الفقه البیئه

اشارة

سرشناسه : حسینی شیرازی، محمد، 1305 - 1380.

عنوان قراردادی : الفقه البیئه. عربي

عنوان و نام پديدآور : الفقه البیئه / محمد حسینی شیرازی

مشخصات نشر : قم: یاس زهرا علیها سلام ، 1387.

مشخصات ظاهری : 336 ص.

شابک : 40000 ریال : 978-964-2843-30-5

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع : محیط زیست -- جنبه های مذهبی -- اسلام

موضوع : حفاظت محیط زیست -- جنبه های مذهبی -- اسلام

موضوع : حیوانها -- جنبه های مذهبی -- اسلام

شناسه افزوده : اسلامی اردکانی ، حسین، مترجم

رده بندی کنگره : BP230/155 /ح5ف7041 1387

رده بندی دیویی : 297/483

شماره کتابشناسی ملی : 1273683

مقدمة الناشر

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

تلوّث البيئة: مشكلة العصر. التي عجز الإنسان أن يجد لها حلًّا، فهل للإسلام موقف واضح منها؟

و هل بمقدور علماء الإسلام أن يجدوا حلًّا لهذه المشكلة الإنسانية الكبرى؟

و ماذا أعدّ المسلمون من وسائل لمكافحة مرض الحضارة الذي يحمل اسم التلوّث البيئي.

هذه الأسئلة الحائرة و غيرها تجدها عزيزي القارئ في هذا الكتاب.

و هي أسئلة لن تبقى حائرة طالما أنّ الإسلام وضع لكل أمر حكما، و لكل مشكلة حلًّا، و لكل ظاهرة تفسيرا، و لكل مرض علاجا.

فطالما كان الإسلام دين البشرية الذي يواكب التقدم الحضاري و يستوعب مشكلات الحضارة، فإنه لم يهمل قضية كبرى مثل البيئة، و لم يغفل عن وضع الحلول الناجعة لمظاهرها السلبية و أمراضها العديدة.

فتلويث البيئة نوع من الاعتداء الذي حرّمه الإسلام، و نهى عنه القرآن الكريم عند ما قال «وَ تَرىٰ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسٰارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ» «1» و قال أيضا:

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 62.

الفقه، البيئة، ص: 6

وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ «1». فالعدوان حرام سواء كان على البيئة أو الدماء أو الأعراض أو الأموال؛ لأنّ

الاعتداء على البيئة عدوان على الطبيعة.

و كما أن الاعتداء على شخص ما، يسبب له الضرر، فالعدوان على الطبيعة يسبب ضررا كبيرا بل إضرارا جمة. فالاعتداء على الطبيعة سيجعل من الهواء ملوثا ساما. و سيجعل من الماء مادة سامة قاتلة. و سيجعل من المحاصيل الزراعية التي تتناولها البشرية موادا سامة، فيأكل الإنسان البرتقالة ليرتوي بها فإذا بها تحتوي على مواد سامة نفذت إليها من خلال الملوّثات.

و كما تتلوّث النباتات تتلوّث الأسماك التي تتغذى في البحار و الأنهار الملوّثة.

و كذلك تتلوّث المواشي عند ما تتغذى على مواد ملوّثة.

و اليوم أصبح الإنسان يعيش في وسط مملوء بالتلوّث هواؤه ملوّث ماؤه ملوّث طعامه ملوّث شرابه ملوّث و حتى سماوة أصبحت ملوّثة نتيجة تطاير الغازات و تفاعلاتها في المنطقة الأيونية مسببة ثقبا خطيرا في طبقة الأوزون.

فما ذا ستصنع البشرية أمام هذا الخطر الداهم؟

و ماذا يجب أن تفعل في مواجهة هذا الوحش الكاسر الذي يهاجم بلا إنذار و يفتك بلا رحمه؟

في هذا الكتاب- الذي يعدّ ابتكارا من الإمام المؤلف في حقل المسائل

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 2.

الفقه، البيئة، ص: 7

الفقهية- هناك العديد من المسائل الفقهية المتعلقة بالبيئة مع الإشارة إلى بعض الحلول للوقاية و للعلاج من مشكلة التلوّث على ضوء القرآن و الشريعة الإسلامية.

و كما عوّدنا الإمام الشيرازي في كتبه أنّه يتناول أعقد و أخطر المسائل بأبسط العبارات. فقد تناول مشكلة التلوّث من مختلف الأبعاد و سلّط الإضواء حول أسباب هذه المشكلة و كيفية التوقّي منها. و هو بذلك يسعى حثيثا لطرح الإسلام في مواجهة التحديات الحضارية التي يواجهها الإنسان في الحاضر و المستقبل.

مؤسسة الوعي الإسلامي

الفقه، البيئة، ص: 9

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين و

الصلاة و السلام على أشرف خلقه محمد و آله الطيبين الطاهرين.

فهذا الكتاب: الفقه «البيئة» ذكرت فيه مجموعة من المسائل التي تتعلق بموضوع «البيئة» في المنظار الشرعي و العلمي أشرنا إليها بإيجاز لتكون إلماعا إلى هذا الجانب المهم، عسى أن تكون مقدمة لكتابات أشمل في هذا المضمار- و اللّه المسؤول- أن يقرنه برضاه و يتقبله بقبول حسن و يجعله مقدمة لإنقاذ البشرية من التلوث. و اللّه الموفق و هو المستعان.

قم المقدّسة محمد الشيرازي

الفقه، البيئة، ص: 11

المدخل البيئة و أثرها في الإنسان

بسم اللّه الرحمن الرحيم البيئة: كلمة عربية مصدرها بوء، و منه باء يبوء، و بوّء بتضعيف الواو من باب التفعيل بمعنى سدّد، و لذا يقولون بوّء الرّمح أي: سدده نحو هدفه و قابله به. و يقال: تبوّأ بمعنى نزل و أقام، و هو فعل لازم، و يتعدّى بحرف الجرّ، فيقال تصرّف في المال. هذا هو الأصل، و استعمل في القرآن الكريم و اللغة العربية متعديا، قال سبحانه أَنْ تَبَوَّءٰا لِقَوْمِكُمٰا بِمِصْرَ بُيُوتاً «1» أي:

اتخذوا بيوتا.

و قد يستعمل بباب الإفعال من أباءه منزلا، أي: هيّئ له و أنزله فيه.

قال سبحانه وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّٰارَ وَ الْإِيمٰانَ. «2» أي: الذين سكنوا في المدينة و استقرّت قلوبهم على الإيمان باللّه. فالدار منزل مادي و الإيمان منزل معنوي. و في القرآن الحكيم وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «3» أي: نجعل مكانهم غرفا في الجنّة.

و قد استعمل متعديا في جملة من الأحاديث، فعن النبي الأكرم «صلّى اللّه

______________________________

(1) سورة يونس: الآية 87.

(2) سورة الحشر: الآية 9.

(3) سورة العنكبوت: الآية 58.

الفقه، البيئة، ص: 12

عليه و آله و سلّم»: (من كذّب عليّ متعمدا فليتبوّء مقعده من النار) «1» أي:

لينزل

منزله من النار، و يهيى ء منزله في النار.

و الباءة التي. بمعنى النكاح إنّما سمّي ب «الباءة» لأنّ الرجل يتبوء أهله فتستمكنه من نفسها في حال المباضعة و لكونه محلّ أنسه، كما قال سبحانه:

هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ «2»، فإنّ هذه الكلمة تصلح بالنسبة إلى الرجل كما تصلح بالنسبة إلى المرأة، لكنّها تستعمل في الرجل نظرا للفاعلية.

و في الحديث الشريف: (من استطاع منكم الباءة فليتزوّج) «3»، و المراد بالباءة هنا: النكاح و التزويج. و استباء أهله أي: اتخذها أهلا لنفسه، كما يقال استباء المكان إذا اتخذ المكان محلا لسكناه. و كل من النزول و الحلول و المستقرّ يسمّى بذلك من باب السبب تارة و من باب المسبب تارة أخرى.

و في الغالب تستعمل البيئة بما يكون في مرمى السمع أو البصر أو الشمّ أو الذوق أو اللمس من غير فرق أن يكون ظاهرة طبيعية من صنع اللّه سبحانه و تعالى كالسماء و الأرض و البحار و الجبال و الأشجار و البراكين و ما أشبه ذلك أو من صنع الإنسان كالمدن التي فيها الدور و القصور و الأشجار و الأزهار و ما أشبه ذلك، و لذا يصح أن يقال بيئة طبيعية و مصطنعة كما يقال بيئة حضريّة و بيئة ريفية، كما يصح أن يقال باعتبار آخر بيئة اجتماعية أو بيئة اقتصادية أو بيئة سياسية أو بيئة دينية أو بيئة تربوية إلى غير ذلك من المصطلحات.

______________________________

(1) الكافي (أصول): ج 1 ص 62 ح 1.

(2) سورة البقرة: الآية 187.

(3) بحار الأنوار: ج 103 ص 220. و ورد في مكارم الأخلاق: ص 201 عن كتاب نوادر الحكمة الحديث الشريف، قال أمير المؤمنين عليه السلام: من أراد الباءة فليتزوّج.

الفقه، البيئة،

ص: 13

و الاصطلاح العلمي للبيئة: يقصد- عادة- به كل ما هو خارج عن جلد الإنسان أو الحيوان أو ما أشبه ذلك مما يرتبط بجامع المعيشة و الحياة. و قد تستعمل. بمعنى البيئة الداخلية، و هي في الإنسان و الحيوان تتمثل في السوائل المختلفة الموجودة داخل أجسامها.

و هكذا يقال بيئة النباتات لأنّ النبات أيضا له خارج و له داخل، فالخارج واضح، و أمّا الداخل فيضم السوائل و الغازات الموجودة في الأوعية و الأنسجة المختلفة.

و البيئة بالمعنى العام عبارة عن مجموعة الظروف و المؤثرات الخارجية و الداخلية، فالبيئة المحيطة بأي كائن من إنسان أو حيوان أو نبات تشمل الظروف السلبية و تشمل الآثار الطبيعية و الكيماوية و الصحراوية و البحرية و الجوية و النباتية و الاجتماعية «1». و هي- أي الظروف و المؤثرات- مترابطة

______________________________

(1) تعدّدت التعريفات التي تناولت مفهوم البيئة، و قد ذكر الدكتور ممدوح حامد عطيّة في كتابه إنّهم يقتلون البيئة ص 17- 18، عدّة تعريفات: 1- مجموعة العوامل البيولوجيّة و الكيماوية و الطبيعيّة و الجغرافيّة و المناخية المحيطة بالإنسان و المحيطة بالمساحة التي يقطنها و التي تحدّد نشاط الإنسان و اتّحاهاته و تؤثّر في سلوكه و نظام حياته. 2- المجال الذي يحيط بالبشر بما يكفل لهم الحياة و طيب العيش، بما يحويه من الموارد المائيّة و الثروات المعدنيّة و البتروليّة و موادّ البناء و المصايد و الشواطى ء و الذي يكون في جملته للأفراد مسرح حياتهم أو الوطن الذي يضمّهم. 3- الأرض بما فيها من مختلف الأبعاد، و التي قدّر لها أن يعيش فيها مع غيره من كائنات و دواب و جماد.

4- الإطار الذي يحيا فيه الإنسان مع غيره من الكائنات الحيّة بما يضمه

من مكوّنات فيزيائية و كيمياوية و بيولوجية و اجتماعيّة و ثقافيّة و اقتصاديّة و سياسيّة و يحصل منها على مقومات حياته.

5- الإطار الذي يمارس فيه الإنسان حياته و كافّة أنشطته المختلفة، فهي الأرض التي نعيش عليها و الهواء الذي نتنفّسه و الماء الذي هو أصل كلّ شي ء حي بالإضافة لكلّ ما يحيط بنا من موجودات سواء كانت كائنات حيّة أو جمادا. كما ذكرت الدكتورة بدرية عبد اللّه العويض في كتاب القوانين البيئيّة في مجلس التعاون الخليجي ص 22 التعريف التالي. 6- أنّه مجموعة من النظم الطبيعيّة و الاجتماعيّة و الثقافيّة التي يعيش فيها الإنسان و الكائنات الأخرى و التي يستمدّون منها زادهم و يؤدّون فيها نشاطهم. و قد عرّف إرنست هاكيل البيئة كما عن كتاب عودة الوفاق بين الإنسان و الطبيعة للمؤلّف جان ماري بليت ص 23. 7- إنّه مجموع العلاقات الودّية أو العدائية التي تربط الحيوان أو النبات ببيئته غير العضويّة أو العضويّة بما في ذلك سائر الكائنات الحيّة.

الفقه، البيئة، ص: 14

بعضها بالبعض الآخر، و هي متفاعلة بعضها في بعض الآخر تأثيرا و تأثّرا، بمعنى أنه إذا حدث تغيّر في أحد منها فسيتبعه تغيير في بعض النظم الأخرى على شكل سلسلة تفاعلات بحسب القوانين و العلاقات التي جعلها اللّه سبحانه و تعالى في الكون، فإذا أصبح الهواء باردا فوق الحد الطبيعي ازدادت الأمراض، و إذا كثرت الأشجار و اتسعت مساحات المياه انخفضت درجة الحرارة.

فالبيئة إذن هي وحدة متكاملة تتجمّع فيها الكثير من العلوم التي اكتشفها الإنسان من سياسة و اجتماع و اقتصاد و غير ذلك، و كما سبقت الإشارة إليه، فالبيئة- بالمعنى الأعم- تشمل البيئة الوراثية و البيئة الاجتماعية و البيئة الثقافية و

البيئة الاقتصادية و البيئة الطبيعية و غير ذلك.

و يمكن القول أن بيئة الجنين داخل الرحم، لأنه الجزء المؤثر فيه. أما الجزء الخارج من الرحم كالهواء الخارجي و الماء، فلا تأثير مباشر له على الجنين فلا يعتبر بيئة له، اللهم إلّا إذا أخذنا العوامل غير المباشرة المؤثرة في الجنين.

و على سبيل المثال: فقر الوالدين و سوء التغذية يسبّب هزالا و ضعفا عند المرأة و بالتالي يتسبب في ضعف الجنين، و عند ما تكون المرأة مدمنة على التدخين يؤثر ذلك على جنينها، و هكذا لو أصيبت المرأة الحامل ببعض الأمراض، فإنها ذات تأثير مباشر على جنينها كالحصبة التي لو أصابت الأم الحامل سببت تشوها في الجنين، كذلك المخدرات و المسكرات تسبب تشوها

الفقه، البيئة، ص: 15

في الجنين و نقصا في قدراته العقلية «1».

فالبيئة الرئيسية للجنين هي الرحم، و هو يتأثر بالبيئة الخارجية، و عند ما يأتي إلى عالم الدنيا تبدأ رحلته الطويلة مع البيئة الجديدة. البيئة الخارجية التي يشترك فيها مع جميع أبناء جنسه.

و يبدأ الجنين من لحظة ولادته تفاعله المباشر مع البيئة الجديدة، و من خلال هذا التعامل تتشكل إلى حدّ ما شخصيته السيكولوجية و يتعين مسلكه و اتجاهه و مجموعة القيم و المثل التي يؤمن بها أو التي لا يعتقد بها.

فالبيئة الاجتماعية هي مما تشكل شخصية الإنسان، فإذا كانت هذه البيئة بيئة إيمانية ينشأ الطفل على الإيمان، و إذا كانت بيئة منحرفة ينشأ الطفل نشأة منحرفة.

و طبعا حضن الأم هو الأساس في البيئة الاجتماعية، فإذا كانت الأم مؤمنة فإنها تربي الطفل على الإيمان، و العكس صحيح أيضا، و قد قال رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»: (الجنة تحت أقدام الأمهات) و

(إياكم و خضراء الدمن) «2». و خضراء الدمن كما فسرها رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم» المرأة الحسناء في منبت السوء.

و البيئة الوراثية تؤثر على الولد بالإضافة إلى تأثيرها في نفس الأم في أخلاقها و في آدابها و أعمالها و التزاماتها و غير ذلك.

هذا بالإضافة إلى أن المرأة الجميلة- مثلا إذا كانت غير ملتزمة-

______________________________

(1) و هكذا بالنسبة إلى استخدام بعض العقاقير الطبية أو الحقن للمرأة الحامل فإن ذلك يسبب تشوها للجنين.

(2) معاني الأخبار: ص 91. مكارم الأخلاق: ص 203. و الدمن جمع دمنة و هي المزبلة، و منبت السوء هو العهر و ما شابه.

الفقه، البيئة، ص: 16

سيكون جمالها وبالا على زوجها، فكيف سيكون حال أولادها و أسرتها.

فالريح تنقل الروائح العطرة عند ما تمرّ على غابة زهور، و هي تنقل أيضا الروائح النتنة عند ما تمر على المزبلة.

و المشكلات الاجتماعية و الاقتصادية لها تأثير كبير في البعد التربوي للأطفال، و قد تؤدي إلى تخلّف عقلي و انحراف نفسي يصيب الأطفال و هم لا ذنب لهم إلّا أنهم ولدوا في أسره متهاوية و منحرفة أخلاقيا و عقيديّا.

و لذا قال رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»: (إذا جاءكم من ترضون خلقه و دينه فزوّجوه و أن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد كبير) «1»، و هذا خطاب يشمل الرجل و المرأة على حدّ سواء.

فالبيئة تشمل البيئة الوراثية أيضا، فإنّ الولد يخرج من رحم أمه و هو يحمل في ثناياه خصوصيات الوراثة المطبوعة في كل خلية من خلايا جسمه التي تتجاوز قدرة الإحصاء، و تسمى الجسيمات الصغيرة التي تحمل الصفات الوراثية «الجينات» و هي التي تحدد صفاته الجسمية مثل العين

و لون الجسم و الطول و فصيلة الدم و نسبة الذكاء، و كذلك استعداده للإصابة بمختلف الأمراض و العوارض المتعلقة بالنفس كالانفصام في الشخصية، و كذلك الصراع النفسي و العقلي و التبلّد الذهني كما و يشمل سائر الأمور المرتبطة بالخلقة.

و قد جاء الإسلام ليؤكد على هذه الخصوصيات، حتى ورد في الروايات خصوصيات بعض الأطعمة التي تتناولها الأم الحامل و آثار ذلك على

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 100 ص 373 ح 9 ب 21. و في حديث آخر عن الرسول «صلّى اللّه عليه و آله و سلم»: (إذا آتاكم من ترضون دينه و أمانته، فزوجوه، فإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد كبير). بحار الأنوار: ج 100 ص 374 ح 15 ب 21.

الفقه، البيئة، ص: 17

جنينها.

و قد نظم الشاعر- الأعسم- مضمون الرواية في الشعر قائلًا:

و في السفرجل الحديث قد ورد تأكله الحبلى فيحسن الولد

و ورد أيضا أن تناول الأب السفرجل يؤثر في جمال ولده. قال رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم»: (كلوا السفرجل و تهادوه بينكم، فإنّه يجلو البصر و ينبت المودّة في القلب، و أطعموه حبالاكم، فإنّه يحسّن أولادكم) «1».

و ورد عن الإمام الرضا عليه السلام: (من أكل السفرجل على الريق، طاب ماؤه و حسن وجهه) «2».

و عن الإمام الصادق عليه السلام: إنّه نظر إلى غلام جميل، فقال: (ينبغي أن يكون أبو هذا أكل سفر جلا ليلة الجماع) «3».

و كذا وردت روايات في الألبان فقد ورد عن الرسول «صلى اللّه عليه و آله و سلم»: (أطعموا نسائكم الحوامل اللبان، فإنّه يزيد في عقل الصبي) «4».

و عن الإمام الرضا عليه السلام قال: (أطعموا حبالاكم اللبان، فإن يكن في بطنهنّ

غلام، خرج ذكي القلب، عالما شجاعا، و إن يكن جارية حسن خلقها و خلقها، و عظمت عجيزتها، و حظيت عند زوجها) «5».

______________________________

(1) مكارم الأخلاق: ص 171- 172.

(2) مكارم الأخلاق: ص 172.

(3) مكارم الأخلاق: ص 172.

(4) مكارم الأخلاق: ص 194.

(5) مكارم الأخلاق: ص 194.

الفقه، البيئة، ص: 18

و للبيئة الثقافية تأثير في تنشئة الولد، و قد ذكر علماء النفس تأثير الثقافة على الجنين، فكيف بالوليد «1».

و نقصد بالبيئة الثقافية المعرفة و العقائد و العلم و القانون و الأخلاق و العرف و العادة و ما أشبه ذلك. بل ذكر جماعة من العلماء أن التفوّق العلمي و الفكري هما من نتائج البيئة الثقافية- بنحو المقتضي.

و للبيئة الطبيعية أثر كبير على حياة الإنسان، فمن كان يعيش بعيدا عن الشمس في طرف الشمال أو الجنوب- مثلا- حيث يبرد الهواء هناك ليصل إلى ما يقارب الثلاثين تحت الصفر أو أكثر، نلاحظ أثر ذلك في أمزجتهم الباردة و أخلاقهم عادة، و نوعا ما في أبدانهم. فعظمت أبدانهم و ابيضت ألوانهم و انسدلت شعورهم. أما من كان قريبا من خط معدّل النهار و من خط الاستواء فإن أمزجتهم تصبح حارة و بشرتهم مائلة إلى السواد، لكثرة تعرضهم لأشعة الشمس و ربّما تغلظ شعورهم و مشاعرهم ليغلب عليها حدّة الطبع في الجملة، و هناك أمثلة كثيرة على أثر البيئة الطبيعية على البشرية.

و الحاصل أن البيئة الثقافية و الطبيعية مؤثرتان في كل شي ء من الإنسان، كما أن البيئة المناخية لها تأثيرها الكبير في شخصية الإنسان و طبيعته التكوينية، فيسهم المناخ بدور كبير في قدرات الإنسان على الحركة و العمل.

و من الواضح أنّ العناصر المناخية التي تؤثر في جسم الإنسان عبارة عن الحرارة و الرطوبة و

اليبوسة و البرودة و الرياح و الإشعاع الشمسي، و كون ذلك قريبا من سواحل البحر أو بعيدا عنه، أو قريبا من الجبل أو بعيدا عنه و غير ذلك، لذا يشاهد في المناخات الحارة أن الجبال المحيطة بذلك المناخ تصبح

______________________________

(1) و في قبال هذا الرأي هناك من يعتقد أن انطباعات الإنسان الثقافية تبدأ من السنة الثانية و تتكامل في السنة الثامنة من عمره.

الفقه، البيئة، ص: 19

باردة حتى أن أهل المناخات الحارة يصطافون حول الجبال و فوقها لابتعادها عن جوّ الأرض الحار بسبب سقوط أشعة الشمس.

ثم لا يخفى أن الإنسان يتأثر كذلك بالبيئات المعنوية التي لا طريق لنا إليها إلّا بسبب ما ورد عن الأئمة المعصومين «عليهم السّلام» من ذكر أوقات معينة لإجراء عقد النكاح و أوقات خاصة للجماع من حرّ و برد، و كراهة وجود ولد و لو صغير في غرفة النوم، و كراهة إجراء العقد في زمن يكون فيه القمر في العقرب؛ و استحباب أن يسمي الرجل و كذلك المرأة أثناء الجماع إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة المذكورة في أبواب الفقه على نحو الوجوب أو التحريم أو الاستحباب أو الكراهة «1»، و قد ورد في تفسير قوله سبحانه و تعالى وَ شٰارِكْهُمْ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلٰادِ «2» عند ما لا يسمي الأبوان أثناء الجماع فإن الشيطان سيشترك معهما في تكوين الولد.

______________________________

(1) و قد أسهب الإمام المؤلف «دام ظله» في الحديث عن هذه الأمور في موسوعته الفقهيّة، الفقه:

النكاح و الفقه الواجبات و المحرمات و الفقه المستحبات و المكروهات. و الفقه: الآداب و السنن.

(2) سورة الإسراء: الآية 64.

الفقه، البيئة، ص: 20

الإسلام و البيئة

مسألة: لقد بين الإسلام أحكام البيئة سلبا و إيجابا، وجوبا و حرمة،

ندبا و كراهة، تكليفا و وضعا- فمثلا- في الجانب السلبي قال سبحانه وَ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلٰاحِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1»، فالإفساد مطلقا حرام في الشريعة الإسلامية، لكن بعد الإصلاح يصبح أشدّ حرمة.

و في الجانب الإيجابي قال سبحانه قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ «2»، حيث أن المسافر هنا و هناك عند ما يرى كيفية بدء الخلق في النباتات و الحيوانات و الإنسان، بل و في غير هذه الموارد الثلاثة «3»، فإنه سيكتشف أمورا كثيرة و كثيرة عند تجواله في البلاد، و قد قال أمير المؤمنين عليه السلام، في الديوان المنسوب إليه:

تغرّب عن الأوطان في طلب العلى و سافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرّج همّ و اكتساب معيشة و علم و آداب و صحبة ماجد

فإن قيل في الأسفار ذلّ و محنة و قطع الفيافي و ارتكاب الشّدائد

______________________________

(1) سورة الأعراف: الآية 85.

(2) سورة العنكبوت: الآية 20.

(3) كالجبال السامقة و البحار المتلاطمة و الأحجار و الصخور بأنواعها و جماليتها.

الفقه، البيئة، ص: 21

فموت الفتى خير له من قيامه بدار هوان بين واش و حاسد «1»

و قال سبحانه و تعالى: «قُلِ انْظُرُوا مٰا ذٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ» «2».

فالإنسان عند ما ينظر إلى السماوات و الأرض يرى الكون العجيب و البيئة المتكاملة في زمانها و مكانها و سائر خصوصياتها، كما قال سبحانه مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ «3»، و إنّ الإنسان الناظر المتأمّل يرى وحدة خالق البيئة و منظّم شئونها، كما يستكشف ترابطاتها و تفاعلاتها و مدى وثاقة تجانسها و تكاملها كما قال سبحانه الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرٰاشاً وَ السَّمٰاءَ بِنٰاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ

مِنَ الثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلٰا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «4». أقول: أي أنتم تعلمون أنه لا أولاد للّه و لا أنداد له بل هو الخالق و المكوّن و المدبّر دون غيره، أمّا أنّه هناك إله للشمس و إله للقمر و إله للحر و إله للبرد و إله للبحر و إله للنبات و ما أشبه ذلك، أو أن هناك إلهان اثنان إله للنور و إله للظلمة كما يدعي البعض أو نحو ذلك، فكلها باطلة و يرفضها العقل و البرهان و الفطرة و الوجدان.

قال سبحانه و تعالى أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمٰاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنٰاهٰا وَ زَيَّنّٰاهٰا وَ مٰا لَهٰا مِنْ فُرُوجٍ. وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَ ذِكْرىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ. وَ نَزَّلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً مُبٰارَكاً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ. وَ النَّخْلَ بٰاسِقٰاتٍ لَهٰا طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبٰادِ وَ أَحْيَيْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذٰلِكَ الْخُرُوجُ

______________________________

(1) ديوان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: ص 181.

(2) سورة يونس: الآية 101.

(3) سورة الحجر: الآية 19.

(4) سورة البقرة: الآية 22.

الفقه، البيئة، ص: 22

«1» إلا تدل هذه الآيات المنظمة بهذا النسق الرائع على المدبّر الحكيم العليم الخالق الرازق البارئ الحي المصوّر، فإنه لا يمكن أن يكون لهذا التنظيم الرائع إلّا خالق بارئ حكيم خبير عليم.

و قال في آيات أخرى وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ. وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرٰازِقِينَ. وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلّٰا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.

وَ أَرْسَلْنَا الرِّيٰاحَ لَوٰاقِحَ فَأَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ

مٰاءً فَأَسْقَيْنٰاكُمُوهُ وَ مٰا أَنْتُمْ لَهُ بِخٰازِنِينَ «2»، فإن كل شي ء يشاهد في الكون له وعاء يخزن منه ذرأته، فوعاء الإنسان هو الأرض فهي مصدره.

تلك النبتة أو قطعة اللحم التي تصبح طعاما في فم أبويه ثم تتحول إلى دم و من ثم إلى نطفة إلى أن يخلق الإنسان، و هكذا وعاء الماء البحار، و وعاء الأقوات الشمس و القمر و الرياح. و كل هذه الأوعية هي بيد اللّه تبارك و تعالى فإنزاله لها بقدر معلوم عنده سبحانه و تعالى، و القدر المقدّر هو ما يحتاجه الإنسان لتكامله و للاستمرار في حياته في هذه البيئة المتعددة الأبعاد بسبب مائها و أرضها و جبالها و بحارها و أنهارها و إنسانها و حيوانها و غير ذلك، فقال سبحانه أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمٰاءُ بَنٰاهٰا. رَفَعَ سَمْكَهٰا فَسَوّٰاهٰا.

وَ أَغْطَشَ لَيْلَهٰا وَ أَخْرَجَ ضُحٰاهٰا. وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحٰاهٰا.

أَخْرَجَ مِنْهٰا مٰاءَهٰا وَ مَرْعٰاهٰا. وَ الْجِبٰالَ أَرْسٰاهٰا. مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعٰامِكُمْ

______________________________

(1) سورة ق: الآية 6- 11.

(2) سورة الحجر: الآية 19- 22.

الفقه، البيئة، ص: 23

«1»، فالبيئة لها سقف هي السماء و لها قاع أيضا هي الأرض و سائر ما يتكوّن منهما من الماء و المرعى بليلها و نهارها هي التي تكوّن هذه المجموعة المختلفة الأبعاد حتى يعيش الإنسان فيها عيشا هنيئا في كل حاجاته.

قال سبحانه فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ إِلىٰ طَعٰامِهِ. أَنّٰا صَبَبْنَا الْمٰاءَ صَبًّا.

ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا حَبًّا. وَ عِنَباً وَ قَضْباً. وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا. وَ حَدٰائِقَ غُلْباً. وَ فٰاكِهَةً وَ أَبًّا. مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعٰامِكُمْ «2»، و كل ما ذكر في هذه الآية من باب الأمثلة لا من باب الاستيعاب.

و في آية أخرى قال سبحانه خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ

بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا وَ أَلْقىٰ فِي الْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دٰابَّةٍ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ «3» و من المحتمل في ضمير «ها» في جملة بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا* أنه عائد إلى السماوات أي السماوات لا عمد لها. و يحتمل رجوع الضمير إلى العمد حيث لا يشاهد العمد مثل الجاذبية و نحو ذلك و إن كانت موجودة، و بثّ فيها من كل دابة فقد أحصى بعض العلماء الدواب- كما قرأت في أحد المصادر- فقال أنها تقارب الثلاثين مليون صنف، و لكل صنف خصوصياته و إبعاده الجسمية و النفسية، لمشربه و مأكله و سكنه و البيئة التي يتحرك فيها و ما إلى ذلك، و قد تتناوب هذه الحيوانات في تناول الطعام فتأكل في يوم و تمسك في اليوم الآخر و هكذا و هلم جرّا.

و قرأت في أحد المصادر أن بعض أنواع الحيّة بإمكانها أن تعيش سبع

______________________________

(1) سورة النازعات: الآية 27- 33.

(2) سورة عبس: الآية 24- 32.

(3) سورة لقمان: الآية 10.

الفقه، البيئة، ص: 24

سنوات بلا أكل، و ربما استرزقت من تفاعلات الهواء و الماء طعاما لم يكتشفه الإنسان لحدّ اليوم.

قال سبحانه إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ «1»، فقد قدّر له طولا و عرضا و عمقا و قدّر له حدّا معيّنا في النفس و الروح و الجسم، و مثل حال الإنسان في ذلك حال الحيوان و النبات أيضا، و ان لم يكتشف الإنسان الكثير من ذلك حيث لم يستطع أن يكتشف المقادير الصغيرة المتناهية في الصغر إلّا بعد أن اكتشف المجهر فقد لاحظ وجود أقسام متعددة من الحيوانات في التراب، و إن قسما واحدا من

هذه الحيوانات يكون منها مائتا مليون، و مع ذلك فان ما خفي أعظم و أكثر.

و قال سبحانه قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً «2»، و قال سبحانه:

وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً «3» و من مصاديق «كل شي ء» البيئة بالمعنى المصطلح حيث كان الخلق بمقدار لحكمة ما.

و هكذا وجدنا أن كل بيئة تتواجد منها عناصر خيّرة و عناصر غير خيّرة و المراد ما اصطلح عليه الحكماء من الشر بالقياس و كلّها من صنع حكيم عليم، و اللّه سبحانه و تعالى أمر بالمحافظة عليها، حيث قال سبحانه بالنسبة إلى الظالمين وَ إِذٰا تَوَلّٰى سَعىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهٰا وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ الْفَسٰادَ «4»، فهلاك الحرث و النسل حرام في شريعة اللّه سواء من قبل تكونه و نموّه أو بعد تكونه. و هذا مما يعدّ دليلا على وجوب حفظ النباتات

______________________________

(1) سورة القمر: الآية 49.

(2) سورة الطلاق: الآية 3.

(3) سورة الفرقان: الآية 2.

(4) سورة البقرة: الآية 205.

الفقه، البيئة، ص: 25

و الحيوانات النادرة.

و استنادا لهذه الحقيقة فإن الإجهاض محرم و لو للنطفة المستقرّة، و قد ورد بذلك روايات لسنا بصدد ذكرها الآن «1»؛ و قد قدّر اللّه تبارك و تعالى للنطفة أن تكون صغيرة و بالملايين، حيث عدّها العلماء مائة مليون حيوان منوي في كل دفعة.

لماذا هذا العدد الهائل من الحيوانات المنوية؟

فذلك التقدير لا يعلمه إلّا الخبير العليم.

و من المحتمل أن الحيوانات المنوية الكثيرة هذه، ذات آثار تكوينية في هذه الدنيا أو أنها ستكون شعبا و جندا له يوم القيامة، عند ما يرزقه اللّه الجنة.

إذ ورد أن كل إنسان يكون في الجنة ملكا و له شعب و يحتمل كون شعبه من

الملائكة أو الولدان و الحور أو غير ذلك.

لا يقال: فما ذا عن النار؟

لأنه يقال: لعلّ ذلك من باب اضطراد القانون العام، فكما تأتي قاعدة «اضطراد القانون العام» و جري السنة في التشريعات كذلك يكون في التكوينات. و قد ذكرنا في كتاب «التفسير الموضوعي» «2» أن اضطراد القانون العام يكون في التكوينات من باب استفادة كليّات العلوم، و إلّا لم يتمكّن الإنسان من هذه الاستفادة إذا كانت الأشياء التي بصورة واحدة، مختلفة في الإيجاب و السلب. كما أن ذلك هو سبب اضطراد القانون العام في التشريعات، كما أشرنا إلى ذلك في قول الإمام علي عليه السلام، بالنسبة إلى غسل رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» بعد استشهاده.

______________________________

(1) للمزيد راجع موسوعة الفقه كتاب النكاح للإمام المؤلف «دام ظله».

(2) و هو كتاب خطي لم يطبع بعد.

الفقه، البيئة، ص: 26

الإضرار بالغير

اشارة

مسألة: لا يجوز الإضرار بالغير مطلقا و لو كان ضررا قليلا، كما لا يجوز الإضرار بالنفس إذا كان ضررا كثيرا- مثل- أن يقلع عينيه أو يسمل أذنه أو يجذم أنفه أو يقطع يده أو رجله أو ما أشبه ذلك، أو يشلّ قوة من قواه، كأن يذهب بنور بصره أو قوة رحم المرأة فلا تستطيع الأنجاب مطلقا أو ما أشبه ذلك. و الأدلة الأربعة دالة على ذلك.

فمن الكتاب آيات، و من السنة روايات، بالإضافة إلى أنه من أوليات العقل و العقلاء، كما أن الإجماع القولي و الإجماع العملي و بناء العقلاء و بناء المتشرّعة و ارتكازهم على ذلك «1».

______________________________

(1) فالعقل يحكم بعدم وجوب التحمّل للضرر و عدم جواز إضرار الغير. و الإجماع القولي ادعى ضرورته العديد من الفقهاء في كتبهم كالجواهر و المستند و مفتاح الكرامة.

و الإجماع العملي مسلّم الحدس من خلال عمل العلماء و بنائهم في معاشراتهم و فتاواهم و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر. و بناء العقلاء في أمورهم المعاشيّة التي تهمّهم لأنفسهم و لأهل حزانتهم، فإنّهم يتجنّبون الضرر و الإضرار، و يخصّصون بهما الأدلّة الإلزاميّة العقلائيّة بحيث يكون ذلك من مصاديق التنجيز و الاعذار بلا إشكال عندهم. و بناء العقلاء هذا اتصل بعهد المعصومين «عليهم أفضل الصلاة و السلام» و إمضائهم السكوتي له، الكاشف عن موافقتهم له، بحيث لو كان خلاف له لبان. و بناء المتشرّعة على تخصيص الأدلّة للأحكام الإلزاميّة بعدم الضرر و الإضرار، و هو بنفسه طريق عقلائي لكشف الأحكام الشرعية. و ارتكاز المتشرّعة ثابت على تخصيص الأدلّة بعدم الضرر و الإضرار، و هو طريق عقلائي لكشف الأحكام الشرعيّة.

الفقه، البيئة، ص: 27

أدلة الكتاب

فمن الكتاب قوله سبحانه وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لٰا تَتَّخِذُوا آيٰاتِ اللّٰهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ مٰا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتٰابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ «1»، و قد ورد في التفاسير أن الرجل كان يطلّق زوجته إذا صار بينهما خلاف و يصبر عليها حتى يقترب تمام عدتها فيراجعها لا عن رغبة فيها و إرادة اتخاذها زوجة له و إنما ليطوّل عليها العدة انتقاما منها، و قد اعتبر اللّه سبحانه ذلك ضررا. ففي الخبر عن الصادق عليه السلام قال: (لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته ثم يراجعها و ليس له فيها حاجة ثم يطلقها فهذا الضرار الذي نهى اللّه

عنه) «2».

و قال سبحانه في آية أخرى وَ الْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلٰادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضٰاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لٰا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّٰا وُسْعَهٰا لٰا تُضَارَّ وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لٰا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوٰارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرٰادٰا فِصٰالًا عَنْ تَرٰاضٍ مِنْهُمٰا وَ تَشٰاوُرٍ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلٰادَكُمْ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِذٰا سَلَّمْتُمْ مٰا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

______________________________

(1) سورة البقرة: الآية 231. و وجه الاستدلال إنّ النهي بالإمساك غير المعروف ظهر من الظهور العرفي و هو حجّة شرعا.

(2) تفسير نور الثقلين: ج 1 ح 226 في تفسير سورة البقرة.

الفقه، البيئة، ص: 28

«1»، و الآية تدل على أنه لا يجوز للوالد إضرار الوالدة بإعطائها مالا أقل، و لا يجوز للوالدة إضرار الوالد بأخذ الأكثر من غير فرق بين أن يكون الولد حملا أو فصيلا.

و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: (إذا طلّق الرجل المرأة و هي حبلى أنفق عليها حتى تضع حملها فإذا وضعته أعطاها أجرها، و لا يضارّها، إلّا أن يجد من هو أرخص أجرا منها فإن رضيت هي بذلك الأجر، فهي أحق بابنها حتى تفطمه) «2».

و من نافلة القول فرض المسألة في زجاجة الحليب فإنه ربما يشبه إلى حدّ ما حال المرضعة الأخرى، فلو كلّفت الأم دينارا و كانت زجاجة الحليب بنصف دينار، فللأب الحق في أن يأخذه لإعطائه زجاجة الحليب «3» إلّا إذا كان محذور آخر.

و من الآيات قوله سبحانه وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ. «4»، و الظاهر أن الآية تشمل كل أنواع الضرر

بالنسبة إلى

______________________________

(1) سورة البقرة: الآية 233. بمعنى الزوجة تمتنع من وطئ الزوج لها خوفا على رضيعها الذي بيدها و بالعكس و وجه الاستدلال إنّ جملة (لا تضار.) يستشعر منها العلية فتعم.

(2) تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 227 في تفسير سورة البقرة.

(3) و لا يخفى أن هذا لا يعني تساوي الحليب الصناعي مع حليب الأم، فإن الاختلاف في المحتوى من الأمور البديهية من حيث الفيتامينات و الدهون و ما شابه ذلك إضافة إلى الأمور النفسية التي ذكرها علماء الطب.

(4) سورة البقرة: الآية 282. و إنّ كلمة (يضار) أصلها يضار بكسر الراء الأولى و إن كانت تفتح عند الإدغام، فيكون النهي للكاتب و الشاهد غير المضارة. و قيل يضارر بفتح الراء فيكون معناه لا يكلّف الكاتب الكتابة في حال عذر لا يتفرّغ إليها، و لا يضيق الأمر على الشاهد بأن يدعى إلى إثبات الشهادة و إقامتها في حال عذر.

الفقه، البيئة، ص: 29

الكاتب و الشهيد، كأن يكره كاتب على الكتابة و يعطى أجرا قليلا على عمله، أو أن يكتب الكاتب ما لم يمل عليه و يشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه، أو بأن يمتنع عن إقامة الشهادة أو ما أشبه ذلك. و التفسير كفيل في تفصيل ذلك.

و من الآيات قوله سبحانه مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصىٰ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ «1»، و الظاهر شمول الآية لكل أنواع الضرر سواء كان في شئون الحياة أو في أمور الممات، بمعنى لا يضار بعض الورثة بعضا، و لا يضار المورث بالورثة، و لا يضار الورثة بالميت في دينه و ما أشبه ذلك.

و في «مجمع البيان» إن الضرر في الوصية من الكبائر «2»، و في حديث مروي عن الإمام

علي عليه السلام أنه قال: (ما أبالي أضررت بولدي أو سرقتهم ذلك المال) «3». و في حديث آخر: (من أوصى و لم يحف و لم يضارّ كان كمن تصدّق به في حياته) «4».

و من الآيات قوله سبحانه لٰا يَسْتَوِي الْقٰاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. «5»، قال الطبرسي «رضوان اللّه عليه» في تفسيره: نزلت الآية في كعب بن مالك من بني سلمة و مرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف و هلال بن أمية من بني واقف تخلفوا عن رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»

______________________________

(1) سورة النساء: الآية 12.

(2) مجمع البيان: ج 2 ص 17- 18.

(3) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 183 ح 5418 ب 2.

(4) الكافي (فروع): ج 7 ص 62 ح 18، التهذيب: ج 9 ص 174 ح 9 ب 4.

(5) سورة النساء: الآية 95.

الفقه، البيئة، ص: 30

يوم تبوك. و عذر اللّه أولي الضرر و هو عبد اللّه بن أم مكتوم «1».

و من الآيات قوله سبحانه أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولٰاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّٰى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرىٰ «2». فعن الصادق عليه السلام قال: (لا يضار الرجل امرأته إذا طلقها فيضيّق عليها حتى تنتقل قبل أن تنقضي عدّتها، فإن اللّه قد نهى عن ذلك فقال وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) «3».

و لا يخفى أن هذه الآيات تدل على العموم إما باللفظ أو بالملاك أو بقرينة بعضها من بعض، كما ذكروا مثل ذلك في التواتر الإجمالي.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 2 ص 96.

(2)

سورة الطلاق: الآية 6.

(3) الكافي (فروع) ج 6 ص 123 ح 1.

الفقه، البيئة، ص: 31

أدلة السنة

أما الروايات التي وردت في الضرر، فهي تفوق الأربعين كما ذكر ذلك بعض أهل الخبرة، و لا فرق في جهة ما نحن بصددها بين أن تكون الرواية (لا ضرر و لا ضرار) فقط أو (لا ضرر و لا ضرار على المؤمن) أو (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام) «1». و إن كانت بعض الخصوصيات تختلف لاختلاف الألفاظ.

و الضرار مصدر باب المفاعلة بأن يضرّ هذا هذا و أن يضرّ هذا هذا- مثل- رجلان يجردان السيف على بعضهما البعض و يخرج من ذلك الجزاء حسب قوله سبحانه فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ

______________________________

(1) و قد نقل صاحب الإيضاح التواتر على هذه الروايات و هي مستفيضة، و قد بحث الفقهاء هذه الروايات في ثلاثة جهات، السند و المتن و المفردات، و قد وردت هذه الروايات بثلاث صور، فبعضها مطلّقة، و هي معظم الروايات، و بعضها مقيّدة بقيد (في الإسلام) ذكرها الفقيه ج 4 ص 243 ح 777، و التذكرة و مجمع البحرين و الوسائل في الإرث ج 17 ص 376 ح 1، و الغوالي ج 1 ص 383. و واحدة مقيّدة بقيد (على المؤمن) و هي رواية الإمام الباقر عليه السلام في قصّة سمرة بن جندب أنظر الكافي (فروع): ج 5 ص 294 ح 8، و الوسائل ج 17 ص 341 ح 3 ب 12 و كتاب قاعدة لا ضرر و لا ضرار لشيخ الشريعة الأصفهاني «قدس سره» و قد وردت هذه القاعدة من طرق العامة في سنن ابن ماجة ج 2 ص 784 ح 234 و مسند

أحمد بن حنبل ج 1 ص 313 و ج 5 ص 327. و للتفصيل عن قاعدة لا ضرر و لا ضرار نخيل القارئ إلى مراجعة كتاب بيان الأصول ج 5 قاعدة لا ضرر و لا ضرار، لآية اللّه السيد صادق الشيرازي «دام ظلّه».

الفقه، البيئة، ص: 32

«1». و عموم تلك الرواية المسلّمة بين الأصحاب يشمل المال كالخسارة المالية و العرض كهتك عرض شخصي، و البدن كالمرض و قطع اليد، و ما أشبه ذلك «2».

و في رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل عن جدار الرجل- و هو ستره بينه و بين جاره- سقط فامتنع من بنيانه؟ فقال عليه السلام: (ليس يجبر على ذلك، إلّا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدّار الأخرى بحق أو بشرط في أصل الملك، و لكن يقال لصاحب المنزل استر على نفسك في حقّك إن شئت، قيل له عليه السلام: فإن كان الجدار لم يسقط، و لكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره، لغير حاجة منه إلى هدمه؟ قال عليه السلام: لا يترك، و ذلك، إنّ رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلم» قال: «لا ضرر و لا ضرار»، و إن هدمه كلّف أن يبنيه) «3».

و في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال الراوي سألته: (ما العلّة التي من أجلها إذا طلّق الرجل امرأته و هو مريض في حال الإضرار ورثته و لم يرثها، و ما حدّ الإضرار عليه؟ فقال عليه السلام: هو الإضرار، و معنى الإضرار منعه إيّاها ميراثها منه، فألزم الميراث عقوبة) «4».

______________________________

(1) سورة البقرة: الآية 194.

(2) هذا بناءا على إنّ الضرر هو النقص في المال و العرض و البدن كما و كيفا كما

هو رأي الكفاية، و ادعى في بيان الأصول إنّ الضرر هو السوء و الضيق. أمّا الضرار، فهناك عدّة احتمالات فيه:

مصدر باب المفاعلة، مصدر للفعل المجرّد، جامد بمعنى الضرر، المجازاة على الضرر، الضرر الشديد، الإحراج و الضيّق، فعل شخصين، جزاء الفعل، إضرار الآخر من دون أن أحصل على نفع.

(3) دعائم الإسلام: ج 2 ص 504.

(4) وسائل الشيعة: ج 17 ص 534 ح 7 ب 14.

الفقه، البيئة، ص: 33

سئل الإمام العسكري عليه السلام عن: (رجل كانت له رحى على نهر قرية، و القرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر و يعطّل هذه الرحى، إله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه السلام: أن يتّقي اللّه و يعمل في ذلك بالمعروف و لا يضرّ أخاه المؤمن) «1».

و في رواية أخرى عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:

(رجل ورّث غلاما و له فيه شركاء، فأعتق لوجه اللّه نصيبه فقال عليه السلام: إذا أعتق نصيبه مضارّة و هو موسر، ضمن للورثة، و إذا أعتق لوجه اللّه كان الغلام قد أعتق من حصة من أعتق، و يتحمّلونه على قدر ما أعتق منه له و لهم، فإن كان نصفه، عمل لهم يوما و له يوما، و إن أعتق الشريك مضارا و هو معسر، فلا عتق له، لأنه أراد أن يفسد على القوم و يرجع القوم على حصصهم) «2».

و في رواية رواها الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام في جارية كانت بين اثنين، فأعتق أحدهما نصيبه قال عليه السلام: (إن كان موسرا كلّف أن يضمن و أن كان معسرا خدمت بالحصص) «3»، و هذه الرواية إنما ذكرناها لأنها شبيهة برواية محمد بن مسلم

المتقدمة و إلّا فليس فيها مورد الضرر.

و في عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، إلى الأشتر أنه قال عليه السلام: (و اعلم مع ذلك إن في كثير منهم- أي التجار و ذوي الصناعات- ضيقا فاحشا، و شحا قبيحا، و احتكارا للمنافع، و تحكما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامة، و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول اللّه «صلّى اللّه

______________________________

(1) الكافي (فروع): ج 5 ص 293 ح 5.

(2) وسائل الشيعة: ج 16 ص 38 ح 12 ب 18.

(3) وسائل الشيعة: ج 16 ص 38 ح 12 ب 18.

الفقه، البيئة، ص: 34

عليه و آله و سلّم» منع منه) «1».

و على أي حال: فالضرر المحرّم بالنسبة إلى النفس ضرر كبير و بالنسبة إلى الغير يحرم حتى و لو كان ضررا صغيرا إذا لم يكن راضيا و لم يكن مانع آخر من الشرع كما إذا كان إسرافا، مثل أن يأخذ درهما من الغير و يلقيه في البحر و هو راض، فإن ذلك محرّم كتابا و سنة و إجماعا و عقلا و سيرة على ما عرفت الإشارة إليها.

و قد ذكرنا هذا البحث بصورة موجزة في كتاب مستقل «2» أدرجناه في ضمن شرح كتاب الرسائل للشيخ الأنصاري «قدس اللّه سره» عند الكلام في هذه القاعدة «3».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 13 ص 275 ح 15339 ب 21، شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد:

ج 17 ص 83 ب 53.

(2) كتاب (رسالة في قاعدة لا ضرر).

(3) أنظر كتاب الوصائل إلى الرسائل ج 9 ص 271 إلى ص 292.

الفقه، البيئة، ص: 35

البيئة الطبيعية

مسألة: البيئة الطبيعية تشمل كل ما يحيط بالإنسان سواء كان جمادا أو نباتا أو حيوانا من بحار

و جبال و هضاب و سهول في أحوالها المختلفة من حرارة و ضغط و رياح و أمطار و غير ذلك، و هذه البيئة قرر اللّه سبحانه و تعالى لها أحكامها و أحكم صنعها كسائر ما خلق، حيث قال سبحانه صُنْعَ اللّٰهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ «1»، و كل واحد من هذه الأمور في غاية الدقة و الإتقان. و قد قال سبحانه أَ فَلٰا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَ إِلَى السَّمٰاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَ إِلَى الْجِبٰالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ «2»، و إنما ذكر الإبل لأنه مناسب للصحراء المبسوطة و السماء المرفوعة. و قال سبحانه وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً «3». و قال سبحانه إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ «4»، و القدر في الأبعاد الثلاثة و البعد الزماني و الخصوصيات المختصّة بالشي ء. و العلماء لا يزالوا متحيّرين بالأسباب الطبيعية التي تأخذ بالميزان الدقيق في الذكورة و الأنوثة حتى لا يولد الذكر فقط أو الأنثى فقط حتى لا ينقطع نسل هذا الإنسان بعد قرن مثلا و هكذا الحيوان

______________________________

(1) سورة النمل: الآية 88.

(2) سورة الغاشية: الآية 17- 20.

(3) سورة الفرقان: الآية 2.

(4) سورة القمر: الآية 49.

الفقه، البيئة، ص: 36

و النبات. كما هم متحيّرون فيما يجعل حجم الحيوان و الإنسان و النبات بهذا القدر حيث الفراشة لا تصبح عصفورة، و لا النخلة تصبح في يوم من الأيام بقدر نبات صغير، و هكذا دواليك.

و في آية أخرى قال سبحانه وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ «1»، فمفهوم التوازن البيئي من مصاديق هذه الآية المباركة، و معنى ذلك بقاء عناصر أو مكونات البيئة الطبيعية على حالها

كما خلقها اللّه سبحانه و تعالى دون تغيّر جوهري يذكر، فإذا حدث نقص في جانب أو زيادة في جانب اضطرب التوازن، و هكذا يأخذ سبحانه و تعالى بالتوازن البيئي في مقابل اللاتوزان، و من مصاديقه التلوّث و إنما التلوّث يكون بسبب الإنسان ممّا يوجد إخلالا بالتوازن و يضرّ كل شي ء، الحيوان و الإنسان و النبات.

قال سبحانه وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعٰالَمِينَ «2»، حيث يدفع بالمصلح المفسد، و في آية أخرى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتٰامىٰ قُلْ إِصْلٰاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخٰالِطُوهُمْ فَإِخْوٰانُكُمْ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «3»، و هكذا قال سبحانه مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ النّٰاسَ جَمِيعاً «4»، و قد ذكرنا في كتاب التفسير الموضوعي سبب ذلك.

______________________________

(1) سورة الحجر: الآية 19.

(2) سورة البقرة: الآية 251.

(3) سورة البقرة: الآية 220.

(4) سورة المائدة: الآية 32.

الفقه، البيئة، ص: 37

فالإنسان الذي يقتل إنسانا واحدا لماله أو دفعه عن مزاحمته عن امرأة أو منصب أو ما أشبه ذلك، لو تمثّل كل الناس في هذا الإنسان لقتلهم جميعا حتى يصل إلى هدفه فيما يهويه و يشتهيه و لعل ذلك من أسرار قوله تعالى:

فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ النّٰاسَ جَمِيعاً، و قال سبحانه كُلَّمٰا أَوْقَدُوا نٰاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّٰهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ «1»، فالآية و إن وردت في مورد خاص إلّا أنّ فيها إلماع إلى الحالة العامة الموجودة في البشرية، فالحرب توقد من جماعة على جماعة لأجل استعمار أو

استثمار أو استعلاء أو ما أشبه ذلك، لكن اللّه سبحانه و تعالى يطفئ نار الحرب بسبب أناس آخرين من غير فرق بين أن يكون كلاهما مسلما أو كافرا أو بالاختلاف، فإنه يعرف من الآية بالملاك.

و في آية أخرى يذكر وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ عٰادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهٰا قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبٰالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلٰاءَ اللّٰهِ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «2»، فمن عادة البشرية أنهم ينحتون من السهول قصورا، و ينحتون من الجبال بيوتا، و هي عادة كانت قبل عاد و بعدها و حتى يوم القيامة. فمن يسافر إلى المناطق الجبلية يجد فيها بيوتا و بساتينا و قصورا سفحيّة، فالبيوت منحوتة في داخل الجبال، و المزارع و البساتين تقام على السفح.

و قال سبحانه وَ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلٰاحِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3»، فإن الإفساد مطلقا حرام أما الإفساد بعد

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 64.

(2) سورة الأعراف: الآية 74.

(3) سورة الأعراف: الآية 85.

الفقه، البيئة، ص: 38

الإصلاح فهو أكثر حرمة كما سبق. فليس معنى ذلك جواز الإفساد دون الإصلاح سابقا.

و الحاصل أنه، باصطلاح الأصوليين، من مفهوم اللقب الذي لا مفهوم له، و لو كان له مفهوم فليس بحجة فتأمل.

و قال سبحانه ثُمَّ بَعَثْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِهٰا فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ «1» ففرعون و جماعته ظلموا بالآيات إذ لم يستفيدوا منها في تقويم حياتهم و تعديل طريقتهم و صارت عاقبة أمرهم الغرق و الهلاك حيث قال سبحانه أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نٰاراً. «2»

فمن هنا كان الغرق و من هناك كان دخولهم إلى نار جهنم.

هذا من ناحية و من

ناحية أخرى نلاحظ أن فرعون و ملأه ذهبوا بلا رجعة، و كذلك مبادئهم و دولتهم أبيدت و لم يعودوا ثانية.

و هذه مصر أصبحت قلعة للإسلام يقول شعبها لا إله إلّا اللّه محمد رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلم»، و لن تجد على أرضها من يزعم أن فرعون هو الإله الأعلى.

و في آية أخرى الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ زِدْنٰاهُمْ عَذٰاباً فَوْقَ الْعَذٰابِ بِمٰا كٰانُوا يُفْسِدُونَ «3»، فهؤلاء سيعذبون بعذابين: عذاب العقيدة و عذاب الطريقة، حيث قال سبحانه كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ.* «4».

______________________________

(1) سورة الأعراف: الآية 103.

(2) سورة نوح: الآية 25.

(3) سورة النحل: الآية 88.

(4) سورة النساء: الآية 167 و سورة النحل: الآية 88 و سورة محمد: الآية 32- 34.

الفقه، البيئة، ص: 39

و في آية أخرى وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جٰابُوا الصَّخْرَ بِالْوٰادِ. وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتٰادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلٰادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسٰادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذٰابٍ «1»، و إنما قال «سوط» لأن السوط إذا ضرب به الإنسان يشمل الأول و الآخر و الوسط. و هكذا عذاب اللّه سبحانه و تعالى يشمل الجسم كلّه ابتداء و انتهاء و في الوسط ليزداد تألما.

و قال سبحانه و تعالى ظَهَرَ الْفَسٰادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي النّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «2». فإذا فسد الناس تركهم اللّه سبحانه و تعالى و شأنهم حتى يذوقوا بعض نتائج أعمالهم، لعلّهم يرجعون و ينتبهون إلى اللّه سبحانه و تعالى.

و ظهور الفساد في البرّ سواء في الجو أو الأرض و كذلك في البحر شاهدناه في الحربين العالميتين، و كذلك في الحربين في الخليج. و الفساد المذكور لا يشمل الأمور الماديّة

فقط كالماء و الهواء و التربة و ما يتبع ذلك بل يشمل الفساد المعنوي أيضا نتيجة الطغيان و العصيان و الظلم و الانحراف.

و في آية أخرى وَ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلٰاحِهٰا وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّٰهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «3»، و باعث الدعوة إلى اللّه الخوف من جهة جزاء الفساد، و الطمع من جهة رجاء الثواب.

و في آية أخرى وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قٰالُوا إِنَّمٰا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلٰا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لٰكِنْ لٰا يَشْعُرُونَ «4» فالكثير من

______________________________

(1) سورة الفجر: الآية 9- 13.

(2) سورة الروم: الآية 41.

(3) سورة الأعراف: الآية 56.

(4) سورة البقرة: الآية 11- 12.

الفقه، البيئة، ص: 40

المنحرفين في العقيدة و السلوك يرون أنفسهم مصلحين. و قد ورد في التأريخ ما يشير إلى اعتقاد كثير من الذين شاركوا في قتل الإمام الحسين عليه السلام و ارتكبوا تلك الجريمة النكراء و ذلك الظلم و الفساد العظيم كانوا يزعمون بأنهم مصلحون، ففي الحديث: (كلّ يتقرب إلى اللّه بسفك دمه) «1»، و عند ما أراد عمر بن سعد أن يبدأ القتال نادى بأعلى صوته: «يا خيل اللّه اركبي و بالجنة أبشري»، ثم قال في نهاية المعركة: «احرقوا بيوت الظالمين». و من قبل قال فرعون لقومه عن موسى عليه السلام إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسٰادَ «2»، يعني أن موسى عليه السلام هو الذي يبدّل الدين و يظهر الفساد خلافا للواقع حيث كان فرعون هو مصدر الفساد و من كل الأبعاد.

و في آية أخرى وَ إِذِ اسْتَسْقىٰ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصٰاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتٰا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنٰاسٍ

مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّٰهِ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «3»، فقد جبلت النفوس الطاغية على الفساد و الإفساد خاصة إذا ما بلغت منصبا عاليا، كما قال سبحانه وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَى الْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأىٰ بِجٰانِبِهِ وَ إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ كٰانَ يَؤُساً «4»، فلا يأخذ بالوسط فهو في حالة غير مستوية إما إفراط أو تفريط.

و لا يخفى أن بعض المواد الملوّثة لا تختص بالإنسان تكوينا بل على

______________________________

(1) اللهوف في قتل الطفوف لابن طاوس، و في بحار الأنوار: ج 22 ص 274 و ج 44 ص 298، (كل يتقرب إلى اللّه عزّ و جل بدمه).

(2) سورة غافر: الآية 26.

(3) سورة البقرة: الآية 60.

(4) سورة الإسراء: الآية 83.

الفقه، البيئة، ص: 41

الإنسان أن يزيل الموجودة منها في الطبيعة قدر وسعه و على حسب الحاجة، إذ العالم ملي ء بالمواد السامة، التي لا دخل للنشاطات الإنسانية في تكوينها، فأبخرة البراكين «1» تحتوي على بعض مركبات الكبريت التي تسبب عدم نمو النباتات التي تغمرها هذه الأبخرة.

و هكذا من الممكن أن تفقد مياه الأنهار عنصر الأوكسجين نتيجة مرورها بالغابات المكوّنة لمادة عضوية كثيفة، و التي تصبح عند تحلّلها مماثلة- و لو إجمالا- لمخلفات الإنسان من الفضلات العضوية.

كذلك بعض الحيوانات تفرز مواد سامّة ضارة، فالكلام ليس بالنسبة إلى أن الإنسان يجب عليه أن لا يسبب التلوّث فحسب بل عليه أن يقاوم العوامل المسببة للتلوّث الضار.

مثلا، جسم الإنسان في حالته الطبيعية يحتوي على بعض المواد السامة مثل الزئبق و بعض العناصر الثقيلة الأخرى التي تراكمت في الجسم نتيجة تناول الأطعمة المختلفة و استنشاق الهواء غير النقي، و كذلك ذكر العلماء أن جسم كل إنسان مشتمل على مركبات ضارّة

من مبيدات الحشرات مثل «دي. دي. تي» و بعض المواد الصناعية الأخرى. لذا يمكننا القول أن أجسامنا تحتوي على بعض المواد الملوّثة.

______________________________

(1) تدفع البراكين عند فورانها بكميات كبيرة من الغازات المحملة بالرماد في الهواء و الحمم التي تتكون من صخور منصهرة. و تتنوع الغازات المنبعثة من فوهة البراكين، و هي عبارة عن أول أكسيد الكربون و ثاني أكسيد الكربون و الميثان و الهيدروجين و بعض الأوكسجين و بعض الغازات الحمضية كغاز أكسيد الكبريت و كبريتيد الهيدروجين و كلوريد الهيدروجين. و هناك بعض البراكين تتكون في قاع البحار كبركان استرمبولي بالبحر المتوسط و تساهم غازاته في أضعاف نمو النباتات البحرية إضافة إلى تلويث المياه.

الفقه، البيئة، ص: 42

أقسام التلوّث

مسألة: أن التلوّث قد يكون ماديا و قد يكون معنويا، فالتلوث المادي عبارة عن التلوث بأي شي ء غريب عن مكونات المادة الطبيعية سواء كان شيئين حسنين أو غير حسنين أو أحدهما حسن و الآخر غير حسن.

يقال: لوّث الماء بالطين أي: كدّره، و التاث بالدم بمعنى تلطّخ به.

أما التلوث المعنوي كما يقال: تلوث بفلان رجا منفعته أي: لاث به.

و فلان به لوثة أي: جنون، و تلوّث في الدم، أي: انه قاتل.

و في الاصطلاح الحديث يقال التلوث بمعنى إفساد مكونات البيئة من تحوّل العناصر المفيدة إلى عناصر ضارة سواء كان في الهواء أو في الماء أو في الشجر أو في الحيوان «1».

و التلوّث بهذا المعنى هو صورة من صور الفساد و الإفساد حيث ورد في

______________________________

(1) و يعرّف التلوث: أنّه تغيير في الخواص الطبيعيّة و الكيماويّة و البيولوجية المحيطة بالإنسان- هواء ماء تربة- و الذي قد يسبّب إضرارا لحياة الإنسان أو غيره من الكائنات الحيّة الأخرى أو يسبّب تلفا في

العمليّات الصناعية أو اضطرابا في الظروف المعيشية بوجه عام أو إتلاف التراث و الأصول الثقافيّة كالمباني و المنشآت الأثرية كالمتاحف.

و يعرّف التلوث البيئي: التغيير في الصفات الطبيعيّة للعناصر التي تتحكّم في البيئة التي يعيش فيها الإنسان، و أهمّها الماء و الهواء و التربة تغييرا يؤدّي إلى الإضرار بها، نتيجة الاستعمالات غير السليمة لهذه العناصر، و ذلك بإضافة مواد غريبة عنها، و قد يكون التلوّث بيولوجيا أو كيمياويا أو إشعاعيا أو بالنفايات و المخلّفات الضارّة أو بعدم النظافة.

الفقه، البيئة، ص: 43

الذكر الحكيم ظَهَرَ الْفَسٰادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي النّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا «1»، و المراد أن يذوقوا العقاب فأقام المسبّب مقام السبب.

هذا و التلوث يمكن أن يكون في أصل الشي ء نافعا ثم بزيادته يصير ضارّا مثل التلقيح و زيادة الحرارة بسبب الشمس أو البرودة بسبب نزول الثلوج أو ما أشبه ذلك.

و من التلوث: تدخّل الإنسان في قوانين البيئة التي سنها الخالق عزّ و جل، و إخلاله بتوازن عناصرها و مكوناتها بحيث تكون حينئذ ضارة للإنسان أو الحيوان أو النبات أو ما أشبه ذلك. فقد كانت للثورة الصناعية التي قامت على أساس علماني آثار مدمّرة على البيئة، حيث دمّرت مقوّمات الحياة في الهواء و الماء و التربة و الغذاء «2».

______________________________

(1) سورة الروم: الآية 41.

(2) منذ أن تحوّل صراع الإنسان مع البيئة من أجل الحياة إلى صراع من أجل الرفاهيّة، بدأت مشاكل البيئة تظهر، و قد وصفت العالمة البيولوجية أشيل كارسون، البيئة في كتابها الربيع الصامت قائلة: لأوّل مرّة في التأريخ العالمي أصبح كلّ إنسان معرّضا للمواد الكيماوية الخطرة ابتداء من فترة وجوده جنينا في بطن أمّه حتّى موته.

الفقه، البيئة، ص: 44

التلوث مشكلة عالمية

مسألة: تلوث البيئة و إن بدت في أول الأمر مشكلة إقليمية تعاني منها بعض الدول إلّا أنها تحولت إلى مشكلة عالمية و عائق من عوائق الحضارة البشرية.

فلا تمنع الرياح و أمواج المياه من السفر و التنقل عبر القارات حاملة معها أسباب التلوث فتصيب البلدان التي تمر بها كما لا يمنع الطيور التي تحمل الملوثات من الانتقال من منطقة لأخرى.

و حتى السماء الخارجية ليست بمنأى عن خطر التلوث، فقد تصاعدت الغازات لتتفاعل مع طبقة الأوزون مسببة الثقوب السماوية التي تساعد على تسرّب الأشعة فوق البنفسجية التي تسبب اضطرابا في نمو الخلية سواء كانت الخلية الإنسانية أو الحيوانية أو النباتية «1».

______________________________

(1) و لا يخفى أنّ طبيعة التلوّث تختلف في الدول الناميّة عن الدول الصناعيّة، ففي الدول النامية ناشئ من ملوّثات بيولوجية كالجراثيم و الطفيليات و الأوبئة و الحميّات و نقص الإمكانات و انتشار الأميّة، و هذا سببه فشل التنمية الاقتصادية. و في الدول الصناعيّة ناشئ من الصناعات و التكنولوجيا كالنفايات الكيماوية و الموادّ السامّة و ما أشبه. و إنّ الشخص الواحد في الدول الصناعيّة يهدر البيئة أربعة أضعاف الشخص الواحد في الدول النامية، نظرا لأنماط الاستهلاك و حجم الاحتياجات للموارد. كما إنّ الدول الصناعيّة تسعى دائما لدفن نفاياتها النووية و غيرها في أراضي البلدان النامية، ممّا أدّى إلى زيادة أعداد اللاجئين البيئيين في العالم الثالث، و قد بيّن التلفزيون البريطاني هذه القضيّة في دراما بعنوان: «الزحف» لقد ظهر نبيّ جديد في أثيوبيا يحمل رسالة بسيطة للغاية: إنّنا نجوع و نموت و لا أحد يهتمّ بنا، و هم في أوربا أغنياء، سوف نذهب إلى هناك و ندعهم يشاهدوننا و نحن نموت.

الفقه، البيئة، ص: 45

و لا تنسى البشرية

ما أحدثته حرب الخليج الثانية من تلوث في مياه البحر، و قد انتقل هذا التلوث إلى سواحل الكثير من دول المنطقة مسببا موت الكائنات البحرية.

كما لا يمكن للبشرية أن تنسى الانفجار الذي حدث في المفاعل النووي «تشرنوبيل» «1» في روسيا الذي أقضّ مضاجع الكثير من الشعوب التي تعيش

______________________________

(1) و هي قرية قريبة من مدينة بريبات حيث تبعد 3 كيلومتر عنها. و تبعد 150 كيلومتر عن مدينة كييف ثالث أكبر مدن الاتّحاد السوفياتي السابق، و يقع في هذه القرية مجمع ضخم يضم أربعة مفاعل نووية و قد وقع في هذا المجمع حادث انفجار في 14 شعبان 1406 ه «25 نيسان 1986 م»، عند ما توقّف تدفّق محلول التبريد في قلب المفاعل، و استمر الانشطار النووي داخل القضبان النووية للوقود بدون مياه لتبريدها، و اشتدّت الحرارة بسرعة حيث بلغت خمسة آلاف فهرن هايت، و مع ارتفاع درجة الحرارة تحوّلت المياه الباقية في الجهاز إلى بخار في أنابيب الضغط التي تحمل المياه. و تفاعل البخار مع كتل الجرافيت التي تحيط بأنابيب الضغط، فنتج عن ذلك غازات عالية الانفجار أدّت إلى تحطيم المباني و أشعلت الجرافيت و نسفت قلب المفاعل. و مع استمرار الانشطار النووي و سخونة وقود اليورانيوم انصهر و ارتفعت في السماء سحابة من الدخان و إلغاز و ذرّات الإشعاع. و قد خلّف الانفجار سحابة من الغبار الذرّي- البلوتونيوم و السيديوم 130 و الذي يتركز في العضلات و أشعة آلفا و أشعة كاما و التي تسبب السرطان إن لم تقتله و السترانيوم و الذي يؤثر على العظام و اليود- يزيد طولها على مائة ميل و عرضها ثلاثين ميل، و إنّ قوّة الشعاع زاد عن ألف راد-

و الراد كميّة قياسيّة من الأشعّة الممتصّة بواسطة خلايا أو مواد معيّنة- و ان الحكومة و بعد 36 ساعة من وقوع الانفجار أحضرت 11 ألف حافلة لنقل الناس و لقد رحل 135 ألف إنسان من مساحة مقدارها 35 كيلومتر مربع. و أن عدم وجود قبة لاحتواء الإشعاع عند الانفجار أدى إلى الكارثة الكبيرة. و من نتائج الانفجار موت مئات من الناس و إصابة الآلاف بسرطان الرئة، و جعل المنطقة غير صالحة للسكن و الزراعة و التربية الحيوانيّة.

و قد غسلت 60 ألف عمارة لتحملها للإشعاع، و دفن كل شي ء قرب المفاعل. هذا و هناك مفاعل نووية انفجرت في النصف الأخير من هذا القرن نشير إلى بعضها، ففي عام 1957 م شبّ حريق في مفاعل ويندسكيل في بريطانيا و ذهب ضحّيته 39 شخصا و أصيب أكثر من 200 بجروح، و في نفس العام حدث انفجار في كاسلي بالاتّحاد السوفياتي السابق في خزانات تحتوي على نفايات نووية، و في عام 1961 م حدث انفجار في مفاعل في مدينة ايداهو في أمريكا و في عام 1966 م في ثري مائل ايسلند في مدينة ديترويت، و في عام 1969 م في سويسرا، و في عام 1969 م في فرنسا، و في عام 1974 م في الاتّحاد السوفياتي السابق قرب بحر قزوين، و في عام 1975 م في أمريكا، و في عام 1979 م في ثري مائل ايسلند في أمريكا، و في عام 1979 م في تنس في أمريكا، و في عام 1983 م في بوينس آيرس في الأرجنتين، و في عام 1984 م في بومباي الهندية، و في عام 1986 م في أوكلاهوما في أمريكا.

الفقه، البيئة، ص: 46

على مسافات شاسعة

من محل الانفجار «1».

و لا غرابة أن نجد الآثار المدمرة بهذا الانفجار على البشرية حتى بعد أكثر من عشر سنوات مرت على الانفجار.

و لا يخفى أن انفجار «تشرنوبيل» كان أحد العوامل التي مهدت لسقوط الاتحاد السوفياتي سابقا ماديا و معنويا. و لا تنسى البشرية أيضا الضربات الذرية التي وجهتها أمريكا لليابان في الحرب العالمية الثانية في هيروشيما و ناكازاكي.

و لما كانت مشكلة التلوث مشكلة عالمية «2» فكان لا بد من مواجهة عالمية لهذه المشكلة، و لا بد للدول المختلفة أن تتعاون فيما بينها لتحل هذه المعضلة «3».

______________________________

(1) فقد أصاب الكثير من الدول الأوربية كفنلندا و السويد و ما أشبه و أصاب دول غرب إفريقيا و شمال آسيا، و إنّ المطر المشع الذي سقط في هذه الدول أثّر سلبا على المياه الجوفيّة.

(2) فسقوط الأمطار الحمضية و ارتفاع درجة حرارة الأرض و خطر نفاذ طبقة الأوزون و تلوّث البحار و المحيطات و التصحر و تغيير المناخ العالمي كلّها مشاكل عالميّة.

(3) و قد توجّه العالم إلى مشاكل البيئة، و عقد عدّة مؤتمرات، نذكر بعضها بإيجاز: ففي عام 1946 م عقد المؤتمر الدؤلي لتنظيم صيد الحيتان، و في عام 1954 م عقد مؤتمر دولي لمنع تلوّث البحار بالنفط، و في عام 1963 م عقد مؤتمر لحظر تجارب الأسلحة النووية في الجوّ و تحت الماء، و في عام 1968 م عقد مؤتمر للبيئة من قبل الجمعية العامّة للأممّ المتّحدة للبحث عن حلول لمشكلات التلوّث و غيرها، و في عام 1970 م عقد مؤتمر للتلوّث البحري، و في عام 1972 م عقد مؤتمر للأمم المتحدة في مدينة استكهلم و حضرته كافّة الدول، أعضاء الأمم المتّحدة آنذاك، و صدر في ختام أعماله

إعلان برقم 2997 حول البيئة الإنسانيّة، متضمّنا أوّل وثيقة دوليّة عن مبادئ العلاقات بين الدول في شئون البيئة و كيفية التعامل معها و المسؤولية عمّا يصيبها من إضرار فضلا عن خطّة للعمل الدؤلي تضمّنت 109 توصيات، تدعو الحكومات و وكالات الأمم المتّحدة و المنظّمات الدوليّة إلى التعاون في اتخاذ تدابير من أجل حماية الحياة و مواجهة مشكلات البيئة، و شكّل هذا المؤتمر بعد أربع سنوات من الاجتماعات و اللقاءات التحضيريّة، و في عام 1975 م عقدت ندوة عالميّة للتربية البيئية و البحار في بلغراد، و في عام 1978 م عقدت ندوة في مدينة تبليس في جورجيا للتعليم البيئي و التوعية البيئيّة، و في نفس العام أصدرت الجمعية العامة للأمم المتّحدة قرارا حول البيئة، و في عام 1992 م عقد مؤتمر الأمم المتّحدة للبيئة و التنمية في البرازيل عرف بقمّة الأرض و شاركت فيه 178 دولة و استغرق التحضير له عامين، و في عام 1995 م عقد المؤتمر العالمي للمناخ في برلين الألمانية. هذا و منذ أواخر الستينات و الحد الآن أنشئت أكثر من 155 وكالة أو وزارة للبيئة في دول العالم ناهيك عن ظهور الآلاف من المنظّمات البيئيّة على المستويات المحلّية.

الفقه، البيئة، ص: 47

و للإسلام موقف واضح في مثل هذه المشاكل حيث قال سبحانه:

تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ «1»، و أيضا قال رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»: (إن اللّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) «2»، و لم يخصص الحديث هوية العبد أن يكون مسلما أو مؤمنا أو ما أشبه ذلك. بل اكتفى بإطلاق لفظ «العبد» ليشمل جميع صنوف المجتمع.

و معنى ذلك ضرورة أن يتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان حتى لو كان من دين آخر لرفع الأذى و لدرء المفاسد و الأخطار حتى لو لم يكن العبد المحتاج مؤمنا أو مسلما أو موحدا بل و حتى إذا كان كافرا و محاربا للّه و لرسوله

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 2.

(2) مستدرك الوسائل: ج 12 ص 429 ب 34 ح 14526. و قال الإمام الصادق عليه السلام: (و اللّه في عون المؤمن ما كان مؤمن في عون أخيه) الكافي (أصول): ج 2 ص 200 ح 5.

الفقه، البيئة، ص: 48

في الجملة.

و قد أشرنا في بعض كتبنا إلى أن رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» أعطى الماء لأهل بدر الذين جاءوا لمحاربته، كما أن رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» أعطى الأموال لأهل مكة قبل فتحها و هم كفار محاربون «1».

و هكذا أعطى الإمام عليّ عليه السلام الماء لأهل البصرة و أعطى الإمام الحسين عليه السلام الماء لمن جاءوا لقتله، و قد نوّهت في دراسة عن الإمام الحسين عليه السلام إلى بعض أبعاد عمل الإمام الحسين عليه السلام، و إلا فالماء الذي سقى به جيش الحر- و كانوا ألف فارس و راجل- و قال لأصحابه: (اسقوا القوم ماء و رشّفوا الخيل ترشيفا) «2» لو كان قد ادخر هذا الماء لنفسه لما عطش هو و أهل بيته يوم عاشوراء.

و هناك رواية عن رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» فيها إشارة إلى ما ذكر آنفا: (لكل كبد حرّى أجر) «3». نعم يجب أن لا يكون الأمر مساعدة للمعتدي على اعتدائه، قال سبحانه لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي

الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ

______________________________

(1) للاطلاع على سلوكيات الرسول الأكرم «صلى اللّه عليه و آله و سلم» في الحرب راجع كتاب «و لأول مرّة في تاريخ العالم» و كتاب «أسلوب حكومة الرسول و الإمام أمير المؤمنين» و كتاب «لماذا تأخر المسلمون؟» للإمام المؤلف «دام ظله».

(2) تاريخ الطبري: ج 6 ص 226.

(3) جامع الأخبار: ص 139، بحار الأنوار: ج 74 ص 370 ح 63 ب 23. و جاء في لسان العرب: ج 4 ص 178 مادّة «حرر»: (إنّ لكلّ كبد حرّاء أجر)؟

الفقه، البيئة، ص: 49

«1». و حيث قال سبحانه في الآية الأولى أَنْ تَبَرُّوهُمْ و في الآية الثانية أَنْ تَوَلَّوْهُمْ. و التولي غير الإحسان كما هو واضح.

______________________________

(1) سورة الممتحنة: الآية 8- 9.

الفقه، البيئة، ص: 50

تلوث الهواء

اشارة

مسألة: أهم مواطن التلوث ثلاثة: الهواء و الماء و التربة، و هناك تلازم بين هذه الثلاثة، فتلوث الهواء له ارتباط بتلوث كل من الماء و التربة، بل أكثر الأشياء يرتبط بالهواء.

و يعرّف الهواء، بالمخلوط الغازي الذي يملأ جوّ الأرض بما في ذلك بخار الماء «1».

و الهواء على المعروف في العلم الحديث مكوّن من عدد كبير من العناصر يقدّر إلى الوقت الحاضر ب «100» عنصر. و هناك عنصران يشكلان الحجم الأكبر للهواء هما النيتروجين و الأوكسجين «2»، و هناك نسبة ثابتة لهذه العناصر في الجو، فإذا زادت أو نقصت أوجدت خللا في التوازن الحياتي، و أخلّت بمظاهر الحياة، و ربّما اختفت الحياة من على سطح الأرض.

و

تتلخص أهم ملوثات الهواء في ثلاثة أنواع:

الأول: الملوثات الناتجة عن احتراق الوقود العضوية كالبترول و الفحم الحجري و منتجاتهما «3». فإن الوقود إذا كان زائدا على المتعارف أوجب

______________________________

(1) و يعرّف كذلك بالعنصر المهم الذي تقوم عليه الحياة، فهو يدخل في مكوّنات الماء و عمليّات التركيب الضوئي و ما شابه.

(2) فإنّ نسبة النيتروجين تبلغ 08، 78% و الأوكسجين 95، 20% و ثاني أكسيد الكربون 03، 0% و الآرجون 93، 0% و بخار الماء 04، 0%.

(3) إنّ الإنتاج العالمي في التسعينات للبترول بلغ 000، 781، 146، 3 طن، و الفحم الحجري 000، 000، 638، 3 طن، و إلغاز الطبيعي 000، 000، 800، 166، 2 متر مكعّب.

الفقه، البيئة، ص: 51

تلوث الهواء. و قد حاول العلم الحديث حديثا استرجاع البترول و الفحم الحجري من الهواء كاسترجاع الماء نتيجة المطر، إلّا أنه لم يصل إلى الحال الحاضر إلى نتائج ملموسة.

الثاني: الملوثات الناجمة عن المخلفات الصناعية و ما أكثرها في هذا العصر.

الثالث: الملوثات الناتجة عن حرق و إعادة استخدام النفايات و المخلّفات الصناعية.

و على مرّ التأريخ و تعاقب العصور لم يسلم الهواء من التلوث بدخول مواد غريبة عليه، مما يهلك الحرث و النسل كالغازات و الأبخرة التي تتصاعد من فوران البراكين أو تنتج عن حرائق الغابات سواء كان الحرق بعمد أو بغير عمد و ارتفاع درجات الحرارة في بعض مواسم الصيف أو التي تنجم عن ورود الأتربة و الكائنات الحية الدقيقة المسببة لمختلف الأمراض إلّا أنه من الواضح أن ذلك كله لم يكن من الكم الذي يسبب هذه الإضرار الناجمة عن الصناعة، بل كان في وسع الإنسان أن يتفادى إخطاره أو يبتعد عنها مؤقتا حتى يرجع الهواء إلى نقاوته،

و إنما مشكلة التلوث التي تحتاج إلى حلّ سريع حدثت في هذا القرن بسبب الثورة الصناعية و ما أعقبها من تقدم تكنولوجي، سبّب ظهور الملوثات الغازية و الأبخرة الصناعية الضارة.

فالمصانع الكيماوية الكبرى تنفث سمومها في الهواء، و تفرز ملوثاتها في مياه الأنهار و البحار، مسبّبة تلوثا في الهواء و الماء و التربة. ففي العاصمة الإيرانية طهران- كما ورد في إحدى التقارير- يستنشق كل فرد من الملوثات الموجودة في الهواء ما يعادل «7» سيجارات في اليوم الواحد. و في بومباي

الفقه، البيئة، ص: 52

الهنديّة يستنشق كل فرد ما يعادل عشرة سيجارات في اليوم الواحد.

و ينشأ نتيجة التلوث بالغازات الأمراض المستعصية كالسرطان و ضيق التنفس و انسداد الشرايين «1»، كما إنها مهّدت لأمراض أخرى.

و ينشأ نتيجة التلوث بالمكروبات و الجراثيم أنواع من الأمراض و الأوبئة.

و ينتج من تلوث الهواء، البكتيريا و الجراثيم و العفن- الناتج من تحلل النباتات و الحيوانات الميتة و النفايات التي يخلّفها الإنسان.

و تأتي عادمات السيارات من الأسباب المهمة لتلوث الهواء، فكمية إلغاز الناتجة من «1000» سيارة تعادل «4» أطنان من الملوثات، و هو رقم كبير و خطير، لأنه موجب للكثير من الأمراض و الأوبئة «2». و عند ما نرفق بأسباب التلوث التي ذكرناها تدخين السجائر، فإن المشكلة تبدو أكثر تعقيدا.

الرابع: الملوّثات الناتجة عن: استخدام وسائل التدفئة النفطية و الغازية التي تسبب مقدارا من التلوث. أضف إلى ذلك أن وجود هذه الوسائل داخل

______________________________

(1) حيث يموت سنويّا سبعة عشر مليونا من هذه الأمراض.

(2) لقد ارتفع عدد السيّارات في العالم في نهاية التسعينات إلى مليار سيّارة في حين كان عددها عام 1987 م 400 مليون سيّارة و في عام 1960 م 300 مليون سيارة.

و في عام 1970 م 200 مليون سيّاره و في عام 1960 م 100 مليون سيّارة، و إنّ كلّ عام ينتج في العالم 45 مليون سيّارة. و من هنا يتبيّن كم هي كميّة الغازات السامّة التي تنفث في الهواء. و إن غازات عادم السيارات يتكون من غاز ثاني أكسيد الكربون و بخار الماء و مصحوبا ببعض الجزئيات العضوية التي لم تتأكسد أكسدة تامة بالإضافة إلى قدر صغير من أول أكسيد الكربون و بعض أكاسيد النيتروجين، و عند ما يتعرّض هذا الخليط للأشعة فوق البنفسجية الآتية من الشمس يحدث بين مكوناته تفاعل كيمياوي ضوئي، فيكوّن الضباب الدخاني الذي يبقى معلّقا في الهواء و يغلّف أجواء المدن و تزداد خطورة هذا الضباب الدخاني عند اختلاطه ببعض الغازات السامّة الأخرى مثل ثاني أكسيد الكبريت أو كبريتيد الهيدروجين أو بعض أكاسيد النيتروجين.

الفقه، البيئة، ص: 53

الغرف المغلقة يسبب الاختناق بثاني أكسيد الكربون «1».

و هناك إحصائيات من دولة الكويت أجرتها إدارة حماية البيئة، تظهر حجم و آثار التلوث في هذه الدولة الصغيرة، التي لا يتجاوز عدد سكانها المليونين نسمة فما ينفث في هذه الدولة يبلغ «8400» طن سنويا، كما أن ما تنفثه الطائرة الواحدة في مطار الكويت سنويا «300- 500» طن.

أمّا حرق الوقود في محطة التقطير، فيسبب إطلاق «136» طنا من أول أكسيد الكربون «2». و مشكلة هذه الغازات أنها عديمة اللون و الطعم و الرائحة.

و هذا ما يزيد من خطورتها لعدم اكتشافها إلّا حين وصولها إلى بدن الإنسان.

و لا يخفى أن زيادة نسبة امتصاص هذا إلغاز تؤدي إلى حدوث اضطرابات في كريات الدم البيضاء، و ما يترتب عليه حدوث إصابة بالأمراض الخبيثة ثم الوفاة السريع.

و ينشأ من إصابة الإنسان

بهذا إلغاز أن يصاب بالخمول و تضعف قدراته على التمييز و الحكم على الأشياء، و هي تسبب ضعفا في السمع و البصر بصورة خاصة.

______________________________

(1) لهذا ينصح الأطباء بعدم استعمال هذه المواقد و النوافذ مغلقة حتى لا يتسبب هذا إلغاز في إزهاق الأرواح، و قد رأيت إزهاق أرواح بعض الناس في إيران خلال عشرين عاما نتيجة هذه العادة الضارة.

(2) و هو غاز بسيط رمزه الكيميائي «» و مصدره أنظمة الاحتراق و احتراق البنزين غير التامّ للسيّارات و التدخين، و عند ما يتأكسد يتحوّل إلى ثاني أكسيد الكربون، و إنّ الكربون له خاصيّة الاتّحاد مع بعضه و مع العناصر الأخرى كالهيدروجين و الأوكسجين و الكبريت و الكلور و البروم و ما أشبه. و لا يخفى إنّ تخفيض الانبعاثات الكربونيّة يمكن أن يحدث إذا استخدمنا تكنولوجيا اقتصاديّة و متطوّرة مثل استخدام الإضاءة بالمصابيح الفلورسيّة- التي تستهلك 17 واط بدل المصابيح العاديّة الكيتروسين الّتي تعطى 75 واط- أو الإضاءة بالمصابيح الهالوجينيّة المحسنة.

الفقه، البيئة، ص: 54

و يذكر الأطباء أن إمكانية إنقاذ الأشخاص المصابين بالتسمّم الشديد بهذا إلغاز ليس بأمر هيّن حتى لو كان الطبيب ماهرا و الدواء متوفّرا و تم العلاج سريعا.

و القليل ممن ينجون من حالات التسمم هذه تصاب أجهزتهم العصبية بالإعياء الكامل، و يصابون أيضا بضعف البصر و العجز في الكلام و السماع، و لذا يقولون إن أفضل الطرق لعلاج هؤلاء الأشخاص تتمثل بإجراء التنفس الصناعي و استبدال الدم ما دام الوقت موجودا.

و تشمل أعراض التسمم المزمن بهذا إلغاز فقر الدم و اضطراب وظيفة العقل. كما و إن استنشاق مقادير قليلة من هذا إلغاز يسبب ضعفا في الأداء مثل سائق السيارة الذي يتعرض إلى التسمم يؤدي به

إلى فقدان وعيه أو ضعف ردود الأفعال لديه، و بالتالي إلى حدوث الحوادث الخطرة.

و تعتقد بعض أجهزة المرور أن هذا إلغاز هو المسؤول عن جعل عدد كبير من سائقي السيارات ينامون على عجلة القيادة، فينحرفون عن الطريق دون سبب ظاهر.

كما أن هذا إلغاز يؤثر على أجنّة النساء الحوامل تأثيرا مباشرا، و قد توجب سقوط الجنين، و قد تؤدي إلى العقم أحيانا.

طبعا لا ينتج هذا إلغاز عن السجائر أو عوادم السيارات فقط بل يوجد في المياه الطبيعية، كما و تنفذ كميات من هذا إلغاز من شقوق و تجاويف المناطق البركانية، و كذلك قد يتجمع هذا إلغاز بسبب عملية الهدم الحيوية التي تحدث في الخلايا الحيّة.

كما ينتج هذا إلغاز من عمليات التخمّر و التحلل التي تجري في الطبيعة، و التي تتم بفعل الفطريات و البكتيريا.

الفقه، البيئة، ص: 55

و لكن القدر المتعارف من هذا إلغاز بالأسباب الطبيعية يكون سببا لنمو النباتات و لعمليات البناء الضوئي «1»- التي تحدث أثناء النهار أو عند وجود الضوء- أو الصناعي إذ يأخذ النبات هذا إلغاز المسمى بثاني أكسيد الكربون و يطلق الأوكسجين. و في حالات التنفس يمتص النبات ثاني أكسيد الكربون و يطلق الأوكسجين، كل ذلك يكون النبات أحد أهم عوامل إحداث التوازن في الطبيعة.

و على أي حال: فالأجزاء الصغيرة من الدخان التي تتصاعد إلى الهواء سواء كان مصدر هذا الدخان السجائر أو المواقد أو السيارات أو ما أشبه تبقى لمدة طويلة معلّقة في الجو القريب من الأرض و بسبب الهواء تنتقل من ناحية إلى ناحية، و من مكان إلى مكان، و معظمها يمكن استنشاقها حيث تبقى في الرئتين، و يعمل على تسويد الأنسجة، و لذا يشاهد أن رئة المدخن للسجائر

شبه سوداء. و لقد افترض أن التعرض للهواء الملوث بالدخان ضار للإنسان، فيصبح الدخان عبارة عن عنصر من عناصر الضباب حتما، فإنه في الضباب يتم تركيز التلوث لدرجة أن نسب جزئيات الدخان تصبح أعلى مما كانت عليه تحت ظروف جوية أخرى، و المدخن يتسبب الضرر لنفسه و للآخرين، فالذين يجلسون إلى جانبه يستنشقون الدخان الذي قد يسبب لهم

______________________________

(1) و هي عمليّة تستخدم فيها النباتات الطاقة الشمسيّة و مادّة الكلوروفيل الموجودة بالكلوروبلاست في فصل الهيدروجين عن الأوكسجين في جزئيّات الماء، و تستخدم النباتات الهيدروجين الناتج بعد ذلك في الاتّحاد مع غاز ثاني أكسيد الكربون لتكوين الكربوهيدرات، و ينطلق الأوكسجين في الهواء، و إنّ ذروة هذه العمليّة تكون عند درجة حرارة تتراوح بين 20- 25 درجة مئويّة، و تخفّ حدّت التمثيل الضوئي عند انخفاض أو ارتفاع درجة الحرارة. و بعبارة أخرى تحويل الطاقة الشمسيّة إلى طاقة كيمياوية. و هذه العمليّة تجري 59% على اليابسة و 41% في المحيطات و البحار و الأنهار.

الفقه، البيئة، ص: 56

أمراضا أخطر من أمراض المدخنين أنفسهم، لأن غير المدخن لا يملك المقاومة الكافية ضد مادة النيكوتين الموجودة في دخان السجائر.

و من نافلة القول أن نقول إن ثاني أكسيد الكربون هو غاز شفاف عديم اللون و الرائحة، و هو يذوب في الماء و ينقل الضرر من الهواء إلى الماء، فمن شربه تضرّر، كما و أنه أثقل من الهواء، و لذلك يتجمع دائما في المناطق المنخفضة مما يشكل خطرا على حياة السكان الموجودين في تلك الأماكن، و هو غاز خانق إذا زاد تركيزه في الجو على النسبة المقررة «1». كما أنه لا يشتعل و لا يساعد على الاشتعال.

و يعود سبب زيادة نسبة ثاني

أكسيد الكربون في الهواء إلى عاملين:

الأول: التوسع الكبير في إحراق أنواع من الوقود من بترول و غاز طبيعي و فحم و خشب و ما أشبه ذلك، سواء كان لأغراض صناعية أو للتدفئة أو لتشغيل محركات الاحتراق الداخلي في السيارات و القطارات و السفن و الدرّاجات النارية و نحو ذلك «2».

______________________________

(1) و هي ستّة أجزاء من المليون، و لكن زادت النسبة في بداية القرن الحالي إلى 280 جزء في المليون، و في عام 1957 م بلغ 315 جزء في المليون، و في نهاية الثمانينات بلغ 355 جزء في المليون، و في الوقت الحاضر 400 جزء في المليون، علما إنّ أمريكا تبث سنويّا 4804 مليون طن سنويّا بنسبة 4، 19% و الاتّحاد السوفياتي السابق 3982 مليون طن بنسبة 9، 13% و الصين 2236 مليون طن بنسبة 1، 2% و اليابان 989 مليون طن بنسبة 1، 8% و آلمانيا 620 مليون طن بنسبة 11% و الهند 601 مليون طن بنسبة 7، 0%، هذا ما أكّدته إحدى الأكاديميات الأمريكية.

(2) إنّ كلّ غرام واحد من المادّة العضويّة المحتوية على الكربون تعطي عند احتراقها 5، 1- 3 غرامات من غاز ثاني أكسيد الكربون، علما إنّ هذا إلغاز يؤدّي إلى ارتفاع درجة حرارة طبقات الجوّ القريبة. أمّا كيف يسبّب ثاني أكسيد الكربون ارتفاع درجات الحرارة في الطبقات القريبة من سطح الأرض فيجيب عليه الدكتور ممدوح حامد عطيّة في كتابه: إنّهم يقتلون البيئة: ص 13 «إنّ الإشعاعات الحراريّة المرتدّة عن سطح الأرض تكون موجاتها أطول من موجات الضوء المرئي المعتاد، و يقع أغلبها في نطاق الأشعّة تحت الحمراء ذات الموجات الطويلة، فإنّ هذه الإشعاعات لا تستطيع أن تمرّ في غاز ثاني أكسيد الكربون

بل تقوم جزئيات هذا إلغاز بردّها. و يترتّب على ذلك إنّ غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء يقوم بحجز جزء من الطاقة الحراريّة المنبعثة من سطح الأرض و يحتفظ بها في داخل الغلاف الجوّي، و يمنع ذلك تبدّد حرارة الأرض في الفضاء و يسبّب ارتفاع حرارة الغلاف الجوّي للأرض ممّا سيغيّر في مناخها، حيث تزداد درجة الحرارة و الرطوبة بأكثر من المعدّلات الطبيعيّة السابقة، نظرا لأنّ درجة حرارة سطح الأرض هي محصّلة لاتّزان دقيق بين مقدار ما يقع على هذا السطح من أشعّة الشمس و مقدار ما ينعكس منها و يتشتّت في الفضاء.

الفقه، البيئة، ص: 57

الثاني: إزالة مساحات شاسعة من الغابات بهدف استثمارها في البناء و الزراعة التقليدية كزراعة الحبوب و الفواكه و الخضر، أو بسبب استثمار أخشابها في أمور التدفئة، و إزالة الغابات معناه بقاء كمّيات كبيرة من هذا الغاز في الجو لفقدان عمليّة التمثيل الضوئي بالنسبة المطلوبة.

و الخلاصة: فجميع هذه الأمور تسبب تأخرا في نمو بعض الكائنات الحية- بوجه عام- سواء كانت بشرا أو حيوانات أو نباتات.

كما و إن هذا إلغاز يذوب في مياه الأمطار مكونا بعض الأحماض التي تسبب تلفا في المباني و المنشآت الحجرية و المعدنية.

و من عوامل تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي حرائق الغابات، فإن هذه الحرائق قد تنتج عن أسباب طبيعية و قد تكون بفعل الإنسان. فالغابات هي المصدر الرئيسي لتنقية الهواء من هذا إلغاز المضر، فكلّما توسعت الغابة أصبح الهواء أكثر نقاوة، و كذلك إذا زرعت البلاد بمزارع كثيرة، و العكس بالعكس «1».

______________________________

(1) من المشاكل التي يعاني منها العالم اليوم مشكلة التصحّر، و هي تحويل الأراضي المنتجة في المزارع و المراعي إلى جدب، و

ان 90 دولة في العالم تعاني من هذه المشكلة حيث انخفضت إنتاجية أراضيها خلال عشرين عاما الماضية بمعدّل 40% و العالم يستهلك من الغابات كلّ عام أكثر من 17 مليون هكتار، و التصحّر ينشأ من الجشع و الطمع و قطع الأشجار بشكل غير مدروس، فقد أجريت دراسة لصالح المنظمة الدوليّة للأخشاب المداريّة عام 1989 م و انتهت إلى أنّ أقلّ من 1، 0% من عمليّات قطع الأشجار المدارية للحصول على الخشب تمّ على أساس الغلّة المتواصلة.

و ينشأ التصحّر أيضا من قلّة الأمطار نتيجة الاختلال في الغلاف الجوّي- الأتموسفير-، ففي السبعينات انخفضت معدّلات سقوط الأمطار في عدد من الدول الإفريقيّة و الباكستان و بنغلادش و ما أشبه ذلك. و ينشأ التصحّر أيضا لسقوط الأمطار الحمضيّة، فإنّ ثلاثة دول أوربية- آلمانيا و هولندا و سويسرا- فقدت ما بين الثلث و النصف من غاباتها بسبب هذه الأمطار، و في عام 1986 م تضرّرت الغابات في كثير من دول العالم بمعدّل 54% بسبب الترسبات الحمضيّة. و ينشأ التصحّر أيضا من استخدام الأراضي الزراعيّة لبناء المعامل و شقّ الطرق و ما أشبه، و قد ذكرت الإحصاءات إنّ فرنسا تستهلك سنويّا من أراضيها الزراعية مائة ألف هكتار لأغراض التصنيع و شقّ الطرق؛ علما إنّ استهلاك الغابات يوجب تدهور مساحة إضافيّة من الأرض تقدّر بثلث المساحة المستهلكة، لتعرّضها للرياح و للأنواع الدخيلة الوافدة و لاختلاف درجات الحرارة. و ينشأ التصحّر من حرق الغابات عن عمد أو غيره. و ينشأ أيضا من التنمية الزراعية التي لا تقوم على الدراسات الفنية و الرعي الجائر. و مهما كانت الأسباب فإنّ فقدان الغابات يولّد كإرثه بيئيّة فضلا عن الكارثة الاقتصادية، فإنّ فقدانها يؤدّي إلى تغيير المناخ

و الهطولات المطرية و ارتفاع درجة الحرارة في الأرض و إلى إبادة بعض السلالات البرية و إلى فقدان كثير من الأعشاب التي هي ضرورية في الطب فخلال العقود الأربعة الماضية قدّر فناء أكثر من خمسين ألف نوع من الأحياء في الغابات، و إلى تسارع تأكل التربة و إلى اختفاء الكثير من الحيوانات و إلى تقليل الكثير من النباتات الرئيسية التي يعتمد عليها البشر كطعام باعتبارها تزرع في أقاليم محيطة بالغابات و إلى تعرّض المدن لهبوب الرياح و إلى فقدان حماية خطوط توزيع المياه و إلى إنقاص الثروة الحيوانيّة و إلى هبوط مستوى المياه الجوفيّة و إلى تدمير أعشاش الطيور المهاجرة و إلى إيجاد فيضانات كارثيّة و إلى انتشار الغازات السامّة عند حرق الغابات كغاز ثاني أكسيد الكربون فضلا عن نقص نسبة الأوكسجين المتولّد من الأشجار عن طريق تمثيل الضوئي. و لمواجهة التصحّر لا بدّ من اتّخاذ إجراءات وقائيّة، فإنّها خير وسيلة للعلاج، و لا بدّ من إيجاد أنظمة استثمار مستقرّة و من إعادة تشجير مساحات شاسعة من الأرضي المتصحّرة، و لا بدّ من استخدام طريقة أكثر رحمه في قطع الأشجار و لحاظ حماية البيئة، و لا بدّ من زرع أعشاب قويّة على طول مناسيب الأراضي المنحدرة الصالحة الزراعة، و لا بدّ من استخدام الحواجز النباتيّة بدل الجدران و الصخور، لأنّ النبات سيبطئ جريان الماء ممّا ينتج فرصة لماء المطر من الانتشار و التسرّب إلى باطن الحقول كما إنّه يحبس الرسابة وراءه مكوّنا جدارا طبيعيا بالتدريج و يصون التربة و الرطوبة. و لا بدّ من إنشاء مزارع صحراوية نموذجية و إعطاء أولوية لإنتاج أدوات الري الحديثة، و لا بدّ من الإكثار من سلالات النباتات التي تتحمل

الجفاف أو الملوحة أو كليهما معا، و لا بدّ من أولوية لوضع خطة زراعية لتنمية المراعي و محاولة إكثار نباتات المراعي المحلية المتأقلمة على ظروف الصحراء، و لا بد من إعادة تدوير الأخشاب المستخدم و لا بد من حظر جميع أنواع الاستيراد على الأخشاب بذات الطريقة التي حظرت وقتها تجارة العاج و لا بد من التركيز على السياحة في الغابات بدل قطعها.

الفقه، البيئة، ص: 59

كما و إن التلوث بالكبريت الذي يدخل في العديد من الصناعات أيضا أحد الملوثات الضارة للهواء و للبدن، و يترك التسمم بالكبريت آثارا خطيرة على الجهاز العصبي و دماغ الإنسان. و التلوث بالكبريت و مشتقاته يزداد يوما بعد آخر في الدول الصناعية، فثاني أكسيد الكبريت «1» يسبب تلوثا في هواء بريطانيا بمقدار «6 ملايين» طن في السنة الواحدة. و من طبيعة هذا إلغاز أنه لا يبقى طويلا في الجو، و عادة يتفاعل مع بعض الغازات الموجودة في الجو، و قد دلّت التقارير أن هذا إلغاز لا يعرف الحدود الدولية، فهو ينتقل مع الريح من بلد لآخر. و أول المتضررين بهذا إلغاز النباتات، فدلّت الأبحاث أن الأشجار المخروطية تنمو بصعوبة أو قد تموت في بعض المناطق الزراعية.

كما أن الملوثات الرئيسية الناتجة عن احتراق الفحم يمكن أن تكون ضارة للإنسان و بيئته، و يزداد الضرر أضعافا مضاعفة عند ما يساعد الدخان على تكوين الضباب، و قد دلّت التقارير أن لندن- العاصمة البريطانية- تتعرض إلى إخطار مضاعفة بسبب غاز ثاني أكسيد الكبريت، و نشأ بسبب ذلك تزايد حالات الموت إلى درجة الضعف. و يساعد على تجمع هذا إلغاز

______________________________

(1) و رمزه الكيميائي «2»، و ينتج من احتراق بعض الوقود كما في عمليّات صهر

المعادن نظرا لوجود الكبريت في المعادن الخام. و إنّ لهذا إلغاز تأثيرا على المصابين بالتحسّس الرئوي.

الفقه، البيئة، ص: 60

جمود الهواء عن الحركة، و كما هو الواضح، فإن حركة الهواء توجب التحلل و التحرك إلى هنا و هناك، بخلاف ما لو كانت الرياح لا حركة لها حيث تتجمع و تبقى مدة فتضر بصحة الإنسان و الحيوان و النبات.

و قد ذكرت التقارير إنّ المجموع الكلي لحالات الوفاة بسبب الإصابة بالالتهابات الشعبية، و الالتهابات الرئوية، و بعض أمراض الرئة الأخرى، و أمراض القلب، هو بحدود أربعة آلاف حالة زيادة عمّا كان متوقعا في نفس الفترة.

و تشكل هذه الملوثات خطرا على بعض المرضى المصابين بأمراض فقر الدم حيث تظهر عليهم أعراض نقص الأوكسجين بشكل واضح عند تعرضهم للهواء الملوث الناتج عن الغازات المحترقة في وسائل النقل التي تعمل على البنزين، و كلما زادت أعداد السيارات ازدادت المشكلة و تفاقمت.

و على كل حال: فاللازم تكثير المعوقات لهذه الأمور أولا و تحسين محركات السيارات و نحوها «1» بتقليل انبعاث هذه المادة منها ثانيا «2» إلى غير ذلك.

______________________________

(1) كاستخدام البنزين الخالي من الرصاص و استخدام الألمنيوم بدل الحديد في صناعة السيّارات فإنّه يقلّل من وزن السّيّارة 40% و يقلّل من انبعاث الكربون في الهواء، و هذا ما تستخدمه الصناعات الأمريكيّة الحديثة.

(2) أو إنتاج السيّارات الّتي تعتمد على الهيدروجين المنتج بالتحليل الكهربائي للماء أو الّتي تسير على الكهرباء المولّد من إلغاز الطبيعي أو استخدام سيّارات تعمل على الطاقة الشمسيّة. و يمكن الحدّ من استعمال السيّارات باستخدام وسائل الاتّصال الحديثة، ففي أمريكا مثلا و حسب ما ذكرته الإحصاءات إنّ استخدام وسائل الاتّصال الحديثة- كالهاتف و الفاكس و الكمبيوتر و الانترنيت- تخفّض التلوّث الكلّي

للهواء بمقدار 8، 1 مليون طن سنويّا و تقلّل من استهلاك الوقود 75، 15 مليون لتر و يوفر من الوقت بما يزيد على ثلاثة مليارات ساعة يقضيها الأمريكان في الطرق و المواصلات و يوفّر للاقتصاد بما يقارب 23 مليار دولار في السنة. و هناك حلول أخرى تستخدمها بعض الدول منها: تفريق السيارات في شوارع أخر و إن كان هذا ضارّا بالنسبة إلى أصحابها حيث أبعديّة الطرق في هذا الحال. و منها الإعلان بتجنب الأشخاص المراهقين و من أشبههم من هذه الطرق المزدحمة.

الفقه، البيئة، ص: 61

و كذلك من الملوثات الهوائية مركبات الكبريت الأخرى، حيث يوجد الكبريت «1» في صورة سوائل في كل من الفحم و البترول، و بعد عملية الاحتراق، فإنه تتصاعد إلى الجو بصورة غازات سامة.

و ينتج غاز ثاني أكسيد الكبريت في المصافي النفطية من احتراق زيوت الوقود التي تستخدم في الأفران. كما و ينتج أيضا من احتراق الغازات الزائدة في المشاعل الحرارية، و يخرج أيضا مع الغازات العادمة.

و من طبيعة هذه المركبات الكبريتيّة أنها تمتص الرطوبة لتكوّن حوامض لها تأثير سلبي على الأغشية المخاطية و على العيون.

كما و تسبب الغازات الناتجة عن اتحاد الكبريت بالماء الحساسية للأجزاء الرطبة من بشرة الإنسان. و أضف إلى ذلك مضاره السيئة على الجهاز التنفسي حيث يتسبب في نوبات السعال و الحساسية مسببا أمراضا خطيرة في الرئتين.

و يعدّ هذا إلغاز مسؤولا إلى حدّ ما عن زيادة معدلات الربو الحاد و المزمن و الالتهابات الرئوية و انتفاخ الرئة. كما أنه يعيق عملية تنظيف الرئتين، كما و إن لثاني أكسيد الكبريت آثار ضارة على خضرة الأشجار و النباتات.

كما و أن مداخن المصانع في البلدان الصناعية تملأ الأجواء بثاني أكسيد الكبريت

الذي يتساقط على الغابات و الأنهار و البحيرات فيدمّرها تدميرا تدريجيا، تاركا آثاره على جسم الإنسان.

و إلى جانب تأثير مركبات الكبريت على الإنسان و الكائنات الحيّة و النباتات، فقد وجد أنها تسبب تلفا للفلزات و المعادن و المواد المستعملة في البناء حيث تؤدي إلى سرعة صدأ المنشآت الحديدية و المباني المبنية من مواد الحديد.

______________________________

(1) و رمزه الكيماوي «».

الفقه، البيئة، ص: 62

طرق مكافحة التلوث

مسألة: اللازم على الحكومات و الجمعيات و المؤسسات و الأفراد حماية الهواء من الملوثات و إيصال نسبة التلوث إلى القدر الطبيعي الذي لا يضر بصحة الإنسان، و ذلك بضبط مصادر التلوث مثل إنشاء أجهزة لتنقية الهواء من الغازات و الجسيمات خصوصا في الأماكن العامة كالمستشفيات و المدارس و الدوائر الرسمية، ثم محاولة الاستفادة من العادمات و معالجتها و إعادة استخدامها ثانية، و العمل على تطوير مصادر الطاقة النظيفة، و تطوير تقنية السيارات حتى لا تتسبب في تلوث الهواء و استخدام بدائل أقل تلوثا من البنزين المستعمل في السيارات و استخدام مصادر جديدة للطاقة كالمصادر التي تعتمد على الهيدروجين أو على الطاقة الشمسيّة أو طاقة الأرض الحراريّة أو طاقة الرياح و الأمواج [1].

______________________________

[1] الهيدروجين و رمزه الكيماوي «2» و هو غاز نظيف الاحتراق و يصلح بديلا مستقبليا عن النفط و إلغاز و ما أشبه، و ذلك لرخصه و توفّره و سهولة تحضيره حيث يفك ارتباطه بالأوكسجين في الماء عبر التيار الكهربائي أو عبر التحليل الضوئي و انّه يتحوّل إلى سائل بدرجة حرارة 25 درجة مئويّة، و يتّحد مع الأوكسجين في الماء، و يستخدم حاليا في عمليّات الاختزال و بعض أنواع المخصّبات الزراعيّة و يحضّر منه كلّ عام عشرة ترليونات قدم مكعّب، و لكن العائق

الأساسي لاستخدامه هو تكلفة تحضيره الغالية، فإنّ العمليّة الكهربائية اللازمة لإتمام التحليل مكلفة جدّا إضافة إلى احتياجها إلى خزانات مقسمة إلى خلايا تكون تلقائية الانسداد و منخفضة الحرارة.

أمّا الطاقة الشمسيّة و هي بديل آخر باعتبار نظافتها من الملوّثات و النفايات المشعّة و لا تحتاج إلى تكنولوجيا متطوّرة و إنّ بناء محطّاتها تستغرق وقتا أقل و تكلفة أقل. و الكرة الأرضية تتلقى جزءا من ملياري جزء من الطاقة الكليّة التي تشعّها الشمس في الفضاء و البالغة 86/ 103 23 كيلو واط، و ذلك لصغر حجم الأرض بالقياس إلى الشمس و لبعدها الكبير عن الشمس- حيث تبعد 149 مليون كيلومتر- و لو حوّلت الطاقة الشمسيّة إلى كهربائيّة لنتج عن ذلك نحو 4000 مليون كيلو واط ساعة في اليوم الواحد، و هي كمّية تكفي لاحتياجات سكّان الأرض مرّات و مرّات. و من وسائل تحضيرها: 1- استخدام المرايا العاكسة أو الشرائح المعدنية ذات السطح اللامع كالألمنيوم المصقول لتجميع ضوء الشمس. 2- تجميع حرارة الشمس و امتصاصها. 3-

البطّاريات الشمسيّة عبر تحويل ضوء الشمس إلى تيار كهربائي محسوس و تستطيع هذه الطريقة تحويل 1000 واط من الضوء إلى 180 واط من الكهرباء.

أمّا طاقة الأرض الحراريّة فهي بديل معتبر حيث يستفاد منها في الأماكن التي لم تصل لها الشمس أو لم تهب فيها الرياح، و قد أنشئت محطّات قوى حرارية أرضية تزيد قدرتها على 5600 ميجا واط على نطاق العالم. و تحصل السلفادور على 40% من احتياجاتها من حرارة الأرض الطبيعيّة، كما تحصل نيكاراغوا على 28% و كينيا على 11%.

أمّا البديل الرابع و هو طاقة الرياح و الذي يتمّ توليد الكهرباء بواسطة طوربيدات ميكانيكيّة تدار بالمراوح المركّبة فوق أبراج تقام في مناطق

كثيرة من العالم، فعلى سبيل المثال توجد في مدينة كاليفورنيا الأمريكيّة 15000 آلة ريحيّة تنتج ملياري و نصف المليار كيلو واط ساعة سنويا.

و طاقة الأمواج تكون عبر مبدأ ارتفاع و انخفاض الموج حيث تنتزع طاقة الموج الحركية. و كذلك هناك بديل خامس هو التحليل الضوئي عبر استخدام الأجسام الحية التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي كالبكتريا.

الفقه، البيئة، ص: 63

إلى غير ذلك من المسائل التي تحفظ مكونات الهواء النظيفة وفقا للمقادير التي ذكرها علماء البيئة. ففي القرآن الحكيم و الروايات الواردة عن المعصومين «عليهم السّلام» إشارات كثيرة إلى كلّي هذه الأمور، و التي بحثنا مصداقا من مصاديقها، مثل قوله سبحانه و تعالى وَ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلٰاحِهٰا.* «1»، و قوله سبحانه وَ لٰا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

«2»، و قوله عزّ و جل وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُ فَإِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ

______________________________

(1) سورة الأعراف: الآية 56.

(2) سورة البقرة: الآية 195.

الفقه، البيئة، ص: 64

«1»، و قوله سبحانه أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دٰارَ الْبَوٰارِ «2»، و في الجعفريات عن جعفر بن محمد «عليهما السّلام» عن آبائه عن علي عليه السلام قال: (نهى رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» أن يلقى السمّ في بلاد المشركين) «3».

و ذكر الفقهاء في كتاب إحياء الموات المنع عمّا يضر بالهواء مثل المدابغ و الأفران و ما أشبه ذلك «4».

______________________________

(1) سورة البقرة: الآية 211.

(2) سورة إبراهيم: الآية 28.

(3) الكافي (فروع): ج 5 ص 28 ح 2.

(4) انظر موسوعة الفقه: ج 80، كتاب إحياء الموات للإمام المؤلف. و إحياء الموات للجواهر و الوسائل.

الفقه، البيئة، ص: 65

الروائح الكريهة و التلوث

مسألة:

كما يكره دخول المساجد برائحة كريهة كالثوم و البصل و الكراث و غيرها من المؤذيات لحاسة الشم عند المصلين يكره نشر الروائح الكريهة في أجواء المدن و إيذاء سكانها بها من باب الأولوية و قد يحرم ذلك في الجملة.

فقد نهى الرسول الأكرم «صلى اللّه عليه و آله و سلم» عن أكل الثوم لأنّه يؤذي برائحته أهل المسجد.

قال الإمام الصادق عليه السلام: (إنّما نهى رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم» عنه لريحه، فقال من أكل هذه البقلة الخبيثة فلا يقرب مسجدنا فأمّا من أكله و لم يأت المسجد فلا بأس) «1».

و عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن الثوم فقال:

(إنّما نهى رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم» لريحه، و قال من أكل هذه البقلة الخبيثة فلا يقرب مسجدنا فأمّا من أكله و لم يأت المسجد فلا بأس) «2».

و الظاهر إن المسجد من باب المصداق إذ الحكم يشمل مختلف التجمعات.

______________________________

(1) الكافي (فروع) ج 6 ص 374 ح 1، من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 358 ح 42 ب 2.

(2) الاستبصار: ج 4 ص 92 ح 2 ب 57. التهذيب: ج 9 ص 96 ح 154 ب 4.

الفقه، البيئة، ص: 66

و عن الصادق عليه السلام: (أنه سئل عن أكل الثوم و البصل و الكراث؟

فقال: لا بأس بأكله نيا و في القدور و لا بأس بأن يتداوى بالثوم و لكن إذا أكل ذلك أحدكم فلا يخرج إلى المسجد) «1».

و عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: (نهى رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» عن أكل الكرّاث فلم ينتهوا و لم يجدوا من ذلك

بدّا، و وجد ريحها قال: أ لم أنهكم عن أكل هذه البقلة الخبيثة، من أكلها فلا يغشانا في مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى بما يتأذى منه الإنسان) «2».

و عنه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» قال: (من أكل البصل أو الثوم أو الكرّاث فلا يقربنا و لا يقرب مسجدنا) «3».

و عنه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» قال: (من أكل هذه البقلة المنتنة فلا يغشانا في مجالسنا و إن الملائكة لتتأذى بما يتأذى به المسلم).

و عن الحسن الزيّات قال لما قضيت نسكي مررت بالمدينة فسألت عن أبي جعفر عليه السلام فقيل لي: هو بينبع فأتيت ينبع، فقال لي عليه السلام: (يا حسن مشيت إلى ها هنا، قلت: نعم جعلت فداك كرهت أن أخرج و لا أراك، فقال: إني أكلت من هذه البقلة- يعني الثوم- فأردت أن أتنحى عن مسجد رسول اللّه) «4».

______________________________

(1) الكافي (فروع): ج 6 ص 375 ح 2.

(2) غوالي اللئالي: ج 1 ص 101.

(3) مستدرك الوسائل: ج 3 ب 17 ح 3828.

(4) الكافي (فروع) ج 6 ص 375 ح 3. و قد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن أكل الثوم البصل و الكراث، فقال: (لا بأس بأكله نيا و في القدر و لا بأس بأن يتداوى بالثوم و لكن إذا كان ذلك فلا يخرج إلى المسجد). «التهذيب: ج 9 ص 97 ح 155 ب 4».

و في حديث ثان سئل الإمام الصادق عليه السلام عن أكل الثوم و البصل و الكراث فقال: (لا بأس بأكله نيا و في القدور و لا بأس بأن يتداوى بالثوم و لكن إذا كان ذلك فلا يخرج إلى المسجد). «من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 358 ح

4268 ب 2».

و في حديث آخر سئل الإمام الصادق عليه السلام: عن الثوم و البصل و الكراث فقال: (لا بأس بأكله نيا و في القدر و لا بأس بأن يتداوى بالثوم و لكن إذا أكل ذلك أحدكم فلا يخرج إلى المسجد).

«الاستبصار: ج 4 ص 92 ح 3 ب 57».

الفقه، البيئة، ص: 67

و عن ابن سنان قال سألت أبا عبد اللّه عن الكرّاث فقال: (لا بأس بأكله مطبوخا و غير مطبوخ و لكن إن أكل منه شيئا له أذى فلا يخرج إلى المسجد كراهية أذاه من يجالس) «1».

و عن علي عليه السلام قال: (من أكل شيئا من المؤذيات ريحها فلا يقربن المسجد.) «2» إلى غيرها من الروايات.

من هنا جاء اهتمام فقهاء الإسلام بحماية البيئة من أدنى تلوث حتى لو كانت الروائح الكريهة الناتجة عن أكل هذه المواد الغذائية، فإذا كان على آكل الثوم أو البصل أو الكرّاث أن يبتعد عن المساجد و المجالس لئلا يتضايق إخوانه برائحة فمه، فمن الأولى عدم السماح للروائح الكريهة من الانتشار في أجواء المدن و إيذاء سكانها.

______________________________

(1) المحاسن: ص 512.

(2) التهذيب: ج 3 ص 255 ح 28 ب 13.

الفقه، البيئة، ص: 68

تلوّث المياه

مسألة: يجب الحفاظ على المياه من التلوث، فإن الماء هو من أهم عناصر الحياة، فهو المكوّن الأساسي لتركيب مادة الخلية، حيث يكوّن القسم الأعظم من جميع الخلايا الحية في مختلف صورها و إشكالها و أحجامها و أنواعها من النبات و الحيوان و الإنسان، و هو يكون نحو «90%» من أجسام الأحياء في الدنيا، و نحو «60 إلى 70%» من أجسام الأحياء الراقية بما في ذلك الإنسان.

و لذا كان من المشتهر منذ القدم أن الماء سبب حياة كل

شي ء حيّ على سطح الأرض أو في سمائها أو في بحارها، فقد قال اللّه سبحانه وَ جَعَلْنٰا مِنَ الْمٰاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلٰا يُؤْمِنُونَ «1»، و لعل الجن و الملائكة و بعض الأحياء الأخرى في الجنة أو في غير الجنة من العوالم التي لا حصر لها و لا عدّ يشملهم هذا العموم و ان احتمل الانصراف إلى غير بعضها.

و من دون الماء لا يمكن لخلايا الجسم الحيّ أن تحصل على الغذاء، فالماء مكوّن رئيسي لأجهزة نقل الغذاء في الكائنات الحيّة و الفضلات السامة الناتجة عن العمليات الحيوية كالبول و العرق و تطرح خارج الجسم الحيّ ذائبة في الماء «2».

______________________________

(1) سورة الأنبياء: الآية 30.

(2) و قد وردت روايات عديدة في أهمّية الماء، قال الإمام علي عليه السلام: (الماء سيّد الشراب في الدنيا و الآخرة) وسائل الشيعة: ج 17 ص 187 ح 5 ب 1. و قال الإمام الصادق عليه السلام: (طعم الماء طعم الحياة) الكافي (فروع): ج 6 ص 381 ح 7.

الفقه، البيئة، ص: 69

و الماء ضروري لقيام كل عضو في جسم الإنسان بوظائفه على الوجه الأكمل، فمن دون الماء لا يمكن لهذا العضو و غيره من الاستمرار في عمله و الإبقاء على وجوده، فقد قال سبحانه وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجْنٰا بِهِ نَبٰاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ. «1»، و قد ورد الحديث عن رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» أنه قال: (الناس شركاء في ثلاثة النار و الماء و الكلأ) «2».

و الماء سواء كان مالحا أو عذبا، بيئة خصبة للكثير من المخلوقات و الكائنات الحية، و لذا قال سبحانه وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا. «3»،

و قال تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعٰامُهُ مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّٰارَةِ. «4»، و المراد ب «البحر» بالقرينة: كل ماء يوجد فيه صيد بحري، سواء كان نهرا أو غديرا أو بحرا أو نحو ذلك.

و قال سبحانه وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجْنٰا بِهِ نَبٰاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ. «5»، و من الواضح أن للماء حرارة نوعية عالية و بذلك يعدّ وسطا ممتازا لانتقال الطاقة الحرارية، كما أن الماء مذيب جيد للكثير من المواد و المركبات الكيماوية و بدون الماء لا يكون شجر و لا حيوان و لا إنسان.

______________________________

(1) سورة الأنعام: الآية 99.

(2) مستدرك الوسائل: ج 3 ص 150 ح 2 ب 4، كما ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام: (إنّ المسلمين شركاء في الماء و النار و الكلأ) وسائل الشيعة: ج 17 ص 231 ح 1 ب 5، و كذا عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلم»: (خمس لا يحل منعهنّ الماء و الملح و الكلأ و النار و العلم.) مستدرك الوسائل: ج 3 ص 150 ح 2 ب 6.

(3) سورة النحل: الآية 14.

(4) سورة المائدة: الآية 96.

(5) سورة الأنعام: الآية 99.

الفقه، البيئة، ص: 70

و من الحكم الربانيّة أن كمية الماء في الأرض تظلّ ثابتة لأنها تسير وفق دورة متكاملة، فالذي يتبخر من الماء يعود إلى الأرض في صورة المطر و هكذا دواليك، فلا يمكن زيادة الماء و لا إنقاصه، بخلاف سائر مخلوقات اللّه سبحانه و تعالى كالنباتات و الأسماك و الحيوانات و الطيور و غير ذلك. و كذلك المواد الحرارية كالنفط و الفحم الحجري و ما أشبه ذلك، و لعل قوله سبحانه و تعالى:

وَ

السَّمٰاءِ ذٰاتِ الرَّجْعِ «1» يشير إلى ذلك من بين إشاراته المطلقة، فقد قال سبحانه وَ اللّٰهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيٰاحَ فَتُثِيرُ سَحٰاباً فَسُقْنٰاهُ إِلىٰ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنٰا بِهِ الْأَرْضَ. «2».

و يظهر من الآيات القرآنية و الروايات أن في الآخرة يوجد ماء أيضا، كما ورد في القرآن الكريم مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهٰا أَنْهٰارٌ مِنْ مٰاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّٰارِبِينَ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيهٰا مِنْ كُلِّ الثَّمَرٰاتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خٰالِدٌ فِي النّٰارِ وَ سُقُوا مٰاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعٰاءَهُمْ» «3»، فإن في كل من الجنة و النار ماء أيضا «4».

و هل الماء موجود في عالم القبر و عالم البرزخ؟

لم نعثر على دليل يظهر منه وجود الماء في عالم القبر و ان احتمل ذلك و لكن في عالم البرزخ فإن روايات حوض الكوثر فيها إشارة على وجود الماء في هذا العالم.

______________________________

(1) سورة طارق: الآية 11.

(2) سورة فاطر: الآية 9.

(3) سورة محمد: الآية 15.

(4) قال الإمام الصادق عليه السلام: (سيّد شراب الجنّة الماء). وسائل الشيعة: ج 17 ص 187 ح 4 ب 1.

الفقه، البيئة، ص: 71

و لعل الفرق بين عالمي القبر و القيامة كون الإنسان في القبر يعود إنسانا مثاليا لا جسدا كجسده في الأرض، بينما في المحشر و القيامة يرجع الإنسان إلى بدنه الدنيوي مما يعبر عنه بالمعاد الجسماني و ذلك مما يحتاج إلى الماء و الطعام.

و على أي حال: فتغطي مياه المحيطات «8، 70%» من مساحة الكرة الأرضية «1»، أما البحيرات و الأنهار فتغطي «3%» من مساحة الأرض بالإضافة إلى الجليد الذي في القارة القطبية الجنوبية و

في غريلندا و هي أكبر جزيرة على سطح الكرة الأرضية و كذلك في أعالي الجبال.

و على هذا: فالمياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مياه المحيطات و المياه الجوفية و المياه الجليدية. فمساحة المحيطات أكثر من «300 مليون» كيلومتر مربع.

أما مساحة المياه الجوفية، فهي «60 ألف» كيلومتر مربع، و مساحة المنطقة الجليدية «24 ألف» كيلومتر مربع «2»، و في قارتي آسيا و أوربا يقطن «70%» من سكان العالم، و هي تضم «39%» من مياه الأنهار.

و دور المياه في الصناعة كبير جدا، إذ تتركز الصناعة حول مصادر المياه و الأنهار و البحيرات، حيث يستعمل الماء كمذيب في الصناعة و في التبريد

______________________________

(1) تبلغ مساحة الأرض الإجماليّة: 000، 100، 510 كم 2، و تضم اليابسة 000، 000، 149 كم 2، و المحيطات 000، 700، 360 كم 2، و نسبة اليابسة 2، 29%، و نسبة المحيطات 8، 70%

(2) و هناك قول يدلّ على تراوحه، بين 14- 28 مليون كيلومتر مربع. أنظر أطلس العالم شركة بدران. و هذه المناطق الجليديّة توجد في القطبين الشمالي- الأركتيكا- و القطب الجنوبي- الأنتار كتيكا- و إنّ معدّل درجة الحرارة في وسط القطب شمالي في الشتاء 36 درجة مئويّة تحت الصفر، و صفر درجة مئويّة في الصيف. أمّا درجة الحرارة في القطب الجنوبي فأكثر من القطب الشمالي. علما إنّ مساحة الجليد في القطب الشمالي تبلغ 8 مليون كيلومتر مربّع في الصيف و 11- 12 مليون كيلومتر مربّع في الشتاء، و إنّ مساحة الجليد في القطب الجنوبي 20 مليون كيلومتر مربّع شتاء و 5، 2 مليون كيلومتر مربّع صيفا، و فيها انهار متجمّدة تقدّر مساحتها 14 مليون كيلومتر مربّع تقريبا.

الفقه، البيئة، ص: 72

و التنظيف و غيرها

من العمليات.

و قد أشار القرآن الكريم إلى احتياج الإنسان و الحيوان و النبات إلى الماء احتياجا كبيرا، و الغالب أن يكون الماء مصدر الأمطار التي تتساقط في الأنهار و الأودية و الغدران.

كما و إن ماء المطر هو في الأصل ماء البحر بعد التبخر، و عملية التبخير هي عملية تقطير للماء و عزله عن الملوثات و عن الأملاح، و قد قال تعالى:

وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ الْمُعْصِرٰاتِ مٰاءً ثَجّٰاجاً «1»، و قال سبحانه أَ فَرَأَيْتُمُ الْمٰاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ «2»، و قال عزّ اسمه:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرٰاشاً وَ السَّمٰاءَ بِنٰاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلٰا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «3»، و قال تعالى وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمٰاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. «4»، و قد ذكرنا في مقدمة الفقه في باب العقائد إنّ أول ما خلق اللّه سبحانه و تعالى الماء، كما دلّت على ذلك الآيات و الروايات.

و قال سبحانه فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ.

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرٰائِبِ «5».

و على أي حال: فإن كمية المياه العذبة الموجودة في الأرض كافية لتلبية

______________________________

(1) سورة النبإ: الآية 14.

(2) سورة الواقعة: الآية 68- 69.

(3) سورة البقرة: الآية 22.

(4) سورة هود: الآية 7.

(5) سورة طارق: الآية 5- 7.

الفقه، البيئة، ص: 73

احتياجات الإنسان في الوقت الحاضر و في المستقبل القريب. إلّا أننا بحاجة إلى برنامج ينظم بعدل توزيع المياه، على سبيل المثال نهر الأمازون وحده يحتوي على «15%» من إجمالي كمية المياه العذبة، في حين يحتوي 15 نهرا غيره على

«33%» فقط من هذا الإجمالي.

و اللّه سبحانه و تعالى- على ما يظهر من الروايات و من الأدلة العقلية- لحكمة مقصودة لم يجعل خيرات الأرض بصورة متساوية بل جعل في كل موقع خيرات، حرم مناطق أخرى عنها و أبدلها بأخرى، سواء كانت هذه الخيرات من المعادن أو النفط أو من الماء أو غير ذلك.

و الحكمة في ذلك ليحصل التعاون بين بني البشر أخذا و عطاء بالنسبة إلى ما يحتاجون إليه. فأهل هذا البلد يعطون ثمار بلدهم لأهل بلد آخر في مقابل ما منحهم اللّه من خيرات، هكذا جبل الإنسان، و هكذا خلقه اللّه سبحانه متعاونا و متآخيا، فكل فرد من أفراد المجتمع الإنساني هو بحاجة إلى الفرد الآخر.

و من باب المثال: التفاوت في الثروة المائية: فهناك دول في إفريقيا و في غرب و جنوب آسيا و في الولايات المتحدة و المكسيك و استراليا تقلّ فيها المياه، بينما هناك مناطق تعاني من كوارث الفيضانات الموسميّة كبنغلادش و غيرها.

و قد قال سبحانه قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مٰاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمٰاءٍ مَعِينٍ «1». يقال إنّ بخار الماء إذا نضب و ذهب في أعماق الأرض، يسمى غورا.

و الماء المعين هو الماء الظاهر الجاري على سطح الأرض بحيث تراه العين.

فالمعين مشتق من العين، أي جار على وجه الأرض منظور بالعين.

______________________________

(1) سورة الملك: الآية 30.

الفقه، البيئة، ص: 74

صور من تلوّث المياه

و تلوث الماء من الأمور المهمة التي جلبت انتباه العلماء المتخصصين في مجال حماية البيئة. و قد عرّفوا تلوث الماء بأنه إحداث تلف أو إفساد بنوعية المياه مما يؤدي إلى حدوث خلل في نظامها بصورة أو بأخرى بما يقلل من قدرتها على أداء دورها الطبيعي، بل تصبح ضارة مؤذية عند استعمالها

أو تفقد الكثير من قيمتها الاقتصادية، و بصفة خاصة مواردها من الأسماك و الأحياء المائية. و يتحقق ذلك بتدليس مجاري المياه من انهار و بحار و محيطات و غير ذلك. إضافة إلى مياه الأمطار و الآبار و المياه الجوفية مما يجعل من هذه المياه غير صالحة للحيوان و النبات حتى الأحياء التي تعيش في الوسط المائي، و بالتالي يرجع الضرر إلى الإنسان، لأن الإنسان هو الذي يستعمل الماء، و الأمور القائمة به من حيوان أو نبات أو ما أشبه ذلك.

و يتلوث الماء عن طريق المخلّفات الإنسانية أو النباتية أو الحيوانية أو المعدنية أو الصناعية أو الكيماوية التي تلقى أو تصبّ في الماء سواء كان الإلقاء في البحار أو البحيرات أو الأنهار أو المياه الجوفية أو ما أشبه ذلك.

و قد ذكر العلماء عدّة صور لتلوث المياه مثل استنزاف كميات كبيرة من الأوكسجين الذائب في مياه المحيطات و البحار و البحيرات و الأنهار، و ما أشبه ذلك، مما يؤدي إلى تناقص أعداد الأحياء المائية. و مثل زيادة نسبة المواد

الفقه، البيئة، ص: 75

الكيماوية في المياه مما يجعلها سامة للأحياء. و ثمة انهار كادت أن تصبح خالية من مظاهر الحياة بسبب ارتفاع تركيز الملوثات الكيماوية فيها. و لعل البحر الميت الواقع بمحاذاة الأردن من هذا القبيل، فإنه من مخلفات العذاب الذي صبّ على قوم لوط لفعلهم السيئ.

كما و إن نمو الجراثيم و الطفيليّات و الأحياء الدقيقة في المياه يقلل من قيمة الماء كمصدر للشرب أو ريّ للمحاصيل الزراعية أو حتى للسباحة و الترفية و ما أشبه ذلك أو قلّة الضوء الذي يعدّ ضروريا بالنسبة إلى نمو الأحياء النباتية المائية كالطحالب و العوالق. بالإضافة إلى أن الطحالب تكوّن

من طعام الإنسان.

و قد أخذ تلوث الأنهار و البحيرات يزداد بشكل سريع بعد الحرب العالمية الثانية، و ذلك نتيجة لزيادة الإنتاج الصناعي و مخلفاته من الأحماض و المعادن و القلويات و الأملاح و الزيوت و غيرها، و التي بلغ عددها أكثر من «300» مادة على ما أحصاه بعض العلماء. و قد تضاعف تركيزها في المياه أكثر من مرّة عمّا كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية، و تلوثت الأنهار بالجراثيم و العصيّات «الكوكز» و الحمّى و الكزاز و فيروس شلل الأطفال و بيوض الطفيليات، بالإضافة إلى المواد الكيماوية الناجمة عن المخلفات الصناعية، و التي بلغت كمياتها في انهار الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها حوالي «40 مليون» طن في سنة 1390 ه «1970 م».

و أصبح تلوث المياه في اليابان أكبر مما هو موجود في الولايات المتحدة الأمريكية، و قد ظهرت العديد من الأمراض و خاصة لدى سكان السواحل، و ترتبط هذه الأمراض بتلوث المياه بالزئبق و الزرنيخ و النحاس و غيرها، و المياه الجوفية أيضا هي مسربات من المياه السطحيّة.

الفقه، البيئة، ص: 76

و هكذا بسبب الاستعمال الزائد للمياه الجوفية في اليابان أخذت التربة تهبط في العديد من المدن الكبرى. و يعاني في الوقت الراهن ثلث سكان الكرة الأرضية من نقص المياه، و ينذر الخبراء بأن في الخمسين سنة القادمة سيصبح التلوث أمرا شائعا و كارثيا في المياه التي هي الآن صالحة للشرب، مسببا أمراضا خطيرة، ليس للإنسان فقط بل يشمل الحيوان و النبات أيضا.

كما تتلوث المياه الجوفية نتيجة لتسرب مياه المجاري و مياه التصريف التي تجتمع فيها المكروبات المختلفة بالإضافة إلى المركبات الكيماوية، فيجعل الماء غير مستساغ للاستعمال سواء للإنسان أو للحيوان أو لنمو النبات مثل اكتسابه

الرائحة الكريهة أو اللون أو المذاق السيئ «1».

أما تلوث المحيطات و البحار فلا يقلّ عن تلوث البحيرات و الأنهار لدرجة أنّ بقع الزيت وجدت في الأجزاء المركزية من المحيط الهادي و المحيط الهندي.

و مما يزيد من خطر تلوث الوسط المائي كونه متصلا في كل أنحاء الكرة الأرضية. لذا فإن تلوث مكان ما سينتشر على مساحة كبيرة. و كما أن المياه تجري من هنا إلى هناك، فتأخذ معها أمراض هذا المحيط إلى ذلك المحيط، و هكذا الحال بالنسبة إلى تلوث المياه الأخرى من مكان لآخر حيث يسري بسرعة مذهلة مع سرعة أمواج البحر و سرعة تيار الماء.

و هذا النوع من التلوث ينذر بخطرين اثنين:

الخطر المتوجه إلى الإنسان بصورة مباشرة.

الخطر المتوجه إلى الإنسان بسبب النباتات و الأحياء الأخرى، فإنه

______________________________

(1) و قد ذكر تقرير لوكالة حماية البيئة في أمريكا، إنّ المياه الجوفيّة في 39 ولاية أمريكية يحتوي على مبيدات الآفات.

الفقه، البيئة، ص: 77

يعيش في المحيطات و البحار حوالي «180 ألف» نوعا من الحيوانات، و حوالي «10 آلاف» نوع من النباتات و يدخل قسم كبير من هذه الحيوانات في السلّم الغذائي للإنسان.

و قد بدأ الإنسان و بشكل ناجح في تطوير المزارع البحرية ذات المردود الاقتصادي، و قد ذكر بعض علماء مصر أن بلدا كمصر تتمكن بواسطة المزارع البحرية أن تضاعف من عدد سكانها من «60 مليون» إلى «120 مليون».

و تنتج البحار و المحيطات حاليا أكثر من «100 مليون» طن من الأسماك سنويا.

أضف إلى الفوائد المتقدمة، فإنّ للبحار فائدة كبرى هي إنتاجها نصف ما يحتاجه الإنسان من الأوكسجين، و كذا تساعد على إيجاد التوازن الغذائي لثاني أكسيد الكربون «1».

و الملاحظ أن التلوث يضرّ بكل ذلك، و لذا نلاحظ

كثرة الأمراض و انتشارها في أوساط البشر مما لا سابقة له في التأريخ،- و ليس الأمر كما

______________________________

(1) و هناك فوائد أخرى للبحار و المحيطات، منها: إنّها خزّان للمياه التي نستعملها، و خزّان الاحتياط الحراري التي يكتسبها الأتموسفير و التي تحدّد ظروف الطقس على سطح الأرض، و إنّها تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الأتموسفير، و إنّها تؤدّي وظيفة الرئتين في جسم الكرة الأرضيّة و مساعدتها على التركيب الثابت للهواء، و كونها مصادر للغذاء، فإن معدّل الإنتاج في المحيطات يبلغ 8% طن للهكتار الواحد في السنّة مقابل إنتاج اليابسة 6، 3% طن للهكتار الواحد في السنة. و قد أجريت دراسات عديدة لأجل استخدام المحيطات كمصدر للطاقة عن طريق الفرق بين الطبقة العليا للمحيطات حيث الدرجة الحرارة المرتفعة و التي يبلغ أقصاها قرب خطّ الاستواء 28 درجة مئوية و بين الطبقة السفلى حيث الدرجة الحرارة المنحفضة و التي تبلغ 5 درجة مئوية. و يعكف العلماء حاليا على حلّ مسألة كيفية استخدام هذا الفرق الثابت في درجات الحرارة كمصدر مجّاني للطاقة.

الفقه، البيئة، ص: 78

يقول بعضهم من أنه لا أمراض جديدة و إنما الجديد اكتشاف هذه الأمراض- و ما ذكرناه يتطابق و الحديث المروي الذي يشير إلى هذه الحقيقة (كلما أحدث الناس معصية جديدة أحدث اللّه لهم أمراضا جديدة) «1»، و يمكن أن يكون بالسببيّة مثل حدوث مرض الإيدز الذي ينشأ نتيجة الشذوذ الجنسي، كما يمكن أن يكون بمجرّد العلائميّة و القرينيّة لا العليّة مثل (إذا ظهر الزنا كثر موت الفجأة) «2»، فإنه ليس معناه أن الزناة يبتلون بموت الفجأة حتما بل إن هذا النوع من الموت يكثر في وقت يكثر فيه الزنا، فهذا التعبير يعبّر

في الوقتين: أي وقت السببيّة، و وقت القرينيّة و ان كان للزنا تأثير في الجملة أيضا.

و لا ينجم تلوث البحار و المحيطات فقط عن زيادة استغلال الثروات الطبيعية منها، بل كون مياه البحار و المحيطات تشكّل حاليّا خزانا كبيرا للنفايات، من فضلات المدن و من نفايات المصانع، فأصبحت بعض السواحل قد فقدت قدرتها على جذب السوّاح.

______________________________

(1) الكافي (أصول): ج 2 ص 374 ح 2.

(2) إشارة إلى الحديث الوارد عن ابن حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (وجدنا في كتاب رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم»: إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، و إذا طفف المكيال و الميزان أخذهم اللّه بالسنين و النقص، و إذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع و الثمار و المعادن كلّها، و إذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم و العدوان، و إذا نقضوا العهد سلط اللّه عليهم عدوهم، و إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، و إذا لم يأمروا بالمعروف و لم ينهوا عن المنكر و لم يتّبعوا الأخبار من أهل بيتي سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعوا خيارهم فلا يستجاب لهم). الكافي (أصول): ج 2 ص 374 ح 2.

الفقه، البيئة، ص: 79

دور النفط في التلوث

و يأتي النفط في مقدمة الملوثات خطورة، و تدلّ الدراسات على أن «200 ألف» طن من النفط كافية لتحويل بحر البلطيق- من الناحية البيولوجية- إلى صحراء قاحلة لا تعيش فيها الكائنات الحية؛ و ناقلة بترول واحدة كافية لتحقيق ذلك.

و من مصادر تلوث البحار عملية تنظيف البواخر و ناقلات النفط، و التي تسبب تسرب «10 مليون» طن من النفط إلى البحر، و يكون تركيز النفط عاليا بشكل خاص في

المناطق الساحلية.

و تشكو البحار المغلقة من مشكلة التلوث أكثر من غيرها، و يعتبر البحر الأبيض المتوسط من البحار المغلقة التي تعاني من مشكلة التلوث. و هناك تحذير من قبل العلماء بتحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحر ميّت إذا ظلّت معدلات التلوث بهذا الشكل خصوصا من قبل فرنسا و إيطاليا و إسبانيا لذا كانت السواحل الفرنسيّة و الإيطاليّة و الإسبانيّة أكثر المناطق تضرّرا من تلوث البحر الأبيض المتوسط.

و قد قدّر الباحثون الفرنسيّون أنه قبل عشرين عاما كانت الجراثيم الملوثة لا توجد على بعد أكثر من «200» كيلومتر عن الشاطئ الفرنسي و لكنها وصلت حاليا إلى مسافة تزيد عن «320» كيلومترا.

و من أخطر أنواع التلوث البحري النفط الذي يشكل طبقة عازلة تمنع التبادل الغازي بين الماء و الهواء، فتمنع وصول الأوكسجين إلى الكائنات البحرية. كما و إن التصاق البقع النفطية بالأجسام يسبب لها أمراضا خطيرة.

الفقه، البيئة، ص: 80

و قد أدّى- مثلا- غرق ناقلة نفط واحدة سنة 1396 ه «1976 م» بحمولتها البالغة «109 ألف» طن إلى إضرار مادية تقدّر بأربعمائة مليون فرنك فرنسي، و تسبب في حرمان «40 ألف» عائلة من عملها الذي قوامه صيد الأسماك. هذا بالإضافة إلى الإضرار التي ألحقت بالنباتات و الحيوانات البحرية، و التي من الصعب تقديرها. و مثل هذه الإضرار تمتد أحيانا عقودا من الزمان. و تشكل قطرات النفط طبقة دقيقة جدا تعزل الماء عن الوسط الخارجي و تمنع بالتالي التبادل الغازي فتنتشر قطرة واحدة من النفط على مساحة يصل قطرها إلى «150 سنتمتر» كما و يغطي طن واحد من النفط مساحة قطرها «12 كيلومترا»، و يشكل النفط طبقة على سطح الماء تتراوح سماكتها بين «1 سنتمتر إلى 2 سنتمتر»، فينقطع

التفاعل بين الأوكسجين الخارجي و الأوكسجين الموجود في الماء، و كثيرا ما يعلو من مثل هذا السطح البخار الملوث، مما يضرّ الزرع و الإنسان بإضرار بالغة.

المخلّفات الصناعية و التلوث

و إلى جانب النفط هناك مخلّفات الصناعات التي تتجه صوب البحر، و تعتبر مصدرا من مصادر التلوث، فيتلوث الماء بالمعادن و الأملاح الكيماوية المختلفة كمصانع الحديد و الصلب و السيارات و.

و من المواد الملوثة التي تصل و بكميّات كبيرة إلى المياه، مادة الزئبق و هي مادة شديدة السمّية، فالصناعات الأمريكية وحدها تلقي سنويا حوالي «500» طن من هذه المادة في المياه، و الصناعات الفرنسية تلقي «50» طنّا كما يتسرّب ما حجمه «250 ألف» طن من الرصاص إلى مياه البحار

الفقه، البيئة، ص: 81

و الرصاص ليس بأقل من الزئبق في السمّية.

________________________________________

شيرازى، سيد محمد حسينى، الفقه، البيئة، در يك جلد، مؤسسة الوعي الإسلامي، بيروت - لبنان، اول، 1420 ه ق

الفقه، البيئة؛ ص: 81

و يرمى إلى المحيطات و البحار سنويا حوالي «100» طن من الكادميوم، و الذي يؤثر بشكل مباشر على مخ العظام، و بالتالي يتسبب في فقر الدم، لأن مخ العظام هو المسؤول عن صنع الكريات الحمر.

و يتسرب إلى البحر حوالي «300» طن من النحاس بالإضافة إلى المعادن الأخرى كالنيكل، و كل ذلك يؤثر على الإنسان بصورة خاصّة و على بقيّة المخلوقات بصورة عامّة.

و قد ظهرت في مدينة «ميناماتا» في اليابان منذ فترة ليست ببعيدة أمراض خطيرة حيث لوحظ لدى الصيادين تخلخل في النطفة و ضعف في الرؤية، و ظهرت أعراض شلل في عضلات اليدين و الرجلين. و بعد الدراسة تبيّن أن السبب يعود إلى تلوث البحيرة الموجودة في المدينة بالزئبق حيث يقذف المعمل القريب من المدينة مخلفاته إلى

الماء، و ينتقل تأثير هذا التلوث إلى الأسماك و منها إلى الصيادين الذين يتغذون على هذه الأسماك، و قد نجم عن ذلك إصابات بالموت بلغت حوالي «30 ألف» إنسان. كما و دلّت الدراسات على أثر هذا المرض في انتقاله وراثيا إلى أطفال الصيادين.

الفقه، البيئة، ص: 82

من هنا نبدأ

مسألة: يلزم التخلص من الأعراض الناشئة من التلوث و يتم ذلك بأمور:

الأول: ضبط الموازنة بين الصحة و الاقتصاد، فلا يجوز إهمال الجانب الصحّي لصالح العامل الاقتصادي، فما الفائدة من وجود أكداس من المال في البنوك اليابانية مثلا لو ابتلي الشعب بالأمراض.

إن الإسلام جعل الإنسان هو المحور لا المادة، قال سبحانه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرٰابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنٰابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَرٰاتِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّرٰاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَ مٰا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَى الْفُلْكَ مَوٰاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَ أَلْقىٰ فِي الْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهٰاراً وَ سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «1». فالإنسان هو محور الكون حسب هذه الآية و غيرها من الآيات.

و يجب أن يصبح هدف الحكومات هو الإنسان و ليس المادة، إذ المادة

______________________________

(1) سورة النحل: الآيات 10- 15.

الفقه، البيئة، ص: 83

في خدمة الإنسان و ليس الإنسان في خدمة المادة «1».

الثاني: إيجاد توصيلات لنقل المياه الملوثة من أماكن

تواجدها إلى المنخفضات، فتأسيس الأنابيب لهذا الغرض لا يقل أهمية عن تأسيس أنابيب النفط.

الثالث: يلزم تقسيم الماء في المدن إلى صنفين: ماء صالح للشرب، و ماء لتنظيف و إزالة الأوساخ، كما رأيت مثل ذلك في الكويت، حيث هناك ماءان: ماء للشرب و ماء آخر و يسمّى ب «الصليبي» يستفاد منه في أمور التنظيف و لسقي الحدائق.

الرابع: الإكثار من حملات التشجير التي لا تحتاج إلى سقي إذ إنها تصل بجذورها إلى المياه الجوفية الموجودة في باطن التربة، أو استعمال أساليب

______________________________

(1) و كذلك يجب الانتقال من دليل التنمية البشريّة- الذي يعتمد على مؤشرات: طول العمر+ المعرفة+ القدرة على التحكّم في الموارد اللازمة للحياة الكريمة- إلى دليل الرفاهيّة الاقتصادية- الذي يعتمد على متوسّط الاستهلاك+ التدهور البيئي. فيفترض في تقويم الأداء الاقتصادي، التقويم بين التنمية و البيئة، بمعنى ملاحظة حساب الموجودات البيئية- خامات طبيعيّة و موجودات مادّيّة و نفايات و مواد ضارّة- و تقدير الخسائر البيئيّة- تكاليف الخسائر و الإضرار للموادّ غير المتجدّدة و الخسائر الناجمة عن تلوّث الماء و الهواء و الأرض و الضرر البيئي الطويل الأجل كتغيّرات الدف ء العالمي و تلف طبقة الأوزون و تكاليف الوقاية لتجنّب الاستنزاف و تكاليف التخطيط و الدراسات لحماية البيئة- و حساب اهتلاك رأس المال الطبيعي- حساب النقص الحاصل في رأس المال الصناعي على شكل اهتلاكات- و الاستثمار في مجال حماية البيئة- وجود مواد لم يؤخذ ثمنها بالحسبان عند حساب الأرباح أو الدخول. فالبلاد التي يعتمد اقتصادها على المواد الأوّلية و الخشب و الخامات المعدنية و المحاصيل الزراعيّة من الممكن أن تسجل نموا إجماليا إن نظرنا إلى دليل التنمية و لكن تصاب بإفلاس إيكولوجي إن نظرنا إلى دليل الرفاهيّة الاقتصادية.

علما إنّ

الاعتماد على دليل الرفاهيّة يحتاج باستمرار إلى بيانات شاملة عن حالة التلوّث و عن مدى فعّالية المجتمع في تحقيق أهدافه التواصلية كإشراك الناس في اتخاذ القرارات و ما شابه، و هذا ما تفقده دول العالم الثالث و دول المعسكر الشرقي.

الفقه، البيئة، ص: 84

التقطير في سقي المزروعات.

الخامس: الحفاظ على النظافة قدر الإمكان سواء نظافة البيت أو المدرسة أو المدينة.

السادس: شنّ حملات تنظيف شعبية في المدن، و ذلك بدعوة أهالي المدينة إلى تنظيف بيوتهم و شوارعهم، و تتوقف عملية الإصلاح هذه على مقدار الوعي و التوكل على اللّه، إذ أن الجهل و الاستعمار و الغفلة عن اللّه سبحانه و تعالى تحول دون أمثال هذه الإصلاحات، و قد أشار إلى ذلك القرآن الكريم، حيث قال سبحانه و تعالى نَسُوا اللّٰهَ فَأَنْسٰاهُمْ أَنْفُسَهُمْ. «1».

______________________________

(1) سورة الحشر: الآية 19.

الفقه، البيئة، ص: 85

أقسام التلوث المائي

ثم إن التلوث المائي قد يكون طبيعيّا و هو تغيّر الماء بسبب رائحة كريهة أو تلوّن الماء بألوان الملوثات أو تغيّر مذاقه بسبب موت حيوان فيه و قد يكون غير طبيعي بسبب المخلّفات الصناعية.

و هكذا الذي يتغيّر بسبب مصدر نجس كالميتة فتتبدل رائحته أو لونه أو طعمه و يعتبر ماء نجسا في الشريعة.

و هذا أول ما يعرض للماء نتيجة التلوث؛ أما العارض الثاني فهو أن يتحول إلى مصدر سامّ يهدد حياة الإنسان، إذا تلوث بأحد المركبات الكيماوية مثل الزئبق و الرصاص و الزرنيخ أو أحد مبيدات الحشرات أو ما أشبه ذلك.

و لا فرق هنا بين كون المادة الكيماوية التي لوّثت الماء مادة قابلة للذوبان أو غير قابلة للذوبان بل تتراكم الكائنات الحية التي تعيش في الماء كالرصاص «1» و ما أشبه ذلك.

و من أعراض تلوّث المياه

ارتفاع درجة حرارتها، فالماء المستخدم في عمليات التبريد و في محطّات توليد الكهرباء و في معامل الصلب و الورق الذي يصرّف إلى البرك و الأنهار و البحيرات يؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة في تلك المياه.

كما و إن ارتفاع درجة الحرارة في المياه يؤدي إلى زيادة نمو الطحالب

______________________________

(1) و رمزه الكيماوي.

الفقه، البيئة، ص: 86

غير المرغوبة فيها و غير الصالحة لغذاء الأحياء المائية، و ينتج عن ذلك غازات كريهة و سموم تتراكم سنة بعد أخرى لتقضي على الحياة في الوسط المائي الملوث بها.

و ينجم عن التلوث الحراري، فقس بيوض الأسماك قبل مواسم توفر الغذاء المناسب مما يجعلها تواجه خطر الإبادة الجماعية.

أما التلوث البيولوجي يعني وجود مكروبات أو طفيليات مسببة للأمراض في المياه، كبعض أقسام الديدان أو البلهارزيا أو الطحالب أو ما أشبه ذلك، تسبب في تغيير طبيعة المياه و نوعيتها.

و لا بأس بأن نشير إلى أن الرواية الواردة في أن بني إسرائيل كانوا مأمورين برفع نجاسة البول بالقرض، واردة بالنسبة إلى البول فقط لا سائر النجاسات، و إلى بني إسرائيل فقط، مما يدل على أنهم قد أمروا بالقرض الشديد لتطهير مخرج البول و ما أصابه البول، لا القرض بالمقراض مما يسبب قطع قطعة من اللحم، فإن القرض يسمى أيضا قرضا من باب التشبيه.

و قد أمروا بذلك ربما لأن ماء مصر و منذ القديم كان محل جرثومة البلهارزيا، و لا يندفع هذا الجرثوم إلّا بالقرض الشديد، و هو موجود في البول بسبب المياه، على تفصيل ذكره الأطباء، و لسنا نحن بصدد تفصيله «1».

على أي حال: فاللازم تجنيب البحيرات و البحار و الأنهار و ما أشبه ذلك، من المخلفات الصناعية التي يتم تصريفها إلى الماء، و التي

تؤدي إلى تلوث الماء بالأحماض و القلويّات و الأصباغ و المركبات الضارة و الأملاح السامة و الدهون و الدم و البكتيريا و الصابون و المنظفات الصناعية و ما أشبه ذلك من

______________________________

(1) و قد ذكر الإمام المؤلّف تفصيل ذلك في «موسوعة الفقه: كتاب الآداب و السنن و كتاب الطهارة».

الفقه، البيئة، ص: 87

الإفرازات التي يفرزها جسم الإنسان، و هذه تنتقل إلى الأحياء عن طريق الجلد و الجروح و الفم، عند الاستحمام و السباحة أو عند تناول الأسماك و الكائنات البحرية المصابة بهذه الأحياء الدقيقة الممرّضة.

طرق الوقاية

و للوقاية من التلوث المائي بالإضافة إلى ما تقدم يجب أن نقوم بما يلي:

1- ملاحظة أماكن رشّ المبيدات التي تستعمل للمحاصيل الزراعية أن لا تكون بالقرب من الترع و القنوات و الأنهار.

2- عدم صرف المياه التي يغسل فيها الأموات إلى الأنهار- كما كان يفعل في كربلاء المقدسة سابقا في مغتسل المخيّم- أو كما فعل نهرو في الهند حيث بعث إلى نهر الكنج حيتان لتأكل جثث الموتى التي تلقى في النهر، و بعبارة أخرى معالجة مياه الصرف الصحي قبل دفعها إلى الأنهار.

3- عدم إلقاء المواد البلاستيكية في المياه، لأن ذلك يسبب قتل الأسماك و الطيور و إلحاق الضرر بها.

4- منع تصريف المياه الحارة الناتجة عن المفاعلات النووية أو مراكز التحلية أو توليد الطاقة، إلى الأنهار و البحار، كما ينبغي عقد اتفاقيات دولية في هذا المضمار، و غير ذلك «1».

______________________________

(1) و هناك حلول أخرى نذكر بعضها على نحو الإيجاز: أ- وضع اتفاقيّات للمحافظة على الثروة المائيّة، و اتّخاذ آليات محكمة لأجل تطبيق هذه الاتفاقيّات. ب- حماية الموارد المائيّة و الدوليّة و ثرواتها و رصد أموال لمحاربة تلوّثها. ج- تشريع القوانين على أسس

علمية رصينة.

الفقه، البيئة، ص: 88

مخاطر السفن و التفجيرات النووية

و مما يزيد من التلويث، حركة السفن حيث أنها تلوث المياه بنفاياتها.

و أما التفجيرات الذرية، فتؤدي إلى زيادة التلوث بالإشعاعات الذرية في جميع أنحاء العالم نتيجة تحرك المياه أو الأمواج التي تحمل هذه الإشعاعات أو تحرّك الهواء.

و إذا غرقت السفن التي تحمل منتجات كيمياوية يدخل الرصاص في تكوينها، فإنها تسبب تلوث المياه بالرصاص، و كذلك عند ما تلقي بعض المعامل الكيماوية نفاياتها و فضلاتها إلى المياه البحرية و تقوم التيارات المائية بسبب المدّ و الجزر أو نتيجة دخول مياه الأنهار الجارية إلى البحار بنقل المياه الملوثة بالرصاص و غيره إلى مكان آخر.

و يتركز الرصاص في الأنسجة اللحمية للأسماك و للإحياء المائية، و منها ينتقل إلى الإنسان مما يسبب حوادث التسمم بالرصاص، و التي تسبب في الموت البطي ء.

و للرصاص تأثير مباشر على خلايا المخ فهو يسبب الجنون و العنة أو ما أشبه ذلك من أمراض المخ؛ و يسبب الشلل النصفي أيضا و في بعض الأحيان الشلل الكلي أو فقد العين أو الأذن أو انسداد الحنجرة أو ما أشبه ذلك.

الفقه، البيئة، ص: 89

التلوث بالزئبق

مسألة: و من ملوثات البيئة الزئبق، و يأتي التلوث بالزئبق من المصادر التالية:

1- المخلفات الصناعية 2- محطات تقطير الماء 3- المخلفات و النفايات 4- مياه الصرف الزراعية 5- مصانع إنشاء السفن و مخلفاتها 6- المياه المستخدمة في استخراج المعادن 7- مخلفات مياه المجاري و يهاجم الزئبق «1» خلايا المخ و الجسم عبر الأسماك و النباتات الملوثة بهذه المادة، و لا يوجد علاج حقيقي لحالة التسمم الناتجة عن الزئبق «2»، و قد وجد

______________________________

(1) و هو معدن جرعته السمّية يعبّر عنها بالمليغرام/ كيلو غرام/ لوزن الجسم يوميّا، فجرعته 3، 000% لكلّ ملغم/ كغم من

وزن الجسم يوميا.

(2) و قد استخدم النظام البعثي في العراق عام 1971 م الزئبق لتسميم الحبوب بعد أن طحن كدقيق و وزّعه على الناس الأبرياء و تسمّم إثر ذلك 6500 شخص و توفّى منهم 500 شخص على أقلّ التقادير. و كذا استخدام نفس الأسلوب عبد الكريم قاسم عام 1960 م. علما إنّ التسمّم بالزئبق يؤدّي إلى فقدان البصر و فقدان حاسّة السمع و فقدان القدرة على التركيز و فقدان الذاكرة و أعراض أخرى.

الفقه، البيئة، ص: 90

الباحثون الغربيون أن هناك نوعا من الأسماك يسمّى «سمك السيف» يقوم بتركيز كميات كبيرة من الزئبق في لحمه و أنسجته، فإذا ما تناوله الإنسان انتقل هذا السمّ إلى جسده و أضرّ بصحته، و ربما أدى إلى وفاته مع ازدياد تركيزه. و ليس معنى ذلك أنه يقتله في الوقت بل بالتدريج، بعد ما يصاب بآلام مبرحة في مختلف أجزاء جسمه، و لهذا السبب فقد منعت الحكومة صيد هذا السمك و بيعه في أسواق أمريكا الشمالية، و تقوم الشركات بتصديره إلى أماكن أخرى من العالم، و هذا ما يؤكد جشع الرأسمالية الغربية التي لا يهمها سوى المال.

إسرائيل و مادة الزئبق

تعتبر إسرائيل من أهم مصادر تلويث مياه البحر المتوسط بالزئبق، و قد تناقلت وكالات الإنباء أخبارا مفادها أن شركة حيفا للكيماويات تقوم و منذ عدّة سنوات بدفن كميّات كبيرة من مخلّفات الزئبق في البحر الأبيض المتوسط، و قد حاولت منظمة السلام الأخضر «1» منعها عن ذلك لكنها لم تعتن بتحذيرات هذه المنظمة.

و المعروف أن إسرائيل لا زالت تمتنع عن التوقيع على اتفاقية حظر دفن المخلّفات الصناعية.

و لا شك أن وراء ذلك جشعا ماليا هدفه الربح المالي، بينما أكد

______________________________

(1) و هي من المنظّمات النشطة

التي تعتني بشؤون البيئة. و يوجد في العالم أكثر من مائة ألف منظّمة عالميّة و محلّية لحماية البيئة، و تضمّ أكثر من مائتين مليون عضو نصفهم في العالم الثالث.

الفقه، البيئة، ص: 91

الإسلام على تحريم حصول المال بالأسباب غير السليمة و أنّه يوجب العقاب في الآخرة، قال رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»: (إذا كان يوم القيامة لم تزل قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه و عن شبابه فيم أبلاه و عن ما اكتسبه و من أين اكتسبه و فيم أنفقه و عن حبّنا أهل البيت) «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 77 ص 162 ح 1 ب 7، و قد ورد في كتب العامة: (لا تزول قدماء- يوم القيامة- حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و عن جسده فيما أبلاه، و عن ماله فيما أنفقه و من أين اكتسبه، و عن محبتنا أهل البيت) أنظر مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي:

ص 119 ح 157، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ص 109، المناقب للخوارزمي: ص 53- 56، مجمع الزوائد: ج 10 ص 146، مقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 42، ينابيع المودة:

ص 113 و ص 270 و ص 271. هذا و هناك تسمّم بالمنغنيز لا يقل أثره عن التسمّم بالزئبق حيث يؤدّي بمتناوله إلى عدم التناسق في الحركات و صعوبة الوقوف بشكل منتصب و وهن في التكلّم و الشعور بالتعب و ارتعاش في الأطراف.

الفقه، البيئة، ص: 92

تلوث مياه الأمطار

اشارة

مسألة: يجب حماية مياه الأمطار و المياه الجوفية من التلوّث، فان من طبيعة الأمطار أن تطهّر الهواء من الملوثات كالنتروجين و الكبريت و ذرّات التراب و غيرها، و تتركز

هذه الملوثات في المياه الجوفية.

و تذوب الملوثات الغازية التي تنفثها المصانع الحديثة بسبب مياه الأمطار أثناء سقوطها مما يؤدي إلى تلوّث المسطحات المائية و التربة التي تتساقط عليها هذه المياه.

و التلوث من الأمطار يكثر في المناطق الصناعية، أما تلوث المياه الجوفية، فإنها تتعرض للتلوث جرّاء تسرب المواد الكيماوية إليها أو أنها تتلوث نتيجة تسرب مياه المجاري إليها، أو تسلل مياه الأمطار الحمضية إلى الطبقات التحتية التي تكون مخزنا واسعا تحت القشرة الأرضية، كما تتلوث المياه الجوفية ببعض المعادن و الأملاح التي توجد في صخور الطبقات الحاملة لهذه المياه.

و لذلك أصبح من الضروري حماية الماء من الملوثات، مثل معالجة مياه المجاري قبل تصريفها إلى المسطحات المائية. و مثل تطهير مياه الشرب باستعمال الأوزون أو الكلور أو الأشعة فوق البنفسجية.

و مثل استعمال الوسائل الميكانيكية بتجميع النفط الطافي و العائم فوق سطح الماء.

و مثل التخلص من الطحالب و النباتات المائية الملوثة لمياه الأنهار بالوسائل

الفقه، البيئة، ص: 93

الميكانيكية.

و مثل معالجة مخلفات المصانع قبل تسريبها إلى المسطحات المائية.

و لذا أخذت بعض الدول الغربية بتنقية معظم مياه المجاري قبل انسيابها إلى المياه الأرضية. و تستخلص معظم المواد العضوية بواسطة الترسيب و بفعل الأحياء الدقيقة التي تقوم باستخلاصها عند ما تمرّ الفضلات المعلّقة عبر الأغشية الراشحة. و مع ذلك فلم ترجع الأنهار و البحار و البحيرات إلى نقاوتها الأصلية.

و هناك في أوربا هيئات توجب العمل على تنظيف و استخراج مياه الشرب من المناطق التابعة لها، و التحكم في فضلات المجاري و الأوساخ التي تلقى في هذه الأنهار، و يعتقد بأن اهتمام هؤلاء العاملين ينتج عنه انهار نظيفة، لكن من الواضح أنّ النظافة قبل التوسيخ ليست كالنظافة بعد التوسيخ.

و مع أنه

يتم إعادة معالجة المياه الملوثة في بريطانيا بكل دقة و اهتمام إلّا أن معظم الأهالي يصابون بمختلف الأمراض الناشئة عن التلوث و غيرها «1».

و مع كل ذلك فلم يرجع الأمر إلى الحالة الطبيعية.

و يعتبر تلوث الماء بالمواد المشعّة من أخطر أنواع التلوث، و تنتج المواد المشعّة عن التجارب النووية و المفاعلات الذرية و المحطات النووية «2» و عن حفظ

______________________________

(1) حتى أنك لا تجد في تلك البلاد خوام طعام إلّا و فيه قناني دوائية، شربة أو قرصا أو ما أشبه ذلك.

(2) في نهاية الثمانينات هبط إنشاء المحطّات النووية إلى 50 محطّة بعد أن كان عددها في بداية الثمانينات 200 محطّة، و ذلك لأمور منها: فقدان الوسيلة المناسبة لتخزين نفاياتها و لقصر عمر المحطّات التي لا تتجاوز ثلاثين عاما و للتخوّف من استخدام الموادّ النووية في صنع السلاح. و إنّ المحطات النووية تنتج ما يسمّى بالغبار الذرّي يتصاعد إلى طبقات الجوّ العليا ليمتزج مع السحب و يسقط على شكل أمطار و يلوّث الإنسان فضلا عن التربة و المياه، و يصل تلوّثه إلى الإنسان عبر الاستنشاق أو عبر شرب الماء الملوّث بالإشعاع أو أكل الخضروات و الفواكه أو بتناول لحوم الحيوانات أو ألبانها، و إن العاملين في هذه المحطّات يتعرّضون أكثر من غيرهم لجرعات إشعاعيّة تزيد عن خمسة- ريم- و هي وحدة قياسيّة للإشعاعات ممّا يؤثّر على سلامتهم و سلامة نسلهم، هذا و إنّ للتفجيرات النووية موادّ مشعة كاليود المشع و الذي يصل عمره إلى أكثر من مائة عام و الذي يترسب على سطح الخضروات و مياه البحار و يسبّب سرطان الغدّة الدرقيّة. و الكربون المشع و يصل عمره إلى 5800 سنة و يترسب على سطح المحاصيل

الزراعيّة و يسبّب أمراضا مزمنة. و الاسترونشيوم و يصل عمره إلى 28 سنة و يترسب على التربة و يحوّلها إلى تربة غير صالحة للزراعة. و السيزيوم و يصل عمره إلى ثلاثين سنة و يترسّب على النباتات و التربة.

الفقه، البيئة، ص: 94

النفايات الذرية في أعماق البحار «1».

و بسبب ذلك أخذت المواد المشعّة تزداد في أنسجة الكائنات الحيّة و خاصة في بعض أقسام النباتات، و وصل تركيز المواد المشعّة في نسجها إلى ألف مرة أكثر من تركيز نسج هذه المواد في الماء، و بسبب كون هذه النباتات هي الغذاء الرئيسي للحيوانات البحرية، فقد أخذت المواد المشعّة تتركز في أجسام الحيوانات البحرية كالأسماك و الطيور و غيرها لدرجة أنها وصلت في أنسجة بعض الأسماك إلى «20 أو 30 ألف مرة» أكثر من تركيزها في الماء.

الوقاية من التلوث

و في الكتاب و السنة آيات و روايات كثيرة يستفاد منها وجوب التوقّي

______________________________

(1) و إنّ هذه النفايات لها قابليّة تصدير نشاطها الشعاعي لمدّة تزيد على 1500 سنة، و إن حفظ هذه المواد سواء في البحار أو تحت الأرض يعرّضها إلى تآكل جدران الحاويات التي تحتوي هذه النفايات و إلى الهزّات الأرضيّة و الزلازل. علما إنّ أفضل طريقة في الوقت الحاضر لحفظ النفايات هي معالجة النفايات المشعّة و تركيز الموادّ سائلة و تحويلها إلى موادّ صلبة على هيئة قوالب تختلف مكوّناتها تبعا للمستوى الإشعاعي للمواد المحفوظة. و عند انخفاض مستوى الإشعاع تحفظ في قوالب إسمنتيّة ثم توضع في قوالب من الرصاص ثمّ تغلّف بعد ذلك بألواح من الصلب بحيث تكون متماسكة و لا ينبعث منها أيّ شي ء ثمّ تلقى في المكان المطلوب.

الفقه، البيئة، ص: 95

و عدم التلويث، فقد قال سبحانه وَ

أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً «1»، و قال سبحانه كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّٰهِ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «2»، و عن الإمام الصادق عليه السلام: (قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام أين يضع الغرباء؟ قال: يتقي شطوط الأنهار و الطرق النافذة و تحت الأشجار المثمرة و مواضع اللعن، فقيل له: و أين مواضع اللعن؟ قال:

أبواب الدور) «3». فإن من الواضح أن الشطوط- أي ضفاف الأنهار- إذا تخلّى فيها تسربت النجاسة إلى النهر مما يسبب تلويث الماء.

و عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن آبائه قال: (نهى رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم» أن يتغوّط على شفير بئر ماء يستعذب منها أو نهر يستعذب أو تحت شجرة فيها ثمرتها) «4».

و ورد في حديث آخر: (و لا تبل في ماء نقيع) «5».

و عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه نهى أن يبول الرجل في الماء الجاري إلّا من ضرورة، و قال: (إن للماء أهلا) «6»، و في حديث الفقيه قال قد روي: (إن البول في الماء الراكد يورث النسيان) «7».

و عن رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» في حديث المناهي، قال:

______________________________

(1) سورة الفرقان: الآية 48.

(2) سورة البقرة: الآية 60.

(3) الكافي (فروع): ج 3 ص 15 ح 2.

(4) التهذيب: ج 1 ص 353 ح 11 ب 15.

(5) الكافي (فروع): ج 6 ص 534 ح 29 ب 3.

(6) التهذيب: ج 1 ص 34 ح 29 ب 3.

(7) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 22.

الفقه، البيئة، ص: 96

(فإنّه نهى أن يبول أحد في الماء الراكد، فإنه يكون منه ذهاب العقل) «1».

و عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: (من

تخلّى على قبر أو بال قائماً أو بال في ماء قائماً- إلى أن قال- فأصابه شي ء من الشيطان لم يدعه إلّا أن يشاء اللّه) «2».

و في حديث أن رسول اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»: (كره البول على شطّ نهر جار) «3»، و العلة في ذلك إن للأنهار سكانا من الملائكة، (و لا في ماء راكد) «4»، و العلة فيه إنه ينجّسه «5» و يقذّره، و يأخذ المحتاج و هو لا يعلم فيتوضأ منه و يصلي فيه أو يشربه أو يغتسل به.

و قد أمر الشارع بجعل فاصلة بين البئر و البالوعة حتى لا يسري ما في البالوعة إلى البئر، فقد سأل الراوي الإمام الصادق عليه السلام: كم أدنى ما يكون بين البئر و البالوعة؟ فقال عليه السلام: (إن كان سهلا فسبع أذرع، و إن كان جبلا فخمسة أذرع) «6».

و عن أبي بصير قال: نزلنا في دار فيها بئر إلى جنبها بالوعة ليس بينهما إلّا نحو من ذراعين فامتنعوا من الوضوء منها فشقّ ذلك عليهم فدخلنا على أبي عبد اللّه عليه السلام فأخبرناه، فقال: (توضؤوا منها فإن لتلك البالوعة مجاري تصب في وادي ينصبّ في البحر) «7»، بل في بعض الروايات فاصلة عشرة

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 4 ح 4968 ب 2.

(2) الكافي (فروع): ج 6 ص 533 ح 2.

(3) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 557 ح 4914 ب 2. ج 4 ص 357 ب 2 ح 5762.

(4) و ورد في الحديث: (و لا يجوز أن يبول الرجل في ماء راكد). من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 22.

(5) إذا كان أقل من كرّ أو بمقدار كر إذا

تغيرت أحد أوصافه الثلاثة.

(6) الكافي (فروع): ج 3 ص 80 ح 3.

(7) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 19 ح 24.

الفقه، البيئة، ص: 97

أذرع. فعن العلاء قال سألت أبا عبد اللّه جعفر الصادق عليه السلام عن البئر يتوضأ منها القوم و إلى جانبها بالوعة، قال عليه السلام: (إن كان بينهما عشرة أذرع و كانت البئر التي يستقون منها مما يلي الوادي فلا بأس) «1»، و حتى إذا كانت يد الإنسان متسخة نهى عن أن يغترف بها الماء قبل أن يغسلها.

و في رواية قال الإمام الصادق عليه السلام لشهاب: (جئت تسألني عن الجنب يسهو فيغمر يده في الماء قبل أن يغسلها، قلت: نعم، قال: إذا لم يكن أصاب يده شي ء فلا بأس) «2».

و في رواية: عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: (إذا أصابت الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس إن لم يكن أصاب يده شي ء من المني) «3».

و هناك روايات كثيرة في منزوحات البئر، تنزح المنزوحات منها حتى ينتهي الماء كلّا لبعض الوساخات أو تنزح منها دلاء كثيرة أو قليلة لبعض المنزوحات الأخرى حتى تذهب عنها آثار التلوث على حسب اختلاف الموارد و الاختلاف وجوبا و استحبابا. و في الرواية إن الماء الذي يصبّ على الميّت لأجل غسله يدخل في البالوعة أو حفيرة، و المفهوم العرفي من ذلك عدم دخول الماء في بحر أو نهر أو ما أشبه ذلك، كما يعتاد عند بعض الناس في القرى و الأرياف، فإن ذلك يوجب تلويث الماء كما هو واضح؛ حتى أنه نهي عن الاغتسال قرب الماء في و هدة أو ما أشبهها إذا كان

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 80 ص

141 ح 8 ب 11.

(2) الكافي (فروع): ج 3 ص 11 ح 3 و فيه (في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها انه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي ء).

(3) التهذيب: ج 1 ص 37 ح 38 ب 3، الاستبصار: ج 1 ص 20 ح 2 ب 10، ص 50 ح 4 ب 30.

الفقه، البيئة، ص: 98

ماء الغسل يرجع إلى ماء الوهدة.

فقد سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن رجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل و ليس معه إناء، و الماء في وهدة، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال: (ينضح بكفّ بين يديه و كفّا من خلفه و كفّا عن يمينه و كفّا عن شماله ثم يغتسل) «1»، أقول: و ذلك لأن لا يرجع الماء الذي استعمله في الغسل إلى ماء الوهدة و نحوها فيتلوث به.

و في حديث: (و إن اغتسلت من ماء في وهدة و خشيت أن يرجع ما ينصبّ عنك إلى المكان الذي تغتسل فيه أخذت له كفّا و صببته عن يمينك و كفّا عن يسارك و كفّا خلفك و كفّا أمامك و اغتسلت منه) «2».

و في رواية مثل ذلك قال عليه السلام: (و لا تفسد على القوم ماءهم) «3».

و هناك جملة من الأحاديث في «وكي السقاء» تشير إلى حماية الماء من الملوثات التي قد تنتقل إليه من الهواء أو من الحشرات الناقلة للجراثيم و الطفيليات، مثل الصراصير و الفئران و النمل و البعوض و ما أشبه ذلك، و قد ذكرنا جملة من هذه الروايات في مختلف أبواب الفقه.

______________________________

(1) التهذيب: ج 1 ص 417 ح 37 ب 21.

(2) بحار

الأنوار: ج 80 ص 141 ح 8 ب 11.

(3) الكافي (فروع): ج 3 ص 65 ح 9، التهذيب: ج 1 ص 149 ح 117 ب 6، ج 1 ص 158 ح 9 ب 8.

الفقه، البيئة، ص: 99

تلوّث التراب

مسألة: الأرض أيضا قد تتعرض إلى التلوث، و المراد بالأرض التراب المفروش على سطح الكرة الأرضية «1»، إذا الأرض قد تطلق على مثل ذلك، كما جاء في قوله سبحانه و تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرٰاشاً وَ السَّمٰاءَ بِنٰاءً. «2»، و قال سبحانه قٰالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهٰا بَقَرَةٌ لٰا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ. «3»، و المراد بذلك إثارة التراب.

و قال سبحانه و تعالى وَ تَرَى الْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا الْمٰاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «4»، و قال سبحانه وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلىٰ طَعٰامٍ وٰاحِدٍ فَادْعُ لَنٰا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنٰا مِمّٰا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهٰا وَ قِثّٰائِهٰا وَ فُومِهٰا وَ عَدَسِهٰا وَ بَصَلِهٰا قٰالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. «5»، و هذا المعنى في مقابل إرادة جهة السفل في مقابل جهة العلو كما في الآية الكريمة يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطٰارِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لٰا تَنْفُذُونَ إِلّٰا بِسُلْطٰانٍ «6»،

______________________________

(1) و مطلق الأرض على الأعم من كلّ أقسامها من الصخريّة و الجبليّة و الرمليّة و ما أشبه.

(2) سورة البقرة: الآية 22.

(3) سورة البقرة: الآية 71.

(4) سورة الحج: الآية 5.

(5) سورة البقرة: الآية 61.

(6) سورة الرحمن: الآية 33.

الفقه، البيئة، ص: 100

و قال سبحانه وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ إِلّٰا مٰا شٰاءَ رَبُّكَ

عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ «1»، حيث أن المراد بالأرض الناحية السفلى، و السماوات الناحية العليا، إذ لا سماوات و لا أرض في الآخرة ظاهرا.

و الأرض قد يراد بها قطعة خاصة، و قد يراد بها مطلق وجه الأرض، و قد استعمل المعنيان في القرآن الكريم، قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّٰاهُمُ الْمَلٰائِكَةُ ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ قٰالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قٰالُوا كُنّٰا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قٰالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّٰهِ وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا. «2»، فإن اللفظ الأول للأرض يراد بها القطعة الخاصة، و إن اللفظ الثاني للأرض بمعنى أعم من ذلك بالقرينة كما هو واضح.

و اللّه سبحانه و تعالى خلق الأرض طاهرة مطهّرة، كما قال «صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»: (جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا) «3»، و تطهّر الأرض من يمشي عليها إذا كانت قدمه نجسة بشروط مذكورة في الفقه، و قد ورد في الحديث: (إن الأرض تطهّر بعضها بعضا) «4»، كما أن التراب يستعمل كمادة لتطهير الولوغ من الأواني و نحوها.

و يتلوث سطح الأرض بشكل عام نتيجة لتراكم المواد و المخلّفات الصلبة التي تنتج من المصانع و المزارع و المنازل و المطاعم و الدكاكين و ما أشبه ذلك.

فالتلوث يفقد الأرض خصوبتها، و يؤثر تأثيرا سيئا، حيث يتسبب التلوث في

______________________________

(1) سورة هود: الآية 108.

(2) سورة النساء: الآية 97.

(3) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 240 ح 724.

(4) الكافي (فروع): ج 3 ص 38 ح 2.

الفقه، البيئة، ص: 101

قتل البكتيريا النافعة التي تعمل على تحليل المواد العضوية و على تثبيت عنصر النيتروجين. و لذا تتجدّد نظافتها بهذا السبب بالإضافة إلى الشمس و الماء و الهواء، فإن العناصر الأربعة كلّها مطهّرة.

فإذا تمكنت ملوثات البيئة من القضاء

على أنواع من البكتيريا النافعة الموجودة في الدورة الطبيعية لعنصر النيتروجين- الضروري لنمو النبات-، فإنّ الحياة على كوكب الأرض سواء حياة الإنسان أو الحيوان أو النبات سوف تأذن بالفناء.

و ارتفاع نسبة الأملاح في الأرض عن المعدل الطبيعي المقرر يوجب تلوث التربة، حيث يؤدي ذلك إلى خبث الوسط البيئي الذي يمكن للنبات أن ينمو و يعيش و يتكاثر فيه، و لذا تضعف قدرة النبات على المقاومة فيموت.

فتعطي النباتات الصالحة مكانها لنباتات شوكية تستطيع أن تتحمّل الحياة في هذه الظروف القاسية.

و هذه النباتات الشوكية أيضا لها قدر خاص من العمر ثم تتحول الأرض إلى مناطق جرداء و تصبح صحراء لا نبت فيها و لا كلأ، و كلما نزل عليها المطر غار في أجوافها.

و قد يتسمم النبات نتيجة الملوثات مثل الزئبق و ما أشبه ذلك. و قد حدث في قرية «تويوما» اليابانية شي ء دلّ على هذا الأمر دلالة واضحة، فقد أصاب أهالي القرية مرض عجيب، و جعلهم غير قادرين على الحركة و أوجد لديهم ضمورا في الطول، فأصبحوا أقزاما ثم اتضح السبب عند الأطباء، فقد تسرّبت السموم إلى التربة الزراعية، ثم إلى نبات الرز حيث لوّث المحصول، و حيث إنّ اليابانيين يأكلون الرز كثيرا انتقل السمّ إليهم.

و النفايات الصلبة و النفايات المنزلية هي مما يسبب تلوث الأرض،

الفقه، البيئة، ص: 102

و حيث زيادة الصناعة و زيادة الاستهلاك أخذت هذه الفضلات تزداد و تزداد، و قد ذكرت بعض التقارير أنه كان متوسط وزن الفضلات الصلبة في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقارب «الكيلو غراما» لكل مواطن يوميّا في سنة 1364 ه «1945 م»، و قد ارتفع هذا العدد ليصل في سنة 1411 ه «1990 م» إلى نحو «700 كيلو غرام»

لكل مواطن سنويا أي 700 ضعف ما كان سابقا، و هذه الفضلات عبارة عن الورق و البلاستيك و المواد الغذائية التي تلقى في النفايات و قطع الحديد و الزجاج و ما أشبه. فإن هذه النفايات بالإضافة إلى تسميمها للأرض تكون مركزا لتجمع الحشرات و الأحياء الناقلة للأمراض من الديدان و الصراصير و العناكب و ما أشبه ذلك.

و معالجة القمامة بحرقها تؤدي إلى تبديد الطاقة الموجودة في القمامة و إلى تلوث الهواء بالرماد السام المتطاير أضف إلى ذلك الروائح الكريهة و الغازات الأخرى كالنتروجين و أكاسيد الكبريت و أول أكسيد الكربون.

و في الحال الحاضر تجري معاهد الأبحاث دراسات علمية لاستنباط تقنيّات جديدة تحول دون تكوين النثرات السامة عند إضافة الأسمدة النتروجينية إلى التربة. و قد ثبت عند العلماء أن هذه الأسمدة تسبب عجز النبات عن امتصاص بعض العناصر الغذائية الأخرى الموجودة في التربة، و إنه بسبب هذه النفايات تنتقل بعض الأمراض الخطرة إلى البشر منها السرطان «1». كما و إنّ التربة تتلوث نتيجة لسقوط الأمطار الحمضية عليها أو نتيجة لسقوط الغبار الذّري الناتج عن التفجيرات النووية. و تتلوث أيضا بالملوثات التي تكون مرافقة أو ذائبة في مياه الريّ أو المياه الجوفية. و عليه فمن

______________________________

(1) إن بلدا كالسلفادور يعيش نصف سكّانه على النفايات و مراكز القمامة، و أكثر من 600 عائلة تعتمد على القمامة كمصدر رئيسي للدخل و العيش.

الفقه، البيئة، ص: 103

اللازم على الحكومات حماية الأرض عن هذه الملوثات، و إلّا لانتشرت الأمراض أكثر فأكثر سواء بصورة مباشرة أو بسبب الغذاء أو الماء أو استعمال الملوثات، أمثال الحفاضات و الظروف و الأواني التي تستعمل لمرة واحدة، أو المناديل الورقية أو ما أشبه ذلك.

و مسؤولية الإنسان

كبيرة نحو الطبيعة و البيئة، و قد قال الإمام علي عليه السلام:

(فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع و البهائم) «1».

و «البقاع» تشمل الأراضي البعيدة، فالإنسان مسؤول عنها، و مسؤول عن عمارتها، و مسؤول عن نظافتها، و سيأتي اليوم الذي ستتكلم فيه الأرض، حتى التراب الذي في أعماق الأرض سيتكلم عمّا جرى، فإذا أدّى الإنسان المسؤولية، فإن إقرار الأرض سيكون لصالح الإنسان و إلا فلا، و قد قال تعالى:

إِذٰا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا. وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا. وَ قٰالَ الْإِنْسٰانُ مٰا لَهٰا. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبٰارَهٰا. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَهٰا «2»، فاللّه سبحانه و تعالى يوحي إلى الأرض بأن تتكلم عمّا وقع عليها، و الأرض هي حية لا مثل حياتنا و إنّما حيّة بحياتها، قال سبحانه قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ «3»، و قال سبحانه فَإِذٰا هُمْ بِالسّٰاهِرَةِ «4»، حيث الأرض الآن هامدة و راقدة، و سيأتي اليوم الذي ستكون فيه ساهرة تخبر عمّا حدث عليها من طاعة و إصلاح أو معصية أو فساد أو إفساد أو ما أشبه ذلك.

و لا شك إنّ من مصادر التلوث في الهواء حرق الأموات، فإن هذه

______________________________

(1) الكافي: (أصول): ج 2 ص 331 ح 6 و ص 335 ح 23، النهج باب الرسائل رقم 167.

(2) سورة الزلزلة: الآية 1- 5.

(3) سورة فصلت: الآية 11.

(4) سورة النازعات: الآية 14.

الفقه، البيئة، ص: 104

العملية تؤدي إلى ارتفاع الدخان و الرماد و الغازات عن هذه الحرق، بينما دفن الأموات في باطن الأرض، كما تفعل الديانات السماوية، هي الأفضل حفاظا على الهواء من التلوث و حفاظا على حرمة الميت و لغير ذلك، و لذلك كان الدفن واجبا.

و من ناحية تقوم البكتيريا بتحليل المواد العضوية في البدن، و ترجع الإنسان

إلى أصله، فيصبح هذا التراب صالحا للزراعة.

و من مصادر تلوث الأرض فضلات الحيوانات- في الجملة-، و كذلك الأمر بالنسبة إلى فضلات الإنسان؛ و أما استخدامها كأسمدة في البساتين فهو الأفضل بديلا عن الأسمدة الكيماوية «1»، أما اليوم فأصبحت أغلب الأغنام و الأبقار و الدواجن تربى في أماكن محدودة خصوصا في الدول المتقدمة، فلا ترعى في الأرض الشاسعة، و كان حصيلة ذلك تجمّع فضلات الحيوانات في هذه الأماكن مسببة التلوث بدل أن تكون مصدرا للسماد الطبيعي.

و لا شك إنّ فضلات الحيوانات أكثر من فضلات الإنسان أضعافا مضاعفة، فلو أردنا أن نقيس أهمية فضلات الحيوانات في بلد كبريطانيا التي تربي و حسب إحصاء سنة 1390 ه «1970 م»، «13 مليون» من الماشية و «8 ملايين» من الخنازير و «133 مليون» من الدواجن، فكم من الأرباح ستجنيها بريطانيا لو استثمرت فضلات هذه الحيوانات كسماد طبيعي، بدلا

______________________________

(1) هناك قانون جعله اللّه سبحانه و تعالى في الطبيعة، و هو: إنّ فضلات أحد الكائنات الحيّة هي أسباب حياة كائن حيّ آخر، و هناك بعض الدول تعمل بهذا القانون جزئيا، ففي الصين و اليابان و كوريا الجنوبية تعاد فضلات الإنسان إلى أراضي زراعة الخضروات. و قد ثبت علميا استخدام الفضلات البشريّة بعد معالجتها لتخصيب عمليّات تربية الأحياء المائية، فالتدفّق المنتظم للمغذيات التي تحتوي عليها الفضلات البشريّة إلى البرك يمكنه إمداد جمهرة الطحالب النشيطة النمو بالغذاء و من ثمّ تلتهمها الأسماك.

الفقه، البيئة، ص: 105

عن الكثير من معامل الأسمدة الكيماوية التي تجلب الضرر المادي بالإضافة إلى أنها مصدر من مصادر التلوث.

و في بعض المزارع تنقل فضلات الحيوانات إلى برك صحية فيها أوكسجين إضافي حيث تتحلّل المواد العضوية، و لكن هذه البرك قد

تمتلئ بالأمطار الغزيرة، و مرة أخرى تلوث الأنهار، و في بعض الأحيان يقوم الفلاحون و من أشبههم من أصحاب الحقول بالتخلص من فضلات حيواناتهم برميها في مراكز الفضلات الرسمية، حيث تبقى ساعات كافية كي تتحلل.

و الفلاحون يفرض عليهم دفع بعض الرسوم، و بعض الفلاحين يمتلكون مراكز لأنفسهم برأسمال حوالي «20 ألف» جنية إسترليني، و كثيرون منهم أفلسوا نتيجة ازدياد مصاعب التخلص من هذه الفضلات، و أصبحت عملية التخلص من هذه الفضلات عملية غير اقتصادية.

و لا يخفى إن العلاج لا يكفي للتخلص من مشكلة التلوث بل من المفترض إجراء عمليات الوقاية أيضا، فإنّ «قيراطا من الوقاية خير من قنطار من العلاج». و ضمان الوقاية من التلوث هو الأخذ بتعاليم الأنبياء و الأولياء الصالحين «عليهم السلام»، كما كان الأمر كذلك قبل الثورة الصناعية، حيث كان تمسك الناس بالدين أقوى بكثير من الوقت الحاضر.

و من طرق الوقاية و المحافظة على التربة استخدام الحشائش التي تؤدّي إلى البقاء على رطوبة التربة، و زراعة المحاصيل التي تتحمّل الجفاف و الملوحة في الأرض الجافة، و تشجيع الفلاحين على استخدام خبراتهم و كفاءاتهم في التخطيط، و استخدام مياه الصرف الصحيّ المعاد تكريره لأغراض الري، فإنّ مياه الصرف الصحّي لا تكلف سوى خمس نفقات مصدر جديد للمياه العذبة.

الفقه، البيئة، ص: 106

التلوث الصوتي

مسألة: قسم من علماء البيئة اعتبروا الصوت «1» أحد الملوثات، حيث أنه يسبب ضررا للإنسان و الحيوان و النبات، فالأصوات العالية تسبب ضعف السمع لفترة من الزمن ثم يعود الإنسان بعد ذلك إلى حالته السابقة، و عادة يحدث هذا التأثر للأفراد الذين يتعرضون للضوضاء و الأصوات العالية المتدفقة من الأدوات داخل المصانع و الورشات.

أما الأماكن المزدحمة، فإذا تعرض الإنسان يوميا لضوضاء

عالية، كالذين هم على أطراف الطرق المزدحمة بالسيارات و ما أشبه ذلك، نظرا لأنّ محلاتهم أو بيوتهم تقع هناك، فإنه يصاب بضعف مزمن في السمع، فإذا ما تعرّض الإنسان يوميا لسماع صوت عال و مدوّ و مفاجئ مثل أصوات المدافع و انفجارات القنابل للقوّات المسلّحة في فترات الحرب أو اختراق الطائرات للجدار الصوتي «2»، قد تؤدي هذه الأصوات إلى إيجاد ثقوب في طبلة الأذن

______________________________

(1) الصوت عبارة عن طاقة مادّية تسري في الهواء و في غيره، و عرفه البعض عبارة عن موجات تضاغطيّة لها أصل ميكانيكي.

(2) و الجدار الصوتي عبارة عن تحرّك الأجسام الصلبة في الهواء بسرعة تفوق سرعة الصوت تحدث ظاهرة الموجة الضاربة التي ترتبط بالتغير المفاجئ في الضغط الجوّي، فعند تحليق الطائرة، يتحرّك كلّ جزء من الموجة الضاربة الناشئة عن هذا التحليق، بسرعة تفوق سرعة الصوت و باتّجاه متعامد على خطّ جبهة الموجة على امتداد ما يسمّى بالشعاع الصوتي، و عند بلوغها سطح الأرض تتسبّب الموجة الضاربة بأثر جدار الصوت التي يستوعبها الناس على شكل قفزة ضغط خاطفة، تبلغ عدّة هيكتو باسكال. و عند ذلك يرتفع الضغط في البداية بشكل مفاجى ء، و ينخفض فيما بعد بسرعة أقلّ من المقدار البدائي كي يرتفع فجأة و من جديد بالغا المقدار السابق.

و يرتبط أثر جدار الصوت بمحلّ الضغط الجوّي أو وجود إزاحات عموديّة و أفقيّة للرياح. كما يرتبط بمقدار المحال العمودي لدرجة الحرارة و برطوبة الهواء إلى حدّ ما و بوجود الغيوم و هطول الأمطار. فإنّ هذه العوامل تحني جبهة صدمة الصوت مغيّرة بذلك اتّجاه الشعاع الصوتي الذي يمكن أن يصل إلى سطح الأرض في هذه الحالة تحت زوايا مختلفة، و في الظروف الملائمة يمكن أن

يصبح الشعاع الصوتي موازيا لسطح الأرض على ارتفاع عال أو أن يمتدّ عن سطح الأرض إلى الأعلى فلا يبلغها بذلك أبدا. و تعمل كتلة الطائرة و خصائصها التقنية و طبيعة مناورتها و نظام تبدّل سرعة تحليقها على التأثير في انتشار الموجة الضاربة و شدّة صدمة الصوت، فصدمة الصوت تبلغ أشدّها عند الانتقال من نظام للتحليق ما دون الصوت إلى نظام آخر ما فوق الصوت و بالعكس.

الفقه، البيئة، ص: 107

نتيجة للضغط الكبير الذي تولّد خارج الإذن «1».

و أحيانا يتأثر جهاز التوازن الموجود في الأذن الداخلية، فيشعر الفرد بالدّوار و القي ء، و أحيانا يموت الإنسان بسبب صوت مفاجئ من انفجار قنبلة أو صاعقة أو صوت مدفع أو صراخ أو ما أشبه ذلك.

و قد ذكر المؤرخون إنّ العباس بن عبد المطّلب عمّ النبي «صلّى اللّه عليه و آله و سلم» صاح على أسد فمات في وقته، و مرّة صاح قائلًا: يا سوء صباحاه في قصة، فألقت بعض الحوامل أجنّتها «2».

______________________________

(1) و قد أثبتت الدراسات أن بين كلّ خمسة عمّال يوجد عامل مصاب بالصمم المهني بل إنّ من بين كلّ خمسة أشخاص يعاني شخص الصمم.

(2) إنّ الصوت المرتفع يؤثّر على الحالة النفسية و العصبية للمرأة الحامل ممّا يؤثّر على جنينها و يؤثّر على تكوين جهاز الجنين العصبي في الشهر الرابع من الحمل لحظة بدأ تكوين الجهاز العصبي.

و من المعروف إنّ الأمم العصبيّة تنتج أطفالا صغار الحجم أو ناقصي النمو. و لا يقتصر تأثير الصوت على الإنسان بل يؤثّر على الحيوانات، فإنّ إدرار اللبن و الكفاءة التكاثريّة عند بعض الحيوانات تقل بزيادة التعرّض للضوضاء.

الفقه، البيئة، ص: 108

و الأصوات المرتفعة لها تأثير ضار على الغدد الصمّاء «1» و على

الدورة الدموية، فتجعل الشعيرات الدموية تتقلّص، كما أنها تحدث ذبذبات في الجلد، و ربما أحدثت تغييرات في نشاط الأنسجة، كما و تزيد من معدل الضغط الدموي عن طريق إثارة مركز انقباض الأوعية الدموية في المخ.

أقول: و لعل هذا هو أحد العوامل المؤدية إلى زيادة نسبة مرضى ضغط الدم بين سكان المجتمعات الصناعية، بينما نجد عدم وجود هذا العائق في المجتمعات الريفية و البدائية.

و يعرّف العلماء التلوث الصوتي بأنه التغيّر المستمر في إشكال حركة الموجات الصوتية بحيث تتجاوز شدة الصوت المعدّل الطبيعي المسموح له بالأذن من قبل العلماء بالتقاطه و توصيله إلى الجهاز العصبي. إذ تتراوح ذبذبة صوت الإنسان بين قرابة ألفين ذبذبة في الثانية، بينما نلاحظ إن الآلات الموسيقية تعطي ذبذبة تتراوح بين «8 آلاف» ذبذبة في الثانية، و كثير من الطيور و الحشرات قد ترتفع حدة أصواتها إلى أعلى من ذلك بكثير، فقد تصل إلى «100 ألف» ذبذبة في الثانية «2».

______________________________

(1) الغدد الصمّاء: الغدد التي تفرز الهرمونات، فإن الأصوات العالية تسبب اضطرابا في إفراز كمية الهرمونات، و الذي يعمل بدوره على عدم انتظام ضربات القلب و انقباض الأوعية الدموية، و يسبب كذلك في ارتفاع مستوى الكولسترول الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع في ضغط الدم و تصلب الشرايين و الشعور بالصداع المستمر.

(2) يتراوح سماع الإنسان للأصوات بين عشرين ذبذبة و عشرين ألف ذبذبة في الثانية، و إن أقلّ من ذلك أو أكثر لا يسمعه الإنسان، و كلّ شي ء في الكون له قابليّة محددة لتحمّل الأصوات. مثلا الزجاج يتكسّر بالصوت إذا بلغت ذبذبة الصوت 1100 في الثانية الواحدة، و هذا ما يفسّر لنا تحطم الزجاج عند ما تخترق الطائرات العسكريّة الحاجز الصوتي. و إنّ مقياس التلوّث

الصوتي يقاس ب «ديسيبل» و إنّ درجة سبعين ديسيبل تسبّب اضطرابا للإنسان و إنّ تسعين ديسيبل تؤثّر على أعضاء الجسم. علما إنّ درجة التلوّث الصوتي في بعض عواصم الدول العربية كالقاهرة و الرياض و الكويت بين 70- 92 ديسيبل، و في بعض المدن الأمريكية و الأوربية بين 90- 95 ديسيبل.

الفقه، البيئة، ص: 109

و كثيرا ما يؤثر التلوث الصوتي على إنتاج العاملين في المصانع و الورش نظرا لما يسببه لهم من حالات الصداع و عدم القدرة على التركيز، أو من الانفعالات الزائدة أو العصبية.

و قد أجرت إحدى الشركات الأمريكية دراسة مقارنة استغرقت عاما كاملا، و كان الهدف من إجرائها هو التعرف على تأثير الضوضاء على مقدرة الإنسان و كفاءته في إنجاز الأعمال الذهنية، و قد تبيّن من هذه الدراسة إن الكفاءة تقلّ في ظروف جوّ العمل الصاخب عنها في حالة وجود مستوى منخفض من الضوضاء، و بعد أن قامت هذه الشركة باستخدام عوازل للجدران لامتصاص الصوت، توصلت إلى النتائج التالية:

أولا: انخفاض معدل الأخطاء الحسابية بنسبة 52%.

الثاني: انخفاض معدل الأخطاء في النسخ على الآلة الكاتبة بنسبة 29%.

الثالث: انخفاض معدل التغيّب عن العمل بسبب الأحوال المرضية بنسبة 27%.

و قد قال عالم غربي إنّ كفاءة النسّاجين قد ازدادت بمعدل 12% في الإنتاج عند ما وضعوا سدّادات الأذن.

فالتلوث بالصوت قد يكون له تأثير اقتصادي و قد يكون له تأثير صحي.

و من هنا يشكو كثير من الناس التقلّب المزاجي في العصر الحديث، حيث يتعرّضون للضوضاء بصورة مستمرة. و المراد بالتقلب المزاجي هو الشعور بالفرح ثم الشعور بالضيق بطريقة مفاجاة أو بالعكس، فإنّ التلوث

الفقه، البيئة، ص: 110

الصوتي مما يؤدي إلى ذلك عن طريق إحداث توتر عصبي لا يزول إلّا

بالابتعاد عن مصدر الضوضاء «1». و من طبيعة هذه التقلبات المزاجية أن تؤدي إلى الأرق و اضطراب الجهاز الهضمي و ارتفاع مستوى الكولسترول في الدم، و عدم القدرة على التعبير عن المشاعر و الأحاسيس بصفة مستمرة. و قد تؤدي الأصوات المزعجة إلى ارتخاء الرجل عن زوجته ارتخاء موقتا.

و في بعض الأصوات العالية التي تسببها الموسيقى قد توجد هيجانا جنسيا في كلا الجنسين يؤثّر على صحّتهما العامّة.

و قد أشار القرآن الحكيم إلى ما يفعله الصوت بالإنسان إذا كانت الأصوات عالية جدا، حيث قال سبحانه وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ «2»، و قال سبحانه وَ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا نَجَّيْنٰا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّٰا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ «3»، و قال سبحانه فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنٰاهُمْ غُثٰاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ «4»، و قال سبحانه في آيات أخرى فَكُلًّا أَخَذْنٰا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِ حٰاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنٰا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنٰا. «5»، و قال سبحانه فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ «6»، كما إن اللّه سبحانه و تعالى هدّد الذين لا يعملون

______________________________

(1) يقول الأطباء إنّ ثلاثة من كلّ أربع حالات من الأمراض العصبيّة و النفسيّة سببها الضوضاء.

انظر كتاب إنّهم يقتلون البيئة ص 25 للدكتور ممدوح حامد عطية.

(2) سورة هود: الآية 67. لأنّ الصوت العالي يحطّم البنية الداخليّة للجزئية في الإنسان.

(3) سورة هود: الآية 94.

(4) سورة المؤمنون: الآية 41.

(5) سورة العنكبوت: الآية 40.

(6) سورة الحجر: الآية 73.

الفقه، البيئة، ص: 111

بأوامره بصيحة في المستقبل، حيث قال سبحانه مٰا يَنْظُرُونَ إِلّٰا صَيْحَةً وٰاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلٰا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ

لٰا إِلىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ «1»، و قال سبحانه يَجْعَلُونَ أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ مِنَ الصَّوٰاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ. «2». و في وصية لقمان لابنه: (وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوٰاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) «3»، فالحمار يرفع صوته فيزعج الآخرين، كذلك الإنسان الذي يرفع صوته خلافا للموازين الطبيعية، فهو أيضا يثير الإزعاج.

و تعيش البشرية اليوم في وسط دوامة من أصوات السيارات و القطارات و الدراجات البخارية و السفن و المكبرات و المسجلات و الإذاعات و التلفزيونات و الطائرات و ما أشبه ذلك.

و كان لهذه الضوضاء أثر كبير على آذان البشر، بينما كان الخطيب في السابق يخطب على «10 آلاف» إنسان، كلهم يسمعونه، في حين لا يسمع اليوم حتى ألف إنسان ذلك الصوت، و يعود هذا لأسباب منها:

الأول: السلوك الخاطئ و العادات السيئة «4».

الثاني: ضعف السمع الذي طرأ على الإنسان بسبب ضعف بنيته العامة من جهة و العيش في المدن التي تجعل الإنسان يستلم الأصوات القريبة منه فيعتاد

______________________________

(1) سورة يس: الآية 49- 50.

(2) سورة البقرة: الآية 19.

(3) الكافي (أصول) ج 2 ص 36 ح 1.

(4) كما يفعله بعض سواق السيّارات و الدراجات النارية، فبدل أن يستخدم آلة التنبيه في السيّارة أو الدراجة النارية للتحذير انقلب استخدامها إلى أداة للهو و العبث، مثلا يستعملها أصحابها لينادي بعضهم البعض أو عند ارتباك حركة المرور و كذا ما يفعله بعض العوام من رفع صوت المذياع أو التلفزيون ممّا يسبّب إيذاء الجيران و المارة.

الفقه، البيئة، ص: 112

عليها من جهة أخرى.

الثالث: ضعف البنية الداخلية للإنسان جرّاء الأطعمة الكيماوية «1».

هذا و قد ورد في الشريعة استحباب خفض الصوت، و قد وردت روايات كثيرة في هذا الجانب، قال رسول اللّه

«صلى اللّه عليه و آله و سلم»: (يا أبا ذر اخفض صوتك عند الجنائز و عند القتال و عند القرآن).

و عن الإمام علي عليه السلام إنه كان إذا زحف إلى القتال: (و يأمر الناس بخفض الأصوات و الدعاء).

و في رواية أخرى عن ابن عباس يصف أمير المؤمنين عليه السلام قال: (و يقول لهم معاشر الناس استشعروا الخشية و أميتوا الأصوات و تجلببوا بالسكينة).

و في حديث آخر إنه عليه السلام قال لأصحابه عند البراز: (و عضوا على الأضراس فإنه أنبأ للسيوف من الهام و أربط للجأش و أزكى للقلوب، و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى للوقار).

و في رواية أخرى: (و عضّوا على الأضراس فإنّه أنبأ للسيوف عن الهام و غضّوا الأبصار و مدوا جباه الخيول و وجوه الرجال و أقلّوا الكلام فإنّه

______________________________

(1) و هناك عدّة طرق للقضاء على التلوّث الصوتي منها: التوعيّة الشاملة، و إصدار قوانين تقلّل من تلوّث الصوت كمنع استخدام مكبّرات الصوت مع ملاحظة الجمع بين أصالة الحرية و قاعدة لا ضرر، و منع استخدام الأجهزة الموسيقيّة و الحدّ من استخدام آلات التنبيه، و إبعاد المناطق السكنيّة عن المصانع و المطارات، و استخدام الموادّ العازلة للصوت قدر الإمكان في عمليّات البناء، و التنسيق بين سعة الشوارع و ارتفاع المباني على أطرافها، و الإكثار من تشجير الطرقات و حول البيوت و المدارس و المستشفيات، و وضع خطّة مرورية شاملة تؤمّن تدفّق حركة السير.

الفقه، البيئة، ص: 113

أطرد للفشل و أذهب بالوهل) «1».

______________________________

(1) الكافي (فروع): ج 5 ص 39 ح 4. هذا و لا يخفى أنّ الأمواج الصوتية و فوق الصوتيّة إذا استخدمت بالصورة الصحيحة فلها فوائد كثيرة، و العلم اليوم توصّل إلى

هذه الحقيقة، فإنّ الصوت يستخدم حاليا في علاج الكثير من الأمراض كتفتيت الحصى في الكلية و معالجة البنكرياس و الطحالب و جراحة العين و يستخدم في تشخيص نوعية الجنين إنّه ذكر أم أنثى و يستخدم في قطع و لحم الحديد و المعادن الأخرى و كذا يستخدم كمادّة لاصقة للجلود و في قتل الحشرات المؤذية كالبعوض. و لا يخفى أن كلام الإمام المؤلف في الصوت الملوّث للبيئة.

الفقه، البيئة، ص: 114

التلوث الضوئي

مسألة: و كما هناك التلوث الصوتي يكون التلوّث الضوئي أيضا، فإن للعين طاقة محددة تستطيع بها الإبصار سواء قيل بخروج الشعاع أو الانعكاس على الاختلاف المعروف من القديم.

و الوسائل الحديثة طوّرت وسائل الإضاءة بحيث حوّلت الليل إلى نهار ممّا أضعفت العين، و تسببت في ضعف الأبصار، و ربما سببت شدة الإضاءة ضعف العين أو العمى، و يستطيع كل واحد أن يجّرب أثر تلوث الضوء إذا نظر إلى أشعة الشمس، فتسبب له هذه الأشعة ضعف البصر.

و من الملوثات الضوئية المواد الكيماوية و أجهزة التلحيم و الملوثات المختلفة الأخرى و جهاز التلفزيون و الكمبيوترات و غيرها مما تعد مصدرا لأشعة ضارة بالإنسان كأشعة إيكس و غيرها.

لذا فاللازم ملاحظة العين بأدقّ ملاحظة حتى لا تتأثر نتيجة التلوث.

قال سبحانه و تعالى يَكٰادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصٰارَهُمْ كُلَّمٰا أَضٰاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذٰا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قٰامُوا وَ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصٰارِهِمْ. «1».

و قد ورد في الأحاديث استحباب إدخال الماء في العين أثناء الوضوء، و كما أكدت على السواك و هو مما يطهّر الفم و الأسنان و يؤثر إيجابيا على

______________________________

(1) سورة البقرة: الآية 20.

الفقه، البيئة، ص: 115

العين و الذاكرة و غيرها أيضا «1»، و حثت الروايات

على الاكتحال «2»، و مسح العين بعد الأكل، إلى غير ذلك «3»؛ بالإضافة إلى أنّ الهواء أو الماء الملوث يسبّب تلوث العين إذا فتح الإنسان عينيه فيهما، و كثيرا ما تصاب العين

______________________________

(1) و قد وردت روايات كثيرة في السواك و عللت أهمية السواك لتقوية العين و غير ذلك، فعن مهزم الأسدي قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: (في السواك عشر خصال: مطهرة للفم، و مرضاة للرب، و مفرحة للملائكة، و هو من السنّة، و يشدّ اللثة، و يجلو البصر، و يذهب البلغم، و يذهب بالحفر). المحاسن: ص 562. و عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: (في السواك اثنتا عشرة خصلة: هو من السنّة، و مطهرة الفم، و مجلاة للبصر، و يرضي الربّ، و يذهب بالبلغم، و يزيد في الحفظ، و يبيّض الأسنان، و يضاعف الحسنات، و يذهب بالحفر، و يشدّ اللثة، و يشهي الطعام، و يفرح الملائكة). المحاسن: ص 562. و في وصيّة النبي «صلى اللّه عليه و آله و سلم» لعلي عليه السلام: (يا علي ثلاث يزدن في الحفظ، و يذهبن البلغم: اللبان، و السواك، و قراءة القرآن. يا علي السواك من السنّة، و مطهرة للفم، و يجلو البصر، و يرضي الرحمن، و يبيّض الأسنان، و يذهب بالحفر، و يشدّ اللثة، و يشهي الطعام، و يذهب بالبلغم، و يزيد في الحفظ، و يضاعف الحسنات، و تفرح به الملائكة). من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 338، الخصال: ص 62.

و ورد في السواك (اثنتا عشرة خصلة: هو من السنّة، و مطهّرة للفم، و مجلاة البصر، و يرضي الرحمن، و يبيّض الأسنان، و يذهب بالحفر، و يشدّ اللثّة، و يشهّي الطعام، و

يذهب بالبلغم، و يزيد في الحفظ، و يضاعف الحسنات، و تفرح به الملائكة) مكارم الأخلاق: ص 50. هذا و قد أشار الإمام المؤلّف في موسوعة الفقه: كتاب الآداب و السنن: المجلّد 94 إلى بعض الروايات التي تتحدّث عن أهميّة السواك.

(2) فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: (الاكتحال بالإثمد ينبت الأشفار، و يحدّ البصر، و يعين على طول السهر). مكارم الأخلاق: ص 45. و ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: (الكحل ينبت الشعر، و يجفّف الدمعة، و يعذب الريق، و يجلو البصر). مكارم الأخلاق: ص 46. و ورد أيضا عن الإمام الصادق عليه السلام: (عليكم بالكحل، فإنّه يطيّب الفمّ، و عليكم بالسواك، فإنّه يجلو البصر، قال- السائل- كيف هذا؟ قال عليه السلام: لأنّه إذا استاك نزل البلغم، فجلا البصر، و إذا اكتحل ذهب البلغم، فطيّب الفم). مكارم الأخلاق: ص 47.

(3) للمزيد راجع موسوعة الفقه: كتاب الآداب و السنن: ج 94- 97. و الفقه الواجبات و المحرّمات: ج 92- 93. و الفقه المستحبات و المكروهات: مخطوط.

الفقه، البيئة، ص: 116

بسبب الروائح الكريهة أو الحادة حتى بعض العطور إذا دخلت الأنف حيث هناك المنفذ بين العين و الأنف.

كما أنه يمكن مكافحة التلوث بصورة عامّة بتشريع قوانين تمنع الضوضاء و الضجيج، و التسلّح باستعمال سدادات الأذن في المناطق التي يكثر فيها الضجيج، و منع استعمال آلات التنبيه في السيارات في المناطق المزدحمة و في المناطق السكنية، و بناء المطارات بعيدا عن المدن لتفادي الأصوات العالية لمحركات الطائرات، و استعمال كواتم الصوت في المصانع، و نقل المصانع من المدن إلى أماكن بعيدة، كذلك يمكن مكافحة التلوّث الضوئي عبر الوقاية من ملوثات العين بعدم استعمال المياه الملوثة و الابتعاد عن

محلات تجمّع الأتربة و الدخان، و جعل ما يمتص الدخان من المداخن و السيارات و ما أشبه، و لبس النظارات التي تحول دون تساقط أشعة الشمس إلى العين بصورة مباشرة و بصورة كثيرة، و عدم المطالعة في الإضواء الخافتة و الإضواء الشديدة و عدم النظر إلى التلفزيونات و الكمبيوتر لساعات طويلة «1».

______________________________

(1) و هناك تلوّث آخر باسم الكهرومغناطيسي، و ينتج من الموجات الكهر و مغناطيسيّة و المجالات المغناطيسيّة التي تؤثّر على صحّة الإنسان، و نظرا لأنّ أغلب المؤثّرات المغناطيسيّة تنتقل من الأعصاب عن طريق نبضات كهربائيّة معيّنة، فهناك اعتقاد بأنّ مثل هذه الموجات و المجالات لا بدّ من أن تتدخّل بصورة ما في عمل المخ، و تؤثّر بشكل أو بآخر في كلّ الجهاز العصبي للإنسان، و قد تؤدّي إلى تشوه الأجنّة أو التخلّف العقلي أو حدوث ثغرات في خلايا بعض النباتات.

و استخلص الخبراء من التجارب العمليّة أنّه يجب أن لا يزيد مستوى الموجات التي قد يتعرّض لها الإنسان في المصانع أو غيرها عن عشرة آلاف ميكرو وات على السنتيمتر المربّع. و إنّ التعرّض لموجات الرادار يؤدّي إلى الإصابة بالصداع و ببعض الإجهاد العصبي و إلى فقدان الذاكرة. و قد وضعت بعض الدول حدودا لمن يقتضي عملهم التعرّض لهذه الموجات ألّا تزيد عن مائتي ميكرو وات. انظر كتاب إنّهم يقتلون البيئة ص 126- 127 للدكتور ممدوح حامد عطية.

كما أكّدت عشرات الدراسات الجديدة عن علاقة السرطان بالكهر و مغناطيسيّة، فإنّ محطّات توزيع الطاقة الكهربائية و محطّات الضغط العالي تولّد السرطان، و إنّ 15% من حالات السرطان عند الأطفال ناتج عن خطوط الكهرباء في الشوارع، و إنّ الأطفال الذين يسكنون قرب المحطّات الكهربائيّة، معرّضون للإصابة بالسرطان أربعة أضعاف

ممّا لو كانوا يسكنون بعيدا عن تلك المحطّات.

الفقه، البيئة، ص: 117

حرمة تلويث البحار

اشاره

مسألة: يحرم تلويث البحار و الأنهار بالنفط و غيره سواء كان عمدا في أصله كما حدث في حرب الخليج على أثر قيام صدام بتفجير آبار النفط، أو غير عمد إذا كانت المقدمة عمديّة. فإن مقدمة الحرام حرام أيضا، كما إذا كانت الناقلة محتملة الانفجار في وسط البحر، ثم إن الذي يسبب الضرر يكون ضامنا أيضا فردا كان أو شركة أو دولة، فالحكم في هذا المورد هو تكليفي و وضعي. و ذلك يعدّ كفرا بنعمة اللّه سبحانه و تعالى، كما قال سبحانه لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ «1»، و قال في آية أخرى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دٰارَ الْبَوٰارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهٰا وَ بِئْسَ الْقَرٰارُ «2»، فاللّه سبحانه و تعالى خلق الأرض و من عليها للعمران و الطاعة، كما قال سبحانه هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهٰا. «3»، و قال في آية أخرى:

______________________________

(1) سورة إبراهيم: الآية 7.

(2) سورة إبراهيم: الآية 28- 29.

(3) سورة هود: الآية 61.

الفقه، البيئة، ص: 118

وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ «1»، و معنى ذلك إنه يكرههم لا أنه لا يحبهم على سبيل التوسط بين الحب و البغض. و قال في آية أخرى فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* «2»، فإن الإفساد بطبيعته له عاقبة سيئة حيث إنه لا يواكب الحياة و كل ما لا يواكب الحياة يكون مصيره الدّمار.

و تغطي البحار ما يقارب 71% من سطح الأرض و تقوم بدور هام في تهيئة الأوضاع المناسبة لحياة الإنسان و غيره من الكائنات الحية على ظهر

هذا الكوكب من خلال تفاعلاتها المختلفة مع الغلاف الجوي و القشرة الأرضية فيما يعرف بالدورات الأرضية الكيماوية. و تعتبر البحار الموئل لطائفة واسعة من النباتات و الحيوانات، و تمدّ الإنسان بالغذاء و الطاقة و الموارد المعنوية، و تعتمد أكثر من نصف سكان البلاد النامية على الأسماك البحرية للحصول على 30% أو أكثر من استهلاكهم للبروتين الحيواني. و قد قال سبحانه:

وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَى الْفُلْكَ مَوٰاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «3». قد استوعبت البحار على مدى عصور مواد طبيعية ذاتية عالقة و لا سيما من القارات. و تحمل إليها الأنهار سنويا ما يقرب من «35 مليون» طن من الماء، و ما يقارب الأربع مليارات طن من المواد الذائبة و من «10 إلى 65» مليار طن من الجزئيات الدقيقة العالقة؛ و يجري تصريف المياه الجوفية أيضا في البحار من خلال الرصيف القاري و الينابيع العميقة ذات الأصول البركانية أو إلى القشرة الأرضية العميقة كما ينقل إليها الغلاف

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 64.

(2) سورة الأعراف: الآية 103.

(3) سورة النحل: الآية 14.

الفقه، البيئة، ص: 119

الجوي الغازات و الجزئيات، و قد ظل حجم البحار في تكوينها مستقرا لفترات طويلة من خلال توازن الدورات الأرضية الكيماوية المختلفة، غير أن نشاطات الإنسان سواء في البرّ أو البحر أحدثت بعض الاختلال في هذا التوازن و غيرت من تركيبة مياه البحر. و يظهر ذلك بشكل ملموس في المناطق الساحلية القريبة من الشواطئ باعتبارها من أكثر مناطق الأرض استخداما فيعيش حوالي «60%» من سكان العالم أو زهاء «3 مليارات» نسمة على السواحل أو على مسافة «100 كيلومتر» من

الخط الساحلي. و تمثل المناطق الساحلية مواقع لصناعات كبيرة و تستخدم بصورة مكثفة للترفيه و تعتبر المرافئ الأساس الذي تعتمد عليه التجارة الدولية، و تضم المناطق الساحلية الكثير من أنواع النظم الحيوية للحياة البحرية و البشرية و من أكثر النظم إنتاجية المستنقعات المالحة، و مصبات الأنهار و الشعب المرجانية و تأتي نسبة «95%» من المحصول السمكي العالمي من المناطق القريبة من الشواطئ. و قد تبدو البحار المفتوحة و كأنها لم تتأثر بعد بالرغم من إجراء بعض التحسينات في أماكن مختلفة و نشاطات الإنسان إلّا أنّ البيئة البحرية في المناطق الساحلية و البحار المغلقة و شبه المغلقة تعاني التدهور طوال العقدين الماضيين و تتمثل أعراض هذا التدهور في انتشار و تكاثر الطحالب و شحوب لون الشعب المرجانية و بحور الأوبئة و التلوث بالنفط و تدني الموارد من الأغذية البحرية كمّا و كيفا و ذلك أثر على الأسماك و الإنسان و الطيور و النباتات تأثيرا كبيرا.

و يعدّ التلوث البيئي واحدا من أكثر أنواع التلوث شيوعا في الحال الحاضر حيث النفط المتوفّر و هو من أشدها خطرا على البيئة بوجه عام و الحياة المائية بوجه خاص، لأن التلوث بالنفط لا يوجب تلوث البحار و من فيها و من عليها فقط، و إنّما فوق ذلك بحيث أن البخار يتصاعد نتيجة لأشعة

الفقه، البيئة، ص: 120

الشمس، و تنزل الأبخرة بصورة مطر و على شكل ضباب و ما أشبه ذلك إلى الأرض و المحاصيل و الإنسان و الحيوان.

و منذ أكثر من نصف قرن حيث وجد النفط في إيران قبل «90» سنة صار موضوع التلوث الناجم عن النفط موضع اهتمام عالمي، إلّا أنّه في الفترة الأخيرة حين احتلال صدام للكويت دقّت

الأجراس، في أخطر كإرثه بيئية عرفتها البشرية على مدى التأريخ، فإن صدام الذي لا يؤمن باللّه و اليوم الآخر و لا يعتني بمصير نفسه فضلا عن مصير شعبه كما قال سبحانه نَسُوا اللّٰهَ فَأَنْسٰاهُمْ أَنْفُسَهُمْ «1»، استعمل كل قواه و إمكانياته المتزايدة التي سرقها من الشعب العراقي المضطهد و استعملها في هذه الكارثة، فعمد صدام بتسريب نفطه إلى مياه الخليج، كما قام بتدمير و إشعال النيران في «732» بئرا بتروليا من الآبار المواجدة في الكويت.

لهذا السبب استنفر العالم إمكاناته لمواجهة هذه المخاطر، حيث اكتشفت البشرية خطورة ما يحدث على صعيد التلوث، إذ من المحتمل أن تتعرض المسطحات المائية من انهار و بحار و بحيرات و محيطات إلى تلوث و من عدة طرق:

الأول: قيام بعض ناقلات النفط بتفريغ محتويات صهاريجها من المخلّفات البتروليّة في مياه البحار عند غياب الرقابة الدولية و القانون الدؤلي و عند الغفلة عن اللّه سبحانه و تعالى الذي حرّم الضرر و الإضرار و الإفساد و الفساد.

و تنتقل المواد النفطية هذه إلى السواحل، مسببة تلوث البيئة الساحلية و مؤثرة في الأحياء الموجودة في السواحل، و مؤثرة على مياه الشرب، حيث

______________________________

(1) سورة الحشر: الآية 19.

الفقه، البيئة، ص: 121

الكثير من الدول تستعمل مياه البحر للشرب بعد تحليلها و التقطير.

الثاني: غرق الناقلات النفطية المحمّلة بالنفط، كما حدث ذلك سنة 1387 ه «1967 م». حيث غرقت ناقلة نفط عملاقة مسببة بقعا زيتية.

الثالث: تدفق زيت البترول أثناء عمليات التنقيب عن النفط في المناطق المغمورة، كما حدث مثل ذلك على شواطئ كاليفورنيا بالولايات المتحدة في سنة 1390 ه «1969 م»، حيث تدفق الزيت بمعدل يومي قدره «20 ألف» جالون، و استمر الحال على ذلك المنوال لمدة «12»

يوما فتكوّن بذلك بقعة زيت كبيرة قدّر طولها ب «800 ميل»، و ذلك في مياه المحيط الهادي.

و قد أدى ذلك إلى موت عدد لا يحصى من طيور البحر و الأسماك و الدلافين و الكائنات البحرية الكثيرة. و تسبب ذلك أيضا أمراض كثيرة للناس حيث أن الهواء ينقل الوباء الناشئ من هذا التلوث إلى هنا و هناك. و قد حدث مثل ذلك أبان إحراق نفط الكويت حيث أن سحبا من الدخان تعدّت المناطق المذكورة إلى أماكن مجاورة مغطية مساحة كبيرة من الأراضي الإيرانية و العراقية و الخليجية، و عند هطول الأمطار كانت تتساقط هذه الملوثات و تنزل على المزارع و على الناس.

الرابع: و قد يحدث التسرّب بانفجار آبار النفط في البحر أو بأجهزة إنتاج النفط الموجودة في البحر أو على الشواطئ أو حدوث تآكل كيمياوي في خطوط أنابيب النفط البحرية.

و في سنة 1382 ه «1963 م» تسرّب النفط من خطوط أحد الأنابيب البحرية التي كانت تنقل النفط من إحدى الحقول إلى خليج السويس، و كانت إسرائيل قد استنزفت هذا الحقل أيام احتلالها لشبه جزيرة سيناء، فتكوّنت بقعة نفطية كبيرة نتيجة هذا التسرب فأخذت تعوم فوق مياه خليج

الفقه، البيئة، ص: 122

السويس ثم نقلتها الأمواج إلى الشواطئ المصرية المطلّة على البحر الأحمر، و قد أدى ذلك إلى توقف الاصطياف و السياحة في هذه المنطقة، و ماتت ملايين الأسماك و الطيور و الحيوانات الأخرى.

الخامس: كما إن من أسباب التلوث في البحار إلقاء مخلّفات الصناعات البترولية فيما إذا كان مطلا على ماء البحر أو النهر. حيث يحدث في بعض الأحيان أن تقوم بعض معامل التكرير أو محطات معالجة زيت البترول الخام التي تعمل بالقرب من شواطئ البحار بتصريف

مخلفات و نفاياتها الملوثة بزيت البترول و مشتقاته إلى المياه البحرية مباشرة من دون معالجة أو فصل لهذا الزيت.

و قد يتبخّر النفط من صهاريج البترول و إلغاز الطبيعي و المنتجات البترولية و تنتقل إلى الجو ثم تسقط في البحر أو في النهر أو في البحيرة مع مياه الأمطار.

و يذكر أن عدة ملايين من الأطنان من الزيت الفاسد تطفو اليوم فوق المحيطات، و هو مصدر خطر خصوصا إذا ما وصل إلى الشاطئ أو إلى أماكن غطس الطيور لصيد الأسماك، و قد كان إلى عهد قريب تنظف الناقلات في البحر مضيفة عدّة ملايين أخرى إلى تلوث المحيطات، لكنه حديثا رفض هذا الأسلوب.

و قد ذكر الخبراء أنّ حادثة «توري كانيون» تسببت في موت ما يقرب من «10 آلاف» من أنواع الطيور. حتى إن طير البطريق و ما أشبه أصبح اليوم أقل مما كان عليه قبل ثلاثين سنة في معظم السواحل الجنوبية لبريطانيا بسبب التلوث على الأغلب.

و قضت بقع الزيت على كثير من القشريات و الطحالب بسبب تغطية

الفقه، البيئة، ص: 123

الصخور بطبقات سميكة من الزيت، و لقد كانت الخسارة الاقتصادية نتيجة لهذا التلوث كبيرة جدا عند ما تواجدت على سواحل البحر السياحية و لعدّة سنوات كانت بقع قطرانية تدمّر بيوت المصطافين الأمر الذي تسبب في توقف برامج السياحة و الاصطياف.

و لإزالة البقع الزيتية قامت الشركات باستخدام مواد كيمياوية من أجل التخلص من الزيت كيمياويا، و لكن هذه المحاولة لم تكن ناجحة، فإنّ المواد المستعملة فيها لا تقل في خطورتها عن بقع الزيت نفسها.

و قد لاحظ الخبراء ذلك من حادثة تحطّم ناقلة النفط «توري كانيون» حيث وجد أن نمو المجموعة النباتية و الحيوانية في الصخور المعاملة بالمطهّر أقل

من نمو التي تركت بدون معاملة.

و يذكر أن بقع الزيت التي أنتجتها حادثة «توري كانيون» هددت أولا المياه البريطانية ثم نقلتها الرياح إلى المياه الفرنسية، و حدثت خسارة كبيرة حصلت للأسماك، و استعمل لأجل ذلك المطهرات.

إضافة إلى الخسائر التي سببتها الزيوت فقد غطت المياه بغبار رملي و طباشيري لامتصاص الزيت، لكن قسما من الزيت غاص في القاع فأصبح من المستحيل التخلص منه، و قد أثر ذلك الزيت في الأحياء الموجودة في قاع المحيط.

و لا شك إن افتتاح قناة السويس أدى هو الآخر إلى زيادة تلوث مياه البحر الأبيض المتوسط.

و قد ذكر إحصاء أنه يبلغ هذا التلوث في الوقت الحالي نحو «350 ألف» طن في السنة. و من الواضح أنه لا تستطيع مياه البحر أن تتخلص من هذه الكمية الهائلة، لأن حركة المياه التي تخرج من البحر عن طريق مضيق

الفقه، البيئة، ص: 124

جبل طارق تخرج منه من الأعماق، و لذلك يبقى زيت البترول على السطح مهددا بتسميم المياه أكثر فأكثر.

و على الرغم من أن مساحة هذا البحر لا تتعدى واحدا بالمائة فقط من مساحة المحيطات و البحار الموجودة في العالم إلّا أنه يحتوي وحده وفقا لبعض التقديرات على 50% من كل البترول و إلغاز الطافي على سطح المياه في جميع أنحاء المعمورة.

مكافحة التلوث النفطي

يتم التخلّص من المنطقة الملوثة بالطرق الميكانيكية، مثلا:

1- استخدام الحواجز الطافية لتسييج البقعة النفطية للحيلولة دون انتشار النفط المكوّن منها.

2- استعمال المواد الماصّة التي تعرقل حركة البقعة النفطية جزئيا مثل الصوف الزجاجي و المايكا، و ترشّ هذه المواد من قوارب صغيرة ثم يتم جمعها بواسطة شبكات دقيقة و تنقل إلى حيث يمكن التخلّص منها إما حرقا في أفران خاصة أو يتم استخلاص

النفط الموجود فيها و يعاد استعمالها من جديد.

3- استعمال طريقة المصّ بواسطة أجهزة خاصة تمصّ البقع النفطية مثل المكانس الكهربائية، و بذلك يتمكن من فصل النفط عن الماء.

4- استعمال أجهزة تقوم بقشط طبقة النفط السميكة الطافية فوق سطح المياه و يتم تجميع النفط المقشوط و سحبه باستخدام المضخّات.

5- استخدام أجهزة الحزام الناقل التي تمرّ حزاما معدنيا عبر طبقة النفط

الفقه، البيئة، ص: 125

اللزجة حيث يلتصق النفط بالحزام و يمكن التخلص منه لاحقا.

إلّا إنّ استخدام المواد الكيماوية في تجميع النفط كما مرّ في بعض الطرق السابقة قد يزيد المشكلة سوءا لأنه سيساهم في تسمم مياهه المغلقة.

و تضم المواد الكيماوية السامة عشرين نوعا؛ و آثار هذه المواد على البيئة البحرية أسوء من آثار النفط عليها، فالأفضل استعمال الطرق الميكانيكية.

6- و يمكن مكافحة التلوث النفطي بواسطة البكتيريا. و قد وجد بعض العلماء أن عددا من الإحياء الدقيقة المجهرية التي تستطيع تحليل المواد النفطية في الوقت نفسه تستطيع تحويل البقع النفطية إلى قطرات دقيقة جدا في الماء.

و قد استخدمت بعض شركات البترول و المختبرات الكيماوية المتخصصة في بعض البلاد الغربية هذه الأحياء المجهرية على نطاق واسع في معالجة البقع النفطية في البحار و المحيطات التي تسرّب النفط إليها إما بكسر الناقلة أو ما أشبه ذلك.

و لكن يبقى لهذه الطريقة مساوئها أيضا، و التي منها بطء فعاليتها في حالة الكوارث النفطية الكبيرة التي تغطي مساحات مائية واسعة، كما أن لهذه الأحياء آثارا جانبية ضارة تتمثّل في استهلاكها لكميات كبيرة من الأوكسجين في أثناء قيامها بعملية التحليل و هو ما يؤدي إلى اختناق الأحياء المائية الأخرى الموجودة تحت البقع النفطية، خصوصا الأحياء المائية الصغيرة جدا، و التي هي طعمة سائغة

للحيوانات الكبيرة في البحر مثل الحيتان و الأسماك و ما أشبه ذلك.

كما إنه يمكن استخدام البكتيريا في مكافحة التلوث النفطي للتربة، مثل استعمالها في البقع النفطية البحرية، حيث تستخدم أنواع خاصة من البكتيريا

الفقه، البيئة، ص: 126

القادرة على أكسدة النفط و تحليله و تكون البكتيريا في شكل مستحضر تضاف إليه توليفه من الأملاح المعدنية كغذاء، و يرشّ هذا المستحضر بواسطة الطائرات المروحية أو سائر الوسائل، و ذلك فوق التربة الملوثة للبقعة النفطية.

و هناك تجارب في هذا المجال أجريت في روسيا حيث استخدمت نحو غرامين من هذا المستحضر لمعالجة مساحة ملوثة بالنفط بلغت مساحتها «1000 كيلومتر مربع»، و يمكن للبكتريا المذكورة في هذا المستحضر أن تلتهم ما يربو عن «20» عنصرا من العناصر النفطية بما في ذلك المواد الإسفلتية.

و لا يتأثر المستحضر البكتيري بالظروف الجوية، لأنّ مفعوله لا يتغيّر في درجات الحرارة التي تتراوح بين «70- 50» تحت الصفر المائوي، كما و ليس للمستحضر المذكور آثار بيئية ظاهرة ضارة عند استخدامها في معالجة التربة الملوثة بالنفط.

و هناك تجربة أجريت على هذا المستحضر حيث قام قسم من العلماء بصبّ حوالي «5، 12 كيلو جراما» من النفط على المساحة الخاضعة للتجربة، ثم رشّوا هذه المساحة بعد تلوثها بالمستحضر البكتيري، و بعد شهرين اكتست المنطقة بالعشب ممّا دلّ على تنظّف المنطقة تنظّفا كاملا.

و يمكن استخدام هذه التقنية في معالجة البرك النفطية التي تتكون عادة حينما يحدث أي تدمير للآبار النفطية، كما حدث في صحراء الكويت عقب تفجير صدام لآبارها سنة 1411 ه «1991 م»، و قد تمكنت الأجهزة المختصة في السعودية و المعنية بحماية البيئة البحرية خلال النصف الأول من سنة 1411 ه «1991 م» من قشط و

سحب حوالي مليوني برميل من النفط من مياه الخليج مستعينة في ذلك باستخدام الحواجز الطافية و بعض المعدّات الخاصة

الفقه، البيئة، ص: 127

اللازمة لقشط النفط و سحبه، كما استعانت الكويت بفرق من العلماء المتخصصة لإزالة النفط الذي تراكم في موانئها و في خليج «الشعيبة»، و في المناطق المواجهة لأماكن سحب المياه للمحطات البحرية التي تستخدمها الكويت لتوفير متطلباتها من مياه الشرب. و قد ساعدت حرارة الطقس العالية في منطقة الخليج على تطاير المركبات الهيدروكربونيّة الخفيفة فيما ترسب نحو مليوني برميل إلى قاع البحر «1».

و كيف كان، فاللازم أولا: على الإنسان حماية البيئة بمختلف أقسام الحماية، لأن الحماية و الوقاية أولى من العلاج، و في المثل المشهور: «قيراط وقاية خير من قنطار علاج».

جريمة صدّام في تلويث مياه الخليج

بدأ نظام صدام منذ احتلاله للكويت «2» بتفريغ كميات كبيرة من النفط في مياه الخليج، مستفيدا من خزانات النفط في ميناء الأحمدي الكويتي و الناقلات الرأسية في الخليج، و كان الهدف من ذلك صنع بحيرة بترولية عائمة لإعاقة عمليات الإنزال البحري لقوات التحالف الدؤلي التي كانت مجتمعة في

______________________________

(1) و هناك طريقة أخرى و هي إغراق الزيت في الماء بإضافة مساحيق خاصّة أو بعض الرمال الناعمة التي ترش على سطح الزيت و ترفع من كثافته و تؤدّي إلى رسوبه في قاع البحر.

(2) احتل العراق الكويت فجر الثاني من آب عام 1990 م بجيش قوامه «100 ألف» جندي من الحرس الجمهوري، مزودين ب «350» دبابة، و تمّ احتلالها في أقل من ثماني ساعات، و فرض حكومة تابعة له، و بعد ستّة أيّام ضمّ الكويت قسرا إلى العراق و اعتبرها المحافظة التاسعة عشرة، و عيّن ابن عمه حسن المجيد حاكما عليها.

الفقه، البيئة، ص: 128

المنطقة لتحرير الكويت، و كذلك استهدف صدام بهذا العمل شغل الرأي العام العالمي و توجيه الإنظار إلى الكارثة البيئية التي أوجدها لتحويل الأنظار عن جريمته في احتلال الكويت، أضف إلى ذلك منع الاستفادة من مياه الخليج في الأغراض البشرية و الزراعية و الصناعية، و كان المتضرر من هذا العمل ليس الكويت و حسب بل السعودية و دولة الإمارات و إيران أيضا.

و قد قدّرت كميّة النفط التي سرّبها العراق إلى مياه الخليج قرابة «5 ملايين» برميل، و قد شكّلت هذه الكمية بقعة زيتية بلغت طولها «130» كيلومترا و بعرض «5- 25» كيلومترا، و قد اعتبر الخبراء فعل صدام في تسريب هذه الكمية من النفط إلى الخليج جريمة العصر، لأن آثار هذه الجريمة تمتد لعدة أجيال.

و لولا انتهاء الاحتلال و إرغام صدام على الخروج من الكويت و استدراك الأمر لتحولت مياه الخليج إلى مياه ميتة لا تجد فيها ضرعا و لا زرعا.

و مما يذكر إن الخليج أشبه ما يكون ببحيرة مغلقة، فهو يجدد مياهه كل «6» سنوات و ينتج عن ذلك ضعف التيارات المائية من تبديد بقع التلوث.

و من المعروف أيضا أنّ النفط يستطيع البقاء مدة طويلة طافيا فوق سطح المياه مشكلا طبقة رقيقة تعلو سطح المياه و تمنع وصول الأوكسجين و ثاني أكسيد الكربون و الضوء إلى الماء، مما يؤدي إلى توقف عملية التركيب الضوئي التي تقوم بها النباتات المائية. إذ أن عملية التركيب الضوئي ضرورية لتزويد مياه البحر بالأوكسجين و لتنقيته من ثاني أكسيد الكربون.

و قد أثّرت هذه الجريمة في الأحياء تأثيرا منقطع النظير حتى أنها حالت دون وصول حرارة الشمس إلى الأعماق، و أثّر ذلك في الثروة المرجانية

الفقه، البيئة، ص: 129

و الإسفنج.

و

قد أشار الخبراء إلى المخاطر التي تتعرض لها الشعاب المرجانية في الخليج بسبب وصول النفط إليها، و إذا ما دمّرت فلن يتكون محلها إلّا بعد عشر سنوات.

و من المعروف أنّ هلاك الشعاب المرجانية يتبعه هلاك عدد كبير من الإحياء المائية التي تعيش فيها كالأسماك و نجوم البحر و الروبيان و ثعبان البحر و ما أشبه ذلك.

و كانت الكويت في السابق تصدّر خمسة آلاف و خمسمائة طن سنويا من الروبيان فقط، و قد توقفت حاليا عن ذلك.

و بعد إنقاذ الكويت من جرائم صدام و أسياده، أقيمت في السعودية و الكويت و البحرين مراكز لمعالجة الطيور البحرية التي أصيبت من تلوث الخليج بالنفط إبان الحرب.

و من بين هذه الطيور طيور الخرشنة و الزمّار و اللوهة و القلق و الكروان.

فإنّ تراكم زيت البترول على جسم الطائر يحرمه من القدرة على التكييف مع درجة حرارة الجسم الداخلية و يعوق طيرانه مما يعجّل بموته. و لذلك فإنّ معالجة مثل هذا الطائر بإزالة النفط العالق بجسمه يمكن أن يسهم إلى حدّ ما في إنقاذه من خطر الموت المحدق به.

و ملايين الحيوانات في الداخل و الخارج من الطيور و الأسماك، قد تعرضت للموت بسبب هذه الجريمة المتعمدة.

و من نتائج البقعة النفطية تلوث الهواء أيضا- كما سبق- حيث تتبخر الأجزاء الخفيفة المتطايرة الموجودة في النفط و يتراوح معدل التبخّر بين «10- 75%» من الوزن الإجمالي في بقعة النفط، و تؤثر في هذا المعدل

الفقه، البيئة، ص: 130

عوامل مختلفة بعضها يتعلق بخصائص النفط في نفسه كالكثافة و اللّزوجة و الضغط البخاري، و البعض الآخر يتعلق بعوامل طبيعية مثل درجة حرارة كل من الهواء و مياه البحر و حركة الموج و سرعة الرياح و

اتجاه التيارات المائية.

و قد تصور صدام- مع قطع النظر عن رؤية كون الأمر كله سيناريو معدا من قبل باتفاق مع الأسياد- أنه بعد اجتياحه للكويت سيتمكن من اجتياح السعودية و بعد ذلك باستطاعته أن يحيل بالفاكس- كما صرح بذلك-، و قد هيأ لذلك ادعاء العروبة و ادّعاء أنه ضد إسرائيل و ادعاء الإسلامية ليتمكن بهذه الادعاءات حسب زعمه من استقطاب العرب و المسلمين حول نفسه، لكن الخيال شي ء و الواقع شي ء آخر.

و على أيّ حال: فقد تلوثت البيئة تلوّثا غريبا لا بهذا فحسب بل بإحراقه الآبار البترولية أيضا. و لا يظن أحد أنّ هذه الكوارث شي ء صغير سواء من ناحية النفط أو من ناحية غير النفط، و سواء من ناحية البحر أو من ناحية البر و الغابات التي تقطع، إلى غير ذلك، فقد دلّت الإحصائيات العالمية على أنّ عدد النباتات المعرّضة للانقراض يزيد على «20 ألف» نوعا نباتيا.

الفقه، البيئة، ص: 131

حيوانات انقرضت بسبب التلوث

يذكر أن أصنافا من الثدييات انقرضت من على سطح الكرة الأرضية، فقد انقرض منها «248» نوعا، و أما من الطيور فقد انقرض منها «287» نوعا، و أما من البرمائيات فقد انقرض منها «36» نوعا، و انقرض أيضا «119» نوعا و تحت النوع من الزواحف.

و لا زالت ظاهرة الانقراض سارية في أكثر من بلد، فالاتحاد السوفياتي- السابق- وحده يتهدد بانقراض «50» نوعا من الثدييات و «63» نوعا من الطيور و «121» نوعا من الزواحف و البرمائيات و «418» نوعا نباتيا راقيا حسب إحصاء الكتاب «الأحمر» لسنة 1394 ه «1974 م» «1».

______________________________

(1) يقول الأكاديمي الروسي ف داء فيننابا: إنّ الكتلة الحيّة تحتوي في الوقت الراهن على ما لا يقل عن واحد بالمائة من أنواع الحيوانات

و النباتات التي تعيش على سطح الأرض منذ ظهور الحياة عليها أمّا النسبة الباقية فقد فنيت، و من المستبعد تقديم ضمانات للبشريّة حول إمكانيّة العيش في حال حدوث أيّة تغييرات طارئة في البيئة المحيطة بما في ذلك المناخ. موسوعة الطقس ص 284 أسامة حوحو.

و قد ذكرت الإحصاءات منذ بداية القرن الحالي في بلجيكا وحدها يختفي سنويا نوع نباتي واحد إضافة إلى أن مائتي نوع تفقد أكثر من 75% من أفرادها كما اختفى 49 نوع نباتي من إقليم أنجو الفرنسي منذ بداية هذا القرن. يقول جان ماري بيلت في كتابه عودة الوفاق بين الإنسان و الطبيعة ص 95، «إنّه من الممكن التساؤل عن جدوى الأنواع التي تختفي. و من السهل الإجابة عن هذا السؤال بسؤال مماثل عمّا تكونه جدوانا نحن. لكن لنساير الجدل نظرا لأنّ السؤال المطروح هو عمّا تكونه جدوى تلك الأنواع بالنسبة إلينا نحن، و هو سؤال ما أيسر الإجابة عنه:

فتلك النباتات و الحيوانات هي أنفع ما في بيئتنا و أعزّه و أجمله، إذ إنّ كلا منها يؤدّي دوره على مسرح الحياة الكبير و يسهم في توازن الطبيعة التي تعتمد عليها فيما نتنفّسه من هواء و نتناوله من طعام و نستخدمه من موادّ أوّليّة. و يمكن مواصلة الاعتراض بالقول إنّه يكفينا بعض هذه الأنواع:

و على وجه التحديد تلك الأنواع التي نستأنسها و نربّيها أو نتعهّدها بالرعاية. و في هذا الردّ تجاهل لواقع مؤداه أنّنا نكتشف كلّ سنة تطبيقات جديدة لعشر نباتات بريّة في مجالات الصناعة أو التغذية أو العلاج. فإذا نحن انتقصنا تراثنا البيولوجي و أفرغنا مستودعاته، فإنّما نقتطع من زادنا و نحرق مراكبنا. و علاوة على ذلك من ذا الذي يستطيع العيش طويلا

بلا طيور و لا زهور، في عالم معدني يتّسم بطابع اصطناعي في سجن أو في عربة فضائيّة، فمع كلّ اندفاعة في نشاطنا الصناعي المحموم تموت حفنة من الطبيعة إلى غير رجعة. فبوسعنا أن نفعل كلّ شي ء سوى بعث نوع يحلّ به الموت. و نحن نقتل من الأنواع أكثر ممّا تستطيع الطبيعة، بتطوّرها البالغ البطء، خلقه في مدّة معادلة من الزمن. و تجري عمليّة التدهور في صمت، إذ تهلك الأنواع دون أن تعترض أو تحتج إذ أنى لنا أن نسمعها و قد أصمتنا ما نحدثه نحن من ضجيج؟ و على ذلك فإنّ نزف الرصيد الجيني العالمي نتيجة لاختفاء الأنواع أمر لا يدركه إلّا الإخصّائيون. و الآثار المتراكمة آثار مرجأة و من ثمّ فنحن نعيش في غفلة من أمرنا، إذ لن نطالب بدفع الثّمن إلّا في وقت لاحق! هذا و يجب الحفاظ على المواطن البرية التي تعيش فيها الحيوانات و النباتات للحفاظ على التنوع الوراثي بحيث أنه إذا ما هاجم مرض أو وباء الحيوانات أو المحاصيل الغذائية سيكون لدينا خيار انتخاب سلالات مقاومة لسد الثغرة خاصة و أن البشرية تعتمد اليوم على 90 نوع من أنواع الحيوانات و النباتات كمصادر لغذائها.

فعلى سبيل المثال أن الذرة التي تنتجها أمريكا هي محددة وراثيا حيث أنها مهجنة من نوعين فقط من بين 200 نوع من الذرة بالعالم، و أن أكثر من ثلثي إنتاج أمريكا من الذرة تعتمد على أنساب طبيعية و لهذا فالذرة حساسة اتجاه الأمراض و الحشرات و تتطلب حماية كيمياوية.

الفقه، البيئة، ص: 132

و عند ما ينقرض حيوان أو نبات فأثره يتعدى لغيره، حيث الارتباط الوثيق و الموازنة بين أجزاء الكون و جزئياته من غير فرق بين أن

يكون الملوث أو المتلف إنسانا أو غير إنسان في البر أو البحر، حيث يؤدي تخريب الغطاء النباتي و الصيد غير المنظّم و تلوث الماء و الهواء و غيرها إلى نقصان أعداد بعض الحيوانات و زيادة أعداد البعض الآخر.

الفقه، البيئة، ص: 133

و يوجد في كل نظام بيئي العديد من الحيوانات ذات التأثير البالغ، و التي تشترك في الحلقات المكونة للتوازن، و قد تكون هذه التأثيرات إيجابية أو سلبية- مثلا- للحيوانات دور إيجابي كبير في الغابة، فهي التي تؤدي إلى خلخلة الطبقة السطحية من التربة و تزيد من قدرتها على امتصاص الماء و تقلل الجريان السطحي. كما و تغني التربة من المواد العضوية و تساهم في زيادة تحلل البقايا النباتية، بالإضافة إلى بعثرة و نثر البذور على مساحات كبيرة، كما أنها تساعد على زيادة انتشار البذور، و ذلك عند ما تطأ إقدامها على البذور تنغرس قليلا في التربة و تغطي بجزئياتها، و هذا يحمي البذرة من الحرارة المرتفعة أو المنخفضة، و في إخفائها عن الحشرات و غيرها، و بالتالي تبقى هذه البذور محتفظة بقدرتها على الانتشار أكثر من تلك التي تبقى موجودة على سطح التربة. كما أنها تقوم بالقضاء على العديد من الحشرات الضارة بالأشجار و النباتات الأخرى و القوارض أثناء عمل جحورها، و تقوم بخلخلة التربة و تساعد في اختراق الجزء العلوي من التربة مع بقاء النباتات الساقطة مما يزيد من نسبة المادة العضوية في التربة و يحسن من تهويتها، و هذا يساعد و بشكل كبير على انتشار البذور و زيادة نمو البادرات، حيث في الصين- مثلا- تشاهد العصافير بكثرة هائلة حتى أنها أخذت تنافس الإنسان في جمع البذور و الحبوب، فأمر «ماتسى تونغ» في

أحد الأعوام بإبادة العصافير، فأبيدت بصورة وحشية و غير رحيمة، و في العام التالي شاهدوا إصابة البذور بالتسوس، و بعد اكتشاف الأخصائيين لأسباب هذا المرض ظهر لهم أن العصافير كانت تضر بالبذور من جانب لأنها كانت تأخذ غذاءها منها و لكنها في الوقت نفسه كانت تقضي على الحشرات و الديدان التي تؤثر على هذه البذور، ثم أمر «ماتسى تونغ» بعد ذلك بجمع العصافير من أنحاء العالم و إرسالها إلى المناطق

الفقه، البيئة، ص: 134

الزراعية و نحوها، فعادت البذور إلى وضعها الصحي من جديد.

و هناك مثال آخر من الاتحاد السوفياتي- السابق-، فالمعروف عن الذئب أنه يفترس الأغنام و الأرانب و الحيوانات الأليفة الأخرى المفيدة للإنسان، خاصة في غابات المناطق المعتدلة الباردة، و لذا قامت السلطات في موسكو و في بولونيا بمحاولة القضاء على الذئاب، و ظهر بعد أن قلّت أعداد الذئاب بشكل كبير أن الأمراض السارية بدأت تنتشر و بشكل سريع بين الحيوانات ذات الفراء، و التي كانت تتغذّى على لحومها الذئاب.

و أدت هذه الأمراض من جانبها إلى خسائر كبيرة، و نتيجة للدراسات تبيّن أن قلّة أعداد الذئاب بشكل كبير هو المسؤول عن انتشار الأمراض بين هذه الحيوانات، ذلك لأن الذئب يمسك بالطريدة بعد أن يطاردها ركضا، فالحيوانات الضعيفة تسقط ضحية تحت أنياب الذئاب، أما القوية منها و السليمة فإنها تتخلص من أنياب الذئاب.

و لذا قرر الخبراء في موسكو و بولونيا الحفاظ على الذئاب التي تقوم بالقضاء على الحيوانات المريضة، التي تسبب نشر الوباء بين الحيوانات، و قد جلبوا أعداء الكبيرة من الذئاب إلى هاتين المدينتين.

و الشي ء نفسه بالنسبة إلى ثدييات و آكلات الحشرات و الطيور الجارحة، فمثلا يقضي الغرير على أكثر من «500» من

الحشرات يوميا، و هناك طير آخر يقضي كل يوم على «10 آلاف» من الديدان الصغيرة، و هناك أمثلة أخرى يجدها الإنسان في كتب البيئة و الحيوان.

أما بعض التأثيرات السلبية للثدييات، و التي لا يمكن مقارنتها بالإيجابيات، فتظهر بشكل خاص عند ما تزداد أعدادها بشكل كبير بحيث تقوم بالتهام كافة البذور لدرجة أنها تمنع تجدد الأشجار و النباتات الأخرى،

الفقه، البيئة، ص: 135

كما أنها تأكل الأجزاء الفتية من الأشجار و الشجيرات و كذلك البادرات الفتيّة. كذلك يمكن أن تسبب الطيور إضرارا للغابات حيث تأكل البذور و بالتالي تقلل من تجدد الأشجار، و بعض الطيور تعيش في الشتاء على حساب براعم الأشجار و هذا يلحق ضررا بها، و لكن من ناحية أخرى فللطيور تأثيرات إيجابية بالغة، فهي التي تخلص الغابات من أعداد هائلة من الحشرات حيث تشكل الحشرات القسم الأساسي من غذائها، و خاصة الحشرات الضارة،- فمثلا- أحد الطيور و الذي يسمى ب «سنّ المنجل» يخلّص الغابة من ثلاثة أرباع يرقات نوع من الحشرات الضارة و ليس الأشجار فقط بل أوراق الأشجار أيضا، و قد وجد في بطن «15» طيرا منها «548» يرقة من هذه الحشرات، و هكذا- مثلا- الرخ و أبو لحية و غيرهما كثير من الطيور التي تفترس جثث الحيوانات الميتة، و بذا تمنع انتشار الأمراض، كما إن «التلوث البيئي» هواء كان أو ماء تسبب تلوثا كبيرا بالنسبة إلى الثروة السمكيّة، و نتيجة للتلوث فإنّ أعدادها قلّت و بشكل كبير في الأنهار و البحيرات و أطراف البحار الكبيرة. و حتى أن الأفاعي التي تسبب الخوف و الهلع و الرعب و التسميم أحيانا للإنسان أو الحيوان تعتبر مفيدة من وجهة نظر أخرى، فالسم من الأدوية ذات

الفوائد الكبيرة، و الذي يستعمل حاليا في علاج العديد من الأمراض، كما و إن جلود الحيّات من أفضل أنواع الجلود و لها متانة و قدرة على البقاء و تضاهي الجلود الأخرى.

و لا شك إن للأفاعي فوائد في خلق حالة التوازن في الطبيعة، فهي تتغذى على الحشرات و الأحياء التي لو بقيت و تكاثرت لأثّرت على حياة الإنسان، و من بين الحيوانات الضارة التي تقضي عليها الأفاعي هي الفئران.

و الدراسات دلّت على إن 99% من الحشرات مفيدة للإنسان أمّا

الفقه، البيئة، ص: 136

مباشرة كالنحل و دودة القزّ، أو غير مباشرة كالحشرات التي تلتهم الحشرات الضارة. و من الواضح أن كل ما خلقه اللّه تعالى فهو لحكمة و بميزان دقيق و إن لم نكتشف أبعاد ذلك.

و لا ريب إن الحيوانات السامة من أفاعي أو حشرات لها فائدة أخرى من تطهير الأجواء من التلوث، فهي تأخذ السموم من الهواء، حالها حال الأشجار التي تأخذ ثاني أكسيد الكربون من الجو و تحوله إلى أوكسجين.

لذا كان من اللازم الحفاظ على مختلف الحيوانات سواء التي يستفاد منها من لحمها أو جلدها أو فرائها، و يستفاد من أجزاء منها كدواء مفيد لمعالجة بعض الأمراض.

من هنا سعت بعض الدول إلى تربية هذه الحيوانات لأغراض اقتصادية بحتة، و من هنا يتضح أن لبعض الحيوانات الضارة من أفاعي و حشرات و غيرها، تأثير كبير في التوازن الحيواني و في توفير النظام البيئي، حيث تساهم في وقف زيادة عدد الحشرات الضارة بالتهامها أو قتلها أو ما شابه ذلك.

و هكذا يلزم الحفاظ على الحيوانات و النباتات التي هي في طريق الانقراض، و مع انقراضها تخسر البشرية حلقات هامة من حلقات التوازن الطبيعي في الكائنات الحية.

و قد

أشار أحد الباحثين الغربيين على أنه لو لم يقض على البقرة البحرية، و هي بقرة كانت تعيش في الشواطئ غير العميقة لمنطقة الشرق الأقصى و كانت تتغذى على الأشنيّات و على النباتات المائية، فربما أخذ حل مشكلة البروتينات الحيوانية مجرى آخر يختلف عمّا هو عليه الآن، و لأنشأت مزارع بحرية لهذه الأبقار في كل أجزاء العالم.

الفقه، البيئة، ص: 137

الترويح عن النفس و تلوث البيئة

الإنسان بحاجة إلى ساعات يقضيها في الطبيعة بين الأشجار و الزهور و مياه البحر و الفراشات و الغزلان و ما أشبه ذلك و إن التلوث الذي أصبح يهدد الطبيعية بجمالها سيحرم الإنسان من هذه المتعة التي لا غنى عنها في عالم مملوء بالصخب و الضوضاء و المشكلات المعقدة.

و على كل حال: فالملوثات للبيئة من أي قسم كانت سيجلب الضرر للإنسان صحيا و غذائيا جسميا و نفسيا و.، فإنّ كثيرا من الأمراض خصوصا في هذا النصف الثاني من القرن العشرين ازدادت أضعافا مضاعفة نتيجة للملوثات البيئية، و قد قال تعالى ظَهَرَ الْفَسٰادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي النّٰاسِ. «1»، و قال سبحانه و تعالى نَسُوا اللّٰهَ فَأَنْسٰاهُمْ أَنْفُسَهُمْ. «2».

هذا و هناك مواضيع جديرة بالبحث نحيل القارئ فيها إلى الكتب الأخرى: التأريخ البيئي و أثره في أساليب الحياة. البيئة و علاقتها بالثقافة.

السياق التفاعلي بين المجتمعات البشرية و البيئة المحيطة بها. تأثير الحروب على تلوّث البيئة. علاقة التربة و الماء و الحياة و تفاعلها فيما بينها.

______________________________

(1) سورة الروم: الآية 41.

(2) سورة الحشر: الآية 19.

الفقه، البيئة، ص: 138

النظم البيئية

اشارة

مسألة: لا بد من إيجاد نظم بيئية طبيعية، و توفير الحماية الكافية لها، و بذلك يتمكن الإنسان أن يترك للأجيال القادمة صورا حيّة للنظم البيئية المتنوعة.

و تشكل هذه النظم البيئية مناطق محميّة تعتبر أساسا لدراسة البيئة و مكافحة التلوث. و تطوّر هذه النظم، و دراسة تركيبها و طرق عملها، و كذلك بمقارنتها مع بقية النظم غير المحمية أو التي تخضع للاستثمار من قبل الإنسان مثل الغابات المستثمرة و الأراضي الزراعية و المناطق العمرانية و الصناعية و غيرها.

فمن الواضح إن المناطق المحميّة متنوعة من حيث الهدف و يمكن تقسيمها

إلى قسمين:

الأول: الحدائق العامة، فهي مناطق طبيعية و متنوعة تحتوي على عدة أنواع من النظم البيئية و تكون فيها الحيوانات و النباتات في مأمن من كل التعديات، كما و تعتبر المنتزهات العامة من النظم البيئية التي يجد فيها الإفراد فرصة العيش في الطبيعة مع الحفاظ على الحيوانات و النباتات التي فيها.

و يوضع لهذه الأماكن برنامج خاص لحمايتها من الحرائق و الآفات أو الاعتداء الذي يواجه النباتات أو الحيوانات.

و في الحرب العالمية الثانية أصيب الكثير من هذه المواضع بالحرائق

الفقه، البيئة، ص: 139

و الغازات و الملوثات و المبيدات و غير ذلك، بسبب جشع الذين كانوا يقومون بالحرب بعضهم ضد البعض الآخر و عدم خوفهم من اللّه «صلّى اللّه عليه و آله و سلم».

الثاني: المدّخرات، و أهم أهدافها حماية تنوع المجتمعات الحية النباتية و الحيوانية ضمن نظم بيئية طبيعية و تهيئة مساحات مخصصة للأبحاث البيئية لدراسة كل ما يتعلق بالوسط المحيط، و خاصة فيما يتعلق بإجراء مقارنات بين المساحات المحمية و مساحات أخرى مجاورة غير محميّة، و الاستفادة منها في التدريس، فإنها مساحات محميّة تنتمي إلى بيئات مختلفة أرضيّة و شاطئيّة، و يجب أن تحتوي على أمثلة معبّرة عن النظم البيئية المكوّنة.

كما يمكن أن تضم جماعات لنوع نادر أو معرض للانقراض، و هذه المدّخرات يجب أن تغطي مساحات بحيث تسمح بتكوين وحدة متكاملة للحماية.

الأمطار السوداء

إن التلوث شمل البحر و البرّ و الجوّ نتيجة حرب الخليج. فقد أثرت الأبخرة التي تصاعدت من آبار النفط المحترقة على نوعية الأمطار في منطقة الخليج و في المناطق الأخرى المتاخمة لها.

و قد شهد شتاء سنة 1411 ه «1991 م» سقوط الأمطار السوداء، و هي أمطار عالية الحموضة، و ذلك نتيجة تفاعل

الغازات و الأبخرة المتصاعدة من حرائق الآبار مع بخار الماء و تكوين أحماض ضارّة جدا، و ليس ثمة شكّ أن هذه الأمطار الحمضية ألحقت تأثيرا بالغا بالتربة و المحاصيل الزراعية و النباتات البرّية و مصادر المياه السطحية و الجوفية، و إيجاد هواء غير صحّي للإنسان مما

الفقه، البيئة، ص: 140

سبب أمراضا مختلفة.

فقد سقطت أمطار سوداء في كل من إيران و البحرين و الكويت و العراق و تركيا و قطر و المنطقة الشرقية في السعودية، و وصلت سحب الدخان الناجمة عن حرائق الآبار حتى اليابان، و انخفض معدل درجة الحرارة في منطقة الخليج إلى نحو «16 درجة مئوية» في الكويت و حواليها نتيجة سحب الدخان التي كست السماء باللون الأسود، و قلّلت من أشعة الشمس و التي حوّلت النهار في بعض المناطق إلى ما يشبه الليل البهيم.

و تعرضت الحيوانات الأليفة للموت اختناقا في بداية الكارثة، و المركبات التي حصلت من ذلك أثرت في كبد الإنسان و كليتيه و جهازه التفسي و المري ء و المعدة و العيون و الدم، لكنها أخيرا أطفأت في وقت قياسي بسبب كثرة الخبراء و تزايد الاهتمام. و تفصيل هذه الأمور تجدها في الكتب المتخصصة.

الفقه، البيئة، ص: 141

التلوث الغذائي

اشارة

مسألة: الجهل و الطمع سببا تلوث الغذاء بمختلف أنواع الملوثات، مما أدى إلى هلاك كثير من الناس أو إصابتهم بأمراض مختلفة يمتد بعضها للأجيال القادمة.

فالتلوث الغذائي قد يكون: 1- تلوثا طبيعيا ناتجا عن تحلل الغذاء بسبب البكتيريا و الفطريات أو طول فترة التخزين أو التعرّض للإشعاع الطبيعي أو غير ذلك من العوامل التي قد لا يكون الإنسان سببا مباشرا فيها و إن كان من أسبابها البعيدة. و قد حدثني بعض الأصدقاء أنه وجد

في مخازن جيش إحدى الدول معلبات يعود تاريخها إلى ربع قرن.

كما و إن من مصادر التلوث الطبيعي الإشعاعات الناجمة عن وجود بعض الصخور ذات الخواصّ الإشعاعية، حيث تنتقل هذه الإشعاعات للنباتات التي تنتقل بدورها عبر سلسلة الغذاء إلى الحيوان و الإنسان.

كما و إن بعض الجراثيم تنتقل من الخنازير إلى الخضروات، فإذا أكلها الإنسان ابتلي بمختلف الأمراض. و قد رأيت بنفسي شخصا ابتلي بذلك مما سبب وفاته و لم ينفعه الذهاب حتى إلى المستشفيات الغربية لعلاجه، فرجع إلى العراق و مات بعد مدة من الزمن.

2- و قد يكون تلوثا غير طبيعي، و ينجم أساسا عن تصرّفات الإنسان، سواء كان التلوث عن عمد لأجل الحصول على الأرباح أو غير عمد؛ و من

الفقه، البيئة، ص: 142

أبرز صور هذا التلوث، التلوث الكيماوي للأغذية.

و التلوث الغذائي عبارة عن احتواء المواد الغذائية على جراثيم مسببة للأمراض أو مواد كيمياوية أو طبيعية أو مشعّة، تؤدّي إلى حلول تسمّم غذائي بسبب الأمراض الحادّة الخاصّة في المعدة أو الأمعاء.

و هذه الأمراض في الأصل من الأغذية الملوثة ببعض العوامل الجرثومية أو السموم قبل استهلاكها من قبل الإنسان.

و قد حدّثني بعض من أثق به أن دولة أجنبيّة قامت بتصدير كمية من اللحوم الفاسدة إلى دولة الإسلامية مقابل تخفيض السعر مليون دولار. و قد رفض رابط تلك الدولة الموافقة على الصفقة، و استقال من منصبه نتيجة الضغط، و عيّن آخر مكانه. و كان أول عمل قام به الموظف الجديد هو الموافقة على صفقة اللحوم الفاسدة.

و يعتبر التلوث البكتيري أشهر أنواع التلوث الطبيعي للغذاء و أكثرها شيوعا، و تساهم الحشرات المنزلية كالذباب و الصراصير و الفئران و ما أشبه ذلك في نقل الجراثيم المسببة لهذا التلوث،

كما أن المياه و الأغذية الملوثة تنقل البكتيريا المسببة للأمراض. و هذه البكتيريات تفسد الحليب و الألبان بصورة عامة، و تقضي على عصير الفواكه و الزبد و الزيوت و الدهون و منتجات الفطائر المحتوية على نسبة مرتفعة منها.

و هناك نوع من البكتيريا غير الهوائية تنمو في الأغذية المعلّبة غير الحمضية كاللحوم و الخضروات، و هي تنتج غازا يؤدي إلى انتفاخ العلب، كما تتسبب في ظهور رائحة غير مرغوبة فيها.

و محتويات العلبة و البكتيريا المفسدة للغذاء على نوعين:

1- قد يكون له رائحة كريهة يتمكن الإنسان من الكشف عنه.

الفقه، البيئة، ص: 143

2- و قد لا يكون له رائحة كريهة، الأمر الذي يصعب تشخيص فساده.

و من الملوثات الجرثومية بكتيريا «السالمونيلا» و هي بكتيريا واسعة الانتشار مسببة العديد من الأمراض، فهي السبب في مرض حمّى التيفوئيد، و كما و إنّ أضرارها لا تقتصر على الإنسان وحده بل تمتد لتشمل الحيوانات الاقتصادية حيث تسبب لها التهابات معويّة. كما تؤدي إلى هلاك جماعي في الدواجن، و يزيد من خطورة هذه البكتيريا تعدّد أنواعها، فهي كما يقول الأطباء تربو على ألفي نوع، و العلم بكل وسائله الحديثة لا يتمكن من السيطرة على انتشار هذه البكتيريا و وقف آثارها الممرضة كليا.

و من أهم مصادر هذه البكتيريا الأبقار و الدواجن حيث تستوطن أمعاءها و أنسجتها، كما ينتشر بعض أنواعها في الكعك و الفطائر، و حتى لو جفّفناها و جمّدناها و ما أشبه ذلك فلا تتوقف إضرار هذه البكتيريا.

و هناك أنواع من هذه البكتيريا تسبب الوفاة في بعض الحالات، و تنتشر هذه البكتيريا في الأطعمة غير محكمة التغليف و في المعلبات و اللحوم المقدّدة و غيرها.

ثم إن التلوث الكيماوي للغذاء يكون بالتراكم و التكاثر

في الخلايا الحية حيث يزداد تركيز الملوثات الكيماوية خلال مرورها عبر السلاسل الغذائية.

و ذلك يسبب حدوث إصابات بأنواع شتى من السرطان نتيجة تناول الإنسان مواد غذائية ملوثة بالكيماويات و المعادن الثقيلة كالرصاص و الزئبق و ما أشبه ذلك.

و قد أصبحت مشكلة التلوث الكيماوي للغذاء مشكلة عالمية، فبدلا من أن يمدّنا الغذاء بالطاقة التي تعمل بها خلايا أبداننا حتى يستطيع الجسم أداء

الفقه، البيئة، ص: 144

وظائفه على أكمل وجه، و حتى نستطيع التحرك من مكان إلى مكان آخر، و حتى تتجدّد الخلايا التالفة، و حتى نكون في صحة جيدة و تفكير سليم، بدلا من ذلك كلّه أصبحت المواد الغذائية في كثير من البلدان سببا للكثير من الأمراض و العلل.

و في الكثير من الموارد تضيف الشركات مواد كيمياوية للطعام و الشراب من أجل إعطائه نكهة جيدة أو لونا جيدا أو رائحة طيّبة، بينما ضرر هذه المواد الغذائية أكثر من نفعها «1».

فاللازم العودة إلى الطبيعة في طريقة التغذية، كما أخذ العالم يعود إلى الطبيعة كمصدر للدواء، فقد قرأت في تقرير عن الولايات المتحدة الأمريكية أنها تستهلك كل عام ملياران من الأدوية الأعشابية، و في بعض البلدان الشرق أوسطية افتتحت مشافي للعلاج العشبي.

و الغالب أن الشركات المنتجة للمعلبات تتعمد تسميم الغذاء من أجل الربح المادي، لأنهم يريدون النكهات الصناعية و المحسنات و المضافات و المحلّيات و المناظر الجميلة المختلفة.

و نشرت بعض الجرائد محاكمة ثلاثة كانوا يتاجرون بالزيوت المغشوشة في إسبانيا، و كان هؤلاء الثلاثة قد تسببوا في قتل «650» شخصا، و كانت

______________________________

(1) فمثلا مادّة السابكلاميت التي كانت تستعمل لتحلية الموادّ الغذائيّة و الخمائر منعت نتيجة لاحتوائها على السموم، و مادّة السكارين التي كانت تستعمل للتحلية منذ بداية

القرن حتّى السبعينات منعت نتيجة لاحتوائها على سموم سرطانيّة. و كذا استعمال دي إي أس الذي يستخدم للطيور أوقف استعماله عام 1961 م لاحتوائه على موادّ مسرطنة، و كذا الاستروجين التركيبي الذي استعمل حتّى نهاية السبعينات كمشجّع للنمو في الأغنام و الماشيّة ثبت أنه أحد المسرطنات البشريّة، و كذا الأسبس الذي يستعمل في مجفّفات الشعر، و كذا الفور الفورمالديهايد التي تستعمل في بعض الموادّ المنزليّة العازلة ثبت إنّها مواد مسرطنة أيضا.

الفقه، البيئة، ص: 145

أولى ضحاياهم سنة 1404 ه «1984 م» و آخرها في سنة 1410 ه «1989 م». و بالإضافة إلى هؤلاء الضحايا أصيب عدة آلاف بأمراض متعددة نتيجة استعمالهم لهذا الزيت المغشوش.

و اكتشف في بلد إسلامي أن هناك شركة تستخرج الزيوت من الحيوانات الميتة كالحمار و ما أشبه ذلك.

و قد أثبتت بعض الدراسات أن الحيوانات تصاب ببعض الأمراض التي تسبب لها قلة منتوجاتها الألبانية، كذلك تؤثر في درجة خصوبتها الإنجابية، بل قد تصاب بالعقم و تتعرض للموت خنقا إذا ما زادت من حدّة التلوث.

و بعض الحيوانات هي مصدر خصب للجراثيم و الديدان، و هي تنقل هذه الطفيليات و الجراثيم إلى الإنسان، و من هذه الحيوانات الخنزير الذي يستفاد من لحمه بشكل كبير في دول أوربا.

و الحاصل أنّ هناك عددا كبيرا من الأسباب التي تسهم في تفاقم مشكلة التلوث الكيماوي للغذاء مثل استخدام المبيدات الحشرية على نطاق واسع لقتل الحشرات أو التي تستخدم في الزراعة و كذلك الخضروات.

و هذه المبيدات قد تظلّ عالقة بالتربة الزراعية فترة مديدة من الزمن قد تصل إلى «15 سنة».

و من مضار المبيدات: أضعاف التربة لأنها تقتل كثيرا من البكتيريا المفيدة الموجودة فيها. و لعل هذا الأمر سبب تأثر إنتاجية

الأراضي الزراعية في العديد من دول العالم، فرغم استخدام الأسمدة الكيماوية و استعمال الأساليب الزراعية الحديثة إلّا أن معدلات الإنتاج الزراعي انخفضت لمقادير كبيرة. كما تأثرت إنتاجية المحاصيل و الفواكه نتيجة استخدام المبيدات بصورة كبيرة و التي أدت إلى هلاك عشرات الأنواع من البكتيريا التي خلقها اللّه سبحانه و تعالى في

الفقه، البيئة، ص: 146

التربة الزراعية لتثبيت النتروجين من الهواء الجوي و لتحليل المواد العضوية.

و قد لاحظت الأمر بنفسي، ففي الأعوام التي كنّا نستعمل فيها المبيدات يكون إنتاجنا ضعيفا من الرمان و العنب و التين في الحديقة الصغيرة التي كانت في بيتنا.

و لا تنحصر مضار المبيدات بهذا القدر، فهي تنقل عبر طعام الإنسان مختلف السموم الضارة. و الأدهى أن الحشرات التي تتعرض للمبيدات تكتسب تدريجيا المناعة ضد هذه المبيدات، فتفقد أي تأثير لها.

المواد الكيماوية الحافظة

المواد الكيماوية الحافظة «1»، و هي المواد المستعملة في صناعة التعليب، فإنها و إن كانت تزيد من صلاحية الغذاء إلّا أنها تصبح سامة إذا تجاوزت الحدّ المطلوب.

و مما يسبب تلوث الغذاء و الدواء و الأتربة و ما أشبه ذلك في المعلبات و غيرها استخدام الألوان و الأصباغ و مكسبات الرائحة في صناعة تلك المنتجات، حيث تبين أن هذه المواد مسؤولة عن العديد من الأمراض السرطانية.

فعلى سبيل المثال لقد ثبت علميا أنّ صبغة النعناع الأخضر الاصطناعية

______________________________

(1) إنّ الموادّ الكيماوية على ثلاثة أقسام: 1- الموادّ المتواجدة بشكل طبيعي و التي نتناولها من خلال الطعام أو سائر الوسائط الأخرى، 2- المنتجات الكيماوية الصناعيّة التي تصنع لأغراض خاصّة، 3- الملوّثات الصناعيّة الناتجة عن استعمال الوقود و صناعة الكيماويات و الصناعات الأخرى.

و حديث الإمام المؤلّف «دام ظلّه» هنا عن القسم الثاني، و سيأتي الحديث لاحقا

عن القسم الثالث.

الفقه، البيئة، ص: 147

شديدة الخطورة، و كذلك الأمر بالنسبة للأصباغ الصناعية للرّمان و الصبغات المستعملة في صبغ بعض أنواع الحلوى السكّرية، و صبغات رقائق البطاطس و الألوان المشابهة للون البرتقال، و الحساء المحتوي على عصير الطماطم الذي أضيف إليه لون صناعي.

هذا بالإضافة إلى أن إضافة حبّ الأسبرين في كل قنينة يسبب تلوثا في الطعام، الأمر الذي يسبب التسمم أيضا، و مما يزيد في تلويث الغذاء صنعة أو حفظه في المواد البلاستيكية و المواد النيكلية و المواد الكرتونية، فإن ذلك كله ثبت ضرره البالغ بالنسبة للطعام و الشراب و ما أشبه ذلك.

و من أشد المواد المسببة للسرطان و أكثرها فعالية لإثارة هذا المهن مادة خاصة تستخدم لصبغ «المارغرين» لإعطائه شكل الزبدة الطبيعية، و ذلك لخداع المستهلكين و جلب انتباههم لشراء هذه المواد.

و هكذا حال الأصباغ التي تستعمل لصبغ الرأس أو اللحية، و بعض المواد التي تستعمل لأجل إزالة الشعر من البدن أو لأجل التجميل للوجه ما أشبه ذلك.

ثم إنّ المعادن الثقيلة التي يتم التخلص منها بإلقائها في البحار أو في التربة الزراعية كالزئبق فإن هذه المعادن سامّة جدا، و تعتبر الأسماك في طليعة الأغذية التي يمكن أن تتلوث بمثل هذه السموم. و قد أصبحت الأسماك غير صالحة عند ما تصاد من أماكن معيّنة مشهورة بالتلوث كالبحر الأبيض المتوسط.

و من الجدير بالذكر إن أسماكا مسمومة تصدرها الولايات المتحدة الأمريكية إلى دول العالم الثالث بعد أن ثبت فسادها و منع استعمالها.

و من المضرّات أيضا الهرمونات التي تستعمل للتعجيل في نمو الحيوانات و النباتات، و تنتشر هذه الظاهرة في الدول النامية و الدول المتقدمة على حدّ

الفقه، البيئة، ص: 148

سواء إذ ذكروا في إحدى الدول

العربية أن صاحب حقل للدواجن كان يضيف أقراص منع الحمل إلى طعام الدواجن، كما و اكتشف في آلمانيا الاتحادية سنة 1408 ه «1988 م» عجول محقونة بالهرمونات و هي تسبب مرض السرطان.

و قد أشارت بعض الصحف إلى اكتشاف السلطات الحكومية في آلمانيا الاتحادية وجود عصابة دولية تقوم بتصنيع نوع جديد من الهرمونات التي تساعد على الإسراع في نمو عجول التسمين و زيادة وزنها، بينما كان الأمر ضارا ضررا كثيرا.

أثر الغبار الذري على الغذاء

و هكذا يتلوث الغذاء أيضا بمواد مشعّة نتيجة لتساقط الغبار الذرّي على النباتات و التربة الزراعية أو نتيجة لتلوث الهواء و الماء بمخلفات التجارب النوويّة حيث تدخل المواد المشعّة إلى أجسام النباتات و تنتقل عبر سلسلة الغذاء إلى الحيوانات و الطيور و الأسماك و الإنسان.

و قد تنبّه العلماء إلى إضرار إضافة المضادات الحيوية إلى غذاء الحيوان قبل نصف قرن حيث تبين أن استخدام هذه المضادات بصفة دائمة يؤدي إلى اكتساب أنواع معينة من البكتيريا مناعة ضد تأثير المضادات الحيوية، و لذلك تظل هذه البكتيريا موجودة في لحوم الحيوانات و الطيور و من ثمّ تنتقل إلى جسم الإنسان عند تناول هذه اللحوم فتسبب له أمراضا لا يمكن معالجتها بالمضادات الحيوية.

الفقه، البيئة، ص: 149

الرجوع إلى إحضان الطبيعة

و كلّما رجعنا إلى الطبيعة في مختلف مجالات حياتنا و كلّما رجعنا إليها في التداوي بالأعشاب رجعت إلينا سلامتنا و سعدنا بحياتنا، قال رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم»: (بورك لمن أكثر أوانيهم الخزف)، و قال ابن سينا:

«خير دواء الأمراض للإنسان هو الدواء الذي يكون من أرضه».

و كلّما رجعنا إلى الطب العشبي، و كلما التزمنا بالأساليب الصحية الإسلامية كالكحل و النورة و العطر و الحجامة و الفصد و السواك من شجر الأراك و الالتحاء- الذي هو سبب لحفظ العين و الأذن و الفم و الحنجرة و ما أشبه ذلك- و أكل الملح و الخل مع الطعام، و عدم الزيادة في أكل اللحم أو أكل الطعام أو ما أشبه ذلك رجعت إلينا صحتنا و وقينا أنفسنا شرّ الأمراض، و كلّما أسرعنا في تزويج أبنائنا عند بلوغهم سن الرشد أوقفنا ابتلاءهم بالفحشاء و بمختلف الأمراض.

فكلّما اقتربنا إلى الإسلام اقتربنا إلى الصحة

أيضا.

و إني لأتذكر في مدينتنا كربلاء المقدسة حيث كان عدد سكانها آنذاك لا يتجاوز المائة و خمسين ألف نسمة «1» لم يكن فيها سوى شخص واحد يرتدي نظارات، و قد بلغ هذا الرجل السبعين من عمره و كان يتكئ على عصاه عند مشيه لوجع في رجله، أما مرض ضعف القلب و البروتستات و ما أشبه ذلك،

______________________________

(1) وفق إحصاء أجراه السيّد محمّد الصدر رئيس الوزراء في العهد الملكي سنة 1367 ه «1948 م».

الفقه، البيئة، ص: 150

فإني لم أجد حتى مصابا واحدا. نعم كان يكثر الملاريا و سببه وجود المستنقعات في أطراف مدينة كربلاء، حيث تولّد البعوض التي هي سبب الملاريا مباشرة. و قد جاء متصرّف إلى لواء كربلاء فأمر بردم المستنقعات الكثيرة و لما ردمت لم يزر هذا المرض كربلاء أكثر من 50 سنة.

آثار الإشعاعات الذرية

و فيما يلي نذكر بعض التقارير عن آثار الإشعاعات الذرية بالرغم من تأكيد الدول الصناعية على الوقوف بوجهها و الحدّ منها.

فقد دلّت الإحصاءات في اليابان على أن نسبة المصابين بسرطان الدم من بين سكان هيروشيما و ناكازاكي الذين نجوا من خطر القنابل الذرية، هي أعلى بكثير من نسبة المصابين بسرطان الدم من السكان الذين لم يتعرضوا أبدا للإشعاعات النووية، و قد ظهرت أعراض سرطان الدم بعد مرور عدة سنوات من تاريخ الانفجار. و هذا إنما يدل على إن خطر الإشعاعات لا يبرز فورا و إنما يظهر بعد فترة من تاريخ التعرض للإشعاع. و كان لهذه الإشعاعات تأثير مباشر على الزرع و الضرع و على الحيوانات البحرية، فبعد سنوات و الإنسان يستعمل هذه الأغذية بظنّ منه أنها سالمة، لكنه يصاب بما أصيبوا به مع تركيز أكبر، كما أشرنا إليه سابقا.

و من أخطر

تأثيرات الإشعاعات النووية الآثار الوراثية، و التي تتمثل بإنجاب أطفال مشوّهين جسميا أو عقليا، و الإشعاعات الذرية المنبعثة من انفجار القنابل الذرية و التي يمكن اعتبارها جزئيات متناهية في الصغر تسير بسرعة كبيرة جدا و تتساقط على الأشخاص الذين يعترضون طريقها، و تنفذ

الفقه، البيئة، ص: 151

من الجسم بسهولة و أعضاء الجسم ليست متساوية الحساسية بالنسبة إلى أعضاء الإشعاعات و أكثر أعضاء الجسم حساسية هي الأعضاء المكونة للدم و الجهاز الهضمي و الجلد و الغدد التناسلية، فالأعضاء المكونة للدم و هي مخّ العظام و العقد البلغمية، و التي تشكل الكريات الحمراء و البيضاء و الصفيحات التي تساعد الدم على التخثّر و تخريم الأعضاء المكونة للدم يؤدي إلى قلّة كريات الدم الحمراء و تحدث فقرا في الدم، و كذلك تقلّ الكريات البيضاء و تضعف مقاومة الجسم. كما و إن قلّة عدد الصفيحات تقود إلى اضطراب في تخثّر الدم و يحدث نتيجة لذلك النزيف من الأنف و الفم و الرئتين و المعدة و الأمعاء و غيرها.

و بالنسبة إلى الجهاز الهضمي فتتركز هذه الإشعاعات على طول هذا الجهاز و تحدث تقرّحات في جدار المعدة و الأمعاء و تحدث اضطرابات هضمية على شكل غثيان و قي ء و فقدان تام للشهية و إسهالا، و غالبا ما تكون مختلطة بالدم. و أما النسبة إلى الجلد فأول تأثير على الجلد من الإشعاعات الذرية يتمثل بسقوط الشعر الذي يلاحظ عادة بعد مضي أسبوعين من فترة التعرّض للإشعاعات و يستمر بعد ذلك لمدة أسبوعين أو ثلاثة.

و بالنسبة إلى الغدد التناسلية فإن تعرّض الأعضاء التناسلية للرجل للإشعاعات الذرية تسبب له العقم الذي غالبا ما يكون موقتا.

هذا و لا يؤثر العقم على القدرة الجنسية لدى

الجنسين، و كذلك تصاب المرأة المتعرّضة للإشعاعات الذرية في العقم الموقت كالرجل تماما، و يترافق ذلك مع اضطرابات في العادة الشهرية. و قد يتوقف الطمث و ترتفع الحرارة؛ و المرأة الحامل- كثيرا ما- تجهض في حال تعرضها للإشعاعات الذرية.

و هناك بعض الدراسات التي تشير إلى أن الرجال و النساء الذين يصابون

الفقه، البيئة، ص: 152

بالعقم نتيجة تعرضهم إلى إشعاعات ذرية ينجبون أطفالا مشوّهين جسميا أو عقليا أو مضطربين نفسيا أو من ذوي العاهات و العقد.

و كيف كان، فالحضارة الحديثة على كثرة فوائدها لكنها حيث خرجت عن مظلّة الأنبياء «عليهم السلام» و من خوف اللّه سبحانه و تعالى و اختلطت بالجشع و المادية و الاستغلال و الاستعمار و جعلت محورية المادة بدل محورية الإنسان، فتنتج عن ذلك أمراض لا تعدّ و لا تحصى.

فلا علاج من هذه الأمراض و الأوبئة إلّا بالعزوف عن هذه المظاهر و التوجه إلى مظلّة الأنبياء «عليهم السلام» و الخشية من اللّه سبحانه و تعالى و الخشوع إليه و جعل الإنسان هو المحور لا المادة و المال و الدنيا و ما أشبه.

ففي الحديث القدسي قال اللّه سبحانه و تعالى للدنيا: (أتعبي من تبعك) «1»، و هكذا نشاهد انطباق هذه الجملة الشريفة على بشرية اليوم.

و صدق اللّه سبحانه و تعالى حيث ذكر في القرآن ظَهَرَ الْفَسٰادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي النّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «2»، فقد وضع اللّه للكون و الحياة نظاما خاصا و الخروج عن هذا النظام يسبب الفساد، و لذا قال لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3»، و هذا البعض هو ما يذوقه الإنسان جزاء فساده.

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 363

ح 5762 ب 2، بحار الأنوار: ج 73 ص 87 ح 51 ب 122 و ج 87 ص 137 ح 4 ب 6، و في ج 38 ص 99 ح 18 ب 61، (إن اللّه جل جلاله أوحى إلى الدنيا أن أتعبي من خدمك و اخدمي من رفضك).

(2) سورة الروم: الآية 41.

(3) سورة الروم: الآية 41.

الفقه، البيئة، ص: 153

التلوث بالأدوية

مسألة: من المشاكل التي يواجهها الإنسان في هذا العصر، مشكلة التلوث بالأدوية الكيماوية و ما أشبه ذلك، فهذه الأدوية لها مضاعفات و آثار جانبية خطيرة.

و من هذه الأدوية الملوّثة المهدّئات المنتشرة اليوم في أرجاء العالم و التي يزداد تعلق الإنسان بها عند تفاقم المشاكل الاقتصادية و السياسية و الطبيعية كالفقر و الزلازل و الفيضانات و الحروب و ما شابه ذلك.

و قد ذكر العلماء إضرارا كبيرة ل «الفاليوم»، حيث يستعمل منها الناس مليارات الأقراص سنويا، فلهذا الدواء المهدئ آثار و خيمة و مدمرة، فهو يبعث على الكآبة الشديدة، و يبعث على الانطواء و الرغبة الشديدة للانتحار، و ربما أوجد العنة و البله و ما شابه ذلك.

و قد أجرى فريق من الأطباء عدة تجارب على فئران المعامل، و تبيّن لهم أن الفئران التي تعرضت لعقار «الفاليوم» قد ظهرت فيها أورام سرطانية.

و في دراسة أخرى للأطباء عن سرطان الثدي عند النساء، تبيّن أن غالبية النساء اللاتي أصبن بهذا المرض كنّ يتعاطين «الفاليوم» و غيره من المهدئات، و عند فحص حالتهن ظهر أن الإصابة بالسرطان كانت متقدمة، و أرجعت الدراسات ذلك إلى القلق الشديد الذي يعتري المرضى و الحوامل و الذي يدفعهنّ إلى مضاعفة استعمال العقار عند اكتشافهن الإصابة

الفقه، البيئة، ص: 154

بالسرطان «1».

و في تقرير عن الولايات

المتحدة الأمريكية اتضح أن «الفاليوم» يؤدي إلى الإدمان في تعاطي المخدرات، و الذين و صلوا إلى مرحلة الإدمان على «الفاليوم» يتحايلون للحصول عليه، و يقومون باللجوء إلى الأطبّاء للحصول على نسخ طبيّة تجيز لهم صرف العقار من الصيدليات، و إذا ما فشلوا في ذلك، فإنهم يستعينون بأرحامهم و أصدقائهم الذين يعملون بالعيادات و المستشفيات للحصول على هذه المادة الضارة.

و يؤدي استعمال «الفاليوم» بصورة دائمة إلى الشعور بحالات الاكتئاب و الرغبة في اعتزال الناس. و قد يصاب المدمن بحالات من القلق الشديد و يتصبّب العرق من جسمه كما يصاب بحالات من التشنّج.

و يذهب فريق من الأطباء إلى رأي مفاده أن المصابين بإدمان العقاقير المهدئة تكون حالاتهم أصعب في علاجها من مدمني المخدرات. و مع ذلك فإن هذه المادة الضارة تصنع في الشركات العالمية و تكدّس في الصيدليات،

______________________________

(1) هناك أكثر من مائتين نوع للسرطان كسرطان الدماغ و الجهاز العصبي المركزي و سرطان الصدر و سرطان الكلية و سرطان الورم اللمفاوي و سرطان المعدة و سرطان المبيض و البروستات و ما أشبه.

و إنّ الخبراء لا يعرفون أسباب السرطان بقدر ما يعرفون العوامل التي تتظافر لإحداث النسب السرطانية، و قد شخّص الخبراء أنّ 70- 90 من السرطانات ناشئة من أصول بيئيّة، و إنّ الوكالة الدولية للبحوث السرطانية CRAI قد جدولت مجموع 39 مادّة كيمياوية و عمليّة كيمياوية كمسرطنات للجنس البشري. و من الموادّ الكيماوية الزرنيخ و البنزيدين التي تستعمل لصناعة الأصباغ و الأفلاتوكسين و أمينوباي فنيل و الإسبست و الدي إي أس و النافثيلامين و ما أشبه. و هذه المواد توجب انهيار نظام المراقبة الذي تستعمله الأنسجة لتحديد نمو الخلايا التي قد تعرّضت لتحوّلات ورميّة، و في أمريكا أربعمائة

ألف حالة وفاة سنويا ناشئة من السرطان و حوالي مليون حالة جديدة تشخّص كلّ عام. للمزيد راجع كتاب الأخطار المحسوبة للمؤلّف جوزيف ف رودريكس.

الفقه، البيئة، ص: 155

و لم يصدر حتى الآن منع عالمي يوقف تناولها، حالها حال السجائر التي هي أيضا تصنع بالمليارات و تكدّس في المحلّات العامة و يشتريها الناس بكثرة «1».

و منتهى الأمر أن المجلّات و الجرائد بضغط من بعض الحكومات تكتب تحت إعلانها: «تحذير حكومي أنصحك بالامتناع عن التدخين» و ما شابه ذلك من العبارات.

و من الملوثات الدوائية «الأسبرين» «2» فهو سلاح ذو حدّين له فوائد في علاج الصداع و آلام المفاصل و روماتيزم العضلات و ألم الأسنان و ما أشبه ذلك، بالإضافة إلى دوره في خفض الحرارة و تقليل الألم و لكن من جانب آخر فلهذا الدواء مضارّ قد تنال من جسم فتصيبه بأمراض مزمنة، فالأسبرين هو العقار الشائع استعماله بين الغالبية العظمى من البشر في شرق الأرض و غربها و هو يسبب آلاما معويّة يصحبها عسر هضمي. و قد يؤدي تعاطيه إلى حدوث طفح جلدي و تورّم في الوجه و العينين و نزف من الأنف و الفم و رغبة شديدة في حكّ الجلد.

و إصابة الأطفال بمرض خاص تتجلى إعراضه في حدوث تضخم في الكبد و اصفرار في لون المريض مع انتشار تجاويف مملوءة بالشحم في نسيجه، و كذلك حدوث نخر في أطرافه.

______________________________

(1) إنّ العالم يتعاطى يوميا خمسة مليارات سيجارة، و ذكرت بعض الإحصاءات أنّ في أمريكا خمسين مليون إنسان يتعاطى السجائر. و إنّ مدمني التدخين الذين بدءوا في سن الخامسة عشر في أمريكا معرّضون لخطر الوفيات بسبب سرطان الرئة بواقع واحد من خمسين، و في غير أمريكا بواقع واحد

من ثمانمائة. و إنّ الشخص الذي يدخّن علبتين من السجائر في اليوم ينتقص خمس سنوات على الأقلّ من عمره المتوقّع. هذا و قد ذكرت المصادر العالميّة أنّه في حالة عدم التدخين يمكن تجنّب 85% من سرطانات الرئة.

(2) يحتوي القرص الواحد من الأسبرين على 325 مليغرام من الدواء.

الفقه، البيئة، ص: 156

أما الإصابات خارج الكبد فتتّصف بحدوث تغيّرات شحميّة داخل الأنابيب الكليوية و استحالات في الخلايا الدموية، و ارتفاع حادّ في كثافة الدم، و كذلك حدوث تغيّرات في بعض خلايا الدماغ و العضلات. و لذا أخذ الأطباء يظهرون الاحتجاج على استعمال «الأسبرين» للرضّع و الأطفال حتى عمر 15 سنة في حالة إصابتهم بأيّ مرض فيروسي كالأنفلونزا. فالأم الحامل إذا تناولت أقراصا من «الأسبرين» قد يؤدي ذلك إلى خلل في جنينها عقليا أو نفسيا أو جسميا.

و هكذا حال المركبات «السلفات» و هو دواء شائع في شتى دول العالم، و على الرغم من فعاليتها في علاج الكثير من الأمراض إلّا أنها أحيانا تحدث بعض المضاعفات لمن يتناولها، كالحساسية التي تظهر في شكل طفح جلدي، و كحدوث نقص في عدد كريات الدم البيضاء، و توقف إفراز البول.

و الأطباء و إن نصحوا بكثرة استعمال السوائل عند تناول مركبات «السلفات» و ضرورة مراقبة كمية البول إلّا أن ذلك لا يجدي في عدم إضراره.

و من الأدوية التي أفرط الإنسان في استخدامها وصفا و أخذا للعلاج المنبهات. و المنبّهات غالبا توجب فقدان الشهية و تضعف النشاط و الوعي و تنبّه الجهاز العصبي المركزي، و قد استعمل في الحرب العالمية الثانية من قبل الطيارين لكي يساعدهم على زيادة عدد الطلعات الجوية في الحرب، كما يستعمله سائقوا السيارات و خصوصا سيارات الشحن الذين يقومون برحلات

طويلة، و الطلّاب الذين يستعدّون لأداء الامتحانات، و الرياضيين الذين يسعون إلى تحطيم الأرقام القياسية السابقة. و هو يحدث نوعا من التسمّم في الجسم.

و الأطباء يرون في الحال الحاضر أنه يلزم على الطبيب أن لا يصف هذا الدواء

الفقه، البيئة، ص: 157

إلّا في حالات نادرة جدا.

و من أشدّ الأدوية أثرا على صحّة الإنسان المواد التي تستخدم للتجميل مثل مجمّلات الشعر أو نحو ذلك. هذا بالإضافة إلى إنّ من طبيعة الدواء الإضرار، حيث قال الإمام على عليه السلام: (ليس من دواء إلّا و هو يهيّج داء) «1»، و ذلك واضح حيث أن الدواء يأخذه الإنسان لإصلاح جزء معطوب من الجسم فيضرّ بالجزء غير المعطوب،- مثلا- إذا ابتلت ساق الإنسان بازدياد نسبة الدهون فيها، فإن الدواء سيزيل الدهون في الساق و غيره مما يسبب زوال دهونة الجسم، فيصيب أجزاء أقوى من البدن بالمرض.

لذا كان القدماء ينصحون بعدم استعمال الدواء إلّا وقت الضرورة، و قد قال الإمام علي عليه السلام في صدر الحديث المتقدّم: (امش بدائك ما مشى بك) «2».

و من الأدوية التي تسبب الإدمان عقار «الكودئين» الذي يستخدم في الكثير من أدوية السعال. و قد تبيّن أن «40%» من هذا العقار يتحول إلى «مورفين» المخدّر الشهير حين تدخل جسم الإنسان.

كما إنّ من العقاقير الموجبة للضرر و الإدمان، المنوّمات، فهي تستعمل للتخلص من الأرق أو من الأفكار السوداوية، و قد ذكر الأطباء إن الإدمان على المنوّمات يؤدي إلى نوع من التسمّم المزمن الذي يصبح من أهم إعراضه التبلّد الذهني و الخمول الجسمي حيث يستيقظ الشخص من نومه خاملا كسولا لا يقبل على عمل اليوم بنشاطه المعهود على الرغم أنه قد نام مل ء عينيه ساعات طويلة. و هذا

ما يؤدي بدوره إلى خمول في الذهن و تشتّت

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 62 ص 68 ح 18 ب 50، ج 81 ص 204 ح 7 ب 2.

(2) بحار الأنوار: ج 62 ص 68 ح 19 ب 50.

الفقه، البيئة، ص: 158

الفكر و ميل إلى الاستراحة.

و الغالب إن المضادات الحيوية تؤدي إلى إثارة الجهاز الدفاعي في الجسم، و في أغلب الأحيان يسبب تأثير هذه الأدوية بعض الحساسيات نتيجة تناول بعض الأطعمة و الأدوية كالسمك مثلا.

و من أبرز مظاهر ذلك حدوث طفح أو بقع حمراء متورّمة في أجزاء من الجسم، و حدوث صوت صفير في التنفس و دم في العينين و انسداد في الأنف و غثيان و إسهال، و يصاب أحيانا المرء المستعمل لهذه الأدوية بالإعياء، أي الانهيار التام مما يوجب العلاج السريع، كما في حالات كثيرة يسبب الحساسية المتعارفة في هذا الزمان، فالحساسية و إن كانت موجودة سابقا إلّا أنها كانت نادرة جدا. أما الحساسية في زماننا هذا فإنها ازدادت في النصف الثاني من هذا القرن.

و هناك أدوية تؤثر في الأعصاب للحدّ من الحامض المعدي و لإزالة آلام القرحة لكنها في الوقت ذاته تؤثر على أعصاب أخرى مشابهة لها في أماكن أخرى من بدن الإنسان، و تسبب له تعشية في البصر و جفاف في الفم و سرعة في النبض و صعوبة في التبوّل «1».

و غالبا يكون لهذه الأدوية تأثير أيضا على الحيوانات- التي تجري عليها التجارب- قبل عرضها في الأسواق، لكن من الواضح أن الحيوانات ليست كالإنسان في الخصوصيات فلكل منها خصوصية ينفرد بها عن الآخر

______________________________

(1) هذا و نتيجة للأثر السلبي للموادّ الكيماوية، فقد استحدث علم يسمّى بعلم السمّيات، و كتب العلماء العديد من

الكتب حول أسباب التسمّم و أوعزوه إلى الجهل الحكومي و الشعبي و الإهمال و الفساد، و تحدّثوا عن آثار الموادّ الكيماوية حتّى أنّ كثيرا من الكتب بدأت تبيّن آثار هذه المواد على العمليّة التناسليّة و على الجنين في رحم أمّه و ما أشبه ذلك.

الفقه، البيئة، ص: 159

و إن كان بعض الحيوانات كالفئران و القردة تقترب إلى الإنسان في بعض الخصوصيات الأخرى. و لذا قد يكون دواء مفيدا للإنسان لا للحيوان، و قد يكون العكس.

فعلى سبيل المثال عند تجربة عقار «ديجوكسين» الخاص بعلاج مرضى النوبات القلبية على حيوانات التجارب أو المختبرات ثبت أن له آثارا جانبية خطرة على الكلاب، و لكن بعد تجربته على بعض المتطوعين من المرضى ثبت نجاحه إلى حدّ كبير. أما عقار «براكتولول» الذي يستخدم أيضا لعلاج أمراض القلب، فقد نجحت التجارب التي أجريت على الحيوانات لشهور طويلة بالنسبة له، و لكن تمّ سحبه من الأسواق بعد أن اتضحت آثاره الجانبية على البصر حيث يؤدي إلى ضعفه أو فقدانه.

و من الواضح إن الناس يختلف بعضهم عن البعض الآخر في زمان دون زمان، و في عمر دون عمر، و في أرض دون أرض،- مثلا- في السبعينيات عند ما تمّ طرح دواء لعلاج الأمراض المعوية في الأسواق، تبين بعد ذلك إن هذا العقار يؤدي إلى اضطرابات عصبية حادّة، فقد لوحظ وجود هذه الآثار الجانبية في اليابان بينما لم يجدوا هذه الأعراض في الأماكن الأخرى.

هذا بالإضافة إلى أن تجربة الأدوية على الحيوانات لا دلالة شاملة لها في الصحّة و الصلاحية على الإنسان، فمن الواضح إن الحيوان لا يستطيع أن يصرّح بما يحس به من أعراض كالغثيان و الدوار و الصداع و الاكتئاب و الحكّة الداخلية

و حرقة التبوّل و ما أشبه ذلك لأنه لا يقدر على النطق.

و للحيوان قدرة تختلف عن قدرة الإنسان في مقاومة التلوث، فالطعام الفاسد قد لا يؤثر على القطة و الكلب و الفأر، بينما هذا الطعام يؤثر في الإنسان أي تأثير.

الفقه، البيئة، ص: 160

كما و إن الناس مختلفون في درجة تحسّسهم و درجة مقاومتهم للأمراض و للتلوث «1».

على أي حال: فالمضادات الحيوية لها آثار وخيمة بالنسبة إلى الإنسان، فبعضها يؤدي إلى حدوث تقرّحات و تقيّحات في الجسم، و إسهال في بعض الحالات، و ضعف ماسكة البول إلى غير ذلك.

______________________________

(1) هذا و هناك نقطتين لا بدّ من الإشارة إليهما، الأولى: إنّ بعض أسس تقييم الأخطار التي يعتمد عليها في الوقت الحاضر يمكن ظهور سقمها في المستقبل كما ظهر سقم و بطلان بعض الأسس التي اعتمد عليها سابقا من حيث نقصانها و عدم معالجتها لجميع الأبعاد، و إنّ الجهة المسؤولة عن تقيم الأخطار تخضع لضغوط سياسيّة و اقتصاديّة أو لتبريرات واهية. ثانيا: إنّ لتقييم الأخطار علينا أن نعرف ثلاثة أمور، 1- تقييم الخطر- نوع إخطار الموادّ الكيماوية و التهابها و إشعاعها و سمّيتها.

________________________________________

شيرازى، سيد محمد حسينى، الفقه، البيئة، در يك جلد، مؤسسة الوعي الإسلامي، بيروت - لبنان، اول، 1420 ه ق

الفقه، البيئة؛ ص: 160

2- تقييم الجرعة و الاستجابة- أي بحث العلاقة الكميّة ما بين المادّة الكيماوية التي تدخل الجسم و بين الجرعة اللازمة للوصول إلى الموقع النهائي للهدف. 3- تقييم التعرّض البشري- أي تحديد مقدار الجرعة التي يتناولها و فترتها الزمنية.

و هذه الأمور في بعض البلدان لا تأخذ منحاها الصحيح و ذلك لعدم صلاحية الأساليب الشائعة لقياس الأخطار أو لأنّ العلاج لا يقع على جميع مصادر

الأخطار و بنفس الطريقة أو لاختلاف مبدأ التحليل. هل للحالات المشكوكة أم لمطلق الحالات أو لوجود قانون توازن الخطر و الفائدة و الذي هو عبارة عن آليات متطوّرة تسمح لملوّثي الطعام بتعريض الناس للخطر أو لأنّ القرارات التي توضع للحماية تنص إلى واحد في كلّ عشرة آلاف مستوى الخطورة بدل وضعها واحد بالمليون أو لأنّ عمليّة تقييم الأخطار تحتوي على مواطن للشكوك و لا يمكن معرفة كمّيتها بشكل مضبوط. يقول: جوزيف ف رودريكس في كتابه الأخطار المحسوبة: ص 304: ينبغي أن يكون واضحا الآن أنّ مقيّمي الأخطار لا يعلمون كيف يرسمون خطّا فاصلا ما بين التعرّضات المأمونة العاقبة و غير المأمونة بالنسبة لأيّة مادّة كيمياوية. و إنّ فكره إطلاق اسم السلامة- السلامة من استعمال المواد الكيماوية- هي فكره عنيدة علميا إذا كانت تعني غياب الخطر بشكل مطلق. فإذا عرّفنا السلامة بهذه الطريقة يصبح من المستحيل أن نعرف متى حصلت هذه السلامة، نظرا لأنّنا و الحالة هذه بحاجة إلى البرهنة أنّ شيئا ما و في هذه الحالة الخطرة غير موجود، إنّ البرهان على عدم وجود خطر ممكن من ظرف واحد من مجموعة ظروف.

الفقه، البيئة، ص: 161

و على هذا، فاللازم على الحكومات أن تمنع الصيدليات عن منح هذه الأدوية لمن هبّ و دبّ إلّا بوصفة طبيّة مؤيدة من طبيب أخصّائي، و قد وجد أيضا إن ل «البنسلين» آثارا سلبية، فهو يؤدي إلى سوء الامتصاص و الغثيان و الإسهال، فضلا أن البعض من الناس يعاني من حساسية شديدة ضد «البنسلين» و قد تؤدي هذه الحساسية إلى ردود فعل خطرة ناجمة عن مقاومة الأجهزة الدفاعية لجسم الإنسان لهذا الدواء.

و الحاصل إن الجهل و الاستعمار و الاقتصاد المبني على

المادة هذا الثالوث دخل دنيا الطبّ فسبّب الكارثة لهذا للإنسان.

كما إن اللازم الاهتمام بالوقاية، ففي المثل: «قيراط من الوقاية خير من قنطار من العلاج» كما سبق و معظم الأمراض هي قابلة للتوقي منها لو عرف كل شخص منّا التزاماته الصحيحة و ما يجب عليه اتجاه أسرته و اتجاه جسده، بل و في أوائل المرض يجب التوقي حتى لا يتسع الخرق فمن الخطأ الكبير الإسراع إلى الدواء مع أول حكّة أو سعال، خصوصا عند ما يتم أخذ الدواء دون استشارة الطبيب، ففي الحديث: (إن لجسدك عليك حقا) «1»، و لا يحق للإنسان أن يضرّ نفسه ضررا بالغا، فإن البدن مودوع بيد الإنسان كسائر ودائع اللّه سبحانه تعالى، فاللازم أن يراعي الإنسان جسده حتى الموت لأنه سيسأل عنه.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 70 ص 128 ح 14 ب 51.

الفقه، البيئة، ص: 162

مبيدات الحشرات

اشارة

مسألة: مبيدات الحشرات «1» أيضا من الملوثات، و تعدّ بعض الحشرات من القديم من أنواع الآفات. و قد سجّل منها حتى الآن «10 آلاف» نوع كآفات ضارة بالمحاصيل و الحيوانات النافعة و الإنسان و المنتجات المخزونة.

و قد ذكرت بعض التقارير أنه يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها نحو «200» نوع من الآفات الحشريّة الخطيرة، و نحو «500» نوع آخر قد تحدث إضرارا اقتصادية كبيرة، كما و يوجد بها نحو «300» نوع من النباتات تندرج تحت الحشائش، و قرابة «1800» نوع من النباتات تسبب إضرارا اقتصادية نتيجة لتأثيراتها على المحاصيل الزراعية و يوجد عدد كبير من النباتات المضرة، و هي تعدّ بالآلاف مثل الطحالب و النباتات الطفيلية و النباتات المفرزة للسموم.

و قد بلغ عدد الأمراض النباتية التي تسببها الفطريات و المسجلة في أمريكا زهاء «100 ألف»

مرض معدي.

و كما خلق اللّه سبحانه و تعالى النباتات و الحشرات الضارة لمصلحة أهم، كذلك خلق أنواعا كثيرة من النباتات و الحشرات النافعة. و قد عدّ في إيران وحدها «100 ألف» نوع من النباتات و الأعشاب النافعة لمختلف الأمراض. و لا عجب في ذلك فقد أحصى الأطباء القدامى الأمراض التي تصيب الإنسان

______________________________

(1) و هي على أنواع: مبيدات الفطور و مبيدات القوارض و الحشرات و ما أشبه.

الفقه، البيئة، ص: 163

ب «24 ألف» نوع من المرض لكل واحد من السوداء و الصفراء و البلغم و الدم ستة آلاف مرض حسب إحصائهم.

و في التأريخ المدوّن «1» أن الإنسان كان منذ القدم و هو يعالج الآفات بالنباتات، و قد استخدم علماء الإسلام البصل العنصل لمكافحة الفئران، كما استعمل السومريّون سنة 2500 قبل الميلاد مركبات الكبريت الطبيعية لمكافحة الحشرات، و في عام 1500 قبل الميلاد استخرج الصينيّون المبيدات الحشرية من مصادر نباتية، و قد استخدموها لحماية بذور النباتات من الإصابات الحشرية، و كذلك لتدخيل بعض النباتات المصابة ببعض الآفات الحشرية «2».

و في سنة 300 بعد الميلاد أدخلت طرق مكافحة الحشرات من خلال مزارع المفترسات، حيث أطلق نوع النمل المفترس على الخنافس الثاقبة لأشجار الفاكهة.

و قد أوصى جماعة من العلماء بعدم استخدام مبيدات الحشرات إلّا عند الضرورة القصوى، و ذلك في حالة فشل الطرق غير الكيماوية في منع بعض الآفات من إحداث إضرار اقتصادية، لكن نظم المكافحة في الوقت الحاضر اتجهت إلى استخدام المبيدات الكيماوية التي تميّزت بفاعليتها و بساطتها و رخص ثمنها و توفّرها في الأسواق. و كان أول المركبات العضوية التي استخدمت لمكافحة الآفات مركب «دي دي تي» «3».

______________________________

(1) و هو قرابة خمسة آلاف سنة.

(2) و قد

ثبت علميا إنّ النباتات التي تستعمل كغذاء للإنسان جعل اللّه فيها آليات كيمياويّة حيويّة تسمح لها بإنتاج نوع من مبيدات الحشرات من نفسها لمواجهة هجمات الحشرات و الفطور.

(3) اكتشف مركب «دي دي تي» في بعض البلاد الغربية، و استعمل إبان الحرب العالمية الثانية في الأغراض الطبية ثم استخدم كمبيد للحشرات.

الفقه، البيئة، ص: 164

و قد أدى التطوّر السريع الذي حدث في الصناعات البتروكيماويات إلى إنتاج عدد هائل من المبيدات الكيماوية.

و قد ساعد نجاح أسلوب رشّ المبيدات بواسطة الطائرات على التوسع الهائل في استخدام المبيدات الكيماوية في المساحات الشاسعة من العالم التي تم زراعتها.

و بذلك كثر المحصول إذ كانت الحشرات و الجراثيم قد سببت خسائر فادحة في المحاصيل الزراعية التي يعتبر البشر بأمسّ الحاجة إليها. و قد تبيّن أن الحشرات و غيرها من الآفات الزراعية تتلف خمس المحاصيل الزراعية في بعض البلدان، ففي الهند- مثلا- تستهلك الحشرات سنويا كميّات من المحاصيل تكفي لتغذية تسعة ملايين إنسان. و في أمريكا تبيد الفطريات و الحشرات و الجراثيم ما قيمته خمس مليارات من الدولارات سنويا، فضلا عن الجهود الضخمة لمكافحة الآفات الزراعية.

و تستعمل المبيدات في الحال الحاضر في كافة أرجاء الكرة الأرضية، و قد بدت المكافحة الكيماوية في البداية فعّالة لدرجة أثار الاعتقاد بمقدرتها على التغلّب على مشكلات الآفات الزراعية بشكل نهائي، و لكن هذا العمل لم يدم طويلا إذ سرعان ما تبيّن أن المبيدات تنقذ المحاصيل و الغابات و المروج من إخطار الأمراض، و لكنها من ناحية ثانية تؤدي إلى تخلخل النظام البيئي و تلوث الوسط البيئي و تؤثر بأشكال سلبية عديدة على حياة الإنسان و حياة الحيوانات و النباتات.

الفقه، البيئة، ص: 165

إضرار المبيدات الكيماوية

و قد ازداد و

بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية استعمال المبيدات الكيماوية، و قد أخذت المجلات العلمية تنصح باستعمال مركبات مختلفة مثل «دي دي تي» و غيره، و التي استعملت لأكثر أمراض النباتات و ضدّ الحشرات الضارة المختلفة، و أثمرت بنتائج كبيرة و أنقذت العديد من المحاصيل، و ازداد إنتاج العالم من المبيدات بشكل كبير إذ وصل في سنوات 1370- 1371 ه «1951- 1952 م» إلى أكثر من مائة ألف طن.

و مما لا شكّ فيه فإن المبيدات الكيماوية ساهمت و إلى حدّ بالغ الأهمية في القضاء على عدد كبير من أمراض النباتات و قضت على الحشرات الناقلة للأمراض، كما و ساهمت المبيدات الكيماوية و خاصة بعد الحرب العالمية الثانية في القضاء على وباء التيفوئيد و على مرض الملاريا، و ذلك عن طريق القضاء على البعوض الناقل للأمراض، و يقدّر عدد الذين نجوا بفضلها «5 ملايين» إنسان كما حالت دون حدوث «100 مليون» إصابة، و لذا فقد أقبل المزارعون و مربّوا الماشية على استعمال المبيدات الكيماوية خاصة و إن جهودهم لمقاومة الحشرات كثيرا ما باءت بالفشل.

و لكن استعمال المبيدات له إضرار كبيرة حتى قال بعضهم: إن أمثال هذه المبيدات سوف تسمّم كل العالم و تصل إلى الإنسان و الحيوان و غير ذلك مما يسبب مختلف الأمراض و الأعراض.

و ينجم خطر المبيدات من تركيبها الكيماوي، و هي تبقى فترة طويلة

الفقه، البيئة، ص: 166

ربما «10 سنوات» أو أكثر دون أن تتغيّر خواصّها الكيماوية، كما و إن تركيزها يزداد عبر انتقالها إلى السلسلة الغذائية و يتركّز في دهون الحيوانات.

و يؤدي استعمال المبيدات بدون رقابة علمية شديدة إلى إضرار بالغة على النباتات، حيث يلاحظ في البداية تغيّر في لون الأوراق التي

تغدو سمراء داكنة و من ثمّ صفراء فاقعة كما و تتغيّر شدة التعرّق و التركيب الضوئي.

فتفاعل الهرمونات و من ثم موت النباتات. و لهذا لا بدّ من معرفة تأثير المبيدات على النباتات و بشكل دقيق قبل استعمالها، أما تأثيرها على الإنسان فيتوقف على طبيعتها الكيماوية و على طريقة وصولها إلى الإنسان على شكل أبخرة أو ذرّات دقيقة عن طريق التنفّس أو مع المياه أو الأطعمة أو ما أشبه ذلك.

و هناك أنواع شتى من المبيدات الحشرية تختلف في تركيبها الكيماوي و في آثارها السامّة، كما تختلف في شدّة تلويثها للبيئة، بالإضافة إلى تباينها في الخصائص المميزة لها مثل ميلها للذوبان في الماء أو قابليتها للتبخر أو التطاير أو مقاومتها لعمليات التحلل الكيماوي المختلفة أو الصورة العامة التي تكون عليها. إذ يمكن أن يكون بصورة مسحوق أو بصورة حبيبات أو بصورة محلول أو بصورة أبخرة أو بسائر الصور الأخرى.

و يستهلك العالم حاليا أكثر من «4 ملايين» طن من المبيدات الحشرية في كل سنة، و يزداد هذا القدر زيادة مطّردة عاما بعد عام، و رغم ذلك فإن الحشرات ما زالت تقضي فعليا على ما ربما يصل إلى نصف كمية المحاصيل الزراعية قبل نضجها و حصادها.

و في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها قدّر أن ما قيمته «500 ألف» طن من المبيدات الحشرية يتم استعمالها سنويا لإبادة الحشرات و القوارض و الأحياء المجهرية التي تهاجم المحاصيل، و تكلّف هذه الكمية نحو مليونين

الفقه، البيئة، ص: 167

و نصف المليون من الدولارات.

و في الحرب العالمية الثانية كانت هذه المواد حكرا على الحلفاء، حيث استعمل على نطاق واسع في الاستخدامات المدنية مثل مكافحة الآفات التي لا علاقة لها بالصحة العامة كالذباب و البعوض

و القمّل و القراد و ما أشبه ذلك.

كما استعمل للحدّ من وباء التيفوئيد في إيطاليا، و استعمل في حماية الجيوش في المحيط الهادي من بعوض الملاريا، و في سنة 1370 ه «1950 م» أدى استخدام هذا المبيد في جزيرة سيلان «سريلانكا» إلى خفض خطر مرض الملاريا من قرابة «3 ملايين» حالة إلى ما يقارب «7 آلاف» حالة. فقد استخدام ال «دي دي تي» بشكل محاليل و مساحيق و دهونات، و هو يؤثر في الحشرات أثناء الملامسة، و هو يعدّ أساسا من السموم العصبية و تتأثر أجزاء الجهاز العصبي المركزي بهذا المركب.

و قد أدى الإفراط في استخدام ال «دي دي تي» إلى أن أصبح هناك العديد من سلالات الحشرات المقاومة لتأثير المركب «1»، و لقد حدثت زيادة و بائية في الآفات غير الاقتصادية بعد استخدام «دي دي تي» في مصر مثل العنكبوت الأحمر و المنّ.

و هناك عدة مشتقات لل «دي دي تي» تؤدي نفس المفعول و هي تتّصف بثباتها الشديد و بطأ تحلّلها في التربة، إلى غير ذلك من المبيدات

______________________________

(1) فهناك 250 نوع من الحشرات أصبحت في عداد المقاومات، و أصبح أصناف من الحشرات تحتاج دائما إلى المبيدات، فمثلا في عام 1941 م ظهر أوّل أنواع القمل المقاوم لمادّة «دي دي تي»، حيث بعد مضي عشرة أعوام في أثناء الحرب الكورية، كانت تلك الأنواع قد تكيّفت له إلى درجة أتاحت عزل نوع منه لم يكن لينمو و يترعرع إلّا إذا أضيف ال «دي دي تي» إلى الوسط الذي يعيش فيه. هذا إضافة إلى بعض السلالات من الحشرات غير المؤذية و التي أصبحت في عداد المؤذيات بعد أن لم تجد ما تعيش عليه.

الفقه، البيئة، ص: 168

المختلفة، و التي لها آثار جانبية بالنسبة إلى الإنسان و الحيوان و النبات بل و التربة أيضا «1».

أقسام المبيدات

ثمّ إن المبيدات على أقسام:

المبيدات العشبية و المبيدات الحشرية و المبيدات الكيماوية، فالمبيدات العشبية أوّل ما استعملت كانت لإزالة الأعشاب الضارة من جوانب الخطوط الحديدية و الخطوط العامة و أطراف الفنادق المبينة في الساحات و القضاء على الأعشاب الضارة التي تنمو في المزروعات المختلفة، كما و قد استعملت لإبادة المزروعات و لإسقاط أوراق الأشجار أثناء الحرب الفيتنامية، فإن للمبيدات العشبية تأثيرات كبيرة و خاصة في حال استعمالها لمقاومة نوع معين من الأعشاب الضارة، أما في حال استعمالها من الطائرات فإن تأثيرها يكون سلبيّا إلى حد ما.

كما و إن هناك مبيدات تؤدي إلى سوء نمو الثمار و المحاصيل، كما و تسبب إضرارا كبيرة على بشرة العمال الذين يصنعون بعض المواد أو يوزعونها، و لهذا فهي من المواد الخطرة. و قد ازدادت المبيدات الحشرية

______________________________

(1) ففي هولندا مثلا: تسمّم خطاف البرّ من جرّاء آثار مبيد الآفات- ديلدرين. و كذلك انتشر هذا المبيد في مياه بحر الشمال ممّا أدّى إلى تسمّم خطاف البرّ و هبط عدده من أربعين ألفا سنة 1950 م إلى ثلاثمائة سنة 1965 م، حيث تراكم هذا المبيد في كبد هذه الطيور ممّا سبّب موتها.

و من الطرائف أنّ النسيج الدهني للمواطن الأمريكي يحتوي على عشرة أجزاء من المليون من مادّة «دي دي تي» و الإسرائيلي على تسعة عشر جزء من المليون و الهندي على تسعة و عشرين جزءا من المليون.

الفقه، البيئة، ص: 169

بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية.

و تعتبر المبيدات الحشرية المنقذ الفعّال من الآفات الحشرية، و لكن كثيرا ما كانت لها نتائج خطيرة خاصة و

إنّ تحلّلها يتم بشكل بطي ء، و بالتالي يزداد تركيزها من عام لآخر سواء في التربة أو في الماء أو في أجسام الكائنات الحية لدرجة أن الباحثين يعتقدون أن الوسط أصبح ملوثا بهذه المواد الكيماوية، و لكن جملة من المواد تؤثر على صحة الإنسان و الحيوان، فقد تجمعت حاليا الكثير من الحقائق عن تأثير المبيدات و خاصة ال «دي دي تي» و غيرها على الجملة العصبية، و على استقلاب الهرمونات الجنسية للثدييات و التي من ضمنها الإنسان نفسه.

و لذا ذكر جملة من الأطباء ان هذه المواد يجب أنّ لا تستعمل أكثر من مرتين، كما لا بدّ من استبدالها بطرق أخرى غير ملوثة للوسط.

و تؤدي هذه المواد إلى تطور غير طبيعي لكثير من الكائنات الحية ذات الأهمية الاقتصادية، و التي تعيش في الماء، كما و تؤدي إلى تقليل شدة التركيب الضوئي بشكل كبير و إلى نقص كمية الأوكسجين في الماء.

و قد استعمل ال «دي دي تي» في الولايات المتحدة الأمريكية للقضاء على البعوض في مستنقعات خاصة، حيث رشّت هذه المستنقعات عدّة سنوات و. و كان تركيز هذه المادة قليلا بحيث لا يؤثر على الكائنات المائية، و لكن عند استعمال هذه المواد غاب عن أذهان الباحثين أنها صعبة التفكّك، و أنها تبقى فترة زمنية طويلة محتفظة بسميّتها، و قد امتصت هذه المواد من قبل النباتات المائية الموجودة في هذه المستنقعات ثم انتقلت إلى الأسماك التي تعيش على حساب النباتات و بعدها انتقلت إلى نسج الحيوانات المفترسة التي تأتي في قمة السلسلة الغذائية كالطيور آكلة الأسماك، و كان

الفقه، البيئة، ص: 170

تركيز هذه المواد يزداد في أجسام الحيوانات المفترسة. و نجم عن زيادة التركيز ل «دي دي تي»

في أجسام الحيوانات المفترسة إلى موت جماعات منها، كما و تبين أن للطيور حساسية كبيرة لهذه المواد لأنها تعيق تشكّل قشرة البيضة كما و تؤثر بشكل كبير على الغدد الصمّاء.

أما تأثير المبيدات الكيماوية، فقد ظهرت سنة 1380 ه «1961 م» حالات تسمّم بين الثيران في مزرعة البحوث في مصر بعد تغذيها على الحصة التي سبق رشّها منذ ثلاثة أسابيع بمزيج من ال «دي دي تي». و تضمنت الأعراض حركات عصبية و تقلصات عضلية بالرأس امتدت إلى عضلات الكتفين و زيادة حساسية الحيوانات و كثرة اللّعاب، و أصيبت الماشية في سنة 1388 ه «1968 م» نتيجة رشّ حقول القطن بواسطة الطائرات.

و قد قام جماعة من العلماء في شمال «سانفرانسيسكو» بمشاهدة أعشاش الطيور في وقت من السنة الذي تكون فيها هذه الطيور قد اكتست بالرشّ و أخذت تستعد للطيران من أعشاشها.

و قد أثرت هذه المادة على بيوض الطيور حيث جعلتها رقيقة قابلة للكسر بسرعة، منها طيور البجع الذي يسبب فقس البيض بمجرد الرقود عليه.

كما و دلت البحوث على أن تركيزا محدودا من مادة «دي دي تي» يؤدي حتما إلى موت 90% من يرقات و بيض المحار. و قد حدّدت وزارة الصحة في أمريكا مبيدا كلوريّا كمسبب لقتل «10» ملايين سمكة في حوض نهر «المسيسيي» و «خليج المكسيك».

كما و قد توصّل بعض الباحثين إلى أن الزراعة المميتة من ال «دي دي تي»، التي لا تؤدي إلى الموت تسبب خفض نسبة التناسل لمختلف أنواع الحيوانات. و قد اكتشف جماعة من العلماء أن الفئران التي تغذّت بأغذية

الفقه، البيئة، ص: 171

ملوثة ببعض المبيدات أصيبت بالسرطان، و لذلك فقد حرّمت السلطات استخدامه كليّا.

و على أي حال: فبعض المبيدات يجب منع

استعمالها لضررها الفادح، و البعض الآخر يجب التقليل منها إلى أقصى حدّ في إطار باب التزاحم و الأهم و المهم، فإن الإكثار من استخدامها يؤدي إلى تلوث التربة الزراعية، فغالبا ما يتبقى جزء كبير من هذه المبيدات في الأرض الزراعية، و قد تصل نسبته إلى نحو 15% من كمية المبيد المستعمل. و لا يزول أثر مثل هذه المبيدات المتبقية في التربة إلّا بعد انقضاء مدة طويلة قد تصل إلى أكثر من «10» سنوات.

و قد تحمل مياه الأمطار بعض هذه المبيدات من التربة إلى المجاري المائية، و تسبب كثيرا من الإضرار لما بها من كائنات حية ثم تصل هذه المبيدات من الأحياء الموجودة في الماء إلى الطيور و من الطيور إلى الإنسان.

و إذا كانت مبيدات الآفات تؤدي دورا هاما في حياة النباتات و الأشجار، حين تؤدي إلى تقليل مخاطر الآفات الضارة مثل ذباب الفاكهة و دودة القطن، فإن الإفراط في استخدام هذه المبيدات من جانب و عدم ترشيد استعمالها و عدم التوعية بأضرارها من جانب آخر يؤدي حتما إلى ظهور نتائج وخيمة بالغة الخطورة على صحة الإنسان و الحيوان و على التربة الزراعية نفسها بالإضافة إلى تأثيرها بالنباتات. فالنباتات التي تزرع في التربة الملوثة بمبيدات الآفات تمتص جزءا من هذه المبيدات و تختزنها في سوقها و أوراقها و ثمارها، ثم تنتقل هذه المبيدات بعد ذلك إلى الحيوانات التي تتغذى بهذه النباتات و تظهر في ألبانها و لحومها و تسبب كثيرا من الإضرار لمن يتناول لحوم هذه الحيوانات و ألبانها، حتى إن هذه المبيدات تنتقل من ألبانها إلى صغارها، كما و تنتقل إلى الطيور عبر الحيوانات المتفسخة التي تحتوي على كمية من هذه المبيدات.

الفقه، البيئة، ص: 172

و تؤثر هذه المبيدات في الكائنات الدقيقة الموجودة في التربة الزراعية، و ينقسم العاملون في مجال وقاية النباتات إلى فريقين اثنين عند دراسة هذا التأثير، حيث يعتقد فريق منهما أن المبيدات لا تؤثر بدرجة خطرة في هذه المجال، و إنما أضرارها يسيرة، و يمكن تحمّلها و إزالتها بسبب الأدوية، و يرى الفريق الآخر أن وصول هذه المبيدات إلى التربة يؤثر في التوازن الموجود بين مكوّنات التربة الطبيعية و الكيماوية، و هو أمر يؤدي إلى تقليل خصوبة التربة الزراعية و انخفاض إنتاجيّتها.

و قد أحدثت جميع المبيدات التي تمّ اختبارها تأثيرات ضارة في الكثير من الكائنات الدقيقة المفيدة التي تسهم في تكامل عناصر البيئة في التربة الزراعية، و خاصة خلال الأسابيع الأربعة الأولى من رشّ المبيدات.

كما و تبين أن المبيدات الحشرية الكيماوية تتسبّب في قتل الكثير من الأحياء الدقيقة التي تستوطن التربة، و التي تسهم في تحليل المواد العضوية و المخلّفات النباتية التي ينتج عنها العناصر الحية المكونة للتربة الزراعية، فإن الكائنات الحية الدقيقة لها دورها المهم في التوازن الطبيعي للبيئة، فهي تسهم في تنقية الماء في كثير من عوامل التلوث، ذلك لأنها تساعد على الحفاظ على نسبة الأوكسجين الذائب في الماء.

و قد حدث في «نيكاراغوا» أنه وقعت أكثر من «3 آلاف» حالة تسمّم، و ما يربو على «400» حالة وفاة بين العمال الذين يعملون في حقول القطن سنويا على مدى عشر سنوات، كما و حدثت حالات مماثلة في بعض دول أمريكا الوسطى حيث يزرع القطن على نحو تجاري.

و في الهند بلغت حالات التسمّم بالمبيدات نحو «100» حالة سنة 1378 ه «1958 م» و نحو «54» حالة في سنة 1387 ه «1967 م»، و في

الفقه، البيئة،

ص: 173

سوريا بلغت عدد الحالات «1500» حالة في سنة 1380 ه.

و يتأثر الإنسان بهذه المبيدات بطريقة مباشرة إما عن طريق الملامسة أو عن طريق استنشاق أبخرة هذه المبيدات.

و قد يتأثر بها بطريقة غير مباشرة، فهو يتغذى بالحيوانات و النباتات، و يصل إليه مع هذا الغذاء كلما يختزن من المبيدات في أنسجة هذه الحيوانات و النباتات، و كلّما يلوث منتجاتها مثل البيض و اللبن و الزبد و الدهن و الجبن و ما إلى ذلك، كما و تسبب مبيدات الآفات العديد من الأمراض الخطرة مثل السرطان، و قد أوضحت الدراسات المخبرية إن الاستخدام المكثف لهذه المبيدات في حقول القطن في بعض الولايات الغربية أدى إلى حدوث أورام سرطانية في حيوانات التجارب.

و تمثّل مشكلة مخلفات المبيدات في المحاصيل الزراعية تحديا هائلا باستخدام المبيدات الكيماوية، و توجد هذه المخلفات عادة في الغذاء أو في الماء بكميات صغيرة لكنها ضارة على كل حال.

ثم إنه كثير ما تسبب الفطريات الطفيلية خسارة فادحة في المحصول و هذه الأمراض يتم القضاء عليها بعدة مواد كيمياوية مختلفة، فقد استعملت عدة مركبات تحتوي على النحاس بمختلف الآفات الزراعية و العفن التي تسببها الفطريات، و عند استعماله لمدة، تصبح التربة ملوثة بالنحاس و تتأثر تبعا لذلك البيئة الحيوانية فتنقرض الديدان، و لكن لا تأثير له على الأشجار الناضجة إلّا تأثيرا ضعيفا، و لا تتأثر البيئة المحيطة إلّا تأثيرا ضئيلا.

و كثير من المبيدات الفطرية العضوية لها تأثير ملحوظ خاصة في الحدائق و لكن بما أنّ الكمية العامة المستعملة ليست كبيرة إذا ما قورنت ببعض المواد الأخرى- كما و إنها عموما أعلى سعرا- لذلك استعملت بكثير من الحذر

الفقه، البيئة، ص: 174

و لاحتمال حدوث حالات تلوث

خطيرة من جرّاء استعمالها، لكنّه ملوث أيضا و مؤثر على التربة و الزرع و الحيوانات و أخيرا الإنسان.

و قد استعملت عدة مركبات يدخل في صنعها الزئبق كمبيدات فطرية، و استعمل أيضا كمطهّر للإنسان و في الحدائق بكميات كبيرة، و هكذا استعملت مركبات الزئبق العضوية في عملية تبخير الحبوب لدرجة إن حبوب القمح في بريطانيا تبخّر حسب طلب الزبائن، و عملية التبخير في هذه تستعمل لمنع إصابة الحبوب بالفطريات سواء كانت تسبب ضررا أم لا في أي مجال، لكن الزئبق ملوّث عام، فهو يخزن و يتركز بواسطة الأحياء، و قد ينتقل و يتركز في سلسلة الغذاء، و لقد كانت هناك الكثير من الحالات التي قامت بها الأسماك و القواقع بتركيز نسب عالية من الزئبق فحدثت حالات وفاة بالإضافة إلى حالات مرضية كثيرة بالنسبة إلى من أكلوا هذه الأسماك أو القواقع.

و الحالات الخطيرة من التلوث قد حدثت نتيجة الاستعمال الصناعي و نتيجة صناعة الأخشاب أكثر من الكميات الصغيرة المستعملة في الزراعة.

و قد تسمّمت بعض الطيور جرّاء أكل الحبوب المبخرة.

و في بريطانيا يتم التبخير بواسطة مركبات الزئبق خاصة و التي ليست حادة السميّة للفقاريات و إن كانت سميّة أيضا، و تتخثّر خصوصا بعد تركزها في الحيوان.

و تجارب الغذاء على الطيور توضح أنه أخطر من تعاطي جرعات مميتة، بينما استعمل في بعض الدول الأوربية مركب الزئبق على نحو خاص بتوسع و هو سام جدا، و قد قتلت من جرّاء استعماله بعض الطيور بدرجة غير متوقعة.

الفقه، البيئة، ص: 175

و من الواضح إنّ المركبات الزئبقية مختلفة في خطورتها حسب تراكيبها المختلفة، و إحدى هذه المخاطر هو تحللها تغييرها عند وصولها للبيئة بفعل البكتيريا إلى نوع خطير من السموم.

و قد يحدث

هذا في معدة الحيوان المجترّ التي يحدث التمثيل فيها أو في قاع البحيرة أو الطبقة العفنة، و لهذه الأسباب يجب بذل الجهود لتقليل نسبة الزئبق من ناحية، و من ناحية ثانية الاستغناء عنه مهما أمكن، لأن ما أضرّ كثيره أضرّ قليله أيضا لكن بنسبة.

و هذا ينطبق على الصناعة أكثر من الزراعة، كما إن كميات كبيرة من الزئبق الموجود في البرّ أو البحر وجدت في الصخور بفعل الطقس، و قد مثّل أحد العلماء السلسلة الغذائية التي تتأثر بواسطة المبيدات بقوله إن حشرة صغيرة قد تأكل حافة أحد أوراق النبات الملوث بالمبيد الحشري، ثم تأتي حشرة أكبر فتلتهم عددا من هذه الحشرات الصغيرة، و يأتي بعد ذلك عصفور نهم فيأكل أعدادا كبيرة من هذه الحشرات، و أخيرا يأتي صقر مفترس فيلتهم هذا العصفور «1».

______________________________

(1) و هكذا في انتقال المواد الكيماوية حيث ذكر جوزيف ف رودريكس في كتابه الأخطار المحسوبة ص 44 الوسائط الكيماوية فقال: ينطلق معدن الرصاص المضاف إلى البنزين (الوسيط الأوّل) في الهواء (الوسيط الثاني) عند احتراق البنزين- مثلا- و يترسب بعض الرصاص الذي يحمله الهواء في التربة (الوسيط الثالث) التي تستخدم لإنماء الذرة. و يذوب بعض الرصاص الموجود في التربة في الماء (الوسيط الرابع) و يتحرّك خلال جذور الذرة ثمّ يتجمّع في أكواز الذرة (الوسيط الخامس) و بعدها تقدّم الذرة كعلف للماشية الحلوب و يرشّح بعد الرصاص في اللبن (الوسيط السادس) و لهذا يعتبر اللبن الوسيط الذي يسبّب تعرّض الإنسان للرصاص. و هكذا فقد مرّ الرصاص خلال ستّة أوساط حتّى وصل إلى الكائن البشري. و لزيادة الطين بلّة، من الممكن أن يتعرّض الناس للرصاص في عدّة نقاط أخرى على طول العمر، مثلا عند تنفّس الهواء

(الوسيط الثاني) أو عند التلامس مع التربة (الوسيط الثالث).

الفقه، البيئة، ص: 176

و الملاحظ إن كل خطوة من هذه الخطوات تؤدي إلى تركيز المبيد الحشري في جسم الحيوان، و يبلغ هذا التركيز حدّه الأقصى في جسم الحيوان الذي في نهاية السلسلة و يكون مأكولا للإنسان. و يبدو تأثير هذه السلسلة في كثير من الأماكن ففي بحيرة «كلير» بولاية كاليفورنيا يستعمل بنسبة ضئيلة من مبيد الحشرات يماثل ال «دي دي تي» يعرف باسم «دي دي تي» بتركيز لا يزيد عن 14% من المائة جزء في المليون للقضاء على إحدى الكائنات غير المرغوب فيها، و وجودها في مياه هذه البحيرة، و مع مضي الوقت لوحظ موت بعض الأسماك التي تعيش في هذه البحيرة كذلك بعض الطيور و البط البريّ.

و قد تبين في التحليل إن ماء البحيرة يحتوي على 14% من المائة جزء في المليون من هذا الجزء، إلّا أن هذه النسبة ارتفعت إلى «221 جزءا» في المليون في الأسماك الكبيرة، و إلى نحو «2500 جزءا» في المليون في الأنسجة الدهنية للبط البري الذي يعيش فوق سطح هذه البحيرة.

و قد تبين أن مبيد «دي دي تي» يدخل في العمليات الكيماوية المؤدية إلى تكوين عناصر الكالسيوم في أجسام الطيور، و يؤدي ذلك إلى وضع هذه الطيور بيض رقيق القشر لا يتحمل الصدمات، و قد يتهشم هذا البيض تحت ثقل جسم أنثى الطائر عند ما تحتضنه للتدفئة أو عند ما تحرّكه لتجعلها ظهرا لبطن، مما ينتج عنه موت الأجنّة، و تتعرض هذه الطيور لخطر الانقراض.

و من أمثلة الطيور التي أو شك بعضها على الانقراض لهذه الأسباب، النسر الأمريكي و الصقر و طائر البليكان و غيرها.

و قد اكتشف المهتمّون بحماية الحياة

البريّة وجود قسم من المبيدات في بيض النوارس، و هو أمر يسبب في موت أجنّة الطيور داخل البيض، كما

الفقه، البيئة، ص: 177

و إنه تؤثر مبيدات الآفات في النحل و الحشرات الملقّحة الأخرى، مما يؤدي في النهاية إلى انخفاض معدل التلقيح في الأزهار بالإضافة إلى ضعف قوة طوائف النحل نتيجة لموت عدد كبير من الشغالات التي تقوم بجمع الرحيق، و قد ترتب على ذلك انخفاض مهول للعسل بالإضافة إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل الحقلية و البستانية، و كثيرا ما يدخل العسل من هذه المبيدات فإذا أكله الإنسان تسبب له أمراضا.

و قد ظهرت هذه المشكلة بصورة خطرة في مصر بعد تنفيذ نظام الرشّ الجوي للمبيدات بالطائرة و الذي أدى إلى قلّة المحاصيل.

و النتيجة طبعا ازدياد نسبة الفقراء و الجياع و بالتالي سوء التغذية و انتشار الأمراض، كما حدث في مصر و بعض البلدان الأخرى كما أن اختلال حجم السكان في مصر من ناحية الزيادة و من ناحية قلة المساحة المزروعة يعدّ إحدى المعوقات الهامة للإنتاج الزراعي بالإضافة إلى ما ذكرناه.

و في بداية هذا القرن لم يتجاوز عدد السكان في مصر «10 ملايين» نسمة، و في سنة 1356 ه «1937 م» زاد عدد السكان ليصل إلى حوالي «15 مليون» نسمة، ثم أصبح «18 مليون» سنة 1366 ه «1947 م» و «23 مليون» سنة 1379 ه «1960 م» ليصل إلى زهاء «49 مليون» سنة 1404 ه «1984 م» و في مواجهة تلك الزيادة المستمرة لحجم السكان لم تحقق الرقعة الزراعية نموا مماثلا نتيجة ترك العمل بالقوانين الإسلامية و التي منها (الأرض للّه و لمن عمرها) «1» و قاعدة (من سبق) «2» و غير ذلك. فمنذ بداية هذا القرن

حتى سنة 1405 ه «1985 م» و الرقعة الزراعية تتراوح بين «6

______________________________

(1) الكافي (فروع): ج 5 ص 279 ح 2، الاستبصار: ج 3 ص 108 ب 72 ح 3.

(2) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 110 ب 22 ح 11، الكافي (فروع): ج 4 ص 547 ح 33.

الفقه، البيئة، ص: 178

ملايين» فدّان و شي ء، فقد تعرّضت في السنوات الأخيرة لخطر التجريف و الزحف العمراني من البيوت و المنشآت الصناعية و مشروعات الطرق و المرافق.

و بالتالي تم تحويل جزء كبير من الأراضي الزراعية إلى استعمالات غير زراعية، و كان نتيجة ذلك أن انخفض متوسط نصيب الفرد من الرقعة الزراعية انخفاضا شديدا. فقد كان هذا المتوسط في سنة 1379 ه «1960 م» يدور حول 22% من الفدان ثم انخفض ليصل إلى 16% من الفدان سنة 1395 ه «1975 م»، و أخيرا انخفض هذا المتوسط حتى وصل إلى 13% من الفدان طبقا لإحصاءات سنة 1405 ه «1985 م». فإذا انضم هذا إلى ما ذكرناه من التسمّم و التلوث تكون النتيجة الجوع.

هذا بالإضافة إلى إنّ الإصلاح الزراعي الذي نفّذه جمال عبد الناصر خفّض المستوي لأنه بدّل الأيدي المديرة إلى أيدي غير مديرة، كما حدث ذلك في العراق في عهد عبد الكريم قاسم «1» أيضا، فقد كان العراق يصدّر الكثير من المحاصيل حتى الحنطة إلّا أنه بعد الإصلاح الزراعي أخذ يستورد حتى التبن.

و قد كتب الأخ السيد صادق «حفظه اللّه» دراسة حول الإصلاح

______________________________

(1) عبد الكريم قاسم من مواليد حي المهديّة في بغداد عام 1333 ه «1914». عيّن آمر لواء المشاة 19 في عهد فيصل الثاني. قام بانقلاب عسكري صبيحة السابع و العشرين من ذي الحجّة عام 1377 ه

«الرابع عشر من تمّوز عام 1958 م» و أطاح بالحكم الملكي و أعلن الحكم الجمهوري، و شكّل مجلس السيادة لإدارة البلاد و ترأس مجلس الوزراء إضافة إلى وزارة الدفاع. ألغى مظاهر الديمقراطية كالبرلمان و التعدّدية الحزبية و ألغى الحكم المدني. و استمرّ حكمه قرابة أربع سنوات و نصف. تعرّض في صبيحة يوم الجمعة 14 رمضان 1382 ه «8 شباط عام 1963 م» لانقلاب عسكري دبّره عبد السلام عارف مع مجموعة من الضبّاط، و أعدم رميا بالرصاص في ظهيرة التاسع من شبّاط عام 1963 م.

الفقه، البيئة، ص: 179

الزراعي الذي وقع في العراق، و طبعه ثم أمرت الحكومة إحراق الكتاب لأنها لم تجد جوابا لعلامات الاستفهام التي طرحها الكتاب.

و كان من آثار الإصلاح الزراعي نزوح الكثير من الفلاحين إلى المدن، لأن الربح في المدن أكثر من الربح في الزراعة الخاضعة للإصلاح الزراعي «1».

و قد عمل مثل ذلك ملك إيران- محمدرضا- مسببا اكتظاظ المدن بالفلاحين.

و قد نجم عن الزحف الريفي إلى المدن- الناجم عن ذلك المنهج الاقتصادية الخاطئ- رخص الأيدي العاملة حسب قانون العرض و الطلب.

و على أي حال: فمن البديهي إنه كلّما كان تركيز المبيد عاليا كانت الآثار الضارة الناتجة عنه كبيرة، و كذلك كلّما طالت هذه المدة ازداد الأثر السيئ للمبيد، و لا فرق هنا إن كان استعمال المبيد عبر آلات ميكانيكية أم بالرشّ عبر الطائرات أم التعفير باليد.

ثم لا يخفى أن لكل نوع من التربة و نسبة الرطوبة فيها و درجة حرارتها و كونها قريبة من الشمس كخط الاستواء أو بعيدة عنها دور كبير في حفاظ التربة من مبيدات الآفات التي تتساقط فيها أو تتسرّب إليها عند استخدام المبيدات لقتل الآفات الزراعية.

كما أنه تختلف

قدرة النباتات على امتصاص المبيدات الحشرية لاختلاف أنواعها، فمثلا: زراعة أنواع من البطاطس و الفجل و الجزر في تربة زراعية

______________________________

(1) أصدر عبد الكريم قاسم قانون الإصلاح الزراعي في 13 صفر 1378 ه «30/ 8/ 1958 م» على غرار قانون الإصلاح الزراعي المصري و السوري، و كان لتطبيقه ردود فعل في الأوساط السياسيّة و الدينيّة، نتيجة مخالفته للعقل و الشرع و الواقع الاقتصادي، و نتيجة لاهتمامه بالجانب البيروقراطي على حساب الجانب الفنّي و العملي، و نتيجة لتركيزه على الحدّ من نفوذ كبار الملّاكين و شيوخ العشائر أكثر من تركيزه على زيادة الإنتاج.

الفقه، البيئة، ص: 180

عولجت بمبيد «الألدرين» بمعدل رطل في الفدّان، و وجد أن البطاطس لم تحتو على بقايا من هذا المبيد يمكن قياسه، في حين احتوى الفجل على 3% من المائة جزء في المليون من هذا المبيد. و احتوى الجزر على 5%. و بناء على ذلك فإن الجزر من بين جميع المحصولات التي أجريت عليها الدراسات يحتوي على أكثر تركيز من البقايا الكيماوية للمبيد الحشري الموجود في التربة.

و من الواضح أنه يؤدي استعمال بعض المبيدات إلى حدوث إضرار في النباتات الخضراء و بخاصة للمحاصيل الحساسة و الضعيفة النمو. و إذا ما استخدمت المبيدات بتركيز عال من العناصر المشابهة لها أو بتوقيت غير مناسب أدّى ذلك إلى حدوث إضرار كبيرة جدا، و التي منها حروق للأوراق أو حدوث تحوّر في إشكالها مما يؤدي إلى جفافها ثم سقوطها ثم موت النبات في نهاية الأمر.

و قد يحدث الضرر نتيجة لوصول المبيد إلى العصارة النباتية مما سيؤدي إلى حدوث خلل داخلي في النشاط النباتي، ثم توقف عمليات التمثيل الغذائي، و هو أمر يتسبب في موت النبات في

نهاية المطاف.

كما و تسبب بعض المبيدات في إبادة الغابات الخضراء. ففي حرب فيتنام استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية مبيد الحشائش لتعرية غابات الأشجار من أوراقها، و جعل تلك الغابات الكثيفة عبارة عن أعواد من الخشب كئيبة المنظر ليس بها من ورق أخضر، بل استعمل هذا المبيد في تدمير حقول الأرز.

و بناء على ذلك فاللازم إيجاد رقابة عالمية على المبيدات سواء مبيد الحشرات أو غير ذلك بعيدا عن السياسات الاستعمارية و عن الغايات الاقتصادية حتى لا يتضرر الإنسان بالنتيجة بها، أو يكون الضرر أقل من

الفقه، البيئة، ص: 181

القليل، إلّا أن الحضارة الحديثة لا تعير أية أهمية لهذه الأمور، لما ذكرنا سابقا من فقدان الإيمان باللّه سبحانه و تعالى و الخروج عن مظلّة الأنبياء، و الأمران يسببان الانحراف عن الطريق المستقيم «1».

التوازن الطبيعي في البيئة

و تعيش الحشرات مع سائر الحيوانات و النباتات في توازن طبيعي تتحكم فيه و تسيطر عليه عدّة عوامل بيئية، مثل الحرارة و الرطوبة و توفر الغذاء و عوامل حيوية أخرى مثل افتراس بعض الحشرات للبعض الآخر، و تطفّل بعضها على بعض، و لذلك يرى في البيئة الطبيعية أن الحشرات و الحيوانات تعيش في حالة توازن طبيعي يحقق معيشة متوازنة لهما معا، فإذا اختلفت الظروف البيئية لسبب طارئ أو دائم و حلّت في المنطقة حشرات جديدة فإنّ التوازن القائم لا بدّ أن يختل لصالح نوع أو عدة أنواع منها، فتزداد أو تقل الأعداد عن معدّلها الطبيعي، و يكون ذلك في غير صالح الإنسان أو عكس ذلك وفقا لنوع الحشرات المتكاثرة و بسبب الإسراف في استخدام المبيدات الحشرية سواء كان إسرافا في الكمية أو في الكيفية ممّا يؤدي إلى فقدان التوازن الطبيعي القائم بين الآفات و

أعدائها الطبيعيين، و يؤدي ذلك إلى زيادة كبيرة

______________________________

(1) هذا إذا أحسنّا الظنّ بالحضارة الحديثة، فهناك نظريّة تدلّ على أنّ الأمراض و الأوبئة ظاهرة أوجدتها الحضارة، و هناك شواهد كثيرة على ذلك فالطاعون انتشر في أعقاب الحرب الصليبيّة، و التدرّن نشأ في المناجم و المصانع في القرن التاسع عشر نتيجة لغياب الهواء و الضوء عنها و إنّ الإكثار من الأطعمة مع قلّة الحركة و عدم ممارسة الرياضة يؤدي إلى الإصابة بنزيف المخ.

الفقه، البيئة، ص: 182

غير متوقعة في بعض أنواع الآفات.

و من أمثلة ذلك انتشار العنكبوت الأحمر و دودة اللوز في مصر في أعقاب استخدام بعض المبيدات الحشرية بإسراف شديد و بطريقة غير محسوبة.

و لم تكن مثل هذه الآفات مصدر خطر للنباتات فيما مضى، و لكن قتل المبيدات لأعدائها الطبيعيين ترك لها حرية التكاثر. كذلك أدى الإسراف في استخدام المبيدات الحشرية إلى القضاء تقريبا على الحدأة المصرية التي أصبحت نادرة الوجود في الريف المصري، كما أثّر ذلك على وجود الغراب و أبي قردان و الثعلب و النمر و الذئب، و أصبحت هذه الحيوانات مهددة بالانقراض.

كما أدى استعمال مركب «دي دي تي» في مصر إلى ظهور العنكبوت الأحمر بكثرة على الذرة، و منذ بضع سنوات هجم مرض خطير على شجرة الكاكاو في غرب إفريقيا، و اتضح أن هذا المرض يسببه فيروس يحمله النمل، و عند ما استخدمت المبيدات ضد النمل انخفضت الإصابة بالمرض، و لكن اختل التوازن الطبيعي. و بعد فترة تفشت الإصابات بما لا يقل عن أربعة حشرات جديدة.

و على أي حال: فإن قاعدة التوازن تحكم الكون بدقة متناهية مؤكدة على حكمة الخالق المتعالي حتى في كبر الحيوانات و صغرها، فالعصفور لا يصل في حجمه

إلى الحمام، و الحمام لا يصل في حجمه إلى العصفور صغرا.

و في الذكورة و الأنوثة، فلا يخلو جيل من الحيوان عن الذكر أو الأنثى، فلا يزيد الثعلب على الدجاج و لا العكس، و هكذا بالنسبة إلى كل شي ء بالقياس إلى نفسه و خواصّه و مزاياه أو بالقياس إلى أعدائه أو أصدقائه، و بالقياس إلى خصوصيات بيئته إلّا بعارض طبيعي مثل الزلازل أو البراكين أو الفيضانات أو الصواعق أو بعارض أنساني مثل تدخل الإنسان في إزالة الحيوان أو تضعيفه أو

الفقه، البيئة، ص: 183

تقويته بسبب تلويث البيئة أو ما أشبه ذلك.

أمراض الحيوانات و النباتات

و مما يبحث في البيئة إجمالا الأمراض التي تتعرض لها الحيوانات و النباتات معلولة لاختلال البيئة أو مسبّبة لها إذ تتعرض النباتات و الحيوانات إلى الأمراض كالإنسان، فالنخيل مثلا تصاب بأمراض خاصة مثل تبقّع الأوراق و يعرف بالمرض الفحمي الكاذب أيضا و يسببه الفطر الذي يصيب السطح السفلي للورقة و يحدث بها بثرات بارزة لونها أسود داكن، و تتناثر من هذه البثور جراثيم الفطر المذكورة و يلاحظ أن الإصابة تتوجه في أغلب الأوقات إلى المساحة السفلى القديمة مما يسبب اصفراره و جفافه، الأمر الذي يحتم إزالة السعفات المصابة و إحراقها، و يعالج بالرشّ بمحلول خاص على دفعتين الأولى بمجرد ظهور الإصابة مباشرة، و الثانية بعد أربع أسابيع من الرشّ الأول.

و مثل ذلك اللفحة السوداء و أكثر ما يتضح وجوده على السعف الحديث الغضّ، و مظهره تقرّح بني اللون لا يلبث أن يسوّد بتقدم الإصابة، و ينتهي الأمر بجفاف الموضع المصاب و يعالج بتقليم الأجزاء المصابة ثم الرشّ بمحلول خاص، كما يدهّن موضع الإصابة على الأوراق بعجينة خاصة، و قد انتشر هذا المرض من ساحل

البحر المتوسط شمالا حتى أسوان جنوبا و يبدأ باصفرار الرأس فتتناثر جذوع النخل بلا رأس، و هو مرض مدمّر لم يعرف علاجه.

و مثل الحلم الأبوفي و يصيب القلب حيث يجعل الأوراق معوجّة ملتصقة القوس مكتكتة هشّة يسهل كسرها، غير منطلقة النمو، تبدو و كأنها متسببة،

الفقه، البيئة، ص: 184

و يعالج بالرشّ بالكبريت القابل للبلل. و مثل العفن الدبيودي الذي يصيب الأوراق و القمّة النامية، و كذلك المنطقة الجذرية و نتيجة للإصابة به تموت الفسيلة أو النخلة فجأة.

و يرى المختصون بأمراض النباتات إن العلاج لهذا المرض أن تغمر الفسائل قبل الزراعة في مخلوط خاص أو محلول خاص بنسبة خاصة ثم تزرع الفسيلة مباشرة.

و كذلك عفن نورات النخيل، و هذا المرض يصيب الشقائق الزهرية و يعرف بهذا الاسم، و تتميز أعراض الإصابة به بوجود بقع دميّة متقابلة على العراجيل مصحوبة بتعفن الشقائق الزهرية بما تحمله من أزهار حتى تتحول إلى كتلة دميّة مشوّهة مغطاة بالنمو الأبيض بالفطر، و هو يتميز بلونه الأبيض الذي يتحول إلى الأحمر، و علاج هذا المرض بأن يجري تعفير النخيل بمخلوط خاص من النحاس و ما أشبه.

و هذه تعد جزء من الأمراض التي تصيب النخيل، أما الحشرات التي تصيب الشجرة أو الثمرة، فمنها حشرة النخيل القشرية و الحشرة القشرية السوداء، و حشرة النخيل القشرية الرخوة، و هذه الحشرات تصيب السعف الخارجي. و البقّ الدقيقي و ثاقبة النخيل و تحفر الحشرة في هذا المرض الكاملة في الجليد فتنشره الرياح كما تحفر في عراجيل البلح فتجف الثمار و تكثر الإصابة بهذه الحشرة في بعض مناطق مصر. كما سجّلت هذه الحشرة في بعض المناطق الأخرى، و هذه الأمور هي خاصة بالنخيل، و هكذا لكل شجرة أمراضها

و أعراضها الخاصة و علاجها الخاص، و إنما ذكرنا النخيل كمثال حيث يكثر وجودها في العراق.

و لا يخفى أنّ عدد النخيل في العراق قبل التدمير المتعمّد الذي قام به

الفقه، البيئة، ص: 185

صدام كان على حسب بعض الإحصاءات «32 مليون» نخلة، و قد وصل عددها بعد ذلك إلى «3 ملايين»، فقط فأصبح العراق يأتي بالمرتبة السادسة بعد أن كان يحتل المرتبة الأولى «1».

و تجري القاعدة على الحبوب أيضا مثل الحنطة التي تتعرّض إلى مشاكل صحية فتسوسها سواء كانت في سنبلها أو كانت في خوابي خاصة، أما لو روعيت الشرائط فلا تسوس حتى لو مرّ عليها فترة طويلة.

و قد وجد عند الفراعنة في مصر حنطة عمرها «4 آلاف» سنة، و لما زرعوها أخرجت ثمارها و كأنها حنطة هذه السنة.

ثم إنه تتركز المقاومة البيولوجية في الغالب على استعمال الحشرات الملتبسة أو الطفيلية للحدّ من انتشار الأنواع الضارة مثل استعمال حشرة الدعسوقة و كبح انتشار حشرة المنّ و الاستعمال للأحياء الدقيقة في مكافحة الآفات الزراعية بمبدإ المكافحة البيولوجية و الذي كان مصدرا جديدا في مكافحة الآفات، و قد جاء كردّ فعل للعواقب السيئة التي برزت من جرّاء استعمال المبيدات الكيماوية، و قد حققت المكافحة البيولوجية أكثر من حالة نجاح كامل في مختلف أرجاء العالم، و في أمريكا الشمالية عمدت مراكز الأبحاث الزراعية إلى استيراد طفيليات تتغذى على الحشرات الضارة و تبيدها، و بذلك أمكن توفير عشرات الملايين من الأموال التي تنفق على رش المبيدات الكيماوية، فخنافس أوراق نباتات الحروق وسوس أوراق البرسين أمكن التحكّم فيها و الحدّ من أضرارها عن طريق استيراد حشرة طفيلية من إيطاليا و فرنسا و بعض البلدان الأوربية الأخرى تلتهم تلك الحشرات الضارة

و تفنيها،

______________________________

(1) و قد ذكرت مجلّة ألف باء العراقية في عددها المرقم 1364 هذا الإحصاء حيث كتبت: إنّ العراق يمتلك 400/ 000/ 32 مليون نخلة عام 1952 م، و 13 مليون منها توجد في البصرة، و ينتج 650 نوع من التمور. و هبط هذا الرقم إلى 699/ 997/ 2 مليون نخلة عام 1989 م. و في السنوات الأخيرة تضاءل هذا العدد إلى أقلّ ما يمكن.

الفقه، البيئة، ص: 186

و هذه الطفيليات تبيد بيض الحشرات الضارة و تأكل يرقاتها.

و قد اثبت استخدام هذه الطفيليات نجاحا ملموسا في قتل كل من خنفسة البطاطس و خنفسة الفاصوليا التي تسبب خسارة تقارب ما يعادل «100 مليون دولار» سنويا، و كذلك أمكن إبادة نحو «50%» من حشرات العثّ الموجودة في أمريكا باستخدام طفيليات أمكن استيرادها و تنميتها خلال بضع سنوات و استخدام نوع من النحل لمكافحة خنافس البطاطس أيضا، و على الرغم من صغر حجم هذا النحل إلّا أنه تمكن أن يبيد نحو «80%» من مجموع خنافس البطاطس في المناطق التي جرى اختباره عليها في بعض الولايات الأمريكية.

و قد لاحظ أحد علماء الغرب إن إناث حشرات السوس الطاووسي تطلق نوعا من الشحنات الكهربائية أو الموجات الكهربائية كالمغناطيسية التي تجذب الذكور إليها، و بعد أعوام من هذا الحادث تمكن علماء الألمان أن يعزلوا المادة المثيرة للجنس في دودة القز و أطلق على هذه المادة اسم الفيرومون، و قد طوّر العلماء عدة وسائل لصنع الفيرومونات التي تجتذب الحشرات الضارة حيث يجري صيدها بعد ذلك و إبادتها.

كما و إنهم تمكنوا من إبطال تخصيب البيض، و مما يتسبب في انقراض تلك السلالات من الحشرات التي عقم بيضها، و قد استخدمت هذه الطريقة بإحداث العقم

في ذكور حشرات ذبابة الفاكهة و الذبابة الحلزونية، سُبْحٰانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوٰاجَ كُلَّهٰا مِمّٰا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّٰا لٰا يَعْلَمُونَ «1» و سبحان من جعل لكل شي ء موافقا و مخالفا، و سبحان الذي يعلّم هذه الأمور حيث أنه ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: (العلم سبعة

______________________________

(1) سورة يس: الآية 36.

الفقه، البيئة، ص: 187

و عشرون جزء، فجميع ما جاءت به الرسل جزءان، لم يعرف الناس حتّى اليوم غير الحرفين، فإذا قام القائم، أخرج الخمس و العشرين حرفا، فبثها في الناس، و ضمّ إليها الحرفين، حتّى يبثها سبعة و عشرين حرفا) «1»، و لعلّ المراد بخمسة و عشرين ليس العدد و إنّما الصيغة المبالغية مثل «سبعين» كما في الآية إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «2» الواردة في القرآن الكريم و ما أشبه ذلك. فما توصلت إليه البشرية من علوم هي لا شي ء بالنسبة إلى العلوم الواقعية في الكون. و لذا نشاهد أن اللّه سبحانه و تعالى يصف الرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله و سلم» بالخلق العظيم في مجال الأخلاق إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ «3»، أما حينما يأتي دور العلم، يقول سبحانه وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «4» على الرغم من أنه اعلم المخلوقات على الإطلاق. و قال سبحانه بالنسبة للإنسان بشكل عام وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّٰا قَلِيلًا «5».

______________________________

(1) منتخب الأنوار المضيئة: ص 201.

(2) سورة التوبة: الآية 80.

(3) سورة القلم: الآية 4.

(4) سورة طه: الآية 114.

(5) سورة الإسراء: الآية 85.

الفقه، البيئة، ص: 188

الأمطار الحمضية

مسألة: تتعرّض البيئة- جوا أو بحرا أو برّا- إلى الأمطار الحمضية «1» من أكسيد الكبريت و أكسيد النيتروجين التي تنطلق إلى الهواء الجوي نتيجة لاحتراق

الوقود مثل النفط و الفحم في محطات إنتاج الطاقة الكهربائية و محركات الآلات و أفران المصانع. كما إن هذه الغازات تنتج من مصانع إنتاج الأمونيا و مصانع الأسمدة و معامل تكرير البترول و الصناعات البتروكيماوية و غيرها «2».

و قد كان الاعتقاد السائد أنّ الأمطار الحمضية تنشأ نتيجة بعض العوامل الطبيعية التي لا دخل للإنسان فيها مثل الغازات الحمضية الناجمة عن اندفاع البراكين أو من حرائق الغابات أو من تحلل بقايا النباتات و الحيوانات، لكن العلم الحديث كشف بطلان ذلك و بيّن أنّ السبب هو الإنسان، و قد أثبتت بعض الدراسات أن 90% من الكبريت المحمول في الأمطار يعود إلى النشاط البشري.

______________________________

(1) تنشأ نتيجة تفاعل غاز ثاني أكسيد الكبريت و أكسيد النيتروجين مع بخار الماء الموجود في الجو، فتتحوّل تلك الغازات إلى جسيمات دقيقة من الكبريتات معلقة في الهواء تنقلها الرياح، و إذا كان الظرف مناسبا لسقوط الأمطار، فإنّ هذه الجسيمات تختلط مع ماء المطر و تسقط معه على شكل مطر حمضي، و إن وحدة قياس الحموضة في الأمطار هي.

(2) كما ينبعث هذا الغاز كناتج ثانوي من بعض الصناعات التي تتعلّق باستخلاص بعض الفلزّات من خاماتها، مثل عمليات استخلاص فلز النحاس من خامة كبريتية النحاس.

الفقه، البيئة، ص: 189

و قد لاحظ أحد علماء السويد أنّ الأمطار التي تتساقط فوق بعض مناطق السويد تزيد نسبة حموضتها مع الزمن، و قد بيّن هذا العالم أنّ هذه الأمطار تنتج من ذوبان الغازات الكبريتية و النيتروجينيّة التي تتصاعد من مداخن المصانع في بخار الماء الموجود في الغلاف الجوي. و نبّه هذا العالم إلى إخطار هذه الأمطار الحمضية و إلى آثارها المدمّرة على مختلف عناصر البيئة الطبيعية المتوازنة.

و قد قام أحد

مراكز البحوث العلمية الأوربية بدراسة «153» بحيرة صغيرة كانت مليئة بالأسماك سابقا، فوجدوها عبارة عن أجسام مائية ميّتة لا حياة فيها باستثناء بحيرتين يبدو أنهما ستلحقان ببقية البحيرات.

و قام معهد علمي آخر بإجراء دراسة مماثلة على «151» ظاهرة أخرى فوجد أنها خالية تماما من الحياة، بينما لم تكن هناك مصانع تلقي بفضلاتها السّامّة في هذه الأنهار و البحيرات، و إنما قالوا إن التلوث هو المسؤول الوحيد عن هذه الجريمة التي طالت الملايين من الأسماك.

و اكتشف العلماء أن القاتل قد أتى من مكان بعيد و القاتل بالطبع هو التلوث الذي ورد من أوربا من الأمطار المحمّلة بحمض الكبريتيك «1»، و ينتج هذا الحمض كما أشرنا في الأمطار نتيجة دخان المصانع و محطات إنتاج الطاقة الكهربائية، و نتيجة حرق الفحم و البترول بكميات كبيرة، فينتج عن احتراقهما ثاني أكسيد الكبريت «2» الذي يتصاعد في الجو ثم يتفاعل مع بخار

______________________________

(1) حمض الكبريتيك: يحدث نتيجة تفاعل ثاني أكسيد الكبريت مع بخار الماء فيعطي غاز يعرف بثالث أكسيد الكبريت، و يذوب هذا إلغاز في بخار الماء الموجود في الهواء، فيعطي حمضا قويا يعرف بحمض الكبريتيك.

(2) و رمزه الكيماوي 2 و هو غاز حمضي له رائحة نفاذه، تؤثّر على الأغشية المخاطية للأنف، و يسبّب التهابات للعين و تقيّحات على الجلد، و يؤثّر على التربة الزراعيّة و يقلّل من إنتاجيتها، كما انه يتفاعل مع بعض الأملاح الموجودة بالتربة مكوّنا مركّبات لا تذوب في الماء، و هذا يؤدّي إلى حرمان النبات من عنصر هام من العناصر الغذائية.

الفقه، البيئة، ص: 190

الماء المكوّن للسحب مكونا حمض الكبريتيك، و من ثم ينزل ماء المطر من السماء، و يتصف بخاصية الحموضة، فيتلف كل ما يصادفه

مسببا هلاك هذه الأسماك بل و الحيوانات التي توجد في تلك الأصقاع و هكذا بالنسبة إلى النباتات.

و تشترك أكاسيد النتروجين «1» مع أكاسيد الكبريت في تكون الأمطار الحمضية، و تنشأ الأولى من إحراق الوقود في محطات توليد الطاقة الكهربائية و المنشآت الصناعية و في مكائن الاحتراق الداخلية، و يبقى هذا الحمض معلقا بالهواء الساخن و ينزل مع مياه الأمطار.

و يطلق العلماء على كل هذه الصور بالترسّب الحمضي، و هذا الترسّب الحمضي يكون أشدّ ما يكون بالقرب من مصدر التلوث، أي في دائرة لم تتعد «300 كيلومترا»، و الترسّب في هذه الدائرة، يكون بشكل جسيمات جافة. أمّا الترسّب الرطب في صورة أمطار يكون عادة بعيدا عن مصدر التلوث، أي فيما يزيد على «2000» كيلومتر و أكثر، و لا يؤدي تكوين حمض الكبريتيك و النتريك في الهواء إلى نشوء الأمطار الحمضية فحسب، بل يتسبب أيضا في تكوين الضباب الحمضي و الجليد الحمضي بالإضافة إلى تساقط هذين الحمضيّن بصورة جسيمات جافة و غازات تسبب تلويث النبات و الحيوان في البرّ و البحر.

و وضع العلماء معدلا ثابتا لذلك، فاعتبروا الماء النقي هو الذي يحتوي على معدل هيدروجين بنسبة «7» فإذا زاد ذلك فأصبح «8 أو 9» أصبح

______________________________

(1) و تشمل: أول أكسيد النيتروجين و ثاني أكسيد النيتروجين 2 و أكسيد النتروز 2.

الفقه، البيئة، ص: 191

الماء قلويا، و أما إذا قلّ عن «7» فأصبح «6 أو 5» أو أقل من ذلك كان المحلول حمضيا.

و قد أشار تقرير إلى أنّ جانبا كبيرا من أوربا الوسطى مبتلى بأمطار حمضية بمقياس «2، 4» من العشرة أو أقل من ذلك، و كذلك يشير التقرير إلى أن المقياس السنوي للمعدّل الهيدروجيني بالمناطق الملوثة في

الدول الاسكندنافية و اليابان و أوربا الوسطى و شرق أمريكا الشمالية يتراوح ما بين «5، 3- 5، 5» مع ما يحتوي من الكبريتات في الأمطار يتراوح ما بين ملي غرام واحد و اثني عشر ملي غراما في اللتر، في حين يصل تركيز النترات فيها إلى ما بين ملي غرام و ستة ملي غرامات في اللتر. و حين تتساقط مياه المطر الملوثة على المسطحات المائية كالمحيطات و الأنهار و البحار و البحيرات فإنها تؤدي إلى إصابة الكائنات البحرية بإضرار جسمية، و ربما أدت إلى هلاك الأسماك و الدلافين و باقي الأحياء التي تعيش في الماء، و إذا لم يسبب تلوث اللحوم هلاك البشر شيئا فشيئا، فإنه حتما سيؤدي به إلى أمراض مستعصية.

كما و تسببت الأمطار الحمضية في زيادة حموضة كثير من البحيرات و الأنهار مما يؤدي إلى خلو هذه البحيرات و الأنهار من الكائنات الدقيقة، و هناك نحو ألف بحيرة في كندا تحولت مياهها إلى حمضية بعد أن كانت معتدلة نتيجة هذه الأمطار: و حين تسقط الأمطار الحمضية على الأراضي الجيرية، فإنها ستذيب قدرا كبيرا من عنصر الكالسيوم الموجود في التربة و تحمله معها نحو المياه، و يؤدي ذلك إلى انجراف التربة و زيادة في تركيز الكالسيوم و ضعف النباتات. كما و إنها إذا سقطت على بعض الأراضي أدت إلى تفتت بعض الصخور.

و تؤدي الأمطار الحمضية إلى إذابة نسبة كبيرة من بعض الفلزات الثقيلة

الفقه، البيئة، ص: 192

مثل الرصاص و الزئبق و الألمنيوم، و هي فلزات سامة و تسبب تسمّم الكائنات الحيّة عند شربها للمياه الملوثة. كما و إنها تتصف بخاصية التراكم إذ أنها تتجمّع بمرور الزمن في أجسام الأحياء، و قد قلّت أعداد الطيور

في بعض المناطق الأوربية و الأمريكية بعد أن قتل كثير منها نتيجة غذائها على الحشرات التي تحتوي أجسامها على نسبة عالية من الألمنيوم التي جرفته مياه الأمطار الحمضية من سطح التربة و حملته إلى الماء، و هذه الإضرار للأمطار الحمضية لا تختص بالمياه بل تمتد إلى المحاصيل الزراعية «1» و الغابات.

و يتوقف تأثير الأمطار الحمضية على عدد من العوامل مثل كمية الأمطار المتساقطة و الفترة الزمنية التي يستغرقها طول المطر الحمضي و مستوى حموضة الأمطار و التركيب الكيماوي للتربة و النباتات و المياه الطبيعية، و مدى تأثر النباتات و الحيوانات و المنشآت بحموضة الأمطار و حرارة الجو و وجود ملوثات أخرى في الهواء و إلى ما أشبه ذلك.

كما إنّ الأمطار الحمضية تؤثر على المباني و المنشآت الأثريّة و التاريخية و المنشآت المعدنية و المباني الحديثة، كما أنها تؤثر على مياه الشرب، فقد لوحظ أن مياه أحد الخزانات قد زادت حموضتها نتيجة تزايد سقوط الأمطار في الخزان مدة طويلة من العام، و قد تسببت المياه الحمضية في تآكل الخزان.

ثم أنه يمكن حل مشكلة المطر الحمضي بمنع تكوين مثل هذا المطر لأسباب مختلفة مثل أفران و مواقد جديدة يمكن أن يوقف انطلاق كل من أكاسيد الكبريت و أكاسيد النيتروجين عن طريق استخدام أنظمة الحقن لحجر

______________________________

(1) فإنّ الأمطار الحمضيّة تؤدّي إلى ذوبان عنصر البوتاسيوم و المغنيسيوم و الكالسيوم في التربة و انتقالها إلى المياه الجوفيّة، فيسبّب ذلك إبعاد هذه العناصر عن جذور النباتات، و كذلك تزيد في عملية تكشيف ألمنيوم التربة و هو ما يسبب تلف الجذور و يستنزف المواد المغذية للنباتات.

الفقه، البيئة، ص: 193

الكلس في المواقد و الأفران التي يستخدم فيها الوقود الأحفوري أو شبه

ذلك.

و تدل التجارب الرائدة التي أجريت في مراكز الأبحاث العلمية الأوربية على إن هذه الأفران يمكن أن تنزع «80%» من ثاني أكسيد الكبريت، كما يمكن إزالة الكبريت بعد الاحتراق و قبل أن تنفذ الغازات عبر المداخن، و يتم ذلك عن طريق غسل الغازات الكبريتية بنحو قلوي حيث يحوّل غاز ثاني أكسيد الكبريت إلى فضلات كالوحل و الرواسب الطينية، و يمكن باستخدام هذه التقنية في إزالة نحو «95%» من الكبريت الموجود ضمن غازات المداخن.

كما يمكن استخدام وقود لكمية منخفضة من الكبريت فإنه في العادة تحتوي أنواع الوقود المستعملة لإنتاج الطاقة على قدر صغير من الكبريت، و نظرا لاستعمال ملايين الأطنان من هذا الوقود كل عام في الدول الصناعية الكبيرة، إذ قدّرت كمية غاز ثاني أكسيد الكربون التي تطلقها المناطق الصناعية في أوربا في الهواء بنحو «50 مليون» طن كل عام في حين تقدّر هذه الكمية في أجواء الولايات المتحدة الأمريكية بنحو «40 مليون» طن «1».

______________________________

(1) و قد أطلقت دول العالم عام 1990 م ستة مليارات طن من الكربون في حين كان في الستينات 5، 2 مليار طن و في العشرينات مليار طن. و إنّ نسبة غاز الكربون ازداد على مدى مائة سنة حتّى عام 1974 م بنسبة 033. 0% من الحجم و إنّ نسبة هذا إلغاز في نهاية هذا القرن تتراوح بين 038. 0- 041. 0% من الحجم، و حتّى عام 2025 م ستتراوح نسبته بين 052. 0- 064. 0% الحجم. علما إنّ ارتفاع غاز الكربون في الهواء أكثر ممّا هو عليه الآن يؤدّي في القرن المقبل إلى ارتفاع المعدّل السنوي لدرجات حرارة الهواء لدرجتين، و هذا ما سيعمل على تذويب الجليد في منطقة القطب الشمالي

و القطب الجنوبي، ممّا يؤدّي إلى ارتفاع مستوى المحيط العالمي إلى 70 أو 75 متر، و هذا يعني غرق العديد من المدن الكبرى الواقعة على سواحل البحار و المحيطات بالإضافة إلى مساحات كبيرة من السهول و المناطق الساحليّة المأهولة في الوقت الحاضر. و يؤكّد العلماء أنه إذا نقصت شفّافية الهواء بسبب التلوّث المتزائد و انخفضت درجة الحرارة درجتين فقط من المعدّل السنوي، سيسبّب تجمّد جديد أي اقتحام الجليد القطبي لخطوط العرض السفلى و المعتدلة. أنظر أطلس العالم شركة بدران: ص 284- 285.

الفقه، البيئة، ص: 194

كما يمكن لمحطات تكرير البترول الحديثة أن تنتج بترولا فيه نسبة منخفضة من الكبريت، أو تنظيف معظم أنواع الفحم الحجري الموجود فيه، و ذلك عن طريق استخدام السحق و ذلك عن طريق العمليات الكيماوية.

و بعد اتحاد الألمانيتين «الشرقية و الغربية» ارتفع هذا الضرر حيث كانت آلمانيا الشرقية أكثر مصدر الأمطار الحمضية للسويد.

و يمكن اتّباع بعض الطرق لتقليل إخطار الأمطار الحمضية مثل طلاء المنشآت و المباني و الآثار بأنواع مستحدثة من الطلاء لحمايتها من الآثار الضارة لسقوط الأمطار الحمضية عليها، و مثل استخدام الجير في معالجة البحيرات التي تتعرض للأمطار الحمضية، حيث يتسبب الجير في معالجة حموضة المياه، و يتم ذلك عن طريق رشّ رذاذ من الجير على سطح الماء من زوارق خاصة تطوف بكل أرجاء البحيرة لغرض معالجة مياهها. و تعتبر هذه الطريقة محاكاة لما يقوم به المزارعون عند ما ينثرون مسحوق الجير على سطح التربة الحمضية قبل ريّها لمعادلة حموضتها، و هذه الطريقة لا تعد أسلوبا مثاليا لحل مشكلة زيادة حموضة البحيرات لأنها تتطلب مزيدا من الجهد و المال، كما أنها تحتاج إلى عناية كبيرة و دقة فائقة في

استخدام الجير حتى لا تنقلب الحالة في تحول مياه البحيرات في حالة الحموضة إلى الحالة القلوية. و هذا العلاج يعدّ في نفس الوقت هو علاج للضباب الحمضي.

و قد تبين من الدراسات العلمية التي أجريت على الضباب الحمضي أنه أكثر خطورة و أشد ضراوة من المطر الحمضي بالرغم من أنهما يتكونان بطريقة واحدة، فيعود ذلك إلى أن الضباب الحمضي يتكون و يتكثّف بالقرب من سطح الأرض، و بذلك تصبح الفرصة مهيأة لإحداث إضرار بالغة بالذين

الفقه، البيئة، ص: 195

يستنشقونه «1»، و لا يقتصر تأثير الضباب الحمضي على الإنسان فحسب بل يمتد ليشمل النباتات و الحيوانات و المباني الأثرية.

و لذا فاللازم علاج الأمر بنحوين: الأول: منع تكون مثل هذا الضباب أو مثل ذلك المطر على ما ذكرناه.

الثاني: امتصاص الإضرار بالقدر الممكن، و ما يذكر في حالة المرض يذكر في هذه الحالة أيضا، فاللازم الوقاية أوّلا ثم العلاج ثانيا، و من المعلوم أنّ: «قيراط من الوقاية خير من قنطار من العلاج».

______________________________

(1) حيث يسبّب أمراضا تنفّسيّة كالسعال و نزلات البرد و الربو و الالتهابات القصبية و انتفاخ الرئة.

و قد ذكرت الإحصاءات: إنّ مليار شخص في مختلف أنحاء العالم معرّضون لمستويات غير صحيّة من ثاني أكسيد الكبريت.

الفقه، البيئة، ص: 196

طبقة الأوزون

مسألة: لقد أشار القرآن الكريم إلى أن السماء سقف محفوظ بالنسبة إلى الأرض، حيث ورد في القرآن الكريم وَ جَعَلْنَا السَّمٰاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آيٰاتِهٰا مُعْرِضُونَ «1»، و ربما يكون قوله سبحانه و تعالى سَقْفاً مَحْفُوظاً لاعتبارين، الأول: أنه سبب لمنع ارتطام سطح الأرض بملايين النيازك «2».

و الإنسان الذي ينام في غرفة مسقّفة يكون مطمئنا من العواصف و الأمطار و كثير من الأخطار كذلك الأرض المسقفة

التي تجعل البشرية تعيش

______________________________

(1) سورة الأنبياء: الآية 32.

(2) فإن هذا السقف يجعلها كغازات كما نشاهد ذلك في أطراف الأفق أحيانا خصوصا عند غروب الشمس. و النيازك هي أحجار أو كتل حديدية من النجوم تسقط من السماء و تصل سرعة بعض النيازك إلى 50 ميل في الثانية ثم ما تلبث مقاومة الهواء أن تقلل من سرعتها، و يعتمد مدى ما تحدثه من ضرر على كميّة الطاقة الحركية المحتواة بداخلها. و أكبر نيزك حجري سقط عام 1948 م و كان وزنه طن واحد. فعندما ينفجر النجم تظهر كتلة متّقدة في السماء، و هذا الذي نراه هو هواء مضغوط في الإمام زادت حرارته بفعل الاحتكاك مع حركة الصخرة، و يمكن أن يكون حجمه أكبر كثيرا من حجم الصخرة نفسها، و ينصهر سطح الصخرة، و يتطاير الشرر من الذيل، و تظلّ ذيول الدخّان زمنا طويلا بعد سقوط الصخرة. ثم إنّ الصخرة قد تنفسخ و تسقط و تحدث موجة صدمة، لها قعقعة و أصداء مثل صوت مدافع ترعد في معركة. راجع نهاية الكوارث الكونية و أثرها في مسار الكون: ص 26 للمؤلّف مرانك كلور. هذا و يفرّق النيزك عن الشهاب إنّ الثانية عبارة عن قطع من الغبار ناجمة عن مذنّبات ماتت في الفضاء.

الفقه، البيئة، ص: 197

بمأمن و طمأنينة.

الثاني: منع إضرار أشعة الشمس من الوصول إلى سطح الأرض، فتأمل.

و من بين المخاطر التي تنجم عن تدخل الإنسان في النظم الكونية و إخلاله بالتوازن لمكونات الغلاف الجوي للأرض و استنزاف الأوزون في طبقة الجوّ العليا في المنطقة التي تقع على ارتفاع يتراوح بين «20 و 40» كيلومترا فوق منسوب سطح البحر، فإنه يحيط بكوكب الأرض غلاف جوّي سميك يشارك الأرض

في دورانها الدائم حول نفسها و حول الشمس «1».

و الغلاف الجوي يتكون في الأساس من ثلاث غازات: النيتروجين و الأوكسجين و الأرجون، و نسبة قليلة تمثل ثاني أكسيد الكربون و تركيزات قليلة من غازات الهليوم و الهيدورجين و الكلبتون و الميثان و النيون و الزيون و الأوزون. و يتجمع نحو «30%» من الغازات السابقة في طبقة تعرف

______________________________

(1) يتألّف الغلاف الحوي من ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: و تسمّى التروبوسفير أو الطبقة السفلى و هي قريبة من سطح الأرض و يبلغ سمكها 12- 15 كيلومتر فوق سطح الأرض، و هذه الطبقة لها صلة بحياة الإنسان و فيها تحدث تفاعلات الطقس و المناخ.

الطبقة الثانية: و تسمّى الاستراتوسفير أو الطبقة العليا و تمتد من 20- 40 كيلومتر فوق سطح الأرض، و توجد في هذه الطبقة نسبة من غاز الأوزون تقدّر ب «10» أجزاء في المليون، و الذي يعتبر مصفات لمعظم الإشعاعات الشمسيّة الضارّة.

الطبقة الثالثة: و تسمّى التربوبور و هي تقع بين الطبقتين السابقتين. هذا و هناك تقسيم أكثر دقّة من هذا التقسيم، و هو ما تطرق إليه علماء الإرصاد حسب تغيير الحرارة و مستوى الارتفاع، و هي خمس طبقات أساسية بالإضافة إلى أربع طبقات فاصلة. و الطبقات الأساسية هي: 1- تروبوسفير أو الطبقة السفلى و تبلغ حتّى ارتفاع وسطى قدره 11 كم. 2- ستراتوسفير أو الطبقة العليا و تبلغ من 11 كم- 51 كم. 3- ميزوسفير و تبلغ من 51 كم- 86 كم. 4- تيرموسفير و تبلغ من 86 كم- 800 كم. 5- اكزوسفير أو الفراغ الكوني و تبلغ من 800 كم و ما فوق.

و الطبقات الفاصلة عبارة عن: 1- تروبوبوز 2- ستراتوبوز 3- تيرموبوز 4- ميزوبوز. و

هذه الطبقات تكون فاصلة بين الطبقات الأساسية وفق الترتيب.

الفقه، البيئة، ص: 198

ب «تروبوسفير» و هي الطبقة اللصيقة بسطح الأرض و تعيش في وسط هذه الطبقة جميع الأحياء الأرضية، و تحدث فيها أغلب الظواهر الجوية مثل تكون السحب و الضباب و العواصف و الرياح و الثلوج و المطر.

و توجد طبقة ثانية تعرف ب «الأستراتوسفير» و في هذه الطبقة يوجد غاز الأوزون بنسبة ضئيلة جدا تتراوح بين «10- 30» جزء من كل مليون جزء من الهواء، و يتغير تركيز الأوزون بتأثير كبير كلّما ارتفعنا عن سطح البحر، و رغم أن سمك طبقة «الأستراتوسفير» تصل إلى عشرات الكيلومترات إلّا أن عدد ما بها من جزئيات الأوزون لا يتجاوز عدد جزئيات الهواء الموجود في طبقة سمكها ثلاث مليمترات من الهواء الذي نتنفّسه على سطح الأرض، و ذلك نظرا للانخفاض الشديد للضغط في طبقات الجوّ الأعلى، فنستطيع أن نتخيل طبقة الأوزون كبالونة هائلة تحيط بالكرة الأرضية على ارتفاع «30 كيلومترا».

و غاز الأوزون سامّ للإنسان و للحيوان و النبات على السواء و هو أكثر سميّة من مختلف الغازات «1».

______________________________

(1) غاز الأوزون أزرق اللون و باهت و له رائحة مميّزة و حادّة، و رمزه 3 و ينتج طبيعيا عن طريق التفريغ الكهربائي، أو اصطناعي عن طريق الأجهزة الكهربائية العالية الفولتية و عن طريق التفاعلات الكيماوية لضوء الشمس مع التلوّث، و يتكون الأوزون من اتحاد ذرات الأوكسجين مع جزئيات الأوكسجين أي عند ما يصطدم الإشعاع فوق البنفسجي المنبعث من الشمس مع جزئيات الأوكسجين في أعلى الغلاف الجوي، حيث يقوم فوتون ضوئي بشطر جزئي الأوكسجين إلى ذرتي أوكسجين عاليتي النشاط تقوم كل واحدة منهما بشكل سريع بالاتحاد مع جزء آخر الأوكسجين لتشكل الأوزون

3، و يقوم هذا إلغاز بامتصاص الأشعة فوق البنفسجية و يتحلل إلى 2 و و من ثم تعود لتشكل من جديد 3 مع جزء أوكسجين آخر، و هكذا دواليك إلى أن تصطدم ذرتان حرتان من الأوكسجين مصادفة لتشكل 2. و معيار الأوزون هو 12% جزء من إلغاز في كلّ مليون جزء من الهواء كحدّ أدنى للتعرّض، فلا يجوز تجاوزه.

الفقه، البيئة، ص: 199

و التلوث الناجم عن حركة مرور السيارات في المدن المزدحمة يؤدي إلى زيادة تركيزه و تزيد نسبة هذا إلغاز في المدن خصوصا المدن الصناعية المزدحمة بالآليات و السيارات و ما أشبه ذلك.

و الأوزون ذو فعالية عالية في إبادة الجراثيم و قتل البكتيريا و الفيروسات و الطفيليات الضارة، و لهذا السبب فإن عدة من الدول تفضّل استخدامه في معالجة مياه الشرب و المياه الصناعية و مياه المجاري و في تعليب الأسماك و تعقيم المأكولات. إلّا أن زيادة نسبة هذا إلغاز عن الحدّ المقرّر حسب التقدير الإلهي تحوله إلى عامل ضارّ و متلف حيث أنه يسبب في تدمير الحياة بشتى صورها، و في الوقت نفسه الذي يتولّد فيه غاز الأوزون في الغلاف الجوي، فإنه يتعرّض أيضا لعملية تدمير طبيعية نتيجة لامتصاصه للأشعة فوق البنفسجية التي ترد إلينا من الفضاء فإن إخلال أي توازن في الأرض و بأجوائها يسبب اختلالا في الأحياء و غير الأحياء، و لقد قال سبحانه وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ «1».

و الأوزون كما أنه يسرع تكونه يسرع زواله أيضا، و قد أدى الاختلال الصناعي إلى نشوء مشكلة الثقب الأوزوني فوق منطقة القارة القطبية الجنوبية «2». أما الشمس فهي ترسل أشعتها، و ترسل نوعا

من الأشعة فوق

______________________________

(1) سورة الحجر: الآية 19.

(2) ففي بداية الربيع القطبي من كلّ عام يهبط الأوزون و قد وصل إلى 50% بين أعوام 1979- 1985 م و في عام 1989 م أصبح ثقب الأوزون يغطي حوالي 19 مليون كيلومتر مربع أي ما يعادل 5، 7% من مساحة نصف الكرة الجنوبية، و إن الثقب الأوزوني ينتج عن زيادة ذرّات الكلور في طبقة الاستراتوسفير، و إنّ ذرّات الكلور تنتج عن تحلّل جزئيّات الكلور و فلورو كربون الناتجة عن الأنشطة الصناعية و التي تستخدم في تصنيع رقائق الكمبيوتر و في صناعة الرغوة في الكرتونات البلاستيكيّة و في تجهيزات التبريد و تكييف الهواء و في علب الرش بالايروسول.

و تتحطم هذه الذرات تحت تأثير أشعة الشمس فوق البنفسجية و تحرر ذرات الكلور الحر ثم تتحد مع الأوزون و ذرات الأوكسجين المنفردة و يتكون من هذا الاتحاد تحول الأوزون إلى جزئيات أوكسجين و تتحرر ذرات الكلور ثانية لتكرر هذا الاتحاد من جديد. و بناء على هذا فإن ذرة الكلور الواحدة يمكن أن تحطم مئات الآلاف من جزئيات الأوزون.

الفقه، البيئة، ص: 200

البنفسجية، و هذه الأشعة تستطيع إذا ما وصلت إلى الأرض أن تقتل الكائنات الحيّة من بشر و نبات و حيوان.

و يقوم الأوزون الموجود في طبقة الغلاف الجوّي بحجب تلك الأشعة و منعها من الوصول إلينا، و يقوم الغلاف الجوي بامتصاصها، و بذلك يحول دون تدفقها صوب سطح الأرض و يتسلل مقدار قليل جدا من هذه الأشعة ليساعد على تكوين فيتامين «دي».

و اكتشف جماعة من العلماء أنه انخفضت نسبة هذا إلغاز «40%» فوق خليج هالي، و أنه امتدّت في ارتفاعها مسافة تتراوح بين «12- 24» كيلومترا تقريبا، طاغية بذلك على

قسم كبير من الجزء الأسفل.

و معنى ذلك وجود ثقب أوزوني أي إنّ كثافة غاز الأوزون أصبحت منخفضة جدا عمّا يجب أن تكون عليه.

و قد أوضح العلماء: أنّ هناك عددا كبيرا من الملوثات التي أدّت إلى استنزاف الأوزون، و من أهم هذه الملوثات:

أولا: أكاسيد النيتروجين التي تنطلق من الأسمدة الآزوتية، و من الطائرات التي تسير بسرعة أكبر من سرعة الصوت و على الخصوص الكونكورد «1»، و من التفجيرات النووية، كما و تنطلق هذه الأكاسيد أيضا بسبب حرق الوقود الصلب المستخدم في إطلاق مركبات الفضاء.

______________________________

(1) فعند ملامسة أكاسيد النيتروجين لطبقة الأوزون يحدث بينهما تفاعل كيمياوي يؤدّي إلى تفكّك جزئيات الأوزون و تتحوّل إلى جزئيات الأوكسجين.

الفقه، البيئة، ص: 201

ثانيا: من مركبات الإيروسولات المستخدمة في بخّاخات الشعر و مزيلات رائحة العرق و في جوّ التبريد في الثلاجات و أجهزة التكييف، و في إنتاج الثلج الصناعي و في إنتاج الإسفنج الصناعي، و في صناعة العطور، و المواد الرغويّة، و موادّ التغليف و المذيبات المستعملة في تنظيف القطع الإلكترونية.

ثالثا: الهالونات التي تستخدم في إطفاء حرائق الأجهزة الكهربائية «1».

و من الواضح إن هذا الدرع الواقي لو ضعف لأي سبب من الأسباب، فإنّ عواقب ذلك ستكون سيئة على الأحياء التي تدبّ على سطح الأرض أو تسبح في مياه المحيطات و البحار و البحيرات و الأنهار، أو التي تتطاير في الجو، إذ يتسرب قدر كبير من الأشعة فوق البنفسجية على سطح الأرض، و بذلك يتزايد انتشار الأمراض السرطانية و خاصة سرطان الجلد. و تقدّر الوكالات الغربية لحماية البيئة أن الزيادة في عدد حالات سرطان الجلد نتيجة الثقب الأوزوني الناتج عن تأثير مركبات الكلور و فلورو كربون وحدها سوف تبلغ

______________________________

(1) كما إنّ إطلاق

غازات الكلور و فلورو كربونية «ك ف ك» «CFC» تستنزف الدرع الأوزوني بنسبة 10- 16% و أنه إذا استنزف 1% من الأوزون في طبقة الستراتوسفير، فإنّ نسبة سرطان الجلد تزداد بنسبة 2% و تقدّر كميّة مركّبات الكلور و فلورو كربون التي تنطلق إلى الجوّ كلّ عام بما يزيد على مليون طن، و تتركّز هذه المركبات في ارتفاع 18 كيلومتر من سطح الأرض عند خطّ الاستواء و على ارتفاع 7 كيلومتر فوق المناطق القطبية. و إنّ متوسّط عمر الكلور و فلورو كربونية 11 هو 75 عام و متوسّط عمر الكلور و فلورو كربونية 12 هو 110- 140 عام. علما إن هذا إلغاز عند ما ينتقل إلى الغلاف الجوي يهاجمها الاشعاع الشمسي محررا عنصر الكلور منها مما يؤدي إلى زوال طبقة الأوزون، و إنّ أمريكا تنتج أكثر من نصف ما ينتجه العالم من مواد الكلور و فلورو كربون، و قد دعت بعض الدول إلى إيقاف صناعة مركّبات الكلور و فلورو كربونية و إحلال مواد أخرى بدلها، كما دعت إلى تدوير إلغاز الموجود في الأجهزة القديمة وفق مراقبة دقيقة.

الفقه، البيئة، ص: 202

«40» مليون حالة في الولايات المتحدة الأمريكية فقط قبل انقضاء أربعة قرون، كما أن زيادة تسرّب الأشعة فوق البنفسجية بسبب الثقب الأوزوني سيؤدي أيضا إلى الإصابة بالحروق الشمسية و العمى الجليدي و الشيخوخة المبكرة و تجعّد الجلد و أمراض العيون «1» و بخاصة مرض السدّ العيني، و ستؤدّي أيضا إلى تشوّه الأجنّة و أضعاف جهاز المناعة في جسم الإنسان، و بالتالي ستؤدي إلى هلاك مجموعات كبيرة من البشرية بالإضافة إلى هلاك الحيوان و النبات و ما أشبه ذلك «2».

و من المعلوم إنّ الأشعة فوق البنفسجية إذا

كانت متوازنة لها أهمية بالغة بالنسبة للإنسان و الحيوان، بينما نقصها أو زيادتها تؤدي إلى الإضرار المختلفة.

فإن نقصان كميتها يقود إلى زيادة أمراض الكساح و التشوّهات العظيمة و أمراض نقص الفيتامينات، كما و أن لها خواص مضادّة للجراثيم و تحت تأثيرها يتشكل فيتامين «دي» الذي يعتبر من أهم دعائم الصحة، و تقدر كمية الأشعة فوق البنفسجية الممتصة من الدخان و الغبار في المدن بأكثر من «50%» من كمياتها. و هناك علاقة مباشرة بين أمراض الكساح و نقصان كمية الأشعة فوق البنفسجية في المدن، كما في إنجلترا حيث يسمى الكساح في بعض الأحيان بالمرض الإنجليزي، إذ لا تزيد نسبة الأشعة الشمسية في لندن عن «82%» من نسبتها في المناطق الريفية؛ و من هنا جاءت توصية الأطباء لشعوب الدول الصناعية للذهاب و لو لشهر واحد إلى شواطئ البحار

______________________________

(1) ككتراكت العيون و المياه البيضاء.

(2) كالتأثير على الثروة السمكية، فإنّ الأشعة فوق البنفسجية تقلّل من الطحالب و النباتات و الحيوانات ذات الخلية الواحدة- المعروفة باسم البلانكتون- و الكائنات الدقيقة الهائمة على سطح المياه و التي تتغذّى عليها الأسماك.

الفقه، البيئة، ص: 203

و شبهها لتلقّي الكمية اللازمة للجلد من الأشعة فوق البنفسجية.

و كما في المثل القديم كل إفراط و تفريط في أمر يؤدي إلى الخلل فيه، فاللازم أن يكون موزونا بقدر جعله اللّه سبحانه و تعالى.

و على أيّ حال: فإنّ الأشعة فوق البنفسجية التي تصل إلى سطح الأرض من الثقب الأوزوني تكون ذات طاقة عالية تكفي لتحطيم جزئيات مهمة في جسم الإنسان، و التي منها الجزئيات المسؤولة عن نقل الصفات الوراثية «1»، و تحطيم مثل هذه الجزئيات سيؤدي إلى هلاك مجموعات كبيرة من البشرية «2»، بالإضافة إلى أن ازدياد

الأشعة فوق البنفسجية المارّة من الثقب الأوزوني من شأنه أن يزيد من خسائر المحاصيل الزراعية، فقد أجريت اختبارات على «200» نوع من أنواع النباتات لقياس حساسيتها نحو هذه الأشعة فتبيّن أن ثلثي هذا العدد تأثر بها حيث تباطأ معدل النمو «3» و فشلت حبوب اللقاح في أحداث الإنبات، كما و أن النباتات و الأعشاب سوف تتضرّر بشدة «4» من جرّاء ارتفاع مستويات الأشعة فوق البنفسجية التي تتسرّب من ثقب الأوزون.

و ستؤدي الزيادة في هذه الأشعة إلى حدوث الضباب الدخاني و الأمطار الحمضية على ما سيق تفصيل ذلك، و ستؤدي إلى حدوث تغييرات كبيرة في مناخ الأرض و ارتفاع درجة الحرارة في العالم، و كذلك ارتفاع مستوى مياه

______________________________

(1) حيث يتلف الحمض النووي- دي أن أي- الموجود في نواة الخلية و المسؤول عن نقل الصفات الوراثية.

(2) و كذا يتلف الخلايا التي تحت البشرة الخارجية للجلد.

(3) و من هذه النباتات الفاصوليا و البزاليا و القرع و البطيخ.

(4) و ينعكس هذا التضرّر على نوعية البذور و على نمو النبات و زيادة استعداده للتأثّر بالأعشاب الضارّة و على الإصابة بالأمراض و الآفات.

الفقه، البيئة، ص: 204

المحيطات، و هو أمر يهدّد بغرق عدة مدن و مناطق ساحلية في بقاع شتى من العالم. و قد عقدت لدرء هذا الخطر عدة مؤتمرات «1» في عدة دول تقرر فيها تخفيض «50%» من استهلاك المواد التي تسبب مثل هذه الأمور. و هذا أيضا لا يكفي بل يلزم أيضا تخفيضها بنسبة «90%» لتفادي المخاطر الناجمة عن تدمير الأوزون الموجود في طبقات الجوّ.

و على أي حال: فكما نرى إن الاستعمار لا يهتم بالإنسان، فالساسة و الاقتصاديون أيضا لا يهتمون بهذا الأمر الاهتمام الذي ينبغي، و إنما

يريدون حفظ مصالحهم الخاصة و إن كان فيها ضرر كثير للناس، كما يحدث في الحروب الكونية. و قد قال سبحانه نَسُوا اللّٰهَ فَأَنْسٰاهُمْ أَنْفُسَهُمْ «2»، فالإنسان الذي ينسى اللّه سبحانه و تعالى لا ينحصر ضرره على نفسه بل على غيره أيضا.

و قد تحوّل الساسة في هذا النصف الثاني من هذا القرن إلى عمالقة في الاقتصاد و السياسة و السلاح و الصناعة، و لكن صاروا أقزاما في الإيمان باللّه و القيم و المبادئ و الأخلاق؛ و المسيحية لم تتمكن من الوقوف أمام ذلك بعد أن انحرفت عن مسيرها الصحيح، حيث قال سبحانه و تعالى يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوٰاضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّٰا ذُكِّرُوا بِهِ «3»، أما اليهودية فلم تكن قابلة أصلا للوقوف بجعل دينها قوميا و اقتصادها أهم شي ء عندها إضافة إلى

______________________________

(1) و من تلك المؤتمرات، مؤتمر اللجنة الدولية للأوزون و الذي عقد عام 1980 م في أمريكا. و مؤتمر فينا و الذي عقد عام 1985 م. و مؤتمر مونتريال و الذي عقد عام 1987 م لتحديد الالتزامات الدولية لمنع الاستخدامات الصناعيّة. و مؤتمر عام 1994 م و الذي اعتبر فيه يوم 16 أيلول من عام 1995 م يوم مؤتمر عالمي لحماية طبقة الأوزون.

(2) سورة الحشر: الآية 19.

(3) سورة المائدة: الآية 13.

الفقه، البيئة، ص: 205

عدم أهليتها. فلم يبق إلّا الالتجاء إلى إحضان الإسلام الذي يجعل لكل شي ء قدرا و لكل شي ء مخرجا. و قد قال سبحانه وَ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلٰاحِهٰا وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّٰهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «1»، و قال سبحانه وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قٰالُوا إِنَّمٰا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.

أَلٰا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ

لٰكِنْ لٰا يَشْعُرُونَ «2»، و في آية ثالثة وَ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلٰاحِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» فالإنسان هو المسؤول الأول و الأخير عن كل إصلاح كما و إنه المسؤول عن كل إفساد، و قد قال سبحانه وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا قَرْيَةً كٰانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهٰا رِزْقُهٰا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّٰهِ فَأَذٰاقَهَا اللّٰهُ لِبٰاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمٰا كٰانُوا يَصْنَعُونَ «4»، فصار الجوع في داخلهم و الخوف في أنفسهم و كأنهما لباسان على البدن ملاصقان به ملازمان له.

و هذه حالة الدنيا في هذا الوقت، فالجوع ينتشر ليعم مليار إنسان و الخوف يتسلل إلى قلوب الجميع من صغار و كبار، من رؤساء الدول حتى الحفاة العراة.

و لا علاج إلّا بالعودة إلى مناهج اللّه سبحانه و تعالى التي وضعها للإنسان لبدنه و نفسه و روحه و أسرته و مجتمعة، و الإيمان باللّه الذي يدخل إلى أعماق الإنسان و أخلاقه الطيبة و صفاته النفسية الرفيعة.

أضف إلى ذلك المناهج العملية في كل من السياسة و الاقتصاد

______________________________

(1) سورة الأعراف: الآية 56.

(2) سورة البقرة: الآية 11- 12.

(3) سورة الأعراف: الآية 85.

(4) سورة النحل: الآية 112.

الفقه، البيئة، ص: 206

و الاجتماع و التربية و العائلة و الفرد و غير ذلك، حيث بيّنّا جملة من ذلك في بعض كتبنا الفقهية.

الفقه، البيئة، ص: 207

نفايات المصانع

مسألة: النفايات الخطرة التي تخلّفها الصناعات الكيماوية كثيرة في البلاد الصناعية، و هي نفايات لا يمكن الاحتفاظ بها، و لذا أخذ الغرب و بعض البلاد الصناعية الأخرى الشرقية كاليابان بتصدير هذه النفايات إلى البلاد الفقيرة في قبال عمولات معينة. مسببين إضرارا كثيرة على الإنسان و الحيوان و النبات. و هي

إما أن تكون سامة بحيث تتسبب القضاء على الإنسان و سائر الأحياء عاجلا أو تكون ذات مخاطر صحية بحيث لا تؤدي إلى هلاك من يتعرض لها مباشرة، و إنما تسبب الضعف و المرض المفضيين إلى التسمم و العجز و الإعاقة و بالنتيجة تؤدي إلى الموت. و تقدر النفايات الكيماوية الخطيرة التي ينتجها العالم سنويا على أقل تقدير بما يتراوح بين «300- 400» مليون طن، و هذا شي ء كبير جدا بالنسبة إلى النتائج الخطيرة المترتبة عليها، و من الواضح إن الدول الصناعية الكبرى هي طليعة الدول المنتجة لهذه النفايات حيث يصل إسهامها نحو «90%»، و الولايات المتحدة الأمريكية تقع في المرتبة الأولى في هذه القائمة.

و يبلغ عدد المواد الكيماوية المستخدمة بصفة اعتيادية حاليا حوالي «75 ألف» مادة، و هي في تزايد مستمر، حيث يضاف إليها كل سنة ما يقارب ألف مادة جديدة.

و تصنّف وكالات الحماية البيئية «35 ألف» مادة على أنها ضارة

الفقه، البيئة، ص: 208

بصحة الإنسان و الحيوان و النبات، و ذلك إما بصفة قطعية و أما على وجه الاحتمال. و من الواضح إن الضرر المحتمل أيضا في هكذا موارد لا يجوز تحمّله و لا تحميله للآخرين، خصوصا إذا كان الضرر كبيرا كأضرار هذه المواد.

و هي غالبا تكون من نفايات النحاس و الرصاص و الزئبق و الزرنيخ و ما أشبه ذلك، فإنها تورث السرطان الجلدي و الأورام الخبيثة الداخلية و الإضرار بالجهاز العصبي أو بالكلية و تورث العديد من الأمراض الموهنة و المشوّهة و الإضرار العقلية.

و هناك نفايات سامة تؤدي إلى الموت مباشرة إثر التعرض لها، و بعض منها يحدث مشكلات صحية أخرى كالحروق و الطفح الجلدي و الإصابة بالعنة و العقم و سقوط

الأجنّة و الولادات الميّتة و العيوب الخلقية و الولادات المشوّهة و ما أشبه ذلك.

بينما الكثير منها تسلب من الرجال القدرة الجنسية. كما إن كثيرا منها تسبّب عدم اتزان الأعصاب، و لهذا نشاهد في عالمنا اليوم أمراضا عصبية منتشرة بكثرة، و حيث عرف الغرب الصناعي إضرار هذه المواد فقد طوّر أساليب و تقنيات التخلص من هذه النفايات بما في ذلك الحرق و تحويلها إلى رماد، لكن ذلك لا ينفع إذ رمادها أيضا يسبب إضرارا و غازاتها أيضا ضارة و حتى دفنها في مواقع خاصة من البحر أو الأرض أو إعادة استعمال بعضها من جديد في الصناعات الكيماوية، و حيث أن معظم هذه الأساليب مكلفة للغاية و ينتج عنها مشكلات بيئية غير محمودة في بلادهم فالحرق يتسبب في انطلاق كميات كبيرة من الغازات الملوّثة إلى الهواء الجوي و التي تسبّب الانتشار حتى في البلاد المجاورة. كما إن دفنها في مواقع خاصة تصبح مصدرا لتلويث المياه الجوفية بالمواد الكيماوية السامة و بالتالي تسبّب ضررا للإنسان

الفقه، البيئة، ص: 209

بصورة مباشرة أو نتيجة امتصاص الحيوانات و النباتات لها إذا تسرّب إلى البحر أو المزارع.

و يصدّر الغرب هذه النفايات إلى الدول الفقيرة مقابل تعويضات لا قيمة لها. هذا بالإضافة إلى أنه لا يزيد نصيب حرق النفايات الخطرة على اثنين بالمائة من حجم التخلص من النفايات في بعض البلاد الغربية، و ذلك نظرا لارتفاع التكلفة إذا ما قورنت بتكلفة اللجوء إلى أساليب التطهير و كذلك بسبب الحرص على سلامة المناطق المجاورة لمنشآت حرق النفايات من آثار الحرق. و العلاج الواقعي يتحقّق عبر:

1- تقليل الإنتاج المسبّب لهذه النفايات إلى أقل قدر ممكن، و ذلك بإخراج قيمة التجمّل و ما تقتضيه السياسة

و ما تقتضيه التجارة و إرادة استعمار الشعوب عن قيمة الإنتاج. إذ الإنتاج دخله الرغبة في التجمل إلى حد الإفراط و بكثرة الاستعمال مما يعد من مصاديق الإسراف و استهداف المقاصد السياسية و استهداف الاقتصاد و التجارة حتى إذا كان على حساب الإنسان و حياته كما دخلت كل ذلك في مختلف أبعاد الحياة.

2- تحويل الإنتاج إلى المواد الصالحة و لو كلّف كثيرا.

3- محاولة تحصيل الطرق الصالحة لإبادة هذه النفايات. و قد اقترح البعض رميها في أعالي الفضاء بواسطة الصواريخ و ما أشبه ذلك، لكن أجاب الاقتصاديون عن ذلك بأنها بالإضافة إلى كونها مكلفة لا يؤمن من رجوع أضرارها إلى الأرض أيضا.

و لا يخفى أنّ الإضرار ليست خاصة بالبلاد الفقيرة المنقول إليها تلك النفايات، بل قد أدت آبار المياه في مدينة تون بولاية تينسي الأمريكية بواسطة مركّبات بعض هذه النفايات إلى إصابة سكان المدينة بأمراض في الكبد و جهاز

الفقه، البيئة، ص: 210

الدوران و إلى الشعور بالدوران و الإغماء و حالة الكسل و الترهّل. كما أدى التلوث الكيماوي الناتج عن رشّ بعض المواد السامة كالبنزين و ما أشبه ذلك و ترسبه إلى المياه الجوفية التي تستخدم في الشرب إلى حدوث حالات إجهاض كثيرة و تشوّه الأجنّة، و السرطان، و بثور جلدية بين سكان قرية «لجلر» إحدى قرى ولاية «نيوجرسي» الأمريكية، و هكذا أدت بعض هذه النفايات في بريطانيا و فرنسا و آلمانيا إلى آثار مشابهة أو مختلفة عن الآثار التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية.

و قد أظهرت دراسة أو عزتها الوكالة الأمريكية لحماية البيئة أن ما يزيد على «70%» من العدد المقدّر للبرك السطحية التي تلقى بنفاياتها الخطرة في الولايات المتحدة الأمريكية بثمانين ألف بركة

ليست مجهّزة ببطانة معيّنة تكسو جدرانها و قاعاتها من التسرّب، كما أظهرت الدراسة نفسها أن «90%» من هذه البرك قد يشكّل مصدرا لتلويث المياه الجوفية التي تنتهي أيضا إلى الإنسان و الحيوان و النبات «1».

و يتفق معظم أهل الخبرة على أنّ الحواجز الصلصالية التي تقام لاحتواء النفايات الخطرة كثيرا ما تعجز عن منع تسرّب المواد الكيماوية من مواقع دفنها إلى داخل الأرض و هو ما يؤدي إلى وصول هذه المواد إلى أحواض المياه الجوفية، فإنّ المياه الجوفية و إن كانت راكدة في أغلب الحالات لكنها تتموّج أيضا بسبب الزلازل فتصل إلى البحار و الأنهار و غير ذلك. بالإضافة إلى إنّ المياه الجوفية قد تستعمل في الجفاف بسبب الآثار الارتوازية.

و تقدر الوكالة الأمريكية لحماية البيئة تكاليف القيام بأعمال التنظيف

______________________________

(1) علما إنّ كميّة النفايات في أمريكا تقدّر بثلاثمائة مليون طن سنويا أي معادل طن واحد تقريبا لكلّ أمريكي في السنة، و هذه النفايات يتمّ إلقاؤها إمّا في البحر أو تحت الأرض أو في الجو.

الفقه، البيئة، ص: 211

الضرورية لبرك النفايات الخطرة في الولايات المتحدة الأمريكية بما يتراوح بين «20- 100» مليار من الدولارات. و تتجاوز تقديرات التكاليف اللازمة لعلاج مشكلات جمع النفايات في الدانمارك المليار دولار، و في آلمانيا الاتحادية تتعدى هذه التقديرات عشرة مليارات دولارات و هكذا بالنسبة إلى مختلف البلاد الغربية مضافا إلى اليابان و بعض البلاد الصناعية الأخرى كالهند.

و قد أشرنا إلى أنّ البلاد الصناعية أخذت تفكر في تصدير النفايات إلى الدول الفقيرة في مقابل تعويض محدود، فقد كتبت بعض الصحف البيروتية أن إيطاليا تنتج سنويا «50» مليون طن من النفايات السامة يجري التخلص من «10%» منها داخل إيطاليا و «20%» خارجها بطرق

قانونية. أما الباقي فيجري التخلص منه بطرق غير قانونية كالطريقة التي اعتمدت في لبنان.

و هناك شركات لتحميل بواخر و ناقلات و سفن بما لديها من نفايات سامة و إرسالها لتصبّ حمولاتها في جنح الظلام في قبالة شواطئ الدول الفقيرة و النامية في بعض الأحيان، و تستغل هذه الشركات الحروب الإقليمية لتنفيذ عملياتها التخريبية كما حدث في لبنان حين قامت الباخرة «زنّوبيا» بإنزال شحنة تزن «2400» طن من النفايات الصناعية السامة في أماكن متباعدة من شواطئ بيروت و قد حوّلت الصراعات اللبنانية الداخلية هذه المأساة إلى جزء من حملة اتهامات موجهة إلى عدد من الزعماء المحليّين و قادة القوات المتحاربة متّهمة إياها بالفساد و التواطؤ و التغطية على مستورد النفايات لتسهيل عملية إدخال المواد السامة إلى لبنان مقابل العمولة و بطريقة غير قانونية و دون اعتبار بصحة المواطنين و سلامة البيئة. و قد ذكر بعض المطّلعين إنّ كثيرا من الأسماك تسمّمت و نقلت هذا التسمم إلى الأهالي و حتى إلى النباتات و الحيوانات.

و قد قرأت في بعض الكتب المعنية بهذا الشأن أنّ التخلص من النفايات

الفقه، البيئة، ص: 212

الخطرة بدأ في الدول الصناعية و ذلك بتصديرها إلى الدول الفقيرة و من ثم تحولت حركة النقل العالمي من النفايات السامة الخطرة إلى تجارة هامة، و اجتذبت هذه التجارة عددا كبيرا من الوسائط و الشركات الأجرامية، حال ذلك حال المواد المخدّرة، فهناك مزارعون و هناك مصدّرون و هناك عملاء و الكل يعمل على الإضرار بالبشر، سواء الساكنين في الغرب أو في الشرق و كذلك تجار الأسلحة المحرّمة تجارة و استعمالا و ما أشبه ذلك، و المهم عند الإنسان الذي لا يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يجني

الأرباح فحسب، فقد تورّط كثير من الساسة في هذه التجارة غير المشروعة سواء بالمواد المخدّرة أو النفايات أو السلاح أو ما أشبه ذلك. فالدول الصناعية التي عجزت عن علاج مشكلة نفاياتها السامة أو لم تتحمل ميزانيّتها الضخمة تكاليف التخلص منها تناست تماما قدرة الدول الفقيرة على احتواء هذه المشكلة حتى في القرن القادم، و قد استطاعت إحدى الشركات الغربية باسم «سي سي كو» أن تحصل على عقد من قبل حكومة فقيرة تقبل بموجبه هذه الدولة «5 ملايين» طن من النفايات سنويا مقابل دولارين و نصف الدولار فقط للطن الواحد. في حين تدفع الشركات الأوربية التي تنتج النفايات السامة ألف دولار لشركة «سي سي كو» لقاء التخلص من الطن الواحد.

و قد ذكرت بعض المجلات «1» إن مؤسسة «لين داكو» في ديترويت بالولايات المتحدة الأمريكية طلبت من الحكومة الأمريكية إذنا بسحب «6 ملايين» طن من النفايات الكيماوية إلى غينيا و هي من الدول الفقيرة المتخلفة بمعدل «15 ألف» طن أسبوعيا مقابل «40 دولارا» للطن الواحد، و قد كشفت «منظّمة السلام الأخضر» المهتمة بحماية البيئة من التلوث عن

______________________________

(1) و هي مجلة الآفاق العلمية في عددها الصادر سنة 1408 ه «1988 م».

الفقه، البيئة، ص: 213

دقائق هذه الصفقة، فذكرت أن مدير البيئة في وزارة الأبحاث في الكونغو كان قد وافق على رمي مليون طن من الزيت و الأحماض و المذيبات العضوية و المخلّفات التي تحتوي على الزئبق و ما أشبه ذلك في وديان «ديوسو» ببلاده، كما وصفت صحيفة «الأمة» كثيرا من الساسة الأفارقة بأنهم مثال للجشع و نعتتهم بأنهم تحولوا إلى حيوانات من أشرس الأنواع لتواطئهم مع الشركات الأوربية في استيراد النفايات السامة بصورة غير مشروعة للقارة الإفريقية،

نظير رشاوى مغرية قدمها عملاء هذه الشركات إليهم.

و كان من المفترض أن تنقل مؤسسة سويسرية مبلغ مليون طن من النفايات من آلمانيا الغربية إلى الكونغو، و لكن الموظفين المتورطين في هذه الصفقة اكتشف أمرهم و تمّ اعتقالهم في هذه الدولة، و أفادت أنباء من سيراليون أنه ألقي القبض على قاضي سيراليوني و رجل أعمال لبناني بتهمة استيراد و دفن مواد سامة قرب العاصمة فلتاون.

و في غينيا اعتقل نائب قنصل السفارة الماليزية لتمثيله شركة أنزلت رمادا من محرقة أمريكية في جزيرة كأسا بجوار العاصمة «كوناكرين» و نقلت الإنباء المحلية أنّ الرماد أتلف الأشجار في هذه الجزيرة الخضراء و كثيرا من الحيوانات التي كانت متعلّقة بتلك الجزيرة.

و قد وصف المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة تصدير النفايات عبر الحدود «1» بأنه عارض جانبي من مخلفات التصنيع للدول المتقدمة و هو عارض بشع و غير أخلاقي و غير قانوني و غير مرغوب فيه، و لم يذكر السبب في ذلك و انه كيف ينتقل الإنسان من الإنسانية إلى هذه الحالة إلّا بسبب عدم إيمانه باللّه و اليوم الآخر، فإنّ الإيمان هو الذي يجعل الإنسان أخلاقيا و قانونيا

______________________________

(1) و هو الدكتور مصطفى كمال طلبة في بعض مؤلفاته.

الفقه، البيئة، ص: 214

و مرغوبا فيه و إلّا فالإنسان حيوان هائج و شرس فقد قتل هتلر و موسيليني في الحرب العالمية الثانية مع زعماء اشتركوا في المذابح أكثر من «75» مليون من البشر حسب بعض الإحصاءات.

هذا بالإضافة إلى تخريبهم الديار و إبادتهم الآثار و تسبب بإمراض عدد كبير من البشر «1»، و على غرار ذلك ما قتله ستالين، ففي بعض التقريرات أنه قتل «خمسة» ملايين من البشر في نظام المزارع الجماعية، و

ما قتله ماوتسي تونغ من «39» مليون من البشر مدة حكمه «2».

فإننا أمام أيّة كإرثه حصلت من عدم الإيمان باللّه و اليوم الآخر. و لم يكن ذلك بالنسبة إلى الضحايا فحسب بل بالنسبة إلى المجرمين أيضا كما قال سبحانه إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهٰا «3»، و قال سبحانه يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنَّمٰا بَغْيُكُمْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ «4»، و قد قال سبحانه:

كُلُّ امْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ «5»، و لم يكن ذلك بالنسبة إلى القبر و إلى الآخرة فقط بل بالنسبة إلى الدنيا أيضا. و في سنة 1419 م «1998 م» ذكرت مصادر صحفية قبرصية أنّ السلطات هناك أحبطت محاولة لتفريغ «20» طن من النفايات الخطرة في البحر كانت محمولة على بأخرة «زنّوبيا» لحساب شركة «جي لي» الإيطالية، و أشارت المصادر إلى إنّ آلمانيا الغربية اتفقت مع

______________________________

(1) و قد ذكرت إحدى التقارير: إنّ الاتحاد السوفياتي السابق اشترى من الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية «25» مليون من الأجزاء البشرية مثل اليد و الرجل و العين و الأذن و الأنف و ما أشبه ذلك.

(2) على حسب ما ذكرته إذاعة موسكو.

(3) سورة الإسراء: الآية 7.

(4) سورة يونس: الآية 23.

(5) سورة الطور: الآية 21.

الفقه، البيئة، ص: 215

تركيا على دفن «5» آلاف طن من المخلّفات الصناعية السامة في القسم الشمالي من جزيرة قبرص التي تسيطر عليها القوات التركية.

و قد ذكر جملة من الكتّاب إنّ كثيرا من السفن تحت غطاء عملاء غشاشون استطاعوا أن يفرغوا حمولاتها من النفايات السامة في عرض البحر مثل سفينة الشحن «بي لي كانو» التي أغرقت «200» طن من الرماد السام قبالة شواطئ هايتي و مثل سفينة عجمان جلوري التي قامت بإلقاء مجموعة من

براميل النفايات الخطرة في مياه الخليج قبالة شواطئ دولة الإمارات سنة 1409 ه «1989 م»، و قد حدث مثل ذلك في نيجريا فدخلت هذه الدولة في نزاع دبلوماسي مع إيطاليا بعد أن تبين لها أن «خمسة» شحنات من النفايات على الأقل أردمتها السفن الإيطالية في ميناء «كو كو» في جنوب البلاد، و قد اتضح أنّ هذه النفايات تحمل درجة عالية من السم و أن البعض منها يحمل إشعاعا نوويا. و لا عجب بعد ذلك أن نرى العالم بطوله و عرضه بشماله و جنوبه و شرقه و غربه و وسطه ابتلي بأمراض و إخطار غريبة لم يذكر التأريخ مثلها و قد قال الشاعر قديما:

إذا كان ربّ البيت بالدفّ، ناقرا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص

و لا تسألن عمّا أتى بنتائج من السوء مما هو خارج عن الحصر.

الفقه، البيئة، ص: 216

بين الإسراف و التلوّث

اشارة

مسألة: مما يستنزف موارد البيئة و يزيد في تلوّثها الإسراف في كل شي ء، و الإسراف عبارة عن الزيادة غير اللازمة في الشي ء الذي أصله صحيح مثل إضاءة مصباحين في الغرفة بينما لا تحتاج الغرفة إلى أكثر من مصباح واحد، فالمصباح الثاني يكون إسرافا، و هكذا بقية أنواع الإسراف كما قال سبحانه في وصف فرعون إِنَّهُ كٰانَ عٰالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ «1»، فإن فرعون كان مسرفا في مختلف شئون الحياة، في الأموال و الدماء و النساء و غير ذلك.

أما التبذير فهو ما كان أصله على غير ما ينبغي مثل أن يشعل المصباح نهارا، و إن كان كل واحد منهما يطلق على الآخر أيضا إذا كان وحده.

و قد قال سبحانه إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ الشَّيٰاطِينِ «2»، و إن الشيطان يضع الأشياء في غير مواضعها، و لم يقل ذلك

بالنسبة إلى المسرفين، فالمبذر هو أخو الشيطان من هذه الجهة. فإن الموضوع و الحكم هو أن كل واحد منهما يتصرّف في الآخر، بالقرينة، كما ذكرناه مفصلا في الأصول «3».

______________________________

(1) سورة الدخان: الآية 31.

(2) سورة الإسراء: الآية 27.

(3) أنظر كتاب الأصول: مباحث الألفاظ للإمام المؤلّف «دام ظله».

الفقه، البيئة، ص: 217

الإسراف في الماء

و هناك صور مختلفة للإسراف في مختلف المجالات و كلها مما تسي ء إلى البيئة فتستنزف مواردها، و هي محرّمة، مثل: 1- الإفراط في استهلاك المياه، فإن اللّه سبحانه و تعالى خلق الماء و جعله سبيلا للحياة و كان أول مخلوق للّه سبحانه و تعالى الماء فوضع عرشه عليه كما قال سبحانه وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمٰاءِ. «1»، و قال سبحانه وَ جَعَلْنٰا مِنَ الْمٰاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ «2»، فالنبات و الإنسان و الحيوان كلها أحياء بسبب المياه، أما بالنسبة إلى عالم الجن و عالم الملك و عالم الآخرة فلا نعرف أن الماء أيضا داخل في أسباب حياتها أم لا؟

و الشياطين قسم من الجن كما قال سبحانه كٰانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «3».

و الإسلام و إن أوجب الغسل و الوضوء لكن جعل الإسراف في استعمال الماء فيهما محرما أيضا، فقد قال رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم» في حديث مروي عنه: (الوضوء مد و الغسل صاع، و سيأتي أقوام بعدي يستقلون ذلك فأولئك على خلاف سنتي و الثابت على سنّتي معي في حظيرة القدس) «4»، و حتى أن الشرب يلزم أن يكون بدون إسراف، فإن

______________________________

(1) سورة هود: الآية 7.

(2) سورة الأنبياء: الآية 30.

(3) سورة الكهف: الآية 50.

(4) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 34 ح 7.

الفقه، البيئة، ص: 218

الإسراف في مياه الشرب يسبب أمراضا و أعراضا، و قد ورد في الحديث:

(و لو أن الناس أقلوا من شرب الماء لاستقامت أبدانهم) «1».

و هكذا من الإسراف صبّ فضل الماء الأمر الذي صار متعارفا عند جماعة من المسلمين، و ذلك محرم في الشريعة الإسلامية، و حتى بالنسبة إلى تطهير محل البول، و البول من أقذر الأشياء كما ورد في الشريعة الإسلامية و مع ذلك فإن التطهير من البول ورد انه يكون بمثلي ما على المخرج «2»، فإن الرطوبة الباقية على مخرج البول إنما تطهر بمثليه من الماء مما يكون ذلك مقدار قطرتين مثلا. و قد قال سبحانه وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «3»، فالإسراف في الأكل و الشرب و ما أشبه كلها منهيّ عنها.

و قد ورد في الطب إنّ الجسم البشري لا يستفيد من كل ما يلقى فيه من مياه الشرب و إنما يأخذ ما يلزم لكفايته ثم تبذل الكلية مجهودا كبيرا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 17 ص 190 ح 4 ب 6. و فلسفة ذلك واضحة، لأنّ الماء عند ما نتناوله، فنحن نعرض أنفسنا لمواد كيمياوية، فبواسطة الماء يدخل إلى أجوافنا أصناف من المعادن بعضها جوهري بالنسبة للصحّة و لكن كثيرا منها ليس له دور معروف في حفظ صحّتنا خاصة المواد الكيماوية التي تضاف للماء لأجل تعقيمه.

(2) فعن نشيط بن صالح عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (يجزي من البول أن يغسله بمثله) وسائل الشيعة: ج 1 ص 243 ح 7. و كذا ورد: (يجزي أن يغسل بمثله من الماء إذا كان على رأس الحشفة) الكافي: (فروع): ج 3 ص 20 ح 7. هذا و لا يخفى أنّ الإمام

المؤلف ذكر تفصيل هذه المسألة في الجزء السابع من موسوعة الفقه كتاب الطهارة ص 201. و ذكر الأقوال الأربع في هذه المسألة: 1- كفاية مسمى الغسل مرّة و هذا اختيار الجواهر و الإمام المؤلف. 2- اعتبار مثلي ما على المخرج من الماء مرة و هو قول المشهور. 3- اعتبار غسلتين في كل واحدة مثلان و هو قول الصدوق في الفقيه و الهداية. 4- غسل مرتين بما هو المتعارف من الغسل من استيلاء الماء على المحل و هو قول الشيخ مرتضى الأنصاري.

(3) سورة الأعراف: الآية 31.

الفقه، البيئة، ص: 219

للتخلص ممّا زاد عن حده، و ربما كان دخول الماء إلى غير موضعه الطبيعي في جسم الإنسان سببا للموت شرقا أو ما أشبه ذلك كما هي الحال في وصوله إلى الرئتين، ففي حديث عن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم» قال: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، يحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فعلا فثلث لطعامه و ثلث لشرابه و ثلث لنفسه) «1».

و الماء الذي يسبب سهولة الهضم أيضا يسبب مشاكل في الهضم إذا تناوله الإنسان أثناء الطعام أو على الفاكهة حتى اشتهر عند الأطباء القدماء أنهم قالوا: الماء بعد الفاكهة سم و بعد العنب اسم؛ و حال الزراعة حال بدن الإنسان فإن الإسراف في الريّ بالماء يؤدي إلى إحلال المياه محل الهواء الموجود في داخلها، ممّا ينتج عنه عجز الجذور النباتية عن التنفس فضلا عن تعفنها و تحللها بسبب تأثير المياه التي تشبعت بها حبيبات التربة، و يستطيع كل واحد أن يجرّب ذلك فإذا سقى الحديقة ماء كثيرا تكون الفاكهة فاسدة بينما إذا سقاها بقدر تكون الفاكهة

جيدة.

كما يؤدي سوء استخدام الري إلى إصابة مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية بخطر التملح و التغدّق بما يقلل من قدرتها الإنتاجية في مرحلة، و إصابتها بالعقم الإنتاجي في مرحلة أخرى، و قد قدّر بعض العلماء أن العالم يفقد سنويا بين نصف مليون و بين مليون فدّان نتيجة لتملح التربة أو تغدقها، فإن الماء الزائد يدخل إلى أعماق الأرض فلذلك تترشح الأملاح إلى ظاهرها مما يسبب سقوط الأرض عن الانتفاع. كما إن الإفراط في تصريف المياه في مجال الصناعة في التبريد أو الغسيل أو المخلّفات السائلة على المسطحات المائية يؤدي إلى تلوثها و استنزاف الأوكسجين الذائب فيها، و هو أمر يؤدي إلى

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 19 ص 187 ب 295.

الفقه، البيئة، ص: 220

هلاك الكائنات البحرية بمختلف أقسامها.

2- و كما لا يصح الإسراف في استهلاك المياه بمختلف صوره التي ذكرناها، كذلك لا يصح الإسراف و التبذير و الإفراط في استهلاك الكهرباء حيث أنه يؤدي إلى زيادة عب ء محطات التوليد الكهربائي. و معنى ذلك زيادة في استهلاك الوقود المستخدم لأغراض الإنتاج و زيادة تلوّث الهواء بسبب حرق كميات كبيرة من الوقود و زيادة استهلاك مياه التبريد لمعدات التوليد و من ثم التلوث الحراري للمسطحات المائية التي تصب فيها مياه التبريد، بالإضافة إلى أنه يسبب حرمان الأجيال الآتية من هذه النعمة التي إذا و زعت بقدر تصبح نعمة للجيل الحاضر، و لأجيال المستقبل، و قد قدّرت بنفسي الكهرباء الذي يصرف في بلد بأنه إنما يكفي لجيل واحد في الحال الحاضر حيث الإسراف، بينما إذا كان يستهلك بقدر كان يكفي لألف سنة.

3- و لا يصح الإسراف في الطعام، فإن الإنسان إذا أسرف في الطعام

لم يستطع أن يهضمه بشكل صحيح حيث يصاب بالتخمة و عسر الهضم، و المعدة بيت الداء كما إن الحمية رأس الدواء «1»، و قد ورد في حديث (إن أكثر أهل المقابر من التخمة) «2»، أي إن التخمة سبّبت لهم أمراضا و أعراضا انتهت بهم إلى القبر. و ورد أيضا عن الإمام الصادق عليه السلام: (كلّ داء من التخمة، إلّا الحمى فإنّها ترد ورودا) «3». و قد يحدث للمعدة أن تصاب

______________________________

(1) إشارة إلى الحديث الشريف: (المعدة بيت كل داء و الحمية رأس كل دواء) بحار الأنوار: ج 62 ص 290 ح 72 ب 89، و ورد أيضا: (إن المعدة بيت الداء و إن الحمية هي الدواء) بحار الأنوار:

ج 61 ص 307 ح 17 ب 47، ج 10 ص 205 ح 9 ب 13.

(2) و ورد عن أبي عبد اللّه عليه السلام: (إن كل داء من التخمة ما خلا الحمّى فإنها ترد ورودا). الكافي (فروع): ج 6 ص 269 ح 8.

(3) المحاسن: ص 447، وسائل الشيعة: ج 16 ص 411 ح 1 ب 4.

الفقه، البيئة، ص: 221

بالتوسع و التمدد نتيجة الإفراط في تناول الطعام فيفقد المرء شهيته للأكل إن تناول طعاما لم تستطع له هضما، و قد يصاب نتيجة لذلك بالإسهال أو الإمساك، كما و إن الإسراف في الطعام يؤدي إلى الجسامة و من ثم يعرّض الإنسان لأمراض القلب و ارتفاع الضغط و أمراض الكلى و السكر و الدهن و غير ذلك من الأمراض الكثيرة، و قد كان الحكام الأمويون و العباسيون يفرطون في نهمهم بالطعام و الشراب فكان بعضهم يأكل وجبة كبيرة ثم يستفرغها كلّا ليأكل مرة ثانية و ثالثة، و هذا مما سبب

موتهم دون العمر الطبيعي كما ذكرت التواريخ. و من الواضح كثرة الأمراض التي يسببها التقيؤ غير الطبيعي لأن تقيؤ المعدة بطريق الحلق يسبب ضغطا كبيرا على العروق الصغيرة المرتبطة بالعين أو الإذن أو الحنجرة أو المخ. و أما التقيؤ الذي كان ينصحه الأطباء القدامى إنما ينصحونه في أشد حالات الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات.

جاء رجل إلى رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم» و كان يتجشأ، فقال له الرسول «صلى اللّه عليه و آله و سلم»: (يا عبد اللّه اقصر من جشائك، فإنّ أطول الناس جوعا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا) «1». و عن أبي ذر الغفاري قال رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم»: (أطولكم جشاء في الدنيا أطولكم جوعا يوم القيامة) «2» و ورد مرفوعا إلى رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم» قال في كلام له: (سيكون من بعدي سمنة يأكل المؤمن في

______________________________

(1) المحاسن: ص 447، الجشاء: إخراج الريح من المعدة، و سببه إمّا كثرة الطعام أو أكل ما يوجب التجشّؤ. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال، قال رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم»:

(إذا تجشأ أحدكم فلا يرفع جشاءه إلى السماء، و لا إذا بزق، و الجشاء نعمة من اللّه، فإذا جشأ أحدكم، فليحمد اللّه عليها).

(2) المحاسن: ص 447. وسائل الشيعة: ج 16 ص 410 ح 1 ب 4.

الفقه، البيئة، ص: 222

معاء واحد و يأكل الكافر في سبعة أمعاء) «1»، و المراد بذلك أنّ الكافر يأكل كثيرا بينما المؤمن يأكل بقدر محدد.

4- هذا من جهة الإسراف في الأكل و الشرب، و أما الإسراف في الزيادة في طبخ الطعام و طهيه

فإن ذلك أيضا من ملوّثات البيئة حيث إن الزائد يلقى في القمامات. و كثيرا ما يشاهد في بلاد المترفين أن شراء المواد الغذائية يتم بالكرتون أو الصندوق الكامل و لا تستهلك العائلة كل الكمية، بل غالبا ما يفسد جزء كبير منها الأمر الذي يؤدي إلى إلقائه في سلة المهملات.

أما بالنسبة إلى الاجتماعات كحفلات العرس و المواليد و موائد العزاء و ما أشبه فقد أضحى الإسراف فيها أمرا واضحا، و تبرز خطورة سلبيات ذلك حين يتم التخلص منها في محلات القمامة خارج المدن ثم تجتمع هناك في أكوام كبيرة أحيانا تكون كالتلال إذ إن هذه النفايات قابلة للتحلل و التعفن و تمثل مصدرا للروائح الكريهة التي تحملها الرياح إلى المدينة مما تسبب الأمراض

______________________________

(1) المحاسن: ص 447. وسائل الشيعة: ج 16 ص 405 ح 3 ب 1. المعاء الواحد كناية عن الأكل قليلا، و سبعة أمعاء كناية عن الأكل الكثير، فإنّ عدد السبعة أو السبعين في لغة العرب كناية عن الكثرة. و قد وردت روايات أخرى في هذا الصدد، قال الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله و سلم»: (بئس العون على الدين قلب نحيب و بطن رغيب و نعظ شديد) وسائل الشيعة: ج 16 ص 406 ح 4 ب 1.

و قلب نحيب: القلب الذي يرغب بالدنيا.

و بطن رغيب: بطن ترغب في المزيد من الطعام.

و نعظ شديد: اعتناء الرجل بشهوته الجنسية أكثر من المقرّر شرعا و عقلا.

و ورد أيضا عن الإمام الصادق عليه السلام: (إنّ اللّه يبغض كثرة الأكل). و عن أبي الحسن عليه السلام: (لو أنّ الناس قصدوا في الطعم لاعتدلت أبدانهم) المحاسن: ص 439، وسائل الشيعة: ج 16 ص

406 ح 7. و الطعم: جمع طعام. و عن أبي الحسن عليه السلام أيضا: (إنّ اللّه يبغض البطن الذي لا يشبع) المحاسن: ص 446.

الفقه، البيئة، ص: 223

و الأعراض فضلا عمّا توجب من الأذى. هذا بالإضافة إلى أن مثل هذا النوع من النفايات يعتبر عاملا لجذب الحيوانات و الفئران و هوام الأرض المختلفة، فإنها تكون بمثابة مزرعة خصبة لتوالد شتى أنواع الجراثيم و المكروبات التي تصدر العديد من الأوبئة و الأمراض للمدن المحيطة. و حتى إذا تم التخلص من هذه النفايات الغذائية بطرق تقليدية مثل الدفن أو الحرق فإن المخاطر البيئية الناجمة عنها تظل قائمة، و تتمثل هذه المخاطر بتسرب عصارات النفايات بعد تحللها إلى التربة، فتنتهي إلى المياه الجوفية و تؤدي إلى تلوثها و تلوث من استعملها، بالإضافة إلى انتشار الروائح الكريهة المنبعثة من مصب النفايات و تكاثر الذباب و الجراثيم.

و الاحتراق الذاتي للنفايات أيضا يسبب محاذير لأن الهواء يتلوث بنتائج حرق النفايات، كما إنّ عملية الحرق نفسها تؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأراضي و المنطقة المحيطة مما يجعل الهوام من الثعابين و غيرها من الفئران تخرج من جحورها زاحفة نحو المدينة، هذا بالإضافة إلى بوار الأرض التي تلقى فيها النفايات و عدم صلاحيتها للاستغلال بعد دفن النفايات فيها إلّا بعد فترة طويلة.

أما إذا أريد تبديل النفايات إلى مواد صالحة فإنها أيضا مكلفة، فمن المثل المشهور: لماذا يقول المرء شعرا حتى يبتلي بقافيته و بسجعه و وزنه، فلما ذا نسرف حتى نبتلى بنتائج الإسراف المكلفة ماليا و المسبّبة للتلوّث معنويا.

5- و من موارد الإسراف، الإسراف في التجمل لأنه يوجب إسرافا في المادة و في العمل اللازمين لصنع مواد التجمل؛ صحيح (إن اللّه جميل يحب

الجمال) كما ورد في الحديث «1» و ذلك مستحب لكن بالقدر المقرر شرعا،

______________________________

(1) الكافي (فروع): ج 6 ص 438 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3 ص 331 ح 64.

الفقه، البيئة، ص: 224

إذن الإسراف في الجمال أيضا كالإسراف في سائر الأشياء، فقد قال سبحانه:

وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. «1». هذا بالإضافة إلى أنه صرف للنقد الزائد و هو إسراف من حيثيات متعددة «2».

______________________________

(1) سورة البقرة: الآية 143.

(2) إنّ الإسراف في الاستهلاك في الوقت الحاضر يعتمد على استراتيجيات ثلاثة: 1- إيجاد احتياجات جديدة غير ضرورية 2- تنشيط الرغبة في تلبيتها باستخدام الدعاية 3- فتح أسواق تصدير جديدة و خفض مدّة بقاء السلع أو خفض مستوى المواد المستخدمة كمّا و كيفا، فعلى سبيل المثال: إنّ السيّارات تصدأ بأسرع من ذي قبل، و إنّ الأبنية الحديثة التي تقام في ضواحي مدننا لن تدوم، و إنّ الملايين التي تبتلعها إنشاء محطّات توليد الطاقة النووية يجب أن تستهلك تمام الاستهلاك في غضون عشرين أو ثلاثين سنة بالنظر إلى أنّ مدّة بقاء هذه المنشآت تتناسب عكسيا مع حجمها و تكلفتها.

هذا و قد سبب الإسراف في الاستهلاك إلى تراكم النفايات لتسارع عمليّات الإنتاج و الاستهلاك، ففي أمريكا يطرح الفرد من الفضلات بما يساوي وزنه عشرين مرّة وزن الفرد في السنة. و في فرنسا يطرح سنويا 750 ألف سيّارة و 500 ألف متر مكعّب من الأجهزة المنزلية العاطلة.

و لأجل القضاء على الإسراف في الاستهلاك، لا بدّ من إعادة استخدام المواد و دورتها، و يعتمد ذلك على مجموعة من الخيارات: أ. اجتناب استخدام السلع غير الأساسيّة ب. استخدام المنتج مرّة أخرى، كإعادة مل ء الأوعية الزجاجية التي تعبأ فيها الأشربة ج. إعادة دورة المواد لتشكيل

منتج جديد بعد طرح المواد المتبقية في حفر ثمّ تردم، و إنّ إعادة دورة المواد يمنع استخدام المواد البكر إلّا لتعويض أية كمية تفقد في الاستخدام و إعادة الدورة. و كذلك يوفّر في الطاقة، فإنّ الصلب المنتج من الخردة يتطلّب ثلث الطاقة التي يتطلّبها الصلب المنتج من خام الحديد، و يخفّض تلوّث الهواء بمقدار 85% و تلوّث الماء بمقدار 76% و يمحو نفايات التعدين كلية. و الورق المصنوع من الورق المعاد يستلزم ربع الطاقة ممّا يستلزمه الورق المصنوع من لبّ الخشب، و يخفّض تلوّث الهواء بمقدار 74% و تلوّث الماء بمقدار 35%. و كذا الزجاج يستهلك ثلثا الطاقة التي يتضمّنها صنع المنتج الأصلي، و إنّ القارورة الواحدة إذا استخدمت عشرة مرات تؤدّي إلى خفض الطاقة بمقدار 90% لكلّ قارورة. د. تبسيط التعبئة الغذائية عبر وضع قواعد تنظيمية للتعبئة، فإنّ كثيرا من الدول تقوم بالإسراف في التعبئة و التغليف إلى ثلاثة أو أربعة أغلفة، أو استعمال أوعية رقيقة للتعبئة، فمن المحبّذ استخدام أكياس قماش أو نايلون متينة و لمرّات متعدّدة بدل أكياس النايلون التي تستعمل لمرّة واحدة. و كذا من المحبّذ توحيد أحجام علب التعبئة و إعادة استخدامها مرّات عديدة بعد تنظيفها و إزالة البطاقات القديمة الملصقة عليها بالبخار و لصق بطاقات جديدة. ففي الدانمارك منعت الحكومة عام 1977 م استخدام قناني المشروبات الغازية التي تلقى بها بعد استعمالها مرّة واحدة، و ذلك حتّى تصنع المعامل قناني صالحة للاستعمال عدّة مرّات. و في آلمانيا ضغطت الحكومة على أصحاب المصانع ليتحملوا المسؤولية عن النفايات المتولّدة من منتجاتهم و من مواد التعبئة ممّا حدا بأصحاب المصانع فكّ مكوّنات منتجاتهم و إعادة استخدامها.

الفقه، البيئة، ص: 225

6- و من

الإسراف أيضا، الإسراف في النظافة حتى إن الشارع المقدس حرّم الوسوسة مع أنه من التنظيف المتزائد بالنسبة إلى غسل الملابس و غسل البدن و غسل الأشياء، فقد جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام قائلًا له: فلان رجل عاقل لكنه وسواسي. فقال له الإمام الصادق عليه السلام إنه: (أي عقل له و هو يطيع الشيطان) «1».

7- كما إن موارد الإسراف أيضا، الإسراف في الجنس سواء بالتعدد الذي لا تطيقه حالة الإنسان أو بالتكرر في العمل الجنسي و هذا من أخطر الأشياء على البدن، فقد قال ابن سينا:

احفظ منيّك ما استطعت فإنه ماء الحياة يصب في الأرحام

و في الروايات النهي عنه بالإضافة إلى الأدلة العامة التي تشمل هذه الصغرى و سائر الصغريات.

8- و من موارد الإسراف، الإسراف في الإمناء سواء كان حلالا أو حراما فإنه يسبب ضعفا في البصر و السمع و التفكير و التكلم و الأعصاب،

______________________________

(1) الكافي (أصول): ج 1 ص 12 ح 10. و نصّ الحديث عن عبد اللّه بن سنان قال ذكرت لأبي عبد اللّه عليه السلام رجلا مبتلى بالوضوء و الصلاة، و قلت هو رجل عاقل، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: (و أيّ عقل له و هو يطيع الشيطان. فقلت له: و كيف يطيع الشيطان؟ فقال عليه السلام: سله هذا الذي يأتيه من أيّ شي ء هو، فإنّه يقول لك من عمل الشيطان).

الفقه، البيئة، ص: 226

و يسبب أيضا داء المفاصل و داء القلب و ما أشبه ذلك.

و النهميون الشهوانيون كثيرا ما يستعملون أدوية منشطة للجنس لكنهم لا يعقلون أن استعمال المنشطات يسبب العنة في أواخر العمر، و قد ذكر المؤرخون أن من أسباب موت من سمّوا بالخلفاء و الأمراء المبكّر

و أمراضهم الكثيرة كان هذا الأمر، حيث كانوا يفرطون في هذا الشي ء إفراطا فوق التصور، فقد كان هارون العباسي و المأمون العباسي و الخليفة العثماني عبد الحميد يملك كل واحد منهم أربعة آلاف من الجواري. و كذلك ذكروا في قصر الملك الفارسي كسرى «1»، و مثل هذا لا يعدو الإنسان أن يكون بهيمة كما قال الإمام علي عليه السلام: (ابني: إنّ من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر) «2».

و لا يخفى أنّ الإسراف في الإمناء غير الإسراف في الجماع إذ يمكن أن يكون هذا بدون أمناء و هو أيضا ضار بالبدن أيضا ضررا كبيرا لأنه يسبب تهييج الأعصاب تهييجا متزايدا. و التهييج يضرّ الأعصاب و ما تعلق بها. و قد ألمعنا إلى هذا المبحث في كتاب فقه الأسرة.

9- كما إن من الإسراف، الإسراف في العقوبة سواء كان تأديبا أو قصاصا أو غير ذلك و من مصاديقه الحروب العدوانية، قال سبحانه وَ إِذٰا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّٰارِينَ «3»، و قال سبحانه وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «4»، فإنّ الإسراف في العقوبة مهما كان

______________________________

(1) حيث ذكروا إنّ له أربعة آلاف جارية، للمزيد راجع كتاب: تجارب الأمم لابن مسكويه.

(2) ديوان الإمام علي عليه السلام: ص 182.

(3) سورة الشعراء: الآية 130.

(4) سورة الإسراء: الآية 33.

الفقه، البيئة، ص: 227

نوعها سواء كان قتلا أو غير قتل، تعذيبا أو غير تعذيب، غرامة أو غير غرامة، حبسا أو غير حبس، حرمانا عن الحقوق أو غيرها. كلها انحراف عن سنن اللّه سبحانه و تعالى و تسبب إضرارا للبيئة و غير البيئة، للإنسان و غير الإنسان، فإن الإنسان ملزم بالرفق حتى بالحيوان فلا يحق له معاقبة

الحيوان أكثر مما يستحق إذا فرض استحقاقه العقوبة، فقد رفع الإمام السجاد سوطه ليضرب ناقته التي غيرت طريقها في سيرها، لكنه لم يضر بها، فقيل للإمام عليه السلام لماذا لم تضربها؟ فقال الإمام عليه السلام: (خاف القصاص) «1».

و قد قال الإمام على عليه السلام: (فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع و البهائم) «2» فإن الإنسان مسؤول عنها كما أشرنا إلى بعض تفصيل ذلك في كتاب الفقه في باب الصدقات «3».

10- و من الإسراف أيضا، هدر الأموال الكثيرة في صنع و شراء الأسلحة الفتّاكة، فمثلا البلاد الفقيرة أنفقت 146 مليار دولار على القطّاع العسكري سنة 1404 ه «1984 م» و زاد هذا الإنفاق سنة 1407 ه «1987 م» عن معدّل سنة 1380 ه «1960 م» 5، 7%، فيجب اتّباع مسار جديد في التخطيط و التنمية يقلّل من الإنفاق العسكري خاصّة بعد انتهاء الحرب الباردة.

11- و من الإسراف أيضا، الإفراط في الاستفادة من ثروات الطبيعة و منها الأرض عبر الرعي حيث يقوم الإنسان بالاستغلال الزائد للمراعي و الأراضي الزراعية، فإن عمله هذا يؤدي به إلى إزالة الغطاء الأخضر الذي

______________________________

(1) الكافي (أصول): ج 2 ص 331 ح 6، ج 2 ص 335 ح 23.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 9 ص 288 ب 168.

(3) للمزيد راجع موسوعة الفقه: ج 60 كتاب الوقوف و الصدقات و السكنى و السبق و الرماية.

الفقه، البيئة، ص: 228

يكسو سطح الأرض، و من ثم تتحول التربة إلى رمال متحركة و تصبح المراعي و المناطق الزراعية امتدادا يضاف للصحراء التي تزحف بكثبانها الرملية على هذه الأماكن و قد تقضي على البقية الباقية من الحرث و النسل، إلى غير ذلك من صور الإسراف

الذي يؤثر سلبا على البيئة مما اعتاده الناس خصوصا أولئك الذين خرجوا عن مظلّة الأنبياء و وحي السماء، سواء كان خروجا مطلقا كالشيوعيين أو خروج في الجملة كاليهود و المسيحيين أو خروجا على نحو المعصية و المخالفة كما نشاهده عند الكثير من المسلمين في الحال الحاضر حيث لا يهتمون بالأوامر الإسلامية التي تصلح دينهم و دنياهم، و بذلك نَسُوا اللّٰهَ فَأَنْسٰاهُمْ أَنْفُسَهُمْ «1»، فإن نسيان اللّه تعالى يشمل الأقسام الثلاثة «2».

و معنى «نسيان اللّه» أن الإنسان لا يلاحظ رقابته عليه و جزاءه في الآخرة على أعماله، كما يقول سبحانه في الآخرة الْيَوْمَ نَنْسٰاكُمْ كَمٰا نَسِيتُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا. «3».

______________________________

(1) سورة الحشر: الآية 19.

(2) الخروج مطلقا أو جملة أو معصية.

(3) سورة الجاثية: الآية 34. هذا و يجب القضاء على الإسراف عبر تعديل أنماط الاستهلاك و تعديل النظام الاقتصادي بحيث لا يكون استهلاك الموارد على حساب الأجيال القادمة و يجب اتّباع القانون الإلهي العام من: إنّ فضلات أحد الكائنات الحيّة هي أسباب حياة كائن حيّ آخر. و هذا القانون لو طبّق، فإنّه يساهم بدور فعال في إيجاد مورد غذائي للحيوانات و النباتات.

الفقه، البيئة، ص: 229

إهلاك الحرث و النسل

اشارة

مسألة: من أشد المحرمات إهلاك الحرث و النسل. قال سبحانه و تعالى:

وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ يُشْهِدُ اللّٰهَ عَلىٰ مٰا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصٰامِ. وَ إِذٰا تَوَلّٰى سَعىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهٰا وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ الْفَسٰادَ «1». و قد ذكر بعض المفسرين في تفسير الآية أنها نزلت في الأخنس بن شريق الذي أقبل على النبي «صلى اللّه عليه و آله و سلم» و أظهر الإسلام لكنه كان خبيث

النفس منحرف الذات منافق العقيدة، فلما خرج من عند النبي مرّ بزرع فأحرقه و حمر فعقرها فذكره اللّه سبحانه و تعالى و وصفه بأنه من ألدّ المخاصمين للنبي و للإسلام لما قام به من فساد و إهلاك للحرث و النسل، كما أشرنا إلى ذلك في بعض التفاسير «2» و قد ذكرنا إنه يفهم من هذه الآية عدم جواز إهلاك نسل الحيوان مهما كان حيوانا عاديا سواء كان الإهلاك بالأكل أو بالإتلاف، و هذا ما تعمله الحكومات من الحجر على صيد الحيوانات النادرة الوجود، و المفسد من عادته الإفساد في أية صورة كانت كفساد فرعون أو قارون أو هامان أو الحجاج أو غيرهم كادعاء كاذب للألوهية أو البغي في الأرض بغير حق أو إتيان الرجال أو اكتناز المال و عدم إعطائه للمحتاجين و الفقراء بالقدر الشرعي. إلى غير ذلك من صور

______________________________

(1) سورة البقرة: الآيات 204- 205.

(2) أنظر تقريب القرآن إلى الأذهان للإمام المؤلف «دام ظله».

الفقه، البيئة، ص: 230

الفساد و الإفساد و التي منها ما ذكره سبحانه إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ «1»، كما ذكر الفقهاء في كتاب الحدود.

و في الحال الحاضر نجد الانحراف نفسه موجودا لكن بصورة أعجب و تصحبه مآس و آلام رهيبة أحيانا عديدة مثل اتخاذ الحرب الجماعية التي بسببها يقتل الناس بالأسلحة الميكروبية و الجرثومية و القنابل الذرية و القنابل النيتروجينية و ما أشبه ذلك.

و قد رأينا في إيران كيف أنّ صداما قتل الناس الآمنين بصواريخه الفتاكة، فأهلك حتى الأطفال الرضع و النساء و الكبار سنا و أحرق المزارع

و المصانع و ما أشبه ذلك. و قد دكّ مدينة قم المقدسة بالقنابل، فقتل بها رجل الدين و الرجل العادي و كبير السن و صغير السن و غيرهم، و لما قيل له إن هؤلاء رجال آمنون و ليس في قم ثكنة عسكرية و لا مصنع عسكري و لا أيّ مرفق هام! أجاب: قم هي بؤرة التخلّف العقلي.

نعم، من الخطوات التي يتبعها الاستعمار لأجل إذلال المسلمين و شق صفوفهم قيامه بحربهم من عدّة جهات: يحارب الإمام الحسين عليه السلام و شعائره لأن الإمام الحسين ثورة تتجدد في كل زمان، و يحارب المراجع العظام و الحوزات العلمية لأنّ هؤلاء هم الذين يسببون يقظة الناس و هدايتهم إلى العقيدة الصحيحة و الأخلاق الصحيحة و العمل الصحيح و هم الذين يحضّون الناس و يحذرونهم من الرضوخ للظلم و الظالم، و يحارب الاقتصاد و المال حتى

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 33.

الفقه، البيئة، ص: 231

يكون الناس فقراء فيكونون لقمة سائغة في يد المستعمرين، و يحارب الحريات حتى لا يكون هناك نور بل يعيش الناس في ظلام دامس و لا يعرفوا كيف يتصرف عملاء المستعمرين أخذا و عطاء و نهبا و إفسادا، و يحارب العلم لأن العلم نور و يسبب علو شأن الناس، و المستعمرون لا يريدون رفعة الناس، فقد رأينا مثل ذلك كثيرا في العراق أيام صدام فإنه قطع نخيل العراق التي هي ثاني ثروة في البلاد بعد النفط و تقدر الأشجار التي قطعها «29 مليونا» من أصل «32 مليون» فلم يبق إلّا «3 ملايين». فتراجع العراق من المرتبة الأولى في تصدير التمر إلى المرتبة السادسة، هذا و قد ورد في توحيد المفضّل خلق اللّه الإنسان و خلق الأرض لسكناه،

كما ورد في القرآن أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهٰاداً «1»، أَحْيٰاءً وَ أَمْوٰاتاً «2» و جعلها مناسبة و ملائمة لحياته بمختلف شعبها و أبعادها فأنبت له الشجر و الزرع و أجرى له الأنهار و سخر له الليل و النهار و الشمس و القمر و زوده بنعمة العقل و جعل الطبيعة في خدمته و جعل له جميع حوائجه في حال صحته و حال مرضه في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه و منكحه و مركبة، فقد قال سبحانه أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهٰاداً.

وَ الْجِبٰالَ أَوْتٰاداً. وَ خَلَقْنٰاكُمْ أَزْوٰاجاً. وَ جَعَلْنٰا نَوْمَكُمْ سُبٰاتاً. وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبٰاساً. وَ جَعَلْنَا النَّهٰارَ مَعٰاشاً. وَ بَنَيْنٰا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدٰاداً. وَ جَعَلْنٰا سِرٰاجاً وَهّٰاجاً. وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ الْمُعْصِرٰاتِ مٰاءً ثَجّٰاجاً. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَبٰاتاً.

وَ جَنّٰاتٍ أَلْفٰافاً «3»، و قال في آية أخرى:

______________________________

(1) سورة النبإ: الآية 6.

(2) سورة المرسلات: الآية 26.

(3) سورة النبإ: الآيات 6- 16.

الفقه، البيئة، ص: 232

وَ لَقَدْ جَعَلْنٰا فِي السَّمٰاءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنّٰاهٰا لِلنّٰاظِرِينَ. وَ حَفِظْنٰاهٰا مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ. إِلّٰا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ مُبِينٌ. وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ. وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرٰازِقِينَ. وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلّٰا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.

وَ أَرْسَلْنَا الرِّيٰاحَ لَوٰاقِحَ فَأَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَسْقَيْنٰاكُمُوهُ وَ مٰا أَنْتُمْ لَهُ بِخٰازِنِينَ. وَ إِنّٰا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوٰارِثُونَ «1»، و من الواضح إن خزائن الأرض هي التي تولدها الماء و الهواء و الأرض و النور و الحرارة، و لذا كان عند اللّه سبحانه و تعالى خزائن كل شي ء،

و لكنه لا ينزله إلّا بقدر معلوم يناسب البشر زيادة و نقيصة مع سائر الملاحظات المذكورة في هذا الباب فالكون بمجموعه بيئة كبرى خلقها اللّه سبحانه و تعالى في حالة توازن و اتزان، اتزان في الحركة و السكون و اتزان في الحرارة و البرودة و اتزان في الجاذبية و القوة الطاردة، و اتزان في ما فوق الهواء المحيط بالأرض و اتزان في المجالات الكهربائية و المجالات المغناطيسية و المجالات الأخرى في الحركة و السكون، و لذا قال سبحانه وَ لَهُ مٰا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ «2»، و قال سبحانه أَ لَمْ تَرَ إِلىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شٰاءَ لَجَعَلَهُ سٰاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا. ثُمَّ قَبَضْنٰاهُ إِلَيْنٰا قَبْضاً يَسِيراً «3».

و اتزان بين الماء و التراب و اتزان حركة الموت و الحياة و كل شي ء و شي ء.

و على أيّ حال فقبل ملوثات الصناعة الحديثة كان الهواء و الماء و كل شي ء نقيا خاليا من التلوث و الفساد، لكن امتدت يد الإنسان إلى مياه الأنهار و البحار و البحيرات و المحيطات و المياه الجوفية فراح يلوّثها بما يلقيه فيها من

______________________________

(1) سورة الحجر: الآيات 16- 23.

(2) سورة الأنعام: الآية 13.

(3) سورة الفرقان: الآيات 45- 46.

الفقه، البيئة، ص: 233

مخلّفات. و هناك بعض الأنهار و البحار التي فسدت تماما و لم تعد صالحة للاستعمال شربا أو صناعة أو ما أشبه ذلك، و لا يقتصر خطر تلوث المياه على ذلك فحسب بل إنها تمتد لتكون سببا في إبادة الأسماك و الحيوانات و الأحياء البحرية بل و الطيور و ما أشبه ذلك مما تعيش على حيوانات البحر.

بل شمل أيضا فساد الغابات حيث قام الإنسان الصناعي الذي

لا يراعي اللّه و اليوم الآخر بتعرية الأرض من غاباتها الكبرى. و قد ذكروا إنّ الحزام الاستوائي الأخضر الذي كان يمتد عبر القارات بمساحة تبلغ ستة عشر مليون كيلو مترا مربعا تراجعت الآن إلى ثمانية ملايين كيلومترا مربعا فقط، و أخذ أيضا هذا في التناقص مما أدى إلى جرف التربة و تصحرها بحيث أصبحت غير صالحة للزراعة بتاتا. و الغابات الاستوائية التي كانت تعتبر بمثابة رئة العالم تعرّضت للاستتراف و التدمير من وجهة النظر البيئية و الاقتصادية. و في بعض التقريرات إن «14%» من الغابات الاستوائية ستختفي في نهاية هذا القرن نتيجة لزيادة معدل الاستنزاف، أما إذا أضيف إلى ذلك التغيرات المناخية و الحرائق التي لا تفتأ تفتك بمساحات واسعة من الغابات فتبيدها عن بكرة أبيها، فيمكن أن تصل النسبة إلى النصف و ما معدله تصحر أكثر من «20 مليون» هكتار سنويا. و كل ذلك سبب لانقراض «25 ألف» نوع من النبات و «1000» نوع من الحيوانات في غضون العشرة الأعوام القادمة أو أقل من ذلك، كما يحدّثنا بذلك الخبراء.

الصيد غير المنظم

و إذا كان تلوث البيئة سببا رئيسيا من أسباب إهلاك الحرث و النسل،

الفقه، البيئة، ص: 234

فإن الصيد غير المنظّم للحيوانات البحرية و الطيور و الغزلان سبب آخر من أسباب إبادة أنواع شتى من النسل، و قد تعرّضت حيوانات كثيرة لخطر الانقراض بسبب عمليات الصيد غير المسؤول مثل حيوان وحيد القرن و الضباع و الغزلان و بعض الحيتان و بعض الفراشات و العصافير و الطيور.

و قد أسهم التلوث بالمبيدات الحشرية في زيادة المشكلة و في القضاء على عدد كبير من المخلوقات. و يتفنن الإنسان غير المؤمن باللّه و اليوم الآخر إيمانا كاملا في طرق الصيد

الجائر من استخدام البنادق الأوتوماتيكية إلى الحراب المسمّمة و المفرقعات و السموم خاصة في صيد الأسماك و الأحياء البحرية الأخرى حيث يلجأ بعض هؤلاء إلى استخدام هذه المواد نظرا لوفرة محصول الصيد الناتج عن استعمال هذه المواد. و لجأ بعض الصيادين إلى استعمال المفرقعات في صيد الأسماك و ينتج عن التفجير موجة تتخلل في مركز الانفجار، ثم موجة ضغط حول المركز و تستمر الموجة الأخيرة في انتقالها إلى مدى كبير، و يؤدي التخلخل و الضغط الناتجين عن تلف الجهاز العصبي للأسماك بمختلف أنواعها و عدم قدرة هذه الأحياء البحرية في السيطرة على مثاناتها الهوائية التي تحافظ على توازنها في الماء فيؤدي إلى اضطراب حركتها و طفوها فوق سطح الماء أو غوصها إلى القاع و موتها، و قد شاهدت في مدينة سامراء قبل ثلاثة عقود من الزمن استعمال المواد السامة في نهر دجلة فكانت الأسماك الكبيرة تطفو على الماء و هي في حالة شبه إغماء فيصيدها الصيادون، و يلاحظ بعد التفجير وجود كميات كبيرة من الأسماك مختلفة الإحجام تطفو على سطح الماء و هي تقوم بحركات عشوائية و قد فقدت السيطرة تماما على توازنها مما يسهل صيدها.

كما إنّ استعمال السموم يؤدي إلى استهلاك كمية كبيرة من

الفقه، البيئة، ص: 235

الأوكسجين الذائب في الماء أثناء عملية الانفجار و يؤدي ذلك إلى نقص في كمية هذا العنصر الحيوي مما يسبب اختناق الكائنات البحرية.

كما إنّ التفجير يسبّب ارتفاع درجة حرارة المياه بالإضافة إلى إن موجات الضغط التي تتجه صوب قاع البحر بعد عملية التفجير تؤدي إلى تقليب الرواسب الموجودة في القاع، و هذه الرواسب تحتوي على المعادن الثقيلة كالرصاص، و عندئذ تزداد نسبة هذه المعادن السامة في الماء

و بالتالي يزداد تأثيرها الضارّ على الكائنات البحرية، و هي لا تشمل الأسماك وحدها بل تشمل أيضا بيوضها و الأحياء البحرية الأخرى، و هذا ما يؤدي إلى تناقص أعدادها و يعرّضها للاندثار و الانقراض. و الطيور التي تأكل أمثال هذه الأسماك الصغيرة أو غير الصغيرة أيضا تصاب بالأمراض المختلفة، و التي تنتقل إلى الإنسان بالنتيجة، و قد أشرنا سابقا إلى مخاطر المواد المبيدة مثل انتشار مادة «دي دي تي» و غيرها من المبيدات المؤلفة من مواد الكلور العضوية التي تسبب تناقصا غريبا في أقسام من الطيور الغواصة، و أصناف عديدة من الطيور اللاقطة و طيور البحر و عدد كبير من أصناف الأسماك، فإن المحيطات هي المستودع النهائي الذي تتراكم فيه مادة «دي دي تي» أو مخلفاتها، و قد انتهى إلى هذه المحيطات ما يقرب من «25%» من كل المبيدات التي أنتجت حتى هذا اليوم، فإنّ كمية هذه المادة في الأحياء المائية أقل بقليل من الناتج الكلّي.

و قد أثرت هذه المادة في البيئة المائية، و بذلك تناقص أعداد السمك اللازم للغذاء، و تزايد تراكيب «دي دي تي» في لحمه مما يجعله غير مناسب للاستهلاك الإنساني و لا بد و أن يتسارع إذا استمرت عملية رمي هذه المادة في البيئة. و حسب بعض الإحصاءات هناك ما يقارب من نصف مليون مركب

الفقه، البيئة، ص: 236

صناعي في الاستخدام. و في الوقت نفسه لا يمكن للإنسان التنبؤ بخواص معظم هذه المركبات و تأثيراتها متى أطلقت إلى البيئة. و هي تهدد بقاء ما لا يقل عن «180 نوعا» من الحيوانات الولودة و «350 نوعا» من أصناف الطيور و «20 ألف» نوعا من أنماط النباتات، علما أن هناك من يتأسّف

على هذه النتيجة و لكنه يقول إن حياة الإنسان أهم من بقاء الصقر أو الأزهار أو النباتات الأخرى أو الأسماك نعم إن حياة الإنسان أهم لكن اللازم أن يذكّروا أنّ بقاء الإنسان يعتمد على هذه الشبكة المرتبطة بالكائنات الحية و مقاومتها للفناء و التي يلعب فيها بقاء الصقور و الأزهار و الحيتان و ما أشبه ذلك دورا هاما، فإنه ليس تدمير البيئة بالكامل هو الذي يجلب الكارثة للإنسان فحسب، بل إن استمرار الإنسان على الوتيرة الحالية من قطع النباتات و استصلاح المستنقعات و طرح كميات كبيرة من المبيدات و النظائر المشعّة و البلاستيك و الفضلات البشرية و المخلّفات الصناعية في الهواء و الماء و التربة من أجل جعلها غير ملائمة للأصناف الحياتية التي تؤثر على استقرار هذه البيئة و بقائها، هو الآخر يدمر البيئة و يسبب الكارثة لكن بالتدريج.

إن دور الإنسان الصناعي الذي لا يلتزم بتعاليم السماء كحيوان هائج في دكان لبيع الخزف مع فارق واحد هو أن الثور إذا امتلك نصف المعلومات عن خصائص الخزف التي نمتلكها نحن عن النظام البيئي سيحاول تعديل تصرّفه بالنسبة إلى البيئة بدل أن يطلب العكس.

و على النقيض من ذلك إنّا نرى إنّ الرجل الصناعي اليوم مصمّم على أن يكيّف الخزف الصيني المحيط به معه. و لذلك فقد وضع نصب عينيه أنّ يحطم هذا النوع من الخزف و يدمّره إلى قطع متناثرة في أقصر وقت.

و قد ذكر الأخصائيون أنه سوف تنضب الاحتياطيات الحالية لغالبية

الفقه، البيئة، ص: 237

المعادن خلال ال «50 عاما» القادمة إذا بقي معدل الاستهلاك كما هو عليه الآن، و من الواضح أنّ هناك اكتشافات جديدة و تطورات في عمليات التعليم لكن هذا التطور سيعطينا فترة

زمنية محدودة فقط و لن تساعدنا المواد الاصطناعية أو البديلة حيث إنها ستصنع من مواد هي في الأصل عرضة أيضا للنضوب، بينما لن يحلّ المشكلة توفر الطاقة. و قد ذكرنا في السابق علاج أمثال هذه الأمور، و إذا لم تحل فستكون الكارثة و العياذ باللّه.

ثم لا يخفى إنّ تلوث الغلاف الجوي مشكلة كبرى تواجه جميع دول العالم بشرا و نباتات و حيوانات إذ تنبعث في الهواء مواد كيمياوية عديدة من مصادر طبيعية من صنع الإنسان و تشمل الانبعاثات من المصادر الطبيعية و المصادر الحية و غير الحية مثل نباتات تحلل الإشعاع و حرائق الأحراج و الانفجارات البركانية و الانبعاثات من الأرض و المياه، و تؤدي هذه الانبعاثات إلى تركيز طبيعي يختلف تبعا للمصدر المحلي للانبعاث و أحوال الطقس السائدة، فقد تسبب الإنسان في تلوث الهواء من قديم الزمان بسبب استخدام النار، إلّا أنه ازداد بسرعة منذ بداية عصر التصنيع و خصوصا في النصف الثاني من هذا القرن.

و كشفت البحوث طوال العقدين الكاملين أنه بالإضافة إلى ملوثات الهواء الشائعة كأكسيد الكبريت و النتروجين و المواد الدقيقة و الهيدروكربونات و أول أكسيد الكربون تنبعث من الغلاف الجوي مركبات عضوية متطائرة.

و بالرغم من معرفتنا بطبيعة الملوثات للهواء و كميتها و سلوكها و آثارها فقد ازداد استعمالها كثيرا في السنوات الأخيرة بسبب تدخل السياسة و الاقتصاد في هذا الأمر.

ففي سنة 1411 ه «1991 م» أطلق في الهواء حسب بعض

الفقه، البيئة، ص: 238

الإحصاءات «99 مليون» طن من أكاسيد الكبريت و «68 مليون» طن من أكاسيد النتروجين و «57 مليون» طن من المواد الدقيقة العالقة و «72 مليون» طن من أول أكسيد الكربون من مصادر ثابتة و متنقلة، و

تساهم بلدان منظمة التعاون و التنمية في الميدان الاقتصادي بنسبة «40%» من أكاسيد الكبريت و نحو «52%» من أكاسيد النتروجين و «71%» من أول أكسيد الكربون و «23%» من المواد الدقيقة العالقة المنبعثة في الغلاف الجوي و يساهم باقي العالم في النسبة الباقية.

و توضح البيانات أنه بالرغم من وصول حجم انبعاثات أكاسيد الكبريت إلى ذورتها التي قاربت «115 مليون» طن في سنة 1390 ه «1970 م» إلّا أنها انخفضت إلى «99 مليون» طن في سنة 1410 ه «1990 م» نتيجة الانخفاض الملحوظ في انبعاثات أكاسيد الكبريت في بلدان منظمة التعاون و التنمية في الميدان الاقتصادي. و بالمقابل فقد ارتفعت انبعاثات أكاسيد الكبريت في بقية العالم من «48 مليون» طن إلى «59 مليون» طن خلال الفترة نفسها.

و قد خلص تقييم النظام العالمي للرصد البيئي إلى أن «900 مليون» شخص تقريبا يعيشون في مناطق حضارية في العالم يتعرضون الآن إلى مستويات غير صحية من ثاني أكسيد الكبريت، و إن ما يزيد عن مليار شخص يتعرّضون لمستويات مفرطه من العوالق.

تلوث البيئة الداخلية

ثم إنّ تلوّث الهواء ليس قاصراً على البيئة الخارجية، و رغم إن تلوث

الفقه، البيئة، ص: 239

الهواء الداخلي كان معروفا منذ عصور ما قبل التأريخ، و إن ارتفاع تجهيزات تلوث الهواء استمرت كجزء من واقع حياة الناس الذين يعيشون في المناطق الفقيرة، و الذين يطهون أطعمتهم و يستفيدون من نيران وقودها الفحم و الحطب و الروث و من المخلّفات الزراعية في مختلف شئونهم، إلّا إنّ مشكلة تلوّث الهواء الداخلي أصبحت مؤخرا أمرا يبعث على القلق و يوجب الأمراض المختلفة و أحيانا الموت، و لقد استخدمت عبارة «متلازمة المباني المريضة» لوصف المباني التي يتسبب هواؤها في عدد من

الأعراض المرضية مثل تهيّج العين و الأنف و الحنجرة و الأسنان و التعب الذهني و الصداع و الغثيان و الدوار و التهاب المجاري الهوائية و الحس بجفاف الأغشية المخاطية و حالة الركود الذهني و أحيانا النسيان و ترتبط هذه الإعراض من الناحية الوبائية بالمباني المحكمة الغلق و النوافذ التي لا يمكن فتحها و كثير من السجون في البلاد الديكتاتورية التي لا تراعي صحة السجناء و كذلك المساكن المغلقة بأحكام و ارتفاع درجات الحرارة و مستويات الغبار و تدخين السجائر.

و يحدث هذا التلوّث في الهواء الداخلي نتيجة لنشاطات من يشغلونها و استخدامهم الأجهزة و المعدات الكهربائية و المواد الكيماوية و من خلال الانبعاثات من بعض مواد الإنشاءات و مواد الزخرفة و العوامل الحرارية و اختراق الملوثات الخارجية.

و أهم الملوّثات الداخلية هي دخان التبغ و نواتج انحلال الرادون و ألياف الاسبستوس و منتجات الاحتراق مثل أكسيد النتروجين و أكسيد الكبريت و أول أكسيد الكربون و ثاني أكسيد الكربون و الهيدروكاربونات العطرية المتعددة الحلقات و مواد كيمياوية أخرى ناشئة عن الاستخدامات في المنازل و غير ذلك، فإن كثيرا من المواد الميكروبيولوجية الملوّثة للهواء توجد في البيئة

الفقه، البيئة، ص: 240

الداخلة، و تشمل هذه فطريات العفن و الفطريات و الفيروسات و البكتيريا و الطحالب و حبوب اللقاح و الجراثيم و مشتقاتها. و قد حدّد في بعض التقريرات ما يزيد عن «66» من المواد الكيماوية العضوية الطيارة موجودة في الهواء الداخلي.

و لا تبقى المواد الملوّثة المنبعثة في الجوّ محصورة قرب مصدر الانبعاث أو البيئة المحلية بل يمكن لها الانتقال إلى مسافات بعيدة عبر الحدود و تخلق مشاكل بيئية إقليمية و عالمية.

و يعدّ الترسيب الحمضي أحد العوامل المسببة لاستنفاد الأوزون

و في زيادة أثر غازات الاحتباس الحراري. و قد ثبت من رصد الأمطار على نطاق العالم أن حامضيتها تصل في مناطق واسعة من أمريكا الشمالية و أوربا إلى حوالي «10» مرات عن المستوي العادي، و في الوقت الحاضر فإنّ انتشار حامضية البيئة على نطاق واسع نتيجة انبعاثات الكبريت و النتروجين هي من صنع الإنسان، و قد تقدم أن ذكرنا تلوث أكثر من «300» من بحار و بحيرات العالم.

و يؤثر التلوث الهوائي على صحة البشر و على الغطاء النباتي و على موارد مختلفة أخرى. و قد بيّن الضباب الكبريتي «1» المشهور الذي حدث في لندن بين

______________________________

(1) المعروف بحمض الكبريتيك و رمزه الكيماوي «4 2». و ذهب ضحية هذا الضباب في لندن أربعة آلاف شخص، و منشأ هذا الضباب إحراق الوقود في المصانع و كثرة وسائل النقل و النفايات الغازية للصناعات الكيماوية حيث إنّ هذه المواد تساعد على حدوث الضباب بسبب وفرة الجزئيات الدقيقة التي تعمل على امتصاص بخار الماء في الهواء. و تسمّى نوى التكاثف التي تتكوّن حولها القطرات المائية بالضباب. و يسمّى هذا الضباب بالضباب الملوّث الرطب، و مقابل هذا الضباب الرطب الضباب الجاف و الذي تعاني منه مدن غرب أمريكا ك «لوس أنجلس» و العاصمة اليابانية طوكيو، و الذي ينشأ في بداية الخريف.

الفقه، البيئة، ص: 241

عام «1371 ه- 1381 ه» «1952- 1962 م» و في نيويورك في أعوام 1373 ه «1953 م» و 1382 ه «1963 م» و 1385 ه «1966 م» بشكل واضح العلاقة بين زيادة التلوّث في الهواء و نسبة الوفاة و إصابة الأمراض، و تحدث من وقت إلى آخر حالات حادة و تلوث الهواء في بعض المناطق الحضرية.

فقد وقعت

في عام «1405 ه» «1985 م» حادثة تلوّث للهواء في سائر دول غربي أوربا و كان متوسط تركيز المواد الدقيقة العالقة و أكسيد الكبريت خلال «24 ساعة» قرب أمستردام في حدود «200 إلى 250» ميكرو جراما في المتر المكعب لكل منهما و هو أعلى بكثير من المعدلات المحددة في قواعد و وصايا منظمة الصحة العالمية.

و تشتهر أثينا بتكرار حوادث التلوّث الحاد للهواء، و لكن حتى في حالات عدم وقوع مثل هذه الحوادث يمكن أن يؤثر التعرّض للهواء الملوث لمدد طويلة في مجموعات بشرية ضعيفة كالمسنين و الأطفال و المصابين بأمراض الجهاز التنفسي و القلب.

و ينتج عن تلوث الهواء الداخلي عدد من المشاكل، و قد تركز الانتباه مؤخرا على الأخطار الصحية المحتملة من انبعاثات الرادون في المنازل، فقد وجد في الولايات المتحدة أنّ تركيز الرادون الداخلي يصل إلى ستة مرات عن تركيزه في الخارج، و إن المعدل السنوي للوفيات بسبب سرطان الرئة الذي يرجع إلى التعرّض الداخلي للرادون يصل إلى «16 ألف» حالة، لكن اكتشف أن 3% فقط من نسبة الوفيات هذه حدثت لأفراد غير مدخنين على الإطلاق. لكن الهواء إذا تلوّث بدخان التبغ فإنه يستنشقه الإنسان غير المدخن أيضا.

الفقه، البيئة، ص: 242

نعم يمكن مكافحة ما يزيد عن 90% من خطر سرطان الرئة المرتبط بالرادون بالقضاء على التدخين قضاء كاملا، لكن من الغريب أنّ الدول في العالم تحذّر من التدخين قائله «أن التدخين يضرّ بصحتك و صحة غيرك ننصحك بالامتناع عنه»، لكن مع ذلك تروّج وسائل الإعلام العالمية للتدخين بصورة مباشرة و غير مباشرة.

كما إن نفاد الملوثات الخارجية إلى داخل المباني كان أحد بواعث الأمراض فقد اكتشفت معدلات عالية من الأوزون في بعض المتاحف وصالات

عرض الآثار الفنية.

و تعدّ الانبعاثات من احتراق وقود الكتلة الحيوية و لا سيما في المناطق الريفية في البلدان النامية و هي مصدر رئيسي من مصادر تلوث الهواء الداخلي و أهم تأثيراتها السلبية التي تم تحديدها كمرض الانسداد الرئوي المزمن و السرطان الأنفي و البلعومي، و مختلف أنواع الحساسيات، و يصاب الأطفال عند تعرضهم لمثل هذا التلوّث بالتهابات الشعب و الالتهابات الرئوية الحادة و الذي يسبب أضعاف أجهزتهم التنفسية.

كما تساهم الانبعاثات في الكتلة الحيوية و احتراق الفحم في المنازل مساهمة كبيرة في تلوث الهواء الخارجي في بعض المناطق. كما وجد أن الانبعاثات الداخلية تشكل طبقة رقيقة من الضباب المرئي في أجزاء معينة في بعض المناطق مما يؤثر على الرؤيا، و في الغطاء النباتي في النظام الجبلي.

كما تشير أدلة واضحة طوال العقدين الماضيين أنّ الترسيب الحمضي يشكّل تهديدا لموارد عديدة من البحيرات و الأنهر و إحيائها المائية و الأحراش و الزراعة و الحياة البرية، و قد تأثّرت آلاف البحيرات في أجزاء من المنطقة الأسكندنافية و شمال شرقي الولايات المتحدة و جنوب شرقي كندا و جنوب

الفقه، البيئة، ص: 243

غربي اسكتلندا في الترسيب الحمضي لدرجات متفاوتة و فقدت بحيرات كثيرة و لا سيما في السويد و النرويج موارد سمكية إمّا جزئيّا أو كليّا. كما تسبّب الترسيب الحمضي في غسل بعض المعادن بصورة مفرطه من الترسبات الموجودة في قاع البحيرات و التربة. و هكذا فإن الإنسان الذي لا يلتزم بتعاليم خالق الكون و الحياة صار سببا للفساد و الإفساد.

ثم إنه يعدّ التحكّم في نوعيّة الهواء الداخلي أكثر تعقيدا من التحكّم في نوعيّة الهواء الخارجي الذي يعتبر ملكية عامة، إذ أن أعضاء المجتمع جميعا يستنشقون الهواء المحيط بالبيئة، و

الأساس المنطقي لقيام الحكومات بالتحكم في الهواء الخارجي هو حماية صحة أعضاء المجتمع على أساس متساو سواء كانوا هم الذين سببوا التلويث أو سبّبه غيرهم، لأن المنظمات الدولية العامة مأمورة بالإصلاح العام سواء كان هواء أو ماء أو تربة أو غير ذلك.

لكن الوضع يختلف كثيرا بالنسبة إلى بعض البيئات الداخلية و لا سيما المساكن الخاصة، فإذا تسبب سكان أي منزل في تلويث الهواء فعليهم استنشاقه، و إذا ما حاولوا تحسين نوعية الهواء فعليهم تحمل التكاليف و التمتع بما يعود عليهم من فوائد، إذ الأمر يخصهم، فمن له الغنم فعليه الغرم، و هو المثل المشهور و القاعدة الفقهية.

و لذا فإن مشكلة التحكّم في نوعية الهواء الداخلي تتوقف إلى حد كبير على إدراك الجمهور و وعيه بمختلف الأخطار الكامنة.

نعم على الحكومات أيضا مساعدتهم ماديا و معنويا إذا لم يتمكنوا هم من التنظيف ماديا أو معنويا، و ذلك من خلال الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الشريعة الإسلامية، فقد قال سبحانه وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولٰئِكَ

الفقه، البيئة، ص: 244

هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1».

______________________________

(1) سورة آل عمران: الآية 104. إنّ من قوانين البيئة التي أودعها اللّه سبحانه في الأرض هو ارتباط الأشياء بعضها ببعض، كما في جسم الإنسان، فالكون يتكون من مجموعة أجهزة يعتمد أحدهما في عمله على الآخر، فإذا أصاب أحدهما خلل تأثّرت بقيّة الأجهزة بذلك الخلل بحرا أو برا أو جوا. و كذلك من قوانين البيئة أنّ كلّ مادّة تذهب إلى مكان ما، و أن الكون يسير وفق نظام محدّد. و إنّ كلّ تقدّم صناعي نحصل عليه ندفع ضريبته، فعلى سبيل المثال

إنّ وسائل النقل تمنحنا حرية التنقل و راحتها و مقابل ذلك تسبّب لنا التلوّث و هطول الأمطار الحمضية و تدمير طبقة الأوزون.

الفقه، البيئة، ص: 245

الإخلال بالتوازن

مسألة: لا يجوز الإخلال في التوازن الموجود في العالم كما قال سبحانه:

مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ «1»، فإن الإخلال في التوازن يسبّب خللا عاما و ضررا كبيرا في الإنسان و الحيوان و النبات. فعلى سبيل المثال زاد المحصول السمكي العالمي بما في ذلك النباتات البحرية من «60 مليون» طن في سنة 1390 ه «1970 م» إلى «71 مليون» طن في سنة 1409 ه «1989 م»، و هذا المعدل أيضا زاد بعد ذلك إلى يومنا هذا، و تدعو تقريرات منظمة الأغذية و الزراعة إلى عدم تجاوز المحصول السمكي العالمي بمقدار «100 مليون» طن في السنة لمنع استنفاذ المخزون السمكي بشكل خطير فإنه في السابق كان يحصل على الأسماك البحرية و النهرية بالطرق البدائية السليمة، بينما في الحال الحاضر يكون الصيد بالوسائل الحديثة و التي تتمكن أن تجمع أكثر الأسماك حيث لا يبقى إلّا جزء ضئيل، بيد إن الضغط على الموارد السمكية في بعض المناطق قد دخل بالفعل دائرة الإفراط في الصيد، و من نتائج هذا الإفراط انخفاض المحصول السمكي بشكل حاد. و قد أدّى إلى فرض حصص على هذه الأنواع في شمال و شرق الأطلسي في سنة 1390 ه ثم فرض حظر تام على صيد بعض الأسماك ريثما تتجدد مخزوناتها.

و يعتبر الإفراط في صيد الحوت و الدلفين و سبع البحر و الدب القطبي من

______________________________

(1) سورة الحجر: الآية 19.

الفقه، البيئة، ص: 246

أوضح الأمثلة على الاستغلال المفرط للموارد البحرية، و سجلت صناعة الحيتان الذروة في الصيد بقتل «66 ألفا» من الحيتان

في سنة واحدة، و كادت أن تباد أنواع كثيرة، و في سنة 1409 ه «1989 م» أشارت الأرقام الجديدة الموقتة في اللجنة الدولية لصيد الحيتان أن من مجموع مليون حوت كانت تجوب البحار لم يبق منها سوى «10 آلاف» حوت فقط، فانخفض عدد الحيتان من نوع الحوت الأحدب من «20 ألفا» إلى «4 آلاف» فقط و الحيتان ذات الزعانف من أكثر من «100 ألف» حوت إلى «2000» حوت فقط، و الحيتان الزرقاء من «250 ألف» إلى زهاء «500» حوت فقط و في سنة 1405 ه «1985 م» فرضت اللجنة الدولية لصيد الحيتان حظرا على الاتجار بالحيتان لمدة «5 سنوات» و مع ذلك قتل منذ ذلك الحين ما يقرب من «11 ألف» من الحيتان. و إذا حسبنا هذا من جانب و من جانب آخر التلوث الذي سبب موت كثير من الحيوانات سواء كان تلوثا بسبب المعامل أو ما أشبه أو تلوثا بسبب الحروب و الأطماع كما حدث في الكويت جرّاء تلويث صدام المياه الخليجية أدركنا النقص الهائل في حيوانات البحر و النهر، مما يسبب زيادة ظاهرة الجوع، و قد قرأت في تقرير إنّ مليار إنسان في العالم يبيتون و هم جائعون.

و ثالث الأثر في تلوّث البحار بسبب الأمطار الحمضية التي تقدمت الإشارة إليها. و هذه الأمور كلها تعد من عذاب اللّه سبحانه و تعالى للإنسان الذي انحرف عن سبيله حيث قال سبحانه قُلْ هُوَ الْقٰادِرُ عَلىٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذٰاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ «1».

______________________________

(1) سورة الأنعام: الآية 65. و هناك حلول أخرى ينبغي مراعاتها منها: 1- التوفيق بين الاقتصاد

و البيئة، فيلزم إعادة حساب إجمال الناتج على أساس بيئي، لأنّ إجمال الناتج في الوقت الحاضر يتكوّن من حسابات الدخل و الحسابات الرأسمالية التي تتبع التغيّرات في الثروة، و عند ما تصبح المعامل قديمة يخصم مبلغ ما من الحسابات الرأسمالية ليظهر استهلاكها مقدّرا بقيمته، و لكن لا يتم إجراء خصم مماثل نظير تدهور الغابات و نوعية الهواء و الهباب الطبيعية الأخرى و تناقص الثروة الطبيعية و تدهور نوعية المياه و انخفاض حصيلة الصيد السمكي و الانخفاض النوعي لأهمية الاستجمام و الراحة و ما أشبه ذلك. 2- منح الشعوب- مؤسّسات و مراكز للدراسات و منظمات بيئية- قدرة على التفكير و إيجاد الحلول للمشاكل. 3- تنشيط وسائل الإعلام و الوكالات الدولية لاستعادة السيطرة على البيئة، و تنشيط وسائل الإعلام لممارسة دورها في تثقيف الناس بيئيا عبر تحليل الأخطار و التأثير عليهم لأن يهتموا بصحّتهم و بيئتهم. 4- وضع جدول زمني لخفض انبعاثات الغازات السامّة و ضبط الأفلاتوكسينات و تلويثها للمواد الخام التي تصنع منها الأطعمة. 5- التوفيق بين الإيكولوجيا و الاقتصاد، فمثلا يلزم التركيز على حثّ المصانع على تخفيض إنتاجهم للمواد الملوّثة أكثر من التفكير في معالجة النفايات. و بعبارة أخرى التشديد على ما هو إيجابي أكثر من التركيز على التخلّص ممّا هو سلبي. 6- تقليل الاعتماد على التكنولوجيا في الأمد البعيد و العودة إلى الآلية الطبيعية البيئة. 7- توجيه الصناعات لحماية البيئة، مثلا خفض صناعات أجهزة التكييف و الثلّاجات التي تؤثّر على طبقة الأوزون. 8- إيجاد صندوق دولي يهتم بالمعالجات البيئية خاصّة البلاد التي لا تستطيع معالجة وضعها البيئي بمفردها.

9- تعديل أولويات الإقراض للبنك الدؤلي و كذا برامج المعونات على أساس التنمية و حفظ البيئة دون

الحسابات السياسية و الأسواق التجارية، فإنّ الإقراض في الوقت الحاضر لا ينفق في الموارد التي تقلّل من الفقر و التدهور البيئي بل إنّ البنك الدؤلي يقرض من أجل المشروعات الكثيفة الاستخدام لرأس المال مثل إنشاء الطرق و السدود و مشروعات الري التي تجعلها شريكة في تلويث الأنهار و حرق الغابات المطرية و التعدين من المناجم السطحية بنزع طبقة الراسب السطحي في مساحات شاسعة، و غالبا ما يكون في بلاد لا يمكنها رصد التلف. هذا و إنّ الدول النامية تحتاج إلى 125 مليار دولار سنويا لتمويل مشاريع حماية البيئة. و يجب تعديل منح المعونات و الهبات، فإنّ ثلثي المعونات تصرف بشراء السلع و الحصول على الخدمات، و هذا في جوهره شكل من أشكال ترويج التصدير. 10- تخفيض الديون على العالم الثالث و فوائدها على أساس يسمح باستئناف التنمية البيئية الصحيحة، و هذا يقتضي تخفيض الديون إلى 60% و على مدى عدّة سنين، و يدخل في تخفيض الديون مقايضات الدين من أجل الطبيعة. 11- فرض معوّقات على الأنشطة التي تلوّث النظم الطبيعية أو تستنزفها أو تعمل على تدهورها، و تدخل في المعوّقات اللوائح التنظيمية و تدابير الحماية. 12- استخدام الحوافز الاقتصادية للتشجيع على الاستثمار في صون الطاقة و كفاءتها بدلا من الدعم المالي لاستخدامها. 13- تعديل نظام ألجأت بما يتناسب و المعايير البيئية. 14- وضع استراتيجيات تمنع التوسّع على حساب البيئة، و هذا يحول دون تنفيذ مشروعات تدمير الغابات أو زيادة بث الكربون في الجو. مثلا لو تقدّمت شركة في بناء معمل ما في قطعة أرض زراعية فتشجع على تشجير مساحة مساوية لما تطلبه في مكان آخر، هذا إذا لم يمكن بناء المعمل في منطقة صحراوية. 15-

إلغاء الحوافز التي تحرّض على تدمير البيئة و الابتعاد عن السياسات الخاطئة التي تمارسها بعض الدول من: أ. دعم الملوّثات كالمبيدات بأنواعها عبر الإعفاء من الضرائب أو البيع بأسعار أقل من التكلفة، و استخدام المعالجة المتكاملة للآفات التي تستخدم فيها الأعداء الطبيعية للآفات و أنماط زراعية مختلفة و أصناف محصولية مقاومة للآفات.

ب. تحويل الغابات إلى مراعي و محاصيل تسويقية قصيرة الأجل، فالبرازيل مثلا: تفقد سنويا قرابة المليار دولار بسبب هذه السياسات الخاطئة و كذا إندونيسيا و الفليبين. و إنّ تناقص غابات الأمازون البرازيلية نابع من السياسة الخاطئة للحكومة من بناء مدن في هذه الغابات و تمليك أراضيها و إنشاء الطرق فيها. 16- إقرار غرامات مالية على الملوّثات وفق خطّة تدريجية. و هناك أكثر من خمسين رسم ضريبي بيئي مفروض في أربعة عشر دولة من أعضاء منظّمة التعاون الاقتصادي و التنمية، و تشمل هذه الضرائب تلوّث الهواء و الماء و النفايات و الضوضاء و الأسمدة و البطّاريات و ما أشبه.

الفقه، البيئة، ص: 248

التلوث نتيجة الحروب

مسألة: من الملوثات الشديدة، ملوثات الحروب فإنها تفسد البحار و الأراضي و الأجواء بالإضافة إلى قتلها الإنسان أو جرحه و إعاقته، و إلى

الفقه، البيئة، ص: 249

هدرها الهائل للطاقات و الأموال و الإمكانات. ثم إنّ الحروب لها إمدادات حيث إنّ الألغام التي تزرع في الأراضي من جانبي الحرب تكون أيضا هائلة التدمير و الإفساد و هي ليست بشي ء قليل. ففي بولندا عثر سنة 1364 ه «1945 م» على قرابة «15 مليون» لغم أرضي، وزهاء «74» مليون قنبلة و قذيفة و قنبلة يدوية. و اللّه سبحانه يعلم كم من ذلك اليوم إلى هذا اليوم من قنابل و ألغام تم تفجيرها في وجه

الإنسان سببت له موتا أو مرضا أو علة. و في فلندا تمت إزالة أكثر من «6 آلاف» قنبلة وزهاء مليون قذيفة و «66 ألف» لغم و ما يقارب من «400 ألف» من قطع الذخيرة شديدة الانفجار الأخرى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. و في الهند الصينية تركت دون تفجير بعد الحرب قرابة مليونين قنبلة، و «23 مليون» قذيفة مدفعية و عشرات الملايين من قطع الذخيرة شديدة الانفجار الأخرى. و في مصر و في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية في سنة 1393 ه «1973 م» أزيلت قرابة 8 آلاف و خمسمائة قطعة لم تنفجر من قناة السويس، كما أزيل حوالي «700 ألف» لغم أرضي من الأراضي القريبة من القناة إلّا أن أضعاف هذا العدد من الألغام الأرضية و القذائف التي لم تنفجر ما زالت متناثرة حول خليج السويس و في شبه جزيرة سيناء و في الحدود العراقية- الإيرانية و في الحدود العراقية- الكويتية في حربيّ الخليج «1». هذا بالإضافة إلى أنه أدت الحروب و المنازعات إلى وجود ملايين من المشردين و اللّاجئين و لا يعرف العدد الصحيح للاجئين لكثرتهم و عدم دخولهم تحت إحصاء دقيق، و يرجع ذلك جزئيا إلى الافتقار

______________________________

(1) ذكرت الإحصاءات إنّ الألغام المزروعة في العالم قرابة 50 مليون و أغلبها مزروعة في منطقة الخليج و في شمال العراق، و قد ذهب ضحية هذه الألغام في شمال العراق «7883» بينهم «2061» طفل.

الفقه، البيئة، ص: 250

إلى تعريف مقبول دولي للاجئين و لإحصاء أعدادهم في كل العالم، و تبين التقديرات إن عدد اللاجئين زاد عن «3 ملايين» في سنة 1390 ه «1970 م» إلى «15 مليونا» في سنة 1410 ه «1990 م» بل إنّ بعض

الإحصاءات دلت على أن عدد اللاجئين أكثر من «20 مليون»، و لم يعان هؤلاء اللاجئون من خسائر اقتصادية فحسب بل تمزق نسيجهم الاجتماعي و حياتهم بالكامل، بالإضافة إلى موت الألوف منهم خصوصا من الرجال الكبار السن و النساء الكبيرات السن و الأطفال و المرضى، فيعيش هؤلاء اللاجئون في معظم الحالات في مخيمات في مناطق الحدود حيث تقسو الظروف المعيشية و تنتشر الاضطرابات الاجتماعية و في بعض الحالات تصبح عودة هؤلاء الناس إلى مواطنهم الأصلية مستحيلة من الناحية الفعلية، فيواصلون هم و ذويهم العيش في بؤس لعدة عقود.

و ما دامت حالة سحق حقوق الإنسان و نقص الإيمان باللّه و اليوم الآخر و ما دام جشع الدول الكبيرة و ظلم الحكام و استبدادهم فستستمر هذه الحالة، فقد حدثت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى اليوم زهاء نصف قرن عشرات الحروب بكل كوارثها و لذا فمن الواجب على كل إنسان يشعر أو يخاف اللّه و اليوم الآخر أن يشعر بمسؤوليته إزاء إنهاء الحروب من ناحية و بتنشيط الأمم المتحدة أو تنشيط بديل لها لتتدخل سريعا إذا وقعت حرب بين دولتين أو في دولة واحدة بين طائفتين أو ظلم الحاكم لشعبه.

الفقه، البيئة، ص: 251

الجنوح إلى السلم

اشارة

مسألة: من أهم الضروريات العقلية و الشرعية و العرفية أن تهتم البشرية جمعاء بإنهاء الحروب الذرية و صنع القنابل الذرية فإنها من أكبر ملوّثات البيئة و التي تمتد إلى أكثر من قرن، فقد أضافت الأسلحة النووية إلى الحروب إبعادا جديدة تماما، فقد كانت القوة التدميرية للقنبلتين الذريتين اللّتين ألقينا في هيروشيما و ناكازاكي في سنة 1374 ه «1954 م» تعادل أكثر من «22 كيلو طن» من مادة «تي أن تي». فتمثل الأسلحة النووية التي

استحدثت فيما بعد زيادة هائلة في القوة التدميرية ليس على أساس الكيلوطن بل الميجاطن.

و يقدّر عدد الرؤوس النووية في العالم بين «37 إلى 50» ألف رأس و يتفاوت إجمالي قوة تفجيرها من «11 إلى 20» ألف ميجا طن بما يعادل 846 إلى مليون و نصف قنبلة من نوع قنبلة هيروشيما.

و قد قرأت في تقرير إن الاتحاد السوفياتي قبل تفككه، يملك وحده ما يتمكن من إبادة العالم «7 مرات»، و بالرغم من الإدانة الشاملة للأسلحة النووية فإن إنتاجها و اختبارها مستمران، فبين سنة 1374- 1410 ه «1954- 1990 م» كان العدد الإجمالي للتجارب النووية «1818» تجربة منها «489» تجربة في الغلاف الجوي و «1329» تجربة تحت سطح الأرض.

و في بداية القرن الخامس عشر الهجري «1» أجريت دراسات عديدة للتنبّؤ

______________________________

(1) عام 1980 م.

الفقه، البيئة، ص: 252

بآثار نشوب حرب نووية واسعة النطاق. و بالرغم من أوجه عدم التيقن العديدة فإن الإحصاءات المختلفة للحرب النووية تقدر أن ما بين «30- 50%» من البشر يمكن أن يكونون ضحايا مباشرين للحرب النووية. كما إن «50- 70%» من البشر الذين قد يجتازون الآثار المباشرة بحرب نووية واسعة النطاق يمكن أن يتأثرون بالشتاء النووي. ففي أعقاب حرب نووية ضخمة ستغطي السحب السوداء مساحات كبيرة من الأرض ربما لأسابيع أو شهور عديدة إذ أنّ ضوء الشمس تحجبه سحب كبيرة و كثيفة من الدخان الناتج من الحرائق و ستنخفض درجات الحرارة إلى ما دون درجة التجميد فقد يحدث سقوط الأمطار في أقاليم كثيرة، و ستؤثر مثل هذه التغييرات المناخية في الزراعة و في النظم الرئيسية و في الأعشاب و النظم البحرية مع حدوث آثار عميقة الأثر في إنتاج الأغذية و شبكات توزيعها.

و عليه

فاللازم على البلاد الحرة و شبه الحرّة أن تهتم بهذا الأمر كثيرا في مختلف الأبعاد كمّا و كيفا بالتظاهرات و الإضرابات لكي لا تحدث تجربة جديدة، و أن تفنى كل القنابل الذرية و ان تبدل معاملها إلى معامل بناء دون الهدم.

التلويث المعنوي

هذا ما أردنا بيانه في تلوث الهواء بالملوثات المادية و هناك ملوثات أخرى معنوية حيث إنّ قسما من المحاصيل تلوث الهواء مما يسبب مشكلات للإنسان و الحيوان و النبات و سائر مكونات الأرض من ماء و هواء غير ذلك حال تلك الملوثات المعنوية حال الجاذبية التي لا تشاهد و لا تحس بسائر الحواس لكنها

الفقه، البيئة، ص: 253

موجودة و لها آثار خارجية.

و في قبال الملوثات المعنوية المنظفات المعنوية حيث إنها تنظف الأجواء المعنوية مما تسبب نموا و بركة و خيرا للكائنات الحية و في سائر الأمور الأرضية، فلو مثلنا ذلك بالجاذبية أيضا لم يكن بعيدا، فالجاذبية كما تخرب أحيانا تعمر أحيانا. فالشي ء الساقط من فوق، إنسانا أو حيوانا أو إناء أو غير ذلك يتكسر و يتحطم، و ربما أوجب حريقا أو فيضانا مدمرا و بالعكس في جانب الإيجابي، فإذا لم تكن الجاذبية موجودة كان حال الإنسان و حال غيره حال من في الفضاء من انعدام الوزن و عدم استقامة الأمور إلّا بضغوط كبيرة صناعية حتى لا يمكن للإنسان من الأكل و الشرب و الجماع إلّا بوسائل خاصة معدة لذلك. و مع ذلك لا يستقيم الولد الذي يكون في الفضاء بل يبقى جنينا إلى غير ذلك، لكن الملوثات و المنظفات المعنوية لا تعرف إلّا بالسماع من الأنبياء و الأوصياء و من إليهم و اتباع منهجهم و طريقهم.

و قد أشار إلى ذلك القرآن الحكيم بقوله

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ «1»، و في الروايات الاستعاذة من الذنوب التي تظلم الهواء.

و في الحديث: (إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة) «2». و كذلك إن صلة الأرحام تطوّل العمر بينما إن قطيعة الرحم توجب نقصان العمر، فقد وردت روايات كثيرة في هذا الحقل منها: عن أبي جعفر عليه السلام: (صلة الأرحام تزكّي الأعمال و تنمي الأموال و تدفع البلوى و تيسّر الحساب و تنسئ في الأجل). «3».

______________________________

(1) سورة الأعراف: الآية 96.

(2) الكافي (أصول): ج 2 ص 374 ح 2.

(3) الكافي (أصول): ج 2 ص 150 ح 4.

الفقه، البيئة، ص: 254

و عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: (صلة الأرحام تحسّن الخلق و تسمح الكف و تطيّب النفس و تزيد في الرزق و تنسئ في الأجل) «1».

و عن أبي جعفر عليه السلام: (صلة الأرحام تزكّي الأعمال و تدفع البلوى و تنمي الأموال و تنسئ له في عمره و توسّع في رزقه و تحبّب في أهل بيته فليتق اللّه و ليصل رحمه) «2».

فإن كلّا من القول و العلم و النية- كما في الأحاديث حيث قال عليه السلام:

(على نياتكم ترزقون) و غيره- إذا كانت حسنة فإنها تؤثر تأثيرا معنويا في تطهير البيئة و تنظيفها و في التعمير و البناء سواء أحسّه الإنسان بإحدى الحواس أو لم يحسّها، كما لها تأثيراتها بالنسبة إلى الآخرة. ثم أنّ الفعل الحسن أو السيئ أو القول أو النية قد يوجب أثرا بالنسبة إلى الشخص أو الأشخاص كما قال سبحانه وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰافاً خٰافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا

اللّٰهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً «3»، و قال سبحانه أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ «4» و قد يوجب أثرا حسنا أو سيئا بالنسبة إلى شي ء آخر أو أشياء أخرى. فكما إنّ الأمر في الماديات كذلك في المعنويات، صغيرها و كبيرها، فإن نويرة صغيرة توجب احتراق شي ء قليل بينما ما حدث في تشرنوبيل في الاتحاد السوفياتي السابق أوجب مرض و موت الآلاف على ما ذكروه بالإضافة إلى سائر آثاره التخريبية بالنسبة إلى الحيوان و النبات و غير ذلك.

______________________________

(1) الكافي (أصول): ج 2 ص 151 ح 6، ص 152 ح 12.

(2) الكافي (أصول): ج 2 ص 152 ح 13.

(3) سورة النساء: الآية 9.

(4) سورة الطور: الآية 21.

الفقه، البيئة، ص: 255

الخاتمة

اتضح لنا بعد هذا البيان الإجمالي لعوامل التلوّث: تلوّث المياه، و تلوّث التراب، و تلوث الهواء، أهمية و خطورة هذا الموضوع الذي أصبح يتدخل في حياة البشرية، و يضرّها ضررا بالغا فأصبح للتلوث تأثير على مختلف مرافق الحياة.

أصبح يحدد عمر الإنسان.

و أصبح يحدد له طعامه.

و أصبح يحدد له نوع الموت الذي يموت فيه.

و أصبح يتدخل حتى في ساعات الراحة و الاستجمام.

فالتلوث بمقدوره أن يسلب من الإنسان لحظات السعادة التي يمكن أن يعيشها داخل الطبيعة.

و أصبح بمقدوره أيضا أن يفتك بالبشرية أكثر مما فتكت بها الحروب على طول التأريخ.

من هنا كان لزاما أن يقف الجميع حكومات و شعوبا في قبال هذا الخطر الذي لا يهدد حياتنا و حسب بل و يهدد مستقبل البشرية على الكرة الأرضية و هكذا حياة سائر الكائنات الحية.

فما هو الحل؟

يبدأ الحل أولا بالوعي.

الفقه، البيئة، ص: 256

لا بدّ أن تعي البشرية خطورة التلوّث، و عليها الالتزام بالقوانين و

السنن التي سنّها اللّه في الكون و التي أوصلها إلينا عبر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف بالشكل الأشمل و الأكمل.

________________________________________

شيرازى، سيد محمد حسينى، الفقه، البيئة، در يك جلد، مؤسسة الوعي الإسلامي، بيروت - لبنان، اول، 1420 ه ق

الفقه، البيئة؛ ص: 256

ثم بعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة و هي الوقوف وقفة حازمة و قوية أمام المشاريع و الفعاليات التي تنتج التلوّث.

و هذه الخطوة تتوقف على مقدار ما تبديه البشرية من تعاون و تآزر لوقف هذه المشاريع الخطرة.

و الخطوة الثالثة تقع مسؤوليّتها أيضا على هيئة الأمم المتحدة و هي إصدار قانون دولي لحماية البيئة، و يكون هذا القانون إلزاميا بحيث تدعمه قوة تعمل على الحفاظ عليه كما تقوم القوات الدولية بتطبيق قرارات الأمم المتحدة.

و الخطوة الرابعة مكافحة جذور التلوث سواء كان مصدره دولة أو مصنعا أو شركة أو فردا.

فمن مسؤولية المجتمع الدؤلي- حكومات و هيئات دولية- مقاومة أية دولة أو جماعة أو مؤسسة تقوم بتلويث البيئة، و بذلك و بالعمل بآيات الكتاب الحيوية اسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذٰا دَعٰاكُمْ لِمٰا يُحْيِيكُمْ «1»، كما قال تعالى ستستطيع البشرية مواجهة مخاطر هذه الظاهرة التي باتت عالمية، تقض مضاجع البشرية جمعاء.

و قد قال سبحانه و تعالى وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ «2».

______________________________

(1) سورة الأنفال: الآية 24.

(2) سورة المائدة: الآية 2.

الفقه، البيئة، ص: 257

و هذا ما أردنا إيراده في هذا الكتاب، و اللّه الموفق للصواب و هو المستعان.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

سبحان ربك ربّ العزة عمّا يصفون و سلام على المرسلين و الحمد للّه رب العالمين.

قم المقدسة محمد الشيرازي

________________________________________

شيرازى، سيد محمد حسينى، الفقه، البيئة، در يك جلد، مؤسسة

الوعي الإسلامي، بيروت - لبنان، اول، 1420 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.