إفنائهم أو أنه لا يجد أفضل منهم، و لذا يبقيهم.

[62] وَ إِنَّهُ أي أن عيسى ابن مريم عليه السّلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي علامة لقرب القيامة، فقد ورد في عدة أحاديث إن عيسى عليه السّلام ينزل من السماء عند ظهور الحجة عليه السّلام و يصلي به و كونه موجبا للعلم باقتراب الساعة ليس معناه أنه عليه السّلام ينزل قرب الساعة حقيقة، بل هو من قبيل كون رسولنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من علائم الساعة، و يحتمل أن يرجع ضمير «إنه» إلى نزول الملائكة، أي أن النزول وقت قيامة القيامة كما قال سبحانه وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها «1» و وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا «2» و الآية بعد- عندي- من المتشابهات، كما أنه لم يظهر لي الربط التام بين آية (60) و ما قبلها و اللّه العالم فَلا تَمْتَرُنَّ بِها لا تشكّون في الساعة، فإنها آتية لا محالة وَ اتَّبِعُونِ فيما آمر و أنهي، و حذف «ياء» المتكلم للتخفيف هذا أي اتباعي و سلوك ديني صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل إلى السعادة الأبدية بأقصر خط و أسهل سلوك.

[63] وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ أي لا يصرفنكم الشَّيْطانُ بوساوسه عن طريق

______________________________

(1) الحاقة: 18.

(2) الفرقان: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 75

[سورة الزخرف (43): الآيات 63 الى 64]

وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)

اللّه، و صراطه المستقيم إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ أيها البشر عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر

العداوة.

[64] وَ لَمَّا جاءَ عِيسى إلى اليهود بِالْبَيِّناتِ أي الأدلة الخارقة الواضحة كإحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص قالَ لهم قَدْ جِئْتُكُمْ مرسلا إليكم بِالْحِكْمَةِ أي بالنبوة التي هي عرفان الشريعة و سائر الأمور المرتبطة بدين الناس و دنياهم، فإن الرسول وحده يعلم موضع كل شي ء و يتمكن من وضع كل شي ء موضعه، و قد سبق أن الحكمة عبارة عن وضع كل شي ء في موضعه اللائق به وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فقد اختلف اليهود في كثير من شريعة موسى عليه السّلام فجاء عيسى مبينا لهم الحق في بعض تلك الاختلافات، و إنما قال «بعض» لأن كل الاختلافات الجزئية لا يسهل إعلام أهلها بالحق فيها و هذا يظهر إذا قاس الإنسان ذلك بالاختلافات في ذات نفسه، فإن الخطوط العامة للاختلافات يمكن بسهولة بيان الحق فيها أما الاختلافات بين كل فردين منتشرين هنا و هناك في بعض الأمور الدينية، فلا يسهل استيعابها، و لا يهم الداعي و المرشد بيان الحق فيها فَاتَّقُوا اللَّهَ أيها اليهود، و خافوا عقابه في العصيان وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم و أنهاكم، و حذف «الياء» للتخفيف و التنسيق.

[65] إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي فلست إلها وَ رَبُّكُمْ فلا إله غيره، فقد كانت الوثنية تتحكم في بعض طوائف اليهود فَاعْبُدُوهُ وحده لا شريك له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 76

[سورة الزخرف (43): الآيات 65 الى 66]

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)

هذا الذي ذكرته من لزوم توحيد اللّه، و اتقائه و إطاعة رسله صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يوصلكم إلى السعادة الأبدية، بلا انحراف أو تحوير.

[66]

و هل بقيت أمة عيسى على صفاء التوحيد كما أمر عيسى، و صرح به في كلامه؟ و هل بقوا أوفياء فيما حمّلهم من الشريعة؟ كلا! فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ أي الفئات التي اتبعت عيسى عليه السّلام مِنْ بَيْنِهِمْ أي من بين أولئك الذين أرشدهم عيسى و هداهم، فهناك من بقي يهوديا، و من انحرف عن التوحيد فقال إن عيسى ثالث ثلاثة، و من أدخل في الشريعة ما ليس منها أو أنقص منها، و من حرّف الإنجيل كما شاء إلى غيرهم من الأحزاب المختلفة فَوَيْلٌ كلمة تقال لبيان سوء الحال لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر و العصيان من هؤلاء مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ أي عذب يوم القيامة، المؤلم الموجع.

[67] و إذ تقدم الكلام حول التوحيد، و حول الرسالة، يأتي السياق لبيان نتف حول المعاد- كما هي القاعدة في بيان الأحوال الثلاثة، في القرآن الحكيم- هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء الكفار إِلَّا السَّاعَةَ؟ بمعنى ماذا ينتظرون بعد قيام الحجة عليهم، إلا أن تقوم عليهم القيامة، فيعذبون بكفرهم؟ و هذا تهديد لهم، كما تقول لمن أمرته فعصى: هل تنتظر إلا العقوبة؟ يعني أنك بعصيانك يكون حالك كحال من ينتظر العقاب، و إلا فلما ذا تعصي؟، و الإتيان بلفظ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 77

[سورة الزخرف (43): الآيات 67 الى 69]

الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ (69)

«ينظرون» لنكته هي أن المنتظر يأخذ في النظر إلى المحل المترقب، إذا قرب وقت المجي ء، فكأن كل شي ء تمّ بالنسبة إلى هؤلاء الكفار، و قد قرب وقت العذاب، فهم ينظرون إلى محلّه متى يأتيهم أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً

أي فجأة بلا سابق إنذار وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ وقت مجيئه حتى يتوبوا و يستعدوا له.

[68] الْأَخِلَّاءُ جمع خليل، و هو الصديق، يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لما يرى كل واحد منهم من العذاب لأجل تلك المصادقة إِلَّا الْمُتَّقِينَ الذين آمنوا و اتقوا الكفر و المعاصي، فإنهم لا يتعادون هناك، إذ لم يترتب على صداقتهم عذاب أو نكال، بل بالعكس من ذلك فإن التصادق في اللّه يوجب الثواب و الأجر.

[69] و يخاطب اللّه المتقين في ذلك بقوله يا عِبادِ جمع عبد، و حذف الياء للتخفيف لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ من العقاب وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ لفوات الثواب من أيديكم.

[70] ثم وصف العباد، ليعلم من هم؟ بقوله الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر و ما يلزم الإيمان به بِآياتِنا أي بحججنا و أدلتنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ لأوامرنا، بأن صحت عقيدتهم، و حسن عملهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 78

[سورة الزخرف (43): الآيات 70 الى 73]

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)

[71] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ المؤمنات تُحْبَرُونَ أي تسرون فيها سرورا يظهر على وجوهكم أثره، فإن الحبور هو السرور الذي يظهر أثره في الوجه.

[72] يُطافُ عَلَيْهِمْ أي يطوف عليهم الولدان المخلدون و معنى الطواف أن يدور فيهم لإسقائهم و إطعامهم، كما يدور الساقي بِصِحافٍ جمع صحفة و هي الجام الذي يؤكل فيه الطعام مِنْ ذَهَبٍ فيها أنواع الأطعمة وَ أَكْوابٍ جمع كوب و هو ظرف يشرب فيه الماء

وَ فِيها أي في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من أنواع الملذات وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ بالنظر إليه وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ باقون أبد الآبدين بلا زوال أو تنقل.

[73] وَ تِلْكَ التي وصفناها هي الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي انتقلت إليكم، كالإرث الذي ينقل إلى الإنسان، و إنما أورثوا الجنة بسبب أعمالهم الصالحة في الدنيا، و الظاهر أن هذا كلام يقال لأهل الجنة على سبيل التكريم لهم، و إنما جاء بلفظ «تلك» للبعيد دون «هذه» تنزيلا للرفيع منزلة، البعيد حسّا- كما قالوا: في ذلك الكتاب-.

[74] لَكُمْ أيها المتقون المسلمون فِيها أي في الجنة فاكِهَةٌ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 79

[سورة الزخرف (43): الآيات 74 الى 78]

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)

ثمرة كَثِيرَةٌ بلا انقطاع أو قلة مِنْها تَأْكُلُونَ لأنها لكثرتها لا تؤكل كلها، و إنما يؤكل «منها» أي بعضها.

[75] و في مقابل هؤلاء، الكفار و العصاة الذين أجرموا في الحياة إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ و هذا لمن عاند الحق، و أما العاصي الذي تدركه الشفاعة فإنه يخرج من النار لا كالمعاند الذي ينتهي أمره.

[76] لا يُفَتَّرُ من الفتور، بمعنى التخفيف، لا يخفف عَنْهُمْ العذاب وَ هُمْ فِيهِ أي في العذاب مُبْلِسُونَ أي آيسون، و هذا من أعظم المصائب، إذ الراجي له راحة القلب- نوعا ما- بينما أن الآيس منقطع، لا يرى إلا دوام العذاب، مما يزيده ألما و حزنا.

[77] وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتعذيبهم

في النار وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لأنفسهم حيث عملوا في الدنيا ما استحقوا به العقاب.

[78] وَ نادَوْا أي أهل النار يا مالِكُ و هو خازن جهنم لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي اسأل ربك أن يميتنا نتخلص و نستريح من هذا العذاب قالَ مالك في جوابهم إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي باقون في النار فلا موت بعد هذا أبدا.

[79] ثم يذكّرهم سبحانه- في الدنيا- بأنه أرشدهم و لكن لم يقبلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 80

[سورة الزخرف (43): الآيات 79 الى 81]

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)

لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ أي أرسلنا إليكم ما هو حق من أمر الرسل و الكتب و الشرائع وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ معاشر الناس لِلْحَقِّ كارِهُونَ لما ألفتم من الباطل فصعب عليكم مفارقته إلى العمل بالحق و اتباعه.

[80] أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً؟ أي بل إن هؤلاء عوض اتباعهم للحق جعلوا يحيكون المؤامرات ضد الحق، من الإبرام، و هو الإحكام في العمل، و القتل فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي إنا محكمون أمرنا في إعلاء كلمتنا و مجازات هؤلاء.

[81] أَمْ يَحْسَبُونَ أي بل يظن هؤلاء- حين يدبرون المكر و المؤامرة- أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ ما يضمرون في أنفسهم و ما يتناجى بعضهم مع بعض بَلى نسمع السر و النجوى، و إطلاق السماع على السر- المضمر في القلب- باعتبار الجوار للنجوى، و إلا فالسر يعلم، لا أنه يسمع وَ رُسُلُنا أي الملائكة الحفظة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ما يسرون و يتناجون.

[82] و لقد كان هؤلاء الكفار بمختلف أشكالهم يزعمون أن للّه ولدا، أما المسيح أو الملائكة، أو عزيز

فجاء السياق لنفي الولد قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لذلك، باعتبار أنه جزء من الإله، فهو إله يستحق العبادة، و إنما قال «أول العابدين» لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 81

[سورة الزخرف (43): الآيات 82 الى 84]

سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)

الرسول حيث إنه أعرف الناس باللّه و شؤونه لا بد و أن يكون أسرع الناس إلى عبادة ولد اللّه، لا يخفى ان الجملة الشرطية لا تنافي استحالة الطرفين- كما ذكروا-.

[83] سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي أنزه اللّه تنزيها عن هذا القول، فسبحان مصدر منصوب بفعل مقدر أي أسبح سبحان رَبِّ الْعَرْشِ جي ء بهذا الوصف للدلالة على عظم مقامه سبحانه فكيف يمكن أن يتخذ ولدا عَمَّا يَصِفُونَ أي يصف هؤلاء المشركون اللّه سبحانه به فيقولون «له ولد».

[84] فَذَرْهُمْ أي دعهم يا رسول اللّه يَخُوضُوا في باطلهم، و أصل الخوض هو الارتماس في الماء، و يسمى المحدّث الذي غرق في الحديث خائضا- تشبيها- وَ يَلْعَبُوا في الدنيا، فإن أعمالهم الدنيوية لعب- إذ هي مثله في عدم الفائدة و الفناء بسرعة- حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ فيه بعذاب الأبد، و هو يوم القيامة، و هذا تهديد لهم.

[85] وَ هُوَ وحده إله الكون كله لا إله سواه ولدا كان أو شريكا فهو الَّذِي فِي السَّماءِ هو إِلهٌ بلا شريك وَ فِي الْأَرْضِ هو إِلهٌ بلا شريك، وَ هُوَ الْحَكِيمُ في جميع أفعاله، بمعنى أن كلّا من خلقه و تشريعه حسب

الحكمة و الصلاح الْعَلِيمُ بمصالح عباده، و قد سبق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 82

[سورة الزخرف (43): الآيات 85 الى 86]

وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (86)

أن العلم و الحكمة أمران فرب عالم غير حكيم و رب حكيم غير عالم، إذ الحكمة ملكة وضع الأشياء مواضعها و تلك تجتمع مع العلم كما يمكن أن توجد بدونه.

[86] وَ تَبارَكَ أي دامت بركته، و إنمائه للخيرات الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما من ملك و إنسان و هواء و غيرها، فلا منازع له، و لا شريك و لا ولد وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ فهو وحده يعلم وقت قيام القيامة وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي إلى حسابه و جزائه ترجعون أنتم أيها البشر بعد الموت.

[87] فهو وحده إله مالك خالق، لا شأن للأصنام في خلق أو ملك، أما من يعبدها بزعم أنها تشفع له فهو في غلط وَ ذلك لأنه لا يَمْلِكُ الأصنام الَّذِينَ يَدْعُونَ هؤلاء الكفار لهم مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه- و إنما جاء الاستثناء لأنهم كانوا يدعون اللّه أيضا- الشَّفاعَةَ و إنما جي ء بضمير العاقل للأصنام لتنسيق الكلام بين الكفار و بين جوابهم فهم يعتبرون الأصنام عقلاء إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ و هم عيسى و عزيز و الملائكة، فإن الكفار كانوا يعبدونهم، و لهم الشفاعة في الآخرة، أنهم يشهدون بالحق، و أنهم ليسوا بآلهة، و إنما أنبياء و ملائكة وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم ليسوا بآلهة، و هؤلاء لا يشفعون من جحد الحق و

كفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 83

[سورة الزخرف (43): الآيات 87 الى 89]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

به، فلا ينتظر الكفار شفاعة الآلهة التي يعبدونها، فأصنامهم لا تشفع إطلاقا، و الأنبياء و الملائكة يشفعون لغيرهم، لا لهم.

[88] و من عجيب الأمر أنهم يعبدون غير اللّه، مع أنهم معترفون بأن اللّه وحده خالقهم وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت هؤلاء الكفار- يا رسول اللّه- مَنْ خَلَقَهُمْ و أخرجهم من العدم إلى الوجود لَيَقُولُنَ في جوابك اللَّهُ خلقنا فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي إلى أين يصرفون بعد هذا الاعتراف؟ و المعنى فكيف ينصرفون من عبادة اللّه إلى عبادة الأصنام؟.

[89] و لا يجد الرسول أمام عناد هؤلاء إلا أن يشكو ربه منهم وَ قِيلِهِ أي قول الرسول يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ بعد أن بلغتهم و أنذرتهم و قمت بواجب الإرشاد.

[90] فَاصْفَحْ عَنْهُمْ يا رسول اللّه، أي أعرض عنهم، فإن المعرض يعطي صفحة وجهه للطرف بعد ما كان مقبلا عليه بمقدم وجهه وَ قُلْ لهم سَلامٌ أصله أن الذاهب يدعو لمن بقي بالسلامة، ثم استعمل في كل معرض و مودة، تشبيها، و إن لم يكن قصده سلامتهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ في الدنيا حين ضنك عيشهم، أو عند الموت، أو في القيامة، بأنهم كانوا على خطأ، حين لم يقبلوا منك، و استمروا في كفرهم و عنادهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 84

44 سورة الدخان مكية/ آياتها (60)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الدخان» و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، بالنسبة إلى التوحيد و الرسالة و المعاد، و لما ختمت سورة

الزخرف بالوعيد للكفار، ابتدأت هذه السورة- في أوائلها- بالعذاب.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع باسم الإله الذي له كل شي ء، و يملك كل أمر، فلا أحق منه بالابتداء و جعله شعارا، الرحمن الرحيم لعباده في الدنيا، و يرحم المؤمنين خاصة في الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 85

[سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)

[2] حم «حاء» و «ميم» جنس هذا الكتاب المعجز الذي عجز الجن و الإنس أن يأتوا بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أو رمز بين اللّه و بين الرسول، و هل ذلك تكرار لما سبق من مثل هذه اللفظة، أو لمدلولات مختلفة، و إن تماثلت الرموز؟ احتمالات، إلى غير ذلك من الأقوال في فواتح السور.

[3] وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي قسما بهذا الكتاب- و هو القرآن- الظاهر، و قد مرّ أن اللّه سبحانه يحلف بمختلف صنوف خلقه، دلالة لعظمة كل خلق، و إن كان في النظر أمرا هينا، نحو «و التين و الزيتون».

[4] إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا الكتاب الذي هو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ذات بركة و نماء، و المراد بها ليلة القدر، و محتمل ليلة القدر أربع، التاسع عشر و الواحدة و العشرين و الثالث و العشرين من شهر رمضان المبارك و ليلة النصف من شعبان، فقد نزل القرآن في ليلة القدر- جملة واحدة- إلى البيت المعمور في السماء، ثم نزل منجما إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مبتدأ بالسابع و العشرين من رجب يوم مبعث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

حين نزلت سورة «اقرأ» إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ للكفار و العصاة، بأنهم إن استمروا على كفرهم و عصيانهم عوقبوا في الآخرة بالعذاب و النار، و قوله «إنا ...» هو المقسم به، لقوله «وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ».

[5] فِيها أي في الليلة المباركة يُفْرَقُ أي يبين و يميز و يفصل كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي كل أمر مقدر محكم مرتبط بهذا العالم، فإن التقديرات من العام إلى العام تجري في ليلة القدر من كل سنة، و قد ورد متواتر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 86

[سورة الدخان (44): الآيات 5 الى 8]

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

الأحاديث أن الملائكة ينزلون بتقديرات العام، إلى الإمام الموجود بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1» ففي دورنا هذا تنزل الملائكة في ليلة القدر على الإمام المهدي عليه السّلام بتقديرات كل إنسان و كل أمة من العام إلى العام.

[6] نأمر بذلك أَمْراً مِنْ عِنْدِنا فإننا نصدر الأوامر بالتقديرات إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ للرسل إلى الأمم، و لذا أرسلنا محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى هذه الأمة، و زودناه بالكتاب المبين الذي أنزل في ليلة مباركة.

[7] و إنما نرسل الرسل رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي نرحم الناس رحمة بالإرسال، إذ الرسل يبيّنون للناس ما يصلحهم في دنياهم و أخراهم إِنَّهُ تعالى هُوَ السَّمِيعُ لما يتكلم به الناس و لكل صوت الْعَلِيمُ بما يفعلون، فهو يعلم سر الناس و نجواهم، فليحذر الناس الذين أرسل إليهم أن يخالفوا اللّه سبحانه.

[8] رَبِّ

السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي خالقها و مربيها وَ ما بَيْنَهُما من الإنسان و الملك و الجن و الأشجار و غيرها إِنْ كُنْتُمْ أيها الناس مُوقِنِينَ أي ذوي يقين و علم، لعلمتم بصحة هذا الخبر، و هذا في قبال من لا يبالي و لا يتبع الأمر ليتقين، و الحاصل إن أردتم العلم برب الكون لعلمتم أن ربه هو اللّه.

[9] لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده لا شريك له يُحْيِي الأموات، كما يحي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 94 ص 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 87

[سورة الدخان (44): الآيات 9 الى 12]

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)

الأرض و غيرها وَ يُمِيتُ الأحياء من إنسان و حيوان و نبات، و من ظن أنه يميت أحدا بواسطة القتل فقد اشتبه، فإنه إنما يهيئ السبب كما يهيئ الزرّاع و الوالد سبب الزرع و الولد، أما الزرع و الولد فمن اللّه سبحانه، هو رَبُّكُمْ خالقكم و مربيكم وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ الذين سبقوكم، فهل يتمكن أحد أن يدعي أن المسيح أو الملائكة أو عزير أو الأصنام خلقوه؟ كلا! [10] بَلْ هُمْ أي هؤلاء الكفار فِي شَكٍ من التوحيد يَلْعَبُونَ بالشريعة و الدين، و المراد يفعلون فعل اللاعب، لأنهم لا يرون للدين قيمة و لا يدركون أنه مرتبط بمصيرهم في الحياة الدنيا و الآخرة.

[11] فَارْتَقِبْ أي انتظر يا رسول اللّه يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فإن من أشراط الساعة أن يشمل العالم دخان مظلم يمكث أربعين يوما، و المعنى أنهم إن لعبوا مقابل هذا الجد، و شكّوا مقابل هذا الأمر المتيقّن، فدعهم حتى

يأتيهم العذاب، في يوم القيامة.

[12] يَغْشَى أي يحيط ذلك الدخان ب النَّاسَ و هو من أهوال القيامة و يقال لهم هذا الذين ترون و تترقبون عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم و موجع لمن كفر و عصى.

[13] و هناك يقولون رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ أي ارفع عذاب الدخان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 88

[سورة الدخان (44): الآيات 13 الى 15]

أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15)

و سائر ما يترقبونه من أنواع العذاب إِنَّا مُؤْمِنُونَ بما أرسلت و بمن أرسلت.

[14] أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي كيف يمكن أن يقبل هناك- في القيامة- تذكرهم و اعترافهم و إيمانهم؟ وَ الحال أنهم وقت كانوا في الدنيا قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الصدق، و المراد به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[15] ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ و أعرضوا عن الإيمان به و بما يقول وَ قالُوا في شأنه مُعَلَّمٌ يعلمه القرآن بعض الأعجميين مَجْنُونٌ فليس نبيا بل مجنون قد علّمه بعض الناس هذا القرآن، فيردده لا شعوريا لأطماع و غايات، و المعنى أنه لا يفيد هناك إيمانهم و قد فات أوان الإيمان حين كانوا في الدنيا.

[16] ألسنا ذكرنا أحوال هؤلاء في الآخرة؟ و ألم يطلبوا كشف العذاب؟ فإنا نمهلهم في الدنيا قليلا، لنرى ماذا يصنعون؟ و سمي كشفا للعذاب مع أنهم لم يعذبوا بعد، للتشابه لفظا، كقوله:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبّة و قميصا إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ الدخان و غيره، و المراد بالكشف: عدم تعذيبكم فيما بقي من أعماركم قَلِيلًا في الأيام القلائل المستقبلة ما دمتم في الدنيا إِنَّكُمْ عائِدُونَ

إلى الكفر و العصيان، فكيف قلتم: إنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 89

[سورة الدخان (44): الآيات 16 الى 18]

يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)

مؤمنون، و ها نحن نراكم عائدون في الكفر؟ و هذا من أبلغ أساليب الالتفات المذكور في علم البلاغة فكأنه صار ما أخبر سبحانه من الدخان، ثم طلبوا فأجيبوا، و ها هم عائدون إلى الكفر، و من قبيله ما يحكى عن بعض الزهاد- عملا- أنه كان يذهب إلى المقابر، فيستلقي في قبر كأنه ميت، ثم يفكر بالمحاسبة و العذاب و الأهوال، فيقول «رب ارجعوني» ثم يجيب- كأنه نداء يأتيه من الأعلى- أرجعناك إلى الحياة، فيقوم و يرجع أهله شاكرا أن استجيب له، لأن يدرك ما فات منه.

[17] و ليتذكر هؤلاء الكفار يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى أصل البطش الأخذ الشديد باليد للتعذيب، و المراد نأخذ الناس لتعذيبهم، و البطشة الكبرى، هي الأخذ في يوم القيامة إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ننتقم من كل كافر و فاسق، و «يوم» منصوب بالمقدر، أو ب «منتقمون».

[18] وَ لَقَدْ فَتَنَّا أي امتحنا، فإن الفتنة بمعنى الامتحان قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الكفار قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي فرعون و قومه، فإنه كثيرا ما يطلق «قوم فلان» أو «آل فلان» أو ما أشبه، و يراد به هو و قومه و آله وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ذو كرامة على اللّه سبحانه، و هو موسى عليه السّلام.

[19] فقال لهم أَنْ أَدُّوا أي أعطوا، من الأداء، كما يقال «أدّ الأمانة» إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي أطلقوا سراح بني إسرائيل الذين هم في أسركم، فقد كان

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 5، ص: 90

[سورة الدخان (44): الآيات 19 الى 22]

وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)

بنو إسرائيل معذبين في سجون فرعون، و تحت اضطهاده، فقال له موسى أطلق سراحهم، و هذا كقوله فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ «1» إِنِّي لَكُمْ يا آل فرعون رَسُولٌ أَمِينٌ مؤتمن فيما أؤديه لا أخونكم و لا أخون الوحي، فما أقوله كله وحي بلا زيادة أو نقصان.

[20] وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي لا تتجبّروا على اللّه بترك طاعته، فكأن الكافر و العاصي يرى نفسه فوق رتبة اللّه، و لذا لا يستعد أن يتبعه و يطيع أمره إِنِّي آتِيكُمْ يا آل فرعون بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة و دليل ظاهر و هي الأدلة التي أقامها على وجود اللّه و سائر صفاته و الخوارق التي كان مزودا بها.

[21] و لما دعاهم موسى عليه السّلام توعدوه بالقتل و الرجم- كما هي عادة الطغاة أمام المصلحين- فقال لهم موسى وَ إِنِّي عُذْتُ أي استجرت و لذت بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ بخالقي و خالقكم أَنْ تَرْجُمُونِ أي ترجمونني بالحجارة، و حذف ياء المتكلم تخفيفا و تنسيقا.

[22] وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي أي لم تصدقوني فيما جئتكم به فَاعْتَزِلُونِ أي اتركوني لا لي و لا علي.

[23] و لما رأى موسى أن القوم مصرون على الكفر و الضلال فَدَعا رَبَّهُ

______________________________

(1) الأعراف: 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 91

[سورة الدخان (44): الآيات 23 الى 25]

فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ

تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (25)

أي ناجى ربه قائلا يا رب أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ مصرون على الاجرام لا ينفع فيهم البلاغ.

[24] فاستجاب اللّه دعائه في خلاصه من فرعون و قومه فأوحى إليه أسر يا موسى، و الإسراء هو السير ليلا بِعِبادِي أي بني إسرائيل لَيْلًا و إنما أمروا بالخروج لئلا يعلم فرعون بهم فيأخذهم عاجلا قبل الهروب و الفرار إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي أن فرعون سيتبعكم، و هذا إما تعليل قوله «ليلا» أو مقدمة لبيان غرق فرعون و بشرى لهم، أو حث لهم على الإسراع، حتى لا يدركهم الطلب.

[25] وَ اتْرُكِ يا موسى الْبَحْرَ الذي تعبرون منه رَهْواً أي ساكنا على حاله بعد أن خرجتم منه، بأن يبقى على حاله ذي طرق و جواد، حتى يطمع فرعون في عبوره فيغرق. و ذلك لأن ضربه بالعصي بقصد إرجاعه إلى ما كان، كان بيد موسى، فأمره سبحانه أن لا يفعل ذلك إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي أن فرعون و قومه الذين يتبعونكم محكوم عليهم بالغرق جزاء لكفرهم و عصيانهم.

[26] و سار موسى و اتبعه فرعون في البحر بجنوده- كما فصّل سابقا- فيأتي السياق- بعد ذلك- ليبن كيف أن غرقهم لم يؤثر شيئا لا في الأرض و لا في السماء كَمْ تَرَكُوا أي خلف فرعون و قومه، بعدهم مِنْ جَنَّاتٍ جمع جنة و هي البستان، تسمى جنة لستر أرضها بالأشجار و النخيل وَ عُيُونٍ جارية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 92

[سورة الدخان (44): الآيات 26 الى 29]

وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)

[27] وَ زُرُوعٍ جمع زرع

و هو ما لا ساق له كالحنطة و الشعير وَ مَقامٍ كَرِيمٍ أي مجالس و منازل فاخرة، ذات كرامة و رفعة في الأنظار.

[28] وَ نَعْمَةٍ بفتح النون، و الغالب لغير العارف، أن يقرأها بكسر النون كانُوا فِيها فاكِهِينَ متنعمين متلذذين، كما يتنعم آكل الفاكهة.

[29] كَذلِكَ أخرجناهم و أهلكناهم و بقيت دورهم و نعمهم بعدهم وَ أَوْرَثْناها تلك النعم قَوْماً آخَرِينَ هم بنوا إسرائيل، حيث رجعوا إلى مصر و صاروا فيها ملوكا و سادة.

[30] فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ أي على آل فرعون السَّماءُ وَ الْأَرْضُ و هذا كناية عن أنه لم يتغير شي ء في الكون بهلاكهم، و قد ورد أن السماء و الأرض تبكيان لموت النبي و الإمام و العالم و المؤمن «1»، و بطبيعة الحال أن البكاء من جنسهما المناسب بهما، و إن كان يحتمل البكاء حقيقة- و ما ذلك على اللّه بعزيز- وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لما حكم عليهم بالعذاب، لم يمهلوا حتى يتوبوا، فلا يظن الكافر أنه إذا جاء العذاب يتمكن من التوبة و الاستمهال ليصلح ما فات منه.

______________________________

(1) هناك روايات حول بكاء السماء و الأرض على النبي و الإمام و المؤمن،

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ قال لم تبك السماء على أحد منذ قتل يحيى بن زكريا عليه السّلام حتى قتل الحسين عليه السّلام فبكت عليه «كامل الزيارات: ص 89»

، و

ورد في مجمع البيان: ج 9 ص 109 عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكاءهما على المؤمن. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 93

[سورة الدخان (44): الآيات 30 الى 34]

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ

إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)

[31] وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ المؤمنين بموسى مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ عذاب فرعون الذي كان يهينهم و يذلهم، من قتل الأبناء و استحياء النساء.

[32] مِنْ فِرْعَوْنَ الذي كان يأمر بتعذيبهم إِنَّهُ كانَ عالِياً أي متجبرا متكبرا مِنَ الْمُسْرِفِينَ يسرف و يتجاوز الحد في الظلم و التعذيب.

[33] وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي اخترنا بني إسرائيل عَلى عِلْمٍ أي على بصيرة منا باستحقاقهم، لا اختيارا اعتباطيا عَلَى الْعالَمِينَ أي عوالم زمانهم، فإنهم كانوا مختارين على سائر الكفار في زمانهم، لأنهم كانوا مؤمنين، و غيرهم كانوا كفارا، و هذا كما يقول: الشريف الفلاني أكبر أشراف العالم، يريد أشراف زمانه لا كلّ شريف كان أو سيكون.

[34] وَ آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم، و النسبة إليهم باعتبار إعطاء موسى عليه السّلام، كما يقول الملك: أعطيت القبيلة الفلانية كذا و كذا، فيما إذا أعطى رئيسها مِنَ الْآياتِ الخارقة ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي امتحان ظاهر، حتى يكون المؤمن على بصيرة، و الكافر عن عناد يستحق العقاب الأليم، و هي مثل العصا و اليد و فلق البحر، و تضليل الغمام، و المن و السلوى و غيرها.

[35] و بعد التكلم عن التوحيد و الرسالة- في بعض جوانبها- يأتي السياق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 94

[سورة الدخان (44): الآيات 35 الى 37]

إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)

لذكر المعاد إِنَّ هؤُلاءِ الكفار المعاصرون لك يا رسول

اللّه لَيَقُولُونَ منكرين للمعاد.

[36] إِنْ هِيَ أي ما العاقبة و نهاية الأمر إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى التي تزيل حياتنا وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين، فليس للإنسان موتتان و حياتان، كما تقولون أنتم أيها المؤمنون، و إنما قالوا «الأولى» مع أنهم لا يعتقدون بموتة أخرى، لتوحيد السياق مع كلام المؤمنين الذين كانوا يحاجوهم.

[37] فَأْتُوا أيها المؤمنون المدّعون للبعث بِآبائِنا الذين ماتوا من قبلنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالكم أن الإنسان يبعث بعد الموت، و لكن كلامهم تافه إلى أبعد الحدود، إن المؤمنين لم يدعوا أنهم يعيدون الأموات و إنما ادعوا إعادة اللّه لهم عند القيامة، فأي ربط بين الكلامين؟ و لذا لم يأت السياق لجوابه، فإن جواب المعاند السكوت.

[38] أَ هُمْ خَيْرٌ أي هل هؤلاء الكفار خير من حيث كثرة الأموال و الجيوش و القوة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ و قد كان تبع ملكا مؤمنا، و قومه كافرين، و كانوا كثيري الأموال و القوى وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود و قوم لوط و غيرهم؟ و الجواب مقدّر، أي أن أولئك كانوا خيرا من هؤلاء، و مع ذلك أَهْلَكْناهُمْ لما كفروا باللّه و عصوا رسله ل إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ و هذا تهديد لهؤلاء بأن مصيرهم مصير أولئك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 95

[سورة الدخان (44): الآيات 38 الى 41]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)

إن تمادوا في الكفر و الطغيان.

[39] وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من صنوف الخلق لاعِبِينَ

أي بلا غرض و غاية كما يفعل اللاعب، حتى نترك هؤلاء يلعبون، كما سبق بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ «1».

[40] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ لأجل غاية هي إطاعة البشر، كما

قال تعالى في الحديث «خلقت الخلق لأجلك و خلقتك لأجلي»

و في القرآن الحكيم وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2» وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس و هم الكفار لا يَعْلَمُونَ أن الخلق بالحق، بل يظنون أنه صدفة فلا غاية و لا غرض، و لكل امرئ ما يشاء أن يعمل.

[41] و إذا كان الخلق بالحق، قرر هناك يوم للحساب و الجزاء- كما أن لأجل ذلك أيضا نزلت الكتب و شرعت الشرائع- إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ و هو يوم القيامة الذي يفصل فيه بين المحق و المبطل، و بين أهل الجنة و أهل النار مِيقاتُهُمْ أي وقت حساب الناس أَجْمَعِينَ بلا تخلف أحد منهم عن ذلك الموعد.

[42] ثم وصف ذلك اليوم بأنه يوم عجيب لا يفيد فيه إلا رحم اللّه سبحانه التابع للإيمان و العمل الصالح يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً

______________________________

(1) الدخان: 10.

(2) الذاريات: 57.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 96

[سورة الدخان (44): الآيات 42 الى 47]

إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)

خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47)

المراد بالمولى هنا الصاحب، سمي به لأنه يتولى شؤون صاحبه أي لا ينفع صاحب لصاحبه، أصلا وَ لا هُمْ أي الناس يُنْصَرُونَ بأن ينصرهم أحد لإنقاذهم من عذاب اللّه، فيما استحقوا العذاب.

[43] إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي تفضل عليه سبحانه بغفران ذنبه، و إدراكه الشفاعة، بعد أن كان قابلا لذلك،

بالإيمان الصحيح إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره فلا يرد بأسه عن أحد استحقه الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

[44] ثم بين سبحانه مقام كل من الفريقين هناك، فقال إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ و هي شجرة تعطي ثمارا بشعة مرة.

[45] طَعامُ الْأَثِيمِ أي من كثرت آثامه و معاصيه، فإن «أثيم» فعيل من «الإثم».

[46] كَالْمُهْلِ و هو النحاس المذاب- أو ما أشبه يَغْلِي فِي الْبُطُونِ أي إذا أكله الأثيم غلى وفار في بطنه من شدة الحرارة.

[47] كَغَلْيِ الْحَمِيمِ أي مثل غلي الماء الحار الشديد الحرارة.

[48] ثم يقال للزبانية الموكلين بالنار خُذُوهُ أي خذوا هذا الأثيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 97

[سورة الدخان (44): الآيات 48 الى 51]

ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51)

فَاعْتِلُوهُ يقال «عتله» إذا دفعه بشدة و عنف، أي فادفعوه من أطراف النار إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي في وسط النار، حيث العذاب و الألم أكثر، و سمي وسط الشي ء سواء، لاستواء المسافة بينه و بين أطرافه المحيطة به.

[49] ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ للتعذيب و الإهانة مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ أي الماء الحار الشديد الحرارة، فهو في وسط النار، و في بطنه زقوم يغلي، و على رأسه يصب الماء الحار.

[50] و يقال له لإذلاله في مقابل كبريائه في الدنيا ذُقْ هذا العذاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ فإن الكفار يقولون في الدنيا، بلسان حالهم، أو لفظا، إننا أعزاء كرماء فكيف نتبع الدين؟ فيقال لهم هذا القول هناك على وجه السخرية و الاستهزاء، و

قد ورد أن أبا جهل قال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بين جبليها أعز

و لا أكرم مني، فنزلت هذه الآية.

[51] ثم يقال لهم إِنَّ هذا العذاب و الجزاء ما كُنْتُمْ أيها الكفار بِهِ تَمْتَرُونَ أي تشكون في دار الدنيا، فذوقوه الآن جزاء لشككم و إصراركم على الكفر و العناد.

[52] و لننظر إلى مقام المؤمنين الورعين هناك إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و المعاصي في دار الدنيا فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي في محل مأمون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 98

[سورة الدخان (44): الآيات 52 الى 56]

فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56)

من العذاب و الآلام.

[53] فِي جَنَّاتٍ أي بساتين وَ عُيُونٍ أي أنهر جارية، أو عيون صافية، و معنى «في» إنهم في محل فيه «عيون» و «أشجار».

[54] يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ و هو الحرير الرقيق وَ إِسْتَبْرَقٍ هو الحرير الخشن، و لكل فضل، فالأول ألين مسا، و الثاني أكثر جمالا في العين، في حال كونهم مُتَقابِلِينَ يقابل بعضهم بعضا في مجالسهم، يتحدثون هناك، و لا تأخذهم وحشة الانفراد.

[55] كَذلِكَ حال أهل الجنة وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ جمع «حوراء» و هي المرأة البيضاء الملائكية الجميلة عِينٍ جمع عيناء، و هي من وسعت حدقتها، و ذلك مما يزيد من جمال المرأة.

[56] يَدْعُونَ فِيها أي يطلبون في الجنات بِكُلِ قسم من ال فاكِهَةٍ أي الثمرة آمِنِينَ أي في حال كونهم لا يخافون نفادها أو ضررها، أو المراد مطلق الأمان من كل مكروه، و كرر ذلك لأهميته.

[57] لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ فهم خالدون في ذلك النعيم أبد الآبدين، و قد شبه الموت بالمعلومات، و لذا

نسب إليه الذوق إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى استثناء منقطع، إذ الموتة الأولى إنما هي في دار الدنيا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 99

[سورة الدخان (44): الآيات 57 الى 59]

فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

و المعنى أن هؤلاء لا يلاقون الموت إلا في الدنيا، أما في الآخرة فلا موت لهم، و قد سبق وجه الاستثناءات المنقطعة عموما، و أن الكلام المتقدم يفرض خاليا عن القيد، و ذلك لتكثير الفائدة، فتنحل الجملتان إلى ثلاث جمل وَ وَقاهُمْ أي حفظهم اللّه سبحانه عَذابَ الْجَحِيمِ فليس عدم موتهم من قبيل عدم موت أهل النار، الذي يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ «1».

[58] فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي يتفضّل سبحانه بهذه النعم على أهل الجنة فضلا، إذ لا يستحق أحد على اللّه شيئا ذلِكَ الفضل هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي الفلاح و الظفر بالمطلوب الذي ليس شي ء أعظم منه.

[59] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي سهلنا القرآن بِلِسانِكَ العربي، يا رسول اللّه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما أودع في فطرتهم من المبدأ و المعاد ليفوزوا بذلك الثواب و ينجوا من تلك النار و العقاب.

[60] فَارْتَقِبْ أي انتظر يا رسول اللّه هذا الوعد إِنَّهُمْ أي الكفار مُرْتَقِبُونَ أي منتظرون، فإن كل واحد من الخصمين ينتظر ما يحل بالخصم الآخر، و هذا تهديد لهم، بأنهم سيلاقون جزاء أعمالهم كما تقول لمن تريد تهديده، «انتظر فإني منتظر معك» أي سترى ما يحل بك.

______________________________

(1) إبراهيم: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 100

45 سورة الجاثية مكية آياتها/ (38)

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 149

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «جاثية» و هي كباقي السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة بأصولها الثلاث

و لما ختمت سورة الدخان بذكر القرآن، و إنه ميسّر بلسان الرسول، افتتحت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باللّه في أمورنا كلها، فالظرف متعلق ب «نستعين» على بعض الأقوال، فإن الإنسان يحتاج إلى العون في كل خطوة من خطى الحياة، و اسم اللّه أحق شي ء يستعان به، الرحمن الرحيم، الذي له الرحمة المكررة و لعل التكرار، لإفادة أنه يرحم، ثم يرحم، بخلاف سائر الناس الذين إذا وجدوا أن من رحموه ليس أهلا قطعوا الرحمة منه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 101

[سورة الجاثية (45): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)

[2] حم «حاء» و «ميم» و أشباههما من سائر حروف الهجاء هو مادة القرآن التي يتركب منها، و هي مادة لإلفاتكم معاشر العرب، فعدم إمكانكم الإتيان بمثله دليل قاطع على أنه تنزيل اللّه سبحانه، أو رمز بين اللّه و الرسول، أو غيرهما من الأقوال.

[3] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ أي أن إنزال هذا الكتاب و هو القرآن إنما هو من اللّه لا من غيره، كما كان المشركون يفترون بنسبة القرآن إلى الرسول أو بعض الأعجميين، أو الشيطان- حيث يقولون أنه كهانة- الْعَزِيزِ في سلطانه فهو قادر على ما يشاء الْحَكِيمِ يفعل الأشياء على وفق الصلاح فأنزل القرآن على طبق الصلاح و الحكمة.

[4] إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ دالة على وجود اللّه و سائر صفاته لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يؤمنون باللّه و إنما خصهم مع أن الآيات أعم، لأنهم هم المنتفعون بها، و أما غيرهم فهم معرضون،

كما قال سبحانه وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ «1».

[5] وَ فِي خَلْقِكُمْ أيها البشر وَ ما يَبُثُ اللّه أي ينشر مِنْ دابَّةٍ بيان «ما» و هي كل حيوان، و إن كان الأصل فيها خاصا، بما يدبّ على وجه الأرض آياتٌ أي دلالات دالة على وجود اللّه و علمه و قدرته

______________________________

(1) يوسف: 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 102

[سورة الجاثية (45): آية 5]

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يريدون العلم و اليقين، فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة، كما أن الإرادة تستعمل بمعنى الفعل، و خصت الآيات بهم، لأنهم هم المنتفعون بها، و إنما قال في الموضعين «آيات» مما ظاهره وجود بعض الآيات، مع أن كل شي ء آية، لأن المراد آيات عظام، و من المعلوم أن العظام من الآيات بعضها.

[6] وَ في اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ بمجي ء أحدهما مكان الآخر على نظام واحد بدون خلل و اختلاف وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ إما المراد مطلق الأرزاق و كونها من السماء، لأن تقديرها يكون هناك، أو المراد المطر الذي هو سبب الإنبات، و منه يأتي الرزق، و هذا هو الأقرب بالنسبة إلى ما يأتي- و إن أمكن الاستخدام- و تسمية الماء رزقا بعلاقة السبب و المسبب، مثل قوله:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه و إن كانوا غضابا فَأَحْيا بِهِ أي سبب ذلك الرزق الذي هو الماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جمودها و اغبرارها، لا حراك فيها و لا نشاط وَ في تَصْرِيفِ الرِّياحِ بصرفها من

هنا إلى هناك، شمالا و جنوبا، شرقا و غربا آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي دلالات لأهل العقل، أما غيرهم فإنهم يعملون عقولهم حتى يدركوا هذه الآيات الدالة على وجود اللّه و قدرته و سائر صفاته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 103

[سورة الجاثية (45): الآيات 6 الى 8]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8)

[7] تِلْكَ التي تقدمت آياتُ اللَّهِ أي دلالاته التي نصبها برهانا على وجوده و سائر صفاته نَتْلُوها أي نقرأها، و المراد الإيحاء بها، و تلاوة الملك للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَيْكَ يا رسول اللّه بِالْحَقِ فليس ذلك بالباطل فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ حديث اللَّهِ الذي هو القرآن وَ آياتِهِ الدالة على وجوده و سائر صفاته يُؤْمِنُونَ أي أنهم إن لم يؤمنوا بآيات اللّه الكونية و الشرعية، فبماذا يؤمنون؟ و المعنى أنه ليس شي ء بهذا الوضوح و الجلاء، فإن كان الإنسان يؤمن بشي ء، كان اللازم أن يؤمن باللّه و آياته.

[8] وَيْلٌ كلمة تقال عند إرادة بيان سوء الحال لِكُلِّ أَفَّاكٍ صيغة مبالغة، بمعنى كثير الإفك أي الكذب أَثِيمٍ أي كثير العصيان، و هو الذي يكذب بكل شي ء مما جاء به الرسول و القرآن.

[9] ثم يبين المراد من الأفاك الأثيم بقوله تعالى يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ أي آيات القرآن تُتْلى عَلَيْهِ و تقرأ عنده بقصد هدايته و إرشاده ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً أي يقيم على كفره و تكبره عن الحق، و الإتيان ب «ثم» لبيان استبعاد الإصرار بعد سماع الآيات فقد كان الكبر بعيدا بعد تلاوة الآيات كَأَنْ

لَمْ يَسْمَعْها أي لم يسمع الآيات إذ لم يقبلها و بقي على ما كان سابقا فَبَشِّرْهُ يا رسول اللّه بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع، و الإتيان بلفظ البشرى للاستهزاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 104

[سورة الجاثية (45): الآيات 9 الى 12]

وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

[10] وَ إِذا عَلِمَ ذلك الأفّاك مِنْ آياتِنا أي أدلتنا و حججنا الدالة على وجودنا و سائر صفاتنا شَيْئاً أي بعضا اتَّخَذَها هُزُواً أي يستهزئ بها، كأن الآية آلة سخرية له أُولئِكَ الذين تلك صفاتهم لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلهم بالإضافة إلى الألم الذي فيه.

[11] مِنْ وَرائِهِمْ أي عقب هؤلاء، في الآخرة جَهَنَّمُ التي هي مقرهم وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً أي لا يدفع عنهم من عذاب اللّه، ككسبهم للأموال و الأولاد و الجاه، شيئا، بأن يخفف عنهم بعض العذاب وَ لا يغني عنهم مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي لا يدفع عنهم بعض العذاب آلهتهم وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في النار.

[12] هذا القرآن الذي أنزلناه، و الآيات التي أوضحناها هُدىً يهدي إلى الحق و صراط مستقيم وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي أدلته التي أقامها على توحيده و سائر صفاته، بعد مجي ء الهداية لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ و هو أشد العذاب أي من هذا القسم منه

أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[13] ثم أخذ السياق في وصف بعض آيات اللّه سبحانه اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ أي ذلّله لكم ليصلح لركوبكم عليه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 105

[سورة الجاثية (45): الآيات 13 الى 14]

وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)

السفن فِيهِ أي في البحر بِأَمْرِهِ تعالى، فتسخير البحر شي ء، و إجراء الفلك شي ء آخر، و لذا قال «بأمره» وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي إن جريان الفلك لأسفاركم و لطلبكم التجارة وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و لكي تشكروا نعمه سبحانه، فالتسخير لغايات ثلاث.

[14] وَ سَخَّرَ لَكُمْ أيها البشر ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنهما تسيران و تعملان ليل نهار لنفع البشر، و من جعلهما كذلك غير اللّه سبحانه؟ جَمِيعاً صفة «ما» أي سخر كل شي ء جميعا مِنْهُ أي من اللّه سبحانه فلا شريك له و لا صانع غيره إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لما فيها لأجل نفع البشر لَآياتٍ لأن في كل شي ء آية و دلالة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في أوضاع الكون، و تخصيصهم بالذكر، لأنهم المنتفعون بهذه الآيات دون غيرهم فكأنها خلقت لهم فقط.

[15] قُلْ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ آمَنُوا إذا نالكم من الكفار أذى اغفروا لهم ل يَغْفِرُوا و يصفحوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أيام اللّه هي الأيام التي يظهر فيها عقابه أو نعمائه، فإن الكفار لا يعترفون باللّه، حتى يرجون أيامه، و المراد بذلك أن لا يكون المؤمنون في صدد الانتقام من الكافرين الذين يؤذونهم، و ذلك خطة أخلاقية سياسية فإن

المظلوم تهواه الأنفس فترجح كفته، و بذلك يكون قد ربح المعركة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 106

[سورة الجاثية (45): الآيات 15 الى 16]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16)

و لذا ينقل عن «غاندي» محرر الهند قوله «تعلمت من الحسين عليه السّلام أن أكون مظلوما لأنتصر»، و الحاصل يتركوا مجازاتهم ليتولى اللّه ذلك عنهم لِيَجْزِيَ اللّه قَوْماً أي الكفار بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فمعنى الغفران إيكال الجزاء إليه سبحانه كما يقول الحاكم للمظلوم اترك عقاب ظالمك لأجازيه أنا.

[16] ثم يبين سبحانه أن كل عامل يجزى بما عمل فالمؤمنون يجزون جزاء إيمانهم و الكافرون يجزون جزاء كفرهم مَنْ عَمِلَ صالِحاً المراد به كل عمل صالح فَلِنَفْسِهِ إذ فائدته ترجع نحوه وَ مَنْ أَساءَ بأن عمل السيئ فَعَلَيْها أي فضرر ذلك على نفسه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ بعد الجزاء في الدنيا، هناك جزاء آخر في الآخرة، عند رجوع الناس إلى حساب اللّه و جزائه.

[17] ثم يأتي السياق لبيان أنه كيف يجزي من كفر بالنعمة في الدنيا، و أنه كيف يسلب عن الظالم النعمة لتعطى غيره مع بيان أن القيادة الإلهية انتقلت من بني إسرائيل إلى المسلمين، ليقودها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسب شرعة السماء وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ و هو التوراة، وَ الْحُكْمَ أي الحكومة فإن منصب الحكومة و السلطة على الناس خاص باللّه سبحانه، و من بعده لأنبيائه و الأئمة حسب ما قرره تعالى، و من بعدهم لنوابهم و وكلائهم وَ النُّبُوَّةَ فكان فيهم الملوك

و الأنبياء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 107

[سورة الجاثية (45): آية 17]

وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)

وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ حيث تفضلنا عليهم ببركات الأرض و السماء وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم، فإن كل جيل عالم، و كل قرن عالم، و هذا هو المتبادر من هذه الجملة- كما ذكرنا سابقا- لا جميع العوالم من الأولين و الآخرين، فلو قال أحد إن الدولة الفلانية أقوى الدول، كان المتبادر منه، الدول المعاصرة لها لا دول الملوك ماضيا و مستقبلا إلى الأبد.

[18] وَ آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أي دلالات و براهين واضحات من أمر الدين و الدنيا، فإن الدين و الدنيا يحتاجان إلى مبيّن و موضّح لمسالكهما، و الأنبياء دائما يأتون بذلك، مثلا يبينون أن الصوم جنة من النار، أن الحجامة وقاية من الأمراض فاختلفوا، و قابلوا الإحسان بالكفران، و قد كانوا هم الأمة الوحيدة الموجهة للعالم التي بيدها قيام الدين و الدنيا- حتى أن عيسى عليه السّلام كان شارحا و موضحا، لا ناسخا- و ما اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بأن علموا الحق من الباطل و مع ذلك اختلفوا فيه بَغْياً أي حسدا و ظلما بَيْنَهُمْ فحسد بعضهم بعضا، فتركوا الحق إلى الباطل انتقاما لذلك التمسك بالحق- كما نرى شبهه في زماننا هذا- إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين المختلفين من بني إسرائيل يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فمثلا آمن بعضهم بعيسى و لم يؤمن بعضهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 108

[سورة الجاثية (45): الآيات 18 الى

20]

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

و صاد بعض في السبت، و لم يصد بعض و هكذا و إذ خرجت بنو إسرائيل عن صلاحية القيادة بسبب كفرهم و اختلافهم انتهت القيادة إلى الرسول و المسلمين.

[19] ثُمَ من بعد أولئك جَعَلْناكَ يا رسول اللّه عَلى شَرِيعَةٍ أي على طريقة مِنَ الْأَمْرِ أي أمر الدين و الدنيا، بأن بينا لك طريقة خاصة لسعادة الإنسان في دنياه و آخرته فَاتَّبِعْها أي اتبع يا رسول اللّه تلك الشريعة وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الحق، فإن الناس يريدون من القائد ان يتّبع آراءهم، و هنا يأتي النهي عن ذلك، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس كسائر القادة، و إنما له منهاج خاص من قبل اللّه سبحانه، يلزم عليه ان يطبقه و يعلنه للناس، و هذا ينافي اتباع آراء الأشخاص.

[20] إِنَّهُمْ أي الذين لا يعلمون لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ يا رسول اللّه مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا يفيدونك في دفع ما يريد اللّه بك- إن اتبعت أهواءهم- وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أن الكفار بعضهم يوالي بعض و ينصر الآخرين في معاداتك، فلا ينبغي لك أن تعتمد عليهم و تتبع أهواءهم وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ يلي أمورهم، فحسبك اللّه، عن هؤلاء.

[21] هذا القرآن الذي أنزل إليك بَصائِرُ لِلنَّاسِ جمع بصيرة، فكما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 109

[سورة الجاثية (45): الآيات 21 الى 22]

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ

نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)

أن البصيرة في الإنسان كاشفه له طريق الفلاح، كذلك القرآن كاشف طريق السعادة، أي بينات تبصرهم أمورهم، فلا يحتاج الإنسان بعد القرآن إلى اتباع الأهواء وَ هُدىً أي هداية إلى الطريق وَ رَحْمَةٌ أي فضل و ترحم، يرحمهم اللّه به إذ يريهم السعادة الأبدية لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ به و يعلمون انه الحق، و إنما خصهم، لأنهم المنتفعون أما غيرهم، فهم في ضلال و نقمة.

[22] هنالك ظالمون يتبعون الأهواء، و متقون يتبعون الشريعة، فهل هما متساويان؟ كلا، فإن البون بينهما شاسع أَمْ حَسِبَ أي هل حسب و ظن الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أي اقترفوها و ارتكبوها، و الاجتراح الاكتساب أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ «أم» منقطعة فيها معنى الاستفهام الإنكاري، أي ليس كذلك سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ أي تستوي حياتهم و موتهم، و المحيي و الممات مصدران ميميان ساءَ ما يَحْكُمُونَ بأن الطائفتين متساويتان، فحياة المؤمنين في سعة و راحة و اطمئنان، و حياة الكافرين ضنك و تعب و قلق، و ممات المؤمنين إلى الجنة و الرضوان، و ممات الكافرين إلى السخط و النيران.

[23] و كيف يتساوى حال المؤمن و الكافر وَ الحال أنه خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ و من مقتضيات الحق أن يكون لكل عامل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 110

[سورة الجاثية (45): آية 23]

أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ

أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (23)

أجره، لا أن يتساوى المصلح و المفسد في الأجر؟ وَ لِتُجْزى أي خلقهما لأن تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من خير و شر و لو تساويا لم يترتب هذا الثمر على الخلق، بل لم يثب المحسن بالإحسان، و لم يجاز الكافر بالعصيان وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص من أجر المحسن شي ء، و لا يزاد على عقاب المسي ء شي ء.

[24] أَ فَرَأَيْتَ يا رسول اللّه مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي الشخص جعل مكان الإله الهوى، فكما يعبد المؤمنون الإله، يعبد و يتبع هو هواه و ميول نفسه، و قد كان في الجاهليين من يعبد حجرا فإذا رأى حجرا أجمل منه رمى بالأول و اتخذ الثاني إلها وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي تركه سبحانه، ليتيه في الضلالة على علم منه سبحانه باستحقاقه للترك، فإنه لما أعرض عن الهدى تركه تعالى و شأنه، و لم يكن ذلك عن جهل- تعالى عن ذلك- بل عن علم، لاستحقاقه الترك و الخذلان وَ خَتَمَ اللّه عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ و معنى الختم أن يكون كالشي ء المختوم الذي لا يدخل فيه شي ء و الختم على السمع كناية عن عدم إشفاعه بما يسمعه، و على القلب كناية عن عدم وعى قلبه للحق، و نسبة الختم إليه سبحانه، لأنه خلق البشر بحيث إنهم لو انحرفوا عن الجادة، و استمروا في الانحراف اعتاد قلبهم ذلك، فلم يمل إلى الهدى، و يكون الضلال ملكة لهم، فلا يدخل في القلب هداية كالشي ء المختوم وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي غطاء، لا يعتبر بالنظر، فهو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 111

[سورة الجاثية (45): آية 24]

وَ قالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا

وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)

و الأعمى سواء فَمَنْ يَهْدِيهِ أي يهدي هذا الشخص المتصف بتلك الصفات مِنْ بَعْدِ اللَّهِ و هل هناك هاد إلا هو؟ و المعنى أنه إذا لم يهتد بهداية اللّه، فلا هداية عند غيره حتى يمكن أن يهتدي بها أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أصله «تتذكرون» على قاعدة باب «التفعل» و الاستفهام إنكاري، أي لماذا لا تتعظون بهذه المواعظ؟

[25] وَ قالُوا أي قال المنكرون للبعث ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ليست للبشر حياة إلا هذه الحياة القريبة، فلا حياة بعد الموت نَمُوتُ وَ نَحْيا فحياتنا فيها نخرج من بطون الأمهات، و موتنا هو هذا الذي نشاهده، و الفعلان باعتبار الجنس، أي نموت نحن و يحيا أولادنا، و هكذا، أو المراد كل فرد، و إنما أخر «نحيا» للتناسب مع «حياتنا الدنيا» في السجع، و قد تقرر في الأدب أن الواو لا يدل على الترتيب، قال ابن مالك:

و اعطف بواو سابقا أو لاحقا في الحكم أو مصاحبا موافقا وَ ما يُهْلِكُنا و يميتنا إِلَّا الدَّهْرُ أي مرور الزمان، فليس هناك إله يميت وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ الذي ذكروه من كون الحياة منحصرة في هذه، و إن المهلك هو الدهر مِنْ عِلْمٍ حتى يقولوا ذلك عن يقين و دراية إِنْ هُمْ أي ما هؤلاء القائلين إِلَّا يَظُنُّونَ ظنا بذلك، من التقليد و التخمين، و التقدير «ما هم إلا ظانون».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 112

[سورة الجاثية (45): الآيات 25 الى 26]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ

إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)

[26] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المنكرين للنشأة الأخرى الكافرين باللّه آياتُنا أي أدلتنا الدالة على وجودنا و وجود الدار الآخرة بَيِّناتٍ أي في حال كون تلك الآيات ظاهرات واضحات ما كانَ حُجَّتَهُمْ أي دليلهم في نفي الآخرة إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا أيها المقرون بالمعاد بِآبائِنا الذين ماتوا من قبل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم إن البعث سيكون؟ و قد كان هذا الكلام تافها فأي ربط بين أن يكون شي ء في المستقبل و بين أن يأتي به المدعي له حالا أ ترى هل يصح أن يقول المنكر للصيف- و هو في الشتاء- ائتي أيها المقر بالصيف إن كنت صادقا؟ فجوابه: أنا أقول بمجي ء الصيف في وقته ولي دليل، كما أن جواب الدهرية: نحن نقول بالبعث و لنا أدلة، أما أن يأتي بالبعث حالا بإحياء الأموات فلا ربط له بالكلام.

[27] قُلِ يا رسول اللّه لهؤلاء-. معرضا عن جوابهم التافه- مبينا لهم الحقيقة اللَّهُ يُحْيِيكُمْ بعد أن كنتم ترابا ميتا، و المراد بذلك استمرار إحياء اللّه للبشر من القديم إلى المستقبل، و لذا جي ء بالمستقبل ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بإزهاق أرواحكم- في مقابل قولهم: ما يهلكنا إلا الدهر- ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ للنشور، من القبور، منتهين في السير إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ حين يحاسب الخلائق لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس محلا للريب، و إن ارتاب فيه المبطلون وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنهم أعرضوا عن التعلم، فإن المعاد فيه جهتان، الإمكان، و الوقوع، أما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 113

[سورة الجاثية (45): الآيات 27 الى 29]

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ

الْمُبْطِلُونَ (27) وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

الإمكان فمن قدر على الابتداء يقدر على الإعادة بالضرورة ... و أما الوقوع، فقد أخبر الصادق بوقوعه، فلا بد أن يقع.

[28] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فأنتم أيها الناس تحت قدرته، و لا تظنوا إمكان الفرار وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أي الفاعلون للباطل، و معنى خسارتهم هلاكهم.

[29] وَ تَرى يا رسول اللّه، أو أيها الرائي، في يوم القيامة كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً من الجثو و هو التهيؤ للقيام، و ذلك لأن الإنسان الخائف لا يجلس جلسة الاطمئنان بل يرفع ألييه من الأرض حتى إذا نودي أو جاء الفزع قام فورا بلا استبطاء، و هناك كل أمة منحازة عن أمة أخرى، جاثية على ركبتيها، أو المراد جثوهم بين يدي الحكام، كما يجثو المترافعان عند القاضي، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا المنزل على نبيها، ليكون الكتاب حكما بينهم، هل عملوا على طبقه أم لا و ذلك كما يقول أحد المتخاصمين للآخر: أدعوك إلى كتاب اللّه، فيقال لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي نفس الأعمال- بناء على تجسيمها- أو جزائها.

[30] هذا كِتابُنا أي اللوح المحفوظ، أو ديوان الحفظة الذي سجّل فيه أعمالكم يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ أي يبين لكم أيها الناس و سمي البيان نطقا، للمشابهة في إبداء المخفي من العمل، كما أن النطق يبدي المخفي في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 114

[سورة الجاثية (45): الآيات 30 الى 32]

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَ

أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)

القلب بِالْحَقِ فلا يبين الباطل إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ أي نكتب، و الاستنساخ هو الأمر بالنسخ، أي نأمر الكتبة بنسخ أعمالكم ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الدنيا.

[31] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي جنته و ثوابه و فضله ذلِكَ الإدخال في الرحمة هُوَ الْفَوْزُ أي الفلاح الْمُبِينُ الظاهر.

[32] وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يقرؤها عليكم الأنبياء و المرشدون فَاسْتَكْبَرْتُمْ أي تعاظمتم عن قبول الحق وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ تعملون بالإجرام، كفرا و عصيانا؟ و هذا سؤال توبيخ و تقريع.

[33] وَ كنتم في دار الدنيا إِذا قِيلَ لكم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ فالبعث كائن لا محالة وَ السَّاعَةُ أي القيامة لا رَيْبَ فِيها أي ليست محل الريب و الشك قُلْتُمْ في جواب المؤمنين ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي لا نعلم ما هي، تقولون ذلك على وجه الاستهزاء إِنْ نَظُنُ أي ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 115

نظن بها إِلَّا ظَنًّا فليس لنا علم بها، و «الظن» في الأول استعمل في المعنى الأعم، و في الثاني بمعناه الراجح المقابل للوهم وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي لا يقين و لا علم لنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 117

تقريب القرآن الى الأذهان الجزء السادس و العشرون من آية (34) سورة الجاثية إلى آية (31) سورة الذاريات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5،

ص: 118

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 119

[سورة الجاثية (45): الآيات 33 الى 35]

وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

[34] وَ هناك بَدا أي ظهر لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي الجزاء الذي رتب على أعمالهم وَ حاقَ أي حلّ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب، فإنهم إذا هددوا بالعذاب في دار الدنيا، استهزءوا به، و هناك يحل ذلك بهم.

[35] وَ قِيلَ لهم الْيَوْمَ نَنْساكُمْ أي نترككم هملا كالمنسي، تلاقون العقاب و العذاب كَما نَسِيتُمْ و تركتم العمل لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا فكما تركتم الاستعداد لهذا اليوم نترككم في العذاب، و الإتيان بلفظ نسي لأن المهمل إذا طال أمد إهماله صار نسيا منسيا، فالمعنى نترككم إلى أن تكونوا منسيين وَ مَأْواكُمُ أي محلكم و منزلكم النَّارُ فكما أحرقوا أعمارهم و طاقاتهم في الدنيا سوف يحرقون بالنار في الآخرة، فإن النيران المعنوية صارت نيران مادية وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم من النار، فكما لم ينفعهم في الدنيا الذين كانوا يريدون خلاصهم من نيران عقائدهم و أعمالهم، كذلك لا ينفعهم هناك أي ناصر لأن الآخرة تبع للدنيا، و هي ثمرة للأعمال في الدنيا، فكما أن بذرة التفاح تعطي التفاح، و بذرة الحنظل تعطي الحنظل، كذلك العقائد و الأعمال و

الصفات في الدنيا تعطي ثمرها في الآخرة.

[36] أما أنهم كيف سلكوا في الدنيا هذا المسلك الذي أدّى بهم في الآخرة إلى النار ف ذلِكُمْ ذلك المسلك الدنيوي، إنما كان أيها الكفار المخاطبون- فإن «كم» خطاب- بسبب أنكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 120

اللَّهِ الآيات البشرية، كالأنبياء و الأئمة و المرشدين، و الآيات العقائدية، كالعقيدة بأصول الدين، و الآيات الاحكامية، كأحكام الإسلام، فإنها كلها آيات، و علامات اللّه، علامات تكوينية، و علامات تشريعية.

هُزُواً آلة استهزاء، فكنتم تضحكون على أولياء اللّه، و على أحكامه، كما هو شأن الإنسان الجاهل و المتجاهل، و بذلك لم يرضخوا لأنبيائه و أوليائه سبحانه، و لا لأحكامه تعالى وَ غَرَّتْكُمُ خدعتكم الْحَياةُ الدُّنْيا القريبة فحسبتم أن لا حياة سواها، و لذا انسقتم مع الأهواء و المشتهيات التي أضرتكم، نتيجة عنادكم للحق فَالْيَوْمَ في الآخرة، فإن اليوم يطلق على النهار وحده، و على النهار و الليل، و على القطعة من الزمان و لو كانت طويلة جدا، و لذا يقال:

الدهر يومان يوم لك و يوم عليك لا يُخْرَجُونَ مِنْها لا مخرج لهم، لبيان أنهم لا يقدرون بأنفسهم على الخروج، فالخروج إن كان فهو بواسطة الغير، و لا غير يخرجهم وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه، بالاستغفار و العمل الصالح، لأن الوقت قد فات، فإن وقت إرضاء اللّه هو دار الدنيا، و سبب أن الآخرة ليست محل الإرضاء: أن العقائد و الأعمال في الدنيا أحالت الإنسان إلى قطعة خبث، كما تستحال البيضة إلى فرخ، فكما لا يمكن إرجاع الفرخ بيضة، كذلك لا يمكن إرجاع ما استحال خبيثا إلى الحالة الدنيوية التي يمكن بها أن يعمل صالحا

و يعتقد صحيحا، فإن في الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 121

[سورة الجاثية (45): الآيات 36 الى 37]

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

الاستفراخ، و هذا لا ينافي قدرة اللّه على ذلك، إذ اللّه يخلق كل شي ء ممكن، و هذا شي ء ممكن خلقه سبحانه، و تفصيل المسألة في كتب الفلسفة.

[37] و إذ بينا لكم مصير المطيع و العاصي فاصرفوا كل طاقاتكم في سبيل الإطاعة، و الاجتناب عن المعصية، إذ لله وحده الْحَمْدُ لأن كل خير منه، حتى أن الإنسان إذا عمل الخير، فإنه سبقه جعل اللّه له القدرة على الخير، فإنه هو رَبِّ السَّماواتِ ما في الجهات العليا وَ رَبِّ الْأَرْضِ ما في الجهة السفلى، و إنما جعلت السماوات جمعا و الأرض مفردا، لأن ما نسكنها أرض، و كل ما سوى ذلك فهو سماوات لأنها أعلى من هذه الأرض، أما جمع الأرض في الأدعية، و في قوله سبحانه وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ «1» فلملاحظة النسبة رَبِّ الْعالَمِينَ كل عالم، عالم الجن، و عالم الملائكة، و عالم الإنسان، و عالم الحيوان، إلى غيرها، و حيث التداخل بين العوالم و بين السماوات و الأرض، لم يأت بالواو في «رب العالمين» و جي ء بالجمع العاقل باعتبار تغليب العاقل على غيره لأن العاقل أشرف.

[38] إنه «اللّه» الذات المستجمع لجميع الكمالات و «رب» و يربي و ينمي الأكوان وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ لأنه أكبر من كل شي ء، كبرا معنويا، و أكبر من أن يوصف فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو القاهر الذي ليس لشي ء

______________________________

(1) الطلاق: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 122

كبر و قهر مستقل، إن ما

استفاده منه، فهو يستحق الحمد، لأنه اللّه، و لأنه رب، و لأن له الكبرياء و هو يستحق الحمد، لأنه كامل، و لأنه رب، و لأنه الكبير القاهر المشرف على كل شي ء وَ هُوَ الْعَزِيزُ الوحيد الذي غيره ذليل أمام عظمته (وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) «1» الْحَكِيمُ وضع كل شي ء حسب الحكمة في موضعه اللائق به.

______________________________

(1) طه: 112.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 123

46 سورة الأحقاف مكية/ آياتها (36)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «الأحقاف» و هي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة ألوهية و رسالة و معادا.

و لما ختمت سورة «الجاثية» بصفات اللّه سبحانه ابتدأت هذه السورة، بأن القرآن من تنزيل هذا الإله العظيم، ليكون الناس أقرب إلى قبوله لأنه منزل من عند اللّه سبحانه.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم اللّه نبدأ، ليطابق ابتداءنا في اللفظ، الابتداء في الخلق، فكما أن اللّه سبحانه أول كل شي ء، كذلك اسمه أول كل كلام، و هو مكرر الرحمة، يرحم بدء و ختاما بمختلف أشكال الرحمة، و لعله لذا جي ء بلفظي الرحمن و الرحيم، فإن اختلاف اللفظ دليل على اختلاف المعنى، فالرحمن إشارة إلى نوع من الرحم، و الرحيم إشارة إلى نوع آخر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 124

[سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)

[2] حم رمز بين اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الراسخين في العلم، و لعله يأتي زمان يدرك الناس هذا الكنز المعنوي، كما انه لا يمر زمان إلا و

يدرك الناس كنوزا كونية، فإن العلوم كلها قوانين وضعها اللّه في الكون، مثل قانون جاذبية الأرض و قانون أرخميدس في الماء و قانون الأطياف في النور و غيرها، و إذا كان رمزا لم يلزم أن يعرفه الكل، فإن الرموز بين رؤساء الحكومات و كبار أعضاء الدولة في صلاح الناس، و إن كان كل الناس لا يعرفونها.

[3] إن هذا القرآن هو تَنْزِيلُ الْكِتابِ و إنما قال «تنزيل» لأنه أنزل من فوق أي الفوق المعنوي لأن اللّه سبحانه أرفع من الكل، كما يقال في العرف أن الأمر صدر من الجهات العليا، يريدون جهة السلطان، و إن كان بيت السلطان تحت الجبل، و المأمور فوق الجبل مثلا، إذ السلطان أعلى رتبة من السوقة و المأمورين مِنَ اللَّهِ لا من الجن، بالكهانة، و لا من لسان أعجمي، و لا من نفس محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما كانوا يرمون القرآن بكل ذلك الْعَزِيزِ فبعزته أرسل رسولا و أنزل دستورا، إذ لو لا العزة لم يكن له ذلك الْحَكِيمِ الحكمة وضع الأشياء موضعها؛ فإنزاله الكتاب إنما هو حسب الحكمة، لإصلاح الدين و الدنيا، و قد كان اللّه قادرا على أن يخلق الكون مثل ما ينتهي إليه في آخر نقطة من الكمال، إلا أن هذا اللون من الخلق كان يتطلب بلسان الحال إفاضة الوجود و اللّه فياض مطلق لا بخل فيه، و لذا خلق هذا اللون المتدرج في الصعود أيضا.

[4] ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ تقدم في آخر سورة الجاثية وجه جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 125

السماوات و إفراد الأرض وَ ما بَيْنَهُما في كل خلل و فرج منهما، كالإنسان و الملك و نحوهما، فالمخلوقات فيهما

باعتبار، و بينهما باعتبار آخر إِلَّا بِالْحَقِ لا هزوا و لا لعبا، و المراد بالحق المطابق للصلاح، خلافا للهزو الذي ليس مطابقا للصلاح، لا يقال قدر من اللعب أيضا مطابق للصلاح، و لذا أجاز يعقوب عليه السّلام أن يلعب أولاده، لأنه يقال ذلك يصلح للإنسان المخلوق بهذه الكيفية الخاصة، الذي لا يقدر من العمل الجدّي المستمر فيحتاج إلى الترفيه، لا بالنسبة إلى اللّه الذي لا يتعب و لا يمسه لغوب وَ إلا إلى أَجَلٍ زمان مُسَمًّى سمي عندنا إذا انتهى ذلك الأجل هلكت السماوات و الأرض و ما بينهما كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ «1» فليس الخلق فوضى في المدة، كما يزعمه الجاهلون ثم إن الأجل له إطلاقات «القطعة من الزمان» مثل إن أجل زيد خمسون سنة، و «آخر الزمان» مثل إن أجل زيد إلى سنة ألف و أربعمائة من الهجرة و كلاهما محتمل في الآية الكريمة وَ مع ذلك الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا من العقاب في الدنيا لمخالف قوانين اللّه، فكل من لم يعمل بالشريعة وجد ضنك العيش وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «2» و من العقاب في الآخرة بالنار و الجحيم مُعْرِضُونَ فلا يعملون بالأوامر، مع أن الخلق بالحق، و إن المدة قصيرة ذات أجل، و قد كان مقتضى العقل أن يعمل الذين كفروا بالإنذار، بعد ما يشاهدون من حقيقة الخلق و بعد ما

______________________________

(1) القصص: 89.

(2) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 126

[سورة الأحقاف (46): آية 4]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

(4)

علموا من عدم البقاء السرمد، و إنما لكل شي ء أجل.

[5] ثم إنكم أيها الكفار، لا حجة لكم في كفركم ف قُلْ لهم يا رسول اللّه أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني أيها الكافرون عن حال ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام، سواء كان، شمسا، أو قمرا، أو بشرا، أو حجرا، أو غير ذلك أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ فهل خلقوا نباتا أو حيوانا أو بحرا أو برا، أو غير ذلك، و لا يحق لهم أن يقولوا أن فرعون مثلا خلق تلك المدينة إذ فرعون لم يخلق، و إنما فرعون جاء بالمعدات أي حركة عضلاته فقط، و إنما مادة البناء و صورته كلاهما للّه سبحانه و لذا قال سبحانه وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ «1» أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ شراكة فِي خلق السَّماواتِ و حيث رأيتم إنهم شركاء اللّه في خلق الأرض و السماوات فاتخذتموهم شركاء للّه و كفرتم بوحدانيته و إذ ادعيتم الشراكة في الخلق ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا القرآن يؤيد اشتراك الأصنام في الخلق، إن كنتم تدعون أنكم على دين، كما كان بعضهم يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السّلام، أو دين عيسى عليه السّلام، أو دين موسى عليه السّلام، و مع ذلك كانوا يجعلون الأصنام أو المسيح، أو عزيرا، شركاء للّه أَوْ أَثارَةٍ بقية مِنْ عِلْمٍ بأن يدل المنطق على صحة اعتقادكم بالآلهة الباطلة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أن الأصنام

______________________________

(1) الفرقان: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 127

[سورة الأحقاف (46): آية 5]

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)

و غيرها شركاء للّه سبحانه، و إذ لا دليل لكم من

كتاب سابق، و لا من علم و برهان، فاتركوا الأصنام و سائر المعبودات، و اعبدوا إلها واحدا فقط، و إنما قال سبحانه «أثارة من علم» لأنهم كانوا جهالا و هم أيضا ما كانوا يدعون أنهم علماء، و لكن الجاهل قد يبقى له بعض العلم و المنطق عن أسلافه.

[6] وَ هؤلاء الكفار الذين يتركون اللّه سبحانه و يدعون غير اللّه من الأوثان، سواء تركوا اللّه إطلاقا، أو تركوا اللّه في الجملة، بأن أشركوا معه غيره، لا أحد أكثر ضلالا منهم إذ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ فهو قد ترك السميع المجيب القادر على قضاء حوائجه و اتخذ إلهه صنما لا يجيبه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ و لو دعاه طول حياة الدنيا، و جعل يوم القيامة غاية مع أن الأصنام لا تجيبهم إلى الأبد و حتى بعد يوم القيامة، إنما هو لأجل أن هؤلاء يعترفون في يوم القيامة بضلال أنفسهم، ففي يوم القيامة لا دعوة من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فلا دعوة للكفار حتى يطرح الكلام في أنه هل تجيبهم الأصنام أم لا، مثل قولهم لا كلمتك إلى أن تموت، فليس المراد أكلمك بعد الموت، بل المراد أن موضوع الكلام ينتفي وَ هُمْ أي تلك الآلهة البشرية أو الحجرية أو الشمس و القمر و نحوها، و إنما جي ء بلفظ العاقل، لأن بعض المعبودات عقلاء، أو لأن الكفار لما أنزلوها منزلة العقلاء بعبادتهم لها، جي ء الكلام على منطقهم عَنْ دُعائِهِمْ أي دعاء الناس لتلك الأصنام غافِلُونَ لأنها جمادات فلا تشعر طلب الكفار منها، أو عباد مشغولون بأحوال أنفسهم، فالغفلة كناية عن عدم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 128

[سورة الأحقاف (46): الآيات 6

الى 7]

وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

قضاء حاجة عبادها، فإذا قضوا حاجة لهم، فإنما في الحقيقة، ليست مرد الحاجة لتلك الأفراد بل للّه سبحانه.

[7] وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ أي جمعوا يوم القيامة كانُوا تلك الأصنام لَهُمْ للبشر الذين يعبدونها أَعْداءً لأن الأصنام تضر عبادها، بإدخالهم النار، كما يفعل العدو بعدوه وَ كانُوا تلك الأصنام بِعِبادَتِهِمْ أي عبادة البشر لها كافِرِينَ فإن اللّه ينطق الأصنام ليظهروا تبريّهم من عبادها، أو كناية عن أنه لو كان لتلك الأصنام لسان لكفرت بعبادها، و قد قال اللّه تعالى في آية أخرى إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ «1» و لا مانع من نطق الجماد بقدرة اللّه تعالى، و في الآيات و الأخبار دلالة على ذلك كقوله سبحانه قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «2» و قوله سبحانه فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها «3» و قوله عز من قال فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ «4» و قوله سبحانه يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها «5» إلى غير ذلك ... و حاصل الآيتين الكريمتين أنه لا فائدة في عبادة هذه الأصنام و إنما تضر في الآخرة، عوض أن تنفع.

[8] وَ هؤلاء الكفار اتخذوا الباطل، و تركوا الحق و عاندوه، أما اتخاذهم الباطل فلما سبق من عبادتهم الأصنام، و أما تركهم الحق فلأنهم

______________________________

(1) فاطر: 15.

(2) فصلت: 12.

(3) الأحزاب: 73.

(4) النازعات: 15.

(5) الزلزلة: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 129

[سورة الأحقاف (46): آية 8]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ

بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)

إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على التوحيد و الرسالة و المعاد، في حال كونها بَيِّناتٍ واضحات يفهمها كل عاقل قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قالوا لِلْحَقِ الذي بيّنّا لهم لَمَّا جاءَهُمْ واضحا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي واضح كونه سحرا، فجعلوا الحق الواضح، سحرا واضحا، بسبب عنادهم، ثم إن الفرق بين السحر و المعجز: أولا: أن العقل يميز بينهما، فهل أن للكون إلها عالما قادرا سحر؟ و هل أن الصنم و البشر إله خالق؟

و ثانيا: إن الإعجاز بدون أدوات، و السحر يأتي بأدوات. و ثالثا:

إن الساحر لا يقدر على كل شي ء بل على أشياء خاصة، بينما صاحب الإعجاز على كل شي ء مقدور في ذاته.

[9] إنهم كانوا يقولون أن الآيات سحر، و كانوا يقولون أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مفتر على اللّه، لأنه يدعي أنه نبي من قبل اللّه، و الحال أنه ليس بنبي أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «أم» بمعنى «بل» كأنه تعجب من دعواهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مفتر قُلْ في جوابهم يا رسول اللّه لا يمكن أن يفتري البشر على اللّه، إذ اللازم على اللّه أن يفضحه، فإن العقلاء يحتجون على المفترين بما لا يتمكن من رده ف إِنِ افْتَرَيْتُهُ افتريت القرآن فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يقال «يملك الوزير من الأمير» أي أن الأمير إذا أراد شيئا و لم يرده الوزير يتمكن الوزير أن يصرف الأمير عن إرادته، لكن الإنسان لا يملك أن يصرف اللّه عن إرادته، و قد أراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 130

[سورة الأحقاف (46): آية 9]

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ

الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

سبحانه فضح مدعي النبوة كذبا، لأنه سبحانه نصب الأدلة العقلية على خلافه، كما نصب الأدلة العقلية على فضح مدعي الطب كذبا، و مدعي الهندسة كذبا، لأن الأول لا يقدر على شفاء المرضى، و الثاني لا يقدر على جعل الهندسة لبناء دار و نحوها، و الرسول إن كان كاذبا فهل كان يقدر على جواب كل سؤال و حل كل مشكلة؟ فلو كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاذبا، لا يملك أحد أن يصرف اللّه عن إرادته في فضح الكاذب ... ثم هددهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ تندفعون فِيهِ من الشرك و تكذيب آياته و الافتراء على رسوله، و سيجازيكم عليه كَفى بِهِ أي باللّه شَهِيداً شاهدا بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق، لأنه لم يفضحني، بالأدلة العقلية و يشهدكم بالانحراف بما قد نصب من الأدلة العقلية المبينة لبطلان المبطل وَ لا بأس لكم فإن تبتم تاب اللّه عليكم لأنه هُوَ الْغَفُورُ لعباده التائبين الرَّحِيمُ بهم يتفضل عليهم من رحمته زيادة على غفران ذنوبهم.

[10] و قد كان كفار مكة يستدلون على عدم رسالة الرسول بأنه لو كان رسولا لزم أن يأتيهم بكل آية يقترحونها من الإعجاز، عنادا فيهم و تضليلا للسذج ف قُلْ يا رسول اللّه في جوابهم ما كُنْتُ بِدْعاً جديدا بديعا مِنَ الرُّسُلِ حتى أتاكم بكل ما تقترحونه من الآيات، فهل كانت الرسل تأتي بكل آية تقترحها عليهم أممهم؟ حتى يأتيكم بمثل أولئك الرسل، كلما تقترحون من الآيات، فإن كانت الحجة

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 131

كافية، فقد أتيتكم بالقرآن و بمعجزات أخر تكفي في إثبات النبوة، و إن كانت الحجة غير كافية، فالإتيان بالمعجزة أيضا غير مفيدة لإقناعكم، أ رأيت لو عالج الطبيب أعصى الأمراض، و تحدى الأطباء، فهل للأطباء أن يقولوا أنت لست بطبيب، و إلا فعالج مرضى آخرين؟ و إذا قالوا ذلك ألم يحمل كلامهم على العناد؟ وَ كذلك الكفار كانوا يقولون للرسول إن كنت رسولا فقل لنا ما هو مصيرنا في الدنيا و ما هو مصيرك؟ و أجابهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ فإن علم الغيب تفصيلا خاص باللّه تعالى إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ «إن» نافية أي ما أتبع في المجي ء بالآيات، و في الإخبار عن المغيبات، إلا كما يوحى إلي، و ليس من الصلاح إجابة كل معاند بما يقترح، و إلا كان مهزلة، و كرروا قولهم أنه سحر، فما ذا يفعل الرسول لمن يرد العناد؟ و قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاءهم موسى بكل آية فقالوا سِحْرانِ تَظاهَرا «1» كما انه ليس من الصلاح أن يخبرهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكل ما يريدون من المغيبات لأنه إن كان لإقناع المصنف فقد اقتنع بما رآه من إعجاز القرآن و غيره، و إن كان لإقناع المعاند، فالمعاند لا يقتنع و لو جاءهم الرسول بكل آية، أليس عيسى عليه السّلام أخبرهم بما يأكلون و ما يدخرون في بيوتهم و مع ذلك كفروا به؟ وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ منذر بأنّ من لم يسمع كلامي له حياة سيئة في الدنيا و في الآخرة

______________________________

(1) القصص:

49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 132

[سورة الأحقاف (46): آية 10]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى «1» مُبِينٌ واضح كوني منذرا و رسولا، فاللازم أن آتي إليكم بالقدر الذي يثبت أني منذر و رسول، لا أن آتي بالمقترحات العنادية لكم.

[11] قُلْ يا رسول اللّه لي شاهدان على صدقي، فكيف تكفرون أنتم، مما يسبب لكم أشد الوبال. الأول: الإعجاز. الثاني: تصديق أهل الكتاب الذين هم أهل خبرة لي، و ذلك كما ادعى إنسان أنه طبيب ثم عالج الأمراض، و صدقه الأطباء، فهل يبقى هناك شك في كونه طبيبا؟

و من أنكر كونه طبيبا أليس يكون معاندا؟ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بدليل أنكم عاجزون عن الإتيان بمثله وَ الحال أنكم كَفَرْتُمْ بِهِ أليس ذلك يسبب الوبال لكم؟ وَ أرأيتم إن كان شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الذين هم أهل كتاب و خبرة كعبد اللّه بن سلام الذي كان من علماء بني إسرائيل و آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى مِثْلِهِ أي مثل قولي أنه من عند اللّه فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ أنتم، أليس ذلك يسبب لكم الوبال؟ و قد حذف الجواب «لأنه كان من عند اللّه ...» للتهويل، مثل قولك مهددا لولدك، إن شربت الخمر؟ تريد أنه يلاقي عقوبة بسبب شربه- كما ذكروا في علم البلاغة- ثم ألمع سبحانه إلى الجواب بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 5، ص: 133

[سورة الأحقاف (46): آية 11]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)

ظلموا أنفسهم بالعناد، اللّه لا يوصلهم إلى مطلبهم، لأن الهداية قد تكون بمعنى إراءة الطريق نحو وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «1» أي أريناهم الطريق، و قد تكون بمعنى الإيصال إلى المطلوب نحو إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «2» أي لا توصلهم إلى المطلوب، و إلا فالهداية بإراءة الطريق كانت من شأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ...

و إذا لم يوصلهم اللّه إلى مطلبهم خسروا الدنيا و الآخرة.

[12] ثم إن هؤلاء الكفار بالإضافة إلى كفرهم باللّه، و بالرسول، و بالقرآن، أخذوا يستهزئون بالمؤمنين وَ ذلك بأن قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي قالوا عنهم، و كأنه جاء «باللام» مرة دلالة على أنهم قالوا في حضور المؤمنين و ب «سبقوا» غائبا، مرة دلالة على أنهم قالوا في غيبة المؤمنين، للدلالة على أن الكفار كانوا يقولون ذلك في كل حال لَوْ كانَ الإيمان و القرآن خَيْراً ما سَبَقُونا أي لم يسبقنا المؤمنون بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إِلَيْهِ إلى الإيمان و القرآن، و ذلك لأننا أكثر عقلا منهم، فلو كان خيرا لكنا نحن السابقين وَ سبب قولهم هذا هو أنهم إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ و لم يسلكوا سبيل الهداية فَسَيَقُولُونَ للترفيه عن أنفسهم إنه ليس بخير بل هذا القرآن و ما جاءه الرسول إِفْكٌ كذب قَدِيمٌ كما في آية أخرى وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها «3» فهم لم يقبلوا عنادا، و استهزءوا بالمؤمنين، و قالوا إنه ليس بخير،

______________________________

(1) فصلت:

18.

(2) القصص: 57.

(3) الفرقان: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 134

[سورة الأحقاف (46): الآيات 12 الى 13]

وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)

و إنما هو كذب سابق، و كل قولهم و عملهم هراء و بدون حجة، و إنما هو كلام المستكبرين و المعاندين، فإن رمي كل حق بأنه ليس بخير، و أن المؤمنين به لا عقل لهم، و إنه إفك قديم، سهل، لكن الإتيان بالدليل على ذلك غير ممكن، و لذا قالوا في المثل «ما أسهل كيل التهم و أصعب إقامة الأدلة عليها».

[13] وَ كيف يكون هذا إفك و الحال أن مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن كِتابُ مُوسى عليه السّلام التوراة تشتمل على ما يشتمل عليه هذا القرآن، في حال كونه إِماماً يقتدي به الناس، فهل من يقتدي بكتاب موسى عليه السّلام لا عقل له؟ وَ رَحْمَةً لرحم البشر، و الكذب ضد الرحم، فقولهم «ليس بخير» و «إفك» جوابهم أنه ككتاب موسى عليه السّلام فهو «إمام» و «رحمة» وَ هذا القرآن كِتابٌ مُصَدِّقٌ لما في كتاب موسى عليه السّلام من أصول الدين و الأخلاق، و نحوهما و لكن مع فارق، فالتوراة كان لسانا عبريا، و القرآن لِساناً عَرَبِيًّا و إنما أنزل لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إنذارا بخسران دينهم و دنياهم وَ ليكون بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ للذين أحسنوا بالإيمان به و باتباعه، بأن لهم خير الدنيا و الآخرة، أما أن القرآن لم نزل على لغة العرب؟ فيرده أنه بأية لغة نزلت كان موضع هذا التساؤل؟ و لو قيل لماذا لم

ينزل بكل لغة؟ فجوابه أن كونه بلغة واحدة أحسن لأنها تصبح لغة واحدة لكل البشر يتفاهمون بها بالإضافة إلى لغاتهم الخاصة بهم.

[14] و حيث عرفتم أيها المؤمنون خير ما تمسكتم به، و عرفتم بطلان حجج الكفار، فلا يستفزنكم أذاهم و استهزائهم لكم، و كونوا مستقيمين في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 135

[سورة الأحقاف (46): الآيات 14 الى 15]

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)

دينكم حتى تنالوا جزاء الاستقامة ف إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ و تركوا الأصنام، بأن صحت عقيدتهم ثُمَّ اسْتَقامُوا في اتباع أوامره سبحانه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه آت وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لمكروه سابق، فإن الخوف من المكروه المرتقب، و الحزن من المكروه الوارد الكائن الآن، أو الماضي، و ذلك ليس بمعنى أن المؤمنين لا يصيبهم حزن و خوف، بل بمعنى «النسبية» فخوفهم و حزنهم، بالنسبة إلى خوف الكفار و حزنهم، قليلا جدا بحيث يمكن سلب كونه خوفا أو حزنا، لأنهما قليلان مؤقتان، و مقترنان بالبشارة بالأجر و الثواب، بخلاف خوف الكفار و حزنهم.

[15] و إنما كان خوفهم و حزنهم مؤقتا لأن أُولئِكَ المؤمنين أَصْحابُ الْجَنَّةِ في الآخرة، فما يلاقونه من الأتعاب في الدنيا ينقضي بسرعة خالِدِينَ فِيها أبدا جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ و الاعتقاد نوع من العمل أيضا، لأنه عمل القلب،

فلا يقال: لماذا لم يقل سبحانه: ...

بما كانوا يعتقدون و يعملون؟.

[16] وَ كما أننا وصينا الإنسان بعدم الشرك و عبادة اللّه الذي هو منعم حقيقي عليه كذلك وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ اللذان هما سبب وجوده فكل واحد منهما منعم مجازي على الإنسان، و الوصية قول مؤكّد سواء كان في الحياة أو بعد الممات إِحْساناً أي أن يعمل الحسن، و قوله سبحانه «إحسانا» من باب المبالغة مثل «زيد عدل»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 136

فيقدم لهما قطعة من الحسن، أي أحسن الأعمال، حتى كأن العمل ذات الحسن و اللازم أن يخص الأم بزيادة الإحسان لزيادة أتعابها في سبيله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً كارهة الحمل لمشقته في أغلب أوقات الحمل، بل و كثيرا ما في أوله أيضا حيث الاضطرابات التي تطرأ على المرأة عند الحمل، و حيث الحزن النفسي من أتعاب الحمل و الطلق و غير ذلك وَ وَضَعَتْهُ حين الولادة كُرْهاً لمشقات الولادة فهي كارهة وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً فإن الحمل ستة أشهر على الأقل، و الإرضاع سنتان فالمجموع ثلاثون شهرا، تعاني فيها الأم مشاكل جمة من جهة الولد، هذا بالإضافة إلى المشاكل في المستقبل التي تعانيها بسبب رعاية الولد و عنايتها به، أليس بعد هذه الأتعاب تستحق الأم الإحسان إليها من جانب الأولاد، و هنا ينقسم الأولاد إلى قسمين قسم يعمل بوصيتنا له في الإحسان إلى أبويه، و قسم لا يعمل، كما انقسم الناس أمام اللّه سبحانه إلى قسمين قسم مؤمن، و قسم كافر، فالقسم المطيع يكون حاله حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ استحكم قوته البدنية و العقلية، كأن يشدّ من التبعثر، و بهذا البلوغ يتمكن عقله من الفهم على وجوب الإحسان إليهما، و يتمكن بدنه

من القيام بخدمتهما وَ هذه الحالة تمتد حتى بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حيث القوة البدنية تأخذ بالضعف، و حيث أن الغالب موت الأبوين قبل بلوغ الولد ذلك، فلا حاجة لهما إلى خدمة الولد قالَ الإنسان يا رَبِّ أَوْزِعْنِي ألهمني و خذ أمامي حتى لا أنحرف عن الجادة، فإن معنى وزعه: منعه أَنْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 137

أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَ فإن قوة الشباب ذهبت احتاج الإنسان إلى الاستعانة باللّه أكثر في التوفيق للشكر، و لأن حالة الحدة تأخذ مجراها إلى الإنسان فهو يكون أبعد من الشكر، لأن مشكلات الحياة تستفزه فيكون أقرب إلى الكفران، و الشكر للنعمة التي كانت على الوالدين، نوع إطاعة للّه و إحسانه إليها وَ أوزعني أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ فأريد منك يا رب أن توجه قلبي و لساني بالشكر، و جوارحي بالعمل الصالح وَ يا رب أدعوك أن أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعلهم صالحين، و «في» باعتبار أن الصلاح يقع فيهم، و «لي» باعتبار أن صلاح الذرية عائد إلى الوالدين، سمعة و ثوابا، و لعل الإتيان بهذه الجملة هنا للدلالة على أن الإحسان إلى الأبوين يؤثر في إحسان الذرية للإنسان، فصلاح الإنسان يسبب صلاح الذرية، أما ما سلف مني من المخالفة ف إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ يا رب و أستغفرك عن ذلك وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ لك أعترف بذلك، ليكون الإنسان أقرب إلى التواضع، فالإنسان الحسن هو الذي عبد اللّه و لم يشرك به، و أحسن إلى والديه من حين بلوغ أشده إلى حين أربعين سنة، و حيث فقد الوالدين ببلوغ الأربعين دعا لهما، و اعترف بفضلهما، و طلب من اللّه أن يعينه في المستقبل «حالة ضعفه»

أن يشكره كما كان يشكره سابقا، و طلب منه إصلاح ذريته .. و قد صبت هذه الحقيقة في هذا القالب البلاغي الرائع الذي يمشي بالإنسان من حين حمل الأم له إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 138

[سورة الأحقاف (46): الآيات 16 الى 17]

أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)

حين بلوغه أربعين سنة، و إنما لم تختم الآية الإنسان، إلى حين الموت لبقاء فجوة في النفس، كما هي العادة في الألواح الجميلة، ليذهب الخيال كل مذهب.

[17] أُولئِكَ الأفراد الذين هذه صنعتهم من العبادة و الشكر و الدعاء الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي بقبول أحسن، لا أن أعمالهم الأحسن فقط تقبل، فهو من باب «القلب» مثل: عرضت الناقة على الحوض وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فلا يجازون بها، فهم يكونون فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ و قد وعدنا بذلك وَعْدَ الصِّدْقِ لا خلف فيه بل صادق مطابق للواقع الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ «الذي» صفة «وعد» فهؤلاء حسناتهم مقبولة و سيئاتهم مغفورة، و مقرهم الجنة.

[18] وَ بالعكس من هذا القسم من الإنسان المؤمن الشاكر للّه و لوالديه القسم الثاني من الإنسان الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ لما كبر و عقل أُفٍّ لَكُما فهو كافر بهما، و كافر بعقيدتهما التي هي التوحيد، فقد جمع بين الكفرين، و «أف» كلمة «تضجر» و «إهانة للمخاطب» أَ تَعِدانِنِي من الوعد- أَنْ أُخْرَجَ بعد الموت، من قبري للحساب وَ الحال

أنه قَدْ خَلَتِ مضت الْقُرُونُ و السنوات الكثيرة مِنْ قَبْلِي فلم يرجع أحد من الأموات، و إنكار البعث مستلزم لإنكار الألوهية و إنكار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 139

[سورة الأحقاف (46): الآيات 18 الى 19]

أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)

الرسالة وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يطلبان من اللّه هدايته و يقولان له وَيْلَكَ السوء لك إذا بقيت على هذه العقيدة آمِنْ باللّه، فهما يدعوان لإيمانه، و يطلبان منه الإيمان إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌ فلا تكفر به، و مجرد الاستبعاد و أنه لماذا لم يحشر السابقون، ليس دليلا على العدم فَيَقُولُ ما هذا الذي تقولانه من البعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة، و هي الخرافة، التي قالها السابقون بدون برهان و دليل.

[19] أُولئِكَ أمثال هؤلاء الذين كفروا باللّه و بالبعث، و لم يشكروا والديهم فلم يطيعونهما الَّذِينَ حَقَ ثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الذي قلناه و وعدنا به بأن من لم يؤمن جزاءه جهنم، فهم داخلون فِي أُمَمٍ جماعات كافرة قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ السابقين قَبْلِهِمْ مِنَ كفرة الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و لعل ذكر الجن لأجل التهويل إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ خسروا دنياهم و آخرتهم، و «إنهم» إما جملة مستأنفة تحسّريّة، و إما عطف بيان ل «القول» فمعناه ثبت عليهم أنهم خاسرون.

[20] وَ كما أن القسم المؤمن من الناس نوفيهم أعمالهم بإدخالهم الجنة كذلك هؤلاء الكافرين نوفيهم أعمالهم ف لِكُلٍ من القسمين دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا إذ الأشد إيمانا و الأحسن عملا درجته فوق ذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 140

[سورة الأحقاف (46):

آية 20]

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

الإيمان العادي و العمل الصالح العادي، و كذلك بالنسبة إلى الأكفر و الكافر و الأعصى و العاصي وَ لِيُوَفِّيَهُمْ اللّه أَعْمالَهُمْ التي منها عقائدهم، لأن العقيدة عمل العقل، و معنى التوفية، إرجاعه إليهم وافيا، بدون زيادة أو نقيصة، ثم هل الجزاء نفس العمل أخذ صورة الآخرة، كما أن الدجاجة نفس البيضة، و الشجرة نفس النواة، و الولد نفس المني،- و لذا قال سبحانه «أعمالهم»- أو إن الجزاء جزاء العمل، مثل «دينار» يعطيه الإنسان أجرة للبناء؟ احتمالان، و إن كان ظاهر الأدلة و المؤيدات النقلية و العقلية الأول وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص من حسنة المؤمن، و لا يزاد في سيئة الكافر.

[21] ثم إن القرآن مشى بالفريقين «عقيدتهم و عملهم» في الدنيا حتى أوصلهما إلى الآخرة، و قد رأينا المؤمن كيف أنه دخل الجنة فلننظر إلى الكافر و حاله يوم القيامة لنرى وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ في حال كونهم واقفين على شفيرها، في ذل و هول عظيمين، فيقرأ عليهم وثيقة الاجرام، فيقال لهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا إن البدن و العقل و الطاقات و سائر ما للإنسان مما يتمكن من التصرف فيه، طيب منحها اللّه له، لأجل إسعاده، لكن الكفار يصرفونها لأجل شقائهم، كمن أعطى ولده مالا لأجل أن يكتسب به لتأمين مستقبله فصرفه في شرب الخمر و الزنى و القمار مما أوجب أمراضه الجسدية و العقلية وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها بتلك الطيبات حتى نفذت و لذا ليس عندكم الآن شي ء

لراحتكم و سعادتكم، بل حصلتم بتلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 141

[سورة الأحقاف (46): آية 21]

وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)

الطيبات، هذه النار و العذاب لأنفسكم، إذن فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ يؤلم جسدكم بالنار، و أنفسكم بالإهانة، لأنكم صرفتم جسدكم و أنفسكم في الملذات الضارة بسبب ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ فالهوان لذلك الاستكبار وَ بسبب ما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ و تأتون بالمعاصي، فالنار لأجل تلك المعاصي الجسدية، و السرّ أن كل طاقة قابلة لأن تصرف في الفساد و قابلة لأن تصرف في الصلاح، فالنفط يمكن أن يصرف في طبخ الطعام، و في إحراق الدار و الأثاث، و الماء يمكن أن يصرف في الزراعة و الشرب و النظافة و في غرق الإنسان به في بحر أو نهر أو نحوهما، إلى غير ذلك، و الطاقات التي منحها اللّه للإنسان كذلك صالحة لصرفها في شراء الجنة و العزة الأبدية، و صالحة لصرفها في شراء النار و الهوان الأبدي، و حيث صرفها الكافر في غير المصرف الصحيح كان جزاءه عذاب الهون، و لعل قوله سبحانه «بغير الحق» لأن إرادة الكبر قد تكون لأجل إصلاح الناس و منع المفسدين عن الفساد، و لذا فالقيد إخراجي، لا توضيحي.

[22] وَ ليعتبر هؤلاء الكفار بقصص التاريخ، حتى يعلموا أن جزاء تكذيب أنبياء اللّه، و الانحراف عن منهجه سبحانه يوجب خسران الدنيا، أيضا، بالإضافة إلى خسران الآخرة، التي ذكر في الآية المتقدمة ف اذْكُرْ لهم يا رسول اللّه أَخا قبيلة عادٍ القبيلة الكافرة باللّه و اليوم الآخر و

أخوهم هو «هود» النبي عليه السّلام إِذْ أَنْذَرَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 142

قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ جمع حقف، و هو رمل مستطيل مرتفع عن الأرض فيه انحناء، و كانت قبيلة عاد يسكنون في «اليمن» في أراض رملية، و كانت لهم مدن في تلك الأراضي وَ قَدْ خَلَتِ أي مضت و سبقت النُّذُرُ جمع نذير، أي الأنبياء مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قبل هود عليه السّلام وَ مِنْ خَلْفِهِ بعد هود عليه السّلام- هذه جملة معترضة- لإفادة أن النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس جديدا بل الأنبياء كانوا مستمرين، قبل هود و بعد هود، و كان هود أيضا نبيا، و كلهم وصّوا أممهم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فإن لم تعبدوا اللّه، أو عبدتم غير اللّه ف إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في هوله، يأخذكم ذلك العذاب في الدنيا قبل الآخرة، و هنا سؤال هو أنه لماذا عبادة غير اللّه، أو عدم عبادة اللّه، توجب العذاب، فهل اللّه يحتاج إلى العبادة حتى يعذب غير العابد؟

و الجواب أن اللّه ليس محتاج، و إنما طبيعة عبادة غير اللّه تنتهي إلى العذاب، كطبيعة الحنظل التي تنتهي إلى المرارة، و طبيعة بيضة الحية التي تنتهي إلى السم، و هنا سؤال آخر: هو أنه هل هذه الطبيعة بجعل اللّه، أو خارجة عن إرادة اللّه، فإن كانت بجعله سبحانه فلما ذا جعلوا هكذا؟ و إن كانت خارجة عن إرادته، فذلك مما دل العقل على بطلانه، إذ اللّه قادر على كل شي ء؟ و الجواب: هي بجعل اللّه، و إنما جعل سبحانه هكذا، لأن الماهيات تتطلب الفيض، و عدم الفيض بخل لا يليق بمقامه سبحانه، و تفصيل المسألة في الكتب الفلسفية الإسلامية.

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 5، ص: 143

[سورة الأحقاف (46): الآيات 22 الى 24]

قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24)

[23] قالُوا أَ جِئْتَنا يا هود لِتَأْفِكَنا لتصرفنا عَنْ عبادة آلِهَتِنا فإنا لا نؤمن بك، فجوابهم لهود عليه السّلام لم يكن تقليدا بحتا، و ضلالا، بدون حجة و برهان- كما هو شأن كل جاهل معاند- فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في كلامك و قد قالوا ذلك له على سبيل الاستهزاء.

[24] قالَ هود عليه السّلام إِنَّمَا الْعِلْمُ في وقت عذابكم عِنْدَ اللَّهِ فليس الأمر بيدي حتى أطلب الآن العذاب وَ أما أنا فشأني أن أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ و قد فعلت ذلك وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ لأنكم تتركون الحجة التي أتيت بها إليكم و تأخذون بالعناد، و لا بد أن يأتي يوم ينزل عليكم العذاب حيث لا ينفع الندم.

[25] حتى إذا بلغوا كل مبلغ من العتو و أخبرهم هود بوقت عذاب اللّه، و كانت بلادهم خصبة فأصابهم القحط، و لم ينفعهم ذلك أيضا في رجوعهم، فلا الحجة أفادت، و لا أرضاهم الذي منّ اللّه به عليهم، و لا القحط الذي أصابهم، فاستحقوا العقاب فَلَمَّا رَأَوْهُ رأوا العذاب و كان ريحا سوداء لاحت لهم من الأفق عارِضاً أي شيئا كالسحاب ذي المطر عرض في أفق السماء مُسْتَقْبِلَ متوجهة أَوْدِيَتِهِمْ جمع وادي، الصحراء التي تسيل فيها السيول قالُوا جهلا منهم بحقيقة

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 144

[سورة الأحقاف (46): الآيات 25 الى 26]

تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)

العارض هذا عارِضٌ سحاب مُمْطِرُنا فنخرج من القحط و أجابهم هود عليه السّلام كلا بَلْ هُوَ مَا العذاب الذي اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ طلبتموه و قلتم: فأتنا بما تعدنا، هي رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم و لعل رياح نخوتهم تبدلت إلى رياح العذاب، كما أن أنهار فرعون التي كان يفتخر بها في قوله «و هذه الأنهار تجري من تحتي» و صارت سببا لادعائه الألوهية، تجمعت فصارت سببا لغرقه و هلاكه، فإن العذاب من جنس العصيان.

[26] تُدَمِّرُ تهلك هذه الرياح كُلَّ شَيْ ءٍ من المباني و الأشجار و الإنسان و الحيوان بِأَمْرِ رَبِّها فلا يمكن أن يقف أمامها شي ء فجاءتهم و أهلكتهم و أصبحوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أما في المساكن و من في المساكن فقد هلكت، فإذا حضر إنسان تلك البلاد لم ير إلا أثار بيوتهم، و إنما بقيت للعبرة كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ و هل العذاب كان خارقا أو كان عاديا؟ احتمالان: و على أي حال فالعذاب عذاب كيفما كان قال سبحانه قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ «1».

[27] وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ أي قوم هود عليه السّلام فِيما إِنْ قد مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ من

______________________________

(1) الأنعام: 66.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 145

[سورة الأحقاف (46): آية 27]

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)

القوى البدنية و العقلية، و الإمكانات الكونية، فأنتم و إياهم سواء في إعطاء اللّه سبحانه نعمه وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً يسمعون به آيات اللّه وَ أَبْصاراً يرون بها آثار اللّه وَ أَفْئِدَةً يعرفون بها المعقولات و يميزون بها بين الحق و الباطل، و قدم السمع، لأن السمع غالبا أكثر دركا من البصر إنه يسمع الأخبار من الأزمنة و الأمكنة البعيدة بخلاف البصر الذي لا يرى إلا في شعاع محدود، و الأفئدة تتأخر في الإدراك عن السمع و البصر، لأنهما بابان إلى الفؤاد فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما أفاد في الدفاع عنهم سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ لأنهم لم يستعملوها فيما يفيدهم، و إنما لم تنفعهم في إنقاذهم من العذاب مِنْ شَيْ ءٍ من الإغناء أي و لو إغناء قليلا إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ ينكرون بما يرونه و يسمعونه و يفهمونه من آيات اللَّهِ اللفظية، و الكونية وَ حاقَ نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي استهزائهم، فإن استهزاءهم صار عذابا منزل بهم، و قد سبق أن عمل الإنسان كالبذر ينمو و ينمو و ينمو حتى يصل إلى ثمرة، فاحذروا أيها الناس أن ينزل بكم العذاب كما نزل بهم، فإنه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن لم يكن عذاب خارق، لكن لا شك أنه تكون عذابات متناسبة و الأعمال، فإن لكل انحراف آثار سيئة، كما هو واضح عقلا و دل عليه الدليل الشرعي.

[28] و اعلموا يا أيها البشر أن العذاب لم يكن خاصا بقوم هود بل كل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5،

ص: 146

[سورة الأحقاف (46): آية 28]

فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)

مخالف لا بد و أن ينال عذابه وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ ما في أطرافكم يا أهل مكة مِنَ الْقُرى كقرى قوم هود، و قوم صالح، و قوم لوط، و غيرها وَ قد صَرَّفْنَا الْآياتِ التي تنبههم من الرخاء و البلاء و الإعجاز، و التصريف جعل الشي ء من حالة إلى حالة، فسبب التنبيه لهم صار عدة مرات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكنهم لم يرجعوا عن غيهم فأخذهم العذاب، حتى يروا جزاء أعمالهم، و حتى يعتبر بهم البشر الآتون بعدهم إنهم إذا خالفوا كان مصيرهم مصير أولئك.

[29] فلو كانت تلك الأصنام آلهة، كما كان يزعم قوم هود عليه السّلام فَلَوْ لا لماذا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ أي الأصنام، وجي ء لهم بضمير العاقل، لأن عبادها كانوا يزعمون أن تلك الأصنام عقلاء اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً أي يتقربون بهم إلى اللّه، حيث كان الكفار يقولون «هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه» آلِهَةً مفعول «اتخذوا» بَلْ ضَلُّوا و غابوا تلك الأصنام عَنْهُمْ عن نصرة أولئك القوم و لذا لم ينصروهم ساعة نزول عذاب اللّه وَ ذلِكَ الأثر أي العذاب، عاقبة إِفْكُهُمْ و كذبهم، فإن الأصنام لم ينصروهم، بل هي تلك الأصنام صارت سبب بلائهم و عذابهم وَ ذلك سبب افترائهم و قوله سبحانه ما كانُوا يَفْتَرُونَ يؤول بالمصدر، أي افتراءهم، ف «إفكهم» أي عدولهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 147

[سورة الأحقاف (46): الآيات 29 الى 30]

وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا

إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)

عن الحق، و «افتراءهم» أي لجوءهم إلى الباطل فإن كل مبطل له عملان انصرافه عن الحق، و اتخاذه الباطل، لا يقال كل مؤمن يقتل كالأنبياء و الحسين عليهم السّلام و غيرهم، أيضا لا ينصرهم اللّه تعالى لإنقاذهم من أيدي الظلمة، لأنه يقال أولئك عذبوا بالعذاب السماوي و لو كانت آلهتهم مربوطة بالسماء لم يعذبوا، بخلاف الصالحين فإنهم قتلوا بأيدي الأشرار.

[30] وَ كيف يكفر أهل مكة بك يا رسول اللّه، و قد تمت عليهم الحجة، و إنهم علموا بإيمان الجن بك، و قد علم الكفار إيمان الجن، بواسطة كهنتهم، و هذه حجة أخرى عليهم إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً وجهنا إليك جماعة مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ حضروا قراءة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للقرآن قالُوا قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا اسكتوا حتى نفهم القرآن فهما كاملا فَلَمَّا قُضِيَ انتهى الرسول من قراءته وَلَّوْا رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ لهم بأنهم إن لم يؤمنوا بالقرآن حاق بهم العذاب.

[31] قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى عليه السّلام و لعل أولئك الجن ما كانوا مؤمنين بعيسى عليه السّلام، لأن في الجن، كما في الإنس أديان و مذاهب، أو لأن كتاب عيسى عليه السّلام متمم لكتاب موسى أو لأن اليهود كانوا قريبين من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيتمكن الكفار من الاستفسار منهم هل هناك جن مؤمنون، فذكر موسى عليه السّلام من هذا الباب، في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 148

[سورة الأحقاف (46): الآيات 31 الى 32]

يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ

وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)

حال كون ذلك الكتاب مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما قبله من الكتب المنزلة يَهْدِي إِلَى الْحَقِ الحق هو المطابقة للواقع وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ فإن الوصول إلى الهدف «الحق» قد يكون بطريق مستقيم، و قد يكون بطريق غير مستقيم.

[32] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ الداعي الذي هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الإضافة تشريفيّة وَ آمِنُوا بِهِ الإجابة أن يذهب الإنسان ليسمع كلام المنادي، و الإيمان هو قبول كلامه، فإذا فعلتم ذلك يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعضها، لأن حقوق الناس لا تسقط بالإيمان، إلا بقدر خاص مذكور في الفقه، فإذا كان الكافر مديونا لزيد في شراء دار و أنكر ذلك، و آمن لم يجبه الإسلام، إلى غير ذلك وَ يُجِرْكُمْ يحفظكم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم، في الدنيا و في الآخرة إذ خلاف أوامر اللّه يوجب آلام الدنيا أيضا.

[33] وَ لا يظن ظان أنه يمكنه الهرب من عذاب اللّه، إذا لم يؤمن باللّه فإنه مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ و لم يؤمن به فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ لا يعجز اللّه بأن يهرب منه، و لا يتمكن اللّه عليه فإنه لا يمكن الفرار من حكومته فِي الْأَرْضِ أي مكان من الأرض كأن شمله سلطان اللّه، فإن المجرم بالنسبة إلى الحكومة لا يعجزها في مدينة الحكومة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 149

[سورة الأحقاف (46): آية 33]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ

عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (33)

و تعجز الحكومة في سائر الأرض، بخلاف المخالفين للّه فإنهم لا يعجزون اللّه في أي مكان من الأرض وَ لا يظن المخالف للّه، أن صنمه ينقذه من بأس اللّه إذ لَيْسَ لَهُ لذلك المخالف مِنْ دُونِهِ غير اللّه أَوْلِياءُ ينصرونه من بأسه سبحانه أُولئِكَ المخالفون للّه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح، لأنهم لا دليل لهم، ثم هم في معرض الهلاك و العذاب- و هذا كله كلام الجن-.

[34] ثم إن هؤلاء الكفار، بالإضافة إلى أنه لا برهان لهم على كفرهم، في معرض خطر عذاب الآخرة، و إنكارهم للبعث لا يستند إلى حجة و دليل، فهم ينكرون اللّه أو يشركون به بدون دليل، و ينكرون الرسول بدون دليل، و ينكرون البعث بدون دليل أَ وَ لَمْ يَرَوْا ألا يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ لم يعجز بِخَلْقِهِنَ حتى لا يقولوا انه خلق أولا، لكنه عجز بعد ذلك فلا يقدر على الإعادة، و الدليل على عدم العجز، التلازم بين الخلق و استمرار القدرة بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى لأن الإعادة كالابتداء، فالقادر على بناء دار قادر على إعادتها بعد الخراب- مثلا- بَلى نعم إِنَّهُ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و هذه الجملة لتأكيد الكلام في قبال أن الكفار كانوا يؤكدون عدم البعث، لأنه ليس بممكن في نظرهم، ثم إن البعث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 150

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 199

[سورة الأحقاف (46): الآيات 34 الى 35]

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ

أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)

يتوقف على علم اللّه بذوات الإنسان المبعثرة في الأرض و بقدرته على جمعها ثانيا، و اللّه عالم قادر فلما ذا الامتناع؟.

[35] إن الكفار كانوا يقولون في الدنيا أن البعث و الجنة و النار ليس بحق، لكنهم يعترفون في الآخرة بكل ذلك وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يؤتى بهم على شفير جهنم مثل «عرضت الناقة على الحوض» و يقال لهم أَ لَيْسَ هذا الذي تشاهدونه من العذاب بِالْحَقِ فهل هذا كذب كما كنتم تقولون في دار الدنيا؟ قالُوا بَلى إنه حق وَ رَبِّنا قسما باللّه، فهم يعترفون باللّه، و بالبعث، حيث لا ينفعهم الاعتراف قالَ الملك لهم إذا فَذُوقُوا الْعَذابَ بكل أعضاء جسمكم بسبب ما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ في الدنيا، و هذا إهانة و توبيخ.

[36] و إذا تممت عليهم الحجة يا رسول اللّه و لم ينفعهم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أولوا العزم هم الرسل الذين كانت عزيمتهم في الهداية و الإرشاد و الصبر على المحن أكثر من غيرهم، و هم كما في رواية نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد عليهم السّلام وَ لا تَسْتَعْجِلْ بطلب العذاب لَهُمْ و ذلك لأن بعضهم يؤمنون و في أصلاب بعضهم مؤمنون، إذا عذبوا و ماتوا، لم يخرج أولئك المؤمنون إلى الوجود، بالإضافة إلى أنه لا يهم بقائه طويلا ف كَأَنَّهُمْ يَوْمَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 151

يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ فإن الماضي مهما كان طويلا لا يرى إلا قليلا، أ

رأيت من عمّر مائة سنة إذا تكلم يقول ذهب عمرنا كأنه لمح بصر و قوله «نهار» كناية عن أنهم أبصروا لكنهم تعاموا، و هذا القرآن بَلاغٌ لهم، و كفاية لمن أراد الرجوع إلى الحق، فإذا خرجوا عن الطاعة بعد البلاغ فإنهم يضرون أنفسهم فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ و الفسق هو الخروج عن الطاعة، و لذا يطلق حتى على الكفر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 152

47 سورة محمد مدنية/ آياتها (39)

سميت بهذا الاسم و ب «القتال» لاشتمالها على كلا الاسمين، و هي كسائر السور المدنية تعالج قضايا الشريعة. و لما ختمت سورة الأحقاف بتهديد الكفار بعذاب الآخرة، افتتحت هذه السورة بتهديدهم بعذاب الدنيا و ضلال أعمالهم، فلا تنفعهم في نجاتهم من أيدي المؤمنين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسمه تعالى، ليبارك لنا في أمورنا، فإن اسم اللّه بركة، توجب الثبات و الدوام، فإنه وحده هو الدائم، فكلما ارتبط به كان له نسبية الدوام «الرحمن الرحيم» فإن الرحم إعطاء بدون استحقاق، و اللّه يعطي الإنسان خلقه و وجوده بدون استحقاق، ثم يعطيه حوائجه بدون استحقاق أيضا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 153

[سورة محمد (47): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)

[2] الَّذِينَ كَفَرُوا بإنكار اللّه أو التشريك معه و إنكار أنبيائه و أوصيائهم و إنكار المعاد وَ صَدُّوا منعوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريقه بمنع الناس

عن الهداية، فهم أجرموا مرة بكفرهم و مرة بمنع الآخرين عن الإيمان أَضَلَ اللّه أي أحبط أَعْمالَهُمْ التي كانوا يظنون أنها تنفعهم كالصدقة و إقراء الضيف و نحوهما.

[3] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الصفات الصالحة، فإن الإيمان بدون العمل الصالح لا ينجي كما أن العمل الصالح بدون الإيمان لا ينفع و حيث انه كان مورد توهم أن يقول أهل الكتاب نحن أيضا مؤمنون عاملون بالصالحات، خصص تعالى بقوله وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من الواضح أن الإيمان بالقرآن يلازم الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نفسه وَ هُوَ أي ما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْحَقُ النازل مِنْ رَبِّهِمْ من رب المؤمنين كَفَّرَ اللّه، أي ستر و أبطل عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ السابقة على إيمانهم وَ أَصْلَحَ اللّه بالَهُمْ أي حالهم و شأنهم بأن وفقهم و هداهم لأن ينظموا أمورهم بحيث يكون حالهم في الدنيا و الآخرة حسنا، فإن العمل بمنهاج الإسلام يصلح شؤون الإنسان.

[4] ذلِكَ الذي تقدم من ضلال أعمال الكفار، و كفران سيئات المؤمنين و إصلاح أمرهم بسبب أن الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ و الباطل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 154

[سورة محمد (47): آية 4]

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)

كالمرض يبطل أثر الأطعمة الطيبة و يفسد الأعضاء الصحيحة وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ و الإنسان الصحيح

الجسم حتى إذا أصاب جسمه مرض طفيف دفعه الجسم و استعاد صحته، فالسيئة مكفّرة في المؤمن مِنْ رَبِّهِمْ تأكيد لبطلان قولهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء بالقرآن من عند نفسه كَذلِكَ الذي ذكر من أن الكفار اتبعوا الباطل، و أن المؤمنين اتبعوا الحق يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي الأمثال النافعة لهم، فالحق مثل المؤمن و الباطل مثل الكافر.

[5] و إذ ظهر أن الكفار معاندون فَإِذا لَقِيتُمُ أيها المؤمنون الَّذِينَ كَفَرُوا في حالة الحرب فَضَرْبَ الرِّقابِ اضربوا رقابهم ضربا و اقتلوهم حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي أكثرتم من قتلهم و الجرح فيهم، حتى استسلموا، يقال فلان مثخن أي ثقيل للحمل الذي عليه، و جماعة الكفار إذا كثر فيهم القتل و الجرح، يكونون كالإنسان الثقيل الذي لا يتمكن من الحركة و القتال فَشُدُّوا الْوَثاقَ الوثاق ما يوثق به من الحبل و نحوه أي شدوهم بالوثاق، كناية عن أسرهم، و بعد ذلك فَإِمَّا تمنون عليهم مَنًّا بَعْدُ بإطلاق سراحهم بدون أخذ الفدية وَ إِمَّا تفدون و تأخذون منهم فِداءً مقابل إطلاق سراحهم، و إنما تفعلون ذلك حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها الوزر الثقل، أي أثقالها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 155

[سورة محمد (47): الآيات 5 الى 7]

سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)

فإن للحرب أثقالا كالسلاح و نحوها، و إضافتها إلى الحرب مجازية، و ظاهر الآية أن المراد بالإثخان و شد الوثاق إنما هو لأجل انتهاء الحرب، و كأنه جواب سؤال مقدر هو لماذا قتل الناس و لماذا أسرهم؟ و الجواب حتى لا تكون حربا ذلِكَ الذي ذكرناه هو

التكليف وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ لغلب المسلمين على الكفار بدون القتال، لأنه سبحانه قادر على كل شي ء وَ لكِنْ لم يستأصل الكفار و لم يبدهم لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ يمتحن المؤمنين بقتالهم فيثيبهم الجنة، و الكافرين بقتالهم للمؤمنين فيجزيهم بالنار وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلا تظنوا أنه تلف و ذهب، كما هو ظن الذين لا يعتقدون باليوم الآخر، و لذا يفرون من الجهاد فَلَنْ يُضِلَ اللّه، و لن يضيع أَعْمالَهُمْ الصالحة، فهم أحياء و يرون جزاء أعمالهم الحسنة.

[6] سَيَهْدِيهِمْ اللّه، إلى الجنة، و إنما جاء «بالسين» لأن الجنة بعد البرزخ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ أي شأنهم في البرزخ، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

[7] وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ في حال كونه سبحانه عَرَّفَها لَهُمْ قبل ذلك، و من المعلوم أن ترقب الخير يوجب سرور النفس.

[8] و لا يظن المؤمنون أنهم إذا حضروا القتال بالأهبة و الاستعداد يتركهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 156

[سورة محمد (47): الآيات 8 الى 10]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)

اللّه، حتى يتغلب عليهم الكفار بل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ بنصرة دينه و نبيه و نصرة ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَنْصُرْكُمْ اللّه على عدوكم وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ كالإنسان الواقف على أرض صلبة، لا إن اللّه ينصركم أولا، ثم يترككم و شأنكم بل يبقى معكم يرشدكم في سبيل الحياة، و لا يخفى أن «نصرة اللّه» غيبي، و بالأسباب الظاهرة أيضا و

هي أن الإنسان إذا علم أنه مع اللّه استبسل في القتال و ارتفعت معنوياته، مما توجب نصرته على الكفار الفاقدين للمعنويات.

[9] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً انحطاطا لَهُمْ أي فينحطون انحطاطا، في الدنيا بالمغلوبية وَ في الآخرة بأنه سبحانه أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ الصالحة، فلا يثابون عليها.

[10] و ذلِكَ التعس بسبب أنهم الكافرين كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ تكبرا و عنادا بعد أن تبين لهم أنه الحق فَأَحْبَطَ اللّه أبطل أَعْمالَهُمْ الصالحة، فلا لهم دنيا سعيدة و التي تعبوا لأجلها، و لا لهم آخرة مريحة حيث كفروا بها.

[11] ثم اللازم على هؤلاء الكفار، إن لم يقبلوا بالحجة و الدليل، أن يخافوا سوء العاقبة كما عاقبنا الكفار من الأمم السابقة أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يسافروا إلى اليمن و إلى الشام و إلى غيرهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 157

[سورة محمد (47): الآيات 11 الى 12]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)

فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الذين كذبوا أنبياء اللّه عليهم السّلام فقد دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أبادهم و أفناهم، و آثارهم موجودة، كما في اليمن من آثار قوم عاد، و في قرب الشام من آثار قوم لوط، إلى غيرهما من سائر الآثار للأمم البائدة، و لو لم يكونوا بائدين، لبقيت مدنهم و أحفادهم، لكنهم سادوا، فعصوا، فبادوا وَ لِلْكافِرِينَ بك يا رسول اللّه أَمْثالُها أمثال تلك العقابات التي أنزلت بالأمم السابقة.

[12] و إنما نصر اللّه المؤمنين و أباد الكافرين ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى

الَّذِينَ آمَنُوا وليّهم وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ حتى يدفع عنهم العذاب، بل المولى الحقيقي لهم و هو اللّه عدوهم و معذبهم.

[13] و حيث إِنَّ اللَّهَ مولى المؤمنين فإنه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ الجنة الحديقة سميت جنة لاستتار أرضها بالأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها، و هذا جزاء إيمانهم و عملهم الصالح وَ أما الَّذِينَ كَفَرُوا فلا عقيدة لهم و لا عمل صالح بل يَتَمَتَّعُونَ في الدنيا بلا ملاحظة الهدف و بدون جعل دنياهم وسيلة أخرتهم فإن المؤمن يتزود و الكافر يتمتع وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ بلا ملاحظة قبل الأكل و لا ملاحظة بعد الأكل، فإنهم يأكلون ما يحصلونه من حلال أو حرام و لا يلاحظون في أكلهم هدف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 158

[سورة محمد (47): الآيات 13 الى 14]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)

الطاعة و العبادة، تشبيها بالأنعام التي لا تلاحظ شيئا بخلاف العاقل الذي يلاحظ ألا يكون المال سرقة و نحوها قبلا و ألا يكون ضارا بعد الأكل وَ حيث أنهم لم يلاحظوا الهدف ف النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي مرجعهم و منزلهم.

[14] وَ إذا ترى يا رسول اللّه أن أهل مكة أخرجوك بأن أجبروك على الهروب فلا تحزن فإنا سننتقم منهم إذ كَأَيِّنْ أي كثير مِنْ قَرْيَةٍ مدينة، فإن القرية تطلق على كل مدينة هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ من حيث المال و السلاح و الرجال و العمران الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب لما أخرجوا أنبيائهم و

عتوا عن أمرنا فَلا ناصِرَ لَهُمْ حين أخرجوا أنبيائهم، حتى يدفع عنهم العذاب.

[15] كما أن اللازم ألا يغتم المؤمنين الذين أخرجهم أهل مكة فإنهم على بينة من ربهم و هذا أكبر تسلي لهم أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة في عقيدته و في سلوكه مِنْ رَبِّهِ فإن الحجة إذا كانت من قبله سبحانه كانت قطعية الفائدة و الصحة كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ زينه الشيطان و الهوى له، و إن كان عقله يدل على بطلانه مثل كفار مكة الذين أخرجوا المؤمنين وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ليس يتساوى هذا بذاك فلا يحزن المؤمنون لما أصابهم بعد أن علموا أنهم على حق و أن أعدائهم على باطل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 159

[سورة محمد (47): آية 15]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)

[16] إنهم أخرجوا الرسول و المؤمنين من مكة، لكن اللّه أعد لهم المدينة المنورة في الدنيا، و الجنة في الآخرة و الجنة خير من منازلهم في مكة مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ مثل مدينة ليست أمثال مدن الدنيا، فإن مدن الدنيا لا يوجد فيها الشي ء المطلوب، و إن وجد فيها فهو قليل أو فاسد أما الجنة فإن فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ غير متغير الطعم و الريح، و فيه تعريض بمكة حيث أن مياهها قليلة و آسنة لأنها تبقى في الحباب و الأحواض فتتغير! و هذا و ما بعده شبه

تسلية للمؤمنين الذين أخرجوا من مكة وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بخلاف لبن الدنيا فإنه إذا بقي تغير طعمه وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لذيذة لِلشَّارِبِينَ لا فيها سوء مذاق و لا فيها سكر بحيث تنغض لذة الشارب بخلاف خمر الدنيا.

وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لا يخلطه الشمع و فضلات النحل وَ لَهُمْ للمؤمنين فِيها في الجنة مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لا كمكة لا ثمار فيها، و حيث أن المؤمنين حرموا من ما كان عندهم في مكة من الماء و الشراب، و العسل و اللبن و الثمار القليلة، و لم يحرموا من زوجاتهم بل كن معهم، لم يذكر في الآية الكريمة الحور وَ ما ذكر مما لهم في الجنة بدل عما حرموه، ثم أن المؤمنين حرموا عطف و حنان الكفار الذين كانوا يعطفون عليهم قبل الإسلام، إذ صاروا لهم أعداء، عوض اللّه لهم عن ذلك برضاه و عطفه فقال سبحانه مبشرا لهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 160

[سورة محمد (47): آية 16]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16)

مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ و هذه لذة معنوية حيث يعلمون أن اللّه غفر لهم و رضي عنهم، فهل هذه النعم التي حصل عليها المؤمنون تتساوى مع ما حصل عليها الكفار من النار و الماء الحار؟ و هل هؤلاء المؤمنون كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ لهم حرق النار، و حزن أنهم يعلمون أنهم خالدون وَ إذا عطشوا و طلبوا الماء سُقُوا ماءً حَمِيماً أي حارا فَقَطَّعَ ذلك الماء من فرط الحرارة أَمْعاءَهُمْ و الآية، و إن كان

مساقها في المؤمنين و الكافرين من أهل مكة، كما ذكرنا، إلى أنها عامة لكل مؤمن و كافر- كما هو واضح-.

[17] وَ إذا تبين أهوال الكفار في الآخرة فليعلم المنافقون الذين ظاهرهم معك يا رسول اللّه و باطنهم على خلافك، أنهم أيضا لهم مصير الكفار، و علامتهم أنهم لا يعون كلامك و لا يهتمون بأمرك فإن مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ بعد أن يحضر مجلسك في ضمن المؤمنين، لكن ليس قلبه عندك حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من المؤمنين، حيث أن المؤمنين وعوا كلامك و تعلموا أوامرك ما ذا قالَ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آنِفاً أي قبل قليل في أول وقت يقرب منا، من استأنف الشي ء إذا ابتدأ به، كأنه عند أنفه أُولئِكَ المنافقون الذين هذه صفتهم هم الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فإنهم بعنادهم حصلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 161

[سورة محمد (47): الآيات 17 الى 18]

وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)

على حالة في قلوبهم، تمنعهم عن وعي كلام الرسول، فصارت ملكة لهم، و النسبة إلى اللّه، لأن اللّه سبحانه جعل هذه الملكة عقيب تكرار اللامبالاة، كما جعل العدالة عقيب تكرار الكف عن المحرمات وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في الباطل و لم يتبعوا الحق، فهؤلاء المنافقون حالهم حال الكفار الذين تقدم أنهم اتبعوا أهوائهم فهم مثلهم في العقاب، و إيمانهم الظاهري لا ينفعهم.

[18] وَ بالعكس من المنافقين الذين يزدادون غيّا، إذ كل مرة ينصرفون عن كلام الرسول و أوامره تزداد غشاوة قلوبهم سمكا، كما في سائر الملكات التي تتقوى بالتكرار

و الممارسة الَّذِينَ اهْتَدَوْا حقيقة من المؤمنين زادَهُمْ اللّه هُدىً بكلمات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ تتقوى ملكة الإيمان في قلوبهم وَ آتاهُمْ أعطاهم اللّه تَقْواهُمْ اللائقة بهم، إذ ترفع درجات التقوى في نفس الإنسان المؤمن حتى تصل إلى غايتها الممكنة.

[19] فليرجع المنافقون عن غيهم قبل مجي ء يوم القيامة و إلا ندموا على ما فعلوا إذا رأوا العذاب فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي المنافقون إلى شي ء إِلَّا السَّاعَةَ كناية عن أنهم لا يؤمنون حقيقة و لو جاءهم كل آية أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي فجأة بدون استعداد سابق، لكن إذا كان المنافقون ينتظرون الساعة، فليعلموا أنها قريبة إذ قد جاءَ أَشْراطُها علاماتها التي منها بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و انشقاق القمر، فالمدة من زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 162

[سورة محمد (47): آية 19]

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ (19)

إلى الساعة، أقرب من المدة بين آدم عليه السّلام و الساعة، أو موسى عليه السّلام و الساعة و هكذا فَأَنَّى لَهُمْ للمنافقين إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ أي ما ذكّروا به، و المراد بذكراهم الساعة، و قوله سبحانه «فأنى» جواب «فهل» أي إن كان ينظر المنافقون إلى الساعة حتى يؤمنوا:

فأولا: جاءتهم علاماتها فاللازم أن يؤمنوا:

فأولا: جاءتهم علاماتها فاللازم أن تؤمنوا و ثانيا: ما هي فائدة مجي ء الساعة إذ حين ذاك لا يقبل الإيمان، و قوله سبحانه «فأنى» للامتناع، أي ليس لهم حين قيام الساعة، أن يؤمنوا.

[20] و إذا علمت يا رسول اللّه سعادة المؤمنين و شقاوة الكافرين و المنافقين فَاعْلَمْ

أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أثبت على علمك، لأن العلم فياض إلى الإنسان آنا بعد آن، كما أن النور فياض من الشمس آنا بعد آن، فبإمكان الإنسان أن يبقى على علمه و بإمكانه أن يترك علمه و يعمل عمل غير العالم وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أكمل النفس بالاستغفار فإن العلائق المادية الضرورية، حيث لا يمكن رفعها، كان لا بد من التواضع أمام اللّه، بالاستغفار، حتى يحوز على الكمال الممكن، مثلا ان العاري الذي لا ملابس له، إذا جاءه إنسان اعتذر من عريه و الاعتذار ليس لأنه فعل خطأ بل لأجل التواضع أمام ذلك الإنسان و هذا النحو من التواضع يزده جاها عند الزائر، و هذا هو سبب استغفار الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام.

أما العبادات الخاصة في كلام الإمامين أمير المؤمنين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 163

[سورة محمد (47): آية 20]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20)

و السجاد عليه السّلام و غيرهما عليهم السّلام فإنها كنايات و مجازات تشبيها للنواقص الضرورية بالنواقص الحقيقية وَ استغفر لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بطلب غفران اللّه لهم وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ تقلبكم في كافة أحوالكم وَ مَثْواكُمْ حين ترجعون إلى بيوتكم للمنام و الاستراحة، فاللازم أن تخشوه و تستغفروه لأنه معكم دائما، فهو سبحانه جدير بأن تعتقدوا به، كما في «و اعلم ...» و أن تستغفروه كما في «و استغفر ...».

[21] و إذ تبين أن اللّه هو الإله الوحيد الواجب إنفاذ أمره و طلب الغفران منه، فاللازم إطاعته في الذهاب إلى الجهاد، بالإضافة إلى أن المؤمنين هم

طلبوا من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الجهاد و وعدوا أن يجاهدوا إذا أمروا به وَ قد كان يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا أي هلا «تحريض و طلب» نُزِّلَتْ سُورَةٌ تأمرنا بالجهاد فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ مبينة لا لبس و لا تشابه فيها- فلا تكون محلا للعذر بالتأويل- وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ بأن كان فيها أمرا بالحرب رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من المنافقين و مرض القلب هنا انطباعه على خلاف الأوامر و الفرار من الطاعة يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يا رسول اللّه نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ فإن من غشي عليه مِنَ جهة قرب الْمَوْتِ إليه تدور عينه في حالة بهت، ثم يشخص بصره إلى ناحية لا يتمكن من حركتها، و هكذا حال الجبناء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 164

[سورة محمد (47): الآيات 21 الى 22]

طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)

عند شدة الخوف و مثل هؤلاءفالموت أولى لَهُمْ من الحياة، و هذا دعاء عليهم بالهلاك.

[22] إن المنافقين قالوا قبل نزول سورة القتال طاعَةٌ أي نحن مطيعون وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كان قولهم قولا معروفا، حول الجهاد فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي صار الجهاد عزما و جدّا بنزول السورة في شأنه، انسحب المنافقون عن الميدان، فعصوا عوض الطاعة، و أخذوا يتكلمون بما لا يليق بإنسان مؤمن أن يتكلم بمثله عوض «قول معروف» كانوا يتكلمون به سابقا، و هذه الآية تفسير للآية السابقة «وَ يَقُولُ الَّذِينَ ...» «فإذا نزلت ...» فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فيما زعموا من الحرص على الجهاد، بأن أطاعوا عند نزول حكم القتال لَكانَ الصدق خَيْراً

لَهُمْ في دينهم و دنياهم.

[23] و حيث أنهم هربوا من القتال، أخذوا يغيّبون أنفسهم في القرى و غيرها لئلا يكونوا بحضور المؤمنين و أخذوا يفسدون بالطعن في الرسول و في أرحامهم المؤمنين الملتفين حوله ليبرروا موقفهم في الابتعاد عن الرسول و عن المؤمنين، كما هو شأن كل منافق يبتعد عن القيادة و يخالف الإطاعة فَهَلْ عَسَيْتُمْ هل يتوقع منكم إلا هذا، فإن «عسى» بمعنى الاحتمال القريب الوقوع إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الجهاد أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالطعن في الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ الذين التفوا حول الرسول و أطاعوا أوامره،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 165

[سورة محمد (47): الآيات 23 الى 25]

أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ (25)

و هذه الصفة تنطبق على كل من يتولى عن القيادة الإسلامية الصحيحة في كل زمان و مكان.

[24] أُولئِكَ الذين تلك صفاتهم- و إن كانوا مؤمنين حسب الظاهر- هم الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فأبعدهم عن كل خير، بسبب انحرافهم عن جادة الإيمان فَأَصَمَّهُمْ اللّه عن استماع الحق وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ عن رؤية الحق و نسبة الفعلين إلى اللّه، بينما أنه بأنفسهم صموا أسماعهم و غمضوا أعينهم عن الحق، من جهة أن اللّه تركهم و شأنهم، كما يقال أفسد الوالد ولده، إذ تركه و شأنه حتى فسد.

[25] أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ هؤلاء المنافقون الْقُرْآنَ ليفهموا أن اللّه جازى المخالفين من الأمم السابقة بعقاب الدنيا و عذاب الآخرة، لعلهم يردعون عن غيّهم أَمْ عَلى قُلُوبٍ قلوبهم أَقْفالُها

فلا يمكنهم التدبر؟ أي يقدرون فلا يتدبرون، أم لا يقدرون؟ و هذه عبارة بلاغية تقال في مورد كناية عن أن الطرف معاند لا ينفع معه الوعظ و الإرشاد، كما يقال «لمن سقط في البئر» هل غمضت عينيك أم أنت أعمى؟ و لعل تنكير القلوب لأجل إفادة ابتعادها حتى كأنها نكرة، و إضافة الأقفال إليها، لبيان أن للقلوب أقفال خاصة، هي التعامي و العناد، مما يسبب عدم نفاذ العلم و الفضيلة فيها.

[26] و ليعلم هؤلاء المنافقون الذين يفرون من القتال، أن الشيطان صار قائدهم، بعد أن كانوا تحت سلطان اللّه الخالق العظيم، فهم انساقوا وراء عدوهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 166

[سورة محمد (47): آية 26]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا رجعوا عَلى أَدْبارِهِمْ بدل أن يسيروا إلى الأمام، رجعوا قهقرى من طرف الدبر إلى الخلف مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ظهر لَهُمُ الْهُدَى و عرفوا الحق الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ سهل لهم ركوب الآثام، من السول بمعنى الاسترخاء وَ أَمْلى لَهُمْ أي قرر عليهم، كالذي يملي على الآخر الشي ء ليكتبه، فالشيطان أولا جعلهم رخوا، ثم قرر لهم أن يخرجوا عن الطاعة.

[27] و إنما تمكن الشيطان من الأخذ بقيادهم، لأنهم انحرفوا عن طاعة الرسول إلى طاعة الكفار و حيث بدلوا قيادة اللّه إلى قيادة الشيطان تمكن الشيطان منهم ذلِكَ التمكن من الشيطان من قيادهم بسبب أنهم قالُوا للكفار لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ إذ الكفار كرهوا القرآن و الرسول سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ كما هو شأن المنافقين دائما، إنهم يميلون قليلا إلى جانب الأعداء، و هذا الميل القليل ينتهي بهم إلى الميل الكثير، ثم

تبديل القيادة من الإيمان إلى الكفر، و في هذا تنبيه على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يميل قليلا، و إلا انحرفوا، كما قال اللّه سبحانه ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1» وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ السر الذي ناجوا به

______________________________

(1) الروم: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 167

[سورة محمد (47): الآيات 27 الى 29]

فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29)

الكفار أولا حتى حصل الانحراف أخيرا، و في هذا تهديدهم و تنبيه للآخرين أن لا يتخذوا الكفار أولياء، إذ الكافر بالآخرة يحرّف المسلم.

[28] هذا حالهم في الدنيا فضيحة و انحراف فَكَيْفَ بهم في الآخرة إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ آخذين أرواحهم في حال كون الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ ضرب الوجه لتوجههم إلى الكفار و ضرب الدبر لاستدبارهم الحق و المؤمنين.

[29] و إنما صار ذلِكَ حالهم عند الموت بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من ترك أوامره وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ كرهوا رضى اللّه فَأَحْبَطَ أبطل اللّه أَعْمالَهُمْ الصالحة و التسلسل الطبيعي، أنهم اتبعوا ما أسخط اللّه فذهبوا إلى المنافقين، فارتدوا، فخربت دنياهم و آخرتهم، و أسلوب القرآن، كأسلوب الكون في جمع المختلف، حيث كان القصد جمال الكون، فماء إلى جنب شجر، إلى جنب حيوان إلى آخره، و كذلك فعل اللّه سبحانه في كتابه التكويني و ذلك لشحذ الذهن، و قد ذكرنا طرفا من ذلك في كتاب «حول القرآن الحكيم».

[30] ثم ليعلم هؤلاء المنافقون أن نفاقهم لحفظ ماء وجههم عند كلا الجانبين يعود عليهم بأكبر الضرر حيث إن

الكفار لا يعتمدون عليهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 168

[سورة محمد (47): آية 30]

وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)

كما هو واضح، و المؤمنون يعرفون ضمائرهم فيسلبون اعتمادهم أيضا، فيبقون مكروهين من الجانبين أَمْ حَسِبَ بل زعم الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مرض النفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أحقادهم، نحو الرسول و نحو المؤمنين، كلا ليس كذلك بل تظهر أحقادهم، كما

قال الإمام علي عليه السّلام «ما نوى امرء شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه و صفحات وجهه»

«1».

[31] وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ رؤية العين بأن ينزل جبرائيل و يقول إنهم فلان و فلان، لكن اللّه على الأغلب يترك الأمور مع الأنبياء على طبيعة الحياة، من دون إعجاز، ليتخذهم الناس أسوة، لئلا يقول الناس أنهم قدروا على إدارة الأمور من جهة الوحي و الغيب، و لا نتمكن نحن مثلهم فيتقاعسوا عن العمل فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ سيما الإنسان ملامح وجهه، لكنا لا نشاء ذلك، لما تقدم ثم ابتدأ سبحانه بقوله وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي أن فلتات ألسنتهم تدلّك عليهم و اللحن هو الإمالة، فإن المنافق يميل بكلامه، حيث إن قلبه لا يرضى أن يتكلم حسب موازين الإيمان وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ أعمال المؤمنين و المنافقين فاللازم مراقبته سبحانه، و هذا تهديد للمنافق بأنه بالإضافة إلى أنه يفضح في الدنيا، فهو يجزي بالجزاء في الآخرة، لأن اللّه يعلم عمله.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 72 ص 204.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 169

[سورة محمد (47): الآيات 31 الى 32]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ

مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)

[32] ثم لا يظن المؤمنون أنهم بمعزل عن الاختبار، و إن الاختبار أسقط المنافقين، و أظهر طيب جوهر المؤمنين، و انتهى كل شي ء- كما يزعم ذلك من نجح في الامتحان الأول غالبا- وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نمتحنكم أيها المؤمنون حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ من غير المجاهدين، إذ لا يكفي الامتحان الأول بالإيمان في ترك الإنسان و شأنه، و قوله «حتى نعلم» أي يقع علمنا على الخارج، أي يصل العلم إلى مرتبة الفعلية بعد أن كان اللّه عالم لكل ذلك من قبل وَ الصَّابِرِينَ إذ من الممكن الشروع في الجهاد، لكن لا يصبر عليه المجاهد وَ حتى نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي نمتحن أخباركم، فإنه كما يمتحن الإنسان بالجهاد و نحوه، يمتحن خبره هل أن من يصل إليه خبر المجاهد و غير المجاهد، يتبع المجاهد أو غير المجاهد، و امتحان الخبر كناية عن امتحان من يصل إليه الخبر، مجازا.

[33] ثم إن الكفار و المنافقين يظنون أنهم يضرون اللّه و ينفعون أنفسهم، و الحال أنهم لا يضرونه بل يضرون أنفسهم بحبط أعمالهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهرا و باطنا، أو باطنا فقط كالمنافق وَ صَدُّوا منعوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بأن جعلوا الناس في الطرق المنحرفة، حيث الناس- إذا كانوا هم بأنفسهم- مشوا في سبيل اللّه المستقيم وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ هم في شق «أي طرف» و الرسول في شق مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ ظهر الْهُدى إذ قبل إتمام الحجة عليهم لا يحبط أعمالهم الصالحة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 170

[سورة محمد (47): الآيات 33 الى 34]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا

أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)

لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بكفرهم و صدهم وَ سَيُحْبِطُ اللّه أَعْمالَهُمْ يبطلها فلا يعطيهم جزاء حسنا لصدقتهم و عتقهم و إقرائهم الضيف و نحو ذلك، فهم ضروا أنفسهم و لم يضروا اللّه، بينما كانوا يزعمون أنهم ينفعون أنفسهم و يضرون اللّه.

[34] ف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا علمتم أن المخالفة تعود بالضرر على المخالف أَطِيعُوا اللَّهَ في أوامر القرآن وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما يأمر وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ الصالحة بسبب العصيان فإن العصيان يحبط العمل الصالح.

[35] و ليعلم الكفار أن باب التوبة لهم مفتوح، فإذا رجعوا إلى الإيمان و الطاعة، غفر اللّه لهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَ آمنوا و عملوا صالحا أعطوا جزاء إيمانهم و كل عمل صالح سبق إيمانهم أو لحقه، أما إذا ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنه لا ينفع الإيمان و الندم بعد الموت و قد ذكرنا سابقا أن العناد على الكفر يوجب تبدل الجوهر إلى الناري الذي لا يبدله بعد الموت إلى الجوهر النوري، و لذا لا غفران لمن مات بكفر، أو رأى الموت بعينه، كما ذكره سبحانه بقوله (وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ). «1»

______________________________

(1) النساء: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 171

[سورة محمد (47): الآيات 35 الى 36]

فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36)

[36] و إذا علمتم أيها المؤمنون أن اللّه معكم، و ضد الكافرين فَلا

تَهِنُوا لا تضعفوا عن القتال وَ لا تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ المسالمة مع الكفار خوفا منهم، بخلاف ما إذا كانت الدعوة إلى السلم لمصلحة قلة المسلمين أو نحو ذلك أو كما قال سبحانه و إن جنحوا للسلم فاجنح لها وَ الحال أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ جمع أعلى، فإن المسلم أعلى حجة، و أعلى قوة، لأن إيمانه يجعله أعلى من جهة المعنويات و هي مهمة جدا في الانتصار وَ اللَّهُ مَعَكُمْ ينصركم و يثبت أقدامكم وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أي لن يضيع منكم أَعْمالَكُمْ فأنتم أعلى منطقا و نفسا، و اللّه معكم، و ترجون جزاء حسنا، و بهذه الجهات الثلاث لا ضعف في المسلمين و يجب أن يعلموها حتى لا يهنوا و لا يدعوا إلى السلم.

[37] و إن كان الفرار من الجهاد، لأجل حب الحياة فاعلموا إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ لا حقيقة لها كما لا حقيقة للّعب فإن الشي ء الذي يلعب به الصبيان شبيه بالأمور الواقعية، و كذلك الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة وَ لَهْوٌ يلهي الإنسان و يصرفه عن الأهداف الحقيقية، التي هي رضى اللّه و الجنة وَ إِنْ تُؤْمِنُوا باللّه وَ تَتَّقُوا بترك اللهو و اللعب يُؤْتِكُمْ اللّه أُجُورَكُمْ اللائقة بكم، فإن الأجر اللائق بعمل الإنسان، هو رضى اللّه و الجنة وَ لا تخافوا من الإيمان و التقوى، حيث يزعم بعض الناس أنه لو آمن يجب عليه أن يدفع ماله في سبيل اللّه، كلا ليس كذلك لا يَسْئَلْكُمْ اللّه أَمْوالَكُمْ كلها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 172

[سورة محمد (47): الآيات 37 الى 38]

إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ

وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)

بل شيئا يسيرا منها كالخمس و الزكاة و هي لمنفعتكم أيضا.

[38] و إنما لا يسأل اللّه كل أموالكم «أي غير الضرورية لكم» مع أن سؤال كل الأموال أولى لما فيه من توسعة رقعة الإسلام و من إنقاذ الناس من براثن المستكبرين؟ لأنه إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أي كل الأموال فَيُحْفِكُمْ فيبالغ في الطلب، فإن الإحفاء بمعنى المبالغة تَبْخَلُوا عن عطاء الكل وَ يُخْرِجْ الطلب أَضْغانَكُمْ أحقاد صدوركم، و ليس المراد أن الضغن كامن فيظهر، بل هو من قبيل إخراج النبات أي أوجده، و الحاصل أن طلب كل المال، و إن كانت فيه مصلحة إلا أنه تركه سبحانه، لأن أضراره أكثر من منافعه فهو من قبيل

«لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك».

[39] و إذ مهد الجو، بذكر أن الحياة زائلة فلا ينبغي للإنسان أن يتعلق بها، و أن اللّه لا يريد كل أموالكم صار المجال لإظهار وجوب دفع بعض المال، و ليس ذلك لأمر شخصي، بل لإقامة حكم اللّه و في سبيل اللّه ها للتنبيه أَنْتُمْ أيها المؤمنون هؤُلاءِ أي هم الذين- و الإتيان بهذه العبارة لجلب الانتباه أكثر فأكثر- تُدْعَوْنَ يدعوكم اللّه، و لعل الإتيان بالمجهول، لئلا يكون رده من البخلاء ردا على اللّه مباشرة؟ إذ قال «يدعوكم اللّه» لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ للغزو و لمصالح المسلمين و لسد عوز المحتاجين فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ فلا يعطي أو يعطي أقل من الحق الواجب عليه وَ اعلموا أن مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 173

لأن ضرر البخل عائد عليه، فكان البخل عن النفس من قبيل

«منع عن نفسه الخير» و إنما يعود ضرر البخل إلى الإنسان نفسه، لأن مجتمع البخلاء لا ينمو و إذا لم ينمو المجتمع تضرر الجميع، بما فيهم البخيل نفسه وَ لا يزعم أحد أن اللّه إنما يطلب المال لأنه فقير، و أن الذين يطلب منهم أغنياء؟ ف اللَّهِ هو الْغَنِيُ إنه يملك كل الكون، و يملك ان يخلق كل شي ء بإرادته، فهل مثله فقير؟ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ حتى أنكم تحتاجون في استمرار حياتكم إليه تعالى، و هل مثل هذا الإنسان يسمى غنيا؟ بل إنما يطلب منكم المال ليمتحنكم، و ليعود نفعه إليكم وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا فلا تنفقون يَسْتَبْدِلْ اللّه بكم قَوْماً غَيْرَكُمْ يقيمهم مقامكم، فإن الخير يلتف حوله الناس، و إنما المهم أن يكون الإنسان من أهل الخير ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في المخالفة لأوامره سبحانه، و من الطبيعي أن تأتي الأجيال اللاحقة لتعتبر بنواقص الأجيال السابقة فيكملوها فلا يكونوا أمثال أولئك السابقين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 174

48 سورة الفتح مدنية: آياتها (30)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الفتح» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على أحكام الشريعة و لما ختمت سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقضايا الجهاد بالنفس و المال، افتتحت هذه السورة بثمرة تلك المجاهدات، حيث فتح اللّه على نبيه مكة المكرمة، ببركة جهاده و جهاد المجاهدين من أصحابه.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الذي يمنح كل خير، و الذي منه فتح مكة «الرحمن الرحيم» بعباده، و لذا يمنحهم ما فيه صلاحهم برحمته الواسعة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 175

[سورة الفتح (48): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ

ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2)

[2] إِنَّا فَتَحْنا لَكَ يا رسول اللّه فَتْحاً مُبِيناً واضحا، قالوا نزلت بعد أن رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الحديبية، و المراد أنه سيفتح له، فنزل المضارع المحقق الوقوع منزلة الماضي، لأنه في كونه يقينا مثل المستقبل، أو المراد أن الحديبية فتح، لأنها كانت سبب الفتح و مفتتحه.

[3] و إنما فتحنا لك لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ على الفتح وَ ما تَأَخَّرَ أي أن الفتح سبب لغفران كل الذنوب، و المراد به، إما ذنوبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند الكفار، فإنه كان عاقا قاطعا للرحم عندهم و قد قتل رجالهم و سبّ آلهتهم قبل الفتح و بعد الفتح، فإذا سلط عليهم، غمضوا عن ذنوبه، كما هي العادة أن الإنسان إذا تسلط غفر الناس ما يزعمون له من ذنوب، و إما المراد بالذنوب، ما ذكروا من ذنوب الأنبياء، من أنها تعد ذنوبا بالنظر إلى الكمال الواقعي يمنعه الاضطرار إلى المأكل و المشرب و ما أشبه، فهو نوع من التواضع، يرفع النقص الذي ألجئ إليه اضطرارا، و إما المراد ذنوب الأمة فإن ذنب الأتباع يعد ذنب الرئيس- عرفا- فالجهاد تكميل للمضطر إليه، أو سبب غفران ذنب الأمة وَ ل يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الإسلام و ضم السيطرة إلى النبوة وَ ل يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً فإن الهداية تتلاحق آنا بعد آن، و في حالة بعد حالة، مثلها مثل الحياة، و مثل ماء النهر، فكل خطوة بعدها إما هداية أو ضلال، لأنه إن مشى مستقيما- بعد تلك الخطوة- فهو هداية و إلا كان ضلالا، و الفتح سبب الهداية،

لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 176

[سورة الفتح (48): الآيات 3 الى 4]

وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)

يمشي في البلد المفتوح بسيرة حسنة و هي هداية جديدة.

[4] وَ ل يَنْصُرَكَ اللَّهُ فإن الفتح سبب النصرة «و إن كان نفس الفتح أيضا نصرة» نَصْراً عَزِيزاً فيه عزة و منعة فالفتح صار سببا لأربعة أمور، غفران الذنب، و تمام النعمة، و الهداية الجديدة، و النصرة العزيزة.

[5] و ليشكر المؤمنون نعمة الفتح فإن اللّه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ الصفة الموجبة للسكون و الطمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فإن تهيئة الإنسان للمقدمات توجب إفاضة اللّه للنتائج، كما أن تهيئة الزارع للزرع توجب إفاضة اللّه النبات، و لما استعد المؤمنون للإطاعة بقتال الأعداء، ذهب منهم الخوف و الاضطراب و صارت لهم الطمأنينة، مما أوجبت فتحهم السريع لِيَزْدادُوا إِيماناً جديدا مَعَ إِيمانِهِمْ القديم، فإن سكون القلب يوجب التفكر حسنا و رؤية الأشياء كما هي الواقع، فيرون فضل اللّه عليهم و بذلك يزدادون إيمانا وَ لا يزعم المؤمنون أنهم، بدون فضل اللّه تمكنوا من الفتح، بل كان معهم جند اللّه، مثل إلقاء الرعب في قلوب الكافرين، و إنزال السكينة في قلوب المؤمنين، إذ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الجنود المادية و المعنوية وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً يعلم كيف ينصر المسلمين على الكافرين حَكِيماً يضع الأشياء موضعها فلما أن هيّأ المسلمون أنفسهم للقتال، كانت الحكمة تقتضي نصرتهم، كما أن الأب الحكيم يمدّ ولده بالمال كلما رأى حسن طاعته له.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5،

ص: 177

[سورة الفتح (48): الآيات 5 الى 6]

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (6)

[6] و إنما فعل سبحانه ما فعل من النصرة للمؤمنين، بعد أن أطاعوا أوامره ليزيد ثوابهم فيدخل الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ لأنهن أيضا كنّ مجاهدات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها، في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي يغطيها و يزيلها، فإن الجهاد سبب غفران الذنب، كما هو سبب رفع الدرجة في الجنة، فالمراد بإدخالهم الجنة في أثر الجهاد، الجنة الرفيعة التي لو لا الجهاد لم يستحقوها وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لأنه منتهى رغبة الإنسان، أن يكون في لذة دائمة، و لعل ذكر «عند اللّه» للإفادة بأنهم في نعمة معنوية أيضا، لأنهم يلتذون بأنهم قرب اللّه سبحانه، قربا معنويا.

[7] وَ يُعَذِّبَ عطف على «يدخل» أي أن اللّه نصر المؤمنين لأمرين:

الأول: لأجل رفعة درجات المؤمنين في الآخرة. و الثاني: ليزيد عذاب الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ لأنهم بنفاقهم في باب هذه النصرة زاد عذابهم في الآخرة وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ لأنهم ببقائهم على الشرك و محاربتهم للرسول زاد عذابهم الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ حيث كانوا يظنون أن اللّه لا ينصر رسوله، و أنه كذب سبحانه مع رسوله في ما وعده من النصرة عَلَيْهِمْ على أولئك المنافقين و الكفار دائِرَةُ السَّوْءِ أي ما كانوا يظنونه من عدم النصرة، حتى يسوء

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 5، ص: 178

[سورة الفتح (48): الآيات 7 الى 8]

وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (8)

المؤمنون، دائر عليهم و حائق بهم، و سميت دائرة، من دوران الفلك، فقد دارت دائرة سيئة بالنسبة إليهم، و قوله سبحانه «عليهم ...» إما إخبار أو ادعاء عليهم وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قطعهم عن رحمته وَ لَعَنَهُمْ أبعدهم عن كل خير، و ذلك لأن اللّه تعالى لا يتغير حاله، و لا يعروه غضب و نحوه كما قرر في علم أصول الدين وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً أي أن جهنم موضع سوء يصيرون إليه بعد موتهم.

[8] وَ يؤكد سبحانه للمؤمنين وجوب إقدامهم في الحروب لأجل الإسلام، كرر سبحانه لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالحر و البرد و المطر و الريح من جنوده في السماء، و الرعب في القلب و التشتت للشمل و نحوهما من جنوده في الأرض، إلى غيرهما من جنوده الكثيرة وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً يقدر أن يفعل ما يريد لعزته حَكِيماً يضع الأشياء موضعها، فإذا نصر المؤمنون دينه، نصرهم.

[9] و لما ذكر شي ء من صفاته سبحانه، ذكر بعض صفات رسوله، القائد للمؤمنين ليعلم المؤمنون أن قائدهم صالح لقيادتهم إلى خير الدنيا و سعادة الآخرة إِنَّا أَرْسَلْناكَ يا رسول اللّه شاهِداً على الناس لتشهد على المؤمن بالإيمان و على الكافر بالكفر و على المنافق بالنفاق وَ مُبَشِّراً تبشر المؤمنين بخير الدنيا و الآخرة وَ نَذِيراً تنذر الكافرين و المنافقين بشر الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 179

[سورة الفتح (48): الآيات 9 الى 10]

لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ

بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)

[10] و إنما أرسلنا الرسول لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ لأنه الدال إلى اللّه و إلى رسوله وَ تُعَزِّرُوهُ تقووه بالنصرة و ذلك بتقوية دينه و نصرة أحكامه وَ تُوَقِّرُوهُ تعظموه وَ تُسَبِّحُوهُ تنزهوه عن الشريك و عن المناقص بُكْرَةً صباحا وَ أَصِيلًا عصرا.

[11] و إذ عرف المسلمون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حق المعرفة فاللازم أن يعرفوا أن بيعتهم له لازمة عليهم، لأن بيعته بيعة للّه تعالى، فإذا نكث الإنسان بيعته، فبالإضافة إلى أنه خان اللّه و رسوله، كان ضارا لنفسه، إذ فائدة البيعة تعود إلى نفس المؤمن إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يا رسول اللّه إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ إذ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممثل للّه تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فقد كان أسلوب البيعة أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرفع يده ممدودة باطنها إلى الأرض و ظاهرها إلى السماء، فيأتي المبايع فيمر باطن كفه بكف الرسول مبتدأ من رأس الخنصر منتهيا إلى رأس إبهام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هذه هي كيفية البيعة، و هي رمز أن البائع قد باع كل شي ء له من نفس و مال و غيرهما، للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال سبحانه إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «1» و إتيان الصيغة بباب المفاعلة، لأنه باع ما عنده ليأخذ بقدره من الجنة، فالبيع من الطرفين، و إذا أراد شخص نقض

البيعة مع أمير أو ما أشبه، كان يمر بيده من رأس الإبهام

______________________________

(1) التوبة: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 180

[سورة الفتح (48): آية 11]

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)

إلى رأس الخنصر، و كما يستفاد من روايتين ذكرهما الفيض «رحمه اللّه» في الصافي، و يد اللّه كناية، مثل بيت اللّه و ناقة اللّه فَمَنْ نَكَثَ نقض البيعة فَإِنَّما يَنْكُثُ بما يعود ضرره عَلى نَفْسِهِ لأنه إذا لم يتبع سبيل اللّه اتبع السبل المنحرفة التي في سلوكها الضلال و العذاب وَ مَنْ أَوْفى أي وفى، كلاهما بمعنى واحد كما قال سبحانه أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» و هل فائدة باب الأفعال الدلالة على كمال الوفاء تأكيدا له بِما أي بالذي عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ اللّه في الدنيا و الآخرة أَجْراً عَظِيماً و السين لأجل أن الحصول على الفوائد الدنيوية لا يكون إلا متأخرا، و

قد ورد أن هذه الآية نزلت في بيعة الرضوان عام الحديبية، و قد كان تخلف عن رسول اللّه في سفره إليها قبائل أسلم و جهينة و مزينة و غفار و غيرهم فإنهم بعد أن استنفرهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اعتلّوا بالشغل بأموالهم و أهليهم، فنزلت فيهم هذه الآية

«2».

[12] سَيَقُولُ لَكَ يا رسول اللّه الْمُخَلَّفُونَ كأن ضعف إيمانهم سبب مخالفتهم، و لذا جي ء بصيغة المفعول، مثل «أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ» بصيغة المجهول مِنَ الْأَعْرابِ و هم أهل البادية، و لا يسمى أهل

______________________________

(1) المائدة: 2.

(2) راجع مجمع البيان: ج 9

ص 190.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 181

المدن أعرابا، و إنما يسمون عربا شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا عن السفر معك يا رسول اللّه فَاسْتَغْفِرْ لَنا اطلب الغفران من اللّه على تخلفنا، فإنهم تخلفوا خوفا، و لما رجع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منتصرا ندموا و جاءوا يعتذرون، لكن كلامهم في اعتذارهم، أولا، و في طلب استغفاره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم ثانيا، كان كذبا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فعدم نفرهم أولا: كان خوفا، و طلب استغفارهم ثانيا: كان لأجل أن يمحوا عن أنفسهم و صمة العار التي لحقت بهم عند المؤمنين قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هل هناك من يقدر على منع نفوذ قضاء اللّه فيكم إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا بالقتل و إغارة قبيلة على قبيلة أو ما أشبه ذلك فأنتم كان فراركم خوفا، بينما لا ينفع الفرار من بأس اللّه إن كان مقدرا أن ينزل بكم أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً و الآن أنتم جئتم معتذرين لتحصلوا من اعتذاركم على نفع المستقبل من الجاه عند المؤمنين و الغنيمة في المستقبل، بينما النفع بيد اللّه، لا أن اعتذاركم يجر إليكم نفعا، و الحاصل أنهم كانت أعمالهم و عدم نفرهم، و اعتذارهم، تابعة لخوفهم و رجائهم، بينما الضرر و النفع بيد اللّه، لا بحسب أعمالهم بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فعلم سبب تخلفكم و سبب اعتذاركم «على خلاف ما أظهرتم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 182

[سورة الفتح (48): الآيات 12 الى 14]

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ

فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)

[13] ثم بين اللّه سبحانه كذبهم في دعواهم «شغلتنا أموالنا و أهلونا» بقوله بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً لأن كفار مكة يقتلونهم وَ زُيِّنَ ذلِكَ الظن فِي قُلُوبِكُمْ فإن الإنسان يرتاب أولا ثم يشك ثم يظن، ثم يقوى ظنه إلى حد أنه الذي يزين له فيصرفه عن العمل بخلاف ذلك وَ قد كان الظن باطلا إذ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ لم يكن يستحق أن يزين في قلوبكم، إذ ما كنتم تعلمون من خطط النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحكيمة، و من نصرة اللّه له كان ينبغي أن يصرفكم عن ظنكم وَ كُنْتُمْ بانصرافكم عن النصر مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قَوْماً بُوراً جمع بائر، أي هالكين، هلكت دنياكم لأنكم فضحتم، و آخرتكم لما أعده اللّه لكم من العقاب.

[14] لقد كنتم قوما بورا في الدنيا كما وضح ذلك للجميع وَ أما أنكم بور في الآخرة فلوضوح أن مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ كما ظهر ذلك من تخلفكم عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الساعة الحرجة فَإِنَّا أَعْتَدْنا هيئنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً نارا تستعر.

[15] وَ اللّه سبحانه قادر على عذابهم إذ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يتمكن الحروب عن إرادته و لكن إذا رجع هؤلاء إلى التوبة و الطاعة فلعله سبحانه يغفر لهم إذ هو تعالى

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 183

[سورة الفتح (48): آية 15]

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)

يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و ليست مشيئته اعتباطية بل تابعة لعمل الإنسان فيشاء غفران التائب و عذاب المصر وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يستر ذنب التائب رَحِيماً يرحمه بأن يبدل سيئاته حسنات.

[16] و إذ بين سبحانه أن عذرهم كان كذبا، أراد أن يبين أن طلبهم للتوبة و الاستغفار أيضا كذب سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ الذين تخلفوا عن النصر مع الرسول إلى الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى حرب جديد مما فيه مَغانِمَ جمع مغنم بمعنى الغنيمة لِتَأْخُذُوها ذَرُونا أي دعونا نَتَّبِعْكُمْ فحيث كان الخوف من أهل مكة لم يسافروا مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أما حيث حرب طفيفة، يريدون الكون معكم ليحصلوا على الغنائم يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ فإن المسلمين استعدوا لقتال أهل مكة في الحديبية ليعلوا الإسلام، لكن كان رأيهم خطأ، إذ ما كان بالإمكان فتح مكة، مع علم أهلها أن الرسول يريد محاربتهم، بل أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتحها في حالة غفلتهم لئلا تراق دماء، و كان كما أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الصلح، و لما ثقل على المسلمين، حيث لم يحاربوا و لم يحصلوا على مغانم من أهل مكة، وعدهم اللّه أن يعوضهم عن مغانم مكة بمغانم خيبر، فكانت مغانم خيبر لأهل الحديبية- حسب وعد اللّه سبحانه- فإذا تبع المخلفون المسلمين في فتح خيبر كان ذلك تبديلا لكلام اللّه تعالى، و

لذا ف قُلْ يا رسول اللّه للمخلفين لَنْ تَتَّبِعُونا إنشاء في صورة إخبار، لبيان أنه محقق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 184

[سورة الفتح (48): آية 16]

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)

الوقوع كَذلِكُمْ أي هكذا و «كم» أداة خطاب قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن نتهيأ لخيبر، و هو في الحديبية فَسَيَقُولُونَ أي المخلفون بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نشارككم في الغنائم، و هذا نفي لكلام المؤمنين حيث قالوا للمخلفين «إن اللّه وعد الغنائم لأهل حديبية» بَلْ ليس كما يقول المخلفون إذ أنهم كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا فهم لا يفهموا حتى موازين الدنيا، فإن من عليه الغرم فله الغنم، لا أن يكون الخوف و الصعوبة للمؤمنين، ثم يشاركهم المخلفون في الغنائم.

[17] قُلْ يا رسول اللّه لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في ذمهم و إشعارا بشناعة تخلفهم سَتُدْعَوْنَ إِلى قتال قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ حيث يكون فيه الخوف و الغنم معا، فإنكم حيث لم تتحملوا خوف الحديبية لا تأخذون من غنائم خيبر. أما في المستقبل لنا حرب مع قوم أولي بأس شديد، كأهل مكة «حين نريد فتحها» و «كحرب حنين» و «كحرب الطائف» و غيرها، فلكم أن تأتوا معنا لتنالوا قسطكم من صعوبة الحرب، و قسطكم من غنائمها تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فإما القتال حتى النصر، أو أن يسلموا بدون قتال، و لعله إشارة إلى أن أهل مكة استسلموا بدون قتال، و أن أهل حنين قوتلوا إلى أن انتصر المسلمون فَإِنْ تُطِيعُوا باستجابة الذهاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5،

ص: 185

[سورة الفتح (48): آية 17]

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)

مع المسلمين إلى قتال هؤلاء يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً بتوسعة التجارة مع أهل مكة، و بالغنائم في حنين بالإضافة إلى ثواب اللّه في الآخرة وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا و لم تحضروا القتال كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ في الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما لتضاعف جرمكم، بإصراركم على مخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[18] نعم لا يجب حضور الجهاد على الكل فالمتخلف في الحديبية و في غير الحديبية لا يشمله التهديد و الوعيد ف لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ أي لا نشتد عليه بإلزامه حضور الحرب وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ لأنه لا يتمكن من اللحاق بالمجاهدين الماشين، و لا يقدر على ركوب الفرس، لعدم وصول رجله إلى الركاب وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ إذا كان مرضه يمنعه من السير وَ إذا أطعتم أيها المخلفون، في المستقبل إذا دعاكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الحرب فإن مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فلا يذوق حر الصحراء، لأنه في جنة، و لا عطش شح الماء، لأنه عند الأنهار الجارية وَ مَنْ يَتَوَلَ منكم يُعَذِّبْهُ اللّه عَذاباً أَلِيماً مؤلما، و قد كرر سبحانه التهديد ليكون أبلغ في التخويف و ليهيئ نفوسهم لقبول الأوامر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 186

[سورة الفتح (48): الآيات 18 الى 19]

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ

فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)

[19] ثم جاء الكلام لينقل قصة الحديبية لتكون بشارة للمؤمنين الذين شهدوا الحديبية، و تعريضا بالمتخلفين لزيادة تحذيرهم عن التخلف ثانية فقال سبحانه لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كانت في الحديبية شجرة جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحتها، و أخذ البيعة من المسلمين الذين كانوا معه لمحاربة قريش، حين أشيع بأنهم قتلوا رسول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم، و هذه البيعة سميت ببيعة الرضوان، لقوله تعالى «لقد رضي اللّه» و المراد برضي زيادة الرضا، لأن اللّه كان راضيا عنهم قبل ذلك، أو رضاه ببيعتهم فَعَلِمَ اللّه بسبب بيعتهم ما فِي قُلُوبِهِمْ من الإيمان و الإخلاص، و المراد رفع علمه سبحانه على المعلوم حين وجد المعلوم في الخارج، فالمراد ظهر ما في قلوبهم، و هذا الظهور كان معلوما للّه تعالى، و على هذا «فالفاء» في فعلم، للترتيب الكلامي لا الترتيب الخارجي فَأَنْزَلَ اللّه جزاء لبيعتهم السَّكِينَةَ سكون النفس عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ و أعطاهم ثوابا لذلك فَتْحاً قَرِيباً هو فتحهم لخيبر بعد انصرافهم من الحديبية.

[20] وَ أثابهم مَغانِمَ غنائم كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها من خيبر وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً غالبا على أمره حَكِيماً يفعل الأشياء حسب المصلحة و الحكمة، فحركة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الحديبية، أفادت طغى القبائل في أهل مكة حيث منعوا عن الحرم، كما فتحت الطريق أمام فتح مكة حيث أن نقض المشركين للعهد أعطى الزمام بيد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليهاجم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 187

[سورة الفتح (48): الآيات 20

الى 21]

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (21)

مكة دفاعا، و كذلك كرس- منعهم عن الحج- نفوسهم إلى التصميم على فتح خيبر.

[21] وَعَدَكُمُ اللَّهُ أيها المسلمون مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها و هي المغانم التي حصل و يحصل عليها المسلمون منذ الحديبية إلى يوم القيامة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ مغانم خيبر وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أيدي أهل خيبر فلم يقدروا على محاربتكم، إذ أنهم ذهلوا و سقط في أيديهم فلم يحاربوا بقدر قواهم الواقعية وَ لِتَكُونَ هذه الغنائم، و كف أيدي الناس آيَةً علامة لِلْمُؤْمِنِينَ فظهر صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث أخبرهم قبل خيبر أنهم سيغلبون و يغنمون غنائم كثيرة، و الظاهر أن «لتكون» عطف على مقدر يفهم من الكلام السابق فكأنه قال «عجل الغنيمة و كف الأعداء» لتنتفعوا ماديا، و لتكون آية لتنتفعوا معنويا وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً عطف على «لتكون» إذ المعونة المادية و المعنوية تزيد الإنسان صلابة للاستقامة في الطريق، فقد تقدم أن كل خطوة في الحياة، إما مستقيمة أو منحرفة.

[22] وَ أُخْرى عطف على «هذه» أي عجل لكم غنائم خيبر و ادخر لكم غنائم أخرى هي غنائم هوازن لَمْ تَقْدِرُوا بعد عَلَيْها لأنه لم تقع حرب هوازن بعد قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أي استولى عليها بالعلم و القدرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 188

[سورة الفتح (48): الآيات 22 الى 23]

وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)

مثل الدائرة المحيطة بالشي ء حيث لا يقدر ذلك الشي ء التخلص من تلك الدائرة وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً فسيرشدكم على كيفية التسلط على تلك الغنائم، و هذا إما إخبار بالغيب أو أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يعرفه بتجسس تجمع المشركين للقضاء على المسلمين، فإن للحرب أرصادا في الغالب.

[23] إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صالح في الحديبية، و حارب مع أهل خيبر، و قد اجتمع لمناصرة خيبر حلفاؤهم، لكنهم لما رأوا قوة الرسول انهزموا وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من حلفاء خيبر لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ و انهزموا و انكسروا في القتال، و ذلك لوضوح أنه لو انهزمت القوة الأقوى لانهزمت القوة الأضعف ثُمَّ لا يَجِدُونَ أولئك الحلفاء وَلِيًّا يلي أمورهم بالتوسط إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إعطائهم المعلومات و نحوها كما يفعل أولياء كل جماعة بهم وَ لا نَصِيراً ينصرهم في حربهم مع الرسول.

[24] هذه هي سُنَّةَ اللَّهِ طريقته حيث ينصر أوليائه على أعدائه، و يعطي الأولياء غنائم الأعداء الَّتِي قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلُ في سائر الأنبياء عليهم السّلام، و إن قلت فكيف كان يقتل الكفار الأنبياء، قلت كانوا يتسلطون عليهم حيث لا يكون للنبي جماعة مدافعة، أما إذا كانت فسنة اللّه نصرة الأنبياء، لا يقال إذا لا فرق بين الأنبياء عليهم السّلام و بين غيرهم، لأنه يقال الفرق إن الأنبياء ينتصرون و لو بدون مكافئة القوى بخلاف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 189

[سورة الفتح (48): الآيات 24 الى 25]

وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ

بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)

غير الأنبياء عليهم السّلام. إن قلت و كذلك بعض الأمم الضعيفة تغلب على الأمم القوية قلت: إذا أخذت الغلبة بالمعنى المادي أي تبديل أناس في الحكم بأناس آخرين فقط بدون تغيير النظام فهي موجودة في أي فئة قليلة مصممة تغلب فئة كثيرة غير مصممة، أما إذا أخذت بالمعنى المادي و المعنوي فتلك خاصة بأهل اللّه تعالى وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا إذ إن قوانين اللّه في الحياة لا تتغير، فهي جارية إلى زوال الحياة عن الأرض.

[25] ثم بين سبحانه فلسفة الصلح في الحديبية، و لتوضيح أن النصرة كانت هناك للمؤمنين- حسب سنة اللّه- و إنما يقاتل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا لخوف الانهزام بل لمصلحة أخرى وَ هُوَ اللّه سبحانه الَّذِي كَفَ منع أَيْدِيَهُمْ أيدي الكفار عَنْكُمْ فلم يتجرءوا على قتالكم وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ فقبلتم الصلح و تركتم الحرب بِبَطْنِ مَكَّةَ مركز العداوة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم تقع الحرب في بطن مكة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فبعد أن كانوا يغزونكم في المدينة طلبوا منكم الصلح في الحديبية و هذا ظفر معنوي وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً حيث أطعتم الرسول بعدم الحرب، مع أن رأيكم كان الحرب، و كنتم ترون عدم الحرب انهزاما.

[26] و قد

كان أهل مكة مستحقين للحرب لأنهم هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 190

و رسوله وَ صَدُّوكُمْ منعوكم عَنِ زيارة الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حيث كان المسلمون يريدون العمرة وَ منعوا عن الْهَدْيَ الإبل التي ساقها المسلمون لعمرتهم مَعْكُوفاً من عكف إذا حبس لأن الإبل كان محبوسا على الهدي لينحر بعد قضاء العمرة، فقد منع المشركون أَنْ يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ المكان الذي ينحر فيه بمكة، و بهذا قد استحقوا القتال مرة لكفرهم، و مرة لصدهم عن المسجد، و مرة لمنعهم الهدي، و مع ذلك فقد كف اللّه تعالى أيديكم عنهم وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ في مكة مختلطين بالكفار لَمْ تَعْلَمُوهُمْ بأشخاصهم، لتتجنبوا قتالهم عند قتالكم مع المشركين أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل اشتمال من «رجال مؤمنون ...» أي لو لا خوف سحقكم «و وطئكم» في حالة حرب المشركين، لرجال و نساء مسلمين فإذا وطأتموهم تصيبكم مِنْهُمْ من جهة أولئك المسحوقين مَعَرَّةٌ أي مكروه إذ يحزن المسلم أن يقتل المسلم، إذا وقع القتل اشتباها، بالإضافة إلى تعيير المشركين للمسلمين بأنهم قتلوا حتى إخوانهم في الدين، إلى غير ذلك بِغَيْرِ عِلْمٍ منكم المسلم من غير المسلم، فقوله «لم تعلموهم» لبيان أنهم لا يعرفون أولئك المسلمين، و قوله «بغير علم» لبيان أن سحقهم بغير علم، فلا تكرار، و جواب «لو لا» محذوف لدلالة الكلام عليه، أي لو لا خوف سحقكم للمؤمنين المجهولين، لما كف اللّه أيديكم عن المشركين، و إنما كنا نجيز لكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 191

[سورة الفتح (48): آية 26]

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَ

كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (26)

في حرب أهل مكة لو لا خوف سحق المؤمنين لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ من الذين يحاربون، فظاهر «ليدخل» أنه تعليل للجواب المحذوف، ففي الآية معلولان «الحرب» و «الكف» و علتان «الإدخال في الرحمة للأول» و «خوف السحق للثاني» لكن لما كان الثاني أهم، رجحه سبحانه على الأول، ثم أكد سبحانه أن الكف عن الحرب كان لخوف سحق المؤمنين بقوله لَوْ تَزَيَّلُوا تفرقوا و تميز المسلم عن الكافر- في أهل مكة- لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من أهل مكة- في قبال الذين آمنوا منهم- عَذاباً أَلِيماً مؤلما، بالقتل و الأسر و غنيمة الأموال.

[27] و قد كان كف اللّه أيديكم عنهم و حتى لا تقع الحرب إِذْ في زمان جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ أي الكبر و الأنفة حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فإن «الحمية» مشتقة الحمى، و قد تستعمل لحمية الخير، و قد تستعمل لحمية الشر، و لذا بينه سبحانه، بأنها كانت حمية الجاهلية، إذ الجاهل يحمي عن الباطل، و ذلك لأنه بعد أن تقرر الصلح بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين رسول المشركين

«في الحديبية» قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه أهل مكة ... فقال سهيل بن عمر «رسول المشركين» بل اكتب «باسمك اللهم»- و ذلك لأنهم كانوا يكرهون اسم الرحمن لجهلهم- و لا تكتب رسول اللّه، لأنا لو عرفناه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 192

[سورة الفتح (48): آية 27]

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ

إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)

رسولا ما حاربناه ... فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام أن يكتب كما قال سهيل، و لو لا مسامحة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاشتعلت نار الحرب

«1» فقد جعل رسول المشركين في قلبه حمية الجاهلية لكن فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ سكونه عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلم يصروا على كيفية كتابة كتاب الصلح وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى فجنحوا إلى الخوف من اللّه في أن لا ينساقوا وراء الكبر فتقع الحرب، و يسحق المؤمنون المجهولون الذين كانوا بمكة، و «السكينة» هي حلم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنون، في حال قدرتهم على الحرب و المراد بالكلمة «الشعار» فإن المؤمنين جعلوا شعارهم التقوى، فكلما وقعت مشكلة، التفوا حول هذا الشعار وَ كانُوا الرسول و المؤمنون أَحَقَّ بِها من المشركين، لأن المؤمن أحق بتجنيب المزالق من غير المؤمن وَ كانوا أَهْلَها أهل التقوى، من قبيل قولنا: أهل الرجل أحق باتباع الرجل وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً يعلم ما يفعله المؤمنون من جهة تقواهم، فيثيبهم عليه، كما يعلم ما يفعله الكفار من جهة حميتهم فيعاقبهم عليه.

[28] كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل خروجه إلى الحديبية رأى في المنام أنه و المؤمنين معه دخلوا المسجد الحرام، فنقل رؤياه للمؤمنين، و لما

______________________________

(1) راجع وقعة صفين: ص 509.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 193

قبل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصلح في الحديبية و لم يدخل المسجد الحرام، تساءل المؤمنون عن مدى صحة

الرؤيا، و هل كانت أضغاث أحلام؟ و إذا كانت صادقة فلما ذا لم تتحقق؟ و أجاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن الرؤيا صحيحة و أنهم يدخلون المسجد، و لكن ما ظنه المسلمون من أن تحقق الرؤيا يكون في هذه السنة «سنة الحديبية» كان غير صحيح ف لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا فكان ما أراه اللّه في المنام صدق بِالْحَقِ الصدق هو مطابقة الخبر للواقع، و الحق هو مطابقة الواقع للخبر، و قد يجتمعان للتأكيد، أو المراد أن ما أراه تعالى له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان صدقا «يقع في المستقبل» متلبسا «بالحق» أي بالغرض الصحيح و الحكمة البالغة، فأنتم أيها المؤمنون لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ مؤكدا «باللام» و «نون الثقيلة» إِنْ شاءَ اللَّهُ إن شاء اللّه إما كلمة تبرك، فليس لها معنى الشرط، أو هي مثل لفظ «لعل» الذي يستعمله القرآن الحكيم المراد به أن الكلام محل «لعل» أو محل «إن شاء اللّه» و إن كان سبحانه لا يرجو شيئا و لا شك له حتى يعلق على المشيئة، فهو كاستعمال الأمر بقصد التهديد أو ما أشبه، و كذلك في كل إنشاء و إخبار، قد يستعملان بقصد آخر، في حال كونهم آمِنِينَ عن محاربة الكفار لكم، و في حال كونكم مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ من أظفاركم و غيرهما، و الظاهر أن المراد أن قسما محلق و قسما مقصر لا تَخافُونَ بعد ذلك، فالآمن حين الدخول، و عدم الخوف بعد ذلك فلمجرد الترتيب في الكلام علم اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 194

[سورة الفتح (48): آية 28]

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى

بِاللَّهِ شَهِيداً (28)

ما لَمْ تَعْلَمُوا من كون المصلحة تأخير دخول المسجد الحرام، و قد تقدم أن المصلحة ظهرت بعد ذلك فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ من قبل دخولكم المسجد الحرام فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر، و بذلك قوي الإسلام و اطمأن المسلمون بالنصر و الغنائم، إلى أن تيسر وقت فتح مكة، تصديقا لرؤيا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[29] و كيف زعم بعض المسلمين في الحديبية أنهم انهزموا، حتى قال قائلهم ما شككت في نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل شكي يوم الحديبية و الحال أن اللّه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى يصحبه الهدى، لهداية الناس إلى الحياة السعيدة في الدنيا و الآخرة وَ دِينِ الْحَقِ الدين هي الطريقة، و الحق هو الواقع «لأن لكل شي ء واقعا صحيحا» فالدين الحق هو الطريقة، و الهدى عبارة عن الهداية إليه، كما يقال هديته إلى الطريق، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء بأن يهدي الناس، و كأن معه خريطة دين الحق، و إنما أرسله اللّه سبحانه لِيُظْهِرَهُ ليغلبه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كل الأديان، سواء كانت سماوية منسوخة أو غير سماوية وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فاللّه يشهد بأنه رسوله و أن ما أتى به هو الدين الحق، و شهادته سبحانه عبارة عن جعله تعالى الفطرة البشرية موافقة له، و جعل الحجة له، أو المراد جعل المعجزة المصدقة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معه، ثم إنه كما يحق لمخترع الطائرة أن يقول ستعم الطائرة كل البلاد، و سينسخ السفر بالدواب «لأنه يعلم ذلك بالمقايسة بين المركوبين، و بفهم طبيعة البشر المائلة إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص:

195

[سورة الفتح (48): آية 29]

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29)

الراحة» كذلك ظهور الإسلام على الأديان كلها، شي ء موافق للمنطق، بعد فهم طبيعة الإنسان المائلة إلى الأخذ بالمنهج الصحيح، و فهم طبيعة الإسلام و مقايسة بسائر الأديان ليظهر أنه الألأم بطبيعة الإنسان.

[30] و إذ تقدم الكلام عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عن المؤمنين به و عن المنافقين ذكر اللّه تعالى صفاتهم الظاهرة ليعرف بها المؤمن عن المنافق مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ظاهر الآية أنه مبتدأ و خبر وَ الَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ لأن الكافر مبدأه فاسد مفسد فإذا لم يؤخذ بالشدة لإيقافه عند حده فسد و أفسد، لكن المراد بالشدة الشدة العقلائية «كما هو المتبادر منه» لا الشدة بمعنى القساوة و الإفراط رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يرحم بعضهم بعضا، فإن أرواحهم تتلاقى بالإيمان، مما يوجب رحم بعضهم بعضا تَراهُمْ أيها الرائي رُكَّعاً سُجَّداً لكثرة صلاتهم يَبْتَغُونَ أي يلتمسون بكثرة الصلاة فَضْلًا و زيادة مِنَ اللَّهِ ثوابا وَ رِضْواناً يطلبون مرضاته فهؤلاء سِيماهُمْ علامة إيمانهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ كالسمة التي تحدث في جباههم من كثرة سجودهم، فهذه ثلاث صفات لهم، صفة مع الأعداء، و صفة مع المؤمنين، و صفة مع اللّه ذلِكَ الوصف الذي ذكر لهم مَثَلُهُمْ أي وصفهم فِي التَّوْراةِ المنزلة على موسى عليه السّلام

وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ المنزلة على عيسى عليه السّلام فقد وصف المؤمنون في الكتابين، بالأوصاف الثلاثة المتقدمة، ثم بين سبحانه حالة نموهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 196

و تكاثرهم، من جراء تلك الأوصاف الثلاثة السابقة، فهم كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي فراخه فَآزَرَهُ فقواه، أي قوى الزرع فراخه، إذ الفراخ يقوي قليلا قليلا فَاسْتَغْلَظَ ذلك الزرع أي صار من الدقة إلى الغلظة فَاسْتَوى و استقام ذلك الزرع بعد الغلظة عَلى سُوقِهِ جمع ساق، فإنه كان في بدو أمره، بدون فراخ، و بدون غلظة الساق، و بدون الاستقامة، فإذا هبت به ريح أمالته و ربما قلعته يُعْجِبُ ذلك الزرع الزُّرَّاعَ من منظره و فراخه و غلظته و قوته و كذلك بدأ المؤمنون قليلين، ثم أفرخوا فألحقوا بأنفسهم أناسا آخرين، فهم كالفراخ بالنسبة إلى المؤمنين الأولين، و بذلك حصل مؤازرة السابقين للاحقين، و بذلك صار الأولون أقوياء كأنهم استغلظوا، لأن من وجد الأعوان يقوى، و حينذاك قاموا بأنفسهم أشداء، لا تخوفهم رياح الكفر، و لا يمثل بهم أعاصير الباطل لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ اللام للعاقبة، مثل فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا، أي كان عاقبة كونهم كالزرع الكذائي غيظ الكفار، و لعل الإتيان بهذه الصفة «غيظ الكافرين» لأجل بيان أنهم لغيظهم يكيدون للمؤمنين، مما يعطي المؤمنين تبرير قتالهم و استئصال شأفتهم، و بذلك «يظهره على الدين كله» وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ إشارة إلى أن كل هذه الكثرة التي التفت حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مما هم كالزرع، ليسوا من أصحاب الجنة بل المؤمنون منهم فقط كذلك مَغْفِرَةً غفرانا لذنوبهم وَ أَجْراً عَظِيماً في الآخرة، فدنيا المؤمنين كزرع كذا،

و آخرتهم غفران و أجر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 197

49 سورة الحجرات مدنية/ آياتها (19)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحجرات» و هي كباقي السور المدنية مشتملة على قضايا الشريعة. و لما ختمت سورة الفتح بصفة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين معه ابتدأت هذه السورة ببعض وظائف المؤمنين اتجاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين في أمورنا كلها باللّه، ليكون اللّه عونا لنا و ليكون اسمه شعارنا، و لنوحي إلى أنفسنا أن نلتف حوله سبحانه، لينقذنا من مشاكلنا، و ليمنح لنا ما نحتاجه في ديننا و دنيانا و آخرتنا، فهو الرحمن الرحيم في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 198

[سورة الحجرات (49): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)

[2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا أي لا تتقدموا، كما يقال مقدمة الجيش لمن تقدم منهم و لعل المجي ء من باب التفعيل، من باب أن النفس تقدم الإنسان، و لذا يأتي أحيانا بصيغة المجهول- في مثل هذه الأفعال- قال تعالى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ «1» لأن نفسهم أجبرتهم على أ لسجود بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ كناية عن عدم سبق الإنسان بأن يحكم بحكم قبل أن يكون اللّه أنزله و قبل أن يكون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيّنه، و إلا فليس للّه سبحانه يد، و

إنما هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و لا يبعد أن يكون لفظ «لا تقدموا» يشمل حتى في تقدم المشي أمام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اتَّقُوا اللَّهَ خافوا منه فلا تخالفوا أوامره و نواهيه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأعمالكم، و

عن تفسير القمي أن وفد بني تميم إذا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقفوا على باب حجرته فنادوا يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخرج إلينا و كانوا إذا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تقدموه في المشي و كانوا إذا كلموه رفعوا أصواتهم فوق صوته، يقولون يا محمد ما تقول في كذا؟ كما يكلم بعضهم بعضا فأنزل هذه الآيات

«2».

[3] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ فلا تكن

______________________________

(1) الشعراء: 47.

(2) تفسير القمي: ج 2 ص 318.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 199

[سورة الحجرات (49): آية 3]

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

درجة رفع صوتكم أكثر من درجة رفع النبي صوته، مثلا يصل صوت النبي إلى ذراع و يصل صوتكم إلى ذراعين بل اللازم أن يكون صوتكم أخفض من صوته أو مساويا له وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كأنه جي ء ب «له» لبيان أن إجهارهم كان لأجله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى يسمع كلامهم- بزعمهم- بِالْقَوْلِ عند التكلم كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ عند ما يكلم بعضكم بعضا فإذا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ساكتا فأردتم أن

تكلموه تكلموا بأدب و خضوع و خفض صوت، لا كما يكلم بعضكم بعضا من الجهر و رفع الصوت الخارجين عن أدب التكلم مع الكبار، و إنما لا تفعلوا ذلك ل أَنْ لا تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ فإن سوء الأدب مع الرسول يوجب حبط العمل وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أنها محبطة.

[4] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ يخفضونها و لا يرفعونها، بقدر صوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا أكثر من صوته، سواء كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حال التكلم، أو كان ساكتا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ سواء تكلموا معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو مع إنسان آخر من الذين عنده أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى جرّبها لها و مرّنها عليها، أي ظهرت تقوى قلوبهم لأن أعمال الجوارح تابعة للقلب لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران لذنوبهم لتأدبهم بهذا الأدب الرفيع عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ ثواب جزيل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 200

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 248

[سورة الحجرات (49): الآيات 4 الى 5]

إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

فلهم جزاءان محو الذنب و رفع الدرجة.

[5] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ يا رسول اللّه مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خلف حجراته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد كان لكل امرأة له حجرة خاصة بها أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب فلا ينادي الشخص الإنسان الكبير من وراء الحجرة، بل إما أن يدق الباب دقا خفيفا، أو أن يشير بكلام يدل على أنه

حضر لحاجة، أو أن يصبر حتى يخرج الإنسان الرفيع بنفسه و إنما قال «أكثرهم» مع أن كل من فعل ذلك لا يعقل، تأدبا، حتى يمكن أن يزعم أن من فعل ذلك أنه ليس داخلا في «أكثرهم» فلا يتأذى، و هذا باب من أبواب البلاغة، حيث يفهم المتكلم، من فعل السيئ، قبح فعله، مع تجنب أن يؤذيه.

[6] وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من الاستعجال و النداء وَ اللَّهُ غَفُورٌ لمن تأدب بعد ذلك و سمع الأمر رَحِيمٌ يعطي للمتأدب الأجر و الثواب، و هذه الآيات لم ينته فحواها، بل الأدب يقتضي كل ذلك مع الكبار، فإن كل آيات القرآن تنفع الإنسان عبرة أو حكما، حتى آية النجوى التي نسخت في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفادت طبيعة الإنسان و أنها بخيلة لا تصرف المال و إن فاته الخير بسبب صرف المال، حتى يعلم الإنسان أن اللازم عليه محاربة شحه، إلى غير ذلك من الآيات التي يظهر منها ابتداء أنها خاصة، ثم إن الجهر عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإنسان الرفيع الشأن لا يكون مذموما إذا كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 201

[سورة الحجرات (49): آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)

بأمره، كما إذا أمر بالمناداة، و هكذا إذا أمر بنحو المناداة كما

ورد أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمرهم برفع أصواتهم في تلبية الحج، حين أمره جبرائيل عليه السّلام «بالعج و الثج» أي رفع الصوت، و ذبح الهدى

«1».

[7] و حيث ذكر سبحانه أدب المؤمنين مع

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكر تكليف بعضهم اتجاه بعض يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ بخبر فَتَبَيَّنُوا فتعرفوا و تفحصوا هل صدق في خبره أم لا، فإن ظهر أنه كان صادقا رتبوا الأثر عليه و إلا فاتركوا خبره، و إنما أمرنا بالتبيّن ل إِنْ لا تُصِيبُوا قَوْماً بمكروه من جراء خبر ذلك الفاسق بِجَهالَةٍ بجهل منكم بالواقع، اعتمادا على خبر ذلك الفاسق فَتُصْبِحُوا تكونوا عَلى ما فَعَلْتُمْ من الأخذ بخبر ذلك الفاسق و ترتيب الأثر عليه نادِمِينَ

فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث وليد بن عقبة لجمع صدقات بني المصطلق و كان بينه و بينهم عداوة، فلما سمعوا بمجيئه استقبلوه، فظن أنهم يريدون قتاله، و لم يتحقق في الأمر، و إنما رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال إنهم ارتدوا و منعوا الزكاة، فأظهر الرسول الاهتمام بقتالهم، فنزلت الآية الكريمة

، هكذا في بعض الروايات غير النقية السند، و في بعض الروايات الأخر، أنها نزلت في بعض أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين اتهمت ماريا بالزنى، و الظاهر أنه لا منافاة بين الأمرين، لأن الآية عامة تشمل كل ما كان كذلك، فهما مصداقان، و يمكن نزولها مرتين، كما في بعض الآيات حيث نزلت مرتين، حالها

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 12 ص 378.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 202

[سورة الحجرات (49): آية 7]

وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)

حال

ما إذا رأيت إنسانا يظلم فتقول له «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ...» و إذا رأيت آخر يظلم، تقرأ له نفس الآية، ثم لا يقال كيف أرسل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفاسق لجمع الصدقات؟ ثم كيف همّ بقتالهم مع أن العقلاء لا يعتمدوا على خبر الفاسق، و الجواب أن فسقه لم يكن ظاهرا قبل ذلك، بل أظهره القرآن، و الرسول أظهر إرادة القتال، لا إنه أراد أن يقاتل واقعا و كثيرا ما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يظهر شيئا لمصلحة، و إن كان لا يريده واقعا، و قد كان إظهار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأن بعض الصحابة أشار إليه بحرب بني المصطلق كما ورد في التفاسير «1».

[8] و لذا قال سبحانه وَ اعْلَمُوا أيها المسلمون أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ فلا تسيئوا الأدب معه، بالكذب عليه، كما كذب الوليد، و لا تشيروا عليه بما تشتهون، كما أشرتم إليه بحرب بني المصطلق، فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ من الأمور التي تشيرون عليه بها، ف «الأمر» اسم جنس لَعَنِتُّمْ لوقعتم في العنت، لأن كل أحد يأتي إليه، و يقول له ما يرى هو من نظرته الخاصة، بينما الرسول لا يعمل إلا بما يصلح العموم، كما هو شأن الكبراء حيث يلاحظون المصلحة العامة، و إلا فهذا يقول ضد ذلك، و ذلك يقول ضد هذا، و كل يريد تنفيذ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يشير به إليه، و من المعلوم أن ذلك يوجب مشقة المسلمين، لأن معنى سماع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

كلامهم، أن يطرد هذا و يعاقب هذا، و هلم جرا، ثم بين سبحانه، أن ترك إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 9 ص 220.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 203

[سورة الحجرات (49): آية 8]

فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

للمؤمنين الذين يشيرون إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بآرائهم، لا يسبب لأولئك المؤمنين كراهية للإيمان أو للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإن العادة عند الناس أن كبراءهم إذا لم يقضوا حوائجهم كرهوهم، بل أحيانا صاروا ضد أولئك الكبراء، لكن المؤمنين ليسوا كذلك، فليس التفافكم أيها المؤمنون حول الرسول، لإطاعته لكم و لأخذه بأقوالكم وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ و صرتم تحبون الإيمان حتى صرتم تحبون الرسول، و إن لم يأخذ بنصائحكم و إرشاداتكم وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ قد يكون الشي ء محبوبا لكنه غير مزين، كولد الإنسان القبيح المنظر، و قد يكون محبوبا و جميلا، كولده الجميل، و هكذا الإيمان محبوب و جميل، و ذلك حيث خلق اللّه فطرة الإنسان، بحيث يحب المحبوب و يرى جمال الجميل، و لذا نسب الفعلين «حبب ... و زين» إلى نفسه تعالى وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ جعله مكروها وَ الْفُسُوقَ أي الكذب، و قرينة «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ» و أصل الفسوق الخروج، و يسمى الفاسق فاسقا لخروجه عن الطاعة وَ الْعِصْيانَ كل معصية و أُولئِكَ الذين يحبون الإيمان و يكرهون الكفر و العصيان هُمُ الرَّاشِدُونَ لهم رشد عقلي، حيث يحبون الجميل، و يكرهون القبيح.

[9] حبب اللّه إليهم الإيمان، و كره إليهم الكفر و العصيان فَضْلًا مِنَ اللَّهِ زيادة على أصل خلقتهم و إعطائهم النعم

المادية، و إنما تفضل اللّه ذلك عليهم، دون الكافرين و العصاة، لأنهم تهيئوا لاستماع كلام اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 204

[سورة الحجرات (49): آية 9]

وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)

و سلكوا طريق العقل و الفكر وَ نِعْمَةً الإعطاء فضل، و المعطي- بصيغة المفعول- نعمة، تسبب أن ينعم بال الإنسان وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الملتفين حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لذا جعل بعضهم بحيث حبب إليهم الإيمان و كره إليهم الكفر و العصيان حَكِيمٌ يضع الأشياء موضعها و يعطي كل ذي حق حقه.

[10] و حيث كان الانسياق وراء قول الوليد يوجب اقتتال المؤمنين، بعضهم مع بعض، لكن اللّه عصم رسوله، فلم تقع مثل هذه الحرب، كأن الكلام محل سؤال أنه إذا وقعت مثل هذه الحرب فما ذا هو التكليف؟

و قد أجاب القرآن عن ذلك بقوله وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الجمع باعتبار المعنى، فإن كل طائفة تتكون من جماعة من الأفراد فَأَصْلِحُوا أيها المسلمون الخارجون عن المعركة بَيْنَهُما بالنصيحة و الدعوة إلى الكف عن القتال و التصالح فيما بينهما فَإِنْ لم تقبل إحداهما النصح بل بَغَتْ من البغي بمعنى الظلم و التعدي إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى و هذا هو الغالب أن تكون إحداهما باغية ظالمة، فإن قوله «فإن بغت» ليس المراد به أنه ليس من أول النزاع باطل و حق، إذ لا يعقل حقان متقاتلان، بل الجاهل منهما ببطلانه، يظهر له جهله في الأثناء، و يعلم أنه باغ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي

حَتَّى تَفِي ءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ بالكف عن القتال و الرجوع إلى الوحدة الإسلامية فَإِنْ فاءَتْ و تركت القتال و استعدت لأن تقبل حكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 205

[سورة الحجرات (49): الآيات 10 الى 11]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

الإسلام في العداء الذي وقع بينها و بين الطائفة الأخرى فَأَصْلِحُوا أيها المؤمنون الخارجون عن المعركة بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ فإن الإصلاح يمكن أن يكون بالجور، بأن تقبل الطائفة الأضعف بما يوجب هضم بعض حقها وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ الذين يحكمون بالقسط و قد ورد في بعض التفاسير أن الآية نزلت في قتال حدث بين الأوس و الخزرج بالسعف و النعال، و كان ذلك في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأصلح بين الجانبين «1»، و لا يخفى أن ما ورد في تأويل الآية بقتال الإمام في البصرة، لا يدل على إيمان من حاربه، إلا بالمعنى العام للإيمان، إذ كثير ما يطلق الإيمان على الظاهري منه.

[11] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الإيمان فكما أن الأخ النسبي يحنو على أخيه كذلك المؤمن يحنو على المؤمن فَأَصْلِحُوا أيها المؤمنون بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إذا حدث بينهما شقاق و شجار وَ اتَّقُوا اللَّهَ خافوه فلا تنازعوا، و إن تنازع اثنان منكم فلا تتركوهما أعداء بل أصلحوا بينهما لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فإن المتقي لا يعلم هل يموت

على التقوى و هل يبقى على التقوى في مستقبل عمره، فكونه مرحوما ليس مقطوعا به، بل لعله يرحم.

[12] و إذ كان المؤمنون إخوة، فاللازم عليهم أن لا يفعل البعض ما يسي ء

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 220.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 206

إلى البعض الآخر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ رجال من رجال عَسى أَنْ يَكُونُوا أولئك الذين سخر منهم خَيْراً مِنْهُمْ من الساخرين، و عسى بمعنى لعل، و هذه العلة لتأكيد النهي، و إلا فالسخرية محرمة عقلا و شرعا، حتى بالنسبة إلى المساوي و الأدون وَ لا تسخر نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى لعل أَنْ يَكُنَ تلك المسخر منهن خَيْراً مِنْهُنَ من الساخرات و

في الصافي عن القمي أنها نزلت في عائشة و حفصة حيث كانتا تسخران من صفية و تقولان لها يا بنت اليهودية فشكتهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال لها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قولي لهما أبي هارون نبي اللّه و عمي موسى كليم اللّه و زوجي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسول اللّه، و لما قالت لهما ذلك، قالتا: علمك هذا رسول اللّه

«1» وَ لا تَلْمِزُوا لا تعيبوا باللسان أو بالإشارة أَنْفُسَكُمْ لأن عيب الآخرين، من المؤمنين عيب على النفس، لأن المؤمنين وحدة واحدة، كما قال تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ التنابز باب المفاعلة من النبز بمعنى أن يجعل كل واحد منهما للآخر لقبا سيئا، و النبز حرام، و إنما جاء بلفظ التنابز للدلالة على أن النبز لا بد و أن ينتهي إلى المنابزة بِئْسَ الِاسْمُ أي العلامة لأنه مشتق من

الوسم الْفُسُوقُ الخروج عن طاعة اللّه، بأن كانت علامة المؤمن الفسوق

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 321.

(2) النساء: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 207

[سورة الحجرات (49): آية 12]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

بَعْدَ الْإِيمانِ بعد أن آمن و صار شعاره و اسمه «المؤمن» ثم يصبح شعاره و اسمه «الفاسق» لأنه فعل ما نهى اللّه عنه وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ عن ما ارتكبه من المعصية فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم حيث أنهم عصوا ثم لم يتوبوا، أما من تاب بعد عصيانه فلا يستحق أن يسمى ظالما.

[13] و بعد أن نهى المسلمون من التقاتل، نهوا عن الاستهزاء و اللمز و النبز، و من الواضح أن كل مرتبة متأخرة أنزل من المرتبة السابقة، و لذا جاء السياق لينهي عن الأنزال من تلك أيضا و هو سوء الظن، فقال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ أي الظن السيئ و إنما قال كثيرا لأنه لا بد و أن يوجد في الكثير من الظن السيئ الظن المحرم، بخلاف قليل الظن فإنه بما لا يكون فيه المحرم، بالإضافة إلى أن قليل الظن ليس تحت اختيار الإنسان فإنه حالة نفسية قد تأتي بدون الاختيار فلا يمكن النهي عنه، أما كثير الظن فإنه تحت الاختيار إذ الكثرة لا تحصل إلا بالتتبع و الانسياق وراء الإنكار، و إنما نقول اجتنبوا كثيرا من الظن ل إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ و قد قرر في علم أصول الفقه وجوب الاجتناب من أطراف الشبهة

المحصورة فإذا كان بعض الظن إثما وجب الاجتناب من الأطراف المحتملة لذلك، و الظن السيئ إما حرام بنفسه، و إما حرّم لأنه مقدمة للعمل المحرم، إذ الذي يظن سوء غالبا ما يرتب الأثر العملي على ظنه السيئ وَ لا تَجَسَّسُوا لا تبحثوا عن عورات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 208

[سورة الحجرات (49): آية 13]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

المسلمين و أمورهم الخفية وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، و لو بالإشارة أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فالغيبة بمنزلة أكل لحم الأخ الميت في شدة قبحه و كراهته، و لعل التشبيه من باب أن للأخ ذاتا و ذكرا فكما أن قطع قطعة من لحمه و لوكها في الفم قبيح كذلك قطع قطعة من ذكره «عرضه» و لوكها في الفم كذلك، و قد جعل كونه غائبا مثل كونه ميتا في عدم شعور كليهما بما يصنع بلحمه و بذكره فَكَرِهْتُمُوهُ فكما كرهتم أكل لحمه أكرهوا أكل عرضه وَ اتَّقُوا اللَّهَ خافوه في عصيانه، و إذا اتقيتم اللّه و تبتم عما سلف منكم ف إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ كثير قبول التوبة رَحِيمٌ يرحم العباد فلا يعاقبهم بعد توبتهم.

[14] و حيث أن المعاصي السابقة الذكر تنشأ من رؤية الإنسان نفسه أرفع من غيره، بيّن سبحانه أن لا رفعة لأحد على أحد إلا بالتقوى، و إذا حصلت التقوى امتنع الإنسان عن تلك المعاصي يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى آدم و حواء عليهما السّلام أو أب و أم كل فرد،

فلا تفاضل في أصل الخلقة وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً تجتمعون تحت عنوان واحد، كاللغة و المدنية و اللون و نحوها وَ قَبائِلَ تجتمعون في أب تتشعب القبيلة و تنحدر منه، و هذان أيضا لا يوجبان التفاضل، و إنما جعلناكم شعوبا و قبائل لِتَعارَفُوا لأجل أن يتعرف بعضكم على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 209

[سورة الحجرات (49): آية 14]

قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

بعض بسبب القبيلة، أو بسبب أنه من الشعب الفلاني إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أكثركم تقوى فمن أراد الرفعة عند اللّه فليجدّ في أن يكون أكثر تقوى من الآخرين، و كلما زاد الإنسان تقوى زاد كفاءة، منتهى الأمر أن الكفاءة عند أهل الدنيا، عبارة عن الكفاءات الدنيوية فقط، و عند اللّه هي الكفاءات الدنيوية بالإضافة إلى الكفاءات الأخروية، لأن الإسلام دنيا و آخرة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكل أموركم خَبِيرٌ و الخبير فوق العليم، لأنه عبارة عن العلم و التجربة، فالذي تعلم الطب و لم يجرب لا يسمى خبيرا، بخلاف ما إذا جرب، و المراد به في اللّه سبحانه أنه في غاية العلم و الإدراك، فمن أطاعه علم ذلك و جزاه و من عصاه علم ذلك و أخزاه.

[15] و إذ تقدم شرائط الإيمان، بالانتهاء عن كل معاصي اللّه تعالى، حتى من مثل الظن الباطني، ذكر سبحانه أن الذي لم يشتمل على هذه الشرائط لا يحق له أن يقول آمنت قالَتِ الْأَعْرابُ هم أهل البادية- كما تقدم الكلام في ذلك- آمَنَّا بك يا رسول اللّه و بما جئت به

قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا لعدم توفر شرائط الإيمان فيكم وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام هو الانقياد و الدخول في السلم و إظهار الشهادتين، و هذه كانت موجودة في الأعراب وَ لَمَّا و بعد لم يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ لأنه إذا دخل القلب حصلت الطاعة بجميع أوامر الإسلام، و لا يخفى أنه قد يطلق الإيمان و يراد به

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 210

[سورة الحجرات (49): الآيات 15 الى 16]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (16)

الإسلام، و قد يطلق على الأخص من الإسلام وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في كل أمر و نهي لا يَلِتْكُمْ لا ينقصكم مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً بل يعطي أجوركم كاملة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لسابق الذنوب رَحِيمٌ بعباده يتفضل عليهم زيادة على غفران ذنوبهم، و قوله «لا يلتكم» تشويق للأعراب أن يؤمنوا زيادة على إسلامهم.

[16] و إنما لم يدخل الإيمان في قلوب الأعراب بعد، لأن المؤمن الصادق هو الذي كانت له صفات خاصة مما لا تتوفر في هؤلاء الأعراب ف إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ هم الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ إيمانا من عمق قلوبهم ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكوا في صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة اللّه و لإنقاذ المستضعفين من براثن المستنكرين، و كان الإنقاذ لأجل أمر اللّه أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في دعواهم الإيمان، و إنما قال سبحانه «ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا»

لأن كثيرا ممن أسلموا كانوا يشكون حين ما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأمرهم بأمر لا يلائم أذواقهم.

[17] و إذا كان لكم إيمان صادق فاللّه يعلم ذلك، بدون أن تقولوا بأفواهكم آمنتم فلا حاجة إلى قولكم، بل اللازم واقع الإيمان قُلْ لهم يا رسول اللّه أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي تخبرونه بقولكم: آمنا؟ و هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 211

[سورة الحجرات (49): الآيات 17 الى 18]

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

استفهام إنكاري وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهل من يعلم كل شي ء يخفى عليه إيمانكم- إن كان لكم إيمان- حتى يحتاج إلى إخباركم بأنكم آمنتم؟ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و هذا أعم من «يعلم ...» لأن الأول يشمل الموجودات فقط، و هذا يشمل حتى غير الموجودات، قال بعض المفسرين روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاءوا و حلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية «1».

[18] و إذا كان اللازم أن لا يتفوه الإنسان بأنه مؤمن، لأن اللّه لا يحتاج إلى ذلك بل هو عليم بكل شي ء، فمن اللازم المؤكد أن لا يمنّ الإنسان بإيمانه يَمُنُّونَ عَلَيْكَ يا رسول اللّه أَنْ أَسْلَمُوا فيعدون إسلامهم عليك منّة قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ فأنتم الذين انتفعتم بإسلامكم، لا أنا بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ لأنه أكبر إعطاء من اللّه للإنسان حيث يبصر بسببه طريقه في الدنيا و يسعد به في الآخرة، و معنى المنة أنه أحسن إليه إِنْ

كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإيمان، و إلا فعدم منة اللّه، من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

[19] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ما غاب عن الحواس فيهما

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 232.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 212

فكيف يخفى عليه إيمانكم؟ و كيف يخفى عليه صدقكم و كذبكم في الإيمان؟ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فهو يرى قلوبكم التي فيها الإيمان و التي ليس فيها الإيمان، و يرى أعمال جوارحكم التي تأتون بها حسب إيمانكم أو حسب عدم إيمانكم، فلا يخفى عليه سركم و لا علنكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 213

50 سورة (ق) مكية/ آياتها (46)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذا اللفظ: «ق» و هي كباقي السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة و لما ختمت سورة الحجرات بأحوال المنافقين و أشباههم، افتتحت هذه السورة بأحوال الكافرين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الذي من تمسك به كان من الناجين و من انحرف عنه بكفر أو نفاق كان من الهالكين «الرحمن الرحيم» الذي يرحم تفضلا في إيجاد الإنسان، ثم يرحم في إعطائه ما يحتاج إليه من الأمور المادية و المعنوية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 214

[سورة ق (50): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ (2) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)

[2] ق

ورد عن الصادق عليه السّلام أن «ق» هو الجبل المحيط بالأرض و خضرة السماء منه و به يمسك اللّه الأرض أن تميد بأهلها

«1». أقول:

إن الأمواج المحيطة بالأرض مما يشملها الهواء، سميت بالجبل، لأنها مثله في الارتفاع و الشموخ، و من المعلوم أن تراكم الذرات في هذا

الجو السيّال يسبب لونا خاصا، هو لون السماء، و لو لا هذا الغلاف الجوي لهلك الإنسان، لما تكون الأرض معرضا لتساقط الأحجار، ملايين الأحجار من الجو- كما ثبت في العلم الحديث- و قد تقدم الكلام في فواتح السور و في إعرابها وَ الْقُرْآنِ قسما بالقرآن الْمَجِيدِ ذي المجد أي العظمة و الشرف، و جواب القسم محذوف أي قسما بالقرآن المجيد، أنه حق، بقرينة ما بعده- و هناك احتمالات أخر مذكورة في التفاسير.

[3] بَلْ عَجِبُوا الكفار أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ هو الرسول الذي ينذرهم من عاقبة كفرهم مِنْهُمْ من جنسهم لا من جنس الملائكة و الجن، و المراد بالمنذر هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَقالَ الْكافِرُونَ هذا كون النبي منذرا من قبل اللّه تعالى شَيْ ءٌ عَجِيبٌ هو الشي ء الذي لم يألفه الإنسان و لم يتوقعه.

[4] و حيث كان أنذرهم بالعاقبة السيئة بعد الموت قال الكفار- بصدد بيان تعجبهم- أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً لأن الميت بعد زمان من موته يتحول إلى تراب، أ نرجع أحياء، كما يقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ و قد حذف جواب

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 89 ص 373.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 215

[سورة ق (50): الآيات 4 الى 5]

قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

«إذا» لوضوحه ذلِكَ الذي يقوله محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من الرجوع أحياء رَجْعٌ بَعِيدٌ يبعد في نظرنا أن يكون له حقيقة.

[5] و لماذا بعيد هل لأنا لا نقدر على الإعادة؟ و جوابه: أن الذي يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة

أو لأن أجزائه تنتشر في الأرض، و لا نتعرف أين سقطت تلك الأجزاء؟ و جوابه قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكل من أجسادهم إذا ماتوا، فإذا علمنا ما تأكل الأرض من لحومهم و عظامهم و سائر أجزائهم، مع أن أكل الأرض شي ء لا يراه حتى من ينظر، فكيف لا نعرف أجزاءهم المبعثرة بعد تحولها إلى تراب وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ يحفظ كل شي ء، و هو اللوح المحفوظ، و من المعلوم أنه سبحانه لا يحتاج إلى الكتاب، و إنما ذكر ذلك لتقريب أذهان الكفار، و في ذلك الكتاب يحفظ خصوصيات الإنسان الحي، و الأجزاء المبعثرة من الميت فإذا أريد بعث الميت أعيد بدون زيادة و لا نقيصة، بتلك الخصوصيات و المزايا التي كان له حال الحياة.

[6] بَلْ إنهم زادوا على التعجب، بأن كذبوا بالحق، فلم يقفوا على الشك و التردد، مع أنهم لا حجة لهم في هذا التكذيب لأنهم في أمر مضطرب فقد كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ و هو الرسول و القرآن، و ما جاء به الرسول من العقيدة و الشريعة، و تكذيبهم بدون دليل أفظع من تعجبهم السابق- و لذا قال سبحانه «بل» فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 216

[سورة ق (50): الآيات 6 الى 8]

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)

فتارة يقولون أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاعر، و تارة كاهن و تارة مسحور، و تارة ساحر، و تارة يعلمه بشر، و ذلك

يدل على أنهم لا يستندون إلى حجة.

[7] أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا باللّه، و بقدرته على البعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ ألا يدل ذلك على الإله العليم و القدير؟ و هل من علمه و قدرته إلى هذا الحد ألا يقدر على البعث؟ كَيْفَ بَنَيْناها؟ فإن نظام تسيير الكواكب الدقيق من أغرب البناءات وَ زَيَّنَّاها بالكواكب وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ فرجة خالية عن النظام، و الدليل على عدم الفرجة، أن الكواكب تسير بانتظام معين على طول الزمان، و لو كان مكان في السماء بدون نظام كان الكوكب إذا وصل إليه سبّب اضطرابه، و لكن هذا ما ليس بموجود.

[8] وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها، فهي مدورة لا مثل الإبرة و الهرم و ما أشبه مما ليس قابلا للسكنى وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جمع راسية، و هي الجبل، أي الجبال الثابتة، و الإلقاء بمعنى الخلق من قبيل قولهم «ضيق فم الركية» فليس المراد الإلقاء بعد خلق الأرض، و لو لا الجبال لتفتت الأرض في دورانها السريع وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ من كل صنف بَهِيجٍ يبتهج به الإنسان و يفرح عند النظر إليه، لحسنه و جماله.

[9] و إنما فعلنا كل ذلك تَبْصِرَةً ليتبصر به وَ ذِكْرى و ليتذكر به لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه عن غفلته مفكر في بدائع خلقه، و الفرق بين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 217

[سورة ق (50): الآيات 9 الى 11]

وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)

التبصرة و التذكرة، أن الأولى لمن لا يعرف فيكون ما خلق سبب عرفانه،

و الثانية لمن عرف و نسي فيكون ما خلق سبب تذكرته.

[10] وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً المطر مُبارَكاً كثير البركة، و البركة من «برك» بمعنى ثبت و دام فإن ماء السماء دائم لأنه يختزن في فجاج الأرض فيكون عيونا و أنهارا، فينتفع به الإنسان طول حياته فَأَنْبَتْنا بِهِ بماء السماء جَنَّاتٍ بساتين للجمال و الانتفاع بمختلف الانتفاعات وَ حَبَّ الْحَصِيدِ حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد، كالحنطة و الشعير و غيرهما.

[11] وَ أنبتنا به النَّخْلَ باسِقاتٍ أي طوالا، و المراد بالنخل جنسه، و لذا جاءت صفته جمعا لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض، و الطلع وعاء الثمر.

[12] أنبتناها رِزْقاً لِلْعِبادِ و الرزق يشمل الرؤية أيضا، لأن كل ما يعطيه اللّه للإنسان مما يتمتع بمنظره أو بشمه أو بأكله أو بلبسه أو غير ذلك، فهو رزق، و المراد بالعباد أعم من الإنسان و الحيوان، لأن كل ذي روح عبد للّه وَ أَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء الذي أنزلناه من السماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا ميتة لا زرع فيها و لا ما يتبع الزرع من الإنسان و الحيوان، و حياة الأرض تحركها و التحرك عليها، و سمى الأرض بلدة، مجازا بالمشارفة لأن الماء يجعل الأرض بلدا كَذلِكَ كما أخرجنا من السماء الماء و من الأرض النبات الْخُرُوجُ تخرجون أنتم من قبوركم عند بعثكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 218

[سورة ق (50): الآيات 12 الى 15]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ (12) وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ (13) وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

[13] و

إن كذبك هؤلاء الكفار، يا رسول اللّه، فلا تغتم، فإنا سوف نجازي المكذبين كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قبل كفار مكة قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِ الذين رسوا نبيهم في الأرض و أقبروه حيّا، و كانت مدنهم بين إيران و روسيا، و كانوا على نهر يسمى إلى اليوم بنهر «أرس» و تفصيل القصة مذكورة في قصص الأنبياء و في التفاسير كتفسير الصافي في سورة الفرقان «1» وَ ثَمُودُ قوم صالح عليه السّلام.

[14] وَ عادٌ هم قوم هود عليه السّلام وَ قوم فِرْعَوْنُ فإنه قد يطلق اسم الكبير على كل قومه وَ إِخْوانُ لُوطٍ عليه السّلام و لعل التعبير بالإخوان لأجل التفنن البلاغي، كما أن الظاهر أنه لأجله، اختلف التعبير بقوم و أصحاب، و ذكر فرعون، إلى غير ذلك.

[15] وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الغيضة و هم قوم شعيب عليه السّلام وَ قَوْمُ تُبَّعٍ و حيث سبق تفاصيل قصص هؤلاء لم نكررها كُلٌ كل هؤلاء كَذَّبَ الرُّسُلَ المرسلة إليهم فَحَقَ فثبت و حل وَعِيدِ و عيدي عليهم بالعذاب، و في هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تهديد لهم.

[16] أَ فَعَيِينا هل عجزنا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي هل أصابنا العجز بعد أن خلقنا الخلق أولا، و في بعض التفاسير أ فعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟ «2» لكن المتبادر من الآية ما ذكرناه بَلْ هُمْ لا ينكرون

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 4 ص 13.

(2) مجمع البيان: ج 9 ص 239.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 219

[سورة ق (50): الآيات 16 الى 17]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ

قَعِيدٌ (17)

أنا لم نعجز عن الخلق الأول و إنما ينكرون البعث لأنهم فِي لَبْسٍ و اشتباه و التباس مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ فليس إنكارا للسابق و إنما شكا بالنسبة إلى اللاحق، و يحتمل أن يراد ب «لبس» أي لباس، لأن خلايا الإنسان تتبدل كل آن فهم على طول الزمان في خلق جديد فمن يعرف كونه يبعث كل آن كيف ينكر البعث في الآخرة.

[17] إننا نعلم أن الإنسان ينساق وراء وساوس نفسه في البعث، مع أن اللازم أن ينساق وراء الدليل و البرهان وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فمنا البدء و منا الإعادة وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ من إنكار البعث و غيره وَ كيف لا نعلم وساوس نفسه و الحال أنا نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الوريدان هما العرقان المكتنفان بصفحتي العنق في مقدمه، و إضافة الحبل إليه للبيان، أي الحبل الذي هو وريد، و معنى قربه سبحانه قربه علما و اطلاعا، فإن اللّه لا مكان له، و لعل ذكر حبل الوريد، لأنه مربوط بالقلب و بالمخ فهو وسط بينهما، و لا أقرب منه إلى الإنسان، الذي إنسانيته بمخه و قلبه.

[18] نحن أقرب إِذْ في الزمان الذي يَتَلَقَّى يأخذ و يسجل الْمُتَلَقِّيانِ الملكان الموكلان بالإنسان لحفظ أعماله و أفكاره، فالمراد أنه غني عن الملكين لأنه أقرب إلى الإنسان منهما، إلا أنه تعالى حيث جعل الدنيا دار الأسباب، جعلها سببا لحفظ الأعمال، كما جعل عزرائيل سببا لقبض الأرواح عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 220

[سورة ق (50): الآيات 18 الى 20]

ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَ

نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)

فإن أحدهما في طرف اليمين و الآخر في طرف الشمال، ملازم للإنسان كالقاعد إلى جنبه.

[19] ما يَلْفِظُ الإنسان مِنْ قَوْلٍ و ذكر اللفظ من باب المثال، و إلا فكل عمل للإنسان بل و كل فكر له مراقب، إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ يراقبه و يحفظه، و هو الملكان، و حيث أنه أراد جنس الرقيب لم يأت بصيغة التثنية عَتِيدٌ مهيأ حاضر لا يشتبه.

[20] وَ هكذا تستمر رقابة الملكين للإنسان إلى أن جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ إليه فإن للموت سكرة تغطي عقله كالسكران بِالْحَقِ بالذي قاله الأنبياء من حقائق الآخرة، و التي كان ينكرها الكفار، فيرونها معاينة عند موتهم، و يقال لهم حينذاك و ذلِكَ المجي ء ما كُنْتَ أيها الإنسان مِنْهُ تَحِيدُ تفي ء، فالآن قد وصلت إليك حيث لا ينفعك الندم و التوبة.

[21] و بعد ذلك وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فكما أنه إذا أريد جمع الناس نفخوا في الأبواق إعلاما لهم حتى يجتمعوا كذلك إذا أراد جمع الخلائق و إحيائهم للبعث، و لعله سمي صورا لخروج صور الناس منه، كما ورد في الحديث، أن للصور ثقبا بعدد الخلائق، فتخرج النفوس منها عند البعث ذلِكَ اليوم يَوْمُ تحقق الْوَعِيدِ الذي وعدناه في الدنيا، فقد كنا وعدنا المؤمن بالثواب و الكافر بالعقاب، و في هذا اليوم يرون ذلك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 221

[سورة ق (50): الآيات 21 الى 24]

وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)

[22] وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ يسوقها إلى محشرها

وَ شَهِيدٌ يشهد عليها بما عملت في الدنيا، و الظاهر أن المراد جنس الشهيد، فيشمل «المتلقيان» الذي سبق.

[23] و يقال له حينذاك لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ فعدم الاستعداد الكامل لهذا اليوم جهلا أو عنادا غفلة مِنْ هذا اليوم فلم تستعد له فَكَشَفْنا الآن عَنْكَ غِطاءَكَ الذي كان مانعا عن رؤية الآخرة و الاعتقاد بها فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ نافذ إلى الآخرة يراها بعد أن كان عليه غطاء يمنع عن رؤيتها، و لا يبعد أن تكون الدنيا و الآخرة متداخلتين تداخل العطر و الماء في الورد لا يحس بالآخرة المنهمك في المحسوسات، و قد ذكرنا ذلك في كتاب «حول القرآن الحكيم».

[24] وَ قالَ حينذاك قَرِينُهُ الملك الشاهد عليه الذي كان قرينه في دار الدنيا و شاهدا على أعماله هذا دفتر عمله ما لَدَيَ مما سجلته عليه عَتِيدٌ مهيأ لا يحتاج إلى حساب جديد، مثل دفاتر التجار التي لا تحتاج إلى جمع الأرقام و الأجناس، بل مهيأ حاضر.

[25] ثم يخاطب السائق و الشهيد، من قبل اللّه تعالى و يمكن أن يكون المراد من «قرينه» الشيطان المقترن معه، يقول هذا الكافر الذي عندي مهيأ للنار، يقوله على سبيل الاستهزاء به و هذا المعنى أنسب إلى السياق في ما يأتي من حكم «قرينه» كما أن المعنى الأول أنسب إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 222

[سورة ق (50): الآيات 25 الى 26]

مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26)

ظاهر الآية مع الغض عما يأتي و اللّه العالم، أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ «إنما أتي بصيغة المبالغة» و لم يقل كافر، دلالة على أن كل كافر كفار، لأن استمراره في الكفر أوجب شدة

كفره عَنِيدٍ معاند للحق، لأن غير المعاند الذي كفر عن جهل ليس مقامه جهنم، و في دعاء الكميل «أن تخلد فيها المعاندين» و إلا فلو كان غير معاند يمتحن يوم القيامة، كما ورد في جملة من الروايات الواردة في من كان في الفترة بين الرسل و طفل الكافر و المجنون إلى غير ذلك.

[26] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كما هي صفة الكفار العنيد، يمنع عن إسلام أحد و عن أن يوصل أحد إلى المسلمين بخير، و الخير جنس شامل لكل خير مُعْتَدٍ متعدّ عن حدّه، و هي صفة ثانية ملازمة للكفار العنيد مُرِيبٍ كثير الريب و الشك و هذه صفة ثالثة له إذ المعاند دائما في ريب و وسواس، كما يظهر ذلك لمن راقب أحوال المعاندين، فإن كبرياء المعاند الذي يلازمه يجعله يشك دائما في أصدقائه و أصحابه لئلا يميلوا إلى الحق، و هكذا هو شأن كل مستكبر و مستعلي.

[27] الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بيان للكفار، و يشمل ما إذا كان ملحدا لا يعترف باللّه، لأن معبوده مهما كان «حتى إذا كان هواه» فهو إليه مجعول مع اللّه و ما إذا كان مشركا، لأنه أشرك باللّه غيره فَأَلْقِياهُ أيها الشاهد و السائق فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ شدته، لأجل شدة كفره و عناده، و تكرار «ألقيا» للدلالة على استحقاقه، حتى لا يتوهم متوهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 223

[سورة ق (50): الآيات 27 الى 29]

قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)

أنه ليس بمستحق، كما تقول أضرب زيدا أضربه، فإن الثاني لإفادة قطعية

استحقاقه.

[28] و هنا يأخذ الكافر و الشيطان القرين له في التنازع الكافر يقول للشيطان أنت كنت سبب ضلالي و الشيطان يرد عليه بأنك كنت ضالا بنفسك و إنما أنا أعنتك فقط قالَ قَرِينُهُ الشيطان المقترن معه كما قال سبحانه نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «1» لوضوح أن الجنس يميل مع جنسه رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أنه ما سببت طغيانه، فلا تعذبني عذاب من أضل غيره وَ لكِنْ كانَ الكافر بنفسه فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي بعيد عن الحق، لأن الضال إذا كان قريبا من الجادة رجي أن يهتدي إليها، أما الضال البعيد عن الجادة، فلا يرجى هدايته، فهناك مخاصمة بين الشيطان و الكافر كلّ يلقي اللوم على الآخر.

[29] و يجيبهم اللّه، بأنه لا تنفع الخصومة، و إنما لكلّ قسطه من العذاب قالَ اللّه لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ في موقف الحساب، فإنه لا فائدة فيها وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ في كتبي المنزلة و على لسان أنبيائي المرسلين بِالْوَعِيدِ و أن من عصى كان جزاءه جهنم، و كلاكما عاصيان، و لا حجة لكما.

[30] ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ فلا يقع الخلف في وعيدي بإدخال الكافر

______________________________

(1) الزخرف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 224

[سورة ق (50): آية 30]

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

المعاند النار، و كذلك بإدخال الشيطان الذي أغواه، أما إدخال المذنب من المؤمنين الجنة بالشفاعة و نحوها، فليس من تبديل القول، لأن عذابه مشروط بعدم الشفاعة و نحوها، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فليس عذابي إياكما ظلما و إنما قال «ظلام» لأن العذاب إذا كان ظلما كان ظلما فظيعا لكثرة العذاب و استمراره، و يمكن أن تكون الصيغة للنسبة،

لا للمبالغة، كما قال ابن مالك:

و مع فاعل و فعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل.

[31] كل هذه الكلمات مع الملك و مع الشيطان و بين الشيطان و الكافر يكون يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ و الظاهر أن السؤال حقيقي، فإن لكل شي ء حالة تعقّل و إدراك مع اللّه، كما يظهر من متواتر الآيات و الروايات، و أيده العلم الحديث، و إن كانت إدراكاتها تتفاوت، و يكون إدراك الإنسان فوق كل إدراك فلا يقال أن العقل خاص بالإنسان، إذ ينقض ذلك بالحيوان الذي لا إدراك و لا عقل له، و الظاهر أن سؤال جهنم، إنما هو لبيان جوابها الموجب لهول الكفار أكثر فأكثر، فإنه فرق بين أن تقول للمجرمين لي «حية» تلدغكم جميعا، و أن تسأل الحية، و تجيب هي، فإنه أشد هولا للمجرم وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ «مزيد» مصدر ميمي بمعنى الزيادة، أي أن لي متسعا يتسع لكل زيادة، و هذا لأجل التهويل، فإنه فرق بين أن تلقي المجرم في نار مساحتها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 225

[سورة ق (50): الآيات 31 الى 33]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)

عشرة أذرع، أو في نار مساحتها ألف ذراع فإن الكثرة تلقي في النفس رهبة، و إن كانت نتيجة الاحتراق واحدة «و يحتمل في الآية معنى آخر مذكور في التفاسير».

[32] و حيث عرفنا أحوال الكافر و عاقبته في دخوله النار، فلنعرف أحوال المؤمنين و دخولهم الجنة وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ قربت إليهم، إما من باب «القرب» أي قربوا إلى الجنة، أو أنه حقيقة يؤتى بالجنة إلى قرب المحشر لِلْمُتَّقِينَ

في قبال إلقاء الكفار في النار، في حال كونها غَيْرَ بَعِيدٍ و حيث أن الإنسان لا يذهب إلى العذاب فإنه يلقى فيه أما النعيم فإن الإنسان يذهب إليه و لذا لم يقل «دخل الجنة» بل جاء بما ظاهره التدرج إلى دخولها.

[33] و يقال للمتقين بعد ما يرون الجنة هذا ما تُوعَدُونَ ما كنتم وعدتم به في دار الدنيا لِكُلِّ أَوَّابٍ من آب بمعنى رجع، أي كثير الرجوع إلى اللّه بالتوبة و التذكر، فإنه لحظة غفلة عن اللّه- و لو بالاشتغال بالمباحات- بعد عن قربه سبحانه حَفِيظٍ يحفظ حدود اللّه سبحانه، فجهنم للكافر العنيد، و الجنة للأواب الحفيظ.

[34] و الأواب الحفيظ هو مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فمع أنه يعلم أن اللّه رحمن مع ذلك يخشاه، و إن كان المؤمنون الذين يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر غائبين عنه، فلا يترك العصيان خوفا من الإنسان، و إنما خوفا من اللّه الغائب عنه وَ جاءَ إلى المحشر بِقَلْبٍ مُنِيبٍ من أناب بمعنى تاب، و ليس «منيب» و «خشي» تكرارا، إذ قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 226

[سورة ق (50): الآيات 34 الى 36]

ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)

يخشى الإنسان من شي ء لكنه لا يرعوي و لا يترك ما يخشى منه، فهو «يخشى» و قلبه «منيب» و «يحفظ» حدود اللّه، و «كثير التوبة: أواب» فهي أربع صفات في قبال «الكافر العنيد المناع المريب».

[35] فإذا جاءوها قيل لهم ادْخُلُوها ادخلوا الجنة بِسَلامٍ مع سلامة، إذ ربما يدخل الإنسان المكان الحسن لكن مع صعوبة و عذاب،

أو المراد «سلموا إذا دخلتموها» أو المراد سلام الملائكة لهم ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْخُلُودِ بخلاف أيام الدنيا فإنها ليست للخلود، أما الجنة فإن الإنسان إذا دخلها خلد إلى الأبد.

[36] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها من أنواع النعم، و لا يشتهي الإنسان هناك القبائح، فلا يقال هل تكون هناك حرب أو نحوها مما قد يشتهيها الإنسان في الجنة وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ زيادة على ما يشتهون، مما لا يخطر ببالهم و قد ورد أن في الجنة ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

[37] و إذ قد علم أن للكفار النار و للمتقين الجنة، فليعلم هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بك يا رسول اللّه أن لهم عقابا في الدنيا أيضا، فقد عاقبنا الكفار السابقين الذين كذبوا أنبياءهم وَ كَمْ للتكثير أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء الكفار مِنْ قَرْنٍ أهل قرن، و القرن جزء خاص من الزمان، و أطلق على أهل القرن بعلاقة الحال و المحل، مثل «وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ» هُمْ أولئك القرون أَشَدُّ مِنْهُمْ من قومك يا رسول اللّه بَطْشاً قوة و إفسادا، لأن البطش الأخذ بشدة مثل قوم عاد و ثمود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 227

[سورة ق (50): الآيات 37 الى 38]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)

و غيرهما، و حيث كانوا أكثر بطشا و قوة فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ كأن دخولهم في البلاد تنقيب، لأنهم كانوا يفحصون عن مواضع الثروة و النزهة، كالمنقب الذي يخرق و يثقب الأرض طلبا للمال و الكنز، فإن قوتهم و

بطشهم صار سببا لذلك و لذلك جاء «بالفاء» ف هَلْ كان لهم مع شدة البطش و التنقيب في البلاد مِنْ مَحِيصٍ مهرب و خلاص لهم من اللّه حين أراد إهلاكهم.

[38] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرناه من التخويف بعذاب اللّه في الدنيا و الآخرة لمن كفر لَذِكْرى تذكرة، و ذلك لأن الإنسان بفطرته يعلم كل ذلك، و إنما يكون بيان القرآن تذكرة لمن نسيه أو تناسى عنه لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع، فإن من لا وعي لقلبه، مثل من لا قلب له أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي استمع وَ هُوَ شَهِيدٌ حاضر الذهن ليفهم ما يقال له و يستمع إليه، فقد يكون للإنسان قلب مهيأ، و قد لا يكون له قلب مهيأ لكنه يستمع بانتباه و بذلك يهيئ قلبه، و في كلتا الحالتين، يكون ما ذكرناه تذكرة له، فقد تكون الأرض بنفسها صالحة للزرع، و قد لا تكون لكنها تقبل الإصلاح، فتصلح ثم تزرع، ف «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» كالأول و «أو ألقى ...» كالثاني.

[39] أما و كيف أن هؤلاء الكفار ينكرون البعث و هم يرون خلقنا السابق، و يعلمون أنا لم نتعب لأجله، و دليل عدم التعب استمرارنا في الخلق و في إدارة الكون وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 228

[سورة ق (50): آية 39]

فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (39)

صنوف الخلائق فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اليوم قطعة من الزمان، و إن كان خمسين ألف سنة كما في قوله سبحانه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» و قد دلت بعض التجارب العلمية على أن اكتمال

خلق السماوات و الأرض بهذه الصورة الحالية، استوعب ستة مليارات «كل مليار ألف مليون» من السنوات «سنة بتقديرنا الحاضر» و العلم عند اللّه وَ ما مَسَّنا حتى مجرد المس «و هو ما لا يدخل في الأعماق» مِنْ لُغُوبٍ من تعب و إعياء، و قد زعم اليهود أن اللّه تعالى بدأ الخلق يوم الأحد و انتهى في يوم الجمعة و استراح يوم السبت و استلقى على العرش.

[40] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه عَلى ما يَقُولُونَ من التكذيب بالتوحيد و بالرسالة و بالبعث وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزه اللّه عما لا يليق، مصاحبا تنزيهك بتحميده مما يليق بعظمته، فالحمد ذكر الحسن، و التسبيح التنزيه عن الشي ء، و «الباء» للمصاحبة، و تقديم التنزيه، لوضوح أن الأرض لا تزرع إلا بعد تنظيفها و القلب لا يكون مبعث الخير، إلا بعد تنزيهه عن الصفات السيئة، و كذلك جاءت كلمة التوحيد فأولا «لا إله» نفي الشرك ثم «إلا اللّه» و السرّ أن العدم مقدم على الوجود دائما، و على هذا جرى قوله «و سبح ...» قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حيث يبتدئ يوم جديد بنعمة جديدة وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ حيث انتهى اليوم بسلام

______________________________

(1) المعارج: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 229

[سورة ق (50): الآيات 40 الى 43]

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)

و رحمة و ذلك ما يستحق الشكر.

[41] وَ مِنَ اللَّيْلِ بعض الليل فَسَبِّحْهُ شكرا لمجي ء الليل الموجب لراحة الإنسان وَ سبحه أَدْبارَ السُّجُودِ بعد كل صلاة شكرا لأن وفقك لطاعته و عبادته، و قد

تفسر الإتيان بالصلوات الخمس و الظاهر أنه من باب المصداق.

[42] ثم رجع السياق إلى قصة البعث، حيث أن الكلام كان فيها وَ اسْتَمِعْ يا رسول اللّه يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ للبعث فإن إسرافيل ينفخ في الصور فيبعث الأموات مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بحيث يصل نداءه إلى الكل على حد سواء، فليس النداء قريبا إلى بعض بعيدا عن بعض، كما هي العادة في الدنيا حيث أن النداء من مكان قريب بالنسبة إلى بعض و بعيد بالنسبة إلى آخرين.

[43] يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ يسمع هؤلاء المنكرون كما يسمعه سائر الناس بِالْحَقِ فإن الصيحة مقترنة بالحق، و ليست دعوة باطلة ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور للبعث، ففي الآية الأولى أنت تسمع يا رسول اللّه، و في الثانية هم يسمعون، فيظهر صدقك، و يظهر خسرانهم، و فيهما بشارة للداعي و إنذار للمدعو.

[44] أ فلا يرون إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ فلما ذا ينكرون البعث؟ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ مصدر، أي الصيرورة و الرجوع بعد الموت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 230

[سورة ق (50): الآيات 44 الى 45]

يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)

[45] و ذلك المصير يكون في يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ تنشق قبورهم فيخرجون منها سِراعاً أي مسرعين لما يصيبهم من الهول و الوحشة ذلِكَ الإخراج حَشْرٌ جمع للناس للبعث عَلَيْنا يَسِيرٌ سهل.

[46] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من تكذيبك فلا تهتم لقولهم فإنا سنجازيهم وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ تجبرهم على الإيمان، فإنما أنت داع تدعوهم، فإذا لم يستجيبوا فلك أجرك بدعوتهم، و عليهم وزرهم بعدم الإجابة فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ فالقرآن آلة التذكير مَنْ يَخافُ

وَعِيدِ فإنه هو الذي ينتفع به أما من لا يخاف من الوعيد، فإنه و إن وجب تذكيره، لكنه حيث لا ينتفع به فكأنه لم يذكّر أصلا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 231

51 سورة الذاريات مكية/ آياتها (61)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الذاريات» و هي كباقي السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة بأصولها الثلاثة و لما ختمت سورة «ق» بذكر الآخرة و البعث افتتحت هذه السورة بذلك، بعد القسم بعدة أمور.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم الإله نبدأ السورة، لإفادة أنا تحت هذا الاسم نعمل أعمالنا، و نكرر اسمه المشتق من مادة «رحم» ليكرر رحمته علينا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 232

[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)

إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)

[2] وَ الذَّارِياتِ الواو للقسم أي قسما بالذاريات، و هي الرياح التي تذر التراب و غيره ذَرْواً مفعول مطلق للتأكيد.

[3] فلمجرد الترتيب الكلامي أو لأن الحاملات الأشياء التي تحمل وِقْراً أي حملا ثقيلا سواء كانت تلك الحاملات التي تحمل الأمطار أو السفن التي تحمل الإنسان و غيره أو نحوهما، تسير بسبب الذاريات.

[4] فالسفن أو السحب الجاريات التي تجري في الماء أو الهواء يُسْراً بيسر و سهولة.

[5] فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً قسما بالملائكة التي خلقها اللّه و جعلها تقسم أمور الكون فتجري أمور الكون تحت نظرها.

[6] إِنَّما تُوعَدُونَ من البعث بعد الموت لَصادِقٌ وضع اسم الفاعل موضع المصدر أي صدق، لا بد من وقوعه، و هذا هو جواب القسم، و المناسبة هو أن من خلق الرياح، و المياه، و قرر لكل شي ء قانونا صالحا له، كتقرير قانون سير الأشياء المحملة

بالأثقال بكل يسر، و من خلق الملائكة، و جعل بأيديهم تقسيم أمور الكون على نحو الصلاح و الحكمة، لقادر على إعادة الأموات إلى الحياة، «فإن الأشياء تعرف بأمثالها».

[7] وَ إِنَّ الدِّينَ الجزاء لَواقِعٌ قطعا فيجزي كل إنسان بما عمل إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 233

[سورة الذاريات (51): الآيات 7 الى 11]

وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11)

[8] وَ السَّماءِ أي قسما بالسماء ذاتِ الْحُبُكِ جمع حباك على نحو:

مثل جمع مثال، و هو الطريق الحسن فإن في السماء طرقا، للنيازك و للملائكة و لمسير الشمس و القمر و الكواكب و نزول المطر إلى غير ذلك، و الحلف هكذا لمناسبة قوله تعالى.

[9] إِنَّكُمْ أيها البشر لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ و اختلاف قولهم واضح، و إنما احتيج إلى الحلف لبيان أنهم إنما يصدرون في حكمهم على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه شاعر و كاهن و مجنون و غير ذلك، لا عن دليل و برهان بل عن الهوى، و إلا لم يختلفوا فيه، فهو على حد أن يقول «قسما بالسماء أنتم لستم على شي ء في تكذيب الرسول».

[10] يُؤْفَكُ يصرف عَنْهُ أي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَنْ أُفِكَ أي من صرف عن الحق، أو أن الضمير في «عنه» عائد إلى «الدين» أي عن البعث و الجزاء.

[11] قُتِلَ دعاء عليهم بالقتل، أي أن يقتلهم اللّه الْخَرَّاصُونَ الخراص الذي يخمّن بدون علم، كناية عن أن المنكر للرسول، أو القيامة، خراصون لا علم لهم بالنفي و إنما يخمنون تخمينا.

[12] الَّذِينَ هُمْ

فِي غَمْرَةٍ في ضلال و جهل يغمرهم، كالماء الذي يغمر الإنسان و يستوعبه، كأن الجهل و الضلال شملهم من رأسهم إلى أرجلهم ساهُونَ غافلون عما أمروا به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 234

[سورة الذاريات (51): الآيات 12 الى 17]

يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16)

كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17)

[13] يَسْئَلُونَ على سبيل الإنكار أَيَّانَ وقت و زمان يَوْمُ الدِّينِ أي يوم الجزاء؟

[14] و الجواب عن سؤالهم، أنه يكون يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يحرقون و يعذبون.

[15] و يقال لهم هناك ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ عذابكم الذي هيأتموه لأنفسكم في الدنيا بإنكاركم للّه و الرسول و البعث هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ فقد كان الكفار يقولون إن كان هناك عذاب فائتنا به يا محمد، و هذه الآية تهددهم بأنهم سيصلون إليه.

[16] هذا حال المكذبين، أما حال المصدقين إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ فإنهم يذهبون في العيون للسياحة مقابل أولئك الذين كذبوا حيث أنهم في النار و العذاب.

[17] آخِذِينَ قابلين ما آتاهُمْ أعطاهم رَبُّهُمْ من العطاء و النعيم، بكل رضى و سرور، في مقابل الكفار الذين يصب فوقهم العذاب بكل كره منهم، ل إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ زرعوا في الدنيا الإحسان فأخذوا ثماره في الآخرة الجنان.

[18] و كان من وصفهم في الدين أنهم كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 235

[سورة الذاريات (51): الآيات 18 الى 21]

وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (19)

وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21)

الهجوع النوم، أي قليلا من الليل ينامون، ف «ما» زائدة، أو المراد قليلا من الليل لا ينامون، ف «ما» نافية.

[19] وَ بِالْأَسْحارِ أي في الأسحار، و السحر هو الثلث الأخير من الليل هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يطلبون الغفران من اللّه، و لفظ «هم» لإفادة الحصر، أي أنهم هم الذين يستغفرون حقيقة، دون سواهم، فإن استغفاره صوري لا يخرج عن عمق القلب.

[20] وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ نصيب حقّ عليهم و ثبت لِلسَّائِلِ الذي يسأل وَ الْمَحْرُومِ الذي لا يسأل، فإن سأل السائل أعطوه و إن لم يسأل المحروم ابتدأوا بإعطائه.

[21] ثم رجع السياق إلى ما كان بصدده من الأصول الثلاثة الألوهية و الرسالة و المعاد، و حيث كان الكلام السابق حول المعاد، و الاستدلال له جاء الكلام الآن حول الألوهية وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ دلالات على وجود اللّه و صفاته.

و في كل شي ء له آية تدل على أنه واحد لِلْمُوقِنِينَ الذين سلكوا طريق الاستدلال «اليقين» لا الذين سلكوا طريق الأهواء و الظنون.

[22] وَ فِي أَنْفُسِكُمْ آيات تدل على وجوده و صفاته تعالى فإن كل جزء من أجزاء الجسم، و كل صفة من صفات النفس دليل ساطع على وجود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 236

[سورة الذاريات (51): الآيات 22 الى 24]

وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)

اللّه و علمه و قدرته و غير ذلك أَ فَلا تُبْصِرُونَ هذه الآيات؟ حتى ترجعوا إلى اللّه و تعترفوا به و بصفاته؟

[23] ثم إن رزقكم و مقدراتكم أيضا دليل آخر على

وجود اللّه تعالى وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ إن المطر ينزل من السماء و يسبب لكم الرزق من الحبوب و لحوم البهائم و غير ذلك مما تأكلون و تلبسون و غيرهما أ فليس ذلك دليلا على اللّه و صفاته؟ و إلا فلو لم يكن إله فمن ذا الذي أنزل المطر؟ وَ في السماء ما تُوعَدُونَ فإن كل ما يصيب الإنسان من صحة و مرض و غيرهما خارج عن إرادته أليس ذلك دليلا على أنه يأتي من جهة اللّه؟ و المراد بالسماء جهة العلو، و الإنسان وعد بمقدراته إما لفظا على لسان الأنبياء و إما عرفه فطرة، و كلاهما وعد له.

[24] ثم لتأكيد ما تقدم من المعاد و الألوهية- بعد الاستدلال لهما بما ذكر في الآيات السابقة- حلف سبحانه فقال و رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ ما ذكرناه لَحَقٌ مطابق للواقع مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم فكما لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقيقة الألوهية و المعاد و لعل المجي ء «بالنطق» لأنهم كانوا يريدون إبطال الحق بنطقهم و قولهم و تكذيبهم، فقابلتهم الآية «بالنطق» للإثبات، و المقابلة اللفظية نوع من البلاغة.

[25] ثم ذكر سبحانه هلاك قوم لوط عليه السّلام إنذارا لكفار قريش، بأنهم إن لم يؤمنوا أصابهم العذاب، و ذكر مقدمة ذلك مجي ء الرسل الذين كانوا مكلفين بعذابهم، إلى قرى لوط من طريق مرورهم على إبراهيم عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 237

[سورة الذاريات (51): الآيات 25 الى 27]

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (27)

هَلْ أَتاكَ جاءك و أخبرت به يا

رسول اللّه حَدِيثُ قصة ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ فإنهم كانوا ملائكة و لذا كانوا مكرمين، كما قال تعالى بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «1».

[26] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ على إبراهيم عليه السّلام في داره فَقالُوا له سَلاماً أي نسلم عليك سلاما قالَ إبراهيم عليه السّلام في جوابهم سَلامٌ لعل عدوله إلى الرفع لقصد الثبات- حيث أن الجملة اسمية- و هي تدل على الثبات، حتى تكون تحيته أكثر من تحيتهم، و قال إبراهيم عليه السّلام في نفسه لما أرى الملائكة قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لأنه ما كان رآهم في بلده قبل ذلك، أو أنه قال ذلك يريد به أن يعرّفوا أنفسهم فهو مثل «من أنتم؟».

[27] فَراغَ ذهب إبراهيم عليه السّلام إِلى أَهْلِهِ بتسلل و خفية ليحضر لهم طعاما فإن من أدب الضيافة أن يتسلل الضيف لإحضار الطعام، و التسلل لأجل أن لا يمنعه الضيف عن الإحضار فَجاءَ إليهم بِعِجْلٍ سَمِينٍ مطبوخ، و اختار السمين من بقره لأنه أدب أن يحسن الإنسان الضيافة.

[28] فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ليأكلوا لكنهم أبوا عن الأكل ف قالَ لهم أَ لا تَأْكُلُونَ لكنهم لم يأكلوا أيضا.

______________________________

(1) الأنبياء: 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 238

[سورة الذاريات (51): الآيات 28 الى 30]

فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

[29] فَأَوْجَسَ أضمر عليه السّلام في نفسه مِنْهُمْ من عدم أكلهم خِيفَةً لظنه أنهم جاءوا لشر، فإن الضيف إذا لم يأكل ظهر منه قصد الشر عرفا قالُوا لا تَخَفْ إنا ملائكة، و الملائكة لا تأكل وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ تلده زوجته سارة بعد أن كانت عقيما لا تلد و قد كبرت

بما لم يعتد ولادة مثلها عَلِيمٍ من صفته الذكاء و العلم.

[30] و لما سمعت سارة بخبر الولادة فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ في صياح من الصرير بمعنى الصوت فَصَكَّتْ أي لطمت وَجْهَها فعل المتعجب، لتعجبها بأنها كيف تلد وَ قالَتْ هل تلد عَجُوزٌ عَقِيمٌ حتى تبشروني بغلام.

[31] قالُوا الملائكة كَذلِكَ كما قلنا قالَ رَبُّكِ و «ك» خطاب لها إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فيكون قوله حقا و فعله محكما.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 239

تقريب القرآن إلى الأذهان الجزء السابع و العشرون من آية (32) سورة الذاريات إلى آية (30) سورة الحديد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 240

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 241

[سورة الذاريات (51): الآيات 31 الى 36]

قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)

فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)

[32] قالَ إبراهيم عليه السّلام للملائكة فَما خَطْبُكُمْ أي فما شأنكم و ما طلبكم و لماذا جئتم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ فإن الملائكة رسل اللّه تعالى.

[33] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا أرسلنا اللّه تعالى إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط.

[34] لأجل أن نرسل عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ يطبخ حتى يكون في صلابة الحصاة، و يسمى بالسجيل معرب «سنك كل».

[35] مُسَوَّمَةً معلّمة عِنْدَ رَبِّكَ فكما يهيئ رئيس الدولة لكل نوع من الأجرام نوعا من العقوبة كذلك اللّه هيأ لكل نوع جريمة نوع عقاب في الدنيا و في الآخرة، و العذاب من جنس العمل كما

أن الدجاجة من جنس البيضة لِلْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا في العصيان، و قد ذكرنا في كتاب «حول القرآن الحكيم» مناسبة بعض العقوبات لبعض الإجرامات، المذكورة في القرآن الحكيم، ثم جاء القرآن بأسلوب الالتفات، فقال:

[36] فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها في قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ باللّه و رسله و أحكامه.

[37] فَما وَجَدْنا فِيها في تلك القرى غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هو بيت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 242

[سورة الذاريات (51): الآيات 37 الى 40]

وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَ فِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40)

لوط عليه السّلام، و قد كانت زوجته أيضا مع الكفار، و لما خرج لوط و أهل بيته إلا زوجته، و ابتعدوا عن المدينة، نزل على القرى العذاب.

[38] وَ تَرَكْنا فِيها في قرى لوط التي دمرت آيَةً علامة و هي الآثار الباقية التي يراها الناس حين يمرون بتلك الأرض، و البحر الميت قرب الأردن- إلى الآن- من آثار تلك القرى لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم و حيث إن الذي يخاف يعتبر دون غيره، خصص سبحانه الآية «لِلَّذِينَ يَخافُونَ» و إلا فكونه آية يراها الكل.

[39] وَ فِي مُوسى عطف على «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ» أي أن في موسى عليه السّلام آيات، و الظرف على سبيل المجاز، إذ الآيات في مجموع القصة إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة تدل على صدقه في دعواه النبوة، و المراد بها معاجزه عليه السّلام.

[40] فَتَوَلَّى فأعرض فرعون بِرُكْنِهِ كأن إعراضه بسبب ما كان يتقوى به من جنوده و ملكه، فموسى عليه السّلام

اعتمد على الحجة، و فرعون اعتمد على القوة وَ قالَ فرعون إن موسى عليه السّلام ساحِرٌ إن كان عاقلا فيما يفعل أَوْ مَجْنُونٌ إن كان لا يعقل، فإن قسما من المجانين الذين دخلت فيهم الأرواح الشريرة يفعلون الخوارق.

[41] فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ الذين كانوا معتمد فرعون في تكذيبه لموسى عليه السّلام فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم طرح إهانة فِي الْيَمِ في البحر فغرقوا جميعا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 243

[سورة الذاريات (51): الآيات 41 الى 44]

وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (44)

وَ هُوَ مُلِيمٌ آت بما يلام عليه، فقد كان تكذيبه لموسى لبقاء سلطته و سمعته، و الغرق ذهب بالسلطة، و انفضاحه ذهب بالسمعة فصار الناس يلومونه و يلعنونه.

[42] وَ فِي عادٍ عطف على «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ» أي آيات في قوم عاد، الذين أرسل إليهم هود عليه السّلام إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ سميت عقيما، لأنها لم تكن تلد خيرا، كما هي عادة الرياح إذ هي تولد السحاب و المطر و تنقل ما تلقح الثمار و الأزهار، بل ولدت شرا.

[43] ما تَذَرُ ما تترك مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ تلك الريح إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ الرميم ما تفتت من حجر أو نبات أو غيرهما، و إنما كانت آيات، لأن كل أثر من تلك الريح آية و علامة لصدق رسل اللّه، و عقاب من خالف الرسل.

[44] وَ فِي ثَمُودَ عطف على «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ» و ثمود هم قوم صالح عليه السّلام إِذْ قِيلَ لَهُمْ قال لهم نبيهم صالح

عليه السّلام تَمَتَّعُوا ابقوا في دوركم حَتَّى حِينٍ حتى زمان مقرر و هو ثلاثة أيام، أمهلهم ثلاثة أيام لعلهم يتوبون.

[45] لكنهم لم يتوبوا مع أنهم رأوا آثار العذاب فَعَتَوْا استكبروا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ بالإيمان و الهداية فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بعد ثلاثة أيام- كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 244

[سورة الذاريات (51): الآيات 45 الى 47]

فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)

وعدهم نبيهم- و الصاعقة هي ما تصعق الإنسان و تميته فجأة وَ هُمْ يَنْظُرُونَ و لا يقدرون على دفعها، و في قوله سبحانه «وَ هُمْ يَنْظُرُونَ» دلالة على ضعفهم، حيث كانوا يظنون أنهم أقوياء و بسبب هذا الظن كانوا يستكبرون، و دلالة على تألمهم إذ لو كانت أخذتهم في حالة النوم مثلا لم يتألموا مثل هذا التألم.

[46] فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أن يقوموا من كبوتهم، فلم يكونوا كالمرضى الذين يتمكنون من شفاء أنفسهم، و في هذا تنبيه إلى أن عذاب اللّه إذا جاءهم لم يكن له علاج، إلا بالرجوع إليه سبحانه وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ لم ينصرهم أحد، فلا يقوم أمام أمر اللّه، لا قوة ذاتية، و لا نصرة خارجية.

[47] وَ أهلكنا قَوْمَ نُوحٍ و إنما لم يعطفه، للتفنن الذي هو مقتضى البلاغة مِنْ قَبْلُ هؤلاء الذين ذكروا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه سبحانه، و لذا أغرقناهم بالطوفان أليس في كل هذه العقوبات دلالة لكفار قريش على سوء مصير المكذب؟

[48] ثم ألا يستدل هؤلاء على وجود اللّه و علمه و قدرته بما يشاهدون من آثار عظمته؟ وَ السَّماءَ بَنَيْناها فإن جعل الأنجم و

جعل النظام في الكون، من أجل الأبنية- لوضوح أن البناء ليس خاصا بالبناء الحجري و نحوه- بِأَيْدٍ بقوة من آد، يئيد، فإن قوة المبنى و إتقانه تدل على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 245

[سورة الذاريات (51): الآيات 48 الى 50]

وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

قوة الباني، و قوة بنائه، ثم إنا لم نستنفد قوانا في بناء ما يشاهدون وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ السماء، و قد دل علم الفلك الحديث على أن الكون في توسع دائم.

[49] وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها جعلناها فراشا لتستقروا عليها و تنتفعوا بها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نحن الذين مهدنا لكم الأرض.

[50] وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ من أصناف الحيوان و أصناف النبات و حتى أصناف الماء حلو و مالح و شبهه كالسماء و الأرض و الليل و النهار إلى غير ذلك لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فعلنا كل ذلك من خلق السماء و الأرض و الأزواج لأجل أن تتذكروا فتعرفوا الخالق و تعبدوه، ثم إنه لا منافاة بين تعدد الغاية فالخلق لأجل تطلبها الفيض و اللّه فياض مطلق و لأجل تذكر الإنسان كما إذا سافر الإنسان لأجل صحة مزاجه و لأجل تنزهه.

[51] و إذ عرفتم اللّه و علمتم أنه يثيب المطيع و يعاقب العاصي فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فكما أن من يطارده الأسد يفر، كذلك من طاردته الذنوب لزم عليه أن يفر بالأعمال الصالحة، و سرعة الإتيان بها بمثابة الفرار، إلى ثواب اللّه و طاعته إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من قبل اللّه نَذِيرٌ أنذركم إن بقيتم في الكفر و العصيان تلحقكم نتائج سيئاتكم مُبِينٌ واضح لوضوح الأدلة التي تدل

على نبوته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 246

[سورة الذاريات (51): الآيات 51 الى 53]

وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53)

[52] وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كما كان المشركون يجعلون ذلك إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ من قبل اللّه نَذِيرٌ مُبِينٌ فاللازم أمران: الأول:

توحيد الإله. و الثاني: عدم عصيانه، و لعل وجه تقديم الثاني، في الآيتين إن الاشتغال بالمعاصي يحجب الإنسان عن الإيمان بالوحدانية، كما قال تعالى ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1» كما أن وجه تكرار آخر الآية بشكل واحد لعله للتنبيه على أن الإنذار على المعاصي مثل الإنذار على المشرك، كما قال تعالى لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً «2».

[53] إنهم مع إنذارك لهم إنذارا واضحا ينسبونك إلى أنك ساحر أو مجنون و كَذلِكَ أي أن الأمر مثل ذلك ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم مِنْ رَسُولٍ من عند اللّه إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ بعضهم قالوا ساحر و بعضهم قالوا مجنون، أو كما تقدم في تفسير آية «وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».

[54] أَ تَواصَوْا بِهِ أي أن الأولين و الآخرين الذين رمى كلهم أنبياءهم بالسحر و الجنون هل أوصى بعضهم بعضا بأن ينسبوا الأنبياء إلى مثل هذه النسبة؟ كلا، إذ لا ربط بين الأمم مع اختلاف زمانهم و تباعد

______________________________

(1) الروم: 11.

(2) الأنعام: 159.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 247

[سورة الذاريات (51): الآيات 54 الى

57]

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)

بلادهم بَلْ هُمْ الأولون و الآخرون الكافرون بالأنبياء قَوْمٌ طاغُونَ فمشاركتهم في الطغيان أوجبت أن يرموا الأنبياء بما يكون مقتضى الطغيان و العتو على اللّه سبحانه، بعد أن فقدوا الحجة في رد برهان الأنبياء.

[55] فَتَوَلَ فاعرض عَنْهُمْ و لا تجادلهم بعد أن كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا العناد فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على إعراضك بعد أن جهدت في البلاغ فلم ينفع معهم.

[56] وَ لكن خذ طريقك في الإرشاد العام ف ذَكِّرْ الناس حسب قدرتك فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فإنهم يزدادون بها بصيرة، أو المراد بالمؤمنين الذين لهم نفوس طيبة تقبل الحق، فاستعمل «المؤمن» فيمن له طبيعة إيمانية.

[57] وَ إذا نفعت الذكرى المؤمنين عملوا بما هو غاية الخلقة إذ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ و يطيعون، و إذا أطاعوا كملوا هم، لا أن اللّه استفاد منهم شيئا.

[58] ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ من مال كما يريد السادة من العبيد أن يعملوا لأجل جلب المال للسادة حتى يرتزق به السيد في اشتراء دار و لباس و مركب و ما أشبه «فإن كل ذلك رزق» وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 248

[سورة الذاريات (51): الآيات 58 الى 60]

إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

يطعموني يهيئوا لي طعاما، كما يفعله الطباخ للسيد.

[59] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ لكل من يحتاج إلى الرزق

من بشر و حيوان و غيرهما، فكيف يخلقهم لأن يرزقوه؟ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الشديد، لا مثل قول الملوك لا متانة لها و لذا تؤول إلى الضعف و الانحلال و العدم، و إذا كان سبحانه له القوة المتين فلا حاجة له في الطعام كي يتقوى به كما أن الإنسان كذلك يتقوى بالطعام.

[60] و إذا أبلغت في الإنذار و لم يقبلوا فلا تغتم إذ إنا سوف نعاقبهم فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالتكذيب لك ذَنُوباً نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل نصيب نظائرهم من الأمم السابقة، و هذا تشبيه حيث إن أصل «الذنوب» الدلو العظيم المملوء ماء، و جي ء به للإشارة إلى كثرة ذنوبهم فَلا يَسْتَعْجِلُونِ العذاب لأنه سيأتيهم لا محالة.

[61] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سوء لهم مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي يوم القيامة، و «من» أي من ناحية ذلك اليوم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 249

52 سورة الطور مكية/ آياتها (50)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الطور» و هي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة بأصولها الثلاث و لما ختمت سورة الذاريات بعذاب الكفار ابتدأت هذه السورة بذلك، بعد تأكيد عذابهم، بجملة من الأيمان.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شرع في السورة مصاحبا باسم اللّه، لكي نتعلم أن كل شروع لا بد و أن يقترن باسمه، لأنه شكر للنعمة أن يتذكر الإنسان خالقه و رازقه عند كل ابتداء، إذ لو لا لطفه، لم يكن الإنسان قادرا على العمل «الرحمن الرحيم» الذي يرحم كل شي ء يعطيه الوجود، ثم يرحمه بتربيته و السير به في مراحل الكمال فهو سبحانه يرحمه إيجادا و يرحمه إبقاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 299

[سورة الطور (52): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ

اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الطُّورِ (1) وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)

[2] وَ الطُّورِ قسما بطور سيناء الذي تكلم موسى عليه السّلام مع ربه من فوقه، قال جمع من المفسرين أنه جبل بمدين.

[3] وَ قسما ب كِتابٍ مَسْطُورٍ إما المراد أي كتاب، فالطور مرفوع مكانا، و الكتاب مرفوع معنى، فالمراد القسم بكل رفيع، مادي أو معنوي، أو المراد كتاب خاص، مثل التوراة و الإنجيل و القرآن، و لا يبعد إرادة الإنجيل باعتبار أنه سبحانه و تعالى حلف بشي ء لموسى عليه السّلام، و بشي ء لعيسى عليه السّلام و بشي ء لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «و هو البيت المعمور».

[4] ذلك الكتاب فِي رَقٍ أي جلد رقيق مَنْشُورٍ نشر لقراءته، و لعل القصد من الصفات إفادة وضوحه، فالكتابة مسطورة، لا مندمجة بعضها في بعض، و هي في ورق قد نشر، يقرأه كل إنسان، فالكتابة جمعت بين الارتفاع معنى الظهور، كما أن الطور جمع بين الارتفاع مادة الظهور.

[5] وَ قسما ب الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الكعبة المعظمة، أو الضراح في السماء الرابعة أو السابعة.

[6] وَ قسما ب السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ السماء، لأنه سقف يمنع وصول أحجار النيازك إلى الأرض، و المراد به بعض طبقات السماء.

[7] وَ قسما ب الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ الذي له أمواج كشعل النيران، أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 251

[سورة الطور (52): الآيات 7 الى 13]

إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)

الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)

المراد به حين ينقلب

نيرانا، كما في أهوال القيامة.

[8] إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ على الكفار لَواقِعٌ قطعا.

[9] ما لَهُ ليس للعذاب مِنْ دافِعٍ يدفعه عن الكفار، فكأن الإنسان يسرح بخياله إلى السماء، و الجبل، و البحر، و بيت مرتفع في وسطها، و كتاب نشر في أحوال الكون، «كتاب تكويني إلى جانبه كتاب تشريعي» ألا يدل كل ذلك على عظيم القدرة؟ إذا فلا بد و أن يذوقوا العذاب.

[10] و إنما يقع العذاب يَوْمَ تَمُورُ تضطرب السَّماءُ مَوْراً لأن النظام الكوني ينهدم فتضطرب الكواكب.

[11] وَ تَسِيرُ الْجِبالُ كالسحاب السائر سَيْراً مفعول مطلق للتأكيد.

[12] فَوَيْلٌ و سوء يَوْمَئِذٍ في هذا اليوم لِلْمُكَذِّبِينَ باللّه و برسوله و بالمعاد.

[13] الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يخوضون في الكفر و العصيان يَلْعَبُونَ فإن عمل من لا يفكر في العاقبة لعب إذ لا هدف حقيقي له، و إن تصور أن له هدفا.

[14] و ذلك في يَوْمَ يُدَعُّونَ الدعّ الدفع العنيف إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 252

[سورة الطور (52): الآيات 14 الى 17]

هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ (17)

مفعول مطلق لتأكيد العنف في سوقهم إلى جهنم.

[15] و يقال لهم هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ و كنتم تقولون أن ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سحر لا أصل له.

[16] أَ فَسِحْرٌ هذا الذي ترونه في النار؟ يقال لهم ذلك تبكيتا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أن هذه نار؟ كما كنتم تقولون في الدنيا، إنا لا نراك وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «1».

[17] اصْلَوْها

ذوقوا النار فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا بأن تجزعوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الصبر و عدمه، فأيهما لا يخفف من عذابكم إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ظاهره نفس عملكم إذ قد ذكرنا في بعض السور أن نفس العمل صار جزاء كما أن نفس البيضة و النواة تصير فرخا و شجرة، و من الواضح أن في مثل هذا المقام لا فرق بين الصبر و الجزع و لعل هذا الكلام للكفار، جزاء لما كانوا يقولونه للأنبياء إنهم لا يقبلون كلامهم في كل الأحوال، فجزاؤهم النار في كل الأحوال.

[18] و في مقابل هؤلاء المكذبين المصدقون ف إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ النعمة الباطنية «الجنة الظاهرية» كما أن الكفار في ألم النار

______________________________

(1) فصلت: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 253

[سورة الطور (52): الآيات 18 الى 21]

فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)

و ألم التوبيخ و الاستهزاء، كما في «أ فسحر؟ فاصبروا ...».

[19] فاكِهِينَ متلذذين بِما آتاهُمْ أعطاهم رَبُّهُمْ من النعم وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي حفظهم من ذلك العذاب، إشارة إلى أنهم و إن استحقوا العذاب لبعض معاصيهم إلا أن اللّه يغفر لهم و يحفظهم من ذلك العذاب لطفا و تفضلا.

[20] و يقال لهم كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً الهني ء الذي لا تنغيص فيه لا من جهة الفم و لا من جهة الحلق عند الازدراء و لا من جهة العاقبة فلا أثر سيئ له بسبب ما كُنْتُمْ

تَعْمَلُونَ من العقيدة الصحيحة، و الأعمال الصحيحة، فإن العقيدة نوع عمل للقلب حيث بنى على شي ء معين.

[21] في حال كونهم مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ جمع سرير مَصْفُوفَةٍ قد اصطفت ففيه جمال للمنظر بالإضافة إلى كونه راحة للجسم وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ جمع حوراء واسعة العين و بيضاء الجسم فنظافة في الأبدان و الأخلاق، و عيناه واسعة العين بما يزيدها جمالا، و قد وردت في الروايات تزويج النساء أيضا برجال الدنيا، و لعل عدم ذكر النساء و زواجهن من باب البلاغة، لأنه من غير المستحسن لدى العرف أن يقال للمرأة نزوجك، بخلاف أن يقال للرجل.

[22] ثم إن أولاد المؤمنين الذين لا يستحقون بأعمالهم مراتب آبائهم في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 254

[سورة الطور (52): آية 22]

وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)

الجنة، يلحقون بآبائهم لتقدير إيمان الآباء وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ بأن لم يكونوا كفرة أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ حتى ينعم الآباء بمؤانسة الأولاد، فمرة يشتغلون بالحور العين، و تارة بالذرية، و في ذلك قرة أعينهم وَ ما أَلَتْناهُمْ أي ما نقصنا الآباء مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فلم نعطي للأبناء من حق الآباء بل أعطينا الأبناء زيادة على حق الآباء كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ كأن نفس الإنسان مرهونة بالعمل الصالح فإذا أعطى اللّه العامل استرجع نفسه فصار حرا، و إلا بقي أسيرا في جهنم، لأنه لم يقدم ما يفك به نفسه، كما أن صاحب الدار الذي رهنها لأنه لم يقدم مال المرتهن لم يتمكن من استرداد داره، و لعل قوله سبحانه «كُلُّ امْرِئٍ ...» لدفع توهم أنه إذا أعطى الذرية ما لا يستحقون فقد حصلوا الثواب بغير عمل؟ و الجواب كلا، إن

الذرية كانوا مؤمنين فاستحقوا الجنة بذلك، و لكن اللّه تفضل عليهم بالمزيد جزاء للآباء فدرجتهم بين جزاء لهم و جزاء لآبائهم، أو يقال إن كلا من الآباء و الذرية استحق نفس الدرجة الرفيعة و استحق الجمع بينها، فالآية إخبار عن الواقع، و لا إعطاء لما لا يستحق و لو إعطاء تفضلا.

[23] وَ أَمْدَدْناهُمْ استمررنا في إمدادهم، فليس كالضيافات، في الدنيا التي يؤتى إلى الضيف بالمأكول و المشروب أول ما يجي ء فقط، فإذا جلس ساعة مثلا، لا يؤتى إليه مرة أخرى بهما بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 255

[سورة الطور (52): الآيات 23 الى 27]

يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27)

و اللحم شامل للطير و السمك و سائر اللحوم.

[24] يَتَنازَعُونَ على سبيل المزاح و المفاكهة فِيها في الجنة كَأْساً فيها خمر لا لَغْوٌ فِيها لا يتكلمون إذا شربوها باللغو وَ لا تَأْثِيمٌ من ما يفعله شاربوا الخمر في الدنيا من السب و الضرب و الجرح و أحيانا التعدي على الأعراض و غيرها، فإنه لا فساد في الآخرة.

[25] وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ يمر بهم مرورا متواصلا، لإعطائهم الكأس و الفاكهة و قضاء حوائجهم غِلْمانٌ جمع غلام لَهُمْ كَأَنَّهُمْ في بياضهم و جمالهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ محفوظ في مكان نظيف بحيث لم يكن ظاهرا حتى يغير بريقه الهواء و الوسخ.

[26] وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ من أهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ هذا يسأل ذاك و ذاك يسأل هذا عن أحوالهم في الدنيا

و ما استحقوا به هذه الدرجات؟

[27] قالُوا المسؤولون إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في دار الدنيا حيث كنا فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ خائفين من العذاب، إذ من لا خوف له لا يعمل صالحا- إلا في الأندر من النادر-.

[28] فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بغفران ذنوبنا وَ وَقانا حفظنا عَذابَ السَّمُومِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 256

[سورة الطور (52): الآيات 28 الى 31]

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)

النار النافذة في المسام و ثقب الجسد.

[29] إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا نَدْعُوهُ ندعو اللّه سبحانه، و لا ندعو غيره إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْبَرُّ المحسن الرَّحِيمُ و لذا أحسن إلينا و رحمنا، رحمنا فلم يعذبنا بذنوبنا، و أحسن إلينا بإعطائنا أزيد من استحقاقنا.

[30] فَذَكِّرْ يا رسول اللّه الناس بالعقائد الصحيحة و لا يمنعك من الاستمرار في التذكير سبهم لك و اتهامهم إياك بأنك كاهن أو مجنون فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بسبب إنعامه الذي أعطاك تعالى بِكاهِنٍ متصل بالجن يخبره بعض الأخبار الغائبة عن الحواس وَ لا مَجْنُونٍ دخل فيه الجان فأخذ يتكلم ببعض المغيبات- كما كانوا يتهمون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذين الأمرين-.

[31] أَمْ يَقُولُونَ بل يقولون أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاعِرٌ إذا رأوا عدم قبول الناس افترائهم الأول «إنه كاهن أو مجنون». نَتَرَبَّصُ بِهِ أي نصبر و ننتظر رَيْبَ الْمَنُونِ أي ما يقلق النفوس من حوادث الدهر، فإذا احتفت به المشاكل انقلع عن دعواه النبوة، أو المراد بالمنون الموت.

[32] قُلْ لهم يا

رسول اللّه تَرَبَّصُوا انتظروا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 257

[سورة الطور (52): الآيات 32 الى 35]

أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35)

فكما أنكم تنتظرون هلاكي و عدم نجاحي، فإني أنتظر نجاحي و تقدم دعوتي، أو أنتظر موتكم، و سوف نرى العاقبة لمن؟.

[33] أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ عقولهم بِهذا التناقض في أقوالهم فمرة يقولون شاعر، و أخرى كاهن و ثالثة مجنون، فهل أمثال هذه الكلمات تصدر من العقلاء؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ يعرفون الحق، و إنما يقولون الباطل لطغيانهم على الحق، و عنادهم في الأمر.

[34] أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن من تلقاء نفسه بدون أن ينزل عليه وحي بَلْ هم يعلمون و إنما لأنهم لا يُؤْمِنُونَ يرمون القرآن بهذه الأمور حتى يجعلوا لأنفسهم عذرا في عدم إيمانهم.

[35] و إذا كان تقوّل من الرسول فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ شي ء جديد مِثْلِهِ مثل القرآن إِنْ كانُوا صادِقِينَ في قولهم «تقوله» إذ لو كان القرآن كلام البشر لتمكن بلغائهم أن يأتوا بمثله، فعدم تمكنهم بأجمعهم من الإتيان بمثل القرآن دليل عدم كون القرآن من كلام البشر.

[36] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ خالق لهم و لذا لا يذعنون بالخالق و لا يسمعون كلامه أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ خلقوا أنفسهم؟ و حيث لا هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 258

[سورة الطور (52): الآيات 36 الى 38]

أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ

فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)

و لا هذا كان لا بد من إذعانهم للخالق، فلما ذا يكفرون به و يجعلون له شريكا؟

[37] أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فهم شركاء للّه، و الشريك لا يخضع لشريكه، بَلْ ليس كل ذلك و هم يعلمون أنهم عبيد مربوبون و إنما لا يُوقِنُونَ فإن الانسياق وراء البرهان- دون الأهواء و التقاليد- لا يكون إلا لمن أراد التيقّن، فنفي الإيقان عنهم باعتبار نفي آثاره، كما يقال: لا عين لفلان إذ لم يستعمل عينه حتى سقط في بئر، و يقال لا عقل له، إذا لم يستعمل عقله.

[38] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ فلا يرون أنفسهم بحاجة إلى اللّه، و لذا لا يؤمنون به و لا برسوله و لا بكتابه؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ على الخزائن، و إن تكن لهم فسيطرتهم على الخزائن توجب أن يزعموا غنائهم عن الإيمان؟

[39] أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ مرقاة يصعدون بسببها إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ إلى الوحي فلا يحتاجون إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنهم كالرسول يعرفون أمور السماء فإذ زعموا ذلك، و قالوه عنادا فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ من ادعى الاستماع بِسُلْطانٍ حجة مُبِينٍ واضحة على صدقه، كأن يخبر عن الآتي، كما يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأخبار الغيب، و لا يخفى أن في هذا احتجاج على منكر اللّه، و على من جعل له شريكا، و على من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 259

[سورة الطور (52): الآيات 39 الى 42]

أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)

أنكر الرسول أو القرآن، و

على من أنكر البعث، بأسلوب بلاغي رائع، و باحتجاجات عقلية، و عرفية يفهمها كل إنسان و إن لم يكن من أهل الخبرة و الدقة.

[40] أَمْ لَهُ الْبَناتُ فقد كان جمع من كفار قريش يقولون إن الملائكة بنات اللّه وَ لَكُمُ الْبَنُونَ البنون خاص بكم؟ و بأي دليل تقولون هذا القول؟.

[41] أَمْ تَسْئَلُهُمْ يا رسول اللّه أَجْراً على الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ التزام غرم مُثْقَلُونَ يحملون الثقل، و لذا لا يؤمنون بك فرارا من إعطاء المال، و حيث لا تسألهم أجرا و الدليل معك فلما ذا لا يؤمنون؟

[42] أَمْ عِنْدَهُمُ علم الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما أخذوه عن الغيب و بذلك علموا كذبك و لذا لا يؤمنون بك؟

[43] أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً بك، لا حجة لهم، و لا عندهم الغيب، و إنما يكيدون بك ليتخلصوا منك حتى لا تدعوهم إلى الهدى، استثقالا عن الحق، لكن فليعلموا أنهم لا يقدرون على الكيد بك، و إنما كيدهم على أنفسهم فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ يعود و بال كيدهم عليهم، كما قال وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1».

______________________________

(1) آل عمران: 55.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 260

[سورة الطور (52): الآيات 43 الى 46]

أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)

[44] أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ و لذا يشركون مع اللّه إلها غيره؟ سُبْحانَ اللَّهِ اللّه منزه عَمَّا يُشْرِكُونَ إذ لا شريك له، كما دلّ على ذلك العقل، بالإضافة إلى أنهم لا دليل لهم على الشرك، و

في هذه الآيات تفنيد لمزاعم الكفار، و الجامع بينها إنها كانت مزاعم باطلة رائجة بينهم.

[45] و قد كان الكفار يتحدون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه إن كان صادقا، فليسقط عليهم قطعة من السماء لإهلاكهم، مثل تحدي كل جاهل معاند، و قد أجابهم القرآن بأنهم حتى إن رأوا ذلك عاندوا الحق، كما هو شأن كل معاند وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة مِنَ السَّماءِ كأحجار الجو، أو ما يزعمه سماء، ساقِطاً يَقُولُوا من فرط عنادهم و طغيانهم، هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ تراكم و تجمع بعضه على بعض، فلا فائدة في إتيانك يا رسول اللّه بهذه المعجزة.

[46] فَذَرْهُمْ فاتركهم بعد ما رأيت من عنادهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يموتون بأيديكم، أو موتة طبيعية، حتى يروا جزاءهم هناك.

[47] يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً في رد العذاب فإن عذاب الآخرة ليس كمشاكل الدنيا يمكن ردها بالكيد و الأساليب الدنيوية وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ كما ينصر بعضهم البعض في الدنيا، فإن الآخرة ليس فيها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 261

[سورة الطور (52): الآيات 47 الى 49]

وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ النُّجُومِ (49)

ناصر ينصر من أراد اللّه عذابه.

[48] وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء الكفار، جي ء بهذا اللفظ، للدلالة على اقتران الكفر بالظلم غالبا، بل الكفر من أعظم الظلم بنفس الكافر عَذاباً دُونَ ذلِكَ قبل عذاب الآخرة، و هو ما يشاهدونه في الدنيا من ثمرات أعمالهم، فإن الظلم لا يثمر إلا العذاب وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك، و

الحاصل أن كفرهم يعود عليهم بعذاب الدنيا و عذاب الآخرة.

[49] وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ الحكم الذي أعطاك، فإن الرسول كان حاكما من قبل اللّه فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي تحت حفظنا و رعايتنا، و الإتيان بجمع العين، لبيان أنهم إن كانوا جماعة ضدك، فإن أعينا أيضا تراقبك لحفظك و لئلا يمسوك بسوء وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزهه مع إثبات صفات الكمال له- كما تقدم مثله- حِينَ تَقُومُ في أول النهار و اشكره على أن مضى ليلك بسلام.

[50] وَ سبحه مِنَ اللَّيْلِ بعض الليل حين يدخل الليل على أن مضى نهارك بسلام وَ سبحه إِدْبارَ النُّجُومِ إذا أدبرت النجوم، بعد منتصف الليل حين تأخذ النجوم في النزول من نصف السماء، فإن الإنسان يستيقظ عند ذاك، غالبا و يفكر في عظمة اللّه، و يلقي سكون الليل في نفسه رهبة و خشوعا أمام خالق الكون و جاعل الظلمات و النور.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 262

53 سورة النجم مكية- مدنية/ آياتها (63)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «النجم» و هي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة، كما أن بعض آياتها التي نزلت بالمدينة تعالج قضايا العمل- على ما يظهر من نفس السورة من أنها مكية مدنية، و على ما قاله جمع من المفسرين- و لما اختتمت سورة الطور بما يفيد تكذيب الكفار لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ابتدأت هذه السورة بتفنيد مزاعمهم في كذبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صادق و ليس بكاذب و لا ضال.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نشرع باسم اللّه، فإن الذات الشريفة تؤثر في شرافة إمداداتها، كما أن الذات غير الشريفة تؤثر في عدم

شرافة إمداداتها، لذا يحب الإنسان حتى أسم محبوبه و يكره حتى أسم مكروهه، اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن بعباده بدءا، و الرحيم بهم استمرارا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 263

[سورة النجم (53): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى (2) وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5)

[2] وَ النَّجْمِ قسما بالنجم، و المنصرف جنس النجم إِذا هَوى نحو المغيب، من وسط السماء، أو من الأفق.

[3] ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل هو عن الطريق المستقيم، و لعل وجه القسم بالنجم، أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نجم معنوي في كل أحواله، كما أن النجم نجم حتى في حال هويه، وَ ما غَوى الناس في دعوته إلى اللّه، بل هو مهتد في نفسه و دعوته للناس دعوة إلى الرشد.

[4] وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى عن هوى النفس و ميوله الشخصية كما كان الكافرون يقولون «تقوّله».

[5] إِنْ ما هُوَ الذي نطق به من القرآن و سائر إخباره عن اللّه تعالى إِلَّا وَحْيٌ يُوحى إليه من جانب اللّه و هل الوحي وقتي، أو مستمر و إنما جهاز الاستقبال وقتي مثله مثل نور الشمس المستمرة منذ أن خلقت، و إنما إذا وجدت زجاجة مقعرة أخذته و أحرقت به ما ينعكس إليه النور منها، فحالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخاصة تأخذ الوحي المناسب في الوقت المناسب، احتمالان: و إن كان ظاهر الأدلة الأول.

[6] عَلَّمَهُ أي علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالوحي شَدِيدُ الْقُوى جبرئيل، فإن للملك قوى كما للإنسان قوى،

و قوى الملك شديدة، مثلا علمه كثير، و لا ينسى، و قدرته كثيرة و لا تضعف إلى غير ذلك، و ظاهر الآية بسياق الآيات الآتية أن المراد به جبرئيل عليه السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 264

[سورة النجم (53): الآيات 6 الى 10]

ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)

[7] ذُو مِرَّةٍ ذو قوة، و أصل المرة خلط في العروق، كالصفراء و السوداء، و سمي مرة لقوة البدن به، ثم استعملت في أصل القوة، فكأنه قال مرة «قواه شديدة» و مرة «قوى بمجموعة» أو المراد بذي مرة حصانة في عقله و رأيه فالأول: لقواه المادية. و الثاني: لقوته العقلية، فلما أراد أن ينزل الوحي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَاسْتَوى استولى على الأرض لإتيان الوحي.

[8] وَ هُوَ جبرئيل عليه السّلام بِالْأُفُقِ الْأَعْلى مكانه في أعالي السماوات.

[9] ثُمَّ دَنا جبرئيل إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَتَدَلَّى في الهواء، تدلي الدلو في البئر، و أصل التدلي استرسال مع تعلق، و لعل هذا التعبير باعتبار تعلق جبرئيل عليه السّلام بالأعلى تعلقا.

[10] فَكانَ جبرئيل من محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قابَ قَوْسَيْنِ فإن قوسين إذا التصقت إحداهما بالأخرى يكون عرضهما مقدار ذراعين لأن «قاب» كل قوس مقدار ذراع تقريبا، و «القاب» عبارة عن الفاصل بين رأسي القوس الواحد، و المراد من هذه الآية- حسب الظاهر- إن قرب جبرئيل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بقدر ذراعين أَوْ أَدْنى و لعله كان يقترب و يبتعد، كما هي

عادة كل متكلّمين.

[11] فَأَوْحى اللّه في هذه الحالة إِلى عَبْدِهِ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أَوْحى ما أراد وحيه، أو المراد، ب «أوحى» جبرئيل، مثل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 265

[سورة النجم (53): الآيات 11 الى 15]

ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15)

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «1» أما الضمير في عبده راجع إلى اللّه سبحانه، و في تفسير الآية ذكر مصاديق و تأويلات لا تنافي ظاهرها الذي ذكرناه.

[12] ما كَذَبَ الْفُؤادُ فؤاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما رَأى من جبرئيل و سمع من الوحي، إذ قد يكذب الفؤاد الحواس، كأن يرى الإنسان الشمس و القمر صغيرين، أو ماء البحر أسود، لكن القلب يقول ليس كما رأيت، فالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى جبرئيل بعينه و عرف صدق رؤيته بقلبه.

[13] أَ فَتُمارُونَهُ أي أيها الكفار هل تجادلون محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى ما يَرى ما رآه فتقولون له: قد اشتبهت و لم يكن جبرئيل؟ و لعل الإتيان ب «يرى» بصيغة المستقبل، لاستمرار علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى وقت الكلام، بأن ما رآه كان صدقا، لا خيالا.

[14] و هل يمكن أن يكون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد اشتبه وَ الحال أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَقَدْ رَآهُ رأى جبرئيل نَزْلَةً أُخْرى حين نزل بالوحي إليه مرة ثانية، و الاشتباه لا يمكن مرتين.

[15] و كانت رؤيته صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم الثانية لجبرئيل عليه السّلام عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «المنتهى» مضاف إليه، لعل المراد انتهاء عالم الدنيا إلى هناك بقرينة.

[16] عِنْدَها أي عند تلك السدرة جَنَّةُ الْمَأْوى التي يأوي إليها

______________________________

(1) السجدة: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 266

[سورة النجم (53): الآيات 16 الى 19]

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَ فَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَ الْعُزَّى (19)

المؤمنون الصالحون.

[17] إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ غشيه بمعنى أحاط به و استولى عليه ما يَغْشى مما لا يعلمه إلا اللّه تعالى و لعلها باعتبار كونها الحدّ الفاصل بين عالم الدنيا و عالم الآخرة، يكون مهبط الأملاك من الجنة إلى السماوات و الأرض، و مصعد أرواح المؤمنين و الملائكة الصاعدة من الأرضين و السماوات إلى طرف الجنة.

[18] و لا يقول الكفار لعلّه اشتبه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه المرة أيضا، لأنه ما زاغَ لم يمل الْبَصَرُ بصر رسول اللّه، بأن رأى غير جبرئيل فزعم وَ ما طَغى بأن لم يكن شي ء فيزعمه شيئا كما في من يرى السراب فيزعمه شيئا و هو ليس بشي ء، ثم لا يخفى أن رؤية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لجبرئيل مرتين، إنما يراد به أنه رآه بصورته الواقعية، كما ورد بذلك النص و التفاسير «1»، و إما بغير صورته الواقعية، كصورة «دحية» فقد رآه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرات عديدة.

[19] و لَقَدْ رَأى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند سدرة المنتهى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي الآيات العظام التي كانت حول شجرة السدرة.

[20] هل اللّه و ما شاهده الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من آيات اللّه، يقاس بما أنتم عاكفون عليها من الأصنام؟ أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى و هما صنمان كان

______________________________

(1) الاحتجاج: ج 1 ص 243.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 267

[سورة النجم (53): الآيات 20 الى 23]

وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)

يعبدهما قريش.

[21] وَ مَناةَ الصنم الثَّالِثَةَ الْأُخْرى و لعلها أخرى في المرتبة عندهم؟

أقول: و حذف الجواب لزيادة الاستهجان، فهو كما يقال «لزيد مليون دينار» ثم يقال أرأيتم كم لعمرو من الدنانير؟ «فيما كان له ثلاثة دنانير مثلا» فإن قوله: أ رأيت، يراد به الاستهجان، و بيان عدم المقايسة بين الأمرين.

[22] ثم استهجن القرآن كلاما أخرا للمشركين، و هو قولهم أن الملائكة بنات اللّه فقال أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ سبحانه الْأُنْثى فقد كانوا يزعمون بأنهم مخصصون بالأولاد الذكور، و لا ولد ذكر اللّه تعالى، و يحتمل أن يراد أنكم تكرهون الإناث، فكيف جعلتم الأصنام الثلاثة «و كانوا يزعمون أنهم إناث» شركاء اللّه تعالى.

[23] تِلْكَ القسمة بينكم ف «لكم الذكر» و بين اللّه «و له الأنثى» إِذاً إذا كان كما زعمتم قِسْمَةٌ ضِيزى جائرة، من ضاز يضيز، إذا جار.

[24] إِنْ هِيَ ما تلك الأصنام الثلاثة إِلَّا أَسْماءٌ أي تسميتها بالألوهية اسم مجرد لا حقيقة تحت هذا الاسم ف «هي» محل، أطلق، و أريد به «الحال» لأن «الاسم» حال، و «الصنم» محل سَمَّيْتُمُوها مجرد تسمية أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ من

قبل، و إلا فهل الأصنام آلهة؟ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ من حجة و برهان، و إنما هوى أنفسهم مع تلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 268

[سورة النجم (53): الآيات 24 الى 26]

أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى (25) وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى (26)

الأصنام ثم ظنوا أنها آلهة، فلا دليل من العقل و لا من الشرع عليها إِنْ ما يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ بأنها آلهة وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ما تشتهيه أنفسهم وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى الرسول و الكتاب المطابقان للعقل و الفطرة فتركوهما و اتبعوا أهواءهم الباطلة في القول بأن الأصنام آلهة.

[25] أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى استفهام إنكاري أي ليس للإنسان ما يتمناه، فهؤلاء يتمنون صحة عقيدتهم و يتمنون أن تشفع الأصنام لهم، لكن هذا التمني لا يتحقق.

[26] فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى بيده كل شي ء فهو الإله و هو الشفيع قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً «1».

[27] إنهم يرجون الشفاعة من الأصنام بينما الملائكة لا تقدر على الشفاعة إلا بعد إذن اللّه وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ فهو مع كونه ملكا، و مع كونه في السماوات قريبا من رحمة اللّه لا تُغْنِي لا تفيد شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أي أنهم على تقدير أن يشفعوا لا تفيد شفاعتهم و «كم» لا مفهوم له، حتى يكون هناك «ملك» تغني شفاعته، و لعل الإتيان به لإفادة أنه إذا كان كثير من الملائكة كذلك، فكيف بالأصنام؟ و لا حاجة في إسقاط الأصنام

______________________________

(1) الزمر: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 269

[سورة النجم (53): الآيات 27 الى 29]

إِنَّ الَّذِينَ لا

يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29)

عن الشفاعة القول بأن «كل الملائكة كذلك» إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ من الملائكة أن يشفع و من الناس أن يشفع له وَ يَرْضى و يراه أهلا لذلك: شافعا و مشفوعا، و الرضا و إن كان قبل الإذن إلا أن ملاحظة رؤوس الآي أورث تأخيره، [28] إِنَ الكفار الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و ذلك يلازم عدم إيمانهم بما جاء عن اللّه لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى فإنهم حيث قالوا الملائكة بنات اللّه سموا كل ملك بنتا.

[29] وَ الحال ما لَهُمْ بِهِ بما يقولون مِنْ عِلْمٍ أي لا علم لهم بأن الملائكة أنثى إِنْ ما يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ فإنهم يظنون أن الملائكة بنات وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي لا يفيد مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إذ لا برهان للظن، و ما لا برهان له ليس مطابقا للواقع، فإن كل مطابق للواقع له برهان.

[30] فَأَعْرِضْ يا رسول اللّه عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا إذ لا يفيد معه التذكير! لأنه معاند وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا فكل سعيه و عمله للدنيا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 270

[سورة النجم (53): الآيات 30 الى 32]

ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلاَّ

اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)

و لا يعتقد بالآخرة حتى يعمل لها، فهو منكر للتوحيد، و منكر للمعاد.

[31] ذلِكَ انحصار فكرهم في الدنيا، من دون نفوذ علمهم إلى المبدأ و لا إلى المعاد مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قدر بلوغ علمهم فهو علم ضيّق محدود منحرف، فلا تتعب نفسك يا رسول اللّه مع هؤلاء فإن اللّه يعلم حالهم و سوف يجازيهم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي أنفذ علما فيعلم خصوصياتهم و كل دقائقهم وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فيجازي كلا حسب عقيدته و عمله.

[32] وَ لِلَّهِ ما أي الذي فِي السَّماواتِ وَ ما أي الذي فِي الْأَرْضِ أي كل شي ء فيهما ملكا و خلقا لِيَجْزِيَ اللّه الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا و العمل يشمل عمل القلب أيضا لأن الاعتقاد عقد القلب على شي ء خاص، و «اللام» للعاقبة، لا للعلّة، مثله، مثل لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا «1» وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بالمثوبة الحسنى في الدنيا و الآخرة.

[33] و من هم الذين أحسنوا؟ هم الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ الآثام الكبيرة و التي منها الكفر و الشرك و عدم الإيمان بالرسول و بما جاء به الرسول و عدم الإيمان بالمعاد وَ الْفَواحِشَ التي إثمها يتعدى إلى

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 271

[سورة النجم (53): آية 33]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)

الآخرين، من فحش إذا تعدى عمله الآثم إلى الآخرين إِلَّا اللَّمَمَ أي الذي يلمّ بالإنسان و يرد عليه مما لا علاج من وروده غالبا، و هي الصغائر و هي الصغائر مثل كلمة نابية، أو ضحكة

غير جائزة أو نظرة محرمة أو ما شابه ذلك، و الاستثناء منقطع لدفع توهم أن كل عصيان كبيرة، حيث إنها معصية لإله عظيم إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ فيغفر للّمم قطعا، بعد أن كان يغفر لكثير من الكبائر لمن يشاء هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ حتى من أنفسكم فمن عمل صالحا يعرفه و من عمل فاسدا يعرفه إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فإن علمه شامل لزمان تكوينكم من الأرض حيث إن الإنسان تراب ثم ينقلب، نباتا، ثم ينقلب حيوانا ثم النبات و الحيوان ينقلب إلى طعام يأكله الأبوان فيصير دما ثم منيّا وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جنين فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ و هذه أول مرحلة إنسانية، فيعلم بكم من ذلك الحين إلى اليوم فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لا يغرنكم أعمالكم الصالحة، كما يقع فيه بعض المؤمنين غير المتأدبين، فيزكي نفسه إنه صام و صلى و أنفق و فعل الخير، فإنه غرور يوجب سقوط النفس عن الرفعة عند اللّه و عند الناس هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فعلى المؤمن، لا يكون مفرّطا بعمل الفواحش، و لا مفرطا يزكي نفسه، فإن التزكية للنفس قبيح، و للّه أقبح لأنه أعلم بالإنسان من حال كونه ترابا إلى حال تقيّا، حتى من نفسه.

[34] و إذا عرفنا أحوال المتقين الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 272

[سورة النجم (53): الآيات 34 الى 37]

وَ أَعْطى قَلِيلاً وَ أَكْدى (34) أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)

اللمم فلنعرف أحوال غيرهم أَ فَرَأَيْتَ في قبال ذلك المتقي الَّذِي تَوَلَّى عن الحق و أعرض عنه و إن آمن به.

[35] وَ أَعْطى مالا

قَلِيلًا كما هو شأن كثير من الناس حيث يظهرون الإيمان لكنهم لا يلتزمون بموازينه، و بالأخص لا يدفعون المال المفروض عليهم إطلاقا أو يعطون شيئا قليلا وَ أَكْدى أي قطع العطاء و أمسك يده عن الإنفاق، لغلبة حالة البخل عليه، و من طبيعة أمثال هؤلاء الناس، أنهم يلقون تبعة ذنوبهم على غيرهم، فإذا قلت له لماذا تعصي؟ قال ذنب المبلغين الذين لا يبلغون كاملا، ثم أن اللّه يغفر لي، و ما أشبه من الكلمات المتعارفة عند البخلاء و العصاة، و في التفاسير أنّ الآيات نزلت في عثمان في قصة «1»، و من المعلوم أنه من باب المصداق.

[37] أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فيعلم أن إنفاقه قد كفاه في حصول منزلة له عند اللّه، و يعلم أن غيره يتحمل إثم أعماله؟ فَهُوَ يَرى الغيب و يعلم به؟

[37] أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ ألم يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى

[38] وَ بما في صحف إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى كان وفيّا بكل ما تعهد من قبل اللّه سبحانه، و «وفّى» بالتشديد مبالغة في الوفاء «و فيه تعريض أن هذا المؤمن الذي أعطى قليلا ... إلى آخره» لم يوفي بما شرط على

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 298.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 273

[سورة النجم (53): الآيات 38 الى 43]

أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)

وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى (43)

نفسه من الإطاعة في كل الأوامر.

[39] أَلَّا تَزِرُ لا تحمل وازِرَةٌ نفس حاملة وِزْرَ حمل نفس أُخْرى فكل إنسان ذنبه على نفسه، لا كما زعم هذا البخيل

من أن ذنبه على غيره.

[40] وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى فلم يزعم أن إعطائه القليل كاف عن الإعطاء الذي أمر به فكما لا يؤخذ أحد بذنب الغير كذلك لا يثاب أحد بأكثر مما عمل.

[41] وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى يراه بنفسه بدار الدنيا جزاء بالمدح أو بغير ذلك، فإن الدنيا قبل الآخرة دار المكافآت «و لا يجتني الجاني من الشوك العنب».

[42] ثُمَّ يُجْزاهُ أي يجزي العبد سعيه الْجَزاءَ الْأَوْفى الأوفر و ذلك في الآخرة.

[43] و ليعلم الناس أن اللّه هو مبدأ الأشياء و كل الأشياء تنتهي إليه و كل الأمور بيده، و لذا يجب عليهم شكره، و طاعته، كما يجب عليهم أن يخافوا من عقابه و عذابه وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى انتهاء كل شي ء، و معنى «إلى» إلى جزائه و ثوابه و عقابه.

[44] وَ أَنَّهُ هُوَ سبحانه أَضْحَكَ وَ أَبْكى فقد خلق في الإنسان قوتهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 274

[سورة النجم (53): الآيات 44 الى 49]

وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا (44) وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى (48)

وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49)

كما خلق و قدر ما يسبب البكاء و الضحك، و الضحك و البكاء ليس خاصا بالإنسان بل كل شي ء له ضحك و بكاء، قال الشاعر:

إن فصل الربيع فصل جميل تضحك الأرض من بكاء السماء ذهب حيثما ذهبنا و درّ حيث درنا و فضة في الفضاء [45] وَ أَنَّهُ هُوَ سبحانه أَماتَ وَ أَحْيا حتى أنه إذا قتل الإنسان إنسانا فإن روحه بيد اللّه، و لذا لا يموت الإنسان في

جهنم.

[46] وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ من كل شي ء الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى و عدم ذكر الخنثى إما لشذوذه، أو لأنه في الحقيقة إما ذكر أو أنثى.

[47] خلقهما مِنْ نُطْفَةٍ هي الماء القليل إِذا تُمْنى تدفق في الرحم.

[48] وَ أَنَّ عَلَيْهِ سبحانه النَّشْأَةَ الإنشاء بعد الموت الْأُخْرى فكما بدأ يقدر على الإعادة.

[49] وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى الأغنياء بخلق وسائل الغنى وَ أَقْنى أعطى المال الذي يدّخر للقنية أي الإبقاء، فالمال المتحرك الموجب للغنى، و المال الثابت كلاهما من عنده تعالى.

[50] وَ أَنَّهُ هُوَ تعالى رَبُّ الشِّعْرى نجم في السماء يطلع آخر الليل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 275

[سورة النجم (53): الآيات 50 الى 55]

وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى (52) وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55)

كان جماعة من العرب يعبدونه.

[51] وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً أي قبيلة عاد الْأُولى قوم هود عليه السّلام و هناك عاد ثانية عاد إرم ذات العماد.

[52] وَ أهلك ثَمُودَ قوم صالح فَما أَبْقى أحدا من الفريقين، حيث عصوا و عتوا و كان جزاؤهم العذاب.

[53] وَ أهلك قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ قبل عاد و ثمود إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ أكثر ظلما وَ أَطْغى أكثر طغيانا فقد ورد أنهم كانوا يضربون نوحا عليه السّلام حتى يبقى ليس به حراك، فهم ظالمون لأنفسهم طاغون على غيرهم و قد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما فلم ينفع فيهم.

[54] وَ الْمُؤْتَفِكَةَ و هي قرى قوم لوط عليه السّلام التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت أَهْوى بها و قلّبها بعد أن رفعها.

[55] فَغَشَّاها أحاط بتلك القرى من العذاب

ما غَشَّى الشي ء الذي غشاها من أصناف العذاب الذي لا يوصف.

[56] و بعد كل هذه العذابات التي تعلم بها، مما أصاب العصاة فَبِأَيِّ آلاءِ نعم رَبِّكَ يا أيها الإنسان تَتَمارى تتشكك، أليس وجود الأنبياء نعمة؟ أليس إنزال الكتب نعمة، أليس إرشاد العقل إلى الصحيح و الباطل نعمة؟ و هل شك في هذه النعم التي من أخذ بمقتضاها سعد، و من ترك مقتضاها شقي و عذب، حتى إنك تشك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 276

[سورة النجم (53): الآيات 56 الى 59]

هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)

و تعصي و تترك الأوامر.

[57] هذا القرآن نَذِيرٌ ينذركم من عذاب اللّه لمن عصي مِنَ النُّذُرِ الْأُولى من جنس الإنذارات السابقة التي بعثنا بها إلى الأمم السابقين، و من المحتمل أن يكون المراد بهذا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو نذير من جنس المنذرين «الرسل» السابقين.

[58] لقد أَزِفَتِ قربت الْآزِفَةُ القيامة التي هي قريبة إلى كل من جاء إلى دار الدنيا، فإن الإنسان خلق جسمه الذي هو من التراب، قبل مئات الألوف من السنوات، و قد خلق اللّه الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فإذا جاء إلى دار الدنيا فقد قرب موته، و إذا مات الإنسان قامت قيامته، أو المراد القيامة الحقيقية، لأن أكثر عمر الدنيا قد انقضى- كما دل على ذلك الآثار و العلم الحديث-.

[59] لَيْسَ لَها للآزفة مِنْ دُونِ اللَّهِ أحد غير اللّه كاشِفَةٌ نفس قادرة على كشفها و الإتيان بها، فإن القيامة شي ء مخفي، فإذا أقامها اللّه سبحانه فقد كشفها، و المراد الكناية عن أن القيامة بيد اللّه تعالى.

[60]

إذن فاللازم على هؤلاء من خوف عقاب الدنيا- كما في الآيات السابقة- و من خوف عقاب الآخرة- كما في هاتين الآيتين- أن يؤمنوا و يخافوا و يعملوا صالحا، و لكنهم سادرون في غيّهم أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ حديث التوحيد و النبوة و المعاد مما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تَعْجَبُونَ و قد كان اللازم أن لا تعجبوا، لأنه قد قامت الحجة عليه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 277

[سورة النجم (53): الآيات 60 الى 62]

وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ (60) وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا (62)

[61] وَ تَضْحَكُونَ استهزاء وَ لا تَبْكُونَ ندما و حزنا على ما سلف منكم من الكفر و الآثام، و حزنا على ما يأتي من عقاب الدنيا و الآخرة.

[62] وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ لاهون و هذه الاستفهامات استنكارية.

[63] فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا اخضعوا له بالسجود و العبادة إن كنتم أردتم الخلاص و النجاة، و هذه السجدة واجبة، و لعله فلسفة وجوبها كوجوب السجدات الثلاث الأخر و استحباب غيرها من السجدات تلوين الطاعة، كما لوّن سائر الطاعات من صلاة و صيام و حج و اعتكاف فكل واحد بشكل، و لكل واحد أجزاء بأشكال، و ذلك طبقا للكون الذي هو أشكال و ألوان و اللّه العالم بحقائق أوامره و أحكامه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 278

54 سورة القمر مكية/ آياتها (56)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «القمر» و هي كسائر السور المكية تتعرض لقضايا العقيدة بأصولها الثلاثة. و حيث تقدم في آخر سورة النجم «أزفت الآزفة» ابتدأت هذه السورة بذلك أيضا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبدأ باسم اللّه ليكون اسمه الكريم عونا لنا على الإتمام، إذ التوفيق للإتمام لا يكون

إلا بيده سبحانه، و هو الرحمن الذي يرحمنا بالتوفيق الرحيم الذي يرحمنا مرة أخرى بإدامة التوفيق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 279

[سورة القمر (54): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)

[2] اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ القيامة، و فيها احتمالان كما تقدم في آخر السورة السابقة في «أزفت الآزفة» أو المراد أنه ليس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا الساعة، فقد انتهت نبوات السماء به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ الذي هو من علامات اقتراب الساعة، و قد كان ذلك معجزة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قصة طويلة، و قد نقل كتاب «الإسلام يتحدى» ذكر بعض التواريخ الغابرة رؤية الناس لهذا الانشقاق، كما ذكرت بعض الجرائد الكويتية- بعد نزول الغربيين على القمر- رؤيتهم مكان الانشقاق كأنه صار نصفين ثم التحم- مع أنهم مسيحيون لا يؤمنون بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-.

[3] وَ إِنْ يَرَوْا هؤلاء الكفار المعاندون آيَةً معجزة تدل على صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُعْرِضُوا عنها و لا يقبلونها وَ يَقُولُوا إن ما يأتي به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الآيات سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ فهو يأتي بالسحر على سبيل الاستمرار.

[4] وَ كَذَّبُوا بالحق لما جاءهم وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ما قرر عليهم الهوى و الميل النفساني، لا ما قرره عليهم عقلهم وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ و كل

أمر لا بد و أن ينتهي إلى محل استقراره، و هذا تهديد لهم، أي أن تكذيبهم لا بد و أن ينتهي إلى عاقبة سيئة لهم.

[5] وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ أي الأخبار باللّه و بالآخرة، و بجزاء المحسن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 280

[سورة القمر (54): الآيات 5 الى 8]

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

حسنا و المسي ء سيئا ما فِيهِ كفاية و مُزْدَجَرٌ ازدجار، مصدر ميمي، فلو أنهم كانوا من أهل العقل و الحكمة لكفاهم ما ذكرنا لهم من الوعيد ازدجارا.

[6] ذلك الذي قلناه لهم من الأنباء حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بلغتهم، و قد كانت حكمة بوضع الشي ء في موضعه و لكن فَما تُغْنِ ما تفيد النُّذُرُ الإنذارات، بالنسبة إلى من يتعامى عنها.

[7] فَتَوَلَ أعرض يا رسول اللّه عَنْهُمْ من بعد أن أبلغت و أنذرت، و لم يقبلوا، لأن الإنذار لا ينفع فيهم فما أهول ما ينتظرهم من العذاب في يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ الداعي الذي يدعوهم عند البعث، ليقوموا للحساب إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ منكر فظيع، و إنما كان منكرا، لأن الإنسان لم يألفه و لم يشاهده.

[8] خُشَّعاً جمع خاشع بمعنى الذليل أَبْصارُهُمْ فإن خشوع النفس يظهر من خشوع العين يَخْرُجُونَ في أثر النداء مِنَ الْأَجْداثِ جمع جدث، بمعنى القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة و التموّج و عدم النظام و انتشارهم في كل مكان.

[9] مُهْطِعِينَ مسرعين إِلَى الدَّاعِ إلى الذي يدعوهم إلى الحساب-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 281

[سورة القمر (54): الآيات 9 الى 13]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا

عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ (13)

و يوم ذلك كلهم مطيعون- يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي عسير صعب.

[10] و هؤلاء الكفار بالإضافة إلى أنه ينتظرهم عذاب الآخرة، كذلك مثلهم مثل الأقوام السابقة الذين كفروا بالأنبياء و بما جاءوا به فأخذهم عذاب الدنيا فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قبل قومك يا رسول اللّه قَوْمُ نُوحٍ فقد بغوا و طغوا و كذبوا عَبْدَنا نوحا عليه السّلام وَ قالُوا إنه مَجْنُونٌ كما يقول الكفار بالنسبة لك يا رسول اللّه وَ ازْدُجِرَ زجر نوح عليه السّلام عن التبليغ بأنواع الأذية، لكن نوحا عليه السّلام استقام و لم ينصرف عن تبليغ الرسالة.

[11] فَدَعا نوح عليه السّلام رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ قد غلب علي الكفار بقوتهم المادية فَانْتَصِرْ فانصرني يا رب عليهم.

[12] و قد استجبنا دعاءه فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ مواضع نزول المطر بِماءٍ مُنْهَمِرٍ انهمر و تساقط بكثرة، كأنه أفواه القرب.

[13] وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً حتى كأنها لها عيون فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء و ماء الأرض عَلى أَمْرٍ هو إغراق قوم نوح عليه السّلام قَدْ قُدِرَ قدّره اللّه سبحانه و حكم به.

[14] وَ حَمَلْناهُ أركبنا نوحا عليه السّلام و من معه من المؤمنين عَلى سفينة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 282

[سورة القمر (54): الآيات 14 الى 18]

تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ

نُذُرِ (18)

ذاتِ أَلْواحٍ أخشاب عريضة، جمع «لوح» وَ دُسُرٍ المسامير، فإنه جمع «دسار» بمعنى المسمار.

[15] تَجْرِي السفينة بالمياه المحيطة بالأرض بِأَعْيُنِنا تحت نظرنا و رعايتنا، و الجمع باعتبار أن كل حركة تحتاج إلى عين ترعاها من الغرق و الهلاك، و قد فعلنا ذلك بنوح عليه السّلام جَزاءً حسنا منا لِمَنْ كانَ كُفِرَ لنوح الذي كفر به قومه.

[16] وَ لَقَدْ تَرَكْناها أبقينا خبر نوح و قومه آيَةً علامة يعتبر بها العقلاء فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ هل هناك من يعتبر بالقصة؟ المبلغ يعتبر به فلا يهمه تكذيب الناس، و الناس يعتبرون فلا يكذبون المبلغين لأن عاقبتهم تكون سيئة.

[17] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي للمكذبين وَ نُذُرِ إنذاراتي لهم، ألم تكن عاقبة المكذبين العذاب كما وعدتهم؟

[18] و هل يريدون أوضح بيانا من هذا الذي ذكرناه و خوفناهم به؟ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا سهّلنا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ليتذكر به الناس فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ من يتذكر و يتعظ؟ استفهام تحريضي، و «مدّكر» من «ادّكر» أصله «تذكّر».

[19] و بعد قوم نوح عليه السّلام كَذَّبَتْ عادٌ قبيلة عاد و هم قوم هود عليه السّلام، فعذبناهم بتكذيبهم فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ؟ أليس في تكرار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 283

[سورة القمر (54): الآيات 19 الى 22]

إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (21) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

العذاب لكل قوم كذبوا، وعظا لكفار قريش؟ فليس لهم أن يقولوا أن عذاب قوم نوح كان من القضايا الاتفاقية.

[20] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ على عاد رِيحاً صَرْصَراً باردة شديدة البرد فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ استمر العذاب عليهم في ذلك اليوم

حتى أهلكهم.

[21] تَنْزِعُ تقلع تلك الريح النَّاسَ قوم عاد، من أماكنهم في الغرف و غيرها و كانت تفتح الأبواب و تخرج الناس إلى الساحات و ترفعهم عن الأرض ثم تضربهم بها، و كانت تقلع رؤوسهم عن أجسادهم فبقيت أجسادهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ أصول نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ منقلع عن مغارسه، و لعلهم كانوا يلوون على أنفسهم من شدة الألم و لأن يجمعوا أنفسهم في قبال الريح، و لذا شبهوا بأعجاز النخل.

[22] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ؟ لعل وجه التكرار لأجل أن مثل هذا العذاب لا يمكن أن يحمل على أنه طبيعي، و إن أمكن ذلك في الغرق.

[23] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فلم نجعله كالكتب الفلسفية التي لا يفهمها الإنسان إلا بصعوبة بالغة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ من يتذكر فلا يعصي حتى لا يعذب كما عذب الأمم السابقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 284

[سورة القمر (54): الآيات 23 الى 27]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (24) أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (27)

[24] كَذَّبَتْ قبيلة ثَمُودُ قوم صالح عليه السّلام بِالنُّذُرِ جمع نذير أي الأنبياء إذ تكذيب نبي واحد هو تكذيب لكل الأنبياء.

[25] فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا من جنسنا أو من قبيلتنا، لأن صالح كان من قبيلتهم واحِداً لا تبع له نَتَّبِعُهُ و نقبل كلامه؟ هذا لا يكون إِنَّا إِذاً إذا اتبعنا بشرا واحدا لَفِي ضَلالٍ عن طريقة آبائنا وَ سُعُرٍ جمع سعير، أي نحرق بناره، كما يقال فلان أحرق نفسه أي سبّب ضياع نفسه و ماله و مستقبله، إنهم

ما كانوا يقتنعون بالبرهان، بل كانوا يريدون أن يكون الهادي لهم من جنس أعلى كالملائكة لا «منا» أو لهم جماعة و سطوة و شوكة مثل أن يكون ملكا أو رئيس عشيرة.

[26] أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ الكتاب و الوحي عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ فلما ذا لم يلق الوحي إلي من هو أكثر منه مالا أو شخصية؟ بَلْ هُوَ صالح عليه السّلام كَذَّابٌ كثير الكذب في نسبة الوحي إلى نفسه أَشِرٌ حمله بطره على الترفع علينا بادعائه النبوة، فإن المترفعين لما يعتادون الإشارة إلى الناس بالاستهزاء و السوء، اشتق من مادة الإشارة، الأشر بهذا المعنى.

[27] سَيَعْلَمُونَ غَداً حين ينزل عليهم العذاب مَنِ هو الْكَذَّابُ الْأَشِرُ هل هم الذين أكثروا من الكذب أم صالح النبي عليه السّلام؟.

[28] إِنَّا أي اللّه سبحانه مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مخرجوها من الجبل و باعثوها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 285

[سورة القمر (54): الآيات 28 الى 31]

وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)

إليهم معجزة لصالح عليه السّلام فِتْنَةً اختبارا و امتحانا لَهُمْ هل يؤمنون بالإعجاز أم لا؟ فَارْتَقِبْهُمْ أي انتظرهم و راقبهم هل يؤمنون أم لا؟

وَ اصْطَبِرْ عليهم بالاستمرار في التبليغ و عدم الدعاء عليهم مع إيذائهم لك.

[29] وَ نَبِّئْهُمْ أخبرهم أَنَّ الْماءَ الذي كان يجري نهرا عندهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم للناقة يوم و لهم يوم، فإذا شربت الناقة في يومها كل ماء النهر أعطتهم عوضه حليبا كُلُّ شِرْبٍ شرب الحصة من الماء مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه و لا حق لأحدهما في الماء في يوم الآخر.

[30] فَنادَوْا ثمود صاحِبَهُمْ و هو قدار الذي كان من

شرارهم فَتَعاطى أخذ الناقة، و لعل باب التفاعل من جهة أن قدار و جماعة منهم أخذوا زمام الناقة حتى ألجؤوها إلى مكان يمكن عقرها فَعَقَرَ قدار الناقة أي جرحها و قتلها.

[31] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ؟ هل تركت عذابهم لما خالفوا و كذبوا أم أخذتهم بالعذاب؟.

[32] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً صاح بهم جبرائيل عليه السّلام فانخلعت بذلك قلوبهم فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الماشية في الشتاء في حظيرته، و لعل وجه التشبيه، أنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 286

[سورة القمر (54): الآيات 32 الى 36]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36)

تقطعت أيديهم و أرجلهم و تكوّمت الأبدان و الأيدي و الأرجل في مكان، كما يتكوّم الهشيم المتكسر المجتمع.

[33] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ لا يقال في القرآن متشابهات، لأنه يقال عامة القرآن ميسرة و بعض الآيات المتشابهات لا يضر بالعموم من حيث العموم.

[34] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ فلم يقبلوا إنذار لوط عليه السّلام و تكذيب لوط تكذيب لسائر الأنبياء.

[35] إِنَّا جزاء لتكذيبهم أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ريحا ترميهم بالحجارة يقال حصبه أي رماه بالحجارة إِلَّا آلَ لُوطٍ لوط و أهل بيته المؤمنين «باستثناء زوجته فإنها أصابها ما أصاب القوم لأنها كانت كافرة مثلهم» نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ في آخر الليل.

[36] و إنما نجيناهم نِعْمَةً لهم مِنْ عِنْدِنا إذ كان من الممكن إماتتهم في ذلك الحال، بدون عذاب، كما يموت كل خير في زمان ما كَذلِكَ هكذا، كما جزينا

آل لوط عليه السّلام نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا عليه، بالإيمان و الطاعة، و المراد الشكر القلبي و الشكر العملي.

[37] و قد قدم سبحانه عذابهم على ذكر بلاغ لوط لهم، لبيان أن العذاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 287

[سورة القمر (54): الآيات 37 الى 39]

وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (37) وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (39)

يأخذ المعتدين بسرعة حتى كأن بقاءهم في الحياة لمحة عين وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السّلام بَطْشَتَنا أخذنا الشديد بالعذاب لمن خالف أوامرنا فَتَمارَوْا فتشككوا من المماراة أي المجادلة بِالنُّذُرِ و أخذوا يجادلون بالباطل حول صدق لوط.

[38] وَ لم يقتنعوا بتكذيبه و الاستمرار في فحشائهم، بل أضافوا على ذلك أنهم لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ المراودة، الرواح و المجي ء، فقد جاء آل لوط ضيوف، فأراد قومه أن يلوطوا بهم، و كان أولئك الضيوف هم الملائكة فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فمسحناها و سويناها بسائر الوجه حتى عميت عيونهم و شوهت خلقتهم فقلنا لهم فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ أي ذوقوا عاقبة إنذاري لكم، أو المراد كأن لسان الحال يقول لهم «ذوقوا ...».

[39] وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ دخل العذاب عليهم في الصباح الباكر، و البكرة أول الصبح، و دخول العذاب في ذلك الوقت أنكر، لأنهم يرجون خير النهار فإذا بهم يجدون انهدام الآمال بالعذاب مُسْتَقِرٌّ فلم يكن عذابا عابرا، بل عذاب استقر بهم حتى أهلكهم.

[40] فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ و فائدة التكرار تكرار التذكير و من الواضح أنه قد يؤثر التكرار ما لا يؤثر غيره، و ذلك لاستيعاب الذهن له، و لذا إذا أراد الإنسان أن يحفظ شيئا كرره مرات.

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 5، ص: 288

[سورة القمر (54): الآيات 40 الى 43]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)

[41] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ لا يقال غير العرب لا يستفيدون من القرآن، لأنه يقال، قصد الإسلام توحيد لغة الناس، لأجل تفاهم عام و لأجل إرساء دعائم حكومة واحدة- بما فيها من الفوائد الجمة- و مثل ذلك يوجب يسر القرآن للكل.

[42] وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ آل فلان يستعمل له و لآله، أي فرعون و آله النُّذُرُ المنذرون مثل موسى و هارون و مؤمن آل فرعون، و لعل أنبياء آخرين أيضا كانوا، لما ورد في الأحاديث أن موسى عليه السّلام حج مع سبعين نبيا.

[43] كَذَّبُوا بِآياتِنا الكثيرة كُلِّها كاليد و العصا و القمل و الضفادع و الدم و غيرها، و لعل المجي ء بدون «الواو» لإفادة فورية التكذيب بلا تروّ فَأَخَذْناهُمْ بالغرق أَخْذَ عَزِيزٍ له العزة و الغلبة مُقْتَدِرٍ له القدرة، لأن القدرة قد تكون مع الذلة عند الناس، و قد تكون مع العزة.

[44] أَ كُفَّارُكُمْ يا معشر قريش خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ من أولئك الكفار للأمم السابقة حتى نترككم مع تكذيبكم، و قد سمعتم كيف أخذنا أولئك الكفار؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ في الكتب، بأن كنا أعطيناكم عهدا في كتب الأنبياء أن لا نهلككم؟ و إذ لا ذاك، و لا هذا، فاللازم أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 289

[سورة القمر (54): الآيات 44 الى 48]

أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ

مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)

تخافوا من بطشنا و أن نفعل بكم ما فعلنا بتلك الأمم الكافرة.

[45] أَمْ يَقُولُونَ هؤلاء الكفار نَحْنُ جَمِيعٌ مجتمع مُنْتَصِرٌ ننتصر و نتغلب على من أراد بنا هلاكا؟ و هل يمكن التغلب على إرادة اللّه؟.

[46] سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ سيهزمون إذا جاءهم عذاب اللّه و لا يفيدهم جمعهم وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ فلا يقفون وجها لوجه أمام العذاب، بل يعطون العذاب قفاهم و يفرون، فلا يفيدهم جمعهم.

[47] هذا إذا أرسلنا عليهم العذاب في الدنيا بَلِ السَّاعَةُ القيامة مَوْعِدُهُمْ موعد عقوبتهم الحقيقية و عذابهم الأصلي وَ السَّاعَةُ أَدْهى أشد عذابا لهم من عذاب الدنيا وَ أَمَرُّ أكثر مرارة في مذاقهم، و الداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدي الإنسان لدوائه.

[48] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ بالإضافة إلى عذابهم في الدنيا و الآخرة، هم فِي ضَلالٍ عن الحق، و هذا ما يولد لهم نوعا من المشاكل المادية، لأن غير طريق الحق فيه مشاكل و أتعاب وَ سُعُرٍ جمع سعير، لأنهم يستعرون نفسيا بما يرتطمون فيه من المشاكل فهم في قلق نفسي و اضطراب و عدم سكينة، فإن الاطمئنان النفسي للمؤمنين فقط، أو المراد ضلال الدنيا و سعير الآخرة.

[49] يَوْمَ بيان لموعدهم في الساعة، أو ما بينه بقوله «سعر»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 290

[سورة القمر (54): الآيات 49 الى 51]

إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَ ما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)

يُسْحَبُونَ يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ فإنهم لما لم تخضع وجوههم للحق، جوزوا بإذلال وجوههم في النار، و يقال لهم زيادة

في إهانتهم من جهة الشماتة ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ مسّه، أي أصابه، و سقر علم على جهنم.

[50] و حيث إن الكفار كانوا يقولون: ائتنا بعذاب اللّه إن كنت صادقا، أجابهم القرآن إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ أي جعلناه بِقَدَرٍ بتقدير خاص، فيوم القيامة، و عذاب هؤلاء، يأتي في الوقت المقدر لهما، و لا نقدم العذاب حسب طلبهم فكما أن كل بذرة تعطي ثمرا، فللثمرة بين زرعها و بين إثمارها زمان مقدر، كذلك كل عمل إلى أن يعطي ثمره و جزاءه له وقت مقدر خاص.

[51] لكن إذا حان الوقت المقدر، فلا تراجع فيه و لا بطء فيه وَ ما أَمْرُنا بعذابهم أو بغير ذلك إِلَّا واحِدَةٌ فلا حاجة للتكرار في الأمر، كما لا تراجع منه إذا أمرنا و هو كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ حركة البصر، في السرعة فلا يحتاج إلى مقدمات فيجب أن يعرف هؤلاء الكفار أنه إذا حان عذابهم لا تراجع فيه، كما أنه لا يأخذهم تدريجيا ليفكروا في الخلاص بل يأخذهم بغتة.

[52] وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أشباهكم من الأمم، و قد عرفتم كيف لم نتراجع حين أردنا عذابهم و كيف لم نتدرج في عذابهم بل أخذناهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 291

[سورة القمر (54): الآيات 52 الى 55]

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

دفعة واحدة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ مدّكر يتذكر، حتى يرجع عن غيه؟.

[53] و لم ننس حتى أصغر شي ء فعلوه فعاقبناهم بكل ما ارتكبوا من جرائم وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ مكتوب فِي الزُّبُرِ كتبه الحفظة.

[54] وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ من أعمالهم، كما هو كذلك

في كل أعمال البشر مُسْتَطَرٌ مسطور مكتوب.

[55] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ جمع نهر بسكون الهاء، و لعل المراد انهم يسبحون في أنهار الجنة، و الظرف مجاز.

[56] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان لا كذب فيه، بخلاف الدنيا، فإن مكان الدنيا باعتبار أن ظاهره الراحة و واقعه التعب، كذب عِنْدَ مَلِيكٍ ملك، و مليك أكثر دلالة على استقرار ملكه، لأنه صفة مشبهة كشريف مُقْتَدِرٍ له القدرة على تنفيذ ما وعد من عذاب العاصين و نعيم المطيعين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 292

55 سورة الرحمن مكية أو مدنية/ آياتها (79)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الرحمن» و قد اختلفوا في كونها مكية أو مدنية لكنها أشبه بالسور المدنية لمعالجتها قضايا العقيدة، لا الشريعة. و لما ختمت سورة القمر بذكر اللّه سبحانه نعمه للإنسان في الآخرة، ابتدأت هذه السورة بذكره سبحانه، و نعمه للإنسان في الدنيا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نقرن أعمالنا بذكر أسمه تعالى، شعارا لنا بأنا من أتباع اللّه و المطيعين لأوامره، كما نرجو أن يرحمنا في مستقبل دنيانا و آخرتنا، كما في ماضي أمرنا بالخلق أولا، و إعطائنا سائر النعم ثانيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 293

[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)

الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ (7)

[2] الرَّحْمنُ لأنه رحمن «فإن تعليق الأمر على الصفة يفيد العلية».

[3] عَلَّمَ الْقُرْآنَ إذ لو لا رحمه لم يعلم القرآن و ترك البشر في دياجير الظلام.

[4] خَلَقَ الْإِنْسانَ أخّر الخلق، عن التعليم مع أنه مقدم على التعليم زمانا، للدلالة على جلالة العلم حتى أنه لو لا

العلم لكان خلق الإنسان قليل الفائدة.

[5] عَلَّمَهُ الْبَيانَ بأن يتكلم و يظهر ما في ضميره.

[6] و إذ ذكر القرآن الإنسان بالنعم التي تدل على علم اللّه و قدرته و دقة حكمه، جاء الدور للتنبيه على أنه لا مكان للعبثية و الاعتباط في الخلق الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ قد خلقا و يجريان بحساب معلوم مقدر بلا زيادة و لا نقيصة.

[7] وَ النَّجْمُ الموجود في السماء، و الذي ينجم أي يظهر في الأفق وَ الشَّجَرُ الذي ينجم أي يظهر من الأرض يَسْجُدانِ خاضعان للّه سبحانه، و يسجد ليس بمعنى المستقبل، بل بمعنى الحال أي دائما، أو المراد سجودهما، إذ لكل شي ء معرفة باللّه و نوع خضوع له، و في جملة من التفاسير، إن المراد بالنجم النبات الذي لا ساق له، في مقابل الشجر الذي له ساق.

[8] وَ السَّماءَ رَفَعَها اللّه سبحانه، سواء أريد به المدارات أو الجزئيات،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 294

[سورة الرحمن (55): الآيات 8 الى 12]

أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ (12)

أو الأنجم وَ وَضَعَ أي جعل و إنما أتى بهذا اللفظ، ليجعل المقابلة بين الرفع و الوضع الْمِيزانَ ليوفي كل ذي حق حقه، ففي القضايا التكوينية عدل و حساب دقيق، و كذلك جعل سبحانه للتعامل بين الناس عدلا و حسابا.

[9] و إنما وضع الميزان ل- أَلَّا تَطْغَوْا و تجوروا فِي الْمِيزانِ في وزن الأشياء إذ لو لم يكن الميزان الذي به توزن الأشياء لحصل الجور في وزن الأشياء.

[10] لكن قسما من الناس أيضا يجورون مع وجود الميزان،

بالاحتيال و التطفيف و لذا قال اللّه سبحانه وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ بالعدل وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي لا تنقصوه، و المراد ما في الميزان بعلاقة الحال و المحل.

[11] وَ إذا تقدم ذكر السماء فلنذكر ما يقابل نعمة السماء من نعمة الأرض فإن الْأَرْضَ وَضَعَها اللّه لِلْأَنامِ لفائدتهم أحياء و أمواتا.

[12] فِيها فاكِهَةٌ إما الثمار أو كل ما يتفكه به وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ الكم وعاء التمر، و «ذات» باعتبار جنس النخل.

[13] وَ الْحَبُ كالحنطة و الشعير ذُو الْعَصْفِ ورق الزرع، سمي به

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 295

[سورة الرحمن (55): الآيات 13 الى 17]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)

لأنه يعصف به أي يتحرك، و منه «العاصفة» بمعنى الريح الشديدة وَ الرَّيْحانُ ما يستشم به من الأوراد و نحوها.

[14] فَبِأَيِّ آلاءِ جمع «إلى» بمعنى النعمة رَبِّكُما أيها الجن و الإنس، بقرينة «للأنام» و «أيها الثقلان» تُكَذِّبانِ فإن تكذيبهم برب النعمة و إنكارهم له، كفران للنعمة، و تكذيب لربط النعمة برب النعمة، و تكرار التذكير بهذه الآية «فَبِأَيِّ آلاءِ ...» في مقابل كثرة تكذيبهم برب النعمة.

[15] خَلَقَ اللّه الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ الطين اليابس الذي له صلصلة، أي صوت كَالْفَخَّارِ الخزف فإن اللّه جعل التراب طينا و لما بقي مدة صار كالحمإ المسنون، ثم يبس و صار صلصالا، كما في آيات متعددة.

[16] وَ خَلَقَ الْجَانَ أبا الجن، أو كل جني، فكما أن أصل كل فرد منا التراب، كذلك أصل كل جني النار مِنْ مارِجٍ صاف من الدخان مِنْ نارٍ أي نار مارجة،

و يسمى مارجا من مرج بمعنى اضطرب.

[17] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل تكذبون بنعمة الخلق؟ و من خلقكم إذن؟.

[18] اللّه هو رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الصيف و مشرق الشتاء وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 296

[سورة الرحمن (55): الآيات 18 الى 23]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (22)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)

مغربهما.

[19] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و هل هناك رب آخر جعل المشرق و المغرب؟ و من هو إذن؟

[20] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلط بين بحر عذب و بحر مالح يَلْتَقِيانِ فإن تحت الأرض قطعة من الماء المالح في البحار، و العذب في العيون و المخازن الخلقية، و هما متجاوران، و هذا في بطن ذاك و بالعكس.

[21] بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز لا يَبْغِيانِ فلا العذب يدخل في المالح، و لا العكس، و ذلك لقانون خلقه اللّه في المائين، مما لا يقبل أحدهما الاختلاط بالآخر، و إنما كل ماء يجذب إلى نفسه أجزاء ما من جنسه، و قد ذكروا تفصيل ذلك في علم الفيزياء.

[22] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل خلق المائين غير اللّه؟ و هل جعل هذا القانون فيهما غير اللّه؟

[23] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ الدر الذي في الصدف وَ الْمَرْجانُ شجرة تنبت تحت الماء.

[24] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل خلق اللؤلؤ و المرجان من غيره تعالى؟ و من هو إذا؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 297

[سورة الرحمن (55): الآيات 24 الى 28]

وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ

آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)

[25] وَ لَهُ سبحانه الْجَوارِ جمع جارية أي السفينة، و كونها له لأنه خلق مواردها، و وهب الإنسان عقلا لصنعها و جعل في الماء قانونا «كشفه أرخميدس» لأجل أن لا تغرق في الماء الْمُنْشَآتُ التي أنشأها و أوجدها الإنسان بفكر وهبه اللّه له فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ جمع علم و هو الجبل الطويل، فكيف أنها لا تغرق في الماء؟.

[26] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل خلق المواد، و إعطاء الإنسان قدرة الإنشاء، أو جعل قانون أرخميدس في الماء، لغير اللّه؟، و من يجرأ أن يقول ذلك؟

[27] هكذا أنشأناكم، و هيأنا مصالحكم، ثم بعد ذلك كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض فانٍ يفنى و يهلك.

[28] وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذات ربك، و الإنسان يقال له وجه، فيقال «نحتاج إلى وجوه جديدة» أو «فلان وجه كريم» و ذلك، لأنه محل التوجه، فيطلق على الكل من باب إطلاق الجزء على الكل، كما ذكروه في أقسام المجاز ذُو الْجَلالِ فهو أجل من أن يفنى وَ الْإِكْرامِ الذي أكرم بالخلق ثم يكرم بالإعادة. و الأول: صفة جلال. و الثاني: صفة جمال.

[29] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل تكذبون بأن اللّه يفني زيدا و عمروا و بكرا؟ و كل واحد من فناءاته نعمة، نعمة على المؤمن لأنه ينجيه إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 298

[سورة الرحمن (55): الآيات 29 الى 30]

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)

دار كرامته، و على غير المؤمن لأنه لا يزداد عصيانا ببقائه في دار الدنيا.

[30] فهو الخالق، و هو مهئ كل نعمة، و هو المغني، ثم هو المسؤول لكل حاجة، في كل الكون يَسْئَلُهُ يطلب

الحوائج منه مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة و غيرهم وَ الْأَرْضِ من الإنسان و الجن و غيرهما، و ليس اللّه كالإنسان الذي يجعل القانون ثم لا يغيره و لا يبدله، فلا شأن له في التصرف بعد وضعه القانون بل كُلَّ يَوْمٍ هُوَ سبحانه فِي شَأْنٍ فإذا قدر الفقر ثم سأله إنسان أن يغنيه أغناه، و هكذا، فهو يتصرف في الكون في كل آن، لا يقال ما هي الحاجة إلى ذلك و قد كان بقدرته سبحانه أن يكون كصاحب معمل يشغل معمله لحظة، ثم يتركه طيلة حركته، فيخلق اللّه الكون لحظة، ثم لا يعمل شيئا؟ لأنه يقال المحال لا يقع تحت قدرة اللّه تعالى فإن الأشياء عدم بدون استمرار عناية اللّه بها مثل أن النور عدم بدون إفاضة الشمس دائما له، و مثال المعمل غير صحيح، لأن صاحب المعمل لا يأتي إلا بالمعدّ أي بحركة أعضائه و جوارحه في اللحظة الأولى أما دوران المعمل فهو حسب قانون جعله اللّه في الكون فاللّه قائم على دوران المعمل لا إنه يدوره بنفسه كما أن من يضغط على جهاز الكهرباء أتى بالمعدّ و انتهى فالإنارة المستمرة إنما هي حسب قانون اللّه في جريان تيار الكهرباء، و هذا بحث طويل مربوط بالفلسفة.

[31] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أليس اللّه يستمر في إعطاء الكون الحياة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 299

[سورة الرحمن (55): الآيات 31 الى 33]

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33)

و البقاء الجديد؟ و أليس كل ذلك آلاء و نعما.

[32] سَنَفْرُغُ لَكُمْ سنتجرد عن شؤون الدنيا لأجل

حسابكم يوم القيامة- إذ لا دنيا حينئذ- أَيُّهَ الثَّقَلانِ الجن و الإنس، و الظاهر أنه تهديد، و كناية على أنه لا عمل إلا حسابكم، فيكون الحساب دقيقا جدا، فهو مثل قول الرجل لمن يريد تهديده، سأفرغ لك، أي لا يكون لي شغل إلا الإيقاع بك.

[33] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا بآلاء اللّه حتى لا تقعوا في العذاب يوم القيامة و أهوالها.

[34] إن ذلك التفرغ لشأنكم إنما يكون في يوم لا مفر لأحد من سلطان اللّه، فيقال للثقلين يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يا أيتها الجماعة إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا أن تهربوا من ثقب الكون مِنْ أَقْطارِ جمع قطر بمعنى الناحية السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأن أقطارها في ذلك اليوم مسدودة فَانْفُذُوا و اهربوا لكن هيهات أن تتمكنوا من ذلك لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون من النفوذ و الهرب إِلَّا بِسُلْطانٍ بحجة واضحة تأتون بها على أنكم عملتم في الدنيا حسنا، فيعطى لكم جواز التخلص من الحساب إلى سعة الجنة.

أقول: ربما فسر هذه الآية بعض العلماء بعدم إمكان الذهاب إلى أجواء السماء و أعماق الأرض إلا بسلطان العلم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 300

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 349

[سورة الرحمن (55): الآيات 34 الى 38]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)

[35] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فكما أن الدنيا نعمة، كذلك الحساب نعمة، فإن مثله مثل الامتحان الذي يعطي كل ذي حق حقه، فهل تكذبان بنعم الحساب التي توجب وصول كل ذي حق إلى حقه؟

[36] في ذلك اليوم يُرْسَلُ عَلَيْكُما أيها

الجن و الإنس شُواظٌ اللهب الخالص، أو ذرأت النار المتطايرة مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ مذاب حتى يتأذى بهما الكفرة و العصاة فَلا تَنْتَصِرانِ لا أحد ينصركم من بأس اللّه، فآمنوا و اعملوا حتى لا يصيبكم مثل هذا العذاب.

[37] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا بالآلاء حتى لا يشملكم مثل هذا العذاب.

[38] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ بأن كان في نظر الناظر كأن فيها خلل و فرج، كما أن يوم الحساب ينظر الناس إلى السماء كأن فيها فرج من أثر وجود الغيم في بعضها و عدم وجوده في بعضها فَكانَتْ السماء وَرْدَةً يظهر في فرجها أثار العذاب الأحمر، لأن النار حمراء كَالدِّهانِ كالدهن أي عذاب سيال كالدهن أحمر كالنار، و جواب «إذا» لا يسأل، كما يأتي.

[39] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبا حتى لا تبتليا بأهوال هذا اليوم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 301

[سورة الرحمن (55): الآيات 39 الى 42]

فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42)

[40] فَيَوْمَئِذٍ تكرار لقوله سبحانه «فإذا» للتأكيد لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ عن ذنب أحد، إلا نفسه، و جي ء بضمير مفرد، لإفادة أن كل إنسان هو المسؤول عن نفسه فلا يتوهم أنه يمكنه الفرار و إلقاء الأجوبة على عاتق الغير، كما أن الكبراء في الدنيا يفعلون كذلك، يلقون أجوبة الأسئلة المحرجة على عاتق غيرهم إِنْسٌ وَ لا جَانٌ فكل إنس يجيب عن نفسه و كل جني يجيب عن نفسه.

[41] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل تكذبان؟ و تخلّفان هذه المشكلة التي لا مفر منها وراء ظهوركم.

[42] إنه بالإضافة إلى أنهم يسألون في موطن من

مواطن القيامة عن أعمالهم، إنهم يعرفون من ألوانهم يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ و وجوههم السود و أجسامهم الزرق، فإن أجسامهم تكون كجسم من لفحه برد شديد، و كآبتهم الظاهرة يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» «زرقاء» وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ «2» و إنما لم يذكر الصالحون، لأن المقام لتهديد الكفار و العصاة فَيُؤْخَذُ كل مجرم بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ ظاهر الآية أنهم يجمع الملائكة بين ناصيتهم و أقدامهم لإلقائهم في جهنم.

[43] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا حتى لا تقعوا في أمثال هذا العذاب الجسمي و الإهانة النفسية.

______________________________

(1) آل عمران: 107.

(2) القيامة: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 302

[سورة الرحمن (55): الآيات 43 الى 47]

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47)

[44] و يقال لهم حينذاك هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كان يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ في دار الدنيا فكانوا يقولون لا جنة و لا نار، أرأيتم كيف وصلتم إليها، و لم ينفعكم تكذيبكم بها في الخلاص منها.

[45] و المجرمون في حركة دائمة فيها بين شدة العذاب و العطش و بين شرب الماء الذي هو في غاية الحرارة يَطُوفُونَ المجرمون، و الطواف هو الذهاب و المجي ء بَيْنَها بين نيرانها وَ بَيْنَ ماء حَمِيمٍ حار آنٍ من شدة الحرارة قد انتهى حره إلى آخر درجة.

[46] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل لكم طاقة بهذا العذاب حتى تكفروا، و تبتلوا به؟.

[47] هذا حال المجرمين و المكذبين وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ موقف ربه، أي يوم الحساب و إضافة «مقام» إلى «الرب» لبيان اختصاص الحكم هناك للّه سبحانه، لا إن

المراد «قيام اللّه» كما ربما توهم، أي خاف اللّه في الدنيا فآمن و عمل صالحا جَنَّتانِ جنة لجزاء عمله، و أخرى زيادة و تفضلا، كما قال تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ «1» و قوله كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ «2».

[48] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا بالآلاء حتى تنالوا هذا

______________________________

(1) يونس: 27.

(2) الحديد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 303

[سورة الرحمن (55): الآيات 48 الى 54]

ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54)

الثواب العظيم.

[49] ذَواتا أَفْنانٍ كل جنة ذات ألوان من النعيم و الثمار و الحور و القصور.

[50] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا حتى تنالوا هذا النعيم ذا الأفنان.

[51] فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ في كل جنة عين، لها صفاء العين، و جمالها، و منظر النهر الجاري.

[52] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فبينما كان ينبغي أن يكون وراء كل مخوف و كل نعمة تصديق، هؤلاء يكذبون، و سيجزون جزاء تكذيبهم.

[53] فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان شتوي و صيفي أو غريب و مألوف، أو كبير و صغير، أو رطب و يابس، إلى غير ذلك، كل ذلك للتفنن و مزيد النعمة.

[54] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بنعمه الظاهرة أو بنعمه الباطنة؟ و هل نعمه قابلة للتكذيب؟

[55] و هؤلاء أصحاب هذا النعيم تراهم في حال كونهم مُتَّكِئِينَ بحالة راحة و استرخاء عَلى فُرُشٍ جمع فراش بَطائِنُها البطانة مقابل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 304

[سورة الرحمن (55): الآيات 55 الى 60]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ

يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59)

هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)

الظهارة مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين، يسبب الراحة، فليس فراش ظاهر فقط، حتى لا يستريح الإنسان عليه وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ أي الذي يجنى منهما و هو الثمر دانٍ متهدل على رؤوسهم يتمكن القاعد و النائم أن يناله بسهولة.

[56] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل تكذبان بآلائه في الآخرة.

[57] فِيهِنَ في تلك الفرش نساء قاصِراتُ الطَّرْفِ مقصورة أبصارهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لَمْ يَطْمِثْهُنَ لم يمسهن، لا بالجماع و لا بغير الجماع إِنْسٌ قَبْلَهُمْ قبل أهل الجنة وَ لا جَانٌ فزوجة الإنس لم يمسها إنس و زوجة الجن لم يمسها جن.

[58] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بآلائه التي تؤكل و تشرب أم بآلائه من جنس الزواج و الاستمتاعات.

[59] كَأَنَّهُنَ كأن تلك النساء الْياقُوتُ في حمرة الشفاه و الوجنات وَ الْمَرْجانُ في بياض الجسم و البشرة.

[60] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فمن خلق مثل هذا الجمال الذي رأيتموه في الدنيا، في الجملة، و سيراه المؤمنون في الآخرة في كماله الرائع؟.

[61] ثم أن كل هذا الجزاء لمن أحسن في الدنيا بالإيمان و العمل الصالح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 305

[سورة الرحمن (55): الآيات 61 الى 66]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65)

فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)

و هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ أي إحسان المؤمنين إِلَّا الْإِحْسانُ إليهم في الآخرة بالثواب و النعيم؟ فإن البذرة تثمر الثمرة التي هي من جنسها.

[62] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل هناك تكذيب بأن الإحسان يولّد الإحسان؟.

[63]

النعم التي ذكرناها إنما هي للسابقين المقربين وَ مِنْ دُونِهِما أدون و أنزل من الجنتين المذكورتين جَنَّتانِ و الظاهر أنهما لمن دون المقربين في الأعمال، أي باقي المؤمنين.

[64] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل يتساوى الأكثر طاعة و الأقل طاعة؟

الأكثر طاعة في جنتين رفيعتين، و الأقل طاعة في جنتين أقل درجة، فهل يكذب الإنسان بمثل هذا؟

[65] مُدْهامَّتانِ من «دهم» بمعنى السواد أي أن الجنتين خضراوتان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة، فلا يبس لهما.

[66] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل تكذب بجمال و نضارة ما يمنحه اللّه للمطيعين الذين أكرمهم بإسكانهم دار كرامته؟

[67] فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فوارتان، لا كمثل الجنتين السابقتين حيث العيون الجارية التي هي أجمل من مجرد النضاخة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 306

[سورة الرحمن (55): الآيات 67 الى 73]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)

حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73)

[68] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أليس في قدرة اللّه أن يجعل العين تنضخ؟

[69] فِيهِما فاكِهَةٌ من بعض أقسام الفواكه وَ نَخْلٌ للتمر وَ رُمَّانٌ و هذا أقل مما في الجنتين السابقتين حيث فيهما من كل فاكهة زوجين.

[70] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ألا يقدر سبحانه أن يعطي المؤمن أمثال هذا النعيم.

[71] فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ نساءهن خير من كل ناحية مثل «زيد عدل» «حسان» الوجوه و هن أقل من الحور القاصرات الطرف، فالسابقات كأنهن اللؤلؤ و المرجان.

[72] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن اللّه قادر على أن يجعل المرأة خيرا محضا و حسنة الوجه.

[73] حُورٌ جمع حوراء، كما تقدم و هن البيضاوات جسما مَقْصُوراتٌ محفوظات

مخدرات فِي الْخِيامِ فأهل هاتين الجنتين ليس لهم قصور مثل أصحاب الجنتين السابقتين بل لهم خيام كخيام أهل البادية.

[74] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أ ليست هذه النعمة مما يجب أن يشكر عليها، عوض أن يكفر بها المكذبون؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 307

[سورة الرحمن (55): الآيات 74 الى 78]

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (78)

[75] لَمْ يَطْمِثْهُنَ لم يجامعهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ فهن باكرات.

[76] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أليس اللّه بقادر على مثل ذلك.

[77] في حال كون أصحاب هاتين الجنتين مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ جمع رفرفة و هي الوسادة خُضْرٍ خضراوات وَ عَبْقَرِيٍ كل ثوب موشى يقال له عبقري، و لعل على تلك الوسائل أثواب جميلة موشاة حِسانٍ تلك الرفرف و العبقري كلها حسناوات و هذه أقل مرتبة من فرش بطائنها من إستبرق.

[78] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أليس مثل هذا جزاء الصالحين و إن كانوا بدرجة ثانية من الصلاح؟

[79] تَبارَكَ من برك بمعنى الدوام و الثبات اسْمُ رَبِّكَ و دوام الاسم كاشف عن دوام المسمى، و فيه تلميح بالعظمة حيث لم يقل «تبارك ربك» ذِي الْجَلالِ أجل من الصفات السيئة التي لا تليق به وَ الْإِكْرامِ فليس اللّه جليلا و جميلا لنفسه بل يكرم غيره، و فيه تلميح إلى صفات الكمال، إذ فاقد الشي ء لا يعطيه فلو لم يكن كريما لم يتمكن من إكرام غيره، و الإكرام بأصل الخلق و الإيجاد، ثم بالقيام بشؤون الخلق، ثم بجزائهم جزاء حسنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 308

56 سورة الواقعة مكية/ آياتها (97)

سميت السورة

بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الواقعة» و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و ربما يقال إن بعض آياتها مدنية. و لما كان الكلام في آخر سورة الرحمن عن «المبدأ» ابتدأت هذه السورة بذكر «المعاد» و هما أساسان من الأسس الثلاث للعقيدة «بإضافة الرسالة».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبدأ باسم الإله الذي إذا ذكر اسمه كان فيما اقترن به بركة و ثبات و دوام، فهو الذات الثابت الذي لا زوال له و لا اضمحلال، الرحمن بخلقه كل ما في الكون، الرحيم الذي يرحم خلقه بالعناية و الرعاية، و ليس كمن يبدأ بالخير ثم يقطع خيره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 309

[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)

وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8)

[2] إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إذا حدثت القيامة و جاءت و سميت بالواقعة لتحقق وقوعها.

[3] لَيْسَ لِوَقْعَتِها نفس كاذِبَةٌ فكلّ يصدق في ذلك اليوم صحته، و إن كان جماعة ينكرونه في الدنيا، و هذا كمال يقال إذا وقعت في السجن تصدق كلامي بأن ما تعمله الآن ليس من صلاحك.

[4] و هذه الواقعة خافِضَةٌ تخفض و تنزل بالكفار و العصاة اللذين كانوا في الدنيا، بنظر الناس في رفعة و سمو رافِعَةٌ ترفع المؤمنين المطيعين اللذين كانوا في دار الدنيا، بنظر الناس في ذل و هوان.

[5] و يكون ذلك فيما إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا تحركت تحركا شديدا بالزلازل التي هي من علائم الساعة.

[6] وَ بُسَّتِ الْجِبالُ فتتت و تحركت بَسًّا مفعول مطلق لبيان

شدة التفتت و الحركة.

[7] فَكانَتْ هَباءً الهباء الذي يرى من الذرات في شعاع الشمس إذا دخل الشعاع في كوّة في غرفة مظلمة مُنْبَثًّا منتشرا.

[8] وَ كُنْتُمْ أيها البشر أَزْواجاً أصنافا ثَلاثَةً المقربون و أصحاب اليمين، و أصحاب الشمال.

[9] فصنف أصحاب الْمَيْمَنَةِ أصحاب اليمن ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 310

[سورة الواقعة (56): الآيات 9 الى 11]

وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)

ما أعظم حالهم إذ هم في خير سعادة و بركة.

[10] وَ صنف أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أصحاب الشؤم و هم أهل النار ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أعظم حالهم في العذاب، مثل فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ «1».

[11] وَ صنف السَّابِقُونَ و لا حاجة إلى ذكر التهويل في حالهم، كالصنفين السابقين فإنهم معروفون بأنهم السَّابِقُونَ يسبقون إلى الجنة بغير حساب.

[12] أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ إلى رضوان اللّه سبحانه، مما لم يلحقهم أحد من المؤمنين، و هم الأنبياء و الأوصياء و الأولياء.

لا يقال إن صفاء جوهر الأنبياء و الأوصياء سبب إطاعتهم، فأية فضيلة لهم و لو كان غيرهم خلق صافي الجوهر لكان كذلك؟ لأنه يقال بالإضافة إلى أن خلق عدم صافي الجوهر يوجب نقصا في الخلق، و بخلا عن الفيض، و كلاهما تمتنع على اللّه، أنهم إنما صفي جوهرهم لأنهم أجابوا بالطاعة في عالم الذر، بما لم يجب غيرهم بمثلهم فلو فرض تساويهم مع غيرهم، لكنهم أجابوا بالطاعة، فصفي جوهرهم، فكان ذلك جزاء العمل لا اعتباطا، و لذا

ورد في دعاء الندبة «بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية و زخرفها و زبرجها فشرطوا ذلك و علمت منهم الوفاء، فقبلتهم

______________________________

(1) طه: 79. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص:

311

[سورة الواقعة (56): الآيات 12 الى 17]

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)

و قربتهم»

«1» و البحث طويل مكانه كتب الفلسفة الإسلامية.

[13] و المقربون فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ التي ملأت نعمة وفيرة بحيث لا مكان للشر فيها.

[14] ثُلَّةٌ أي جماعة كثيرة مِنَ الْأَوَّلِينَ الأمم السابقة من لدن آدم عليه السّلام إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك لأن الأنبياء و الأوصياء كانوا في هذه الفترة.

[15] وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ كمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته و من إليهم و هم أقل عددا من السابقين، كما هو واضح.

[16] و هم عَلى سُرُرٍ جمع سرير مَوْضُونَةٍ أي منسوجة بالذهب و اللؤلؤ.

[17] مُتَّكِئِينَ عَلَيْها في حالة راحة و استرخاء مُتَقابِلِينَ بعضهم مقابل بعض للتحدث و مزيد السرور.

[18] يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الطواف الذهاب و المجي ء، و لذا يقال طاف بالبيت، و لا يلزم الدور و لذا يقال طاف بالصفا و المروة وِلْدانٌ أولاد كالخدم، فالحور خادمات، و الولدان خدم مُخَلَّدُونَ باقون دائما على هيئتهم لا يهرمون و لا يموتون.

______________________________

(1) مفاتيح الجنان: ث 607.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 312

[سورة الواقعة (56): الآيات 18 الى 25]

بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ (19) وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَ حُورٌ عِينٌ (22)

كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً (25)

[19] بِأَكْوابٍ جمع كوب إناء لا عروة له و لا خرطوم وَ أَبارِيقَ جمع إبريق ما

له عروة و إبريق وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ الماء المعين و هو الزلال العذب الطعم، و لعل المراد به الخمر بقرينة الآية الآتية.

[20] لا يُصَدَّعُونَ عَنْها لا يأخذهم الصداع، و هو وجع الرأس كما أن من يشرب الخمر في الدنيا يأخذه الصداع وَ لا يُنْزِفُونَ لا يسكرون، لأن من سكر فقد «نزف» أي سال عقله و خرج من رأسه.

[21] وَ يطوف عليهم الولدان ب فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ يختارون.

[22] وَ ب لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يريدون.

[23] وَ حُورٌ عِينٌ عطف على «ولدان» أي يطوف عليهم حور عين، و كأن ذلك كناية عن تهيؤ الفراش لهم في كل وقت.

[24] و هن كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ في الصفاء و النضارة فإن اللؤلؤ إذا لم يكنّ و لم يحفظ قلّ صفاؤه.

[25] يعطي أهل الجنة كل ذلك جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أعمالهم التي عملوها في الدنيا.

[26] لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنة لَغْواً أي كلاما لغوا وَ لا تَأْثِيماً نسبة إلى الإثم، فإن الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء كانوا في الدنيا يسمعون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 313

[سورة الواقعة (56): الآيات 26 الى 32]

إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)

وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32)

اللغو من أقوامهم و ينسبونهم إلى الإثم فيقال لهم، إنهم آثمون لتركهم أديان قومهم و اتخاذهم دينا جديدا، لكن في الجنة لا شي ء من هذين فقد ذهبت الأتعاب و صاروا في راحة و رفاه.

[27] إِلَّا استثناء منقطع قِيلًا قولا سَلاماً سَلاماً هذا يدخل عليهم و يسلم، و ذاك يدخل و يسلم، و هكذا.

[28] وَ الصنف الثاني أَصْحابُ الْيَمِينِ

الذين هم دون المقربين مرتبة، و هم المؤمنون الصالحون ما أَصْحابُ الْيَمِينِ لا يتكلم حولهم من السعادة و الرفاه الذين هم فيهما.

[29] هم يعيشون في جنان نضرة فِي سِدْرٍ النبق مَخْضُودٍ قد خضد شوكة فلا شوك فيه.

[30] وَ طَلْحٍ شجر الموز مَنْضُودٍ قد نضد و رتب ثمره بعضه فوق بعض.

[31] وَ ظِلٍ لا شمس فيها تؤذيهم مَمْدُودٍ لا يزول كما يزول ظل الدنيا و تنسخه الشمس.

[32] وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ دائم السكب، لا ينقطع حتى يحتاجون إلى عناء تحصيله.

[33] وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وافرة مستمرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 314

[سورة الواقعة (56): الآيات 33 الى 40]

لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37)

لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

[34] لا مَقْطُوعَةٍ كما في فواكه الدنيا حيث تكون في فصل دون فصل وَ لا مَمْنُوعَةٍ لا يمنع عن أخذها أحد، فهي مباحة لكل أهل الجنة.

[35] وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ نساء مرفوعات في الأخلاق و الجمال كما يقال فلان إنسان رفيع، و عبر عن النساء الحوريات بالفراش لافتراش الأزواج لهن.

[36] إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ ابتدأنا خلقهن إِنْشاءً بدون ولادة، كما في نساء الدنيا.

[37] فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً دائمات البكارة ليتلذذ الأزواج بهن أكثر، و كذلك هن يتلذذن أكثر، لأنه لا وجع لهن، و لا صعوبة لأزواجهن في افتضاضهن.

[38] عُرُباً جمع عروب بمعنى المحبة للزوج أَتْراباً جمع ترب بمعنى المتساويات مع أزواجهن في السن، لا الصغيرة التي يرى الزوج منها عنتا و لا الكبيرة التي يكرهها زوجها لكبر سنها.

[39] كل ذلك النعيم لِأَصْحابِ الْيَمِينِ الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة و هم المؤمنون من الأمم.

[40] ثُلَّةٌ

مِنَ الْأَوَّلِينَ جماعة كثيرة من الأمم السابقة.

[41] وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 315

[سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 47]

وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَ لا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)

وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)

[42] وَ أَصْحابُ الشِّمالِ و هم الصنف الثالث من البشر و الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ما أَصْحابُ الشِّمالِ فهم في أهوال كثيرة، حتى لا يمكن أن يتصور أحوالهم.

[43] فِي سَمُومٍ نيران تنفذ إلى مسام الجلد وَ حَمِيمٍ ماء متناه في الحرارة.

[44] وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ دخان أسود فهم في النار ذات دخان لا يرون مكانا.

[45] لا بارِدٍ كسائر الظلال وَ لا كَرِيمٍ و لا نافع كما في دخان الدنيا إذ قد يمنع الدخان حر الشمس و نحوها.

[46] و لماذا يذوقون هذا العذاب المؤلم؟ ل إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في دار الدنيا مُتْرَفِينَ يعيشون في الترف و هو الانهماك في الملذات و الشهوات.

[47] وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ لعهد اللّه أي نقضه الْعَظِيمِ و هو الشرك، لأن اللّه أخذ الميثاق من كل البشر بأن يؤمنوا به، ثم هؤلاء حنثوا عهد اللّه.

[48] و بالإضافة إلى إنكارهم المبدأ وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا الهمزة للاستفهام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 316

[سورة الواقعة (56): الآيات 48 الى 54]

أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ

(50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)

فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)

الإنكاري مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً لحومنا وَ عِظاماً ظهرت عظامنا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ليوم القيامة؟ فأنكروا المعاد أيضا.

[49] أَ وَ و هل آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الذين صاروا ترابا يبعثون؟ «فالهمزة» للاستفهام و «الواو» للعطف على ضمير «مبعوثون».

[50] قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم نعم يبعث الجميع إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ كلهم أجمع.

[51] لَمَجْمُوعُونَ تحت التراب إِلى مِيقاتِ وقت يَوْمٍ مَعْلُومٍ هو يوم القيامة، حيث يبعث كلهم مرة واحدة.

[52] ثُمَ بعد البعث إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن طريق الثواب الْمُكَذِّبُونَ باللّه و برسوله و بالمعاد.

[53] لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ و هو شي ء في غاية المرارة.

[54] فَمالِؤُنَ تملؤون مِنْهَا من تلك الثمرة المرة الْبُطُونَ فإنهم لشدة جوعهم يأكلون منها إلى حد الامتلاء.

[55] ثم يعطشون أشد العطش فَشارِبُونَ عَلَيْهِ على الزقوم مِنَ الماء الْحَمِيمِ الذي هو غاية في الحرارة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 317

[سورة الواقعة (56): الآيات 55 الى 60]

فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)

نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)

[56] فَشارِبُونَ تكرار الفاء لبيان أنهم يشربون و يشربون شُرْبَ الْهِيمِ مثل شرب الإبل العطشان الذي هو في غاية العطش فإن الإبل الذي به «الهيام» و هو داء الاستسقاء، يشرب من الماء الشي ء الكثير جدا، و هيم جمع أهيم و هيماء.

[57] هذا نُزُلُهُمْ لنزل ما يعد للضيف يَوْمَ الدِّينِ في يوم القيامة.

[58] و هذا جزاء تكذيبكم نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ

لا تُصَدِّقُونَ فلما ذا لم تصدقوا بمن خلقكم، و لا برسله، و لا بما أخبر من بعثه؟.

[59] و كيف تكذبون باللّه و أنتم ترون أن كل ما حولكم هو من خلق اللّه؟

أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ما تقذفونه في الأرحام من النطف.

[60] أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تجعلونه بشرا سويا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ و إذا اعترفتم بأنكم لا تخلقونه فلم تكذبون بخالقه؟.

[61] ثم الموت الذي يأتيكم بغير إرادة منكم فهل أنتم سبب الموت أو اللّه؟

و إذا كان اللّه هو المقدر للموت فلما ذا تكفرون به نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فكل إنسان يموت حسب تقدير اللّه و إرادته وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بمغلوبين تشبيه بأن يسبق إنسان إنسانا فلا يقدر المسبوق اللحاق بالسابق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 318

[سورة الواقعة (56): الآيات 61 الى 65]

عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)

[62] عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ بأن نذهب بكم و نأتي غيركم- من مثلكم- مكانكم وَ نُنْشِئَكُمْ نخلقكم خلقا جديدا فِي ما أي في صورة لا تَعْلَمُونَ لا تعلمونها كأن نجعلكم قردة أو خنازير أو غير ذلك.

[63] وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى كيف أنشأناكم فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ فلما ذا لا تتذكرون أن من يقدر على الإنشاء أولا يقدر على الإنشاء ثانيا؟

فكيف تنكرون البعث؟.

[64] ثم ليس خلقكم أنتم من اللّه فقط بل كل شي ء هو من خلق اللّه أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ تبذرون حبّة لأجل الزراعة و الثمر.

[65] أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ و لا أحد يقدر

أن يقول إنه هو الزارع للنبات كما أنه لا أحد يقدر أن يقول إن الزارع له هو الطبيعة، فهل الطبيعة الجاهلة العاجزة تقدر على مثل هذا الشي ء، و إذا صدق الإنسان أن اللّه هو الزارع الذي يجعل من الأرض الميتة نباتا حيا، سهل عنده أن يصدق أن اللّه قادر على إعادة الإنسان بعد موته.

[66] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً هشيما متحطما عوض أن ننمي النبات حتى نجعله شجرة ذات ثمرة فإذا فعلناه هشيما لظلتم تَفَكَّهُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 319

[سورة الواقعة (56): الآيات 66 الى 72]

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70)

أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)

تتكلمون في مجالسكم، من جهة التعجب و الندم على ما أنفقتم في الأرض لأجل الزرع، و المراد أنكم لا تقدرون أمام قدرة اللّه بجعله النبات هشيما إلا التكلم فقط.

[67] إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ملزمون بغرامة ما أنفقنا.

[68] بَلْ تقولون بالإضافة إلى غرامة ما أنفقنا نَحْنُ قوم مَحْرُومُونَ حرمنا من رزقنا.

[69] أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ هو ماء عذب صالح للشرب.

[70] أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ من السحاب أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا؟

و هل هناك أحد يقول أنا أنزلت الماء؟.

[71] لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً مالحا يمجّه الطبع فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ أمثال هذه النعم التي هي ضرورية لحياتكم، و لو إنا ما أعطيناها لكم، لم يكن لكم علاج في تحصيلها، إلا التفكّر و التحسّر.

[72] أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ تخرجونها من الخشب و نحوه.

[73] أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها خلقتم شجرتها أَمْ نَحْنُ

الْمُنْشِؤُنَ و هل هناك أحد يقول إنه أنشأ شجرتها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 320

[سورة الواقعة (56): الآيات 73 الى 76]

نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)

[74] نَحْنُ جَعَلْناها النار تَذْكِرَةً تذكركم بنعمة اللّه، و بنار الآخرة، حتى تشكروه سبحانه على هذه النعمة، و تخافوا من عذاب يوم القيامة وَ مَتاعاً منفعة يتمتع بها الإنسان في طبخه و تدفئته و قضاء سائر حوائجه المحتاجة إلى النار لِلْمُقْوِينَ يقال أقويت منذ أيام أي لم آكل طعاما فالمقوين هم الذين يحتاجون إلى الطعام، و لعله من حمل الضد على الضد، حيث إن خالي البطن لا يقوى فحمل على من «يقوى» بأكله الطعام.

[75] و إذ عرفت كثرة نعم اللّه عليك فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ نزهه عما لا يليق به، و الباء في «باسم» مثل اللام في «سبح للّه» للتقوية الْعَظِيمِ صفة الرب.

[76] و حيث فرغ عن إثبات الألوهية جاء دور إثبات الرسالة، و ذلك بسبب بيان أن القرآن من عند اللّه سبحانه فَلا أُقْسِمُ هذا صيغة تشير إلى الحلف، ليكون للكلام قوة الحلف، مع عدم الحلف احتراما للمحلف به، ف «لا» نافية بِمَواقِعِ النُّجُومِ إذ القوة الهائلة التي تحفظ النجوم الكبار، و التي بعضها ستون مليون مرّة أكبر من الشمس، الشمس التي هي أكبر من الأرض بأكثر من مليون مرة، إن تلك القوة من العظمة مما ينبغي أن يحلف بها.

[77] وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ لعلمتم أنه عَظِيمٌ بل خارج عظمته من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 321

[سورة الواقعة (56): الآيات 77 الى 81]

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)

لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)

طوق فهم البشر و إدراكهم.

[78] إِنَّهُ الشي ء المنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ له كرامة الوحي و هو يكفي لإصلاح المعاش و المعاد.

[79] فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ مكتوب في لوح محفوظ عند اللّه أنزله اللّه على رسوله لهداية البشر إلى يوم القيامة.

[80] لا يَمَسُّهُ لا يمس ذلك الكتاب المكنون إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من الملائكة فإذا كان شأنه هناك في العالم الأعلى مثل هذا الشأن، فاللازم تقديره حق قدره في هذا العالم، و هذا حسب ظاهر الآية، و ما ورد في تفسيرها بطون أو تأويل أو ما أشبه «1»، و لا منافاة بين الجميع، كما ذكرناه في كتاب «حول القرآن الحكيم» «2».

[81] و هو تَنْزِيلٌ أي منزل، فهو من قبيل «زيد عدل» مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أنزله لصالح الكون إلى الأبد.

[82] أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ الشي ء الحادث الذي هو القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون؟ كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه تهاونا، و أصله استعمال الدهن للين الجسم.

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 77 ص 255.

(2) موسوعة الفقه: ج 98.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 322

[سورة الواقعة (56): الآيات 82 الى 86]

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)

[83] وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي سبب رزقكم، أطلق عليها الرزق بعلاقة السبب و المسبب أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تكذيبكم لهذا القرآن الموصوف بالصفات السابقة، لأنهم كانوا يرون أن استمرار رزقهم إنما هو بالتجافي عن القرآن و التكذيب له،

كما يقال «جعل فلان رزقه الزنى» أي جعله ممر رزقه.

[84] نعم سترون جزاء تكذيبكم عند ما يأتيكم الموت و لا علاج لكم في دفعه فَلَوْ لا فهلا إِذا بَلَغَتِ النفس الْحُلْقُومَ لأن النفس تخرج من الرجل إلى الحلقوم، ثم إلى الرأس، و ذكر الحلقوم من جهة شعور الإنسان بالموت مع بقاء مشاعره في الرأس مدركا لهول الموت.

[85] وَ أَنْتُمْ أيها الحاضرون حول المحتضر حِينَئِذٍ حين وصلت روحه إلى الحلقوم تَنْظُرُونَ و هو و أنتم في غاية إلى عدم موته، و رجوعه إلى الحياة.

[86] وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ لأن علمنا و قدرتنا نافذتان إلى أعماقه، و أنتم لستم كذلك وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ أنتم قربنا.

[87] فَلَوْ لا تكرار، لأجل ارتباط الجواب ب «لو لا إِذا بَلَغَتِ ...» إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ غير مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 323

[سورة الواقعة (56): الآيات 87 الى 92]

تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91)

وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)

[88] تَرْجِعُونَها ترجعون النفس إلى كل الجسد، كما كان سابقا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إنكاركم للّه و قدرته، فإذا لم يكن إله- كما زعمتم- و لم يكن أمر الكون بيده، فلما ذا لا تقدرون أنتم على إنجاز أحب شي ء إلى قلوبكم من إرجاع الروح إلى ميتكم العزيز، أليس كل ذلك دليلا على وجود إله قدير بيده كل شي ء.

[89] ثم يبين اللّه سبحانه مصير هذا المحتضر فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ و هو القسم الأول من «الأزواج الثلاثة»

المذكورين في أول السورة.

[90] فَرَوْحٌ فله راحة وَ رَيْحانٌ الريحان المشموم كناية عن حضور مشتهياته الطيبة وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ جنة ذات نعمة.

[91] وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ و هو القسم الثاني من أهل الجنة لكنهم دون المقربين.

[92] فَسَلامٌ لَكَ يا صاحب اليمين، سلامة لك في آخرتك و أنت تكون مِنْ جملة أَصْحابِ الْيَمِينِ كما يقال «السلام عليك من شهيد في سبيل اللّه» فإن «من» بيان ل «كاف» الخطاب.

[93] وَ أَمَّا إِنْ كانَ المحتضر مِنَ الْمُكَذِّبِينَ باللّه و رسوله و المعاد الضَّالِّينَ عن طريق الهداية، «هم أصحاب الشمال» فهو ضال في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 324

[سورة الواقعة (56): الآيات 93 الى 96]

فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

نفسه مكذب للحق.

[94] فَنُزُلٌ هو ما يعد للضيف مِنْ حَمِيمٍ من ماء حار شديد الحرارة.

[95] وَ تَصْلِيَةُ يقال صلاة إذا أوصله جَحِيمٍ هي من أسماء جهنم.

[96] إِنَّ هذا الذي ذكرناه من جزاء الأقسام الثلاثة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ الحق المطابق للواقع، الذي هو يقيني أي من شأنه ذلك و إن أنكره كثير، مثل «لا ريب فيه» أي ليس هو محل الريب و إن ارتاب فيه الكثير، و هذا أحد الأقسام الثلاثة التي ينقسم اليقين إليها.

فالأول: علم اليقين، كما إذا علمت بأن النار حارة.

و الثاني: حق اليقين، كما إذا رأيت النار.

و الثالث: عين اليقين، كما إذا أدخلت يدك في النار و ذقت حرارتها.

[97] و إذا علمت بما تقدم فَسَبِّحْ يا رسول اللّه بِاسْمِ رَبِّكَ نزهه عما لا يليق به الْعَظِيمِ صفة الرب، و قد تقدم بعض الكلام فيه في آية شبيهة بها، فباعتبار أن التسبيح

للذات يأتي بلا حرف جر، و باعتبار أن التسبيح ملصق بالاسم يتعدى بالباء، و باعتبار أن التسبيح للّه يتعدى باللام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 325

57 سورة الحديد مدنية/ آياتها (30)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحديد» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على قضايا الشريعة. و لما ختمت سورة الواقعة بتسبيح اللّه ابتدأت هذه السور بذلك أيضا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبدأ باسم اللّه فإنه المبدأ حقيقة، و نبدأ باسمه ليطابق الكلام الواقع و هو الرحمن بالكل يخلقهم من العدم إلى الوجود برحمته، و رحيم بالكل يعطي كل مخلوق حسب ما يستحق مما ينميه و يكمله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 326

[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (3)

[2] سَبَّحَ لِلَّهِ نزهه عما لا يليق به، و قد تقدم في آخر الواقعة، وجه تعدي التسبيح باللام ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قد سبق وجه جمع السماوات و إفراد الأرض، و تسبيح كل شي ء إما بلسانه، و إن كنا لا نفهم ألسنة غير الإنسان من المخلوقات، و إما بدلالته على علم اللّه و قدرته و صفاته و غير ذلك، إذ حتى الشعرة الواحدة دليل على الذات و على كل الصفات العقلية الثابتة عقلا له سبحانه وَ هُوَ تعالى الْعَزِيزُ له العزّة و الرفعة و عزّة ما سواه إنما تكون به تعالى الْحَكِيمُ يضع الأشياء موضعها، و لحكمته خلق الكون، و لعزته سبح له كل ما

في الكون.

[3] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بل هو وحده المالك الحقيقي، أما سواه فملكه استعارة و مجاز يُحْيِي التراب إلى النبات و الحيوان و الإنسان، كما يحيي الإنسان و الحيوان بعد موتهما وَ يُمِيتُ الثلاثة بعد حياتها في دار الدنيا، كما يميت الحيوانات على الأكثر في الآخرة، حتى أن الكافر إذا رأى ذلك قال: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1» وَ هُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ بشرط أن يكون لذلك الشي ء أهلية تعليق القدرة، كما بحث حول ذلك في كتب الفلسفة الإسلامية.

[4] هُوَ الْأَوَّلُ قبل كل شي ء وَ الْآخِرُ بعد كل شي ء، و لا منافاة لعدم انتهاء الجنة و النار إذ يصدق البعدية بالنسبة إلى الحال الحاضرة، فإن الكل يهلك إلى وجهه وَ الظَّاهِرُ بآثاره لدى كل ذي عقل وَ الْباطِنُ

______________________________

(1) النبأ: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 327

[سورة الحديد (57): آية 4]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)

الخفي بحقيقته لا يعلم حقيقته إلا هو تعالى وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم كل شي ء، كما أنه يقدر على كل شي ء- كما تقدم في الآية السابقة-.

[5] هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اليوم قطعة من الزمان و لعل المراد ستة مليارات من السنوات فقد ثبت في بعض تحقيقات العلم الحديث خلقهما في مثل هذه المدة ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استولى على عرش الإرادة إذ قبل ذلك كان من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فالاستواء على العرش

كناية عن التصرف في الكون، فهو مثل قول الشاعر:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله هذا «الاستيلاء» من ناحية القدرة أما من ناحية العلم فإنه سبحانه يَعْلَمُ ما يَلِجُ يدخل فِي الْأَرْضِ كالبذر و الميت وَ ما يَخْرُجُ مِنْها كالنبات و الحيوان الذي يخلق تحت الأرض ثم يخرج منها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالمطر وَ ما يَعْرُجُ فِيها يصعد إليها كالدخان و الأبخرة وَ هُوَ مَعَكُمْ علما و قدرة إذ علمه نافذ فينا و قدرته محيطة بنا أَيْنَ ما كُنْتُمْ في بر أو بحر في نور أم ظلام في عراء أو بناء وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يراكم، و البصر غير العلم كما هو واضح فإن علمنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 328

[سورة الحديد (57): الآيات 5 الى 7]

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

بالشي ء و لا نراه، غير أن نعلم به و نراه، أما كيفية رؤية اللّه فهي مجهولة مثل كيفية علمه و سائر الأمور المرتبطة بذاته تعالى.

[6] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أعاد ذكره لأن الآية السابقة كانت كالاستدلال لذلك، بخلاف ما ذكره سبحانه أولا، حيث إنه لم يتقدم له استدلال- في هذه السورة- وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فإذا أراد الإنسان شيئا فإن قدره سبحانه صار و إلا لم يصر كما أن الموظفين إذا أرادوا شيئا أرجع إلى الرئيس إن قبله صار و إلا لم يصر، و هذا كناية عن أن

الإرادة النهائية له تعالى.

[7] يُولِجُ يدخل اللّه اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي يأخذ الليل مكان النهار، إذا طال الليل، أو المراد أن عمودا من الظلام يدخل في ضوء النهار ثم ينتشر الظلام إلى أن يأخذ الأفق، فإن من يلاحظ الكرة الأرضية و الشمس يعلم أن ظل الأرض كالعامود الذي يخترق نور الشمس وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ فيه الاحتمالان السابقان، و لذا يرى نور النهار أول الفجر كالخيط في طرف المشرق، ثم يتوسع حتى يشمل النور الأفق وَ هُوَ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «الذات» الحقيقة، و كأنه كناية عما في الصدور، لا بد و أن يكون محيطا به عالما بما فيه.

[8] آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أيها الكفار، أو عمّقوا إيمانكم أيها المؤمنون وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ استخلفكم و جعلكم خلفاء لمن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 329

[سورة الحديد (57): الآيات 8 الى 9]

وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)

قبلكم فِيهِ في ذلك المال، إذ كان المال لغيرنا ثم صار لنا و هكذا جيلا بعد جيل كل جيل خليفة سابقه، كناية عن أن المال ليس لكم، و إنما كان لغيركم ثم يكون من بعدكم لغيركم أيضا فإن الذين آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا من أموالهم لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ في الدنيا بالرفاه و السعادة و في الآخرة بجنة عرضها السماوات و الأرض.

[9] وَ ما لَكُمْ أيّ شي ء لكم إذن لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فهل لكم فائدة من عدم إيمانكم وَ الحال إن الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ و

يقيم لكم الحجج و الآيات وَ قَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَكُمْ عهدكم الغليظ في عالم الذر، و أودع فيكم الفطرة التي تدل على صحة ما جاء به الرسول إذ يجد كل إنسان في نفسه قبول الحق و ليس هذا إلا أن شيئا مودع فيه يلجؤه إلى الاعتراف باطنا سواء اعترف ظاهرا أم لا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لشي ء ما، فإن تنبيه الرسول و دلالة العقول من أقوى موجبات الإيمان، و هذا مثل ما يقال «إن كنت تفهم فافهم أن الشي ء الفلاني ينفعك».

[10] و هُوَ اللّه الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات لِيُخْرِجَكُمْ أيها البشر مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الكفر و الجهل إِلَى النُّورِ نور الإيمان و العلم، فإن الكفر و الجهل يسببان عدم رؤية الإنسان للحقائق، كما أن الظلام يسبب عدم رؤية الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 330

[سورة الحديد (57): آية 10]

وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

للأشياء وَ إِنَّ اللَّهَ الواو للحال، أو العطف بِكُمْ أيها البشر لَرَؤُفٌ الرأفة يقال للعطف قبل ظهوره أو دقة الرحمة رَحِيمٌ عطف يظهر أثره أو مطلق الرحمة.

[11] وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا أيّ شي ء لكم من عدم إنفاقكم فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طريقه المؤدية إلى رضوانه وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و إذا لم تنفقوا يبقى المال و تموتون، و لم تستفيدوا منه في تحصيل الدرجات العالية، فإن كل من في

السماوات و من في الأرض يموتون و تبقى أموالهم و ما كان في أيديهم للّه وحده لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ فتح مكة وَ قاتَلَ قبل الفتح، حيث الإسلام غريب و بحاجة شديدة إلى المقاتلين و إلى المال، و من أنفق و قاتل بعد فتح مكة حيث أعز اللّه الإسلام، و ذهب الخوف من المسلمين، و كثرت الغنائم، و حذف هذا الشق لوضوحه أُولئِكَ المنفقون المقاتلون قبل الفتح أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ الفتح وَ قاتَلُوا بعد الفتح وَ كُلًّا من المنفق و المقاتل قبلا، و بعدا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى و هذا الكلام لئلّا يزعم تساويهما لا لبيان تبرير المتقاعس قبلا، إذ المتقاعس له وزر وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 331

[سورة الحديد (57): الآيات 11 الى 12]

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

فيجازيكم حسب أعمالكم.

[12] ثم إن الذي يعطي ماله في سبيل اللّه فهو قرض يسترجع أكثر منه في دنياه و آخرته، أما الآخرة فالمثوبة، و أما الدنيا فلأن الإنفاق يوجب تقدم الاجتماع، و الاجتماع المتقدم يرتفع أفراده أكثر، و بذلك يكون مالهم أكثر، و لذا قال سبحانه وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ «1» مَنْ ذَا الشخص الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً مقابل القرض السيئ الذي لا إخلاص له أو كان لأجل تحصيل الربا بالزيادة فَيُضاعِفَهُ اللّه لَهُ لأن اللّه يجعل كل حسنة أضعافا ثم يردها على صاحبها وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ

فإن الأجر لأصل القرض «بالإضافة إلى ما يضاف إليه من الزيادة» كريم في نفسه يرجع إلى صاحبه مع الإكرام له.

[13] و تلك المضاعفة و الأجر إنما هو في يَوْمَ القيامة حيث تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ مثلا نورهم عمود له امتداد ميل، فإذا تحركوا تحرك النور، فكأنه يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ فإن لهم نورا من هذين الجانبين، و لعل ما كان من بين أيديهم للمقربين، و ما كان بأيمانهم لأصحاب اليمين، ليكون علامة لمنزلتهم، أو لأن صحائفهم تعطى من طرف اليمين من الأمام، و يقال لهم بُشْراكُمُ بشارة لكم الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من

______________________________

(1) البقرة: 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 332

[سورة الحديد (57): آية 13]

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)

تحت أشجارها، في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ النجاح الْعَظِيمُ الذي ليس مثله فوز.

[14] و ذلك في يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا و هم يعيشون في ظلام شديد انْظُرُونا انظروا إلينا حيث يتوجه عمود نوركم إلى جانبنا ل نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ حتى نرى طريقنا و نتعرف إلى أوضاع بدننا، لأن الإنسان في الظلام لا يرى طريقه، و لا يتعرف على أوضاع جسده، و إنما ذكرت الآية المنافقين، و لم تذكر الكفار، لأن الكفار في مكان آخر، و إنما يحشر جميع من كان ظاهره الإيمان في مكان واحد، ثم يميّزون قِيلَ لهم في جوابهم ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الدنيا فَالْتَمِسُوا فحصّلوا هناك نُوراً كناية عن أن النور إنما يحصل في الدنيا لا في

الآخرة.

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بين المؤمنين و المنافقين بِسُورٍ بحائط يكون فاصلا بينهما لَهُ بابٌ لمرور الملائكة أو لأجل أن يميز المؤمن من المنافق، حيث كانا قبلا مختلطين فمن كان في طرف المؤمنين من المنافقين أخرج من الباب إلى المنافقين، و بالعكس باطِنُهُ حيث المؤمنون فِيهِ الرَّحْمَةُ و سمي باطنا لأنه المكان الأحسن المحفوظ كباطن حائط الدار وَ ظاهِرُهُ طرف المنافقين مِنْ قِبَلِهِ من جهته الْعَذابُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 333

[سورة الحديد (57): الآيات 14 الى 15]

يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

[15] و حين ذاك يُنادُونَهُمْ ينادي المنافقون المؤمنين أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في دار الدنيا نعمل الأعمال الصالحة معا فكيف صرتم أنتم في رحمة و نحن في العذاب؟ قالُوا المؤمنون بَلى كنتم معنا في الظاهر وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي حرفتم أنفسكم عن الحق بسبب نفاقكم و عصيانكم وَ تَرَبَّصْتُمْ في إطاعة أوامر اللّه، فلم تسارعوا إليها كما سارع المؤمنون فإن من عادة المنافق أن لا يدخل في جهاد و لا خير، و إنما يقول: دعنا نرى ماذا تكون العاقبة وَ ارْتَبْتُمْ شككتم في الدين وَ غَرَّتْكُمُ خدعتكم الْأَمانِيُ جمع أمنية، مثل «أغاني جمع أغنية» فإن المنافق لا يجاهد رجاء أن لا يصادف بأذى، و لا ينفق رجاء أن يزيد تجارته، و لا يحضر الخير رجاء أن يقدم عمله الدنيوي و هكذا حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ تقدم دينه و لم يكن لكم نصيب في ذلك

وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ خدعكم بالاستهانة بأمر اللّه الْغَرُورُ الشيطان الذي هو كثير الخدعة.

[16] فَالْيَوْمَ في يوم الحساب لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ فداء في مقابل أن تخلصوا من نار جهنم وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إذ في الآخرة لا ينفع إلا الإيمان و العمل الصالح مَأْواكُمُ النَّارُ محلكم الذي تأوون إليه نار جهنم هِيَ مَوْلاكُمْ أولى بكم وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ إنه مصير سي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 334

[سورة الحديد (57): الآيات 16 الى 17]

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

[17] و إذا عرف الفرق بين المؤمن حقيقة و المؤمن صورة «المنافق واقعا» ف أَ لَمْ يَأْنِ ألم يصل الآن أي الوقت لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فتكون قلوبهم مصدقة لما لفظوا بألسنتهم من الشهادتين وَ ل ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ فيقبلوا قلبا كلما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم إذا آمنتم أيها المنافقون قلبا، و أنتم أيها المؤمنون ظاهرا و باطنا، اعلموا إن من شرط الإيمان المنجي البقاء على الإيمان و عدم الانحراف وَ لا يَكُونُوا أولئك المؤمنون كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ كتاب موسى عليه السّلام و غيره من الأنبياء فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ الزمن فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ لم تكن لها شفافية و لين قلوب المعاصرين للأنبياء، في عصر الرسالة، حيث كانوا يخضعون لأوامر اللّه سبحانه، لما لهم من لين و طهارة و شفافية وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خرجوا

عن الطاعة، فالباقي منهم قسى قلبه، و غير الباقي خرج عن الطريق.

[18] لكن اللّه لا يترك دينه بين ذاك و هذا بل إنه كما يحيي الأرض بعد اليباب يحيي الدين بعد الاندراس اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بسبب المطر، و كيفية تحديد اللّه للأمم، أن الأمة السابقة تأخذها النخوة و الغرور فلا تعمل صحيحا بل تأخذ في عمل الباطل، و أمة جديدة صفت أذهانها عن الرواسب و الأنانيات تأخذ في العمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 335

[سورة الحديد (57): الآيات 18 الى 19]

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)

و لذا تأخذ مكان الأمة السابقة، و قد جعل الإسلام الشورى في الحكم و كون رئيس الدولة المجتهد العادل المخالف لهواه المطيع لأمر مولاه ضامنا لبقاء الإسلام غصنا طريا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدلالات الواضحات على صحة ما نقول لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تفهمون ما نقول و تعملون بموجبه.

[19] و حيث كان الكلام قبلا في إعطاء المال في سبيل اللّه رجع الكلام إليه فقال سبحانه إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ أصله «تصدق» أي أعطى الصدقة وَ الذين أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً و إنما سميت الصدقة صدقة، لأنها تصديق للّه في ما يقول فالمعنى إن الذي صدق اللّه في إعطاء المال، و قد جعله قرضا حسنا يُضاعَفُ لَهُمْ عند رد ما أعطوا وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ و قد تقدم تفسير الآية، فلا حاجة إلى التكرار.

[20] نعم إنه لا ينفع مجرد إعطاء الصدقة

إذا لم يكن كامل الإيمان و لذا قال سبحانه وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فشرط القبول الإيمان باللّه و الرسول و إعطاء الصدقة قرضا حسنا بإخلاص و بدون ربا أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ لكثرة تصديقهم لأنهم صدقوا باللّه و بكل أنبيائه و بما وعد من إعطائهم المال، إلى غير ذلك وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لأن اللّه يجعلهم شهداء على غيرهم، في الآخرة، إذ الإنسان العادل المعتدل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 336

[سورة الحديد (57): آية 20]

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)

في سلوكه يكون شاهدا على غيره لَهُمْ لهؤلاء المؤمنين المصدقين أَجْرُهُمْ أجر الصديقين وَ نُورُهُمْ و نور الصديقين وَ بالعكس منهم الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يؤمنوا و لم يعملوا صالحا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لا أجر حسن لهم، و لا نور لهم، بل يعيشون في حر النار و ظلام الدخان.

[21] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ فهي صورة للآخرة الحقيقية، مثل ملاعب الأطفال التي هي صورة للأشياء الحقيقية في الدنيا وَ لَهْوٌ تلهي الإنسان عن الواقع الذي هو الآخرة وَ زِينَةٌ مظهر لا واقع له كما يتزين الإنسان ببعض المظاهر التي لا تغير من الواقع شيئا وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ يفتخر الإنسان على إنسان ثان و بالعكس و هي حالة بدائية يتصف بها الأطفال وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ حيث كل ما يريد أن يكون أكثر من الأخر مالا و ولدا

بينما لا يفيد أيهما له فائدة حقيقية، ثم كل ذلك إلى الزوال و الفناء كَمَثَلِ غَيْثٍ مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ الزراع نَباتُهُ قد أعجبوا بها و فرحوا بما لا دوام له و لا بقاء ثُمَّ يَهِيجُ هيجانا إلى الفساد فَتَراهُ مُصْفَرًّا قد ذهب رونقه و جماله ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً يابسا متكسرا فالدنيا في نضارتها الخلابة ثم سرعة زوالها مثل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 337

[سورة الحديد (57): آية 21]

سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

النبات السريع الزوال هذا حال زينة الدنيا، في الدنيا وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ في قبال أهل الدنيا المغترين بها، الذين مثل دنياهم ما تقدم أهل الآخرة الذين لهم مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ غفران لذنوبهم و رضي اللّه لهم الذي هو أعظم شي ء لأنه نعمة روحية، و النعمة الروحية أفضل من النعمة الجسدية وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لمن أقبل إليها و لم يطلب بها الآخرة الباقية، فإنها تغر الإنسان عن منافعه الواقعية.

[22] و إذا عرف الإنسان حال الدنيا و حال الآخرة فليسرع إلى تحصيل الآخرة سابِقُوا من المسابقة تحريض لطلب الآخرة بكل سرعة ممكنة، كما يفعل المسابق في الدنيا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أسباب الغفران وَ جَنَّةٍ عَرْضُها سعتها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ كسعتهما و الفضاء وسيع جدا حتى أن كل السماء و الأرض في جنبه كحبة أرز في صحراء غير متناهية أُعِدَّتْ هيأت تلك الجنة لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فليتشوق إليها كل عاقل ذلِكَ إعطاء الجنة للمؤمنين فَضْلُ اللَّهِ لأنه ليس

بواجب عليه سبحانه إعطاء الجنة للمطيع يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ و مشيئته تابعة للصلاح الذي لا يكون إلا للمؤمن العامل بالصالحات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 338

[سورة الحديد (57): الآيات 22 الى 23]

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي لا يعرف مدى فضله وسعة رحمته إلا هو.

[23] و حيث ذكر سبحانه وجوب القتال و الإنفاق و شوق المطيعين بالجنان و أنذر المخالفين بالعقاب جاء دور بيان أن ما يصيب الإنسان عامة «و التي منها ما يصيبه حال الحرب من الموت و الجرح و ما أشبه» مثبوت عند اللّه و لا يضيع أجره ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ كالجرب و أكل الجراد المزارع وَ لا حرف عطف فِي أَنْفُسِكُمْ كالمرض و الجرح إِلَّا مكتوبة فِي كِتابٍ ثابتة في علمنا، و لعل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها برأه بمعنى خلقه إِنَّ ذلِكَ كناية في كتاب من قبل تكونه عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لأنه سبحانه عالم بما كان و بما يكون و بما هو كائن إلى الأبد، و الإشكال بأنه إذا كان سبحانه عالما لا يمكن تخلفه، واضح الجواب: لأن العلم ليس بعلة، كما أنك إذا علمت بطلوع الشمس غدا لا تكون علة لطلوعها.

[24] و قد ذكرنا ذلك لكم بأنه ثابت في الكتاب لِكَيْلا تَأْسَوْا لا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا، و قد ذكر سبحانه تبعا لذلك «و إن لم يكن الكلام منصبا عليه»

قوله وَ لكي لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أعطاكم من نعيم، فإن من علم أن كل شي ء يصيبه من خير و شر مقدر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 339

[سورة الحديد (57): آية 24]

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

كائن، لا يحزن حزنا متزايدا و لا يفرح فرحا متزايدا، لأن شدة الحزن و الفرح، لمحزن و لمفرح فجائي، و العلم يرفع الفجائية ألا ترى أن من يعلم أن غدا يموت ولده لا يحزن مثل حزن من لا يعلم بذلك بل يفاجأ به، إلى غير ذلك ثم المراد «عدم الحزن المخرج للإنسان إلى الجزع» و «عدم الفرح المخرج للإنسان إلى البطر» وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ من اختال بمعنى تكبّر فَخُورٍ كثير الفخر، فإن من فرح فرحا متزايدا بالنعمة، و لم يخف عواقبها أخذ في الكبر و الافتخار على الناس.

[25] و من هو المختال الفخور؟ هم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ عن الإنفاق فإن الذين يفرحون الفرح المطغي ممن لا يؤمن بأن المال جاءه بكتابة من اللّه، و إنه زائل و له حساب دقيق «للتلازم بين العلم بالكتابة و بين التواضع و الإنفاق، كالتلازم بين عدم هذا العلم و بين التكبر و البخل».

وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ إذ البخلاء يريدون بخل الناس حتى لا تقع اللائمة عليهم وَ مَنْ يَتَوَلَ عن أوامر اللّه سبحانه فلا ينفق فليعلم أن اللّه أمر بالإنفاق لمصلحته هو لا لأن اللّه بحاجة إلى المال و إن اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ إذ غنى ما سوى اللّه مجازي الْحَمِيدُ فلا يحتاج إلى الإنفاق ليكثر المؤمنين حتى يحمدوه، فإنه المحمود بالذات سواء حمده أحد أولا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 340

[سورة الحديد

(57): آية 25]

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

[26] و من كونه غنيا حميدا يتبين أن إرساله الرسل و الأحكام ليس لأجل حاجته و إنما لأجل الناس أنفسهم لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ بالأدلة البينة الواضحة وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ جنس الكتب السماوية وَ أنزلنا الْمِيزانَ و معنى إنزاله تقريره، و حيث إنه من مكان رفيع معنى، صح «أنزلنا» كما يقال هذه الأمور من فوق إذا كانت من الرئيس، و المراد كل ميزان للحق و الباطل، سواء كانت موازين للأخلاق أو المعاملات أو المعاشرات أو الموازين الحديدية و نحوها، لأن كل الموازين العلمية و العملية إنما قررها اللّه سبحانه، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي بالعدل، فلا يظلم أحد أحدا، فالكتاب لبيان الحكم، و الميزان لتطبيق ذلك الحكم على المجتمع، و من يخالف؟ فله الحديد وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ إنزاله باعتبار تقديره في السماء فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ بالقتل و القصاص و نحوهما وَ فيه مَنافِعُ لِلنَّاسِ لأن كثيرا من الحاجات تكون بسبب الحديد وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ عطف على فيه بأس، أي أنزلنا الحديد للبأس و المنفعة و الامتحان مَنْ يَنْصُرُهُ وَ ينصر رُسُلَهُ إذ استعمال الأسلحة الحديدية في مجاهدة الكفار نصرة للّه و لرسله بِالْغَيْبِ في حال كون اللّه، أو الرسول غائبا عنهم إذ الناس لا يرون اللّه، و كثيرا لا يرون الرسول، و مع ذلك يجاهدون، و معنى «ليعلم اللّه» أي ليتحقق علمه في الخارج، لكن ليس طلب اللّه للنصرة عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 341

[سورة الحديد (57):

الآيات 26 الى 27]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)

احتياج ف إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ على إهلاك من يريد عَزِيزٌ لا يحتاج إلى أحد، و إنما أمر بالجهاد لينتفع الناس بالجهاد في دنياهم و آخرتهم.

[27] ثم ذكر سبحانه بعض أفراد الرسل وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ فقد كان بعض ذريتهما أنبياء وَ الْكِتابَ أعطينا بعضهم كتبا جديدة فَمِنْهُمْ من ذريتهما مُهْتَدٍ اهتدى بالأنبياء وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أي من أولئك الذرية فاسِقُونَ خارجون عن طاعة اللّه سبحانه.

[28] ثُمَ بعد نوح و إبراهيم عليهما السّلام قَفَّيْنا أتبعنا عَلى آثارِهِمْ آثار ذينك النبيين و ذريتهما بِرُسُلِنا أرسلنا رسولا بعد رسول وَ قَفَّيْنا أتبعنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ رسلا أيضا و لعل عدم ذكر موسى عليه السّلام أن الكلام في الأول و الوسط و الآخر فنوح أول «نبي» و إبراهيم وسط كذلك، و عيسى آخر قبل نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ آتَيْناهُ أعطيناه الْإِنْجِيلَ فلما ذا ينكر النصارى الرسول و قرآنه أليس أرسل لهم رسولا و أعطوا كتابا؟ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ اتباعا حقيقيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 342

لا من حرّف دينه و غيّر كتابه رَأْفَةً صفة داخل القلب وَ رَحْمَةً صفة داخل القلب إذا ظهرت في الخارج

وَ رَهْبانِيَّةً مشتقة من رهبة بمعنى ما يظهر من العبادة على الجوارح من آثار رهبة القلب، و رهبان جمع راهب ابْتَدَعُوها بدعة حسنة أي طبقوا أمر اللّه بالرهبة على كيفية خاصة فإن للإنسان أن يطبق الكلي على بعض أفراده، مثل أن يطبق

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «الوقوف على حسب ما وقفها أهلها»

على بناء المدرسة الدينية، فهي مجعولة باعتبار جعل اللّه الكلي، و مبتدعة باعتبار الفرد، و لذا لا منافاة بين قوله تعالى «جعلنا» و بين قوله «ابتدعوها» ما كَتَبْناها الرهبانية عَلَيْهِمْ بالصيغة الخاصة إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فإنهم لما ابتدعوها كتبناها عليهم بالصيغة الخاصة لأجل طلب رضى اللّه، فهي مجعولة بالكلية، مبتدعة بالصيغة الخاصة، مكتوبة بعد ذلك لأجل رضى اللّه فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها لأن الرؤوف الرحيم الراهب يجب عليه التصديق بما جاء من عند اللّه، لكنهم بكفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و باختلافهم قبل ذلك، و جعلهم الإله ثالث ثلاثة، و بتحريفهم الإنجيل، و بغشوتهم على الناس، تركوا رعاية تلك الأوصاف فَآتَيْنَا أعطينا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أي بقوا على إيمانهم، لأن للإنسان في كل يوم إيمانا جديدا أَجْرَهُمْ الذي يستحقون بسبب بقائهم على إيمانهم وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة اللّه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 343

[سورة الحديد (57): الآيات 28 الى 29]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

[29] يا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم اتَّقُوا اللَّهَ في أعمالكم وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيمانا صادقا لا يشوبه النفاق، إذا آمنتم بالرسول إيمانا صادقا يُؤْتِكُمْ يعطكم اللّه كِفْلَيْنِ أي نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ نصيبا لأجل إيمانكم باللّه، و نصيبا لأجل إيمانكم برسوله و المراد أيها المؤمنون بعيسى عليه السّلام آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيعطيكم اللّه رحمة لأجل إيمانكم بعيسى عليه السّلام و رحمة لأجل إيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ بين الناس فإن الإنسان المحكّم عقله و المتبع للّه و رسوله يكون له نور يعرف به الحق من الباطل فيحكمه الناس في أمورهم و يستشيرون منه في أعمالهم كمن عنده المصباح في الليل المظلم حيث يستنير الناس بنور مصباحه وَ يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ ذنوبكم وَ اللَّهُ غَفُورٌ كثير الغفران رَحِيمٌ بعباده فيغفر ذنوبهم، و يعطيهم الجنة من رحمته.

[30] يقال في العرف «إن المطلب كذا، حتى لا يعلم زيد» أي أتركه حتى لا يعلم، إذا كان إنسانا معاندا لا يريد العلم، و الظاهر من الآية هو هذا، أي أن من آمن باللّه و الرسول له كفلان و نور و غفران لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي اتركهم حتى لا يعلموا، و إنما يتركون لأنهم معاندون، فيبتدئ قوله سبحانه أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 344

اللَّهِ أن مخففة من الثقيلة، و اسمه ضمير محذوف، أي أنهم لا يقدرون على إعطاء أو منع شي ء من فضل اللّه، فلا يقدرون على منع فضله «بالكفيلين و النور و الغفران» عن المسلمين، كما لا يقدرون على منح مثل

هذا الفضل لأنفسهم و «أن لا يقدرون» عطف على «لئلا يعلم» أي أنهم لا يعلمون الحق، و لا يقدرون على صرف الأجر وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ و هذا تأكيد لبيان أنهم «لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» يُؤْتِيهِ يعطي اللّه ذلك الفضل ل مَنْ يَشاءُ ممن اتبع أوامره وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ نسأله سبحانه أن يمنحنا من ذلك الفضل و هو المستعان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 345

تقريب القرآن الى الأذهان الجزء الثامن و العشرون من آية (1) سورة المجادلة إلى آية (13) سورة التحريم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 346

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 347

58 سورة المجادلة مدنية/ آياتها (23)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على فعل هذا الباب. و هو قوله «تجادلك» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام إلى جنب بيان العقيدة و حيث ختمت سورة الحديد ببيان فضله سبحانه افتتحت هذه السورة بذكر مصداق من مصاديق فضله، و ذلك تلبية اللّه لرغبة المرأة التي جاءت الرسول تجادل في زوجها، بأن جعل لها مخرجا من تلك المشكلة التي وقعت فيها، ببيان حكم الظهار.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم الإله المستحق لجميع المحامد و أنواع التعظيم، ففي الابتداء باسمه أداء لحقه في التقديم، و إتيان بمقتضى عظمته، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على كل شي ء، و على كل أحد، فهو

«يعطي من سأله»

و

«يعطي من لم يسأله و من لم يعرفه، تحننا منه و رحمة».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 348

[سورة المجادلة (58): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ

قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

[2] قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ المرأة الَّتِي تُجادِلُكَ أي تراجعك و تتكلم معك يا رسول اللّه فِي أمر زَوْجِها و اسم المرأة «خولة» و اسم زوجها «أوس» وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ حالها و ما نزل من المكروه وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أي تخاطبكما أنتما يا رسول اللّه، و يا أيتها المرأة إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع الكلام بَصِيرٌ يبصر الأحوال، فأنتما باطلاعه سبحانه استماعا و إبصارا، قال في المجمع- بتلخيص-:

نزلت الآيات في امرأة من الأنصار من خزرج. و اسمها «خولة» و زوجها «أوس» و ذلك أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها، فلما انصرفت أرادها، فأبت عليه، فغضب عليها، و كان امرءا فيه سرعة و لمم، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، ثم ندم على ما قال، و كان الظهار من طلاق أهل الجاهلية، فقال لها: ما أظنك إلا و قد حرمت عليّ، فقالت:

لا تقل ذلك و أت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاسأله؟

فقال: إني أجد أني أستحي من أن أسأله عن هذا. قالت: فدعني أسأله؟ فقال: سليه فأتت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني و أنا شابة غنية ذات مال و أهل حتى إذا أكل مالي و أفنى شبابي، و تفرق أهلي و كبر سني ظاهر مني، و قد ندم فهل من شي ء يجمعني و إياه فتنعشني به؟ فقال: ما أراك إلا حرمت عليه- أراد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحرمة الموقتة التي تحل بالكفارة- فقالت: يا رسول

اللّه و الذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، و أنه أبو ولدي و أحب الناس إلي؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أراك إلا حرمت عليه، و لم أؤمر في شأنك بشي ء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 349

[سورة المجادلة (58): آية 2]

الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)

فجعلت تراجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إذا قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرمت عليه هتفت و قالت: اشكوا إلى اللّه فاقتي و حاجتي و شدة حالي، اللّهمّ فأنزل على لسان نبيك، و كان هذا أول ظهار في الإسلام. و قالت:

انظر في أمري جعلني اللّه فداك.

فنزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الوحي، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادعي زوجك فتلا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «قد سمع اللّه» إلى تمام الآيات، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال: إذا يذهب مالي كله و الرقبة غالية و أنى قليل المال فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال:

و اللّه يا رسول اللّه إني إذا لم آكل ثلاث مرات كلّ بصري و خشيت أن تعشى عيني، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال: لا و اللّه إلا أن تعينني على ذلك يا رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إني معينك بخمسة عشر صاعا

و إني داع لك بالبركة، فأعانه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك

«1».

[3] ثم بين سبحانه ذم «الظهار» بقوله الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ نِسائِهِمْ أي يقولون لهن: «أنت كظهر أمي» فإن هذا اللفظ كان طلاقا في الجاهلية، و معناه: أنه كما يحرم على ظهر الأم، كذلك تحرمين أيتها الزوجة علي، و قد أقر الإسلام كون هذا اللفظ محرّما للزوجة، إذا اجتمع فيه شروط الطلاق، من كونه بمحضر العدلين و ما أشبه، إلا أنه حرم الطلاق بهذا النحو و جعل الرجوع فيه الكفارة ما هُنَ أي لسن الزوجات، المقول فيهن هذا القول أُمَّهاتِهِمْ فإن مجرد اللفظ لا يجعل من الزوجة أمّا إِنْ أُمَّهاتُهُمْ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 408.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 399

[سورة المجادلة (58): آية 3]

وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)

أي أمهات هؤلاء المظاهرين إِلَّا النساء اللَّائِي جمع التي وَلَدْنَهُمْ فلا أمومة حقيقية بين المظاهر و المظاهر منها وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ فإن تشبيه الزوجة بالأم قول منكر، فلا شرعية لهذا القول، و كل شي ء لا يكون له حقيقة و لا شرعية فهو باطل وَ زُوراً أي كذبا، فإن المظاهر إذا جعل ظهر امرأته كظهر أمه، و لم يكن بحقيقة كان كذبا، لكن لا ييأس القائل من عفو اللّه و فضله فإن أبواب التوبة مفتوحة وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ كثير العفو عن العصاة غَفُورٌ لذنوبهم. و أما الفرق أن العفو هو عدم العقاب، و ذلك لا يلازم الستر بحيث لا يكون

ذنبه ظاهرا، كما نرى أن الحكومات قد تعفوا عن مجرم لكن جرمه مذكور ثابت في الدفتر، أما الغفران فهو الستر للمعصية، حتى تمحى عن ديوانه سبحانه.

[4] ثم جاء السياق ليبين حكم الظهار و ما يترتب عليه وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ المظاهرة مشتقة من «الظهر» و الإتيان ب «من» لأن الظهر يبتدأ من جانب المرأة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا بأن يريدون الرجوع إلى النساء و نقض كلامهم السابق المقتضي للتحريم فاللازم عليهم لحلية الوطي و رجوع الزوجة كما كانت فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي يجعل عبدا مملوكا حرا بالعتق، و إنما قيل له رقبة بعلاقة الجزء و الكل مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي يمس أحد الزوجين الآخر، و هو كناية عن الجماع، فإن الجماع لا يحل قبل التحرير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 351

[سورة المجادلة (58): آية 4]

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)

ذلِكُمْ ذا إشارة إلى التحرير و «كم» خطاب، أي أن وجوب التحرير عليكم مما تُوعَظُونَ بِهِ و الوعظ هو التحرير عن عمل يوجب العقاب، فإن ترك التحرير و المماسة موجب للعقاب لأنه عصيان وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من المماسة بدون الكفارة أو بعدها خَبِيرٌ عالم مطلع، فلا تفعلوا ما يوجب عليكم عقابا.

[5] فَمَنْ ظاهر من زوجته و أراد العود و لَمْ يَجِدْ أي لم يتمكن من عتق رقبة إما لعدم وجود المال لاشترائه، أو لعدم وجود أصل العبد- كما في زماننا- فكفارته صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ التتابع هو التوالي و مجي ء الواحد بعقب الآخر، أي أن يصوم شهرين بلا فصل إفطار يوم

بين أيام الشهرين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي يجامعا الرجل و المرأة فَمَنْ ظاهر و لَمْ يَسْتَطِعْ العتق و لا الصيام و أراد الرجوع فعليه إطعام سِتِّينَ مِسْكِيناً أي فقيرا بأن يشبع بطنهم أو يعطي لكل واحد ثلاثة أرباع من الحنطة- مثلا- ذلِكَ الحكم بالكفارة للمظاهر المريد للعود إنما شرع لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي ليرسخ الإيمان في قلوبكم فإن رسوخ الإيمان إنما هو بتتابع الأعمال و التكاليف، فإن التكاليف توقظ القلب و تقوي الملكة فيه، و حيث إن الإيمان كسائر الصفات شي ء تدريجي يحدث آنا بعد آن، صح الإتيان بالفعل باعتبار المستقبل، كقوله «اهدنا الصراط» و قد تقدم تفصيله وَ تِلْكَ الكفارات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 352

[سورة المجادلة (58): الآيات 5 الى 6]

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (6)

حُدُودُ اللَّهِ أي هي الحدود للإيمان التي قررها اللّه سبحانه، فلا يسمح للمؤمن الخروج منها، بالعصيان، كما لا يسمح للإنسان أن يخرج من حدود المدينة نحو الأعداء وَ لِلْكافِرِينَ بحدود اللّه المنكرين لها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[6] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ حاده بمعنى خالفه وَ رَسُولَهُ بأن لا يمتثلون أوامرهما كُبِتُوا أي أذلوا و أخزوا، من الكبت بمعنى الإذلال كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفار و المشركين، و إذلالهم بنصرة الإسلام عليهم في الدنيا، و عذابهم في الآخرة وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ أي علائم و أدلة بَيِّناتٍ واضحات ظاهرات، على أصول العقيدة، و أحكام الشريعة، فلا عذر للشخص أن يقول

لم أعرف و لم أدر وَ لِلْكافِرِينَ بالآيات عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلهم.

[7] و العذاب المهين إنما هو في يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ أي يحييهم و يحشرهم جَمِيعاً فلا يترك منهم أحد، و لا مفر لأحد من بأسه سبحانه فَيُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم اللّه بِما عَمِلُوا إخبارا لأجل العذاب، فإن المجرم يعد جرمه أولا ثم يعاقب لئلا يقول عذبت ظلما أَحْصاهُ اللَّهُ أي عدده سبحانه في كتابه و حفظه وَ نَسُوهُ فإن الغالب إن الإنسان ينسى أعماله التي عمل بها وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 353

[سورة المجادلة (58): آية 7]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7)

أي شاهد حاضر، فيعرف كل ما يصدر من الإنسان، و يأمر الملائكة بتثبيته، ليجازي به يوم القيامة.

[8] أَ لَمْ تَرَ أي ألم تدرك، فإن الرؤية قد تكون بالعين، و قد تكون بالقلب، و المخاطب هو الرسول أو كل من يتأتى منه العلم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لا يغيب عنه شي ء من الأشياء؟

فكيف لا يعلم أعمال الجاحدين و الكافرين؟ و الاستفهام تقريري، و هو بمثابة الدليل لقوله «يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» و «اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» ثم أكد عموم علمه سبحانه بأنه شامل حتى للأسرار التي يفضي بها الإنسان إلى إنسان سرّا و في إخفات ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى «من» زائدة لعموم النفي، و «النجوى»

هو الحديث السري يدور بين اثنين أو أكثر في منأى من الناس ثَلاثَةٍ أي ثلاثة أشخاص إِلَّا هُوَ سبحانه رابِعُهُمْ يسمع ما يقولون.

وَ لا نجوى خَمْسَةٍ أشخاص إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ يسمع كلامهم وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ بأن يكون المتناجين اثنين وَ لا أَكْثَرَ بأن يكونوا أكثر من خمسة إِلَّا هُوَ سبحانه مَعَهُمْ بالعلم و الاطلاع أَيْنَ ما كانُوا من بقاع الأرض، و غيرها ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم بِما عَمِلُوا في الدنيا يَوْمَ الْقِيامَةِ ليجازيهم عليه فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 354

[سورة المجادلة (58): آية 8]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)

الثواب و العقاب بعد الإخبار تكريما للمثاب، و إهانة للمعاقب، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم الأشياء كلها فلا يخفى عليه شي ء.

[9] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى

قال ابن عباس

إنها نزلت في اليهود و المنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم و ينظرون إلى المؤمنين و يتغامزون بأعينهم فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا و قد بلغهم عن أقربائنا و إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو مصيبة أو هزيمة، فكان ذلك يحزنهم فشكوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنهى الرسول عن النجوى فلم ينتهوا عن ذلك، فأنزل سبحانه هذه الآية

«1» ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ غير مبالين بالنهي.

وَ يَتَناجَوْنَ فيما بينهم بِالْإِثْمِ فيكنّ بعضهم لبعض آثامه وَ الْعُدْوانِ أي التعدي على

الناس و التعدي عن الحق وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ بأن كان بعضهم يوصي بعضا بعصيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ إِذا جاؤُكَ هؤلاء المتناجون بالباطل حَيَّوْكَ يا رسول اللّه بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي تحية ظاهرها مليح و باطنها قبيح،

فقد كان اليهود يقولون للرسول عوض التحية «السام عليك» و السام هو الموت، يخفون ذلك موهمين أنهم قالوا «السّلام عليك» و قد كان فريق آخر يقول في تحيته «أنعم صباحا، و أنعم مساء» و هي تحية أهل الجاهلية،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 413. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 355

[سورة المجادلة (58): آية 9]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)

فنهاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك و قال «قد أبدلنا اللّه بخير من ذلك تحية أهل الجنة السّلام عليكم

» و الاستفهام في قوله «ألم تر» للإنكار، أي لماذا يفعل هؤلاء هكذا وَ يَقُولُونَ هؤلاء اليهود و المنافقون فِي أَنْفُسِهِمْ أي بعضهم لبعض أو خلجانا في صدورهم لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي لو كان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيا حقا، فهلا ينزل اللّه علينا العذاب؟ أليس ذلك دليل على أنه ليس بنبي؟ و يأتي الجواب لاستفهامهم التعنتي هذا حَسْبُهُمْ أي كافيهم عقوبة جَهَنَّمُ التي يَصْلَوْنَها أي يدخلونها يوم القيامة فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي المرجع و المحل لسكناهم، أما عدم تعذيب اللّه فلأنه لا يعذب اللّه في الدنيا كل عاص، و إلا ما ترك على ظهرها من دابة.

[10] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ

بعضكم مع بعض فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي لا تفعلوا كفعل المنافقين و اليهود- كما سبق- وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ أي بأفعال الخير، كأن يناجي أحدهم الآخر بأن ينفق في سبيل اللّه وَ التَّقْوى كأن يناجيه في ترك معصية أو فعل طاعة مما يتقي به عن عذاب اللّه وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إلى حسابه و جزائه تنتقلون بعد المبعث و الحياة الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 356

[سورة المجادلة (58): الآيات 10 الى 11]

إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

[11] إِنَّمَا النَّجْوى الذي يتعاطاه الكفار و المنافقون مِنَ أعمال الشَّيْطانِ و إيحاءاته، و إنما يوحي إلى أوليائه بذلك لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا بأن يظنوا أن المتناجين ينقلون فيما بينهم خبرا محزنا، أو يدبرون مؤامرة، أو يستهزئون بالمؤمنين أو ما أشبه وَ لَيْسَ نجواهم بِضارِّهِمْ أي لا يضر المؤمنين شَيْئاً فان النجوى ليس إلا عملا باطلا لغوا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن اللّه مطّلع على نجواهم، فإن اقتضت حكمته أن لا يحول بينهم و بين ما دبروا من المكر، كان يضرهم، أما إذا لم يرد اللّه سبحانه ضرر المؤمنين حال بينهم و بين ما يدبرون بالنجوى، فاللازم أن يتوجه المؤمنون إلى اللّه بالضراعة ليدفع كيد الكفار و المنافقين عنهم وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بأن يكلوا أمرهم إليه سبحانه، فإنه نعم

الحفيظ.

[12] و إذا فرغ السياق من بيان أدب من آداب المجالس، بذكر بعض الأمور المرتبطة بالنجوى، بمناسبة تحدث المرأة مع الرسول حول الظهار، الذي كان حوارا في المجلس و مما يحدث في المجالس، جاء السياق ليبين أدبا آخر من آداب المجالس فقال سبحانه:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ و القائل أيّ شخص كان تَفَسَّحُوا أي اتسعوا فِي الْمَجالِسِ بأن تجمعوا أنفسكم في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 357

الجلوس، حتى يتسع المكان لشخص آخر فَافْسَحُوا و وسعوا المكان يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع اللّه لكم الأمر، أو يوسع اللّه لكم منازلكم في الجنة، فقد ورد أن المسلمين كانوا يتنافسون على المجلس في محضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يفسح بعضهم لبعض وَ إِذا قِيلَ لكم انْشُزُوا أي قوموا عن أماكنكم ليجلس غيركم، من «نشز» بمعنى ارتفع فَانْشُزُوا أي فقوموا،

قالوا و كان سبب نزول هذا أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يكرم أهل بدر، و ذات يوم و الناس آخذون مكانهم حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ورد بعض أهل بدر فلم يفسح الجالسون لهم مكان، فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبعض الجالسين قوموا حتى يجلس أهل بدر، فقاموا لكن الكراهية بدت في وجوههم و استغل المنافقون ذلك فقالوا لمن أقيم: أ هكذا عدل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث يقيمكم ليجلس غيركم ذلك المكان؟ فنزل ذلك

«1».

يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ إيمانا صحيحا من الأعماق وَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْعِلْمَ دَرَجاتٍ في الدنيا و في الجنة، فهذا الامتثال للرسول بالقيام حسب أمره موجب لرفعتكم في الدنيا و الآخرة، و فيه تناسب حسن بين قيامهم من المجالس، و رفعة درجتهم، و الدرجات إنما هي بحسب مراتب الإيمان و العلم، وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 417.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 358

[سورة المجادلة (58): آية 12]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

أي عالم مطلع فيجازيكم حسب أعمالكم.

[13] و بعد ذلك جاء السياق لبيان أدب آخر من آداب مجلس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فيه تلميح إلى أن ذلك أدب عام، فقد سبق منا أن أمثال هذه الآيات إنما أتي بها للإلماع إلى الخطوط العامة في الأحكام و الآداب، و إن لم يكن لها مصاديق خارجية بعد موت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من يرتبط بتلك الآيات مباشرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي أردتم الإسرار في أذنه، فإن الفعل يأتي بمعنى الإرادة كهذه الآية، كما أن الإرادة تأتي بمعنى الفعل كقوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1» و يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ «2» و ما أشبه ذلك فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ أي أمام النجوى صَدَقَةً فقد كان الأشراف- في زعمهم- يأتون إلى الرسول يناجونه بالترهات، إظهارا لفضلهم- كما جرت عادة أمثالهم إلى هذا اليوم- يريدون إراءة الناس ان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمع لقولهم و يرعاهم فجاءت هذه الآية رادعة لهم، و فيه

الأمر بتعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنفاع الفقراء، و النهي عن الإفراط في السؤال، و الميز بين المخلص و المنافق، و محب الآخرة و محب الدنيا، فلما سمعوا بهذه الآية انتهوا، باستثناء الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فصرف دينارا عشرة دراهم، و أخذ يعطي درهما للفقير و يناجي، و درهما آخر و يناجي، و هكذا حتى أنفق العشرة «3».

______________________________

(1) الأحزاب: 34.

(2) البقرة: 186.

(3) راجع بحار الأنوار: ج 35 ص 378.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 359

[سورة المجادلة (58): آية 13]

أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)

ذلِكَ أي إعطاء الصدقة قبل النجوى خَيْرٌ لَكُمْ لأن فيه تحصيل الثواب، و أداء الواجب، و الدلالة على السخاء، و تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَطْهَرُ لأن التصدق يطهّر النفس من الرذيلة و الشح فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تتصدقون به قبل النجوى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر عليكم ترك ذلك رَحِيمٌ بكم فلا يكلّفكم التصدق بل يجوّز لكم النجوى بدون الصدقة، و ستره سبحانه إنما هو بعدم إيجابه التصدق، حتى يأثم المناجي بدون التصدق، فلا يقال: لا مجال لقوله «غفور» في المقام، إذ الغفران عن الذنب و لا ذنب في المقام؟ و لما نزلت هذه الآية لم يتقدم أحد من النجوى إلا الإمام كما سبق، فأنزل اللّه سبحانه رفع الحكم بقوله:

[14] أَ أَشْفَقْتُمْ أي هل خفتم من الفقر أيها المسلمون أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صَدَقاتٍ و كان الإتيان

بالجمع باعتبار كون «النجوى» جنسا شاملا لأفراد متعددة، فلكل فرد صدقة، و هذا استفهام توبيخي، بأنه كيف تركتم هذه الفضيلة للخوف من الفقر مع العلم أن الصدقة لم تكن محددة، فكان يكفي القليل منها فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي لم تتصدقوا، و تركتم النجوى بخلاف من الإنفاق وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن عفى تقصيركم في هذه الفضيلة فاعملوا بسائر أحكام الإسلام فقد رفع عنكم هذا الحكم فلا مانع بعد ذلك من النجوى بدون الصدقة فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بالإتيان بها بحدودها وَ آتُوا الزَّكاةَ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 360

[سورة المجادلة (58): آية 14]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14)

أعطوها وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر أوامرهما وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فأنتم بعينه و تحت اطلاعه، فلا تعملوا ما يخالف أوامره حتى تستحقوا العقاب.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إن في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها أحد بعدي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ» كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قدم درهما

«1»، أقول: قوله «ءأشفقتم» لا ينافي عدم وجود النسخ في القرآن، لأن الظاهر كون الأمر بتقديم الصدقة في الآية السابقة، كان امتحانيا من قبيل رؤيا إبراهيم عليه السّلام، و لإظهار فضيلة الإمام عليه السّلام- كذا يقول المنكرون للنسخ-.

[15] و بمناسبة ما تقدم من النجوى، أتى السياق ليبين احترام السر و أنه لا يجوز إظهاره للأعداء أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي إِلَى

الَّذِينَ تَوَلَّوْا بالصداقة و الوداد قَوْماً من الكفار غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال في المجمع: و المراد به قوم من المنافقين كانوا يوالون اليهود و يفشون إليهم أسرار المؤمنين «2» ما هُمْ أي ليس هؤلاء المنافقين مِنْكُمْ أيها المؤمنون وَ لا مِنْهُمْ أي من الكفار، بل

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 29.

(2) مجمع البيان: ج 9 ص 419.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 361

[سورة المجادلة (58): الآيات 15 الى 17]

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17)

مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء وَ إذا قيل لهم لم تنافقوا يَحْلِفُونَ لتبرئة ساحة أنفسهم عَلَى الْكَذِبِ بأنا لا نساير الكفار و لا ننافق وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون في قولهم و أنهم منافقون.

[16] أَعَدَّ اللَّهُ أي هيأ اللّه لَهُمْ أي لهؤلاء المنافقين عَذاباً شَدِيداً في الدنيا بالخزي و الفضيحة و في الآخرة بالنار و النكال إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من النفاق و موالاة أعداء اللّه تعالى.

[17] اتَّخَذُوا هؤلاء المنافقون الذين حلفوا لكم أَيْمانَهُمْ جمع يمين و هي الحلف جُنَّةً أي سترة و ترسا يدفعون بها عن نفوسهم التهمة و الظنة إذا ظهر منهم النفاق فَصَدُّوا أنفسهم، و الناس الضعاف الإيمان عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصل إلى مرضاته فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يذلهم و يهينهم جزاء على نفاقهم.

[18] لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لا تفيد هؤلاء المنافقين في دفع عذاب اللّه عنهم أَمْوالُهُمْ التي جمعوها وَ لا أَوْلادُهُمْ الذين خلفوهم مِنَ اللَّهِ أي

من بأس اللّه و نكاله شَيْئاً فلا تدفعان عنهم و لو بعض العذاب أُولئِكَ المنافقون أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها، كالصاحب الذي يلازم صاحبه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 362

[سورة المجادلة (58): الآيات 18 الى 19]

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)

هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد، و

قد روي أن الآيات نزلت في منافق كان يجالس اليهود و يأخذ عنهم نفاقا، فلما اطلع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أمره نهاه، فقال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه يأخذ عنهم صفته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الموجودة في التوراة، و حلف على ذلك كذبا و تغطية لأمره، لكن الوحي فضحه و فشى أمره.

[19] هم أصحاب النار في يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ أي هؤلاء المنافقين يحييهم بعد الممات للحساب و الجزاء جَمِيعاً بغير أن يترك منهم أحدا و هذا التأكيد لئلا يحتمل أحد أنه يترك، كما هو الشأن في الدنيا إذ يترك بعض القوم- جهلا أو نسيانا- في الدعوات العامة و ما أشبهها فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي اللّه سبحانه، بأنهم كانوا مؤمنين في دار الدنيا كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الحال ظانين أن اللّه لا يعلم أمرهم، و ينطلي عليه كذبهم بمجرد الحلف وَ يَحْسَبُونَ أي يظنون أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ بأن أيمانهم الكاذبة تروج هنا، كما كانت تروج في الدنيا لدى المؤمنين أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في كلامهم و يمينهم فلا تروج الأيمان المكذوبة هناك، بل يعرفون بالكذب و الدجل.

[20] اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ على هؤلاء

المنافقين الشَّيْطانُ أي استولى عليهم، و الاستحواذ هو الاستيلاء، من «حاذ» بمعنى «حاز» كالذي يحوز شيئا لنفسه و يختاره لشخصه فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ حتى أنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 363

[سورة المجادلة (58): الآيات 20 الى 21]

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)

لا يذكرونه سبحانه حتى يخافوا منه، فينقلعوا عن النفاق و العصيان أُولئِكَ المنافقون حِزْبُ الشَّيْطانِ جماعته و أتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا دنياهم و آخرتهم، فإن الدنيا تزول، و لهم في الآخرة النار.

[21] ثم انتقل السياق من المنافقين، إلى كل مخالف للّه و رسوله إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ أي يتجاوزون حدوده بالمخالفة وَ رَسُولَهُ فيما جاء من الأحكام أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ فلا أحد أذل منهم في الدنيا و الآخرة، و كأن الأذلون فرقة سابقة على الإسلام، فهؤلاء المحادون في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بعده داخلون في أولئك، و كأن هؤلاء أكثر ذلّا و هوانا من العصاة من المؤمنين، و بهذا الاعتبار عبر عنهم بالأذل، أو أنهم أذل من الكافر غير المحادد.

[22] و هل يظن هؤلاء المحادون أن عملهم يثمر لهم نجاحا، أو للإسلام هبوطا؟ كلا! فقد كَتَبَ اللَّهُ في اللوح المحفوظ و قرر لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي على كل محاد و مخالف، و قد جرب العالم صدق هذه المقالة، فالآخذون بزمام العالم حتى في هذا اليوم المظلم هم الرسل كموسى عليه السّلام و عيسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لهم من الأتباع أكثر من نصف أهل العالم، و مناهجهم سارية- قليلا

أو كثيرا- في كل العالم إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ على نصر أنبيائه عَزِيزٌ غالب في سلطانه، فلا يتمكن أحد على أن يغلبه أو يغلب رسله، و

قد روي أن المسلمين لما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 364

[سورة المجادلة (58): آية 22]

لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

رأوا ما يفتح اللّه عليهم من القرى قالوا: ليفتحن اللّه علينا الروم و فارس فقال المنافقون: أ تظنون أن فارسا و الروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ فأنزل اللّه هذه الآية

«1».

[23] ثم جاء السياق ليبين وظيفة المسلم أمام الكافر، و أنه يلزم عليه أن لا يواد الكافر مهما كان، خلافا لأولئك المنافقين الذين كانوا يوادون الكافرين لا تَجِدُ يا رسول اللّه، أو أيها المسلم قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا صحيحا يُوادُّونَ الموادة المحابة، من باب «المفاعلة» مَنْ حَادَّ اللَّهَ أي خالف اللّه وَ رَسُولَهُ بترك أوامرهما و الكفر بهما، و المعنى: إنه لا تجتمع موالاة الكفار مع الإيمان، فمن والاهم فليس بمؤمن، و ان أظهر الإيمان وَ لَوْ كانُوا أي كان الذين يحادون اللّه و رسوله آباءَهُمْ أي آباء المؤمنين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ بأن قربت قرابتهم، فإن الكفر يقطع قرابة المؤمن بالكفار و إن بقي رجحان بعض أقسام الصلة، إذا كان الكافر أبا أو أما أو ما أشبه، كما قال سبحانه، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى

أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «2» أُولئِكَ الذين لا يوادون الكفار كَتَبَ اللّه أي أثبت فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 421.

(2) لقمان: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 365

بالألطاف الخفية بهم حيث رآهم في طريق الحق.

وَ أَيَّدَهُمْ أي قوّاهم اللّه سبحانه بِرُوحٍ مِنْهُ أي بروح من عنده تعالى، فإن المؤمن الصامد توجد فيه روح قوية توجب التزام أحكام اللّه سبحانه، حتى أن أقوى أسباب الكفر لا تتمكن من زحزحته وَ يُدْخِلُهُمْ اللّه في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ من عسل و خمر و لبن و ماء حال كونهم خالِدِينَ أي دائمين باقين فِيها أي في تلك الجنات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حيث علم فيهم الإيمان الراسخ و العمل الصالح وَ رَضُوا عَنْهُ بما منحهم من الفضل و الإيمان في الدنيا و الجنان في الآخرة أُولئِكَ المتصفون بتلك الصفات حِزْبُ اللَّهِ جماعته و أتباعه- في مقابل حزب الشيطان- أَلا فلينتبه السامع إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الذين فازوا و ظفروا بخير الدنيا و سعادة الآخرة، قالوا نزلت هذه الآية في «حاطب» حيث كاتب أهل مكة يخبرهم بإقبال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نحوهم للفتح، بعد ما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى أصحابه أن يفشوا الخبر، فلما عوتب في ذلك، اعتذر بأن أهله في مكة فأراد أن يكون له يد على أهلها، حتى لو كانت الدائرة على المسلمين راعى أهل مكة يده عندهم، فلا يؤذوا زوجته و أهله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 366

59 سورة الحشر مدنية/ آياتها (25)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها

على لفظة «الحشر» و هي كسائر السور المدنية تشتمل على النظام بالإضافة إلى قضايا العقيدة و حيث ختمت سورة المجادلة بذكر حزبي الرحمن و الشيطان افتتحت هذه السورة بذكر غلبة حزب الرحمن على حزب الشيطان.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم الإله نبتدئ السورة، لتكون معلّمة بعلامة الإيمان و يكون تعليما للمسلمين: بلزوم أن يبدءوا أعمالهم باسمه سبحانه، الرحمن الرحيم الذي خلقه، بالخلقة أولا، و اللطف و التربية و العناية ثانيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 367

[سورة الحشر (59): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)

[2] سَبَّحَ لِلَّهِ أي نزهه سبحانه عن النقائص، و يجوز في سبح تعديه بلا واسطة نحو «سبحه» و تعديه مع الواسطة نحو «سبح له» باعتبار أن التسبيح له لا لغيره ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و المراد الظرف و المظروف، و المراد بالتسبيح إما التكويني بأن كل شي ء يدل على وجود الإله و سائر صفاته، دلالة الأثر على المؤثر، أو التسبيح بألسنتها التي لا نفقهها، كما قال:

كل شي ء في الكون يشعر لكن منع الناس عن شعور المشاعر وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْحَكِيمُ يفعل الأشياء حسب الحكمة و الصلاح.

[3] هُوَ اللّه سبحانه الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ كل أهل الكتاب كفار، لكن منهم من آمن بالرسول، فخرج

عن الكفر، و منهم من لم يؤمن فيقال له «كفر» إما باعتبار استمراره في الكفر من قبيل «اهدنا»، أو باعتبار أنه كان إلى قبل بعثة الرسول مؤمنا- إذ كان تكليفه هو دينه- فإذ جاء الرسول و لم يؤمن صار كافرا و المراد بهم هنا يهود «بني النضير» مِنْ دِيارِهِمْ بأن سلط المؤمنين عليهم و أيدهم، حتى يتمكنوا من إخراجهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ الحشر هو الجمع من مكان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 368

إلى مكان آخر- و لعل المراد لأول مرة في إخراج اليهود من المدينة بصورة جماعية- ثم بعد ذلك أخرج غيرهم، حتى لا يبقى في جزيرة العرب اليهود إطلاقا، فإنهم أهل مؤامرة و دسائس، فأراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إخلاء البلاد منهم و من كيدهم، لئلا يدبروا المؤامرات على الدين الجديد.

ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا أي اليهود بهذه السرعة لما كنتم تعلمون من شدة بطشهم و شوكتهم وَ ظَنُّوا أي اليهود أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ أي تمنعهم من المسلمين حُصُونُهُمْ جمع حصن و هي القلعة التي يتحصن فيها الإنسان خوفا من العدو المهاجم مِنْ بأس اللَّهِ بأنه سبحانه إذا أراد بهم شيئا وقفت حصونهم أمام إرادته فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي جاءهم أمر اللّه بالخراب لقلاعهم، و التشريد لهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي لم يظنوا أنهم يمكن أن يؤتوا من تلك الجهة بأن ألقى الرعب في قلوبهم و أرخى قواهم، و كسر شوكتهم و منعتهم وَ قَذَفَ أي ألقى اللّه سبحانه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف، فإنهم لما رأوا كثرة شوكة المسلمين انهارت قواهم، و أول الهزيمة هو: الرعب و خور القوى و انهيار الأعصاب يُخْرِبُونَ أي أولئك اليهود بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ فقد

كانوا يهدمون بيوتهم لئلا ينتفع بها المؤمنون وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فقد كان المؤمنون يخربون بيوتهم ليصلوا إليهم و يهزموهم فَاعْتَبِرُوا و اتعظوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 369

يا أُولِي الْأَبْصارِ أي أصحاب العقول، بأن اللّه سبحانه إذا حاده جماعة كيف يهزمهم و يغلب عليهم، حتى أنهم بأنفسهم يهدمون بيوتهم التي هي أعز ما يكون لديهم، و المراد بالاعتبار النظر في الأمور ليرى الإنسان بها أمورا أخر لها ارتباط وثيق بها.

و قد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في «بني النضير» و تفصيل قصتهم على ما في «قادة الإسلام» «1»: قتل أحد أصحاب الرسول نفرين ممن كانا في عهد الإسلام، و كان قتله لهما اشتباها، فأراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يستقرض ديتهما من بني النضير، و هم يهود قرب المدينة، عددهم زهاء الألف، فأظهروا قبول إقراض الدية، و دعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى داخل الحصن.

لكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبى و اتكأ على جدار الحصن، و هناك نزل عليه جبرئيل و أخبره بأنهم عازمون على الغدر به، و تبين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك من حركاتهم، حيث إنهم تآمروا بينهم أن يذهب أحدهم على سطح الجدار الذي كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متكئا عليه فيلقي على رأس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجرا حتى يقضي على حياته الشريفة.

قفل الرسول راجعا إلى المدينة، قبل أن يأخذ القرض، و أرسل رسولا إلى بني النضير إذ نقضتم ميثاقكم و أردتم الغدر، فاخرجوا من بلادي و لقد أمهلتكم عشرة أيام، و حينذاك لم يجدوا مناصا

عن الخروج إلا أن بعض المنافقين، وعدهم النصر، و نهاهم عن الخروج، فلم يخرجوا، و أخبروا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنهم لن يخرجوا فليفعل

______________________________

(1) للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 370

[سورة الحشر (59): آية 3]

وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3)

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما بدا له و عزموا على القتال، فخرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع جمع من أصحابه، و رايته بيد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و حاصروا حصونهم و أخذوا يحتلون بيوتهم، فكانت اليهود تنسحب من دار إلى دار، و كلما انسحبت هدّمت البناء الذي في معرض الاحتلال و استماتوا، فأراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطع آمالهم عن أراضيهم، فأمر بقطع نخيلهم. يئس اليهود عن النجدة، و أرسلوا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسولا يطلبون منه أن يسمح لهم بالخروج جميعا، فأذن لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بشرط أن لا يحملوا أكثر مما تحمله إبلهم فقط، لكنهم لم يقبلوا، و بقوا مستميتين، و لما ضيق عليهم الحصار قبلوا شرط الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكن الرسول جزاهم عن عنادهم، فلم يسمح لهم بحمل شي ء من أموالهم، و إنما أذن لهم بالخروج بدون حمل أثقالهم، فقبلوا الشرط و خرجوا وحدهم، و خلوا أموالهم كلها للإسلام، فقسم الأموال بين المهاجرين الأولين، و أعطى منها لنفرين من الأنصار، و بجلاء بني النضير استراح المسلمون من عدو لدود لهم، كان يكيد لاجتثاث الإسلام من جذوره.

[4] وَ لَوْ

لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ أي حكم اللّه عَلَيْهِمُ أي على بني النضير الْجَلاءَ أي الانتقال من ديارهم، و الجلاء عن أوطانهم لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بأن أمر الرسول بقتلهم و إهلاكهم كما أنه سبحانه فعل ذلك ببني قريظة وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ لما تمادوا في كفرهم و عصيانهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 371

[سورة الحشر (59): الآيات 4 الى 6]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6)

[5] ذلِكَ الإخراج لهم عن ديارهم، و إعداد النار لهم في الآخرة بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ أي عادوه وَ حاربوا رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ بالمخالفة و المحاربة فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي فليستعد للعقاب الشديد، لأنه تعالى «أرحم الراحمين في موضع العفو و الرحمة، و أشد المعاقبين في موضع النكال و النقمة».

[6] ما قَطَعْتُمْ أيها المسلمون مِنْ لِينَةٍ أي نخلة كريمة من أنواع النخيل، و إنما سمي لينة للين ثمره، و تقبل سعفه للتصنيع أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها أي جذوعها بأن لم تقطعوها- فقد قطع المسلمون بعض النخيل لبني النضير و تركوا بعضها قائمة- فَبِإِذْنِ اللَّهِ فقد تحرج المسلمون عن هذا العمل، بأنه إن لزم القطع فكان ما أبقوا غير جائز، و إن لزم الإبقاء كان ما قطعوا غير جائز، و لذا جاء البيان ليبرر موقفهم و يطمئن قلوبهم، فإن ما احتيج إلى قطعه

في الحرب و التنكيل قطع، و ما لم يحتج إلى قطعه أبقي، وَ لِيُخْزِيَ أي يذل اللّه الْفاسِقِينَ أي أولئك اليهود بهذا القطع و الإبقاء، فما قطع أورث فيهم حسرة كيف قطع المسلمون ما غرسوه و ربوه، و ما أبقي أورث فيهم حسرة كيف أبقي حتى ينتفع المسلمون به؟

[7] ثم يأتي السياق ليبين أحكام الغنيمة التي غنموها في إجلاء بني النضير، بأنها خاصة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أقربائه لأن المسلمين لم يتعبوا لأجلها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 372

و ذلك بخلاف الغنيمة التي تعب المسلمون في تحصيلها، فإنها تقسم خمسة أقسام أربعة منها للمسلمين، و واحدة منها للرسول و أقربائه، و إنما خصص القسم الأول بالرسول و آله، لأنهم لما منعوا من الزكاة احتاجوا إلى سد نفقاتهم و ذلك إنما هو بالفي ء و الخمس، و لأنه لا بد و أن يكون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حصة زائدة ليتمكن من إدارة شؤون المسلمين المرتبطة بأمور الدولة- كما تخصص لرؤساء الحكومات- اليوم- حصة معينة من الخزينة لسد نفقاتهم المرتبطة بالشؤون العامة- وَ ما أَفاءَ اللَّهُ الفي ء هو الغنيمة، و أصله بمعنى الرجوع، و إنما سميت الغنيمة فيئا، لبيان أنها كانت بيد الكفار غصبا، فرجعت إلى أصحابها الشرعيين و هم المؤمنون الذين خلق اللّه لهم كل شي ء عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ أيها المسلمون، و «ما» نافية، و الإيجاف تسيير الخيل و الركاب من وجف يجف، بمعنى تحرك باضطراب، إذ الفتح بالقهر يلازم الاضطراب في الحركة عَلَيْهِ أي على ذلك الفي ء مِنْ خَيْلٍ هي الفرس وَ لا رِكابٍ هي الإبل، أي أنكم لم تحصلوا على

تلك الغنيمة بسبب الفتح بخيل أو إبل حتى يكون لكم ذلك الفي ء.

وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من الكفار بإيقاع الرعب في قلوبهم حتى يفتح الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مدنهم بلا حرب و لا تعب وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيتمكن من تسليط الرسل على الكفار بلا حرب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 373

[سورة الحشر (59): آية 7]

ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)

[8] و إذا تمهدت هذه المقدمة- و هي أن المسلمين إن لم يتعبوا على هذا الفي ء- جاء السياق ليذكر حكمه، و انه ليس لهم، و إنما هو للرسول و آله ما أَفاءَ اللَّهُ أي ما أرجع اللّه سبحانه عَلى رَسُولِهِ مِنْ أموال أَهْلِ الْقُرى الكافرة التي حصل الرسول عليها بدون حرب فَلِلَّهِ تعالى- تشريفا للرسول- و إلا فكل شي ء له سبحانه وَ لِلرَّسُولِ بتمليك اللّه إياه وَ لِذِي الْقُرْبى أي أهل بيت رسول اللّه و قرابته، و المراد بهم الأئمة الطاهرون عليهم السّلام.

وَ الْيَتامى جمع يتيم و هو من مات أبوه وَ الْمَساكِينِ جمع مسكين و هو الفقير الذي أسكنه الفقر من الحركة وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هو المنقطع في سفره الذي لا يعرف من أمره شي ء، و لذا ينسب إلى الطريق. و قد ثبت أن المراد بهؤلاء السادة من آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم بين سبحانه الحكمة في جعل الفي ء

هكذا بقوله: كَيْ لا يَكُونَ الفي ء دُولَةً و هي اسم للشي ء الذي يتداوله القوم فيما بينهم يكون لهذا مرة و لهذا مرة بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ حتى لا يعمل في الفي ء ما كان يعمل في الجاهلية، فقد كان إذا وقع غزو أخذ الرؤساء الأموال، و من المعلوم أن الرؤساء يتداولون المال بينهم بالضيافة و الزواج لأبناء بعضهم من بنات بعض، و استقبال بعضهم لبعض و هكذا مما يوجب نقل المال من هذا الرئيس إلى ذاك الرئيس فيبقى الفقراء محرومون، و هذه العلّة أي قوله «لكي» مع العلة السابقة و هي «فما أوجفتم» يتمّان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 374

[سورة الحشر (59): آية 8]

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)

المطلوب، إذ لا يخلو أمر الفي ء بين أن يكون للرؤساء، كالجاهلية، أو للمسلمين كالغنائم، أو للرسول و آله، و إذ قد نفي الأول لأنه يوجب احتكار المال بين الأغنياء، و الثاني لأن المسلمين لم يتعبوا في تحصيله حتى يستحقوا شيئا، لم يبق إلّا الثالث.

ثم لما كان هذا الحكم شاقّا عليهم نزل قوله: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي أعطاكم من الأحكام فَخُذُوهُ أي تمسكوا به و اعملوا بفحواه وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ و بين لكم حرمته فَانْتَهُوا عنه و لا ترتكبوه وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه فلا تخالفوه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن ترك أوامره و خالفه.

قال في المجمع- ناقلا- إن الآية نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له: يا رسول اللّه خذ صفيك و الربع و دعنا و الباقي فهكذا كنا نفعل في الجاهلية و أنشدوه لك المرباع منها و الصفايا

و حكمك و النشيطة و الفضول فنزلت الآية فقالت الصحابة سمعا و طاعة لأمر اللّه و أمر رسوله

«1».

[9] ثم بين سبحانه وصف الطوائف الأربع من آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذين خصص بهم الفي ء- الذي لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب- و ليس ما يأتي من الوصف إلا كحكمة للتشريع حال نزول الآيات لا إنها أوصاف مشروطة دائما.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 432.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 375

[سورة الحشر (59): آية 9]

وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)

لِلْفُقَراءِ بدل لقوله «لِذِي الْقُرْبى ...» أو «وَ الْيَتامى ..» و هذا هو الأوفق بما ثبت من أن الإمام الذي يأخذ الفي ء لا يشترط فيه الفقر- إلا أن يكون حكمه حال النزول، كما ذكرنا- فلا تخصيص الْمُهاجِرِينَ الذين هاجروا من مكة إلى المدينة الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أخرجهم الكفار ظلما و عدوانا وَ أَمْوالِهِمْ إذ خلفوا أموالهم وراء ظهرهم يَبْتَغُونَ أي يطلبون هؤلاء المهاجرون فَضْلًا مِنَ اللَّهِ بأن يتفضل سبحانه عليهم عوض ما خلفوه وراءهم من الديار و الأموال وَ رِضْواناً بأن يرضى عنهم وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ أي ينصرون دينه سبحانه وَ رَسُولَهُ بالجهاد بين يديه لإعلاء كلمة الإسلام أُولئِكَ المتصفون بتلك الصفات هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في إيمانهم حيث أتوا بمقتضيات الإيمان.

[10] و إذ جرى مدح المهاجرين، جاء السياق ليمدح الأنصار، بقوله وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ يعني المدينة، و هي دار الهجرة، و معنى «تبوؤا» اتخذوها منزلا، و

مبوءا، من «باء» بمعنى رجع و يسمى المنزل مبوءا لأن الإنسان كلما خرج رجع إليه وَ الْإِيمانَ أي تبوؤا الإيمان، فهو كالمنزل الذي يتخذه الإنسان محل استراحة و رجوع، فكلما نزل به أمر رجع إلى الإيمان يستلهمه العلاج و الخلاص، أو أن التقدير «آثروا الإيمان» مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل هجرة المهاجرين إلى المدينة، فإن أهل المدينة آمنوا قبل هجرة المهاجرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 376

[سورة الحشر (59): آية 10]

وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من مكة و سائر القرى الكافرة- و هذا هو خبر «الذين»- و المعنى كما أن للمهاجرين المدح بما تقدم، للأنصار المدح بأنهم يحبون المهاجرين وَ لا يَجِدُونَ أي هؤلاء الأنصار فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا أي لا يحسدون المهاجرين من جهة ما آتاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غنائم بني النضير، وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي يقدمون المهاجرين في الإسكان و الإحسان، على أنفسهم وَ لَوْ كانَ بِهِمْ أي بهؤلاء الأنصار خَصاصَةٌ أي احتياج و فقر، فإنهم يرجحون المهاجرين على حاجة أنفسهم، و مثل هذا الإنسان أعظم ثوابا ممن ينفق و هو غني.

وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي من يحفظ بلطف اللّه سبحانه، من بخل النفس، بأن لا تغلبه نفسه فتبخل فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالدرجات الرفيعة.

[11] و إذ فرغ السياق عن المهاجرين و الأنصار، جاء ليمدح التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة بقوله وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ بأن أسلموا من بعد المهاجرين و الأنصار، قولهم هذا- مما

يدل على رسوخ الإيمان فيهم- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذنوبنا وَ اغفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 377

[سورة الحشر (59): آية 11]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)

لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ من المهاجرين و الأنصار و غيرهم وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا و غشّا و عداوة لِلَّذِينَ آمَنُوا من مضى منهم أو من عاصرناهم و إنما قال «لا تجعل» لبيان أن اللطف منه سبحانه، حتى إذا لم يلطف بإنسان كان معرضا للغل، و المعنى لا تتركنا على أحوالنا، حتى يستولي علينا الشيطان و النفس، فتكون أنفسنا معرضا للغل رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ بعبادك رَحِيمٌ بهم، و هذا تعليم للمؤمنين كيف ينبغي أن يكونوا اتجاه من سبقهم، و تجاه سائر المؤمنين المعاصرين لهم.

[12] و إذا سبق مدح المؤمنين و بيان صفاتهم، جاء السياق ليظهر طرفا من أحوال المنافقين بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي، و الاستفهام للتعجب و الاستنكار إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا بأن أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ في الكفر الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي كفروا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد بهم يهود بني النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي أخرجكم الرسول من دياركم و بلادكم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ موافقة لكم، فلا نبقى في بلادنا، وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أي في أمر قتالكم أَحَداً يعنون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَبَداً فإذا أمرنا بقتالكم لا نقاتلكم وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ بأن قاتلكم الرسول و المسلمون لَنَنْصُرَنَّكُمْ

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 5، ص: 378

[سورة الحشر (59): الآيات 12 الى 13]

لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13)

أي نكون في جهتكم ضد الرسول و المسلمين وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ أي هؤلاء المنافقين لَكاذِبُونَ في أقوالهم، فلا يخرجون مع بني النضير و لا يقاتلون معهم فقد قالوا: إن عبد اللّه بن أبي كان يحرض اليهود على الاستمائة و قتال الرسول و يمنيهم بهذه المواعيد الكاذبة، و كان كما قال اللّه سبحانه كذب حين أتى وقت العمل.

[13] لَئِنْ أُخْرِجُوا أي أخرج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني النضير لا يَخْرُجُونَ أي هؤلاء المنافقون مَعَهُمْ تشاركا معهم في الفرار و التخلص وَ لَئِنْ قُوتِلُوا أي قاتلهم المسلمون لا يَنْصُرُونَهُمْ كما زعموا وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ على فرض مستحيل لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أي ينهزمون عن مقابلة الرسول و المسلمين و يسلمون بني النضير طعمة سائغة لحراب المسلمين ثُمَ اليهود لا يُنْصَرُونَ على فرض أنهم بقوا معهم و لم يولوا الأدبار، لأن المنافقين أذل من أن يتمكنوا من المقاومة أمام الرسول و كتائب المسلمين المجاهدة.

[14] ثم يأتي السياق ليبين أن المنافقين خائفون من المسلمين أشد الخوف فكيف يتمكنون من نصرة اليهود في قبال المسلمين؟ لَأَنْتُمْ أيها المسلمون أَشَدُّ رَهْبَةً أي خوفا فِي صُدُورِهِمْ أي صدور هؤلاء المنافقين، أو اليهود، و إنما قال «في صدورهم» لأن الصدر مكان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 379

[سورة الحشر (59): آية 14]

لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ

شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)

القلب و القلب مبعث النفس التي تحمل الخوف و الاطمئنان مِنَ اللَّهِ فهم لا يخافون من اللّه قدر ما يخافون منكم، لأنهم يرونكم و لا يرون اللّه سبحانه، و لم يتمكن الإيمان في قلوبهم حتى يخافونه، ذلِكَ أي شدّة خوفهم منكم بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يعقلون و لا يعرفون عظمته سبحانه، و من لم يعرف الملك لم يهبه.

[15] ثم بين سبحانه أن قتال اليهود للمسلمين ليس مثل سائر الحروب، فإنهم لشدة خوفهم من المسلمين و اختلاف الكلمة فيما بينهم لا جرأة لهم على المقاتلة السافرة، و ذلك مما يشجع المسلمين على القتال لا يُقاتِلُونَكُمْ أيها المسلمون، هؤلاء اليهود جَمِيعاً أي في حال اجتماعهم- و ذلك لبيان شدة ضعفهم حتى أن جميعهم لا يتمكنون من القتال إلا بالكيفية الآتية- أو المراد بضمير الفاعل: اليهود و المنافقون، و جميعا لتأكيد ذلك إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أي لا يبرزون لحربكم إلا و هم متحصنون بالقرى ذوات الحصون و الامتناع أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ جمع جدار، يرمونكم بالنبل و الحجارة و ما أشبه.

بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني أن عداوة بعضهم لبعض شديدة، فلا ائتلاف بينهم و لا اتحاد، حتى تتفق قلوبهم و يشجعوا في مقاتلتكم تَحْسَبُهُمْ أي تظنهم يا رسول اللّه، أو أيها الرائي جَمِيعاً أي متفقين متراصين وَ الحال ليسوا كذلك بل قُلُوبُهُمْ شَتَّى جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 380

[سورة الحشر (59): آية 15]

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)

شتيت كمرضى و مريض، و الشتيت هو المتفرق، أي أن قلوبهم متفرقة ذلِكَ الذي ذكر في وصفهم بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما

فيه الرشد مما فيه الغي، و من لا يعقل يكون بما ذكر له من الصفة، و هذه الصفات في اليهود إنما تولدت من منهجين ينهجون عليهما الأول:- زعمهم بأنهم شعب اللّه المختار. و الثاني: تكالبهم على المادة، فإن الاتفاق و سائر الفضائل إنما تتولد من التواضع و تحكيم الروحيات في الأمور، فإذا زعم كل إنسان أنه فاضل لم يرضخ لغيره مما يسبب التشتيت، و إذا اتجه الإنسان نحو المادة لم تهذب نفسه حتى ينبع منها الخير و الفضيلة، و لذا نرى عبر التاريخ، اليهود بين معتد، و بين مطارد، إن صار لهم شي ء اعتدوا ثم جاء من يطاردهم، و هكذا دواليك، و قد رأينا في عصرنا قصة اعتدائهم في «ألمانيا» و مطاردة «هتلر» لهم ... ثم اعتدائهم في المسلمين، و أخذت السحب تتجمع هنا و هناك لمطاردتهم.

[16] و مثل بني النضير كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً و هم بنو قينقاع الذين نقضوا عهد الرسول فأمرهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالخروج ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي عاقبة عملهم السيئة، و لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع في الآخرة، و قد كان عبد اللّه بن أبيّ المنافق وعدهم النصر، فلم ينصرهم، كما غر بني النضير و خذلهم حين التحموا بجيش المسلمين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 381

[سورة الحشر (59): الآيات 16 الى 18]

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

[17] فكان مثله

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ في تغريره ثم خذلانه و تسليمه إلى عذاب اللّه إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ بأن وسوس إليه و زين الكفر في نظره حتى أطاعه فكفر فَلَمَّا كَفَرَ و خالف اللّه سبحانه بما استحق به عذابه قالَ الشيطان إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ أيها الكافر لا أنصرك و لا أخلصك من عذاب اللّه إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ و هل الخائف يتمكن من نصرة غيره؟ و كذلك ابن أبيّ غرّ بني النضير و بني قينقاع حتى حاربا الرسول، فلم ينصرهما بل خذلهما.

[18] فَكانَ عاقِبَتَهُما أي عاقبة الشيطان و الإنسان الذي غرّه فكفر، أَنَّهُما فِي النَّارِ حال كونهما خالِدَيْنِ فِيها أي استحقا النار و لقيا العذاب، ذاك بإغرائه، و هذا بكفره وَ ذلِكَ العقاب جَزاءُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر اغترارا بكلام الشيطان.

[19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه، فلا تتركوا أوامره، و تخصيص الخطاب بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به و إلا فالتقوى تجب على كل أحد وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ أي لينظر كل إنسان و يفكر في ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي ليوم القيامة، هل أنه قدم الصالح أو الفاسد، الثواب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 382

[سورة الحشر (59): الآيات 19 الى 21]

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)

أو العقاب بمعنى لزوم تقديم الشي ء الحسن و إن كل عمل يعمله الإنسان فإنما يراه غدا وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تخالفوا أوامره و زواجره إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ مطلع على

أعمالكم فيجازيكم غدا عليها.

[20] وَ لا تَكُونُوا يا أيها المؤمنون كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ بأن آمنوا ثم نسوا اللّه فخالفوه، كأهل الكتاب، و ليس المراد نسيانهم له حقيقة، بل أعم من ذلك و ممن ترك الأوامر، فإن العالم التارك كالناسي في عدم الامتثال فَأَنْساهُمْ اللّه أَنْفُسَهُمْ أي جعلهم اللّه ناسين حتى أنهم لم يعملوا لنجاتها و خلاصها كالإنسان الذي ينسى نفسه فلا يهتم بشأنها أُولئِكَ الذين تلك صفتهم هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه تعالى.

[21] و هل يتساوى هؤلاء الذين يدخلون النار جزاء لكفرهم و عصيانهم مع الذين يدخلون الجنة جزاء لإيمانهم و عملهم الصالح؟ كلا لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ الدائمون فيها أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ الذين فازوا بالثواب و النجاة.

[22] و كيف لا يخشع الكفار للقرآن حتى يؤمنوا بما جاء به، و الحال أن القرآن لو نزل على جبل لخشع؟ فما يخشع له الجبل الجامد، كيف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 383

[سورة الحشر (59): آية 22]

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)

لا يخشع له القلب القاسي فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «1» لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ بأن كان الجبل هو المخاطب بالقرآن الموظف للعمل به لَرَأَيْتَهُ أي رأيت يا رسول اللّه، أو أيها الرائي، ذلك الجبل خاشِعاً خاضعا خائفا مُتَصَدِّعاً أي منشقا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ و خوفه، و هذا إما على نحو الحقيقة باعتبار أن للجماد إدراكا و ان كنا لا نعرف كيفية إدراكه، كما قال سبحانه يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «2» و قال قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «3» و قال وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «4» و

قال وَ أَشْفَقْنَ مِنْها «5» و إما على المجاز كناية عن قوة ما في القرآن من النفوذ و المضي حتى إن الجبل- مع عظمته- لو عقل لخشع و تصدع، فكيف لا يخشع الإنسان؟ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي هذا المثل و ما أشبهه نبينها للناس، و هذا مثل لشدة نفوذ القرآن و مضيه، لتقريب عظمة القرآن إلى الأذهان لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي لكي يتفكروا فيما ضرب له المثل، فإن المثل يقرب الذهن إلى الممثّل له، فيكون مجال التفكير فيه أوسع.

[23] ثم أتى السياق لبيان جملة من صفات اللّه سبحانه، لبيان خضوع الوجود كله له تعالى كما أن الجبل يخضع لكلامه هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ

______________________________

(1) البقرة: 75.

(2) سبأ: 11.

(3) فصلت: 12.

(4) الإسراء: 45.

(5) الأحزاب: 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 384

[سورة الحشر (59): آية 23]

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)

أي لا متصرف في الكون و لا معبود بالحق إلا هو وحده بلا شريك عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فيعلم كل شي ء سواء كان غائبا عن الحواس كالملك و الجن و ما أشبههما، أو تشهده الحاسة و تدركه كالمرئيات و المسموعات و ما إليهما. أو

عن الباقر عليه السّلام انه قال الغيب ما لم يكن و الشهادة ما كان

هُوَ الرَّحْمنُ المتفضل على جميع خلقه الرَّحِيمُ المتفضل على المؤمنين، فاطلاعه اطلاع رحمن رحيم لا اطلاع قسي غليظ شديد.

[24] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و التكرار يفيد التركيز في مقابل عبّاد الأوثان و الطبيعيين و من إليهم الْمَلِكُ السيد المطاع المالك للكون الْقُدُّوسُ المنزه من كل نقص و عيب و آفة

و قبيح، من القدس و هو الطهارة و النزاهة السَّلامُ الذي سلّم الكون منه تعالى، فليس كالملوك المفسدين للعباد و البلاد، أو المعنى انه السالم من الآفات، حتى كأنه قطعة من السلام من باب «زيد عدل».

الْمُؤْمِنُ الذي سلّم خلقه من ظلمه، أو واهب الإيمان، أو بمعنى أن له تعلقا بالخلق كما أن للمؤمن تعلقا بالخالق، فإن أصل الإيمان التعلّق بشي ء الْمُهَيْمِنُ المسيطر على الكون، من الهيمنة بمعنى السيطرة الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه أو هو ما قل وجوده و كثر نفعه، و اللّه أظهر المصاديق لذلك، لتفرده و احتياج الكون إليه الْجَبَّارُ الذي يجبر الكسر، أو الذي يقهر غيره، فإن الكون كله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 385

[سورة الحشر (59): آية 24]

هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

مقهور له مسيّر بإرادته الْمُتَكَبِّرُ الذي تكبر و تعالى عن كل ما يوجب نقصا و حاجة سُبْحانَ اللَّهِ أنزهه تنزيها عَمَّا يُشْرِكُونَ عما يشرك به المشركون من الأصنام و الأوثان.

[25] هُوَ اللَّهُ المستجمع لجميع صفات الكمال- لأن اللّه علم لذاك الذات المستجمع- الْخالِقُ الذي قدّر كل شي ء الْبارِئُ الذي نفذ التقدير بالإيجاد الْمُصَوِّرُ الذي صور كل موجود بصورة خاصة، فإن الشي ء يحتاج إلى التقدير و التصميم قبل الإيجاد- و هو الخلق- ثم إلى إخراج ذلك المقدر إلى الوجود- و هو البرء- ثم إلى تصوير ذلك الموجود بصورة خاصة- و هو التصوير- لَهُ تعالى الْأَسْماءُ الْحُسْنى فهو العالم، لا الجاهل القادر لا العاجز الكريم لا البخيل، و هكذا فله كل اسم حسن يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ينزهه كل شي ء عن النقائص و القبائح،

تنزيها تكوينيا، أو حسب إدراكها- كما تقدم- وَ هُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ في أفعاله فلا يفعل شيئا عبثا، بل حسب الحكمة و الصلاح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 386

60 سورة الممتحنة مدنية/ آياتها (14)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على فعل من هذه المادة و هو قوله «فامتحنوهن». و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام بالإضافة إلى قضايا العقيدة و الإيمان. و إذ ختمت سورة الحشر بصفاته سبحانه الموجبة لأن لا يتخذ الإنسان غيره تعالى ملكا و إلها و سيدا، ابتدأت هذه السورة بتحريم اتخاذ أعداء اللّه، أولياء. و

قد نزلت هذه الآيات في «حاطب ابن أبي بلتعة» و كان سبب ذلك أن «حاطبا» كان قد أسلم و هاجر إلى المدينة و كان عياله بمكة؛ فكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فصاروا إلى عيال حاطب و سألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه خبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هل يريد أن يغزو مكة؟ فكتبوا إلى حاطب يسألوه عن ذلك؟ فكتب إليهم حاطب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريد ذلك- و ذلك حين عزم الرسول على فتح مكة- و دفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية، فوضعته في قرونها، و ذهبت نحو مكة، فنزل جبرائيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبره بذلك، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السّلام و الزبير بن العوام في طلبها، فلحقاها، فقال لها أمير المؤمنين عليه السّلام: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي شي ء، ففتشوها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 387

فلم يجدوا معها شيئا، فقال

الزبير: ما نرى معها شيئا، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و اللّه ما كذبنا على رسول اللّه، و لا كذب رسول اللّه على جبرائيل، و لا كذب جبرائيل على اللّه جل ثناؤه.

و اللّه إن لم تظهري الكتاب، لأذهبن برأسك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: تنح يا علي عني حتى أخرجه- حيث علمت أن الإمام يفعل ذلك لو لم تعطه الكتاب- فأخرجت الكتاب من قرونها فأخذه أمير المؤمنين عليه السّلام و جاء به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال رسول اللّه: يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب: و اللّه يا رسول اللّه ما نافقت و لا غيرت و لا بدلت و إني أشهد أن لا إله إلا اللّه و أنك رسول اللّه حقا، و لكن أهلي و عيالي كتبوا إلي بحسن صنع قريش إليهم فأحببت أن أجازي قريشا بحسن معاشرتهم، فقام عمر و أراد أن يضرب عنق حاطب مستأذنا رسول اللّه في ذلك، لكن حاطبا توجه إلى الرسول يستصرخه، فعفا عنه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمر عمر بالكف عنه فنزلت الآيات

«1»، تحذيرا للمسلمين أن يكرر منهم مثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم الإله الذي له ما في الكون المستحق لجميع المحامد- فإن اللّه علم على هذا الذات- و هل هناك أحق بتقديم اسمه من اسم اللّه تعالى؟ و ذكر الاسم دون أن يقال «باللّه» للاحترام حتى أن اللازم أن يشرع بذكر الاسم، لا بذكر نفس الذات، الرحمن الرحيم الذي رحمته وسعت كل شي ء، و له رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قالوا في لفظ «الرحيم» أنه خاص بعباده المؤمنين.

______________________________

(1)

بحار الأنوار: ج 21 ص 112.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 388

[سورة الممتحنة (60): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)

[2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي الذي يعاديني بالكفر و العصيان وَ عَدُوَّكُمْ الذي يعاديكم بالاستهزاء و المحاربة و سائر أنواع العداوة أَوْلِياءَ توالونهم و تنصرونهم، جمع «ولي» في حال كونكم تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي تبذلون لهم ودكم و حبكم، عمل المحب لمحبه، كما فعل «حاطب» بأهل مكة الذين هم أعداء اللّه و أعداء المسلمين وَ قَدْ كَفَرُوا أولئك الأعداء بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ الإسلام و القرآن و الرسول، و هم يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ عن بلادهم- كما فعل كفار مكة- و الإخراج إنما كان ل أَنْ تُؤْمِنُوا أي لإيمانكم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ و هل يوالي الإنسان مثل هذا العدو؟

إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ أيها المؤمنون من بلادكم جِهاداً فِي سَبِيلِي أي لأجل الجهاد في سبيل اللّه وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي طلبا لرضاي و المعنى أن غرضكم من الخروج و الهجرة الجهاد و طلب رضا اللّه، فلا توادوا عدو اللّه و عدوكم- أهل مكة- تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي تعلمونهم في السر بينكم و بينهم مودة و حب وَ هل يخفى عملكم هذا على اللّه؟ كلا ف أَنَا أَعْلَمُ من كل أحد بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ أي بخفايا أموركم و ظواهرها

فلا يغيب عليّ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 389

[سورة الممتحنة (60): الآيات 2 الى 3]

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

شي ء، و سأجازيكم عليها وَ مَنْ يَفْعَلْهُ أي يفعل الإسرار بالمودة مِنْكُمْ أيها المؤمنون فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي عدل عن طريق الحق إلى المهلكة، و سواء الطريق: وسطه.

[3] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي إن يصادف كفار مكة لكم أيها المؤمنون في الحرب يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً يبادرونكم بالمحاربة، فعل العدو بعدوه، و هذا لنفي ما زعمه حاطب من أنهم أحباؤه، فتأتي الآية لتبين إن إظهار حبهم له و لعائلته إظهار مكذوب لا حقيقة له وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أيها المؤمنون أَيْدِيَهُمْ بالضرب و القتل وَ أَلْسِنَتَهُمْ بالسب و القذف بِالسُّوءِ أي بما يسيئوكم، فلا يتركون وسيلة من وسائل الإساءة إلا عملوها بالنسبة إليكم وَ وَدُّوا أي أحب هؤلاء الكفار لَوْ تَكْفُرُونَ أنتم باللّه كما كفروا هم، فلا يسبب إهلاككم مودّة أمثال هؤلاء الكفار فإنه:

[4] لَنْ تَنْفَعَكُمْ أيها المؤمنون أَرْحامُكُمْ أي قراباتكم وَ لا أَوْلادُكُمْ و المعنى لا يحملنكم التحفظ على القرابة و الأولاد على مخالفة اللّه و الرسول و موادة الكفار، كما فعل حاطب حيث أراد التحفظ على أهله بمكة فخالف الرسول بأن كتب إلى الكفار، يعلمهم بقصد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتح مكة يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ اللّه بَيْنَكُمْ فيدخل أهل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 390

[سورة الممتحنة (60): آية 4]

قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ

وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)

الإيمان الجنة و يدخل أهل الكفر و العصيان النار، فلا تفعلوا ما تستحقون به النيران وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يبصركم و يرى أعمالكم، فلا تفعلوا ما تستحقون به سخطه و عقابه.

[5] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أيها المؤمنون أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي اقتداء حسن، الأسوة هي القدوة و هو اسم لما يؤتسى و يقتدى به فِي إِبْراهِيمَ الخليل عليه السّلام وَ الَّذِينَ آمنوا مَعَهُ أي فاقتدوا بهم أيها المؤمنون في مقاطعة الكفار إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ الكافرين إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جمع بري ء، فلا نواليكم وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي و من أصنامكم التي تعبدونها، و المعنى لا علاقة لنا بها، بل نظهر انها باطلة ليست بآلهة، فعل العدو بعدوه، و إن لم تكن معاداة حقيقية بين الإنسان و بين الجماد كَفَرْنا بِكُمْ أي قالوا لقومهم جحدنا طريقتكم، أو خطاب للأصنام، و الإتيان بلفظ العاقل لتوحيد سياق كلام المؤمنين مع كلام الكافرين فإنهم كانوا يزعمون العقل و الإدراك للأصنام وَ بَدا أي ظهر بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ أيها القوم الكافرين الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ و هو أشد العداوة الموجبة لكون العداء في الباطن، من «بغض» أَبَداً أي إلى الأبد ما دمتم أنتم على الكفر حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ و تخلعوا عبادة الأصنام إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ أي اقتدوا بإبراهيم، إلا في هذا القول-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 391

[سورة الممتحنة (60): آية 5]

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً

لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)

الذي قال لأبيه و ذلك كان قبل نهي اللّه سبحانه- لِأَبِيهِ أي عمه آزر لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أي أطلب غفران اللّه لك، و كان ذلك لموعدة وعده إياه، فلما تبيّن له أنه عدوّ للّه تبرأ منه، فلا ينبغي للمسلم أن يقتدي بذلك، بأن يستغفر للكافر و يحتمل أن الاستثناء من قوله «إنا برآء منكم» أي قالوا للكفار إنّا أعداء لكم، إلا إبراهيم وعد عمه بالاستغفار قبل أن يتبين أنه عدو للّه، ثم قال إبراهيم لعمه وَ ما أَمْلِكُ لَكَ يا عم مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فإذا أراد بك شيئا لم أملك أن أرد العقاب عنك، ثم قال إبراهيم و المؤمنون به رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا فقد وكلنا أمورنا إليك وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا الإنابة هي الرجوع أي رجعنا إليك في أمورنا، فإن الإنسان باعتبار أنه مخلوق للّه تعالى كأنه جاء من عنده، فهو إذا أطاع كان بمنزلة الراجع إليه سبحانه، تشبيها للمعقول بالمحسوس وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي ان منتهى أمورنا إليك، و نعود في يوم القيامة إلى حسابك و جزائك.

[6] رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تجعلنا امتحانا لهم فإن الكافر يمتحن بالكفر و بإيذاء المؤمنين و بالعصيان، و إذا وقع المؤمن مورد امتحان الكافر، أو ذي و قد لا يطيق ذلك، أو المراد لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نتحمله وَ اغْفِرْ لَنا أي استر علينا و امح سيئاتنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلب القاهر في سلطانه الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شي ء حسب الصلاح و الحكمة، و لعل حكاية هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 392

[سورة الممتحنة (60): الآيات 6 الى 7]

لَقَدْ

كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)

الجمل لتعليم المسلمين كيف يدعون اللّه سبحانه.

[7] لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المؤمنون في عصر الرسالة فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «في» بمعنى النسبة، أي بالنسبة إلى إبراهيم و من آمن معه اقتداء حسن، فهم خير مقتدى لكم في أعمالكم، و مقاطعتهم للكفار و إنما كرر ذلك لما رتب عليه بقوله لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ أي أن هذه الأسوة و الاقتداء إنما هي للذي يرجو ثواب اللّه سبحانه «ليعتقد بالجزاء و الحساب في الآخرة» أما المنكر لذلك فلا معنى لاقتدائه بمن اعتقد باللّه و هذا للإشارة إلى التلازم بين الإيمان و بين الاقتداء وَ مَنْ يَتَوَلَ أي يعرض عن هذا الاقتداء، فلم يقتد بإبراهيم، بل اتخذ من الكفار أولياء فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ الذي لا يحتاج إلى أحد و إلى عمل الْحَمِيدُ المحمود بذاته فلا يحتاج إلى طاعة المطيع و حمد الحامد، و المعنى: أن الذي يعرض يضر نفسه، و لا يضر اللّه سبحانه لغناه المطلق.

[8] و إذا تريدون أيها المؤمنون موادة أهل مكة لما بينكم من الصلات النسبية و السوابق فلعله سبحانه يهيئ و سائل هدايتهم حتى لا يكون محظور في موادتهم عَسَى اللَّهُ أي لعله سبحانه أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ أيها المؤمنون وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ أي اتخذتموهم أعداء مِنْهُمْ أي من أهل مكة مَوَدَّةً بسبب الإسلام وَ اللَّهُ قَدِيرٌ على ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 393

[سورة الممتحنة (60): الآيات 8 الى 9]

لا

يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

وَ اللَّهُ غَفُورٌ لما سلف منكم من موادتهم في حال كفرهم رَحِيمٌ يتفضل عليكم بالرحمة بالإضافة إلى الغفران و العفو.

[9] و إذا كان المفهوم من الآيات السابقة ما يشمل تحريم موادة كل كافر استثنى السياق من ذلك بقوله لا يَنْهاكُمُ أيها المؤمنون اللَّهُ عَنِ موادة الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي أمر الدِّينِ أي من جهة أنكم متدينون بالإسلام وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ بأن كان كافرا مسالما أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل اشتمال عن قوله «عن الذين» أي لا ينهاكم اللّه عن بر هؤلاء وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تعدلوا فيما بينكم و بينهم، بأن تبادلوا الحب و الوداد قيل ان المسلمين استأمروا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن يبروا أقرباءهم من المشركين «1» و قيل ان قتيلة بنت عبد العزيز قدمت مشركة على بنتها أسماء بهدايا فلم تقبلها و لم تأذن لها بالدخول، فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي الذين يعدلون في أمورهم.

[10] إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ أيها المؤمنون عَنِ موادة الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ فقاتلوكم من جهة أنكم متدينون وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ منازلكم، في مكة و غيرها وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي تعاون

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 450.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 394

[سورة الممتحنة (60): آية 10]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ

فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)

بعضهم مع بعض في تشريدكم من بلادكم أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أي ينهاكم اللّه عن توليهم و اتخاذهم أولياء و هذا بدل اشتمال عن قوله: «الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ» وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي يتخذهم أولياء و أحباء فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان للّه و الرسول.

[11] و بمناسبة الحديث عن موادة الكفار يأتي السياق ليذكر بعض أحكام النساء مما له رابطة بالكلام يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ من دار الكفر إلى دار الإسلام فَامْتَحِنُوهُنَ أي اختبروهن حتى تعرفوا صدق إيمانهن و هجرتهن. في الصافي عن القمي قال: إذا لحقت امرأة من المشركين بالمسلمين تمتحن بأن تحلف باللّه أنه لم يحملها على اللحوق بالمسلمين بغض لزوجها الكافر و لا حب لأحد من المسلمين و إنما حملها على ذلك الإسلام، فإذا حلفت على ذلك قبل إسلامها «1».

و اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ منكم فليس عليكم إلا الإيمان و العمل حسب ذلك فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ أي صادقات في إيمانهن من الحلف و سائر العلامات و الإمارات فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي إلى بلاد الكفار لا هُنَ أي المؤمنات

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 362.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 395

حِلٌ أي حلال لَهُمْ فإن الكافر لا يحق له مس المسلمة وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ فإنهم يصبحون كالأجانب بالنسبة إلى المؤمنات وَ آتُوهُمْ أي أعطوا الكفار- الأزواج- أيها المؤمنون، حين حبستم

نساءهم عن الرجوع إليهم ما أَنْفَقُوا على المرأة من المهر فإن الزوجة تردّ على زوجها صداقها الذي أعطاها ثم يتزوجها المسلم وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا حرج عليكم أيها المؤمنون أَنْ تَنْكِحُوهُنَ فإن إسلامهن أبطل عقدهن السابق بالكفار- على تفصيل مذكور في الفقه-.

إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي أعطيتم النساء مهورهن، بمعنى أن الحلّية متوقفة على العقد و المهر وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي لا تعقدوا أيها المسلمون على الكافرة، فإن الإمساك هو الأخذ، و عصم جمع عصمة و سمي العقد عصمة لأنه به يعصم كل من الزوجين عن الفجور، و الكوافر جمع كافرة، و كما لا يجوز الابتداء على عقد الكافرة كذلك لا يجوز البقاء على العقد فيما لو أسلم الرجل، و بقيت المرأة كافرة- على تفصيل مذكور في الفقه «1»- و جاءت هذه الجملة بمناسبة نكاح المسلمة بالكافر، يعني كما لا يجوز نكاح المسلمة للكافر كذلك لا يجوز نكاح المسلم للكافرة

______________________________

(1) موسوعة الفقه: ج 65، كتاب النكاح جزء 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 396

[سورة الممتحنة (60): آية 11]

وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

وَ إذا لحقت منكم- أيها المسلمون- امرأة بدار الكفر، بأن كفرت و ارتدت و ذهبت إلى الكفار سْئَلُوا و اطلبوا من الكفار ما أَنْفَقْتُمْ عليها من المهر وَ لْيَسْئَلُوا أي الكفار ما أَنْفَقُوا من المهر على امرأة كافرة أسلمت و التحقت بكم- لقاعدة التقابل بين الفئتين- فهم يطالبون مهر نسائهم إذا أسلمن و التحقن بكم و أنتم تطالبون مهر نسائكم إذا كفرن و التحقن بهم.

ذلِكُمْ «ذا» إشارة إلى ما تقدم من الأحكام

و «كم» خطاب للمؤمنين حُكْمُ اللَّهِ الذي قرره يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أيها المسلمون و الكافرون وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالأحكام و ما يصلح للبشر حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهي فليست هذه الأحكام إلا حسب الصلاح و الحكمة، قالوا و قد كان من بنود صلح الحديبية أن الرجال يردون كل إلى المحل الذي فر منه، فإذا جاء رجل من الكفار إلى المسلمين ردوه، و كذا بالعكس و لم يكن ذكر للنساء في بنود الصلح و إذ تم الصلح و كتبوا الكتاب جاءت «سبيعة بنت الحرث» مسلمة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فجاء زوجها في طلبها و كان كافرا فقال يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اردد علي امرأتي فنزلت هذه الآية «1».

[12] وَ إِنْ فاتَكُمْ أيها المؤمنون شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي أحد من نسائكم إِلَى الْكُفَّارِ بأن لحقن بهم مرتدات فَعاقَبْتُمْ أي غزوتم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 337.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 397

و أصبتم من الكفار عقبى- و هي الغنيمة- و امتنع الكافر أن يعطيكم مهر زوجتكم التي لحقت بهم فَآتُوا أي أعطوا أيها المؤمنون الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ أي المؤمنين ارتدت زوجاتهم و فرت إلى الكفار مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من المهور عليهن. و الحاصل أن الزوجة إذا فرت و لم يقبل الكفار أن يدفعوا مهرها إلى زوجها المسلم أعطى الإمام مهرها لزوجها من الغنيمة التي حصلت من المعاقبة وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه فلا تخالفوا أمره بأن تمنعوا الزوج المسلم عن المهر إذا فرت زوجته و لم يبذل الكفار مهرها الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن من مقتضيات الإيمان التقوى.

روي في الجوامع أنه لما نزلت الآية المتقدمة أدى

المؤمنون ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم و أبى المشركون أن يردوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فنزلت هذه الآية

«1».

قال القمي: و كان سبب ذلك أن عمر بن الخطاب كانت عنده فاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة فكرهت الهجرة معه و أقامت مع المشركين فنكحها معاوية بن أبي سيفان فأمر اللّه رسوله أن يعطي عمر مثل صداقها «2». و

روي عن الصادق و الباقر عليهما السّلام أنهما سئلا ما معنى العقوبة ها هنا؟ قالا: إن الذي ذهبت امرأته فعاقبت على امرأة أخرى غيرها يعني تزوجها فإذا هو تزوج امرأة أخرى غيرها فعلى الإمام أن

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 20 ص 339.

(2) تفسير القمي: ج 2 ص 363. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 398

[سورة الممتحنة (60): آية 12]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

يعطي له مهر امرأته الذاهبة

«1». أقول: فعلى هذا فمعنى «عاقبتم» تزوجتم بأخرى عقيبها، كما أنه لا يبعد أن يكون القيد سواء كان بالمعنى السابق أو هذا المعنى من باب القيد الغالب لا أن له خصوصية فإنّ على الإمام إعطاء المهر للمسلم الفارّة زوجته سواء أراد التزويج أم لا و سواء غنموا أم لا. و اللّه أعلم.

[13] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ أي النساء اللائي يردن الإيمان فهو من باب مجاز المشارفة نحو

«من قتل قتيلا فله سلبه»

يُبايِعْنَكَ أي يردن بيعتك و قد كان ترتيب بيعة النساء أن يضع

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده في ظرف من الماء فيخرجها ثم تأتي النساء فيضعن أيديهن في ذلك و معنى البيعة أن المبايع يبيع كل شي ء له للّه و الرسول، كما قال سبحانه إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ «2» عَلى شرط أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ بأن يوحدنه و لا يتخذن معه شريكا شَيْئاً أي أيّ نوع من أنواع الشريك كان وَ لا يَسْرِقْنَ لا من أزواجهن و لا من غير أزواجهن وَ لا يَزْنِينَ بالرجال الأجانب سواء كنّ ذوات بعل أم لا وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ لا بالإسقاط و لا بالوأد و لا بسائر أقسام القتل وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ أي بكذب يكذبنه في مولود يوجد لديهن

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 313.

(2) التوبة: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 399

بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم بأن يزنين فيلدن من الزنى ثم ينسبنه إلى أزواجهن! فإن المولود إنما يلد بين الرجلين و يرتضع بين اليدين، و هذا غير النهي عن الزنى- الذي سبق-.

و قال بعض: إن المرأة في الجاهلية كانت تلتقط المولود ثم تنسبه إلى الزوج فنهين عن ذلك «1» وَ لا يَعْصِينَكَ يا رسول اللّه فِي مَعْرُوفٍ

قال الإمام الصادق عليه السّلام هو ما فرض اللّه عليهن من الصلاة و الزكاة و ما أمرهن به من خير

«2»، أقول: و كان الإتيان بقوله:

«في معروف» مع أن الرسول لا يأمر إلا بالمعروف، التنبيه على أن الرسول شأنه الأمر بالمعروف ترغيبا لهن للعمل بأوامره فَبايِعْهُنَ أي اقبل بيعتهن و لهن الجنة و الثواب على مثل هذه البيعة وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ أي اطلب من اللّه

غفران ذنوبهن السالفات إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر الذنب رَحِيمٌ يتفضل بالإضافة على الغفران، بالرحمة و الفضل.

روي إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بايعهن و كان على الصفا، و كان عمر أسفل منه و هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من أن يعرفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبايعكن على أن لا تشركن باللّه شيئا، فقالت هند: إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، و ذلك أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بايع الرجال يؤمئذ على الإسلام و الجهاد فقط .. فقال: و لا تسرقن فقالت هند: إن أبا سفيان رجل ممسك و إني

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 97.

(2) بحار الأنوار: ج 79 ص 76. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 400

[سورة الممتحنة (60): آية 13] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 448

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)

أصبت من ماله هناك فلا أدري أ يحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى و فيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عرفها.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لا تقتلن أولادكن فقالت هند: ربيناهم صغارا و قتلتموهم كبارا و أنتم و هم أعلم، و كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب عليه السّلام يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى و تبسم النبي صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم و لما قال: لا تأتين ببهتان، فقالت هند: و اللّه إن البهتان قبيح و ما تأمرنا إلا بالرشد و مكارم الأخلاق، و لما قال و لا يعصينك في معروف فقالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك في كل شي ء

«1».

[14] و أخيرا يأتي السياق ليعود إلى ما استبدئ به من تحريم موادة الكفار الذي لأجله نزلت السورة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً من الكفار غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ

فقد روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم

، و معنى التولي الموادة و المحابة و اتخاذهم أولياء قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ فإنهم منكرون لها كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ بأن يرجعوا إلى الدنيا، فهم و الكفار سواء في عدم الاعتقاد بالآخرة، و ان أظهر أولئك الاعتقاد بها كذبا و تدليسا.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 14 ص 279.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 401

61 سورة الصف مدنية/ آياتها (15)

سميت بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الصف» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام كاشتمالها على العقيدة.

و لما ختمت سورة الممتحنة بقطع موالاة الكفار ابتدأت هذه السورة بلزوم قتالهم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الذي له ما في السموات و الأرض، و هل هناك أحق بالاستعانة منه؟ إنه «اللّه» الذي بيده كل شي ء، الذي يعين من استعان به، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحمة و تكميل الناقص، فهو خير من يستعان به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 402

[سورة الصف (61): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما

لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)

[2] سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و المراد الأعم من الظرف و المظروف، و إنما كرر هذه الآية في أول السورة السابقة و هذه السورة تأكيدا و تركيزا في الذهن، فإن تسبيح الكون- سواء كان بالمعنى التكويني أو الإدراكي- شي ء غريب عن الأذهان يحتاج إلى التركيز و الترسيخ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْحَكِيمُ الذي يفعل الأشياء حسب الصلاح و الحكمة، و هي وضع كل شي ء موضعه.

[3] و قد كان قسم من المؤمنين يقولون إذا لقينا العدو لا نفر و نرجع عنهم، حتى إذا كان يوم أحد فروا فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ استفهام إنكاري فإن القول بدون الفعل أقبح من السكوت مع عدم الفعل، كما أن الفعل بدون القول أحسن من الفعل بعد القول- إذا لم يكن لتشجيع أو نحو ذلك من العناوين- قالوا: الناس في الخير على أربعة أقسام: قائل فاعل، و قائل غير فاعل، و غير قائل غير فاعل، و غير قائل فاعل، و الأحسن الأخير، و الأقبح الثاني و الأول خير من الثالث.

[4] كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أي كبر من حيث المقت و الغضب عنده سبحانه أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ

[5] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ لإعلاء كلمته و سبيل رضوانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 403

[سورة الصف (61): آية 5]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ

لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)

في حال كونهم مصطفين صَفًّا بلا تبعثر أو تفرق كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ كأنهم في شدة ثباتهم بناء قد رصّ، أي أحكم بناؤه يقال رصصت البناء أي أحكمته.

روي إن المسلمين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى اللّه تعالى لبذلنا فيه أموالنا و أنفسنا فأنزل اللّه «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ» الآية فلما كان يوم أحد و تولوا أنزل اللّه سبحانه «لم تقولون»؟

[6] ثم جاء السياق ليحذر المسلمين أن يكونوا كأصحاب موسى عليه السّلام يؤذونه بعد أن علموا أنه نبي من عند اللّه تعالى، فإن ترك القتال إيذاء للرسول و مخالفة لأمره وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل الذين آمنوا به يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بأفعالكم كعبادة العجل، و أقوالكم كقولهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا «1» وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ «قد» للتحقيق، و إن كان الأكثر في فعل المضارع أن يكون للتقريب، و لعل النكتة فيه أن احتمال كونه رسولا كاف في كفهم عن أذاه إِلَيْكُمْ بعثني إليكم لهدايتكم.

لكن القوم تمادوا في إيذائه عليه السّلام فَلَمَّا زاغُوا أي مالوا عن الحق بالاستمرار في أذاه كما هو طبيعة اليهود أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي تركهم و شأنهم و منع عنهم الألطاف الخفية حتى مالت قلوبهم، و نسبة

______________________________

(1) المائدة: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 404

[سورة الصف (61): آية 6]

وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

الزيغ إليه سبحانه، لأنه إذا ترك الإنسان جذبته الأهواء الموجبة للزيغ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

الْفاسِقِينَ فمن خرج عن طاعة اللّه بعد الدليل و البرهان تركه سبحانه و شأنه و لم يلطف به الألطاف الخفية.

[7] و هكذا فعل اليهود بعيسى بن مريم عليه السّلام آذوه بعد ما جاءهم بالبينات وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ و الإصرار في القرآن على إضافة عيسى بمريم عليه السّلام لنفي كونه ابن اللّه يا بَنِي إِسْرائِيلَ و المراد بهم اليهود إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ بعثني لهدايتكم و إرشادكم في حال كوني مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ أي ما تقدمني، فإن الشي ء الذي أمام الإنسان هو بين يديه- مجازا- مِنَ التَّوْراةِ التي جاء بها موسى عليه السّلام.

وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ أي أبشركم برسول من عند اللّه تعالى يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ يعني نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و قد ذكر الشيخ محمد صادق فخر الإسلام، في كتابه أنيس الأعلام- و هو ممن كان مسيحيا فأسلم- قصة طويلة حول هذا الأمر و أن اسم الرسول «فارقليطا» المفسر بأحمد و هي في كتابهم- و هذه هي عادة الأنبياء عليهم السّلام يصدقون السابقين و يبشرون باللاحقين لأنهم أخوة من عند اللّه لبيان منهج واحد، و إنما الفروق في المزايا و الخصوصيات التابعة للظروف فَلَمَّا جاءَهُمْ عيسى، أو لما جاءهم الرسول- أحمد- بِالْبَيِّناتِ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 405

[سورة الصف (61): الآيات 7 الى 8]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8)

الأدلة الواضحات قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي سحر ظاهر و لم يؤمنوا، فإن

كان الضمير راجعا إلى عيسى، كان ردفا لتكذيب اليهود لموسى، و إن كان راجعا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانت الآيات في صدد بيان الرسالات الثلاث، و إن أهل الملتين السابقتين كيف استقبلوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المبشر به لديهم.

[8] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي أيّ شخص أكثر ظلما مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي اختلق الكذب على اللّه، و قال لكلامه إنه سحر و لرسوله إنه ساحر كاذب، وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ الذي فيه سعادته في الدنيا و الآخرة وَ اللَّهُ لا يَهْدِي بالألطاف الخفية الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العناد بعد ما رأوا النور و الهدى، و دلهم على الطريق فلم يسلكوه.

[9] يُرِيدُونَ هؤلاء الكفار المعاصرون لك يا رسول اللّه لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ و هو رسوله و منهاجه بِأَفْواهِهِمْ و إنما سمي نورا لأنه ينير دروب الحياة المظلمة بمناهج تسبب السعادة و الوصول إلى الهدف، كمن معه المصباح في الليلة المظلمة حيث لا يصطدم بشي ء بل يسلك السبيل حتى يصل إلى المطلوب، و إنما قال «بأفواههم» لأنهم ظنوا أنهم يتمكنون من إطفاء نور الإسلام، بالتكذيب و التهريج.

وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ أي مظهر دينه، فإن النور إذا أطفئ لم يتم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 406

[سورة الصف (61): الآيات 9 الى 10]

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10)

امتداده في الزمان، أمّا إذا لم يطفأ استمر و امتد و تم وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ من بقاء نور اللّه و إضاءته للعالم.

[10]

هُوَ اللّه سبحانه الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْهُدى أي مع الهداية للبشرية إلى السعادة الأبدية وَ ب دِينِ الْحَقِ و هو دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ أي أن الإرسال كان لأجل إظهار هذا الدين عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي على كل الأديان، فإن «الدين» جنس و لذا جي ء له ب «كله» فإن الإسلام يغلب الأديان كلها على نحوين: الأول بالحجة و الدليل، و هذا موجود منذ زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الثاني بالغلبة و السيطرة و هذه تكون في زمن الإمام الحجة عليه السّلام.

فقد سئل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عن هذه الآية و أنه هل ظهر الإسلام؟ قال عليه السّلام: كلا فو الذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلا و ينادى فيها بشهادة أن لا إله إلا اللّه بكرة و عشيا

«1» وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الذين أشركوا باللّه، فإنه يعلو على رغم أنوفهم.

[11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنما خص المؤمنين بالخطاب، مع أنه أعم، لأنهم المنتفعون بالخطاب العاملون به دون سواهم هَلْ أَدُلُّكُمْ أي هل تريدون أن أهديكم و أرشدكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ على نحو الاستفهام الطلبي.

______________________________

(1) تأويل الآيات: ص 663.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 407

[سورة الصف (61): الآيات 11 الى 12]

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

[12] ثم بين تلك التجارة، التي لها أربح الأثمان، و هل شي ء أنفع من نجاة الإنسان من عذاب مؤلم موجع؟ تُؤْمِنُونَ

بِاللَّهِ بأن تعتقدوا به إلها واحدا وَ رَسُولِهِ بأن تصدقوه فيما جاء به، و المراد إيمانا باقيا راسخا- فلا ينافي ذلك كونهم مؤمنين، كقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «1»- وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي تتبعون أنفسكم بالمشاق التي منها الحرب لأجل إعلاء كلمة اللّه بِأَمْوالِكُمْ بأن تبذلوها لأجله تعالى وَ أَنْفُسِكُمْ بأن ترخصوها في أوامره، حتى إذا استلزمت إزهاق أنفسكم و قتلكم في سبيله ذلِكُمْ «ذا» إشارة و «كم» خطاب، أي ما ذكر من الإيمان و الجهاد- باعتبار كل واحد- خَيْرٌ لَكُمْ من الشرك الذي مصيره النار و العقاب إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و المعنى إن كنتم عالمين لعلمتم أن الإيمان و الجهاد خير و أنفع من الكفر و الكسالة.

[13] و إذا فعلتم ذلك يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ السالفة وَ يُدْخِلْكُمْ اللّه تعالى جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ من عسل و ماء و لبن و خمر وَ يدخلكم في تلك الجنات مَساكِنَ طَيِّبَةً جمع مسكن و هو المنزل، سمي بذلك لأنه محل سكون الإنسان فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه، أي

______________________________

(1) النساء: 137.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 408

[سورة الصف (61): الآيات 13 الى 14]

وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

في جنات أنتم دائمون فيها خالدين لا خروج لكم عنها ذلِكَ الغفران للذنب و الدخول في الجنات الْفَوْزُ و الظفر

بالمطلوب و السعادة الْعَظِيمُ الذي ليس فوقه سعادة و فلاح.

[14] وَ لكم مضافا إلى نعمة الفوز بالجنان، نعمة أُخْرى إذا آمنتم و جاهدتم تُحِبُّونَها و هي نعمة دنيوية نَصْرٌ لكم على الكفار مِنَ طرف اللَّهِ سبحانه، لأنه ينصركم على الأعداء، و إن كانت قواكم المادية أقل منهم وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ لبلادهم، و قد كان كما أقام سبحانه فقد فتحوا مكة و فارس و الروم و كثير من أماكن المشركين و الكفار في مدة و وجيزة وَ بَشِّرِ يا رسول اللّه الْمُؤْمِنِينَ بهذين الثوابين، إن صدقوا في الإيمان و قاموا بواجب الجهاد.

[15] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي أعوانه الملازمين لخدمته بإقامة دينه، في مقابل المؤمن الذي لا يهيئ نفسه للنصرة، و إنما يعمل ببعض الأمور الدينية كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أي أنصروه نصرة مثل ما طلب المسيح من تلامذته لِلْحَوارِيِّينَ و هم أصفياؤه و تلاميذه مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي في السير إلى رضوان اللّه و ثوابه، سيرا مستقيما، يكون معي في تعاليمي؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ و الخطاب إما كان خاصا لهم و أجاب الجميع بالموافقة، أو كان عاما،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 409

و إنما قال «للحواريين» باعتبار أنهم الفئة الموجهة في خطابه عليه السّلام للجماهير فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إيمانا صحيحا و هم الحواريون و من إليهم وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ بأن لم تؤمن بعيسى أو آمنت ثم انحرفت كالمثلثة و نحوهم فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي قويناهم عَلى عَدُوِّهِمْ الكافرين فَأَصْبَحُوا أي المؤمنون به ظاهِرِينَ غالبين بالحجة على الكافرين، أو غالبين بالعدد و القوة على أولئك، و كما أيدنا النصارى الحقيقيين على اليهود و المزيفين من النصارى كذلك

نؤيد الإسلام الصحيح على الأديان الأخرى، و الإسلام المنحرف، و إنما يسمى الغالب ظاهرا لأنه يظهر و غيره يخفى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 410

62 سورة الجمعة مدنية/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الجمعة» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام بالإضافة إلى اشتمالها على العقيدة، و لما ختمت سورة الصف بتأييد المؤمنين بعيسى عليه السّلام افتتحت هذه السورة بالإرسال في الأميين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له كل شي ء، و إنما يبدأ باسم من له كل شي ء استحقاقا و استعطافا، فمن له كل شي ء هو الأحق بالتنويه، و من بيده كل شي ء هو الأحق و الأولى بالاستعطاف.

الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بالفضل، فإن الرحمة هي الفضل على من فيه نقص بتكميل ذلك النقص.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 411

[سورة الجمعة (62): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)

[2] يُسَبِّحُ لِلَّهِ أي ينزه اللّه من النقائص، تنزيها إما تكوينيا، لأن في كل شي ء له آية دالة على أنه خالق عالم قدير، و إما بلسان تفقهه ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ السماء و ما فيها، و الأرض و ما فيها فإن الظرف قد يطلق على الإثنين، كما أن المظروف قد يطلق على الإثنين الْمَلِكِ السلطان على الكون بقول مطلق، فإن سلطة ما عداه تعالى مجازية الْقُدُّوسِ المنزه عن كل نقص، من قدس بمعنى تنزه الْعَزِيزِ الغالب في سلطانه الْحَكِيمِ الذي يفعل

الأشياء بالحكمة و الصلاح.

[3] هُوَ اللّه تعالى الَّذِي بَعَثَ أي أرسل فِي الْأُمِّيِّينَ الأمي منسوب إلى الأم و المراد بهم العرب، سموا بذلك إما لأنهم من أهل «أم القرى» أي مكة المكرمة- المسماة بذلك لأن القرى دحيت من تحتها- و إما لأن الغالب منهم لم يكونوا يعرفون القراءة و الكتابة فهم- في جهلهم- كالذي خلق من الأم لا يعرف شيئا، و البعث في الأميين لا يلازم أن يكون لهم وحدهم، حتى تدل الآية على خصوص نبوته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَسُولًا لأجل هدايتهم مِنْهُمْ أي من أنفسهم و من أهل بلدهم.

يَتْلُوا أي يقرأ عَلَيْهِمْ أي على أولئك الأميين آياتِهِ أدلّته، أو آيات القرآن وَ يُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم تطهيرا علميا، فإن المعلم الرقيب يطهر تلاميذه من أدران القلوب و الجوارح بحفظهم عن الرذائل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 412

[سورة الجمعة (62): الآيات 3 الى 4]

وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

و الأعمال المنكرة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أحكامه و شرائعه وَ الْحِكْمَةَ بأن يعرفوا وضع الأشياء مواضعها، فإن الحكمة هي وضع الشي ء موضعه وَ إِنْ كانُوا هؤلاء الأميون مِنْ قَبْلُ أي قبل أن يأتيهم الرسول لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في انحراف ظاهر، فلا عقائد صحيحة و لا أعمال صالحة و لا عادات طيبة، و لا أخلاق فاضلة، يعني أنه يوصلهم إلى أرقى مراقي الكمال، و إن كانوا قبل ذلك في أبعد متاهات الضلالة.

[4] وَ يعلّم آخَرِينَ مِنْهُمْ أي من أولئك الأميين، ممن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، و كونهم منهم إما باعتبار أنهم من نسلهم أو باعتبار

أنهم بالإيمان يكونون من جنس أولئك لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ «لمّا» لما لم يقع و ينتظر وقوعه، أي لم يلحقوا- بعد- بهم، مع أنه ينتظر لحوقهم وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه فيتمكن من الهداية للآخرين الْحَكِيمُ الذي يضع الأشياء مواضعها.

[5] ذلِكَ أي الإرسال، بالنسبة إلى المرسل بأن جعله نبيا، أو بالنسبة إلى المرسل إليهم بأن شرفهم بأن هداهم فَضْلُ اللَّهِ لطفه و رحمته يُؤْتِيهِ أي يعطيه مَنْ يَشاءُ من عباده لكن المعلوم أن اللّه لا يعطي شيئا إلا حسب الحكمة، بمن كان صالحا للإعطاء، وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي فضله أعظم من فضل كل- ذي فضل، و إعطاء كل معطي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 413

[سورة الجمعة (62): الآيات 5 الى 6]

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6)

[6] ثم نبّه السياق المسلمين بوجوب التمسك بالشريعة حتى لا يكونوا كاليهود الذين تركوا العمل بالتوراة، بعد ما تمسكوا بها في زمن موسى عليه السّلام مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي حمّلهم اللّه التوراة، و كأن الوجه في التعبير ب «حملوا» إفادة أنهم إنما تمسكوا بها بكل صعوبة و تحميل لا بالطوع و الرغبة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها بأن تركوا العمل بها باختيار، و لذا جاء الفعل هنا من باب المجرد، و المراد ب «لم يحملوها» رفضوها و تركوا أحكامها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً جمع سفر و هو الكتاب، و الحمار الذي يحمل الكتب على ظهره لا يستفيد منها، و اليهود مثل

ذلك فإنهم مع كون التوراة بين أظهرهم لا يستفيدون منها و لا يعملون بأحكامها فمن تمسك بالقرآن ظاهرا و لم يعمل به كان مثله كذلك، بِئْسَ المثل مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ و المراد بهم اليهود الذين كذبوا بالتوراة- تكذيبا عمليا- أو كذبوا بآيات اللّه في القرآن، و المعنى بئس القوم قوم هذا مثلهم، فإن المثل السيئ لا يكون إلا للشخص السيئ، وَ اللَّهُ لا يَهْدِي بالألطاف الخفية الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، بعد أن هداهم إلى الطريق فلم يسلكوه.

[7] و قد كان اليهود يزعمون أنهم أولياء اللّه- بعد تركهم العمل بالتوراة- و يأتي السياق ليفند زعمهم هذا قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء اليهود يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي سمّوا يهودا، و تهودوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 414

[سورة الجمعة (62): الآيات 7 الى 8]

وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ و أنكم شعب اللّه المختار مِنْ دُونِ النَّاسِ و أن سائر الناس لا يحبهم اللّه، و ليسوا بأولياء اللّه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم، فإن الولي لا يخاف من الموت، إذ يعلم بعلو حاله هناك.

[8] وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أي لا يتمنى اليهود الموت أَبَداً أي إلى الأبد بسبب ما عملوا من كفرهم و عصيانهم و أن أحوالهم في الآخرة سيئة من ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و نسبة التقديم إلى اليد باعتبار أن اليد هي الأكثر عملا، من باب علاقة الجزء و الكل وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ عالم بأحوالهم و سيجازيهم

على ظلمهم، و هذا تهديد لليهود.

[9] و هل ينفع عدم تمنيهم الموت و فرارهم منه؟ قُلْ يا رسول اللّه لهم إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ بتوفير أسباب الصحة لأنفسكم، و عدم حضوركم في مواضع الخطر خوفا من الموت فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ يلقاكم و ينزل بكم لا محالة ثُمَ بعد الموت تُرَدُّونَ أي ترجعون، فإن الإنسان حيث صدر عن إرادة اللّه سبحانه، كان ذهابه إلى حسابه و جزائه، شبيها بالرد و الرجوع إليه إِلى عالِمِ الْغَيْبِ أي ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ أي ما ظهر للحواس و شهدها، أي حضرها الشخص، و المراد أنه تعالى يعلم السر و العلانية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 415

[سورة الجمعة (62): آية 9]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)

فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم- إخبار الذي يريد الجزاء- بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الأعمال الحسنة أو القبيحة.

[10] و إذا تبين لزوم العمل بالشريعة حتى لا يكون المسلم، كمثل اليهود في تركهم العمل بالتوراة، جاء السياق ليبين شريعة عظيمة هي صلاة الجمعة، و هذه الصلاة واجبة في زمن الحضور، أما زمن الغيبة فلعلمائنا فيها خلاف، و الذي استظهرته أن وجوبها خاص بالإمام أو مأذونه في زمان بسط يد الإمام، و لذا لم يرد قيام الأئمة من بعد الإمام الحسين بها، و لم يكن ذلك لأجل التقية، و هذا هو السر في اشتهار تركها بين فقهائنا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا جلس على المنبر لخطبة الجمعة أذّن بلال على باب المسجد، و كذا جرى أبو

بكر و عمر بعده حتى جاء عثمان، فكان يؤذن على سطح داره أولا ثم إذا جلس على المنبر أذن ثانيا- و هذا هو الأذان الثالث الذي قالوا عنه بأنه بدعة، و كونه ثالثا باعتبار الأذان الإعلامي، و الأذان على المنبر، المشروعين- أما الأذان على سطح الدار فهو شي ء لم يكن في الإسلام مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي بعض يوم الجمعة، و هو لصلاة الجمعة، و سمي جمعة لاجتماع الناس فيها للصلاة، و قد كان هذا اليوم عيدا قبل الإسلام ثم قرره الإسلام، كما أن النيروز كان عيدا قبل الإسلام ثم قرره الإسلام.

فَاسْعَوْا السعي هو المضي بسرعة و عجلة إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 416

[سورة الجمعة (62): الآيات 10 الى 11]

فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

الصلاة الجمعة وَ ذَرُوا الْبَيْعَ أي دعوا المعاملة، و الظاهر أن «البيع» من باب المثال الغالب، و إلا فالمراد كل عمل ينافي الذهاب إلى الصلاة ذلِكُمْ أي السعي إلى الذكر، و ترك المعاملة خَيْرٌ لَكُمْ أيها المؤمنون في دينكم و دنياكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن علمتم الأشياء لعلمتم أن السعي خير لكم.

[11] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي أديت صلاة الجمعة فَانْتَشِرُوا أي تفرقوا أيها المؤمنون فِي الْأَرْضِ بأن يذهب كل إنسان إلى عمله الموجب للانتشار و التفرق وَ ابْتَغُوا أي اطلبوا بالكسب و ما أشبه مِنْ فَضْلِ اللَّهِ رزقه و لطفه، و هذا أمر للإباحة، لأنه بعد الحظر، نحو

قوله وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً بأن تكونوا متذكرين له لسانا و قلبا، حال الابتغاء و غيره، فإنه مجلى القلوب عن صدأ الغفلة و المعاصي لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا برضاه و إحسانه.

[12]

قال جابر: أقبلت عير و نحن نصلي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت هذه الآية، و في رواية إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و الذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا

«2» وَ إِذا رَأَوْا هؤلاء الذين حضروا

______________________________

(1) المائدة: 3.

(2) بحار الأنوار: ج 22 ص 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 417

لصلاة الجمعة تِجارَةً مقبلة، فقد كانت تجارتهم تأتي من أطراف البلاد في مواسم معينة، فمن لم يسرع للاشتراء فاتته السلعة، و لزم عليه الانتظار إلى الموسم الآخر لسد حاجاته بالاشتراء أَوْ لَهْواً و كان من عادة العير التجارية إذا جاءت أن يدق الطبل إعلاما لأهل المدينة بمجيئها و هذا هو اللهو الذي يلهي عن ذكر اللّه و يشغل عن الانصراف إلى الصلاة انْفَضُّوا أي أسرعوا إِلَيْها إلى تلك التجارة و اللهو- باعتبار كل واحد منهما- و الانفضاض هو التفرق بسرعة وَ تَرَكُوكَ يا رسول اللّه قائِماً تخطب خطبة الجمعة، بأن لم يبالوا بشأنك تقديما لأمر الدنيا على أمر الآخرة قُلْ يا رسول اللّه لهم ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ فثوابه على البقاء مستمعا خطبة الجمعة أفضل من اللهو و خير لكم وَ مِنَ التِّجارَةِ و لعل تقديم التجارة هناك و تأخيرها هنا، لأن هناك شروع من الأقوى يعني أنهم يذهبون

للتجارة بل لما دون التجارة و هو اللهو ... و هنا شروع من الأضعف يعني أن ما عند اللّه خير من اللهو و ما فوق اللهو و هو التجارة وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فلا يزعم أحد أنه لو ترك الاشتراء من العير لبقي بلا رزق، بل اللّه يرزقه من واسع فضله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 418

63 سورة المنافقون مدنية/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لأنها مشتملة على لفظة «المنافقون» و هي كسائر السور المدنية تشتمل على النظام، بالإضافة إلى قضايا العقيدة، و لما ختمت سورة الجمعة بترك الرسول قائما، الذي هو من أشباه أعمال المنافقين ابتدأت هذه السورة بقصة من قصص المنافقين التي وقعت في إحدى غزوات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

قد ورد أن هذه السورة نزلت في غزوة «بني المصطلق» في سنة خمس من الهجرة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج إليها، فلما رجع منها نزل على بئر، و كان الماء قليلا فيها و كان الأنس بن سيّار حليف الأنصار و كان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيرا لعمر، فاجتمعوا على البئر، فتعلق دلو سيّار بدلو جهجاه فقال سيار دلوي و قال جهجاه دلوي؟ فضرب جهجاه وجه سيار فسال منه الدم، فنادى سيار بالخزرج و نادى جهجاه بقريش، فأخذ الناس السلاح، و كادت أن تقع الفتنة فسمع عبد اللّه ابن أبيّ النداء فقال ما هذا؟ فأخبروه بالخبر، فغضب غضبا شديدا، ثم قال قد كنت كارها لهذا المسير، ما ظننت أني أبقى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 419

إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تغيير ثم أقبل على أصحابه و قال هذا عملكم! أنزلتموهم منازلكم و واسيتموهم بأموالكم

و وقيتموهم بأنفسكم و أبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساءكم و أيتم صبيانكم و لو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم.

ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل- و أراد بالأعز هو و أمثاله، و بالأذل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين- و كان في القوم زيد بن أرقم و كان غلاما و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ظل شجرة في وقت الهاجرة و عنده قوم من أصحابه من المهاجرين و الأنصار، فجاء زيد فأخبره بما قال عبد اللّه بن أبيّ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لعلك وهمت يا غلام؟ قال لا و اللّه ما وهمت فقال: لعلك غضبت عليه؟ قال: لا و اللّه ما غضبت عليه. قال: فلعله سفه عليك؟ قال لا و اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لشقران مولاه أن يقدم راحلته و ركب و تسامع الناس بذلك فقالوا ما كان رسول اللّه ليرحل في مثل هذا الوقت؟ فرحل الناس و لحقه سعد بن عبادة فقال: السلام عليك يا رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و عليك السلام. فقال: ما كنت لترحل في مثل هذا الوقت؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أو ما سمعت قولا قاله صاحبكم؟ قالوا و أي صاحب لنا غيرك يا رسول اللّه قال: عبد اللّه بن أبيّ زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فقال: يا رسول اللّه فأنت و أصحابك الأعز و هو و أصحابه الأذل فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم يومه كله لا يكلمه أحد، فأقبلت الخزرج على عبد اللّه بن أبيّ تلومه فحلف عبد اللّه أنه لم يقل شيئا من ذلك فقالوا: فقم بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى نعتذر إليه، فلوى عنقه فلما جن الليل سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليله كله، و النهار، فلم ينزلوا إلا للصلاة، فلما كان من الغد نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نزل أصحابه و قد انهدهم الأرض من السهر الذي أصابهم، فجاء عبد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 420

اللّه بن أبيّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحلف عبد اللّه أنه لم يقل ذلك و أنه ليشهد أن لا إله إلا اللّه و أنك لرسول اللّه و أن زيدا قد كذب علي.

فقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منه- أي أظهر السكوت- و أقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه و يقولون كذب على عبد اللّه سيدنا، فلما رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان زيد معه يقول اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد اللّه بن أبيّ، فما سار إلا قليلا حتى أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يأخذه من الحالة عند نزول الوحي عليه فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي، فسرى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يسكب العرق عن جبهته، ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه عن الرحل ثم قال: يا غلام صدقت و وعى قلبك

و أنزل اللّه فيما قلت قرآنا، فلما نزل جمع أصحابه و قرأ عليهم سورة المنافقين ففضح اللّه عبد اللّه بن أبيّ ثم جاء ولد عبد اللّه بن أبيّ إلى رسول اللّه و قال: يا رسول اللّه إن كنت عزمت على قتله فمرني أن أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه فو اللّه لقد علمت الأوس و الخزرج أني أبرهم ولدا بوالدي، فإني أخاف أن تأمر غيري فيقتله فلا تطيب نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول اللّه: بل نحسن لك صحابته ما دام معنا

«1».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، ليكون عونا لنا في حوائجنا، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شي ء ليلطف علينا بالرحمة فيحل مشاكلنا الدنيوية و الأخروية.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 285.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 421

[سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2)

[2] إِذا جاءَكَ يا رسول اللّه الْمُنافِقُونَ و المراد به عبد اللّه بن أبيّ، و قد تقدم أن الجمع قد يستعمل بمعنى الجنس، و يراد به الفرد، و إنما يعبر بالجمع لإفادة أن من هذا وصفه فحكمه حكم ذلك الفرد الصادر منه الفعل كما أن الفرد قد يأتي بمعنى الجنس، حيث تسلخ منه الفردية، و تبقى الجنسية التي في ضمن الفرد، و المنافق هو الذي يبطن الكفر و يظهر الإسلام قالُوا في محضرك نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ بأن هذا هو اعتقادنا القلبي، لا إظهارنا اللفظي فقط

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ و هذه جملة جاء بها القرآن تمهيدا للجملة التالية، لئلا تنصرف إلى إنكار اللّه سبحانه رسالته حيث يكذب المنافقين وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ في ادعائهم أنهم يعتقدون برسالة الرسول من أعماق قلوبهم، فإنهم إنما آمنوا باللسان و قلبهم باق على الكفر و الجحود.

[3] اتَّخَذُوا أي هؤلاء المنافقون أَيْمانَهُمْ جمع يمين و هي القسم أي حلفهم جُنَّةً أي وقاية يتسترون بها حتى لا يصيبهم أذى من الرسول و المسلمين فَصَدُّوا أي منعوا بسبب حفظ أنفسهم على الكفر باطنا- بالحلف الكاذب- عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي طريق دينه و ثوابه لأنهم بنفاقهم يحفظون أنفسهم في زمرة المسلمين، ثم يشاغبون خفية، و يمنعون الناس عن الإيمان الصحيح إِنَّهُمْ أي المنافقين ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 422

[سورة المنافقون (63): الآيات 3 الى 4]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

أي بئس العمل عملهم حيث يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر صدا عن سبيل اللّه.

[4] ذلِكَ النفاق إنما كان بسبب أنهم آمَنُوا بألسنتهم ثُمَّ كَفَرُوا بقلوبهم، فإن المنحرف الطبع إذا رأى خيرا أسرع إليه مخلصا و إذا رأى التصادم مع مصالحه يبقى في ظاهر الموافقة- حزنا- و يتراجع في الباطن ترجيحا لمصالحه فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ إذ تمرنوا على الكفر و التمادي في صفة يوجب تطبع النفس بها إذ تكون ملكة للمتمادي، و الطابع هو اللّه سبحانه، الذي خلق النفس البشرية هكذا، و إن كان الطبع بسبب نفاقهم، و المراد بالقلوب الأنفس

فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون حقيقة الإيمان و التقوى لأن نفوسهم انحرفت، و إذا انحرفت النفس رأى الجميل قبيحا و القبيح جميلا.

[5] وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ أي نظرت إليهم يا رسول اللّه أو أيها الرائي تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ بحسن منظرهم و تمام خلقتهم و جمال صورهم وَ إِنْ يَقُولُوا أي يتكلموا في أي شأن من الشؤون تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي أصغيت إلى كلامهم لجميل بيانهم و فصاحة منطقهم، فهم مع حسن المنظر و عذوبة البيان كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ فارغون عن الصفات الحسنة و الفضائل، كالخشبة الفارغة التي لا تتمكن أن تقف بنفسها فتستند لحائط و نحوه لتقف و تستقيم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 423

[سورة المنافقون (63): آية 5]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)

فالخشبة التي أكلت جوفها الأرضة ظاهرها جميل و باطنها فارغ لا تتمكن أن تقف هي لركاكتها و هؤلاء كذلك لهم ظاهر من غير باطن يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ و كل نازلة عَلَيْهِمْ لجبنهم و فراغ قلوبهم عن فضيلة الإيمان، فإن المؤمن ثابت القلب رابط الجأش أما المنافق فإنه خائف دائما أن يظهر باطنه فيفضح، و لذا كلما حدث شي ء خاف و جبن أن يقع فيه و يفضح باطنه، و الفاجعة و النازلة تسمى صيحة لارتفاع الصياح فيها من باب علاقة السبب و المسبب هُمُ الْعَدُوُّ أي أن هؤلاء المنافقين هم أعداؤك الوحيدون يا رسول اللّه الكاملون في العداوة إذ الكفار لظهورهم يؤمن شرهم، أما المنافق فهو يخفى في الجماعة المؤمنة بإظهار الإيمان حيث لا يرى و لا يعرف حتى يفسد و يسبب المشاكل.

فَاحْذَرْهُمْ يا رسول اللّه عن أن يختلطوا بالمسلمين و يطلعوا على

أسرارهم، لأنهم عرفوا بمناطق العزة و نقاط الضعف، فهم أقدر من العدو الخارج على الإفساد و المؤامرة قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بأن يقتلهم اللّه ليستريح المسلمون من شرهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق مع الأدلة الواضحة؟

[6] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا أي هلموا و أتوا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ أي يطلب لكم غفران اللّه لما صدر منكم من الذنب لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 424

[سورة المنافقون (63): الآيات 6 الى 7]

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)

حركوها حركة المعرض، و عطفوها نحوا إلى جانب يخالف جانب القائل تكبرا و إعراضا وَ رَأَيْتَهُمْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو أيها الرائي يَصُدُّونَ أي يمنعون عن سبيل الحق وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يظهرون كبرهم و أنهم لا حاجة لهم إلى استغفار الرسول.

[7] و إذ كان أولئك منافقين ف سَواءٌ عَلَيْهِمْ في عدم الانتفاع و عدم غفران اللّه لهم أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ يا رسول اللّه أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فإن الاستغفار إنما ينفع المؤمن دون المنافق لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ أبدا لأنهم يبطنون الكفر إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي بالألطاف الخفية الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الذين خرجوا عن طاعة اللّه بالنفاق و الشقاق.

[8] هُمُ المنافقون الَّذِينَ يَقُولُونَ بعضهم لبعض لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ من المؤمنين أصحاب الحاجة حَتَّى يَنْفَضُّوا أي يتفرقوا عنه، و يأتي التعليق على كلامهم هذا بقوله وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ

وَ الْأَرْضِ التي يبذل منها لمن حوالي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد ظن هؤلاء المنافقون أن خزائن الأرزاق و الأموال بأيديهم حتى إذا قطعوا الأموال على المؤمنين يتفرقون، و جهلوا أن الشمس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 425

[سورة المنافقون (63): الآيات 8 الى 9]

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)

و الأرض و الماء و الهواء التي هي خزائن الأموال و الأرزاق كلها بيد اللّه تعالى فيبذل منها على المسلمين بالزراعة و الاكتساب و ما أشبه، فليس منع أولئك سببا لتفرق هؤلاء المؤمنين من حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون أن الخزائن بيد اللّه تعالى.

[9] يَقُولُونَ هؤلاء المنافقون لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ من غزوة بني المصطلق لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يريدون المنافقين أنفسهم مِنْهَا أي من المدينة الْأَذَلَ يريدون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، و يأتي الرد عليهم وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ و هو مع المؤمنين وَ لِرَسُولِهِ بإعزاز اللّه له وَ لِلْمُؤْمِنِينَ بتمسكهم بالإسلام الموجب لسعادة الدنيا و الآخرة و عزتهما وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ فيظنون أن العزة لهم حيث يجدون أعوانا من المنافقين و مقدارا يسيرا من المال، و قد دلت التجربة على ذلك، فقد جاء الأذل، و هو ابن أبيّ- إلى الأعز- و هو الرسول، يعطي البراءة عما اقترفه.

[10] و إذا تقدم ذكر النفاق الذي هو إبطان

الكفر و إظهار الإيمان جاء السياق ليذكّر المسلمين بأن لا يفعلوا ما هو من أخلاق المنافقين من الإقبال على الدنيا، و جعل الآخرة وراء ظهرهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أي لا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 426

[سورة المنافقون (63): الآيات 10 الى 11]

وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)

بأن تشتغلوا بها فلا تراعوا حق اللّه فيها و لا تحضروا للصلاة و غيرها من سائر الفرائض اشتغالا بالمال و الولد.

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاشتغال بالمال و الولد عن ذكر اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم إذ لا نجاة لهم في الآخرة من العذاب.

[11] وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ فيما أمرنا من الخمس و الزكاة و الصلاة و سائر الحقوق- و لعله عام يشمل الإنفاق من العلم و الجاه و القوة بالإضافة إلى الإنفاق من المال- مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي يحضره الموت، بأن تأتي أسبابه و علائمه فَيَقُولَ يا رَبِّ لَوْ لا أي هلّا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ بأن أبقى في الدنيا و لو مدة قليلة لأصلح شأني فَأَصَّدَّقَ أي أتصدق و أزكي مالي و أنفقه في سبيل اللّه وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أصلي و أصوم و أحج و أبذل نفسي في سبيلك و حسب أوامرك.

[12] و هل ينفع هذا الطلب؟ كلا وَ ذلك لأنه لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً بإبقائها في الدنيا زيادة على المدة المقدرة لها إِذا جاءَ و

حضر أَجَلُها فلا يتمكن من العمل الصالح ببدنه و الإنفاق من ماله وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أيها البشر فلا تفعلوا ما يوجب العقاب و النكال.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 427

64 سورة التغابن مدنية/ آياتها (19)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «التغابن» و هي كسائر السور المدنية تعالج النظام إلى جنب بيان العقيدة، و لما ختمت سورة المنافقين بالأمر بالطاعة و النهي عن المعصية، افتتحت هذه السورة بذكر المطيع و العاصي.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم اللّه الجامع لجميع صفات الكمال، و هل هناك أحق بالابتداء ممن هو الأول و الآخر، و من كان قبل كل شي ء ثم كوّن كل شي ء؟ الرحمن الرحيم الذي يرحم كل شي ء و الرحمة في الإنسان حالة في القلب، و لكن فيه سبحانه يراد بها فعل يترتب على الرحمة من الفضل و الإنعام إذ لا مجال فيه سبحانه لمثل هذه الصفات، و لذا قالوا «خذ الغايات و اترك المبادي».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 428

[سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

[2] يُسَبِّحُ لعل التعبير بالماضي في بعض السور باعتبار معنى التسبيح، و بالمضارع في البعض باعتبار الحال و الاستقبال لِلَّهِ أي ينزهه عن النقائص ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ظرفا و مظروفا- كما سبق- لَهُ الْمُلْكُ فهو المالك المطلق الحقيقي، و سائر المالكين ملكهم محدود، و إضافي لاختصاص

الشي ء بتخصيص اللّه سبحانه لا أنهم ملاك حقيقيون وَ لَهُ الْحَمْدُ، إذ المحامد كلها راجعة إليه، فإن الحمد إنما يكون على الجميل الاختياري، و فاعل كل جميل هو اللّه سبحانه، أما سائر من يحمد فهو محمود حمدا مقيدا إضافيا وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر على الإيجاد و الإعدام و التصرف كيفما شاء.

[3] هُوَ اللّه الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها البشر فَمِنْكُمْ كافِرٌ باللّه بسوء اختياره بعد وضوح الحجة و ظهور المحجة وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ باللّه و بما جاء به الرسل، و هذا التفريع لبيان أنه لا ينبغي الكفر بعد كون الملك و الخلق له سبحانه، و بعد تسبيح الكون لعظمته وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أنتم أيها البشر بَصِيرٌ يرى الأشياء، ثم يجازيكم عليها.

[4] خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ظرفا و مظروفا بِالْحَقِ فلم يكن الخلق عبثا و لغوا، كما يفعل الأطفال، من صنع التماثيل من طير و نحوه للهو، فإن خلقها كان لحكمة و غاية و مقصد وَ صَوَّرَكُمْ بأن جعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 429

[سورة التغابن (64): الآيات 4 الى 5]

يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5)

لكم الصور الظاهرة من الحواس و الكيفيات و الصور الباطنة بأن جعل لكم العقل و الملكات فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بصورة عامة، و إن كان في البشر من ليس حسن الصورة، فإن الأحكام يراد بها النوع لا كل فرد- كما قرر في علمي البلاغة و الأصول- وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي تصيرون إلى حسابه و جزائه بعد الموت، أو في القيامة.

[5] يَعْلَمُ

ما فِي السَّماواتِ وَ ما في الْأَرْضِ مما يحدث و ما يعدم و ما يتصرف فيه كيف يتصرف وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي تعملونه سرا عن الناس وَ ما تُعْلِنُونَ تعملونه علنا في محضر الناس، أو المراد من السر الأعم مما يدور في الصدور و ما يعمل سرا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأشياء التي تدور في قلوب البشر، و هذا يؤيد كون «ما تسرون» بمعنى تعملون سرا لا الأعم، و إلا كان تأكيدا- و هو خلاف الأصل-.

[6] و إذ بين السياق آيات حول الألوهية، جاء ليهدد الكافرين الذين أعرضوا عن اللّه و الإيمان به بقوله أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيها الناس نَبَأُ أي خبر الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث إنهم أعرضوا عن الإيمان فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي عذبهم اللّه سبحانه حتى ذاقوا عاقبة كفرهم و تكذيبهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 430

[سورة التغابن (64): الآيات 6 الى 7]

ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)

في الآخرة بالإضافة إلى العذاب الذي ذاقوه في الدنيا.

[7] ذلِكَ العذاب إنما شملهم و أخذهم بسبب أنه كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ من عند اللّه بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة الظاهرة و الحجج و المعاجز فَقالُوا أولئك الكفار، في رد دعوة الرسل أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا أي كيف يمكن أن يكون الرسول الذي هو بشر مثلنا يهدينا؟ و «بشر» جنس و لذا

جي ء له بصيغة الجمع «يهدوننا» فَكَفَرُوا بالرسل و بما جاءوا به وَ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن قبول الحق وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ أي فعل فعل المستغني عن الشي ء و هو تركه و شأنه، و هذا بعد أن طلب منهم الهداية و الرشاد فلم يقبلوا، و إنما جي ء من باب «الاستفعال» الظاهر في الطلب، لأن الغناء في المتعارف إنما يأتي بعقب الطلب فهو من باب التشبيه بالمحسوس، و إذ كان الكلام موهما لاحتياج اللّه بهم قبل ذلك جاء السياق ليدفع هذا التوهم بقوله وَ اللَّهُ غَنِيٌ بذاته لا يحتاج إلى شي ء و لا أحد حَمِيدٌ بأفعاله لا يحتاج إلى أن يحمد و لا ينقص عن كونه محمودا بالذات عدم حمد الناس له.

[8] إن الكفار تولوا عن الإيمان باللّه و عن الإيمان بالرسل، و كذلك تولوا عن الإيمان بالبعث زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا فلم يكن ذلك تيقنا بل زعما و ظنا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا بعد الموت، و لن يحيوا للحساب و الجزاء قُلْ يا رسول اللّه ردّا لزعمهم بَلى ليس الأمر كما زعمتم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 431

[سورة التغابن (64): الآيات 8 الى 9]

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

وَ حق رَبِّي اللّه، بل لَتُبْعَثُنَ أي لتحشرن أحياء بعد الموت ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ أي تخبرن- على صيغة المجهول- و المخبر هو اللّه و الملائكة و الأنبياء و من يعينونه للحساب و الإخبار بِما عَمِلْتُمْ من الكفر و المعاصي، فإن المجرم

يخبر بعمله ثم يعاقب وَ ذلِكَ البعث و الإخبار عَلَى اللَّهِ تعالى يَسِيرٌ سهل هين، فإن من خلق الخلق ابتداء قادر على أن يعيدهم.

[9] و إذا تحقق البعث و الحساب و تحقق الجزاء فَآمِنُوا أيها البشر بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ بالإذعان بهما و اتباع أوامرهما وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا و هو القرآن إذ هو ينير سبيل الحياة المظلمة ليرى الإنسان طريقه نحو السعادة و من المعلوم أن الأئمة عليهم السلام من مصاديق ذلك النور- كما ورد «1»- وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أيها البشر خَبِيرٌ عالم مطلع، فإذا آمنتم جزاكم بالثواب و الأجر و لا يذهب إيمانكم هدر.

[10] و ذلك البعث و الجزاء إنما يكون في يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ اللّه لِيَوْمِ يسمى بيوم الْجَمْعِ لاجتماع الخلائق فيه للحساب ذلِكَ اليوم يَوْمُ التَّغابُنِ و هو تفاعل من الغبن بأن يغبن كلّ الآخر، فإن أهل الجنة يغبنون أهل النار باتخاذ منازلهم في الجنة- فإن لكل إنسان منزل في الجنة و منزل في النار- و بالعكس يغبن أهل النار أهل الجنة باتخاذ

______________________________

(1) التحصين لابن طاووس: ص 585.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 432

[سورة التغابن (64): آية 10]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

منازلهم في النار- و تسمية هذا الطرف: غبنا من باب الجناس، من قبيل فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «1»-.

وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بأن يعتقد به و ينزهه عما لا يليق به وَ يَعْمَلْ صالِحاً أي عملا صالحا، و المراد به جنس العمل الصالح، لا عملا واحدا يُكَفِّرْ اللّه عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي يمحي عن ديوانه ما أسلف من الذنوب و المعاصي، فإن التكفير بمعنى الستر و المحو وَ

يُدْخِلْهُ اللّه سبحانه جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ من عسل و خمر و لبن و ماء، في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي دائمين في تلك الجنات أَبَداً لا زوال لهم عنها إلى غير النهاية ذلِكَ الدخول في الجنة خالدا، هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و الفلاح الذي ليس وراءه فلاح.

[11] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بحججنا و أدلتنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها، فإن صاحب الشي ء هو الملازم له في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي باقون فيها أبدا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس النار مرجعا و مآلا للإنسان.

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 433

[سورة التغابن (64): آية 11]

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (11)

[12] و إذ دعا سبحانه إلى الإيمان بيّن بعض ثمار الإيمان الطيبة التي ينالها الإنسان في هذه الدنيا قبل الفوز بالجنان في الآخرة، و قدم لذلك مقدمة بقوله ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي لا تصيب الإنسان مصيبة و لا يقع الإنسان في مشكلة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فاللّه سبحانه هو الذي يقدر الأشياء فلو لا تقديره لم يقع شي ء في الكون، فإن اللّه سبحانه قادر على أن يسكن الكوارث حتى لا تنزل بالإنسان، و إنما قرر سبحانه المصائب لتنزل بالإنسان للامتحان و الاختبار، و ليس معنى ذلك أن المصائب السيئة ينزلها اللّه سبحانه، بل معناه أنه تعالى لا يأخذ أمامها حتى لا تنزل، فمن يقتل ظلما- بإذن اللّه- أي لا يمنع اللّه القاتل- منعا تكوينيا بأن تشل يده- حتى لا يتمكن من القتل و إنما يأذن و لا يأخذ بيد

القاتل لكون الدنيا دار اختبار، فلو كان سبحانه يجبر على ترك القبيح لكان الإنسان بمنزلة الحجر و الجماد في أفعاله الاضطرارية و يبطل الثواب و العقاب.

و إذ قدم السياق هذه المقدمة، أتى إلى ثمرة الإيمان بقوله وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا راسخا يَهْدِ اللّه قَلْبَهُ حتى يطمئن بأن ما يصيبه إنما هو بعلم اللّه، و أنه يجازيه بالثواب و الأجر على ما أصابه، و إذا علم الإنسان أن ما أصابه من الضرر يتدارك بأضعاف الخير، اطمأن قلبه و لم تصدمه المصيبة كثيرا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيجازي كل امرء بما عمل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 434

[سورة التغابن (64): الآيات 12 الى 14]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

[13] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ أيها البشر في ما أمركم وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أتاكم به فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الإطاعة فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي أن يبلغكم بلاغا ظاهرا، و قد بلّغ فليس عليه شي ء و إنما يرجع و بال العاقبة إليكم حيث أعرضتم بعد البلاغ.

[14] اللَّهُ الذي تدعون إلى الإيمان به هو الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له و لا نظير وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بأن يكلوا أمورهم إليه، و يعتمدوا عليه.

[15] و إذ دعا السياق الناس إلى الإيمان، جاء ليبين بعض أعداء المؤمن الذين يثنونه عن الإيمان ليتخذ منهم حذره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ

أَزْواجِكُمْ أي نسائكم وَ أَوْلادِكُمْ أي بعضهم، و لذا جي ء ب «من» عَدُوًّا لَكُمْ لأنكم مؤمنون و هم كافرون أو منافقون فَاحْذَرُوهُمْ أن لا يصدوكم عن الحق و الهدى وَ إذا آذوكم بسبب إيمانكم ف إِنْ تَعْفُوا عنهم دون الانتقام وَ تَصْفَحُوا و هو أن يعرض الإنسان و يبدي صفحة وجهه أمام المكروه وَ تَغْفِرُوا بأن تستروا ذنبهم فلا تنتقموا منهم، و كان للأمر ثلاث مراتب: ستر الذنب، و عدم المقابلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 435

[سورة التغابن (64): الآيات 15 الى 16]

إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)

حتى بالكلام، و عدم الانتقام.

فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبكم، أو لذنوبهم- إذا تابوا- رَحِيمٌ بعباده، فعلى المؤمن أن يتعلم الغفران و الرحمة منه سبحانه، و هذا بالإضافة إلى الثواب، خطة حكيمة في جلب الناس إلى الإيمان، فإن السلم في مقابل العدو، يخفف من حدته و يلقي في نفسه حب مبدأ المسالم حتى ينجذب إليه.

[16] إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي امتحان لكم، كي يتبين من يطيع اللّه فيهما و من يعصيه و هذا من باب المثال، و إلا فأقرباء الإنسان و زوجه أيضا فتنة و امتحان وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ و ثواب كبير لمن أطاعه و لم يخالفه لأجل أهله و ماله.

قال الإمام الباقر عليه السّلام إن الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعلق به ابنه و امرأته و قالوا ننشدك اللّه أن تذهب عنا و تدعنا فنضيع بعدك، فمنهم من يطيع أهله

فيقيم فحذرهم اللّه أبناءهم و نساءهم و نهاهم عن طاعتهم و منهم من يمضي و يذرهم و يقول: أما و اللّه لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع اللّه بيني و بينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشي ء أبدا، فلمّا جمع اللّه بينه و بينهم أمره اللّه أن يحسن إليهم و يصلحهم فقال «و إن تعفوا و تصفحوا و تغفروا فإن اللّه غفور رحيم»

«1».

[17] فَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه، بامتثال أوامره مَا اسْتَطَعْتُمْ أي بقدر

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 372.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 436

[سورة التغابن (64): آية 17]

إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)

استطاعتكم فإنه لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها وَ اسْمَعُوا من الرسول ما يأمركم وَ أَطِيعُوا بعد ما سمعتم، و كأن المراد من السماع أن يستمعوا للعمل وَ أَنْفِقُوا من أموالكم في سبيل اللّه خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي إنفاقا خيرا، فإنه عائد لأنفسكم إذ تعطون بدله في الدنيا و الآخرة وَ مَنْ يُوقَ أي يحفظ شُحَّ نَفْسِهِ أي بخلها، بأن يحفظه اللّه سبحانه من البخل، فينفق كما أمر اللّه سبحانه فَأُولئِكَ المتصفون بتلك الصفات أو من وقي شح نفسه هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون، من أفلح بمعنى فاز و ظفر بالسعادة.

[18] ثم أن هذا المال الذي ينفقه الإنسان لا يذهب ضياعا بلا عوض بل هو بمنزلة قرض يقرضه الإنسان للّه سبحانه، فيرده عليه أضعافا مضاعفة إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن يكون الإنفاق للّه و في سبيله بلا منّ و لا رياء و لا سمعة و لا حب المدح و ما أشبه من مفسدات العمل يُضاعِفْهُ اللّه لَكُمْ أي يعطي بدله أضعافا، حتى أن الواحد

يصل عوضه إلى سبعمائة و أكثر وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم بسبب ذلك الإنفاق وَ اللَّهُ شَكُورٌ أي فاعل الشكر، فإن الإنسان الشاكر يثني المشكور و يبذل له عوض عمله، و هكذا اللّه سبحانه يمدح المعطي و يبذل له عوضه حَلِيمٌ فلا يعاجل العاصي بالعقوبة، فهو شاكر للمطيع، حليم عن العاصي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 437

[سورة التغابن (64): آية 18]

عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

[19] و هو يعلم كل إنفاق و عمل صالح، فلا يضيع الحسن عنده، فإنه عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما ظهر، أي السر و العلانية و المحسوس و غير المحسوس الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه فيقدر على كل شي ء الْحَكِيمُ الذي يفعل الأشياء حسب الحكمة و الصلاح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 438

65 سورة الطلاق مدنية/ آياتها (13)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه المادة «طلقتم» و غيره، و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام إلى جنب العقيدة، و حيث ختمت سورة التغابن بالتحذير من بعض النساء، ابتدأت هذه السورة ببعض أحكامهن.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله ليكون عونا لنا في مهامنا، فإنه خير مستعان إذ له العلم و القدرة و الحكمة، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة و لو كان الإنسان عاصيا له غير مطيع لأوامره، فهو يتفضل فوق الاستحقاق و يعين و إن لم يستحق المستعين الإعانة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 439

[سورة الطلاق (65): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ

نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)

[2] يا أَيُّهَا النَّبِيُ خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حيث أن خطاب العظيم يراد به هو و من معه جاء السياق بلفظ الجمع في قوله إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أي أردتم طلاق النساء، فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة، كما أن الإرادة تستعمل بمعنى الفعل- كما سبق- فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ أي وقت عدتهن، و هي كونهن في طهر غير المواقعة، فإن «العدة» بمعنى التعداد، و العدد، و «لام» لعدتهن، للتعدية، أي كون الطلاق في العدة التي هي أيام الطهر وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ أي أحسبوا أيام عدة المرأة التي إذا مرت خرجت من حبالة الزوج الأول و جاز أن تنكح رجلا جديدا وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ فلا تخالفوا أمره بالطلاق في حال الحيض، أو عدم إحصاء العدة حتى تبقى المطلقة تنتظر الانقضاء، لتكوين بيت جديد، و لا تعرف ذلك.

لا تُخْرِجُوهُنَ المطلقات مِنْ بُيُوتِهِنَ أي مساكنهن وقت الطلاق حتى تنقضي العدة، فإن سكناها ما دامت في العدة على الزوج وَ لا يَخْرُجْنَ هن من البيوت مدة العدة فإن خرجت بلا ضرورة أثمت إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ معصية فاحشة أي متجاوزة في الإثم مُبَيِّنَةٍ أي ظاهرة كالزنى، كما روي عن الصادق عليه السّلام «1»، فإذا زنت أخرجت عن البيت ليقام عليها الحد، و في بعض الروايات تفسيرها بأن

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 499.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 440

[سورة الطلاق (65): آية 2]

فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ

يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)

تؤذي أهل البيت بلسانها فإنها تخرج إلى محل آخر و ذلك لإيذائها «1» وَ تِلْكَ الأحكام التي ذكرت للطلاق حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بأن يخالف أحكامه فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي عرضها للعقاب و النكال، ثم بين سبحانه بعض الحكمة في الأحكام المتقدمة بقوله لا تَدْرِي النفس لَعَلَّ اللَّهَ سبحانه يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ العزم على الطلاق، أو بعد ذلك الطلاق، أَمْراً فإن تأخير الطلاق إلى الطهر الذي لم يواقع فيه ربما يغير من رأي الزوج، فلا يطلق و جعل العدة و عدم الإخراج من البيت ربما أوجب نزولهما عن الغضب الموجب للطلاق فيتراجعا عما قصدا من الطلاق.

[3] فَإِذا بَلَغْنَ النساء المطلقات أَجَلَهُنَ أي وصلن إلى رأس المدة- قبل انقضاء العدة- بأن بقيت من العدة شي ء، تخبر الرجل بين أن يرجع إليهن، أو يذرهن حتى تنقضي العدة فَأَمْسِكُوهُنَ إن أردتم الرجوع بِمَعْرُوفٍ أن تعاشروهن كما أمر اللّه سبحانه بالحسنى أَوْ فارِقُوهُنَ بأن تدعوهن على حالهن حتى تنقضي العدة بِمَعْرُوفٍ بدون إيذاء لها، و أخذ بعض أثاثها، أو إثارة قلاقل حولها كما هو من فعل الجهال. وَ أَشْهِدُوا إذا أردتم الطلاق ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 22 ص 220.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 441

[سورة الطلاق (65): آية 3]

وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3)

نفرين عادلين من المسلمين حتى يشهدان على الطلاق، و العدالة عبارة عن ملكة في النفس تبعث على الإتيان بالواجبات و الترك للمحرمات خوفا من اللّه سبحانه، و المعنى أنه يلزم حضور شاهدين عادلين عند إجراء صيغة الطلاق «و

ذوي» جمع أريد به الاثنان فما فوق، كما فسر في الأحاديث، وَ أَقِيمُوا أيها الشهود الشَّهادَةَ إذا احتاج أحد الطرفين إلى الإشهاد لِلَّهِ فلا تحرفوا فيها، فإن الأمر إذا جاء به الإنسان للّه، راقبه سبحانه، كي لا يزيد و لا ينقص ذلِكُمْ «ذا» إشارة و «كم» خطاب، أي ذلك الذي تقدم من إقامة الشهادة للّه، يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنه هو الذي يخاف اللّه و يقيم الشهادة للّه، أما غيره فلا يهتم بالحقيقة و هذا كناية عن أن الانحراف في الشهادة كاشف عن عدم الإتيان وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أي يخافه سبحانه، فيعمل حسب أوامره يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من مشاكله.

[4] فلا يظن الإنسان أنه إذا شهد بالحق وقع في المشكلة حيث يغضب عليه المبطل الذي يريد منه الشهادة بالباطل كما لا يزعم أنه يوجب قطع رزقه حيث أن المبطل ربما كان هو السبب في رزقه أو أن له القدرة في أن يسبب إلى ولي رزقه أن يمنعه عنه وَ يَرْزُقْهُ اللّه مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي من مكان لا يظن أن يأتي من ذلك المكان الرزق، و لصدق هذا الكلام شواهد كثيرة عند المجربين، و من الأمثلة البارزة الآن أمامي رجل قتل فاحشة طمعا في مالها و ألقاها في النهر، ثم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 442

[سورة الطلاق (65): آية 4]

وَ اللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)

أعطى مرتزقته الشركاء معه في الإثم أموالا لئلا يشهدوا عند القاضي و هددهم إن شهدوا، و انتشر

الخبر و جاء القاضي يحلف الشهود بالقرآن الكريم، فحلف الكل بالإنكار إلّا واحد منهم كان صاحبا لهذا المجرم، فإنه قال لا أحلف بالقرآن كاذبا، و شهد بالحق وفر من المجرم بعد «و من الغريب» أن القاضي حكم على المجرم بهذا الشاهد الواحد، و ابتلى الكل، إلا هذا الصادق فإنه تاب من أعماله السابقة و هو إلى اليوم في الحياة يمدحه من يعرفه، بينما أن أولئك سجنوا و غرموا، و مات بعضهم في شبابه.

وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي من يكل أموره إلى اللّه يكفيه كل مخوف و مشكلة و ينجيه من كل هلكة إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ

أي يبلغ ما يريده و لا يفوته شي ء من إرادته، فلا يزعم الزاعم أن وعده سبحانه يمكن فيه الخلف قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً أي مقدارا و تقديرا و تسير أموره حسب ذلك فإذا جعل تقدير المتقي الكفاية و الرزق لا بد و أن يكون كما أراد بلا خلف.

[5] ثم بين سبحانه مقدار العدة التي إذا انقضت حل للزوجة أن تنكح زوجا جديدا وَ اللَّائِي جمع التي أي النساء المطلقات اللائي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ أي يئسن من الحيض فلا يحضن مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في أمرهن فلا تدرون أن انقطاع الحيض لكبرهن و يأسهن أي بلوغهن سن اليأس، و هو خمسون في غير القرشية و النبطية،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 443

[سورة الطلاق (65): الآيات 5 الى 6]

ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى

يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6)

و ستون فيهما أم لعارض فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ فإذا أكملن الثلاثة خرجن من العدة، أما اليائسة فلا عدة لها إذ يجوز لها الزواج بزوج جديد بمجرد الطلاق وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ بعد لصغر السن، أو لمرض و غيره، كذلك عدتهن ثلاثة أشهر وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أي النساء الحاملات إذا طلقن أَجَلُهُنَ أي مدة انتظار عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ فإذا وضعن حملهن فقد انقضت العدة سواء طال الزمان بين الطلاق و الولادة أم قصر وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فلا يخالف أوامره يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي يسهل أموره حتى لا يقع في المشاكل، و حيث إن هذه الأحكام توجب كبت الغرائز بالنسبة إلى الرجل الذي يريد نكاحهن، و بالنسبة إليهن لفّها السياق بلفائف من التقوى تذكيرا و عظة، لئلا يزلق قدم المرأة أو الرجل المريد للنكاح في مهاوي المخالفة.

[6] ذلِكَ الذي ذكر من أحكام الطلاق أَمْرُ اللَّهِ و حكمه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لمصالحكم وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أي يخافه فلا يخالفه يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي يغفر له ذنوبه، فإن التكفير هو التغطية و الستر وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أي يعطيه الأجر العظيم و الثواب الجسيم في الآخرة.

[7] ثم بيّن سبحانه حال المطلقة في النفقة و السكنى، مدة العدة فقال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 444

أَسْكِنُوهُنَ أي النساء المطلقات في بيوتكم مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي مكانا من سكناكم و محلكم مِنْ وُجْدِكُمْ أي من ما تقدرون عليه، من وجد بمعنى قدر و تمكن، أي من سعتكم وَ لا تُضآرُّوهُنَ أي لا تسببوا ضررا عليهن في السكنى لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ أي

طالبين بالإصرار التضييق عليهن لإزعاجهن حتى يضطرون إلى الزوج.

وَ إِنْ كُنَ تلك المطلقات أُولاتِ حَمْلٍ أي حاملات فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ بالكسوة و الأكل و الشرب و ما أشبه حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ فإن انقضاء عدتهن بالوضع فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم بعد الوضع فَآتُوهُنَ أي أعطوهن أُجُورَهُنَ أي أجرة الإرضاع إذ الواجب على الوالد نفقة ولده وَ أْتَمِرُوا أيها الأبوان و المتعلقون بهما بَيْنَكُمْ بعضكم مع بعض في أمر إرضاع الولد بما هو الأصلح بحال الجميع لئلا يتضرر أحد من الأطراف الثلاثة الأب و الأم و الولد، و الائتمار قبول الأمر و ملاقاته بالتقبل بِمَعْرُوفٍ مقابل المنكر، فلا يكون التشاور بقصد الإضرار و إثارة الأحقاد و الكوامن، بل بقصد الإحسان و العدالة وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ أيها المتشاورون في أمر إرضاع الولد، بأن اختلفتم في أمر الأم المرضعة و مقدار الأجرة و ما أشبه ذلك فَسَتُرْضِعُ لَهُ أي للولد امرأة أُخْرى غير الأم، و المعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 445

[سورة الطلاق (65): آية 7]

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

فلتسترضع الولد امرأة غير الأم، و لعل فيه إشارة إلى معاتبة الأم بأنها لا ينبغي لها المعاسرة.

[8] ثم بين سبحانه أن المندوب على الوالد أن يوسع على المطلقة المرضعة، إن كان له سعة لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ، في المال مِنْ سَعَتِهِ بأن يوسع على المرضعة في الأجرة، ألم تكن زوجته، و أم ولده، و مرضعته؟ وَ مَنْ قُدِرَ أي ضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ بأن لم يكن للأب سعة فَلْيُنْفِقْ على المرضعة مِمَّا آتاهُ اللَّهُ بقدر التمكن الذي أعطاه اللّه سبحانه

ذلك فلا يطلب من مثل هذا الشخص الزيادة على أجرة المثل لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً أي أحدا إِلَّا ما آتاها أي بقدر ما أعطاه من الطاقة المالية، كما لا يكلف إلا بقدر الطاقة الجسدية و سائر الطاقات، و لا يغتم المملق بأنه ليس له، كما يكون الأب المملق كثيرا ما يتحسر على أنه لا يجد الزائد حتى يبذل لمربية ولده و مرضعته، فإنه سَيَجْعَلُ اللَّهُ في مستقبل الإملاق بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً بعد فقر غنى- و بعد ذلة عزة- و بعد انحطاط و رفعة و هكذا في سائر الأمور.

فإن الدهر مختلفا يدور فلا حزن يدوم و لا سرور و قد بنت الملوك به قصورا فما بقي الملوك و لا القصور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 446

[سورة الطلاق (65): الآيات 8 الى 10]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)

[9] و إذ بين الأحكام، جاء السياق ليبين، أن العاتي العاصي لهذه الأحكام و غيرها، مصيره مصير الأقوام السابقين، الذين أهلكوا بسبب طغيانهم و عتوهم وَ كَأَيِّنْ بمعنى- كم- الخبرية المفيدة للتكثير مِنْ قَرْيَةٍ من للتبيين و المراد البلدة عَتَتْ أي طغت عَنْ أَمْرِ رَبِّها فلم تطع أوامر اللّه سبحانه، و المراد أهل القرية، بعلاقة الحال و المحل وَ رُسُلِهِ أي عن أمر رسله، بأن لم يطيعوا رسل اللّه سبحانه فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً مقابل السماح في الحساب، فإن الإنسان المؤمن العامل بالصالحات يعفى عن جرائمه و يحاسب حسابا يسيرا، جزاء على

إيمانه و عمله، أما العاتي الطاغي، فإنه يحاسب على كل عمل عمله وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي عذابا منكرا أليما، و المراد بالمحاسبة في الملأ الأعلى حولهم لا محاسبتهم بالذات إذ الحساب إنما هو بعد الموت، و السياق يفيد كون حساب أولئك قبل عذابهم في الدنيا.

[10] فَذاقَتْ تلك القرية وَبالَ أَمْرِها أي عاقبة صنيعها الشر وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي خسرت الدنيا و خسرت الآخرة.

[11] ذلك في الدنيا و قد أَعَدَّ اللَّهُ أي بقي لَهُمْ أي لأهل القرية، عَذاباً شَدِيداً في الآخرة فَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن ألباب جمع لب، و هو العقل اتقوه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 447

[سورة الطلاق (65): آية 11]

رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)

سبحانه حتى لا ينزل بكم مثل ما نزل بأولئك الأمم الَّذِينَ آمَنُوا وصف لأولي الألباب، و إنما وصفهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بالتحذير قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً أي مذكرا يذكركم بأس اللّه و عذابه، و الانحراف بعد التذكير أقبح.

[12] ثم بين سبحانه الذكر المنزل بقوله رَسُولًا أي محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كونه منزلا، باعتبار أنه مبعوث من طرف اللّه سبحانه تشبيها للنزول المعنوي الحسي يَتْلُوا أي يقرأ هذا الرسول عَلَيْكُمْ أيها الناس آياتِ اللَّهِ أدلته و حججه التكوينية، في حال كونها مُبَيِّناتٍ أي في حال الآيات تبين و توضح الأمر و إنما يتلو لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و

ما جاء به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر و العصيان إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان و العمل الصالح، و إنما شبه الإيمان بالنور، لأنه ينير الإنسان ليدرك الحقيقة- في العقيدة و العمل- فمن زعم أنه لا إله أو للإله شريك فهو في ظلمة عن الحقيقة كالإنسان الذي في ظلمة الليل لا يدرك ما أمامه من الأشياء، و كذلك بالنسبة إلى من يشرب الخمر، يزعم أنها لا تضر، فإنه في ظلمة من الحقيقة، و قس على ذلك سائر الاعتقادات و الأعمال.

و قوله «الذين آمنوا» يراد بهم ذواتهم قبل الإيمان، و إنما جي ء الوصف للإشارة بهم لا أن المراد إخراجهم بعد الإيمان و العمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 448

[سورة الطلاق (65): آية 12]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (12)

الصالح، لأنهم مخرجون بعد ذلك حين الاتصاف- كما لا يخفى- وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا وَ يَعْمَلْ عملا صالِحاً الملازم لعدم العمل الفاسد يُدْخِلْهُ اللّه في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ من خمر و عسل و لبن و ماء في حال كونهم خالِدِينَ أي دائمين فِيها في تلك الجنات أَبَداً بلا نهاية و قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ أي لهذا الإنسان المؤمن العامل بالصالحات رِزْقاً إذ يعطى من ثمار الجنة و مياهها و أزواجها و سائر لوازم العيش الراقية.

[13] ثم بين سبحانه وصفه- ليخاف العاصي- و يطمئن المؤمن لوعده بقوله اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ لعل المراد بها مدارات الكواكب السيارة، أو ما أشبه وَ مِنَ الْأَرْضِ

مِثْلَهُنَ سبعا، و

قد قال الإمام الرضا عليه السّلام أرض تحيط بها سماؤها، ثم أرض تحيط بها سماؤها، إلى أن عدّ سبعة

، و تفصيل الكلام في كتاب- الهيئة و الإسلام-. «1» و ضمير «هن» تأتي للعاقل و غير العاقل كما سبق يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ أي أن أمر اللّه سبحانه يتنزل من كل سماء إلى أرضها، و هكذا حتى يصل الأرض الأخيرة، و إنما خلق سبحانه ما خلق، مما يشاهده

______________________________

(1) للعلامة الشهرستاني.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 449

الإنسان لِتَعْلَمُوا أيها البشر أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ قادر على العقاب و الثواب، كما قدر على خلق الأفلاك و الأرضين وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً فإن الخلق يدل على العلم، إذ لو لا العلم لم يمكن الخلق، كما أن سير الكون المشار إليه بقوله «يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ» دالّ على العلم، إذ التسيير محتاج إلى العلم الدقيق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 450

66 سورة التحريم مدنية/ آياتها (13)

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 499

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه المادة و هي قوله «لم تحرم» و هذه السورة كسائر السور المدنية، مشتملة على النظام إلى جنب العقيدة و حيث ذكرت في سورة الطلاق أحكام النساء، جاءت هذه السورة لبيان بعض الأمور التي ترتبط بهن.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الذي هو خير معين لمن استعان به، و هل أحق بالاستعانة منه، إنه المالك لكل شي ء الرحمن الرحيم الذي يتفضل باللطف و الإحسان، القادر لكل ما أراد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 451

[سورة التحريم (66): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ

رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)

[2] يا أَيُّهَا النَّبِيُ خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي لماذا تحلف لتحرم على نفسك بعض ما أحل اللّه لك، و قد كان التحريم للحلال بالحلف جائزا، لكن اللّه سبحانه بين للرسول أن حلفه حول هذا الموضوع محلولة- بهذا التعبير- تأنيبا لعائشة و حفصة اللتين آذتا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى حلف ما حلف.

فقد روى البخاري- صاحب الصحيح عند العامة- عن عائشة قالت كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش و يمكث عندها، فتوطأت أنا و حفصة على زينب إذ دخل عليها فلنقل له أكلت مغافير و هو صمغ حلو الطعم كريه الرائحة، إني أجد منك ريح مغافير، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا و لكن كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له، و قد حلفت لا تخبري بذلك أحدا

«1» تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ أي تطلب بالتحريم رضى زوجاتك، و قد سبق في بعض الآيات أن الأغراض قد تأتي لا للمخاطب بل تقريع الغير وَ اللَّهُ غَفُورٌ يستر على عباده، فإن تحلة اليمين، تحتاج إلى التحلة حتى لا يقال كيف خالف الرسول حلفه، و حنث رَحِيمٌ يتفضل بالرحم، علاوة على الغفران.

[3] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ الظاهر كون الخطاب للرسول، و إنما أتى بصيغة الجمع احتراما، و قد تقدم سابقا، أن الجمع و المفرد يتناوبان في حمل

______________________________

(1) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ج 1 ص 294.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 452

[سورة التحريم

(66): آية 3]

وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)

أحدهما على الآخر، لنكتة بلاغية، أي أوجب عليكم تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ بأن تحلوها فلا تتبعون مفادها، و المراد أن يشرب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العسل فهو له حلال، و إن اللّه قد أحل حلفه التي حلفها أنه لا يشرب العسل طلبا لرضى بعض نسائه وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ فإذا حل اليمين فقد انحلت كما أن للمولى الحق في أن يحل يمين العبد وَ هُوَ الْعَلِيمُ بمصالحكم الْحَكِيمُ فيما يأمر و ينهي، فإذا عرف الصلاح في شي ء كان كما أمر فشرب العسل حلالا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فيه الحكمة و الصلاح.

[4] ثم يأتي السياق ليشير إلى طرف من القصة بقوله سبحانه: وَ اذكر يا رسول اللّه، و لعل ذلك لإفادة أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف كان يؤذى من قبل أزواجه كما كان يؤذى من قبل أناس آخرين تفضيحا لهن في إيذائهن للرسول، إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً أي حدثها سرا لتحريم العسل على نفسه- و المراد ببعض الأزواج- عائشة- أو حفصة- و لعل إسرار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان لأجل أن لا يقول الناس إنه يحرم شيئا على نفسه لمجرد رضى زوجته فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت تلك الزوجة امرأة أخرى بذلك الحديث السري، فقد ورد عن طريق العامة إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبر عائشة بحلفه و أمرها بالإسرار

لكنها خالفت و أخبرت حفصة وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي أطلع اللّه نبيه على ما جرى منها في إفشاء سره عَرَّفَ الرسول «عائشة» بَعْضَهُ أي بعض ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 453

[سورة التحريم (66): آية 4]

إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)

ذكرت «لحفصة» أراد بذلك بيان أنها خالفته في إفشاء سره وَ أَعْرَضَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَنْ بَعْضٍ فإن من محامد الأخلاق أن لا يذكر الإنسان جميع جريمة المجرم و إنما يلمح إليها تلميحا تأديبا فإن التغافل من خلق الكرام.

فَلَمَّا نَبَّأَها أي أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عائشة بِهِ أي بما أعلمه اللّه سبحانه له من إفشائها سره عند «حفصة» قالَتْ «عائشة» متعجبة من علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإفشائها سره مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي من أخبرك بأني أفشيت سرك يا رسول اللّه قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جوابها نَبَّأَنِيَ أي أخبرني الْعَلِيمُ بجميع الأمور الْخَبِيرُ بدقائقها، فإن الخبير غالبا ما يطلق على العالم النحرير المطلع على دقائق الأمور.

[5] ثم توجه الخطاب إلى «عائشة» و «حفصة» اللتين دبرتا هذه المؤامرة مهددا لهما بقوله إِنْ تَتُوبا أيتها المرأتان إِلَى اللَّهِ بأن تستغفرا مما سلف منكما من إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التظاهر ضده و الافتراء عليه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي مالت إلى الإثم و الباطل، من «صغى» بمعنى مال و قد جرت القاعدة على أن التثنية إذا أضيفت إلى التثنية جاز في المضاف

الجمع- نحو قلوبكما- و هو الأفضل و الإفراد، و هو الأوسط، و التثنية و هو الأدون.

وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أي تتظاهرا، حذفت إحدى تائيه للقاعدة في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 454

[سورة التحريم (66): آية 5]

عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً (5)

باب المضارع إذا اجتمع في أوله تاءان، و التظاهر هو أن يقوّي بعض ظهر بعض بالتوحيد بينهم لمطالبة أمر، أو لمضادة أمر فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي ناصر الرسول يتولى حفظه و حياطته حتى لا يؤثر فيه المكر و المكيدة وَ جِبْرِيلُ معين للرسول، بإخباره عن قبل اللّه بما يراد ضده وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أي خيار المؤمنين، و المراد ب «صالح» الجنس، يعني أنهم ينصرون الرسول ضد المؤامرات و المظاهرات وَ سائر الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما تقدم من نصرة اللّه و جبرئيل و المؤمنين ظَهِيرٌ للرسول يقوون ظهره، و الإتيان بالمفرد، و صفا للجمع باعتبار كل واحد واحد، نحو فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ «1» و وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «2» و قد تقدم أن كلّا من المفرد و الجمع يقوم مقام الآخر، باعتبار بلاغي.

و قد حذف جواب الشرطين، و التقدير «أن تتوبا إلى اللّه كانت التوبة في موقعها إذ قد صغت» «و إن تظاهرا عليه، لا يضره التظاهر، إذ اللّه مولاه».

[6] ثم جاء السياق ليقلل من أهميتهما، فإن للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يطلقهما، حتى تبوءا بعار المؤامرة و الطلاق و لا يبقى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلا زوجة فإن اللّه يزوجه بمن هي خير منهما عَسى رَبُّهُ

أي لعل اللّه سبحانه و لعل ليس للرجاء، بل بمعنى الاحتمال الراجح إِنْ طَلَّقَكُنَ المراد إما

______________________________

(1) البقرة: 260.

(2) النساء: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 455

[سورة التحريم (66): آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)

الاثنتان، أو الكل، أو من اشتركت في المؤامرة فإن الحديث تفشى في غيرهما أيضا أَنْ يُبْدِلَهُ أي يعوض للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ في الإيمان، و في مراعاة حقوق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم وصف تلك أزواجا بما فيه تعريض بهن مُسْلِماتٍ كاملات الإسلام مُؤْمِناتٍ مصدقات باللّه و الرسول، و الإسلام هو الاستسلام، فالإيمان أخص منه، كما قال قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «1». قانِتاتٍ مطيعات للّه، خاضعات للرسول تائِباتٍ عن المعاصي التي تصدر منهن أحيانا، فلا إصرار لهن على الذنب عابِداتٍ يعبدن اللّه سبحانه فوق القدر اللازم المفروض من العبادة سائِحاتٍ أي صائمات- كما

ورد:

سياحة أمتي الصوم

«2»- أو ماضيات في أمر اللّه و الرسول كالسائح الذي يضرب في الأرض ثَيِّباتٍ قد رأين الزوج قبل الرسول وَ أَبْكاراً أي عذارى لم يكن لهن أزواج- كما أنتن حين دخلتن بيت الرسول كنتن على قسمين-.

[7] ثم توجه السياق إلى الناس موجبا لهم تأديب نسائهم، قالوا و قد تدرجت الفريضة في البلاغ من النفس إلى العموم حسب الإمكان في خمس آيات و هي النفس أولا بقوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ «3» و الأهل ثانيا بقوله: آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ

وَ أَهْلِيكُمْ ناراً «4»

______________________________

(1) الحجرات: 15.

(2) مستدرك الوسائل: ج 16 ص 54.

(3) المائدة: 106.

(4) التحريم: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 456

و العشيرة ثالثا بقوله: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» و أهل البلدة رابعا بقوله وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ «2» و أهل العالم أجمع خامسا بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «3» و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسوة، و بقوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ «4».

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أمر للجمع المذكر، من «وقى» بمعنى حفظ، أي احفظوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ و هو عائلة الإنسان من أولاده و زوجته و أخوته و من شابههم ناراً عن نار جهنم التي هي بهذه الصفة وَقُودُهَا أي حطبها الموجب لإيقادها و إشعالها النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ و هما يزيدان في قوة النار لدسومة الأول و صلابة الثاني عَلَيْها أي المأمورون على تلك النار مَلائِكَةٌ جمع ملك و أصله من الألوكة، بمعنى الرسالة لأن الملائكة رسل من قبله سبحانه إلى الأنبياء غِلاظٌ جمع غليظ و كأن المراد غليظ القلب فلا يرحم أحدا شِدادٌ جمع شديد، و كأن المراد شديد البنية و القوة، فما أراد تمكن منه لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ من عذاب أهل النار، فلا يرتشون و لا يميلون نحو الكفار مخالفة للّه سبحانه وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ من قبل اللّه سبحانه، و هذا تأكيد لما سبق بأنهم لا يعصون.

______________________________

(1) الشعراء: 215.

(2) التوبة: 122.

(3) سبأ: 29.

(4) آل عمران: 105.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 457

[سورة التحريم (66): الآيات 7 الى 8]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا

إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (8)

[8] و إذ دخل الكفار النار، أخذوا يعتذرون على سالف أعمالهم فيقال لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا في الدنيا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ و أنتم في النار إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهذه النار جزاء أعمالكم السالفة، و لا يفيد الاعتذار.

[9] و إذ قد سمعتم أيها المؤمنون بكيفية النار، فاللازم أن تتوبوا- و أنتم في الدنيا- عن معاصيكم لئلا تدخلوها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ من معاصيه و ارجعوا إلى طاعته، و تخصيص الخطاب بهم لأنهم المنتفعون به.

تَوْبَةً نَصُوحاً أي خالصة لوجه اللّه سبحانه، بمعنى بالغة في النصح و هو صفة التائب لأنه ينصح نفسه بالتوبة و إسناده إلى التوبة مجاز، فإن الإنسان نصوح في التوبة، و التوبة النصوح هي عبارة عن أن يندم الإنسان أشد الندم على المعصية و يعزم أقوى العزم على ترك مثلها في المستقبل، و يأتي بلوازم التوبة من القضاء و الكفارة ورد الحقوق و ما أشبه عَسى رَبُّكُمْ أي لعل اللّه سبحانه إذا تبتم أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ أي يستر و يمحي سَيِّئاتِكُمْ أي معاصيكم، و سمى العصيان سيئة لأنها تسي ء إلى الإنسان وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ من عسل و خمر و لبن و ماء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 458

[سورة التحريم (66): آية 9]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ

وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

و يكون إدخال التائب الجنة في يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي لا يذلهم بدخول النار، و كان الإتيان بهذه الجملة للترغيب في إدخال الإنسان نفسه في هذه الزمرة المفضلة.

نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ فإن وجوههم و أيديهم اليمنى- التي تحمل الكتاب- تشع نورا يخرق ظلمات المحشر، فإذا تحرك المؤمن كان النور يسبقه من أمامه و من طرفه الأيمن يَقُولُونَ مخاطبين للّه سبحانه رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا بأن يضاعف و يكثر، أو يستمر حتى آخر القيامة فلا يطفأ، أو هو دعاء منهم في الدنيا، بأن يوفقهم لما يكثر نورهم، و يبقيه فلا يزول عنهم بالكفر و العصيان وَ اغْفِرْ لَنا معاصينا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من إتمام نورنا و غفران ذنوبنا، و سائر ما تريده و هذا مدح له سبحانه في ضمن الدعاء، فإنّ الدعاء المتضمن على الثناء أقرب إلى القبول.

[10] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالقتال و المحاربة وَ الْمُنافِقِينَ بالزجر و الردع وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي اشدد عليهم في الجهاد و الزجر، فإن اللين إنما هو للمستقيم المعتدل، أما المنحرف فاللازم معه الشدة حتى يستقيم وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي مصيرهم، من «آوى» بمعنى اتخذ المنزل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 459

[سورة التحريم (66): آية 10]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المأوى جهنم لهم، لما فيها من العذاب و النكال.

[11] ثم جاء السياق ليضرب مثلا لأزواج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبينا أن

صلاح الزوج لا ينفع الزوجة إذا كانت منحرفة، كما أن فساد الزوج لا يضر الزوجة إذا كانت مستقيمة، منقادة، على طاعة الرسول و عدم الهوى في مهوى العصيان و المخالفة ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا مبينا لهم أن صلاح أصحابهم و ذويهم لا ينفعهم امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ فقد كانَتا تَحْتَ إدارة و عيلولة عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا هما نوح و لوط صالِحَيْنِ فهما رسولان من قبل اللّه سبحانه و أي صلاح أشد من ذلك فَخانَتاهُما خيانة في الدين، إذ كانتا تنافقان و تؤذيان زوجيهما.

فَلَمْ يُغْنِيا أي لم ينفع نوح و لوط عَنْهُما أي عن الزوجتين مِنْ عذاب اللَّهِ شَيْئاً بأن يخفف عنهما، و لو بعض العذاب وَ قِيلَ للزوجتين حين ماتتا ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ فيها، فهما معذبتان مع كونهما زوجتا نبيين، و في هذا تعريض بعائشة و حفصة اللتين آذتا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 460

[سورة التحريم (66): الآيات 11 الى 12]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)

[12] وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا بيانا لأن الإيمان ينفع صاحبه و إن كان امرأة تحت أكفر الناس امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ آسية بنت مزاحم التي آمنت بموسى و كان زوجها يدعي الربوبية، و يقول أنا ربكم الأعلى إِذْ قالَتْ في مناجاتها للّه تعالى يا رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فإني لا أرغب

في بيوت الدنيا و لا أعمل لها وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ فإنه كان يعمل بالكفر و العصيان وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أتباع فرعون و حاشيته، فاستجاب اللّه دعاءها، فقبضها و أدخلها الجنة، و لم يكن يضرها عمل زوجها.

[13] كما مثل سبحانه للمؤمنين بامرأة أخرى لم يضرها قول الناس فيها، بعد أن كانت طاهرة و نقية دلالة على أن عمل الغير و قوله السي ء لا يؤثر في المؤمن شيئا بعد أن كان هو بنفسه مؤمنا صالحا وَ ضرب اللّه مثلا للذين آمنوا مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي حفظته من البغاء، و فيه تكذيب أعداء اللّه اليهود إذ قالوا فيها ما هم أحق به و أحرى.

فَنَفَخْنا فِيهِ أي في فرجها مِنْ رُوحِنا أي الروح المضاف إلينا- تشريفا- و ذلك كإضافة البيت إليه سبحانه، في قولنا «بيت اللّه» و المراد به المسيح عليه السّلام و كون النفخ فيه باعتبار خروج الولد منه، أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 461

الضمير عائد إلى «الجسم» أي في جسمها أو «الجيب» أي في جيبها، المعلوم من الخارج، و قد كان النافخ فيه جبرئيل عليه السّلام بأمره سبحانه وَ صَدَّقَتْ مريم بِكَلِماتِ رَبِّها أي بما تكلم اللّه به و أوحاه إلى أنبيائه من الأصول و الفروع وَ كُتُبِهِ النازلة على الرسل وَ كانَتْ مِنَ جملة الْقانِتِينَ الخاضعين للّه سبحانه، فإنها كانت في بيت المقدس في جملة العباد و الزهاد و لذلك قال «القانتين» و لم يقل القانتات.

فعلى المرأة إن كانت ذات زوج أن تقتدي بامرأة فرعون، و إن لم تكن ذات زوج أن تقتدي بمريم الصديقة عليهم السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 463

تقريب القرآن الى الأذهان الجزء

التاسع و العشرون من آية (1) سورة الملك إلى آية (51) سورة المرسلات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 464

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 465

67 سورة الملك مكية/ آياتها (31)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الملك»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث، و حيث ختمت سورة التحريم بكون الصلة لا تنفع و لا تضر و إنما النافع و الضار العمل، افتتحت هذه السورة بأن الإنسان في معرض الامتحان ليظهر المطيع من العاصي.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم اللّه الذي هو الأول في الكون، الخالق لكل شي ء، ليطابق الابتداء باسمه كونه المبدأ و الأول الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد في الدنيا و في الآخرة بتكميل نواقصهم و غفران ذنبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 466

[سورة الملك (67): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3)

[2] تَبارَكَ من «برك» أي دام في خير و مصدر خير، و منه البركة الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فهو المالك المطلق لكل شي ء في الكون و ملك ما عداه إنما هي بتمليكه إياه، و قوله «بيده» من باب تشبيه المعقول بالمحسوس وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ قادر على إيجاده و إفنائه و التصرف فيه كيف يشاء.

[3] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ فإن الموت

إما أمر وجودي، أو عدم ملكة، و كلاهما مخلوق، فإن عدم الملكة له حظ من الوجود كما تقرر في علم الكلام، و إنما خلق الموت و الحياة لِيَبْلُوَكُمْ من «بلاه» بمعنى اختبره، أي ليختبركم أيها البشر أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا من الآخر، و اللّه سبحانه عالم بالإنسان، و إنما الامتحان لتطبيق علمه على الخارج، و إلا فهو غني عن الاختبار، و تعليل الحياة و الموت للاختبار باعتبار أن الموت داع إلى حسن العمل و موجب لعدم الوثوق بالدنيا و لذاتها الفانية و الحياة توجب قدرة الإنسان على الأعمال الصالحة وَ هُوَ سبحانه الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْغَفُورُ الذي يغفر لمن أذنب إذا تاب، فأنتم أيها البشر في قبضته بمقتضى كونه «عزيزا»، فاستغفروه يغفر لكم بمقتضى كونه «غفورا».

[4] و هو الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً واحدة فوق الأخرى مطابقة لها، بلا تفاوت و اعوجاج ما تَرى أيها الرائي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 467

[سورة الملك (67): الآيات 4 الى 5]

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4) وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)

فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ و اختلاف، من جهة أن الجميع مخلوقة بدقة و إتقان و كمال لائق به فَارْجِعِ الْبَصَرَ أي رده إلى الكون، بعد أن كان سابقا إليه، و كأنه كان ناظرا بلا التفات إلى هذه الجهة، فقيل له رد بصرك بقصد التفحص و البحث هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟ أي شقوق و فوق كالبناء الذي ينفطر لخلل فيه، فهل في الكون خلل يدل على الوهن و الضعف أم كل شي ء وضع في محله اللائق به حسب الحكمة و

الصلاح؟

[5] ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرة بعد كرة و المراد مكررا إذ لعل البصر اشتبه في المرة الأولى فلم ير فتقا- فإن الإنسان إذا كرر النظر إلى شي ء أدرك خللّه- فانظر إلى الكون مرة أخرى فاحصا عن الخلل، لكن لا تجده بل يَنْقَلِبْ أي يرجع إِلَيْكَ أيها الإنسان الْبَصَرَ الذي سرحته في الكون خاسِئاً قد خسأ و طرد و عجز عما طلبه- من الفتق- وَ هُوَ حَسِيرٌ قد حسر، أي كلّ وعيّ و لم يجد خللا و وهنا و ما يوجد من الأمراض و ما أشبه إنما هو للامتحان و العبرة لا لنقص في الخلق.

[6] وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي جمّلنا السماء القريبة من الأرض- و هذا لا يدل على عدم تزيين سائر السماوات، إذ لا مفهوم للّقب و إنما التخصيص لأنه المدرك المشاهد- بِمَصابِيحَ جمع مصباح، و المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 468

[سورة الملك (67): الآيات 6 الى 8]

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)

به الكواكب وَ جَعَلْناها أي جعلنا تلك المصابيح رُجُوماً مراكز للرجم لِلشَّياطِينِ فإن الشيطان إذا اقترب من مراكز الملائكة في الملأ الأعلى ليسترق بعض الكلمات رجم بالشهب من النجوم، فإن النجوم مراصد ينظر منها إلى الشياطين حتى إذا اقتربوا رجموا، كما سبق في بعض السور وَ أَعْتَدْنا أي هيّأنا لَهُمْ أي للشياطين المسترقين للسمع عَذابَ السَّعِيرِ أي عذاب النار المستعرة الملتهبة، إما بالرجوم، و إما في الآخرة في النار.

[7] و كما هيّأ العذاب للشياطين كذلك هيّأ للكفار وَ لِلَّذِينَ

كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ بأن أنكروه أو وصفوه بما لا يليق به عَذابُ جَهَنَّمَ مبتدأ، خبره «للذين» وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي المآل و المرجع، اسم مكان من «صار».

[8] إِذا أُلْقُوا أي الكفار، ألقاهم الملائكة فِيها أي في جهنم سَمِعُوا لَها أي لجهنم شَهِيقاً أي صوتا فضيعا كصوت الحمار و إنما تشهق لتدخل في قلوب الكفار الهول و الرعب وَ هِيَ تَفُورُ فوران القدر إذا غلى، و ذلك مما يزيدها هولا.

[9] تَكادُ أي تقرب جهنم تَمَيَّزُ أي تتقطع مِنَ الْغَيْظِ أي شدة الغضب و كثرة اللّهب و الفوران، و هذا تمثيل لشدة اشتعالها، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 469

[سورة الملك (67): الآيات 9 الى 11]

قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)

الإنسان إذا غضب يكاد ينفجر و يتشقق بعض جلده، و كذلك النار تكاد تتفرق لشدة استعارها كُلَّما أُلْقِيَ فِيها أي في جهنم فَوْجٌ أي جماعة من الكفار و العصاة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أي الملائكة الموكلون بالنار، جمع «خازن» أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيها المجرمون نَذِيرٌ ينذركم و يخوفكم من هذه النار؟ و الاستفهام للتبكيت و التقريع.

[10] قالُوا أي أهل النار في جواب الخزنة بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ رسول أو مبلغ عن اللّه سبحانه فَكَذَّبْنا هذا اليوم و ما قاله النذير وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ من كتاب أو تشريع إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيها المنذرون إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ حيث تزعمون أنكم رسل اللّه، و إن اللّه أنزل إليكم الحكم و التشريع.

[11] ثم

يعترف أهل النار بأنهم لم يعملوا عقولهم في الدنيا، حتى ابتلوا بهذا العذاب وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلام المنذرين أَوْ نَعْقِلُ أي نعمل عقولنا لنميز بين الحق و الباطل بالإسماع، فإن الإنسان إذا أعمل عقله لا بد و أن يدرك الحق في الجملة و لو لم يسمع شيئا ما كُنَّا في هذا اليوم فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ اسم لجهنم لاستعار نارها.

[12] فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ الذي أدخلهم النار، في الوقت الذي لا ينفع الإقرار فَسُحْقاً أي بعدا، و هذا دعاء عليهم أي أبعدهم اللّه بعدا عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 470

[سورة الملك (67): الآيات 12 الى 14]

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

النجاة لِأَصْحابِ السَّعِيرِ الملازمين لها.

[13] أما المؤمن الذي عمل صالحا فهو في خير و سعادة إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ يخافونه فلا يعصونه بِالْغَيْبِ في حالة كونه سبحانه غائبا عن حواسهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي غفران لذنوبهم التي صدرت منهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ثواب جزيل.

[14] ثم يأتي السياق ليبين علم اللّه سبحانه بكل ما يصدر من الإنسان من قول سواء كان جهرا أو سرا وَ أَسِرُّوا أيها الناس قَوْلَكُمْ الذي يدور في صدوركم، بأن تقولونه سرا أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ف إِنَّهُ سبحانه يعلم ذلك قبل أن يخرج إلى عالم الألفاظ، إذ هو عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأشياء التي تدور في صدر الإنسان، و إنما قال «الصدور» لأن القول في القلب و القلب في الصدر، فمن يعلم ما في الصدر لا يعلم اللفظ؟

[15] أَ لا يَعْلَمُ الخفايا و الظواهر مَنْ خَلَقَ

الخلق؟ و هذا استفهام إنكاري، أي كيف لا يعلم اللّه الأشياء و هو الخالق وَ هُوَ اللَّطِيفُ أي العالم بما لطف و دق، و الشي ء اللطيف هو الذي ينفذ في الأشياء بسهولة و يسر، و توصيفه سبحانه به باعتبار نفوذ علمه و قدرته الْخَبِيرُ المطلع على الأشياء، و هو أدق معنى من «العالم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 471

[سورة الملك (67): الآيات 15 الى 16]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)

روى إن المشركين كانوا يقولون عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأقوال السيئة و كان جبرئيل عليه السّلام يخبره بما قالوا، فإذا أراد أحدهم التحدث حوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لئلا يطلع محمد، فنزلت هذه الآيات

«1».

[16] هُوَ اللّه الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ أيها البشر الْأَرْضَ ذَلُولًا أي سهلة مسخرة، للبناء و الزرع و دفن الأموات و السير و إجراء الأنهر و القنوات، و غيرها، من «ذل» بمعنى خضع و لان فَامْشُوا أيها البشر فِي مَناكِبِها جمع منكب و المراد به الطريق وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الذي حصلتم عليه بالزرع و نحوه وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ أي إن بعثكم إليه سبحانه، فهو المبدأ و المآل، و معنى «إليه» إلى حسابه و جزائه.

[17] ثم بعد التذكير بنعم اللّه ليشكر البشر، جاء السياق للتهديد بأنهم إن بقوا في الكفر و العصيان كانوا مظنة للعذاب و النكال- و السائق للناس إلى الخير إما النعمة أو النقمة- أَ أَمِنْتُمْ أي هل أمنتم أيها البشر من مَنْ فِي

السَّماءِ من الملائكة الموكلين بأموركم من قبله سبحانه أَنْ يَخْسِفَ فاعله «من في السماء» بِكُمُ الْأَرْضَ حتى تنهار الأرض في الأعماق معكم، كما فعل بقارون و قوم لوط. و يحتمل أن يراد

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 76.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 472

[سورة الملك (67): الآيات 17 الى 19]

أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ (19)

ب «من في السماء» اللّه سبحانه، و كونه في السماء باعتبار أن أمره إلى الأرض يصدر من هناك، كما قال سبحانه وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ «1» و قال وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ «2» فَإِذا هِيَ أي تفاجئون بأن الأرض تَمُورُ أي تضطرب و تتحرك، من «مار» بمعنى تحرك و اضطرب.

[18] أَمْ أَمِنْتُمْ أيها البشر، من مَنْ فِي السَّماءِ على أحد المعنيين أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ إن تماديتم في الكفر و العصيان حاصِباً أي ديما ذات حجارة، تحصبكم كما حوصب قوم لوط، و تذكير «حاصب» باعتبار تقدير «شيئا» فَسَتَعْلَمُونَ حين ذاك كَيْفَ نَذِيرِ أي كيف كان إنذاري بالعذاب صدقا.

[19] و ليس ذلك ببعيد من الكفار، ألم يعرفوا أن الأمم السابقة حيث كذبوا ابتلوا بمثل هذا العذاب وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بآيات اللّه و رسله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟ أي إنكاري عليهم حيث عذبوا بأنواع العذاب، من غرق و خسف و حصب و غيرها.

[20] و كيف ينكر هؤلاء وجود اللّه أو قدرته و هم يرون الآيات الكونية بأعينهم؟

أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ في السماء

______________________________

(1) الزخرف: 85.

(2) الذاريات: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 473

[سورة الملك (67): آية 20]

أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)

صافَّاتٍ تصف أجنحتها فوق رؤوسهم في حال الطيران وَ يَقْبِضْنَ أجنحتهن بعد البسط، فذات مرة صافات، و ذات مرة يقبضن و هو الدفيف، و الطير جنس و لذا جي ء وصفه بالجمع، كما أن الجمع بالنون يأتي للعاقل و غيره كما مر سابقا.

ما يُمْسِكُهُنَ أي يحفظهن في الهواء في صفيف أو دفيف إِلَّا الرَّحْمنُ الذي يتفضل بالرحم لكل شي ء، فمن يا ترى أعطى الطير هذه القدرة، و أعطى الهواء قابلية الحمل غير اللّه سبحانه؟ إِنَّهُ سبحانه بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ فيعرف المناسب لكل شي ء و الصالح لكل شي ء فيعطي حسب الصلاح و الحكمة، و حسب بصيرته سبحانه أعطى الطير هذه القدرة و السماء هذه القابلية، و «بصير» هنا بمعنى الخبروية في الأمور لا بمعنى النظر.

[21] أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ «أم» منقطعة و «من» استفهام مبتدأ، و «هذا» مبتدأ ثان، و «الذي» خبره، و «هو جند لكم» مبتدأ و خبر، و المجموع صلة الذي يَنْصُرُكُمْ صفة «جند» و الاستفهام إنكاري، و المعنى من هو الذي تزعمونه جندا لكم ينصركم يوم القيامة من عذاب اللّه؟ ... و المراد أنه لا جند لكم هذه صفته مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ و كأنه يقال للكفار بأي قوة تعصون اللّه؟ أ لكم جند يدفع عذاب اللّه، حتى تعتمدون عليه في عصيانه؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 474

[سورة الملك (67): الآيات 21 الى 23]

أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ

وَ نُفُورٍ (21) أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23)

ثم يأتي السياق ليبين أنه لا جند للكفار، و إنما غرتهم الحياة الدنيا إِنِ الْكافِرُونَ أي ليس الكافرون إِلَّا فِي غُرُورٍ قد غرهم الشيطان بأنه لا عذاب و لا نكال، فاعتمدوا عليه في الكفر و العصيان.

[22] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ فهل هناك أحد يعطيكم الرزق إِنْ أَمْسَكَ اللّه رِزْقَهُ حتى يقوم ذلك الرازق مقام اللّه في الإعطاء و إذ لا رازق غيره فكيف تعصون اللّه و لا تخافون أن يقطع رزقكم فتبقون بلا رزق و لا طعام بَلْ إنهم يعلمون أن لا رازق غيره، و إنما لَجُّوا أي استمروا في اللجاج و المخالفة فِي عُتُوٍّ أي تعد عن الحق، من «عتى» وَ نُفُورٍ أي تنفر عن الإسلام و الحق.

[23] أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى بأن يكون وجهه و بطنه على الأرض يمشي بكل صعوبة، هل هذا الشخص أحسن و أعلم بالطريق أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مستويا مستقيما، على رجليه، و هو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريق موصل إلى السعادة في أقصر مسافة، فالكافر كمن يمشي مكبا على وجهه، إذ طريقه وعر صعب لا يعرف الخلاص من المشاكل و المكاره، بخلاف المؤمن الذي يرى طريقه و يسهل عليه المشي و يصل إلى الغاية المتوخاة في أقرب وقت.

[24] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الجاحدين للّه، و الذين يجعلون معه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 475

[سورة الملك (67): الآيات 24 الى 26]

قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتى

هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

شريكا هُوَ اللّه وحده الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم أيها البشر وَ جَعَلَ لَكُمُ أي لمنفعتكم السَّمْعَ أريد به الجنس وَ الْأَبْصارَ أي العيون وَ الْأَفْئِدَةَ جمع «فؤاد» و هو القلب، و كأن توحيد السمع و تجميع الأبصار و الأفئدة للتفنن في التعبير قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «ما» مصدرية، أي قليلا شكركم، بعد إعطائه سبحانه لكم هذه النعم العظام.

[25] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء هُوَ اللّه وحده الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم بالتناسل و التوالد فِي الْأَرْضِ و أسكنكم إياها وَ إِلَيْهِ أي إلى حساب اللّه و جناته تُحْشَرُونَ أي تبعثون و تجمعون في يوم القيامة فمنه المبدأ و إليه المعاد.

[26] وَ يَقُولُونَ أي الكفار المنكرون للمعاد مَتى هذَا الْوَعْدُ أي في أي زمان يكون البعث إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون صادِقِينَ في أن هناك حشرا و جزاء؟

[27] قُلْ يا رسول اللّه في جواب هؤلاء السائلين عن وقت المعاد إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت القيامة عِنْدَ اللَّهِ فهو العالم به وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ لكم أنذركم و أخوفكم عن مجيئه حيث تعذبون إن بقيتم على الكفر و العصيان مُبِينٌ واضح ظاهر، أنذركم بكل وضوح و جلاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 476

[سورة الملك (67): الآيات 27 الى 28]

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28)

[28] فَلَمَّا رَأَوْهُ أي رأوا العذاب زُلْفَةً أي قريبا، من «زلف» بمعنى قرب، و المراد من «رأوا» المستقبل، و إنما نزل منزلة الماضي لتحقق وقوعه، نحو

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ «1» سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي علت وجوههم الكآبة، و ظهرت عليها آثار الخوف و الحزن من «ساء» وَ قِيلَ للكفار، و القائل الملائكة و الرسل و المؤمنون حين يرى الكفار العذاب هذَا هو العذاب الَّذِي كُنْتُمْ أيها الكفار بِهِ تَدَّعُونَ أي تطلبون و تستعجلون من الدعاء، قالوا «تدعون» و «تدعون» بمعنى، فقد كان الكفار يقولون «مَتى هذَا الْوَعْدُ»؟ و يطلبون عجلة العذاب استهزاء.

[29] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ أي أماتني وَ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين قبل تعذيبكم أَوْ رَحِمَنا بتأخير الموت عنا لنرى عذابكم فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي أن موتي لا ينفعكم في عدم نزول العذاب بكم، فقد كانوا يتمنون موت الرسول و المؤمنين ليستريحوا إلى كفرهم و أصنامهم، فجاء السياق ليبين أن موت الرسول لا يفيدهم في إجارتهم من عذاب اللّه الذي استحقوه بسبب الكفر و الآثام.

______________________________

(1) الكهف: 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 477

[سورة الملك (67): الآيات 29 الى 30]

قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)

[30] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار هُوَ الرَّحْمنُ الذي ندعو إليه آمَنَّا بِهِ و صدقنا وجوده و صفاته و أوامره و وعوده وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا في أمورنا و فوضنا إليه حوائجنا فَسَتَعْلَمُونَ أيها الكفار في يوم القيامة مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ و انحراف مُبِينٍ واضح؟ هل نحن أم أنتم؟

[31] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار، و كيف تكفرون باللّه، و الحال أن «ماءكم» الذي به حياتكم تحت أمره و تصرفه حتى

لو شاء قطعه عنكم لهلكتم عطشا؟ أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا في الأرض بحيث لا تتمكنون من إخراجه فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي ظاهر للعيون، أو بمعنى جار سهل التناول؟ فهل هناك أحد غير اللّه يأتيكم بالماء؟ و إذ لا أحد إلا اللّه لذلك فكيف تعرضون عنه و تكفرون به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 478

68 سورة القلم مكية/ آياتها (53)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «القلم»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث: الألوهية و الرسالة و المعاد، و إذا ختمت سورة «الملك» بذكر الكفار و تكذيبهم، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، فقد أجلّ القارئ «اللّه» سبحانه من أن يستعين به و إنما استعان باسمه، نحو «لاذ الفقراء بجنابك» فان «جناب» هو العتبة، كأنه سبحانه أجلّ من أن يلوذ به الفقراء، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لكل شي ء، و لكل أحد، فقد وسعت رحمته كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 479

[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

[2] ن من جنس هذا الحرف- و هي حروف التهجي- يتركب القرآن المعجز الذي لو اجتمعت الجن و الإنس على أن يأتوا بمثله لا يقدرون أو رمز بين اللّه و بين الرسول، و

في رواية أنها نهر في الجنة جمد فصار مدادا، و به و بالقلم كتب على اللوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة

«1».

وَ الْقَلَمِ أي قسما بالقلم الذي يكتب الناس

به، و إنما أقسم به لما تقدم من أن كل خلق من خلق اللّه جليل عظيم، و اللّه يحلف بمختلف صنوف خلقه، إشارة إلى العظمة الكامنة فيه، أو المراد القلم الذي كتب في اللوح المحفوظ وَ ما يَسْطُرُونَ أي قسما بما يكتب الناس، أو الملائكة، من «سطر» بمعنى كتب.

[3] ما أَنْتَ يا رسول اللّه بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي بسبب نعمة اللّه عليك بالرسالة بِمَجْنُونٍ كما يزعم الكفار، فإنهم كانوا يرمونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجنون بسبب أن اللّه أنعم عليه بالرسالة.

[4] وَ إِنَّ لَكَ يا رسول اللّه لَأَجْراً و جزاء على قيامك بمهمة البلاغ غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع، فإنّ «منّ» بمعنى قطع.

[5] وَ إِنَّكَ يا رسول اللّه لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ إذ تحتمل المشاق و المتاعب في سبيل التبليغ بكل رحابة صدر، و قد أوذي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى

قال «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 54 ص 368.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 480

[سورة القلم (68): الآيات 5 الى 9]

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)

[6] فَسَتُبْصِرُ أي سترى أنت يا رسول اللّه وَ يُبْصِرُونَ أي يرون هؤلاء الكفار الذين يرمونك بالجنون.

[7] بِأَيِّكُمُ أنت أم هم الْمَفْتُونُ أي المجنون، أي هل حل الجنون بك أم حل بهم حتى أعرضوا عن الحق فهل المجنون الذي يترك نافعه و يأخذ ضاره؟ و المفتون مصدر أو اسم مفعول تشبيها بأن شخصا مفتونا حل فيه- و هذا من بديع البلاغة.

[8] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه هُوَ أَعْلَمُ

بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ هل هو أنت- كما يقولون- أم هم- كما هو الواقع؟ و معنى الضلال عن سبيله الانحراف عن الطريقة التي قررها سبحانه للوصول إلى سعادة الدنيا و الآخرة وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الذين اهتدوا إلى السبيل الصحيح و هو سبيل الإسلام.

[9] و إذ قد تبين لك الطريق الواضح فَلا تُطِعِ يا رسول اللّه الْمُكَذِّبِينَ بتوحيدك و بشريعتك، بل ذرهم و شأنهم.

[10] وَدُّوا أي أحب هؤلاء الكفار لَوْ تُدْهِنُ أي تجامل الكفار و تلين لهم، فكأن المجامل يستعمل الدهن ليتلائم مع الطرف المقابل، كما يستعمل الدهن لتلائم الشيئين الخشنين حتى لا يصطدما و لا يصطكا بعنف فَيُدْهِنُونَ أي فيجاملونك و بذلك يخففوا من وقع التبليغ على أنفسهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 481

[سورة القلم (68): الآيات 10 الى 13]

وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13)

[11] وَ لا تُطِعْ يا رسول اللّه، و هو عطف على «فلا تطع» كُلَّ حَلَّافٍ أي كثير الحلف بالباطل لقلة مبالاته مَهِينٍ أي ذليل من «هان» بمعنى ذلّ. و هذان من صفات الكفار لأنهم لما لا يجدون سبيلا إلى إثبات باطلهم يتمسكون بالحلف، و مثل هذا الإنسان يشعر في نفسه بذلة المغلوبية، و إن هرج و تشدّق و صاح و حلف.

[12] هَمَّازٍ كثير الهمز للناس، و الهمز هو الطعن في الغير بشدة مَشَّاءٍ كثير المشي بين الناس بِنَمِيمٍ أي بالنميمة و الفتنة و الإفساد ليضرب بعض الناس ببعض، و النميم و النميمة بمعنى واحد.

[13] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للخير فكلما رأى إرادة الإنسان للخير منعه، لدناءة نفسه مُعْتَدٍ أي مجاوز عن الحق، من اعتدى بمعنى

تجاوز و ظلم أَثِيمٍ أي كثير الإثم و العصيان.

[14] عُتُلٍ جاف غليظ بَعْدَ ذلِكَ الذي ذكر له من الصفات زَنِيمٍ أي دعي ملصق إلى قوم ليس منهم بالنسب. قالوا: و المعنى بذلك «الوليد بن المغيرة» «1» و هذه غالبة في الأشرار الذين يصدون عن الحق، و يحضرون كل شر، و قد رأيناهم في عصرنا، إبان المد الأحمر- و كأن النفس إذا انحرفت عن جادة الهدى تجمعت فيها كل تلك الصفات.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 89.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 482

[سورة القلم (68): الآيات 14 الى 17]

أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17)

[15] أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ أي لأنا أعطيناه المال و البنين يكذب بآياتنا جزاء للإحسان بالإساءة، فهو متعلق بما يأتي في قوله «قال أساطير».

[16] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا تقرأ عليه آيات القرآن قالَ في شأنها أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديث الأقوام السابقين التي سطرت بلا أن يكون لها أصل، و «أساطير» جمع أسطورة، و هي القصة الخيالية الوهمية بلا أن يكون لها حقيقة. و من الغريب شباهة هذا القول من مكذبي عصر الرسول بما يقوله المكذبون في عصرنا، من أن الإسلام رجعية و ارتجاع.

[17] سَنَسِمُهُ أي سنعلمه يوم القيامة بعلامة يعرف بها أنه مجرم، فالسين للاستقبال، و «نسم» مضارع من «وسم» بمعنى نعلمه بعلامة عَلَى الْخُرْطُومِ أي على أنفه، و سمي خرطوما تشبيها بخرطوم الفيل تحقيرا له، كما أن الوسم على الخرطوم من جهة أن الأنف مظهر الكبر و الإعراض.

[18] إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي اختبرنا أهل مكة كَما بَلَوْنا

أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي أصحاب البستان الذي كان قرب صنعاء.

فقد قال الإمام الباقر عليه السّلام إن أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلى أصحاب الجنة

- و هي جنة كانت في الدنيا و كانت باليمن يقال لها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 483

«الرضوان» على تسعة أميال من صنعاء «1»، و قصة أصحاب الجنة كما رواها القمي عن ابن عباس: انه كان شيخ له جنة، و كان لا يدخل بيته ثمرة منها و لا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه، فلما قبض الشيخ ورثه بنوه و كان له خمسة من البنين، فحملت جنته في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملت قبل ذلك، فراحوا الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمر و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم، فلما نظروا إلى الفضل طغوا و بغوا، و قال بعضهم لبعض: إن أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله و خرف فهلموا نتعاقد عهدا فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين «أي مسلمي زمانهم» في عامنا هذا شيئا حتى نستغني و تكثر أموالنا، ثم نستأنف الصنعة فيما يستقبل من السنين المقبلة.

فرضي بذلك أربعة و سخط الخامس، و هو الذي قال اللّه فيه «قال أوسطهم ألم أقل لكم لو لا تسبحون» .. فقال لهم أوسطهم اتقوا اللّه و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا، فبطشوا به و ضربوه ضربا مبرحا، فلما أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع، فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا باللّه أن يصرموا إذا أصبحوا و لم يقولوا «إن شاء اللّه»، فابتلاهم اللّه بذلك الذنب، و حال بينهم و بين ذلك

الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه، فأخبر عنهم في الكتاب فقال «إنا بلوناهم» إلى آخر القصة- كما يأتي- و لعل تشبيه كفار مكة بأولئك الأخوة من حيث إنهم كفروا نعمة اللّه سبحانه،

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 382.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 484

[سورة القلم (68): الآيات 18 الى 21]

وَ لا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)

فابتلاهم بالقحط و الجدب، كما أن الأخوة لما أرادوا منع الفقراء خلافا لأمره سبحانه ابتلاهم اللّه بالنار التي أحرقت جنتهم «1».

إِذْ أَقْسَمُوا أي حلفوا باللّه لَيَصْرِمُنَّها أي يقطعون ثمرها من «الصرم» بمعنى القطع مُصْبِحِينَ أي في حال كونهم داخلين في الصباح قبل أن يجلو النهار، ليخفوا الأمر على الفقراء و المساكين.

[19] وَ لا يَسْتَثْنُونَ أي لم يستثنوا عند الحلف بإتيان كلمة إن شاء اللّه، و إنما يقال لهذه الكلمة: الاستثناء، لأن القائل يقول أفعل كذا إلا أن يشاء اللّه منعي، و في معنى ذلك إن شاء اللّه، و بعدم الاستثناء كانوا قد أساؤوا أولا بنية المنع عن الفقراء، و ثانيا بعدم الاستثناء بالنسبة إلى ما عزموا عليه في المستقبل.

[20] فَطافَ عَلَيْها أي على الجنة طائِفٌ أي شي ء من العذاب طاف على البستان مِنْ قبل رَبِّكَ يا رسول اللّه وَ هُمْ نائِمُونَ بعد في فراشهم، قالوا بعث اللّه نارا على البستان فأحرقت.

[21] فَأَصْبَحَتْ الجنة كَالصَّرِيمِ أي كالمقطوع ثماره، من «صرم» بمعنى قطع، أو كالليل المظلم، و يقال الليل و النهار صريمان لانصرام أحدهما عن الآخر.

[22] فَتَنادَوْا أي الأخوة أصحاب الجنة، نادى بعضهم بعضا

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 381.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 485

[سورة القلم (68): الآيات 22 الى

27]

أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)

مُصْبِحِينَ أي حال كونهم داخلين في الصباح.

[23] و كان النداء من بعضهم لبعض أَنِ اغْدُوا أيها الأخوة، أي أسرعوا غدوة عَلى حَرْثِكُمْ أي زرعكم و ثمركم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ من «صرم» بمعنى قطع، أي إن تريدون قطع الثمار.

[24] فَانْطَلَقُوا مضوا إلى البستان وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتسارون بينهم، و أصله من خفت فلان نفسه، إذا أخفى نفسه لئلا يراه أحد، و منه يسمى مقابل الجهر إخفاتا.

[25] و كان التخافت بسبب أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا أي الجنة الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ أي في يوم الصرم و قطع الثمر مِسْكِينٌ فاعل يدخل.

[26] و هكذا ذهبوا حتى وصلوا إلى الجنة وَ غَدَوْا أي أصبحوا عَلى حَرْدٍ بمعنى المنع يقال حاردت السنة: إذا منعت قطرها قادِرِينَ أي قدروا على المنع عن الثمر لا على الثمر، و هذا كالاستهزاء بهم كما يقال فلان امتلأت كفه من الهواء عوض امتلائها من المال، يعني أنهم أصبحوا ممنوعين من الثمر، فقد قدروا على الحرد و الحرمان لا على الثمار و الأعناب.

[27] فَلَمَّا رَأَوْها أي رأوا الجنة على تلك الصفة قالُوا أي قال بعضهم لبعض إِنَّا لَضَالُّونَ أي ضللنا الطريق، فليست هذه جنتنا.

[28] و لما تأملوا و رأوا أنها جنتهم بعينها، أضربوا عن كلامهم الأول و قالوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 486

[سورة القلم (68): الآيات 28 الى 32]

قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا

وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ عن الثمار و عن خير الجنة، فلقد احترقت.

[29] قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعقلهم، و يقال للأعقل أوسط، لأنه لا إفراط في أمره و لا تفريط أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ حينما أردتم منع الفقراء لَوْ لا أي هلا تُسَبِّحُونَ و تنزهون اللّه سبحانه؟ فقد قال لهم حين ما تواطأوا على منع الفقراء: أيها الأخوة اذكروا اللّه و نزهوه عن القبيح فإنه منزه عن أن يعطي الأغنياء و يحرم الفقراء، لكنكم ركبتم رؤوسكم و أعرضتم عن النصح، فهذا جزاء نيتكم السيئة.

[30] و بعد انتهاء كل شي ء قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا فإنه تعالى ليس ظالما في إحراق بستاننا، بل إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ حيث قصدنا منع الحقوق عن الفقراء.

[31] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ أي بعض الأخوة عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي يلوم بعضهم بعضا على ما سبق منهم من النية السيئة.

[32] قالُوا يا وَيْلَنا أي يا قوم ويلنا، أو يا ويلنا أحضر فهذا وقتك، و الويل هي الحالة السيئة إِنَّا كُنَّا طاغِينَ في عزمنا على منع الفقراء حقوقهم، و الطغيان هو الظلم المتجاوز حده.

[33] عَسى رَبُّنا أي لعل اللّه سبحانه أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها أي خيرا من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 487

[سورة القلم (68): الآيات 33 الى 37]

كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)

هذه الجنة، بأن يتفضل علينا ببدلها و عوضها، ف إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ نرغب إليه و نطلب غفرانه و نسأله أن يعوضنا بدل الجنة.

[34] كَذلِكَ

الْعَذابُ أي كعذاب أصحاب الجنة، يكون عذاب العاصين في الدنيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ من عذاب الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو علموا مقدار عذاب الآخرة، لعلموا أنه أكبر من عذاب الدنيا.

[35] و في مقابل هؤلاء المتقون إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و المعاصي، بأن خافوا عقاب اللّه سبحانه عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الآخرة و كونه عند اللّه باعتبار القرب إلى رضاه لا القرب المكاني جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي بساتين يتنعمون فيها.

[36] أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ الذين أسلموا للّه سبحانه كَالْمُجْرِمِينَ الذين أذنبوا و عصوا اللّه سبحانه؟ و هذا استفهام إنكاري، أي كيف نجعل المسلم و المجرم- في الآخرة- سواء؟ و قد كان الكفار يقولون: إن كان بعث و جزاء لكان حالنا في الآخرة أفضل من أحوال محمد و أصحابه.

[37] ما لَكُمْ أيها الكفار؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ حكما جائرا في أن المجرم كالمسلم عند اللّه تعالى؟ و هل يعقل هذا الحكم؟

[38] أَمْ أي هل أن حكمكم بذلك ليس اعتباطا، بل لَكُمْ كِتابٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 488

[سورة القلم (68): الآيات 38 الى 41]

إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41)

سماوي نزل على الأنبياء السابقين فِيهِ تَدْرُسُونَ و تقرؤون مساواة المجرم و المسلم؟

[39] تدرسون ب إِنَّ لَكُمْ أنتم الكفار فِيهِ أي في ذلك الكتاب لَما تَخَيَّرُونَ أي للشي ء الذي تختارونه من الثواب في الآخرة، و جملة «إن لكم ...» أول الكلام على سبيل الاستهزاء، و لذا كسرت همزة إن، و إن كان في الحقيقة من متعلقات «تدرسون» كما فسرنا.

[40] أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ

عَلَيْنا أي عهود و مواثيق علينا بأن أخذتم منا عهودا بالِغَةٌ تلك العهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ تكون هي لكم جيلا بعد جيل إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أي أن تلك العهود هي أن لكم أنتم كلما حكمتم من تساوي المؤمنين بكم، و إدخالكم الجنة؟

[41] سَلْهُمْ يا رسول اللّه، أصله «اسأل» حذفت الهمزة تخفيفا أَيُّهُمْ بِذلِكَ الذي ذكروا من أن لهم مثل ما للمسلمين زَعِيمٌ كفيل؟ فمن الكفيل بأن يكون لهم مثل ما للمسلمين؟ و إذ لا كتاب و لا إيمان، و لا كفيل فليعرفوا أن كلامهم فارغ خال من كل حجة و دليل.

[42] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي آلهة أخرى هم يعطون هؤلاء الكفار في الآخرة مثل ما يعطي اللّه المؤمنين؟ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ في يوم القيامة ليأخذوا منهم- و هذا استهزاء بهم- إِنْ كانُوا صادِقِينَ في كلامهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 489

[سورة القلم (68): الآيات 42 الى 44]

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44)

إن لهم مثل ما للمؤمنين.

[43] فليأتوا بشركائهم في يَوْمَ القيامة الذي تظهر فيه الأهوال و الشدائد حتى أنه يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ فإن الخوف إذا كان شديدا كشف الإنسان عن ساقه، بأن رفع ثوبه ليكون أسهل في الهرب، فلا يأخذ فاضل ثوبه رجله، و هذا كناية عن الهول- كما إن «كثير الرماد» كناية الجود وَ يُدْعَوْنَ هؤلاء الكفار في ذلك اليوم إِلَى السُّجُودِ فيقال لهم على سبيل التقريع و التوبيخ «اسجدوا» فَلا يَسْتَطِيعُونَ لأن فقار ظهرهم تتداخل و تصلب حتى لا يتمكنون من

الانحناء للسجود كما يظهر من الأحاديث.

[44] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ لا يرفعون نظرهم من الأرض ذلة و مهانة و وجلا تَرْهَقُهُمْ أي تغشاهم ذِلَّةٌ فإنها تظهر من حركاتهم و سكناتهم و وجناتهم وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ هؤلاء الكفار- في دار الدنيا- إِلَى السُّجُودِ و الخضوع للّه سبحانه وَ هُمْ سالِمُونَ فلا يسجدون، و لذا جوزوا بتلك الذلة، و بعدم تمكنهم من السجود يوم القيامة.

[45] فَذَرْنِي أي دعني يا رسول اللّه وَ مَنْ أي مع الكافر الذي يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي بحديث التوحيد و الرسالة و المعاد و هذا تهديد، معناه اني سأجازيهم، كما يقول القائل «دعني و إياه» أي اتركه فإني سوف أحاسبه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج هو طلب الشي ء درجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 490

[سورة القلم (68): الآيات 45 الى 47]

وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

درجة حتى يصل إلى النهاية المقصودة، أي نوجب على هؤلاء العقوبة بإعطائهم الحياة و المال حتى يتدرجوا في الكفر و العصيان، و يستحقوا بذلك أشد العذاب مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ إنه استدراج إلى العذاب و العقاب، بل يظنون إنها نعمة و صحة و مال و جاه.

[46] وَ أُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم، فإن الإملاء و الإمهال بمعنى واحد إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي ما أدبّره لعذاب الأشقياء متين مستحكم لا ينفصم و لا يدخله النقص و الخلل.

[47] ثم عطف على قوله «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ» قوله: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أي تسأل يا رسول اللّه من هؤلاء الكفار أَجْراً على أداء الرسالة و الدعاء إلى الإسلام فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ أي من لزوم تلك الغرامة، و المال الذي تطلبه منهم مُثْقَلُونَ قد أثقلهم

ذلك المطلوب، و لذا يريدون الفرار من تلك الغرامة، فعدم إيمانهم هل لأنهم يقولون لا فائدة في الإيمان، لأنهم مطمئنون، من كتاب قرءوه أنهم في الجنان مثل المسلمين- أم لأنهم يعرفون الفائدة في الإيمان، و أن الجنة تتوقف عليه، و لكن في الإيمان غرامة و هم يفرون من تلك الغرامة؟

[48] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي أن الوحي ينزل عليهم بأن ما هم فيه من الكفر و العصيان هو الصحيح فَهُمْ يَكْتُبُونَ ذلك الغيب و يعملون به، و لذا لا يرضخون للإسلام، لأن عندهم مثل ما عندك من الوحي و الكتاب؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 491

[سورة القلم (68): الآيات 48 الى 50]

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

[49] و إذ ترى يا رسول اللّه من الكفار الإعراض بلا حجة أو دليل فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في إبلاغ الرسالة، و تحمل المشاق في سبيله وَ لا تَكُنْ يا رسول اللّه كَصاحِبِ الْحُوتِ أي يونس عليه السّلام الذي طلب العذاب لقومه، و خرج من بينهم، لما رأى عدم الفائدة في دعوتهم فقد كان عمله ذلك ترك الأولى بمثل مقام الرسالة إِذْ نادى اللّه سبحانه بإنزال العذاب على قومه وَ هُوَ مَكْظُومٌ قد كظم غيظه على القوم فهو مكظوم الغيظ، يقال كظم غيظه: إذا حبسه، أو المعنى نادى في بطن الحوت لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «1» و هو محبوس في بطن الحوت، لكن المعنى الأول أقرب إلى قوله «وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ».

[50] لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ

رَبِّهِ بقبول توبته و استغفاره فان التوبة نعمة من اللّه سبحانه على العبد لَنُبِذَ يونس، أي طرح من بطن الحوت بِالْعَراءِ أي الأرض الجرداء الخالية عن الشجر و السقف حتى يهلك من الحر و البرد و الجوع وَ هُوَ مَذْمُومٌ لما ارتكبه من الدعاء على قومه، فقد كان ذلك تركا للأولى، و ذلك- و إن لم يكن عصيانا- إلا أنه ليس مناسبا لمقام الأنبياء، و لذا يحتاجون إلى التوبة و التطهير من ذلك.

[51] و إذا تداركته نعمة من ربه فاستغفر و تاب فَاجْتَباهُ أي اصطفاه

______________________________

(1) الأنبياء: 88.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 492

[سورة القلم (68): الآيات 51 الى 52]

وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ ما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

و اختاره رَبُّهُ بأن قبل توبته و أرجعه إلى مكانه الأول فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين يصلحون لأداء رسالته سبحانه.

[52] فاصبر يا رسول اللّه لحكم ربك، و لا تكن كيونس، و اعلم بأن الكفار يريدون إزالتك عن دعوتك وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ «إن» مخففة من الثقيلة، أي أنه يقرب الكفار من أن يزلقوك، و «زلق» بمعنى لم يتماسك على الأرض بل وقع لتمايل رجله، أي يريد الكفار أن يوقعوك فلا تقوم للتبليغ، و هذا للتشبيه، فإن الذي يترك القيام بالبلاغ كالإنسان الذي وقع فلا وقوف له على رجليه بِأَبْصارِهِمْ أي بأعينهم، فقد كانوا ينظرون إلى الرسول شزرا، و النظر العدائي يوجب انقطاع الإنسان عما قام به، فإن الشخص إذ رأى الازدراء من السامع لم يتقدم بالكلام لَمَّا سَمِعُوا أولئك الكفار الذِّكْرَ أي القرآن وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم لَمَجْنُونٌ قد خلط عقله و زال، فكلامه باطل لغو.

[53] وَ ما هُوَ و الحال أنه ليس هذا القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يذكرهم ما أودع في فطرتهم من التوحيد و المعاد و ما أشبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 493

69 سورة الحاقة مكية/ آياتها (53)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الحاقة»، و هي كسائر السور المكية تشتمل على معالجة قضايا العقيدة، و حيث تعرضت سورة «القلم» في أواخرها بقضايا القيامة و وعيد الكفار بها ابتدأت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نشرع باسم الإله الذي له ما في الكون، فاسمه الكريم أفضل شي ء يشرع به في الأمور، إنه يبارك على ما ابتدئ فيه باسمه، كما

ورد «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر»،

الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لمن سأله و لمن لم يسأله، و إن كان من سأله مورد عنايته و ألطافه الخاصة، بالإضافة إلى رحمته التي وسعت كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 494

[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ (4)

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6)

[2] الْحَاقَّةُ هي من أسماء القيامة، و إنما سمي المحشر بها لأنها ساعة تحق و تتحقق، من «حق» بمعنى ثبت و صدق و وجب، و هي في الإعراب مبتدأ خبره:

[3] مَا الْحَاقَّةُ؟ كما تقول: زيد ما زيد؟ و هو استفهام معناه التفخيم، أي أيّ شي ء هي؟ و ما أكثر أهوالها و شدائدها.

[4] وَ ما أَدْراكَ يا رسول اللّه، أو أيها الإنسان مَا الْحَاقَّةُ أيّ أيّ شي ء هي، فإنك إذا لم تعاينها

لم تعلم شدائدها، و هذا ليس نفيا بعلم الرسول- لو كان الخطاب موجها إليه- بل كناية عن شدتها.

[5] ثم جاء السياق ليبين أحوال جملة من الأمم الماضية الذين كذبوا بالقيامة فأخذهم اللّه سبحانه و أهلكهم كَذَّبَتْ ثَمُودُ أي قبيلة ثمود، و هم قوم صالح عليه السّلام وَ قبيلة عادٌ قوم هود عليه السّلام بِالْقارِعَةِ أي بالقيامة، و تسمى «قارعة» لأنها تقرع الأشياء و تدكها و تقرع القلوب و تخفيفها.

[6] فَأَمَّا ثَمُودُ فقد جوزوا على تكذيبهم بأنهم أهلكوا بِالطَّاغِيَةِ أي بالصيحة الطاغية التي طغت عليهم فخلعت قلوبهم و أهلكتهم.

[7] وَ أَمَّا عادٌ فقد جوزوا على تكذيبهم بأنهم أهلكوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي باردة شديدة العصوف عاتِيَةٍ قد عتت عند حدها المألوف، و الريح مؤنث سماعي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 495

[سورة الحاقة (69): الآيات 7 الى 9]

سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)

[8] سَخَّرَها اللّه عَلَيْهِمْ بأن كانت مرسلة نحوهم سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ فكانت تهلكهم ببردها و صريرها حُسُوماً أي في حال كون تلك الليالي و الأيام ولاء متتابعة، مأخوذ من «حسم الداء بمتابعة الكي»، أو بمعنى أنها حسمتهم أي قطعت نسلهم بحيث لم يبق منهم أحد فَتَرَى أيها الرائي الْقَوْمَ أي قبيلة عاد فِيها أي في تلك الأيام صَرْعى مصروعين، جمع صريع، و هو الشخص الواقع ميتا كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أي أصول نخل بالية، فإن أعجاز جمع عجز و هو أصل النخل و الخاوي الخالي الذي لا شي ء في جوفه، و شبهوا بذلك لأن استطالة جسمهم و

بقائهم في الأرض يشبه ذلك.

[9] فَهَلْ تَرى أيها الرائي لَهُمْ أي لأولئك الأقوام المكذبين مِنْ باقِيَةٍ أي من نفس باقية؟ و هذا استفهام للإيقاظ، أي لم يبق منهم أحد، و كذلك كل أمة كذبت لا بد لهم من الفناء حتى لا يبقى منهم أحد.

[10] وَ جاءَ فِرْعَوْنُ و قومه العاصون لموسى عليه السّلام وَ مَنْ قَبْلَهُ من قوم نوح عليه السّلام و نحوهم وَ الْمُؤْتَفِكاتُ أي قرى لوط التي قلبت- من «ائتفك» أي انقلب- و المراد أهل تلك القرى بِالْخاطِئَةِ أي بالخطإ، فإنها مصدر «خطأ» أو المراد بالخصلة الخاطئة نسبت الخطأ إليها مجازا بعد ما كان منسوبا إلى القوم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 496

[سورة الحاقة (69): الآيات 10 الى 14]

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)

[11] فَعَصَوْا أولئك الأقوام رَسُولَ رَبِّهِمْ أي كل قوم رسوله، و المراد بالرسول الجنس لا الواحد- كما تقدم وجهه سابقا- فَأَخَذَهُمْ اللّه بالعقوبة أَخْذَةً رابِيَةً أي زائدة في الشدة من «ربي» بمعنى زاد و طغى.

[12] لقد أخذنا الأقوام المكذبين و أنجينا المصدقين، كما إنا أنجينا المؤمنين بنوح عليه السّلام الذين هم أجدادكم أيها الناس إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي جاوز الحد المألوف حتى أغرق الأرض كلها حَمَلْناكُمْ إنما نسب الحمل إليهم باعتبار أنهم من أولاد من حملوا فِي الْجارِيَةِ أي في السفينة التي كانت تجري في تلك المياه الكثيرة.

[13] لِنَجْعَلَها أي نجعل تلك الفعلة التي فعلنا بكم حين آمنتم لَكُمْ أيها الناس تَذْكِرَةً تتذكرون بها نعم اللّه

سبحانه وَ تَعِيَها من «وعى» بمعنى أدرك، أي تحفظها و تدركها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي أذن تعي المواعظ و تستمع للعبر بقصد التفهم و العمل.

[14] و إذا رأيتم عاقبة المكذبين و عاقبة المصدقين في الدنيا فاسمعوا عاقبتهما في الآخرة فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخ إسرافيل في البوق لأجل إحياء البشر نفخته الثانية نَفْخَةٌ واحِدَةٌ بلا زيادة عليها إذ لا حاجة إلى أكثر منها، فإن البشر يحيون بمجرد النفخة.

[15] وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ أما حمل الأرض فباعتبار رفع منحدراتها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 497

[سورة الحاقة (69): الآيات 15 الى 17]

فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)

حتى تستوي مع سائر بقاعها، و أما رفع الجبال فباعتبار أنها تنسف حتى تكون كالهباء لتستوي ظهر الأرض كلها بلا رفع و لا خفض، و تكون ساحة القيامة عليها فَدُكَّتا أي كسرتا و دك بعضها على بعض دَكَّةً واحِدَةً فإن «الدك» يشمل الأرض و الجبال مرة واحدة لا تدريجا.

[16] فَيَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي القيامة، و سميت «واقعة» لأنها تقع قطعا.

[17] وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ بمعنى انفرجت حتى ينظر الإنسان إليها فيراها متفطرة كانفطار الجدار و نحوه فَهِيَ أي السماء يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة واهِيَةٌ من «وهى» بمعنى ضعف، لأن نظامها يختل، و مداراتها تتداخل و تخرب.

[18] وَ يرى الْمَلَكُ النازل للحساب و سائر الأعمال عَلى أَرْجائِها أي على أطراف السماء و نواحيها، و «أرجاء» جمع «رجا» بمعنى الطرف و الناحية وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ يا رسول اللّه، و هو محل سمي بالعرش يصدر منه أوامر اللّه سبحانه، كما أن

البيت الحرام محل مضاف إليه سبحانه تشريفا فَوْقَهُمْ أي فوق أكتافهم يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة ثَمانِيَةٌ من الملائكة العظام، و كل ذلك لتكثير الهول، و التناسب مع مدارك الإنسان الذي يرى العظمة و يشعر الخوف من هذه الأمور.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 498

[سورة الحاقة (69): الآيات 18 الى 21]

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)

[19] يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم تُعْرَضُونَ أنتم أيها البشر في ذلك العرض الهائل الرهيب لا تَخْفى مِنْكُمْ نفس خافِيَةٌ فليس أحد هناك مخفيا لأنه لا محل للاختفاء، بل كلهم بارزون يراهم الناس معهم أعمالهم إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

[20] و هناك ينقسم الخلق إلى قسمين: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أي صحيفة أعماله التي أدرج فيها الملائكة كل ما عمل في دار الدنيا بِيَمِينِهِ أي بيده اليمنى، و ذلك علامة الفلاح و النجاة فَيَقُولُ لأهل القيامة- في فرح و سرور- هاؤُمُ أي تعالوا و خذوا، اسم فعل أمر بصيغة الجمع، مفرده «ها» اقْرَؤُا كِتابِيَهْ و انظروا ما فيه من الحسنات، و الهاء في «كتابيه» و نحوه للسكت، يقرأ في الوقف و لا يقرأ في الوصل، و كأنه جي ء به للتنفس بأن لا يحبس النفس على الياء.

[21] إِنِّي ظَنَنْتُ في الدنيا أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ في الآخرة، و لذا عملت صالحا حتى حصلت على هذه المرتبة الرفيعة من الفلاح و النجاح و الإتيان ب «ظننت» لعله لإفادة أن مجرد الظن كاف في العمل الصالح إذ رفع الضرر المظنون واجب بحكم العقل.

[22] فَهُوَ أي صاحب الكتاب الذي أعطي كتابه

بيمينه فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ نسبة الرضا إلى العيش مجاز، فإن صاحب العيش هو الراضي أو أن اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول- كما قالوا في أن هذين يأتي كل واحد منهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 499

[سورة الحاقة (69): الآيات 22 الى 27]

فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26)

يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)

في مكان الآخر، ف حِجاباً مَسْتُوراً «1» بمعنى ساترا كما تقدم-.

[23] فِي جَنَّةٍ أي بستان عالِيَةٍ رفيعة القدر و المكان.

[24] قُطُوفُها جمع «قطف» و هو ما يجتنى بسرعة، أي ثمارها الناضجة أو أن القطف و القطع دانِيَةٌ أي قريبة إلى الشخص، حتى لا يحتاج في قطفها إلى التجشم و التعب، فإذا أرادها قربت من يده ليقطعها.

[25] و يقال لهم- على وجه التكريم و الإجلال- كُلُوا من ثمار الجنة و لحومها و سائر مأكولاتها وَ اشْرَبُوا من أنهارها هَنِيئاً لكم أي تهنئون هنيئا، بلا داء و لا علة يوجبها الأكل و الشرب بسبب ما أَسْلَفْتُمْ أي قدمتم من أعمالكم الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي الماضية، و المراد بها أيام الدنيا التي خلت و مضت.

[26] و إذ رأينا أحوال أهل الجنة فلننظر إلى أحوال أهل النار وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ أي أعطي كِتابَهُ أي كتاب أعماله التي أدرجها الملائكة فيه بِشِمالِهِ أي بيساره، و ذلك علامة أهل النار فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ أي لم أعط كِتابِيَهْ حتى أرى ما يسوؤني فيه.

[27] وَ لَمْ أَدْرِ أي يا ليتني لم أعرف ما حِسابِيَهْ أي أيّ شي ء حسابي.

[28] يا

لَيْتَها أي ليت الموتة التي متها في الدنيا كانَتِ الْقاضِيَةَ تقضي

______________________________

(1) الإسراء: 46.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 500

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 549

[سورة الحاقة (69): الآيات 28 الى 33]

ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32)

إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)

على حياتي إلى الأبد فلم أبعث بعدها لأرى سيئات أعمالي و أبتلي بالخزي و العذاب.

[29] ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي ما دفع عني مالي من عذاب اللّه شيئا.

[30] هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ و سلطنتي و جاهي ذهبتا، فلا مال ينفع و لا سلطان ينجع- مما كرست حياتي و جهودي لهما-.

[31] ثم يأتي الخطاب من المصدر الأعلى للملائكة الموكلين بهذا المجرم خُذُوهُ فلا تتركوه يفر و يهرب فَغُلُّوهُ أي أوثقوه بالغل، و هو الحديد الذي يربط أعضاء الإنسان بعضها ببعض لئلا يتمكن من الفرار.

[32] ثُمَّ الْجَحِيمَ بعد إغلاله بالغل صَلُّوهُ أي أدخلوه فيها و الجحيم هي النار العظيمة.

[33] ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها أي طولها بالذراع سَبْعُونَ ذِراعاً و الطول لتشديد العذاب و الغم عليه فَاسْلُكُوهُ أي اربطوه بها، و قيل تدخل من حلقه و تخرج من دبره، و هذا هو سلكه فيها.

[34] ثم يأتي السياق ليبين علة هذه الأنواع من العذاب إِنَّهُ أي هذا المجرم كانَ في الدنيا لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ مع عظمته سبحانه، كان يعاند و لا يؤمن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 501

[سورة الحاقة (69): الآيات 34 الى 39]

وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَ لا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)

فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38)

وَ ما لا تُبْصِرُونَ (39)

[35] وَ لا يَحُضُ أي لا يحث الناس- من باب الأمر بالمعروف- أو هو كناية عن منعه بنفسه، لأن المانع لا يحث، فأتى بالمسبب و أريد السبب عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي إطعام الفقراء، الذين يجب الحض على إطعامهم لأنهم في معرض الهلكة.

[36] فَلَيْسَ لَهُ هذا الكافر الْيَوْمَ أي في يوم القيامة هاهُنا في المحشر حَمِيمٌ صديق ينفعه.

[37] وَ لا له طَعامٌ يأكله إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ و هو صديد قيح أهل النار، أي غسالتهم.

[38] لا يَأْكُلُهُ أي لا يأكل الغسلين إِلَّا الْخاطِؤُنَ الذين اخطأوا في الدنيا بالكفر و العصيان.

[39] و بعد استعراض أحوال المؤمنين و الكافرين في الآخرة يأتي السياق، ليستدل على الرسالة و ينفي مزاعم القوم حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ أيها البشر.

[40] وَ ب ما لا تُبْصِرُونَ أي بالمشاهدات و المغيبات، و الإتيان ب «لا» للطيفة، هي الحلف، و إفادة أن الحلف لعظيم، فإذا أردت أن تحلف، و أردت أن تبين أن الحلف عظيم تقول «لا أقسم بحياتك إن الأمر كذا» فأنت لم تحلف مع الإلماع إلى الحلف، و على هذا ف «لا» للنفي، لا أنها زائدة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 502

[سورة الحاقة (69): الآيات 40 الى 45]

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)

لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)

[41] ثم بين متعلق الحلف بقوله: إِنَّهُ أي إن القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ عند اللّه سبحانه، فهو من قبله، إذ الرسول لا يقول إلّا

من عنده سبحانه.

[42] وَ ما هُوَ أي ليس القرآن بِقَوْلِ شاعِرٍ فقد كانوا يقولون: إن محمدا شاعر و القرآن شعر قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أي قليل إيمانكم، أو يؤمن منكم بالرسول أشخاص قليلون، و هذا للاستنكار و التقريع، أي لم تكونون هكذا؟

[43] وَ لا القرآن بِقَوْلِ كاهِنٍ فقد كان بعضهم يقول: إن الرسول كاهن، و أن القرآن كهانة، و الكاهن من له اتصال بالشياطين فيأتون إليه بأخبار ملفقة مسجعة باطلها أكثر من حقّها قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ فلا تتذكرون الحق المودوع في فطرتكم إلّا قليلا، أو قليل منكم يتذكرون الحق.

[44] إنه تَنْزِيلٌ أي منزل مِنْ عند رَبِّ الْعالَمِينَ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[45] وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا أي افترى الرسول علينا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ المكذوبة، و التقوّل اختلاق القول و نسبته إلى من ليس منه.

[46] لَأَخَذْنا مِنْهُ أي من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْيَمِينِ أي بيمينه بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 503

[سورة الحاقة (69): الآيات 46 الى 49]

ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)

قطعناها، لأن من يفسد في الأرض جزاؤه أن تقطع يده. و لا يخفى أن هذا الكلام للإنكار على الكفار، لأنه يمس ساحة قدس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هذا من قبيل وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ «1» كما سبق الكلام فيه.

[47] ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ أي من الرسول الْوَتِينَ أي قطعنا عرق قلبه، و هو كناية عن إهلاكه، أو المعنى لأخذنا يده اليمنى لنقتله كما يفعل الجلاد بالمجرم يأخذ يده ليسهل قتله.

[48] و لو

كان كاذبا، و فعلنا به ذلك فَما مِنْكُمْ أيها البشر مِنْ أَحَدٍ «من» زيادة لتعميم النفي عَنْهُ أي عن الرسول حاجِزِينَ أي لا يقدر أحد منكم أن يدفعنا و يحجز بيننا و بين الرسول حتى لا تحل به عقوبتنا.

[49] وَ إِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ مذكّر لما أودع في فطرتهم من التوحيد و سائر الأصول لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون الآثام، فإن الإنسان المحافظ للحدود الذي يتقي و يخاف الزلة يتذكر بالقرآن، و التخصيص بهم لأنهم المنتفعون بالقرآن دون سواهم.

[50] وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ أيها الناس مُكَذِّبِينَ يكذبون باللّه و بالرسول، و بالمعاد، و بالقرآن. و هذا تهديد لهم بأنهم سوف يحاسبون و يعذبون بسبب تكذيبهم.

______________________________

(1) الأعراف: 151.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 504

[سورة الحاقة (69): الآيات 50 الى 52]

وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

[51] وَ إِنَّهُ أي القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ يوجب الحسرة عليهم يوم القيامة حيث لم يعملوا به مع أنه في متناول أيديهم.

[52] وَ إِنَّهُ أي القرآن لَحَقُّ الْيَقِينِ أي هذا القسم من اليقين و هو اليقين البالغ درجة راقية لمطابقته للواقع، فإن هناك علم اليقين و هو ما يعلم بغير أن يشاهد، و حق اليقين و هو ما يعلم و يشاهد- و قد سبق المثال بالنار لذلك-.

[53] فَسَبِّحْ أي نزّه بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي سبح اللّه بذكر اسمه، و لا تعر للكفار بالا، بل امض في مسئوليتك، و التنويه بذكره سبحانه على نحو التنزيه عن الصفات السيئة و الشركاء- مما يزعمها الكفار و المشركون-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 505

70 سورة المعارج مكية/ آياتها (45)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المعارج»، و هي كسائر السور المكية

تعالج قضايا العقيدة، إلّا مفتتحها فإنها مدنية و حيث ختمت سورة «الحاقة» بوعيد الكفار، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

و قد كان سبب نزول مفتتح السورة على ما

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال لما نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا يوم غدير خم و قال «من كنت مولاه فعلي مولاه» طار ذلك في البلاد، فقدم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النعمان بن الحرث الفهري فقال: يا رسول اللّه أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنك رسول اللّه و أمرتنا بالجهاد و الحج و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام- أي عليا عليه السّلام- فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شي ء منك أو أمر من عند اللّه؟ فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و اللّه الذي لا إله إلّا هو إن هذا من اللّه. فولى النعمان بن الحرث و هو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله فأنزل اللّه «سَأَلَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 506

سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ»

«1».

أقول: و إلى هذا أشير بقوله سبحانه وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه ليكون شروعا مباركا موصولا بالخير، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم بإصلاح النواقص دينا و دنيا و آخرة، فإن الرحمة في غيره سبحانه معنى في القلب يبعث على الخير، و فيه سبحانه إعطاء الخير.

______________________________

(1) شواهد التنزيل:

ج 2 ص 381.

(2) الأنفال: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 507

[سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

[2] سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ يعني استدعى مستدع و طلب العذاب، و قد عرفت أنه «الفهري»، و من المحتمل أن المراد به أعم منه ليشمل الكفار الذين كانوا يستعجلون بالعذاب- استهزاء-.

[3] لِلْكافِرينَ أي أن ذلك العذاب للكافرين، فهو واقع بهم سواء طلبوه أم لم يطلبوه لَيْسَ لَهُ أي لذلك العذاب دافِعٌ يدفعه.

[4] مِنَ اللَّهِ فإن العذاب من قبله سبحانه ذِي الْمَعارِجِ جمع «معراج» و هو محل العروج و الصعود، و لعل المراد بها السماوات التي هي معارج للملائكة و لأرواح المؤمنين، و هذا كناية عن علو شأنه سبحانه، فإذا أراد شيئا لا بد و أن يقع.

[5] ثم بين مقدار ارتفاع المعارج، حتى لا يتوهم أن مقدار ارتفاعها كالمألوف في الأذهان من الارتفاعات القليلة تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ الذي هو أعظم الملائكة، أو المراد أرواح المؤمنين إِلَيْهِ أي إلى المحل الذي جعله سبحانه مصدرا لأمره و محلا لتشريفه، كالبيت الحرام الذي جعله محلا لعنايته- فإنه سبحانه منزه عن المكان- فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أي مقدار ذلك اليوم خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فطول ذلك اليوم- إذا سير فيه بالسير العادي- خمسون ألف سنة من سني الدنيا، و بمعرفة طول ذلك اليوم يعرف مقدار بعد محل تشريفاته سبحانه من الأرض.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 508

[سورة المعارج (70): الآيات 5 الى 11]

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَراهُ

قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)

وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)

و يحتمل في العبارة معنى آخر، و هو أن العروج إلى محل تشريفاته إنما هو في يوم القيامة الذي مقداره خمسين ألف سنة، فهو إما لبيان مقدار بعد محل التشريفات عن الأرض و إما لبيان مقدار ذلك اليوم، و في الأحاديث كلا المعنيين.

[6] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه صَبْراً جَمِيلًا لا جزع فيه و لا شكوى مما تقاسيه من الأتعاب و تكذيب الكفار.

[7] إِنَّهُمْ أي الكفار يَرَوْنَهُ أي ذلك اليوم و هو يوم القيامة- بناء على المعنى الثاني- أو العذاب بَعِيداً و لذا يعملون بالكفر و المعاصي.

[8] وَ نَراهُ أي نعلمه نحن قَرِيباً فإن كل آت قريب، و إن طال الأمد في مقاييس الناس.

[9] ثم بين السياق وقت العذاب، أو وقت ذلك اليوم يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ أي الصفر المذاب، و كأنه للصب على الناس المجرمين.

[10] وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف المنفوش، فإنها تطير في الجو هباء، كما يطير الصوف.

[11] وَ لا يَسْئَلُ في ذلك اليوم حَمِيمٌ أي صديق حَمِيماً أي عن صديقه لشغل كل إنسان بنفسه.

[12] يُبَصَّرُونَهُمْ أي يرى بعض الأصدقاء بعضا و لكن لا يسألون عنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 509

[سورة المعارج (70): الآيات 12 الى 16]

وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16)

كيف أنتم؟ و الفعل مجهول من باب التفعيل، كأنه يحصل منهم الإبصار قهرا، إشارة إلى أنهم لا يريدون أن يبصروا أصدقاءهم، و إنما تقع عينهم عليهم

بدون إرادة يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنى و يحب العاصي لَوْ يَفْتَدِي أي يعطي الفدية عن نفسه لينجيها مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ أي يوم القيامة بِبَنِيهِ بأن يدفع عوضه أولاده الذين هم أعز الناس عنده فينزل بهم العذاب دونه.

[13] وَ ب صاحِبَتِهِ أي يعطي زوجته للعذاب لينجو بنفسه وَ ب أَخِيهِ حتى ينجو.

[14] وَ يفتدي ب فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ أي عشيرته- التي انفصل منهم بالولادة- التي كانت تؤوي، أي تعطي المأوى لهذا الإنسان في الشدائد.

[15] وَ يفتدي ب مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي يعطي بدله جميع الخلائق ثُمَّ يُنْجِيهِ ذلك الفداء عن العذاب.

[16] و هل يفيد الفداء- و لو فرضنا أنه تمكن من كل ذلك-؟ كَلَّا لا ينجيه شي ء و لا يفيده الفداء إِنَّها أي نار جهنم لَظى أي لهب خالص، و المعنى للمجرم اللهب فلا يفيده الفداء.

[17] في حال كونها نَزَّاعَةً لِلشَّوى أي تنزع كثير الأطراف فلا تترك جلدا و لا لحما. «و شوى» الأكارع و الأطراف، و تسميتها بالشوى لأنها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 510

[سورة المعارج (70): الآيات 17 الى 23]

تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)

إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)

تشوى بالنار.

[18] تَدْعُوا النار إلى نفسها، بالالتهاب و الالتهام مَنْ أَدْبَرَ عن الحق، أي أعطاه دبره ليعرض عنه وَ تَوَلَّى أي أعرض عن الدين.

[19] وَ جَمَعَ المال فَأَوْعى أي أمسكه في الوعاء- كالصندوق و نحوه- فلم ينفقه في طاعة اللّه.

[20] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً أي شديد الحرص، من «الهلع» و هو الحرص.

[21] ثم بين سبحانه معنى الهلوع بقوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ

أي لامسة و نزل به شر من فقر و مرض و خوف و ما أشبه جَزُوعاً أي كان كثير الجزع، بدون أن يصبر و ينتظر الفرج.

[22] وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ أي لامسة و نزل به كالغنى و الصحة و الأمن و الجاه مَنُوعاً أي كان كثير المنع لخيره عن الناس و لا يقوم بواجب الشكر من بذل ماله و جاهه، و القيام في الخدمات بصحته و أمنه.

[23] إن ذلك طبيعة الإنسان و فطرته التي ركبت فيه إِلَّا الْمُصَلِّينَ الذين اتصلوا باللّه سبحانه و ارتفعوا عن مهاوي النفس، بالصلاة- و الإتيان بها لأنها تلازم الإيمان و سائر الصفات الحسنة-.

[24] الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ يقيمونها باستمرار، فإن إقامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 511

[سورة المعارج (70): الآيات 24 الى 28]

وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25) وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)

الصّلاة بصورة مستمرة توحي إلى النفس معاني الخير، لما يحصل من الإيماء المكرر الموجب لتهذيب النفس كما قال في آية أخرى وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ «1».

[25] وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ و هو مقدار منه يعطيه للفقراء، و قد ورد أن الحق المعلوم يراد به غير الزكاة مما يفرضه الرجل على نفسه فيخرجه من ماله في كل يوم أو في كل جمعة.

[26] لِلسَّائِلِ الذي يسأل لافتقاره و مسكنته وَ الْمَحْرُومِ و هو الفقير الذي حرم من الثروة و لا يسأل الناس لعفته.

[27] وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي يؤمنون بالقيامة الذي هو يوم الجزاء- إذ الدين بمعنى الجزاء، كما قال «و لا أنت ديّاني

فتخزوني»- و لعل الإتيان من باب التفعيل لإفادة كثرة تصديقهم بكل ما يقع في ذلك اليوم.

[28] وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ في الدنيا و في الآخرة مُشْفِقُونَ أي خائفون، من «أشفق» بمعنى خاف.

[29] و إنما يخافون ف إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ بالكفار و العاصين غَيْرُ مَأْمُونٍ أي لا يؤمن حلوله، فلا ينبغي لأحد أن يأمن منه فيتمادى في الكفر

______________________________

(1) المؤمنون: 10.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 512

[سورة المعارج (70): الآيات 29 الى 33]

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)

و العصيان اغترارا.

[30] وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ جمع «فرج» و هو القبل و الدبر و سمي بذلك لانفراج و انشقاق فيهما حافِظُونَ فلا يستحلونها في المعاصي.

[31] إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي زوجاتهم و يعرف العكس بالتلازم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي إمائهم، و نسب الملك إلى اليمين لأنها آلة اكتساب المال الموجبة لشراء الإماء، و المتعة و التحليل داخلان في الأزواج أو الثاني داخل في ما ملكت أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ لا يلامون على استعمال فروجهم في هذا النوع الخاص من اللذة.

[32] فَمَنِ ابْتَغى أي طلب اللذة في وَراءَ ذلِكَ الذي ذكر بأن استعمله في الحرام في زنى و لواط و سحق و استمناء فَأُولئِكَ المبتغون هُمُ العادُونَ الذين تعدوا الحق و حدود الشريعة، المستحقون بذلك النكال و العذاب.

[33] وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ التي تودع عندهم وَ عَهْدِهِمْ مع من عاهدوا راعُونَ فلا يخونون الأمانات، و لا ينقضون العهود.

[34] وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ أي يقومون

بالشهادة التي تحمّلوها، فإذا صار موقع أن يشهدوا شهدوا بالحق لا بالباطل، و لا يهربون من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 513

[سورة المعارج (70): الآيات 34 الى 38]

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)

الشهادة لخوف أو طمع.

[35] وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ و كأن المحافظة أداؤها بحدودها و آدابها، «دائمون» الاستمرار عليها، أو

الآية السابقة في النوافل و هذه في الفرائض، كما روي عن الإمام الباقر عليه السّلام.

[36] أُولئِكَ المؤمنون المتصفون بتلك الصفات فِي جَنَّاتٍ أي بساتين تجنها الأشجار و القصور مُكْرَمُونَ أي يكرمهم اللّه سبحانه و الملائكة، فهم في نعمة مادية و معنوية.

[37] و بعد وضوح الحق فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ يا رسول اللّه أي أيّ شي ء لهم و ما حملهم على أن يفعلوا ما فعلوا؟ مُهْطِعِينَ من «أهطع» إذا نظر ببصره إلى الشي ء لا يزيله عنه، و يكون ذلك عن حب أو عداوة، و المراد هنا الثاني، أي ما لهم ينظرون إليك شزرا نظر عداوة و شنآن؟

[38] عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ أي من طرف يمينك و طرف شمالك عِزِينَ جمع «عزة» أي جماعات متفرقين عصبة عصبة، فإن «عزة» بمعنى الجماعة، و هذا هو الغالب في الناس إذا ظهر فيهم مصطلح أو مبدع، فإنهم ينظرون إليه جماعات من كل صوب إذا كان في محل أو مر بمحل.

[39] أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 514

[سورة المعارج (70): الآيات 39 الى

42]

كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)

فما هذا الطمع السخيف بعد كفرهم و عنادهم؟ فكأنهم إذا أبغضوا الرسول و نظروا إليه نظرا شزرا توقعوا بذلك نيل رضى اللّه سبحانه و دخول جنته.

[40] كَلَّا لا يدخلون الجنة، ف إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ من نطفة قذرة، و هل من أصله نطفة صالح لدخول الجنة بدون الإيمان و العمل الصالح؟ فإن الشي ء إما بأصله أو بعمله، و هؤلاء أصلهم نطفة قذرة، و عملهم كفر و عصيان، فلا صلوح لهم لدخول الجنان.

[41] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ «لا» للنفي، و هذا إلماع إلى حلف، في صورة عدم الحلف- كما سبق- و المشارق باعتبار شروق الشمس في كل يوم من نقطة من الفلك، و كذا المغارب بالنسبة إلى غروبها إِنَّا لَقادِرُونَ

[42] عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي أن نهلكهم و نأتي بدلهم خيرا منهم أناسا يؤمنون و لا يعصون وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بأن يسبقنا الكفار في الهرب، حتى نبقى وراءهم لا نلحق بهم فلا نتمكن من تعذيبهم كالحاكم الذي يبقى و يهرب منه المجرم فلا يتمكن من إنزال العقوبة به.

[43] فَذَرْهُمْ أي دع يا رسول اللّه هؤلاء الكفار يَخُوضُوا في باطلهم، و أصل الخوض الارتماس في الماء، و شبه به الإنسان الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 515

[سورة المعارج (70): الآيات 43 الى 44]

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

يتكلم و يعمل بالباطل، كأنه خائض

فيه وَ يَلْعَبُوا أي يفعلوا فعل اللاعب الذي لا يريد غاية من عمله و إنما يقضي الوقت بذلك حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ و هو يوم القيامة.

[44] ثم بين سبحانه ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ جمع جدث و هو القبر سِراعاً أي مسرعين، لشدة هولهم فإن الخائف يسرع في المشي ليجد مأمنا قبل أن ينزل به العذاب كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ جمع نصب كسقف جمع سقف، و هو الصنم يُوفِضُونَ أي يسرعون، فقد كانوا في الدنيا يسرعون إلى أصنامهم في مواسم شركهم و هناك كذلك يسرعون عند خروجهم من القبر.

[45] في حال كونهم خاشِعَةً أي خاضعة ذليلة أَبْصارُهُمْ فإن أثر الذلة يظهر في العين لا يستطيعون مدّ بصرهم خوفا و فزعا تَرْهَقُهُمْ أي تغشاهم و تحيط بهم ذِلَّةٌ لأنهم قد علموا جرمهم و أنهم محكوم عليهم بالعذاب ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا فينكرونه و الآن قد وصلوا إليه و وجدوا عذابه و هوله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 516

71 سورة نوح مكية/ آياتها (29)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «نوح» و قصته و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أسلوب قصصي. و حيث ختمت سورة المعارج بوعيد الكفار، افتتحت هذه السورة بذكر نوح عليه السّلام و ما لاقى من تكذيب قومه- تسلية للرسول و تخويفا للكفار-.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، ليكون عونا لنا في مهام الأمور، و في هذا الأمر الذي نشرع فيه- بصورة خاصة- الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحم على من طلب منه الرحم و تسهيل الأمر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 517

[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ

قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً (5)

[2] إِنَّا أَرْسَلْنا أي بعثنا نُوحاً رسولا إِلى قَوْمِهِ و أوحينا إليه أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ بأنهم إن تمادوا في الكفر و العصيان ابتلوا بعذاب الدنيا و عذاب الآخرة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي موجع مؤلم.

[3] فامتثل نوح عليه السّلام و قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ أنذركم و أخوفكم مُبِينٌ أي واضح ظاهر.

[4] أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فلا تكفروا به وَ اتَّقُوهُ فلا تعصوه وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به من الشريعة، و أصله «أطيعوني» حذف الياء تخفيفا و تنسيقا.

[5] فإنكم إن عبدتموه و اتقيتم يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي جنس ذنوبكم، ف «من» للجنس وَ يُؤَخِّرْكُمْ فلا يهلككم عاجلا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة قد سميت في كتابه، في مقابل الكافر الذي يعذبه بعذاب الاستئصال إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي الأجل الذي عينه اللّه إِذا جاءَ وقته لا يُؤَخَّرُ فبادروا بالإيمان و التوبة قبل فوات الأوان لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لو كنتم عاملين بالأمور لعلمتم بذلك.

[6] و دعا نوح قومه مدة مديدة بمثل تلك الإرشادات و النصائح، لكن دعاءه لم يكن ينفع فيهم، فتوجه إلى اللّه سبحانه داعيا قالَ نوح عليه السّلام: يا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 518

[سورة نوح (71): الآيات 6 الى 9]

فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ

وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)

رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى الإيمان لَيْلًا وَ نَهاراً أي في كل الأوقات.

[7] فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً فإن دعوتي صارت سببا لأن يرص الكفار صفوفهم، و يجاهروا بالكفر و الطغيان و الفرار من الحق.

[8] وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان و الطاعة لِتَغْفِرَ لَهُمْ ذنوبهم إن آمنوا و أطاعوا جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ حتى لا يسمعوا كلامي وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي غطوا بها وجوههم و رؤوسهم لئلا يروني وَ أَصَرُّوا أي داموا على كفرهم و طغيانهم وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً أي تكبروا و أنفوا عن قبول الحق، و كأن الإتيان بصيغة الاستفعال لإفادة أنهم طلبوا الكبر، و إن لم يكونوا كبراء حقيقة.

[9] ثُمَ لترتيب الكلام لا لترتيب المطلب في الخارج إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أي جهرا بأعلى صوتي.

[10] ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ إعلانا بالدعوة وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي علانية و سرا، و المراد الدعوة بكل وجه محتمل، و الجهر قسم من الإعلان- فليس في ذكر الإعلان بعد الإجهار تكرارا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 519

[سورة نوح (71): الآيات 10 الى 14]

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)

[11] فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا أيها القوم رَبَّكُمْ أي اطلبوا غفرانه بالإيمان و الطاعة إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً كثير المغفرة لمن استغفر.

[12] فإن استغفرتم يُرْسِلِ اللّه السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثيرة الدرور بالمطر، قيل إن الغيث قد منع عنهم حتى ابتلوا بالقحط

و لذا رغبهم نوح عليه السّلام في ذلك.

[13] وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ أي يكثر أموالكم و أولادكم الذكور وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين، بسبب المطر و الأموال وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً تسقون جناتكم، فإن المطر إذا كثر اختزن في الأرض ثم تفجر من العيون و جرى منها.

[14] ما لَكُمْ يا معاشر الكفار لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أي لا تعظمون اللّه تعالى، فإن «الوقار» بمعنى العظمة، و الرجاء هو الطمع في شي ء مرغوب، فإن من لا يعرف عظمة شخص لا يرجوه، فكأنه قال: ما لكم لا ترجون اللّه، إذ لا تعترفون له بالوقار و العظمة؟

[15] وَ الحال أنكم ترون آثار عظمته في أنفسكم، إذ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً جمع «طور» فقد انتقلتم من حال إلى حال حتى وصلتم إلى هذا الحال الذي أنتم فيه، أو المراد خلقكم مختلفين، فكل واحد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 520

[سورة نوح (71): الآيات 15 الى 19]

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)

يختلف عن الآخر مما يدل على كمال القدرة.

[16] إن آثار عظمة اللّه سبحانه كما هي ظاهرة في أنفسكم كذلك هي ظاهرة في الكون أَ لَمْ تَرَوْا أيها الكفار كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ فإن علم الفلك معترف بوجود سبع مدارات للكواكب السيارة طِباقاً أي بعضها فوق الآخر؟

[17] وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ أي في تلك السماوات، و يجوز الإتيان بضمير غير العاقل مفردا و جمعا نُوراً ينير الظلام بأشعته وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي مصباحا

يشع ضياؤها حتى تنير الأكوان.

[18] وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ أيها البشر مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً فإن الإنسان ينبت من الأرض كما أن النبات ينبت منها، و لكن الفرق هو أن الأرض تتحول إلى النبات، و النبات يأكله الإنسان فيصير منيا ثم إنسانا و النبات ينبت ابتداء، و في الحقيقة أن الإنسان نبات الأرض المتحرك، كما أن النبات نباتها الساكن.

[19] ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أي في الأرض، فالميت لا يلبث أن يبلى و يكون ترابا كما كان سابقا وَ يُخْرِجُكُمْ من الأرض لدى البعث في يوم القيامة إِخْراجاً و إنما ذكر المصدر تأكيدا لبيان أنه كائن لا محالة.

[20] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً مبسوطة لتتمكنوا من المشي عليها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 521

[سورة نوح (71): الآيات 20 الى 22]

لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)

و البناء فوقها، و تقضوا سائر مآربكم عليها.

[21] ثم أشار السياق إلى واحدة من النعم التي هيأها اللّه للإنسان على الأرض المنبسطة لِتَسْلُكُوا يقال سلك في الطريق إذا مشى فيه و سرى مِنْها أي من الأرض و المراد في بعض الأرض سُبُلًا أي طرقا، جمع «سبيل» فِجاجاً «الفجاج» هي الطرق المتسعة المتفرقة، واحدها «فج» يعني حتى تتمكنوا من السير في طرق الأرض المختلفة إلى حاجاتكم هنا و هنالك.

[22] و بعد كل هذه التذكيرات و الإلفات إلى هذه النعم العظام، لم يستجب القوم لدعوة نوح عليه السّلام، فتوجه نوح إلى ربه قالَ نُوحٌ يا رَبِّ إِنَّهُمْ أي القوم عَصَوْنِي فلم يؤمنوا بك، و لم يطيعوا أمري وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا

خَساراً أي اتبعوا كبراء قومهم الذين هم رأس الفساد، فكلما ازدادوا مالا صرفوه في الشر و كلما ازدادوا ولدا حرفوه عن سنن الحق، فمالهم و ولدهم لا يزيدهم إلا خسارة و ضررا، مما يوجب كثرة عقوبتهم و زيادة عذابهم.

[23] وَ مَكَرُوا في قبال نوح مَكْراً كُبَّاراً أي كبيرا للغاية فإن إطفاء سنن الرسول يحتاج إلى التدابير الكثيرة، و إلا فالناس بطبيعتهم الساذجة يتبعون الحق. و فاعل المكر إما الكبار المشار إليهم ب «من» أو المراد القوم- في الجملة-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 522

[سورة نوح (71): الآيات 23 الى 25]

وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)

[24] وَ قالُوا أي الماكرون، لسائر الناس لا تَذَرُنَ أي لا تتركن آلِهَتَكُمْ الأصنام التي تعبدونها إطاعة لنوح في عبادة إله واحد، ثم خصوا جماعة من الآلهة كانت الأصنام الكبيرة لديهم وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ لا يَعُوقَ وَ لا نَسْراً و يغوث و يعوق غير منصرفين للعجمة و العلمية، أو للعلمية و التأنيث كما أن عدم إتيان «لا» على البعض للتفنن في الكلام الذي هو من فنون البلاغة، و هذه كانت أسامي أصنام لهم يعبدونها من دون اللّه سبحانه. و ذكر بعض أن هذه أسماء كانت لرجال صالحين، فلما ماتوا مثلوا لهم تمثالا يعظمونها باعتبار أنها رموز لأولئك الصالحين، ثم عبدوها- بإغواء الشيطان-.

[25] وَ قَدْ أَضَلُّوا هذه الأصنام، يا رب كَثِيراً من الناس و نسبة الضلال

إلى الأصنام باعتبار أنها الوسيلة في الإضلال، و الإتيان بضمير العاقل تماشيا لوحدة السياق بين كلام المؤمنين و الكافرين وَ لا تَزِدِ يا رب الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان و غيرهم بالإضلال و الإفساد إِلَّا ضَلالًا جزاء على عنادهم، و إزادة ضلالهم بمنع الألطاف الخفية عنهم، أو المعنى «لا تزد هذه الأصنام إلا ضلالا لهم» فعلى الأول نهي، و على الثاني نفي.

[26] ثم أتى السياق إلى بيان عاقبة هؤلاء الكفار بقوله: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من جهة خطيئة هؤلاء الكفار، و «ما» زائدة و الزيادة هنا لأجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 523

[سورة نوح (71): الآيات 26 الى 28]

وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)

تزيين الكلام أُغْرِقُوا بالماء في الدنيا فَأُدْخِلُوا ناراً في الآخرة، فقد عوقبوا بعقوبتين متضادتين فَلَمْ يَجِدُوا أولئك الكفار لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير اللّه سبحانه أَنْصاراً فلم يكن هناك من يمنع عنهم عذاب اللّه تعالى، فقد ضل عنهم من كان يعدهم النصر.

[27] وَ قالَ نُوحٌ قبل أن يغرقوا- في دعائه عليهم- و إنما أخر ذلك عن الغرق، في الكلام، لتعجيل توصيل العقاب بالانحراف، حتى كأنه انحراف و عقاب بلا فاصلة، يا رَبِّ لا تَذَرْ أي لا تدع و لا تبق سالما عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي أحدا يعمر الديار، أو ينزل الدار، بل عمم عقابك على جميعهم.

[28] ثم بين عليه السّلام علة هذا الدعاء بقوله: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا

عِبادَكَ من نسل المؤمنين وَ لا يَلِدُوا هم بأنفسهم إِلَّا فاجِراً يفجر و يعصي كَفَّاراً كثير الكفر، يعني أن أولادهم فاسد و العقيدة و العمل، فلا خير فيهم، و قد علم نوح عليه السّلام ذلك من طريق الوحي.

[29] يا رَبِّ اغْفِرْ لِي و قد سبق أن استغفار الأنبياء و الأئمة لما يصدر منهم من المباحات الضرورية، فإنهم يرون ذلك خلافا للأدب أمام اللّه الملك العظيم، كما أن من مدّ رجله- لمرض أو نحوه- أمام الملك رآه سوء أدب و إن كان مضطرا إليه، و اعتذر من فعله ذلك وَ لِوالِدَيَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 524

بغفران ذنوبهما وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً و كأن الدخول في البيت كناية عن الدخول في حوزته و أنصاره، فقد آمن به عليه السّلام عدة قليلة بين سبعين و ثمانين- على ما ذكروا- وَ اغفر لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ من سائر الأمم السابقين و اللاحقين وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا و خسارة، و ذلك بمنع الألطاف عنهم، حتى يكون بقاؤهم موجبا لزيادة عذابهم و خسارتهم جزاء لعنادهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 525

72 سورة الجن مكية/ آياتها (29)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الجن» و قصة منهم، كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أسلوب قصصي طريف جديد، و لما ختمت سورة نوح بالدعاء للمؤمنين و الهلاك للكافرين، ابتدأت هذه السورة بما يماثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الخالق المالك لكل شي ء، و الابتداء باسمه أولى من الابتداء بأي شي ء آخر، فإن الكفار كانوا يبتدئون باسم الأصنام، و المسيحيين باسم «الأب و الابن و روح القدس»، و الديمقراطيون في زماننا يبتدئون باسم الشعب و الملكيون باسم جلالة

الملك، و اللّه أحق من الكل بالابتداء باسمه، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 526

[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً (3)

[2] قُلْ يا رسول اللّه للناس أُوحِيَ إِلَيَ و الوحي هو الإلهام إلى الرسول من قبله سبحانه بواسطة ملك أو إلقاء في القلب بلا واسطة، و يستعمل أيضا بمعنى مطلق الإلهام، كقوله وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «1» و قوله وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى «2» أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ أي استمع إلى القرآن طائفة من الجن- فإن نفر بمعنى الطائفة- و الجن مخلوقة من النار رقاق الأجسام كالهواء، و لها أن تتشكل في أبدان غليظة كأبدان الإنسان فَقالُوا بعضهم لبعض إِنَّا سَمِعْنا من الرسول قُرْآناً عَجَباً أي ما يدعو إلى التعجب، لأنه بأسلوب غريب في لفظه و معناه، و قد سبقت قصتهم في سورة الأحقاف.

[3] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي يدل على الهدى الذي من سلكه رشد فَآمَنَّا نحن الجن بِهِ أي بذلك القرآن وَ لَنْ نُشْرِكَ بعد سماع القرآن بِرَبِّنا أَحَداً أي لم نجعل له شريكا.

[4] وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا «الجد» هو الحظ، و المراد به هنا العظمة، أي تعالت و ارتفعت عظمته، من أن يكون له شريك أو زوجة أو أولاد مَا اتَّخَذَ أي لم يتخذ اللّه سبحانه صاحِبَةً أي زوجة وَ لا وَلَداً فقد كان بعض الكفار يقولون أنه سبحانه اتخذ زوجة

من الجن، كما قال

______________________________

(1) النحل: 69.

(2) القصص: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 527

[سورة الجن (72): الآيات 4 الى 6]

وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6)

سبحانه وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «1»، فنفت الجن هذا الكلام.

[5] وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أي جاهلنا، و المراد به جنس الجهال منهم عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي كذبا و بعدا عن الحق، و كأن المراد بذلك ما شاع بينهم من أنه تزوج بالجنية، أو المراد «بسفيه منا» إبليس- لأنه من الجن- و المراد أقواله حول اللّه سبحانه، من نسبة الشريك إليه و ما أشبه.

[6] وَ أَنَّا ظهر لنا الآن كذب ذلك السفيه بعد ما كنا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ الإتيان بالفعل مؤنثا باعتبار «الجماعة» عَلَى اللَّهِ كَذِباً فقد كنا نحسب أن ما يقولون من أن له سبحانه صاحبة و شريكا و ولدا صدق، و الآن تبين لنا كذبه.

[7] وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ أي يعتصمون و يستجيرون، و كان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال «أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه» و

قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال في هذه الآية «كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول قل لشيطانك فلان قد عاذ بك»

«2» فَزادُوهُمْ أي زاد الجن الإنس العائذين بهم رَهَقاً أي طغيانا

______________________________

(1) الصافات: 159.

(2) بحار الأنوار: ج 60 ص 98.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 528

[سورة الجن

(72): الآيات 7 الى 9]

وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)

حيث إنهم رأوا الجن ظهيرا لهم، أو زاد الإنس الجن طغيانا حيث إنهم ظنوا أن لهم مدخلا في الأمور الكونية حتى استعاذ بهم الإنس، و أصل الرهق اللحوق، و منه غلام مراهق، فكأن الإثم و الطغيان يلحق الإنسان، و لذا قيل له رهق.

[8] وَ أَنَّهُمْ أي الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أنتم معاشر الجن أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً رسولا، و هذا من تتمة كلام الجن الذين آمنوا بالرسول.

[9] وَ أَنَّا معاشر الجن لَمَسْنَا السَّماءَ أي مسسناها بإرادة الصعود في طبقات الجو فَوَجَدْناها أي ألفينا السماء مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً أي حفظة من الملائكة شدادا، «و حرس» جمع حارس و هو الحافظ، و شديد باعتبار كل واحد من الحفظة وَ شُهُباً جمع «شهاب» و هو نور يمتد في السماء حتى يطفأ، أنها هيأت لرجم من يريد استراق السمع من الشياطين.

[10] وَ أَنَّا معاشر الجن كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها أي من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي محلات قريبة من مراكز الملائكة لنستمع ما يدار بينهم من أخبار الأرض لنعلم الأخبار و نأتي بها إلى الكهنة، و هذا إلى قبل ميلاد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بعثته فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ منا إلى كلام الملائكة يَجِدْ لَهُ أي لنفسه شِهاباً رَصَداً يرمى به و يرصد له، ففي النجوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 529

[سورة الجن (72): آية 10]

وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ

أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)

عيّن مواضع لحراسة السماء من الجن و الشياطين، فمن يتقدم منهم ليسترق الكلام قذف بالشهاب حتى يحترق أو يطرد.

و

قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال- في حديث يذكر فيه سبب إخبار الكاهن-: و أما أخبار السماء فإن الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك، و هي لا تحجب و لا ترجم بالنجوم و إنما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء و يلبس على أهل الأرض ما جاءهم من اللّه لإثبات الحجة و نفي الشبهة، و كان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من اللّه في خلقه فيختطفها ثم يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده يختلط الحق بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به فهو ما أداه إليه شيطانه مما سمعه، و ما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمذ منعت الشياطين من استراق السمع انقطعت الكهانة

«1».

[11] وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ حيث يرجم الشياطين، حتى تقطع الأخبار عن أهل الأرض بعذابهم، فيفاجئون بالعذاب أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً بأن يبعث فيهم نبيا؟ و الحاصل أن رجم الشياطين لأحد أمرين إما لشر أو لخير؟ و هذا يؤيد كون المراد من الرجم وقت ولادة الرسول، و أن هذا الكلام من الجن حكاية حال ماضية، و إلا فقد عرفوا النبأ بعد فترة و خصوصا عند وصولهم إلى خدمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 60 ص 76.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 530

[سورة الجن (72): الآيات 11

الى 13]

وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً (13)

[12] وَ أَنَّا معاشر الجن مِنَّا أي بعضنا الصَّالِحُونَ بالإيمان و العمل الصالح وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ الصلاح، و إنما عبر بهذا التعبير ليشمل الفرق المختلفة كُنَّا في السابق طَرائِقَ قِدَداً أي على طرائق مختلفة «و قدد» جمع قدة و هي القطعة، كأن لكل مذهب لونا مختلفا، فهم قطعة مخالفة لقطعة أخرى، و كأن هذه التفصيلات المنقولة من كلام الجن لبيان حقيقتهم، و توضيح ما يرتبط بهم من المزايا و الأحوال.

[13] وَ أَنَّا معاشر الجن ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ بأن نجمع جموعا و نهيئ قوى حتى يعجز سبحانه من التصرف فينا كيف يشاء، و إنما جاء بلفظ الظن، إما لأنهم ظنوا ذلك و لم يتيقنوا، أو لبيان أن الظن كاف في عدم إرادة المخالفة معه سبحانه وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي لا نتمكن من تعجيزه بهربنا من قدرته، فإن قدرته شاملة منبسطة لا يمكن الفرار منها.

[14] وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى حيث سمعنا قرآن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آمَنَّا بِهِ أي بالهدى و هو الإسلام فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ إيمانا صحيحا فإنه لا يَخافُ بَخْساً أي تنقيصا لحقه في الدنيا و في الآخرة وَ لا رَهَقاً أي ظلما و طغيانا بالنسبة إليه، فإنه سبحانه عادل لا يظلم أحدا، أما غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 531

[سورة الجن (72): الآيات 14 الى 17]

وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ

مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)

المؤمن فإنه يخاف البخس، إذ حسناته تمحى بسبب سيئاته، و يخاف الرهق بمعنى تبعة الإثم- كما سبق في معنى الرهق.

[15] وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ الذين دخلوا في دين اللّه الذي جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ من «قسط» بمعنى جار، أي الجائرون الحائدون عن طريق الحق فَمَنْ أَسْلَمَ أي دخل في الإسلام فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا أي طلبوا و التمسوا رَشَداً أي هداية و حقا فيه الرشد و العقل، و التحري هو التطلب و التماس الشي ء.

[16] وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ العادلون عن طريق الحق فَكانُوا أي يكونون- أو كان: لمجرد الربط- لِجَهَنَّمَ حَطَباً يلقون فيها فيوقدونها كما يوقد الحطب النار، كما قال سبحانه وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ «1».

[17] وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا هؤلاء القاسطون عَلَى الطَّرِيقَةِ الحقة بأن لم يحيدوا عنها لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً يقال ماء غدق: أي كثير و هذا كناية عن الإفضال عليهم، و هذا ابتداء من كلام اللّه سبحانه.

[18] لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي كنا نسقيهم الماء الكثير لامتحانهم في ذلك السقي، فإن النعم للامتحان، كما أن النقم للاختبار، و ليس المقصود من

______________________________

(1) البقرة: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 532

[سورة الجن (72): الآيات 18 الى 20]

وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)

الامتحان إلا ظهور السرائر، لتبيين مقادير

الاستحقاق في الآخرة، أو أنه تعليل لمجي ء الهدى، أي أنا إنما أرسلنا الرسول و أنزلنا الهدى للامتحان وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ بأن اتخذ طريقة الكفر و العصيان يَسْلُكْهُ أي يدخله اللّه سبحانه عَذاباً صَعَداً أي عذابا يصعد عليه و يعلوه، بحيث يشمل جميع جسمه من قرنه إلى قدمه، أو عذابا غليظا صعبا.

[19] و إذ بين كون الهدى إنما هو للامتحان، جاء السياق ليبين أنه لا يحق لأحد أن يخضع لغير اللّه سبحانه وَ أَنَّ الْمَساجِدَ جمع «مسجد» و هو مواضع السجود من الوجه و الكفين و غيرهما لِلَّهِ فإنها مخلوقة له مملوكة لذاته المقدسة فَلا تَدْعُوا أيها الإنسان مَعَ اللَّهِ أَحَداً و كيف تدعو غيره بعضو هو له؟ و يحتمل أن يكون المساجد أعم مما تقدم و من المساجد المبنية، و فيه نهي عن الدعاء لغيره سبحانه فيها، كما كان المشركون يدعون الأصنام في بيت اللّه تعالى.

[20] وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَدْعُوهُ يدعو اللّه سبحانه وحده كادُوا أي الكفار يَكُونُونَ عَلَيْهِ على الرسول لِبَداً أي متكاثرين عليه ليمنعوه عن الدعوة، و الظاهر أن هذه الجمل كلها من كلام الجن، و أن قوله «لنفتنهم» معترضة.

[21] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار الذين كادوا يكونون لبدا عليك:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 533

[سورة الجن (72): الآيات 21 الى 23]

قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23)

إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي

وحده لا شريك له وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أي بربي أَحَداً فليس ذلك بدعا جديدا يوجب تكاثركم علي و إرادتكم منعي منه.

[22] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا بأن أضركم وَ لا أملك لكم رَشَداً بأن أرشدكم، و إنما الضرر و الإرشاد بيد اللّه، و أنه هو الذي أمرني بإرشادكم، فإن لم تقبلوا فهو الذي ينزل الضر بكم، و هذا لبيان أني رسول اللّه فقط لا شي ء بيدي سوى الهداية و الإرشاد.

[23] حتى أنا فليس ضري و خيري بيدي قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي أي لن يحفظني مِنَ تقدير اللَّهِ أَحَدٌ إذا أراد سبحانه بي ضررا وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ سبحانه مُلْتَحَداً أي ملجأ ألجأ إليه، من التحد بمعنى مال، و الإنسان الخائف دائما يطلب الملجأ في منعطفات الطريق.

[24] إني لا أملك شيئا إِلَّا بَلاغاً أي تبليغا مِنَ قبل اللَّهِ سبحانه بأن أبلغكم آياته وَ رِسالاتِهِ و هذا استثناء منقطع من «لا أملك» و ما بعده، و قد سبق أن الاستثناء المنقطع ينحل إلى ثلاث جمل، ففي المقام هكذا «لا أملك شيئا» «إلا بلاغا» «و لا أملك لكم أو لي ضرا أو خيرا» و كأنه قال «لا أملك كذا» و «أملك كذا»، و حق البلاغ منه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 534

[سورة الجن (72): الآيات 24 الى 25]

حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)

سبحانه حق لا يكون لكل أحد، كما أن رسالاته سبحانه شي ء و الرسول يملك ذلك الحق كما يعرف الرسالات، فهما شيئان لا شي ء

واحد حتى يقال: إن العطف للبيان.

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ بعدم إطاعة أوامره وَ رَسُولَهُ بعدم امتثاله فيما يأمر و ينهي فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ جزاء لعصيانه خالِدِينَ فِيها أي في حال كونهم دائمين في النار أَبَداً و توحيد الضمير في «له» باعتبار لفظ «من» و تجميعه في «خالدين» باعتبار معناه، و قد قالوا يجوز في ضمير «من و ما» مراعاة اللفظ و المعنى.

[25] لكن الكفار لا يبالون اليوم بالنار حَتَّى إِذا رَأَوْا هؤلاء الكفار ما يُوعَدُونَ أي العذاب الذي وعدوا به في الدنيا فَسَيَعْلَمُونَ إذا رأوا مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً هل ناصر الرسول أضعف أم ناصرهم وَ أَقَلُّ عَدَداً فهل جيش الرسول و أعوانه أقل أم جيشهم و أعوانهم، فقد كان الكفار يفتخرون على الرسول بكثرة جموعهم و ضعف أصحابه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأتى السياق ليبين أن في الآخرة تنقلب الكفة، و أنه يتبدد عددهم و يضعف ناصرهم، فلا يقوى من إنجائهم من عذاب اللّه سبحانه.

[26] و قد كان الكفار يستعجلون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في إنزال العذاب بهم- استهزاء به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- فجاء السياق لردهم بقوله: قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار المستعجلين: إِنْ أَدْرِي أي ما أدري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 535

[سورة الجن (72): الآيات 26 الى 28]

عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (28)

أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أي هل قريب العذاب الذي وعدتم به لكفركم و عصيانكم

أَمْ يَجْعَلُ لَهُ أي ل «ما توعدون» رَبِّي أَمَداً أي مدة، فهو بعيد عنكم؟ فإن عذاب القيامة مجهول الوقت إلا عنده سبحانه، فعنده علم الساعة.

[27] فإنه وحده عالِمُ الْغَيْبِ يعلم ما غاب عن الحواس فَلا يُظْهِرُ أي لا يعلم عَلى غَيْبِهِ أي الغيب الذي يعلمه هو أَحَداً من عباده، فإن علم الغيب خاص به.

[28] إِلَّا مَنِ ارْتَضى أي اختاره للاطلاع على الغيب مِنْ رَسُولٍ أو المعنى إلا من ارتضاه للرسالة من أفراد الرسل، فإنه تعالى يظهره على قدر من الغيب- حسب الحكمة و الصلاح- و التي يخبر الإمام أو سائر الناس بقدر ما أذن له في الإخبار، و إذ أعلمه اللّه سبحانه بالغيب أحاطه بجملة من الحفظة حتى يكونوا مراقبين عليه في البلاغ، مع أنه مأمون في نفسه، و أن اللّه عالم به، و لكن هذا للتشريفات، كما و كل بالعباد حفظة مع أنه عالم بما يصدر منهم.

فَإِنَّهُ سبحانه يَسْلُكُ أي يجعل في الطريق مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من أمام الرسول وَ مِنْ خَلْفِهِ أي ورائه رَصَداً من الملائكة يرصدونه في أعماله، تشريفا للغيب و الوحي الذي أعلم الرسول به.

[29] و إنما يرصد لِيَعْلَمَ اللّه سبحانه، و المراد ليقع متعلق علمه في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 536

الخارج، كقوله حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ «1» إلى غير ذلك أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أولئك الرسل الذين أطلعهم على علم الغيب رِسالاتِ رَبِّهِمْ فكل ما أوحي إليه رسالة، و مجموع الوحي رسالات وَ ذلك ليس لأنه لا يعلم- بل للتشريفات، كما ذكرنا- إذ قد أَحاطَ اللّه سبحانه بِما لَدَيْهِمْ أي بما يفعله الأنبياء من تبليغ الرسالة وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً فعلم أعداد الأشياء كلها، فإحاطته بما لدى الأنبياء

من مصاديق إحصائه سبحانه عدد كل شي ء من الخلائق و الأعمال و الأحوال.

هذا هو المعنى الذي استظهرته من الآيات المباركة حسب ما يظهر من السياق، و هناك قول آخر في معانيها ليس بهذا القرب إلى الظاهر، و اللّه سبحانه أعلم بمراده.

______________________________

(1) محمد: 32.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 537

73 سورة المزمّل مكية- مدنية/ آياتها (21)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المزمل»، و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام و العقيدة، و قيل هي مختلطة من المكية و المدنية. و حيث ختمت سورة الجن بذكر الرسل، ابتدأت هذه السورة بذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ في السورة باسم الإله، أي ملابسا مع هذا الاسم الكريم، الذي بيد مسماه الكون كله، الرحمن الرحيم الذي يرحم كل شي ء خلقا و تربية، حتى يصل كل شي ء إلى كماله اللائق به، و يرحم عبيده المؤمنين في الآخرة بالثواب و الفضل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 538

[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)

[2] يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ المراد به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أصله «المتزمل» من باب التفعيل، ثم أدغمت التاء في الزاء، و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و معنى «تزمل» تلفف في ثوب و نحوه، فقد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتزمل بثوبه و ينام، فخوطب بهذا الخطاب لمناسبة الحالة للأمر المتوجه إليه في قيام الليل.

[3] قُمِ في اللَّيْلَ لأداء صلاة الليل إِلَّا قَلِيلًا منه فلك أن تنام فيه.

[4] ثم

بين سبحانه مقدار القليل الذي سمح للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنوم فيه بقوله:

نِصْفَهُ أي نم في مقدار نصف الليل أَوِ انْقُصْ مِنْهُ أي من النصف قَلِيلًا بأن تضيف على سهرك، فيكون نومك أقل من النصف.

[5] أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي على النصف، بأن تضيف على نومك فيكون نومك أكثر من النصف، و الحاصل أن المأمور به السهر بمقدار نصف الليل، أو أكثر من النصف، أو أقل من النصف- و المحور النصف- وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ أي اقرأه قراءة متوسطة لا بسرعة و لا ببطئ زائد تَرْتِيلًا تأكيد ل «رتل».

و قد سئل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عن هذه الآية فقال: بيّنه بيانا و لا تهذه هذو الشعر «أي لا تسرعون في قراءته كما تسرعون في قراءة الشعر» و لا تنثره نثر الرمل «أي لا تفرقوا بعضه عن بعض كثير الرمل» و لكن أفزعوا قلوبكم القاسية، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة

«1».

______________________________

(1) الكافي: ج 2 ص 614.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 539

[سورة المزمل (73): الآيات 5 الى 8]

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)

[6] إِنَّا سَنُلْقِي أي سنوحي عَلَيْكَ يا رسول اللّه قَوْلًا ثَقِيلًا أي كلاما يثقل عليك القيام به، و المراد به القرآن، فإنه يثقل على الإنسان العمل به، أو الرسالة فإنه يثقل أداؤها، أو القيام بالليل.

[7] كما فسر قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة، و المقصود العمل فيها أو المراد العبادة التي تنشأ في الليل. هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً

أي أكثر ثقلا و كلفة، لصعوبة القيام ليلا شتاء لبرد الهواء، و صيفا لقصر الليالي، و لعل المراد كونها أشد من ناشئة النهار وَ أَقْوَمُ قِيلًا أي قول الليل و عبادته أكثر قواما و استمساكا لأنه يؤدى بحضور القلب و توجه الذهن، و لأن أفضل الأعمال أحمزها.

[8] إِنَّ لَكَ يا رسول اللّه فِي النَّهارِ سَبْحاً «السبح» التقلب و منه يسمى المتقلب في الماء سابحا: أي تقلبا في أشغالك طَوِيلًا من إراءة الطريق، و الإرشاد، و سائر الأعمال فلا يتأتى منك أن تعبد كما ينبغي، و لذا جعل الليل للعبادة.

و قد روي إن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كان يعمل طول النهار، و يعبد طول الليل، فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا تهدأ؟ قال: إذا هدأت النهار كان فيه ضياع الأمة، و إذا هدأت الليل كان فيه ضياع نفسي.

[9] وَ اذْكُرِ يا رسول اللّه اسْمَ رَبِّكَ بأن تعبده و تخضع له وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «التبتل» هو الانقطاع إلى اللّه عزّ و جلّ و إخلاص العبادة له،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 540

[سورة المزمل (73): الآيات 9 الى 12]

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَ جَحِيماً (12)

من «بتل» بمعنى قطع، و إنما قال «إليه» لأن الانقطاع عن الخلق إليه، لا كون الانقطاع عنه.

[10] ثم بين «ربك» بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ هو كناية عن الكون، لأن من بيده المشرق و المغرب كان بيده العالم كله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له كما يزعم المشركون، و لذا لا

يحق العبادة لغيره فَاتَّخِذْهُ يا رسول اللّه وَكِيلًا أي حفيظا للقيام بأمرك و فوض إليه أمرك.

[11] وَ اصْبِرْ يا رسول اللّه في توحيدك و نبذ الأصنام عَلى ما يَقُولُونَ أي الكفار حولك من أنك ساحر أو كاهن أو مجنون أو ما أشبه ذلك وَ اهْجُرْهُمْ أي ابتعد عنهم هَجْراً جَمِيلًا بأن تدعوهم إلى الهدى في عين حالة الهجر، بالحكمة و الموعظة الحسنة و المجادلة بالتي هي أحسن.

[12] وَ ذَرْنِي أي دعني لهم فأنا أكفيك شرهم وَ الْمُكَذِّبِينَ برسالتك و ما جئت به أُولِي النَّعْمَةِ أي أصحاب الثروة و غيرها من سائر النعم، فكل جزاءهم أليّ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي إنهم بعد قليل سيقعون في العذاب، عذاب الدنيا في قصة بدر، و عذاب الآخرة. و قوله «مهلهم» كناية عن الصبر معهم، و هذا تهديد للكفار.

[13] إِنَّ لَدَيْنا في الآخرة، و المراد ب «لدينا» لدى حسابنا و جزائنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 541

[سورة المزمل (73): الآيات 13 الى 15]

وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)

أَنْكالًا جمع «نكل»، و هي القيود و الأغلال وَ جَحِيماً أي نارا كثيرة، فإن جحيم بمعنى ذلك، و هي من أسماء جهنم.

[14] وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ «الغصة» تردد اللقمة في الحلق بحيث لا يتمكن الإنسان من إساغتها، أي أن أطعمة النار المهيئة لهم ذات غصة فلا يتمكن المجرم من إساغتها إلا بعد علاج و صعوبة وَ عَذاباً أَلِيماً مؤلما موجعا.

[15] إن هذه الألوان من العذاب إنما هي في يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ أي تتحرك و تضطرب، فإن الزلزال من

علائم القيامة، كما قال سبحانه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ «1» وَ الْجِبالُ لتكثير الهول وَ كانَتِ الْجِبالُ في ذلك اليوم كَثِيباً مَهِيلًا «الكثيب» الرمل المجتمع الكثير «و المهيل» هو السائل المتناثر، من هال: إذا حرك أسفله فتحرك و سال أعلاه، أي تكون الجبال هكذا سائلة في الأرض.

[16] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ أيها الكفار رَسُولًا يعني محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاهِداً عَلَيْكُمْ بما تعملون من الاعتقاد و العمل، الصحيح أو الفاسد كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا و هو موسى عليه السّلام.

______________________________

(1) الحج: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 542

[سورة المزمل (73): الآيات 16 الى 19]

فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)

[17] فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ بأن لم يطع أوامره، بل خالفه و عانده فَأَخَذْناهُ أي أخذنا فرعون أَخْذاً وَبِيلًا أي شديدا ثقيلا بإغراقه في البحر، و هكذا أنتم إن لم تؤمنوا أخذناكم بصنوف العذاب.

[18] فَكَيْفَ تَتَّقُونَ أيها الكفار، أي تجتنبون إِنْ كَفَرْتُمْ في الدنيا يَوْماً أي من عذاب يوم- و هو مفعول «تتقون» يَجْعَلُ الْوِلْدانَ جمع ولد شِيباً جمع أشيب، و هو البالغ سن الشيب و الشيخوخة فإن يوم القيامة لشدة أهوالها يجعل الأولاد في صورة الشيوخ ببياض الشعر و نحوه، أي هل تتمكنون من الاتقاء عن عذاب يوم القيامة؟ و إذ لا تتمكنون فكيف تكفرون حتى تبتلوا به؟

[19] السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أي بذلك اليوم، أي أن السماء تنفطر بسبب أهوال ذلك اليوم، و السماء يجوز فيها التذكير و التأنيث، و لذا قال في مقام آخر إِذَا

السَّماءُ انْفَطَرَتْ «1» و الانفطار هو الانشقاق، بأن يرى السماء كالشي ء المنشق، لاختلال نظام المدارات، و لون الهواء و غير ذلك كانَ وَعْدُهُ سبحانه بمجي ء هذه الأمور مَفْعُولًا أي كأنه لا خلف فيه و لا تبديل.

[20] إِنَّ هذِهِ أي صفة الأمور التي ذكرناها لأهوال ذلك اليوم تَذْكِرَةٌ

______________________________

(1) الإنفطار: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 543

[سورة المزمل (73): آية 20]

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

و موعظة لكم أيها البشر فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي سلك سبيلا يؤدي إلى رضوانه، و هو سبيل الدين و الإسلام.

[21] ثم عطف السياق نحو قيام الليل الذي ابتدأ به الكلام فقال إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أي في الوقت الذي هو أقرب مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ففي بعض الليالي كان الرسول يقوم قبل ثلثي الليل بأن كان الباقي إلى الفجر ثلثان، و في بعض الليالي قبل النصف، و في بعض الليالي قبل الثلث وَ تقوم طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ من المؤمنين كالإمام المرتضى عليه السّلام و الصديقة الطاهرة عليهم السّلام و سائر الخواص.

وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ

وَ النَّهارَ أي أن مقدار الليل و النهار بيده، فهو المقدر لها، و المقدر يعلم الأمور المرتبطة بما قدره، و لذا عَلِمَ اللّه سبحانه أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي لا تتمكنون من إحصاء الليل كله، بأن تقوموا فيه من أوله إلى آخره في العبادة و الطاعة فَتابَ عَلَيْكُمْ بأن لم يفرض القيام في الليل عليكم عطفا و تفضلا، مع أن المقتضي للإيجاب كان موجودا فَاقْرَؤُا في الليل ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي من الشي ء الذي يقرأ، و المراد به الصلاة و الدعاء و نحوهما، و المعنى أنه حيث لا تقدرون على القراءة كل الليل فاقرؤوا ما سهل عليكم و تيسر عندكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 544

ثم بين سبحانه حكمة التسهيل بقوله: عَلِمَ اللّه تعالى أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى جمع «مريض»، و المريض لا يقدر على قيام الليل وَ آخَرُونَ منكم يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ أي يسافرون يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي يطلبون الفضل و التجارة وَ آخَرُونَ منكم يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته و سبيل دينه، و المسافر و المحارب حيث تعبا في النهار لا يسهل عليهما قيام الليل، و لذا خفف سبحانه عنكم و لم يلزمكم بالقيام، أو بمقدار خاص كالنصف و الثلث و الثلثين فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ و سهل مِنْهُ أي من القرآن، و المراد به الصلاة و الدعاء و القرآن الحكيم فإن القرآن مطلق ما يقرأ، فإن هذه العلل الخاصة أوجبت تخفيفا عاما- على نحو الحكمة- وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ في أوقاتها كما فرض سبحانه وَ آتُوا الزَّكاةَ أي أعطوها واجبها و مندوبها وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بإنفاق المال في مراضيه، بلا من أو رياء أو سمعة أو عجب، و كونه إقراضا

باعتبار أنه سبحانه يرده على الإنسان في الدنيا و الآخرة أضعافا مضاعفة.

وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ إلى الآخرة مِنْ خَيْرٍ أي طاعة و عبادة فإن ما يعمله الإنسان من الخير يقدم له إلى الجنة حتى إذا ذهب إليها وجد فيها ثواب ما عمل تَجِدُوهُ أي ذلك الخير عِنْدَ اللَّهِ في دار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 545

كرامته هُوَ أي تجدوه هو- بعينه بلا نقصان أو اختلاف- خَيْراً أي في حال كونه خيرا، أو بحذف «تجدوا» أي تجدوا خيرا، أو أنه بيان لهاء «تجدوه»، وَ في حال كونه أَعْظَمَ أَجْراً أي ثوابا مما كان هو، فثوابه في الآخرة أعظم من نفسه في الدنيا، إذا كان في الدنيا يساوي عشرة، فتجدون في الآخرة ثوابه مائة- مثلا- أو أعظم أجرا من الذي يبقى في الدنيا وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ اطلبوا غفرانه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ يتفضل بالرحمة فوق غفران الذنوب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 546

74 سورة المدثر مكيّة/ آياتها (57)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المدثر»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و حيث ختمت سورة المزمل بالصلاة و القرآن و سائر أنواع الخير، افتتحت هذه السور بذكر بعض أنواعها الأخر من القيام بالتبليغ، و التكبير، و التطهير.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، ليكون لنا عونا في أمورنا، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم و الفضل على العباد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 547

[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)

[2] يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ المراد به الرسول صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم، و المدثر أصله من «تدثر» باب التفعل، أدغمت التاء في الدال، وجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و المدثر هو لابس الدثار، و الدثار هو ما يلبسه الإنسان فوق الثوب الملاصق لجسده لأجل التدفئة، و في مقابله الشعار و هو الثوب اللاصق بالبدن، يسمى به لأنه لاصق بشعر الإنسان.

و قد روي أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أوحي إليه أخذته الرعدة من الهيبة فقال لخديجة عليها السّلام: دثريني، فدثرته، فجاء النداء «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ».

[3] قُمْ من استراحتك فَأَنْذِرْ الناس و خوفهم من العقاب إن تمادوا في الكفر و العصيان.

[4] وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ أي كبر اللّه و عظمه- وحده دون الأصنام-.

[5] وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ فإن المسلم يجب عليه تطهير قلبه عن أدران الشرك بتكبير اللّه وحده، و تطهير ثيابه عن الأوساخ بتقصير ذيله حتى لا يتسخ، و تنظيفه من النجاسات. و قد روي في معنى الآية التطهير من النجاسة و التطهير بالتقصير- و ذلك لأن المراد هو الأعم منهما-

و في الحديث «قصر ثوبك يكون أتقى و أنقى و أبقى».

[6] وَ الرُّجْزَ أي القذارة بأقسامها الشاملة للأصنام و للنجاسات الظاهرية، و للرذائل فَاهْجُرْ أي ابتعد عنها.

[7] وَ لا تَمْنُنْ في العطاء تَسْتَكْثِرُ أي تطلب الكثير بعدم المنّة، فإن ما يراد به وجه اللّه يضاعف، أو

المعنى لا تعط العطية تلتمس أكثر منها-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 548

[سورة المدثر (74): الآيات 7 الى 13]

وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)

وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13)

كما عن الباقر عليه السّلام

«1»

- أو لا تمنن بعطائك، على الناس مستكثرا ما أعطيته.

[8] وَ لِرَبِّكَ أي لأجله سبحانه فَاصْبِرْ على أذى الكفار و المشركين.

[9] فإنه سيأتي يومهم الذي ينتقم فيه منهم فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي نفخ في الصور، و النقر هو الضرب في الشي ء، و منه نقر الغراب، «و الناقور» فاعول، بمعنى البوق، لأنه ينقر فيه، فإن النفخ كالنقر.

[10] فَذلِكَ النقر يَوْمَئِذٍ أي يوم ينقر يَوْمٌ عَسِيرٌ صعب شديد.

[11] عَلَى الْكافِرِينَ باللّه و رسوله و ما جاء به من عنده غَيْرُ يَسِيرٍ أي غير سهل، فإن في ذلك اليوم يعذب الكافر. و هذه الجملة للتأكيد، و إفادة أن عسر ذلك اليوم إنما هو للكافر، لا للمؤمن التقي.

[12] ذَرْنِي أي دعني يا رسول اللّه وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي في حال كونه وحيدا لا مال له و لا أولاد، و المعنى انا أكفيك شره، و أنتقم منه جزاء لتكذيبه.

[13] وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي ذا مدّ و طول، فقد كان «وليد» الذي نزلت فيه هذه الآيات صاحب أموال كثيرة.

[14] وَ جعلت له بَنِينَ أي أولادا شُهُوداً أي حضورا عنده،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 93 ص 144.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 549

[سورة المدثر (74): الآيات 14 الى 17]

وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)

و هذه نعمة أخرى بأن يكون أولاد الإنسان عنده لا يغيبون عنه.

[15] وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي هيأت له الأمور تمهيدا، بأن صار ذات جاه في قومه، و مكانة في البلد، و هيأت له الأسباب.

[16] ثُمَّ يَطْمَعُ هذا الشخص أَنْ أَزِيدَ ماله و أولاده.

[17] كَلَّا لا أزيد بعد ذلك شيئا له، فقد كفر

بي، و أبدل مكان الشكر كفرانا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي معاندا لأدلتنا و حججنا لا يؤمن بها عنادا و مضادة.

[18] سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أي سأكلفه مشقة من العذاب لا طاقة له بها، و الصعود هي العقبة الشاقة المصعد، فإن من يكلف صعودها يشق عليه، فقد شبه العذاب بذلك للتقريب إلى الذهن.

و قد ورد في سبب نزول هذه الآيات و ما بعدها ما ذكره القمي قال نزلت في الوليد بن المغيرة، و كان شيخا مجربا من دهاة العرب و كان من المستهزئين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان رسول اللّه يقعد في الحجر و يقرأ القرآن، فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة، فقالوا:

يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال:

يا محمد أنشدني من شعرك؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما هو شعر، و لكنه كلام اللّه الذي ارتضته ملائكته و أنبياؤه و رسله. فقال: اتل علي منه شيئا، فقرأ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حم السجدة، فلما بلغ قوله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 550

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 599

[سورة المدثر (74): الآيات 18 الى 19]

إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ «1» قال: فاقشعر الوليد و قامت كل شعرة في رأسه و لحيته، و مر إلى بيته و لم يرجع إلى قريش من ذلك اليوم. فمشوا إلى

أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إن أبا عبد شمس صبأ «أي مال إلى دين محمد» أما تراه لم يرجع إلينا؟ فغدا أبو جهل إلى الوليد، فقال له: يا عم نكست رؤوسنا و فضحتنا و أشمت بنا عدونا و صبوت إلى دين محمد؟ فقال: ما صبوت إلى دينه و لكن سمعت منه كلاما صعبا تقشعر منه الجلود، فقال له أبو جهل: أخطب هو؟ قال:

لا، إن الخطب كلام متصل و هذا كلام منثور و لا يشبه بعضه بعضا.

قال: أ فشعر هو؟ قال: لا أما إني لقد سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها و ما هو بشعر. قال: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه فلما كان من الغد قالوا له: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا هو سحر فإنه آخذ بقلوب الناس، فأنزل اللّه على رسوله في ذلك «ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» و إنما سمي وحيدا لأنه قال لقريش: أنا أتوحد بكسوة البيت سنة و عليكم في جماعتكم سنة، و كان له مال كثير و حدائق و كان له عشرة بنين بمكة، و كانت له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها

«2».

[19] إِنَّهُ أي الوليد فَكَّرَ حول القرآن وَ قَدَّرَ القول في نفسه.

[20] فَقُتِلَ دعاء عليه، أي قتله اللّه كَيْفَ قَدَّرَ؟ تقديرا يوافق أهواء المكذبين و أذهان العامة، فإن الناس يسرعون إلى نسبة السحر إلى كل

______________________________

(1) فصلت: 14.

(2) تفسير القمي: ج 2 ص 393.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 551

[سورة المدثر (74): الآيات 20 الى 26]

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ

هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)

إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)

ما خرج عن طورهم، و هذا تعجب من تفكيره و تقديره.

[21] ثُمَ للتراخي في الكلام لا في الخارج قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير لشدة التعجب منه، و إعادة الدعاء عليه.

[22] ثُمَّ نَظَرَ في طلب ما يدفع به القرآن، و النظر هنا التفكر.

[23] ثُمَّ عَبَسَ أي قطب وجهه و كلحه، وَ بَسَرَ البسور بدو التكره في الوجه.

[24] ثُمَّ أَدْبَرَ أي أعرض عن الحق، و أن يقول في القرآن ما علمه منه وَ اسْتَكْبَرَ فقد منعه كبره عن القول بالحق.

[25] فَقالَ إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي يروى عن السحرة.

[26] إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ فليس وحيا منزلا من السماء.

[27] ثم جاء السياق ليهدده لهذا الكلام المكذوب الذي افتراه، فإنه لو كان سحرا لقدر السحرة على الإتيان بمثله، و لقدر المشرعون في العالم أن يضعوا قوانين شبيهة به، لكنه كلام اللّه و قد علموا به و إنما منعهم عن ذلك كبرهم و تمردهم سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أي سأدخله جهنم، و ألزمه إياها، فإن «الإصلاء» إلزام موضع النار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 552

[سورة المدثر (74): الآيات 27 الى 31]

وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ

يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)

[28] وَ ما أَدْراكَ أيها السامع ما سَقَرُ أي أنت لا تدري ما هي لشدة عذابها، حتى كأن الإنسان لا يمكن أن يعرفها على حقيقتها.

[29] لا تُبْقِي شيئا مما يطرح فيها، بل تأكل اللحم و تحرق الجلد و العظم وَ لا تَذَرُ إما تأكيدا أو بمعنى أنها لا تدعهم يفنون حتى ينجوا من العذاب، بل تحرق و تعيد، و هكذا دواليك.

[30] لَوَّاحَةٌ من التلويح بمعنى تغيير اللون بواسطة الشمس و نحوها لِلْبَشَرِ أي أنها تغير الجلود، و «البشر» جمع بشرة، و هي ظاهر الجلد.

[31] عَلَيْها أي الملائكة الموكلون عليها تِسْعَةَ عَشَرَ و هذا أحد الأعداد الممكنة، و لا مجال لأن يقال: لماذا ليسوا أكثر و لا أقل؟ فإن أي عدد كان محل هذا السؤال، كما أن في سائر الأعداد أيضا لا إشكال، كثمانية أبواب للجنة، و سبعة للنار، و سبع سماوات طباقا و هكذا.

[32] وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ أي الموكلون بها إِلَّا مَلائِكَةً لأنهم أقوى، و لعدم رقتهم لأهل النار، بخلاف ما لو كانوا آدميين وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ أي تعدادهم بكونهم تسعة عشر إِلَّا فِتْنَةً و امتحانا لِلَّذِينَ كَفَرُوا حتى يتبين هل هم يؤمنون أم يضحكون من هذا العدد قائلين لا يكفي هذا العدد القليل لتعذيب الكثرة من الكفار و العصاة فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 553

مخلوقاته سبحانه موجبة للفتنة و الامتحان سواء كانت نعما أو نقما في الدنيا أو في الآخرة، و سواء كان أصل الشي ء أو خصوصياته و مزاياه.

و قد ذكرنا عدد الملائكة في القرآن لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود و النصارى

بأن الرسول حق، حيث يرون أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبر بما هو في كتبهم مما لا يعلمه أحد إلا هم فقط، فإخبار إنسان لا يطلع على كتبهم و لم يسمع منهم بذلك يوجب تعيينهم بأنه حق و إنما تعلم ذلك بالوحي وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا بالرسول إِيماناً حيث يرون تصديق أهل الكتاب- الذين هم أهل الفن- للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيوجب ذلك زيادة إيمانهم وَ لا يَرْتابَ أي لا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ في نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هذا تأكيد للجملة السابقة، فإن المؤمن قلبا من أهل الكتاب، و المؤمن ظاهرا من سائر الناس بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في معرض الشك و الزوال، كما هو الشأن في كل ملكة إذا لم تقو، فإذا وجد هذا الشاهد تقوت الملكة، و لم يكن الإنسان معرضا للريب.

وَ لِيَقُولَ اللام للعاقبة، أي أن الغاية من تعريف عدد خزنة النار أمران: الأول زيادة إيمان المؤمنين، و حصول العلم لأهل الكتاب بصدق الرسول. الثاني شدة نفاق المنافق، و كفر الكافر، فيقول الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من المنافقين وَ الْكافِرُونَ بالرسول:

ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ فكأنهم زعموا أن هذا العدد الخاص من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 554

[سورة المدثر (74): آية 32]

كَلاَّ وَ الْقَمَرِ (32)

باب المثل، لا أنه حقيقة مطابق لعدد الموكلين بالنار، فأخذوا يستفسرون عن قصد هذا المثل، فشأن المعاند حيث يستفسر حول كل كلمة من كلمات خصمه لأن التواء قلبه يوجب أن يرى كل شي ء متساويا.

ثم يأتي السياق ليبين جواب هؤلاء السائلين بقوله: كَذلِكَ أي ببيان الحقائق، كما

بين عدد ملائكة النار يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ فإنه إذا ذكر الحقيقة نفر عنها أناس، فذلك إضلال لهم وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إذ يتعلق بالإيمان أناس آخرون و ذلك هداية لهم، فإن إضلاله و هدايته ليسا بمعنى الجبر، بل بمعنى إنزال آية أو بيان حكم يوجب الضلال و الهدى ليمتحن الناس.

و بمناسبة بيان عدد جنوده الموكلين، بالنار جاء السياق ليقرر حقيقة عامة بقوله: وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ الموكلين بكل شي ء، المحافظين لكل خلق إِلَّا هُوَ سبحانه وحده، إلا إذا أعلم ذلك لبعض، فليس لأحد أن يقول: أن جند كذا أكثر أو أقل مما يخبر اللّه سبحانه وَ ما هِيَ أي سقر التي تقدم الكلام حولها إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي تذكرة لهم، بمعنى أن ذكرها يذكرهم بالعذاب فيقلعوا عن المعاصي، أو ان هذه السورة تذكرة لهم.

[33] كَلَّا ليس الأمر على ما توهم هؤلاء الكفار من أنه لا حساب و لا جزاء وَ الْقَمَرِ أي قسما بالقمر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 555

[سورة المدثر (74): الآيات 33 الى 38]

وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)

[34] وَ قسما ب اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ولّى و ذهب ليأتي مكانه النهار.

[35] وَ قسما ب الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي إذا أضاء و جاء.

[36] إِنَّها أي «سقر» التي تقدم الكلام حولها لَإِحْدَى الآيات الْكُبَرِ جمع كبري، أي إحدى آيات اللّه العظمى، فإن من قدر على خلق تلك الآيات من القمر و الليل و النهار، لقادر على خلق النار و سقر لتعذيب الكفار و غير المؤمنين، و لعل اختيار الحلف

بهذه الأمور لإيحائها بالظلمة المختلطة بشي ء من الضياء، كالنار التي هي كذلك، كما أن سكون هذه الأمور يوحي بسكون أهل النار الشبيه بالموت بخلاف أهل الجنة الذين هم أحياء.

[37] في حال كونها نَذِيراً لِلْبَشَرِ تنذرهم بأنهم إن لم يؤمنوا بها ابتلوا بها، كما تقول: هذه السلاسل تنذر المجرمين.

[38] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أيها البشر أَنْ يَتَقَدَّمَ إلى الخير لينجو أَوْ يَتَأَخَّرَ بالعصيان حتى يبتلي، فلكل إنسان أن يختار مصيره «إما إلى جنة و إما إلى النار».

[39] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من الطاعة أو المعصية رَهِينَةٌ كالرهن الذي هو محبوس في مقابل الدين؛ فإن و في الدين فك و إلا لم يفك، و كذلك إذا وفى الإنسان بما عليه- من الإيمان و الطاعة- فك و حظي بالثواب، و إلا كان مصيره النار و البقاء في حبس الأبد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 556

[سورة المدثر (74): الآيات 39 الى 45]

إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)

وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45)

[40] إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ الذين يعطى كتابهم بأيمانهم، و يؤخذ بهم- يوم القيامة- ذات اليمين نحو الجنان، فإنهم قد فكوا أنفسهم من الرهن بأعمالهم الصالحة.

[41] فإنهم فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعضهم من بعض، أو من الملائكة، أو من نفس المجرمين.

[42] عَنِ الْمُجْرِمِينَ و على الأولين، يلتفتون بعد السؤال إلى المجرمين، كما قال سبحانه إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ .. إلى قوله: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ* قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ «1» و على الثالث يكون المسؤول ابتداء هو المجرم.

[43] فيقولون لهم: ما سَلَكَكُمْ أي ما أدخلكم

أيها المجرمون فِي سَقَرَ في هذه النار العظيمة؟

[44] قالُوا أي المجرمون في جوابهم لَمْ نَكُ نحن في الدنيا مِنَ الْمُصَلِّينَ أي ما كنا نصلي الصلوات المفروضة.

[45] وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ إطعاما واجبا، بإعطاء الزكاة و نحوها.

[46] وَ كُنَّا نَخُوضُ في الباطل مَعَ الْخائِضِينَ أي مع الذين يخوضون في الباطل، و أصل «الخوض» الدخول في الشي ء بجميع الجسم فكأن

______________________________

(1) الصافات: 52- 57.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 557

[سورة المدثر (74): الآيات 46 الى 51]

وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)

فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)

الباطل شي ء يخاض فيه.

[47] وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ «الدين» هو الجزاء، أي لا نعترف بيوم القيامة، بل نقول أنه كذب لا يكون.

[48] حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت، بأن لم نتب قبل أن نموت و سمي الموت يقينا لأنه سبب لانكشاف ذلك العالم لدى الإنسان، حتى يتيقن بما هناك.

[49] و إذا كانوا كذلك في الدنيا فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أي الذين يشفعون للمذنبين، من الأنبياء و الملائكة و العلماء و من أشبههم، إذ ذنبهم فوق حد الشفاعة، و هذا من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ لا يشفع لهم أحد حتى تنفع.

[50] ثم يأتي السياق ليستغرب من عنادهم في الباطل فَما لَهُمْ أي ما لهؤلاء الكفار عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي لم أعرضوا عن القرآن الذي يذكرهم بالحقائق و بما فيه نفعهم؟ و أي خير لهم في هذا الإعراض؟

[51] كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ جمع «حمار» مُسْتَنْفِرَةٌ أي وحشية نافرة «و استنفر» بمعنى نفر، كأنها طلبت من نفسها الفرار، لما شاهدت من الخوف، و تشبيههم بالحمار لعدم إدراكهم و

بلادتهم.

[52] فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي الأسد، فإن الحمار إذا شاهد الأسد فر منه، و كذلك الكفار يفرون من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 558

[سورة المدثر (74): الآيات 52 الى 56]

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ ما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

[53] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى أي يعطى في يوم القيامة صُحُفاً مُنَشَّرَةً بأن يوحي إليه و ينزل عليه الكتاب من اللّه سبحانه كما قال سبحانه لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ «1»؟ أو المراد أنهم مع هذا الإعراض عن الحق يريد أن يعطى كتابه يوم القيامة منشورا فيه الحسنات، إذ الكتاب إذا كان فيه سيئات يطوى لئلا يطلع عليه أحد، أما إذا كان فيه الحسنات ينشر على رؤوس الأشهاد للافتخار و المباهاة، و كأن الإتيان ب «بل» لإفادة أنهم مع الكفر يتوقعون هذا.

[54] كَلَّا لا يعطون كتابا منشورا، فإنهم لم يعملوا ما يستحقون به ذلك بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ حتى يدخلوا في زمرة المؤمنين الموجب لإعطاء كتاب منشور بأيديهم، أو المراد أنهم حيث لا يخافون الآخرة أعرضوا عن التذكرة.

[55] كَلَّا ليس الأمر على ما توهموا من أن إعراضهم خير لهم إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ أي القرآن يذكرهم.

[56] فَمَنْ شاءَ التذكرة و الاهتداء و الخير ذَكَرَهُ أي اتعظ به، و من لم يشأ فهو و شأنه.

[57] وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن التذكر له طرفان: إرادة اللّه

______________________________

(1) الفرقان: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 559

سبحانه بإرسال الرسول و إرشاد

الناس، و تقبل الإنسان، فتذكرهم مرتبط بإرادة اللّه، و قد أراد سبحانه، و أرشد فبقي عليهم أن يقبلوا هُوَ سبحانه أَهْلُ التَّقْوى أي أهل لأن يتقى منه، إذ الإنسان إنما يتقي من العالم القادر الذي إذا خالفه الإنسان علم بالمخالفة و عاقب، و كل ذلك موجود فيه سبحانه وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي أهل لأن يغفر الذنب لمن اتقاه و جاء إلى الطريق، فاتقوه أيها الناس حتى يغفر لكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 560

75 سورة القيامة مكّية/ آياتها (41)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «القيامة»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث، و حيث ختمت سورة «المدثر» بما يرتبط بالقيامة ابتدأت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي هو الإله بالحق، و لا إله غيره، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحم و الفضل في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 561

[سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)

[2] لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ «لا» للنفي، و قد سبق أن الإتيان بها لنكتة مليحة، هي أن الحالف يريد أن يبين و يؤكد المطلب غير حالف مع الإيماء إلى الحلف، كما تقول «لا أقسم بحياتك إلا أن الأمر كذا» تريد أن لا تحلف به- لأمر- مع الإلماع إلى الحلف لتحصل فائدة التأكيد.

[3] وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ و هي النفس اليقظة التي تلوم صاحبها عن التقصير في خدمة اللّه سبحانه، و إن كان الإنسان في أرقى درجات الطاعة. و قيل أن جهة نفي

القسم أن الكفار لم يكونوا يقرّون بالمقسمين، فكأنه قيل لا أحلف بهما لأنكم لا تقرون بذلك.

[4] أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أي هل يظن أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بعد الموت لأن يحشر؟ و المعنى أ يظن أنه لا قيامة و لا معاد؟.

[5] و قد كان زعم الإنسان بعدم الجمع، من جهة حسبانه انه تعالى غير قادر على ذلك، و لذا جاء السياق لدفع هذا الزعم الباطل بقوله: بَلى نجمع عظامه فإنّا نكون قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أي رؤوس أصابعه، و هذا في غاية القدرة، لأن خطوط أصابع الناس يختلف بعضها مع بعض و إن كان البشر عشرات الآلاف من الملايين، و من يقدر على صنع و إعادة أدق أجزاء الإنسان قادر على إعادة غير ذلك من سائر أجزائه: قالوا: و أعجب ما في الإنسان أربعة: اختلاف الأصوات، و الوجوه، و خطوط البنان، و ذبذبات الخطوط حتى أنّ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 562

[سورة القيامة (75): الآيات 5 الى 10]

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9)

يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)

إنسانين لو خطّا كان من المستحيل عادة أن يتساوى خطهما، و إنما يعرف الاختلاف بالمجاهر و الآلات الحديثة:

[6] إن الإنسان لا يكفر بالمعاد، لأنه ينكر في قلبه قدرة اللّه سبحانه على البعث بَلْ إنما ينكر لأنه يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أي يعصي أَمامَهُ أي في مستقبل عمره، و حيث إن الاعتراف بالآخرة يمنع عن فجوره، ينكر حتى يكون الطريق مفتوحا لفجوره، و إذ خوّف من الآخرة أنكرها ليسكت المنكر له:

[7] ف يَسْئَلُ سؤال منكر أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟ أي متى يكون،

بمعنى أنه لا يكون، و إلا فأين هو؟

[8] ثم يأتي السياق ليبين وقت يوم القيامة فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ أي شخص عند معاينة الأهوال، أو تقلب البرق، أو خرج منه البرق، فإن الإنسان لدى الاصطدام يخرج من عينه مثل البرق.

[9] وَ خَسَفَ الْقَمَرُ أي ذهب نوره، فظهر جرما كمدا بلا نور.

[10] وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بأن يختل نظامهما الفلكي فيرى كل واحد منهما بجنب الآخر.

[11] يَقُولُ الْإِنْسانُ المكذب بيوم القيامة يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم أَيْنَ الْمَفَرُّ أي إلى أين يمكن الفرار من هذه الأهوال؟ و هذا استفهام للإنكار، و التحسر، بأنه لا يمكن الفرار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 563

[سورة القيامة (75): الآيات 11 الى 16]

كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)

[12] كَلَّا فإنه لا يمكن الفرار لا وَزَرَ و هو ما يتحصن به الإنسان من جبل و نحوه، أي لا ملجأ للفرار و الهرب.

[13] إِلى حساب رَبِّكَ أيها الإنسان يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم الْمُسْتَقَرُّ أي المنتهى، فالصالحون إلى جنته، و الطالحون إلى ناره.

[14] يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ أي يخبر الإنسان، و المخبر هو اللّه سبحانه بواسطة الأنبياء و الشهداء يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة بِما قَدَّمَ إلى الآخرة في حياته، من الأعمال الصالحة وَ ما أَخَّرَ كما لو أوقف وقفا و مات فجرت الصدقة بعد مماته، و إنما يخبر بذلك للجزاء و الثواب، أو النكال فإن المحسن أو المجرم، يقرأ أولا ما عمل ثم يجازى.

[15] و مهما اعتذر الإنسان بشتى الأعذار، فإنه مما لا تقبل منه بَلِ

الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ و ما عمل في الدنيا بَصِيرَةٌ التاء للمبالغة، أي كامل العلم و العرفان، أو التاء للتأنيث، أي حجة بصيرة، فإن الأعضاء تشهد بما صدر منه.

[16] وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي و لو اعتذر لم ينفعه عذره، أو يعلم ما صنع و إن اعتذر في ظاهر لفظه، فإن الإلقاء بمعنى الإعطاء، كما يقال فلان ألقى بحجته، «و معاذير» جمع معذرة، أو معذار.

[17] ثم يأتي السياق لتوجيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كيفية تحمل القرآن إذا ما يوحى إليه، و لعل المناسبة الربط بين أحوال القيامة و بين العمل الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 564

[سورة القيامة (75): الآيات 17 الى 20]

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)

يوجه إليه القرآن. قال ابن عباس: كان النبي إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه و حرصه على أخذه و ضبطه مخافة أن ينساه، و نحوه نقل عن سعيد بن جبير، أقول: و لعل هذا العمل كان منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أثناء هذه السورة، و لذا جاء هذا التوجيه في الأثناء لا تُحَرِّكْ يا رسول اللّه بِهِ أي بالقرآن لِسانَكَ بأن تقرأه كلمة كلمة بمجرد قراءة جبرئيل قبل أن يتم الوحي لِتَعْجَلَ بِهِ أي لتأخذه على عجلة مخافة أن تنساه.

[18] إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ أن نجمعه و نؤلّفه وَ قُرْآنَهُ أي أن نقرأه عليك.

[19] فَإِذا قَرَأْناهُ و ذلك بقراءة جبرئيل لك فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي قراءته.

[20] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي إيضاحه و تفسيره في مجملاته و متشابهاته فعلينا الجمع و القراءة و البيان،

و عليك الرسالة و التبليغ. و في الحقيقة الأمر من المدهشات لو لا الرسالة، فإنه كيف يتسنى للشخص أن يحفظ هذا المقدار الكبير من الكلام بدون تكرار في القراءة عن كتاب. ألا ترى أن أبلغ الخطباء و أذكرهم إذا صعد المنبر و قرأ مقدار صفحتين، و كان عرفه على حفظه لم يتمكن من قراءته مرة ثانية كما قرأ أولا، لكن وعد اللّه سبحانه للرسول بقوله «فلا تنسى» هو الذي أوجب حفظه بمجرد قراءة جبرئيل، و لو كان الرسول غير صادق في دعواه- كما زعم الكفار- كيف تسنى له هذا الحفظ المدهش.

[21] ثم رجع السياق إلى الكلام السابق بقوله: كَلَّا لا تتدبرون القرآن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 565

[سورة القيامة (75): الآيات 21 الى 26]

وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)

كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26)

و لا تتفكرون في المعاد «إرادة لأن تفجروا أمامكم» بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي الدنيا الحاضرة.

[22] وَ تَذَرُونَ أي تتركون الْآخِرَةَ فلا تعملون لها.

[23] فاعلموا أن من عمل هنا للآخرة كان حاله هناك حسنا، و من لم يعمل كان حاله سيئا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة ناضِرَةٌ أي ناعمة بهيجة حسنة و هي وجوه المؤمنين.

[24] إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أي إلى رحمته سبحانه و فضله و لطفه، و هذا كما تقول «أنظر إلى فلان» و هو بعيد عنك، تريد إلى فضله و رحمته، أو إلى حركاته و أعماله.

[25] وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة باسِرَةٌ شديدة العبوس و التقطيب، فإن الإنسان المحزون الخائف يبسر وجهه، و هي وجوه الكافرين و العصاة.

[26] تَظُنُ أصحاب تلك الوجوه، و

نسبة الظن إلى الوجوه مجاز أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي داهية تكسر فقار الظهر من شدتها، و إنما قال «تظن» لأن الإنسان مهما رأى العذاب قريبا لا يستعد لأن يعترف بنزوله عليه رجاء أن يدفع عنه، فهو ظان بالعذاب لا متيقن.

[27] كَلَّا ليس الأمر على ما توهم الكفار من أنها دنيا بلا آخرة، فإنه سيظهر لهم كذب هذا الزعم إِذا بَلَغَتِ الروح التَّراقِيَ جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 566

[سورة القيامة (75): الآيات 27 الى 33]

وَ قِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى (31)

وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)

«ترقوة»، و هي العظام المكتنفة بالحلق، و هذا كناية عن الإشراف على الموت.

[28] وَ قِيلَ مَنْ راقٍ لعل المراد أن الملائكة تسأل بعضها بعضا من يرقى بروح هذا الشخص هل ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟

[29] وَ ظَنَ المحتضر أو من حضره أَنَّهُ الْفِراقُ أي أن الذي نزل به هو فراقه من الدنيا، و ابتعاده عن الأحبة.

[30] وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ هذا كناية عن عدم الحيلة في إرجاعه إلى الدنيا، و شفائه من الموت، فإن الإنسان الذي تلتف رجليه، لا يتمكن من الهرب و الفرار عن المكروه.

[31] إِلى رَبِّكَ أيها الإنسان يَوْمَئِذٍ أي في يوم الاحتضار الْمَساقُ أي السوق، فلا علاج إلا الذهاب إليه، و قد تم عمرك في الدنيا.

[32] فهل عمل هذا الإنسان الكافر عملا ينجيه هناك؟ كلا فَلا صَدَّقَ ما يجب التصديق به وَ لا صَلَّى للّه الصلوات المفروضات.

[33] وَ لكِنْ عوض ذلك كَذَّبَ باللّه و ما يجب الإيمان به وَ تَوَلَّى

أي أعرض عن الحق.

[34] ثُمَ لترتيب الكلام، لا لترتيب المطلب في الخارج ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي يتكبر افتخارا بتكذيبه، من المط و هو التمدد، فإن الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 567

[سورة القيامة (75): الآيات 34 الى 37]

أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37)

المتبختر يمدد بدنه، و لعل المراد ب «ذهب إلى أهله» أن المتبختر إنما يظهر معظم كبره لأهله حين يرجع إليهم من خارج البيت.

[35] أَوْلى لَكَ الحالة التي أنت عليها من الإيمان و الإطاعة، و الإتيان ب «لك» بمعنى أن المتكبر الطاغي أولى له حالته السيئة من الأمر الحسن الذي يدعى إليه، لأنها تجانسه لا الحسن فَأَوْلى أي أيضا نقول أولى لك تأكيدا لعدم قابليته للإيمان و الهداية.

[36] ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى للتأكيد.

و قد روى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ ذات مرة بيد أبي جهل و قال له «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» فقال أبو جهل: بأي شي ء تهددني لا تستطيع أنت و لا ربك أن تفعلا بي شيئا و إني لأعز أهل هذا الوادي، فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية

«1».

أقول: و قد تمكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ربه تعالى أن يفعلا به كل شي ء، فقد قتل أبو جهل في بدر، و التحق بالسعير. و لفظة «أولى لك» تهديد، أي إنك سترى عاقبة ما اخترت من الانحراف.

[37] أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أي هل يظن الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي مهملا بلا أمر و لا نهي و لا حساب و لا جزاء؟ فإن «سدى»

بمعنى «مهمل».

[38] أَ لَمْ يَكُ الإنسان نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي يصب و يراق ألا يستدل بذلك و بما اختلف عليه من الأطوار أن اللّه قادر على أن يعيده.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 168.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 568

[سورة القيامة (75): الآيات 38 الى 40]

ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)

[39] ثُمَّ كانَ عَلَقَةً و هي القطعة من الدم المنعقد، فإن النطفة تتبدل إلى تلك فَخَلَقَ اللّه منها بشرا سويا فَسَوَّى أي سوى خلقه بإعطائه الآلات و الأجهزة و المشاعر و غير ذلك.

[40] فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى فمن يا ترى صنع كل ذلك غيره سبحانه؟

[41] أَ لَيْسَ ذلِكَ اللّه الذي فعل هذا بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى

فمن قدر على الابتداء قدر على الإعادة، فكيف ينكر الكافر قدرته سبحانه على البعث و النشور؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 569

76 سورة الإنسان مدنية/ آياتها (32)

و تسمى بسورة الدهر، سميت السورة بهذين الاسمين لاشتمالها على لفظي «الإنسان» و «الدهر»، و هي كسائر السور المدنية مشتملة على ما يرتبط بالنظام إلى جنب معالجتها لقضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة القيامة بذكر أحوال الإنسان من حين كونه نطفة إلى حين البعث، افتتحت هذه السورة بذكر ابتداء الإنسان، ليرتب عليه معاده و نشره.

نزلت هذه السورة في الخامس و العشرين من ذي الحجة في علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جارية لهم تسمى فضة، و ذلك أنه مرض الحسن و الحسين عليهما السّلام فأعادهما الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جماعة من الصحابة، فقالوا:

يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا، فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما اللّه سبحانه. و نذرت فاطمة و كذلك فضة، فبرآ و ليس عندهم شي ء، فاستقرض على ثلاثة أصوع من شعير من يهودي فطحنت الزهراء عليها السّلام صاعا منها فاختبزته، و صلى علي المغرب و قربته إليهم، فأتاهم مسكين يدعو لهم و سألهم فأعطوه أقراصهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 570

جميعا و لم يفطروا إلا بالماء، فلما كان اليوم الثاني صاموا جميعا، و أخذت فاطمة عليها السّلام صاعا فطحنته و اختبزته، و لما كان المغرب قدمته للإفطار فإذا يتيم على الباب يستطعم، فأعطوه و لم يذوقوا إلا الماء في إفطارهم، فلما كان اليوم الثالث عمدت فاطمة عليها السّلام إلى الصاع الثالث فطحنته و اختبزته، و لما كان المغرب و أرادوا أن يفطروا فإذا أسير بالباب يستطعم، فأعطوه أقراصهم الخمسة و لم يفطروا إلا بالماء، فلما كان اليوم الرابع و قد قضوا نذورهم أتى علي و معه الحسن و الحسين إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بهما ضعف، فبكى رسول اللّه مما رأى فيهما من الضعف، فنزل جبرئيل بسورة «هل أتى» «1».

و

في بعض الأحاديث أن اللّه سبحانه أنزل عليهم مائدة من السماء «2».

قالوا: و من غريب أمر هذه السورة أنها وصفت نعيم الجنة كله باستثناء ذكر «الحور» تكريما لفاطمة عليها السّلام.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو أول كل شي ء، فمن حسن الابتداء أن يبدأ باسمه الكريم في كل أمر، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم لكل ناقص، فيكمل نقصه و من تكميل النقص غفران الزلل حتى يكون الإنسان و كأنه لم يذنب.

______________________________

(1) تأويل الآيات الظاهرة: ص

724.

(2) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ج 1 ص 107.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 571

[سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً (4)

[2] هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ استفهام للتقرير حتى يقر الإنسان بهذه الحقيقة، فيرتب عليه أنه إذا لم يكن ثم كان، كان مكوّنه قادرا على أن يعيده بعد أن يفنى و يهلك حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ أي زمان طويل من الأزمنة السالفة لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي شيئا يذكر، بأن كان معدوما لا أثر له؟ و الجواب: أنه نعم كان كذلك، و هل لأحد أن ينكر هذه الحقيقة.

[3] إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ هي المني أَمْشاجٍ جمع «مشيج» من مشجت بمعنى خلطت، أي النطفة أخلاط مختلفة من ماء الرجل و ماء المرأة، و من الأجزاء المتجمعة من المأكولات المختلفة، و إنما خلقناه ل نَبْتَلِيهِ أي نمتحنه بما نكلفه من الأعمال، هل يحسن أم يسي ء؟

فَجَعَلْناهُ أي الإنسان سَمِيعاً بَصِيراً يسمع و يبصر ليتم عليه التكليف.

[4] إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي الطريق إلى الحق ببعث الأنبياء و إرسال الكتب، ف إِمَّا يكون شاكِراً لأنعم اللّه سبحانه بالإيمان و الإطاعة، وَ إِمَّا يكون كَفُوراً كثير الكفر، فإن كل كافر هو كفور باعتبار مختلف الأزمنة و الأحوال.

[5] إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ لأن يجروا بها جمع سلسلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 572

[سورة الإنسان (76): الآيات 5 الى 6]

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً

(5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)

و هي قطعات الحديد المتداخلة، و هي غير منصرفة، لأنها على وزن «مفاعل» وَ أَغْلالًا جمع غل لأن يقيدوا بها وَ سَعِيراً أي نارا مستعرة، أي ذات لهب و اتقاد، و المراد تهيؤ ذلك لهم في الآخرة.

[6] إِنَّ الْأَبْرارَ جمع برّ و هو المؤمن الصالح يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ و هي القدح التي تكون فيه الخمر، أو سائر أقسام المشروبات و لعل تقديم الشراب لمناسبته مع ما تقدم من «السعير» الموجبة لطلب الإنسان الماء- مناسبة الضد للضد- كانَ مِزاجُها أي ما يمزج بشرابها كافُوراً لبرودته و عذوبته و طيب عرفه، و إتيان الضمير مؤنثا لأن الكأس مؤنث سماعي.

و قد كانت العرب تمزج الخمر بالكافور حينا و بالزنجبيل حينا، و لذا ذكروا أن خمر الجنة كذلك، تماشيا مع مداركهم، و إن كان هناك ما لا يشبه أطعمة الدنيا و أشربتها، لذة و فضلا.

[7] عَيْناً أي أن تلك الكأس تملأ من عين، و كأنها منصوبة على تقدير الفعل، أي نبشركم أو نهنئكم يَشْرَبُ بِها أي منها- و الإتيان بالباء لنكتة بلاغية- عِبادُ اللَّهِ الذين عبدوا اللّه و أطاعوه حق طاعته يُفَجِّرُونَها أي يجرونها و يخرجونها حيث شاؤوا من منازلهم و قصورهم تَفْجِيراً و من المتعة أن يكون المنزل بحيث يمكن تفجير العين فيه، فإنه تلهي و تلذذ.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 573

[سورة الإنسان (76): الآيات 7 الى 9]

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (9)

[8] ثم وصف عباد اللّه بقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي كانوا في

الدنيا بحيث إذا نذروا نذرا وفوا به و لم يغشّوا، و النذر هو أن يلتزم الإنسان على نفسه خيرا لأجله سبحانه، كأن ينذر الصيام أو الصدقة أو ما أشبه وَ يَخافُونَ يَوْماً أي من أهوال ذلك اليوم، و هو يوم القيامة كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي منتشرا في كل جهة، حتى يشمل كل كافر و آثم، و ليس كشرور الدنيا التي تكون خاصة بأرض أو إنسان أو محل.

[9] وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي لأجل اللّه سبحانه، و على حبه تعالى، أو بمعنى على أنهم يحبون الطعام لجوعهم مِسْكِيناً و هو الفقير الذي أسكن الفقر حركاته، فإن الغني يتحرك هنا و هناك أما الفقير فإنه يسكن لعدم مال له يصرفه في أموره وَ يَتِيماً و هو الطفل الذي مات أبوه، أو أبواه، و قد يطلق على من ماتت أمه وَ أَسِيراً الذي أسر في الحرب، و قد كان أهل البيت عليهم السّلام وفوا بالنذر و أطعموا الثلاثة- كما تقدم-.

[10] و قصدهم حين الإطعام هو إِنَّما نُطْعِمُكُمْ أيها الفقراء لِوَجْهِ اللَّهِ أي لذاته سبحانه و إنما جي ء ب «الوجه» كناية عن الاتجاه و القصد، تشبيها بوجه الإنسان الذي يتوجه الإنسان إليه حين طلب مرضاته لا نُرِيدُ مِنْكُمْ أيها الفقراء جَزاءً لنا، كأن تعملوا بعض أعمالنا جزاء تصدقنا لكم وَ لا شُكُوراً بأن تشكروننا و لو باللسان- و إنما الصدقة خالصة للّه سبحانه، للتقرب من رضوانه-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 574

[سورة الإنسان (76): الآيات 10 الى 14]

إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11) وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ

لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً (13) وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)

[11] إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا لو عصيناه بأن لم نف بالنذر، أو لم نطعم المسكين لوجهه يَوْماً عَبُوساً أي مكفهرا تعبس فيه الوجوه. و نسبة العبوس إلى اليوم من باب علاقة الحال و المحل، من قبيل «يا سارق الليلة» قَمْطَرِيراً أي صعبا شديدا.

[12] فَوَقاهُمُ اللَّهُ أي حفظهم و كفاهم شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي يوم القيامة وَ لَقَّاهُمْ أي استقبلهم و أعطاهم نَضْرَةً في الوجوه، و هي البهجة و الحسن وَ سُرُوراً في القلوب.

[13] وَ جَزاهُمْ أي كافأهم و أعطاهم جزاء بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم جَنَّةً وَ حَرِيراً مكانا للسكنى، و لباسا و أثاثا.

[14] في حال كونهم مُتَّكِئِينَ أي مستريحين فِيها أي في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة، و هي سرير العروس في الحجلة لا يَرَوْنَ فِيها أي في تلك الجنة شَمْساً تحرقهم وَ لا زَمْهَرِيراً أي بردا يؤذيهم.

[15] وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها يعني أن ظل أشجار الجنة قريبة منهم فإن الضياء الموجود هناك و فيه شي ء من الحرارة محجوب بالأشجار و حيطان القصور و السقوف، و يكون الهواء في ظلالها أهنأ و أطيب، و إنما جعل كذلك لتطلب الإنسان تغيير الهواء من الظل إلى الحر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 575

[سورة الإنسان (76): الآيات 15 الى 17]

وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)

و بالعكس، و «دانية» حال عطف على «متكئين» وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها جمع قطف و هو الثمرة تَذْلِيلًا أي سهلت أخذ ثمارها باليد، لقربها و نضجها فتقطف بسرعة.

[16] وَ

يُطافُ عَلَيْهِمْ و الطائف هم الوالدان المخلدون بِآنِيَةٍ أي ظرف كأنها الإبريق و نحوه مما فيه الماء مِنْ فِضَّةٍ لعل فيها الشراب وَ أَكْوابٍ جمع كوب، و هو القدح الصغير، و ذلك لصب الشراب من الآنية في الأكواب لتناول الناس الأبرار كانَتْ تلك الأكواب قَوارِيرَا أي زجاجات.

[17] قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ فهي من زجاجة بلون الفضة لتجمع بين اللذتين في المشاهدة.

قال الصادق عليه السّلام ينفذ البصر في فضة الجنة كما ينفذ الزجاج

«1». أقول: فهي جامعة بين صفاء الزجاجة و شفيفها و بياض الفضة و لينها قَدَّرُوها أي قدروا تلك الأكواب تَقْدِيراً كأنها صنعت ب «الماكنة» في توحيد أشكالها و مزاياها، لا كالأواني المصنوعة باليد التي يراها الإنسان مختلفة تنبو عنها العين لاختلافها.

[18] وَ يُسْقَوْنَ فِيها أي في الجنة، و الفاعل هم الأبرار المقدم ذكرهم كَأْساً أي شرابا في الكأس- بعلاقة الحال و المحل- كانَ مِزاجُها

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 8 ص 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 576

[سورة الإنسان (76): الآيات 18 الى 21]

عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21)

أي مزج بشرابها زَنْجَبِيلًا أي ما يشبه الزنجبيل في الطعم و هو عقار معروف كانوا يخلطونه بالشراب- كما تقدم-.

[19] عَيْناً بدل من زنجيل، أو منصوب على تقدير الفعل كما ذكر سابقا فِيها أي في الجنة تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا فالشراب الممزوج بالزنجبيل يؤخذ من تلك العين، و سميت «سلسبيلا» لسيلانه في الأنهار عذبا صافيا رقراقا، أو لأنه سائغ في الخلق لصفائه و خفته،

فلا يتوهم أن الزنجبيل يوجب لذعا و حرقة.

[20] وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ معنى الطواف هو الذهاب من عند هذا إلى ذاك إلى ذلك، و هكذا حتى يرجع إلى الأول، و «الولدان» جمع ولد، و معنى مخلدون باقون في الجنة إلى الأبد، و هم قسيم للحور، فهم أولاد و تلكم بنات إِذا رَأَيْتَهُمْ أيها الإنسان حَسِبْتَهُمْ أي ظننتهم لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً لصفاء ألوانهم و بريقها، و تفرقهم هنا و هناك يشبههم باللؤلؤ غير المنظوم، لانتشارهم في الخدمة.

[21] وَ إِذا رَأَيْتَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي ثَمَ أي الجنة، فإن ثم بمعنى هنا لك رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً أي وسيعا، فإنه يعطي لأقل أهل الجنة منزلة من القصور و الجنان ما يكفي لأن يضيف الثقلين في ضيافة واحدة.

[22] عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ أي يعلوهم، و المراد يلبسون ثيابا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 577

[سورة الإنسان (76): الآيات 22 الى 24]

إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)

سندسا، و هو الحرير الأخضر الرقيق، وَ إِسْتَبْرَقٌ و هو الحرير الخشن و الرقيق أنعم للبدن، و الخشن أجمل في المنظر وَ حُلُّوا أي يحلّون بالزينة أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ جمع سوار، و هو ما يلبس في اليد من الحلي، و الفضة هنا أثمن من الذهب- كما قالوا- و قد كانت العادة في الملوك و الكبراء لبس السوار وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً فليس كشراب الدنيا نجسا أو موجبا للرذيلة من السكر و نحوه.

[23] و يقال لهم: إِنَّ هذا النعيم الذي أنتم فيه كانَ لَكُمْ جَزاءً على إيمانكم و أعمالكم

الصالحة، «و كان» لمجرد الربط وَ كانَ سَعْيُكُمْ و تعبكم في الدنيا مَشْكُوراً شكره اللّه سبحانه و قدره، و لذا جزاكم بهذا الثواب.

[24] ثم يأتي السياق ليسلي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عملا يلاقيه من الأذى في سبيل الدعوة إلى مثل هذه الجنات، بعد ما بين جزاء العالمين إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا و التأكيد ب «نحن» لدفع كلمات الكفار حول القرآن، بأنه كهانة أو شعر أو يعلمه بشر، أو ما أشبه ذلك.

[25] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه في تبليغ القرآن لِحُكْمِ رَبِّكَ بأن تبلغ رسالاته في وسط هذا الموج العاتي من الإنكار و الإيذاء و الاستهزاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 578

[سورة الإنسان (76): الآيات 25 الى 27]

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)

وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ أي من هؤلاء آثِماً أي عاصيا أَوْ كَفُوراً أي كافرا، يعني لا تطع الآثم في إثمه و لا الكفور في كفره، بأن لا تبلغ الأصول أو الفروع إطاعة لها و جلبا لرضائها فقد ورد أن أبا جهل نهى الرسول عن الصلاة، كما أن عتبة و الوليد قالا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ارجع عن هذا الأمر و نحن نرضيك بالمال و التزويج «1». و الآية عامة تشمل كل كافر يأمر بالكفر و آثم يأمر بالإثم.

[26] وَ اذْكُرِ يا رسول اللّه اسْمَ رَبِّكَ بالذكر و الدعاء و الصلاة بُكْرَةً أي صباحا وَ أَصِيلًا أي عصرا، يعني استمر على شأنك و الدعاء إليه في طرفي النهار.

[27] وَ مِنَ اللَّيْلِ

أي بعض الليل فَاسْجُدْ لَهُ أي للّه سبحانه و المراد بالسجود الصّلاة و العبادة، أي اخضع للّه سبحانه وَ سَبِّحْهُ أي سبح اللّه و نزهه عما لا يليق به لَيْلًا طَوِيلًا فإن الليل ربيع العباد يتخذون طوله وسيلة للضراعة و الاستكانة، فإن الخواطر الكامنة لا تجيش إلا بطول الضراعة و الابتهال. و قد ورد أن «بكرة» لصلاة الصبح و «أصيل» للظهرين و «اسجد له» للعشائين و «سبّحه» لصلاة الليل.

[28] إِنَّ هؤُلاءِ الكفار الذين تراهم معرضين عن اللّه مقبلين على شهواتهم يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي الدنيا و الشهوات العاجلة وَ يَذَرُونَ

______________________________

(1) عين العبرة: ص 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 579

[سورة الإنسان (76): الآيات 28 الى 30]

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)

أي يتركون وَراءَهُمْ في مستقبلهم يَوْماً ثَقِيلًا هو يوم القيامة الذي يثقل على الإنسان لما فيه من الأهوال و الشدائد، فلا يعملون لذلك اليوم.

[29] إنهم يكفرون باللّه الذي خلقهم و أعناقهم بيده نَحْنُ خَلَقْناهُمْ من العدم وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي أحكمنا خلقهم، بتنظيم الأجهزة، فإن «الأسر» أصله الشد، و منه سمي الأسير أسيرا، لأنه يشد بالحبال، فالمعنى أحكمنا شدهم في الخلقة، بحيث لا ينفصم جزء من جزء، بل الأجزاء كلها متماسكة مترابطة وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ مكانهم تَبْدِيلًا بأن أهلكنا هؤلاء و جئنا بدلهم مكانهم.

[30] إِنَّ هذِهِ السورة، أو هذه العظات و العبر المذكورة في القرآن تَذْكِرَةٌ تذكر الناس بما أودع في فطرتهم، و إلفات لهم نحو الكون و آياته فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ

سَبِيلًا أي مضى في طريق مرضاته سبحانه، بعد ما رأى الحق، و ميّز بين الصدق و الكذب.

[31] وَ ما تَشاؤُنَ أنتم أيها البشر الإيمان و الهداية، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بأن يرسل الرسول و يوضح الطريق، إذ الهداية لها طرفان: طرف من جانبه بنصب الأدلة، و طرف من جانبكم بالاتباع و الاهتداء إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالحكم حَكِيماً فيما يفعل، فإن الحكمة وضع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 580

[سورة الإنسان (76): آية 31]

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)

الأشياء موضعها، و اللّه لا يفعل شيئا إلا بالحكمة و المصلحة.

[32] يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في سعادة الدنيا و الآخرة و ليس الإدخال اعتباطا بل إنما يدخل سبحانه عباده الصالحين وَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو العصيان أَعَدَّ أي هيأ سبحانه لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما موجعا، في الدنيا بعيشة ضنك و في الآخرة بالنار و النكال.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 581

77 سورة المرسلات مكيّة/ آياتها (51)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المرسلات»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و حيث ختمت سورة «الإنسان» بذكر القيامة، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نشرع في السورة باسم اللّه الذي هو الإله بالحق، و ما دونه باطل، الرحمن الرحيم الذي يعطي كل شي ء خلقه، و يهديه إلى مصالحه، و يهيئ له المستقبل الحسن، فإن «الرحمن» و ما من قبيله من الصفات لا بد و أن يراد بها نتائج هذه الصفات لاستحالة أمثالها في حقه تعالى بمعناها الجاري في حقنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 582

[سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)

[2] وَ الْمُرْسَلاتِ أي قسما بالملائكة التي أرسلت إرسالا- إلى الأرض- عُرْفاً أي في حال كونهم كعرف الفرس في تواليه و تتابعه، و هو شعرها النابت على رقبتها.

[3] فَالْعاصِفاتِ أي ثم قسما بالملائكة التي تعصف عصف الرياح في امتثال أمره سبحانه عَصْفاً مصدر تأكيدي.

[4] وَ قسما ب النَّاشِراتِ أي الملائكة التي تنشر الكتب و تبسطها، أو تنشر الآجال و الأرزاق و ما أمر اللّه بنشره نَشْراً مصدر تأكيدي، و أن الإتيان ب «الواو» للتفنن الذي هو من أنواع البلاغة.

[5] فَالْفارِقاتِ أي قسما بالملائكة التي تفرق بين الأشياء بأمر اللّه سبحانه فَرْقاً مصدر تأكيدي.

[6] فقسما بالملائكة الملقيات ذِكْراً أي تلقي الذكر إلى الأنبياء عليهم السّلام من قبل اللّه سبحانه.

[7] عُذْراً أَوْ نُذْراً أي لأجل إعذار اللّه سبحانه، و إنذاره للبشر على كفرهم و عصيانهم.

[8] قسما بهؤلاء الطوائف من الملائكة إِنَّ ما تُوعَدُونَ من أحوال القيامة و الجنة و النار لَواقِعٌ أي يقع لا محالة فلا خلف فيه.

[9] ثم بين علامة القيامة بقوله: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي ذهب نورها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 583

[سورة المرسلات (77): الآيات 9 الى 15]

وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)

وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

حتى صارت بلا ضياء أو نور.

[10] وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي شقت و صدعت فصار فيها فروج و شقوق، لاختلال نظام المدارات.

[11] وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي قلعت من

أماكنها، و صارت كالهباء سائرة في الفضاء.

[12] وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي جمعت لوقتها في القيامة لتشهد على الأمم، و هو من الوقت، و إنما تبدل الواو همزة لكراهة ضم الواو- كما قالوا- [13] لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ هذا حكاية عن الحال، أي أن الحالة تقتضي أن يقال فيها: لأي يوم أجلت و أخرت الرسل؟ و لماذا يراد جمعهم و هذا تعظيم لليوم و تعجيب من هوله.

[14] و يأتي الجواب لِيَوْمِ الْفَصْلِ الذي يفصل فيه بين أهل النار و أهل الجنة، و السعداء و الأشقياء.

[15] وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو يا رسول اللّه ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي لا تدري أنت حقيقة هذا اليوم الهائل، و هذا تعبير للتهويل و الاستعظام.

[16] وَيْلٌ و هي كلمة تقال عند الهول و الشدة المتوجهة على أحد يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ الذين يكذبون باللّه و رسوله و المعاد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 584

[سورة المرسلات (77): الآيات 16 الى 22]

أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)

فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)

[17] ثم يأتي السياق لإنذار المكذبين بأنهم في معرض العذاب في الدنيا قبل الآخرة أَ لَمْ نُهْلِكِ الأمم الْأَوَّلِينَ الذي كذبوا أنبياءهم؟

[18] ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ أي أتبعنا الأولين ب الْآخِرِينَ فأهلكنا الأمم الآخرين أيضا لما كذبوا الرسل؟ و الأولون كقوم نوح و عاد و ثمود، و الآخرون كقوم لوط و فرعون و قومه.

[19] و كَذلِكَ أي إهلاكا كإهلاك أولئك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان، فإن العذاب ينزل بهم، و هذا تهديد لكفار مكة.

[20] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في

يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ الذين يكذبون باللّه و آياته و سائر الأصول.

[21] ثم يأتي السياق لبيان جملة من نعم اللّه على البشر ليشكروه، بعد ما هددهم ليخافوا منه أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ أيها البشر مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي النطفة التي هي «مهين» أي حقير ذليل، من هان بمعنى ذلّ؟

[22] فَجَعَلْناهُ أي جعلنا ذلك الماء بعد خروجه من الصلب و الترائب فِي قَرارٍ أي مستقر مَكِينٍ أي مستحكم، و المراد به الرحم.

[23] إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي مقدار من الزمان معين، و هو مدة الحمل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 585

[سورة المرسلات (77): الآيات 23 الى 29]

فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَ أَمْواتاً (26) وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)

[24] فَقَدَرْنا على ذلك فَنِعْمَ الْقادِرُونَ نحن إذ نقدر على كل شي ء، و بعد هذا هل ينكر الكافر قدرتنا على البعث و إعادة الأجسام بعد مماتها؟

[25] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ و تكرار هذه الجملة للتركيز و الإيحاء كما سبق في سورة «الرحمن» و غيرها.

[26] أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً يقال كفت الشي ء: إذا ضمّه، أي ضامة للعباد تكفتهم و تشمل عليهم.

[27] أَحْياءً وَ أَمْواتاً فتشمل أحياءهم بالبناء و الزرع و سائر لوازم الحياة، و تشمل أمواتهم في بطنها.

[28] وَ جَعَلْنا فِيها أي في الأرض رَواسِيَ جمع راسية، و هي الجبل الشامخ شامِخاتٍ أي عاليات مرتفعات تحفظ الأرض عن التصدع و الانهيار و التفرق في الهواء وَ أَسْقَيْناكُمْ أيها البشر ماءً فُراتاً أي عذبا سائغا؟ أ ليست كل هذه النعم شاهدة على إله واحد

عالم قدير؟

و أ ليست هذه النعم موجبة لإيمانكم باللّه و تصديقكم لرسوله؟

[29] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنهم يلقون عذابا و نكالا.

[30] و إذا قامت القيامة يقال للمكذبين: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 586

[سورة المرسلات (77): الآيات 30 الى 34]

انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)

أي إلى النار التي كنتم تكذبون بها، و تقولون أنها غير كائنة.

[31] انْطَلِقُوا أي اذهبوا أيها الكفار إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لعل المراد بالظل النار التي فوقها الدخان، و كونه على ثلاث شعب لأنهم كانوا في الدنيا يطوفون بين الكفر و الإيمان و النفاق، و قيل: شعبة من فوقهم، و شعبة من يمينهم، و شعبة من يسارهم.

[32] لا ظَلِيلٍ أي لا يظل صاحبه من الحر وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي من لهب النار، و هو ما يعلوها باختلاط الهواء أحمر أو أصفر أو أزرق، فإن هذا الظل ليس كظلال السقوف يمنع الهواء الحار و لهب النار، كما أنهم كانوا يعيشون في الدنيا في ظل الكفر و العصيان.

[33] إِنَّها أي النار- التي فهمت من قوله سبحانه ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ «1»- تَرْمِي أي تطرح و تطير بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ الشرر هو ما يتطاير من النار لشدة الحرارة، و خفة ذلك الشرر، و القصر هو البيت الجميل من الحجارة، أو أصل الشجر، و الأول أظهر، و الثاني أنسب.

[34] كَأَنَّهُ أي الشرر المرمي جِمالَتٌ صُفْرٌ أي أن الشرارة كالجمل الأصفر في

لونه، بعد ما كان بقدر القصر في حجمه، و التشبيه بالجمالة لتتابعها و تطايرها كالجمالات التي ترتع هنا و هناك، و نارهن شررها كيف يكون أصلها و محلها؟

[35] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ الذين يكذبون بهذه الأمور

______________________________

(1) المرسلات: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 587

[سورة المرسلات (77): الآيات 35 الى 40]

هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

كيف يلقون في النار، و يقاسون العذاب و النكال؟

[36] هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ أي المجرمون من شدة الهول و الفزع.

[37] وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ في الكلام فَيَعْتَذِرُونَ عن سالف أعمالهم و هذا إنما يكون في موقف من مواقف القيامة، و في موقف آخر يتكلمون و يعتذرون،

فللقيامة خمسون موقفا كل موقف يطول ألف سنة- كما ورد

«1».

[38] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم لِلْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا باللّه و بما أرسل.

[39] ثم يقال لهم: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الذي يفصل فيه بين المحسنين و المجرمين، و يدخل كل إلى محله الذي هيأه لنفسه جَمَعْناكُمْ أيها الكفار وَ الْأَوَّلِينَ أي مع المكذبين الأولين السابقين عليكم من سائر الأمم.

[40] فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ في خلاصكم من العقاب فَكِيدُونِ أي احتالوا و كيدوا لإنجاء أنفسكم، و هذا استهزاء بهم و تقريع لهم، فقد كانوا يكيدون للمؤمنين في الدنيا، فليكيدوا هنا إن كان لهم كيد و حيلة.

[41] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة، و أصله يوم إذ كان كذا، حذفت

______________________________

(1) مستدرك وسائل الشيعة: ج 12 ص 155.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 588

[سورة المرسلات (77): الآيات 41 الى 46]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي

ظِلالٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)

كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)

الجملة و قام التنوين مقامها لِلْمُكَذِّبِينَ بهذا اليوم و بسائر ما جاء به الرسل.

[42] و إذا رأينا مقام الكفار، فلننظر إلى مقام الأخيار إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و المعاصي فِي ظِلالٍ من أشجار الجنة، و ظلال قصورها وَ عُيُونٍ أي أنهم في أرض بين العيون، أو المراد أنهم يسبحون و يستحمون في نفس العيون.

[43] وَ في فَواكِهَ جمع فاكهة، و هي الثمرة أي أن الثمار تحيط من كل جوانبهم مِمَّا يَشْتَهُونَ أي من الأجناس التي يميلون إليها.

[44] و يقال لهم: كُلُوا من الثمار وَ اشْرَبُوا من العيون، و المراد بالأمر الإباحة، من قبيل وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» هَنِيئاً أي أكلا و شربا خاليا من الأذى، فإن الهني ء هو النفع الخالص من شائب الأذى بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بمقابل أعمالكم الصالحة في الدنيا.

[45] إِنَّا كَذلِكَ أي كالذي ذكرنا من الإنعام و الإفضال نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا بالإيمان و العمل الصالح.

[46] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كيف يرون أن هذه النعم أفلتت من أيديهم بسبب أعمالهم الفاسدة في الدنيا، و كم يتحسرون لذلك.

[47] ثم يأتي السياق ليخاطب المجرمين- في الدنيا- كُلُوا أيها الكفار

______________________________

(1) المائدة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 589

[سورة المرسلات (77): الآيات 47 الى 50]

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

وَ تَمَتَّعُوا بمتاع الحياة الدنيا قَلِيلًا فإن أمد الدنيا قصير إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ و هل من فائدة للأكل و التمتع القليل

لمن وراؤه عذاب شديد؟

[48] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا باللّه و بما جاء من عنده.

[49] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ أي للمكذبين ارْكَعُوا و اخضعوا للّه سبحانه، فإن المراد بالركوع إما مطلق الخضوع، أو الركوع كناية عن الصّلاة لا يَرْكَعُونَ عنادا و استكبارا.

روى أنها نزلت في وفد ثقيف حين أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإن ذلك مسبة علينا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود

«1». أقول: المراد ب «لا نحني» أي لا نعطف ظهورنا، فقد استقبحوا رفع عجيزتهم.

[50] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا بالأحكام، و لم يصدقوا بالركوع و سائر العبادات، فإنهم يلاقون جزاء ذلك.

[51] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن يُؤْمِنُونَ فإنهم إذا لا يؤمنون بالقرآن الذي هو أحسن الحديث من جميع النواحي، فهل هناك رجاء لإيمانهم بشي ء آخر؟ كلّا إنه الشقاء الأبدي الذي يشملهم إن لم يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 591

تقريب القرآن الى الأذهان الجزء الثلاثون من آية (1) سورة النبأ إلى آية (7) سورة الناس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 592

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 593

78 سورة النبأ مكيّة/ آياتها (41)

سميت هذه السورة بسورة النبأ و عم لاشتمالها على لفظة «النبأ» و «عم» و حيث ختمت سورة المرسلات بذكر القيامة و وعيد الكفار بذلك، افتتحت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله، الذي هو الأول قبل

كل شي ء، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بإعطائهم ما يكملهم و بغفران ذنوبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 594

[سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)

[2] عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصله «عن ما» مركبة من «عن» الجارة و «ما» الاستفهامية، ثم أدغمت النون في الميم لقرب مخرجهما، و حذفت الألف من «ما» على ما هي القاعدة من حذفها مطلقا إذا دخل على «ما» حرف الجر، فيقال «بم، و لم، و عم» و هكذا. و المعنى عما ذا يتساءل الكفار بعضهم عن بعض،

فقد قال في المجمع قالوا: لما بعث رسول اللّه و أخبرهم بتوحيد اللّه تعالى و بالبعث بعد الموت و تلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم- أي يسأل بعضهم بعضا على طريق الإنكار و التعجب- فيقولون: ماذا جاء به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما الذي أتى به؟ فأنزل اللّه تعالى «عم يتساءلون»

«1».

أقول: و المراد بالاستفهام التفخيم، كما تقول: أية قصة هذه؟ إذا أردت تفخيمها، و ورد في جملة من الأحاديث: أن المراد بالنبإ العظيم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «2»، و هذا من باب المصداق- إن أريد بالآية الأعم، و من باب البطون إن أريد بها القيامة فقط.

[3] ثم جاء الجواب عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ أي الخبر المهم، و هو ما يتعلق بالمبدأ و المعاد.

[4] الَّذِي أي النبأ الذي هُمْ أي هؤلاء الكفار فِيهِ أي في ذلك النبأ مُخْتَلِفُونَ فمن مصدق له باعتبار كونه من أهل الكتاب أو من أشبههم، و من مكذب له.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 239.

(2) الكافي: ج 1 ص 207.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5،

ص: 595

[سورة النبإ (78): الآيات 4 الى 9]

كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَ الْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8)

وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)

[5] كَلَّا ليس الأمر كما قالوا و زعموا، حيث أنكروا التوحيد و الرسالة و المعاد سَيَعْلَمُونَ عاقبة تكذيبهم و صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[6] ثُمَ لترتيب الكلام كَلَّا ليس الأمر كما زعموا سَيَعْلَمُونَ عند موتهم أو في يوم القيامة: إن الأمر كان كما أخبر الرسول، و إنهم كانوا في ضلال و انحراف، و هذا تهديد بعقب تهديد.

[7] ثم جاء السياق ليذكر طرفا من نعمه سبحانه الدالة على وجوده و سائر صفاته، حجة على المنكرين: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً؟ أي وطاء و قرارا مهيّأ للتصرف، كالمهد الذي يستقر فيه الطفل من غير أذية.

[8] وَ ألم نجعل الْجِبالَ أَوْتاداً جمع «وتد» و هو «المسمار» أي مسامير للأرض حتى لا تتشقق و لا تتبعثر في الهواء من جراء الحركة و الجاذبيات، كالوتد الذي يربط بعض ألواح الخشب ببعض حتى لا تنفصم.

[9] وَ خَلَقْناكُمْ أيها البشر أَزْواجاً جمع «زوج»، و هو الصنف، أي أصنافا و أشكالا، باختلاف ألوانكم، و ألسنتكم، و مدارككم إلى غير ذلك من الاختلافات.

[10] وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ أيها البشر سُباتاً أي قاطعا للعمل لأجل الاستراحة، و منه سبت أنفه: إذا قطعه، فمن يا ترى جعل هذه الأمور غير اللّه سبحانه؟!

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 596

[سورة النبإ (78): الآيات 10 الى 14]

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)

[11] وَ

جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي غطاء و سترة يستر كل شي ء كما يستر اللباس البدن، و ذلك لحكمة الاستراحة و الانصراف عن العمل، فإن الليل لو كان مثل النهار لم يهدأ الإنسان و لم يهنأ بالراحة، بالإضافة إلى أن ظلمة الليل تساعد على الراحة و النوم- كما قالت الأطباء-.

[12] وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً المعاش هو العيش، أي وقت العيش تتقلبون فيه لتحصيل أسباب العيش و البقاء، و هذا من الإسناد المجازي، فإن النهار زمان العيش لا نفسه.

[13] وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ أي خلقنا و صنعنا فوقكم أيها البشر سَبْعاً أي سبع سماوات، و المراد بها مدارات الكواكب السيارة، أو ما أشبه شِداداً جمع «شديد» أي محكمة الصنع متقنة الأسلوب و النظام.

[14] وَ جَعَلْنا في السماوات سِراجاً أي مصباحا، و المراد به الشمس وَهَّاجاً أي وقادا متلألأ بالنور، من «وهج» بمعنى أنار و أضاء.

[15] وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ بصيغة اسم الفاعل، و المراد بها السحائب، فإنها تعصر نفسها، بما أودع فيها من الطاقات العاصرة حتى تمطر، كالغسالة التي تعصر الثوب حتى تخرج قطرات الماء منه. أو المراد بالمعصرات الرياح التي تعصر السحائب، و معنى «من» نشوية ماءً ثَجَّاجاً أي صبابا دفاعا في الصبابة، من «ثج» بمعنى انصب بكثرة، و المراد المطر الكثير الانصباب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 597

[سورة النبإ (78): الآيات 15 الى 19]

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً (15) وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)

[16] و إنّا أنزلنا المطر لِنُخْرِجَ بِهِ أي بواسطة ماء المطر حَبًّا كالحنطة و نحوها وَ نَباتاً كل ما ينبت من أنواع المزروعات.

[17] وَ نخرج به

جَنَّاتٍ أي بساتين أَلْفافاً أي ملتفة الشجر، و هو جمع «لف» يراد به الشجر الملتف بعضه ببعض، و يسمى البستان «جنة» لتسترها بالأشجار.

[18] ثم يأتي السياق لبيان المعاد، بعد ما ذكر جملة من أدلة الألوهية إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الذي يفصل فيه بين الخلائق، ليجزي كل إنسان بما عمل من خير و شر، و هو يوم القيامة كانَ مِيقاتاً أي وقتا و زمانا لما وعد اللّه سبحانه من الحساب و الجزاء، فإن «الميقات» يستعمل بمعنى الزمان و بمعنى المكان- كمواقيت الحج-.

[19] ثم بين ذلك بقوله: يَوْمَ بدل من «يوم الفصل» يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي البوق، ينفخ فيه إسرافيل لحشر الخلائق و حياتهم بعد الموت، كما ينفخ النافخ في البوق لحركة القافلة أو الجيش أو من أشبه، و هذه هي النفخة الثانية فَتَأْتُونَ أيها البشر من قبوركم أحياء أَفْواجاً جمع «فوج»، أي جماعات جماعات، كأن كل جماعة تشتمل على المشاكلين في العمل.

[20] وَ فُتِحَتِ السَّماءُ أي انشقت و ظهرت فيها أبواب فَكانَتْ السماء أَبْواباً فإن كلما تتبدل بشكل أبواب تنزل الملائكة منها للحساب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 598

[سورة النبإ (78): الآيات 20 الى 23]

وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23)

و الجزاء و إطاعة الأوامر.

[21] وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ أي سارت عن أماكنها بعد أن انقلعت و إنما يسيرها اللّه سبحانه فَكانَتْ الجبال سَراباً أي كالسراب- الذي هو خيال الماء في الصحراء وقت الظهيرة- فإن الجبال إذا رآها الإنسان حسبها جامدة كسابقها، بينما هي صارت كالهباء، ترى شيئا جامدا و ليس بجامد، كالضباب الذي يحسبه البعيد شيئا و ليس بشي ء.

[22] إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً كالمحل الذي

يرصد فيه لحفظ الدار أو البستان أو ما أشبه، فإنها محل لرصد الملائكة للناس، حيث يرون منها أيّ إنسان يجرم حتى يستحق النار، و أيّا يحسن حتى لا يستحقها فإن «المرصاد» هو المكان الذي يراقب فيه العدو.

[23] لِلطَّاغِينَ أي الذين طغوا و جاوزوا حدود اللّه سبحانه مَآباً من «آب» بمعنى رجع، و المراد به المنزل، و يسمى المنزل «مآبا» لأن الإنسان كلما خرج منه رجع إليه.

[24] لابِثِينَ من «لبث» بمعنى بقي، أي يبقى الطاغون فِيها أي في جهنم أَحْقاباً جمع «حقب» على وزن عرف، و هو جمع «حقبة»، و المراد بها الزمان الطويل، أي يمكثون في جهنم دهورا طويلة. و قد

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال الأحقاب ثمانية حقب، و الحقب ثمانون سنة، و السنة ثلاثمائة و ستون يوما، و اليوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 599

[سورة النبإ (78): الآيات 24 الى 28]

لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28)

كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ

«1» «2» أقول: أما المعاند من أهل الباطل فلا مخرج له منها.

و أما العصاة فإنهم يخرجون بعد أزمنة طويلة- حسب اختلاف عصيانهم-.

[25] لا يَذُوقُونَ فِيها أي في جهنم بَرْداً وَ لا شَراباً فلا هواء بارد، و لا طعام بارد، و لا شي ء بارد لهم هناك، و لا شراب يشربون ليروى عطشهم المتزايد.

[26] إِلَّا حَمِيماً و هو الماء الحار المغلي وَ غَسَّاقاً و هو صديد أهل النار، و الاستثناء منقطع، أي لا يذوقون إلا الحميم و الغساق أما البرد و الشراب فليس لهم، أو متصل بقوله «شرابا».

[27] و إنما يجزون بذلك

جَزاءً على كفرهم و عصيانهم وِفاقاً أي وفق أعمالهم و بقدرها.

[28] ثم يأتي البيان ليبين أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب:

إِنَّهُمْ كانُوا في الدنيا لا يَرْجُونَ حِساباً أي لم يكونوا يتوقعون القيامة، بل كانوا يكذّبون بها، و كأن لفظة «لا يرجون» باعتبار أن كل متوقع لشي ء إنما يحتمل النجاح فيه.

[29] وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي أقمناها على المبدأ و الرسالة و المعاد كِذَّاباً أي تكذيبا، فلم يكونوا يقبلون الآيات الدالة على الألوهية و الرسالة و المعاد.

______________________________

(1) معاني الأخبار: ص 220.

(2) الحج: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 600

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 651

[سورة النبإ (78): الآيات 29 الى 33]

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَ أَعْناباً (32) وَ كَواعِبَ أَتْراباً (33)

[30] و هل زعم هؤلاء أن أعمالهم الباطلة لا تأخذهم؟ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ أي جميع ما عملوه جمعناه و عددناه و بيناه، كِتاباً أي إحصاء في الكتاب لا بالقول فقط.

[31] و هناك يقال لهم: فَذُوقُوا هذا العذاب و النكال جزاء على أعمالكم الباطلة فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فليس الأمر محتمل النقص و الانقطاع، بل تزدادون عذابا و نكالا كل يوم و ساعة، و ذلك باعتبار أن كل يوم يضاف عذاب ذلك اليوم على الأيام السابقة- و إن كان بقدرة في الكيفية-.

[32] و إذا عرفنا أحوال المجرمين في الآخرة فلنتعرف بالمؤمنين إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً مصدر ميمي، أي أن لهم فوزا و فلاحا «و المتقي» هو المؤمن الذي يتقي اللّه فلا يذنب.

[33] حَدائِقَ بدل من «مفاز» جمع حديقة و هي البستان الصغير المنظم، أو هي الجنة المحوطة بالسور و إن كانت كبيرة، من «حدق»

بمعنى أحاط وَ أَعْناباً جمع «عنب» خصّ بالذكر مثالا، و لكثرة الالتذاذ به.

[34] وَ كَواعِبَ جمع «كاعبة»، و هي المرأة التي استدار ثديها لكونها في أول زمان رشدها أَتْراباً جمع «ترب»، عمر الواحدة بعمر الأخرى كأنهم أتراب بعضهن لبعض، أو بعضهن مع أزواجهن، فليس عمر إحداهن أقل من عمر الزوج أو أكثر، ليرى العنت و الصعوبة في معاشرتها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 601

[سورة النبإ (78): الآيات 34 الى 38]

وَ كَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً (38)

[35] وَ كَأْساً و هو إناء الشراب دِهاقاً أي مملوءة، من «الدهق» بمعنى شدة الضغط، كأنه لا مجال فيها للماء أو الشراب بعد ذلك.

[36] لا يَسْمَعُونَ أي المتقون فِيها أي في الجنة كلاما لَغْواً لا فائدة فيه وَ لا كِذَّاباً أي تكذيبا من بعضهم لبعض.

[37] و إنما يكون المتقون في هذا النعيم الأبدي جَزاءً مِنْ رَبِّكَ يا رسول اللّه لهم، على أعمالهم الحسنة في الدنيا، في حال كون ذلك الجزاء عَطاءً حِساباً أي عطاء بالحساب، فليس الأمر اعتباطا.

[38] ثم بين ربك بما يدل على عظمته سبحانه بقوله: رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا فكل شي ء له خلقا و تربية الرَّحْمنِ وجي ء بهذا الوصف للدلالة على أنه سبحانه رحيم بعباده يتفضل عليهم بالمغفرة و الرحمة، و أنهم إنما استحقوا الثواب برحمته لا بأعمالهم لا يَمْلِكُونَ أي البشر مِنْهُ تعالى خِطاباً فلا يقدر أحد أن يكلم اللّه سبحانه أو يشفع

لأحد إلا بإذنه، فهو رحيم ذو هيبة و جلال، و ليس كرحيم الدنيا الذي إذا عطف قلبه على أحد يمكن التسلط عليه للين قلبه.

[39] ثم بين معنى «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» بقوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ و هو ملك عظيم كما ورد في الأحاديث «1» وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا كما يصطف

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 10 ص 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 602

[سورة النبإ (78): الآيات 39 الى 40]

ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

الجيش أمام الملك، و ذلك مما يزيد القيامة هيبة و هولا لا يَتَكَلَّمُونَ أي أولئك الملائكة و الروح، أو أيّ متكلم إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بالكلام، في أي شأن من الشؤون وَ قالَ صَواباً و كأن هذا في بعض المواقف، و في بعض المواقف الأخر يتكلم كل أحد بما يريد من صدق و كذب كما قال سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «1» أو المراد بالتكلم- الشفاعة-.

[40] ذلِكَ الْيَوْمُ الذي وصف هو اليوم الْحَقُ الكائن لا محالة، فلا كذب في الإخبار به. قالوا: إذا طابق الخبر الواقع فباعتبار كونه مطابقا للواقع يسمى صدقا، و باعتبار مطابقة الواقع له يسمى حقا فَمَنْ شاءَ منكم أيها الناس اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ أي إلى رضاه و ثوابه مَآباً، بالإيمان و الطاعة، كأن المؤمن اتخذ إلى ربه مآبا، و الكافر اتخذ إلى ربه غيره مآبا، حيث يبتعد عن لطفه و رحمته بسبب الكفر و العصيان فليس مآبه إليه.

[41] إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ أيها الناس عَذاباً قَرِيباً فإن الآخرة قريبة و إن ظنها الناس بعيدة، كما قال

سبحانه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَ نَراهُ قَرِيباً «2».

ثم بيّن وقت ذلك العذاب بقوله: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ

______________________________

(1) الأنعام: 25.

(2) المعارج: 7 و 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 603

أي يرى جزاء أعماله و يلاقيه. و نسبة التقديم إلى اليد لكونها العضو الفعال في الأمور المرتبطة بالإنسان وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً لهول ما يرى من العذاب، فإنه يتمنى أن كان في الدنيا ترابا، و لم يكن إنسانا حتى يكفر فيبتلي بذلك العذاب العظيم. لكن تمنيه هناك لا ينفع، كما لا ينفع تمني كل مجرم إذا وقع في مخالب الجزاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 604

79 سورة النازعات مكيّة/ آياتها (47)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «النازعات»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، ألوهية، و رسالة، و معادا. و لما ختمت سورة النبأ بذكر أحوال القيامة افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم اللّه المالك لكل شي ء و المتصرف الوحيد في الكون، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحمة المكررة في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 605

[سورة النازعات (79): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)

[2] وَ النَّازِعاتِ أي قسما بالنازعات، و هي الملائكة التي تنزع أرواح الكفار عن أبدانهم بشدة غَرْقاً أي إغراقا في النزع، كما يغرق النازع في القوس فيبلغ به غاية مدّ الوتر.

[3] وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً أي قسما بالملائكة الناشطات التي تنشط في قبض أرواح الكفار نشاطا، أو تنشط في الذهاب بأرواحهم نحو الهاوية بعد نزعها.

[4] وَ السَّابِحاتِ أي قسما بالملائكة

التي تسبح في الفضاء بعد قبض الأرواح، و «السبح» هي الحركة بسهولة كحركة السابح في الماء سَبْحاً مصدر تأكيدي.

و روي: أن المراد بذلك الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين يسلّونها سلّا رقيقا.

[5] فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً أي قسما بالملائكة التي تسبق بالأرواح- أو بأرواح المؤمنين- نحو الملأ الأعلى، و الإتيان بالفاء هنا و بالواو قبله للتفنن في الكلام الذي هو نوع من البلاغة.

[6] فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أي قسما بالملائكة التي تدبر الأمور بإذن اللّه سبحانه.

[7] قسما بأولئك الطوائف من الملائكة أن ما يأتي من أهوال القيامة و أخبار الجنة و النار صدق مطابق للواقع. و قد حذف هذا في الكلام لدلالة الآيات التالية عليه، أذكر يا رسول اللّه يَوْمَ تَرْجُفُ أي تتحرك و تضطرب الرَّاجِفَةُ أي الأرض، كما قال سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 606

[سورة النازعات (79): الآيات 7 الى 11]

تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11)

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ «1».

[8] تَتْبَعُهَا أي تتبع رجفة الأرض الرَّادِفَةُ أي التي تردف و تتبع الأرض في اختلال النظام و الاضطراب، و هي السماء، أو المراد بالراجفة النفخة الأولى، و بالرادفة النفخة الثانية.

[9] قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم، و هو يوم القيامة واجِفَةٌ أي شديدة الاضطراب.

[10] أَبْصارُها أي الأبصار المنسوبة إلى تلك القلوب، أو أبصار أصحابها خاشِعَةٌ أي ذليلة، لا تنظر إلا من طرف خفي خشية و رهبة و خوفا و خجلا.

[11] يَقُولُونَ أصحاب تلك القلوب أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أي الطريقة التي جئنا فيها، فإن «الحافرة» هي الطريقة التي مرّ فيها الإنسان، تسمى بذلك باعتبار أنه حفرها بتأثير أقدامه فيها.

و هذا حكاية عن أولئك، حال كونهم في الدنيا حيث يتساءلون: هل نحن نرجع إلى الحياة بعد الموت حتى نكون كالسابق؟ و هذا استفهام إنكاري منهم للمعاد.

[12] أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً أي وقت كنا عظاما بالية، من «نخر»: إذا

______________________________

(1) المزمل: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 607

[سورة النازعات (79): الآيات 12 الى 15]

قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15)

بلى. أي كيف نرجع إلى حالتنا الأولى بعد أن متنا و صرنا عظاما؟.

[13] قالُوا هؤلاء المنكرون للمعاد تِلْكَ أي تلك الرجعة التي تقولون بها أنتم المؤمنون إِذاً أي إذا كانت كما تقولون كَرَّةٌ أي رجعة إلى الدنيا خاسِرَةٌ فإن الإنسان خاسر في تلك الكرة، و إنما أسندت الخسارة إلى الكرة مجازا، بعلاقة الظرف و المظروف. و قد قال الكفار ذلك على وجه الاستهزاء، لأنهم لم يكونوا يرضون بذلك.

[14] و جاء الردّ عليهم بقوله: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي أن الكرة ليست صعبة على اللّه سبحانه، و إنما الكرة هي صيحة واحدة يصيح بها إسرافيل في الصور- في النفخة الثانية- و سميت الصيحة «زجرة» لأنها تزجر و تردع المخاطب عن سيره الأول إلى نحو السير الثاني.

[15] فَإِذا هُمْ أي البشر كلهم بِالسَّاهِرَةِ أي راجعون عن بطون الأرض إلى ظاهرها، فإن «الساهرة» هي وجه الأرض، و إنما سميت بذلك لأن الإنسان يسهر عليها و لا ينام- إذا كان في صحراء- خوفا من العدو و السبع- بعلاقة الحال و المحل، فإن الإنسان يسهر في الأرض، لكن السهر نسب إلى المحل. و فيه إشارة إلى أن المحشر يكون في أرض مستوية كالفلات لا اعوجاج فيها و لا

بناء و لا شجر.

[16] ثم يأتي السياق ليبين طرفا من قصة موسى و فرعون ليعتبر الكفار كيف عوقب فرعون لما لم يؤمن هَلْ أَتاكَ أي هل جاءك و هل سمعت حَدِيثُ مُوسى أي قصته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 608

[سورة النازعات (79): الآيات 16 الى 22]

إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20)

فَكَذَّبَ وَ عَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22)

[17] إِذْ أي في حين ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أول ما أوحى سبحانه إليه عند مرجعه من «مدين» شعيب إلى أرض مصر طُوىً اسم للوادي الذي كلّم اللّه فيه موسى، و أوحى إليه بالنبوة.

[18] قائلا له اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ الملك الطاغي إِنَّهُ طَغى أي تجاوز الحد في الكفر و العصيان.

[19] فَقُلْ يا موسى له هَلْ لَكَ طلب بصورة الاستفهام تأدبا إِلى أَنْ تَزَكَّى أي هل لك رغبة في أن تسلم، و تطهر نفسك عن الكفر و العصيان؟

[20] وَ هل لك أن أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أدلك عليه، فإن الإنسان لا يعرف مزاياه سبحانه إلا بعد الإرشاد و الهداية فَتَخْشى أي تخشاه باجتناب الكفر و العصيان، إذ الخشية إنما تكون بعد المعرفة.

[21] فَأَراهُ أي أرى موسى عليه السّلام فرعون الْآيَةَ أي المعجزة الْكُبْرى و هي العصا، أو المراد جنس الآية من جميع آياته التسع.

[22] فَكَذَّبَ فرعون بالآيات وَ عَصى موسى فلم يتمثل أمره في الإذعان للّه سبحانه.

[23] ثُمَّ أَدْبَرَ فرعون، أي ولّى الدبر يَسْعى و يجتهد ليطلب ما يكسر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 609

[سورة النازعات (79): الآيات 23 الى 27]

فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا

رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27)

به حجة موسى، و يبطل به نبوته.

[24] فَحَشَرَ فرعون، أي جمع حاشيته و جنوده فَنادى و خطب فيهم.

[25] فَقالَ لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فإن الأصنام تحت ألوهيتي، و إنما الرب الأعلى- الذي لا رب فوقه- هو أنا، لا كما يزعم موسى بأن لي إلها فوقي.

[26] فَأَخَذَهُ اللَّهُ بالعذاب، و هو إغراقه و جنوده في البحر و إدخاله النار نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى «النكال» هو العقوبة، و هو مصدر تأكيدي، لأن معنى «أخذ» نكل به، أي عاقبه سبحانه عقوبة الآخرة في النار، و عقوبة الأولى بالغرق، أي عذبه بالصنفين من العذاب.

[27] إِنَّ فِي ذلِكَ النكال الذي حلّ بفرعون لَعِبْرَةً أي لعظة و اعتبارا لِمَنْ يَخْشى النكال و العقاب، كي يعتبر به و يعلم أن الكفر عاقبته العقاب و النكال.

[28] و بعد ما أتم قصة فرعون- في سرعة موقظة- يأتي السياق ليحدد من اعتزاز الكفار بقوتهم أمام أمر اللّه سبحانه، مبينا أنهم لا شي ء قبال خلق اللّه سبحانه، فكيف بهم في قبال أمره سبحانه؟ أَ أَنْتُمْ أيها البشر، أو يا كفار مكة أَشَدُّ خَلْقاً و أقوى استحكاما أَمِ السَّماءُ و لا شك أن الجواب: كون السماء أشد. و هذا لا ينافي كون الإنسان ألطف و أدق و أجمل خلقا، لأن الكلام في الشدة لا في الجمال و الدقة بَناها اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 610

[سورة النازعات (79): الآيات 28 الى 32]

رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ

مَرْعاها (31) وَ الْجِبالَ أَرْساها (32)

سبحانه، و باني السماء لا يصعب عليه شي ء، و لا تعادل قوته قوة.

[29] رَفَعَ اللّه سَمْكَها أي سقفها، فإن السمك هو الارتفاع أي أنه سبحانه رفع كثيرا السماوات في جهة الطول فَسَوَّاها أي عدلها بلا شقوق و لا فطور و لا فساد و خلل.

[30] وَ أَغْطَشَ لَيْلَها أي أظلمها وَ أَخْرَجَ ضُحاها أي أظهر ضياءها.

و إنما نسب الأمران إلى السماء لأنها مصدرهما، بطلوع الشمس و غروبها.

[31] وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد خلق السماوات و تنظيم أمورها دَحاها أي بسطها، فإنه سبحانه أولا خلق الأرض غير مدحوة، ثم خلق السماوات، ثم دحى الأرض، و «الدحو» هو البسط، و قد استدلّ علماء الفلك بهذه الآية على حركة الأرض، لأن الدحو هو الرمي المستلزم للحركة، و لذا يقال للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «داحي الباب» كذا استدلوا بقوله أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً «1» من كفت الطير: إذ طار و اللّه العالم.

[32] أَخْرَجَ مِنْها أي من الأرض ماءَها بأن فجّر العيون و فلق البحار وَ مَرْعاها أي مروجها التي هي محل رعي الحيوانات و البهائم و ذلك بمعنى أنه سبحانه خلق فيها الأعشاب و النبات.

[33] وَ الْجِبالَ أَرْساها أي أثبتها في أطراف الأرض لئلا تتزلزل

______________________________

(1) المرسلات: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 611

[سورة النازعات (79): الآيات 33 الى 38]

مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37)

وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)

الأرض و تضطرب.

[34] و إنما فعل كل ذلك مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ أي لأجل تمتعكم و منفعتكم أنتم البشر، و تمتع أنعامكم بالسكون في

الأرض، و تحصيلكم المعايش و رعي البهائم، «و أنعام» جمع نعم، و هي الإبل و البقر و الغنم.

[35] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ هي القيامة، سميت بذلك لأنها تطم أي تعلو و تغلب على كل شي ء، يقال «طم الطائر الشجرة» أي علاها و تسمى الداهية «طامة» لأنها تعلو الشي ء و تغلبه الْكُبْرى لأنها أكبر من كل داهية هائلة.

[36] و ذلك يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي ما عمله من خير و شر، فإن الإنسان في ذلك اليوم يتذكر كل عمل عمله إما ذكرا في الخاطر، و إما ذكرا من مطالعة كتابه الذي كتبه الملكان الموكلان به.

[37] وَ يوم بُرِّزَتِ أي أظهرت، و المظهر لها هو اللّه سبحانه الْجَحِيمُ هي جهنم لِمَنْ يَرى أي لكل من تأتي منه الرؤية، فإنهم يرونها ظاهرة مكشوفة، و جواب «إذا» محذوف، أي كان الناس قسمين، و إنما حذف لدلالة ما بعده عليه.

[38] فَأَمَّا مَنْ طَغى أي تكبر و تجاوز الحد في كفره و عصيانه.

[39] وَ آثَرَ أي اختار الْحَياةَ الدُّنْيا على الحياة الآخرة، بأن كانت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 612

[سورة النازعات (79): الآيات 39 الى 43]

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43)

أعماله للدنيا و لم يعمل شيئا للآخرة.

[40] فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى له، «و المأوى» من آوى، بمعنى اتخذ المنزل، أي أن مصيره إلى النار الكثيرة- فإن الجحيم بمعنى ذلك.

[41] وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي المقام المربوط بالرب تعالى و هو يوم القيامة، و الإضافة تشريفية، من قبيل «بيت اللّه» بمعنى خاف

عذاب الآخرة وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي نهى نفسه و حفظها من أن يتبع هواها و مشتهياتها في ارتكاب المحرمات و ترك الواجبات.

[42] فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى له، فإنه يصير إليها.

[43] و حيث كان الكلام في القيامة أتى السياق لجواب سؤال الناس عن وقت القيامة يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة أَيَّانَ مُرْساها أي متى يكون قيامها، من «الإرساء» و هو الثبوت و الاستقرار.

[44] فِيمَ أَنْتَ أي فيما ذا أنت يا رسول اللّه مِنْ ذِكْراها أي من تذكر الساعة فإنك لا تعلم وقت قيامها، كأن الإنسان إذا كان داخلا في شي ء علم مزاياه، أما إذا كان خارجا لا يعلم خصوصياته، و «فيم أنت» للإنكار، أي لست من ذكراها في شي ء حتى تعلمها فإنما علمها خاص باللّه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 613

[سورة النازعات (79): الآيات 44 الى 46]

إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)

[45] إِلى رَبِّكَ يا رسول اللّه مُنْتَهاها أي انتهاء علم الساعة إلى اللّه سبحانه، فإذا سئل شخص عن الساعة حوّله المسئول عنه إلى غيره و غيره إلى آخر، و هكذا حتى ينتهي إلى اللّه الذي هو عالم بوقتها، و المنتهى أضيف إلى الساعة، و المراد بها وقتها- بعلاقة الملابسة-.

[46] و ليس علم وقت الساعة مربوطا بك، ف إِنَّما أَنْتَ يا رسول اللّه مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي شأنك الإنذار لمن يخشى من الساعة، و إنما خص الإنذار بهم لأنهم المنتفعون بالإنذار دون سواهم.

[47] ثم جاء السياق لينذر الناس و يذكرهم بأن لبثهم في الدنيا قليل حتى كَأَنَّهُمْ أي الناس يَوْمَ يَرَوْنَها أي يرون الساعة، فيما إذا

قامت عليهم لَمْ يَلْبَثُوا أي لم يمكثوا و لم يبقوا في الدنيا إِلَّا عَشِيَّةً أي مقدار عصر يوم أَوْ ضُحاها أو صبح تلك العشية، و المعنى يظنون أنهم لم يكونوا في الدنيا إلا نصف يوم صباحا أو مساء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 614

80 سورة عبس مكيّة/ آياتها (43)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «عبس»، و هي كسائر السور المكية مشتملة على معالجة قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة «النازعات» بإنذار من يخشى، افتتحت هذه السورة بإنذار شخص خاص.

«عبس و تولى» و قد نزلت هذه السورة في «عثمان بن عفان»، حيث كان عند الرسول مع جملة من أصحابه، فجاء أعمى و جلس قرب عثمان، فعبس عثمان وجهه و تولى عنه و جمع ثيابه، و أقبل على بعض الجالسين الآخرين الذين كان لهم ثراء، فنزلت الآيات «1».

و من غريب الأمر أن بعض بني أمية المبغضين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نسب هذا الأمر إلى الرسول لتبرئة ساحة قريبهم «عثمان» و قال: إن الرسول هو الذي عبس و تولى، مخالفا بذلك نص القرآن العظيم وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «2» و عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» و غيرها.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 85.

(2) القلم: 5.

(3) التوبة: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 615

ثم جاء جماعة من الوهابيين فأخذوا يلحسون قصاع الأمويين في نسبة هذه السبة إلى الرسول، بتزويقات و زخارف من القول، و قد صار ذلك حرابا في أيدي الصليبيين في الهجوم على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى أن بعض كراريسهم كتبت: أيهما خير المسيح أو محمد، فإن الأول كان يبرئ الأعمى- بنص كتابكم وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ

وَ الْأَبْرَصَ «1» و الثاني كان يعبس و يتولى إذا جاءه الأعمى بنص كتابكم؟

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له ما في السماوات و الأرض، فهو أحق بالابتداء باسمه من غيره، إذ هو المبدأ الذي بيده كل شي ء، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد، و يتفضل عليهم بما يكمل نقصهم.

______________________________

(1) آل عمران: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 616

[سورة عبس (80): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَ تَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)

[2] عَبَسَ عثمان بن عفان، أي قطّب وجهه وَ تَوَلَّى أي أعرض.

[3] أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أي بسبب أن جاءه شخص أعمى. قالوا و كان الأعمى ابن أم مكتوم.

[4] ثم أخذ السياق لتأنيب عثمان بما فعله موجها الخطاب معه، كما هو دأب القرآن في توجيه الخطاب إلى الناس، نحو أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً «1» وَ ما يُدْرِيكَ أيها العابس لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي لعل الأعمى يتطهر بالعمل الصالح؟ فيكون الإعراض عنه إثما، حيث إنه إعراض عن الزاكي الطاهر.

[5] أَوْ يَذَّكَّرُ أي يتذكر بسبب الوعظ و الإرشاد، أصله «تذكر» ثم أدغمت التاء في الذال لقرب مخرجهما، فجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى و الفرق بين الآيتين أن الأولى «زكاة» من نفسه، و الثانية «زكاة» بواسطة التذكير.

[6] أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي كان غنيا بالمال، و الإتيان من باب الاستفعال، من جهة أن الشخص يطلب الغنى.

[7] فَأَنْتَ يا عابس لَهُ تَصَدَّى أي تتعرض، أصله «تتصدى» حذفت إحدى تائيه على القاعدة، أي تقبل عليه و تحاوره.

______________________________

(1) النازعات: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 617

[سورة

عبس (80): الآيات 7 الى 14]

وَ ما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَ هُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11)

فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)

[8] وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا تبالي هل هو زكي أم لا؟ فإن المال هو الذي يعظم في نفسك لا الدين، و لذا لا تبالي بالدين إذا كان الشخص ذا مال.

[9] وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ساعيا لأجل الخير و الرشد كابن أم مكتوم.

[10] وَ هُوَ يَخْشى اللّه عزّ و جلّ.

[11] فَأَنْتَ أيها العابس عَنْهُ عن ذلك الساعي تَلَهَّى أي تتلهى- على غرار تصدى- أي تتغافل و تشتغل بغيره، لأنه فقير معدوم.

[12] كَلَّا ليس الأمر على ما زعمت: من أن المال خير من الدين إِنَّها أي هذه الآيات تَذْكِرَةٌ مذكرة بالحسن و القبيح الكامن في النفس و الفطرة.

[13] فَمَنْ شاءَ الخير و السعادة ذَكَرَهُ أي ذكر ما أودع في نفسه و فطرته، بأن عمل بالوعظ و الإرشاد.

[14] إن هذه التذكرة هي فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ عند اللّه سبحانه، و المراد «بالصحف» اللوح المحفوظ و سائر الألواح الموجودة في الملأ الأعلى.

[15] مَرْفُوعَةٍ في السماء- حسا- أو معظمة مجللة- معنى- مُطَهَّرَةٍ أي منزهة من الخطأ و النقائص و ما أشبهها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 618

[سورة عبس (80): الآيات 15 الى 20]

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)

[16] بِأَيْدِي سَفَرَةٍ أي إن تلك الصحف إنما هي بأيدي الملائكة الكرام، فإن «سفرة» جمع «سافر» و هو الكاتب، أو السفير.

[17] كِرامٍ جمع كريم،

أي ذوي مقامات رفيعة بَرَرَةٍ جمع «بارّ»، و هو المحسن.

[18] ثم يأتي السياق ليتعجب من الكافر كيف يكفر بهذا الكتاب العظيم، المنزل من عند اللّه سبحانه الذي هو الخالق و بيده أزمّة كل شي ء قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه، أي اللهم أقتله، و المراد به الجنس المنحرف بدلالة القرائن الآتية ما أَكْفَرَهُ تعجب من كفره و ضلاله بعد وضوح الحجة و تمام المحجة.

[19] مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ اللّه تعالى؟ أي ألا ينظر إلى أصل خلقه كيف خلقه تعالى من ماء مهين، حتى جعله إنسانا بهذه الغرابة في الدقة و الأجهزة و الآلات؟

[20] مِنْ نُطْفَةٍ أي قطرة من المني خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أي قدر مزاياه و خصوصياته من حواسه و مشاعره و آلاته و أجهزته و كمه و كيفه و طوله و عرضه و غير ذلك.

[21] ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي يسر و سهل له سبيل الحياة، بأن هيأ له الأسباب و الوسائل و أرشده إلى خيره و سعادته، و الأصل يسر له السبيل ثم حذف الجر- على قاعدة القطع و التوصيل-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 619

[سورة عبس (80): الآيات 21 الى 28]

ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25)

ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28)

[22] ثُمَ بعد أن انتهى أمده في الحياة أَماتَهُ بأن قبض روحه فَأَقْبَرَهُ أي أدخله القبر، و هو المحل الذي يشتمل على جسمه بعد الموت، و إن كان البحر أو نحوه، أو من باب الغلبة.

[23] ثُمَّ إِذا شاءَ و أراد سبحانه قيام القيامة أَنْشَرَهُ أي بعثه حيا سويا.

[24] فهل

تراه تهيأ للنشور و استعد لذلك اليوم العظيم بالإيمان و العمل الصالح؟ كَلَّا إنه في غفلة و سبات و لَمَّا يَقْضِ أي لم يأت بعد ب ما أَمَرَهُ اللّه سبحانه من الإيمان و العمل الصالح.

[25] ثم يأتي السياق لتذكير الإنسان بجملة من الآيات الكونية تدليلا على وجوده سبحانه بالآيات الآفاقية بعد أن ذكره الآيات الأنفسية فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ الذي يأكله، ليتذكر أصل الخلقة، و من خلقها، ليرعوي عن غيّه و ضلاله.

[26] أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ المطر من السماء صَبًّا أي إنزالا.

[27] ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بإخراج النبات منها شَقًّا حتى أن النبات الضعيف خرج من الأرض الصلبة.

[28] فَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض حَبًّا أي جنس الحبوب من الحنطة و الشعير و أمثالهما.

[29] وَ أنبتنا فيها عِنَباً خص بالذكر لكثرته و لذته و عظم فائدته وَ قَضْباً و هو القت الرطب الذي يقضب و يقطع مرة بعد أخرى لعلف الدواب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 620

[سورة عبس (80): الآيات 29 الى 34]

وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً (29) وَ حَدائِقَ غُلْباً (30) وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)

[30] وَ زَيْتُوناً و هو ما يعصر منه الزيت وَ نَخْلًا و هو الشجرة التي تعطي التمر.

[31] وَ حَدائِقَ جمع «حديقة»، و هو البستان المحوّط بالسور أو البستان الصغير ذو الأشجار و الأوراد غُلْباً جمع «غلباء» و هي الحديقة العظيمة الملتفة الأشجار، كأنه مأخوذ من التغالب، لتغالب أشجارها في الارتفاع للاستفادة من الهواء و الضياء.

[32] وَ فاكِهَةً أي سائر ألوان الفواكه وَ أَبًّا و هو المرعى من الحشيش و غيره الذي يرعاه الحيوان.

[33] و إنما أنبتنا كل ذلك مَتاعاً

لَكُمْ أي لأجل متاعكم و عيشكم وَ لِأَنْعامِكُمْ أي بهائمكم. قالوا: الفاكهة لكم، و الأبّ لأنعامكم.

[34] ثم ينتقل السياق من المبدأ إلى المعاد بقوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ و هي من أسامى القيامة، بمعنى الصاكة، لأنها تصك الأسماع، أي تبالغ في إسماعها، من أصواتها الشديدة، كصوت النفخة، و صوت النار، و أصوات الملائكة، و ما أشبه. و الجواب محذوف، أي يكون الناس يومئذ قسمين، و قد دل على الجواب ما يأتي في قوله «وجوه».

[35] ثم بين وقت مجيئها بقوله: و ذلك يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ أي كل أحد مِنْ أَخِيهِ خوفا بأن يبتلى به، بأن يطلب منه شيئا، أو يلقى عليه بعض تبعته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 621

[سورة عبس (80): الآيات 35 الى 41]

وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)

وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41)

[36] وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ حذرا من أن يكون قصر في حقهما، أو يطالبانه بشي ء.

[37] وَ صاحِبَتِهِ أي زوجته، و هو من باب المثال، و إلا فالزوجة أيضا تفر من زوجها وَ بَنِيهِ أي أولاده، و المراد إنه يفر من أعز أقربائه و عشرائه.

[38] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الفارين، أو كل من حضر في القيامة يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ أي أمر عظيم يُغْنِيهِ عن شؤون غيره لأنه مبتلى بحساب نفسه يشغله عن الاهتمام بالآخرين.

[39] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، و هي وجوه المؤمنين مُسْفِرَةٌ أي مشرقة مضيئة، «من أسفر» بمعنى ظهر فإنها تظهر عليها آثار الفرح و السرور.

[40] ضاحِكَةٌ من السرور مُسْتَبْشِرَةٌ استبشرت بالخير و الثواب أي فرحت و تهللت.

[41] وَ

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، و المراد بها وجوه الكفار و العصاة عَلَيْها غَبَرَةٌ أي سواد و كآبة و حزن، مشتق من الغبار و هو التراب المتصاعد الذي يعلو الأشياء.

[42] تَرْهَقُها أي تعلو تلك الوجوه و تغشاها قَتَرَةٌ و هي ظلمة الدخان، فالغبار و الدخان و عبوس النفس كلها تظهر على وجوههم، و لا يجليها رضوان اللّه و رحمته، كما يجلي وجوه المؤمنين، لو فرض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 622

[سورة عبس (80): آية 42]

أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

مرورها من محلات القيامة المغبرة.

[43] أُولئِكَ الذين وصفوا بتلك الأوصاف السيئة هُمُ الْكَفَرَةُ جمع كافر الْفَجَرَةُ جمع فاجر أي العاصي، يعني أن الكفار و الفجار هم الذين تكون على وجوههم غبرة و قترة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 623

81 سورة التكوير مكية/ آياتها (30)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الفعل من هذا المصدر، و هو قوله «كورت» و هي كسائر السور المكية تبين قضايا العقيدة في أصولها الثلاث، و حيث ختمت سورة «عبس» بذكر القيامة، افتتحت هذه السورة بذكر علاماتها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي هو المبدأ لكل شي ء، فمنه سبحانه جاء الكون، و إليه مصير الخلق، الرحمن الرحيم بكل شي ء خلقا و تربية و لطفا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 624

[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)

[2] إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي ذهب نورها فأظلمت، و التكوير هو اللف، كأن المراد لف ضوؤها، فذهب انبساطها في الآفاق، فتصير سوداء مظلمة.

[3] وَ

إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ بأن يذهب نورها و ضياؤها، من الكدرة.

[4] وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ قلعها اللّه عن مكانها، و سيرها كالهباء في الفضاء.

[5] وَ إِذَا الْعِشارُ و هي النوق الحوامل، جمع «عشراء» و هي الناقة الحامل، و الناقة التي وضعت لتمام عُطِّلَتْ أي تركت هملا بلا راع و لا محافظ، و ذلك كناية عن أن أهوال ذلك اليوم بحيث توجب أن يذهل الإنسان عن أعز ماله.

[6] وَ إِذَا الْوُحُوشُ جمع وحش، و هو الحيوان البري الذي لا يأنس، أو مطلق الحيوان حُشِرَتْ أي جمعت في ذلك اليوم ليقتص للمظلوم منها من الظالم.

[7] وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي حولت إلى النيران، و منه تسجير التنور، بإيقاد النار فيه.

[8] وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ بأن قرنت كل نفس إلى من يشاكلها فالمؤمن مع المؤمن، و الكافر مع الكافر، أو زوجت نفوس المؤمنين بحور العين و نفوس الكافرين بالشياطين، أو زوجت النفوس بالأحباء، بعد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 625

[سورة التكوير (81): الآيات 8 الى 14]

وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)

وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)

مفارقتها عنها في حال الموت.

[9] وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ من وئد بمعنى دفن الشي ء حيا، فقد كانت العرب تئد البنات خوف الفقر و العار سُئِلَتْ أي يسأل عنها.

[10] بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يسأل عن الذين و أدوا بناتهم: بأي ذنب صدر منهن قتلتموهن، و هن بريئات لا ذنب لهن؟

[11] وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ أي صحائف أعمال الناس تنشر ليقرأها أصحابها و يطلعوا على ما فيها من خير و شر حتى يجازون بما عملوا.

[12] وَ

إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ الكشط هو القلع عن شدة، كأن السماء جلد يكشط و يقلع عن الكون، و ذلك كناية عن تبدل الأنظمة العلوية حتى يرى الإنسان السماء غير السماء كما يرى البدن المكشوط جلده بغير شكله السابق.

[13] وَ إِذَا الْجَحِيمُ أي النار سُعِّرَتْ أي أوقدت، بأن ترتفع نارها و لهيبها لتشتد و تزداد حرارة و هولا.

[14] وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت، كأنها في محل بعيد في الفضاء ثم تدنى إلى الأرض التي هي المحشر و الموقف، أو المراد قربت إلى المؤمنين قربا زمانيا.

[15] إذا كانت هذه الأمور عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي عرفت أعمالها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 626

[سورة التكوير (81): الآيات 15 الى 19]

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)

التي عملتها في دار الدنيا من خير و شر و سعادة و شقاء و التي أحضرتها ليوم القيامة، فإنها تعرف بأعمالها لتجازى عليها.

[16] ثم جاء السياق لتثبيت أمر الرسالة و بيان أن القرآن ليس كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- كما يزعم الكفار- فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ قد سبق أن «لا» للنفي، و إنما يؤتى بها لنكتة هي إرادة تعظيم القسم و الإشعار به مع عدم الحلف واقعا. كما تقوم لرجل عظيم «لا أقسم بحياتك لكن الأمر كذا». و «الخنس» جمع الخانس، و هو الذي يستتر و يرجع، و المراد بها الكواكب، أي لا أقسم بالكواكب التي تستتر عند مغيبها في المغرب، أو لضياء النهار.

[17] الْجَوارِ جمع جارية، لأن الكواكب تجري و تسير في السماء الْكُنَّسِ جمع «كانس» و هو الذي يستتر في محله، كالضبي الذي

يأوى إلى كناسه أي منزله، و كأن المعنى لا أقسم بالكواكب السيارة التي ترجع في دورتها الفلكية و تجري و تختفي في أماكنها، فإن أول الليل يرى الإنسان الكواكب رجعت عن مغيبها، ثم يرى جريانها ثم اختفاءها عند المغرب أو عند إضاءة الصباح.

[18] وَ قسما ب اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أقبل، أو بمعنى أدبر.

[19] وَ قسما ب الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أسفر و أضاء.

[20] ثم جاء متعلق الحلف بقوله: إِنَّهُ أي إن هذا القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ المراد به جبرئيل عليه السّلام، في مقابل أن يكون من مخترعات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 627

[سورة التكوير (81): الآيات 20 الى 25]

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)

وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)

الرسول- كما زعم الكفار- و كونه قول جبرئيل يراد به حكايته لذلك عن اللّه سبحانه، لا إنه قوله الاستقلالي- كما لا يخفى-.

[21] ذِي قُوَّةٍ جسدية و عقلية، فيتمكن من النزول من السماء إلى الأرض، و يبلغ رسالة اللّه إلى الرسول كاملة بلا زيادة أو نقصان عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي له مكان عظيم عند اللّه سبحانه- الذي هو صاحب العرش، المالك للكون كله، كما يقال للملك «صاحب العرش» كناية عن كونه ملكا- و «مكين» بمعنى متمكن.

[22] و هو مُطاعٍ للملائكة، أي يطيعونه الملائكة لكبر مقامه ثَمَ أي هناك في الملأ الأعلى أَمِينٍ على الوحي فلا يزيد فيه و لا ينقص.

[23] فالقرآن إذا كلام اللّه تعالى، أما الرسول وَ ما صاحِبُكُمْ أيها الكفار- و المراد به الرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم الذي صحبهم- بِمَجْنُونٍ قد خلط عقله كما تتقوّلون عليه.

[24] وَ لَقَدْ رَآهُ أي رأى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ في ناحية المشرق عند الأفق الواضح، فلم يكن وهما أو إلقاء من الشياطين أو ما أشبه- كما تزعمون-.

[25] وَ ما هُوَ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَى الْغَيْبِ أي وحي اللّه سبحانه له بِضَنِينٍ بمتهم، من «الضنة» بمعنى التهمة، أو ببخيل.

[26] وَ ما هُوَ أي ليس القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ مرجوم أي مطرود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 628

[سورة التكوير (81): الآيات 26 الى 29]

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)

باللعن، كسائر الكهانات التي هي أقوال الشياطين تلقى على الكهنة.

[27] فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أيها الكفار؟ و كيف لا تؤمنون و القرآن شاهد صدق على نفسه، بأنه ليس كلام مجنون، و لا كلام شيطان، و لا ما زيد فيه أو نقص لبخل الرسول بإعطاء الوحي كاملا، فإنه من طرف المنزل، و هو اللّه، و من طرف المنزل إليه و هو الرسول، أحسن كتاب للهداية.

[28] إِنْ هُوَ أي ليس القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي لجميع الأجيال و العوالم، عالم الإنس و عالم الجن، يذكرهم بما أودع في فطرتهم من الأمور المرتبطة بالألوهية و الرسالة و المعاد، و الأخلاق و ما أشبه ذلك.

[29] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أيها المكلفون أَنْ يَسْتَقِيمَ في عقيدته و عمله، بأن لا ينحرف يمينا أو شمالا، و إنما خصهم لأنهم المنتفعون بالذكر، كما تقول «هذا معلم لمن شاء أن يتلمذ عنده» تعني أن المريد هو المستفيد

منه، و إن كان هو مستعد لتعليم كل فرد.

[30] وَ ما تَشاؤُنَ أنتم الاستقامة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فإن الإنسان لا يتمكن على الاهتداء إلا بعد مشيئة اللّه بنصب الأدلة و قد شاء سبحانه ذلك، و أرسل الرسول، و أنزل الكتاب، فلم يبق إلا مشيئة البشر أن يقبلوا الهدى و يتبعوا السبيل. و في هذا تحريض العباد على المشيئة إذ اللّه رب العالمين قد شاء، فهل يحق للبشر أن لا يشاء؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 629

82 سورة الإنفطار مكيّة/ آياتها (20)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على فعل المصدر و هو قوله «انفطرت»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و حيث كانت سورة «التكوير» لبيان أهوال القيامة، جاءت هذه السورة مؤكدة لتلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نشرع في السورة باسم الإله الذي له كل شي ء، فإن اللّه علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد و يتفضل عليهم بتكميل نواقصهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 630

[سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)

[2] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت و ظهر فيها أثر الانفطار حتى إذا شاهدها الإنسان رآها كالحائط المنفطر.

[3] وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تهافتت و اختلفت أمكنتها و بطل نظامها الحالي، من النثر و هو التبعثر.

[4] وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ كما تتفجر العيون، بأن أخذت تغلي بالماء أو باللهب.

[5] وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي قلب ترابها لخروج الأموات منها، و الشي ء المبعثر هو

المتفرق.

[6] إذا صار كل ذلك، فقد قامت القيامة و عَلِمَتْ كل نَفْسٌ و المراد بالنفس الجنس، و لذا أدخلنا عليها «كل» ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ أي يعرف كل إنسان- بالنظر إلى صحيفة عمله- ما قدم إلى الآخرة في حال كونه في الدنيا و ما أخر إلى الآخرة بعد وفاته، بما خلف من صدقات جارية و كتب علم و دين أو أشياء ضارة و ما أشبه ذلك، فإنه يعرف بكل ذلك ليجزي حسب ما عمل إن حسنا فحسن، و إن سيئا فسي ء.

[7] ثم يأتي السياق لإيقاظ الإنسان من نومه، بقوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي أيّ شي ء خدعك بربك حتى صرت تعصيه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 631

[سورة الانفطار (82): الآيات 7 الى 10]

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10)

و تخالفه، آمنا من عذابه و عقابه؟ و هل كان من العدل أن تقابل كرمه بالعصيان؟ و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟-

و في حديث أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما تلا هذه الآية قال: غره جهله

«1».

[8] الَّذِي خَلَقَكَ بأن أوجدك منيا فَسَوَّاكَ جعل أجهزتك سليمة معدة لمنافعها فَعَدَلَكَ أي جعل بعض أعضائك عدل بعض كعينين و يدين و رجلين و ما أشبه بحيث يتناسب أحدهما مع الآخر دون كبر في بعض و صغر في بعض.

[9] فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ «ما» زائدة لتأكيد اختلاف الصور رَكَّبَكَ أي ركبك في أية صورة شاء من أنواع الصور الحسنة و القبيحة و المليحة أو غيرها و هكذا، فإن بسائط الجسم من لحم و عظم و شحم

و دم و غيرها ركب سبحانه منها صورة كل إنسان بشكل خاص.

[10] فهل بعد ذلك كله تنكرون وجود اللّه، أو قدرته على البعث كَلَّا ليس الأمر على ما تزعمون بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي بالجزاء لا تؤمنون، بل تكذبون.

[11] و تظنون أن لا حساب وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ أيها الناس لَحافِظِينَ من الملائكة، يحفظون أعمالكم بكتابتها في دواوين لتجزون عليها يوم القيامة، و «حافظين» اسم «إنّ».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 94.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 632

[سورة الانفطار (82): الآيات 11 الى 18]

كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15)

وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18)

[12] كِراماً أي ملائكة كراما ذوي رفعة و مكانة رفيعة كاتِبِينَ يكتبون أعمال بني آدم.

[13] و لا يسقط من حسابهم شي ء، بل يَعْلَمُونَ كل ما تَفْعَلُونَ من طاعة و معصية و خير و شر.

[14] ثم في يوم القيامة يجازى كل حسب ما عمل إِنَّ الْأَبْرارَ جمع «بر» و هو المحسن في العقيدة و العمل لَفِي نَعِيمٍ الجنان و رفاهها و خيرها.

[15] وَ إِنَّ الْفُجَّارَ جمع «فاجر» و هو العامل بالمعاصي، كفرا كان أو غيره لَفِي جَحِيمٍ اسم من أسامي جهنم، و هي النار الكثيرة.

[16] يَصْلَوْنَها أي يدخلونها ملازمين لها يَوْمَ الدِّينِ أي يوم القيامة.

[17] وَ ما هُمْ أي الفجار عَنْها أي عن الجحيم بِغائِبِينَ بأن يغيبوا عن النار في بعض الأوقات، بل إنهم مؤبدون فيها بلا انقطاع.

[18] و إذا تقدم ذكر يوم القيامة جاء السياق لتهويل شأنه وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان ما يَوْمُ

الدِّينِ أي أيّ شي ء هو؟ فإن أهوالها لا تدرك، حتى يراها الإنسان رأي العين.

[19] ثُمَ لترتيب الكلام و تكثير التهويل ما أَدْراكَ أيها الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 633

[سورة الانفطار (82): آية 19]

يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

ما يَوْمُ الدِّينِ أي ما هو الجزاء.

[20] إنه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، فلا يقدر أحد الدفاع عن غيره، أو إنقاذه بسائر الوسائل وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم لِلَّهِ وحده، و لا ينفع للنجاة إلا العمل الصادر للّه تعالى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 634

83 سورة المطفّفين مكيّة- مدنيّة/ آياتها (37)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المطففين»، و لعل السورة مركبة من المدنية و المكية لاشتمالها على ما يشبه النظام إلى جنب قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة الانفطار بذكر القيامة و أحوال الناس فيها، ذكر في هذه السورة ذلك أيضا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له الملك و هو الأول لكل شي ء، فما أجدر أن يبتدأ باسم الكريم، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على العباد و يكمل نقص كل إنسان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 635

[سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)

[2] وَيْلٌ و هي كلمة تقال بمعنى سوء الحال، أي أن سوء الحال لِلْمُطَفِّفِينَ و «التطفيف» هو نقص الكيل و الميزان.

[3] ثم فسره سبحانه بقوله: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي كالوا ما على الناس ليأخذوه لأنفسهم، كما لو دفعوا مالا لاشتراء من من الحنطة، فإذا كالوها يَسْتَوْفُونَ

أي يأخذون بمقدار حقهم وافيا، و لما كان الكيل و الوزن من جنس واحد اكتفى بأحدهما عن ذكر الآخر.

[4] وَ إِذا كالُوهُمْ أي كالوا لهم أَوْ وَزَنُوهُمْ أي وزنوا لهم، بأن أرادوا بيع من من الحنطة مثلا للناس و قبض الثمن لأنفسهم يُخْسِرُونَ أي ينقصون فيما يعطون، فمثلا ينقصون من المنّ حقة. و لا يخفى أن العمل الأول ليس محرما، و إنما يكون بشعا إذا قيس بالعمل الثاني، كما أن إطراء الناس في وجههم ليس محرما، و لكن إذا ضم إلى ذمهم في قفاهم صار بشعا، و سمي الفاعل لذلك ذا لسانين، و كان له يوم القيامة لسانان من نار- كما ورد-.

[5] ثم يأتي السياق ليهددهم بقوله: أَ لا يَظُنُ و الإتيان بلفظ الظن لإفادة أن مجرد الظن كاف في الانقطاع، فكيف بالعلم أُولئِكَ المطففون أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أي يبعثون.

[6] لِيَوْمٍ عَظِيمٍ في يوم القيامة الذي يحاسب فيه كل إنسان بما عمل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 636

[سورة المطففين (83): الآيات 6 الى 11]

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)

الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)

[7] و هو يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لحسابه و جزائه.

[8] كَلَّا ليس الأمر على ما زعمتم من أنه لا حساب و لا جزاء، بل هناك يجازي كل إنسان بما عمل، ف إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ جمع فاجر، و هو العاصي للّه سبحانه، سواء كان بالكفر أو الإثم، و المراد بكتابهم ما أدرج فيه أسماؤهم و خصوصياتهم لَفِي سِجِّينٍ و هو السجل على جهة التخليد فيه، يعني أنه قرر لهم السجن الأبدي،

و هكذا سجل أسماؤهم بأنهم في سجين، كما تقول:

«كتاب فلان في المجرمين» أي أنه كتب مجرما في ضمن سائر المجرمين.

[9] ثم جاء السياق لتهويل أمر سجين بقوله: وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو يا رسول اللّه ما سِجِّينٌ فما أعلمك به، بل أنتم لا تدرون به.

[10] إنما هو كِتابٌ مَرْقُومٌ قد رقم و كتب و فرغ منه، فلا يمكن تبديله و تغييره، بأن يمحي اسم الفاجر منه، ليدرج في كتاب الأبرار.

[11] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ

[12] ثم حدد معنى المكذبين، و المراد بهم بقوله: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم القيامة، فإن الدين بمعنى الجزاء، و التكذيب بيوم القيامة يلازم التكذيب بسائر الأصول.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 637

[سورة المطففين (83): الآيات 12 الى 15]

وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)

[13] وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ أي بيوم القيامة إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ يعتدي و يظلم و يتجاوز عن الحد أَثِيمٍ يأثم و يعصي في كثرة و يبالغ في الاعتداء.

[14] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ أي تقرأ على ذلك المعتدي آياتُنا الدالة على الألوهية و التوحيد و سائر الأصول، أو المراد بها القرآن قالَ هذه التي تتلونها هي أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ حكاياتهم و كلماتهم الخرافية، جمع «أسطورة» و هي القصة الخيالية التي لا حقيقة لها، و في هذا اليوم يسمون الدين «رجعية» عبارة أخرى عن «أساطير الأولين».

[15] كَلَّا ليست الآيات أساطير بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ «الرين» في الأصل بمعنى الغلبة، أي غلب عليها ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الذنوب و الآثام، حتى

أن عصيانهم سبّب تحجّر قلبهم، فلا يرون الحق إلا باطلا، و الآيات إلا أساطير.

قال الصادق عليه السّلام يصدأ القلب، فإذا ذكرته باللّه انجلى

«1».

[16] كَلَّا لا يبقى هؤلاء في خير و نعيم إلى الأبد، كما يظن الكفار بأنهم هناك أيضا يحظون بكرامة اللّه و إحسانه قائلين وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً «2» إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ أي عن لطفه و رحمته يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لَمَحْجُوبُونَ ممنوعون، و هذا كما

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 293.

(2) الكهف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 638

[سورة المطففين (83): الآيات 16 الى 21]

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20)

يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)

تقول «حجبني فلان عن الملك» أي منع لطفه عني.

[17] ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد أن حجبوا عن فضل اللّه و لطفه لَصالُوا الْجَحِيمِ أي داخلون فيها ملازمون لها.

[18] ثُمَّ يُقالُ لهم بعد أن دخلوا الجحيم على وجه التقريع و التوبيخ هذَا الَّذِي ذقتموه من العذاب و النكال كُنْتُمْ بِهِ في الدنيا تُكَذِّبُونَ و تقولون: لا جنة، و لا نار، و لا حساب، و لا جزاء.

[19] كَلَّا ليس الأمر كما زعمتم من أنكم أهل كرامة اللّه، إن الكرامة ليست لكم، و إنما هي للأبرار إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ أي الكتاب الذي أدرج فيه أسماؤهم و عين فيه مقاماتهم، و «أبرار» جمع برّ و هو المحسن عقيدة و عملا لَفِي عِلِّيِّينَ أي مراتب عالية، فإنهم مكتوبون في سجلهم أن مقامهم هناك.

[20] ثم جاء السياق لتعظيم مقامهم بقوله: وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو يا رسول اللّه ما

هي عِلِّيُّونَ

[21] إنه كِتابٌ مَرْقُومٌ قد رقم و سجل فلا يمحى عنه أسماء الأبرار.

[22] يَشْهَدُهُ أي يعرفه و يعلم مزاياه الْمُقَرَّبُونَ أي الملائكة المقربون، و في ذلك كرامة أخرى للأبرار، لأن الإنسان يجب أن يطلع الناس و غيرهم على أعماله الحسنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 639

[سورة المطففين (83): الآيات 22 الى 26]

إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)

[23] ثم جاء القياس يعين مكان الأبرار الذي كتب في كتابهم أنهم في عليين إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ في الملاذ و المشتهيات.

[24] و هم جالسون عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة، و هي كرسي العروس الذي تجلس عليه يَنْظُرُونَ إلى هنا و هناك ليلتذوا بالنظر كما التذوا بسائر أنواع الحواس.

[25] تَعْرِفُ أيها الإنسان، إذا نظرت إلى أولئك الأبرار فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بريقه و حسنه و جماله، فإن الإنسان الذي في نعمة و راحة يظهر على وجهه بريق و لمعان و نضارة.

[26] يُسْقَوْنَ و الساقي هم الملائكة بأمره سبحانه مِنْ رَحِيقٍ هو الشراب الخالص من كل كدورة و فساد مَخْتُومٍ قد ختم على آنيته بعد أن سد رأسه، لئلا يصيبه الأذى من الخارج، كالمربيات و الأشربة التي تقفل و تختم في العلب في الدنيا.

[27] خِتامُهُ مِسْكٌ فإن المداد الذي يختم به على أواني الرحيق من المسك المذاب، و في ذلك تشويق و أناقة و دلالة على النعيم و كثرة الرفاه وَ فِي ذلِكَ النعيم فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة اللّه سبحانه، و أصل التنافس التزاحم على الشي ء، إن نعيم الجنة هو القابل لأن

يتزاحم فيه الناس، و ذلك بأن يبادر إلى كل الأعمال الصالحة لينالها، لا أن يتنازعوا في ملذات الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 640

[سورة المطففين (83): الآيات 27 الى 30]

وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30)

فإنها زائلة فانية.

[28] وَ مِزاجُهُ أي الشي ء الذي مزج بذلك الرحيق مِنْ عين تسمى بال تَسْنِيمٍ و هي عين جيدة، سميت بالتسنيم لارتفاعها، من سنم بمعنى ارتفع.

[29] في حال كون ذلك التسنيم عَيْناً أو منصوب على المدح يَشْرَبُ بِهَا أي منها الْمُقَرَّبُونَ الذين قربوا إلى رضوان اللّه تعالى بأعمالهم الصالحة.

[30] ثم يأتي ليبين أن ما يراه المجرم و المحسن هناك إنما هو جزاء أعمالهم إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي فعلوا الجرائم و الآثام في دار الدنيا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ على وجه السخرية بهم و الاستهزاء لهم، و «من» ابتدائية، كأن ضحكهم كان يبتدئ و ينشأ من طرف المؤمنين، و هذا حكاية عن أحوالهم و هم في الدنيا و كأن الحكاية في الآخرة حين يعاتب المجرمين و يثاب المحسنون.

[31] وَ إِذا مَرُّوا أي المؤمنون بِهِمْ أي بالمجرمين يَتَغامَزُونَ بأن يشير بعضهم إلى بعض بالعين و الحاجب استهزاء بالمؤمنين، و من المعلوم أن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كان ممن يتغامز به المنافقون و لذا ورد في بعض الروايات تفسير الآية بذلك «1»، و هو من باب المصداق.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 172.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 641

[سورة المطففين (83): الآيات 31 الى 36]

وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَ ما

أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35)

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

[32] وَ إِذَا انْقَلَبُوا أي رجع أولئك المجرمون إِلى أَهْلِهِمُ أي إلى بيوتهم انْقَلَبُوا و رجعوا في حال كونهم فَكِهِينَ الفكه هو المرح الأشر، أي متلذذين بالسخرية منهم، كما هو شأن الجهلاء دائما.

[33] وَ إِذا رَأَوْهُمْ أي رأى المجرمون، المؤمنين قالُوا أي قال بعضهم لبعض إِنَّ هؤُلاءِ المؤمنين لَضالُّونَ عن طريق الصواب حيث تركوا نعيم الدنيا، بزعم نعيم الآخرة «و هل عاقل باع الوجود بدين»؟

[34] وَ الحال أن الكفار ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين حافِظِينَ أعمالهم و يشهدون برشدهم و ضلالهم.

[35] فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ جزاء وفاقا كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، فإن بعض الأحوال السيئة لشخص يوجب ضحك الطرف المقابل.

[36] عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة و هو الكرسي المعد لجلوس العروس يَنْظُرُونَ أي ينظر المؤمنون إلى الكفار، و هم في النار يتقلبون.

[37] ثم يأتي بالمستهزئين جزاء استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ أي أثيبوا و جوزوا ما كانُوا يَفْعَلُونَ في الدنيا؟ نعم أثيبوا و ها هم في النار يتقلبون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 642

84 سورة الانشقاق مكيّة/ آياتها (26)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الفعل من هذا المصدر، و هو «انشقت»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة المطففين بذكر القيامة، ابتدأت هذه السورة بذكر أهوالها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم اللّه، ليكون سبحانه عونا لنا في أمورنا، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على الأشياء كلها كما قال وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ «1»، و هو أن يفعل بالشي ء ما يخرجه من النقص إلى

الكمال.

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 643

[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ (4)

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6)

[2] إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي تصدّعت و انفرجت، كما ينشق الحائط فيظهر للعين في السماء لون الانفطار و الانشقاق، و تتناثر النجوم لاختلال النظام.

[3] وَ أَذِنَتْ السماء لِرَبِّها أي خالقها، و المراد انقادت للّه سبحانه، و أصل الإذن الاستماع، يقال «أذن فلان لأمري» أي استمع، و استعمل مجازا بمعنى الانقياد بعلاقة السبب و المسبب وَ حُقَّتْ أي و حق لها أن تأذن و تنقاد، و إنما جي ء بالمجهول لأن المعنى أنها جعلت حقيقة بالانقياد، بأن خلقت بكيفية تنقاد و تطيع الأمر.

[4] وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أي بسطت باندكاك جبالها حتى تصير كالصحيفة الملساء فتوسع لأنه لا عوج فيها و لا أمت.

[5] وَ أَلْقَتْ ما فِيها أي أخرجت ما في جوفها من الكنوز و المعادن و الأموات وَ تَخَلَّتْ أي خلت فلم يبق في بطنها شي ء.

[6] وَ أَذِنَتْ أي انقادت الأرض لِرَبِّها اللّه سبحانه وَ حُقَّتْ لها أن تأذن بالإطاعة و الانقياد، و الجواب ل «إذا» محذوف، أي انقسم الناس إلى قسمين ناج و هالك، يدل على ذلك قوله «فأما من» الآتية.

[7] ثم توجه الخطاب إلى الإنسان ليستعد لهذا اليوم المهول يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً «الكدح» هو السعي الشديد في الأمر، أي سعى إلى ربّه- أي إلى جزائه و حسابه- سعيا شديدا، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5،

ص: 644

[سورة الانشقاق (84): الآيات 7 الى 12]

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11)

وَ يَصْلى سَعِيراً (12)

الإنسان لا يزال يسعى في الأرض بجهد و شدة- إذ الدنيا دار تعب و عناء- حتى ينتهي إلى حساب اللّه سبحانه فَمُلاقِيهِ أي تلاقي كدحك- بمعنى جزاء عملك- عند ما صرت إلى حساب ربك.

[8] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ أي أعطي كِتابَهُ الذي كتبه الملكان، المدروج فيه أعماله بِيَمِينِهِ أي بيده اليمنى، و ذلك دليل السعادة و الفلاح.

[9] فَسَوْفَ بعده بمدة يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً سهلا بلا أتعاب و نقاش، و لعل المدة بين إعطاء الكتاب و بين الحساب طويل و لذا جي ء ب «سوف».

[10] وَ يَنْقَلِبُ أي يرجع من محل المحاسبة إِلى أَهْلِهِ الذين حوسبوا قبله و انتظروا مقدمه، أو المراد حور العين التي أعدت له مَسْرُوراً فرحا.

[11] وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ بأن يأخذ الملائكة بيده اليسرى إلى وراء ظهره ثم يعطى كتابه هناك، تكثيرا للخزي و الفضاحة و إيذانا بأنه من أهل النار و العذاب.

[12] فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أي هلاكا، إذا قرأ كتابه فيقول «وا ثبوراه» أي يا هلاك احضر فهذا وقتك.

[13] وَ يَصْلى سَعِيراً أي يدخل النار المستعرة الملتهبة، ملازما لها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 645

[سورة الانشقاق (84): الآيات 13 الى 19]

إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ (17)

وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)

[14] إِنَّهُ أي هذا المجرم

كانَ فِي أَهْلِهِ في الدنيا مَسْرُوراً بما أوتي من أمور الدنيا فلا يهتم بأمر الآخرة، بخلاف من يهتم بأمر الآخرة فإنه حزين لأنه لا يدري ماذا يصنع به، و ما تكون عاقبته.

[15] إِنَّهُ ظَنَ في الدنيا أَنْ لَنْ يَحُورَ أي لن يرجع إلى حال الحياة بعد الموت، من حار: بمعنى رجع.

[16] بَلى يرجع، و ظنه فاسد إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً يرى أعماله فيجازيه عليها و لا يتركه سدى هملا.

[17] فَلا أُقْسِمُ أي أقسم، أو أن «لا» للنفي كما اخترنا سابقا بِالشَّفَقِ و هي الحمرة التي تبقى في الأفق عند الغروب.

[18] وَ لا أقسم ب اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ أي ما جمع و ضم مما كان منتشرا بالنهار من أقسام الحيوان، و أفراد الإنسان، يقال وسقه:

إذا جمعه.

[19] وَ لا أقسم ب الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي إذا تكامل بدرا فإنه يجتمع حينئذ، افتعال من «وسق».

[20] لَتَرْكَبُنَ أي لتشاهدون، و تعانون طَبَقاً أي حالا عَنْ طَبَقٍ أي بعد حال سابقة، مما قدر لكم من الأحوال، و الإتيان ب «عن» لأنها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 646

[سورة الانشقاق (84): الآيات 20 الى 23]

فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23)

للتجاوز، أي تركبن حالا مجاوزين عن حال سابقة، و إنما سمي الحال طبقا لأنه يطابق الإنسان، و المعنى أنكم تسيرون في أحوالكم المختلفة سيرا حتى تنتهون إلى يوم القيامة، كما قال في أول السورة «إنك كادح» و هذا هو جواب «لا أقسم»، و كأن هذه الجمل للتنبيه على تغير أحوال الدنيا، فلا يغتر الإنسان بحالها الحسن و ينسى الآخرة حتى تفوته دنياه و

آخرته.

[21] و إذا كانت الدنيا معرض زوال و فناء، و أحوالها معرض تبدل و انقلاب فَما لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار لا يُؤْمِنُونَ باللّه حتى ينجون من عذاب الآخرة الباقية؟

[22] وَ ما لهم إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ أي لا يخضعون للّه سبحانه، بعد أن تتلى عليهم آياته، و تتم عليهم الحجة بقراءة القرآن عليهم؟

[23] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا عوض أن يخضعوا يُكَذِّبُونَ باللّه و الرسول و اليوم الآخر.

[24] وَ اللَّهُ أَعْلَمُ من كل أحد حتى من أنفسهم بِما يُوعُونَ هؤلاء المكذبون، و المعنى بما يضمرون في صدورهم من الكفر و النوايا السيئة، من «وعي» بمعنى تقبل و جمع، يقال «فلان يعي الكلام» أي يتقبله و يحفظه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 647

[سورة الانشقاق (84): الآيات 24 الى 25]

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

[25] فَبَشِّرْهُمْ يا رسول اللّه، و الإتيان بلفظ البشارة للاستهزاء بهم- بعلاقة الضد- بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع لهم.

[26] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و الرسول و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ الملازم لعدم الإتيان بالسيئات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع، لأن نعيم الآخرة دائم لا نفاد له، و الظاهر أن الاستثناء منقطع، و قد سبق أن ذكرنا وجه الاستثناء المنقطع في مثل هذه المقامات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 648

85 سورة البروج مكيّة/ آياتها (23)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «البروج»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة الانشقاق بذكر المؤمنين، ابتدأت هذه السورة بذكرهم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو المبدأ لكل شي ء، و لا أحق بالابتداء منه، ليطابق الابتداء في الكلام للابتداء في الخارج، الرحمن

الرحيم الذي يرحم العباد بإعطائهم ما يحتاجون، و يتفضل عليهم بغفران ذنوبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 649

[سورة البروج (85): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)

[2] وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي قسما بالسماء التي هي صاحبة البروج، جمع برج و هو القطعة من السماء، سميت برجا لظهوره، من برج: إذا ظهر، و البروج هي الحمل و الثور و الجوزاء و السرطان و الأسد و السنبلة و الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت، و القمر في سيره النفسي يقطع كل برج في ظرف يومين و نصف، و الشمس تقطعه في ظرف شهر.

[3] وَ قسما ب الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ و هو يوم القيامة، الذي وعد به الخلق.

[4] وَ قسما ب شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ في ذلك اليوم، أو كل شاهد و مشهود.

و هذا الأقرب بالعموم، و إن أورد في التفسير معاني مختلفة لهما.

[5] قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ هو الشق العظيم في الأرض، أي قتل اللّه أصحاب الأخدود الكفار الذين حفروا الأخاديد في الأرض لتعذيب المؤمنين، و هذا دعاء على أولئك الكفار، و كان من قصتهم على ما نقله القمي: إن الذي هيج الحبشة على غزو اليمن ذو نواس، و هو آخر من ملك من حمير تهود و اجتمعت معه حمير على اليهودية، و سمى نفسه يوسف، و أقام على ذلك حينا من الدهر، ثم أخبر أن بنجران بقايا قوم على دين النصرانية و كانوا على دين عيسى و على حكم الإنجيل، و رأس ذلك الدين عبد اللّه بن برياس، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم

و يحملهم على اليهودية و يدخلهم فيها فسار حتى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية، ثم عرض عليهم دين اليهودية و الدخول فيه فأبوا عليه، فجادلهم و عرض عليهم و حرص الحرص كله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 650

[سورة البروج (85): الآيات 5 الى 8]

النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)

فأبوا عليه و امتنعوا من اليهودية و الدخول فيها و اختاروا القتل، فاتخذ لهم أخدودا و جمع فيه من الحطب و أشعل فيه النار، فمنهم من أحرق بالنار و منهم من قتل بالسيف و مثلّ بهم كل مثلة فبلغ عدد من قتل و أحرق بالنار عشرين ألفا و أفلت رجل منهم يدعى «دوس» «1».

[6] النَّارِ بدل عن أخدود أي أصحاب النار ذاتِ الْوَقُودِ الكثير، إشارة إلى عظم تلك النار، و الوقود: هو الحطب الذي توقد به النار.

[7] إِذْ هُمْ أي أولئك الأصحاب الكفار عَلَيْها أي على حوالي النار قُعُودٌ جمع قاعد، أي كان الكفار قاعدين أطراف النار يشاهدون ما يفعل بالمؤمنين من رميهم فيها.

[8] وَ هُمْ الملك الكافر و أصحابه عَلى ما يَفْعَلُونَ جلاوزتهم بِالْمُؤْمِنِينَ من إلقائهم في النار شُهُودٌ جمع شاهد، أي حاضرون مشاهدون، و هذا ذم لهم كيف رضوا و سمحت لهم أنفسهم بأن يشاهدوا هذا النحو من التعذيب البشع.

[9] وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ أي ما كره الملك و أصحابه من المؤمنين إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ و يتركوا دين الملك الباطل الْعَزِيزِ الغالب في سلطانه الْحَمِيدِ المجرد في أفعاله، إشارة إلى أن الغلب كان للمؤمنين،

______________________________

(1) تفسير القمي: ج

2 ص 413.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 651

[سورة البروج (85): الآيات 9 الى 11]

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)

و إن صال الملك و جال أياما، كما أن ما فعل بالمؤمنين كان لحكمة و صلاح لهم لعلو درجاتهم.

[10] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك المطلق لهما وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أي حاضر عالم، فلم يغب عنه ما فعلوا بالمؤمنين فسينتقم منهم.

[11] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ أي عذبوهم و أحرقوهم بنار الأخدود، من أصحاب ذلك الملك الطاغي ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا بعد ذلك بالإيمان و الطاعة فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ في الآخرة بكفرهم وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بما أحرقوا المؤمنين، و كأن المراد بعذاب جهنم سائر أنواع عذابها من لدغ السامات و أكل الزقوم، و شرب الغسلين و ما أشبه، و «حريق» اسم النار، و لذا أضيف إليه «عذاب».

[12] و في مقابل أولئك المؤمنون إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ أي بساتين، و سميت جنة لتستر أرضها بالأشجار و القصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ من عسل و لبن و خمر و ماء و غيرها ذلِكَ التنعم بتلك الجنات الْفَوْزُ و الفلاح الْكَبِيرُ الذي ليس فوقه فوز. و لعل المراد ب «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا»، و

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 652

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 698

[سورة

البروج (85): الآيات 12 الى 17]

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا»، مطلق الكفار و المؤمنين، لا خصوص الكافر و المؤمن من أصحاب الأخدود، أو أصحاب الرسول و معاصريه.

[13] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ يا رسول اللّه، أي أخذه للكافرين و انتقامه منهم لَشَدِيدٌ فانه إذا بطش بأحد يغشاه العذاب، بمختلف ألوانه و صنوفه، فليحذر الكفار و العصاة بطشه.

[14] إِنَّهُ سبحانه هُوَ يُبْدِئُ الخلق، بأن يعطيهم الحياة من العدم أولا وَ يُعِيدُ للخلق بعد الممات أحياء.

[15] وَ هُوَ الْغَفُورُ لمن تاب و آمن، أي كثير المغفرة الْوَدُودُ الذي يحب الناس فلا يريد تعذيبهم إلا إذا تمادوا في الكفر و العصيان.

[16] ذُو الْعَرْشِ و هو كناية عن أن له الملك، يقال للملك «صاحب العرش» كناية عن سلطانه، و إن لم يكن له كرسي يجلس عليه الْمَجِيدُ الموصوف بالمجد و العظمة.

[17] فَعَّالٌ أي كثير الفعل لِما يُرِيدُ فكل شي ء أراده فعله لا يمتنع عليه شي ء، و هذه الآيات للإلماع إلى وجوب رجاء البشر إياه، و خوفهم منه، لأن له الملك و العظمة و أنه يفعل ما يشاء فعله.

[18] ثم جاء السياق لبيان شاهد على ما تقدم من أنه سبحانه يفعل ما يريد، ليرجوه المؤمن و يخافه الكافر هَلْ أَتاكَ يا رسول اللّه أو أيها السامع حَدِيثُ الْجُنُودِ أي هل بلغك خبر الذين تجندوا على خلاف اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 653

[سورة البروج (85): الآيات 18 الى 22]

فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ

قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

و محاربة أنبيائه، لتعرف كيف صنع اللّه بهم؟

[19] فِرْعَوْنَ و جنده، الذين أرسل إليهم موسى عليه السّلام وَ ثَمُودَ الذين أرسل إليهم صالح عليه السّلام، فإنهم لما كذبوا الأنبياء عذبهم اللّه سبحانه، و هكذا عادة اللّه سبحانه مع المكذبين.

[20] إن كفار مكة لا يرعوون عن كفرهم و عصيانهم بهذه الأمثال و القصص بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله فِي تَكْذِيبٍ للإسلام و القرآن، أي مشغولون عنه، و معرضون عن الحق.

[21] وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ أي من جوانبهم مُحِيطٌ كأنهم في دائرة علم اللّه سبحانه الشامل، و قدرته الواسعة فيعلم ماذا يصنعون، و هم في قبضة قدرته، يقول الملك «أنا محيط بفلان» يريد إحاطة علمه و قدرته لا إحاطة الجسم.

[22] و ليس كما ذكر الكفار إن القرآن شعر أو كهانة أو ما أشبه بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، ذو مجد و عظمة لأنه من قبله سبحانه.

[23] فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ من التغيير و التبديل، فهو محفوظ باق و إن اجتهد الكفار لمحوه و إبطاله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 654

86 سورة الطارق مكيّة/ آياتها (18)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الطارق»، و هي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة البروج بتهديد المكذبين، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله المستجمع لجميع صفات الكمال، فهو شعار للمسلم الذي يصفه أول كل حركة و سكون له ليصبغ بهذه الصبغة، الرحمن الرحيم، إعلاما لكونه إلها رحيما، لا قاسيا غليظا، كما كانت بعض آلهة الكفار توصف بالقسوة و الخشونة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 655

[سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ (1)

وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6)

[2] وَ السَّماءِ أي قسما بالسماء وَ الطَّارِقِ أي قسما بالطارق و هو الذي يأتي ليلا، سمي طارقا لأنه يطرق الباب، أما في النهار فقد كانت العادة الجارية لديهم أن تفتح الأبواب، فإذا جاء أحد استأذن و دخل، و المراد به هنا النجم الذي يطلع ليلا.

[3] وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو أيها الرسول ما هو الطَّارِقُ

و ذلك لتعظيم شأنه.

[4] هو النَّجْمُ الثَّاقِبُ الذي يثقب السماوات بنوره، و من يعرف عظم النجوم و كثرة بعدها حتى أنها تحتاج إلى سنوات ضوئية حتى توصل نورها إلى الأرض يعرف عظم هذا القسم. و الظاهر أن المراد بالنجم الجنس لا خصوص نجم واحد، و ما ذكر له في التفسير من المصداق فهو من باب المثال.

[5] إِنْ كُلُّ نَفْسٍ أي ما كل إنسان لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي إلّا عليها حافظ من قبل اللّه سبحانه، و هم الملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك كما يحفظون أعمالهم، و هذا هو متعلق القسم.

[6] و إذا كان الإنسان في شكّ من الإله فليفكر في أصله و نشأته فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ أي ليفكر و يتدبر مِمَّ خُلِقَ أي مما ذا خلق؟ و ما هو أصله؟

[7] خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي ماء يدفق، و الدفق هو الصب الذي فيه دفع و قوة، فإن المني يخرج هكذا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 656

[سورة الطارق (86): الآيات 7 الى 12]

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ (10)

وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11)

وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12)

[8] يَخْرُجُ ذلك الماء الذي هو مبدأ الإنسان مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ للرجل، و هو العظم الذي في ظهره مركز المني وَ التَّرائِبِ نواحي الصدر، واحدتها تريبة، فإن مني المرأة مركزه هناك.

[9] إن اللّه خلق الإنسان بهذه الكيفية إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ أي إرجاعه إلى الحياة بعد الموت لَقادِرٌ كما قدر على ابتداء خلقه حين لم يكن شيئا مذكورا.

[10] قادر على رجعه في يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي تختبر الضمائر، فإن «سرائر» جمع سريره، و هي المحل الكامن في الإنسان، فإن يوم القيامة تظهر بواطن الناس و ما انطووا عليه من خير و شر.

[11] فَما لَهُ أي للإنسان مِنْ قُوَّةٍ يدفع بها العذاب وَ لا ناصِرٍ ينصره من تلك الأهوال، فليخش و ليحذر أن يخالف اللّه سبحانه حتى لا يبتلي بالعذاب.

[12] وَ السَّماءِ أي قسما بالسماء ذاتِ الرَّجْعِ التي ترجع في كل دورة إلى مكانها الأول، أو ذات المطر، و سمي المطر رجعا لأنه يرجع كل نفسه، أو لأنه يرجع إلى الأرض بعد التصاعد منها بالأبخرة.

[13] وَ الْأَرْضِ أي قسما بالأرض ذاتِ الصَّدْعِ التي تتصدع و تتشقق فيخرج منها النبات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 657

[سورة الطارق (86): الآيات 13 الى 17]

إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

[14] إِنَّهُ أي القرآن، أو ما ذكره من رجوع الخلق بعد الموت و تشقق الأرض عنهم، و هذا هو المناسب للآيتين السابقتين لَقَوْلٌ فَصْلٌ يفصل بين الحق و الباطل.

[15] وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ أي اللعب، فإنه كلام واقعي لا أنه قيل على وجه اللعب و الهزل.

[16] إِنَّهُمْ أي

الكفار يَكِيدُونَ و يحتالون لإبطال هذا الكلام الذي هو قول فصل كَيْداً بقولهم إنه شعر و سحر و كهانة و ما أشبه ذلك.

[17] وَ أَكِيدُ أي أريد أمرا آخر ضد ما يريدون، و سمي كيدا للمشابهة كَيْداً كما أنهم يكيدون.

[18] فَمَهِّلِ يا رسول اللّه الْكافِرِينَ أي انتظر بهم قليلا فلا تشغل نفسك بهم أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي زمانا قليلا حتى ترى بأس اللّه فيهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 658

87 سورة الأعلى مكيّة/ آياتها (20)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الأعلى»، و هي كسائر السور المكية بصدد بيان العقيدة في أصولها، و إذ ختمت سورة «الطارق» بكيد اللّه سبحانه للكافرين افتتحت هذه السورة بأنه تعالى «أعلى» تأكيدا لما ذكر.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له الخلق و الأمر، و هو الأول و الآخر، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على كل شي ء بالرحمة، فضلا منه و امتنانا، و ذكره تعالى بهذه الصفة يدر الرحم على الذاكر، فإنه شاكر لمن شكره، و ذاكر لمن ذكره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 659

[سورة الأعلى (87): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)

فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)

[2] سَبِّحِ أي نزّه يا رسول اللّه، أو أيها المخاطب اسْمَ رَبِّكَ عما لا يليق به من الشرك و الولد، فلا تنسب إليه شيئا ينافي مقام الألوهية و ذكر «اسم» للتعظيم، فمن يجب أن يسبح اسمه يجب أن يسبح هو بالأولى الْأَعْلَى أي الأرفع من كل شي ء، فلا شي ء أرفع منه في العلم أو القدرة أو الخلق أو الرزق أو غير ذلك من سائر صفات الذات و صفات

الفعل.

[3] الَّذِي خَلَقَ الخلق كلهم فَسَوَّى بينهم في الإحكام و الإتقان و الدقة، فليس بعض الخلق متقنا و بعضه غير متقن، كما سوّى خلق كل شي ء فأعطاه ما يصل به إلى الكمال اللائق به من الأجهزة و الآلات.

[4] وَ الَّذِي قَدَّرَ و التقدير هو التخطيط، كما يقدر المهندس البناء ثم يبنيه فَهَدى كل ذي روح إلى مصالحه، فهو خلق، و إعطاء أجهزة، و تقدير للحياة، و هداية.

[5] وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي أنبت الحشيش الذي ترعاه الحيوانات من الأرض.

[6] فَجَعَلَهُ أي المرعى بعد الخضرة غُثاءً أي هشيما جافا كالغثاء الذي تراه فوق السيل، بمعنى المجتمع من هنا و هناك بلا علاقة و ارتباط و مشابهة أَحْوى أي أسود بعد الخضرة، فإن الحوة بمعنى السواد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 660

[سورة الأعلى (87): الآيات 6 الى 8]

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى (7) وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8)

[7] و من هدايته سبحانه أنه أنزل القرآن على الرسول،

و قد قال ابن عباس

كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أنزل عليه جبرئيل بالوحي يقرأه مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرئيل من آخر الوحي حتى يشرع الرسول في القراءة.

فأنزل اللّه تعالى عليه هذه الآية

«1» سَنُقْرِئُكَ القرآن، أي نتلو عليك لتقرأه فَلا تَنْسى منه شيئا، فقد شاءت إرادته سبحانه أن يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزّها عن النسيان، و كذلك سائر الأنبياء عليهم السّلام. أما قوله «تنسى» فهو من قبيل إِنَّا نَسِيناكُمْ «2»، و لعل العمل كان تعليما للمسلمين فيما بعد بأن يحرصوا على القرآن مثل هذا الحرص.

[8] إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن تنساه،

و فيه دلالة على أن عدم نسيانه إنما هو من اللّه سبحانه، حتى أنه إذا شاء غيره قدر عليه، قالوا: و دخول المشيئة في هذه الآية للدلالة على أن النبي مهما بلغ من العظمة فإن جميع أموره بيده تعالى إِنَّهُ سبحانه يَعْلَمُ الْجَهْرَ من الكلام وَ ما يَخْفى كالسر و النجوى، فكل ذلك من الإقراء و عدم النسيان إلا بمشيئته تابع لعلمه الواسع الذي يشمل كل شي ء، و بما علّمه من الصلاح جعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحيث لا ينسى، و إلا فلو كان ينسى لم يؤمن على التبليغ، لتطرق احتمال النسيان في كل شي ء من أقواله و أفعاله.

[9] وَ نُيَسِّرُكَ يا رسول اللّه، أي نوفقك لِلْيُسْرى أي الطريقة اليسرى

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 329.

(2) السجدة: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 661

[سورة الأعلى (87): الآيات 9 الى 14]

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (13)

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)

في جميع الأمور، فإن أحكامه سبحانه توصل إلى السعادة بأيسر الطرق و أسهلها.

[10] فَذَكِّرْ يا رسول اللّه الناس بما أودع فيهم من الفطرة الدالة على الألوهية و المعاد و ما أشبه إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي إن كان الذكر في معرض النفع و لو إتمام الحجة، أما إذا علم الرسول أن ذكره لا ينفع إطلاقا في الهداية لليأس، و لا في إتمام الحجة لتمام الحجة على المخاطبين سابقا، فلا لزوم للتذكير. و قيل «إن» بمعنى «قد» أي قد نفعت الذكرى، بمعنى قد تنفع.

[11] سَيَذَّكَّرُ أصله «يتذكر» أدغمت التاء في الذال و جي ء بهمزة

الوصل لتعذر الابتداء بالساكن مَنْ يَخْشى أي سيتعظ بالقرآن و بكلامك من يخشى عقاب اللّه سبحانه.

[12] وَ يَتَجَنَّبُهَا أي يبتعد عن الموعظة و الذكرى الْأَشْقَى أي الأكثر شقوة، فإن الكافر المجتنب للذكرى أكثر شقاء من العاصي.

[13] الَّذِي يَصْلَى أي يدخل و يلازم النَّارَ الْكُبْرى و هي نار جهنم.

[14] ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها أي في تلك النار ليستريح وَ لا يَحْيى حياة هادئة مريحة.

[15] قَدْ أَفْلَحَ أي فاز و نجح مَنْ تَزَكَّى أي تطهر باجتناب الرذائل، و التحلي بالفضائل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 662

[سورة الأعلى (87): الآيات 15 الى 19]

وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى (19)

[16] وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ أي تذكر اللّه سبحانه بقلبه، و الإتيان ب «اسم» للتعظيم فَصَلَّى للّه، أي خضع و خشع، أو أتى بالصلاة فإنها دليل خشوع الإنسان و تذكره للّه تعالى. و في بعض الروايات أن المراد بها زكاة الفطرة و صلاة العيد، و الظاهر أنها من باب المصداق، و انطباق الكلي على مصاديقه يمكن أن يكون بعد مدة- عند وجود المصداق فلا يقال: كيف يصح و السورة مكية و لم يكن هناك زكاة فطرة و لا صلاة عيد؟

[17] بَلْ أنتم أيها الناس لا تفعلون ذلك، و إنما تُؤْثِرُونَ أي تختارون الْحَياةَ الدُّنْيا أي الحياة القريبة، تختارونها على الآخرة فتصرفون أموالكم و أوقاتكم في ملاذّها، لا في الزكاة و الصلاة.

[18] وَ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ من الدنيا، لأن نعيمها أكثر و لا يشوبها كدر وَ أَبْقى لأنها دائمة مستمرة، بخلاف الدنيا فإنها فانية زائلة.

[19] إِنَّ هذا الذي ذكر

من فلاح المتزكي المصلي، أو سائر ما ذكر في هذه السورة لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى فكل كتب اللّه المنزلة تحرض على الزكاة و الصلاة و سائر الخيرات، و ليس هذا بدعا من القرآن.

[20] صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى و ذكر هذين النبيين من باب المثال، و إلا فكل الأنبياء كانوا يدعون إلى التزكي و التطهر و الصلاة و الزكاة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 663

88 سورة الغاشية مكيّة/ آياتها (27)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الغاشية»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و حيث تضمنت سورة الأعلى انقسام الناس في الآخرة إلى قسمين، جاءت هذه السورة لمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله المالك لكل شي ء فهو أفضل شي ء يبتدأ به، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة على كل العباد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 664

[سورة الغاشية (88): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)

تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6)

[2] هَلْ أَتاكَ أيها الإنسان، أو يا رسول اللّه حَدِيثُ الْغاشِيَةِ أي خبر القيامة؟ و تسمى بالغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها، و الاستفهام للإلفات و الإيقاظ.

[3] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة خاشِعَةٌ ذليلة بسبب ما عملت من الكفر و الآثام، و إنما نسب الخشوع إلى الوجوه لظهوره فيها.

[4] عامِلَةٌ قد عملت في النار و كدت ناصِبَةٌ و تعبت، فإن النصب بمعنى التعب، و لكنها لم تنتفع بأعمالها و أتعابها، بل بالعكس صارت دنياه سببا للعذاب و العقاب.

[5] تَصْلى ناراً أي تدخل تلك الوجوه النار و تلازمها حامِيَةً قد حميت حتى تناهت في الحرّ.

[6] تُسْقى أي

أصحاب تلك الوجوه، و قد أطلق الوجوه على أصحابها بعلاقة الجزء و الكل، من قبيل إطلاق «الرقبة» على الإنسان مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ قد بلغت حرارتها و أناها إلى منتهى الدرجة، فإن آنية بمعنى البالغة أشد درجات الحرارة.

[7] ذاك شرابهم، فما هو طعامهم؟ لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ و هو نبت يضر و لا ينفع.

و في حديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنه شي ء يكون في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشد حرّا من النار

«1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 336.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 665

[سورة الغاشية (88): الآيات 7 الى 14]

لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)

فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)

[8] لا يُسْمِنُ أكله وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فآكله يحس بالجوع بعد أكله كما يحس بالجوع قبل أكله.

[9] ذلك أحوال العصاة فلننظر إلى أحوال المتقين وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة ناعِمَةٌ منعمة في أنواع اللذات ظاهر عليها أثر النعمة و السرور.

[10] لِسَعْيِها في الدنيا و ما عملت سابقا راضِيَةٌ حيث قد حصلت على الجنة بسببها.

[11] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ رفيعة المكان و القدر، فإن قصورها و مكانها في أعالي الجو.

[12] لا تَسْمَعُ أولئك الأشخاص أصحاب الوجوه الناعمة فِيها في الجنة لاغِيَةً أي كلمة ساقطة لا فائدة فيها.

[13] فِيها أي في تلك الجنة عَيْنٌ جارِيَةٌ تجري حتى يتناول الماء كل إنسان يمر بها، و الماء الجاري أطيب ذوقا و أجمل في النظر.

[14] فِيها أي في تلك الجنة سُرُرٌ جمع

سرير، و هو الكرسي مَرْفُوعَةٌ في المكان، و في القيمة، و في القدر.

[15] وَ أَكْوابٌ جمع كوب، و هو قدح صغير جميل مَوْضُوعَةٌ على حافات الأنهر للاستقاء و الشرب، و في تقابل «موضوعة» ل «مرفوعة»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 666

[سورة الغاشية (88): الآيات 15 الى 19]

وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)

بلاغة بديعة.

[16] وَ نَمارِقُ جمع نمرقة، و هي الوسادة التي يتكأ عليها مَصْفُوفَةٌ قد صف بعضها إلى جانب البعض.

[17] وَ زَرابِيُ جمع زربي، و هو البساط مَبْثُوثَةٌ أي منتشرة مفروشة للجلوس عليها.

[18] و إذ ذكر سبحانه بعض أحوال الجنة و النار عطف السياق نحو الأدلة الدالة على الألوهية، تعبئة للناس نحو السعادة الأبدية أَ فَلا يَنْظُرُونَ هؤلاء المنكرون للخالق إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ في إحكام و تدقيق، و ليس لأي حيوان بالذات خصوصية، في التذكير باللّه سبحانه و الدلالة عليه، إذ كل حيوان آية دالة على وجود اللّه و سائر صفاته، و إنما ذكر الإبل لأنها إحدى الآيات الأليفة للعرب، مع مناسبة لها بسائر ما ذكر في الآيات التالية فإن السماء المرفوعة و الأرض المسطوحة الوسيعة و الجبال المرفوعة إنما تلائمها الإبل السائرة عبر الصحاري حيث لا شي ء إلا الأرض و الجبال و السماء.

[19] وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ و المراد بها الكواكب، أو المدارات، أو ما يرى من الهواء الملون.

[20] وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ على الأرض كالأوتاد لئلّا تزول و تتحرك و تضطرب؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 667

[سورة الغاشية (88): الآيات 20 الى 26]

وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)

فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)

إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)

[21] وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي بسطت لتصلح طرائق للناس، و المراد أ فلا يتفكرون في هذه المخلوقات حتى يستدلوا بها على وجوده سبحانه و سائر صفاته؟ و الاستفهام للتوبيخ و التقريع.

[22] فَذَكِّرْ يا رسول اللّه الناس بهذه الآيات إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ تبين لهم الحقائق ليتذكروا ما أودع في فطرتهم من الألوهية و المعاد و ما أشبه.

[23] لَسْتَ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء القوم بِمُصَيْطِرٍ أي بمسلط، حتى تكون مسئولا عن انحرافهم، و إنما شأن الأنبياء التذكير و الوعظ، فمن شاء اهتدى و من شاء انحرف.

[24] فَذَكِّرْ، فإن الذكرى تنفع إِلَّا في مَنْ تَوَلَّى أي من أعرض عن الحق وَ كَفَرَ باللّه و اليوم الآخر، و ذلك لا يفلت من قبضة اللّه سبحانه.

[25] فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ و هو عذاب الآخرة.

[26] إِنَّ إِلَيْنا أي إلى جزائنا و حسابنا إِيابَهُمْ أي رجوعهم بعد الموت، من «آب» بمعنى رجع.

[27] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بعد الإياب حِسابَهُمْ فيحاسب كل بما عمل، و يعطى جزاؤه إن شرا فشر و إن خيرا فخير.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 668

89 سورة الفجر مكيّة/ آياتها (31)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الفجر»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و لما ختمت سورة الغاشية بذكر عذاب «من تولى» في الآخرة ابتدأت هذه السورة بذكر تعذيبهم في الدنيا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم اللّه الذي بيده كل شي ء، و هو المبدأ و المعاد، و هل شي ء أولى بالابتداء من اسم اللّه تعالى؟

الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة

على العباد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 669

[سورة الفجر (89): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)

هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7)

[2] وَ الْفَجْرِ أي قسما بالفجر، و هو انفجار الصبح قبل طلوع الشمس، فإن النور يظهر ممتدا في جانب المشرق قبل ساعة و نصف من الطلوع.

[3] وَ لَيالٍ عَشْرٍ أي قسما بالليالي العشر من ذي الحجة- على ما ذكروا- و كأن الحلف هنا بما ينشأ منه الخير، فإن الفجر ينشأ منه الضياء، و هذه الليالي محل الأعمال و الطاعات.

[4] وَ قسما ب الشَّفْعِ ركعتا صلاة الليل وَ الْوَتْرِ الركعة الأخيرة منها، أو الشفع يوم تروية، و الوتر يوم عرفة- كما روي-.

[5] وَ قسما ب اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي يمضي، كقوله: وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ «1» و أصله «يسري» حذف الياء للسياق، و المقسم له محذوف، تقديره لنعاقب الكفار، دلّ عليه قوله «ألم تر ..».

[6] هَلْ فِي ذلِكَ الذي تقدم من الأيمان قَسَمٌ يكن لِذِي حِجْرٍ أي ذي عقل؟ فإن «الحجر» من أسماء العقل، سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عن الإتيان بما لا يليق به، و الاستفهام للتأنيب، بمعنى كيف لا تصدقون بما نقول بعد هذه الأيمان؟.

[7] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، أو أيها السامع، و المراد بالرؤية العلم، أي ألم تعلم كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ أي بقبيلة عاد؟

[8] إِرَمَ عطف بيان ل «عاد»، و هي اسم أرض بنت عاد عليها أبنية فخمة

______________________________

(1) المدثر: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 670

[سورة الفجر (89): الآيات

8 الى 10]

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)

جميلة، و إنما مع أن تكون «إرم» عطف بيان، لأن «عادا» اسم لقبيلتين «عاد» الأولى و «عاد» الثانية، فالأولى كانت صاحبة «إرم» و التقدير «عاد إرم»، و هذا كما تقول «مررت ببني هاشم، المدينة المنورة» ذاتِ الْعِمادِ جمعه عمد، أي أبنية إرم التي كانت لها أعمدة، و يستعمل العماد في القوة و الشرف، يقال «فلان رفيع العماد».

فقد قالوا إن «شداد» من أبناء «عاد» توسع سلطانه، و عظم أمره، و كان كافرا باللّه، فسمع بالجنة و أوصافها، فقال نبني في الأرض مثلها، فبناها في «إرم» و سميت بهذا الاسم، و كانت عظيمة فخمة جميلة ذات قصور و حدائق و أثاث و رياش، فلما أن أراد هو و قومه و جيشه دخولها أهلكهم اللّه سبحانه، بأن بعث عليهم صيحة عظيمة فهلكوا جميعا.

[9] الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أي مثل قبيلة عاد- في القوة و الثروة و ما أشبه- أو مثل «إرم» في الفخامة و الضخامة و الجمال فِي الْبِلادِ و الظاهر أن المراد عدم خلق مثلها في تلك الأزمنة، لا مطلقا.

[10] وَ ألم تر كيف فعل ربك ب ثَمُودَ قوم صالح الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ أي قطعوا الصخور من الجبال، و جاؤوا بها بِالْوادِ أي وادي قرى، و هو مسكنهم فبنوا بها البيوت الصخرية؟

[11] وَ ألم تر كيف فعل ربك ب فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ جمع «وتد» الذي كان يدق في جسم مخالفيه الوتد، و يذره حتى يموت- كما قيل-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 671

[سورة الفجر (89): الآيات 11 الى 15]

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12)

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)

و المراد به فرعون موسى عليه السّلام و قد مثل اللّه سبحانه بأقوى الأمم في زمانهم، ليبين أنهم حيث عتوا و خالفوا أوامر اللّه سبحانه أهلكهم سبحانه و لم تنفعهم قوتهم شيئا و مصير هؤلاء الكفار- الذين هم أضعف من أولئك- مصير أولئك لو تمادوا في الكفر و الطغيان.

[12] الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ أي تجبروا على أنبياء اللّه، و عملوا بالكفر و المعاصي.

[13] فَأَكْثَرُوا فِيهَا أي في البلاد الْفَسادَ بالقتل و الفجور و غيرهما.

[14] فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ و إنما عبر عن العذاب بالسوط لشدة إيلامه، و نسب إليه الصب لأن السوط حيث فيه لين يأتي إلى الجسم تدريجيا مشابها للصب، الذي يأتي على الجسم بتدريج- و في هذا التعبير من البلاغة ما لا يخفى-.

[15] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لَبِالْمِرْصادِ هو المحل الذي يجلس الإنسان ليرصد و يراقب أحوال غيره- من حيث لا يرونه- و هذا كناية عن أنه سبحانه مطلع على الناس، فمن كفر و أساء مراقب من قبله تعالى، لا يفوته.

[16] و هكذا يطغي الإنسان- ليكون له ذلك المصير- إذا لم يسترشد بإرشادات اللّه تعالى فَأَمَّا الْإِنْسانُ و المراد به الذي لم يهتد بنور الإيمان إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي امتحنه و اختبره، و «ما» مزيدة جيئت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 672

[سورة الفجر (89): الآيات 16 الى 17]

وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)

للتأكيد، و لعل النكتة في زيادتها الإلماع إلى أن «ابتلاءه» ليس بابتلاء حقيقة،

و إنما هو شي ء طفيف يصيبه و مع ذلك لا ينجح في الامتحان فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ بأن جعل له مكانا كريما ذا شرافة، و نعمة وافرة، ليختبره هل يعمل بوظيفته في الثروة و الجاه أم لا؟ فيفرح بذلك و يظنه ثوابا له و جزاء على عمله، و أنه باستحقاق أوتي ما أوتي و يقول رَبِّي أَكْرَمَنِ حذفت الياء تخفيفا، أي أن هذا لكرامتي على اللّه، و لا يعتبره امتحانا.

[17] وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ أي امتحنه اللّه سبحانه بالفقر و الضعة فَقَدَرَ أي ضيق عَلَيْهِ أي على الإنسان رِزْقَهُ فجعله فقيرا مملقا فيحزن لذلك و يظن أن ذلك هوان من اللّه عليه، و يقول رَبِّي أَهانَنِ أي أهانني، و لا يعتبر ذلك ابتلاء، و هذا بخلاف الإنسان المؤمن الذي يرى كل شي ء يصيبه اختبارا و امتحانا، فيخاف من النعمة لئلا يعصي اللّه فيها فلا يشكره، و لا يحزن من الفقر لأنه يعتبره امتحانا له إن صبر كان رفعا لدرجته.

[18] كَلَّا ليس الأمر كما ظن هذا الإنسان، فإن التنعيم ليس لكرامة، و الإفقار ليس لإهانة بل كل ذلك مختلف، و المجموع للابتلاء و الاختبار بَلْ إنهم غافلون عن حكمة الإعطاء و المنع، ذاهلون أن كل ذلك للابتلاء، و لذا لا يقومون بواجب العطاء- و لم يذكر القيام بواجب الفقر من الصبر، لأن الكلام كان موجها نحو الأغنياء من الناس الذين مثل لهم بمصارع عاد و ثمود و فرعون- ف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 673

[سورة الفجر (89): الآيات 18 الى 21]

وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)

لا

تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ الذي مات أبواه، بإيوائه و إعطائه.

[19] وَ لا تَحَاضُّونَ من الحض- و هو الحث- أي لا يحث بعضكم بعضا عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي الفقير الذي أسكنه فقره عن الحركة في الأمور.

[20] وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أي الميراث أَكْلًا لَمًّا شديدا تلمون جميعه في الأكل، بلا إعطاء حقوق الميت، و حقوق اللّه، و حقوق سائر ذوي الميراث، فإنهم كانوا يحرمون النساء و الصبيان و الضعفاء من الورثة، فلا يعطونهم من حقهم شيئا، و هذا دليل الشرة نحو المال و إنهم لا يجعلون المال دليلا للابتلاء، بل دليلا لتكريم اللّه لهم.

[21] وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي حبا كثيرا شديدا، حتى أنهم لا ينفقونه فيما يجب أو يستحب إنفاقه، كما هو شأن من لا يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و لا يجعل المال دليل الابتلاء ليعمل فيه بأمر اللّه و يخشى مغبته.

[22] كَلَّا ليس الأمر كما زعمتم بأنه لا عواقب و خيمة لأعمالكم هذه، فإن من يظن تكريم اللّه له يسهل عليه العمل بالوظائف في أموره و شؤونه ف إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ أي كسر كل شي ء على ظهرها دَكًّا دَكًّا كسرا كسرا، من جبال و مرتفعات و أنصبة و أشباهها، و ذلك لأن الأرض تسوى حتى لا يبقى على ظهرها عوج و لا أمت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 674

[سورة الفجر (89): الآيات 22 الى 25]

وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)

[23] وَ جاءَ رَبُّكَ أي أمر ربك، كما يظهر ملوك الدنيا في هيبة و جلال، فإن الهيبة و الجلال التي

تظهر يوم القيامة للّه سبحانه تكون بمثابة مجي ء اللّه سبحانه، لكنه حيث كان منزها عن الجسم و لوازمه، يجي ء آثار جلاله وَ جاء الْمَلَكُ المربطون بذلك اليوم في حال كونهم صَفًّا صَفًّا أي مصطفين صفوفا متعددة.

[24] وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة بِجَهَنَّمَ بأن تمتد نيرانها إلى المحشر بعد ما كانت مبتعدة مستعدة لالتهام الكفار و العاصين يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم- و أصله يوم إذ كان كذا- يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي يتعظ و يخاف و يهتدي وَ لكن أَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي من أين ينفعه التذكر في ذلك اليوم، فقد مضى وقت نفع التذكر، و إنما هناك جزاء فقط لا عمل.

[25] يَقُولُ الإنسان العاصي، يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ عملا صالحا لِحَياتِي هذه التي تبقى إلى الأبد، و لكن لا ينفعه التمني، كما يقول المثل «ندم زيد و لما ينفعه الندم».

[26] فَيَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أي لا يعذب مثل عذاب اللّه أحد، فإن عذابه ليس كسائر أنواع عذاب الناس بعضهم لبعض، و إنما هو عذاب غريب عجيب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 675

[سورة الفجر (89): الآيات 26 الى 30]

وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30)

[27] وَ يومئذ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أي مثل وثاقه سبحانه و تعالى أَحَدٌ و الوثاق هو الشد، يقال أوثقته أي شددته.

[28] ثم يخاطب المؤمنون بقوله سبحانه يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ من أهوال ذلك اليوم، لما عملت في الدنيا من الإيمان و الإطاعة.

[29] ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي إلى ثوابه و جزائه في حال كونك راضِيَةً عن اللّه سبحانه مَرْضِيَّةً له تعالى،

فإنه سبحانه راض عنك بسبب إيمانك و أعمالك.

[30] فَادْخُلِي فِي زمرة عِبادِي الصالحين.

[31] وَ ادْخُلِي جَنَّتِي فأنت في رضاي و في جنتي، و كأن الخطاب للنفس لزيادة التكريم، حتى كأنها هي التي تحملت أتعاب الجسد، فاستحقت أن تكون هي صاحبة المثوبة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 676

90 سورة البلد مكيّة/ آياتها (21)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «بلد»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة و تحتج عليها، و حيث كانت السورة السابقة لتقسيم الناس إلى صالحين و طالحين جاءت هذه السورة لتبين ذلك بوجه آخر.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم اللّه، و إنما جاء بالاسم لأنه هو المبدوء به لا الذات، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بتكميل نواقصهم و إبلاغهم الكمال الممكن فيهم تكوينا و إرشادا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 677

[سورة البلد (90): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)

[2] لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ و المراد به مكة، و «لا» إما للنفي جي ء بها للتلويح إلى القسم مع تعظيم المقسم به، و إما زائدة، فالمعنى أقسم بهذا البلد، و الآية الثانية تناسب الأمرين باعتبارين.

[3] وَ أَنْتَ يا رسول اللّه حِلٌ أي مقيم قد حللت بِهذَا الْبَلَدِ فإنه قد تشرف بك، فإن شرف المنزل بشرف النازل، و «الحل» بمعنى الحال، و كلاهما بمعنى الساكن، فهذا البلد إنما يقسم به لشرفه بك أو يعظم فلا يقسم به لشرفه بك.

[4] وَ قسما ب والِدٍ وَ ما وَلَدَ أي كل والد و كل ولد، أو المراد آدم

عليه السّلام و أولاده، فإن كل خلق اللّه عظيم يصح أن يجعل في معرض القسم. نعم ليس لنا أن نحلف بكل شي ء، لما

ورد من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

«من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليسكت»

«1».

[5] و جواب القسم قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي في تعب و مشقة، فإنه يكابد الشدائد و المصائب و المتاعب، فإن «الكبد» لغة بمعنى شدة الأمر، و المعنى أنه لا يزال يكابد الأتعاب- بما قدر اللّه له و للكون من الأنظمة- و لذا

قال تعالى في حديث قدسي «إني ما جعلت الراحة في الدنيا و الناس يطلبونها فيها فلا يجدوها».

[6] إن الإنسان الذي خلق في عناء و مشقة، ليدل ذلك على ضعفه و عجزه إذا رأى بعض القوة في ذاته عتا و تكبر و زعم أنه لا قادر عليه

______________________________

(1) متشابه القرآن و مختلفه: ج 2 ص 198.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 678

[سورة البلد (90): الآيات 6 الى 9]

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (9)

أَ يَحْسَبُ أي هل يظن و يزعم الإنسان أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بسلبه القوة و الثروة و الحياة و ما أشبه؟

[7] و إذا قيل له: ابتغ مرضاة اللّه ببذل الأموال في سبيله لأنك عبد عاجز ضعيف له سبحانه، و هو قادر على تقليبك كيف يشاء يَقُولُ في الجواب: أَهْلَكْتُ في الإنفاق مالًا لُبَداً أي كثيرا، مأخوذ من تلبد الشي ء إذا تراكم بعضه على بعضه، و حسبي ما أنفقت- كما أن هذا هو منطق الأثرياء غالبا-.

[8] أَ يَحْسَبُ أي يزعم أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حيث

أنفق؟ بل إنّ اللّه رآه و عرف قدر إنفاقه و لم يكن ما أنفق كثيرا بالنسبة إلى أمواله و بالنسبة إلى مقابلته بالثواب المرجو في الآخرة للمنفقين. قيل: إنها نزلت في الحرث، و ذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول اللّه؟ فأمره أن يكفر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات و النفقات منذ دخلت في دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[9] إنه يبخل عن بذل بعض ماله في سبيل اللّه الذي أودع فيه القوى التي لا تثمن بثمن فلم يؤدّ شكرها، و لم يبصر بسببها طريق الرشاد أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ليبصر بهما و يرى طريقه؟

[10] وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ لينطق به و يتجمل بالشفة لعدم قبح منظره بفغر الفم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 679

[سورة البلد (90): الآيات 10 الى 15]

وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)

يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)

[11] وَ هَدَيْناهُ أي أرشدناه النَّجْدَيْنِ أي سبيل الخير و سبيل الشر، و أصل «النجد» هو العلو، و كأن الطريق موجب لارتفاع الإنسان ارتفاعا معنويا بوصوله إلى حاجته، أو لظهور الطريق سمي نجدا تشبيها بالمرتفع من الأرض.

[12] فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ «الاقتحام» هو الدخول في الشي ء بشدة، و «عقبة» هي الطريق الصعب في الجبل، أي أن الإنسان لم يشكر تلك النعم التي أعطيناها إياه باقتحام الأمور الحسنة و العمل بها، و سميت عقبة لشدة أمرها على الإنسان.

[13] وَ ما أَدْراكَ أيها السامع مَا الْعَقَبَةُ أي ما هي العقبة؟ و هذا التعبير لتعظيم أمرها و الإجلال لها، ثم فسرت العقبة بأنه عتق العبد و الإطعام.

[14] العقبة هي

فَكُّ رَقَبَةٍ أي تحرير العبد من إسار الرق، و إنما أطلق على الإنسان «الرقبة» بعلاقة الجزء و الكل- كما قرر في البلاغة.

[15] أَوْ إِطْعامٌ «أو» بمعنى الواو، يعني أن من أفراد «العقبة» إطعام الناس فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ «السغب» هو الجوع، و المسغبة المجاعة.

[16] يَتِيماً مفعول «إطعام» أي ليطعم الطفل الذي مات أبوه ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة من المطعم، فإن الإحسان إلى الأقرباء أفضل من الإحسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 680

[سورة البلد (90): الآيات 16 الى 18]

أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18)

إلى غيرهم، كما

قال عليه السّلام «لا صدقة و ذو رحم كاشح»

«1».

[17] أَوْ مِسْكِيناً و هو الفقير الذي أسكنه الفقر، فإن الأغنياء يتحركون في مختلف حوائجهم، أما الفقراء فإنهم حيث لا مال لهم لا يتمكنون من التصرف في الشؤون ذا مَتْرَبَةٍ بمعنى الحاجة الشديدة من قولهم «ترب الرجل» إذا افتقر، و أصله من التراب، لأن الفقر يلازم التراب، لعدم فراش له ليقيه منه، فالمعنى قد لصق بالتراب من شدة فقره.

[18] ثُمَ لترتيب الكلمة لا ترتيب المطلب كانَ ذلك الإنسان الذي لم يقتحم العقبة مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و ما جاء به، و هذا عطف على النفي، أي لم يقتحم العقبة مع كونه مؤمنا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي أوصى بعضهم بعضا بأن يصبر على الشدائد، طاعة كانت أو معصية أو مصيبة، بأن يعمل الأول، و يترك الثاني، و لا يجزع في الثالث وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي برحم الناس و العطف عليهم، فإن «مرحمة» مصدر ميمي بمعنى الرحم.

[19] أُولئِكَ المتصفون بفك الرقاب و إطعام الطعام و التواصي

بالصبر و المرحمة أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ يؤخذ بهم- في القيامة- ناحية اليمين نحو الجنان، و يعطون كتابهم بأيمانهم، أو أنهم أصحاب يمن و بركة.

______________________________

(1) راجع من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 68، وردت كلمة محتاج بدل كاشح في الحديث.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 681

[سورة البلد (90): الآيات 19 الى 20]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

[20] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا حججنا الدالة على التوحيد و سائر الأصول هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ فإنهم كانوا أصحاب شؤم على أنفسهم.

[21] عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي أن أبواب النار عليهم مسدودة مطبقة، من أوصد الباب: إذا سدّه و غلقه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 682

91 سورة الشمس مكيّة/ آياتها (16)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الشمس»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و هي مثل السورة السابقة تصنف الناس صنفين: صنفا للنار، و صنفا للجنة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الذي هو خير معين لمن استعان، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة و العطف لكل خلق كما قال سبحانه وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ «1».

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 683

[سورة الشمس (91): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَ النَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)

وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (5) وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها (6) وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها (7)

[2] وَ الشَّمْسِ أي قسما بالشمس وَ قسما ب ضُحاها أي انبساط ضوءها في الآفاق.

[3] وَ قسما ب الْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبع الشمس، فأخذ من ضوئها و سار في عقبها.

[4] وَ قسما ب النَّهارِ إِذا جَلَّاها

أي جلى الشمس و أظهرها و فيه لطف حيث أسند تجلية الشمس إلى النهار من باب «القلب»، فكأن النهار لشدة ضوئه يوضح الشمس و يظهرها، كما قال أهل البلاغة في قوله «كما طينت بالفدن السياعا».

[5] وَ قسما ب اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يغشي الشمس فيغطيها عن الأبصار و يخفيها.

[6] وَ قسما ب السَّماءِ وَ ما بَناها أي «و قسما بمن بنى السماء» و المراد به اللّه تعالى، أو «ما» مصدرية، أي و بنائها المحكم المتقن.

[7] وَ قسما ب الْأَرْضِ وَ ما طَحاها «الطحو» بمعنى البسط، أي و من بسطها و هو اللّه، أو طحوها، على أن تكون «ما» مصدرية- كما سبق-.

[8] وَ نَفْسٍ أي قسما بكل نفس، و الإتيان بها نكرة للتفنن و البلاغة وَ ما سَوَّاها أي الذي صنعها، و كون «ما» موصولة- هنا- أقرب، بقرينة الآية التالية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 684

[سورة الشمس (91): الآيات 8 الى 12]

فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12)

[9] فَأَلْهَمَها أي عرّفها بطريق الإلقاء في القلب فُجُورَها أي عصيانها وَ تَقْواها أي إطاعتها، فإن كل إنسان يميز بين الخير و الشر و الطاعة و العصيان، و هذه الأقسام في هذه السورة و غيرها إنما تلفت الأنظار إلى هذه الآيات و المعارف، بالإضافة إلى كونها حلفا، فلا يقال: أية حاجة لهذه الأيمان؟

[10] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها هذا هو المقسم له، أي فاز من زكى نفسه و طهرها من الآثام و الكفر.

[11] وَ قَدْ خابَ أي خسر مَنْ دَسَّاها أي أخملها و أخفى محلها بالكفر و العصيان، فإن «دس» نقيض «زكى».

[12] ثم

جاء السياق ليهدد الذين يدسون أنفسهم بأن مصيرهم مصير أولئك الأقوام المكذبين من قبلهم كَذَّبَتْ ثَمُودُ أي قبيلة ثمود و هم قوم صالح عليه السّلام بِطَغْواها أي بسبب طغيانها، فإن الطغيان يوجب التكذيب و الكفر كما قال سبحانه ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1». و «طغوى» و «طغيان» بمعنى واحد، و هو مجاوزة الحد في العصيان.

[13] إِذِ انْبَعَثَ فقد بعثه الأشقياء لارتكاب هذه الجناية، فانبعث أَشْقاها أي أشقى ثمود، بمعنى الفرد الذي هو أكثر شقوة من غيره

______________________________

(1) الروم: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 685

[سورة الشمس (91): الآيات 13 الى 15]

فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَ لا يَخافُ عُقْباها (15)

من أفراد القبيلة، و هو «قدار»، و هو الذي عقر الناقة.

[14] فَقالَ لَهُمْ تفريع على «كذبت» لا على «انبعث»، و الضمير عائد إلى قبيلة ثمود رَسُولُ اللَّهِ و المراد به صالح عليه السّلام: احذروا ناقَةَ اللَّهِ بأن تمسوها بسوء وَ احذروا سُقْياها أي شربها من الماء فلا تزجروها في شربها، فقد كان هناك نهر، و قرر صالح أن يكون ماء النهر يوما للناقة و تعطي بعوضه اللبن بقدر احتياج القبيلة، و يوما للناس، و قال لهم: إن مسستم الناقة بسوء أخذكم العذاب- كما تقدم تفصيل القصة-.

[15] فَكَذَّبُوهُ أي كذب أهل قبيلة ثمود صالحا عليه السّلام- المتقدم باسم «رسول اللّه»- فَعَقَرُوها أي نحروا الناقة و ضربوا يديها و رجليها بالسيف، و العاقر كان واحدا لكن تآمرهم على ذلك و رضاهم به أوجب إسناد الفعل إلى جميعهم فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي دمر عليهم اللّه تعالى، فإن الدمدمة ترديد الحال المستكره

بمضاعفة ما فيه المشقة بِذَنْبِهِمْ أي بسبب ذنبهم بعقر الناقة فَسَوَّاها أي سوى اللّه الدمدمة عليهم أجمعين بحيث لم يفلت منها أحد، أو سوّى اللّه أرضهم بحيث استوت فلا شي ء فيها.

[16] وَ لا يَخافُ اللّه سبحانه عُقْباها أي عاقبة الدمدمة، فإنه هو السلطان المطلق الذي لا معقب لأمره، و ليس كأفراد البشر- الذين يخافون عاقبة بعض أعمالهم- و إن بلغوا ما بلغوا من السلطة و الشوكة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 686

92 سورة الليل مكيّة/ آياتها (22)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الليل»، و هي كسائر السور المكية تشتمل على قضايا العقيدة، و يظهر من القصة الآتية أنها مدنية أو بعضها، و هذه السورة كالسورة السابقة بصدد تصنيف الناس إلى صنفين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي هو أول كل شي ء، و كما هو الأول في الكون كان من الجدير أن يبدأ به في أول كل أمر، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بسد خللهم و غفران زللهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 687

[سورة الليل (92): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)

فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)

[2] وَ اللَّيْلِ أي قسما بالليل إِذا يَغْشى أي يحيط بظلمته على الأشياء، و تخصيص بعض الأقسام بأمور خاصة، من باب التفنن في البلاغة.

[3] وَ قسما ب النَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي ظهر و بان و أضاء.

[4] وَ قسما ب ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «ما» إما موصولة، أي الذي خلق، و المراد به اللّه سبحانه، و إنما جي ء ب «ما» دون «من»

لأن «من» في الغالب يستعمل للبشر و نحوهم، و إما مصدرية أي قسما يخلق الصنفين.

[5] إِنَّ سَعْيَكُمْ أيها الناس، في الأمور، و تطلبكم للأشياء لَشَتَّى جمع شتيت كمرضى جمع مريض، أي أنه مختلف، فمن طالب دنيا و من طالب آخرة، و الحلف على ذلك باعتبار ما يعقبه من النتائج، أو لتبديد أوهام الزاعمين بأن السعي ليس إلا للدنيا فحسب، إذ ليس هناك آخرة.

[6] فَأَمَّا مَنْ أَعْطى المال في سبيل اللّه وَ اتَّقى الكفر و المعاصي.

[7] وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالكلمة الحسنى، و هي الشهادتان، و حيث إن المقام كان في الإعطاء تقدم، ثم ذكر التقوى لأنه من أقسام الإعطاء، ثم جاء دور العقيدة بعد ذين الأمرين.

[8] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي سنهوّن عليه الطريقة اليسرى، و هي طريقة الطاعة، أو نيسره للحياة اليسرى، أي الأسهل، فإن من تبع نهج

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 688

[سورة الليل (92): الآيات 8 الى 11]

وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)

الإسلام سهلت عليه الأمور لما في الإسلام من المناهج السهلة الموجبة للسعادة و الرفاه يقال «يسره» إذا سهل عليه، و «يسرى» مؤنث «أيسر» بمعنى الأسهل.

[9] وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ بماله فلم ينفقه في سبيل اللّه وَ اسْتَغْنى أي طلب الغنى بجمع المال و البخل من إنفاقه.

[10] وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى أي بالكلمة الحسنة، و هي كلمة الشهادتين أو المراد في الموضعين «العدة الحسنى» و هي الثواب و الجنة.

[11] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي سنهون عليه الطريقة الأعسر و هي طريقة الكفر، و هذا على سبيل المزاوجة في الكلام- من قبيل فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «1»، إذ اللّه

سبحانه لا يسهل على أحد سبيل العسر، و إنما المراد أنه سبحانه يخلي بينه و بين ما يعمل-.

[12] وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أي لا يفيده ماله الذي بخل به إِذا تَرَدَّى أي هلك و سقط في الهاوية.

روي أن رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال و كان الرجل إذا جاء فدخل الدار و صعد النخلة ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبره بما يلقى من صاحب النخلة، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اذهب، و لقي رسول اللّه

______________________________

(1) البقرة: 195. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 689

[سورة الليل (92): الآيات 12 الى 13]

إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى (13)

صاحب النخلة فقال: تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان و لك بها نخلة في الجنة؟ فقال له الرجل: إن لي نخلا كثيرا و ما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. قال: ثم ذهب الرجل، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول اللّه- و قيل اسمه أبو دحداح-: يا رسول اللّه أ تعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال: نعم.

فذهب الرجل و لقي صاحب النخلة فساومها منه، فقال له:

أشعرت أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له يعجبني تمرها و إن لي نخلا كثيرا فما فيه نخلة أعجب إلى تمرة منها. فقال له الآخر

أ تريد بيعها؟ فقال: لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أعطى؟ قال: فما هناك؟ قال: أربعون نخلة، فقال الرجل: جئت بعظيم تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة، ثم سكت عنه، فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة، فقال له: اشهد إن كنت صادقا، فمر إلى أناس، فدعاهم فأشهد له بأربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إن النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول اللّه إلى صاحب الدار، فقال له: النخلة لك و لعيالك، فأنزل اللّه تعالى «و الليل» فمن أعطى «أبو دحداح» و من بخل «صاحب النخلة»

«1».

[13] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي أن اللازم على اللّه سبحانه- بقاعدة اللطف- أن ينصب الأدلة و يرسل الرسل، أما الاتباع و الاهتداء فعلى الناس من شاء اهتدى و من شاء بقي على ضلاله.

[14] وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى أي الدنيا، فمن اهتدى منحناه السعادة في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 690

[سورة الليل (92): الآيات 14 الى 19]

فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)

وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)

الدارين، و من بقي على كفره حرم من خير الدنيا و سعادة الآخرة.

[15] فَأَنْذَرْتُكُمْ أيها الناس ناراً تَلَظَّى أي تتلظى- حذفت إحدى تائيه لقاعدة اجتماع التائين على رأس المضارع- و معنى التلظي المتلهب و المتوقد و هذه النار عذابها أشد.

[16] لا يَصْلاها أي لا يدخلها ملازما لها إِلَّا الْأَشْقَى أي الأكثر شقوة، و هو الكافر، مقابل العاصي الذي هو أقل شقوة فإنه و إن

دخل النار لكنه لا يلازمها.

[17] الَّذِي كَذَّبَ بآيات اللّه تعالى، و كفر به وَ تَوَلَّى أي أعرض عن الحق.

[18] وَ سَيُجَنَّبُهَا أي سيجنب النار، و يجعل منها على جانب، و دخول «السين» لكون القيامة في المستقبل الْأَتْقَى أي الأكثر تقوى و هو المؤمن المطيع، و أما المؤمن غير المطيع فإنه يدخل فيها و إن خرج بعد مدة.

[19] الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ أي ينفق ماله في سبيل اللّه تعالى يَتَزَكَّى أي يطلب الزكاة و الطهارة بإعطاء ماله، فإن الإنفاق يطهر القلب من الرذائل.

[20] وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي لا يعطي الأتقى ماله لأن لأحد عليه إحسانا، يريد بهذا الإنفاق جزاء ذلك المحسن، و «من» لنفي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 691

[سورة الليل (92): الآيات 20 الى 21]

إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضى (21)

الجنس ... و المراد أنه لا يعطي جزاء لإحسان، و إنما عطاؤه لوجه اللّه سبحانه.

[21] إِلَّا ابْتِغاءَ أي طلب رضى وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي رضاه سبحانه، و إنما أضيف إلى «وجه» لأنه الذي يظهر عليه أثر الرضا في الإنسان، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و الاستثناء منقطع، و التقدير لا يعطي ماله جزاء، بل إنما يعطي قربة إلى اللّه سبحانه.

[22] وَ لَسَوْفَ في الآخرة، يعطيه اللّه من الثواب و الأجر ما به يَرْضى فقد ورد ما معناه أن الإنسان يعطى في الجنة بما لم يخطر على قلبه كمّا و كيفا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 692

93 سورة الضحى مكيّة/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الضحى»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، مع تركيز خاص بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حيث ختمت

سورة الليل بأن الأتقى يعطى حتى يرضى، جاءت هذه السورة تبين ترضية اللّه سبحانه لنبيه بما يعطيه من الأجر و الثواب.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بتكميل نواقصهم و غفران معاصيهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 693

[سورة الضحى (93): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الضُّحى (1) وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6)

[2] وَ الضُّحى أي قسما بالضحى، و هو وقت ارتفاع الشمس في كبد السماء بحيث يعم نورها، و الواو في مثل هذه المواضع استئنافية لتمليح الكلام و توحيد السياق.

[3] وَ اللَّيْلِ أي قسما بالليل إِذا سَجى أي سكن و استقر ظلامه، فإن «السجو» بمعنى السكون.

[4] ما وَدَّعَكَ يا رسول اللّه رَبُّكَ أي ما ترك عنك الوحي توديعا لك، بأن يكون كالمفارق الذي يودع صديقه وَ ما قَلى أي ما قلاك، بمعنى ما أبغضك، فإن القلى بمعنى المبغض.

روى عن الإمام الباقر عليه السّلام إن جبرئيل أبطأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنه كانت أول سورة نزلت «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» ثم أبطأ عليه، فقالت خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل إليك؟ فأنزل اللّه تبارك و تعالى «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى

«1».

[5] وَ لَلْآخِرَةُ «اللام» للتأكيد خَيْرٌ لَكَ يا رسول اللّه مِنَ الْأُولى أي الدنيا، فقد أعد لك الخير هناك، فكيف يتركك و يقلاك في منتصف الطريق؟

[6] وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ يا رسول اللّه، في الآخرة

رَبُّكَ بما تشاء فَتَرْضى من كثرة فضله و إحسانه، و من جملة ما يعطى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشفاعة- كما لا يخفى.

[7] ثم أخذ السياق يعدد بعض نعم اللّه سبحانه عليه سابقا ليؤكد أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 428.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 694

[سورة الضحى (93): الآيات 7 الى 11]

وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

الآن في وسط الطريق بين نعمة سبقت و نعمة تأتي فكيف يقلاه بعد ذلك؟ أَ لَمْ يَجِدْكَ اللّه يَتِيماً قد مات أبوك فَآوى أي آواك، و أعطاك مأوى و منزلا و عشيرة تأوي إليهم، في حين أن اليتيم كان ذليلا مهانا لدى أهل الجاهلية؟

[8] وَ وَجَدَكَ يا رسول اللّه ضَالًّا قد تفردت في أناس جاهليين كالشي ء الثمين الذي يضل في صحراء مقفرة فَهَدى الناس إليك فأخرجك عن الوحشة و التفرد حيث لا يهتدي الناس؟

[9] وَ وَجَدَكَ اللّه عائِلًا أي فقيرا لا مال لك فَأَغْنى أغناك بالمال، كمال خديجة عليها السّلام و غيره.

[10] و إذ قد ذاق الرسول مرارة اليتم و الضلال و الفقر، فليحن على البائسين و يعطف على المنكوبين فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي لا تقهره يا رسول اللّه، بأن تزعجه و تظلمه. و الرسول و إن كان منزها عن ذلك لكن الأوامر و النواهي شاملة له كشمولها لغيره من سائر المكلفين.

[11] وَ أَمَّا السَّائِلَ الذي يسأل المال، و هو الفقير و من أشبهه فَلا تَنْهَرْ أي لا تطرده خائبا، بل أعطه شيئا، أورده ردا جميلا.

[12]

وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ التي أنعمها عليك، و المراد بها جنس النعمة- و من أعظمها الهداية- فَحَدِّثْ للناس، حتى تظهر فضله سبحانه فإنه بالإضافة إلى كونه شكرا، فهو تعليم للناس بأن لا يستروا النعم، كما جرت عادة الكثيرين، بأن يذكروا نواقص حياتهم، و لا يذكرون فضائله سبحانه عليهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 695

94 سورة الشرح مكيّة/ آياتها (9)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «نشرح» كما تسمى سورة «ألم نشرح» و «الانشراح» أيضا، و هي كسائر السور المكية بصدد الأمور المرتبطة بالعقيدة مع تركيز خاص بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالسورة السابقة، و حيث كانت سورة «الضحى» بصدد الأمر المتعلق بالرسول، جاءت هذه السورة معقبة لتلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع باسم الإله الذي هو خير شعار للمعتقد به سبحانه، و هل شي ء أحسن من جعله تعالى شعارا في أول كل أمر؟ الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على كل شي ء، كما قال تعالى وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ «1».

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 696

[سورة الشرح (94): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)

[2] أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ يا رسول اللّه صَدْرَكَ و شرح الصدر توسعته بالأخلاق الفاضلة، فكأن صدر من لم يكن حليما أو سخيا أو عالما- أو ما أشبه- ضيق كالإناء الضيق الذي لا يحتوي إلا على شي ء قليل، و النسبة إلى الصدر لأن القلب الذي هو محل الفضائل في الصدر، و لعل وجه ذلك أن الإنسان إذا ضاق بأمر حمى قلبه، فيحتاج إلى هواء أكثر لتبريد القلب، فتنتفخ الرئة

انتفاخا كثيرا مما يضيق الصدر حسا، ثم أن في الاستفهام حلاوة ليس في الإخبار.

[3] وَ وَضَعْنا أي حططنا عَنْكَ يا رسول اللّه وِزْرَكَ أي حملك الثقيل، فإن «الوزر» هو الحمل، و ذلك بشرح صدرك حتى لا يثقل عليك حمل التبليغ، و هذا ما يحسه كل إنسان مرشد، فإنه في أول أمره يرى حملا ثقيلا عليه من جراء الإرشاد، ثم يتسع صدره- بفضله سبحانه- و يحس كأنه وضع عنه الثقل، حتى يشعر أحيانا بأنه لا حمل إطلاقا.

[4] الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ من ثقله، و «أنقض» بمعنى أسمع الصوت فإن الإنسان إذا حمل حملا ثقيلا سمع لظهره فرقعة، و هذا هو الإنقاض- و ذلك من باب التشبيه للمعقول بالمحسوس-.

[5] وَ رَفَعْنا لَكَ يا رسول اللّه ذِكْرَكَ حتى يعرفك كل أحد بالصدق و الأمانة و ما أشبه ذلك، هذا بالإضافة إلى ما رفعه سبحانه- بعد ذلك- من ذكره في المآذن و غيرها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 697

[سورة الشرح (94): الآيات 5 الى 6]

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)

[6] و إذ تقدم بيان أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صار في اليسر بعد ما كان في العسر، جاء السياق يؤكد هذه الحقيقة في مختلف أدوار الحياة لكل إنسان فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فإذا عسر الأمر على الإنسان و اشتد كان لا بد و أن يأتي بعده يسر و سهولة.

[7] إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً هذا للتأكيد، مع أن فيه تأسيسا، و هو كون «يسر» الثاني غير «يسر» الأول لأنه منكر، بخلاف «العسر» في الموضعين فإنه واحد، لكون اللام- سواء كان للعهد أو الجنس- توجب الإشارة إلى الحصة المعهودة، و لذا لو قلت «اشتريت

فرسا ثم بعت الفرس» فهم ان المبيع هو المشترى و لو قلت «اشتريت فرسا ثم بعت فرسا» فهم أن المبيع غير المشترى.

و قد روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج مسرورا فرحا و هو يضحك و يقول:

لن يغلب عسر يسرين فان مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا

«1».

أقول: و قد نظم الشاعر ذلك بقوله:

إذا ضاقت بك الدنيا تفكر في ألم نشرح تجد يسرين مع عسر إذا ذكرتها تفرح

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 390.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 698

[سورة الشرح (94): الآيات 7 الى 8]

فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

[8] فَإِذا فَرَغْتَ يا رسول اللّه من أمورك الخاصة فَانْصَبْ في الدعاء و العبادة، من «النصب» بمعنى التعب، أي أتعب نفسك في الاشتغال باللّه سبحانه.

[9] وَ إِلى رَبِّكَ وحده فَارْغَبْ أي اجعل رغبتك فيما عند اللّه سبحانه، فإنه هو الذي سهل عليك الأمر، و يسر الحمل الثقيل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 699

95 سورة التين مكيّة/ آياتها (9)

سميت السورة بذلك، لاشتمالها على لفظة «التين»، و هي كسائر السور المكية بصدد بيان الأمور المرتبطة بالعقيدة، و حيث ختمت سورة «الإنشراح» بالرغبة إليه سبحانه جاءت هذه السورة لتؤكد بأن اللّه هو أحكم الحاكمين و أن بيده الأمور، فالرغبة إليه توجب حسن الجزاء.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم «اللّه» الذي هو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لكل عباده، ترغيبا لهم في أن يطلبوا من واسع فضله و رحمته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 700

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 763

[سورة التين (95): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) وَ طُورِ

سِينِينَ (2) وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5)

[2] وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ أي قسما بهاتين الفاكهتين، و إنما جاء الحلف بهما لكثرتهما في الشام و حواليها المباركة- التي يراد التلميح إليها لكونها مبعث الأنبياء و مهبط ملائكة السماء-.

[3] وَ قسما ب طُورِ سِينِينَ يعني الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى و «سينين» و «سيناء» لغتان فيه فالقسم برزق اللّه المادي الفواكه، و فضله المعنوي الرسالات.

[4] وَ قسما ب هذَا الْبَلَدِ و هو مكة الْأَمِينِ الذي يأمن فيه الخائف، فكأنه لا يخون وارده بإهلاك و إيذاء.

[5] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ هذا جواب القسم، و التقويم بمعنى تصيير الشي ء على ما ينبغي أن يكون عليه من التأليف و التعديل يعني الإنسان مخلوق في أحسن طراز من جهة حواسه و ظواهره، و من جهة مشاعره و أجهزته، و هذا يناسب القسم، لأن الكل إحسان و إفضال ففاكهة، و وحي، و إنسان ينتفع بهما في مادياته و معنوياته.

[6] ثُمَّ رَدَدْناهُ أي أرجعنا الإنسان أَسْفَلَ سافِلِينَ أي تركناه و لم نلطف به الألطاف الخفية حتى تردى في أبعد مهوى، و صار في أسفل من كل إنسان، و المعنى أن الإنسان له شأنية هذا النحو من التردي إذا أعرض عن الإيمان و الهدى و اتبع الأهواء و الشهوات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 701

[سورة التين (95): الآيات 6 الى 8]

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)

[7] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ الملازمة لاجتناب السيئات فَلَهُمْ أَجْرٌ

و ثواب في الآخرة غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع بل متواصل دائم إلى الأبد، من «منّ» بمعنى قطع.

[8] فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسان بَعْدُ أي بعد هذه الحجج و الآيات و بيان طرفي الإنسان صعودا و هبوطا بِالدِّينِ أي بالجزاء، و المعنى ما الذي يسبب أن تكذب بالجزاء بعد أن عرفت الرفعة و الانحطاط في الإنسان، كما لو بين الأستاذ مضرة الرسوب و منفعة النجاح يتساءل ما الذي يوجب للتلميذ أن يترك درسه؟

[9] أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي أحسن حكما من كل حاكم، حيث قرر للإنسان هذين النوعين من الجزاء، فمن أحسن له أجر غير ممنون و من أساء فهو يتردى في مهاوي الانحطاط.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 702

96 سورة العلق مكيّة/ آياتها (20)

و هي أول سورة نزلت على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمكة على المشهور، و سميت بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «علق»، و هي كسائر السور المكية بصدد الأمور المرتبطة بالعقيدة و ما إليها، و إذ تقدم في تلك السورة ذكر خلق الإنسان في أحسن تقويم، جاءت هذه السورة مؤكدة لذلك.

و لا يخفى أن ترتيب السور- كما ورد- إنما كان بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما أن إدخال كل آية في سورة خاصة كان كذلك، و تسميتها بأسامي خاصة أيضا بأمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هذا لا ينافي النزول على غير هذا الترتيب.

و أما ما صنعه «أبو بكر» و «عثمان» حتى اشتهر بأنهما جمعا القرآن، فإنما كان كل إنسان كتب بعض القرآن في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمقدار ما سمع، فهما ردا الجميع إلى أصل واحد هو المنظم المرتب

على ترتيب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما لو فرضنا أن كتاب أحد المؤلفين قسم إلى أجزاء و بيد كل شخص جزء، ثم جاء شخص، و جمع الكل على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 703

نسق كتابه، و جاء بعده آخر فأحرق الناقصات و أمر بلزوم أن يكون الكتاب المتداول بلا زيادة أو نقصان- و للكلام تفصيل ذكرناه في بعض ما كتبناه-.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه، الذي لا أحق بالابتداء منه، فإن بيده الابتداء و الانتهاء، و هو المبدئ و المعيد، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لكل إنسان و لكل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 704

[سورة العلق (96): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)

عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6)

[2] اقْرَأْ يا رسول اللّه، القرآن مصاحبا قراءتك بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فإذا قرأ كل إنسان ما يقرأ بدون اسم اللّه، فأنت اقرأ مع اسم اللّه،

و في الحديث أن جبرئيل نزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جبل «حراء» بمكة.

فقال: «اقرأ» قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أقرأ و لست أنا بقارئ فقال عليه السّلام:

«اقرأ ...»

«1».

[3] خَلَقَ الْإِنْسانَ تخصيص بعد التعميم، فإن «خلق» الأول حيث حذف متعلقة أفاد العموم مِنْ عَلَقٍ و العلق هو الدم المنجمد الذي ينقلب المني إليه، بعد استقراره في الرحم، و هذا هو بدء الإنسان.

[4] اقْرَأْ للتأكيد في القراءة وَ رَبُّكَ يا رسول اللّه هو الْأَكْرَمُ من كل كريم، و من كرمه خلق الإنسان

من تلك العلقة القذرة، و أوصله إلى المقامات الرفيعة.

[5] الَّذِي عَلَّمَ الإنسان المعارف أو العلوم بسبب القلم فلو لا خلقه للقلم و تعليمه للإنسان الكتابة لبقي الإنسان في دياجير الجهل و الرذيلة، فمنه سبحانه «القراءة» ف «اقرأ ...» و منه الكتابة فعلم «بالقلم» و منه البدء «من علق» و منه الإيصال إلى الكمال.

[6] عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من أنواع العلوم و المعارف.

[7] و هل يشكر الإنسان هذا الفضل العظيم للّه سبحانه، حيث أوجده من

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 18 ص 174.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 705

[سورة العلق (96): الآيات 7 الى 10]

أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)

العدم إلى أن أبلغه إلى غاية الكمال الجسدي، و قد كان جاهلا ضالا فأبلغه رتبة العلم و الهدى؟ كَلَّا لا يشكر الإنسان، ف إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى يتجاوز حدوده و يتكبر على ربه.

[8] ل أَنْ رَآهُ أي حين رأى نفسه اسْتَغْنى في جسمه و ماله و يظن أنه غني بعد ذلك فلا يحتاج إلى ربه.

[9] إِنَّ إِلى رَبِّكَ يا رسول اللّه الرُّجْعى مصدر «رجع»، أي رجوع الخلق، و يرجع إليه تعالى- أي إلى جزائه و حسابه- فيمن يرجع هذا الطاغي الذي طغى على اللّه سبحانه.

[10] أَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه الَّذِي طغى على اللّه، حتى أنه يَنْهى

[11] عَبْداً إِذا صَلَّى فإنه لم يكتف بطغيانه على اللّه في تركه الصّلاة- بنفسه- حتى أصبح ينهى سائر العباد إذا قاموا للصلاة؟ أ رأيت هذا الإنسان يا رسول اللّه؟ و هذا استفهام لتوبيخ ذلك الشخص الناهي و تهديده.

قال القمي: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصّلاة و

أن يطاع اللّه و رسوله، فنزلت هذه الآية «1».

و في رواية أخرى أن أبا جهل قال: هل يغير محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، فقيل: ها هو ذلك يصلي، فانطلق ليطأ على رقبة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فما جاءهم إلا و هو ينكص على عقبيه و يتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال:

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 430. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 706

[سورة العلق (96): الآيات 11 الى 15]

أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (13) أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)

رأيت بيني و بينه خندقا من نار و هولا و أجنحة، و قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و الذي نفسي بيده لو دنى مني لا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا «1»، فأنزل سبحانه «أ رأيت ...»

و كأن التقدير أ رأيت المانع عن الصّلاة؟

و هل علمت ماذا يكون جزاؤه؟ لبيان عظمة هذا العمل من حيث الإثم.

[12] أَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه إِنْ كانَ العبد الذي صلى- و هو الرسول- عَلَى الْهُدى و كانت صلاته حسب أمر اللّه سبحانه؟

[13] أَوْ أَمَرَ ذلك العبد بِالتَّقْوى و المخافة من اللّه سبحانه باجتناب نواهيه؟ ماذا كان مصير ذلك له؟ أليس مصيره إلى العذاب و النكال؟

[14] أَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه إِنْ كَذَّبَ ذلك الناهي- و هو أبو جهل أو الوليد- بآيات اللّه و رسوله وَ تَوَلَّى أي أعرض عن الحق، ما هي عاقبته؟

[15] أَ لَمْ يَعْلَمْ ذلك الناهي بِأَنَّ

اللَّهَ يَرى عمله و نهيه عن الصّلاة و كذبه و توليه؟ و لم يعلم جزاء هذه السيئات؟ فإنه كيف ينهى و يكفر و يعصي، و جزاء من يفعل ذلك النار و النكال؟

[16] كَلَّا ليس الأمر على ما توهم من أنه لا جزاء على أعماله السيئة لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ هذا الناهي عن أعماله و سيئاته لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أي لنجرنّه بناصيته إلى النار، من «سفع» بمعنى جذب الشي ء جذبا شديدا، «و الناصية» هي شعر مقدم الرأس، فإنه أسهل للأخذ و أوجب لانقياد المأخوذ.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 170.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 707

[سورة العلق (96): الآيات 16 الى 19]

ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19)

[17] ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ نسبة الكذب و الخطأ إلى الناصية مجاز باعتبار علاقة الجزء و الكل، كما أن نسبة الإيمان إلى الرقبة في قوله رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ «1» كذلك و المراد أن صاحب الناصية كاذب في أقواله خاطئ في أعماله.

[18] فَلْيَدْعُ ذلك الإنسان الناهي نادِيَهُ أي أهل مجلسه و أصدقائه، فإن «النادي» هو محل الاجتماع، الذي ينادي بعضهم بعضا إليه، و نسبة النداء إليه مجاز من باب «اسأل القرية» يعني يدعوهم لخلاصه فهل يتمكنون إنقاذه من بطش اللّه سبحانه؟

قال ابن عباس لما أتى أبو جهل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انتهره الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال أبو جهل: أ تنتهرني يا محمد فو اللّه لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني؟ فأنزل اللّه هذه الآية.

[19] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ يعني إنا ندعو الملائكة الموكلين بالنار لقبض ذلك الشخص الناهي، و ليدع هو ناديه، حتى

يظهر أينا يغلب الآخر. و هذا تهديد له بأنه لا منقذ له من بطشه سبحانه، و «الزبانية» جمع «زبينة» و هي النفس التي تدفع، من «الزين» بمعنى الدفع، فإن الملائكة يدفعون المجرمين إلى النار دفعا.

[20] كَلَّا ليس الأمر كما زعم هذا الناهي، ف لا تُطِعْهُ يا رسول اللّه في ترك الصّلاة التي ينهى عنها وَ اسْجُدْ للّه سبحانه، أو بمعنى أخضع له بالصلاة و نحوها وَ اقْتَرِبْ من رضوان اللّه بطاعته و عبادته من «القرب». و سورة اقرأ إحدى «العزائم» الأربع، و هذه هي آية السجدة.

______________________________

(1) النساء: 93.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 708

97 سورة القدر مكية أو مدنية/ آياتها (6)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «القدر»، و هي إما مكية- كما يظهر من سياقها- أو مدنية، و على أي حال ترتبط بقضايا العقيدة و إذ ختمت سورة «العلق» بذكر الاقتراب منه سبحانه، بينت في هذه السورة إن الاقتراب إليه في ليلة القدر أفضل من الاقتراب إليه سبحانه في سائر الأوقات.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، ليكون عونا لنا في أمورنا، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد و يتفضل عليهم بما يستر زللهم و يسد خللهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 709

[سورة القدر (97): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)

[2] إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي القرآن- المعلوم من السياق- و الإتيان بلفظ الجمع في «إنّا» و «أنزلنا» باعتبار التعظيم، فقد كان المتعارف أن يتكلم كل رئيس عن نفسه و عن أتباعه، ثم أستعير «الجمع» في كل تعظيم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و هي «التاسعة عشرة» أو «الواحدة و العشرون» أو «الثالثة و العشرون» من شهر رمضان المبارك، فقد

نزل القرآن بجملته إلى البيت المعمور- في السماء الرابعة- في إحدى هذه الليالي الثلاث، ثم نزل منجما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ظرف ثلاث و عشرين سنة، أو المراد أن إنزاله على قلب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في هذه الليلة، و إنما إتيان جبرئيل به أقساطا من السماء- بمناسبات- كان في ظرف ثلاث و عشرين سنة، و سميت الليلة ب «القدر» لتقدير أعمال العباد في هذه الليلة.

و قد ورد في الأحاديث ان في هذه الليلة من كل سنة تنزل أفواج من الملائكة بالتقديرات لتلك السنة، إلى الإمام الحي من الأئمة الإثني عشر عليهم السّلام بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيعلم الإمام بما قدر اللّه سبحانه للخلائق من الآجال و الأرزاق و الأعمال و سائر الأمور المرتبطة بهم «1»، و هذا لا يعني أنهم كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نزول الوحي، فقد نزل جبرئيل على مريم و ليست رسولا، بل هو تشريف من اللّه سبحانه للإمام الذي هو خليفة في أرضه بعد الرسول، و في دورنا تنزل الملائكة بالتقديرات- في ليلة القدر- على الإمام المهدي المنتظر «عجل اللّه فرجه».

[3] وَ ما أَدْراكَ يا رسول اللّه، أو أيها السامع ما هي لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟

و هذا لتعظيم شأنها.

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 82 ص 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 710

[سورة القدر (97): الآيات 3 الى 5]

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

[4] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني أن الأعمال الصالحة

في ليلة القدر خير من العمل الصالح في ألف شهر- التي هي أكثر من ثمانين سنة- فإن الأزمان إنما تفضل بعضها على بعض بما يقع فيها من الأعمال أو المعنى أن تلك الليلة التي نزل فيها القرآن، خير من ألف شهر لما حدث فيه من أمر عظيم هو نزول القرآن.

[5] تَنَزَّلُ أصله «تتنزل» حذفت إحدى تائيه على القاعدة- كما سبق- الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ و هو ملك عظيم، أو جبرئيل عليه السّلام فِيها أي في تلك الليلة بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فإن اللّه يأذن لهم في النزول على الرسول و الإمام لبيان مقدرات العباد في تلك السنة مِنْ كُلِّ أَمْرٍ فقد جاء جبرئيل و سائر الملائكة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الليلة و معهم كل أمر مربوط بالأرض من الهداية و الإرشاد، و التنظيم و التقنين و السعادة و الخير؟ و كذلك يأتون في كل سنة إلى الإمام الحي بذلك كله.

[6] سَلامٌ هِيَ أي تلك الليلة، فقد قدر فيها منهاج السّلام العام للعالم، سلامة الروح عن الأوضار، و سلامة الجسم عن الأمراض، و سلامة المجتمع عن المفاسد، و سلامة العقل عن الخرافة. أو المعنى أن الليلة هي سلام، بمعنى كونها سالمة عن البلايا و الآفات، فلا يقدر فيها إلا السّلام حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ فإذا طلع الفجر انتهى تنزل الملائكة، و يتم الأمر، كما حين طلع الفجر من ليلة نزول القرآن انتهى تنزل الملائكة و قدر الأمر. و من المستحب الدعاء و الضراعة في هذه الليلة، تذكرا لابتداء الوحي، و طلبا لأن يقدر فيها الخير، بالنسبة إلى السنة المقبلة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 711

98 سورة البيّنة مدنية أو مكيّة/ آياتها (9)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «البينة»

و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و هناك قول آخر بأنها مدنية، و فيها بعض إماراتها. و حيث بينت سورة القدر أن القرآن نزل في ليلة القدر، جاءت هذه السورة تبين أن الكفار لم يزالوا على كفرهم و ضلالهم، حتى أتاهم القرآن، فاهتدى بعضهم به.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم «اللّه» الذي هو الذات المستحق لكل تجلة و إعظام، الرحمن الرحيم، الذي يرحم كل شي ء بإعطائه خلقه ثم هدايته إلى طريق حياته، و يرحم الإنسان بصورة خاصة بإرشاده و غفران خطأه إن تاب و أناب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 712

[سورة البينة (98): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)

[2] لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود و النصارى و المجوس، و الوصف ليس للتصنيف بل للبيان، فإن كل أهل الكتاب قد كفروا بنسبتهم إلى اللّه الولد و الشريك و توصيفهم له بما لا يليق بجلال شأنه وَ من الْمُشْرِكِينَ الذين أشركوا باللّه و عبدوا الأصنام معه مُنْفَكِّينَ أي منتهين عن كفرهم، من «انفك» بمعنى زال عنه، و ابتعد حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي الحجة الظاهرة- و هو القرآن الكريم، و الرسول العظيم- إذ لا مجال لهم في عرفان الحقائق بعد ما حرّفوا كتبهم و بدلوا دينهم.

[3] ثم بين المراد بالبينة بقوله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي من طرفه سبحانه يَتْلُوا و يقرأ عليهم صُحُفاً مُطَهَّرَةً هي صحائف القرآن الحكيم التي طهرت عن الكفر و الشرك و نسبة ما لا يليق إلى اللّه و إلى أنبيائه، فإن

النبي و إن كان يتلو عن ظهر القلب لكنه كان يقرأ عن اللوح المحفوظ عكس كتاب العهدين.

[4] فِيها أي في تلك الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ «الكتاب» يستعمل بمعنى الموضوع، كما يقال: كتاب الصلاة، و كتاب الحج، يراد موضوعهما- و لذا نرى كتاب الصلاة، مثلا في ضمن كتاب «شرائع الإسلام للمحقق»، أو أن الكتاب بمعنى المكتوب، و هو في الصحيفة، يعني أن تلك الصحف تشتمل على موضوعات ذات قيمة و ثمن، أو بمعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 713

[سورة البينة (98): الآيات 4 الى 6]

وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)

ذات استقامة، فإن القيمة بمعنى المستمرة في جهة الصواب.

[5] وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوا الكتاب السماوي إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي الحجة الواضحة، و المعنى أن أهل الكتاب إنما اختلفوا- في أمر الرسول أو أمر دينهم السابق بأن صار لكل فئة مذهب و طريقة- بعد أن تمت عليهم الحجة و عرفوا الصواب، و إنما اختلفوا بغيا و حسدا.

[6] وَ الحال أن اللّه لم يأمرهم إلا بعبادته و اتباع طريقته، فإنهم ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وحده في حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي يخلصون الطريقة للّه سبحانه، بلا زيادة أو نقصان، أو شرك أو انحراف، في حال كونهم حُنَفاءَ جمع حنيف، أي مائلين عن الأديان الباطلة و الطرائق الزائفة، من «حنف» بمعنى مال وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ

أي يداوموا على إقامة الصّلاة وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ أي يعطوها، و المراد بها إما مطلق الإعطاء، أو الزكاة المفروضة. فقد فرضت الزكاة في الأديان السابقة- وَ ذلِكَ الدين المشتمل على هذه الأمور المذكورة دِينُ الْقَيِّمَةِ أي دين الكتب القيمة- التي تقدم ذكرها- بمعنى أنه الدين المذكور في تلك الكتب.

[7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ استمروا على كفرهم فلم يؤمنوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 714

[سورة البينة (98): الآيات 7 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ من الْمُشْرِكِينَ بأن استمروا في شركهم يكونون فِي نارِ جَهَنَّمَ في الآخرة حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي في النار إلى الأبد أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي شر الخلق، فإن البرية هي الخليقة، من برأ بمعنى خلق و أنشأ.

[8] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، الملازمة لعدم الإتيان بالأعمال الفاسدة أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي الأفضل من جميع الخلق، و في مقابلهم من آمن و عصى، فإنه ليس بذلك الشر و لا بذلك الخير.

[9] جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي المحل الذي أعده للحساب و الجزاء فإنه سبحانه لا مكان له جَنَّاتُ عَدْنٍ أي بساتين إقامة، من «عدن» بالمكان إذا أقام فيه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها و قصورها، أنهار من عسل و خمر و لبن و ماء خالِدِينَ فِيها أي في تلك الجنات أَبَداً دائما لا يزولون عنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حيث

عبدوه و أطاعوه وَ رَضُوا عَنْهُ حيث أكرمهم و تفضل عليهم بالخير و السعادة ذلِكَ الثواب و الفضل لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خافه فلم يعصه و لم يرتكب ما يخالف أوامره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 715

99 سورة الزلزلة مدنية أو مكيّة/ آياتها (9)

و تسمى سورة «الزلزال» أيضا، لاشتمالها على كلمة «زلزلت»، و في كونها مدنية أو مكية خلاف لكنها تعالج قضايا العقيدة، و هي التي تؤكد كونها مكية، و حيث ختمت سورة «البينة» بجزاء المطيعين في الجنان، و العاصين بالنيران، افتتحت هذه السورة بذكر أشراط الساعة، و علائم القيامة، التي هي يوم الفصل و الجزاء.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي هو الأول، فلا شي ء قبله و معه، تطابقا للشروع في الشي ء مع الخارج، بجعل اسم اللّه سبحانه شعارا، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لمن استرحمه، و لمن لم يسترحمه، و إن كان فرق بينهما في زيادة التفضل و المثوبة و ما أشبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 716

[سورة الزلزلة (99): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6)

[2] إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي حركت تحركها الشديد، و اضطربت اضطرابا عظيما.

[3] وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها كل ما فيها من الأشياء الثقيلة، من معادن و دفائن و أموات و أشباه ذلك، فإنها تلقيها على ظهرها عند قيام الساعة.

[4] وَ قالَ الْإِنْسانُ متعجبا من هذه الحوادث: ما لَها أي ما للأرض تتزلزل و تضطرب و تخرج ما في بطنها؟! [5] يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم- و هو يوم القيامة- تُحَدِّثُ

الأرض أَخْبارَها

ورد عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال أ تدرون ما أخبارها؟ قالوا:

اللّه و رسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد بما عمل على ظهرها.

[6] كل ذلك الزلزال و الإخراج و الحديث يصدر من الأرض بسبب أن رَبَّكَ يا رسول اللّه أَوْحى لَها أي للأرض بأن تعمل ذلك، و السماء و الأرض مطيعتان للّه سبحانه فيما يأمر، كما قال سبحانه (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) «1».

[7] يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم يَصْدُرُ النَّاسُ أي يرجع الناس من قبورهم إلى المحشر أَشْتاتاً جمع «شتيت» أي متفرقين، بعضهم

______________________________

(1) فصلت: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 717

[سورة الزلزلة (99): الآيات 7 الى 8]

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

لعاقبة حسنة و بعضهم لعاقبة سيئة لِيُرَوْا- على البناء للمفعول- أي حتى يريهم اللّه أَعْمالَهُمْ التي عملوها و يجازي كل على عمله.

[8] فَمَنْ يَعْمَلْ في الدنيا مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي بقدر ثقل ذرة- و هي الهباءة التي ترى في الشمس إذا دخلت من الكوة في المحل المظلم- خَيْراً يَرَهُ أي يرى جزاء ذلك الخير، في ذلك اليوم.

[9] وَ مَنْ يَعْمَلْ في الدنيا مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا من الكفر و العصيان يَرَهُ في ذلك اليوم، و لا يظلم أحد شيئا، إلا أن يدرك عامل الشر شفاعة، إن كان من أهلها، أو عامل الخير إحباطا، لأنه أتى بسيئة تحبط أعماله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 718

100 سورة العاديات مدنيّة أو مكيّة/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «العاديات»، و هي كسائر السور المدنية تلمح إلى الأمور المرتبطة بالنظام إلى جنب العقيدة، و هذه السورة نظير السورة السابقة في ذكر الجزاء.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نشرع باسم اللّه، ليكون شروعا مباركا، فإنه لا يبدأ شي ء باسم اللّه إلا كان الخير قرينة بلطفه و فضله، الرحمن الرحيم، الذي يرحم العباد و يتفضل عليهم بالسعادة و الإحسان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 719

[سورة العاديات (100): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)

[2] وَ الْعادِياتِ أي قسما بالأفراس التي تعدو في سبيل اللّه للجهاد ضَبْحاً أي تضبح ضبحا، «و الضبح» هو صوت الجوف الذي يسمع من الخيل حين تعدو.

[3] فَالْمُورِياتِ أي قسما بالموريات، و الفاء للترتيب في الكلام أي الخيل التي تورى النار و تظهرها، بوطء حوافرها على الأحجار قَدْحاً مثل نار الزناد إذا قدح، تقدح قدحا أي تضرب ضربا يقال أورى القادح النار: إذا أظهرها.

[4] فقسما بالمغيرات أي الأفراس التي أغارت على العدو صُبْحاً بعد أن سار المجاهدون ليلا، حتى إذا أصبحوا أغاروا.

[5] فَأَثَرْنَ تلك الأفراس بِهِ أي بذلك المكان- المعلوم من السياق- نَقْعاً أي غبارا، يعني أن تلك الخيل أثارت بذلك المكان الغبار الكثير لمطاردتها الأعداء، و «نون» جمع المؤنث يأتي للعاقلة و غير العاقلة- كما سبق-.

[6] فَوَسَطْنَ تلك الأفراس بِهِ أي بذلك المكان جَمْعاً أي صرن في وسط ذلك المكان، حتى فتحوا على العدو، إذ حصلوا في وسطهم و أحدثوا الفوضى و الاضطراب فيهم على حين غرة، و هذه الآيات نزلت في «غزوة ذات السلاسل». و هي كما في كتاب «قادة الإسلام» «1» اشتركت قبائل من «لخم» و «جذام» و «بلقين» و «بهر» و

______________________________

(1) للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 720

«بلى» و «طي» و «عذرة» و غيرها في حرب «مؤتة» و ساعدت الكفار

على المسلمين، و بعد وقعة «مؤتة» تجمعت قوى هؤلاء لمحاربة المسلمين و كان عددها اثني عشر ألف مقاتل، فأراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يؤدبهم و يأخذ بثأر المسلمين الذين استشهدوا في «مؤتة»، فجهز جيشا من أربعة آلاف نفر، برئاسة «أبي بكر» و أمرهم بالذهاب إلى الكفار و مقاتلتهم، و توجه أبو بكر إلى تلك المنطقة، فلما رأوه خرجوا إليه و حذروه من محاربتهم، فخاف أبو بكر و رجع، و اغتاظ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من رجوعه، ثم أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «عمر» على الجيش فأرسلهم و حذرهم من الجبن، لكن عمر جبن كأخيه من قبل، «و آب بخفي حنين» ثم أمر الرسول «عمرو بن العاص» و أرسلهم لكنهم أيضا رجعوا حينئذ عقد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللواء بقيادة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و وصاه بما أوصى به أولئك ثم

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنه لا بد و أن يفتح اللّه على يديك ... جاء الإمام عليه السّلام حتى وصل إلى قرب معسكر الكفار بحيث يرونه و يراهم، فانحاز من معسكرهم مائتا رجل، و كلموا الإمام فدعاهم الإمام إلى الإسلام، لكنهم أبوا و قالوا:

إنا لنقتلكم جميعا و ضربوا الموعد يوم غد، و انصرفوا إلى معسكرهم ينتظرون غدا.

أمر الإمام جيشه أن يستعدوا، فأخذوا كامل استعدادهم في الليل فلما أصبح الصباح وصلوا صلاة الصبح، أمر الإمام الجيش بالهجوم على القوم، فهجم جيش المسلمين يقدمهم الإمام عليه السّلام على الكفار و هم نائمون إلا قليلا منهم، و أولئك القليل لم يكونوا مستعدين للقتال فانهزموا أمام

الجيش الإسلامي، و قد أكثر فيهم الجيش من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 721

[سورة العاديات (100): الآيات 6 الى 10]

إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10)

القتل و الأسر، و لم تطلع الشمس إلا و الجيش الإسلامي يحملون الأسرى و الغنائم، ليعودوا إلى المدينة منتصرين، و استقبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمون الإمام عليه السّلام و جيشه، و هنا نزلت سورة العاديات

«1».

[7] قسما بتلك الأقسام المتقدمة إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي لكفور، و منه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا، و الأصل فيه منع الحق.

[8] وَ إِنَّهُ أي الإنسان عَلى ذلِكَ الكفر لَشَهِيدٌ أي يشهد بذلك، فإن الإنسان يعلم ما له و ما عليه، و إن لم يعترف بما عليه، أو المعنى أنه يشهد بذلك يوم القيامة، حيث يختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون.

[9] وَ إِنَّهُ أي الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ فإنه شديد في حب كل خير لنفسه، هذا طبع الإنسان، لو لم يخرجه الإيمان.

[10] أَ فَلا يَعْلَمُ الإنسان إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أي بعث الموتى و أخرجوا من قبورهم، منتشرين مبعثرين هنا و هناك؟

[11] وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ بأن ظهرت نوايا الناس و ما أضمروه من خير و شر؟ ليجازي كل حسب ما نواه و أضمره و عمله و أتى به. ألا

______________________________

(1) تفسير فرات الكوفي: ص 591.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 722

[سورة العاديات (100): آية 11]

إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

يعلم ماذا يكون مصيره يومذاك؟

فكيف يعصي و يكند؟ كما تقول لمن يعصي: ألا تعترف بالحساب؟ تريد بذلك تهديده.

[12] إِنَّ رَبَّهُمْ أي اللّه الذي خلقهم و رباهم بِهِمْ أي بالناس يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لَخَبِيرٌ عالم مطلع، فيجازي كل إنسان حسب عمله و نيته، و قوله «يومئذ» من جهة أن الجزاء في ذلك اليوم، و إلا فكونه سبحانه خبيرا عام لكل الأزمان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 723

101 سورة القارعة مكية أو مدنية/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «القارعة»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة «العاديات» بتهديد العصاة، جاءت هذه السورة لتبين علائم القيامة، موعد التهديد.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم «اللّه» الذي هو المستجمع لجميع صفات الكمال، لنجعله شعارا لنا في أعمالنا و أمورنا، إذ لا شي ء أفضل منه في أن يكون شعارا لمعترف بربه، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل على العباد بالرحمة و الغفران.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 724

[سورة القارعة (101): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6)

[2] الْقارِعَةُ هي من أسماء القيامة، لأنها تقرع القلوب بالخوف و تقرع الناس بالعذاب، و تقرع الجبال فتجعلها دكا دكا.

[3] مَا الْقارِعَةُ أي ما هي القارعة؟ و ذلك لتفخيم شأنها و تعظيم أمرها، و «القارعة» الأولى مبتدأ، و «ما» مبتدأ ثان، و «القارعة» الثانية خبر «ما»، و الجملة خبر «قارعة» الأولى.

[4] وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان أو أيها الناس مَا الْقارِعَةُ؟ هذه الجملة لتفخيم شأنها، يعني أنها من الهول بحيث لا تعلمها و لا تدركها، إلا بعد أن تراها.

[5]

يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ و هو الغوغاء من الجراد الذي ينفرش و يركب بعضها فوق بعض الْمَبْثُوثِ أي المنتشر، فإن الناس يكونون مثل الفراش في الكثرة و الاضطراب و الانتشار.

[6] وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي الصوف الملون الْمَنْفُوشِ أي المندوف، فإنها تقلع عن أماكنها و تحطم حتى تكون كالصوف ذي الألوان الخفيف اليسير، و ألوانها، لاختلاف ألوان الجبال فإنها بيض و حمر و سود و غيرها.

[7] فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي رجحت حسناته و كثرت و الإتيان بالجمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 725

[سورة القارعة (101): الآيات 7 الى 11]

فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)

لأن لكل عمل حسن ميزان فميزان للصلاة، و ميزان لبر الوالدين، و هكذا. و هل المراد بالميزان هو المعهود في الدنيا- كما هو الظاهر- أو غيره احتمالان؟

[8] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي عيشة ذات رضى يرضاها صاحبها و نسبة الرضى إليها- مع كون الراضي هو الذي يعيش- مجاز.

[9] وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن قلت حسناته، و كثرت سيئاته.

[10] فَأُمُّهُ أي مأواه هاوِيَةٌ أي جهنم، و المعنى أن محله النار، فكما أن الولد يأوي إلى أمه كذلك يأوي العاصي إلى جهنم، و إنما سميت بالهاوية لهوى الشخص فيها.

[11] وَ ما أَدْراكَ يا رسول اللّه، أو أيها الإنسان ما هِيَهْ هذا تفخيم لعذاب النار، حتى أن الرسول- أو السامع- لا يدرك حقيقتها و تفصيلها لهولها، و الهاء للسكت.

[12] إنها نارٌ حامِيَةٌ قد بلغت آخر شدتها في الحرارة و الالتهاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 726

102 سورة التكاثر مكيّة/ آياتها (9)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «التكاثر»، و

في كونها مكية أو مدنية خلاف، و هي تعالج قضايا العقيدة، و حيث اختتمت سورة «القارعة» بذكر النار، افتتحت هذه السورة بغفلة الناس عنها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له كل شي ء و لا أحق بالابتداء منه، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل على العباد بالرحمة تفضلا و امتنانا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 727

[سورة التكاثر (102): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)

كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)

[2] أَلْهاكُمُ أي أشغلكم عن طاعة اللّه و عبادته، أيها الناس التَّكاثُرُ بالأموال و الأولاد و الأمور المرتبطة بالدنيا، و التفاخر بكثرتها يقال تكاثر إذا تباهي بالكثرة.

[3] حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي ذهبتم إلى القبور لزيارتها، فإن هناك ينتبه الإنسان إلى فناء الدنيا، و عدم الفائدة في التباهي و التفاخر بكثرة الأمور المرتبطة بها، أو المعنى حتى أدركتم الموت، و كني عن ذلك بزيارة المقابر دلالة على عدم بقاء الإنسان فيها أيضا، فإنه ينتقل منها إلى الدار الآخرة.

[4] كَلَّا ليس الأمر كما أنتم عليه من التكاثر سَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة الاشتغال بالدنيا، و الغفلة عن الآخرة، و هذا تهديد لهم.

[5] ثُمَ لترتب الكلام كَلَّا ليس الأمر على ما أنتم عليه سَوْفَ تَعْلَمُونَ كرّر للتكريز و الإيحاء بالارتداع عن التكاثر لو خامة عاقبته.

[6] كَلَّا ليس الأمر كما زعمتم لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي علما يقينيا، بحيث تتيقنون بالآخرة- لا علما استدلاليا فقط- أي لو تعلمون لعلمتم أن التباهي و التكاثر لا ينبغي، و إنما الاشتغال بالآخرة هو الأمر اللازم.

[7] لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ رؤية بالقلوب، حتى كأنكم تشاهدونها، فتخافون من الاشتغال عن

أمرها، بما لا فائدة فيه من التباهي و التفاخر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 728

[سورة التكاثر (102): الآيات 7 الى 8]

ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

[8] ثُمَ بعد كثرة التفكير في الجحيم و رؤيتها بالقلب لَتَرَوُنَّها أي الجحيم عَيْنَ الْيَقِينِ أي اليقين الذي هو كالمعاينة، كما

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، و هم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذبون»

فأولى المراتب العلم الاستدلالي، ثم ذوق القلب باليقين الصادق ثم استيلاء اليقين على القلب حتى كأن الإنسان يشاهد الشي ء المعلوم.

[9] ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ أيها الناس يَوْمَئِذٍ يوم زاد يقينكم حتى صار عين اليقين عَنِ النَّعِيمِ فإن الإنسان إذا زاد يقينه أخذ يبحث في أموره حتى لا يكون فيها حرام أو مشتبه، فيسأل من أين جاء بهذا المال و الولد؟

و من أين له هذا الجاه و المقام؟ أمن حل أو من حرام؟ و ما أشبه ذلك، فهو كالمسؤول الذي تسأله نفسه عن تلك الأمور، و يحتمل أن يراد كون السؤال هناك في الآخرة، و كذلك رؤية الجحيم- كما في بعض الأحاديث.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 729

103 سورة العصر مكية/ آياتها (4)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على لفظ «العصر»، و هي كسائر السور المكية بصدد بيان قضية العقيدة، و حيث ختمت سورة «التكاثر» بوعيد من ألهاه التكاثر، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم اللّه الذي له كل شي ء و يقدر على جميع أنواع الإعانة، الرحمن الرحيم الذي يرحم كل شي ء بخلقه و تكميله، و يرحم الإنسان بغفران ذنبه و جبر كسره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 730

[سورة العصر (103): الآيات 1 الى

3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

[2] وَ الْعَصْرِ قسما بالعصر، أي عصر النبوة، أو عصر الدهر، أو عصر الحجة عليه السّلام، أو العصر مقابل الصبح، كما حلف سبحانه ب «الضحى» و ما أشبه- و قد سبق الوجه في هذه الأقسام-.

[3] إِنَّ الْإِنْسانَ بطبيعته لَفِي خُسْرٍ أي خسارة مستمرة، إذ يتدرج نحو الفناء، كما تتدرج أخلاقه في الانحطاط، فإن الإنسان كلما دخل في الدنيا أكثر، زاد تكالبه و رذائله، بالإضافة إلى أن كل ساعة تذهب و لم يعمل الإنسان فيها صالحا كان خاسرا، إذ ذهب من رأس ماله- الذي تمكن به من تحصيل أرقى الدرجات- هباء هدرا، و لو لم يحصل على المعصية في تلك الساعة فرضا.

[4] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و ما جاء به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي لا يشوبها السيئات وَ تَواصَوْا بِالْحَقِ بأن أوصى بعضهم بعضا، بأن يلازم الحق و يعمل به وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ بأن يصبروا على مكاره الدنيا، و ذلك بالصبر على الطاعة، و الصبر على المعصية، و الصبر في الرزية. و خصص السياق هذين الأمرين، بعد دخولهما في مطلق الأعمال الصالحة، لشدة الاحتياج إليهما، في تلازم العمل الصالح فإنهما عمادان له.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 731

104 سورة الهمزة مكيّة/ آياتها (10)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الهمزة»، و هي كسائر السور المكية بصدد بيان قضايا العقيدة و ما إليها، و حيث ذكر في السورة السابقة كون الإنسان في الخسر، أتت هذه السورة لتبين بعض أسبابها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو الأول قبل كل شي ء، الرحمن الرحيم،

ذو الرحمة المكررة المؤكدة التي وسعت كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 732

[سورة الهمزة (104): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)

وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)

[2] وَيْلٌ هي كلمة تقال لبيان سوء حال المقولة فيه لِكُلِّ هُمَزَةٍ هو الكثير الطعن على الناس بغير حق العائب لهم، و أصل الهمز الكسر، فكأن العائب يكسر الشخص و يهدم شوكته لُمَزَةٍ هو المغتاب للناس، و هما وصفان بمعنى «همّاز» و «لمّاز».

[3] الَّذِي جَمَعَ مالًا من هنا و هناك وَ عَدَّدَهُ أي أحصاه، ليرى كم زاد، و هذه صورة للإنسان الشره المنحط النفس الذي يدأب في جمع المال، و يعيب الناس كلهم بلا استثناء.

[4] يَحْسَبُ أي يظن أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يقيه في الدنيا و يمنعه من الحوادث، فإن كل حادث ينوبه يدفع بالمال رشوة، أو إنفاقا لدفع جريمة عملها، أو مرض جاء إليه، أو ما أشبه. و المراد أن فعله فعل من يحسب ذلك و إن كان كل إنسان يعلم بالموت، و يدري أنه لا مفر له منه.

[5] كَلَّا ليس الأمر على ما توهم، من أنه ذو مال مرح إلى الأبد، و أنه خالد بماله لَيُنْبَذَنَ أي يطرحن هذا الهمزة اللمزة طرحا بدون مبالاة و اعتناء فِي الْحُطَمَةِ اسم من أسامي جهنم، سميت بها لأنها تحطم كل شي ء و تكسره فتحطم النار كيانه و كبرياءه.

[6] وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو أيها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَا الْحُطَمَةُ؟ و هذه لتفخيم شأنها و أنها لا تدرك إلا إذا شاهدها الإنسان.

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 5، ص: 733

[سورة الهمزة (104): الآيات 6 الى 9]

نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

[7] ثم جاء البيان لها بقوله: هي نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ و كم يقدر الإنسان عظمة النار التي يوقدها و يؤججها اللّه سبحانه الذي هو أقدر القادرين للنكال و العقاب.

[8] الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ جمع فؤاد، أي تشرف على القلوب لتحرق مكان انبعاث السخرية و حب المال و تعداده بلا إنفاقه في سبيل اللّه و في وجوه الخير.

[9] إِنَّها أي الحطمة عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المجرمين مُؤْصَدَةٌ فتغلق أبوابها عليهم لييئسوا من الخروج، من أوصد الباب: بمعنى أغلقه.

[10] فِي عَمَدٍ جمع عمود مُمَدَّدَةٍ أي موثقين في أعمدة ممدودة، فقد اعتاد الملوك السابقون أن يربطوا رجل المجرم بعمود ممدود مبني في الأرض أو في الحائط لئلا يفر، و هذا لزيادة النكال و العذاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 734

105 سورة الفيل مكيّة/ آياتها (6)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الفيل»، و هي كسائر السور المكية لمعالجة قضية العقيدة، و حيث تقدمت في السورة السابقة نكال اللّه بالكافرين في الآخرة، ذكر في هذه السورة نكاله بهم في الدنيا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لكل أحد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 735

[سورة الفيل (105): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

[2] أَ لَمْ تَرَ أي ألم تسمع يا رسول اللّه، أو أيها السامع كَيْفَ فَعَلَ

رَبُّكَ من العذاب و النكال بِأَصْحابِ الْفِيلِ الذين جاؤوا به لهدم الكعبة؟

[3] أَ لَمْ يَجْعَلْ اللّه كَيْدَهُمْ الذي كادوا لهدم البيت و احتالوا لإطفاء نور اللّه فِي تَضْلِيلٍ أي في تضييع و إبطال، فكأن كيدهم عوض أن يهدي إلى مقصدهم أضلهم و أورث هلاكهم و دمارهم.

[4] وَ أَرْسَلَ اللّه عَلَيْهِمْ طَيْراً يسمى أَبابِيلَ و هو الخطاف أو بمعنى جماعات، فإن أبابيل في اللغة بمعنى جماعات في تفرقة أي جماعة جماعة.

[5] تَرْمِيهِمْ تلك الأسراب من الطير- فإن المراد بالطير الجنس بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أي تقذفهم بأحجار صغار صلبة هي من طين متحجر، و هو معرّب «سنك كل»، و ذلك أشد و أصلب و أوجع إذا أصاب الإنسان.

[6] فَجَعَلَهُمْ أي جعل اللّه أولئك الأصحاب كَعَصْفٍ أي زرع مَأْكُولٍ قد أكل ثمره فبقي خاليا خاويا، فقد كان الحجر إذا أصاب أحدهم، جعله خاليا، كأنه تبن بلا حب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 736

و كان الأصل في ذلك أن فئة من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر، و في حقف من أحقافها بيعة من بيع النصارى تسميها قريش «الهيكل»، فنزل القوم فجمعوا حطبا ثم أججوا نارا و شووا لحما، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فذهبت الرياح بالنار فاضطرم الهيكل نارا، فغضب النجاشي لذلك فبعث أبرهة لهدم الكعبة، فجاء أبرهة بالفيل مع الجيش، فلما أدنوه من باب المسجد قال له عبد المطلب: أ تدري يا فيل أين يؤم بك؟ قال برأسه: لا. قال: أتوا بك لتهدم كعبة اللّه أ تفعل ذلك؟ فقال برأسه: لا، فجهدت به الجند ليدخل المسجد فامتنع، فحملوا عليه بالسيوف و قطعوه فأرسل اللّه إليهم طيرا أبابيل

بعضها إثر بعض، ترميهم، فكان مع كل طير ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، و حجران في مخالبه، و كانت ترفرف على رؤوسهم و ترمي الحجر بدماغهم، فيدخل الحجر في أدمغتهم و يخرج من أدبارهم فتنتقض أبدانهم «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 632.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 737

106 سورة قريش مكيّة/ آياتها (5)

سميت ب «لإيلاف» أيضا، لاشتمالها على اللفظتين، و هي كسائر السور المكية بصدد معالجة قضية العقيدة، و لما ذكر سبحانه دفعه الأعداء عنهم، ألحق بذلك لطفه عليهم بإطعامهم و تهيئة أسباب العيش لهم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الأول قبل كل شي ء، ليكون شعارا للمسلم المعترف بذلك، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحمة المتكررة في الدنيا و الآخرة على عباده.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 738

[سورة قريش (106): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

[2] لِإِيلافِ قُرَيْشٍ من «آلف» نقيض «أوحش» يعني من أجل أن جعل اللّه الحرم و طرقه آمنا حتى ألف قريش أن يذهب إلى الشام و إلى اليمن، في أمن و دعة، بلا استيحاش و خوف.

[3] إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ أي رواحهم في الشتاء إلى اليمين لأجل التجارة وَ الصَّيْفِ أي رواحهم في الصيف إلى الشام لأجل التجارة، و هذا توضيح لقوله «لإيلاف قريش».

[4] فَلْيَعْبُدُوا هذا متعلق «لإيلاف» أي ليعبد قريش رَبَّ هذَا الْبَيْتِ إله الحرم لأجل ما صنع لهم من الألفة و الأمن، حتى ألفوا السفر في كل سنة بلا خوف و لا وحشة، فقوله «لإيلاف» متعلق بقوله «فليعبدوا».

[5] ثم بين بعض أوصافه سبحانه مما تخصهم بقوله: الرب الَّذِي

أَطْعَمَهُمْ أي طعم مِنْ جُوعٍ بما سبب لهم من الأرزاق في رحلتي الشتاء و الصيف وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ بما هيأ لهم حرما آمنا، لا يلقون فيه إلا الأمن حيث يختطف الناس من حولهم، و معنى «من»: بعد، أي أطعمهم بعد الجوع، و آمنهم بعد الخوف، أو بمعنى «من حيث» أي من هاتين الناحيتين- و هذا أقرب بالنسبة إلى الموضوع- قال القمي: نزلت في قريش، لأنه كان معاشهم من الرحلتين رحلة في الشتاء إلى اليمن و رحلة في الصيف إلى الشام، و كانوا يحملون من مكة الأدم و اللب و ما يقع من ناحية البحر من الفلفل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 739

و غيره، فيشترون من الشام الثياب و الدرمك «و هو دقيق الحبوب» و الحبوب، و كانوا يتألفون في طريقهم و يثبتون في الخروج في كل خرجة رئيسا من رؤساء قريش، و كان معاشهم من ذلك، فلما بعث اللّه نبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استغنوا عن ذلك، لأن الناس وفدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حجوا إلى البيت «1».

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 444.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 740

107 سورة الماعون مكيّة أو مدنيّة/ آياتها (8)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على لفظة «الماعون»، و في كونها مكية أو مدنية خلاف، و على كل فهي بصدد بيان العقيدة و ما إليها، و إذ تقدم في السورة السابقة نعمة اللّه على قريش، جاءت هذه السور لتردعهم عن الكفر و العصيان. بعد إسباغ تلك النعم الجليلة عليهم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم «اللّه» ليكون سبحانه عونا لنا في مهام الحياة، و في ما بعد الممات، ذي الرحمة الشاملة التي

وسعت كل شي ء، فتعم الأشياء عامة، و المؤمنين خاصة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 741

[سورة الماعون (107): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5)

[2] أَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي بيوم القيامة. فإن «الدين» بمعنى الجزاء، أو المراد بدين الإسلام و هذا استفهام تعجبي. يعني كيف أنه يكذب مع كثرة الآيات الدالة على صحة الدين و وقوعه.

[3] فَذلِكَ الإنسان المكذب بالدين، هو الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ «الدع» هو الدفع بشدة، أي يدفع اليتيم فلا يحسن إليه، فإن التكذيب بالدين يلازم الأعمال البشعة القاسية.

[4] وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يحث الناس على إطعام الفقراء الذين أسكنهم الفقر عن الحركة و العمل، و «الحض» و إن لم يكن واجبا- في غير مورد الأمر بالمعروف و ما أشبه- إلا أن ذلك دليل القساوة و نضوب معين الفضيلة من القلب، مما لا يكون إلا من ملازمات الكفر، و قد ورد إن بعض كفار قريش كان كذلك إذا جاءه يتيم يطلب رفده طرده بقساوة، و هكذا كان بالنسبة إلى المساكين.

[5] و إذا كان «دعّ اليتيم» و «عدم الحض على طعام المساكين» موجبا للذم و التوبيخ، فمن يعمل باسم الإسلام و هو بعيد عنه كان أولى بالذم و التوبيخ، إذ المنافق أسوأ حالا من الكافر فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ

[6] الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي غافلون غير مبالين بها إذ عدم المبالاة يلازم السهو.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 742

[سورة الماعون (107): الآيات 6 الى 7]

الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ

(6) وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)

[7] الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ فإذا صلوها صلوا للرياء لا للّه سبحانه. و قال بعض: إن المعنى أنهم إن لم يكن أحد لم يصلوا، و إن كان أحد صلوها ليراؤوه.

[8] وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ و هو كل ما فيه منفعة للناس، أي يمنعون خيرهم و رفدهم- و ذلك مما يلازم عدم الإيمان الراسخ في القلب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 743

108 سورة الكوثر مكية أو مدنية/ آياتها (4)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الكوثر»، و في كونها مكية أو مدنية خلاف و هي موجهة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لعل المناسبة بين السورتين التحدث عن «الماعون» و «الكوثر»، فهم يمنعون الماعون و اللّه سبحانه يعطي الخير الكثير، أو المناسبة أنهم يسهون عن الصلاة، و يمنعون الخير، و الرسول مأمور بالصلاة و الخير.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي ما ابتدأ به شي ء إلا بورك فيه، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة و الغفران.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 744

[سورة الكوثر (108): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

[2] إِنَّا أَعْطَيْناكَ يا رسول اللّه الْكَوْثَرَ مشتق من الكثرة، بمعنى الخير الكثير. قالوا: إن السورة نزلت في العاص بن وائل السهمي، و ذلك أنه رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم و تحدث مع الرسول، و صناديد قريش جالسون، فلما أن دخل قالوا له مع من كنت تتحدث؟ قال: مع الأبتر- يعني الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-، و قد كانت قريش تسمي من لا ولد له

«أبتر» من البتر بمعنى القطع، كأنه مقطوع ليس له ولد حتى يبقى ذكره، و قد كان مات «عبد اللّه» ابن رسول اللّه من خديجة عليها السّلام، فنزلت هذه السورة «1»، و لذا كان من جملة الأقوال في معنى كوثر أن المراد بها «فاطمة» عليها السّلام التي سببت كثرة النسل للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و حيث إن «الكوثر» بمعنى الخير الكثير، و هو عام، كان شاملا للنبوة و العلم، و النسل، و حوض الكوثر في الآخرة، و غيرها من سائر المعاني التي يشملها لفظ «الكوثر» بعمومه.

[3] فَصَلِ يا رسول اللّه لِرَبِّكَ شكرا على هذه النعمة العظمى.

وَ انْحَرْ الإبل لإطعام الناس، فإن اللّه سبحانه يحب إطعام الطعام، أو المراد ارفع يديك إلى نحرك عند التكبير- كما ورد «2»- فإن في ذلك خضوعا للّه سبحانه، يلائم الشكر على نعمته بإعطائه الكوثر.

[4] إِنَّ شانِئَكَ أي مبغضك الذي ينسبك إلى «البتر» هُوَ الْأَبْتَرُ المقطوع عن الخير، الخامل الذكر، لا أنت كما نسب إليك- و هذه السورة على صغرها إحدى معاجز الرسول، و أدلة معجزية القرآن الحكيم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 203.

(2) راجع من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 303.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 745

109 سورة الكافرون مكيّة أو مدنيّة/ آياتها (7)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الكافرون»، و حيث إن «الكافرون» علم لها لا يتغير في الإعراب، كما يقال «دعاء أبو حمزة»، و في كون السورة مكية أو مدنية خلاف، و على كل فإنها تعالج قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة «الكوثر» بذكر شانئ الرسول، جاءت هذه السورة لتبين مباينة الرسول معهم في الطريقة، فلا أنه يتبعهم، و لا أنهم يتبعونه- كفرا و عنادا-.

و قد ورد إن جماعة

من قريش قالوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هلم يا محمد فلنعبد ما تعبد، و تعبد ما نعبد، فنشترك نحن و أنت في الأمر، فإن يكن الذي نحن عليه الحق فقد أخذت بحظك منه، و إن يكن الذي أنت عليه الحق فقد أخذنا بحظنا منه فنزلت السورة

«1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 746

و في حديث عن الصادق عليه السّلام أنهم قالوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تعبد إلهنا سنة و نعبد إلهك سنة، و تعبد إلهنا سنة، و نعبد إلهك سنة. فأجابهم اللّه بمثل ما قالوا- أي مكررا

«1»-.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع في السورة مصاحبا باسم اللّه ليكون شعارا للشارع، و عونا في مهمات الحياة، الرحمن الرحيم الذي يتلطف بالرحمة الخاصة على من يشاء من عباده، و رحمته العامة وسعت كل شي ء.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 253.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 747

[سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)

وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6)

[2] قُلْ يا رسول اللّه، مخاطبا للكافرين يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ النزول و إن كان خاصا لكن المراد عام لكل كافر معاند لا يتزحزح عن كفره و طغيانه.

[3] لا أَعْبُدُ أنا ما تَعْبُدُونَ أنتم من الأصنام و الأوثان، و المعنى لا أعبد في الحال ما تعبدونه الآن.

[4] وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ أي تعبدون ما أَعْبُدُ إذ عاندتم و كابرتم الحق، و هذا إخبار عن الواقع،

و إن كانوا مأمورين بالعبادة حسب الشرع و العقل.

[5] وَ لا أَنا عابِدٌ في المستقبل ما عَبَدْتُّمْ من الأصنام.

[6] وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ في المستقبل ما أَعْبُدُ أنا، و حيث إن الجملة الاسمية تدل على الدوام و الثبوت فسرنا الآيتين ب «المستقبل»، بخلاف الجملة الأولى حيث كانت فعلا و ظاهر الفعل «الحال» و عطفنا عليه الجملة الثانية سياقا.

[7] لَكُمْ دِينُكُمْ فالزموه حتى ترون جزاءه السي ء وَ لِيَ دِينِ و هذا إجمال لما فصل أولا، و الأصل «ديني» حذف ياء المتكلم للتخفيف و دلالة الكسرة عليه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 748

110 سورة النصر مدنيّة/ آياتها (4)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «النصر»، و هي كسائر السور المدنية تبين الفتح المرتبط بالنظام و الدولة، و إذ كان ختم سورة «الكافرون» ذكر الدين، جاءت هذه السورة لظهور الدين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم «اللّه» الذي هو الأول في الكون، فيبدأ باسمه في أول كل شي ء، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة خاصة و عامة لعباده المؤمنين، الذين يبدءون باسمه و يؤمنون به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 749

[سورة النصر (110): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)

[2]

لقد نزلت هذه السورة بعد حجة الوداع حين أخذت القبائل تدخل في الدين أفواجا حيث رأوا سلطان الإسلام يعم الجزيرة، فلما نزلت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعيت إليّ نفسي

«1».

قالوا: و ذلك لأنها دلت على تمام مهمة الرسول إِذا جاءَ يا رسول اللّه نَصْرُ اللَّهِ لدينه على سائر الأديان، و للمسلمين على الكفار

وَ الْفَتْحُ أي جاء فتح مكة، بأن فتحت عاصمة الوثنية و الشرك في الجزيرة، مما أخضع الجزيرة فتحها.

[3] وَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه النَّاسَ القبائل و غيرهم يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ الإسلام أَفْواجاً أي فوجا بعد فوج، و جماعة بعد جماعة.

[4] فَسَبِّحْ يا رسول اللّه بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه عن النقائص بذكر الحمد، فإن الحمد تنزيه و تحميد، لأن ذكر الجميل مدح مطابقي و تنزيه التزامي- كما سبق-، و التسبيح و التحميد إنما ذلك للشكر على النصر و الفتح وَ اسْتَغْفِرْهُ هضما للنفس، حتى لا تتعالى و تظن أن النصر إنما هو بالأتعاب، و الرسول و إن كان منزها عن ذلك، و إنما هو تعليم، بالإضافة إلى ما تقدم: من أن الأعمال الضرورية المباحة لدى الكاملين العارفين باللّه مما يعدونها ابتعادا عن ساحة قربه سبحانه، فتوجب الاستغفار إِنَّهُ سبحانه كانَ تَوَّاباً أي كثير الرجوع من «تاب» إذا رجع، بمعنى أن العبد مهما أذنب ثم تاب تاب اللّه عليه.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 750

111 سورة المسد مكية/ آياتها (6)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على لفظة «مسد»، كما أنها تسمى بسورة «أبي لهب» و هي كسائر السور المكية ترتبط بقضية العقيدة، و إذ تقدم في سورة النصر نصر اللّه للرسول جاءت هذه السورة لبيان ما كفاه سبحانه من أمر أعدائه.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحم و الفضل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 751

[سورة المسد (111): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ

(3) وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)

[2] لقد كان أبو لهب عم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جملة من يرمي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحجارة و يؤذيه، و كانت زوجته أم جميل تحمل الشوك في الليل فتنشره في طريق الرسول، حتى إذا أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخروج من منزله نغزت الأشواك رجله الكريمة، فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَ أي خسرت يداه، و هذا من جهة أن ما ارتكبه من الإثم كان بيديه، كما

قال الرسول لعروة «بارك اللّه في صفقة يمينك»

حين كان البيع بيده، و تَبَ الثاني تأكيد للأول، أي خسرت يداه و خسرت.

[3] ما أَغْنى عَنْهُ أي عن أبي لهب مالُهُ أي ما نفعه في دفع العذاب عنه وَ ما كَسَبَ أي ما عمل من الكفر و الآثام و إيذاء الرسول، و «ما» موصولة عائدها محذوف، أي ما كسبها.

[4] سَيَصْلى في الآخرة، أي يدخل النار ملازما لها ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي اشتعال و توقد، كما كان هو «أبا لهب»، باعتبار أن وجنتيه محمرتان كأنهما ملتهبتان من شدة البريق.

[5] وَ امْرَأَتُهُ أي تبت و خسرت امرأته، أعني حَمَّالَةَ الْحَطَبِ و سميت بهذا الاسم لأنها كانت تحمل الشوك كما تقدم، و نصب «حمالة» على الذم، كما قال ابن مالك:

و اقطع أو اتبع إن يكن معينا بدونها أو بعضها اقطع معلنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 752

[سورة المسد (111): آية 5]

فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

و ارفع أو انصب إن قطعت مضمرا مبتدءا أو ناصبا لن يظهرا [6] فِي جِيدِها أي جيد امرأته أم جميل، و كانت أخت «أبي سفيان» المعروف حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ

هو «الليف»، فقد كانت تعلق الحبل المشدود على الأشواك بعنقها، و يحتمل أن يكون «و امرأته» مبتدأ و «في جيدها» خبره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 753

112 سورة الإخلاص مكية أو مدنية/ آياتها (5)

و تسمى بسورة «التوحيد»، سميت ب «الإخلاص» لأن فيها إخلاص المبدأ من الشريك، و سميت ب «التوحيد» لاشتمالها على توحيد اللّه سبحانه، في قوله «اللّه أحد»، و في كونها مكية أو مدنية خلاف، و على أي حال فإنها ترتبط بقضايا العقيدة، و حيث كانت السورة السابقة مرتبطة بالرسول، جاءت هذه السورة مرتبطة بالمرسل.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له ما في السماوات و الأرض، و هو الواحد المنفرد في الكون بالألوهية، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحم و اللطف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 754

[سورة الإخلاص (112): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)

[2]

ورد إن اليهود جاؤوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألوا منه ما نسبة ربك؟

فأنزل اللّه سبحانه هذه السورة

«1» قُلْ يا رسول اللّه هُوَ ربي الذي أدعو إليه اللَّهُ أَحَدٌ لا شريك له و لا جزء.

[3] اللَّهُ الصَّمَدُ «الصمد» لغة: بمعنى السيد المقصود الذي لا يقضي أمر إلا بإذنه، يعني أنه السيد المطلق الذي بيده كل شي ء، فلا يقع أمر في الكون إلا بإذنه و أمره.

[4] لَمْ يَلِدْ أحدا، فليست الملائكة بناته- كما زعم الكفار- و لا المسيح و عزير و اليهود و النصارى أبناؤه- كما زعم أهل الكتاب- وَ لَمْ يُولَدْ من أحد، فلا أب له و لا أم.

[5] وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً خبر

كان، أي مثلا و نظيرا أَحَدٌ اسم كان، أي ليس أحد كفوه بمعنى نظيره و مثله، فهو المتفرد الذي لا شبيه له و لا نظير.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 485.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 755

113 سورة الفلق مدنيّة/ آياتها (6)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الفلق»، و السورة مدنية، و إن كانت بصدد بعض الأمور المرتبطة بالإنسان حين يصدم بمكروه، و حيث كانت سورة الإخلاص إقرارا بالإله الواحد، كانت هذه السورة استعاذة به.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحمة و اللطف على جميع الخلق ابتداء و تربية، و تكميلا للنواقص و النقائض.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 756

[سورة الفلق (113): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)

وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)

[2] قُلْ يا رسول اللّه أَعُوذُ أي أعتصم و أستجير من المكاره بِرَبِّ الْفَلَقِ «الفلق» هو الصبح، و أصله الشق، لأن الظلمة تنشق عنه.

[3] مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ أي شر كل ما خلقه اللّه سبحانه من المؤذيات، إنسانا كان أو جنا أو حيوانا أو جمادا كالسيل و العواصف.

[4] وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ أي الليل، من «الغسق» بمعنى الظلمة إِذا وَقَبَ أي إذا دخل، فإن كثيرا من الشرور يتوجه إلى الإنسان في الليل و في ظلامه، حيث العيون نائمة، و الظلام مخيم.

[5] وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ جمع «نفاثة» و هي المرأة الساحرة التي تنفث- أي تنفخ- في الشي ء الذي عقد السحر به، و «عقد» جمع عقدة، فإن الساحرة تعقد

الخيط بقصد عقد حظ أحد، أو عقده عن زوجته، ثم تنفث في تلك العقدة بسحرها و أورادها، و السحر له أثر، كما ثبت في علم النفس، و دلت على ذلك التجربة.

[6] وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ فإن الإنسان إذا حسد غيره أورثه حسده على أن يؤذيه بلسانه و يده، و لعل معنى إذا حسد: إذا ظهر حسده، و عمل بمقتضاه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 757

114 سورة الناس مدنيّة/ آياتها (7)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الناس»، و هي مدنية، و تعالج بعض الأمور المرتبطة بالإنسان، و هي نظير السورة السابقة في الاستعاذة باللّه، من بعض أقسام الشرور.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم «اللّه» الذي هو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، و هل هناك أحق بالابتداء منه، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل على العباد بالرحم و الفضل، فقد وسعت رحمته كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 758

[سورة الناس (114): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)

[2] قُلْ يا رسول اللّه أَعُوذُ أي أستجير و أعتصم من الشرور بِرَبِّ النَّاسِ خالقهم و مربيهم.

[3] مَلِكِ النَّاسِ فهو المالك المطلق لهم، لا ملك غيره و سائر الملوك إنما هم صوريون، لا حقيقة لملوكيتهم إلا الاعتبار.

[4] إِلهِ النَّاسِ الذي هو إلههم، فليست الأصنام آلهة كما يزعم الكفار، فهو «رب» و «ملك» و «إله» فتربية الناس منه، و سيدهم المالك لهم هو، و معبودهم الذي لا معبود سواه هو سبحانه.

[5] مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ أي أعوذ باللّه من شر الشي ء الذي يوسوس للإنسان، ليلقيه في الكفر و العصيان، و أصله

من «الوسوسة» و هي الصوت الخفي، فإن من يريد الإغواء من إنس أو شيطان يخفي الصوت في أذن الشخص أو صدره، حتى يضله و يلقيه في المعصية الْخَنَّاسِ من «خنس» بمعنى اختفى، و ذلك لأن من يريد الإضلال كثير الاختفاء، أما الشيطان فواضح، و أما الإنسان فإنه إذا أراد الإضلال يخفي نفسه لئلا يراه أحد فيحبط وسوسته، و تظهر مكيدته للناس فيزدرونه و يطردونه.

[6] الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أما وسوسة الشيطان في الصدر فواضح، و كونه في الصدر لأن الوسوسة في القلب و القلب في الصدر، و أما وسوسة الإنسان فيه فلأنه يلقي الكلام إلى القلب- من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 759

[سورة الناس (114): آية 6]

مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)

الأذن- و القلب في الصدر.

[7] مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ بيان للوسواس، أي الوسواس الذي هو من جنس الجن- أي الشياطين فإنهم قسم من الأجنة- أو من جنس الإنس.

وقانا اللّه جميعا من شر كل شر بمحمد و آله الطاهرين سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» و صلى اللّه على محمد و آله الطيبين الميامين.

تم على يد مؤلفه محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي سنة 1384 هجرية بكربلاء المقدسة

______________________________

(1) الصافات: 181- 183.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 761

المصادر و المراجع

1- الاحتجاج، أبو منصور، أحمد بن علي الطبرسي، نشر المرتضى- مشهد، 1403 ه. ق.

2- الاقتصاد. الشهيد السيد حسن الحسيني الشيرازي، مؤسسة الوفاء، لبنان، 1980 م.

3- الإسلام يتحدى.

4- الأمالي، الشيخ الطوسي، دار الثقافة للنشر- قم، 1414 ه. ق.

5- الأمالي، الشيخ الصدوق، المكتبة الإسلامية، 1404 ه. ق.

6- أنيس الأعلام، الشيخ محمد صادق فخر الإسلام.

7- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء،

بيروت لبنان، 1404 ه. ق.

8- بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1404 ه. ق.

9- تأويل الآيات الظاهرة، السيد شرف الدين الحسيني، مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1409 ه. ق.

10- التحصين، السيد علي بن طاوس الحلي، مؤسسة دار الكتاب- قم، 1413 ه. ق.

11- تفسير الإمام العسكري، المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام، مدرسة الإمام المهدي- قم، 1409 ه. ق.

12- تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، المطبعة العلمية- طهران،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 762

1380 ه. ق.

13- تفسير فرات الكوفي، فرات بن إبراهيم الكوفي، مؤسسة الطبع و النشر، 1410 ه. ق.

14- تفسير القمي، علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، دار الكتاب- قم، 1404 ه. ق.

15- التهذيب، الشيخ الطوسي، دار الكتب الإسلامية- طهران، 1365 ه. ش.

16- تنزيه الأنبياء، السيد المرتضى علم الهدى، دار الشريف الرضي- قم 17- ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، دار الرضي للنشر- قم، 1406 ه. ق.

18- جواهر الكلام، محمد حسن النجفي.

19- حرية الفكر، سلامة موسى 20- الخصال، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1403 ه. ق.

21- دائرة المعارف، وجدي.

22- دلائل الإمامة، محمد بن جرير الطبري، دار الذخائر للمطبوعات- قم 23- ديوان الإمام علي، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، دار نداء الإسلام للنشر- قم، 1411 ه. ق.

24- رسول اللّه في المدينة (سلسلة قادة الإسلام)، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، مطبعة الآداب، النجف الأشرف.

25- روضة الواعظين، محمد بن الحسن الفتال، دار الرضي- قم 26- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1404 ه. ق.

27- شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني، مؤسسة الطبع و النشر، 1411 ه. ق.

28- الطرائف، السيد علي بن طاوس الحلي، مطبعة الخيام- قم، 1400

ه. ق.

29- عبادات الإسلام، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة الفكر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 763

الإسلامي، لبنان بيروت، 1993 م.

30- العدالة الإسلامية، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، مطبعة الغري، النجف الأشرف، 1380 ه. ق.

31- عدة الداعي، أحمد بن فهد الحلي، دار الكتاب الإسلامي، 1407 ه. ق.

32- على حافة العالم، الاثيري 33- عوالي اللآلئ، ابن أبي جمهور الأحسائي، دار سيد الشهداء قم، 1405 ه. ق.

34- عين العبرة، أحمد بن موسى بن طاووس الحلي، دار الشهاب- قم 35- الفلسفة و الكلام 36- الفقه حول القرآن الكريم، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، لبنان، 1987 م 37- فقه القرآن، قطب الدين الراوندي، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1405 ه. ق.

38- الفقه (الموسوعة الاستدلالية)، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، لبنان، 1987 م.

39- قصص الأنبياء، قطب الدين الراوندي، مؤسسة البحوث الإسلامية- مشهد، 1409 ه. ق.

40- قصص الأنبياء، السيد نعمة اللّه الجزائري، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1404 ه. ق.

41- الكافي، ثقة الإسلام الكليني، دار الكتب الإسلامية- طهران، 1365 ه. ش.

42- كامل الزيارات، ابن قولويه القمي، دار المرتضوية- النجف الأشرف، 1356 ه. ق.

43- كنز العمال، للمتقي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 764

44- اللهوف، السيد علي بن طاووس الحلي، دار العالم (جهان)- طهران، 1348 ه. ش.

45- متشابه القرآن، ابن شهر آشوب المازندراني، دار بيدار للنشر، 1369 ه. ق.

46- مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، لبنان، 2000 م.

47- مستدرك الوسائل، المحدث النوري، مؤسسة آل البيت- قم، 1408 ه. ق.

48- المس الروحي، عبد الرزق نوفل 49- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1403 ه. ق.

50- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، دار العلوم، لبنان، 2003 م

51- مفتاح الفلاح، الشيخ البهائي، دار الأضواء- بيروت، 1405 ه. ق.

52- مناقب آل أبي طالب، محمد بن شهر آشوب المازندراني، مؤسسة العلامة للنشر، قم، 1379 ه، ش.

53- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1413 ه. ق.

54- نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، دار الهجرة للنشر- قم.

55- الهيئة و الإسلام، للعلامة الشهرستاني.

56- وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة آل البيت- قم، 1409 ه. ق.

57- الوسيلة، ابن حمزة الطوسي، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1408 ه. ق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.