تنقیح مبانی العروه - كتاب الاجتهاد و التقليد

اشارة

سرشناسه : تبریزی، جواد، 1305 - 1385.

عنوان قراردادی : عروه الوثقی . شرحعروة الوثقی. شرح

عنوان و نام پديدآور : تنقیح مبانی العروه/ تالیف جواد التبریزی.

مشخصات نشر : قم: دارالصدیقه الشهیده ، 14ق= 20م = 13 -

مشخصات ظاهری : ج.

شابک : دوره 964-8438-22-6 : ؛ دوره 978-964-8438-22-2 : ؛ 25000 ریال : ج.1 964-8438-21-8 : ؛ ج.1، چاپ دوم 978-964-8438-21-5 : ؛ 25000 ریال : ج.2 964-8438-27-7 : ؛ 25000 ریال : ج.3 964-8438-22-6 : ؛ ج. 4، چاپ دوم 978-964-8438-43-7 : ؛ ج. 5 978-964-8438-49-9 : ؛ ج.6، چاپ دوم 978-964-8438-63-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : فهرستنویسی بر اساس جلد دوم: 1426ق = 1384.

يادداشت : ج.1 (چاپ اول: 1426ق.= 1383).

يادداشت : ج. 1 - 4 و 6 (چاپ دوم: 1429ق = 1387).

يادداشت : ج. 5 (چاپ اول: 1429 ق. = 1387).

يادداشت : کتاب حاضر شرحی بر "عروة الوثقی" محمد کاظم بن عبدالعظیم یزدی است.

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج.1. الاجتهاد والتقلیدو الطهاره.- ج.2 - 4. الطهاره

موضوع : یزدی، محمدکاظم بن عبدالعظیم، 1247؟ - 1338؟ ق . عروه الوثقی. برگزیده

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : طهارت

شناسه افزوده : یزدی، محمد کاظم بن عبدالعظیم، 1247؟ - 1338؟ ق . عروه الوثقی. شرح

رده بندی کنگره : BP183/5 /ی4ع40232173 1300ی

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : 1100399

[المدخل]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 4

هذه مجموعة من البحوث الفقهية التي قمت بتدريسها لجمع غفير من أهل العلم و الفضل في مدينة قم المشرّفة عش آل محمد صلى الله عليه و آله و قد تعرضت في ضمنها لتنقيح كثير من المباني و النكات الأُصولية و الفقهية و الرجالية، و حيث إن جماعة من أبنائي الفضلاء رغبوا في نشر هذه المباحث من أجل أن ينتفع بها أرباب العلم و

التحصيل، سائلًا المولى العلي القدير أن يفيد بها أهل الفضل و أن يتقبلها بأحسن القبول و الحمد للّٰه رب العالمين و الصلاة على محمد صلى الله عليه و آله و آله الطاهرين الطيبين عليهم السلام.

جواد التبريزي

12 ذي القعدة سنة 1425

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 5

الاجتهاد و التقليد

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 7

[يجب على كل مكلف أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً]

(مسألة 1) يجب على كل مكلف (1)

______________________________

التقليد

(1) هذا الوجوب عقلي من باب وجوب دفع الضرر المحتمل حيث إن كل من التفت إلى أصل التشريع علم بالضرورة ثبوت أحكام الزامية في الدين و أن الناس غير مهملين في أفعالهم و تروكهم و بهذا العلم الإجمالي بل بنفس احتمال التكليف قبل الفحص قد تنجزت الأحكام الواقعية أي يحكم العقل بلزوم امتثالها و استحقاق العقوبة على مخالفتها، و ما دل على وجوب تعلم الأحكام يمنع عن جريان الاصول الترخيصية في الشبهات قبل الفحص، و على هذا ففي ارتكاب الشبهات يحتمل العقاب- أي يحتمل العقاب في ارتكاب ما يحتمل حرمته و ترك ما يحتمل وجوبه- و العقل يحكم بلزوم دفع العقاب المحتمل و تحصيل الأمن منه، و لا ينتفي احتمال العقاب إلّا بمراعاة الأحكام و التكاليف الشرعية في الوقائع التي يبتلي بها أو يحتمل الابتلاء بها بالموافقة و الطاعة، و هذا يكون بأحد النحوين:

الأوّل: موافقتها بالوجدان: و يحصل ذلك إمّا بالعمل على طبق ما قطع بالوجدان كما في القطعيات و الضروريات و هو قليل أو بالاحتياط في مقام العمل بأن يأتي بما يحتمل وجوبه و يترك ما يحتمل حرمته.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 8

في عباداته و معاملاته (1) أن

يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً.

[جواز العمل بالاحتياط مجتهداً كان أو لا]

(مسألة 2) الأقوى جواز العمل بالاحتياط مجتهداً كان أو لا (2)

______________________________

و الثاني: موافقتها بالاعتبار و الاعتماد على حجة فعلية، و الحجة على الحكم الشرعي إمّا أن تكون هي ما استنبطه من مدارك الأحكام و التكاليف بطريق مألوف فتحصيلها هو الاجتهاد، و إمّا أن تكون هي قول المجتهد و فتواه فالعمل عن استناد إليها هو التقليد فإذن يلزم على كل مكلف في غير الضروريات و القطعيات أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً.

(1) بل في جميع أفعاله و تروكه سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو العاديات كما يأتي من الماتن قدس سره في المسألة التاسعة و العشرين.

الاحتياط

(2) يقع الكلام في ذلك تارة في المعاملات و اخرى في العبادات.

أمّا المعاملات فلا شبهة و لا خلاف في جواز الاحتياط بل في حسنه في المعاملات بالمعنى الأعم كما إذا احتاط في تطهير المتنجس بالغسل مرتين لشكه في أنه هل يطهر بالغسل مرة واحدة أو يعتبر فيه التعدد، و لا فرق فيه بين كون المكلف متمكناً من الامتثال التفصيلي و تحصيل العلم بالحال أم لم يكن، و سواء كان الاحتياط فيها مستلزماً للتكرار أم لم يكن.

و أمّا المعاملات بالمعنى الأخص أعني العقود و الإيقاعات فالظاهر أن الاحتياط فيها كالاحتياط في المعاملات بالمعنى الأعم، و أنه أمر حسن لا شبهة في مشروعيته و الاحتياط فيها يكون بتكرار الإنشاء فينشأ العقد أو الإيقاع بانحاء مختلفة ليحرز تحققه.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 9

..........

______________________________

و الإجمال في الإنشاء قد يكون من جهة التردد في صيغة الإنشاء كما إذا تردد النكاح الممضى شرعاً بين كونه بصيغة أنكحت أو بصيغة زوجت فحتى مع التمكن

من الفحص و تعيين أن الإنشاء بالاولى أو بالثانية يجوز أن يكرر الإنشاء بكل منهما.

و قد يكون من جهة التردد في مورد العقد و الإيقاع فلا يعلم ما هو موردهما كما إذا أراد طلاق زوجة موكّله و ترددت التي وكّله في طلاقها بين امرأتين له فيجرى الطلاق على كل منهما طلاق المرأة التي وكله في طلاقها.

و قد يشكل في الإنشاء كذلك تارة باختلال الجزم المعتبر فيه و اخرى بلزوم التعليق في العقد أو الإيقاع، و لكن لا يخفى أن التردد في صحة أيّ الإنشاءين شرعاً لا يوجب التردد في النية فإن الإمضاء الشرعي خارج عن الإنشاء و المنشأ حكم شرعي يترتب عليهما؛ و لذا يحصل الإنشاء و العقد ممن لا يعتقد بالشرع أو لا يعتني به، و أما التعليق فلا حاجة إليه أيضاً حتى فيما إذا كانت زوجة موكله مرددة بين امرأتين إحداهما زوجته فإنه إذا جرى الطلاق على كل منهما يتم طلاق من كانت زوجة موكله، بل لو علق الطلاق المنشأ على كل منهما على كونه زوجة لموكّله بأن قال: إن كانت فلانة زوجة موكّله فهي طالق تم الطلاق فإنه قد ذكر في بحث التعليق في العقد و الإيقاع أنه لا يضر التعليق. بحصول أمر يتوقف عنوان العقد أو الايقاع على حصوله عند الإنشاء حيث يكون التعليق في المنشأ لا الإنشاء و المفروض أن المنشأ لا يتحقق بدون ذلك الحصول حتى مع إطلاق العقد أو الإيقاع و يترتب على ذلك الطلاق احتياطاً في موارد الشبهة في الزوجية و العتق في مورد الشك في الرقية و نحو ذلك.

و أمّا العبادات فإن كان الاحتياط فيها غير محتاج إلى تكرار العمل كما إذا شك المكلف في اعتبار

السورة بعد قراءة الحمد في صلاته فقرأها لاحتمال جزئيتها

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 10

..........

______________________________

فلا ينبغي الإشكال في جواز ذلك و لو مع تمكنه من الامتثال التفصيلي و لو علماً فإنه بالامتثال الإجمالي لا يختلّ شي ء مما يعتبر في العبادة من قصد القربة، بل الوجه و التمييز حتى لو قيل باعتبارهما زائداً على قصد القربة فإن ما لا يحصل بالامتثال الإجمالي تمييز الأجزاء الواجبة عن غيرها و هو غير معتبر في صحتها قطعاً حيث لم يرد في شي ء من الخطابات الشرعية و الروايات التعرض للزومه، بل ورد ما يدفع هذا الاحتمال كصحيحة حريز «1» الواردة في تعليم الإمام عليه السلام الصلاة التي ينبغي للمكلف الإتيان بها بذلك النحو، و يأتي التوضيح لذلك عند التعرض لاعتبار قصد الوجه و التمييز في العبادات.

و أما إذا كان الاحتياط فيها محتاجاً إلى تكرار العمل كما في مورد تردّد الصلاة الواجبة بين القصر و التمام في الشبهة الحكمية أو الموضوعية أو تردّد الثوب الطاهر بين ثوبين فيصلّي صلاته قصراً و يعيدها تماماً أو يصلي في أحد الثوبين و يعيدها في الثوب الآخر إلى غير ذلك.

فقد يقال: بعدم جواز ذلك مع التمكن من الامتثال بالعلم التفصيلي؛ لأن الامتثال الإجمالي يلازم الإخلال بقصدي الوجه و التمييز أو لكون التكرار يعدّ لعباً و عبثاً في مقام الامتثال فلا يناسب العبادة.

و الجواب عن ذلك بأنه لا يكون في الاحتياط بتكرار العمل إخلال بقصد الوجه، فإنه إذا أتى المكلّف بالصلاة قصراً و أعادها تماماً بقصد تحقق الصلاة الواجبة عليه فقد حصلت الصلاة المأمور بها واقعاً بقصد وجهها، نعم عند العمل لا تتميز تلك الصلاة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 5: 459، الباب

الأول من أبواب أفعال الصلاة، الحديث الأول.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 11

..........

______________________________

عن الاخرى و قصد التمييز كذلك غير معتبر في صحة العمل و وقوعها عبادة حتى بناءً على القول بأنه في الشك في اعتبار القيود الثانوية مما لا يمكن أخذها في متعلق الأمر يلزم رعايتها لاستقلال العقل بلزوم الإتيان بنحو يكون محصّلًا للغرض من متعلّق الأمر، فإن مقتضى ذلك القول و إن كان الالتزام بالاشتغال، إلّا أن الالتزام به يختصّ بمورد عدم ثبوت الإطلاق المقامي فيه، و الإطلاق المقامي بالإضافة إلى قصد الوجه و قصد التمييز موجود خصوصاً بالإضافة إلى الثاني فإنهما مما يغفل عامة الناس عن اعتبارهما و لو كانا معتبرين في حصول الغرض لتعرض الشارع له بالتنبيه عليه في بعض خطاباته.

و يقال: في مثل هذا الإطلاق المقامي بأن عدم الدليل فيه دليل على العدم، أضف إلى ذلك أنه ليس قصد التمييز في الشبهات الموضوعية من الانقسامات الثانوية حيث يمكن أخذه في متعلق الأمر كسائر القيود التي يعبّر عنها بالانقسامات الأولية، بأن يأمر الشارع بالصلاة إلى جهة يعلم حالها أنها إلى القبلة أو في ثوب طاهر إلى غير ذلك فالإطلاق اللفظي يدفع اعتبار قصد هذا التمييز.

و أما دعوى كون الاحتياط بتكرار العمل مع التمكن من الامتثال بالعلم التفصيلي يعدّ من اللعب و لا يناسب العبادة فلا يمكن المساعدة عليها أيضاً، و ذلك فإنه قد يكون تكرار العمل و ترك الامتثال التفصيلي لغرض عقلائي مع أن المعتبر في العبادة الإتيان بمتعلق الأمر بقصد التقرب و الخصوصيات المقارنة لمتعلق الأمر خارجاً أو المتحدة معه الخارجة عن متعلق الأمر لا يعتبر حصولها بقصد القربة فالمكلف إذا أتى بصلاته أول الوقت، أو في

مكان خاص بداع نفساني له في أول الوقت أو في الإتيان بها في ذلك المكان صحت صلاته حيث إن المأخوذ في متعلق الأمر لا بد من وقوعه بقصد القربة

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 12

..........

______________________________

لا ما هو خارج عن متعلق الأمر، و لا يقاس بما إذا كانت الخصوصية المتحدة مع العبادة واقعاً رياءً، فإن قصد التقرب لا يجتمع مع اتحاد متعلق الأمر بما هو محرم، بل قد يقال:

ببطلان العبادة حتى مع الخصوصية المنضمة إليها رياءً بدعوى إطلاق ما دلّ على مبطلية الرياء في العمل، و لو كان الرياء في الخصوصية المقارنة المنضمة إليها.

و الحاصل أن الإتيان بالعبادة في ضمن عملين المسمّى بالاحتياط و الامتثال الإجمالي من خصوصيات تلك العبادة الخارجة عن متعلق الأمر بها، و لا يضرّ الإتيان بالخصوصيات الخارجة عن متعلق الأمر بلا داع عقلائي أو بداع نفساني.

و قد ذكر المحقق النائيني قدس سره وجهاً آخر لعدم جواز التنزل إلى الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي و هو استقلال العقل بأن الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال العلمي و إذا أتى المكلّف بصلاته قصراً ثمّ أعادها تماماً مع تمكنه من تحصيل العلم بوظيفته من القصر أو التمام يكون الداعي له إلى الصلاة قصراً احتمال الوجوب، و هذا الامتثال كما ذكر في طول الامتثال التفصيلي.

و بتعبير آخر للامتثال مراتب أربع لا يجوز التنزل إلى المرتبة اللاحقة إلّا مع عدم التمكن من المرتبة السابقة، الامتثال التفصيلي و الامتثال بالعلم الإجمالي، الامتثال الظني و الامتثال الاحتمالي.

أقول: لم يظهر وجه صحيح لكون الامتثال الإجمالي في طول الامتثال التفصيلي بل هما في عرض واحد، و ذلك فإن المعتبر في العبادة هو حصول العمل بنحو

قربي لا لزوم خصوص الإتيان بالعمل بداعي الأمر به، نعم هذا من أفراد حصول العمل قربياً كما أنه يكفي في حصول القربة الإتيان بداعي احتمال كونه متعلق الأمر، و ما يكون في طول الامتثال العلمي الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال العلمي كما

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 13

لكن يجب ان يكون عارفاً بكيفية الاحتياط بالاجتهاد أو التقليد (1).

[قد يكون الاحتياط في الفعل و قد يكون في الترك]

(مسألة 3) قد يكون الاحتياط في الفعل كما إذا احتمل كون الفعل واجباً و كان قاطعاً بعدم حرمته (2) و قد يكون في الترك كما إذا احتمل حرمة فعل و كان

______________________________

إذا كان المكلف في آخر الوقت بحيث لا يتمكن إلّا من الاتيان بأربع ركعات قبل خروج الوقت و دار أمره بين أن يصليها في ثوب طاهر معلوم و بين أن يصليها في أحد ثوبين يعلم بطهارة أحدهما و نجاسة الآخر، فإن العقل في الفرض مستقل برعاية الامتثال التفصيلي و عدم جواز التنزل إلى الاحتمالي، هذا مع أن الإتيان بالقصر أولًا ثمّ إعادتها تماماً يكون بداعي الأمر المعلوم إجمالًا المتعلق بأحدهما واقعاً، و هذا الامتثال علمي لا احتمالي غاية الأمر لا يدري حال العمل أنّ ما يأتي به هو متعلق الأمر أو ما يأتي به بعده أو أتى به قبل ذلك فيكون فاقداً لقصد التمييز و قد تقدم عدم اعتباره في صحة العبادة.

فتحصل أنه لا بأس بالاحتياط في العبادات كما لا بأس به في المعاملات سواء كان الشخص متمكناً من الامتثال التفصيلي للتكاليف أو لم يكن متمكناً منه.

شرط العمل بالاحتياط

(1) يشترط في العمل بالاحتياط أن يكون الشخص عالماً بموارده و كيفياته بالاجتهاد أو التقليد إذ بدونه لا يتحقق الاحتياط الذي

هو العلم بدرك الواقع فلا يحصل الأمن من العقاب و من هنا يظهر أن الوجوب المزبور إرشادي عقلي لا مولوي شرعي.

صور العمل بالاحتياط

(2) كما في الدعاء عند رؤية الهلال أو الخمس في الميراث حيث يحتمل وجوبه مع القطع بعدم حرمته.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 14

قاطعاً بعدم وجوبه (1) و قد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار كما إذا لم يعلم أن وظيفته القصر أو التمام (2).

[الأقوى جواز الاحتياط و لو كان مستلزماً للتكرار]

(مسألة 4) الأقوى جواز الاحتياط و لو كان مستلزماً للتكرار و أمكن الاجتهاد أو التقليد (3).

[في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلداً]

(مسألة 5) في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلداً؛ لأن المسألة خلافية (4).

______________________________

(1) كما في شرب التتن حيث تحتمل حرمته مع القطع بعدم وجوبه.

(2) أو لم يعلم أن وظيفته يوم الجمعة الظهر أو الجمعة.

و لا يخفى أن الجمع بين الأمرين قد يكون في عملين مستقلين كما في المثالين و قد يكون في عمل واحد كما إذا دار الأمر بين وجوب الجهر و الإخفات فالاحتياط حينئذ يتحقق بتكرار القراءة فيها مرتين إحداهما بالجهر و الاخرى بالإخفات ناوياً في كل منهما أن تكون هي القراءة المأمور بها لو كانت وظيفته كذلك و إلّا كانت قراءة للقرآن لجواز قراءة القرآن في الصلاة ثمّ إن هاهنا موردين للاحتياط لم يتعرض لهما الماتن فإنه. قد يكون الاحتياط في الجمع في الترك كما إذا علم بحرمة أحد فعلين فإن الاحتياط يقتضي تركهما معاً، و قد يكون في الجمع بين الإتيان بأحد الفعلين و ترك الآخر كما إذا علم إجمالًا بوجوب الأول أو حرمة الثاني.

(3) قد تقدم في المسألة الثانية ما يرتبط بالاحتياط فيما إذا كان مستلزماً للتكرار من الوجوه التي ذكرت للمنع عنه و الجواب عنها.

(4) بمعنى أن جواز الاحتياط ليس من المسائل البديهية التي لا تحتاج إلى الاجتهاد و التقليد، بل هو من المسائل النظرية التي لا بد فيها من إعمال الاجتهاد أو الرجوع إلى فتوى الفقيه.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 15

[لا حاجة إلى التقليد في الضروريات]

(مسألة 6) في الضروريات لا حاجة إلى التقليد كوجوب الصلاة و الصوم و نحوهما، و كذا في اليقينيات إذا حصل له اليقين و في غيرهما يجب التقليد إن لم يكن مجتهداً إذا لم يمكن الاحتياط، و إن أمكن تخير بينه

و بين التقليد.

[عمل العامي بلا تقليد و لا احتياط باطل]

(مسألة 7) عمل العامي بلا تقليد و لا احتياط باطل (1).

[التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين]

(مسألة 8) التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين و إن لم يعمل بعد، بل و لو لم يأخذ فتواه فإذا أخذ رسالته و التزم بالعمل بما فيها كفى في تحقق التقليد (2).

______________________________

فالاستناد إلى الاحتياط في امتثال الأحكام الشرعية لا يصحّ إلّا بعد تحصيل العلم بجوازه و مشروعيته اجتهاداً أو تقليداً و إلّا فلو احتاط الشخص بدون ذلك لم يطمئن بعدم العقاب.

العمل بلا تقليد

(1) ليس المراد به البطلان الواقعي بل المراد به عدم جواز الاجتزاء به عقلًا و أنه لو كان مع تركهما مخالفة التكليف الواقعي لاستحق العقاب على تلك المخالفة بخلاف ما إذا لم يكن تركهما موجباً لذلك كما إذا عمل حين العمل برجاء أنه الواقع ثمّ علم بعده أنه مطابق لفتوى من يجب عليه التعلم منه فإن الأمن و عدم استحقاق العقاب الحاصل بهذا الإحراز كافٍ في نظر العقل، و الحاصل أنه إذا لم يحرز المكلف صحة عمله بالاجتهاد أو التقليد فليس له أن يكتفي به.

تعريف التقليد

(2) قد عُرّف التقليد بوجوه:

منها: أن التقليد هو أخذ قول الغير و رأيه للعمل، و هذا يعني أن التقليد عبارة عن

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 16

..........

______________________________

تعلّم قول الغير و رأيه و يكون داعيه إلى التعلم هو العمل به.

و منها: أنه الالتزام بالعمل بقول الغير، و على هذا فلو أخذ رسالة مجتهد للعمل بما فيها في الوقائع التي يبتلي بها فقد حصل التقليد و إن لم يعلم بما في الرسالة من أحكام الوقائع فضلًا عن العمل بما فيها.

و منها: أنه نفس العمل بقول الغير بمعنى أن العمل إذا استند

إلى قول الغير و رأيه تحقق التقليد.

و لا يخفى أنّ ما تقدم من أنه يجب على المكلّف في الوقائع التي يبتلي بها أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً لا ينظر إلى ما ذكر من أنّ التقليد هو الالتزام بالعمل بقول الغير، و لا لمجرّد تعلّمه لغاية العمل به، فإنّ الوجوب المذكور من حكم العقل على ما تقدم، و الذي يحكم به العقل مراعاة الأحكام و التكاليف الشرعيّة في الوقائع بالموافقة و الطاعة إمّا بالوجدان و يحصل ذلك بالاحتياط، أو بالاعتبار و الاعتماد على حجّة فعليّة و هي ما استنبطه من مدارك الأحكام و التكاليف بطريق مألوف كما في المجتهد، أو قول المجتهد و فتواه على تقدير تمام الدليل على جواز الاعتماد على فتوى الفقيه من العاميّ في مقام العمل.

و على الجملة حكم العقل في مقام الطاعة هو لزوم تحصيل المؤمّن للمكلّف في الوقائع التي يبتلى بها، و لا يلزم في حكمه بلزوم تحصيله أن يكون سبق التعلّم على العمل، و أن يكون عمله بدونه قبله من العمل بلا تقليد، حيث إنّه إذا عمل العاميّ في واقعة عملًا برجاء أنّه عمل بالواقع و الوظيفة، ثمّ ظهر له بعد العمل أنّه على طبق فتوى المجتهد الذي يجب الرجوع إليه كفى ذلك في حكم العقل المتقدّم، و عدم سبق التقليد على العمل لا يضرّ في الفرض، هذا كلّه بالإضافة إلى حكم العقل.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 17

..........

______________________________

و أمّا الأدلّة و الخطابات الشرعيّة فحيث إنّ وجوب تعلّم الأحكام و التكاليف بالإضافة إلى الوقائع التي يبتلي بها المكلّف أو يحتمل ابتلاءه بها طريقيّ، بمعنى أنّ الغرض من إيجاب التعلّم إسقاط الجهل بالتكليف عن العذريّة

في صورة إمكان تعلّمه، فهذه الأدلّة منضمّة إلى الروايات الواردة في إرجاعهم عليهم السلام الناس إلى رواة الاحاديث و فقهاء أصحابهم كافية في الجزم في أنّ لزوم تعلّم الأحكام في الوقائع التي يبتلي بها المكلف أو يحتمل ابتلاءه يعمّ التعلّم من فقهاء رواة الأحاديث، فلا يكون الجهل مع إمكان التعلّم من الفقيه عذراً في مخالفة التكليف و ترك الوظيفة.

و مما ذكرنا يظهر أنّ ما ذكره في العروة- من بطلان عمل العاميّ التارك للاحتياط و التقليد- بمعنى عدم الإجزاء به عقلًا، و أنّه لو كان مع تركهما مخالفة التكليف الواقعيّ لاستحقّ العقاب على تلك المخالفة، بخلاف ما إذا لم يكن تركهما موجباً لذلك، كما إذا عمل حين العمل برجاء أنّه الواقع، ثمّ علم بعده أنّه مطابق لفتوى من يجب عليه التعلّم منه، فإنّ الأمن و عدم استحقاق العقاب الحاصل بهذا الإحراز كافٍ في نظر العقل، و ليس وجوب التعلّم قبل العمل كسائر التكاليف النفسيّة على ما تقدّم.

و أمّا ما ذكره جمع من العلماء من اعتبار العمل بفتوى المجتهد حال حياته في جواز البقاء على تقليده بعد موته، و ما ذكروه من عدم جواز العدول عن الحيّ إلى حيّ آخر مع العمل بفتوى الأوّل و جوازه بدونه لا يقتضي كون التقليد هو نفس العمل، فإنّ المتّبع في جواز الأول و عدم الجواز في الثاني ملاحظة الدليل فيهما ليؤخذ بمقتضاه؛ و لذا اعتبر في الجواز و عدمه العمل فيهما مَنْ يرى التقليد هو الالتزام بالعمل أو التعلّم للعمل.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 18

..........

______________________________

جواز التقليد

يقع الكلام في جواز التقليد في طريق إحراز العاميّ جوازه بنظره، ليمكن له التقليد، و في جوازه للعاميّ بنظر

المجتهد، و قد ذكر المحقق الخراساني قدس سره أنّ جوازه في الفرعيات في الجملة أي- مع ملاحظة الأوصاف المعتبرة في المجتهد أو المحتملة اعتبارها- من الأوّليات التي تكون فطريّة لكلّ إنسان يعلم بثبوت الأحكام و الوظائف الشرعيّة في الوقائع التي يبتلي بها أو يحتمل الابتلاء بها، و لأجل كون هذا فطريّاً جبليّاً يجده كلّ عاميّ من نفسه، و لا يحتاج فيه إلى دليل يوجب علمه بجوازه، و لو كان علم العاميّ بجوازه موقوفاً على الدليل على إحرازه جوازه لانسدّ باب العلم بجوازه عليه مطلقاً أي و لو كان له حظّ من العلم ما لم يكن له ملكة الاجتهاد، فإنّ استناد العاميّ في جوازه إلى التقليد يستلزم الدور أو التسلسل، فإنّ تقليده في مسألة جواز التقليد يتوقّف أيضاً على إحرازه جواز التقليد فيها.

و أمّا جواز رجوع العاميّ إلى المجتهد بنظر المجتهد فقد ذكر أنّ العمدة في جوازه بنظر الفقيه هو الحكم الفطريّ أيضاً؛ لأنّ ما عداه من الوجوه القائمة عند المجتهد التي ذكروها غير تامّة، كالاستدلال على جوازه بالإجماع، فإنّ الإجماع مدركيّ لاحتمال أن يكون المدرك لاتفاقهم هو كون الرجوع أمراً فطريّاً ارتكازيّاً، و هذا حال الإجماع المحصّل، فكيف بالمنقول؟ و إن قيل باعتبار المنقول في غير مثل المقام.

و ممّا ذكر يظهر الحال في دعوى كون جواز التقليد على العاميّ من ضروريات الدين؛ لأنّ احتمال كونه من ضروريّات العقل و فطريّاته أولى من تلك الدعوى.

و أيضاً يظهر الحال في دعوى سيرة المتديّنين، فإنّ سيرتهم ليست ناشئة من

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 19

..........

______________________________

مستند شرعيّ غير ما ذكر من كون الجواز أمراً فطريّاً، و ما استند في جوازه من بعض الآيات من

الكتاب المجيد غير تامّ، فإنّ آية النفر لا دلالة لها على جوازه و أخذ قول النذير و الفقيه تعبّداً، حيث إنّها في مقام إيجاب تعلّم الأحكام و التفقّه فيها و وجوب إبلاغها إلى السائرين بنحو الوجوب الكفائي، و آية السؤال في مقام إيجاب الفحص و التعلّم، و لعلّه لتحصيل العلم لا إيجاب التعبّد بجواب المسئول، كما يشهد لذلك كون المسئول هم أهل الكتاب و المسئول عنه من الاعتقاديّات، و لو قيل بأن المسئول هم الأئمّة عليهم السلام كما ورد في بعض الروايات فلا شبهة في اعتبار قولهم و كلامهم، و هذا خارج عن مورد الكلام في المقام.

نعم، يتمّ الاستدلال على جواز التقليد بالروايات الواردة في جواز تقليد العاميّ بالمطابقة أو بالاستلزام أو بالمفهوم، كما فيما ورد في جواز الإفتاء مع العلم مفهوماً أو منطوقاً، فإنّ ما يدلّ على عدم جواز الإفتاء من غير علم ظاهر مفهوماً جواز الإفتاء بالعلم، و هذا الجواز يستلزم جواز التقليد، و نظير ذلك ما ورد في إظهاره عليه السلام أن يرى في أصحابه من يفتي الناس بالحلال و الحرام، فإنّ مقتضاه جواز التقليد بالاستلزام؛ لأنّ إفتاء شخص أو شخصين لا يوجب العلم بالواقع، بخلاف الأمر بإظهار الحقّ و حرمة كتمانه، فإنّه لا يدلّ على التعبّد بالإظهار و الأخذ بالبيان، فإنّ الأمر بالإظهار و حرمة الكتمان لغاية ظهور الحقّ و العلم به كما يقتضيه مناسبة الحكم و الموضوع.

و الحاصل أنّ الأخبار المشار إليها لكثرتها و تعدّد أسانيدها توجب القطع بصدور بعضها عن الإمام عليه السلام، و إمضائهم جواز تقليد العاميّ في الفرعيّات و لو في الجملة، فيكون مخصّصاً لما دلّ على عدم جواز اتّباع غير العلم، و ما دلّ على الذمّ

على تقليد

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 20

..........

______________________________

الغير من الآيات و الروايات كقوله سبحانه: «لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» «1» و قوله سبحانه: «قٰالُوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ» «2» مع إمكان دعوى خروج التقليد في الفرعيّات من الفقيه عن مدلول الآيتين تخصّصاً لا تخصيصاً، فإنّ آية الذمّ على الاقتداء راجعة إلى رجوع الجاهل إلى مثله، و آية النهي عن اتّباع غير العلم ناظرة إلى النهي في الاعتقاديّات التي لا بدّ من تحصيل العلم و المعرفة بها.

و أمّا قياس الفرعيّات بالاعتقاديّات في عدم جواز التقليد، بدعوى أنّ مع غموض الأمر في الاعتقاديّات لا يجوز التقليد فيها، فكيف يجوز في الفرعيّات مع سهولة الوصول إليها فلا يمكن المساعدة عليه، فإنّ الاصول الاعتقاديّة المطلوب فيها العلم و اليقين و الاعتقاد مسائل معدودة يتيسّر تحصيل العلم بها لكلّ شخص، بخلاف الفرعيّات التي لا يتيسّر الاجتهاد الفعليّ في مسائلها إلّا في كلّياتها للأوحديّ في طول عمرهم كما لا يخفى.

أقول: الحكم العقليّ الفطريّ و إن كان المنشأ في بناء العقلاء على الرجوع في كلّ أمر يعرفه أهل خبرته إليهم، إلّا أنّ هذا البناء و حكم العقل قابل للردع عنه، حيث يمكن للشارع إلغاء التقليد في الحكم الشرعيّ الفرعيّ بالأمر بالاحتياط في كلّ واقعة لم يتفق العلماء الموجودون في عصره على نفي التكليف فيها، و إذا أمكن ذلك و احتمل العاميّ الردع فلا يفيده الحكم العقليّ الفطريّ، و قوله قدس سره: لو لا ذلك الفطريّ عند العاميّ لانسدّ على العاميّ باب العلم بجواز التقليد، ممنوع؛ إذ اللازم على العاميّ علمه بجواز التقليد

______________________________

(1) سورة الإسراء: الآية 36.

(2) سورة الزخرف:

الآية 22.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 21

..........

______________________________

له في المسائل التي يبتلي بها، و هذا يحصل من الاستدلال، و الاستدلال لا يتوقّف على تمكّنه و إحاطته بجميع ما يكون دليلًا للجواز عند الفقيه، بل على العاميّ أن يعتمد على علمه الحاصل من فتوى علماء عصره العدول المعروفين و من كان قبل عصره، و الجزم بأنّه لو منع الناس عن الرجوع إلى العلماء في تعلّم الفتوى و العمل به و أوجب عليهم الاحتياط لما أفتى هؤلاء بالجواز، و جواز الاقتصار بالعمل على طبق الفتوى المعتبر، و بهذا أيضاً يقنع نفسه في مسألة لزوم تحصيل العلم و اليقين في الاعتقاديّات و رفع اليد عن حكم الارتكاز، بأنّه لو لم يجب ذلك على الناس و جاز التقليد فيها لما أفتوا بوجوب تحصيل العلم و اليقين و الاعتقاد و لو بدليل يقنع نفسه.

و قد يقال: إنّه لو لم يتمكّن العاميّ من تحصيل العلم بجواز التقليد كان اللازم في حقّه بحكم العقل هو الاحتياط في الوقائع بالأخذ فيها بأحوط الأقوال من العلماء المعروفين في عصره؛ لأنّه لا يعلم بثبوت تكاليف زائدة في حقّه في الوقائع التي يبتلي بها غير ما أفتوا بها فيها و لو من بعضهم، فإنّ مقتضى العلم الإجماليّ بالتكاليف في موارد فتاويهم يوجب علمه الإجماليّ بثبوت التكاليف في حقّ المكلفين في الوقائع، و هذا الاحتياط على ما ذكرنا لا يوجب محذوراً على العاميّ من عسر فضلًا عن اختلال النظام.

و لكن لا يخفى أنّ انحلال العلم الإجماليّ الكبير بالعلم الإجمالي الصغير لا ينفع فيما إذا كان احتمال التكليف بنفسه منجّزاً للتكليف كما في المفروض في المقام، حيث لا يتمكّن العاميّ من الفحص عن جميع

الفتاوى في الوقائع و لا عن أدلّة الأحكام.

نعم، إذا حصل له الوثوق و الاطمئنان بعدم الدليل على التكليف في غير موارد

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 22

..........

______________________________

فتوى العلماء المعروفين في عصره، مع اعتقاده و جزمه بأنّ الشارع لم يردع عن العمل بوثوقه و اطمئنانه ذلك أمكن له ترك الاحتياط في غير موارد فتاوى علماء عصره بالتكليف، أو حصل الوثوق بفحص علماء عصره في مورد فتاويهم بنفي التكليف، و كان هو بنفسه عارفاً باعتبار الاصول النافية.

و أمّا الروايات فلا بأس بدلالتها- و لو بالالتزام في بعضها و بالمطابقة في بعضها الآخر- على جواز تعلّم العاميّ و العمل على طبقه في الأحكام الفرعيّة من العالم بها بالطرق المألوفة في الجملة، و يأتي التعرّض لذلك تفصيلًا.

و قد ظهر ممّا تقدّم استقلال العقل بعد اعتبار قول المفتي في حقّ العاميّ بأنّ المكلّف في الوقائع التي يبتلي بها إمّا أن يكون مجتهداً يعمل على طبق اجتهاده، أو مقلّداً يعمل على طبق فتوى المجتهد أو محتاطاً، و هذا التخيير بعد إحراز جواز الامتثال الإجماليّ حتى فيما إذا كان العمل عبادة، و الاحتياط فيها موجباً لتكرار العمل؛ و لذا لا يجوز الأخذ بالاحتياط في العبادات إلّا مع إحراز جوازه و لو بالاجتهاد في هذه المسألة أو مع التقليد فيها، و اعتبار قول المفتي في حقّ العاميّ كاعتبار خبر العدل و الثقة في الأحكام طريقيّ يوجب تنجّز الواقع مع الإصابة و العذر عند موافقته و خطئه، فيختصّ اعتبار الفتوى بموارد الجهل بالحكم الواقعيّ، و لا يكون مورد التقليد في ضروريات الدين و المذهب، و لا في القطعيّات التي يعرفها العاميّ و لو بالتسالم عليه كأكثر المباحات.

نعم، فيما يتردّد

الحكم بين الإباحة و الاستحباب أو بينهما و بين الكراهة فإن أراد الإتيان بقصد الاستحباب أو بقصد الكراهة كي ينال الثواب فعليه إحراز خصوص الحكم أو الإتيان بالرجاء و احتمال نيل الثواب؛ لئلا يكون عمله تشريعاً، و قد تقدّم

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 23

..........

______________________________

مدلول أخبار وجوب طلب العلم و أنّه بالإضافة إلى الفرعيات طريقيّ.

بقي في المقام ما ربّما يتوهّم من أنّ العمومات الناهية عن اتّباع غير العلم و المتضمّنة للذمّ على اتّباع غيره رادعة عن التقليد كقوله سبحانه: «لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» «1» و قوله سبحانه: «وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا إِلىٰ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قٰالُوا حَسْبُنٰا مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا» «2» إلى غير ذلك.

و لكنّ العموم أو الإطلاق لا يصلح رادعاً خصوصاً بالإضافة إلى السيرة المتشرعة و المشار إليها و الأخبار المستفاد منها لزوم رجوع العاميّ إلى الفقيه، و قول الفقيه يكون من اتّباع العلم، و الذم في الآية راجع إلى اتّباع الجاهل مثله بقرينة ما في ذيلها: «أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ» (3) مع أنّها ناظرة إلى التقليد في الاعتقاديّات و لا يجزي فيها التقليد، بل يجب فيها تحصيل العلم و العرفان و الإيمان، و لا يمكن فيها الأخذ ببعض الأخبار، و دعوى إطلاقها يعمّ جواز التعلّم في الاعتقاديات أيضاً بالأخذ بما يقول المسئول، فيكون قوله أيضاً فيها علماً و عرفاناً لا يمكن المساعدة عليه بوجه، فإنّ مقتضى تلك الروايات اعتبار قول من يرجع إليه، و أنّه علم في جهة طريقيّته لا من جهة الوصفيّة، و المطلوب في اصول الدين و المذهب العلم بما هو

صفة و يقين ينشرح به الصدر، و يشدّ القلب بالعروة الوثقى من الإيمان و الاعتقاد، كما هو مقتضى الأمر بالإيمان فيها في الكتاب المجيد في الآيات، و كذا الحال في الروايات الواردة فيها.

______________________________

(1) سورة الإسراء: الآية 36.

(2) و (3) سورة المائدة: الآية 104.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 24

[الأقوى جواز البقاء على تقليد الميت]

(مسألة 9) الأقوى جواز البقاء على تقليد الميت (1) و لا يجوز تقليد الميت ابتداءً.

______________________________

تقليد الميت

(1) ذكروا أن المعروف بين أصحابنا اعتبار الحياة في المجتهد في جواز تقليده فلا يعتبر فتوى المفتي بعد موته و عن بعض الأصحاب و مخالفينا و الأخباريين حيث يرون الأخذ بما استفاده الفقيه من الروايات المأثورة عن أهل البيت و الطهارة تقليداً إياه عدم اعتبارها، و عن جماعة من الأصحاب التفصيل بين التقليد الابتدائي فلا يجوز و بين التقليد الاستمراري فيجوز البقاء على تقليد الميت.

و ذكر في الكفاية أنه لا ينبغي الشك في أن مقتضى الشك في اعتبار الفتوى عدم اعتباره فلا بد في الخروج عن عدم الاعتبار من قيام دليل أو أصل حاكم على أصالة عدم الاعتبار.

و قد يقال بوجود أصل حاكم عليها حيث إن الاستصحاب في بقاء اعتبار الرأي نظره بعد موته أيضاً.

و رده بأن هذا الاستصحاب لا أساس له لأن بالموت ينتفي الرأي و النظر فلا مجال لاستصحاب الاعتبار الذي كان الموضوع له هو الرأي و النظر.

لا يقال: الرأي و النظر يتقوم بالنفس و لا تزول النفس بالموت بل تنتقل من عالم إلى عالم أرقى.

فإنه يقال: للحياة في بقاء الشخص و رأيه جهة تقوّم عند العرف و لذا يرون المعاد من إعادة المعدوم و لا يقاس لبعض الأحكام الجارية على الشخص كاستصحاب طهارته

و نجاسته و جواز النظر إليه؛ لأن للطهارة و جواز النظر الموضوع بحسب الفهم

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 25

..........

______________________________

العرفي البدن الذي يبقى بعد الموت أيضاً و إن يحتمل أن يكون للحياة دخالة فيهما في حدوثهما و بقائهما كاحتمال دخالة التغير في نجاسة الماء الكثير حدوثاً و بقاءً فلا يمكن الاستصحاب لا في بقاء اعتبار الرأي و لا في ناحية بقاء نفس الرأي و النظر لعدم بقاء الموضوع و يعتبر في جريان الاستصحاب في الحكم بقاء الموضوع له.

لا يقال: هذا إذا كان الرأي بحدوثه موضوعاً لحدوث الاعتبار، و ببقائه موضوعاً لبقاء الاعتبار، و أما إذا احتمل أن يكون الرأي بحدوثه موضوعاً لحدوث الاعتبار و بقائه كما في اعتبار خبر العدل فيمكن الاستصحاب في بقاء اعتبار الرأي و النظر الذي كان المجتهد عليه حال حياته.

فإنه يقال: لا يحتمل أن يكون الرأي بحدوثه موضوعاً للاعتبار حدوثاً و بقاءً كالخبر.

و يشهد لذلك عدم جواز تقليد الشخص بعد عروض الجنون أو زوال رأيه بسبب المرض و الهرم و لو كان اعتبار الرأي كاعتبار الخبر لما كان عروضهما موجباً لانتفاء الاعتبار كما في عروضهما للمخبر بعد اخباره.

و مما ذكر يظهر أنه لا فرق في عدم جواز تقليد الميت ابتداءً و عدم جواز البقاء على تقليده بعد موته سواء عمل بفتواه حال حياته أم لا لعدم بقاء الرأي و النظر بعد موته على كل تقدير.

أقول: لا شهادة في عدم جواز التقليد بعد عروض الجنون أو تبدّل الرأي أو زواله بأن الموضوع للاعتبار حدوثاً و بقاءً حدوث الرأي و بقاؤه فإن نظير ذلك ثابت في الخبر أيضاً فإن الخبر إذا أكذب نفسه في خبره السابق بمعنى أنه

ذكر وقوعه اشتباهاً

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 26

..........

______________________________

فلا يعبأ بخبره السابق في الأحكام الكلية بل في الموضوعات أيضاً في غير مقام الشهادة و الإقرار حيث إن مع تمام الشهادة و حصول القضاء لا ينقض الحكم و لا ينفذ الرجوع عن الإقرار السابق إلّا فيما يعتبر فيه تعدد الإقرار كالإقرار بالزنا و نحوه أو مطلق الحدود مع احتمال صدقه بناءً على سقوطها بالإنكار بعد الإقرار لحصول الشبهة كما قيل مع أن الإقرار كالإخبار بحدوثه موضوع للاعتبار حدوثاً و بقاءً و كما يقال إن الخبر فيما إذا وقع موضوع للاعتبار بشرط عدم رجوع مخبره و ادعائه بوقوعه اشتباهاً كذلك يمكن أن يكون الرأي موضوعاً للاعتبار بشرط أن لا يقع رجوع أو يعرض لمن ينسب إليه الرأي جنون و نحوه حيث إن المفتي بعد عروض الجنون لا يعتبر رأيه السابق لا لعدم بقائه، بل لأن المجنون لا يليق بمنصب الزعامة الدينية؛ و لذا يعتبر فيه بعض الأوصاف و الامور مما لا يكون الشخص مع فقدها مناسباً لذلك المنصب.

و الصحيح في الجواب عن استصحاب اعتبار الرأي أن يقال اعتباره كان متيقناً بالإضافة إلى من تعلم منه الفتوى حال حياته، و أما من يتعلم منه فتواه الذي كتب أو ينتقل بعد وفاته فلم يحرز اعتباره بالإضافة إلى من يتعلم بعد موته نظير ما ذكرنا في الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة أضف إلى ذلك أن الاستصحاب في اعتبار الرأي يكون من الاستصحاب في الشبهة الحكمية و يتعارض فيها استصحاب بقاء الاعتبار المجعول باستصحاب عدم جعله.

و الحاصل أن الموضوع للاعتبار بحسب الروايات فتوى المجتهد و فتواه إخبار عن الحكم الشرعي الكلي المجعول بنحو القضية الحقيقيّة.

نعم، إخباره

به عن حدس بخلاف الخبر عن حكم الواقعة بنحو القضية الحقيقية

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 27

..........

______________________________

بالسماع عن المعصوم عليه السلام فإنه أخبر به عن حسّ و سماع و كما أن الحدس ينتفي عن المجتهد بعد موته كذلك الحس في الخبر ينتفي غاية الأمر الدليل على الاعتبار في الخبر موجود كما تقدم في بحث حجية الخبر و لا دليل على اعتبار الأوّل إلّا بالإضافة إلى من أخذ الفتوى و تعلّم منه حال حياته.

و على الجملة لا يمكن إثبات اعتبار فتوى المجتهد و رأيه بالإضافة إلى من لم يتعلّم الحكم منه إلّا بعد وفاته، كما إذا وصلت فتواه إليه بعد موته بطريق النقل أو قرأها في كتابه أو رسالته.

نعم، ربما يقال إن مقتضى السيرة العقلائية جواز هذا النحو من التعلم حيث لا يرى العقلاء فرقاً بين الحي و الميت في الامور التي يرجعون فيها إلى أهل خبرتها و لم يردع عنها الشرع بالإضافة إلى تعلم الأحكام الشرعية.

و لكن لا يخفى ما فيه فإن السيرة العقلائية تتبع فيما إذا أحرز إمضاء الشارع لها في أخذ الأحكام و تعلّمها و لو كان إحراز الإمضاء بعدم الردع عن اتباعها و بما أن ما دلّ على إرجاع الإمام عليه السلام في تعلم معالم الدين إلى بعض الأشخاص من الأحياء فالمقدار المحرز إمضاؤه من السيرة ما إذا كان الرجوع إلى العالم بمعالم الدين في حياته و لم يثبت السيرة المتشرعة في الأخذ بأحكام الشرع الأخذ من كتاب شخص أو رسالته إلّا إذا كان الأخذ بمعنى تعلم الحديث و الرواية على نحو مذكور في بحث أخذ الحديث نعم مقتضى ما ورد من الروايات في إرجاعهم عليهم السلام

إلى الاشخاص عدم الفرق بين العمل بما أخذ منهم حال حياتهم أو بعد مماتهم.

و يمكن تقرير عدم جواز تقليد الميت ابتداءً بوجه آخر و هو بما أن المسائل

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 28

..........

______________________________

الاختلافية بين العلماء كثيرة جدّاً و لو لم يعتبر في جواز التقليد حياة المفتي و جاز تقليد الميت ابتداءً لزم في تلك المسائل الأخذ بقول أعلم الأموات و الأحياء فينحصر جواز التقليد بواحد في جميع الأعصار؛ لكونه أعلم من الكل أو يحتاط بين فتوى الاثنين و الثلاث، و هذا خلاف المعلوم من ضرورة المذهب و أنه أمر التزم به مخالفينا كما لا يخفى.

و أما الاستمرار على تقليد المجتهد بعد وفاته فقد ذكرنا أن مقتضى ما ورد في جواز التعلم ممن يعلم معالم الدين جواز العمل بما تعلم من الحي حتى بعد موته أيضاً، و حيث إن صاحب الكفاية قدس سره قد منع عن جريان الاستصحاب في بقاء حجية الرأي بأن الموضوع للاعتبار حدوثاً و بقاءً حدوث الرأي و بقاؤه و أن المجتهد بعد موته لا رأي له ليحكم باعتباره تعرض لاستصحاب آخر يقال باختصاص جريانه في البقاء على تقليد الميت، و هو الاستصحاب في الأحكام الشرعية الثابتة في حق العامي عند تقليده عن المجتهد حال حياته حيث إن رأي المجتهد كان من قبيل الواسطة لحدوثها لا من مقومات تلك الأحكام من حيث الموضوع و المعروض لها.

و أجاب عن هذا الاستصحاب بأن الأحكام ليست لها حالة سابقة محرزة لتستصحب بناءً على ما هو الصحيح من أن المجعول في الطرق و الأمارات التي منها رأي المجتهد بالإضافة إلى العامي مجرّد المعذرية، و المعذرية سواء استفيد جواز التقليد من حكم

الفطرة أو من الروايات و الخطابات الشرعية.

و ما تقدم سابقاً من قيام الأمارة مقام العلم في موارد إحراز الحالة السابقة بأن مفاد خطابات الاستصحاب إثبات الملازمة بين ثبوت الحكم و بقائه بحيث يكون الحجة

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 29

..........

______________________________

على الثبوت حجة على البقاء عند الشك كان تكلّفاً، نعم لو قيل بأن معنى اعتبار الطريق و الأمارة جعل مدلولها حكماً طريقياً ظاهرياً فلاستصحاب تلك الأحكام مجال إذا كانت الدعوى أن الرأي السابق كان من قبيل الواسطة في عروض تلك الأحكام لموضوعاتها، و لم يكن الرأي مقوماً للحكم المعروض إلّا أن الإنصاف أن ثبوت تلك الأحكام لموضوعاتها بما أنها متعلق رأي المجتهد و حدسه فيكون هذا العنوان مقوماً لها و بعد انتفاء الرأي لا موضوع لها و لا مجال لاستصحاباتها، بل يمكن أن يقال إذا لم يجز البقاء على تقليد المجتهد بعد زوال رأيه بالهرم و المرض إجماعاً لم يجز البقاء بعد موته بالأولوية حيث إن الهرم و المرض لا يوجب زوال الشخص بل زوال رأيه فقط بخلاف الموت فإنه زوال للشخص أيضاً.

أقول: لا يخفى ما في كلامه فإنه لا مجال للاستصحاب في الأحكام التي كانت منجزة بفتوى المجتهد حال حياته حتى بناءً على ما ذكره في بحث الاستصحاب و عبّر عنه في المقام بالتكلف السابق، و هو كون مفاد خطابات الاستصحاب جعل الملازمة بين ثبوت الشي ء و بقائه عند الشك، و ذلك فإن المصحّح هو شك المكلف في بقاء الحكم على تقدير ثبوته واقعاً فيدعي أن بالأمارة يحرز ثبوته من حيث التنجز، و بقاؤه على التنجز يحرز بالاستصحاب، و ليس الشك في المقام في بقاء الحكم على تقدير ثبوته واقعاً،

بل بقاؤه على تقدير ثبوته محرز وجداناً، و إنما الشك في ثبوته في الواقعة من الأوّل و ما كان عليه المجتهد من الرأي و الفتوى كان منجّزاً في ثبوت ذلك الحكم فإن أمكن الاستصحاب في بقاء الحجية لذلك الرأي و الفتوى كما ذكرنا من أن حدوث الرأي و الفتوى كافٍ في ثبوت الحجية و بقائها فهو، و الّا فلا مورد للاستصحاب؛ لعدم بقاء الرأي.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 30

..........

______________________________

و أيضاً ما ذكره من قياس موت المجتهد و زوال رأيه به بالهرم و نحوه الذي يلحق الشخص معه بالصبيان و المجانين لا يخفى ما فيه فإن الإجماع على عدم جواز التقليد بعد الهرم و نحوه للعلم بعدم رضا الشارع بالزعامة الدينية ممّن لاحق بالصبيان و المجانين، و هذا بخلاف الموت فإنه ارتحال من عالم إلى عالم أرقى حيث مات الأنبياء و الأولياء و أنه أمر قد خطّ على بني آدم.

و على الجملة فلا مانع عن استصحاب بقاء ما كان للمجتهد من فتواه على اعتباره بعد موته كبقاء الشهادة و الخبر على اعتبارهما، نعم الاستصحاب في الشبهة الحكمية لا يجري و في المقام الشبهة حكمية و لكن لا تصل النوبة في المقام للأصل العملي للإطلاق في الروايات على ما تقدم.

نعم، إذا خالف الحي مع الميت الذي كان قلده في زمان حياته في بعض الفتاوى و كان الحي أعلم منه بالفعل يتعين على العامي العدول إلى الحيّ كما يأتي في مسألة لزوم تقليد الأعلم مع العلم باختلاف الفتاوى.

و الكلام في إجزاء الأعمال التي أتى بها زمان حياة المجتهد السابق تقدم في باب الإجزاء و نعيده في المقام في ضمن بعض المسائل، و هذا

بخلاف ما إذا كان الميت أعلم من الحي فإنه يتعين عليه البقاء على تقليد الميت في المسائل التي تعلّمها منه حال حياته و لم ينساها حتى يحتاج إلى تعلم جديد نظير من يتعلم فتواه بعد موته بالنقل إليه أو يقرأ فتواه من كتابه أو رسالته، و ما في بعض الروايات في أمر كتاب فضل بن شاذان و يونس بن عبد الرحمن من تصديق الإمام عليه السلام العمل بما فيهما على تقديره لا يكون شاهداً لجواز تقليد الميت ابتداءً أو بعد نسيان فتواه فإن مع تصديقه عليه السلام ينسب ما في

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 31

..........

______________________________

الكتاب إلى الإمام عليه السلام فيعتبر ما فيه قوله و لا كلام في اتباع قول الإمام عليه السلام في حياته أم بعد مماته.

و إذا كان الميت حال حياته أعلم من الحي و شك في صيرورة الحي أعلم منه يستصحب عدم صيرورته أعلم و إن شك في أعلميته منه من الأول كما في الشك الساري، فإن احتمل الأعلمية في حقه فقط بمعنى أنه كان مساوياً للحي أو كان أعلم فالمتعين هو الأخذ بأحوط القولين حتى بناءً على التخيير بين المتساويين فإن الميت في الفرض و إن يحتمل أعلميته من الحي إلّا أنه لا يدور الأمر في الفرض بين التخيير و التعيين في الحجية حيث إن المشهور لم يجوزوا التقليد من الميت حتى بقاءً و حتى ما إذا كان أعلم من الحيّ و لا يقاس الفرض بما إذا كان مجتهدان فعلم أنهما إما متساويان في الفضل أو أن هذا المعين أعلم من الآخر لو ادعى الوثوق و الاطمينان بأن الشارع لا يريد من العامي الاحتياط في الوقائع

و عليه جاز له الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية الحاصلة بموافقته عملًا فتوى أحدهما.

و قد يقال إنما يجوز البقاء على تقليد الميت أو يجب فيما إذا عمل العامي بفتاوى الميت حال حياته و ما لم يعمل بها يتعين رجوعه إلى الحيّ سواء كان الميت أعلم من الحي أم لا، و لعل هذا القائل يرى أن التقليد هو العمل أي الاستناد فيه إلى الفتوى و ما دام لم يعمل بالفتوى حال حياة المفتي لا يكون العمل بفتواه بعد موته من البقاء على التقليد أو يقول بأن المجتهد في فتاويه في المسائل يكون غالباً مبتلى بالمعارض من السائرين و يكون اعتبار فتواه فيها من قبيل التخيير بين المتعارضين فما دام لم يعمل العامي بفتواه حال حياته لم يكن له اعتبار ليستصحب بعد موته و لكن لا يخفى ما فيه

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 32

[إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العود إلى الميّت]

(مسألة 10) إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العود إلى الميّت (1).

[لا يجوز العدول عن الحيّ إلى الحيّ إلّا إذا كان الثاني أعلم]

(مسألة 11) لا يجوز العدول عن الحيّ إلى الحيّ إلّا إذا كان الثاني أعلم (2).

______________________________

فإن المجتهد لو كان أعلم حال حياته من غيره كانت فتواه معتبرة، و تعلّم العامي تلك الفتوى علماً بالحكم الشرعي، و يأتي أنه لا اعتبار مع الأعلم لفتوى غيره و إن كان عمل العامي به بعد وفاته و إن لم يكن أعلم كان المتعين على العامي الاحتياط بين القولين أو الأقوال في المسألة أو الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية، هذا كله مع إحراز اختلاف الفتاوى و لو إجمالًا.

و أما مع عدم علم العامي باختلاف الأحياء فيها و لو بالظفر بموارد معينة من الاختلاف و انحلال علمه الإجمالي به فالتعلم من كل منهم يحسب علماً منه بالحكم الشرعي سواء عمل به حال حياته أم لا.

العدول في التقليد

(1) و قد ظهر ممّا تقدّم إذا تعلّم الوظائف من مجتهد أعلم حال حياته و مات ذلك المجتهد فقلّد مجتهداً حيّاً، فإن كان الميّت أعلم بالإضافة إليه فرجوعه إلى الحيّ غير صحيح، و وجب عليه العمل بما تعلّم من الميت حال حياته، و إن كان في كلّ منهما احتمال الأعلميّة بالإضافة إلى الآخر فلا بأس فيما إذا لم يوجب القطع بمخالفة التكليف الواقعيّ إمّا في الواقعة السابقة أو اللاحقة و إن لم نقل بالاحتياط بين القولين و الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة.

(2) و لا يخفى أنّ الثاني إذا صار أعلم من السابق يجب الرجوع إليه، و أمّا إذا علم أنّ الثاني كان أعلم من الحيّ الأوّل فيعلم بطلان تقليده الأوّل.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 33

[يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط]

(مسألة 12) يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط (1) ...

[إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخيّر بينهما]

(مسألة 13) إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخيّر بينهما إلّا إذا كان أحدهما أورع فيختار الأورع (2).

______________________________

(1) أقول: قد تقدّم لا يجب تقليد الأعلم في المسائل التي لا يعلم اختلاف المجتهدين فيها لا إجمالًا و لا تفصيلًا، و اتّباع الأعلم في المسائل التي يعلم العاميّ اختلاف العلماء فيها و لو إجمالًا عندهم لعدم اعتبار قول غيره، و يجب الفحص عن الأعلم فيها مع العلم بوجوده، بل مع احتمال وجوده لإحراز الحجّة فالأخذ بقول أحدهم مع الشك في اعتبار قوله لا يكون مجزياً، كما تقدّم في بيان حكم العقل في إحراز الامتثال و الطاعة، كما لا يحرز أن ما أخذه منه إحراز لمعالم دينه و وظيفته الشرعيّة في الواقعة. نعم لا بأس بتركه و الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين.

إذا تساوى المجتهدان في الفضيلة

(2) أقول: يقع الكلام تارة فيما إذا لم يعلم العاميّ اختلاف أحدهما مع الآخر في المسائل التي يبتلي بها أو يحتمل ابتلاءه بها، و اخرى فيما إذا اعلم اختلافهما تفصيلًا أو إجمالًا، أمّا الفرض الأوّل فالظاهر جواز تعلّم الحكم من كلّ منهما، و بعد تعلّمه يجب عليه العمل بما تعلّمه، و قد تقدّم أنّ هذا مقتضى الإطلاق فيما دلّ على جواز المراجعة إلى من يثق به في تعلّم الأحكام من يونس بن عبد الرحمن و الحارث بن المغيرة و أمثالهما بلا حاجة إلى إحراز عدم المخالفة بينهما بالأصل، و لا أثر لأورعيّة أحدهما في الفرض؛ لأنّ ما يمكن أن يستند إليه في الالتزام بالرجوع إلى الأورع من مقبولة عمر بن حنظلة «1» و رواية داود بن الحصين التي في سندها الحكم

بن مسكين عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 34

..........

______________________________

أبي عبد اللّه عليه السلام: في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال:

«ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما، فينفذ حكمه و لا يلتفت إلى الآخر» «1» و هما ظاهرتان في فرض ظهور اختلافهما.

و أمّا إذا كان الاختلاف بينهما محرزاً فالمتعيّن سقوط اعتبار كلّ من الفتاوى المختلفة بينهما عن الاعتبار، فإنّ دليل جواز التقليد بمعنى تعلّم الحكم من الفقيه لا يعمّ صورة العلم بالاختلاف، إلّا فيما إذا كان أحدهما أعلم كما هو خلاف الفرض في المسألة، فيدور أمر العامي في المسألة بين الاحتياط في الواقعة إذا لم يمكن الاحتياط فيها بالأخذ بأحد القولين، و إذا أحرز أنّ الشارع لا يريد منها الاحتياط في الوقائع فتصل النوبة إلى الموافقة الاحتماليّة التي تحصل بمطابقة عمله لفتوى أحدهما في المسائل، حيث إنّه إذا لم يجب الموافقة القطعيّة في الوقائع يكتفى بالموافقة الاحتماليّة في الوقائع، و هذه الموافقة الاحتماليّة مقدّمة على الموافقة القطعيّة في بعض الموارد مع العلم بالمخالفة في بعضها الآخر.

و لا دلالة في المقبولة و لا لرواية داود على خلاف ذلك، فإنّ موردهما القضاء و فصل الخصومة، و لا يمكن ذلك- يعني فصلها- إلّا بنفوذ حكم أحدهما المعيّن، و لو ادّعى استفادة حكم الرجوع إلى الفقيه في تعلّم الحكم الشرعي أي الفتوى منهما لزم الالتزام بأنّه إذا كان أحد الفقيهين أعلم من الآخر، و الآخر أورع من الأعلم يكون المكلّف على التخيير بينهما مع أنّ

صاحب العروة أو غيره لم يلتزم بذلك، و وجه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 113، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 35

..........

______________________________

اللزوم ظهور المقبولة و الرواية كون كلّ من الأوصاف مرجّحاً لقضاء صاحبه، لا أنّ المرجّح مجموع تلك الأوصاف؛ و لذا كرّر في المقبولة السؤال عمّا إذا كان كلّ من الحكمين مساوياً فيها و ليس لأحدهما فضل على الآخر فيها.

ثمّ إنّه كما تقدّم لا تصل النوبة في مفروض المسألة إلى قاعدة احتمال التعيّن في الحجّة عند دوران أمرها، بأن يقال فتوى الأورع حجّة يقيناً و الشكّ في فتوى الآخر و ذلك فإنّ التخيير الذي ذكرنا للالتزام بعدم وجوب الاحتياط و كفاية الموافقة الاحتماليّة، لا لاعتبار كلا الفتويين على نحو التخيير أو اعتبار فتوى الأورع تعيّناً، ليقال يؤخذ بالتعيين عند دوران الحجّة بين التعيين و التخيير.

و قد يقال «1»: لا يكون المقام من دوران الحجّة بين التعيين و التخيير حتّى بناءً على الالتزام بأنّ الحجة عند دوران الأمر بين مجتهدين متساويين تخييريّة؛ لأنّ ما في أحد المجتهدين من المزيّة غير دخيل في ملاك طريقيّة فتواه، كما إذا دار الأمر بين مجتهدين متساويين في العلم و لكن أحدهما يواظب على نافلة الليل دون الآخر.

و لكن لا يمكن المساعدة عليه، فإنّه إذا احتمل أنّ ما في أحدهما من المزيّة و إن لم يكن ذلك دخيلًا في مطابقة فتاويه للواقع اعتبره الشارع بملاحظة منصب المرجعيّة و القضاء، دخل المقام مع الالتزام بالتخيير في الحجّة في صورة التساوي في دوران الأمر بين التعيين و التخيير فيها.

______________________________

(1) بحوث في الاصول (الاجتهاد و التّقليد): 65. (للأصفهاني).

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و

التقليد، ص: 36

[إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز الأخذ في تلك المسألة من غير الأعلم]

(مسألة 14) إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز (1) في تلك المسألة الأخذ من غير الأعلم و إن أمكن الاحتياط.

______________________________

إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة

(1) قد يفصّل «1» في المقام بين ما إذا لم يفتِ الأعلم في مسألة لعدم إكمال فحصه عن مقتضى مدارك الحكم فيها أو أنّه لم يفحص عنها في تلك المسألة أصلًا، كما ربّما يتّفق ذلك في مقام الاستفتاء عنه في مسألة فيجيب فيها بالاحتياط، ففي مثل ذلك ممّا يحتمل الأعلم أنّه لو أكمل فحصه أو فحص عن المدرك فيها لأفتى بما أفتى فيه غير الأعلم، و كذا فيما لا يريد الأعلم أن يفتي فيها ببعض الملاحظات، كأن لا يريد أن يخالف المشهور في إفتائهم و إن كان مقتضى ملاحظة المدارك للأحكام هو ما أفتى به غير الأعلم، فإنّه يجوز في ذلك أيضاً الرجوع إلى فتوى غير الأعلم، فإنّه عالم بحكم المسألة كما هو فرض كونه مجتهداً عارفاً بطريق الاستنباط و تعيين الأحكام من أدلّتها، و كان المانع عن اعتبار فتاواه في ساير الموارد معارضتها و إحراز مخالفتها مع فتوى الأعلم و لو إجمالًا، و هذا المانع غير موجود بالإضافة إلى مفروض الكلام فيعمّه ما دلّ على الرجوع بالعارف بالأحكام، و يؤيّده السيرة العقلائيّة، و يلحق بذلك ما إذا كانت المسألة مما لم يتعرّض الأعلم لحكمها أصلًا و يحتمل العاميّ أنّه لو كان متعرّضاً لحكمها لأفتى بما أفتى به غير الأعلم.

و أمّا إذا كان عدم إفتاء الأعلم بالإضافة إلى نفس الحكم الواقعيّ لا بالإضافة إلى مدركه، بل كان المستفاد من قوله أنّ مقتضى رعاية المدارك هو الحكم بالتكليف أو ما هو الموضوع

له من الوضع، كما لو عبّر بقوله: الأحوط لو لم يكن أقوى هو الترك أو

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 145.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 37

..........

______________________________

الإتيان، في مقابل من أفتى بجواز الارتكاب أو جواز الترك أو رأى الأعلم أنّ مقتضى العلم الإجماليّ الموجود بالتكليف في المسألة هو الاحتياط و الجمع بين الفعلين، كما قال بالاحتياط في مسألة من سافر أربعة فراسخ غير قاصد الرجوع من يومه، و إذا رأى المجتهد أنّ ما دلّ على وجوب القصر فيه معارض بما دلّ على التمام فيه و ليس في البين معيّن آخر لوجوب خصوص أحدهما، فقال لا مجال في المسألة إلّا الاحتياط بالجمع بين القصر و التمام، فلا يجوز للعاميّ في مثل ذلك الرجوع إلى فتوى غير الأعلم الذي ينفي التكليف في الفرض الأوّل أو يعيّن التكليف في ناحية أحد الفعلين.

و على الجملة إذا كان ما ذكره الأعلم في المسألة من الاحتياط متضمّناً لتخطئة من ينفي التكليف أو الاحتياط فلا مجال فيها للرجوع إلى قول غير الأعلم.

و قد ذكرنا في جواب هذا التفصيل في الدورات السابقة أنّ ما هو معتبر بالإضافة إلى العامّي هو الفتوى بالحكم الشرعي، و مع عدم الافتاء به فلا موضوع لوجوب التعلّم منه و المفروض في المقام أنّه ليس للأعلم فتوى بالإضافة إلى الحكم الشرعي في المسألة ليعارض فتوى الآخر، و يبقى ما يتضمّن قول الأعلم من تخطئة غيره، و أنّه ليس بمقتضى المدارك و لا دليل على اعتبار قول الأعلم في نفس هذا القول، و لكن لا يبعد بأن يقال الدليل على اعتبار قول الأعلم في فرض المعارضة السيرة العقلائيّة، و العقلاء لا يعتنون بقول غير الأعلم

إذا كان القول المزبور موضع اتّهام من الأعلم مع إمكان رعاية الواقع و لو بالاحتياط، و المفروض أنّ الأعلم عيّن الوظيفة الظاهريّة فيه.

ثمّ إذا جاز العدول إلى غير الأعلم في موارد عدم الفتوى من الأعلم يجب رعاية الرجوع إلى الأعلم فالأعلم مع اختلافهما لعين ما تقدّم.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 38

[إذا قلّد مجتهداً كان يجوّز البقاء على تقليد الميّت فمات لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة]

(مسألة 15) إذا قلّد مجتهداً كان يجوّز البقاء على تقليد الميّت فمات ذلك المجتهد، لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة، بل يجب الرجوع إلى الحيّ الأعلم في جواز البقاء و عدمه (1).

______________________________

مسألة جواز البقاء على تقليد الميت

(1) يقع الكلام تارة في فتوى المجتهد الميّت في مسألة البقاء على تقليد الميّت سواء أفتى فيها بجواز البقاء أو بعدم جوازه أو بوجوب البقاء، و اخرى في فتوى الحيّ الأعلم سواء أفتى بجواز البقاء أو بعدم جوازه.

فنقول: إذا أفتى الميّت بجواز البقاء على تقليد الميّت فلا يجوز الاستناد إليه و الاعتماد عليه في مقام العمل بسائر فتاواه؛ لأنّ الاستناد في العمل بفتاواه اعتماداً على فتواه بجواز البقاء دوريّ، فلا بدّ من الرجوع إلى الحيّ الأعلم في مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت، فيكون المقام نظير ما إذا لم يكن للأعلم فتوى في المسائل التي ابتلى بها المكلّف، حتّى فيما إذا فرض أنّ الميّت كان أعلم من الحيّ الموجود فعلًا، إذ لا يعتبر قوله في مسألة البقاء على تقليد الميّت سواء كان فتواه بجواز البقاء أو وجوبه أو عدم جواز البقاء، و كذا يكون نظير ما إذا كان الأعلم الحيّ غير واجد لسائر شرائط التقليد حيث يرجع إلى فتوى الحيّ الواجد لشرائط جواز التقليد، حيث إنّ فتوى الأعلم الحيّ هو

المتيقّن في الاعتبار بالإضافة إلى العاميّ بعد سقوط فتوى الميّت عن الاعتبار في مسألة البقاء على تقليد الميت.

و على ذلك فإن أفتى الحيّ الأعلم بعدم جواز البقاء على تقليد الميت فلا يترتّب على رأي الميّت في المسائل أيّ أثر حتّى إذا فرض أنّ فتواه كانت وجوب البقاء على تقليد الميّت فضلًا عن فتواه بجواز البقاء أو حرمته، و أمّا إذا أفتى الحيّ الأعلم بجواز البقاء فهل يمكن الالتزام بأنّ للعاميّ أن يعتمد في مسألة البقاء على تقليد الميّت على

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 39

..........

______________________________

فتوى الميّت بفتوى الحيّ فيها بجواز البقاء؟ بأن يبقى على تقليد الميّت في خصوص هذه المسألة بحيث صار ما يفتي الميّت حال حياته من جواز البقاء على تقليد الميّت حجّة بعد وفاته أيضاً بفتوى الحيّ، أو أنّ فتاوى الميّت في ساير المسائل معتبرة بفتوى الحيّ بجواز البقاء و لا تعتبر فتوى الميّت في مسألة جواز البقاء حتّى مع حكم الحيّ بجواز البقاء على تقليد الميّت.

الصحيح أن يقال: إن لم تختلف فتوى الحيّ الأعلم مع فتوى الميّت في مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت- بأن يكون ما أجازه الحيّ من البقاء كان هو الجائز على فتوى الميّت- فلا يصير قول الميّت في مسألة جواز البقاء مع تقليد العاميّ عن الحيّ الأعلم حجّة معتبرة في تلك المسألة، فإنّ فتوى الأعلم الحيّ بجواز البقاء معناه أنّ الفتاوى من الميّت في المسائل إذا قلّد العاميّ إيّاه فيها حال حياته هي الوظائف الشرعيّة بالإضافة إليه بعد مماته، و مع فرض رجوع العاميّ إلى الحيّ الأعلم في ذلك و صيرورته عالماً بوظائفه الشرعيّة لا معنى لاعتبار فتاوى الميّت علماً في حقّ العامي

ثانياً بفتوى نفس الميّت حال حياته بجواز البقاء، لأنّ هذا الاعتبار يصير لغواً محضاً، و كذا الحال فيما إذا اختلفت فتوى الحيّ الأعلم مع فتوى الميّت و كانت فتوى الحيّ أوسع من فتوى الميّت في الجواز، كما إذا كان الميّت يعتبر في جواز البقاء العمل بفتوى الميّت حال حياته، و لكنّ الحيّ الأعلم يجوّز البقاء مطلقاً سواء عمل بفتوى الميت حال حياته أم لم يعمل، فإنّه في هذا الفرض أيضاً يكون العاميّ بالرجوع إلى الحيّ عالماً بالوظائف الشرعيّة في الوقائع التي قلّد فيها المجتهد الميّت، فلا أثر للضيق في فتوى الميّت في مسألة جواز البقاء.

و بتعبير آخر إذا صارت فتاوى الميّت في الوقائع في المسائل التي تعلم حكمها

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 40

..........

______________________________

من الميت حال حياته حجة في حق العاميّ بفتوى الحيّ فلا يمكن شمول اعتبار فتوى الحيّ بالإضافة إلى فتوى الميّت في مسألة البقاء، حيث إنّه لغو محض.

و أمّا إذا كان الأمر بالعكس، بأن كان الميّت يجوّز البقاء على تقليد الميّت في المسائل التي قلّد فيها في حياة المجتهد، سواء عمل بها في حال حياته أم لا، و لكن الحيّ الموجود فعلًا يجوز له البقاء على تقليد الميّت في خصوص المسائل التي قلّد فيها المجتهد، و عمل بها في حال حياته، ففي هذا الفرض لو عمل العاميّ بفتوى الميّت في مسألة البقاء حال حياته، كما إذا بقي على تقليد مجتهد برهة من الزمان بعد موته اعتماداً على فتوى حيّ أجاز البقاء على تقليد الميّت و لو لم يعمل بفتواه حال حياته، و بعد موت هذا الحيّ إذا رجع إلى الحيّ الذي يعتبر العمل في حال حياة الميّت يبقى

على تقليد الثاني- في مسألة البقاء- الذي عمل بفتواه حال حياته في البقاء على تقليد الميّت الأوّل، و بذلك يمكن القول باعتبار فتوى الميّت الثاني بفتوى الحيّ الفعليّ في البقاء على تقليد الميّت الأوّل حتّى في المسائل التي لم يعمل بفتواه فيها زمان حياته، فيكون هذا نظير ما أقمنا الدليل على حجّية خبر العدل في الأحكام الشرعيّة و قام خبر عدل على حجّية خبر مطلق الثقة في الأحكام الشرعيّة، فتكون النتيجة حجّية خبر مطلق الثقة في الأحكام الشرعيّة.

لا يقال: إذا أفتى الحيّ الفعليّ بجواز البقاء على تقليد الميّت في خصوص المسائل التي عمل بها العاميّ حال حياة مجتهده، و منع عن البقاء على تقليده فيما لم يعمل به حال حياته؛ لقيام الدليل عند الحيّ على الاختصاص، فكيف يجوز للعاميّ- الذي عمل بفتوى الميّت في مسألة جواز البقاء حال حياته- البقاء على فتاوى الميّت الأوّل مع عدم عمله بتلك الفتاوى زمان حياة الميّت الأوّل؟ حيث إنّ الحيّ الفعليّ يمنع

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 41

..........

______________________________

عن مثل هذا البقاء.

فإنّه يقال: العاميّ لم يستند في البقاء على تلك الفتاوى إلى فتوى الحيّ في مسألة جواز البقاء ليتناقض هذا النحو من البقاء مع فتواه، بل يستند في جواز البقاء عليها إلى فتوى الميّت الثاني في مسألة جواز البقاء، و المفروض أنّه عمل بهذه الفتوى في زمان حياته و يستند في البقاء في هذا الجواز إلى فتوى الحيّ الفعلي.

و بتعبير آخر إنّما منع الحيّ في الاستناد في تلك الفتوى بأن يعمل العاميّ بها مستنداً إلى الحيّ الفعليّ و أنّه جوّز هذا الاستناد فيها و لم يمنع عنه، و لكن لم يمنع عن العمل بها مستنداً

إلى فتوى الميّت الثاني.

و لا يخفى أنّ المراد بجواز البقاء في كلّ من فتوى الحيّ و الميّت الثاني عدم تعيّن البقاء، و عليه تكون فتاوى الميت الأوّل و فتاوى الحيّ الفعليّ من قبيل الحجّة التخييريّة بالمعنى المتقدّم، بمعنى أنّ للعاميّ اختيار إحداهما في مقام العمل.

و أمّا إذا أفتى الميّت بجواز البقاء على تقليد الميّت، و أفتى الحيّ بوجوب البقاء فهل يمكن أن يعمّ فتوى الحيّ لمسألة جواز البقاء على تقليد الميّت التي أفتى فيها الميّت بالجواز؟ بحيث جاز للعاميّ العدول في غيرها من المسائل إلى الحيّ استناداً إلى فتوى الميّت بجواز العدول و البقاء، أو أنّه لا يمكن أن تعمّ فتوى الحيّ تلك المسألة، بل يختصّ اعتبار فتوى الحيّ لسائر فتاوى الميّت في المسائل.

قد يقال بالاختصاص حيث إنّ شمول اعتبار فتوى الحيّ بوجوب البقاء لنفس مسألة ما أفتاه الميّت في مسألة جواز البقاء يوجب أن يكون فتوى الميّت في ساير المسائل حجّة تعيينيّة و تخييريّة حيث إنّ شمول فتوى الحيّ لما أفتى به في ساير

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 42

..........

______________________________

المسائل مقتضاه أنّ فتوى الميّت فيها حجّة تعيينيّة، و شمول فتواه لنفس مسألة جواز البقاء الذي هو فتوى الميّت يوجب كونها حجّة تخييريّة، و لا يمكن أن يكون فتوى أيّ مفت في مسألة من المسائل أن تكون حجّة تعيينيّة و تخييريّة.

أقول: إنّما لا يكون قول الميّت حجّة في مسألة البقاء على تقليد الميّت و لا في سائر المسائل إذا كان الاستناد إلى نفس قوله، و إذا أفتى الحيّ بوجوب البقاء على تقليد الميّت، و كان قوله حجّة فيها يكون العاميّ برجوعه إلى هذا الحيّ عالماً بوظائفه في سائر المسائل التي

تعلّم حكمها من الميّت حال حياته كما هو مقتضى الحجّة التعيينيّة، و لا يعتبر قول الميّت في مسألة جواز البقاء و إن تعلّمه العاميّ من الميّت حال حياته؛ لأنّ مرجع قول الميّت أنّ العاميّ جاهل بعد موت مجتهده بالوظائف في المسائل ما لم يختر البقاء و الرجوع إلى الحيّ، و المفروض أنّ الحيّ الذي قوله معتبر في البقاء نفى ذلك و أفتى بأنّ العاميّ بعد موت مجتهده عالم بالوظائف و أنّ وظائفه هي التي كانت عليها حال حياة مجتهده.

و بتعبير آخر اختيار البقاء أو الرجوع في المسائل إلى الحيّ و فتوى الميّت في مسألة البقاء موضوعها العاميّ و الجاهل بالوظيفة، و بفتوى الحيّ بوجوب البقاء و اعتباره كما هو المفروض يخرج العاميّ عن الموضوع الذي ذكر الميّت الحكم له، فتكون فتوى الحيّ حاكمة على فتوى الميّت فتدبّر.

و أمّا إذا كان الأمر بالعكس، بأن كانت فتوى الميّت في مسألة البقاء الوجوب و فتوى الحيّ الجواز، حيث لا اعتبار بفتوى الميّت في المسائل و منها مسألة البقاء على التقليد بعد موت المجتهد فيجوز للعاميّ البقاء على فتاوى الميّت أو الرجوع فيها إلى الحيّ.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 43

..........

______________________________

و بتعبير آخر لا يمكن أن تكون فتاوى مجتهد بالإضافة إلى العاميّ حجة تعيينية و تخييريّة و حيث إنّ قول المجتهد الثاني ليس بحجّة يكون المتّبع قول الحيّ.

نعم إذا كان لفتوى الحيّ في الجواز خصوصيّة و لم تكن تلك الخصوصيّة في فتوى الميّت، بأن أجاز الحيّ البقاء في خصوص المسائل التي عمل المكلف بها زمان حياة مجتهده، و فرض أنّ العاميّ قد عمل بفتوى الميّت بوجوب البقاء في حياة المجتهد جاز له البقاء على تقليد

المجتهد الثاني في هذه المسألة، و بذلك تكون فتاوى المجتهد الميّت الأول حجّة في حقّه و إن لم يكن عاملًا بها زمان المجتهد الأوّل الذي مات قبل المجتهد الثاني.

و أمّا إذا كان كلّ من الميّت و الحيّ الفعليّ قائلًا بوجوب البقاء على تقليد الميّت فإن لم يكن بينهما اختلاف في الخصوصيّات أصلًا أو كانت الخصوصيّة في فتوى الميّت فقط فلا يعتبر قول الميّت في مسألة البقاء أصلًا لعين الوجه المذكور فيما تقدّم في المسألة في صورة تجويز كلّ منهما البقاء على تقليد الميت، و أمّا إذا كانت الخصوصيّة في فتوى الحيّ فقط، كما إذا أفتى الحيّ بوجوب البقاء في خصوص المسائل التي عمل العاميّ بها زمان حياة المفتي، و كانت فتوى الميّت وجوب البقاء سواء عمل بها زمان حياة مجتهده أم لا، فيمكن أن تصير فتوى الميّت حجّة في مسألة وجوب البقاء على النحو الذي فرضنا في اختلاف الحيّ مع الميّت في فتواهما في خصوصيّة جواز البقاء.

بقي في المقام ما إذا أفتى الحيّ بعدم جواز البقاء على تقليد الميّت بعد موته، و قد أشرنا في أوّل البحث إلى أنّ فتواه بعدم جواز البقاء على تقليد الميت توجب الرجوع في تمام المسائل إليه و لا يعتبر شي ء من فتاوى الميّت لا في مسألة البقاء على تقليد

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 44

[عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل]

(مسألة 16) عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل (1) و إن كان مطابقاً للواقع، و أمّا الجاهل القاصر أو المقصّر الذي كان غافلًا حين العمل و حصل منه قصد القربة، فإن كان مطابقاً لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحاً، و الأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان

يجب عليه تقليده حين العمل.

______________________________

الميت، و لا في سائرها؛ لأنّ معنى عدم جواز البقاء أنّ فتاوى الميّت لا يكون شي ء منها حجّة في حقّ العاميّ، و المفروض أنّ على العاميّ الرجوع في الوقائع التي يبتلى بها إلى أعلم الأحياء، فإنّ قوله القدر اليقين في الاعتبار بالإضافة إليه، و اللّٰه العالم.

حكم الجاهل القاصر و المقصّر

(1) يقع الكلام في المقام تارة في استحقاق الجاهل العقاب على مخالفة الواقع و التكليف الثابت فيه، بل و في استحقاقه العقاب على احتمال مخالفته الواقع و إن لم يخالفه اتّفاقاً، و اخرى في الحكم بصحة أعماله الصادرة عنه حين الجهل فيما إذا صادفت الواقع.

أمّا الكلام في الجهة الاولى فلا ينبغي التأمّل في أنّ الجهل قصور لا يوجب استحقاق العقاب على مخالفة الواقع فضلًا عمّا إذا لم يخالفه و لو اتّفاقاً، و المراد من الجاهل القاصر في المقام من لم يستند في عمله إلى الحجّة الشرعيّة، كالعاميّ إذا لم يستند في عمله إلى الحجة الشرعيّة، و لم يكن متمكّناً من الاحتياط، و أمّا إذا كان مقصّراً بأن لم يستند في عمله إلى الحجة الشرعية من فتوى المجتهد مع تمكّنه منه و ترك الاحتياط أيضاً كذلك فلا كلام في استحقاقه العقاب على مخالفة الواقع إذ لو تعلّم الفتوى أو أخذ بالاحتياط لم يكن يخالف الواقع، بل يمكن الالتزام باستحقاق الجاهل العقاب فيما لو ترك التعلّم و ترك الاحتياط و لكن لم يخالف التكليف الواقعيّ اتفاقاً

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 45

..........

______________________________

حيث إنّ احتمال مخالفة التكليف الواقعي حين ارتكاب العمل من غير حجّة شرعيّة على جواز الارتكاب لا يقصر عن التجرّي، كمن شرب العصير الزبيبيّ بعد غليانه مع

جهله بحليّته، و احتماله الحرمة حين الارتكاب يعدّ من التجرّي و لو كان في الواقع حلالًا.

و أمّا الحكم بصحة أعمال الجاهل فيما إذا أحرز بعد ذلك بطريق معتبر تمام العمل و لو اتّفاقاً، فإن كان العمل المزبور من قبيل المعاملات بالمعنى الأعمّ كالذبيحة التي ذبحها مع الجهل بكيفية الذبح فلا ينبغي التأمّل في ترتيب آثار الصحة عليها؛ لأنّ المفروض تمامها و عدم اعتبار قصد التقرّب فيها حال العمل، و كذا إذا ظهر نقصها و لكن كان نقصها قابلًا للتدارك، كمن غسل ثوبه المتنجس بالبول في الكر مرّة، فإنّه إذا غسله مرّة ثانية يترتّب عليه طهارته و تذكر أنّ الطريق إلى إحراز صحّتها حين العمل بالإضافة إلى العاميّ فتوى المجتهد الذي يتعيّن عليه فعلًا الرجوع إليه، و لا عبرة بفتوى من كان عليه التعلّم منه حال العمل من غير فرق في ذلك بين الجاهل القاصر و المقصّر.

و أمّا إذا كان العمل السابق من العبادات فقد فصّل الماتن قدس سره بين الجاهل القاصر و المقصّر فيما إذا انكشف تمام العمل حينه و أنّ ما أتى به الجاهل كان مطابقاً للواقع، فإنّه حكم بالصحة فيما كان قاصراً أو مقصّراً و لكن كان حين العمل غافلًا بحيث حصل منه قصد التقرّب حال العمل، بخلاف ما إذا كان حين العمل ملتفتاً إلى كونه مقصّراً، فإنّه حكم ببطلان عمله و لو مع انكشاف أنّه كان مطابقاً للواقع بعد ذلك، و كان الوجه في الحكم بالبطلان التفاته حين العمل بكونه مقصّراً فلا يحصل معه قصد التقرب.

و لكن لا يخفى ما فيه، فإنّ التجرّي يكون بتركه الاحتياط، كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته في الواقع القصر أو التمام، فإنّ التجري في الفرض يكون

بترك صلاة التمام

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 46

..........

______________________________

لا بالإتيان بالقصر، و إنّما أتى بالقصر لرجاء أن تكون وظيفته في الواقع القصر، و كذا في مورد كون الاحتياط غير مستلزم للتكرار، كما إذا اقتصر في صلاته على قراءة سورة الحمد خاصة مع احتماله وجوب السورة بعد قراءتها، فإنّ تجرّيه يكون بترك الاحتياط أي بعدم إعادة الصلاة بعد تلك الصلاة بقراءة السورة بعد الحمد، لا في الإتيان بالصلاة المأتيّ بها لاحتمال كونها هي الواجب.

و على الجملة الإتيان بالعمل لرجاء كونه الواجب يحقّق قصد التقرّب.

ثمّ إحراز العاميّ بالعلم الوجدانيّ بأن ما أتى به في السابق من الأعمال كانت مطابقة للوظائف الواقعية أمر لا يتحقّق، و يكون إحرازه ذلك بفتوى المجتهد الذي تكون وظيفته الرجوع إليه فعلًا؛ لأنّ رجوعه إلى المجتهد الذي مات بتعلّم فتواه من تقليد الميّت ابتداءً، و لأنّ تدارك الأعمال أو عدم تداركها بالقضاء أو الإعادة من الوقائع الفعليّة التي ابتلى بها، و المعتبر فيها قول المجتهد الحيّ فعلًا.

نعم ربّما يكون استناد العاميّ في أعماله السابقة إلى فتوى المجتهد السابق، بأن كانت تلك الأعمال عن تقليد موجباً لحكم المجتهد الفعليّ بإجزائها على ما تقدّم، و هذا خارج عن مفروض الكلام في المقام.

لا يقال: إذا فرض كون فتوى المجتهد السابق حجّة كان العمل المطابق له مجزياً سواء استند في العمل إلى فتواه في زمان العمل أو لم يستند إليه كما هو شأن سائر الطرق المعتبرة.

فإنه يقال: قد تقدّم أنّ مقتضى أدلّة إمضاء السيرة في الرجوع إلى أهل الخبرة في الوظائف الشرعيّة كون التعلم في حياة من يرجع إليه مجزياً- سواء كان العمل بما

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد،

ص: 47

[المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد و المدارك]

(مسألة 17) المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد و المدارك للمسألة، و أكثر اطّلاعاً لنظائرها و للأخبار، و أجود فهماً للأخبار. و الحاصل أن يكون أجود استنباطاً، و المرجع في تعيينه أهل الخبرة و الاستنباط (1).

[الأحوط عدم تقليد المفضول]

(مسألة 18) الأحوط عدم تقليد المفضول حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل (2).

______________________________

تعلّمه منه حال حياته أو بعد مماته- و في غير ذلك لا سبيل إلى كشف الإمضاء.

و على الجملة ما يعتبر في حقّ العاميّ بالإضافة إلى صحة أعماله السابقة فتوى المجتهد الذي يتعيّن عليه الرجوع إليه فعلًا. نعم رعاية موافقتها لفتوى المجتهد السابق أيضاً أحوط.

وجوب تقليد الأعلم

(1) تكلمنا عنه في بحث وجوب تقليد الأعلم بيان المراد من الأعلم فراجع «1».

(2) قد ذكرنا أنّ مقتضى ما ورد في جواز تعلّم الحكم ممن يعلمه و أخذ من يؤخذ منه معالم الدين جواز التعلّم من كلّ من الفاضل و المفضول مع عدم العلم و لو إجمالًا بمخالفتهما في الفتوى، و إذا أحرز العاميّ توافقهما في مسائل مما يبتلى بها يجوز له الاستناد فيها إلى كلّ منهما، فإنّه كما أنّ للمجتهد الاستناد في فتواه إلى كلّ من الخبرين المعتبرين أي للجميع، كذلك الأمر في العاميّ إذا تعلّم منهما الحكم في تلك المسائل.

نعم إذا لم يحرز توافق الفاضل و المفضول و احتمل مخالفتهما في تلك المسائل فيجوز الأخذ و العمل بالفتوى من كلّ منهما كما هو مقتضى السيرة العقلائيّة في

______________________________

(1) دروس في مسائل علم الأُصول 5: 169.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 48

[لا يجوز تقليد غير المجتهد و إن كان من أهل العلم]

(مسألة 19) لا يجوز تقليد غير المجتهد و إن كان من أهل العلم، كما أنّه يجب على غير المجتهد التقليد و إن كان من أهل العلم (1).

______________________________

الرجوع إلى أهل الخبرة على ما بيّنا سابقاً، و كذا إطلاق أدلّة الإمضاء بأمر الإمام عليه السلام فيها بالرجوع إلى بعض أصحابه في أخذ معالم الدين، و كذا في الرجوع إلى بعض

أصحاب أبيه «1» إلّا أنّه ما لم يحرز الاتفاق لا يجوز الاستناد في عمله إليهما، بل له أن يختار أحدهما في التعلّم و الاستناد في عمله إلى قوله، و هذا ظاهر.

(1) عدم جواز التقليد من غير المجتهد فلأنّ غير المجتهد ليس من أهل الخبرة في الوقائع بالإضافة إلى الوظائف الشرعيّة المقرّرة فيها بالإضافة إلى المكلّفين، و ما ورد في تعلّم الأحكام و الأخذ بمعالم الدين ممن يعلمها هو الرجوع إلى من يعرفها بالطريق المألوف المتعارف في ذلك الزمان من عرفانها بنحو الاجتهاد و الاستظهار من الخطابات المأثورة و أقوال المعصومين عليهم السلام و لو كان ذلك الاجتهاد قد تطوّر بمرور الزمان لكثرة الوسائط و المناقشات في المقدّمات اللازمة للاجتهاد الموجبة للحاجة إلى تنقيح تلك المقدّمات، و هذا غير الاعتماد على قول بعض أهل العلم في نقل الفتوى ممن يرجع الناس إليه و يأخذون الفتوى بواسطته، فإنّ الاعتماد المذكور من باب حجّية خبر الثقة و العدل بالفتوى حيث يجب على مثل هذا العالم التقليد عن المجتهد كالعامي.

نعم، ذكرنا فيما سبق أنّ الجاهل بالحكم في واقعة ابتلى بها يجوز له الرجوع إلى العالم بحكمها من طريق المألوف في معرفة الأحكام و إن كان متمكّناً من الوصول إلى

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 151، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 42 و 45، و 27: 151، الحديث 34 و 35.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 49

[يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجدانيّ، و بشهادة عدلين و بالشّياع المفيد للعلم]

(مسألة 20) يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجدانيّ، كما إذا كان المقلِّد من أهل الخبرة و علم باجتهاد شخص. و كذا يعرف بشهادة عدلين من أهل الخبرة إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد.

و كذا يعرف بالشّياع المفيد للعلم. و كذا الأعلميّة تعرف بالعلم أو البيّنة الغير المعارضة أو الشياع المفيد للعلم (1).

______________________________

الحكم الشرعيّ بالسؤال من الإمام عليه السلام و الأخذ بما استظهره من كلامه، كما هو مقتضى بعض تلك الروايات الواردة في الإرجاع إلى بعض الرواة من الفقهاء مع ظهور أنّ المأمور بالرجوع ممن له أهليّة الاستظهار من كلامه عليه السلام و تمكّنه من الوصول إليه فراجع.

كيف يعرف اجتهاد المجتهد؟

(1) لا كلام إذا علم باجتهاد المجتهد أو كونه أعلم، كما إذا كان المقلّد من أهل العلم و الخبرة و احرز وجداناً اجتهاد شخص أو كونه أعلم من غيره، فإنّ اعتبار العلم الوجدانيّ ذاتيّ، بمعنى أنّه لا يحتاج اعتباره إلى جعل شرعيّ و أن يقوم الدليل على أنّ الشارع اعتبره، و إنّما الكلام في اختصاص الاعتبار بالعلم الوجدانيّ كما هو ظاهر المتن، أو أنّه يعمّ الاطمينان و الوثوق، و لا يبعد عدم الاختصاص فإنّ الاطمينان و إن لم يكن كالعلم الوجدانيّ بحيث يكون اعتباره ذاتياً، إلّا أنّ الظاهر أنّ الوثوق و الاطمينان يعتبر عند العقلاء، و لم يردع عنه الشارع لا في إحراز الموضوعات و لا الأحكام.

نعم لم يثبت الاعتماد عليه حتّى عند العقلاء في إثبات الدعاوى على الغير و نحوها من ارتكاب موجب الحدّ من حقوق اللّٰه و حقوق الناس مما قرّر الشارع في ثبوتها طريقاً خاصّاً.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 50

..........

______________________________

و مما ذكرنا يظهر أنّه لو كان لاجتهاد المجتهد أو كونه أعلم شياع بين أهل الخبرة بحيث أوجب ذلك العلم باجتهاده أو كونه أعلم كفى في ثبوتهما، و ذكر الماتن قدس سره في ثبوت الاجتهاد أو الأعلمية شهادة عدلين من أهل

الخبرة و كأنّ شهادتهما تدخل في البيّنة المعتبرة في الموضوعات، و منها اجتهاد المجتهد أو كونه أعلم.

الاستدلال على اعتبار شهادة العدلين

و يستدلّ على اعتبار شهادة العدلين بوجهين:

الأول: ما ورد في القضاء و فصل الخصومة بين المترافعين و التعبير عن شهادتهما بالبيّنة في مثل قوله عليه السلام: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات» «1» فإنّ ظاهره أنّ المراد بالبينة ما تكون بيّنة مع قطع النظر عن القضاء و إنشاء فصل الخصومة، و قد طبّق عنوان البيّنة على شهادة العدلين إلّا في موارد خاصّة كالبيّنة على الزنا و نحوه، و الشاهد لكون المراد بالبيّنة ما ذكر، و أنّ شهادة العدلين بيّنة للُامور مع قطع النظر عن مقام القضاء، أنّه لو كان المراد أنّ شهادتهما بيّنة في مقام القضاء و بلحاظ فصل الخصومة، لا مع قطع النظر عن ذلك لم يكن لعطف الأيمان على البيّنة في بعض الروايات وجه، حيث إن اليمين أيضاً في خصوص القضاء بيّنة لإثبات مورد الخصومة أو نفيه.

و الثاني: بعض الروايات الوارد فيها اعتبارها في ثبوت كلّ موضوع للحكم الإلزامي و غيره تكليفاً و وضعاً، كرواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال سمعته يقول: «كلّ شي ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، أو المملوك عندك و لعلّه حرّ قد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 232، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث الأول.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 51

..........

______________________________

باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي اختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير

ذلك أو تقوم به البيّنة» «1» فإنّ ظاهرها أنّ كلّ شي ء يحتمل حلّيته و حرمته و حكم بحليّته عند الجهل بأيّ جهة فهذه الحلية تنتهي بظهور الخلاف و العلم بحرمته أو تقوم بخلاف الحليّة بيّنة، فتكون الرواية ظاهرة في أنّ البيّنة مثبتة لجميع الموضوعات التي يترتب عليها الحكم الإلزامي وضعاً و تكليفاً و إن اقتضى خلافها قاعدة اليد، كما في مسألة شراء الثوب أو العبد المشترى أو أصالة عدم تحقّق الرضاع و النسب كما في مسألة تزويج المرأة إلى غير ذلك، و عليه يرفع اليد عن أصالة عدم بلوغ أهل العلم مرتبة الاجتهاد أو عدم صيرورة المجتهد أعلم بقيام البيّنة على اجتهاده أو كونه أعلم.

و قد يناقش في الاستدلال بهذه الرواية- مع الإغماض عن سندها، حيث إنّ مسعدة بن صدقة لم يثبت له توثيق- بأنّه لا يمكن الاستدلال بها في المقام؛ لأن البيّنة شهادة كلّ من العدلين على واقعة محسوسة منهما، و الاجتهاد أو كون شخص أعلم من الامور الحدسيّة لا الحسّية، و لذا يعتبر فيهما قول أهل الخبرة.

و قد يجاب «2» عن ذلك بأنّ الأمر الحدسيّ إذا كان له أثر بارز حسّي يدرك بالحسّ كالسماع لكيفية الاستنباط من مدارك الأحكام و كيفية استظهاره الحكم منها و تكرّر هذا السماع مكرّراً يحسب عند العقلاء حسّاً بالواقعة، نظير الشهادة بإيمان شخص واقعاً و اعتقاده بالولاية برؤية آثارها في الوقائع المتعدّدة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17: 89، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) التنقيح في شرح العروة 1: 175.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 52

..........

______________________________

و فيه إذا كان الأمر الحدسي بحيث يكون أثره محسوساً بحيث يعرفه كلّ من أحرز ذلك الأثر بالحسّ

كالشهادة بالشجاعة و العدالة يصحّ دعوى أنّ هذه الامور عند العقلاء داخلة في الحسّ، فيكون الإخبار بها برؤية آثارها شهادة عليها بالحسّ، و لكن اجتهاد الشخص أو كونه أعلم ليس من هذا القبيل، فإنّهما و إن يحرزان بالأثر لكن إحرازهما من الأثر أمر حدسيّ يختصّ هذا الإحراز و الحدس بأشخاص مخصوصين، و لا يكون الإخبار بهما شهادة بالواقعة بالحسّ.

و لا يستفاد اعتبار التعدّد في الإخبار عنهما مما ورد في اعتبار التعدّد في الشاهد بالواقعة، كما لا يستفاد ذلك مما ورد في اعتبار البيّنة في القضاء و لا من رواية مسعدة بن صدقة المتقدّمة، بل المعتبر في الامور التي يرجع فيها إلى أهل الخبرة قولهم إلّا مع الاختلاف حيث يكون المتّبع قول من هو أكثر خبرة حتّى فيما إذا كان واحداً، و عليه فلا يعتبر فيمن يرجع إليه في إحراز الاجتهاد أو كونه أعلم التعدّد كما هو مقتضى السيرة العقلائيّة في الرجوع إلى أهل الخبرة.

و ربّما يورد «1» على الاستدلال برواية مسعدة بن صدقة بأن البيّنة معناها اللغوي ما يوضح الشي ء و يثبته، و قد استعمل كثيراً حتى في الرواية بهذا المعنى، غاية الأمر قد طبّق عنوانها في موارد فصل الخصومة على شهادة عدلين في أكثر موارد فصلها، و إذا كان في بناء العقلاء و سيرتهم العمل بأخبار الثقات في غير موارد الدعاوى و نحوها و لم يثبت ردع الشارع عنها، بل ورد في بعض الموارد الاعتناء بخبر الثقة مع كونها من الموضوعات يكون خبره أيضاً بيّنة.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 173.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 53

..........

______________________________

و لكن قد ذكرنا في بحث ثبوت النجاسات أنّ المراجع في الأخبار يطمئنّ لو

لا الجزم بأنّ البيّنة في زمان الصادقين عليهما السلام و ما بعده في نظير المقامات ظاهرها شهادة العدلين، فالعمدة في الإشكال ضعف الرواية سنداً، و كذا خبر عبد اللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الجبن قال: «كلّ شي ء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة» «1».

و على الجملة هاتان الروايتان لضعفهما سنداً لا تصلحان للردع عن السيرة التي أشرنا إليها من الاحتجاج و الاعتذار في الموضوعات أيضاً بأخبار الثقات، كما هو الحال في الإخبار بالأحكام الكليّة بحكاية قول المعصوم عليه السلام أو فتوى المجتهد الذي تكون فتواه معتبرة في حقّ العاميّ.

و قد يقال: إنّه لو لم نقل باعتبار خبر الثقة في ساير الموضوعات فأيضاً يلتزم باعتبار الخبر باجتهاد شخص أو بأعلميّته أو بفتواه و لو كان الخبر واحداً و لم يعارض خبره بخبر مثله، و ذلك فإنّ الخبر باجتهاد شخص أو كونه أعلم، أو بفتواه كما يخبر بهما كذلك يخبر بأنّ فتواه هو الحكم الشرعيّ في حقّ العاميّ نظير خبر زرارة مثلًا بقول الإمام عليه السلام، فإنّه كما أنّ المرويّ بالمطابقة قول الإمام عليه السلام كذلك المرويّ بالالتزام هو الحكم الشرعيّ الكلّي.

غاية الأمر المدلول الالتزاميّ في خبر زرارة بقول الإمام عليه السلام يكون بحدس المجتهد، و في الإخبار باجتهاد شخص أو أعلميته أو فتواه يكون أيضاً بحدس المجتهد و لكن لا يختصّ به بل يعمّ المخبر بالاجتهاد و الفتوى أيضاً، و كما أنّ الإخبار

______________________________

(1) وسائل الشيعة 25: 118، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 54

..........

______________________________

بقول المعصوم حتى للمخبر به بالإضافة إلى المدلول المطابقيّ كذلك نفس اجتهاد الشخص أو

فتواه مدلول مطابقيّ و حسّي للمخبر بهما.

ثمّ ذكر القائل إنّه على ذلك يكفي الخبر الواحد في توثيق الراوي و لا يحتاج إلى التعدّد و لو قيل باعتبار التعدّد في الإخبار عن الموضوعات، حيث إنّ الإخبار بتوثيق الراوي إخبار عن كون ما يرويه هو الحكم الشرعيّ الكلّي.

و لا يخفى ما فيه، فإنّ غاية ما ذكر أن يكون الخبر الواحد كافياً في نقل فتوى المجتهد لمقلّديه بالتقريب، و أمّا الإخبار بكون الشخص مجتهداً أو أنّ ما استظهره من مدارك الأحكام استنباط شخص ذي ملكة بطريق متعارف فهو إخبار بأمر حدسيّ لا حسّي، بخلاف خبر زرارة بقول الإمام عليه السلام حيث إنّ ما يرويه من قول الإمام عليه السلام أمر حسّي قد سمعه منه عليه السلام، و كذا الحال في خبر شخص بكون الراوي ثقة، فإنّه قد أحرز حال الراوي و أنّه يجتنب عن الكذب و إظهار خلاف الواقع، و أمّا كون ما يرويه عن الإمام عليه السلام هو الحكم الشرعيّ واقعاً فهذا خارج عن شأن الراوي بما هو راوٍ، و لا يدلّ دليل اعتبار خبر الثقة بقول الإمام عليه السلام على اعتبار حدس الراوي في هذه الجهة، بل اعتباره بالنسبة إلى اعتبار الدالّ على الحكم الشرعيّ الكلّي الحكم الذي يستظهره الفقيه من ذلك الدالّ، بخلاف الخبر عن اجتهاد شخص فإنّه ليس إخباراً بالدالّ على الحكم الشرعيّ و لا بلزوم الحكم الشرعيّ الكلّي حسّاً، بل المخبر عن الحكم الشرعيّ الكلّي هو نفس ذلك المجتهد.

نعم، المخبر باجتهاد شخص أو بكونه أعلم يخبر عن حكم جزئيّ و هو اعتبار فتواه، و لكن لا يكون قوله في هذا الحكم معتبراً لو لم يكن عند من يخبره هذا الحكم معلوماً، كما هو

الحال في الإخبار بسائر الموضوعات حيث إنّ المعتبر بقول المخبر

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 55

[إذا كان مجتهدان لا يمكن تحصيل العلم بأعلميّة أحدهما و لا البيّنة، فإن حصل الظنّ بأعلميّة أحدهما تعيّن تقليده]

(مسألة 21) إذا كان مجتهدان لا يمكن تحصيل العلم بأعلميّة أحدهما و لا البيّنة، فإن حصل الظنّ بأعلميّة أحدهما تعيّن تقليده، (1) بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلميّة يقدّم، كما إذا علم أنّهما إمّا متساويان أو هذا المعيّن أعلم و لا يحتمل أعلميّة الآخر، فالأحوط تقديم من يحتمل أعلميّته.

[ما يشترط في المجتهد]

(مسألة 22) يشترط في المجتهد امور: البلوغ، و العقل، و الإيمان، و العدالة (2).

______________________________

نفس الإخبار بالموضوع، و لو بنى على اعتبار تعدّد الشاهد و المخبر لزم رعاية التعدّد في الإخبار عنهما مع قطع النظر عما ذكرنا من عدم الاعتبار في موارد الرجوع إلى أهل الخبرة، و مما ذكر يظهر الحال في موارد الإخبار بكون الراوي ثقة و أنّه من قبيل الإخبار بالموضوع لا الحكم الكلّي و لا الحكم الجزئيّ إذا لم يحرز المجتهد اعتبار خبر الثقة.

(1) قد تقدّم الكلام في ذلك في ذيل لزوم تقليد الأعلم فيما إذا علم الاختلاف بين المجتهدين في المسائل التي يمكن ابتلاء المكلف بها حتى فيما إذا كان ذلك بنحو العلم الإجماليّ، و ذكرنا أنّ الاطمينان و الوثوق ملحق بالعلم، و أنّ مجرّد الظن لا اعتبار به، بل لو اختصّ احتمال الأعلميّة بأحدهما المعيّن تعيّن تقليده و إن لم يكن الاحتمال بمرتبة الظنّ، و مع جريان الاحتمال في ناحية كلّ منهما يحتاط أو يكتفي بالموافقة بقول أحدهما على ما مرّ من التفصيل.

الامور المعتبرة في المجتهد

(2) ينبغي أن تعلم الامور المعتبرة في المجتهد بالإضافة إلى اعتبار فتواه في حقّ العاميّ، لا بالإضافة إلى عمل نفسه حيث تقدّم أنّ العاميّ لا بدّ له من علمه بجواز التقليد، و لا يمكن أن يحصل له العلم إلّا إذا اجتمع في المجتهد الذي يرجع

إليه جميع ما يحتمل دخالته في جواز التقليد، و الكلام في المقام أنّه بنظر المجتهد المستفاد من

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 56

..........

______________________________

مدارك الحكم أيّ أوصاف تعتبر في المجتهد الذي يرجع إليه العاميّ حتى يمكن للعاميّ بعد كونه القدر المتيقن من جواز التقليد أن يستند إلى فتواه في رجوعه و لو في احتياطاته إلى من هو واجد لما يعتبره من أوصاف المجتهد، فنقول: أمّا اعتبار البلوغ فقد ادّعي على اعتباره في المجتهد الإجماع و الاتّفاق و أنّ المرجعيّة التي ينالها أشخاص مخصوصون منصب يتلو منصب الإمامة و النبوّة، فلا يناسب التصدّي لها من الصّبي حيث يصعب على الناس إحراز أنّه لا يصدر عنه انحراف و زلل، و لا ينتقض ذلك بنبوّة بعض الأنبياء و تصدّيهم النبوة حال صغرهم، و كذا بالإمامة حيث تصدّى بعض الأئمّة إلى الإمامة حال صغرهم، فإنّ عصمتهم تخرجهم عن مقام التردّد و الشكّ في أقوالهم، و توجب اليقين و الجزم بصحّة أقوالهم و أفعالهم.

و على الجملة مع العصمة لا ينظر إلى السنّ و البلوغ، بخلاف من لم تكن فيه العصمة، فإنّ الصّبي في صباوته معرض لعدم الوثوق به، كيف و قد رفع القلم عنه «1» و لا ولاية له بالمعاملة في أمواله و نحوها، فكيف يكون له منصب الفتوى و القضاء للناس؟ مع أنّ من يؤخذ منه الفتوى يحمل أوزار من يعمل بفتاويه، مع أنّ الصّبي لا يحمل وزر عمله فضلًا عن أوزار أعمال الناس.

و الحاصل المرتكز عند المتشرعة هو كون المفتي ممن يؤمن بأنّ وزر من عمل بفتواه عليه و أنّه يحاسب به، و يشهد لذلك بعض الروايات منها صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال:

كان أبو عبد اللّه عليه السلام قاعداً في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابيّ فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه، فلمّا سكت قال له الأعرابيّ: أ هو في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 29: 90، الباب 36 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2. و إرشاد الساري 12: 101.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 57

..........

______________________________

عنقك؟ فسكت عنه ربيعة و لم يرد عليه شيئاً، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابيّ: أ هو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «هو في عنقه، قال أو لم يقل و كلّ مفت ضامن؟» «1».

و ربّما ينساق من معنى تقليد مجتهد تحميل وزر العمل بفتواه عليه، و على ذلك فلا يصلح الصّبي و المجنون للتحميل و التحمّل للوزر عليه، بل يكون في تقليد المجنون و لو كان أدواريّاً مهانة للمذهب حيث إنّ المرجعيّة للفتاوي- كما تقدّم- منصب و زعامة دينيّة يتلو منصب الإمامة، و المجنون و الفاسق بل العادل الذي له سابقة فسق ظاهر عند الناس لا يصلح لهذا المنصب.

و يعتبر فيمن يرجع إلى فتاواه كونه أهل الإيمان لا لمجرّد رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إليه يعني أبا الحسن الثالث عليه السلام أسأله عمّن آخذ معالم ديني؟ و كتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا و كلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللّٰه تعالى» «2» و رواية علي بن سويد قال: كتب إليّ أبو الحسن عليه السلام و هو في السجن: «و أمّا ما ذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك، لا تأخذنّ معالم دينك عن غير

شيعتنا فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا اللّٰه و رسوله، و خانوا أماناتهم، إنّهم ائتمنوا على كتاب اللّٰه فحرّفوه و بدّلوه فعليهم لعنة اللّٰه و لعنة رسوله» «3».

فإنّ الثانية ضعيفة سنداً لوقوع محمد بن إسماعيل الرازي و علي بن حبيب

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 220، الباب 7 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(2) المصدر السابق: 151، الباب 11، الحديث 45.

(3) المصدر السابق: 150، الحديث 42.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 58

و الرجوليّة، و الحرية، على قول (1).

______________________________

المدائني في سندها، و كذا الاولى فإنّ في سندها أحمد بن حاتم و غيره ممّن لم تثبت وثاقته، مع أنّ في الاولى اعتبار كثرة الحبّ، و قدم أمره في ولايتهم، بل لما تقدّم من أنّ المرجعيّة في الفتاوى منصب يتلو منصب الإمامة، و غير المؤمن لا يصلح لذلك فإنّ تصدّيه لهذا المنصب وهن، حيث يوهم الناس بطلان المذهب حيث يلقي فيهم أنّه لو كان مذهبهم حقّاً لما عدل عنه.

و ما ذكر من الأوصاف يعتبر في المجتهد ابتداءً و في البقاء على تقليده لجريان ما ذكرنا من الوجوه المانعة في أصل الرجوع و في البقاء على تقليده.

(1) يعتبر فيمن يرجع إليه في الفتوى الرجوليّة، و يستدلّ على ذلك بما ورد في القضاء في معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً» «1».

و دعوى «2» أنّ ذكر الرجل باعتبار العادة في الخارج في ذلك الزمان لعدم وجود من يعلم من

قضاياهم من النساء، و كذا الحال في معتبرة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها:

«ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا» «3» حيث إنّ ظاهرها أنّ المرجع في القضاء الرجل، لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ القيد الغالبي إنّما لا يمنع عن الأخذ بالإطلاق إذا كان في البين إطلاق يعمّ مورد القيد و عدمه، و لكن ليس في أدلة نفوذ القضاء إطلاق يعمّ النساء، بل ورد فيه أنّ المرأة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2) التنقيح في شرح العروة 1: 225. طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

(3) وسائل الشيعة 1: 34، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 12.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 59

و كونه مجتهداً مطلقاً فلا يجوز تقليد المتجزّئ (1)، و الحياة فلا يجوز تقليد

______________________________

لا تتولّى القضاء، و إذا لم يكن القضاء من غير الرجل نافذاً فكيف يعتبر فتوى غير الرجل؟ فإنّ منصب القضاء ليس بأكثر من منصب الإفتاء، بل ربّما يكون القضاء بتطبيق القاضي فتواه على مورد الترافع. أضف إلى ذلك أنّ الشارع لا يرضى بإمامة المرأة للرجال في صلاتهم فكيف يحتمل تجويزه كونها مفتية للناس المقتضي جعل نفسها عرضة للسؤال عنها من الرجال، مع أنّ الوارد في حقّ المرأة: أنّ مسجدها بيتها «1»، و خوطب الرجال بأنّ النساء عورات فاستروهن بالبيوت «2» إلى غير ذلك.

و أمّا ما ذكره قدس سره من اعتبار الحريّة على قول فليس في البين ما يعتمد عليه في اعتبارها في المفتي و أن لا يجوز الرجوع إلى العبد الواجد لسائر الشرائط، فإنّ ما ورد في القضاء يعمّ

كونه حرّاً أو عبداً و ليس في تصدّي العبد لمقام الإفتاء أيّ منقصة فيه، و ما يقال من أنّ استغراق أوقات العبد بالجواب عما يسأل عنه في الأحكام الشرعيّة ينافي كون أعماله ملكاً لمولاه حيث لا يجوز له صرفها في غير ما يأمر مولاه به من الأعمال فيه ما لا يخفى، فإنّه لو اتّفق ذلك و وجب على العبد التصدّي للجواب عمن يسأله يكون ذلك كسائر وظائفه الشرعيّة التي لا يجوز لمولاه منعه عن مباشرتها.

(1) إذا أراد العاميّ التقليد في الوقائع التي يبتلي بها مع علمه إجمالًا بمخالفة الأحياء فيها و لو كان علمه بنحو الإجمال فلا يجوز له التقليد من المتجزّي و لا المجتهد المطلق الذي لا يكون أعلم أو محتمل الأعلمية من السائرين، كما أنّه لا دليل على كفاية التعلّم فيما إذا علم من أهل العلم مسألة أو مسألتين أو عدّة مسائل

______________________________

(1) انظر وسائل الشيعة 5: 236، الباب 30 من أبواب أحكام المساجد.

(2) انظر وسائل الشيعة 20: 66، الباب 24 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 6.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 60

الميّت ابتداءً نعم يجوز البقاء كما مرّ، و أن يكون أعلم (1).

______________________________

معيّنة من مداركها؛ لعدم الدليل على اعتبار فتواه، فإنّ عمدة ما اعتمدنا عليه في جواز التقليد الروايات المتقدّمة الوارد فيها الإرجاع إلى أشخاص خاصّين، و لاحتمال اقتصار الشارع في الإمضاء على أمثالهم لا يجوز التعدّي إلى مثل الشخص المفروض، بل يتعدّى إلى ما ورد في معتبرة عمر بن حنظلة، و يلتزم بأن يصدق على من يرجع إليه رجل يعرف حلالهم و حرامهم و ينظر فيهما كما ورد فيها.

و أمّا ما ورد في معتبرة أبي خديجة سالم

بن مكرم: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم قاضياً» «1» فمضافاً إلى أنّه في القضاء و فصل الخصومة، و نفوذ قضائه لا يلازم جواز الرجوع إليه في الفتوى، أنّ قوله عليه السلام: «يعلم شيئاً من قضايانا» لا يعمّ عرفان مسألة أو مسائل معدودة، فإنّ إطلاق الشي ء على علمه في مقابل علمهم عليهم السلام كإطلاق شي ء من الماء على ماء النهر العريض الجاري في مقابل ماء البحر كما لا يخفى.

(1) قد تكلمنا في ذلك عند التكلم في اشتراط الحياة في المفتي «2»، و ذكرنا الوجه في عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً، كما ذكرنا الوجه في جواز البقاء على تقليد الميّت على التفصيل المتقدّم، و تقدّم أيضاً الوجه في لزوم تقليد الأعلم في المسائل التي يعلم اختلاف الأحياء فيها و لو بنحو الإجمال إذا كانت تلك المسائل محلّ الابتلاء للعاميّ.

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه 3: 5، الحديث الأول.

(2) دروس في مسائل علم الأُصول 5: 177.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 61

فلا يجوز على الأحوط تقليد المفضول مع التمكّن من الأفضل، و أن لا يكون متولّداً من الزنا (1).

و أن لا يكون مقبلًا على الدنيا و طالباً لها مكبّاً عليها، مجدّاً في تحصيلها (2) ففي الخبر: «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه.

______________________________

(1) لا يجوز أخذ الفتوى من ولد الزنا و إن كان عادلًا لما تقدّم من كون شخص ولد الزنا غير مناف لكونه مجتهداً و عادلًا، إلّا أن تصدّيه لمقام المرجعيّة و الإفتاء مهانة للمذهب، فيعلم أنّ الشارع لا يرضى به، كيف و أنّ الشارع لم يجوّز إمامته و تصدّيه

كونه إمام الجماعة؟ فكيف يحتمل أن يجوّز تصدّيه لمنصب يتلو منصب الإمامة؟

و ممّا ذكرنا يظهر أن طروّ بعض الامور التي لا يحسب طروّها منقصة للشخص و لا المنصب لا يمنع من جواز التقليد حدوثاً أو بقاءً، كعروض الإغماء لمرض و إن استمرّ، بخلاف عروض الجنون و لا سمح اللّٰه الفسق، فإنّ عروضهما منقصة للشخص و يمنع من جواز التقليد بقاءً فضلًا عن التقليد عنهما ابتداءً.

(2) ظاهر كلامه قدس سره حيث ذكر اشتراط العدالة في المفتي قبل ذلك أنّ هذا الاشتراط زائد على اشتراط العدالة لا أنّه تكرار؛ و لذا يقع الكلام في الدليل على اعتبار الزائد من العدالة، فإن كان المستند في ذلك الخبر المروي في تفسير العسكري عليه السلام على ما هو المعروف فلا دلالة له على أزيد من العدالة، فإنّ المكبّ على الدنيا بجمع المال حتّى من الحرام ينافي العدالة، و أمّا جمعه من الحلال بعد أداء ما عليه من الحقوق إلى أهلها فلم يثبت كراهته فضلًا عن كونه منافياً للعدالة، و الورع و مخالفة الهوى ظاهره الإمساك عمّا تشتهيه النفس من ارتكاب ما حرّم اللّٰه سبحانه، و أمّا ما أباحه سبحانه فلا ينافي الورع.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 62

[العدالة عبارة عن ملكة إتيان الواجبات و ترك المحرمات]

(مسألة 23) العدالة عبارة عن ملكة إتيان الواجبات و ترك المحرمات (1).

______________________________

هذا مع ضعف الخبر و عدم صلاحه للاعتماد عليه، مع ظهور المكبّ يعني المكبّ على الدنيا تحصيلها بحلال و حرام، و كذا اتّباع الهوى الإتيان بما تشتهيه نفسه و لو بتهيئة المقدّمات من حلال و حرام.

العدالة و حقيقتها

(1) قد وقعت العدالة قيداً لموضوع الحكم في جملة من الموارد، كالعدالة في المفتي حيث إنّها قيد لاعتبار فتواه،

و عدالة القاضي فإنّها قيد لنفوذ قضائه، و عدالة الشاهد في قبول شهادته و الاستماع إلى الطلاق، و عدالة إمام الجماعة و الجمعة في صحّة الاقتداء و إجزاء صلاة الجمعة و غير ذلك؛ و لذا يقع البحث في المراد منها و المعروف بينهم أنّها ملكة الاجتناب عن الكبائر و ترك الإصرار على الصغائر كما ذكر ذلك الماتن قدس سره أيضاً في عدالة إمام الجماعة، و لكن أطلق فيما نحن فيه بذكر أنّها ملكة الإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات. و مقتضاه عدم الفرق بين واجب و واجب آخر و عدم الفرق بين حرام و حرام آخر في أنّ ملكة الإتيان بالأوّل و ترك الثاني هي العدالة.

و عبّر في كلمات البعض عن الملكة بأنّها حالة راسخة للنفس أو في النفس تدعو إلى الاجتناب عن المحرّمات و الإتيان بالواجبات، فيكون اتّصاف الشخص بالعدالة من وصفه بصفات نفسانية، و يظهر من بعض الكلمات أنّ اتّصاف الشخص بالعدالة من قبيل وصفه بصفات الفعل، فالعدل هو كون الشخص مستمرّاً في أفعاله و أعماله على الوظيفة الشرعيّة بأن يستمرّ على الإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات، و كونه كذلك في أعماله فعلًا أو تركاً ناشئاً عن حالته النفسانيّة المستقرّة، فالعدالة هي المسبّب عن الملكة لا أنّها بنفسها هي الملكة.

و قد يقال: إنّ العدالة ثبوت حسن الظاهر للشخص بحيث لو سئل عن معاشريه

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 63

..........

______________________________

و المطّلعين على أحواله قالوا علمنا منه الاستمرار على الوظائف الشرعيّة و لم نر منه سوءاً، كما أنّه قيل أيضاً بأنّها ظهور إيمان الشخص و أنّه مؤمن مع عدم ظهور الفسق منه، و لكن لا يخفى أنّه لو كان لظهور إيمان

الشخص و عدم إحراز فسقه اعتبار فهو بمعنى كونه طريقاً إلى عدالته واقعاً، لا أنّ العدالة تجتمع مع الفسق الواقعيّ، فإنّ المضادّة بين الفسق و العدالة لا تحتاج إلى إقامة الدليل، و كذا الأمر في حسن الظاهر فإنّ إخبار من يعاشره أو أشخاص يعاشرونه بحسن ظاهره، و أنّهم لم يروا منه إلّا الخير و المواظبة على الطاعات، ذلك من إحراز الطريق إلى عدالته لا أنّ نفس حسن الظاهر بنفسه هو العدالة؛ لأنّ الفسق المستور عن الناس لا يجتمع مع العدالة الواقعيّة.

و على ذلك يبقى الكلام في أنّ العدالة هي استقامة الشخص في أعماله على طبق الوظائف الشرعيّة و عدم انحرافه عنها في العمل بأنّه يطيع اللّٰه و لا يعصيه، و لو انحرف اتفاقاً في عمل من باب: الجواد قد يكبو، و أنّ الغريق قد ينجو بذكر اللّٰه تداركه بالتوبة و الاستغفار، أو أنّ العدالة من صفات النفس لا وصفٌ له بحسب أعماله و أفعاله و سلوكه الدينيّ.

تنبيه

و قبل التكلّم في الاحتمالين بل القولين ينبغي التنبيه لأمر، و هو أنّ تعويد الإنسان نفسه بترك الحرام و الإتيان بالواجب بحيث يشمئز من تصوّر الحرام و لحاظ وقوعه منه، و يشتاق إلى فعل الواجب و الإتيان به غير معتبر في تحقّق العدالة، سواء قيل بأنّها ملكة فعل الواجبات و ترك المحرمات أو كونها الاستقامة على الوظائف الشرعيّة و عدم الانحراف عنها، فإنّه يوصف الشخص بأنّه عادل بدون ذلك، فإنّه إذا خاف من

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 64

..........

______________________________

سوء الحساب و الابتلاء بالعقاب يوم الحساب و أوجب ذلك أي دعاه إلى ترك الحرام مع كمال ميل نفسه إليه، و الإتيان بالواجب مع صعوبته

عليه و يستمرّ على ذلك، و إذا اتّفق الانحراف و الارتكاب أحياناً تندم بعده و استغفر ربّه فهو عادل و مأمون في دينه، و ينطبق عليه بعض العناوين الواردة في موارد اعتبار العدالة من كونه خيّراً و مرضيّاً و صالحاً و ثقة في دينه إلى غير ذلك.

و على ذلك فنقول: ينظر في ارتكاز المتشرعة في عدالة الشخص و فسقه إلى أعماله، فإن لم يخرج في أعماله عن وظائفه الدينيّة فهو رجل عادل، بخلاف ما إذا لم يكن مبالياً فيها فيرتكب الحرام إذا دعاه غرضه إلى ارتكابه للوصول إليه أو إذا هوت إليه نفسه، و يترك الواجب و لا يبالي به إذا كان تركه يساعده على الوصول إلى غرضه الدنيويّ أو هوى نفسه، فإنّه يقال إنّه ليس بعادل. و بتعبير آخر استمرار الشخص في أعماله على وظائفه الشرعيّة و إن ينشأ من أمر نفسانيّ من خوفه من سوء الحساب و الابتلاء بالعقاب أو اشتياقه إلى نيل الثواب و الوصول إلى الجنة أو غير ذلك من تحصيل رضى ربّه، إلّا أنّ كون العدالة هي الأمر النفسانيّ خصوصاً في تعيينها في الملكة دون الخوف من اللّٰه و الاشتياق إلى نجاة نفسه من العقاب و نيل الشفاعة أمر لا يساعده ارتكاز المتشرعة و لا معنى العدالة عرفاً في استعمالاته في مقابل الفسق و الغير المبالي.

لا يقال: إذا كان المراد من العدالة استقامة الشخص في أعماله بحسب وظائفه الشرعيّة، و انحرافه عنها موجباً لفسقه و عدم عدالته فلا يمكن إحراز العدالة إلّا بالإضافة إلى النوادر من الأشخاص؛ إذ العلم الإجماليّ بأنّ نوع الإنسان يرتكب و لو في بعض الأحيان بعض الصغائر حاصل، فكيف يحرز توبته ليترتّب عليه آثار العدالة من

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 65

..........

______________________________

جواز الاقتداء به و قبول شهادته و صحة الطلاق عنده إلى غير ذلك؟ و كيف يمكن للمدّعي إقامة شهادة عدلين لدعواه؟

فإنّه يقال: قد ذكرنا أنّ الانحراف الاتفاقيّ لا يضرّ بالعدالة إذا تداركه بالتوبة أي الندم و الاستغفار، فإنّ التائب بتوبته و استمراره في أعماله على طبق الوظائف الشرعيّة عادل في دينه كما يشهد لذلك ما ورد في التوبة «1»، غاية الأمر دعوى أنّ التوبة من المرتكب و لو اتفاقاً لا تحرز غالباً، و لكن هذا الأمر سهل مع جعل الشارع الطريق إلى إحراز عدالة الشخص و هو ثبوت حسن الظاهر له، و إذا احرز ثبوت هذا الحسن في حقه و احتمل عدالته واقعاً يكون ذلك إحرازاً لعدالته، كما هو الحال في إحراز سائر الامور بالطريق المعتبر فيه.

و على الجملة عدالة الشخص استقامته في أعماله و عدم الانحراف فيها عن وظائفه الشرعية.

نعم الاستقامة يوماً أو يومين و نحو ذلك لا تكون مصداقاً للاستقامة فيها ما لم يحرز استمرارها و دوامها بحسب الحالات و طروّ التغيّرات الزمانيّة.

ما يستدلّ به على كون العدالة هي الملكة

و يستدلّ على كون العدالة بمعنى ملكة الاجتناب عن الكبائر و ترك الإصرار على الصغائر أو ملكة الإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات بوجهين:

الأوّل: أنّ الأحكام المترتّبة على العدالة و عنوان العادل ثبوتها في حق الفاقد

______________________________

(1) انظر وسائل الشيعة 27: 383 و 385، الباب 36 و 37.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 66

..........

______________________________

للملكة لو لم يكن عدم ترتّبها محرزاً فلا أقلّ من الشكّ في ترتّبها على فقدها و فاقدها؛ لأنّ العدالة لو لم يكن ظاهرها ما ذكر من الملكة

فلا أقلّ من إجمالها و احتمالها في تحقّقها، فيدور ترتّبها على القليل أو الكثير فيؤخذ بالقدر المتيقّن، فإنّه لو لم يكن فاقد الملكة من الفاسق احتمالًا فلا يحرز كونه عادلًا.

و فيه قد ذكرنا أنّ ظاهر العدالة أنّها وصف للشخص بحسب أعماله و أفعاله و عدم الخروج فيها عن وظائفه الشرعيّة سواء كان منشأ الاستقامة في أعماله و عدم انحرافه فيها عن وظائفه الشرعيّة الملكة المذكورة، أو مجرّد الخوف من اللّٰه و سوء الحساب و الابتلاء بجزاء أعماله يوم الجزاء، هذا أوّلًا.

و ثانياً: ليس كلّ مورد يترتّب فيه الأثر اخذ عنوان العدالة قيداً في خطاب ذلك الأثر، فإنّ الموضوع لأخذ الفتوى و نفوذ القضاء من يعلم معالم الدين و حلال الشرع و حرامه، غاية الأمر علمنا بما تقدّم ذكره أنّ الشارع لا يرضى بالاعتماد على من هو غير مستقيم في دينه و غير أمين في قوله، و يبقى في الموضوع من هو مستقيم و مأمون في قوله، و احتمال اعتبار الملكة يدفع بالإطلاق، و كذا الحال في الايتمام فإنّ المقدار الثابت في إمام الجماعة اعتبار كونه ثقة في دينه و مأموناً في الاقتداء به.

و الوجه الثاني: استظهار اعتبار الملكة في العدالة من بعض الروايات كصحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور التي رواها الصدوق و في سندها أحمد بن يحيى لا يضرّ بصحّتها؛ لأنّه من المعاريف الذين لم يرد فيهم قدح، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى يقبل شهادته لهم و عليهم فقال: «أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّٰه عليها النار من شرب الخمر

و الزنا و الربا، و عقوق الوالدين، و الفرار من

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 67

..........

______________________________

الزحف و غير ذلك، و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و تفتيش ما وراء ذلك، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته في الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن، و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين، و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة، فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه، فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين، و ذلك أنّ الصلاة ستر و كفارة للذنوب» «1» الحديث.

و هذه الصحيحة تتضمّن لفقرات ثلاث:

الاولى: قوله عليه السلام: أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان.

الثانية: قوله عليه السلام: و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّٰه عليها النار.

الثالثة: قوله عليه السلام: و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه.

و لا ينبغي التأمّل في أنّ ما في الفقرة الثالثة بيان لحسن ظاهر الشخص الذي يعتبر طريقاً إلى عدالته الواقعيّة عند الجهل بها، كما هو الشأن في ساير الطرق المعتبرة، و أمّا الفقرة الاولى فقد قيل إنّ الستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان بمجموعها وقع معرّفاً للعدالة و بما أنّ الستر و العفاف من صفات النفس تكون العدالة مساوية للملكة الداعية إلى الكفّ و عدم تحرك أعضاء الشخص إلى المعاصي.

و

بتعبير آخر ثبوت الستر و العفاف للشخص ظاهره أن له الاستحياء من ربّه في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 391، الباب 41 من أبواب كتاب الشهادات، الحديث الأول. عن من لا يحضره الفقيه.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 68

..........

______________________________

المعاصي و نحو امتناع النفس له في ارتكابه فيلزم الكفّ و عدم تحرك جوارحه إليها، و عليه فالمذكور في الفقرة الاولى تعريف لنفس العدالة، و العرفان المذكور مأخوذ فيها بما هو طريق لا وصف دخيل في العدالة، و لا يمكن أن يكون نفس الستر و العفاف طريقاً إلى العدالة لا نفسها، و يؤيّد ذلك أنّه لو كان المذكور فيها طريقاً إلى العدالة لا بياناً لنفس العدالة لما كان وجه لما ذكره في الفقرة الثالثة حيث إنّه مع إحراز ما ذكر في الفقرة الثالثة لا يحتاج إلى إحراز ما ذكر في الفقرة الاولى.

و حمل ما ذكر في الفقرة الثالثة على اعتبار الطريق إلى الطريق الوارد في الفقرة الاولى ينافيه قوله عليه السلام في الفقرة الثالثة: «و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته» حيث إنّ ظاهرها كون ما ذكر في الفقرة الثالثة طريقاً إلى نفس العدالة لا أنّها طريق إلى طريقها.

أقول: كون الفقرة الثالثة طريقاً معتبراً إلى عدالة الشخص المعبّر عن الطريق بحسن الظاهر مما لا كلام فيه، و لكن لا دلالة فيها و لا في الفقرة الاولى على كون العدالة هي الملكة، و ذلك فإنّ المذكور في الفقرة الاولى: «أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن ... إلخ» و لا ينبغي التأمّل في أنّ الكفّ من أفعال النفس، و كون المراد من العفاف غير الكفّ غير ظاهر، فإن عفّة الشخص عن المعاصي امتناعه عن

ارتكابها، و أمّا الستر فهو إمّا بمعنى الستر عن الناس أو الستر عن اللّٰه بمعنى ثبوت الحاجز بينه و بين معصية اللّٰه، و الحاجب و المانع يكون الخوف من اللّٰه أو غيره، فيكون المفاد إذا عرف الشخص بالستر و العفاف و الكفّ و اجتناب المعاصي فعدالته تحرز، و لكن لا تدلّ على أنّ العدالة هي الستر و العفاف و الكفّ، و لعلّ العدالة هي الاستقامة في العمل الناشئ من ستر الشخص و عفافه و كفّه، هذا إذا كان المراد بالستر و العفاف صفة النفس، و أمّا إذا كان المراد بهما ما هو من أفعالها بأن يكون المراد من العفّة الامتناع عن

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 69

..........

______________________________

العصيان، و الستر الامتناع عن الظهور على تقدير الاتفاق و استمرّ له الكفّ عن المعاصي يكون الشخص ممن عرفت عدالته، و لا بأس بالالتزام بأنّ عرفان ذلك عرفان لاستقامة الشخص في أعماله.

ثمّ إنّ الماتن قدس سره قد ذكر في فصل شرائط إمام الجماعة عدالته، و فسّر العدالة بأنّها ملكة الاجتناب عن الكبائر و عن الإصرار على الصغائر و عن منافيات المروّة الدالّة على عدم مبالاة مرتكبها بالدين، و ذكر في المقام العدالة عبارة عن ملكة الإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات، و لم يفصِّل كما ترى بين الكبيرة و الصغيرة، و لم يذكر منافيات المروّة، و أمّا التفرقة بين الكبائر و الصغائر فيأتي الكلام فيها بعد ذلك.

ارتكاب خلاف المروة قادح في العدالة أو في حسن الظاهر أم لا؟

و الكلام فعلًا في اعتبار ملكة منافيات المروّة، فنقول: فسروا المروّة بعدم خروج الشخص عن العادات مما يعدّ ارتكاب خلافها مهانة له و علامة لخسّة النفس و مراعاتها

كمالًا لها و إن لم يكن من ترك الواجب أو فعل الحرام، و يستدلّ على اعتبار ذلك بما ورد في صحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور من كون الشخص: «ساتراً لجميع عيوبه» «1» فإنّ جميع العيوب يشمل العيوب المشار إليها. و الماتن قدس سره اعتبر الاجتناب عن منافيات المروّة أي الدالة على أنّ مرتكبها لا يبالي بالدين، و ظاهره أنّ الشخص إذا كان بين الناس بحيث لا يبالي بالإضافة إلى ما يعدّ عندهم عيباً و قبيحاً بالإضافة إلى أمثاله و لا يراعيها أصلًا يكشف ذلك عندهم أنّه لا يبالي أيضاً بالإضافة إلى الوظائف الشرعيّة فلا تتحقق العدالة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 391، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث الأول. عن من لا يحضره الفقيه.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 70

..........

______________________________

أقول: ظاهر ما ورد في صحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور من كونه: «ساتراً لجميع عيوبه» هو العيوب الشرعيّة، و على تقدير الإغماض فارتكاب خلاف المروّة يوجب انتفاء حسن الظاهر الذي هو طريق إلى العدالة، لا أنّه يوجب انتفاء العدالة حيث لا ملازمة بين كون الشخص غير مبالٍ بعادات أمثاله و كونه مبالياً تماماً و محافظاً على رعاية الوظائف الشرعيّة، فما ذكره الماتن قدس سره من دلالة ارتكاب المنافيات و لو بعضها على عدم المبالاة في الدين غير تامّ.

نعم إذا كان ارتكاب شي ء مباح في نفسه في موارد موجباً لهتك المرتكب و إذلال نفسه عند الناس فلا يجوز ذلك الارتكاب، و يخرج به الشخص عن العدالة؛ لأنّ حرمة هتك المؤمن لا تختصّ بما إذا كان الهاتك شخصاً و المهتوك شخصاً آخر، بل يعمّ هتك المؤمن نفسه، كما إذا خرج المؤمن إلى الأسواق و

مجتمعات الناس عارياً ساتراً عورته بخرقة صغيرة بحيث لا يرى عورته فقط، فإنّ هذا العمل حرام و إن كان في نفسه لا بأس به، كما إذا فعل ذلك في مغتسل الحمام أو عند بعض أهله، و أمّا إذا لم يكن ارتكاب خلاف عادة أمثاله كذلك بحيث رأى الناس في عمله قدحاً فيه فغايته انتفاء حسن الظاهر، لاحتمال الناس أنّ جرأته لخرق عادة أمثاله ناشئة من عدم اهتمامه بالوظائف الشرعيّة.

و قد تقدّم أنّ انتفاء الطريق إلى العدالة غير انتفاء العدالة فإذا علم أنّه متعبّد و مبالٍ بالإضافة إلى الوظائف الدينيّة و لا ينحرف عنها يترتّب عليه ما يترتّب على العادل و عدالته، و لا يبعد أن ينتفي حسن الظاهر بترك المستحب أو ارتكاب المكروه، كما في عدم حضور الشخص لصلاة الجماعة في أوقات الصلوات أو خلف وعده إذا وعد مع أنّ خلفه ليس بحرام.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 71

..........

______________________________

ثمّ إنّ المنسوب إلى المشهور قدح ارتكاب الكبيرة في العدالة، و إذا تاب عنها رجع إلى العدالة، و الظاهر أنّ الإصرار على الصغيرة عندهم كذلك أيضاً حيث وردت عدّة روايات معتبرة في أنه: «لا صغيرة بصغيرة مع الإصرار» «1» و لعلّ المستند عندهم لذلك أنّ ثبوت الملكة التي هي العدالة عندهم لا تنافي ارتكاب الذنب اتفاقاً و إن لم يتب، هذا بالإضافة إلى الصغيرة حيث إنّ تركه الكبائر و عدم إصراره على الصغيرة مكفّر لذنبه، بخلاف ارتكابه الكبيرة أو إصراره على الصغائر، فإنّ الشخص يدخل مع ارتكابهما في عنوان الفاسق ما لم يتب، و لكن لا يمكننا المساعدة على المنسوب إليهم فإنّ العدالة- كما ذكرنا- هي الاستقامة من الشخص في وظائفه الدينيّة، و

عدم انحرافه عنها، و إذا انحرف عنها و لو بارتكاب الصغيرة يكون داخلًا في عنوان غير العادل إلّا إذا تاب و رجع إلى استمراره عليها حيث إنّ التائب عن ذنبه كمن لا ذنب له، و لا فرق في الرجوع بالتوبة بين ارتكاب الكبيرة أو الصغيرة.

لا يقال: إذا لم يكن فرق في الخروج عن العدالة و العود إليها بالتوبة بين الكبيرة و الصغيرة فما معنى تقسيم المعاصي إلى الكبائر و الصغائر.

فإنّه يقال: المستفاد من الخطابات الشرعيّة أن تقسيم المعاصي إليها بلحاظ أمر آخر، و هو أنّه إذا كان الشخص عند ذهابه من هذه الدنيا ممن ليس عليه كبيرة في أعماله قد وعد بغفران صغائره كما هو ظاهر الآية المباركة أيضاً، و لكن من في أعماله كبيرة لم يتب عنها فليس في حقّه وعد الغفران إلّا إذا تاب، فتكون توبته مكفّرة عن سيئاته كبائرها و صغائرها. نعم غفران الربّ الجليل لسعة رحمته و لو ببركة شفاعة النبي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 5: 111، الباب 70 من أبواب أحكام الملابس، الحديث 2.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 72

و تعرف بحسن الظاهر الكاشف عنها علماً أو ظنّاً (1) و تثبت بشهادة العدلين، و بالشياع المفيد للعلم.

______________________________

و أوصيائه و أولياء اللّٰه و صلحاء عباد اللّٰه له مقام آخر، فلاحظ الآيات و الروايات الواردة في غفران الربّ الجليل و التوبة إليه و الشفاعة و ما يرتبط بها و اللّٰه الهادي و وليّ التوفيق.

معرفة العدالة بحسن الظاهر

(1) قد تقدّم تفسير حسن الظاهر بما ورد في صحيحة ابن أبي يعفور و ما يرى من الاختلاف بينها و بين غيرها من الروايات يجمع بينهما إمّا بحمل الإطلاق على التقييد، أو

أنّ الوارد في غيرها أيضاً فرد آخر من حسن الظاهر، كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس» «1»، فإنّها تحمل على ما إذا كان ساتراً لجميع عيوبه أيضاً بالمعنى المتقدم، كما يحمل على ذلك مثل رواية إبراهيم بن زياد الكرخي عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام: «من صلّى خمس صلوات في اليوم و الليلة في جماعة فظنّوا به خيراً و أجيزوا شهادته» «2».

كما يظهر الحال في صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدّل منهم اثنان و لم يعدّل الآخران فقال: «إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور اجيزت شهادتهم جميعاً و اقيم الحدّ على الذي شهدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا و علموا، و على الوالي أن يجيز شهادتهم إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق» «3»، فإنّ مثل هذه يعارضها ما دلّ على اعتبار العدالة في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 394، الباب 41 من كتاب الشهادات، الحديث 8.

(2) المصدر السابق: 395، الحديث 12.

(3) المصدر السابق: 397، الحديث 18.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 73

..........

______________________________

الشهود، فيحمل الجواب على الفرض الذي أحرز حسن ظاهرهم، و إن لم يكن لهم حسن الظاهر و طريق إحراز عدالتهم تكون شهادتهم جائزة في سقوط حدّ القذف عنهم إذا كانوا أربعة إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق. و أمّا موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و واعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته، و

كملت مروّته، و ظهر عدله، و وجبت اخوّته» «1»، فهو فرد آخر من حسن الظاهر يترتّب على من له ذلك آثار العدالة فيما إذا احتمل كونه عادلًا في الواقع كما هو شأن كلّ طريق معتبر. و نحوها روايتا عبد اللّه بن سنان و عبد اللّٰه بن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن الرضا عليه السلام عن آبائه. و ما في كلام المتن من تقييد اعتبار حسن الظاهر بما إذا كان مفيداً للعلم أو الظنّ لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ حسن الظاهر على الوجه المتقدم أمارة للعدالة فتتّبع مع احتمال الإصابة و لو لم يفد ظنّاً.

و قد تقدّم اعتبار البيّنة في الموضوعات و أنّه لا يبعد ثبوت الإخبار بالموضوع بخبر الثقة العارف في غير موارد الترافع و الموارد التي اعتبر الشارع في ثبوتها طريقاً أو شهادة خاصّة، و لا فرق في اعتبار البيّنة و خبر الثقة العارف بين إخبارهما بنفس عدالة الشخص أو بحسن ظاهره على النحو المتقدّم الذي هو طريق إلى إحراز نفس العدالة، و كذا في اعتبار الشياع المفيد للعلم أو الاطمينان حيث إنّ العلم طريق بالذات أي بلا جعل جاعل، و الاطمينان كإخبار الثقة معتبر ببناء العقلاء إلّا في الموارد التي أشرنا إليها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 8: 315- 316، الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 9.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 74

[إذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط يجب على المقلّد العدول]

(مسألة 24) إذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط يجب على المقلّد العدول إلى غيره (1).

[إذا قلّد من لم يكن جامعاً للشرائط كان كمن لم يقلّد أصلًا]

(مسألة 25) إذا قلّد من لم يكن جامعاً [للشرائط] و مضى عليه برهة من الزمان كان كمن لم يقلّد أصلًا، فحاله حال الجاهل القاصر أو المقصّر (2).

[إذا قلّد من يحرّم البقاء على تقليد الميت فمات و قلّد من يجوّز البقاء، له أن يبقى على تقليد الأوّل]

(مسألة 26) إذا قلّد من يحرّم البقاء على تقليد الميت فمات و قلّد من يجوّز البقاء، له أن يبقى على تقليد الأوّل في جميع المسائل إلّا [في] مسألة حرمة البقاء (3).

______________________________

عروض ما يوجب فقد الشرائط

(1) هذا بالإضافة إلى الشرائط التي تعتبر في جواز التقليد حدوثاً و بقاءً، و أمّا ما يعتبر في جواز التقليد ابتداءً كحياة المفتي فيجوز البقاء على تقليده إذا كان الحيّ الفعليّ يُجوّز البقاء على تقليد الميّت على ما مرّ الكلام فيه.

تقليد غير الجامع للشرائط

(2) إذا كانت فتوى من رجع إليه غير معتبرة، كفقد شرط الرجوع إليه يكون عمله بلا تقليد، فيجري فيه ما ذكرنا في المسألة السادسة عشرة.

تقليد من يحرّم البقاء على تقليد الميت

(3) قد ذكر سابقاً أنّ المجتهد الذي قلّده في الوقائع التي يبتلي بها أو يحتمل ابتلاءه بها إذا أفتى بعدم جواز البقاء على تقليد الميت لا تكون هذه الفتوى منه بعد موته معتبرة، بلا فرق بين ما أفتى الحيّ الفعلي بجواز البقاء على تقليد الميّت أو أفتى بوجوب البقاء، و السرّ في ذلك أنه لا يمكن أن تكون فتواه في مسألة البقاء معتبرة.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 75

[يجب على المكلّف العلم بأجزاء العبادات و شرائطها و موانعها و مقدّماتها]

(مسألة 27) يجب على المكلّف العلم بأجزاء العبادات و شرائطها و موانعها و مقدّماتها (2) و لو لم يعلمها لكن علم إجمالًا أنّ عمله واجد لجميع الأجزاء و الشرائط و فاقد للموانع صحّ و إن لم يعلمها تفصيلًا.

______________________________

وجوب العلم بأجزاء العبادات و شرائطها و ...

(2) و لعلّ ذكر مقدّمات العبادات عطف تفسيريّ للشرائط و الموانع، و إلّا فلا نعرف مقدّمة تتوقّف عليها صحّة العمل و لم يكن من الشرائط و الموانع الداخل

فيها عدم القاطع، و كيف كان بما أنّ المكلف في موارد التكليف بالعبادة عليه الامتثال فلا يفرّق بين الامتثال التفصيليّ الحاصل و لو باتّباع طريق معتبر في معرفتها و إحراز الإتيان بها و الامتثال الإجمالي الحاصل بالاحتياط و لو لم يعلم تفصيلًا أجزاءها و شرائطها و موانعها المعتبرة فيها.

و الحاصل إذا أمكن للمكلّف الإتيان بالواجب الواقعي بتمام ما يعتبر فيه من غير علمه تفصيلًا بأجزائه و شرائطه و موانعه يكون الامتثال مجزياً، كما تقدّم في مسألة جواز الاحتياط مع التمكّن من الاجتهاد الفعليّ أو التقليد بلا فرق بين موارد استلزام الاحتياط التكرار، كما في مورد دوران أمر الصلاة بين القصر و التمام، أم لا، كما في دوران الصلاة بين الأقلّ كالاكتفاء بقراءة الحمد خاصّة في الركعتين الأوّلتين، أو الأكثر كلزوم قراءة السورة بعد قراءتها، هذا كلّه في صورة إحراز الامتثال بالإتيان بالواجب الواقعي إمّا بالتفصيل أو الإجمال.

و أمّا تعلّم أجزاء العبادة و شرائطها و موانعها فيما لو لم يتعلّمها لم يتمكن من الامتثال أو لم يتمكّن من إحراز الامتثال فيفرض الكلام في الواجب المشروط و الموقّت، و أنّ المكلّف لو لم يتعلّم الواجب قبل حصول شرط الوجوب أو دخول الوقت يمكن له التعلّم بعد حصول الوجوب بحصول شرطه أو دخول وقته، كما هو

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 76

..........

______________________________

الحال فعلًا في واجبات الحج و شرائطه و موانعه، ففي هذا الفرض حيث المكلّف يتمكّن من المعرفة و الامتثال في ظرف التكليف فلا موجب لوجوب التعلّم عليه قبل فعليّة التكليف و قبل حصول الاستطاعة.

و اخرى لو لم يتعلّم أجزاء العمل و شرائطه و موانعه لم يتمكّن من إحراز الامتثال في ظرف التكليف

أو لا يمكن له الامتثال أصلًا، كما في الصلاة حيث من لم يكن من أهل اللسان لو لم يتعلّم كيفية الصلاة و القراءة و غير ذلك مما يعتبر فيها قبل دخول وقتها لا يتمكّن من الصلاة في وقتها أو لا يتمكن من إحراز الامتثال، و في هاتين الصورتين عليه التعلّم قبل حصول شرط الوجوب و دخول الوقت؛ و ذلك فإنّ الأخبار الواردة في وجوب التعلّم و أنّ الجهل لا يكون عذراً مسوّغاً لترك الواجب و أنّ المكلّف يؤخذ به و لو فيما إذا كان منشؤه ترك التعلّم قبل حصول الشرط و دخول الوقت، بل لا ينحصر وجوب التعلّم فيما إذا كان العلم بابتلائه بذلك الواجب فيما بعد، و يجرى فيما إذا احتمل الابتلاء و لم يتمكّن بعده من التعلّم و أنّه لا يكون جهله في تركه عذراً فيما إذا انجرّ ترك تعلّمه إلى مخالفة التكليف باتّفاق الابتلاء.

و قد يقال «1»: إنما يحتاج إلى أخبار وجوب التعلّم قبل الوقت أو حصول شرط الوجوب فيما إذا توقف التمكّن من إتيان الواجب بعد حصول شرط وجوبه على التعلّم قبله، و أمّا إذا توقف إحراز الامتثال على التعلّم قبل أحدهما فالعقل يستقلّ بلزوم التعلّم؛ لأنّ في تركه احتمال ترك الواجب كما هو فرض القدرة على الإتيان بعد حصول شرط وجوبه.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 293. طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 77

..........

______________________________

فإنّه يقال: المستفاد من أخبار وجوب التعلّم أنّ القدرة على الإتيان بالواجب من ناحية التعلّم شرط لاستيفاء الملاك الملزم، و لا يكون تركه حتى مع عدم القدرة عليه و عدم التكليف به خطاباً بعد حصول شرط وجوبه عذراً

إذا كان العجز ناشئاً من ترك التعلّم سواء كان تركه محرزاً أو محتملًا، و أنّه لا مجال للُاصول النافية في هذه الموارد أو دعوى جواز الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة فيما إذا كان بعد حصول شرط الوجوب لم يتمكّن إلّا منها.

لا مجال للاستصحاب لإحراز عدم الابتلاء بالواقعة التي ترك تعلّم حكمها

لا يقال: إذا لم يجب على المكلّف التعلّم بالإضافة إلى الوقائع التي يعلم بعدم ابتلائه بها و لو مستقبلًا فيمكن له إحراز عدم الابتلاء عند الشك بالاستصحاب، حيث يتمسّك به و يحرز عدم ابتلائه و لو مستقبلًا فينتفي الموضوع لوجوب التعلّم، و الاستصحاب كما يجري في أمر يكون نفس ذلك الأمر موضوع الحكم أو نفيه كذلك يجري فيما إذا كان إحراز ذلك الأمر هو الموضوع للحكم، فيثبت أو ينفى على ما تقدّم من قيام الاستصحاب مقام العلم المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقيّة و الكشف لا بنحو الوصف و الصفتية، و أيضاً تقدّم في بحث الاستصحاب أنّه كما يجري في الامور الماضيّة كذلك يجري في الامور الاستقباليّة، فلا وجه لما يقال بعدم جريان الاستصحاب في الابتلاء و عدمه لعدم كونه حكماً و لا موضوعاً له.

فإنّه يقال: قد تقدّم أنّ وجوب التعلّم حكم طريقي قد جعل لإسقاط الجهل بالحكم التكليفي و الوضعي و غيره من العذريّة في مخالفة التكليف- سواء كان للجهل بالحكم أو المتعلّق- و عليه فعدم وجوب التعلّم في موارد العلم الوجدانيّ بعدم

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 78

[يجب تعلّم مسائل الشكّ و السهو بالمقدار الذي هو محلّ الابتلاء غالباً]

(مسألة 28) يجب تعلّم مسائل الشكّ و السهو بالمقدار الذي هو محلّ الابتلاء غالباً، نعم لو اطمأنّ من نفسه أنّه لا يبتلي بالشكّ و السهو صحّ عمله و إن لم يحصل العلم

بأحكامهما (1).

______________________________

الابتلاء لكون التعلّم الواجب النفسيّ الطريقيّ على كلّ مكلّف لغواً بالإضافة إلى موارد علمه بعدم الابتلاء، لا لأنّ لخطابات وجوب التعلّم الطريقيّ ورد تقييد خارجيّ بعدم وجوبه في موارد عدم ابتلائه، ليتوهّم أنّ الاستصحاب في عدم الابتلاء مستقبلًا عند الشكّ محرز لذلك القيد، و الاستصحاب بعدم الابتلاء مستقبلًا لا يثبت اللغويّة مع إطلاق خطابات وجوب التعلّم و شمولها لموارد إحراز الابتلاء و احتماله.

و على الجملة بمجرّد الاحتمال يحرز موضوع وجوب التعلّم، و الاستصحاب إنما يكون تعبّداً بالعلم فيما إذا لم يعلم الحكم الواقعيّ في الواقعة و لو كان المعلوم حكماً طريقيّاً واقعيّاً.

وجوب تعلم مسائل الشك و السهو

(1) إن قيل بحرمة قطع الصلاة الواجبة كاليوميّة يجب على المكلّف تحصيل العلم بأحكام الشكّ و السهو في الصلاة فيما إذا احتمل ابتلاءه بهما أثناء الصلاة مع عدم إمكان تعلّم حكمهما؛ لأنّ مع عدم تعلّم حكمهما من قبل و إن يمكن له الإتيان بالوظيفة المقرّرة للشاكّ و الساهي في صلاته اتّفاقاً إلّا أنه يحتمل أن يكون ما أتى به حالهما مبطلًا، كما يكون رفع يده عن تلك الصلاة باستينافها قطعاً للفريضة، كما إذا شكّ حال القيام في أنّه رفع رأسه من الركوع أو أنّه بعد لم يركع، فإنّه إذا سجد يكون هذا إبطالًا لصلاته لو كان تركه الركوع مطابقاً للواقع، فإحراز أنّه لا يرتكب الحرام بقطع تلك الصلاة و ترك الركوع أو تدارك الركوع يتوقّف على تعلّم أحكام الشك و السهو و لو قبل مجي ء الوقت.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 79

..........

______________________________

نعم، لو التزم بعدم حرمة قطع الصلاة الواجبة أو إبطالها و أنّ ما ذكر في أحكام الشكّ و السهو تعيين علاج السهو

و الشكّ في تلك الصلاة فلا موجب للقول بوجوب التعلّم، لإمكان إحراز الامتثال بالاستيناف بعد الإبطال من غير ارتكاب محذور.

ثمّ إنه لا وجه لتقييد الماتن قدس سره وجوب التعلّم بما هو محلّ الابتلاء غالباً، إلّا أن يراد منه عدم وجوب التعلّم بالإضافة إلى الموارد التي يطمئنّ بعدم الابتلاء بها.

و أيضاً ما ذكر قدس سره من أنّ المكلّف إذا لم يتعلّم أحكام الشكّ و السهو بالإضافة إلى الموارد التي يعمّ الابتلاء بها نوعاً و أتى المكلف بالصلاة مع اطمئنانه بأنّه لا يبتلي بها يصحّ عمله، و لازم ذلك أن لا يحكم بالصحة مع عدم الاطمينان بابتلائه، أو ابتلى بها و أتى بوظيفة الشاك و الساهي اتّفاقاً بعنوان الرجاء، لا يمكن المساعدة عليه، كما إذا أتى في المثال السابق بالركوع برجاء أنّ ذلك وظيفته و أتمّها ثمّ ظهر أنّ ما فعله فتوى العلماء، و لعلّه قدس سره يرى أنّه لا يتحقق في الصورتين قصد التقرّب المعتبر، حيث إنّه لا يتحقّق ممّن يحتمل ارتكاب الحرام بصلاته نظير ما يقال بأنّه لو توضّأ بأحد الماءين اللذين يعلم بغصبيّة أحدهما يبطل وضوؤه حتّى فيما إذا ظهر بعد الوضوء به أنّه كان المباح منهما، أو إذا توضّأ بكلّ منهما يحكم ببطلان وضوئه لعدم تحقق قصد التقرّب عند التوضؤ بكلّ منهما.

أقول: حرمة إبطال صلاة الفريضة أو عبادة اخرى أثناءها موقوفة على كون الدخول في الصلاة أو نحوها دخولًا صحيحاً، و إذا فرض من الأوّل بطلان ذلك العمل لجهة ما فلا يكون قطعه محرّماً، فلا بدّ من الالتزام بأنّ عدم تعلّم حكم الشكّ و السهو و الدخول في الصلاة مع احتمال عدم ابتلائه بهما أثناءهما لا ينافي قصد التقرّب إذا اتّفق عدم ابتلائه

بهما، نظير من صام في نهار شهر رمضان مع عدم تعلّمه المفطرات

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 80

..........

______________________________

الموجبة ارتكابها بطلان الصوم برجاء أنّه لا يرتكب شيئاً منها، حيث لا يحكم ببطلان صومه مع إمساكه عنها طرّاً، و كذا فيما إذا دخل في الصلاة مع احتماله إتمامها صحيحة حتّى فيما إذا اتّفق الشك و السهو و لكن بنى عند طروّ أحدهما على شي ء باحتمال أنّه وظيفة الشاكّ و الساهي ثمّ تبيّن أنّ البناء الذي عمل عليه كان وظيفة الشاكّ أو الساهي، كما إذا ركع في فرض الشكّ في الركوع حال قيامه.

و ممّا ذكرنا يظهر الفرق بين التوضّؤ بأحد الماءين اللذين يعلم بكون أحدهما مغصوباً و بين الدخول في الصلاة مع احتمال إتمامها صحيحة لعدم ابتلائه بالشكّ أو السهو، أو مع بنائه بما يحتمل كونه وظيفة الشاكّ أو الساهي، بخلاف التوضّؤ بأحدهما حيث يحتمل أنّ الغسل به ارتكاب الحرام المنجّز المعلوم بالإجمال، حيث إنّ ما يبنى عليه عند عروض الشكّ و السهو من أحد الطرفين رجاءً لدوران الأمر بين المحذورين، بخلاف الوضوء فإنّه يتركه و يتيمّم كما هو وظيفته.

بقي في المقام أمر و هو أنّ المنقول عن الشيخ الأنصاري قدس سره أنّ من ترك تعلّم أحكام الشكّ و السهو في الصلاة يحكم عليه بالفسق «1»، و هذه الفتوى منه قدس سره لا يمكن أن تبتنى على حرمة التجرّي شرعاً، فإنّه قدس سره لم يلتزم لا بحرمة التجرّي و لا بقبحه الفعليّ، و هو قدس سره يرى أنّ العدالة هي ملكة الاجتناب عن المحرّمات و الإتيان بالواجبات، و لو قيل بأنّ هذا التجرّي يكشف عن عدم ملكة الاجتناب و الإتيان بالواجب، فلوجود الواسطة

بين عدم الملكة و الفسق لا يحكم بكونه فاسقاً، و قد تقدّم أنّ العدالة ليست بمعنى ملكتهما، بل هي استقامة الشخص على وظائفه الشرعيّة و عدم

______________________________

(1) نقلها السيد الخوئي انظر التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 301.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 81

[كما يجب التقليد في الواجبات و المحرّمات يجب في المستحبّات و المكروهات و المباحات]

(مسألة 29) كما يجب التقليد في الواجبات و المحرّمات يجب في المستحبّات و المكروهات و المباحات (1) بل يجب تعلّم حكم كلّ فعل يصدر منه سواء كان من العبادات أو المعاملات أو العاديّات.

______________________________

خروجه عنها، و هذا الشخص لم يخرج بترك تعلّمه عن وظائفه الشرعيّة، بل المفروض أنّه أتى بصلاته صحيحة.

و التعلّم لم يكن وجوبه نفسيّاً بل كان وجوبه طريقيّاً، و الغرض من موافقته الخروج عن عهدة التكاليف النفسيّة و عدم مخالفتها، و الظاهر أنّ حكمه بالفسق مبنيّ على ما تقدّم من بطلان الصلاة من تارك التعلّم لأحكام الشكّ و السهو حتّى ما إذا صلّى و لم يبتل فيها بالشكّ و السهو، فيكون محكوماً بالفسق.

و دعوى «1» أنّ الحكم بالفسق فيما إذا استلزم ترك التعلّم عدم تمكّنه من إحراز الامتثال بالإضافة إلى التكليف المنجّز في موطنه، فإنّ عدم إحراز امتثاله خروج عن الوظيفة الدينيّة فيكون فاسقاً، لا يمكن المساعدة عليها، فإنّ انطباق عنوان الفاسق فيما إذا ترتب الأثر الشرعيّ عليه مشكل جدّاً و إن لا يبعد نفي بعض العناوين المنطبقة على العادل عنه، كالمأمون بدينه أو أنّه يواظب على وظائفه الشرعيّة فتدبّر.

يجب التقليد في المستحبات و المكروهات و المباحات

(1) لا ينبغي التأمّل في أنّ على العاميّ تعلّم الواجبات الشرعيّة بأجزائها و شرائطها و موانعها بالتقليد أو الاحتياط فيها على ما تقدّم، و كذلك الأمر في المحرّمات حيث

إنّ القيود المعتبرة في المحرّم إمّا أن تحرز بالتقليد أو عليه الاحتياط، و أمّا لزوم التقليد في المستحبات و المكروهات و المباحات ففيما إذا احتمل الإلزام

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 302.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 82

[إذا علم أنّ الفعل الفلاني ليس حراماً و لم يعلم أنّه واجب أو مباح أو مستحبّ أو مكروه يجوز له أن يأتي به، لاحتمال كونه مطلوباً]

(مسألة 30) إذا علم أنّ الفعل الفلاني ليس حراماً و لم يعلم أنّه واجب أو مباح أو مستحبّ أو مكروه يجوز له أن يأتي به، لاحتمال كونه مطلوباً (1) و برجاء الثواب. و إذا علم أنّه ليس بواجب و لم يعلم أنّه حرام أو مكروه أو مباح له أن يتركه لاحتمال كونه مبغوضاً.

[إذا تبدّل رأي المجتهد لا يجوز للمقلّد البقاء على رأيه الأوّل]

(مسألة 31) إذا تبدّل رأي المجتهد لا يجوز للمقلّد البقاء على رأيه الأوّل (2).

______________________________

فيها، حيث إنّ عليه رعاية احتمال الإلزام أو التقليد في إحراز عدم الإلزام في الفعل سواء كان إحرازه نفي الإلزام بفتوى الفقيه بالاستحباب أو الإباحة أو الكراهة. و أمّا إذا علم العاميّ بعدم الإلزام و تردّد في استحبابه الشرعيّ فإنّه و إن يجوز الإتيان به برجاء كونه مستحبّاً إلّا أنّ قصد الاستحباب الجزميّ فيه يتوقّف على إحراز الاستحباب بالتقليد، و كذلك ترك الفعل فيما إذا احتمل كراهته مع إحرازه عدم الحرمة فيه، و يجري لزوم التقليد في الأجزاء و الشرائط في العبادات المستحبة، بل في المعاملة في إحراز صحتها إن ترك الاحتياط فيها أو لم يعرف كيفيّة الاحتياط فيها.

(1) إذا ترك التقليد في الصورة الاولى و لم يحرز عدم وجوبه فعليه الاحتياط بالإتيان به برجاء الوجوب، فإنّ الاحتياط على العاميّ قبل الفحص لازم في موارد احتمال التكليف، و كذا الحال في الصورة الثانية إذا لم يحرز عدم حرمته عليه الاحتياط في تركه.

نعم إذا أحرز عدم الوجوب و الحرمة في الصورتين يجوز له الاحتياط بما ذكره، فإنّ إحراز عدم التكليف بالطريق المعتبر لا يمنع عن الاحتياط بل هو حسن و مستحب كما قرّر في محلّه.

(2) قد تقدّم أنّ الفتوى السابقة بعد رجوع المجتهد عنها إلى فتوى اخرى لا تبقى الفتوى

الاولى على الاعتبار، و الفتوى إخبار عن حكم الواقعة و تعيين للوظيفة

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 83

[إذا عدل المجتهد عن الفتوى إلى التوقّف و التردّد يجب على المقلّد الاحتياط أو العدول]

(مسألة 32) إذا عدل المجتهد عن الفتوى إلى التوقّف و التردّد يجب على المقلّد الاحتياط أو العدول إلى الأعلم بعد ذلك المجتهد (1).

[إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلّد تقليد أيّهما شاء]

(مسألة 33) إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلّد تقليد أيّهما شاء (2) و يجوز التبعيض في المسائل. و إذا كان أحدهما أرجح من الآخر في العدالة أو الورع أو نحو ذلك فالأولى بل الأحوط اختياره.

______________________________

المجعولة فيها من أوّل تأسيس الشريعة على طبق ما استفاده من مدارك الأحكام؛ و لذا قلنا إنه لو لم يكن دليل على إجزاء الأعمال السابقة التي كانت على طبق الفتوى السابقة كان على المكلّف تداركها على طبق الفتوى الجديدة؛ لأنّ ما دلّ على اعتبار الفتوى للعاميّ من الروايات و السيرة العقلائية لا يعمّ شي ء منهما صورة عدول المجتهد من فتواه السابقة، و لا فرق في ذلك سواء كان عدوله من فتواه السابقة إلى الفتوى الاخرى أو كان إلى التوقّف و التردّد في حكم الواقعة.

هذا فيما إذا أحرز العامي العدول إلى الفتوى الاخرى أو إلى التوقّف و الاحتياط، و أمّا إذا شكّ في العدول فله أن يبقى على تلك الفتوى، فإنّه مقتضى الاستصحاب في بقاء تلك الفتوى و عدم العدول عنها.

(1) فإنّه برجوع المجتهد إلى التوقّف و الفتوى فلا يكون له في الواقعة فتوى فعلًا، و يكون على العاميّ فعلًا إما الاحتياط في الواقعة أو الرجوع إلى الأعلم بعد ذلك المجتهد على ما تقدّم سابقاً من تخيير العاميّ بين الاحتياط و الرجوع إلى فتوى المجتهد الواجد للشرائط.

التبعيض في التقليد

(2) هذا مبنيّ على ثبوت التخيير للعاميّ بين تقليد أيّ من المجتهدين

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 84

..........

______________________________

المتساويين في العلم مطلقاً سواء

لم يعلم المخالفة بين فتاويهما في الوقائع أصلًا أو علم ذلك و لو بالإجمال، و قد ذكر هذا التخيير الماتن قدس سره سابقاً و لكن قيّده بما إذا لم يكن أحدهما أورع من الآخر و احتاط في تقليد الأورع. و في المقام أجاز التبعيض بينهما في المسائل و قال: إذا كان أحدهما أرجح من الآخر في العدالة أو الورع أو نحو ذلك فالأولى بل الأحوط اختياره، و كما ترى لا يكون كلامه في المقام ظاهراً في الاحتياط الوجوبيّ، بخلاف ما تقدّم في مسألة تخيير العاميّ بين تقليد أحد من المجتهدين المتساويين في العلم.

أقول: لو قلنا بالتخيير و بجواز التبعيض فهذا القول فيما لم يعلم و لو إجمالًا اختلافهما في المسائل التي يبتلي بها المكلف صحيح لا غبار فيه، و أمّا في المسائل التي يعلم العاميّ باختلافهما فيها إجمالًا فثبوت التخيير محلّ إشكال إلّا بناءً على ما ذكرنا سابقاً من إحراز أنّ الشارع لا يريد العسر، و أن يعمل العاميّ بالاحتياط في المسائل المشار إليها، لا بالإضافة إلى الاحتمالات في الواقعة، و لا الاحتياط بالإضافة إلى فتوى كلّ من المتساويين في الواقعة، فإنّ الاحتياط في الأول عسر و ينافي ما عليه الشريعة السهلة السمحة، و الثاني لا وجه له فإنّ مع سقوط فتوى المجتهدين في واقعة للمعارضة لا يمكن نفي الاحتمال الثالث لما تقرّر في الاصول من أنّه لا يمكن نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة بعد سقوط المدلول المطابقيّ عن الاعتبار، فلا وجه لما يقال في وجه الاحتياط بين القولين بأنّه لا اعتبار بفتوى الآخرين؛ لأنّ المفروض أنّهما بالإضافة إلى الآخرين أفضلان أو أنّ فتواهما تتضمّن الفتوى بأنّ الحكم الثالث غير ثابت في الواقعة فتدبّر.

تنقيح مباني العروة

- كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 85

..........

______________________________

و ربّما «1» يقال: إنّه على تقدير التبعيض في التقليد فاللازم رعاية عدم استلزامه الإتيان بعمل بنحو يكون باطلًا عند كليهما، كما إذا أفتى أحدهما بعدم وجوب السورة بعد قراءة الحمد في الركعتين الأوّلتين و بلزوم الإتيان في الأخيرتين بالإتيان بالتسبيحات الأربعة ثلاث مرات، و أفتى الثاني بلزوم قراءة السورة و كفاية التسبيحات مرّة، فإنّ العامي إذا قلّد في مسألة قراءة السورة بالأوّل و في التسبيحات بالثاني فالصلاة التي يأتي بها بلا سورة و بالتسبيحات بالمرّة لا تصحّ عند كليهما فهذا التخيير غير جائز، و كذا التبعيض في الموارد التي يكون العمل متعدّداً و في واقعتين و لكن بينهما تلازم في الحكمين و أوجب التبعيض التفكيك بين المسألتين، كما إذا أفتى أحدهما بوجوب التمام و الصوم في سفر و أفتى الآخر فيه بالقصر و الإفطار فقلّد العامي الأوّل في وجوب التمام، و الثاني في لزوم الإفطار، و هكذا فإنّ العلم الإجمالي إمّا ببطلان صلاته أو عدم جواز إفطاره منجّز.

و قد أجبنا عن ذلك و قلنا بجواز التبعيض حتى بالإضافة إلى العمل الواحد في مسألة (65) الآتية حيث قال الماتن قدس سره فيها: في صورة تساوي المجتهدين يتخيّر بين تقليد أيّهما شاء كما يجوز له التبعيض حتى في أحكام العمل الواحد حتّى أنّه لو كان مثلًا فتوى أحدهما وجوب جلسة الاستراحة، و استحباب التثليث في التسبيحات الأربع و فتوى الآخر بالعكس يجوز أن يقلّد الأوّل في استحباب التثليث، و الثاني في استحباب الجلسة.

و ما قيل من أنّ صلاته بتقليد الأول في استحباب التثليث، و الثاني في استحباب

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 305- 306.

تنقيح مباني العروة - كتاب

الاجتهاد و التقليد، ص: 86

..........

______________________________

جلسة الاستراحة تكون باطلة عند كلا المجتهدين غير صحيح، فإنّ من يقول ببطلان الصلاة من المجتهدين بترك التثليث في التسبيحات الأربع يقول بالبطلان مع عدم العذر في تركها، و كذلك من يقول ببطلانها بترك جلسة الاستراحة يقول ببطلانها في صورة عدم العذر في تركها كما هو مقتضى حديث: «لا تعاد» «1» و ليس من يفتي بعدم وجوب جلسة الاستراحة يقيّد عدم وجوبها بصورة الإتيان بالإتيان بالتسبيحات الأربع ثلاثاً، كما أنّه ليس فتوى من يفتي بكفاية الواحدة يقيّد كفايتها بصورة الإتيان بجلسة الاستراحة بحيث لو لم يأت بالتسبيحات إلّا مرّة يكون عليه الإتيان بجلسة الاستراحة، و ليس على العاميّ إلّا التقليد عمّن يرى عدم وجوب جلسة الاستراحة و التقليد عمّن يرى عدم وجوب التثليث في التسبيحات الأربع، كما هو مقتضى جواز التبعيض في تقليده لتساوي المجتهدين.

نعم، فيما إذا كان الجزء أو القيد ركناً بحيث لا يعذر فيه الجاهل بأن يبطل عمله بالإخلال به على قولي المجتهدين، فمع الإخلال بالركن في ذلك العمل لم يجز التبعيض، و هذا لا يفرض في الصلاة لعدم الاختلاف في أركانها، و يتصوّر في مثل الحجّ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بإجزاء درك الوقوف الاضطراريّ المزدلفة يوم العيد و إن لم يدرك الوقوف الاختياريّ و الاضطراريّ بعرفة، و لكن كانت فتواه عدم كفاية الغسل المستحب في الطهارة من المحدث بالأصغر، و يرى المجتهد الآخر العكس و أنّ الغسل الاستحبابي يجزي و لا يجزي الوقوف الاضطراريّ من غير درك الاضطراريّ بعرفة، و المكلّف أدرك الاضطراري بالمشعر خاصّة، و عليه فإن أدرك

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 371- 372، الباب 3 من أبواب الوضوء، الحديث 8.

تنقيح مباني العروة - كتاب

الاجتهاد و التقليد، ص: 87

[إذا قلّد من يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم ثمّ وجد أعلم من ذلك المجتهد فالأحوط العدول إلى الأعلم]

(مسألة 34) إذا قلّد من يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم ثمّ وجد أعلم من ذلك المجتهد (1) فالأحوط العدول إلى ذلك الأعلم و إن قال الأول بعدم جوازه.

________________________________________

تبريزى، جواد بن على، تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، در يك جلد، دار الصديقة الشهيدة سلام الله عليها، قم - ايران، اول، 1426 ه ق

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد؛ ص: 87

______________________________

المكلّف الوقوف الاضطراري بالمشعر خاصّة و أتى بطواف حجه و عمرته بالغسل المستحب من وضوء يكون حجّه باطلًا عند كلا المجتهدين، و في جواز التبعيض كذلك إشكال لعدم إحراز العاميّ صحة عمله على فتوى واحد منهما.

و أمّا مسألة القصر و الصوم فلا تكون من هذا القبيل؛ لأن من يوجب القصر من المجتهدين و الإفطار فصلاته قصراً وظيفته عنده و الآخر يقول إنّ الصوم وظيفته الواقعيّة، و القائل بالإفطار يقول بصحّة صومه لكونه صائماً جهلًا بوجوب الإفطار عليه.

نعم، لو علم العاميّ أنّ وجوب القصر في الصلاة في سفر لا يجتمع مع وجوب الصوم فيه يلزم عليه الجمع بين القصر و التمام و الصوم فيه و القضاء بعده أو ترك التبعيض؛ لأنّ علمه الإجماليّ بعدم اجتماع وجوب القصر مع وجوب الصوم في السفر المفروض يوجب علمه ببطلان أحد الأمرين من صلاته أو صومه.

(1) حيث إنّه قدس سره احتاط في تقليد الأعلم- كما تقدّم سابقاً- احتاط في المقام أيضاً في العدول.

و لكن لا يخفى أنّه لو كان تقليد الأعلم من الأوّل احتياطاً واجباً لا يكون العدول إلى الأعلم في الفرض من الاحتياط؛ لأنّ ظاهر الفرض وقوع التقليد الأوّل صحيحاً و كان يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم،

و بعد وجدان الأعلم منه متأخّراً يحتمل تعيّن تقليد ما قلّده، كما تقدّم في مسألة عدم جواز العدول عن الحيّ؛ و ذلك لا لفتوى ذلك المجتهد بعدم جواز العدول حتّى إلى الأعلم، بل لاحتمال تعيّن الحجّة في فتاويه

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 88

[إذا قلّد شخصاً بتخيّل أنّه زيد فبان عمراً، فإن كانا متساويين في الفضيلة و لم يكن على وجه التقييد صحّ]

(مسألة 35) إذا قلّد شخصاً بتخيّل أنّه زيد فبان عمراً، فإن كانا متساويين في الفضيلة و لم يكن على وجه التقييد صحّ، و إلّا فمشكل (1).

______________________________

في الوقائع كما أنّ تعيّن الرجوع إلى الأعلم منجّز لوجوب تقليد الأعلم الفعليّ فعليه الجمع في المسائل بين فتوى الأعلم السابق و الأعلم الفعليّ فيها.

هذا بناءً على ما ذكره من وجوب الاحتياط في تقليد الأعلم من المجتهدين، و أمّا بناءً على ما ذكرنا من عدم اعتبار فتوى غير الأعلم مع الأعلم يتعيّن الرجوع في المسائل التي يعلم اختلافهما فيها و لو إجمالًا.

اذا قلّد باعتقاد أنه زيد فبان أنه عمرو

(1) حاصل ما ذكره في المقام أنّه إذا كان في البين مجتهدان متساويان في الفضيلة بحيث يجوز للعاميّ تقليد أيّ منهما و قلّد أحدهما باعتقاد أنّه زيد ثمّ بان أنّه عمرو أي المجتهد الآخر، فإن كان العاميّ بحيث لو علم من الأوّل أنّه عمرو كان أيضاً يقلّده ففي الفرض حكم بصحة التقليد، و أمّا إذا كان عالماً بأنه عمرو لم يكن يقلّده فإنّه مشكل في تحقّق التقليد.

و عبّر في الصورة الاولى بأنّ قصد التقليد عن الشخص المزبور في الفرض الأوّل لم يكن بنحو التقييد بخلاف الفرض الثاني، و هذا نظير ما ذكر في الاقتداء و أنّ المكلف إذا قصد الائتمام بالإمام باعتقاد أنّه زيد ثمّ ظهر بعد الصلاة أنّه عمرو، فإن كان

قصده الائتمام بزيد لا على نحو التقييد بحيث لو كان عالماً من الأوّل أنّ الإمام عمرو كان أيضاً يأتمّ به تصحّ صلاته جماعة، و أمّا إذا كان عالماً بأنّ الإمام عمرو لما كان يأتمّ به فصلاته أو جماعته باطلة.

و لكن لا يخفى أنّ القابل للتقييد حقيقة هو الكلّي أي ما كان الفعل كليّاً و لو مع

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 89

..........

______________________________

عدم كليّة متعلّقه، كما في متعلّقات الأوامر و النواهي و غيرهما من الأحكام التكليفيّة و الوضعيّة حيث يمكن لجاعل الحكم أن يجعل متعلّق حكمه و اعتباره مطلقاً أو مقيّداً، و أمّا ما صار فعليّاً في الخارج بأن تحقّق فيه فلا يتّصف بالإطلاق و التقييد، بل هو موجود جزئيّ خارجيّ لا محالة.

فإن كان ذلك الموجود الخارجيّ من الفعل عنوانه من العناوين غير القصديّة ينطبق عنوانه عليه لا محالة، غاية الأمر إذا كان الفاعل الصادر عنه الفعل ملتفتاً إلى عنوانه حين صدوره منه يكون الفعل عمديّاً، و إن كان غير ملتفت إليه بحيث لو كان ملتفتاً لم يصدر عنه و لم يفعل يكون خطأً، و كذلك إذا كان ملتفتاً إلى عنوان الفعل و لكن لم يلتفت إلى ما وقع ذلك الفعل عليه من المتعلّق له، فلو كان ملتفتاً إليه كان الفعل المقصود و الملتفت إلى عنوانه عمديّاً و إلّا كان خطأً، كما إذا قتل شخصاً بزعم أنّه زيد و لكن ظهر بعد ذلك أنّه عمرو بحيث لو احتمل أنّه كان عمراً لم يكن يقتله.

و أمّا إذا كان عنوان الفعل من العناوين القصديّة و لم يقصد ذلك العنوان بفعله لا يكون ذلك الفعل مصداقاً لذلك العنوان، من غير فرق بين العبادات و

المعاملات، و كذا إذا قصد العنوان القصديّ و لكن انتفى عما ينطبق عليه العنوان القصديّ ما يعدّ قيداً مقوّماً في انطباق ذلك العنوان، كما إذا قصد إنشاء الطلاق لامرأة بتخيّل أنّها زوجته و لكن أخطأ و لم تكن المرأة زوجته بل أجنبية له، و هذا بخلاف ما إذا تحقّق ذلك القيد، فإنّه يكون ذلك الفعل الذي هو عنوان قصديّ محقّقاً لا محالة، و المفروض في المقام كذلك، فإنّ المفروض أنّ الذي قلّده بتخيّل أنّه زيد فبان أنّه عمرو واجد لتمام الشرائط المعتبرة في المجتهد، و قد تعلم منه الفتوى و عمل على طبقه فيكون تقليداً مجزياً، و لو كان عالماً بأنّه عمرو لما قلّده من قبيل تخلّف الداعي، و كذا في مسألة الائتمام بأحد

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 90

[فتوى المجتهد يعلم بأن يسمع منه شفاهاً و بخبر عدلين، و إخبار واحد يوجب قوله الاطمئنان و الوجدان في رسالته]

(مسألة 36) فتوى المجتهد يعلم بأحد امور: الأوّل: أن يسمع منه شفاهاً، الثاني: أن يخبر بها عدلان، الثالث: إخبار عدل واحد بل يكفي إخبار شخص موثّق يوجب قوله الاطمئنان و إن لم يكن عادلًا، الرابع: الوجدان في رسالته، و لا بدّ أن تكون مأمونة من الغلط (1).

______________________________

الشخصين الواجدين لشرائط الائتمام فإنه يتحقّق الائتمام و يكون مجزياً، بخلاف ما لم يكن واجداً لشرائط الائتمام فإنه لعدم تحقّق شرائط الائتمام لم يتحقّق الائتمام، غاية الأمر صلاة المأموم محكومة بالصحة إذا لم يرتكب في صلاته ما يبطل صلاته الفرادى حتّى حال العذر كتعدّد الركوع في ركعة؛ و ذلك فإنّ صلاته لم تنقص من صلاة المنفرد إلّا القراءة و تسقط اعتباره عند العذر، و منه الاعتقاد بصحة ائتمامه.

طرق العلم بفتوى المجتهد

(1) و ذلك فإنّ السماع من المجتهد شفاهاً تعلّم لفتواه وجداناً إذا كان

ما ذكر المجتهد من فتواه صريحاً بحسب المدلول أو كان ظاهراً، و الكلام في اعتبار الظواهر مفروغ عنه في المقام، و أمّا الثاني يعني إخبار العدلين بفتواه فإنّه داخل في البيّنة لفتواه إذا كان إخبارهما به بالسماع من المجتهد، و أمّا إذا لم يكن إخبارهما كذلك أو أخبر عدل بفتواه فهو داخل في خبر العدل، و قد تقدّم اعتباره في الأحكام التي منها فتوى المجتهد بالإضافة إلى العاميّ، بل ذكرنا اعتباره في الموضوعات أيضاً و إن استشكل فيه بعض الأصحاب كالماتن قدس سره، بل المعتبر في نقل الحكم خبر الثقة إذا استند في نقله إلى الحسّ و إن كان بوسائط؛ و لذا التزم الماتن قدس سره في المقام باعتبار خبر العدل الواحد بل الثقة و إن لم يكن عدلًا، و لكن قيّد الثقة بوصف بقوله: «موثّق يوجب قوله الاطمينان» و لو كان مراده الإيجاب النوعيّ فمفاده اعتبار نفس خبر الثقة، و إن كان مراده الاطمينان الشخصيّ تكون النتيجة اعتبار الاطمينان الناشئ من خبر الثقة، و في اعتبار خبر الثقة

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 91

..........

______________________________

قولان و كأنه اختار أحد القولين يعني القول الثاني.

و على الجملة كما أنّ قول الإمام عليه السلام طريق إلى الحكم الشرعيّ المجعول في الشريعة و الراوي عنه عليه السلام يخبر عن ذلك الطريق كذلك فتوى المجتهد طريق شرعيّ إلى الحكم الشرعيّ المجعول في الشريعة بالإضافة إلى العاميّ، و المخبر بفتوى المجتهد يخبر عن ذلك الطريق المعتبر في حقّه، فالراوي عن المعصوم لا يروي الحكم الشرعيّ المجعول في الشريعة بالذات، و إنّما يخبر عن طريقه بنقله قول المعصوم. كذلك الراوي لفتوى المجتهد إنما يروي طريقه إلى الحكم

الشرعيّ المجعول بنقل فتوى المجتهد و نظره؛ و لذا لم يستشكل الماتن قدس سره في اعتبار خبر العدل بل الثقة عن المجتهد بفتواه مع أنّه لم يلتزم باعتبار خبر العدل في الموضوعات بل استشكل في اعتباره فيها.

و ما ذكر في المتن من تقييد الموثّق بما «يوجب قوله الاطمينان» إن كان من قبيل الوصف التوضيحيّ و بأنّ الموثّق من يوجب قوله الوثوق و الاطمينان نوعاً فهو، و إلّا بأن كان المراد اعتبار الوثوق و الاطمينان الشخصيّ من خبره فلا يمكن المساعدة عليه؛ لما ذكرنا في بحث حجيّة الخبر من أنّ خبر الثقة موضوع للاعتبار عند العقلاء في مقام الاحتجاج و الاعتذار، و لا يدور اعتباره مدار الوثوق و الاطمينان الشخصيّ و عدمه.

و الوجه في اعتبار أخبار الثقات عند العقلاء هو تنظيم أمر اجتماعاتهم و لا يمكن أن يستند إلى أمر نفسانيّ لا يتمكّن نوعاً من إحرازه، و عدم إحرازه في مقام الاحتجاج و الاعتذار فيما بينهم، كما ذكرنا ذلك في بحث حجّية الظواهر أيضاً، حيث لا معنى لأن يكون اعتبار ظاهر كلام المتكلّم منوطاً بظنّ السامع و المستمع بمراد المتكلّم و عدم ظنّه، فيكون ظاهر كلامه معتبراً سواء حصل الظنّ منه بالمراد أم لا.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 92

[إذا قلّد من ليس له أهليّة الفتوى ثمّ التفت وجب عليه العدول]

(مسألة 37) إذا قلّد من ليس له أهليّة الفتوى ثمّ التفت وجب عليه العدول، و حال الأعمال السابقة حال عمل الجاهل الغير المقلّد. و كذا إذا قلّد غير الأعلم وجب على الأحوط العدول إلى الأعلم، و إذا قلّد الأعلم ثمّ صار بعد ذلك غيره أعلم وجب العدول إلى الثاني على الأحوط (1).

______________________________

و أمّا ما ذكره قدس سره من «الوجدان في رسالته و

لا بد من أن تكون مأمونة من الغلط» فقد ذكر في بحث حجّية الظواهر أنّه لا فرق في اعتبار ظهور الكلام بين أن يكون مكتوباً أو شفهياً، و لا بد من إحراز كون ما في الرسالة كتابة فتواه بأن تكون مأمونة من الغلط، كما إذا لاحظ المفتي الرسالة فوقّعها بأنّ ما ذكر فيها فتاواه في المسائل الشرعيّة، و اللّٰه العالم.

تقليد من ليس له أهلية الفتوى

(1) و ذلك فإنّ الاستناد في أعماله السابقة إلى قول من ليس له أهليّة الفتوى لا يكون استناداً فيها إلى الحجّة و لا يعتبر تعلّم قوله تعلّماً للحكم الشرعيّ في الواقعة التي ابتلى بها، فعلى ذلك يجب تدارك الأعمال السابقة على طبق فتوى المجتهد الفعليّ إذا كانت فتواه بطلان تلك الأعمال و لا يحكم بإجزائها في موارد فتواه ببطلانها؛ لأنّ ما ذكرنا سابقاً من الإجزاء في العبادات و المعاملات بمعنى العقود و الإيقاعات ما إذا كان العاميّ حال العمل مستنداً إلى فتوى المجتهد الواجد لما تقدّم من الشرائط.

و قد تقدّم أيضاً أنّه مع علم العاميّ باختلاف الفتوى في الوقائع التي يعلم ابتلاءه بها أو يحتمل ابتلاءه عليه أن يرجع إلى الأعلم، و لو كان علمه بالاختلاف علماً إجماليّاً فتقليده لغير الأعلم في الفرض غير مجزئ، و يجب العدول إلى الأعلم و يتدارك أعماله السابقة إذا كان منها ما يفتي الأعلم ببطلانه.

نعم، لو كان رجوعه إلى غير الأعلم فيها لفتوى الأعلم بجواز الرجوع إلى غير الأعلم فلا تحتاج الأعمال السابقة إلى التدارك، و يحكم بإجزائها على القول بالإجزاء

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 93

[إن كان الأعلم منحصراً في شخصين و لم يمكن التعيين فإن أمكن الاحتياط بين القولين فهو الأحوط]

(مسألة 38) إن كان الأعلم منحصراً في شخصين و لم يمكن التعيين

فإن أمكن الاحتياط بين القولين فهو الأحوط، و إلّا كان مخيّراً بينهما (1).

______________________________

بالإضافة إلى الأعمال السابقة في العبادات و المعاملات؛ لأنّ المفروض أنّ العاميّ كان مستنداً في تلك الأعمال إلى الحجّة، و نظير ذلك ما إذا كان آخذاً بفتوى الأعلم في أعماله السابقة ثمّ صار غيره أعلم منه، فيجب الرجوع إلى الأعلم الفعليّ، و لكن يحكم في أعماله السابقة بالإجزاء.

و ما ذكر الماتن قدس سره من الاحتياط الوجوبيّ في تقليد الأعلم و كذا في فرض صيرورة غيره أعلم منه لعلّه يريد صورة عدم العلم بالاختلاف، و إلّا كما ذكرنا لا اعتبار بقول غير الأعلم مع الأعلم في صورة العلم و لو بالإجمال باختلافهما في المسائل التي يبتلي بها العاميّ، و كذا مع العلم الإجماليّ في المسائل التي يحتمل الابتلاء بها.

ثمّ إنّ ما ذكره قدس سره إذا قلّد غير الأعلم وجب عليه العدول إلى الأعلم على الأحوط، و كذا ما إذا قلّد الأعلم ثمّ صار غيره أعلم، ففي الاحتياط المذكور مع احتماله التخيير بين الأعلم و غير الأعلم تأمّل، خصوصاً في الفرض الثاني حيث كانت فتوى الأوّل حجة في حقّه و دار الأمر بين بقائه على الحجّة أو صيرورة الثاني حجّة، فلا بدّ في صورة اختلافهما في الفتوى الأخذ بالأحوط من قوليهما على ما تقدّم.

نعم، في الفرض الأوّل يجري الاستصحاب في ناحية عدم كون فتوى الأوّل حجّة في حقّه من الأوّل، فالأحوط على مسلكه العدول إلى الثاني.

إذا كان الأعلم منحصراً في شخصين

(1) لإمكان الاحتياط صورتان: الاولى أن يفتي كلّ منهما في المسألة بالتكليف و لكن اختلفا في متعلّقه كما إذا أفتى أحدهما في سفر بوجوب القصر، و الآخر بوجوب

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد

و التقليد، ص: 94

..........

______________________________

التمام، كما إذا سافر المكلّف ثمانية فراسخ ثلاثة ذهاباً و أربعة رجوعاً أو أفتى أحدهما في كفارة بصوم شهرين متتابعين تعييناً، و الآخر بالتخيير بينه و بين إطعام ستين مسكيناً، و في هذا الفرض يجب على العامي الأخذ بالاحتياط بالجمع بين القصر و التمام، و بالتكفير بشهرين عن الصيام، و ذلك إمّا لعلمه إجمالًا بوجوب إحدى الصلاتين أو علمه بقيام الحجّة على وجوب شهرين و لا يعلم بقيام الحجّة على إجزاء إطعام ستين مسكيناً و كونه بدلًا عن صيام شهرين متتابعين، و كما إذا أفتى أحدهما بأن من فات عنه رمي الجمرات يقضيه من الغد، و قال الآخر يقضيه في ليلته، فإنّه يجب عليه الجمع بين الرمي في ليلته و الرمي من الغد لعلمه بقيام الحجّة على وجوب أحدهما، و لو احتمل عدم وجوب التدارك أصلًا فإنّ هذا الاحتمال لا يزيد على احتمال الخلاف و عدم الإصابة في سائر الطرق و الأمارات المعتبرة.

و ربّما يتمسّك بأصالة الاشتغال و أنّ مقتضاه الجمع بين الفتويين في العمل و الأخذ بالأحوط منهما؛ لأنّ العلم الإجماليّ للعاميّ بثبوت التكاليف في الوقائع التي يبتلي بها مقتضاه الاحتياط في جميع الصور المتقدمة، بل عليه الاحتياط حتى فيما إذا احتمل التكليف إلّا في مورد أحرز الحجّة على نفي التكليف فيه، كما إذا أفتى في واقعة كلّ من المجتهدين اللذين لا يحرز الأعلم منهما بعدم التكليف، بخلاف ما إذا أفتى أحدهما بالتكليف، و أفتى الآخر بعدمه حيث إنّ مع اشتباه الحجّة بلا حجّة من الفتويين لا يحرز قيام الحجّة على نفي التكليف.

هذا كلّه فيما إذا أمكن الاحتياط بالعمل بالفتويين أو الأخذ بأحوط القولين، و أمّا إذا لم يمكن الاحتياط

كذلك، كما إذا أفتى أحدهما بوجوب فعل و الآخر بعدم جوازه أو أفتى أحدهما بوجوب الإفطار و الآخر بوجوب الصوم فيتخيّر العاميّ في

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 95

[إذا شكّ في موت المجتهد أو في تبدّل رأيه أو عروض ما يوجب عدم جواز تقليده، يجوز له البقاء إلى أن يتبيّن الحال]

(مسألة 39) إذا شكّ في موت المجتهد أو في تبدّل رأيه أو عروض ما يوجب عدم جواز تقليده، يجوز له البقاء إلى أن يتبيّن الحال (1).

______________________________

العمل بأحدهما لكفاية الامتثال الاحتماليّ بعد فرض عدم تمكّنه من الموافقة القطعيّة بالعمل بالفتويين.

و ربّما «1» يقال في الفرض بتقديم فتوى من فيه ترجيح كما إذا كان في أحدهما المعيّن ظنّ بأنّه الأعلم، و لعلّ ذلك للنزول من الموافقة الظنيّة بعد عدم التمكّن من الموافقة القطعيّة.

و فيه أنّ العلم باعتبار أحد الفتويين لا يزيد على العلم الوجدانيّ بثبوت أحد التكليفين، فمع كون المقام من دوران الأمر بين المحذورين لا يكون العلم بثبوت الحرمة أو الوجوب بياناً لأحدهما المعيّن، و العلم باعتبار الفتوى بالحرمة أو الوجوب لا يزيد على العلم بأحدهما، كما أنّ الظنّ بأحدهما بعينه لا أثر له فكذلك العلم باعتبار أحد الفتويين، و لا تقاس المسألة بما إذا كان أحد المجتهدين بعينه أعلم من الآخر احتمالًا بأن علم إما أنّه أعلم أو متساويين فبناءً على التخيير في المتساويين يتعيّن تقليد ما هو محتمل أعلميّته من الآخر في موارد العلم بخلافهما و لو كان المعلوم كذلك بالعلم الإجمالي.

و على الجملة الظنّ إنّما يعتبر في الحجّة في دوران أمر الحجّة بين التعيين و التخيير كما يعتبر الظنّ بالأهميّة في مقام التكليفين المتزاحمين.

(1) و ذلك للاستصحاب في حياته و سائر أوصافه التي تكون دخيلة في جواز البقاء على تقليده، و بما أنّ الشبهة موضوعيّة لا يجب الفحص عن

بقاء حياته أو سائر

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 318.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 96

[فيمن كان في عباداته بلا تقليد مدّة من الزمان]

(مسألة 40) إذا علم أنّه كان في عباداته بلا تقليد مدّة من الزمان و لم يعلم مقداره، فإن علم بكيفيّتها و موافقتها للواقع أو لفتوى المجتهد الذي يكون مكلّفاً بالرجوع إليه فهو، و إلّا فيقضي المقدار الذي يعلم معه بالبراءة على الأحوط، و إن كان لا يبعد جواز الاكتفاء بالقدر المتيقّن (1).

______________________________

الأوصاف، بل يبنى على بقائها حتى يتبيّن الحال.

نعم، على العاميّ إحراز جواز البناء على هذا البقاء من غير ناحية فتوى ذلك المجتهد المشكوك بقاؤه على الأوصاف.

من كان في عباداته بلا تقليد مدة

(1) إذا اتّفق للعاميّ المفروض في المسألة العلم بأنّ أعماله السابقة كانت موافقة للوظيفة الواقعيّة و فرض الإتيان بها بقصد التقرّب فلا ينبغي التأمّل في عدم لزوم تداركها؛ لأنّ التقليد لم يكن شرطاً في صحّة العبادات، بل طريقاً إلى إحراز امتثال التكاليف المتعلّق بها، و كذا إذا علم أنّها تكون مطابقة لفتوى المجتهد الذي تكون وظيفته في لزوم تداركها و عدمه الرجوع إليه فعلًا، فإنّه مع فتوى المجتهد الفعليّ بما ينطبق على أعماله السابقة لا موضوع لتداركها حتّى فيما إذا كانت بعض تلك الأعمال باطلة على فتوى المجتهد الذي كان على العاميّ الرجوع إليه في تلك الأعمال، فإنّ فتوى المفتي تعتبر طريقاً إلى التكليف و الحكم الشرعيّ في الواقعة بنحو القضيّة الحقيقيّة من أوّل الشريعة، و إذا سقطت فتوى المجتهد عن الاعتبار لموته أو غيره أو لم يكن معتبراً في حقّه لعدم تعلّمه منه و عدم الاستناد إليه في مقام العمل يكون الطريق إلى تلك القضية الحقيقيّة فتوى المجتهد الذي عليه

الرجوع فعلًا؛ و لذا ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة تدارك الأعمال السابقة على طبق فتوى من يعتبر فتواه فعلًا حتى فيما إذا كان متعلّماً من المجتهد السابق و كان مستنداً إلى فتواه حين العمل، و إنّما التزمنا

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 97

..........

______________________________

بالإجزاء للعلم بأنّ الشارع لا يريد تدارك عباداته السابقة فيما إذا احتمل صحتها واقعاً و كان حين العمل مستنداً إلى فتوى من كانت فتواه معتبرة في حقّه، و كذلك الحال في عقوده و إيقاعاته السابقة، و أمّا إذا لم يستند حين العمل إلى الفتوى فالإجزاء فيها خارج عن مورد العلم به، فلا بدّ من تداركها على فتوى المجتهد الذي تكون وظيفته الرجوع إليه فعلًا.

نعم، يفصّل في المقام بأنّه لا يحتاج إلى التدارك في العبادات التي يكون تداركها بالقضاء، فإنّه يكفي فيها احتمال مطابقتها للواقع حال العمل أو صحّتها واقعاً، فلا يجب فيه القضاء بخلاف ما إذا احرز بطلانها بحسب فتوى المجتهد الذي يرجع إليه فعلًا لإخلاله فيها بما يوجب قضاءها، كالإخلال ببعض الأركان في الصلاة أو الإخلال بسائر الأجزاء و تركها مع احتمال اعتبارها حال العمل حيث لا مجرى لحديث «لا تعاد» مع احتمال الاعتبار و الإخلال حال العمل.

و على الجملة موارد لزوم القضاء إحراز الفوت وجداناً أو بطريق معتبر فعلًا فمع عدم إحرازه كذلك كما إذا لم يخلّ بصلاته حال عدم تقليده في أركانها و لا في سائر الأجزاء و شرائطها إلّا نسياناً أو غفلة فيكون مقتضى حديث «لا تعاد» الحكم بصحّتها، بخلاف ما إذا أخلّ في الأركان أو في الأجزاء و الشرائط التي كان يحتمل حال العمل اعتبارها و مع ذلك لم يكن يراعيها، فإنّه يجب عليه

تدارك تلك الصلوات، و كذا الحال في سائر العبادات التي يحرز فوتها بفتوى المجتهد الذي يجب الرجوع إليه فعلًا. و أمّا إذا شكّ في فوتها لعدم علمه بكيفية عمله في ذلك الحال فلا يجب قضاؤها؛ لأنّ الشكّ فيه من الشكّ في التكليف فعلًا.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 98

..........

______________________________

و قد ذكر النائيني قدس سره «1» اختصاص حديث «لا تعاد» بالناسي حيث إنّ المكلف حال صلاته و إخلاله فيها جهلًا كان مكلّفاً بالإتيان بالصلاة التامّة كما هو مقتضى التكليف الواقعيّ غير المقيّد بالعلم و الجهل بالجزئيّة و الشرطيّة، فالمكلّف الجاهل و المخلّ بالجزء أو الشرط جهلًا مكلّف عند إخلاله كقبل الإخلال، و بعده مكلّف بما كان مكلّفاً به، بخلاف الناسي فإنّه حين نسيانه لا يكون مكلّفاً بالصلاة التامّة لنسيانه الجزء و الشرط و بعد تذكّره و زوال نسيانه يتوجه إليه التكليف بالإعادة أو عدمها، بخلاف الجاهل قاصراً أو مقصّراً فإنّه حين العمل يكون مكلّفاً بالصلاة التامّة على ما تقدّم.

أقول: لا يختصّ ما ذكره قدس سره بالناسي بل يجري في حقّ المقصّر الذي كان غافلًا عن اعتبار شي ء في الصحة حيث إنّ التكليف بالواجد له لغفلته ساقط في حقّه فلا يختص الأمر بالإعادة في حقّ الناسي.

لا يقال: إذا كانت غفلة المكلّف عن اعتبار شي ء في الصلاة ناشئة عن ترك التعلّم فلا يكون المكلّف معذوراً في تركه في الصلاة.

فإنّه يقال: هذا لا يمنع عن الحكم بصحة الصلاة التي أتى بها حال غفلته إذا لم يكن الإخلال في أركانها.

أضف إلى ذلك أنّ الغافل الذي لم يكن له سبيل إلى معرفة جميع ما يعتبر في الصلاة و كان معتقداً صحّة ما أتى به حال العمل فيدخل

في حديث «لا تعاد» «2»، فإنّه

______________________________

(1) كتاب الصلاة 1: 203، تقرير بحث النائيني للكاظمي، طبعة مؤسسة النشر الاسلامي، الاولى سنة 1411 ه.

(2) وسائل الشيعة 1: 371- 372، الباب 3 من أبواب الوضوء، الحديث 8.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 99

..........

______________________________

يجري فيه ما ذكره قدس سره في الاستظهار من حديث «لا تعاد».

أضف إلى ذلك أنّ مفاد حديث «لا تعاد» ليس تكليفاً نفسيّاً بل هو إرشاد إلى بقاء التكليف الواقعيّ عند الإخلال بما ذكر في المستثنى و عدم بقائه مع الإخلال بما يدخل في المستثنى منه، و أنّ التعبير بالإعادة و عدمها لفرض أنّ المكلف حين العمل يأتي بما يعتقد أنّه وظيفته؛ و لذا لا يشمل الجاهل المقصّر الذي يحتمل عند الإتيان أنّ عمله ناقص و فيه خلل من حيث بعض الأجزاء و الشرائط أو ارتكاب المانع مع تمكّنه من الإتيان بصلاته صحيحة و لو بالتعلّم، مع أنّ الالتزام بشمول حديث لهذا الجاهل المقصّر يوجب حمل بعض الخطابات الواردة في الأجزاء و الشرائط و الموانع للعمل على الفرد النادر كقوله عليه السلام: «من تكلّم في صلاته متعمّداً فعليه إعادة الصلاة» «1» فإنّه على تقدير شمول «لا تعاد» للمقصّر الذي يحتمل عند التكلّم في صلاته بطلانها يلزم حمل الخطاب المذكور على العالم المتعمّد، و صدوره من العالم المتعمّد المريد للامتثال نادر.

و المتحصّل مما ذكرنا أنّ الجاهل إذا لم يعلم كيفيّة عمله و احتمل صحته واقعاً لا يجب عليه القضاء؛ لأنّ الموضوع لوجوبه فوت الفريضة في وقتها، و مقتضى الاستصحاب في عدم الفوت و لا أقل أصالة البراءة عن تكليف القضاء عدم وجوبه.

نعم، لا تجري في حقّ العاميّ الجاهل حال العمل أصالة الصحّة في

عمله أي قاعدة الفراغ فإنّ العامي المفروض يحتمل إخلاله بالعمل جهلًا لا بطروّ الغفلة حال العمل على ما قرّر ذلك في بحث قاعدة الفراغ، كما أنّ الاستصحاب في عدم الإتيان

______________________________

(1) وسائل الشيعة 8: 206، الباب 4 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 100

..........

______________________________

بالواجب عليه في وقته لا يثبت فوت ذلك الواجب.

و ممّا ذكر يظهر أنّه على العاميّ تدارك معاملاته السابقة إذا احتمل الخلل فيها على طبق فتوى المجتهد الذي يجب الرجوع إليه فعلًا. و على ما ذكرنا كلّما دار أمر القضاء بين الأقلّ و الأكثر يكتفى بالأقلّ؛ لأصالة عدم فوت الزائد أو لأصالة البراءة عن وجوب قضاء الزائد.

و لكن ربّما يقال في الدوران بين الأقل و الأكثر لزوم القضاء بمقدار يعلم الفراغ، و عن بعض بمقدار يظنّ بالفراغ، و قد ذكر في وجه ذلك أنّ في مورد دوران التكليف بين الأقلّ و الأكثر غير الارتباطيين تجرى البراءة عن التكليف الزائد، كما إذا أتلف مال زيد و تردّدت قيمته بين الأقلّ و الأكثر، أو علم بعد شهر رمضان أنّه أفطر الصيام في مرضه و دارت تلك الأيام بين الثمانية و بين العشرة، أو أنّه استيقظ من نومه و تردّد أنّه نام تمام وقت صلاتين أو يوماً واحداً بتمامه، ففي مثل ذلك لا ينبغي التأمّل في الاكتفاء بالأقلّ، و أمّا إذا تردّد التكليف المنجّز السابق بين الأقلّ و الأكثر، كما إذا علم أنّه لم يصلّ أيّاماً و تردّد في تلك الأيام بعد ذلك بين الأقل و الأكثر فإنّه يجب عليه الاحتياط، و ذلك فإنّ كلّ يوم ترك فيه الصلاة فقد تنجّز عليه قضاء صلوات ذلك

اليوم، و كذا الحال فيما إذا تركها في اليوم الثاني تنجّز عليه قضاء صلوات ذلك اليوم أيضاً، و هكذا فإنّ هذا المكلّف إذا اقتصر بعد ذلك بمقدار الأقلّ يحتمل مخالفة بعض التكاليف المنجّزة في حقّه من السابق، و نظير ذلك ما إذا استدان من زيد تدريجاً و بعد ذلك تردّد في ما استدانه بين الأقلّ و الأكثر، فإنّه لا تجري البراءة في ناحية الأكثر حيث إنّه كان مكلّفاً بأداء كلّ دين بالتكاليف المنجّزة من السابق فيحتمل عدم سقوط بعضها عن عهدته بأداء الأقلّ و العاميّ الذي ترك التقليد عمداً من هذا القبيل.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 101

[إذا شك أنّ أعماله السابقة كانت عن تقليد صحيح أم لا، بنى على الصحّة]

(مسألة 41) إذا علم أنّ أعماله السابقة كانت مع التقليد لكن لا يعلم أنّها كانت عن تقليد صحيح أم لا، بنى على الصحّة (1).

______________________________

و لكن لا يخفى ما فيه، أوّلًا: لعدم اندراج المقام في الكبرى المذكورة حيث إنّ المكلّف لا يعلم بكيفيّة أعماله السابقة الصادرة في ذلك الزمان و يحتمل انطباق تلك الأعمال على طبق فتوى المجتهد الذي يجب عليه الرجوع إليه فعلًا.

نعم إذا علم أنّ ما أتى به سابقاً كان مخالفاً لفتوى من يجب عليه الرجوع إليه فعلًا و تردّد بعد ذلك في مقداره بين الأقلّ و الأكثر فيمكن أن يقال: مقتضى ما تقدم هو الاحتياط.

و ثانياً: أنّ التكليف في دوران الواجب الاستقلاليّ بين الأقل و الأكثر هو تنجّز الأقلّ و الرجوع إلى البراءة في الأكثر من غير فرق بين الموارد؛ لأنّ تنجّز التكليف و إن كان بالعلم إلّا أنّ بقاء تنجّزه إنّما هو ببقاء ذلك العلم على ما قرّر في بحث اعتبار العلم و الاعتقاد.

إجراء أصالة الصحة في تقليده السابق

(1)

الشكّ في صحّة تقليده السابق من حيث الصحّة و عدمها يكون في فروض:

الأوّل: أن يشكّ في أنّ من قلّده سابقاً، بأن تعلّم منه الفتوى و عمل بها هل كان واجداً للصفات التي تعتبر في ناحية من يرجع إليه العاميّ ليكون العمل بفتاواه مجزياً فيما إذا كانت فتوى من يرجع إليه فعلًا مخالفة لفتوى ذلك المجتهد الذي كان يقلّده؟

الثاني: أن يشكّ في الطريق الذي اعتمد عليه في التقليد في السابق هل كان من الطرق المعتبرة في تشخيص المجتهد الواجد للشرائط أو كان اعتماده في تقليده السابق بغير تلك الطرق؟

الثالث: أن يشكّ في كلا الأمرين من كونه واجداً للصفات المعتبرة في أخذ

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 102

..........

______________________________

الفتوى منه و كون أخذه منه الفتاوى للاعتماد على الطرق المعتبرة في تشخيص من يرجع إليه و الأخذ منه أم لا.

و يكون غرضه من إحراز صحة تقليده منه إحراز الإجزاء في أعماله السابقة التي وقعت على طبق فتاوى ذلك المجتهد، و اخرى يكون غرضه إحراز صحة البقاء على تقليده كما إذا مات ذلك المجتهد و كان من يرجع إليه فعلًا في تعلّم الفتوى شخص آخر أو عدم جواز رجوعه إلى حيّ آخر إذا كان الحيّ الآخر الفعليّ واجداً لما يعتبر في التقليد عنه.

فإن كان غرضه إحراز الإجزاء في أعماله السابقة الصادرة عنه على طبق فتاوى المجتهد السابق و قلنا بالإجزاء في تلك الأعمال فيترتّب عليها الإجزاء في صورتين:

الاولى: أن يكون تقليده سابقاً عنه للاعتماد في تقليده على الطرق المعتبرة في تشخيص من يجوز أو يجب تقليده من زمان تقليده.

و الثانية: إحرازه فعلًا بتلك الطرق أنّه كان في زمان الأخذ منه و العمل واجداً لتمام شرائط

التقليد و إن كان في السابق معتمداً على غير تلك الطرق، و حيث إنّ إحرازه فعلًا كون ذلك المجتهد الذي أخذ في السابق منه الفتوى كان كذلك يكفي في إحراز الإجزاء، بل و في جواز البقاء إذا مات على تلك الفتاوى التي تعلّمها، و عدم جواز العدول مع عدم موته إلى الحيّ الفعلي و لو كان مساوياً معه في الفضيلة، لا يكون في البين موضوع لأصالة الصحة في تقليده السابق، كما لا يكون موضوع لأصالة الصحة فيما إذا لم يحرز أنّه كان على الأوصاف المعتبرة و علم أنّه كان عند تقليده سابقاً غير معتمد على الطرق المعتبرة في تشخيص الأعلم واجداً للأوصاف؛ لأنّه مع إحراز الغفلة في تقليده السابق أو احتمال تعمّده فيه الخلل لا مجرى لأصالة الصحة على ما

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 103

[إذا قلّد مجتهداً ثمّ شكّ في أنّه جامع للشرائط أم لا وجب عليه الفحص]

(مسألة 42) إذا قلّد مجتهداً ثمّ شكّ في أنّه جامع للشرائط أم لا وجب عليه الفحص (1).

______________________________

تقرّر في محلّه.

نعم، يبقى ما إذا احتمل صحة تقليده عنه سابقاً بالاعتماد على الطرق المعتبرة في تشخيصه وجدانه الصفات و إن كان لا يتذكر بذلك فعلًا، فإنّه تجري في تقليده أصالة الصحة و يبقى على تقليده في تلك المسائل التي تعلّمها إذا لم يثبت الحيّ الآخر أو الحيّ الفعليّ أعلم منه و أفضل.

و على الجملة فصحة التقليد السابق تحرز إمّا بأن يعتمد العاميّ على الطرق المعتبرة في تشخيص من رجع إليه في تعلّم الفتوى زمان التقليد و العمل أو بعد ذلك، و أمّا مع عدم اعتماده عليها كذلك فمجرّد احتمال كونه واجداً لتمام الصفات لا يجدي في صحّته إذا لم يحرز بعد ذلك أيضاً كونه واجداً لها. هذا

كلّه بناءً على الإجزاء و عدم لزوم الاحتياط في موارد الاختلاف.

إذا قلد مجتهداً ثمّ شك في أنه جامع للشرائط أم لا

(1) إذا كان الشكّ في كونه جامعاً للشرائط بقاءً؛ لاحتمال زوالها بعد أن كان جامعاً لها فلا ينبغي التأمّل في جواز البناء على بقائه على تلك الشرائط، فإنّ ذلك مقتضى الاستصحاب الجاري في الموضوعات عند الشكّ في بقائها و قد تقدّم ذلك، و أمّا إذا أحرز زوالها أو بعضها و احتمل بقاء فتواه السابقة التي تعلمها منه حال استجماعه الشرائط فقد تعرّضنا لذلك في مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت، و ذكرنا أنّه يمكن اعتبار فتوى من كان مستجمعاً للشرائط حتى بعد زوالها فيما إذا صدرت الفتوى أو كان تعلّمه منه قبل زوالها، كما هو الحال في اعتبار الخبر عن المعصوم عليه السلام بالأحكام

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 104

..........

______________________________

الشرعيّة أو الخبر و الشهادة على الموضوعات قبل زوال وصف العدالة و الثقة عن الراوي، فإنّ زوال الوصف عن الراوي و الشاهد فيما بعد لا يوجب سقوط خبره أو شهادته عن الاعتبار، بل يمكن التشبّث في إثبات ذلك في الفتوى أيضاً بعد زوال بعض الأوصاف عن المفتي كالحياة ببعض الإطلاق في الأخبار الواردة في الإرجاع إلى بعض الفقهاء من الرواة، إلّا أنّه قد بيّنا أنّه لا يمكن الالتزام ببقاء فتوى المفتي على الاعتبار بعد زوال بعض الأوصاف عنه مما يكون اتّباع فتواه بعد زواله مهانة في الدين و المذهب.

و إذا اعتقد العاميّ كون مجتهد واجداً لتمام الأوصاف المعتبرة في اعتبار فتواه كالأعلميّة في المسائل الخلافيّة بين العلماء و قلّده فيها ثمّ شكّ في صحة اعتقاده السابق و احتمل خطأه نظير

الشكّ الساري فيتعيّن في الفرض الفحص و إحراز صحة اعتقاده، و مراد الماتن قدس سره في حكمه بوجوب الفحص هذا الفرض كما أشرنا إلى ذلك آنفاً حيث إنّ قاعدة اليقين لا دليل على اعتبارها.

و قد ذكرنا عند التعرّض للأخبار الواردة في الاستصحاب «1» أنّ دعوى ظهور بعض تلك الأخبار في قاعدة اليقين فيكون دليلًا على اعتبارها أيضاً، لا يمكن المساعدة عليها فإنّ قوله عليه السلام: «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه» «2» و إن قيل بظهوره في القاعدة حيث إنّ دخول (الفاء) على (شكّ) الدالّة على حصول الشكّ بعد اليقين مع حذف متعلّقهما الظاهر فرض اتحاد متعلّقهما من جميع الجهات لا ينطبق إلّا

______________________________

(1) دروس في مسائل علم الاصول 4: 46 و 47.

(2) وسائل الشيعة 1: 246- 247، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 6.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 105

[من ليس أهلًا للفتوى يحرم عليه الإفتاء]

(مسألة 43) من ليس أهلًا للفتوى يحرم عليه الإفتاء، و كذا من ليس أهلًا للقضاء يحرم عليه القضاء بين الناس، و حكمه ليس بنافذ (1).

______________________________

على قاعدة اليقين؛ لأنّه لا يعتبر في الاستصحاب حصول الشكّ بعد اليقين، بل المعتبر فيه سبق المتيقن على المشكوك و إن كان الشكّ حاصلًا قبل اليقين و لا يمكن في الاستصحاب اتحاد متعلّقي اليقين و الشكّ من جميع الجهات، بل يكون متعلّق اليقين سابقاً و بقاؤه مشكوكاً، بخلاف قاعدة اليقين حيث يكون نفس اليقين سابقاً و الشكّ لاحقاً مع اتحاد متعلّقهما من جميع الجهات.

و الوجه في عدم المساعدة على الدعوى المذكورة أنّ صدر الخبر مع قطع النظر عن ذيله و إن كان كما ذكر إلّا أنّ الذيل و هو: «فليمض على يقينه»، قرينة

على أنّ المراد منه أيضاً الاستصحاب حيث إنّ ظاهره المضي على يقينه الموجود حال المضيّ، و هذا يكون في الاستصحاب؛ لأنّ اليقين و الشكّ في موارد الاستصحاب يجتمعان في زمان الحكم بالبقاء لاختلاف متعلّقهما من حيث الحدوث و البقاء.

و على الجملة دخول (كان) على (يقين) بلحاظ المتيقّن حيث إنّ زمانه بالإضافة إلى زمان الشكّ ماضٍ غالباً في موارد الاستصحاب و لا يوجب تقييداً في سائر خطابات الاستصحاب المطلقة من هذه الجهة كقوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ و إنّما انقضه بيقين آخر» «1».

يحرم الافتاء على من ليس أهلًا للفتوى

(1) إن كان عدم أهليّته للإفتاء لفقده ملكة الاجتهاد و عدم معرفة الأحكام في

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 245، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء، الحديث الأول.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 106

..........

______________________________

المسائل من مداركها الشرعيّة فلا ينبغي التأمّل في حرمة إفتائه؛ لأنّه يدخل في الافتراء على اللّٰه كما إذا بيّن الحكم الشرعيّ بالاستحسان و القياس و التأويل بذهنه القاصر، و يدخل في قوله سبحانه: «آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّٰهِ تَفْتَرُونَ» «1» حيث إنّه سبحانه عدّ ما نسب إليه بلا إذن و حجّة في الافتراء على اللّٰه سبحانه.

و في صحيحة أبي عبيدة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّٰه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه» «2». و في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إيّاك و خصلتين ففيهما هلك من هلك، إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم» «3» و في معتبرة السكوني عن أبي

عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: «يعذّب اللّٰه اللسان بعذاب لا يعذّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي ربّ عذّبتني بعذاب لم تعذّب به شيئاً، فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض و مغاربها، فسفك بها الدم الحرام و انتهب بها المال الحرام و انتهك بها الفرج الحرام، و عزّتي لُاعذّبك بعذاب لا اعذّب به شيئاً من جوارحك» «4» إلى غير ذلك.

و أمّا إذا كان عدم أهليّته للفتوى من سائر الجهات مع علمه بالحكم الشرعيّ الكليّ من مدارك الأحكام على ما هو طريق الاستنباط منها، ففي مثل ذلك مما يكون نظره و فتواه حجّة في حقّ نفسه فلا بأس بإظهار نظره و فتواه في نفسه، فإنّه من الفتوى

______________________________

(1) سورة يونس: الآية 59.

(2) وسائل الشيعة 27: 20، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.

(3) المصدر السابق: 21، الحديث 3.

(4) المصدر السابق: الحديث 4.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 107

..........

______________________________

بعلم و ليس من الإفتاء بالرأي و التأويل و الاستحسان إلّا أنّه قد يلتزم بحرمته؛ لكون إفتائه إغراءً للجاهل و إضلالًا له لعدم اعتبار فتواه بالإضافة إلى غير نفسه، و هذا فيما كان السائل أو السامع عنه جاهلًا بسائر شرائط العمل بالفتوى، و كانت الفتوى بحيث تتضمّن دعوة السائل و الجاهل إلى العمل بفتواه، و أمّا إذا أظهر للجاهل شرائط العمل بفتوى المفتي و لم يتضمّن افتاؤه العمل به، كما إذا قال الحكم الشرعيّ في الواقعة بنظري هذا، فمجرّد ذلك لا حرمة فيه؛ لأنّه صدق و فتوى بعلم و ليس فيه دعوة إلى العمل به إذا كان المخاطب عالماً بشرائط اعتبار الفتوى.

و أمّا إذا

لم يكن عالماً بها فعليه أن يعلمه شرائط العمل به من غير أن يظهر بأنّه واجدها و إلّا كان كذباً.

التصدي للقضاء

و أمّا القضاء ممن ليس أهلًا له فقد يقال بحرمة تصدّي القضاء بين الناس، و لو كان عالماً بموازين القضاء و كان قضاؤه على طبقها، و لكن كان فاقداً لبعض ما يعتبر في القاضي من الصفات، و لا يقاس بالإفتاء ممّن يعلم الأحكام من مداركها و لكن كان فاقداً لشرائط التقليد منه، و الفرق في ذلك أنّه يظهر من الروايات حرمة القضاء ممّن يكون فاقداً للوصف المعتبر في القضاء و أنّه لا يجوز القضاء إلّا ممّن ثبت الإذن له فيه، و في صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «اتّقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل بين المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ» «1» فإنّ مقتضاه أنّه لا يجوز التصدّي للقضاء بين الناس لغير النبيّ أو وصيّ النّبيّ، فيرفع اليد عن مقتضاها

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 17، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 108

..........

______________________________

فيما إذا ثبت له الإذن من النبيّ أو الوصيّ و لو كان الإذن عامّاً على ما نطقت به مقبولة عمر بن حنظلة و غيرها مما يأتي.

و على الجملة القضاء في المرتبة الاولى إنّما هو للنبيّ و الوصيّ و في المرتبة الثانية من كان مأذوناً في القضاء بين الناس من قبل أحدهما و لو كان بإذن عامّ، و يبقى غير من لم يثبت في حقّه الإذن تحت المنع المستفاد من الحصر الوارد في الصحيحة.

و بتعبير آخر الإفتاء هو بيان الحكم الشرعيّ الكليّ المجعول بنحو القضية الحقيقيّة

كقول المجتهد: الخمر نجس، و عصير الزبيب بعد غليانه أيضاً حلال، و بيع المكيل و الموزون بلا كيل و لا وزن باطل ... إلى غير ذلك. و أمّا القضاء أي فصل الخصومة هو تعيين حكم جزئيّ في الواقعة و إنشاؤه ثبوته في الواقعة، كقوله في المترافعين إليه في قضية دعوى الدين: إنّ فلاناً مديون لفلان و عليه إفراغ ذمته ... و نحوها، و هذا لا يجوز التصدّي له إلّا ممّن كان جامعاً للشرائط و الأوصاف المعتبرة في القاضي.

نعم، بيان أنّ مقتضى موازين أن يحسب فلان مديوناً لفلان من غير أن ينشأ الحكم ممّن يكون عالماً بموازين القضاء و لم يكن واجداً لما يعتبر في القاضي لا يكون من التصدّي للقضاء و لا يحسب قوله قضاءً، و هذا بخلاف التصدّي للقضاء و إنشاء الحكم فإنه لا يجوز؛ لما تقدّم، و يؤيّده ما ورد من قول علي عليه السلام مخاطباً لشريح:

«يا شريح! قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» «1».

و يدلّ على عدم جواز الترافع إلى غير الواجد للشرائط ما ورد في النهي عن الترافع إلى قضاة الجور، و في معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم: «إيّاكم أن يحاكم

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 17، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 109

..........

______________________________

بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه» «1» فإنّ ظاهرها أنّ جواز القضاء بين الناس و مشروعيّته يكون بجعلهم و لو كان بجعل و إذن عامّ، و هذا الجعل ثابت في حقّ من يكون من

أهل الإيمان و يعرف جملة من قضاياهم عليهم السلام كما في هذه المعتبرة:

«من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» «2» كما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة الوارد فيها السؤال عمّن ترفع إليه المرافعة عند الحاجة إلى القضاء و فصل الخصومة بعد بيان عدم جواز رفعها إلى قضاة الجور.

و الحاصل أنّ التصدّي للقضاء بين الناس ممّن لا يكون واجداً للصفات المعتبرة في القاضي و المراجعة إليه في المرافعات أمر محرّم، و لا يكون قضاؤه نافذاً.

نعم، مجرّد بيان الحكم الجزئيّ في الواقعة بنحو الإخبار به من العالم به على طبق موازين القضاء من غير أن ينشأ ذلك الحكم بقصد أن يتّبعوه فلا دليل على حرمته، كما إذا قال: الحكم الشرعيّ في هذه الواقعة على طبق موازين القضاء ينبغي أن يكون كذا.

اعتبار الاجتهاد في القاضي

ثمّ ينبغي الكلام في المقام في اعتبار الاجتهاد في القاضي في جواز قضائه و نفوذه بأن يكون عالماً بالأحكام الشرعيّة من مداركها بطريق متعارف مألوف بين العلماء، أو كفاية العلم بها و لو من طريق التقليد الصحيح فخصوص العلم بطريق

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة 1: 34، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 12.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 110

..........

______________________________

الاجتهاد غير معتبر، فالمنسوب إلى المشهور اعتباره، و عن جماعة منهم صاحب الجواهر قدس سره «1» كفاية علم القاضي و لو بطريق التقليد الصحيح، فلا يعتبر في جواز القضاء و نفوذه عنده إلّا علم القاضي بما يقضي بالحجّة المعتبرة عنده و لو

أفتى المفتي بأنّه في اختلاف المالك و من تلف المال عنده من غير تفريط فقال المالك: إنّه كان قرضاً، و قال من تلف المال عنده: إنّه كان وديعة، إذا لم يكن لمن يدعي الوديعة بيّنة على أنّه كان وديعة، يحلف المالك على عدم الوديعة أو كونه قرضاً و يأخذ بدل التالف، و وقع الخلاف كذلك بين اثنين و ترافعا عند من يعلم و لو بالتقليد يجوز له القضاء بذلك. و استدلّ على ذلك بالآيات و الروايات كقوله تعالى: «وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» «2» و قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا» «3» و مفهوم قوله سبحانه: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ» «4».

و استدلّ من الروايات بما ورد في: أنّ القضاة أربعة و أنّ ثلاثة منهم في النار، و واحد في الجنة و هو رجل قضى بالحقّ و هو يعلم «5». و بما ورد في خبر أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا» «6» و في معتبرته

______________________________

(1) جواهر الكلام 40: 17.

(2) سورة النساء: الآية 58.

(3) سورة المائدة: الآية 8.

(4) سورة المائدة: الآية 47.

(5) وسائل الشيعة 27: 22، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

(6) المصدر السابق: 139، الباب 11، الحديث 6.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 111

..........

______________________________

قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته حاكماً

فتحاكموا إليه» «1» و صحيحة الحلبي قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منّا، فقال: ليس هو ذلك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط» «2» إلى غير ذلك.

و لكن لا يخفى أنّ الآية الشريفة بعنوان القضية الشرطيّة ناظرة إلى لزوم رعاية العدل في الحكم و عدم الانحراف عنه، و أمّا أيّ شخص له ولاية الحكم و القضاء فلا تدلّ على تعيينه.

و أمّا الآية الثانية فهي ظاهرة في حثّ الناس على الاستمرار و المداومة على إقامة القسط و العدل سواء كان في القضاء و الشهادة أو غيرهما، و لكن لا دلالة لها على شرائط نفوذ القضاء أو الشهادة؛ و لذا يمكن الاستدلال بالآية على وجوب الشهادة على كلّ شخص يعلم الحقّ و لكن لا تدلّ على نفوذ شهادته.

و على الجملة ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة اعتبار الاجتهاد في ولاية القضاء و نفوذ الحكم، كما هو مقتضى موردها من كون الشبهة في قضية المنازعة المفروضة فيها حكميّة، و كلّ من الحاكمين فقيهاً يستند في حكمه إلى ما وصل إليه من الحديث، و قوله عليه السلام فيها: «ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2) المصدر السابق: 15، الحديث 8.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 112

..........

______________________________

و عرف أحكامنا» الخ «1». و ظاهر النظر اعتبار الاجتهاد، و قد تقدّم اعتبار الرواية سنداً حيث إنّ عمر بن حنظلة من المشاهير الذين لم يرد فيهم قدح، و يؤيّده التوقيع المنقول عن صاحب الأمر

صلوات اللّٰه و سلامه عليه و على آبائه: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّٰه» «2» فإنّ المراد من «رواة حديثنا» الفقهاء ممّن يعتمدون في أقوالهم على أحاديثهم عليهم السلام في مقابل فقهاء العامّة حيث لا يعتمدون في فتاويهم و قضائهم على أحاديث أهل البيت عليهم السلام، و إلّا فمجرّد نقل الرواية من غير نظر و اجتهاد في الروايات و الأحاديث المنقولة عنهم عليهم السلام لا يوجب انكشاف الحكم و القضاء في الحوادث الواقعة.

و كيف ما كان فالتوقيع لا يعمّ من كان يعلم الحكم في الوقائع لا عن أحاديثهم عليهم السلام و إنّما يعرف فتوى من يرجع إليه في الأحكام، و أمّا ما ذكر في «الجواهر» «3» من التمسّك بصحيحة الحلبي فلا يمكن الاستناد إليه في نفي اشتراط الاجتهاد، فإنّ الوارد فيها أنّ التراضي بقضاء رجل منكم خارج عن المراجعة إلى حكّام الجور، و المفروض أنّ الرجل لا بدّ من أن يكون عالماً بميزان القضاء فيه و لو كان منشأ المخاصمة من قبيل الشبهة الحكميّة و حتّى ما إذا كانت القضية المرفوعة من مجتهدين، و العلم بالقضاء في هذه الموارد في تلك الأزمنة لم يكن إلّا بالطريق المعهود بين الرواة الفقهاء كما لا يخفى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 34، الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 12.

(2) وسائل الشيعة 27: 140، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

(3) جواهر الكلام 40: 18.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 113

و لا يجوز الترافع إليه، و لا الشهادة عنده (1) و المال الذي يؤخذ بحكمه حرام و إن كان الآخذ محقّاً (2).

______________________________

(1) إذا كان الترافع

إلى القاضي الذي ليس من أهل الإيمان فالمراجعة إليه من ترويج الباطل و إعانة الظالم على ترويج أمره، و إن كان منصوباً للقضاء من قبل الجائر فهو من الإيمان بالجبت و الطاغوت كما في الروايات.

و ممّا ذكر يظهر الحال إذا كان الفاقد للأوصاف متصدّياً للقضاء حيث إنّ المراجعة إليه أيضاً ترويج للباطل و ترغيب لفاقد الأوصاف على بقائه في تصدّيه للباطل، و يظهر الحال أيضاً في الشهادة عنده حيث يوجب ذلك كون الشاهد من أعوان الظلمة و من المرغّبين للباطل.

المال المأخوذ بحكم من ليس أهلًا للقضاء

(2) و قد يقال بدلالة مقبولة عمر بن حنظلة على ذلك حيث ورد فيها: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى طاغوت، و ما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً و إن كان حقّه ثابتاً؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت» «1».

و دعوى أنّ المراد بالحقّ الدين المأخوذ كما هو ظاهر الحقّ فلا يشمل ما إذا كان المأخوذ بحكمه عين ماله، لا يمكن المساعدة عليها؛ لأنّ الوارد في صدر المقبولة هو اختلاف المترافعين في دين أو ميراث و تنازعهما فيها، و من الظاهر أنّ الميراث يعمّ العين بل يكون غالباً هو العين.

و الصحيح في الجواب أنّ المقبولة ناظرة جواباً عمّا فرضه عمر بن حنظلة من

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 114

إلّا إذا انحصر استنقاذ حقّه بالترافع عنده (1).

______________________________

اختلاف الشخصين فيما كانت من الشبهة الحكميّة، و لا بأس بالالتزام فيها بأنّه لا يجوز التصرّف في المأخوذ فيها بحكم القاضي المفروض في الصدر حتّى فيما كان المأخوذ له واقعاً؛ لأنّه لم يحرز أنّه ملكه

بقضاء صحيح، و إنّما استند في كونه له بقضاء الجور، و لا أقلّ من الالتزام باستحقاقه العقاب بتصرّفه فيه؛ لأنّ التصرّف فيه مع عدم إحراز كونه له بوجه معتبر يعدّ من التجرّي، و لعلّ المراد بالسحت ذلك لا عدم كون المأخوذ ليس له واقعاً أو أنّه مما لم يتملّك لو كان هو الوارث له، و لو فرض إطلاق المقبولة حتّى فيما إذا كانت المخاصمة في الموضوعات، و كان كلّ من المدّعي و المنكر جازمين في الدعوى و الإنكار فلا بدّ من حمل المقبولة على ما ذكر جمعاً بينها و بين موثّقة الحسن بن علي بن فضّال قال: قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني عليه السلام و قرأته بخطّه: سأله ما تفسير قوله تعالى: «وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ»؟ فكتب بخطّه: «الحكّام القضاة ثمّ كتب تحته: هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنّه ظالم» «1». فإنّ مقتضى الذيل أنّه لا بأس بالمأخوذ فيما إذا لم يحرز أنّه ظالم و أنّه لا يأكل المال بالباطل.

(1) المذكور في كلمات الأصحاب جواز الترافع إلى حكام الجور فيما إذا توقّف استنقاذ الحقّ أو دفع المظلمة على ذلك، فإنّه و إن ورد تحريم الرجوع إليهم في جملة من الروايات بنحو الإطلاق، إلّا أنّ الحرمة المستفادة منها كالحرمة الواردة في الروايات في سائر الأفعال حيث يرفع اليد عن إطلاق حرمتها في موارد جريان رفع الاضطرار

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 15، الباب الأول من أبواب صفات القاضي الحديث 9. و الآية: 188 من سورة البقرة.

تنقيح مباني العروة

- كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 115

[يجب في المفتي و القاضي العدالة]

(مسألة 44) يجب في المفتي و القاضي العدالة و تثبت العدالة بشهادة عدلين، و بالمعاشرة المفيدة للعلم بالملكة أو الاطمئنان بها، و بالشياع المفيد للعلم (1).

______________________________

و حكومة ما ورد في نفي الضرر، مع أنّ جواز الرجوع إليهم في موارد التوقّف و الانحصار مما لا يحتمل تحريمه، كما يظهر ذلك بملاحظة التأمّل في الخصومات الواقعة في زمان المعصومين بين مواليهم و سائر الناس.

و ربّما يشير إلى الجواز ما في معتبرة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: في رجل كان بينه و بين أخ له مماراة في حقّ فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه و بينه فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة الذين قال اللّٰه عزّ و جلّ: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» «1» حيث إنّ ظاهره أنّ وزر الرجوع إليهم على الممتنع من المرافعة إلّا إلى قضاة الجور. ثمّ إنّ في تعيّن الدين في المال المدفوع فيما إذا كان المتصدّي لأدائه من مال غريمه قاضي الجور، أو من عيّنه لذلك في صورة توقّف إنقاذ الحق على الترافع عنده إشكال، و لكن إذا علم من له الحقّ بحقّه مع قطع النظر عن قضاء الجائر كما هو ظاهر الفرض جاز له استيفاؤه تقاصّاً لحقّه و لا بأس به، و أمّا إذا باع قاضي الجور ماله للأداء فالاستيفاء مشكل جدّاً، إلّا إذا كان الخصم منهم فيجوز أخذاً بقاعدة الإلزام.

اعتبار العدالة في المفتي و القاضي

(1) قد تقدّم اعتبار العدالة في المفتي، و ما

ذكرنا في وجه اعتبارها فيه يجري في القاضي أيضاً، فإنّ القاضي هو المنصوب لاستيفاء حقوق الناس بعضهم من بعض

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 11- 12، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 2. و الآية: 60 من سورة النساء.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 116

[إذا مضت مدّة من بلوغه و شكّ في أن أعماله كانت عن تقليد صحيح أم لا، يجوز له البناء على الصحّة]

(مسألة 45) إذا مضت مدّة من بلوغه و شكّ بعد ذلك في أن أعماله كانت عن تقليد صحيح أم لا، يجوز له البناء على الصحّة (1) في أعماله السابقة، و في اللاحقة يجب عليه التصحيح فعلًا.

______________________________

و دفع المظلمة عنهم، فلا يحتمل إيكال هذا المنصب إلى الفاسق و غير المبالي للدين مع أنّ القضاوة في أصلها منصب للنبيّ و وصي النبي كما هو مدلول صحيحة سليمان بن خالد «1» المتقدّمة فلا يحتمل إيكاله إلى غير المبالي في دينه.

ثمّ إنّه قد ذكرنا أنّ عدالة الشخص كسائر الموضوعات في أنّه يكفي في ثبوتها خبر العدل و الثقة العارف بالعدالة و لا يعتبر خصوص البيّنة، و لا يعتبر في اعتبار خبر العدل و البيّنة أن يكون المخبر به أو المشهود نفس العدالة، بل يكفي الخبر و الشهادة بحسن الظاهر الذي هو طريق شرعيّ إلى عدالة الشخص، و أيضاً لا يعتبر في ثبوت العدالة بالشياع خصوص العلم بالعدالة أو بحسن الظاهر بل يكفي حصول الاطمينان بالعدالة أو بحسن الظاهر.

إجراء أصالة الصحة في تقليده السابق

(1) الجاري في أعماله السابقة أصالة الصحة كما هو مفاد قاعدة الفراغ، فإن أحرز أنّ أعماله السابقة كانت على طبق التقليد، و لكن شكّ فعلًا أنّ تقليده السابق كان صحيحاً بحيث تكون تلك الأعمال مجزية في حقّه أم كان تقليده ممّن يكون التقليد منه غير صحيح فلا

تكون مجزية في حقّه على تقدير وقوع الخلل فيه، فإن كان احتمال الخلل في تقليده لاحتمال غفلته عند التقليد فتجري أصالة الصحة في تقليده و يحكم بإجزاء الأعمال السابقة، و أمّا بالإضافة إلى الأعمال اللاحقة فلا بدّ من إحراز صحة

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 17، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 117

..........

______________________________

تقليده فيها، و لا يخفى أنّه بناءً على الإجزاء في تقليده الصحيح يكون التقليد الصحيح شرطاً في صحة أعماله السابقة التي وقع فيها الخلل بالإضافة إلى الخطابات الواقعيّة، سواء كانت تلك الأعمال من العبادات أو من المعاملات بمعنى العقود و الإيقاعات.

و أمّا بناءً على عدم الإجزاء و لزوم تدارك الخلل الواقع فيها بمقتضى الأدلة الأوليّة الواردة في أجزاء العبادات فتجري أصالة الصحة في نفس أعماله السابقة في موارد احتمال الخلل المبطل فيها، بل فيما كان تداركها بالقضاء الذي موضوع وجوبه فوت الواقع تجري أصالة عدم الفوت، و لا أقلّ من أصالة عدم وجوب القضاء. و كيف كان فأصالة الصحة في تقليده في أعماله السابقة تفيد في الإجزاء بالإضافة إليها، و أمّا بالإضافة إلى أعماله الآتية فاللازم إحراز صحّة تقليده فعلًا؛ لأنّ الأعمال المستقبلة ليست مورد قاعدة الفراغ، كما أنّ الصحة في تقليده السابق لا تثبت صحة تقليده فعلًا.

نعم إذا أحرز تقليده السابق على الموازين الشرعيّة بلا خلل في ذلك التقليد و شكّ في صحّته فعلًا لاحتمال زوال بعض الأوصاف عن المجتهد فيجري الاستصحاب في بقائها، و لا يكفي في إحراز الصفات سابقاً أصالة الصحة الجارية في تقليده السابق؛ لأنّ إثبات الأوصاف بأصالة الصحة من الأصل المثبت حيث إنّ إثبات الموضوع بالتعبّد بالحكم ليس

من الترتّب الشرعيّ، بخلاف إثبات الحكم بإثبات الموضوع لذلك الحكم فتدبّر.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 118

[يجب على العاميّ أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم]

(مسألة 46) يجب على العاميّ أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم (1) أو عدم وجوبه، و لا يجوز أن يقلّد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم، بل لو أفتى الأعلم بعدم وجوب تقليد الأعلم يشكل جواز الاعتماد عليه، فالقدر المتيقّن للعاميّ تقليد الأعلم في الفرعيّات.

______________________________

مسألة وجوب تقليد الأعلم

(1) قد تقدّم أنّ على العاميّ أن يحرز جواز التقليد و لا يجوز أن يستند في جواز تقليد مجتهد على قول ذلك المجتهد بجواز التقليد، و عليه فاللازم على تقدير علمه بجواز التقليد في الجملة أن يقلّد المجتهد الذي هو القدر اليقين من جواز التقليد، فلا يجوز له الاكتفاء بتقليد غير الأعلم في الفرعيّات بقول غير الأعلم بجواز التقليد من غير الأعلم فيها؛ لأنّ تقليده في الفرعيّات من غير الأعلم اعتماداً على فتوى غير الأعلم بجوازه يكون دوريّاً، ويتعيّن عليه تقليد المورد اليقين و هو تقليد الأعلم فيها. نعم قد ذكروا أنّه إذا قلّد الأعلم في مسألة جواز تقليد غير الأعلم بأن أجاز الأعلم تقليد العاميّ في المسائل الفرعيّة من غير الأعلم جاز للعاميّ تقليده اعتماداً على قول الأعلم، و لكن أشكل الماتن قدس سره في ذلك أيضاً؛ لأنّ العاميّ لا يحرز جواز التقليد من غير الأعلم في الفرعيّات بهذه الفتوى من الأعلم، بل القدر اليقين عنده من جواز التقليد من كان أعلم في الفرعيّات.

أقول: قد جوّز الماتن قدس سره البقاء على تقليد الميّت إذا أفتى الحيّ بجوازه مع أنّ القدر اليقين عند العاميّ- من جواز التقليد- الحيّ. و على الجملة مسألة

جواز التقليد عن غير الأعلم في الفرعيّات كمسألة جواز البقاء على تقليد الميّت فإن جاز تقليد الأعلم في الثانية جاز في الاولى أيضاً، و مسألة جواز تقليد غير الأعلم من نفس المسائل الفرعيّة فإذا أفتى أعلم الأحياء بجوازه ففتواه قدر اليقين في الاعتبار في تلك

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 119

[إذا كان مجتهدان أحدهما أعلم في أحكام العبادات و الآخر أعلم في المعاملات، فالأحوط تبعيض التقليد]

(مسألة 47) إذا كان مجتهدان أحدهما أعلم في أحكام العبادات و الآخر أعلم في المعاملات، فالأحوط تبعيض التقليد (1) و كذا إذا كان أحدهما أعلم في بعض العبادات مثلًا و الآخر في البعض الآخر.

______________________________

المسألة، فيجوز للعاميّ أن يعتمد على فتواه في العمل بفتاوى غير الأعلم.

التبعيض في التقليد

(1) قد يتّفق أن يكون أحد المجتهدين أعلم من الآخر في بعض أبواب الفقه كالعبادات لتضلّعه فيها في الأخبار و كونه أجود اطلاعاً على خصوصيّاتها و وجه الجمع بين مختلفاتها في موارد الجمع العرفيّ، بخلاف مجتهد آخر فإنّه لا يكون في العبادات التي غالب المدرك في مسائلها الروايات ذلك التضلّع و الإحاطة، و لكنّه في المعاملات التي يكون مدرك الحكم في مسائلها القواعد العامّة أكثر خبرة، و يفرض ذلك حتّى في العبادات بالإضافة إلى مجتهدين يكون لأحدهما أكثر ممارسة لمصادر الأحكام في بعض العبادات و تضلّعه في فروعها، بخلاف الثاني فإنه يكون كذلك في بعض العبادات الاخرى. و لو اتّفق هذا الفرض و أحرز ذلك بوجه معتبر فاللازم على العامي التبعيض في تقليده، فيقلّد من هو أعلم في الوقائع التي يبتلي بها أو يحتمل ابتلاءه بها إذا علم و لو إجمالًا اختلاف الأعلم مع غير الأعلم في مسائل العبادات و المعاملات أو في المسائل الراجعة إلى العبادات و لو كان غير الأعلم

في بعضها أعلم في مسائل البعض الآخر؛ و ذلك لما تقدّم من أنّ دليل اعتبار الفتوى كدليل اعتبار سائر الحجج لا يشمل المتعارضين فيسقط التمسّك به في صورة التعارض، غير أنّ السيرة العقلائيّة و سيرة المتشرّعة الناشئة من السيرة الاولى من غير ردع مقتضاها اتّباع قول من هو أعلم بحكم الواقعة أو يحتمل أعلميّته.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 120

[إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأً يجب عليه إعلام من تعلّم منه]

(مسألة 48) إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأً يجب عليه إعلام من تعلّم منه (1)، و كذا إذا أخطأ المجتهد في بيان فتواه يجب عليه الإعلام.

______________________________

الخطأ في نقل الفتوى أو بيانها

(1) إذا نقل فتوى المجتهد خطأً يكون النقل و الخطأ فيه في الإلزاميّات بمعنى أنّ المجتهد كانت فتواه الحكم الإلزاميّ أو الوضع الموضوع للإلزام و نقل عن المجتهد بأنّ فتواه في مسألة عدم التكليف ثمّ ظهر أنّه أخطأ في نقله، ففي هذه الصورة يجب على الناقل الإعلام فيما إذا علم أو اطمأنّ بأنّ المنقول إليه يعتمد على نقله و يعمل على طبقه أو أحرز كذلك أنّ ما بين المستمعين من يعمل على طبق نقله. و الوجه في وجوب الإعلام أنّ نقل فتوى المجتهد بنحو الخطأ في الفرض تسبيب إلى مخالفة التكليف الواقعيّ من المستمعين و ذلك غير جائز، حيث إنّ المتفاهم العرفيّ من خطابات تحريم المحرّمات و التكاليف بالواجبات عدم الفرق في الحرمة و عدم الجواز بين أن يكون ارتكاب الحرام أو ترك الواجب بالمباشرة أو بالتسبيب، فلو باع الدهن المتنجّس أو الطعام المتنجّس ثمّ تذكّر بعد بيعه أنّه كان نجساً فعليه إعلام المشتري بالحال، و لا يكون اشتباهه أو نسيانه عند البيع عذراً في ترك الإعلام بعد العلم و

التذكّر.

و أمّا إذا كان الخطأ في النقل في غير الإلزاميّات بأن نقل عن المجتهد الإلزام و التكليف أو الوضع الموضوع له ثمّ التفت، بأنّ المجتهد لم يفت بذلك بل أفتى بالترخيص و عدم الإلزام بحيث لا ينجرّ عمل المستمع على طبق نقله إلى مخالفة المستمع التكليف الواقعيّ لا يجري في الفرض التسبيب إلى ارتكاب الحرام أو ترك الواجب، فلا موجب لوجوب إعلامه إلّا إذا يؤدّي عدم إعلامه بزوال اعتماد المستمعين على غيره من الناقلين للفتوى أو وقوع بعضهم في الضرر أو الحرج، كما نقل عن المجتهد بأنّ الدهن المتنجّس لا يجوز بيعه مطلقاً، و نحو ذلك مما يعلم بعدم

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 121

[إذا اتّفق في أثناء الصلاة مسألة لا يعلم حكمها يجوز له أن يبني على أحد الطرفين بقصد أن يسأل عن الحكم بعد الصلاة]

(مسألة 49) إذا اتّفق في أثناء الصلاة مسألة لا يعلم حكمها يجوز له أن يبني على أحد الطرفين بقصد أن يسأل عن الحكم بعد الصلاة، و أنّه إذا كان ما أتى به على خلاف الواقع يعيد صلاته، فلو فعل ذلك و كان ما فعله مطابقاً للواقع لا يجب عليه الإعادة (1).

______________________________

رضا الشارع في إيقاع الناس في الضرر أو الحرج أو سلب اعتمادهم على المتصدّين لإبلاغ الأحكام الشرعيّة إلى الناس.

هذا كلّه فيما إذا كان الاشتباه من ناقل الفتوى، و أمّا إذا كان الخطأ في نقل الفتوى من نفس المجتهد ففي الإلزاميات كما تقدّم في الخطأ في ناقل الفتوى فعليه الإعلام بفتواه فإنّه مضافاً إلى التسبيب المتقدّم يجري فيه ما دلّ على ضمان المفتي.

أمّا إذا كانت فتواه عدم التكليف و أفتى بالتكليف خطأً فإن كان المورد ممّا فيه احتمال التكليف واقعاً فلا يجب عليه الإعلام؛ لأنّ المترتب على خطئه رعاية المستفتي احتمال التكليف الواقعيّ، و أمّا إذا

لم يكن الأمر كذلك فيجب عليه الإعلام؛ لأنّ إرشاد الجاهل إلى تكليفه و حكم الشريعة في حقّه واجب كفائي كما هو مفاد آية النفر «1» و غيرها من الآيات و الروايات.

المسألة التي لا يعلم حكمها أثناء الصلاة

(1) إذا أمكن للعاميّ الاحتياط بعد اتّفاق المسألة، كما إذا شكّ في قراءة الحمد بعد الشروع في السورة و لم يدر أنّه يصحّ له المضيّ في صلاته بالبناء على قراءة الحمد أو أنّ عليه استيناف القراءة، ففي مثل ذلك يصحّ له العود إلى قراءة الحمد بقصد الأعمّ من قصد كون قراءتها جزءاً أو قرآناً، ففي هذا الفرض يتعيّن عليه هذا النحو من الاحتياط بناءً على عدم جواز قطع الصلاة الفريضة كما عليه دعوى الإجماع خصوصاً

______________________________

(1) سورة التوبة: الآية 122.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 122

[يجب على العاميّ في زمان الفحص عن المجتهد أو عن الأعلم أن يحتاط في أعماله]

(مسألة 50) يجب على العاميّ في زمان الفحص عن المجتهد أو عن الأعلم أن يحتاط في أعماله (1).

______________________________

إذا لم يتعلّم حكم المسألة من الأوّل مع احتماله الابتلاء بها، فإنّ حرمة قطع الصلاة في الفرض كانت منجّزة عليه بأخبار وجوب التعلّم.

و أمّا إذا لم يمكن له الاحتياط، كما إذا شكّ حين قصد وضع الجبهة على الأرض للسجود في أنّه ركع في تلك الركعة أم لا فإنّه إن رجع إلى الركوع يحتمل زيادة الركوع و إن مضى على الشكّ يحتمل نقص الركوع، ففي هذا الفرض إن لم يحتمل الابتلاء بهذه المسألة أثناء الصلاة ليجب عليه تعلّم حكمها، أو تعلّم حكمها و لكن نسي الحكم عند اتّفاق الابتلاء يجوز له قطع الصلاة و استينافها؛ لعدم الدليل على حرمة قطع الفريضة عليه في مثل هذا الفرض، فإنّ المتيقّن من حرمة قطعها صورة

قطعها بلا عذر فإنّ الدليل على الحرمة هو الإجماع. و هذا بخلاف صورة ترك تعلّم المسألة من قبل مع علمه أو احتماله بالابتلاء بها أثناء الصلاة حيث إنّ في هذه الصورة يتعيّن عليه البناء على أحد الطرفين؛ لأنّ حرمة قطعها منجّزة عليه من قبل، و بما أنّه لا يتمكّن من إحراز الموافقة القطعيّة يراعي الموافقة الاحتماليّة مع الفحص عن حكمها بعد الصلاة و إعادتها على تقدير مخالفة ما بنى عليه مع الوظيفة و يحكم بصحتها على تقدير كونه على وفق الوظيفة، و كفى البناء على أحد الطرفين مع هذا القصد في حصول قصد التقرّب المعتبر في العبادة عندنا، و لكن الماتن قدس سره قد تأمّل سابقاً في حصوله في مورد احتمال كون ما يأتي به إبطالًا للصلاة.

(1) و ذلك فإنّ مقتضى العلم الإجماليّ بثبوت التكاليف و الأحكام الإلزاميّة- في غير واحد مما يبتلى به- الخروج عن عهدة تلك التكاليف بموافقتها وجداناً أو بطريق معتبر على ما تقدّم في مسألة تخيير العامي بين الأخذ بالتقليد أو الاحتياط في الوقائع

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 123

[المأذون و الوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقاف أو في أموال القصّر ينعزل بموت المجتهد]

(مسألة 51) المأذون و الوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقاف أو في أموال القصّر ينعزل بموت المجتهد (2)، بخلاف المنصوب من قبله.

______________________________

المبتلى بها برعاية احتمال التكليف فيها، و حيث إنّ التقليد في زمان الفحص غير حاصل تعيّن عليه الاحتياط ما دام كذلك. و يكفي في هذا الاحتياط مراعاة الفتوى بالتكليف من فتاوى المجتهدين الذين انحصر احتمال الأعلميّة فيهم، بأن يأخذ بأحوط أقوالهم و لا عبرة بالتكليف الذي أفتى به غيرهم لعلمه بعدم اعتبار تلك الفتوى على ما تقدّم في مسألة انحصار احتمال الأعلميّة في أحد

المجتهدين أو أكثر.

انعزال الوكيل بموت المجتهد

(2) و ذلك فإنّ المأذون و الوكيل من المجتهد يتصرّف في الأوقاف و أموال القصّر من قبل المجتهد، كتصرّف الوكيل من قبل موكّله فالتصرّف الواقع من المأذون و الوكيل يستند إلى المجتهد، و يكون المجتهد هو المتصرّف في مال الوقف و يبيع و يشتري للأيتام بالاستنابة، و لذا يعتبر في الإذن و التوكيل أن يكون الآذن و الموكّل مالكاً لذلك التصرّف بأن يصحّ منه ذلك التصرف بالمباشرة، و المجتهد بعد موته ينقضي إذنه و توكيله فينعزل المأذون و الوكيل في الإذن و الوكالة و هذا ظاهر، و هذا بخلاف ما إذا نصبه المجتهد متولّياً للوقف أو قيّماً للصغار فإنّ نصبه متولّياً أو قيّماً من قبيل جعل ولاية التصرّف في الوقف و أموال القصّر، فإن كان جعل الولاية مقيّدة بما دامت حياة المجتهد فتنتهي الولاية المجعولة بموته، كما إذا جعل واقف العين التولية للوقف لشخص ما دام حياة الواقف تنتهي ولايته بموت الواقف؛ لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها «1»، بخلاف ما إذا جعل التولية للوقف أو القيمومة على الصغار مطلقاً فإنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 19: 175، الباب 2 من أبواب الوقوف و الصدقات، الحديث الأول.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 124

..........

______________________________

التولية أو القيمومة تبقى بعد موته أيضاً بمقتضى ما دلّ على نفوذ الوقف و نفوذ جعل الوليّ القيّم لصغاره بعد موته. و لكنّ الكلام في المقام في الدليل على أنّ للفقيه الولاية على جعل المتولّي للوقف أو القيّم للأيتام نظير ولاية الواقف و الأب أو الجدّ لجعل القيّم لأولاده الصغار.

و بتعبير آخر قد يقال: ليس للفقيه هذه الولاية في الجعل كما هو مقتضى الأصل،

و إنّما للفقيه التصرّف في أموال الوقف و القصّر فيما إذا لم يكن للوقف متولٍّ من قبل الواقف و قيّم للصغار من قبل الأب و الجدّ سواء كان تصرّف الفقيه بالمباشرة أو بالاستنابة، فإنّ المقدار المتيقّن من جواز التصرف- الذي مقتضى القاعدة الأوّلية عدم جوازه- هو هذا المقدار، فلو جعل الفقيه متولّياً للوقف أو قيّماً فهو في الحقيقة استنابة في التصرّف و توكيل فينتهي بموت المجتهد، فيحتاج نفوذ تصرفهما إلى الاستيذان و التوكيل عن فقيه آخر.

و دعوى أنّه مع احتمال بقاء التولية و القيمومة بعد موت المجتهد الذي جعل الشخص متولّياً أو قيّماً يستصحب بقاء ما كان للشخص المفروض، فينفذ تصرفاته في الوقف أو مال القصّر بلا حاجة إلى الاستيذان من حاكم آخر، لا يمكن المساعدة عليها، فإنّ الاستصحاب المذكور بزعم أنّ المورد من موارد القسم الثاني من الكلّي فيستصحب الجامع بين الولاية و الاستنابة فيترتّب عليه نفوذ التصرّف و جوازه، و لكن إذا جرى عدم الإمضاء بالاضافة إلى ما يقع من التصرّفات بعد موت ذلك المجتهد فلا يبقى موضوع للجواز و النفوذ.

و بتعبير آخر ولاية التصرّف و جوازه و نفوذه قبل موت المجتهد متيقّن- سواء كان الموجود سابقاً جعل المنصب أو الاستنابة- و أمّا الولاية بعد موت المجتهد بمعنى

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 125

..........

______________________________

جعل المنصب مدفوع بالاستصحاب في عدم إمضائه و لا يعارض بالاستصحاب في عدم الاستنابة؛ لعدم الأثر له فعلًا حيث إنّ جواز التصرف حال حياة المجتهد متيقّن و الاستصحاب في عدم كون الحادث استنابة لا يثبت أنّه كانت ولاية، كما أنّ دعوى أنّ للمجتهد إعطاء المنصب و الولاية للآخر بالاضافة إلى الوقف و أموال القصّر مستفاد

من مقبولة عمر بن حنظلة و معتبرة سالم بن مكرم «1»، لا يمكن المساعدة عليها، فإنّ المستفاد منها إعطاء ولاية القضاء و فصل الخصومة للفقيه مطلقاً أو بنحو قاضي التحكيم على ما تقدّم، و شي ء منهما لا يتضمّن أنّ للفقيه جعل منصب التولية للوقف أو أموال القصّر، بل قضية التوكيل و الاستنابة التي ذكرنا مقتضى كون التصرف في الوقف أو أموال القصّر و نحوهما دليل الحسبة.

و دعوى أنّ مفاد الروايتين إعطاء ولاية القضاء للفقيه بنحو النصب العامّ بما لولاية القضاء من الشئون و نصب المتولّي للوقف أو القيّم للأطفال من شئون ولاية القضاء، يدفعها أنّ المعطى للفقيه على ما يستفاد منهما هو منصب القضاء أي فصل الخصومة، لا إعطاء ولاية الحكم و القضاء بنحو كانت عند العامّة من الشئون، فإنّ المنصوبين للقضاء من ولاة الجور و إن كان كما ذكر إلّا أنّ الروايتين لا تدلّان على أن النصب العامّ من الإمام عليه السلام للقضاء كذلك؛ و لذا لا يمكن الاستدلال بهما على نفوذ الحكم الابتدائيّ من الفقيه، و أمّا سائر الروايات التي يستند إليها في ثبوت الولاية للفقيه بنحو الشمول بحيث يكون الفقيه مفروض الطاعة كالإمام، فقد ذكرنا «2» في بحث

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 4 و 5.

(2) إرشاد الطالب 3: 26 فما بعد.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 126

[إذا بقي على تقليد الميّت من دون أن يقلّد الحيّ في هذه المسألة كان كمن عمل من غير تقليد]

(مسألة 52) إذا بقي على تقليد الميّت من دون أن يقلّد الحيّ في هذه المسألة كان كمن عمل من غير تقليد (1).

______________________________

ولاية الفقيه أنّ دائرة ولايته في الامور الحسبيّة و لا تدلّ في تلك الروايات على كون الفقيه مفروض الطاعة نفسيّاً كالإمام عليه

السلام، فراجع.

نعم، يبقى في البين أمر و هو دعوى أنّ مجرّد الاستيذان و التوكيل من الفقيه في التصدّي لمثل أموال الأيتام و الأوقاف لا يوجب انتظام امور الأوقاف و أموال القصّر و غير ذلك مما يعدّ التصرف فيها حسبة، حيث يعطّل التصرّفات فيها و وضعها بحالها إلى حصول الإذن و الوكالة من مجتهد آخر بعد موت المجتهد الأوّل. و هذا مما يعلم أنّ التصرّفات في هذه الموارد لا يمكن تعطيلها، فاللازم أن يكون الصادر عن المجتهد بنحو إعطاء الولاية بجعل الشيخ متولّياً أو قيّماً.

البقاء على تقليد الميت دون الرجوع إلى الحي

(1) ذكر قدس سره إذا بقي على تقليد الميّت من دون أن يقلّد الحي في هذه المسألة كان كمن عمل بلا تقليد، و قد ذكر قدس سره في مسألة من عمل في السابق بلا تقليد أنّه لا تجزي أعماله السابقة إلّا إذا كان ما عمله السابق مطابقاً لفتوى من يجب عليه الرجوع إليه فعلًا، و إلحاق من بقي على تقليده السابق في أعماله بلا رجوع إلى الحيّ الفعليّ في البقاء بما ذكره في تلك المسألة أن لا يحكم بصحة أعماله أيضاً إلّا إذا كانت مطابقة لفتاوى الحيّ الفعليّ.

لكن لا يخفى ما في الإلحاق و ذلك فإنّ ما تقدّم في عمل العاميّ بلا تقليد وظيفته بعد تلك الأعمال الرجوع إلى المجتهد الذي تكون فتاويه حجّة فعلًا بالإضافة إليه، فإن كانت تلك الأعمال مخالفة لفتاويه فعليه تداركها على طبق فتاوى المجتهد الفعليّ.

و لا ينفع انكشاف مطابقتها لفتاوى المجتهد الذي كان يتعيّن عليه أن يقلّده في

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 127

[إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلًا في التسبيحات الأربع و اكتفى بها، ثمّ مات ذلك المجتهد فقلّد من يقول بوجوب التعدّد لا يجب عليه الإعادة]

(مسألة 53) إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلًا في التسبيحات

الأربع و اكتفى بها، أو قلّد من يكتفي في التيمّم بضربة واحدة ثمّ مات ذلك المجتهد فقلّد من يقول بوجوب التعدّد لا يجب (1) عليه إعادة الأعمال السابقة، و كذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثمّ مات و قلّد من يقول بالبطلان يجوز له

______________________________

ذلك الزمان أو كان يجوز له التقليد منه حتّى فيما إذا كان أعلم من الحيّ الفعليّ حيث لا يجوز للعاميّ فعلًا الرجوع إلى فتاويه؛ لأنّ التقليد منه يحسب من التقليد الابتدائيّ من الميّت، بخلاف هذه المسألة فإنّ العاميّ قد عمل على فتاوى الميّت الذي تعلّم الفتاوى منه حال حياته، غاية الأمر لا يعلم جواز العمل بها بعد موته حيث لم يرجع في جواز البقاء على الحيّ، و إذا رجع عليه و أوجب ذلك البقاء أو جوّزه تكون فتوى الحيّ في البقاء طريقاً معتبراً إلى اعتبار فتاوى الميّت بعد موته أيضاً، فالعاميّ المفروض يحرز الإتيان بوظائفه بالأخذ بفتاوى الميّت فيها، و أمّا فتاوى الحيّ الفعليّ لا يعتبر في حقّ العاميّ في غير مسألة جواز البقاء إمّا لفتواه بوجوب البقاء المسقط لاعتبار فتاويه، أو لفتواه بجواز البقاء الموجب لعدم اعتبار فتاويه في حقّه في سائر المسائل ما لم يأخذ العاميّ بها، بخلاف فتاوى الميّت بعد موته فإنّ المفروض أنّه أخذ بها و عمل عليها في زمان حياته، فلا ترتبط هذه المسألة بمسألة العمل بلا تقليد.

موارد الإجزاء في الأعمال السابقة الواقعة على طبق حجّة معتبرة

(1) قد تقدّم أنّ الوجه في التفصيل هو دعوى العلم أو الاطمينان بأنّ الشارع لا يكلّف العباد بتدارك الأعمال السابقة التي لا يحصل العلم الوجدانيّ ببطلانها واقعاً فيما إذا أتى بها حين العمل على طبق حجّة

معتبرة ثمّ أحرز بحجّة اخرى أنّها كانت مخالفة للواقع لا بانكشاف وجدانيّ بل بقيام حجّة اخرى بعد سقوط ما كان للعامل عن الاعتبار في الحجّية، و مورد المتيقّن من هذا الإجزاء و دعوى التسالم العبادات السابقة

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 128

البناء على الصحّة، نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني. و أمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شي ء كالغسالة ثمّ مات و قلّد من يقول بنجاسته فالصلوات و الأعمال السابقة محكومة بالصحّة، و إن كانت مع استعمال ذلك الشي ء، و أمّا نفس ذلك الشي ء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته و كذا في الحلّية و الحرمة. فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلًا فذبح حيواناً كذلك فمات المجتهد و قلّد من يقول بحرمته، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع و إباحة الأكل، و أمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه و لا أكله و هكذا.

______________________________

و العقود و الايقاعات، و أمّا غيرها من الأعمال مما كان موضوع الحكم و التكليف بحسب الحجّة القائمة موجوداً فيعمل في ذلك الموضوع على طبق الحجّة القائمة، و بما أنّ الذبح فيما كان الحيوان المذبوح غير داخل في العبادات و العقود و الإيقاعات فاللازم فيه رعاية التقليد الثاني، نعم ما باع منه قبل ذلك يحكم بصحة ذلك البيع.

و على الجملة الإجزاء في الأعمال السابقة على خلاف القاعدة بعد سقوط فتوى المجتهد السابق عن الاعتبار و كون المعتبر في الوقائع هو فتوى المجتهد الفعليّ و إحراز فوت الواقع بهذه الفتوى، كما إذا أفتى باعتبار ضربتين في التيمّم أو فساد النكاح الأوّل بإفتائه باعتبار العربيّة في عقد

النكاح و نحو ذلك. نعم الالتزام بالإجزاء في مثل الإخلال بالتعدّد في التسبيحات الأربع على القاعدة، لحكومة حديث «لا تعاد» «1» في الخلل الحاصل في الصلاة عن عذر في غير الوارد في ناحية المستثنى في ذلك الحديث، أو غيره كالوارد في الإخلال بتكبيرة الإحرام، و المتحصّل الالتزام بالإجزاء مع كونه على خلاف القاعدة لما تقدّم من بعض الوجوه التي عمدتها ما أشرنا إليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 371، الباب 3 من أبواب الوضوء، الحديث 8.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 129

[الوكيل في عمل عن الغير يجب أن يعمل بمقتضى تقليد الموكّل]

(مسألة 54) الوكيل في عمل عن الغير كإجراء عقد أو إعطاء خمس أو زكاة أو كفّارة أو نحو ذلك يجب (1) أن يعمل بمقتضى تقليد الموكّل لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين، و كذلك الوصيّ في مثل ما لو كان وصيّاً في استيجار الصلاة عنه يجب أن يكون على وفق فتوى مجتهد الميّت.

______________________________

عمل الوكيل عن الغير بمقتضى تقليد الموكل

(1) لا ينبغي التأمّل في عمل الوكيل و أنّ اللازم عليه رعاية تقليد الموكّل حيث إنّه وكيل فيما يكون عند موكّله نكاحاً أو بيعاً أو غير ذلك ممّا على الموكّل من إعطاء ما يجب عليه من الزكاة و الخمس حيث إنّه لا يعتبر في إعطائهما المباشرة بل يكفي التسبيب الحاصل بالإذن و التوكيل، و كذا الحال في الوصيّ فيما لا يجب الإتيان به عن الميّت إلّا بالوصيّة كما في قضاء الصلاة و الصوم عنه، و أمّا إذا كان الإتيان به لخروجه عن أصل التركة بحيث لو أحرز اشتغال ذمته به وجب إخراجه عن تركته و إن لم يوص به، كاشتغال ذمته بالخمس أو الزكاة و الحج فعلى الوصيّ أن يؤدّيها على وجه

يحرز به فراغ ذمة الميّت، فيكفي إحراز الفراغ بحسب تقليد نفسه، و الأحوط لزوماً ملاحظة تقليد الورثة أيضاً؛ لأنّ تركة الميّت تنتقل إلى الورثة بعد أداء مثل هذه الديون، و إذا كان أداء الوصيّ صحيحاً على تقليده و غير صحيح على تقليد ساير الورثة فلا يمكن للورثة تقسيم الباقي من التركة و التصرّف فيه، كما أنّ ما يجب على بعض الورثة و لو مع عدم الوصيّة كقضاء الفائتة من الأب من صلاته و صيامه و وجوبه على الولد الأكبر فعليه أن يلاحظ تقليد نفسه، و إذا كان على تقليد الأب المتوفّى صحة التيمم بضربة واحدة و كان على تقليد الولد الأكبر لزوم ضربتين فلا يجوز له أن يقضي ما فات عن أبيه بضربة واحدة و نحو ذلك، فإنّ القضاء عن الأب تكليف متوجّه إلى الولد الأكبر فعليه إحراز فراغ ذمّة الأب عما عليه من الصلاة و الصيام.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 130

[إذا كان البائع مقلّداً لمن يقول بصحة المعاطاة مثلًا و المشتري مقلّداً لمن يقول بالبطلان، لا يصحّ البيع بالنسبة إلى البائع]

(مسألة 55) إذا كان البائع مقلّداً لمن يقول بصحة المعاطاة مثلًا أو العقد بالفارسي و المشتري مقلّداً لمن يقول بالبطلان، لا يصحّ البيع بالنسبة إلى البائع (1) أيضاً؛ لأنه متقوّم بطرفين، فاللازم أن يكون صحيحاً من الطرفين. و كذا في كلّ عقد كان مذهب أحد الطرفين بطلانه و مذهب الآخر صحته.

______________________________

و على الجملة ما ذكر من أنّ الوصي يراعي تقليد الموصي فوجهه انصراف وصيته إلى الإتيان بما هو صحيح عنده، و إذا كان الصحيح عنده باطلًا على تقليد الولد الأكبر فلا يجوز له الاكتفاء به حتى فيما لو استأجر الوصيّ من يقضي صلاة الأب على طبق تقليد الموصي، و يجوز في الفرض تقسيم باقي التركة- بعد إخراج ثلث

الميّت أو مقدار الوصيّة و إن كان أقلّ من ثلثه- بين الورثة حتّى فيما كان ما صرف فيه ثلث الميّت أو مقدار الوصيّة باطلًا عند الورثة أو الولد الأكبر، و الفرق بين ما يؤخذ على الميّت من أصل التركة أو من مقدار ثلثه، بأنّه لا يجوز التقسيم فيما يخرج من أصل التركة إلّا في فرض صحة ما يخرج، و يجوز التقسيم فيما لا يخرج من أصلها، و لا يجب الإتيان به إلّا بالوصيّة النافذة من الثلث و إن أحرز الورثة ما صرفه الوصيّ فيه كان باطلًا على تقليدهم، يظهر بالتأمّل فيما ذكرنا.

نعم لو أوصى الميّت بأنّه على الوصيّ إفراغ ذمّة الموصي من صلاته و صيامه و نحو ذلك فلا بأس أن يلاحظ الوصيّ تقليد نفسه و لا يراعي تقليد الموصي.

اختلاف المتعاملين في التقليد

(1) لا أظنّ أن يلتزم الماتن قدس سره أو غيره ببطلان المعاملة واقعاً فيما كانت المعاملة فاسدة بحسب تقليد أحد المتعاملين أو اجتهاده، حيث إنّ الصحة الواقعيّة للمعاملة أو فسادها لا تتبع آراء المجتهد أو تقليد المتعاقدين و ليكن مراده قدس سره أنّه إذا كان العقد باطلًا بحسب تقليد أحد المتعاقدين لا يمكن أن يرتّب الآخر آثار الصحة عليه.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 131

..........

______________________________

لا يقال: إذا لم يمكن التفكيك بحسب الوظيفة الظاهريّة فالحكم بصحته بالإضافة إلى أحد المتعاقدين واقعاً يوجب الحكم بصحّته بالإضافة إلى الآخر فما وجه تقديم جانب البطلان؟

فإنّه يقال: المراد هو أنّه إذا حكم ببطلان المعاملة بالإضافة إلى أحد المتعاقدين فلا يجوز له أن يرتّب آثار الصحيح عليها. و إذا لم يرتّب آثار الصحيح عليها شرعاً فلا يمكن للآخر أيضاً ترتيب آثار الصحة لعدم جواز

إلزام الآخر لقيام الحجّة عنده على فسادها؛ و لذا يحكم بفساد المعاملة بالمعنى الذي ذكرنا أي بالفساد بحسب الظاهر، و لكن لا يخفى أنّه إن أمكن للمعتقد بصحة العقد و ترتّب الأثر عليه من الفسخ و اختاره فهو، و إلّا فالمورد من موارد الترافع، فينفذ حكم الحاكم الثالث في حقّهما.

لا يقال: الرجوع إلى قضاء الثالث لا يرفع المحذور، مثلًا إذا تزوّج بامرأة بالعقد الفارسيّ و كان مذهب المرأة بحسب تقليدها بطلان عقد النكاح بالفارسيّ مع التمكّن من العقد باللغة العربيّة و مذهب الزوج صحته و كان الزوج باذلًا للمهر، فإنّه إذا رجعا إلى الثالث- الذي سيأتي أنّ اختيار الثالث بيد المدّعي- و حكم بصحة الزواج فلا يجوز للمرأة التمكين؛ لأنّها بحسب تقليدها أجنبيّة.

فإنّه يقال: القضاء و إن لا يوجب تغييراً في الحكم الواقعي لمورد الترافع كما يأتي في المسألة الآتية، إلّا أنّ هذا فيما إذا احرز الحكم الواقعيّ وجداناً، و مع إحراز أحد المتنازعين الحكم بغير العلم الوجدانيّ بالتقليد أو الاجتهاد فمقتضى قضاء الثالث سقوط فتوى مجتهده ببطلان العقد الفارسيّ عن الاعتبار في الواقعة المرفوعة إلى الثالث حتّى فيما إذا اعتقدت المرأة أنّ من رجعت إليه في الفتاوى أعلم، و هذا معنى انتقاض الفتوى بالقضاء، و هذا فيما كان كلّ من الزوج و الزوجة قائلًا بصحة تقليده،

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 132

[في المرافعات اختيار تعيين الحاكم بيد المدّعي]

(مسألة 56) في المرافعات اختيار تعيين الحاكم بيد المدّعي، إلّا إذا كان مختار المدّعى عليه أعلم، بل مع وجود الأعلم و إمكان الترافع إليه الأحوط الرجوع إليه مطلقاً (1).

______________________________

و أمّا مع تسالمهما أنّ الأعلم هو المعيّن الذي يرجع إليه أحدهما فعلى الآخر أيضاً تقليده و لا تصل النوبة

إلى الترافع.

اختيار القاضي بيد من؟

(1) الكلام في المقام أنّ مع تعدّد القاضي كما إذا كان كلّ من المتعدّد فقيهاً منصوباً و لو بالنصب العامّ المستفاد من المقبولة و المعتبرة يكون اختيار القاضي بيد المدّعي أو بتعيين من سبق إليه أحد المترافعين برفع القضية إليه أو يرجع مع اختلاف الخصمين في تعينه إلى القرعة، و مع اتّفاق الخصمين إذا لم يختلفا، ذكر في المستند أنّه إذا كان هناك مجتهدان أو أكثر بحيث يجوز الرجوع إلى كلّ منهما أو منهم فمن اختاره المدّعي المرافعة عنده يكون له القضاء في الواقعة، و يجب على خصمه الإجابة إلى القاضي الذي عيّنه المدّعي، و على ذلك الإجماع؛ و لأنّ المدّعي هو المطالب بالحقّ و لا حقّ للمنكر ابتداءً. و أجاب عن ذلك في ملحقات «العروة» «1» بأنّ للمنكر أيضاً حقّ الجواب بأن يسبق إلى الحاكم فيطالبه بتخليصه عن دعوى المدّعي، و مقتضى القاعدة مع عدم أعلميّة أحدهما هو القرعة إلّا إذا ثبت الإجماع على تقديم مختار المدّعي، و ذكر قدس سره في المتن اختيار الحاكم بيد المدّعي إلّا إذا كان مختار المدّعى عليه أعلم، بل الأحوط الرجوع إلى الأعلم مطلقاً أي سواء كان هو مختار المدّعي أم لا، اتّفقا في تعيّنه أم اختلفا.

أقول: ليس الملاك في كون شي ء مدّعياً أن يكون مطالباً بحقّ بل يكفي في كونه

______________________________

(1) ملحقات العروة 3: 14 و 15.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 133

..........

______________________________

مدّعياً أن تحتاج دعواه على الآخر إلى الإثبات سواء كان غرضه بثبوت حقّ له على الآخر أو سقوط حقّه عنه كما في دعواه سقوط دين للآخر عنه بأدائه أو بإبراء الدائن، و حيث إنّ ما عليه الإثبات

بطريق معتبر لا يكلّف في إثباته بطريق خاصّ يريد خصمه بل عليه الإثبات بأيّ طريق معتبر، يكون تعيين القاضي الواجد للشرائط بيد المدعي سواء كان ما يعيّنه بنظره أعلم من الآخرين أم كان مساوياً حيث ذكرنا في باب القضاء أنّ اعتبار الأعلميّة غير معتبر في نفوذ القضاء.

و ما ذكر الماتن قدس سره في ملحقات «العروة» من ثبوت الجواب للمنكر أيضاً لا يمكن المساعدة عليه، فإنّه لا دليل على اعتبار الحقّ للمنكر قبل رجوع المدّعي إلى القاضي و سماع دعواه، و إن اريد جواز الجواب أو وجوبه بالإقرار أو بالإنكار فهذا ليس من الحقّ على المدّعي، بل هو حكم يترتّب على رجوع المدّعي إلى القاضي و طرح دعواه عنده و مطالبة القاضي الجواب منه، و إن اريد أنّ للمنكر حقّ استخلاص نفسه من دعوى المدّعي فليس في البين ما يدلّ على ثبوت هذا الحقّ له قبل المراجعة إلى القاضي برفع الدعوى إليه من ناحية المدّعي و ما دام لم يطالب المدّعي من القاضي تحليف المنكر حيث لا يكون للمدّعى عليه الحلف تبرّعاً ليسقط دعوى الغير عليه.

هذا كلّه فيما إذا كان التنازع في الموضوع الخارجيّ، و أمّا إذا كان منشأ الاختلاف الاختلاف في الحكم الشرعيّ الكليّ فإن كانا متسالمين في أنّ الأعلم أو محتمل الأعلميّة مجتهد معيّن خارجاً فلا مورد للترافع أصلًا بل عليهما أن يعملا على فتوى الأعلم المزبور أو محتمل الأعلميّة، و أمّا إذا لم يكن بينهما تسالم على ذلك و توقّف إنهاء المخاصمة على القضاء بينهما، كما إذا كان الاختلاف بين مقلّدين لمجتهدين يختلفان في الفتوى، فإن كان المورد من موارد الدعوى على الغير و الإنكار، فإن أرادا

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد

و التقليد، ص: 134

[حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه]

(مسألة 57) حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه و لو لمجتهد آخر، إلّا إذا تبيّن خطؤه (1).

______________________________

القضاء بالتحكيم فلا بد من تراضيهما إلى قاض، و إن أراد أحدهما القاضي المنصوب فالتعيين بيد المدعي، و حكمه نافذ على المدّعى عليه و إن كان مخالفاً لفتوى مرجعه لما تقدّم، بخلاف ما إذا كان المورد من موارد التداعي فيعيّن في الفرض القاضي المرفوع إليه الواقعة بالقرعة، فإنّ المورد من الموارد المشكلة من حيث الظاهر أيضاً.

(1) تبيّنُ الخطأ من القاضي إمّا بالعلم الوجدانيّ كما إذا علم أنّه استند في حكمه على شهادة رجلين فاسقين اشتباهاً أو أنّه اشتبه و طالب المنكر بالبيّنة، و حيث لم يكن له بيّنة حكم للمدّعي باستحلافه أو اعتمد فيما كان منشأ الخلاف الاختلاف في الحكم الشرعي بوجه استحسانيّ مخالف للكتاب العزيز أو الخبر الصحيح على خلافه و نحو ذلك، فإنّه في مثل هذه الموارد ينتقض القضاء بالقضاء الثاني أو بالفتوى حيث إنّه لم يكن على طبق الموازين المعلومة الظاهرة فيكون كالعدم و لا يجوز للمترافعين مع العلم بالحال ترتيب الأثر عليه، فإنّ القضاء على طبق الموازين الشرعيّة طريق فلا يجوز ترتيب الأثر عليه إذا احرز أنّه ليس بطريق لعدم كونه على طبق الموازين بل هو خلاف تلك الموازين.

نعم، إذا لم يحرز اشتباهه و احتمل أنّه على طبق الموازين عنده حتى مع التذكّر له فلا يجوز نقضه و لا ردّه حملًا لقضائه على الصحة بعد إحراز أنّ له ولاية القضاء أخذاً بما دلّ على نفوذ قضاء الواجد للشرائط حتّى بالإضافة إلى الحاكم الآخر إلّا إذا أحرز خطأه البيّن كما في المثالين و تمام الكلام موكول إلى بحث القضاء.

و بالجملة

للقضاء جهتان:

إحداهما: إنهاء المخاصمة بحيث لا يكون للمتخاصمين بعد القضاء تجديد

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 135

[إذا نقل ناقل فتوى المجتهد لغيره ثمّ تبدّل رأي المجتهد في تلك المسألة، لا يجب على الناقل إعلام من سمع منه الفتوى الاولى]

(مسألة 58) إذا نقل ناقل فتوى المجتهد لغيره ثمّ تبدّل رأي المجتهد في تلك المسألة، لا يجب على الناقل إعلام (1) من سمع منه الفتوى الاولى، و إن كان أحوط.

بخلاف ما إذا تبيّن له خطؤه في النقل فإنه يجب عليه الإعلام.

______________________________

المرافعة و سقوط حقّ الدعوى إثباتاً أو نفياً.

و الثانية: تعيين وظيفة المترافعين في الواقعة.

و للقضاء في الجهة الاولى موضوعيّة إلّا فيما ذكر في تبيّن الخطأ؛ و ذلك لعدم الدليل على مشروعيّة القضاء الثاني و نفوذه، و أمّا القضاء بالإضافة إلى الوظيفة الواقعيّة يعتبر طريقاً فمن أحرز أنّه على خلاف وظيفته الواقعيّة و إن كان القضاء على الموازين فعليه رعاية التكليف الواقعيّ، كما يشهد لذلك ما في صحيحة هشام بن الحكم: «فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار» «1» و لو كان اختلاف بين الرجل و المرأة في دوام الزوجيّة و انقطاعه فادّعى الزوج الدوام و الزوجة الانقطاع و تمام مدّة المتعة و حكم القاضي الواجد للشرائط بالدوام بعد إحلاف الزوج بعدم الانقطاع فاللازم على المرأة التشبث في حليّة تمكينها من إرضاء الرجل بعقد آخر دواماً لتتمكّن من تمكين الرجل من نفسها، و اللّٰه سبحانه هو العالم.

تبدل الفتوى بعد نقلها

(1) و الوجه في عدم وجوب الإعلام على الناقل هو أنّ ناقل الفتوى حين نقل فتوى المجتهد لم يتصدّ إلّا للخبر عن فتواه، و أمّا بقاء المجتهد على فتواه أو عدوله عنها أو التردّد فيها مستقبلًا فشي ء من ذلك غير داخل في خبره، فارتكاب المنقول إليه

ما هو محرّم بحسب فتواه الثانية أو تركه ما هو واجب بحسبه مستند إلى نفس المنقول

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 232، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث الأول.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 136

[إذا تعارض الناقلان في نقل الفتوى تساقطا]

(مسألة 59) إذا تعارض الناقلان في نقل الفتوى تساقطا (1)، و كذا البيّنتان.

و إذا تعارض النقل مع السماع عن المجتهد شفاهاً قدّم السماع، و كذا إذا تعارض ما في الرسالة مع السماع، و في تعارض النقل مع ما في الرسالة قدّم ما في الرسالة مع الأمن من الغلط.

______________________________

إليه من اعتقاده بقاءه على فتواه السابق أو للاستصحاب في ناحية بقائه لا بتسبيب الناقل، بخلاف ما إذا كان نقله فتوى المجتهد بعدم حرمة الفعل أو عدم وجوبه على نحو الاشتباه و الخطأ، فإنّ ارتكاب المنقول إليه المحرّم أو تركه الواجب يكون مستنداً إلى الناقل الذي وقع نقله اشتباهاً.

و أمّا التفرقة بأنّ التسبيب إلى ارتكاب الحرام أو ترك الواجب في الفرض مستند إلى الناقل بخلاف مورد عدول المجتهد، فإنّ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب مستند إلى فعل الشارع حيث اعتبر الشارع فتوى المجتهد حجّة شرعيّة، فإن كان المراد ما ذكرناه من الفرق فهو، و إلّا فاعتبار الشارع نقل الناقل الثقة أيضاً أوجب ارتكاب المنقول إليه ما هو حرام أو تركه ما هو واجب.

و على الجملة بقاء فتوى المجتهد أو زواله مستقبلًا خارج عن مدلول خبر ناقل الفتوى، بخلاف صورة نقل الفتوى اشتباهاً، فإنّ الناقل بخطئه في نقل الفتوى أوجب وقوع المخبر إليه في خلاف وظيفته، و قد تقدّم تمام الكلام في المقام في المسألة الثامنة و الأربعين من المسائل المتقدّمة.

الاختلاف في نقل الفتوى

(1) إذا كان مستند الناقلين السماع

من المجتهد بأن يخبر كلّ منهما بأنّه سمع المجتهد أنّه يفتي بكذا، فتارة يكون تاريخ أحد السماعين بحسب نقل أحدهما متقدّماً على زمان سماع الآخر بحسب نقلهما، فيؤخذ بالنقل الذي سماعه متأخّر عن سماع

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 137

..........

______________________________

الآخر مع احتمال العدول، حيث إنّه تقدّم أنّ ناقل الفتوى لا يتكفّل نقله بعدول المجتهد عن الفتوى الذي ينقله عنه مستقبلًا أو لا يعدل عنه، و أمّا إذا كان في البين اطمينان بعدم عدوله عن فتواه كما إذا كان تاريخ سماع أحدهما عن سماع الآخر قريباً جداً بحيث يطمئنّ المنقول إليه أنّه لم يكن في البين عدول فيتعارضان و يتساقطان، و كذلك فيما إذا لم يذكرا تاريخ سماعهما عند نقل الفتوى عنه أو ذكر أحدهما دون الآخر، فإنّه لا يعمل بشي ء منهما إلّا إذا كان المنقول عن المجتهد بحسب أحد النقلين مطابقاً للاحتياط حيث إنّه لو كانت فتواه الترخيص فتلك الفتوى لا تمنع عن الاحتياط في المسألة.

و بالجملة مع اختلاف تاريخي السماع من الناقلين و احتمال العدول يؤخذ بالنقل المتأخّر حيث لا يجري الاستصحاب في الفتوى السابقة مع النقل القائم بالفتوى المتأخّرة.

و مما ذكرنا يظهر الحال فيما إذا كان النقل في كلّ من الفتويين بنحو البيّنة حيث إنّه يؤخذ بالبيّنة المتأخّرة فيما إذا احتمل عدول المجتهد عن فتواه السابقة، و مع الاطمينان بعدم عدوله تقع بينهما المعارضة فتسقطان عن الاعتبار، بل و كذا الحال فيما إذا كان الاختلاف بين النقل المعتبر و البيّنة، فإن دعوى أنّ مع البيّنة لا يعتنى بالنقل على خلافها، لا يمكن المساعدة عليها، فإنّ هذا في الموارد التي يعتبر في ثبوتها خصوص البيّنة أو كان الدليل على

اعتبار النقل في مورد عدم قيام البيّنة، و أمّا إذا لم يكن شي ء من الأمرين- كما هو الحال في مورد الكلام- تقع المعارضة بينهما على غرار ما تقدّم، فإنّ اعتبار البيّنة في المقام بما هو خبر عدل أو ثقة، فتكون المعارضة كما في صورة النقل عن الإمام عليه السلام بأن يخبر العدلان أنّهما سمعا عنه عليه السلام يقول كذا و قام خبر عدل عنه عليه السلام أو خبر ثقة على خلاف خبرهما، حيث إنّ الإخبار عن الفتوى بالإضافة إلى العاميّ

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 138

..........

______________________________

كالإخبار عن قول الإمام عليه السلام بالإضافة إلى أهل الاجتهاد.

و لو كان مستند إخبارهما رسالة المجتهد، فإن كان مستند أحدهما الرسالة المطبوعة سابقاً و مستند الآخر الرسالة المطبوعة جديداً مع أمنهما من الخطأ يؤخذ بالمطبوعة الجديدة مع احتمال العدول كما تقدّم، و إذا كان المستند لكلّ منهما الرسالة الواحدة و كان اختلافهما ناشئاً عن كيفية الاستظهار من تلك الرسالة فيؤخذ بالنقل الذي ناقله أكثر خبرة في فهم الرسالة على ما أشرنا إليه من جريان السيرة العقلائيّة حتّى عند المتشرّعة بالأخذ بما يقوله الأكثر خبرة و الأقوى فهماً فيما إذا علم الخلاف بينه و بين غيره، و هذا فيما لم يمكن الرجوع إلى نفس المجتهد و لو بتأخير الواقعة و إلّا فالمجتهد أقوى خبرة بما كتبه بالإضافة إلى غيره كما لا يخفى.

و إذا تعارض النقل مع السماع من المجتهد شفاهاً قدّم السماع؛ لأنّ ما سمعه من المجتهد شفاهاً هو فتواه، و لا عبرة بالنقل مع العلم بفتوى المجتهد.

و قد يقال «1» بتقديم الرسالة على السماع منه، و كذا في صورة اختلاف ما في الرسالة مع النقل

عن المجتهد فيما كانت الرسالة مأمونة في الفرضين، كما إذا كانت بخطّ المجتهد أو لاحظها بنفسه بعد كتابتها، بدعوى أنّ المجتهد حين الكتابة أو ملاحظتها عنايته بالمسألة و خصوصيّاتها أكثر ممّا أجاب عن حكم المسألة عند السؤال منه شفاهاً.

أقول: على العاميّ في مثل هذه الموارد الأخذ بالاحتياط حتى يتحقّق الحال، فإنّه كما يحتمل أن يكون ما سمع الناقل من المجتهد أو نفس العاميّ عند السؤال عن

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 399.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 139

[إذا عرضت مسألة لا يعلم حكمها و لم يكن الأعلم حاضراً، فإن أمكن تأخير الواقعة إلى السؤال يجب ذلك]

(مسألة 60) إذا عرضت مسألة لا يعلم حكمها و لم يكن الأعلم حاضراً، فإن أمكن تأخير الواقعة إلى السؤال (1) يجب ذلك، و إلّا فإن أمكن الاحتياط تعيّن، و إن لم يمكن يجوز الرجوع إلى مجتهد آخر الأعلم فالأعلم، و إن لم يكن هناك مجتهد آخر و لا رسالته يجوز العمل بقول المشهور بين العلماء إذا كان هناك من يقدر على تعيين قول المشهور، و إذا عمل بقول المشهور ثمّ تبيّن له بعد ذلك مخالفته لفتوى مجتهده فعليه الإعادة أو القضاء. و إذا لم يقدر على تعيين قول المشهور يرجع إلى أوثق الأموات، و إن لم يمكن ذلك أيضاً يعمل بظنّه، و إن لم يكن له ظنّ بأحد الطرفين يبني على أحدهما، و على التقادير بعد الاطلاع على فتوى المجتهد إن كان عمله مخالفاً لفتواه فعليه الإعادة أو القضاء.

______________________________

مجتهده رجوعاً عما في الرسالة المأمونة من الغلط، كذلك يحتمل أن يكون المجتهد ناسياً لما ذكره في رسالته فأجاب عند السؤال بما اعتقد أنّه هو المذكور في رسالته.

و على الجملة إطلاق تقديم السماع مشكل جدّاً.

عروض مسألة لا يعلم حكمها

(1) لزوم تأخير الواقعة ينحصر

بما إذا لم يتمكّن من الاحتياط، و إلّا جاز الأخذ بالاحتياط و لم يؤخّر الواقعة إلى السؤال، فإنّ العمل بفتوى المجتهد لزومه طريقيّ و مع الاحتياط و إحراز امتثال الوظيفة الواقعيّة لا يكون موضوع لإحرازه بالطريق، و إذا لم يمكن تأخير الواقعة و لم يمكن الاحتياط يجوز الرجوع إلى مجتهد آخر مع رعاية الأعلم فالأعلم؛ لأنّ السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى الأعلم من الأحياء فيما إذا أحرز الاختلاف بينهم في فتاويهم، في صورة إمكان الرجوع إلى ذلك الأعلم، و إلّا مقتضى سيرتهم الرجوع إلى غيره غاية الأمر مع رعاية الأعلم أو محتمل الأعلميّة بالإضافة إلى ساير الأحياء، بل يمكن أن يقال بجواز الرجوع إلى غير الأعلم في الفرض

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 140

..........

______________________________

حيث لا يعلم مخالفة فتوى غير الأعلم فيها مع الأعلم و إن علم الاختلاف بين فتاويهما و لو إجمالًا في سائر المسائل.

و إذا لم يمكن الرجوع إلى غير الأعلم منهم أيضاً لعدم حضورهم و عدم إمكان تأخير الواقعة و عدم إمكان الاحتياط في الواقعة فقد ذكر الماتن أنّه يعمل بقول المشهور بين العلماء إذا كان في البين من يتمكّن من تشخيص قول المشهور في حكم الواقعة، و إن لم يمكن ذلك يرجع إلى قول أوثق الأموات إذا أمكن، فإن لم يمكن ذلك أيضاً يعمل في الواقعة على الظنّ، فإن لم يكن ظنّ يعمل بأحد الاحتمالين، ثمّ إذا علم بعد ذلك قول المجتهد الذي يتعيّن الرجوع إليه فإن وافقه ما عمله فهو و إلّا يلزم تداركه بالإعادة و القضاء، و ينحصر هذا التدارك بناءً على إجزاء التقليد في موارد العمل بقول المشهور أو أوثق الأموات أو العمل

بالظنّ و الأخذ بأحد الاحتمالين، و بناءً على القول بعدم الإجزاء يجرى التدارك مع إمكانه في جميع الصور.

و يستدلّ «1» على ما ذكره قدس سره بتماميّة مقدّمات الانسداد في حقّ العامي المفروض و وصول النوبة إلى الامتثال غير العلميّ، و حيث إنّ مقتضاها التنزّل إلى الامتثال الظنّي مع مراعاة مراتب الظنّ حيث إنّ أقواها قول المشهور، و مع عدم التمكّن منه عليه موافقة أعلم الأموات، و مع عدم تمكّنه منه أيضاً عليه بمطلق الامتثال الظنّي، و مع عدم الظنّي أيضاً عليه الامتثال الاحتماليّ، و بما أنّ هذا بحكم العقل في مقام الامتثال بعد تماميّة مقدّمات الانسداد يجب عليه مع التمكّن من قول الأعلم بعد ذلك فإن وافق عمله السابق قوله فهو و إلّا لزم تداركه.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 402.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 141

[إذا قلّد مجتهداً ثمّ مات فقلّد غيره ثمّ مات فقلّد من يقول بوجوب البقاء على تقليد الميّت أو جوازه، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأوّل، أو الثاني الأظهر الثاني]

(مسألة 61) إذا قلّد مجتهداً ثمّ مات فقلّد غيره ثمّ مات فقلّد من يقول بوجوب البقاء على تقليد الميّت أو جوازه، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأوّل، أو الثاني؟ الأظهر الثاني (1) و الأحوط مراعاة الاحتياط.

______________________________

أقول: لم يظهر ما في قول الماتن قدس سره من الرجوع: «إلى أوثق الأموات» ما المراد منه؟ فإن كان المراد منه أعلم الأموات فكيف يتنزّل مع عدم التمكّن منه إلى ظنّ العاميّ بالوظيفة الواقعيّة مع أنّه لا قيمة لظنّه في الحكم الواقعيّ الكلّي الذي لا يخرج عن التخمين، و كيف يقدّم ظنّه على قول المجتهد الذي لم يعلم كونه أعلم الأموات أو علم بعدم كونه أعلمهم؟ و كيف تجرى مقدّمات الانسداد في الحكم الواقعيّ الكلّي و لو في مسألة أو مسألتين؟ و كيف لا يجوز له الاكتفاء بالامتثال الاحتماليّ

فيهما مع عدم إمكان التأخير و عدم إمكان الاحتياط فيها و لو كان له ظنّ بخلافه حيث إنّ المفروض أنّ الشارع لا يطالبه بالموافقة القطعيّة، و لم يقم دليل على أزيد من الموافقة الاحتماليّة كما هو مقتضى عدم اعتبار فتوى الميّت و عدم اعتبار ظنّ العاميّ.

و إنّما لا يجوز الاكتفاء بالامتثال الاحتماليّ بالإضافة إلى معظم الفقه في حقّ المجتهد الانسداديّ للعلم بأنّ الشارع لا يرضى بالاكتفاء بمجرد احتمال الموافقة في معظم الوقائع لاستلزام ذلك بقاء التكاليف الواقعيّة بلا امتثال في جملة تلك الوقائع، و لا يجري ذلك في مفروض الكلام في المقام من جهل العاميّ بالحكم و التكليف الواقعيّ في مسألة أو مسائل لعدم تمكّنه فيها من الرجوع إلى فتوى المعتبر في حقّه و عدم تمكّنه من الاحتياط فيها.

البقاء على تقليد الميت

(1) ذكر قدس سره فيما إذا قلّد مجتهداً و مات ذلك المجتهد فقلّد مجتهداً آخر في

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 142

..........

______________________________

الوقائع التي يبتلى بها ثمّ مات هذا المجتهد فقلّد مجتهداً يفتي بجواز البقاء على تقليد الميّت أو بوجوبه، فهل على تقدير البقاء يبقى على تقليد المجتهد الأوّل أو يبقى على تقليد الثاني؟ فاختار قدس سره البقاء على التقليد الثاني و احتاط استحباباً في مراعاة الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين في المسائل أو الجمع بين فتواهما.

و لكن لا يخفى ما فيه، فإنّ المجتهد الحيّ إذا أفتى بجواز البقاء مطلقاً أو فيما إذا كان الميّت أعلم، فهذا التخيير بين البقاء و العدول أوجب سقوط فتاوى المجتهد الأول عن الاعتبار، و صارت فتاوى المجتهد الثاني حجّة تعيينيّة في حقّه زمان حياته، و إذا أفتى المجتهد الحيّ بعد موت الثاني بجواز البقاء

معناه أنّ ما كان حجّة للعاميّ زمان حياة مجتهده فهو حجّة بعد موته أيضاً، و المفروض أنّه بعدوله عن المجتهد الأوّل كانت الحجّة في حقّه فتاوى الثاني ما لم يعدل عن فتاواه.

و على الجملة التخيير في البقاء و العدول معناه تعيّن الفتوى في الحجّية بالأخذ و الاستناد إليه فيكون التخيير بدويّاً، و مع صيرورة الفتاوى من المجتهد الثاني حجّة على العاميّ بعدوله عن فتاوى الأوّل يتخيّر بين البقاء على فتاوى المجتهد الثاني و بين الرجوع إلى الحيّ. نعم إذا أفتى المجتهد الحيّ بوجوب البقاء مطلقاً أو ما إذا كان الميّت أعلم فاللازم البقاء على فتاوى الأوّل مطلقاً أو ما إذا كان أعلم؛ لأنّ تقليده من المجتهد الثاني لم يكن صحيحاً على فتوى المجتهد الحيّ الفعليّ و إن التزم الحيّ بمعذوريّة العامّي في أعماله في تلك الفترة بل و إن التزم بالإجزاء أيضاً.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 143

[يكفي في تحقّق التقليد أخذ الرسالة و الالتزام بالعمل بما فيها]

(مسألة 62) يكفي في تحقّق التقليد أخذ الرسالة و الالتزام بالعمل بما فيها (1) و إن لم يعلم ما فيها و لم يعمل، فلو مات مجتهده يجوز له البقاء و إن كان الأحوط مع عدم العلم، بل مع عدم العمل و لو كان بعد العلم عدم البقاء و العدول إلى الحيّ، بل الأحوط استحباباً- على وجه- عدم البقاء مطلقاً، و لو كان بعد العلم و العمل.

______________________________

تحقق التقليد

(1) قد تقدّم في مسألة وجوب التقليد على العاميّ من أنّ التقليد تعلّم العاميّ حكم الواقعة للعمل به، و إحراز التكليف وجوداً و عدماً في الواقعة التي يبتلي بها، حيث إنّ وجوب طلب العلم و تعلّم التكاليف في الوقائع التي يحتمل المكلّف الابتلاء بها طريقيّ يوجب

عدم كون مخالفة التكاليف فيها على تقدير ثبوتها عذراً، كما هو مفاد الروايات الواردة في وجوب طلب العلم و تعلّم الأحكام، و هذا التعلّم لا يكون بمجرد أخذ رسالة مجتهد و الالتزام بالعمل فيها. و أمّا التقليد بمعنى تحصيل الأمن على العاميّ في مقام الامتثال فيكون بالاستناد في عمله في الواقعة إلى إحرازه الوجدانيّ كما في الاحتياط أو بطريق معتبر و هو فتوى المفتي الواجد للشرائط، و هذا المعنى من التقليد لازم بحكم العقل بعد قيام الدليل على اعتبار فتوى المفتي.

و ما ذكره قدس سره من أخذ رسالة المجتهد و الالتزام بالعمل بما فيها فلم يدلّ شي ء على وجوبه لا تعييناً و لا تخييراً لا شرعاً و لا عقلًا، و دعوى أنّ مجرّد أخذ رسالة مجتهد حال حياته مع الالتزام بالعمل فيه يكفي في جواز العمل بما في تلك الرسالة و لو مات ذلك المجتهد بعد أخذها مع الالتزام المذكور و إن لم يعلم بما فيها حال حياته و لم يعمل؛ لأنّ الدليل على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً هو الإجماع، و الإجماع مفقود في الفرض لالتزام جماعة بل المشهور بأنّ التقليد هو الالتزام، لا يمكن المساعدة عليها؛ لما ذكرنا سابقاً من أنّ الأدلّة التي اقيمت على مشروعيّة التقليد عمدتها الروايات

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 144

[في احتياطات الأعلم إذا لم يكن له فتوى يتخيّر المقلّد بين العمل بها و بين الرجوع إلى غيره]

(مسألة 63) في احتياطات الأعلم إذا لم يكن له فتوى يتخيّر المقلّد بين العمل بها و بين الرجوع إلى غيره الأعلم فالأعلم (1).

______________________________

الواردة في إرجاعهم عليهم السلام إلى من يعرف معالم الدين و أحكامه، و تلك الروايات لا تعمّ إلّا التعلّم من الحيّ، و مقتضى إطلاقها العمل بما تعلم، و لو كان العمل

بعد موت من تعلّم منه، فعدم جواز تقليد الميّت أي التعلّم بعد موته لخروجه عن مدلول تلك الروايات المستفاد منها إمضاء السيرة العقلائية في الرجوع إلى أهل الخبرة بالإضافة إلى تعلّم العاميّ الوظائف الشرعيّة لاحتمال انحصار إمضائها في مقدار مدلول تلك الروايات.

نعم، التقليد من الأعلم أي اعتبار التعلّم منه في موارد العلم و لو إجمالًا باختلاف الفقهاء الأحياء و إن كان خارجاً عن مدلولها؛ لعدم شمولها لصورة الاختلاف و المعارضة إلّا أنه لا يحتمل الفرق بين التقليد المعتبر في جواز البقاء و عدمه في الصورتين.

ثمّ إنّه إذا علم الاختلاف بين الميّت الذي أخذ الحكم منه حال حياته و بين المجتهد الحيّ الفعليّ فقد ذكرنا أنّه يتعيّن على العاميّ في الفرض البقاء على تقليد الميّت مع فرض كونه أعلم من الحيّ الفعليّ، و لا يجوز له الرجوع إلى الحيّ الفعليّ إلّا في مسألة جواز البقاء حيث على المجتهد الحيّ الفعليّ أن يفتي بوجوب البقاء على هذا التقدير، و في فرض كون الحيّ الفعلي أعلم منه أن يفتي بلزوم العدول على ما تقدّم الكلام في ذلك في مسألة جواز البقاء و عدمه فراجع.

أقسام الاحتياط

(1) مراده قدس سره أنّ احتياطات الأعلم التي يذكرها في رسالته أو في الجواب عن الاستفتاءات إن كان له فتوى فيها كما إذا ذكر الاحتياط بعد فتواه في المسألة أو قبل فتواه يكون الاحتياط فيها استحبابياً فيأخذ العاميّ بفتواه أو بالاحتياط المذكور، و أمّا

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 145

..........

______________________________

لو لم يكن فيها فتواه و يسمّى بالاحتياط المطلق أو الاحتياط الوجوبي، ففي هذه الموارد يجوز للعاميّ الأخذ فيها بالاحتياط الذي ذكره أو الرجوع إلى فتوى غيره مع رعاية

الأعلم فالأعلم. و الوجه في ذلك أنّ الاحتياط المذكور حكم لعمل العاميّ في المسألة التي يحتمل فيها التكليف الواقعيّ، و حيث إنّ المسألة قبل الفحص بالإضافة إلى العاميّ فيكون التكليف الواقعيّ على تقديره منجّزاً بالإضافة إليه فيكون الاحتياط لرعاية تنجّز التكليف على تقديره، و حيث إنّ الأعلم لم يفت في المسألة فتكون فتوى غيره معتبرة في المسألة بالإضافة إلى العاميّ؛ لأنّ الموجب لسقوط فتواه عن الاعتبار فتوى الأعلم، و المفروض أنّ الأعلم لم يفت في المسألة.

و الحاصل يجوز لمقلّد الأعلم في الاحتياطات الوجوبيّة الرجوع إلى فتوى غيره، و رعاية الأعلم فالأعلم في الرجوع إلى غيره ينحصر على موارد العلم بالمخالفة في فتاوى الباقين و لو كان العلم إجماليّاً.

و ربّما «1» يقال إنّ جواز الرجوع في احتياطات الأعلم إلى غيره ممّن يفتي بعدم التكليف يجوز فيما لم يتضمّن احتياطه تخطئة غيره، كما إذا لم يفحص الأعلم عن مدارك الحكم في المسألة بالفحص المعتبر فاحتاط فيها، و أمّا إذا تضمّن تخطئة غيره كما ذكر في المسألة أنّ رعاية الوجوب أو رعاية الحرمة لو لم يكن أقوى فلا أقلّ من كونه أحوط، فإنّه في هذه الصورة لا يجوز لمقلّد الأعلم أن يستريح في المسألة بالرجوع إلى فتوى غيره بفتواه بعدم الوجوب أو بعدم الحرمة لسقوط فتوى غيره عن الاعتبار لإحراز خطئه بقول الأعلم، اللهم إلّا أن يقال ذكر الأعلم الاحتياط في هذه

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 407.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 146

[الاحتياط إمّا استحبابيّ و إمّا وجوبيّ]

(مسألة 64) الاحتياط المذكور في الرسالة إمّا استحبابيّ و هو ما إذا كان مسبوقاً أو ملحوقاً بالفتوى، و إمّا وجوبيّ و هو ما لم يكن معه فتوى و يسمّى

بالاحتياط المطلق، و فيه يتخيّر المقلّد بين العمل به و الرجوع إلى مجتهد آخر، و أمّا القسم الأوّل فلا يجب العمل به و لا يجوز الرجوع إلى الغير، بل يتخيّر بين العمل بمقتضى الفتوى و بين العمل به (1).

[في صورة تساوي المجتهدين يتخيّر بين تقليد أيّهما شاء]

(مسألة 65) في صورة تساوي المجتهدين يتخيّر بين تقليد أيّهما شاء، كما يجوز له التبعيض (2) حتّى في أحكام العمل الواحد، حتى أنّه لو كان مثلًا فتوى أحدهما وجوب جلسة الاستراحة و استحباب التثليث في التسبيحات الأربع، و فتوى الآخر بالعكس، يجوز أن يقلّد الأول في استحباب التثليث و الثاني في استحباب الجلسة.

______________________________

الصورة كالصورة السابقة حكم إرشاديّ عقليّ منوط باحتمال الضرر أي العقاب المحتمل، و إذا أحرز العاميّ عدم احتمال الضرر بفتوى غير الأعلم بعدم التكليف و عدم معارضته بقول الأعلم و فتواه- كما هو الفرض- فلا بأس بتركه الاحتياط، و دعوى عدم شمول السيرة على الأخذ بقول غير الأعلم في صورة تخطئة الأعلم غيره في الإفتاء بعدم التكليف لا يمكن المساعدة عليها، و إن كان الأحوط عدم ترك الاحتياط في الفرض مهما أمكن.

(1) قد ظهر ما ذكره قدس سره في هذه المسألة ممّا ذكرناه في المسألة السابقة فلا حاجة إلى الإعادة.

جواز التبعيض في فرض التساوي

(2) بناءً على ثبوت التخيير بين تقليد أيّ من المجتهدين في فرض تساويهما

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 147

..........

______________________________

يجوز التبعيض حتّى بالإضافة إلى عمل واحد على ما تقدّم.

و لكن قد يقال «1» التبعيض في التقليد بحسب قيود العمل الواحد و أجزائه غير جائز كما في المثال، حيث إنّه لو صلّى بترك الجلسة مع الاكتفاء بمرّة واحدة في التسبيحات الأربع كانت صلاته باطلة بحسب فتوى أيّ

من المجتهدين، حيث من يفتي بجواز ترك الجلسة و صحة الصلاة مع تركها يقول ذلك فيما إذا أتى في تلك الصلاة بالتسبيحات الأربع ثلاث مرّات، و من يفتي بجواز الاكتفاء بالمرّة الواحدة و صحة الصلاة يقول ذلك في صلاة روعي فيها الجلسة.

و فيه ما تقدّم من الجواب و أنّ القائل منهما بعدم وجوب الجلسة و التسبيحات ثلاث مرّات يقول ذلك فيما إذا لم يكن للمكلّف عذر في ترك الثلاث؛ و لذا لو سئل المجتهد المفروض عمّن ترك التسبيحات ثلاثاً لعذر و ترك الجلسة أيضاً في صلاته يفتي بصحة تلك الصلاة أخذاً بحديث «لا تعاد» «2» و كذلك الأمر في ناحية من يكتفي بالمرّة و لكن يلتزم بوجوب الجلسة.

و بتعبير آخر من يفتي بعدم وجوب الجلسة لا يقيّد عدم وجوبها بصورة الإتيان بالتسبيحات ثلاثاً بحيث لو لم يأت بها ثلاثاً فالجلسة واجبة بل فتواه عدم وجوب الجلسة مطلقاً، كما أنّ فتوى من يقول بعدم وجوب التثليث لم يعلّق عدم وجوبه على صورة الإتيان بالجلسة، و لا يلزم على العاميّ على الفرض إلّا تعلّم الأجزاء و الشرائط و الموانع للصلاة بالتقليد، و ليست الصحة أمراً زائداً على الإتيان بالصلاة بالأجزاء

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة 1: 409- 410.

(2) وسائل الشيعة 1: 371، الباب 3 من أبواب الوضوء، الحديث 8.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 148

[لا يخفى أنّ تشخيص موارد الاحتياط عسر على العاميّ]

(مسألة 66) لا يخفى أنّ تشخيص موارد الاحتياط عسر على العاميّ؛ إذ لا بد فيه من الاطّلاع التامّ (1)، و مع ذلك قد يتعارض الاحتياطان فلا بدّ من الترجيح، و قد

______________________________

و الشرائط التي على طبق الفتوى المعتبرة في حقّه.

و قد يقال إذا كان الاختلاف بينهما في الجزء الركنيّ

أو القيد الركنيّ بحيث لو أتى بالعمل الواحد على تقليدهما على نحو التبعيض لكان ذلك العمل باطلًا عندهما فلا مورد للتبعيض، كما إذا كانت فتوى أحد المجتهدين صحة الحج إذا أدرك الحاج الوقوف الاضطراريّ بالمشعر يوم العيد، و كان أيضاً فتواه أنّ المستحاضة الكثيرة عليها الغسل و الوضوء لطوافه، و المجتهد الآخر يرى عدم إجزاء ذلك الوقوف بمجرّده بل لا بدّ من درك الوقوف الاضطراريّ بعرفة أيضاً ليلة العيد، و لكن التزم باكتفاء الوضوء لطواف المستحاضة حتى فيما إذا كانت الاستحاضة كثيرة، فالمرأة المستحاضة كذلك إذا أدركت الوقوف بالمشعر يوم العيد قبل الزوال و توضّأت لطوافها فقط أخذاً في الوقوف بفتوى المجتهد الأوّل، و في اعتبار الطهارة لطوافها بفتوى الآخر، فإنّ الحج كذلك يبطل عند كلا المجتهدين، اللهم إلّا أن يلتزم بالإجزاء حتّى في هذه الصورة لاحتمال الصحة الواقعيّة حيث يمكن أن يكون حجّها واقعاً صحيحاً، و قد أتت ببعضه بفتوى المجتهد الأوّل و البعض الآخر بفتوى المجتهد الثاني، و لكن في دعوى الإجماع على التخيير بين المجتهدين المتساويين على تقدير ثبوتها بالإضافة إلى العمل الواحد إشكال خصوصاً إذا كان الاختلاف في القيود الركنيّة.

تشخيص موارد الاحتياط

(1) لا يخفى أنّه يكفي في الاحتياط المبرئ للذمّة الاحتياط في فتاوى العلماء الذين يحتمل وجود الأعلم بينهم في عصره أو أحرز ذلك، و أمّا فتاوى الآخرين الذين

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 149

لا يلتفت إلى إشكال المسألة حتى يحتاط، و قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط، مثلًا: الأحوط ترك الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لكن إذا فرض انحصار الماء فيه الأحوط التوضؤ به، بل يجب ذلك بناءً على كون احتياط الترك

استحبابيّاً، و الأحوط الجمع بين التوضّؤ به و التيمّم. و أيضاً الأحوط التثليث في التسبيحات الأربع، لكن إذا كان في ضيق الوقت، و يلزم من التثليث وقوع بعض الصلاة خارج الوقت فالأحوط ترك هذا الاحتياط، أو يلزم تركه، و كذا التيمّم بالجصّ خلاف الاحتياط، لكن إذا لم يكن معه إلّا هذا فالأحوط التيمّم به، و إن كان عنده الطين مثلًا فالأحوط الجمع و هكذا.

______________________________

احرز أنّهم لا يبلغون في الفضل العلماء المذكورين فلا موجب للاحتياط برعاية فتاويهم، و هذا النحو من الاحتياط داخل في المسألة المتقدّمة في أوائل مسائل التقليد من لزوم كون المكلّف في عباداته و معاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً حيث إنّ رعاية أحوط الأقوال من المجتهدين المذكورين لا يدخل في التقليد على ما تقدّم من أنّ التقليد المعتبر شرعاً هو الأخذ بالفتوى للعمل بها بحيث يكون العاميّ بعد الأخذ عالماً بالحكم الشرعيّ في الواقعة.

و الآخذ بالاحتياط بحسب فتاويهم يراعي فتوى ذلك المجتهد، لاحتمال أنّ ما أفتى به من التكليف ثابت في الواقع ليكون قصده رجاءً بإصابة الواقع المعبّر عن ذلك بالاحتياط.

و على الجملة لا يتعيّن على العاميّ التارك للتقليد رعاية الاحتياط في الوقائع على ما ذكره الماتن قدس سره.

ثمّ إنّ الاحتياط حتى بهذا النحو أيضاً قد لا يتيسّر على العاميّ فلا بدّ في بعض الموارد من التقليد مثلًا إذا كان عند المكلّف الجصّ و الطين فقط فإن جمع بين التيمّم

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 150

[مورد التقليد هو الأحكام الفرعيّة العمليّة]

(مسألة 67) محلّ التقليد و مورده هو الأحكام الفرعيّة العمليّة فلا يجري في اصول الدّين (1)

______________________________

بكلّ منهما تقع بعض صلاته خارج الوقت، و في مثل ذلك لا مناص إلّا

من التقليد ممّن توفّرت فيه الشروط المعتبرة في جواز التقليد، و إذا لم يتيسّر له التقليد منه فلا بدّ من التيمّم بأحدهما و قضاء تلك الصلاة في خارج الوقت بالطهارة المائيّة إذا لم يحرز بعد العمل أنّ عمله كان مطابقاً لفتوى من يكون واجداً لشرائط التقليد. و الوجه في وجوب القضاء جريان الأصل بعد التيمّم بأحدهما في ناحية عدم كونه طهوراً فتدبّر.

التقليد في فروع الدين

(1) قد تقدّم أن ما يستفاد منه مشروعيّة التقليد من الروايات مقتضاها تعلّم العاميّ معالم دينه ممّن يعلمها على ما تقدّم من الامور المعتبرة في العالم بها من حلال الشريعة و حرامها في الوقائع التي يبتلى بها أو يحتمل ابتلاءه بها، و كذا ما يكون من الأحكام الفرعيّة العمليّة أو ملحقاً بها ممّا يأتي بيانها، و أمّا ما يكون من اصول الدين و المذهب مما يكون المطلوب فيها تحصيل العلم و المعرفة و الاعتقاد و الإيمان بها فلا يكون التقليد فيها مشروعاً، بمعنى أن قول الغير فيها لا يحسب علماً و عرفاً و اعتقاداً و إيماناً.

نعم، إذا كانت أقوال الصالحين من العلماء العاملين المتّقين في طول الأعصار و كذا الشهداء و الزهاد موجباً للإنسان اليقين و الاعتقاد باصول الدين و المذهب بحيث صار الإنسان على معرفة و يقين و اعتقاد بأنّه لو لم يكن ما ذكروه في اصول الدين و المذهب حقّاً لما كان هؤلاء في دار الدنيا متعبين في طريق الدين و المذهب فأيقن أو اعتقد بها، كفى ذلك ممّا يجب على المكلّف بالإضافة إلى اصول دينه و مذهبه، و ليس

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 151

و في مسائل اصول الفقه (1) و لا

في مبادئ الاستنباط من النحو و الصرف و نحوهما، و لا في الموضوعات المستنبطة العرفيّة أو اللغويّة و لا في الموضوعات الصرفة. فلو شكّ المقلّد في مائع أنّه خمر أو خلّ مثلًا، و قال المجتهد: إنّه خمر، لا يجوز له تقليده. نعم من حيث إنّه مخبر عادل يقبل قوله، كما في إخبار العاميّ العادل و هكذا، و أمّا الموضوعات المستنبطة الشرعيّة كالصلاة و الصوم و نحوهما فيجري التقليد فيها كالأحكام العمليّة.

______________________________

هذا من التقليد فيهما، فإنّ التقليد كما تقدّم الأخذ بقول الغير تعبّداً أي من غير يقين و دليل عنده على صحّة ذلك القول و كونه حقّاً مطابقاً للواقع، و إنّما يكون الأخذ بقوله للدليل عنده على اعتباره في حقّه و إن لم يكن حقّاً واقعاً.

و بتعبير آخر الدليل عند العاميّ إنّما على الأخذ بقوله لا على نفس قول الغير في مورد مشروعيّة التقليد، و دعوى أنّه لا يكفي اليقين و الاعتقاد الناشئ من قول الغير في الاعتقاديّات من اصول الدين و المذهب استظهاراً من الكتاب المجيد: «قٰالُوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ» «1» «بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ» «2»، لا يمكن المساعدة عليها، فإنّه قد تقدّم أنّه لا يستفاد منهما عدم اعتبار العلم و اليقين و الاعتقاد الحاصل مما ذكرنا، و ظاهر الآية تعبّد الجاهل بقول جاهلين مثله كما لا يخفى.

لا تقليد في أُصول الفقه

(1) كما إذا لم يتمكّن عالم من الجزم بامتناع اجتماع الأمر و النهي أو جوازه فقلّد

______________________________

(1) سورة الزخرف: الآية 22.

(2) سورة البقرة: الآية 170.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص:

152

..........

______________________________

من هو أعلم في مسائل اصول الفقه، و كان هذا الأعلم يقول بجواز الاجتماع فيها إذا كان التركيب في مورد الاجتماع انضماميّاً، و بالامتناع فيما إذا كان التركيب فيه اتحاديّاً، و فرض أنّ العالم المفروض يتمكن من تشخيص موارد التركيب الاتحاديّ و التركيب الانضماميّ في مسائل الفقه، فهل يجوز له بعد التقليد في المسألة الاصوليّة و استنباط الحكم الفرعيّ العمل بما استنبطه أو لا يجزي في عمل نفسه فضلًا عن رجوع الغير له؟

و الظاهر إمكان هذا النحو من التقليد. و ما يقال من عدم حصول الاقتدار على التطبيقات و التفريعات في نتائج المسائل الاصوليّة بلا حصول الاقتدار على نفس المسائل الاصوليّة، و يمكن العكس بأن لا يتمكّن من الاستنباط في الأحكام الفرعيّة من مداركها في جملة من الموارد، و لكن يكون مجتهداً في نفس المسائل الاصوليّة لا يمكن المساعدة عليه.

نعم، جلّ المسائل الاصوليّة هو ممّا يكون العلم بنتائجها الكلّية بالاستدلال فيها مقدّماً على الاجتهاد في المسائل الفرعيّة و ذلك لكثرة المسائل الفرعيّة، و الاتقان في تطبيقات قواعد الاصول فيها يحتاج إلى الإحاطة الكاملة بخصوصيّات المسائل و صعوبة ملاحظة النسبة في كثير من المسائل الفرعيّة التي تتعدّد في كلّ منها الخطابات الشرعيّة المختلفة بحسب الظهورات الاستعماليّة.

و على أيّ حال يمكن تجويز التقليد في المسائل الاصوليّة في الجملة، و لا يكون التجويز لغواً إلّا أنّ عمدة الدليل على جواز التقليد ما في الروايات من أخذ معالم الدين و حلاله و حرامه ممن يعلمها، و صدق معالم الدين على ما يلتزم به الاصوليّ من التزامه بامتناع الاجتماع أو ثبوت الملازمة بين إيجاب الشي ء و إيجاب مقدّمته مطلقاً أو ما إذا كانت موصلة أو بقصد التوصل غير محرز،

و مجرّد عدم الإحراز كاف في الالتزام بعدم

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 153

..........

______________________________

جواز التقليد فيها، و ما يستنبط من الخطابات بضميمة التقليد المتقدّم لا يكون علماً بالحكم الشرعي، لا وجداناً لما هو الفرض، و لا اعتباراً لعدم ثبوت الاعتبار في البناء على الكبرى التي هي قول الغير في المسألة الاصوليّة.

أمّا التقليد في الموضوعات فقد قسّم الموضوعات على ثلاثة أقسام:

الموضوعات المستنبطة الشرعية، و الموضوعات المستنبطة العرفيّة و اللغويّة، و الموضوعات الصرفة، فقد التزم قدس سره بجواز التقليد في الموضوعات المستنبطة الشرعية كالتقليد في نفس الأحكام الشرعيّة، و بعدم جريان التقليد في غيرها من المستنبطات العرفيّة و اللغويّة و الموضوعات الصرفة.

أمّا جريانه في القسم الأوّل فإنّ تلك الموضوعات إمّا من مخترعات الشارع و اعتباراته كالصلاة و الصوم و غيرهما من العبادات أو من غير العبادات كالذكاة للذبيحة فاللازم تعلّمها ممن علم بها من مداركها الشرعيّة.

و أمّا الموضوعات الصرفة التي تكون مفاهيمها مرتكزة معلومة عند الأذهان بحيث لا إجمال فيها، و إنّما يكون الجهل في انطباق ذلك العنوان على الخارج للجهل بشي ء من جهات ما في الخارج، كما هو الحال في الشبهات الخارجيّة، فهذه الموضوعات خارجة عن موارد التقليد الذي هو رجوع الجاهل بالحكم الشرعيّ المجعول في الشرع إلى العالم به، فقول المجتهد مشيراً إلى مائع أنّه خمر كإخبار ثقة بأنّه خمر.

و أمّا الموضوعات المستنبطة العرفيّة أو اللغويّة، ككون الغناء مطلق كيفيّة الصوت المقتضي للطرب بمعنى خروج النفس عن الاعتدال، أو كيفيّته التي تشتمل

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 154

[لا يعتبر الأعلميّة فيما أمره راجع إلى المجتهد إلّا في التقليد]

(مسألة 68) لا يعتبر الأعلميّة فيما أمره راجع إلى المجتهد إلّا في التقليد، و أمّا الولاية على

الأيتام و المجانين و الأوقاف التي لا متولّي لها و الوصايا التي لا وصي لها و نحو ذلك فلا يعتبر فيها الأعلمية، نعم الأحوط في القاضي أن يكون أعلم من في ذلك البلد أو في غيره مما لا حرج في الترافع إليه (1).

______________________________

على الترجيع و ترديد الصوت في الحلق و إن لم يكن في كلام باطل، أو خصوص ما كان في كلام باطل، و كون الكنز مطلق المال المذخور في الأرض أو خصوص المذخور فيها من الذهب و الفضة، و كون الصعيد مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب و الرمل، فالصحيح جريان التقليد فيهما؛ لأنّ مع إفتاء المجتهد بإطلاق الحكم أو خصوصه مع احتمال كون ما أفتى به هو الحكم الكلّي الفرعيّ في الواقعة يكون ذلك طريقاً متّبعاً بالإضافة إلى العاميّ بلا فرق بين أن يذكر الغناء مطلق كيفيّة الصوت المقتضي للطرب أو يقول هذه الكيفيّة حرام، فمع عدم العلم بالخلاف كما هو الفرض يجب الأخذ به.

و ممّا ذكرنا يظهر الحال في التقليد في أحوال الرجال في أسناد الروايات، فإنّ إحراز عدالتهم أو وثاقتهم كإحراز العدالة و الوثاقة في سائر الموارد لا تعدّ من الامور التي يرجع فيها إلى أهل خبرتها، بل العدالة و الوثاقة من الامور التي تثبت بخبر العدل بلا واسطة أو معها و يحرز بحسن الظاهر، و ليستا من الامور التي تحتاج إلى إعمال الحدس من أشخاص خاصّة، و لا يصل الأمر إلى دعوى انسداد باب العلم في الرجال، مع أنّه لو كان انسداد لم يثبت فيها جواز التقليد و لا اعتبار مطلق الظنّ فيها على ما تقرّر ذلك عند البحث في مقدّمات دليل الانسداد في الأحكام.

عدم اعتبار الأعلمية في الامور الحسبية

(1) قد يذكر في المقام دعوى الإجماع على عدم اعتبار الأعلميّة في ما أمره راجع

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 155

..........

______________________________

إلى الحاكم الشرعيّ في غير مسألة التقليد في الأحكام الشرعيّة على ما تقدّم، و لكنّ الإجماع على تقديره غير مفيد في المقام، فإنّه من المحتمل جدّاً التزام الجلّ ممن تعرّضوا لذلك لإطلاق بعض الأخبار كإطلاق التوقيع: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» «1» و ما ورد من أنّ العلماء ورثة الأنبياء «2» و أنّهم خلفاء النبي صلى الله عليه و آله و أنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام «3» و أنّ مجاري الامور و الأحكام بيد العلماء «4». و ما ورد من ثبوت منصب القضاء للفقيه على ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة «5» و معتبرة أبي خديجة «6» و غيرها، و الظاهر أنّ الولاية للُامور المشار إليها من شئون ثبوت منصب القضاء، و كان المتصدّي لها القضاة، كما يفصح بذلك بعض الروايات كصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: «مات رجل من أصحابنا و لم يوص فرفع أمره إلى قاضي الكوفة فصيّر عبد الحميد القيّم بماله، و كان الرجل خلّف ورثة صغاراً و متاعاً و جواري، فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيته، و كان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهنّ فروج، قال:

فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه السلام [إلى أن قال عليه السلام]: إذا كان القيّم به مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» «7».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 140، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

(2) المصدر المتقدم: 78، الباب 8، الحديث 2.

(3) انظر

وسائل الشيعة 3: 283، الباب 88 من أبواب الدفن، الحديث الأول.

(4) بحار الأنوار 100: 80.

(5) وسائل الشيعة 27: 13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.

(6) المصدر السابق: الحديث 5.

(7) المصدر السابق 17: 363، الباب 16 من أبواب عقد البيع، الحديث 2.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 156

..........

______________________________

أقول: قد تعرّضنا للأخبار الواردة في كون العلماء ورثة الأنبياء و نحوها في بحث ولاية الفقيه في «إرشاد الطالب» «1»، و ذكرنا أنّه لا يتمّ الاستناد إلى شي ء منها في الالتزام بثبوت ولاية النبيّ صلى الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام للفقيه العادل بلا فرق بين زمان الحضور و زمان الغيبة، و أنّ غاية ما يستفاد منها أنّ ما على الانبياء في أمر تبليغ الدين و إرشاد الناس و هدايتهم من بعدهم على العلماء، و أمّا الولاية الثابتة للنبيّ صلى الله عليه و آله و الإمام عليه السلام من كون أمره الولائيّ واجب الاتّباع حيث إنّهم عليهم السلام قوم فرض اللّٰه طاعتهم فلم تثبت ذلك للفقيه فضلًا عن الولاية على التصرف، و يشهد لذلك إطلاق تلك الأخبار و شمولها حتى لزمان الأئمّة عليهم السلام، و غاية ما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة و معتبرة أبي خديجة نفوذ قضاء الفقيه و فصل خصومته و أنّ له ولاية القضاء بالنصب العامّ و لم يظهر منهما أو من غيرهما إعطاء الولاية في أموال القصّر و الأوقاف مع عدم القيّم و المتولّي للفقيه. و التوقيع المتقدّم و إن كان ظاهراً في غير ذلك إلّا أنّ السند فيه غير تامّ، و وقوع بعض التصرّفات من المنصوبين للقضاء من قبل ولاة الجور و إن لا يقبل

الإنكار، إلّا أنّه لم يثبت إعطاء الولاية لهم من قبلهم لدخولها في منصب القضاء، بل من المحتمل أنّها كانت منصباً زائداً كان يعطى لهم، و على تقديره فتلك كانت في المنصوب بنصب خاصّ لا ما إذا كان بالنصب العامّ.

و على الجملة بما أنّ هذه الولاية مخالفة للأصل فلا بدّ من الاقتصار على مورد اليقين، و هو ما إذا كان المتصرّف في تلك الامور الفقيه و لو بغير المباشرة من التوكيل و الإجازة لمن يقوم بها، و لكن لا تعتبر الأعلميّة في المجيز و من يرجع إليه في التوكيل

______________________________

(1) إرشاد الطالب 3: 26 فما بعد.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 157

..........

______________________________

و الإذن أو النصب على ما مرّ؛ لأنّه لا يحتمل أن يكون جميع الامور الحسبيّة في جميع أرجاء العالم بيد شخص واحد.

نعم، في الأمر الذي يريد الشخص التصدّي له إن كان من الامور المهمّة جدّاً كحفظ نظام البلاد و ترتيب امور نظمها و المحافظة على أمنها و تهيئة الاستعدادات اللازمة للدفاع عنها و منع نشر الفساد و إقامة مراكزه فيها فلا يبعد اعتبار إجازة الأعلم و أنّ له إجازة التصدّي للغير إذا كان الغير أهلًا له، و أنّ عليه الامتناع عن الإجازة إذا لم يحرز الأهليّة فيمن يستجيزه.

عدم اعتبار الأعلمية في القضاء

هذا بالإضافة إلى الامور الحسبيّة، و أمّا بالإضافة إلى القضاء فلا يعتبر فيه الأعلميّة كما هو مقتضى الإطلاق في مقبولة عمر بن حنظلة، و إطلاق معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم حيث ورد في الاولى: «ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا» «1» و في الثانية: «انظروا إلى رجل

منكم يعلم شيئاً من قضايانا» «2» و الشي ء و إن كان نكرة يعمّ الشي ء اليسير إلّا أنّه قد تقدّم أنّه بالإضافة إلى علم قضايا الأئمة عليهم السلام فلا ينافي كثرته في نفسه. و على تقدير الإغماض يقيّد بما ورد في المقبولة: «نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا».

و ما ورد في المقبولة من فرض العلم بالمخالفة في القضاء و الأمر بالرجوع إلى الأعدل و الأفقه لا يعمّ فرض عدم العلم بالمخالفة مع فرض الشبهة فيه حكميّة كما هو

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 34، الباب 2 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 12.

(2) وسائل الشيعة 27: 13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 158

..........

______________________________

مقتضى اختلاف الفقيهين في حديثهم عليهم السلام، و أمّا ما في العهد المعروف إلى مالك الاشتر: «اختر للقضاء أفضل رعيّتك» «1» فهو و إن كان معتبراً من حيث السند حيث إنّ الشيخ قدس سره ذكر له طريقاً معتبراً، و عدم الإشارة إلى الاختلاف في متن العهد، و أنّه يروى بالطريق المعتبر العهد المعروف دليل على عدم الخلاف في متنه، إلّا أنه لا دلالة له على أنّ وظيفة المترافعين المراجعة في القضاء إلى الأفضل، بل غاية ما يستفاد منه هو أنّ على الوالي الذي عليه تعيين القاضي للبلد بالنصب الخاصّ أن يعيّن الأفضل، و الكلام في المقام في الرجوع إلى القاضي المنصوب بنصب عامّ.

ثمّ إنّه قد يعدّ من الامور الحسبيّة التي يرجع في التصرف فيها إلى الفقيه السهم المبارك للإمام من الخمس، أو أنّه و إن لم يكن من تلك الامور إلّا أنّه إذن الفقيه معتبر في التصرّف فيه في زمان الغيبة و

عدم حضور الإمام عليه السلام.

في الخمس

و ينبغي في المقام الكلام في سهم الإمام عليه السلام من الخمس أوّلًا، و التكلّم في أنّه كيف يتصرّف فيه زمان الغيبة، فنقول المشهور بين أصحابنا أنّ الخمس يقسّم على ستّة أسهم ثلاثة منها للّٰه و لرسوله و الإمام عليه السلام فإنّ ما كان للّٰه بملكيّة اعتباريّة يصل النبيّ صلى الله عليه و آله و ما كان للنبيّ صلى الله عليه و آله وصولًا و أصالة يصل إلى الإمام عليه السلام، فيكون نصف الخمس ملك الإمام بعنوان أنّه الإمام المنصوب بعد النبيّ بحسب العصور و الأزمنة، و ثلاثة أسهم منه للأيتام و المساكين و أبناء السبيل ممن ينتسب إلى هاشم بالابوّة، و لزوم اعتبار الخمس ستة أسهم كما ذكرنا هو المشهور بين الأصحاب و استظهر ذلك من

______________________________

(1) نهج البلاغة: من كتاب له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي، الكتاب رقم (53).

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 159

..........

______________________________

ظاهر الآية المباركة: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» «1»، مضافاً إلى دلالة بعض الروايات.

و ربّما ينسب الخلاف إلى ابن الجنيد و أنّه قال: السهام في الخمس خمسة، بحذف سهم اللّٰه، و عن «المدارك» الميل إليه، و قد تعرّضنا لذلك في بحث قسمة الخمس من مباحث كتاب الخمس، و بيّنا أنّ نصف الخمس يعني سهم اللّٰه و سهم الرسول وذي القربى المعبر عنه بسهم الإمام عليه السلام يصل إلى الإمام عليه السلام، و أنّ نصفه الآخر يعني سهم اليتامى و المساكين و ابن السبيل المعبّر عنه بسهم السادات يصرف و يعطى الهاشميّ منهم أي

من ينتسب إلى هاشم من جهة الأب، و في موثقة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لو كان العدل ما احتاج هاشمي و لا مطّلبي إلى صدقة، إنّ اللّٰه جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم» «2»، و نحوها غيرها. و من الظاهر أنّ المجعول لهم في الكتاب ما في آية الخمس.

و المحكيّ عن ابن الجنيد أنّ السهام في الخمس خمسة، بحذف سهم اللّٰه تعالى، و عن «المدارك» الميل إليه لصحيحة ربعي بن عبد اللّه بن الجارود عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله إذا أتاه المغنم أخذ صفوه و كان ذلك له ثمّ يقسم ما بقي خمسة أخماس و يأخذ خمسه ثمّ يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه ثمّ قسّم الخمس الذي أخذه خمسة أخماس يأخذ خمس اللّٰه عزّ و جلّ لنفسه ثمّ يقسم الأربعة أخماس بين ذوي القربى و اليتامى و المساكين و أبناء السبيل يعطى كلّ واحد منهم حقّاً

______________________________

(1) سورة الأنفال: الآية 41.

(2) وسائل الشيعة 9: 276- 277، الباب 33 من أبواب المستحقين للزكاة، و فيه حديث واحد.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 160

..........

______________________________

و كذلك الإمام يأخذ كما أخذ الرسول» «1».

و فيه أنّ مدلولها اكتفاء رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله بسهم اللّٰه سبحانه و أنّه كان يترك سهمه، و حيث إنّ سهم النبيّ صلى الله عليه و آله ملكه فله وضعه كيف ما شاء، فلا دلالة لها على أنّ فعله صلى الله عليه و آله كان واجباً عليه، و ما في ذيلها: و كذلك الإمام أخذ كما أخذ الرسول، لم يكن بياناً للحكم

الواجب على الإمام عليه السلام في الخمس فضلًا عن صفو المال من المغنم.

و على الجملة ففي الآية المباركة و لو بملاحظة الروايات الواردة في قسمة الخمس ظهور و دلالة على كون الخمس على ستّة أسهم، و ورد في روايات منها صحيحة البزنطي عن الرضا عليه السلام: أنّ ما كان للّٰه و للرسول يصل إلى الإمام عليه السلام حيث سئل عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جلّ: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِهِٰ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ» فقيل له: فما كان للّٰه فلمن هو؟ فقال: «لرسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و ما كان لرسول اللّٰه فهو للإمام» «2» كما أنّ المراد بذي القربى في الآية الأئمة عليهم السلام كما يظهر ذلك من غير واحدة من الروايات، و هذه السهام الثلاثة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله للإمام من بعده و للإمام من بعد الإمام، و في مرسلة حماد بن عيسى عن العبد الصالح عليه السلام في حديث طويل قال: «و له [يعني للإمام] نصف الخمس كملًا، و نصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم و سهم لمساكينهم و سهم لأبناء سبيلهم يقسّم بينهم على الكتاب و السنة ما يستغنون به في سنّتهم» «3» و قد تقدّم في موثقة زرارة: «لو كان العدل ما احتاج هاشمي و لا مطّلبي إلى صدقة، إن اللّٰه جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 9: 510، الباب الأول من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3. و انظر المدارك 5: 396.

(2) المصدر السابق: 512، الحديث 6.

(3) الكافي 1: 619، الباب 186، الحديث 4.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص:

161

..........

______________________________

ثمّ إنّه لا ينبغي التأمّل في جواز تصدّي مالك المال لدفع نصف الخمس يعني سهم اليتامى و المساكين و ابن السبيل إليهم زمان عدم حضور الإمام و عدم التمكّن من إيصال هذه السهام الثلاثة إليه- بناءً على ما ذكرنا من عدم ثبوت الدليل على الولاية العامّة للفقيه العادل و نيابتهم عن الإمام عليه السلام بالنيابة العامّة- فإنّ مقتضى الآية المباركة و الروايات المشار إليها أنّ نصف الخمس إنّما جعل لسدّ حوائج اليتامى و المساكين و أبناء السبيل من السادات، كما يشهد لذلك صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

«إنّه لو كان العدل ما احتاج هاشمي و لا مطّلبي إلى صدقة، إنّ اللّٰه جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم، ثمّ قال: إنّ الرجل إذا لم يجد شيئاً حلّت له الميتة، و الصدقة لا تحلّ لأحد منهم إلّا أن لا يجد شيئاً و يكون ممّن يحلّ له الميتة» «1».

و هذه الصحيحة و مثلها بضميمة ما تقدّم من كون السهام الثلاثة للإمام عليه السلام تدلّ على قسمة الخمس على ستة أقسام و أنّ سهم السادة تعويض عن الزكاة التي يكون فيها للمالك أكثر المال و له الولاية على إخراجها؛ و لأنّ الشركة في كلّ من الزكاة و الخمس بحسب الماليّة، لا من قبيل الإشاعة في العين حتى لا يجوز لأحد الشريكين و لو كان سهمه أكثر التصرّف في بعض المال بلا إذن شريكه، فإنّ الشركة في العين بحسب الماليّة مقتضاها إخراج الزكاة و الخمس من العين أو من قيمتها، و يجوز التصرّف في المال بعد إخراج سهم الغير و لو بالقيمة- و لو قلنا بأنّ تعلّق الخمس أو الزكاة بالمال بنحو الكلّي في

المعيّن جاز التصرّف و لو قبل الإخراج- كما يدلّ على ذلك صحيحة محمد بن خالد البرقي قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام هل يجوز أن أخرج عما

______________________________

(1) مرّ تخريجه قبل قليل.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 162

..........

______________________________

يجب في الحرث من الحنطة و الشعير و ما يجب على الذهب، دراهم بقيمة ما يسوى؟

أم لا يجوز إلّا أن يخرج من كلّ شي ء ما فيه؟ فأجاب عليه السلام: «أيّما تيسّر يخرج» «1».

و على الجملة مقتضى الإشاعة في ماليّة العين كما في إرث الزوجة من البناء دفع القيمة، و أنّه إذا كان من بيده المال الذي فيه حقّ من سهم الغير بنحو الإشاعة في الماليّة يجوز أن يدفع سهمه بالقيمة.

و الحاصل إذا كان مدلول الآية المباركة و لو بملاحظة الروايات الواردة في تفسيرها و ملاحظة صحيحة زرارة المتقدّمة أنّ نصف الخمس و لو بالقيمة سهم السادات الكرام، يجب على الذي أكثر المال له إيصال هذا السهم إليهم.

و ما دلّ على ولاية الإمام عليه السلام على ذلك السهم و وجوب إيصاله إلى الإمام عليه السلام كصحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «خذ مال الناصب حيثما وجدته و ادفع إلينا الخمس» «2». و في صحيحة علي بن مهزيار قال: «قال لي أبو علي بن راشد قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم:

و أيّ شي ء حقّه؟ فلم أدر ما اجيبه، فقال: يجب عليهم الخمس» «3» الحديث، غاية ما يستفاد منه إيصال سهم السادات أيضاً إلى الإمام عليه السلام و لو مع التمكّن من الإيصال إلى وكلائهم، و أمّا مع عدم إمكانه و انتهاء

أمر الوكالة كما في زمان الغيبة الكبرى يكون مقتضى الآية المباركة بضميمة مثل صحيحة زرارة المتقدّمة إيصال المالك و دفعه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 9: 167، الباب 14 من أبواب زكاة الذهب و الفضة، الحديث الأول.

(2) المصدر السابق: 487- 488، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.

(3) المصدر السابق: 500، الباب 8، الحديث 3.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 163

..........

______________________________

سهمهم إليهم، و لا ننكر أنّ الدفع إليهم بالاستيذان ممّن يلزم إيصال سهم الإمام إليه زمان الغيبة- على ما نذكر- أحوط، و أمّا بالإضافة إلى سهم الإمام عليه السلام فلا يجري فيه حكم المال المجهول مالكه، نظير مال الغير الذي بيد الإنسان و لا يمكن إيصاله إليه لجهالة مكانه و عدم إمكان إحرازه، حيث إنّ جهة صرف المال معلوم في الجملة كغيره من المال المجهول مالكه مع العلم بجهة صرفه الذي عيّنه ذلك المالك.

و يبقى في البين دعوى الجزم بأنّ الإمام عليه السلام راض و صادر منه الإذن في التصرّف في ذلك السهم في امور، من ترويج أحكام الشريعة و تثبيت أمر المذهب و نشره حتّى في الأجيال الآتية من المؤمنين بتربية علماء الدين و المذهب و تبيين معتقدات الشيعة و طريق عرفانهم حجج اللّٰه بعد نبيّهم و إيصال و إبقاء آثار أهل البيت و إنقاذ المضطرّين و رفع اضطرارهم و ابتلاءاتهم إلى غير ذلك من المهمات التي ترجع كلّها إلى أمر ترويج الدين و المذهب و نشره في الأجيال و البلاد و القرى و إنقاذ المضطرّين من المؤمنين بقضاء حوائجهم الضروريّة، و حيث إنّ المتصرّف في السهم المبارك غير مالك بل هو ملك الإمام عليه السلام و لو بعنوان

الإمامة فاللازم أن يكون المتصرّف من يعلم برضاء الإمام عليه في تصرّفه على ما ذكر، و المتيقّن هو الذي يرجع إليه في أخذ الفتوى لاحتمال دخالته في الرضا بالتصرّف، حيث إنّ إيصال السهم المبارك إلى يد وكلائه الثقات و رعاية نظره في التصرّف يوجب عزّ المذهب و يعرف المذهب بعظمة هؤلاء الرجال كما يعرف كلّ من الأقوام برئيسهم، و إذا احتمل دخالة هذا الأمر في رضاء الإمام عليه السلام فلا يجوز التصرّف فيه بطريق آخر؛ لأنّ القاعدة الأوّليّة عدم جواز التصرّف في مال الغير، و لا يجري هذا بالإضافة إلى سهم السادة الكرام؛ لما ذكرنا من ثبوت الإطلاق في وجوب إخراجه و دفعه و عدم ثبوت التقييد لها بالدفع إلى الامام عليه السلام إلّا بمقدار إمكان

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 164

..........

______________________________

الإيصال إليه عليه السلام.

هذا كلّه على تقدير ثبوت الخمس و التكليف بالأداء كما هو ظاهر الآية المباركة و الروايات الواردة في السؤال عن الخمس و المعادن و الكنز و الغوص و أرباح التجارات و الصناعات من فاضل المؤنة، و لكن ربّما يتوهّم أو يستظهر من بعض الروايات تحليل الخمس أو السهم المبارك للشيعة من ناحية الأئمة عليهم السلام، فلا يكون للمؤمن تكليف بالإضافة إلى الخمس أو السهم المبارك كصحيحة أبي بصير و زرارة و محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام علي بن أبي طالب:

«هلك الناس في بطونهم و فروجهم، لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقّنا، ألا و إنّ شيعتنا من ذلك و آباءهم في حلّ» «1» و صحيحة ضريس الكناسي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «أ تدري من أين دخل

على الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري، فقال: من قبل خمسنا أهل البيت، إلّا لشيعتنا الأطيبين، فإنه محلّل لهم و لميلادهم «2». و معتبرة يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القمّاطين فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأرباح و الأموال و تجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت و إنّا عن ذلك مقصّرون، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «ما انصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» «3»، و معتبرة أبي خديجة سالم بن مكرم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رجل و أنا حاضر حلّل لي الفروج، ففزع أبو عبد اللّه عليه السلام فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق، إنّما يسألك خادماً يشتريها أو امرأة يتزوّجها أو ميراثاً يصيبه أو تجارة أو شيئاً اعطيه، فقال: «هذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 9: 543، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث الأول.

(2) المصدر السابق: 544، الحديث 3.

(3) المصدر السابق: 545، الحديث 6.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 165

..........

______________________________

لشيعتنا حلال، الشاهد منهم و الغائب و الميّت منهم و الحيّ و ما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو حلال، أمّا و اللّٰه لا يحلّ إلّا لمن أحللنا له» «1» الحديث، و في مقابل ذلك روايات تدلّ على إيصال الخمس و حقّ الإمام عليه السلام إليه و جملة من الروايات في صورة كون المال للشيعة كصحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «خذ مال الناصب حيثما وجدته و ادفع إلينا الخمس» «2»، و ما في صحيحة علي بن مهزيار بعد عدّ ما يجب فيه في كلّ عامّ من الخمس كتب عليه السلام: «فمن كان

عنده شي ء من ذلك فليوصله إلى وكيلي» «3».

و على الجملة قضية وكلاء الأئمة عليهم السلام و أنّهم كانوا يأخذون الحقوق للإمام عليه السلام و كان عمدتها الخمس من الواضحات، و شي ء من ذلك لا يجتمع مع الأمر بالتحليل المتوهّم من الروايات المتقدّمة، بل أمر الإمام عليه السلام مواليه بإيصال الخمس إلى وكيله أو دفعه إليه، كما هو ظاهر صحيحة علي بن مهزيار، و أنّ ما يصل إليه في كلّ عام بعنوان الربح و الفائدة أو سائر العناوين الراجعة إلى الدخول في عنوان الفائدة هو المراد من الغنيمة.

و أمّا أخبار التحليل فهي ناظرة إلى تحليل ما يؤخذ من الناس و قد تعلّق الخمس به في أيديهم ثمّ يصل إلى الشيعة منهم فإنّه مورد التحليل، بل ظاهر بعضها عدم اختصاص التحليل بوصول ما فيه الخمس ممن لا يعتقد به، بل يعمّ ما يصل المال المتعلّق به الخمس ممن لا يدفعه كما هو الحال بالإضافة إلى معتبرة أبي خديجة، و ما

______________________________

(1) وسائل الشيعة 9: 544، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 4.

(2) المصدر السابق: 487- 488، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.

(3) المصدر السابق: 501- 502، الباب 8، الحديث 5.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 166

[إذا تبدّل رأي المجتهد هل يجب عليه إعلام المقلّدين أم لا فيه تفصيل]

(مسألة 69) إذا تبدّل رأي المجتهد هل يجب عليه إعلام المقلّدين أم لا؟

فيه (1) تفصيل: فإن كانت الفتوى السابقة موافقة للاحتياط فالظاهر عدم الوجوب، و إن كانت مخالفة فالأحوط الإعلام، بل لا يخلو عن قوّة.

______________________________

ورد ما ظاهره عدم حلّ الخمس فيما كان متعلّقاً به في الأيدي السابقة على تقدير تماميّة السند كرواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: «من

اشترى شيئاً من الخمس لم يعذّره اللّٰه، اشترى ما لا يحلّ له» «1» يحمل على شراء غير الشيعة.

بقي أمر و هو أنّه قد ورد في صحيحة علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر عليه السلام من رجل يسأله أن يجعله في حلّ من مأكله و مشربه من الخمس، فكتب بخطه: «من أعوزه شي ء من حقّي فهو في حلّ» «2» و ظاهرها بإطلاقها يعمّ ما إذا كان حقّه عليه السلام قد انتقل إليه بالشراء و نحوه أو تعلّق حقّه عليه السلام بالمال في يده فتحمل على الصورة الاولى، و مع الإغماض عن ذلك فللإمام عليه السلام الإغماض عن الخمس في حقّ شخص أو جماعة واقعين في الحرج، كما يشهد لذلك صحيحة علي بن مهزيار حيث أوجب الإمام عليه السلام في سنة الكتابة بعض الخمس و أغمض عن بعض آخر.

هل الإعلام واجب عند تبدل رأي المجتهد؟

(1) القائل بوجوب الإعلام عند تبدّل رأي المجتهد إمّا أن يستند إلى عدم جواز التسبيب إلى خلاف الوظيفة الواقعيّة، و أنّ فتوى المجتهد سابقاً مع عدم إعلامه بتبدّل فتواه تسبيب، فعليه أن يفصّل بين أن تكون فتواه السابقة مطابقة للاحتياط أو مخالفة له، فلا يجب الإعلام بالعدول في الأوّل دون الثاني، كما إذا كانت فتواه حرمة العصير بعد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 9: 540، الباب 3 من أبواب الأنفال، الحديث 6.

________________________________________

تبريزى، جواد بن على، تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، در يك جلد، دار الصديقة الشهيدة سلام الله عليها، قم - ايران، اول، 1426 ه ق

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد؛ ص: 166

(2) المصدر السابق: 543، الباب 4، الحديث 2.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و

التقليد، ص: 167

..........

______________________________

غليانه و ذهاب ثلثيه بغير النار ثمّ تبدّل رأيه إلى حلية العصير بعد غليانه و ذهاب ثلثيه و لو بغير النار، فإنّ فتواه سابقاً بالحرمة كانت بحسب ما استفاده من مدارك الأحكام فلم يكن في إظهاره في السابق محذور، و عدم إعلامه بعد تبدّل رأيه ليس فيه أيّ تسبيب إلى مخالفة التكليف الإلزاميّ من ترك الواجب أو الحرام، غاية الأمر أنّ مقلّديه يتركون العصير الذي ذهب ثلثاه بغير النار بعد غليانه بالبناء على حرمته، و هذا البناء منهم لا يتضمّن أيّ محذور لهم لإحرازهم بوجه معتبر حرمته بفتواه السابقة فلا تشريع، و كذا الحال إذا استند القائل بوجوب الإعلام إلى آية النفر «1» حيث يجب على الفقيه في الدين إنذار قومه، و الإبلاغ بالحليّة و الطهارة و نحوهما لا يدخل في عنوان الإنذار.

نعم، إذا كانت فتواه السابقة على خلاف التكليف الإلزاميّ ثمّ تبدّل رأيه إلى التكليف الإلزاميّ أو ما يلزم التكليف الإلزامي يكون مقتضى وجوب الإنذار إعلامه، و كذا مقتضى عدم جواز التسبيب إلى مخالفة التكليف الإلزاميّ.

و لكن لا يخفى أنّ المجتهد لم يكلّف العاميّ العمل بفتواه، بل هو من عنده أحرز أنّه يجوز له العمل بفتواه فيما إذا كانت فتواه السابقة غير إلزاميّة، و المفروض أنّ المجتهد لم يقصّر في فتواه السابقة، بل فحص المقدار اللازم من الفحص و أفتى بحلّية عمل و جوازه، و العاميّ أيضاً أحرز من عنده أنّه يجوز العمل بفتواه، لإحرازه الامور المعتبرة فيه الموضوع لجواز العمل بفتواه.

نعم، إذا سأل أحد المجتهد و اشتبه و أفتى له بخلاف فتواه من الإلزام فعليه أن ينبّه السائل إذا أمكن، نظير ما ذكرنا في اشتباه الناقل في نقل فتوى المجتهد،

و هذا غير مسألة

______________________________

(1) سورة التوبة: الآية 122.

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 168

[لا يجوز للمقلّد إجراء أصالة البراءة أو الطهارة أو الاستصحاب في الشبهات الحكميّة]

(مسألة 70) لا يجوز للمقلّد إجراء أصالة البراءة أو الطهارة أو الاستصحاب في الشبهات الحكميّة (1) و أمّا في الشبهات الموضوعيّة فيجوز بعد أن قلّد مجتهده في حجيّتها، مثلًا: إذا شكّ في أنّ عرق الجنب من الحرام نجس أم لا، ليس له إجراء أصالة الطهارة، لكن في أنّ هذا الماء أو غيره لاقته النجاسة أم لا، يجوز له إجراؤها بعد أن قلّد المجتهد في جواز الإجراء.

______________________________

التبدّل، و أمّا بالإضافة إلى الإنذار فاللازم أن يجعل فتواه اللاحقة إذا كانت إلزاميّة في معرض الوصول، لا إعلام الذين أخذوا منه فتواه السابقة و استمرّوا في العمل على طبقها بمقتضى الاستصحاب في عدم عدوله و بقائه على فتواه.

(1) و الوجه في ذلك أنّ كلّاً من أصالة البراءة و الطهارة و الاستصحاب جريانها عند الشكّ في الشبهات الحكميّة مشروطة بالفحص عن مدارك الأحكام و التكاليف و عدم الظفر بالدليل على الحكم و التكليف في موارد إجرائها، و بما أنّ العاميّ لا يتمكّن من هذا الفحص و إحراز عدم الدليل على التكليف و الحكم الواقعيّ في الوقائع فلا يتمّ في حقّه الموضوع لاعتبار تلك الاصول.

و بتعبير آخر الأخبار الواردة في وجوب تعلّم التكاليف و الأحكام في الوقائع حيث إنّ مدلولها إسقاط عذريّة الجهل بالتكاليف في موارد تمكّن المكلّف من الوصول إلى تلك التكاليف و لو بطريق معتبر، فلا يكون للعاميّ سبيل إلى إجراء تلك الاصول مع تمكّنه من الوصول إلى التكاليف في تلك الموارد بأخذ الفتوى من المجتهد الواجد للشرائط، و كما أنّ المجتهد ليس له إجراء تلك الاصول قبل الفحص عن

مدارك الأحكام، لسقوط جهله بالحكم و التكليف قبل الفحص عن تلك المدارك المعتبرة في حقّه، كذلك لا يجوز للعاميّ و لو كان فاضلًا يعلم باعتبار تلك الاصول إجراؤها قبل الفحص عن فتاوى المجتهد الذي تعتبر فتاواه في الوقائع في حقّه

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 169

[المجتهد الغير العادل أو مجهول الحال لا يجوز تقليده]

(مسألة 71) المجتهد الغير العادل أو مجهول الحال لا يجوز تقليده (1) و إن كان موثوقاً به في فتواه و لكن فتاواه معتبرة لعمل نفسه، و كذا لا ينفذ حكمه و لا تصرّفاته في الامور العامّة، و لا ولاية له في الأوقاف و الوصايا و أموال القصّر و الغيّب.

______________________________

علماً بالواقع.

و هذا بخلاف الشبهات الموضوعيّة الصرفة التي بيّناها سابقاً، فإنّ العاميّ يجوز له الرجوع فيها إلى تلك الاصول عند الشكّ فيها خارجاً بعد أخذ الفتوى من المجتهد بعدم لزوم الفحص فيها، أو مع علمه بعدم لزوم الفحص فيها من جهة كونه فاضلًا قد اجتهد في جريان الاصول العمليّة فيها من غير اشتراط الفحص، كما إذا شكّ في أنّ هذا الماء أو شيئاً آخر لاقى نجساً أم لا، فيبني على طهارته إلى أن يعلم نجاسته إلى غير ذلك.

عدم جواز تقليد المجتهد غير العادل

(1) و ذلك فإنّه مع عدم العدالة لا تكون فتواه معتبرة في حقّ العامي، لما تقدّم من أنّ المعتبر فتوى العادل لا ما يعمّ من يتحرّز عن الكذب خاصّة، و كذلك إذا لم يكن في المجتهد سائر الأوصاف المعتبرة في أخذ الفتوى منه.

نعم، فتواه معتبرة في حقّه؛ لأنّها ممّا أخذها من مدارك الأحكام بطريق متعارف كسائر المجتهدين و إن لم يجز للعاميّ تقليده، و كذا الحال فيما إذا شكّ في عدالته و لم

تكن حالته السابقة العدالة، بلا فرق بين القول بأنّها ملكة أو الاستمرار و الاستقامة في الدين؛ لأنّ كلّاً من العدالة و الاستمرار على الاستقامة أمر حادث مسبوق بالعدم، و لا ينفذ أيضاً قضاؤه و لا تصرّفاته في الامور العامّة و لا يكون له ولاية في التصرّف في الأوقاف و أموال الغيّب و القصّر من باب الحسبة، على ما تقدّم الكلام في وجه جواز

تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، ص: 170

[الظنّ بكون فتوى المجتهد كذا لا يكفي في جواز العمل]

(مسألة 72) الظنّ بكون فتوى المجتهد كذا لا يكفي في جواز العمل، إلّا إذا كان حاصلًا (1) من ظاهر لفظه شفاهاً، أو لفظ الناقل، أو من ألفاظه في رسالته.

و الحاصل أنّ الظنّ ليس حجّة، إلّا إذا كان حاصلًا من ظواهر الألفاظ منه، أو من الناقل.

______________________________

التصرّف فيها.

(1) قد تقدم في بحث الظواهر أنّ المعتبر هو ظهور الكلام الصادر عن الغير أو كلام الناقل عن الغير مع ثبوت اعتبار نقله، و لا يختلف بين أن يكون الكلام الصادر بالتلفظ أو بكتابته، فما لم يحرز بوجه معتبر قرينة على أنّ مراده على خلاف ظاهره يتّبع ظاهر كلامه- سواء حصل الظنّ بأن ظاهر كلامه مراده الجدّي أو لم يحصل- و إذا كان ظاهر كلامه في أمر و لم يظنّ المستمع بأنّ مراده الجدّي هو على طبق ذلك الظاهر فعمل على خلافه يؤاخذه المتكلّم بظاهر كلامه، و اعتذاره بأنّي ما حصلت على الظنّ بالمراد أو كان ظنّي على إرادة خلاف الظهور غير مقبول عند العقلاء، و حيث إنّ الشارع لم يخترع في تفهيم مراداته طريقاً آخر غير ما عند العقلاء من الطريق يكون الأمر بالإضافة إلى ظهورات الخطابات الشرعيّة أيضاً كذلك، فالملاك في الاعتذار و الاحتجاج

هو ظهورات الخطابات و الكلام الصادر عن المتكلّم مع عدم قرينة معتبرة على إرادة المتكلّم خلاف الظهور، و ما في كلام الماتن قدس سره من الاستثناء بقوله: إلّا إذا كان حاصلًا من لفظه، مما يوحي إلى الذهن أنّ الاعتبار بنفس الظنّ الشخصيّ الناشئ من الظهور غير مراد قطعاً، و لعلّ مراده الظنّ النوعيّ الذي مرجعه إلى أصالة التطابق بين الظهور و المراد الجدّي حيث يكون هذا التطابق في نوعه ظنيّاً، و المراد من الظهور الذي يبنى على أنّ المراد الجدّي للمتكلّم على طبقه هو الظهور الاستعماليّ الذي لا من إحرازه و مع عدم القرينة على الخلاف يبنى على التطابق.

________________________________________

تبريزى، جواد بن على، تنقيح مباني العروة - كتاب الاجتهاد و التقليد، در يك جلد، دار الصديقة الشهيدة سلام الله عليها، قم - ايران، اول، 1426 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.