تفسیر سوره الفاتحه

اشارة

سرشناسه : عاملی، جعفرمرتضی، - 1944

عنوان و نام پديدآور : تفسیر سوره الفاتحه/ جعفرمرتضی العاملی

مشخصات نشر : قم: دفتر نشر الهادی؛ بیروت: دار السیره، 1417ق. = 1375.

مشخصات ظاهری : ص 160

شابک : بها:3500ریال

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه: ص. 156 - 153؛ همچنین به صورت زیرنویس

موضوع : تفاسیر (سوره فاتحه)

رده بندی کنگره : BP102/12/ع2ت7 1375

رده بندی دیویی : 297/18

شماره کتابشناسی ملی : م 75-10405

مقدمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و الحمد للّه حمدا كثيرا و سبحان اللّه بكرة و أصيلا، و الصلاة و السّلام على رسوله الذي أرسله بالحق شاهدا و مبشرا و نذيرا، و هاديا بإذنه و سراجا منيرا، و على آله الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

أما بعد ..

فها نحن نقدم للقارئ العزيز، الطبعة الثانية البيروتية من «تفسير سورة الفاتحة» بعد طبعته الأولى في مدينة قم المقدسة، و التي بات من الواضح أنها عبارة عن دروس يقدمها سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي (دام ظله) في درسه التفسيري الأسبوعي.

و تفسير هذه السورة هي أول إصدارات هذه السلسلة، لكن لما كانت الطبعة الأولى قد صدرت في قم المقدسة، و حيث أن المركز الإسلامي للدراسات قد ارتأى نشر جميع هذه السلسلة في بيروت، فقد بات من الضروري إعادة طبع هذا الكتاب في بيروت أيضا ليتسنى للقارئ العزيز الحصول عليها، لا سيما و أن

تفسير سورة الفاتحة، ص: 8

العلامة المحقق يحيل في بعض الأحيان إلى ما ذكره في تفسير هذه السورة.

هذا و لا بد من الإشارة إلى أن المركز الإسلامي للدراسات، قام و بالتنسيق مع سماحته (حفظه المولى) بإجراء بعض الإضافات الضرورية التي كان لا بد منها في بعض الموارد لزيادة البيان

و إيضاح المقصود.

فضلا عن القيام بتصحيح ما كانت قد عانت منه الطبعة الأولى من أخطاء.

نسأل اللّه سبحانه و تعالى أن يتولانا بلطفه و يوفقنا لما يحب و يرضى، إنه نعم المولى و نعم النصير.

المركز الإسلامي للدراسات

تفسير سورة الفاتحة، ص: 9

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السّلام على محمد و آله الطاهرين، و بعد.

فهذه دروس حول آيات سورة الفاتحة خصصت لبعض الاخوة الأعزاء من شبابنا الأكارم في بلدة عدشيت. و قد استخرجها- مشكورا- الأخ وفيق سعد من أشرطة التسجيل، و بذل في سبيل ذلك جهدا و وقتا، على أمل أن يتم تكثيرها، و توزيعها على بعض الإخوة الراغبين.

ثم تأكدت الرغبة في نشرها، فلحقها بعض الإصلاحات لعباراتها، و التنظيم لفقراتها، الذي يؤهلها لأن تكون مفهومة لمن يريد الإطلاع عليها.

و نريد أن نذكر القارئ الكريم هنا بأننا لم نستفد من كتب التفسير كثيرا. بل إن مراجعتنا لها تكاد لا تستحق التنويه بها؛

تفسير سورة الفاتحة، ص: 10

و لأجل ذلك فإن القارئ لن يستفيد كثيرا من هذه الدروس، إذا كان يرغب في الإطلاع عل أقوال المفسرين، و على الأمور التي اعتادوا التركيز عليها، و الإهتمام بها.

و بعد، فإنني لا أستطيع أن أطلق على هذه الدروس اسم (تفسير). و إنما هي مجرد مشاعر و خواطر، يمكن تلمس مناشئها و تداعياتها في دلالات سورة الفاتحة، التي هي أم الكتاب العزيز، و السبع المثاني.

و أرجو أن أكون قد وفقت في هذه المحاولة، التي سوف يلمس فيها القارئ الكريم إصرارا على الإلتزام بالأجواء القرآنية، و عدم الإنسياق، في رحاب المعاني إلى درجة تجاوز حدود المداليل و الإيحاءات للآيات الكريمة. كما قد يحدث أو حدث ذلك بللفعل

لبعض من تصدى لتفسير القرآن الكريم، أو لتفسير بعض سوره.

و مهما يكن من أمر، فعلى الأقل لا يمكن أن يعتبر هذا الإنجاز هو النموذج الأفضل للتفسير. فقد يحتاج إلى الكثير من التقليم و التطعيم. و قد نستفيد كثيرا من ملاحظات الإخوة الأعزاء حفظهم اللّه تعالى، و نحن لهم سلفا من الشاكرين.

وفقنا اللّه جميعا لصواب القول، و صلاح الفعل، و خلوص القصد.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 11

و الحمد للّه، و صلاته و سلامه على عباده الذين اصطفى محمد و آله الطاهرين.

جعفر مرتضى العاملي

20 شهر رمضان المبارك 1516 ه. ق.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 13

تمهيد

اشارة

أحببت هذه المرة أن أخالف المألوف، و أتمرد على ما هو معروف، حيث إنني لا أريد أن أكتب في هذا التمهيد شيئا من عند نفسي، بل أريد فقط أن أورد بضع روايات عن أهل بيت العصمة توضح لنا التفسير، و شرائطه، و مناهجه.

و الذي زاد من رغبتي في ذلك هو أنني لم أر أحدا من المفسرين حاول أن يركز اهتمامه على هذه الروايات، رغم أنها من الأهمية بمكان.

و هذه الروايات التي اخترتها هي التالية:

1- روي عن الإمام الصادق، و كذا عن الإمام الحسين عليهما السّلام: أنه قال:

(كتاب اللّه على أربعة أشياء: على العبارة، و الإشارة، و اللطائف، و الحقائق. فالعبارة للعوام، و الإشارة للخواص، و اللطائف للأولياء، و الحقائق للأنبياء) «1».

______________________________

(1) راجع: بحار الانوار: ج 89 ص 103 و 20 و ج 75 ص 278 عن كتاب الاربعين، و عن الدرة الباهرة و أعلام الدين ص 303 و جامع

تفسير سورة الفاتحة، ص: 14

2- لقد أوضح أهل بيت العصمة: أن على المفسر أن يبحث عن معنى الكلمات و التراكيب في الاستعمالات المتداولة بين

الناس من مختلف الفئات و القبائل، ليعثر على القاسم المشترك الذي يمكن للجميع من خلاله أن يتلمسوا المعنى المراد، لأن الاقتصار على لغة فريق معين، أو قبيلة بعينها، ربما لا يكون مجديا أن لم يكن سببا في الإبتعاد عن المعنى الحقيقي و المراد أحيانا.

و المثال الذي نورده هنا: هو أنه قد روي أن بعضهم كان في مجلس الإمام السجاد عليه السّلام، فقال له: يا ابن رسول اللّه، كيف يعاقب اللّه و يوبخ هؤلاء الأجلاف على قبائح أتى بها أسلافهم، و هو يقول: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «2»؟!.

فقال عليه السّلام: (إن القرآن نزل بلغة العرب، فهو يخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميمي- قد أغار قومه على بلد، و قتلوا من فيه: أغرتم على بلد كذا، و فعلتم كذا ..

______________________________

الاخبار و الآثار للأبطحي ج 1 ص 451 عنه و عن نزهة الناظر ص 110 و عن كتاب الأربعين في قضاء حقوق أمير المؤمنين و راجع: جامع الاخبار ص 48/ 49.

(2) سورة الأنعام آية 164. الاسراء، آية 15. فاطر آية 18. الزمر آية 7.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 15

و يقول العربي: نحن فعلنا ببني فلان، و نحن سبينا آل فلان، و نحن خربنا بلد كذا.

لا يريد أنهم باشروا ذلك. و لكن يريد هؤلاء بالعذل، و أولئك بالامتحان (الافتخار) أن قومهم فعلوا كذا.

و قول اللّه عز و جل في هذه الآيات إنما هو توبيخ لأسلافهم، و توبيخ العذل على هؤلاء الموجودين، لأن ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن، و لأن هؤلاء الأخلاف أيضا راضون بما فعل أسلافهم، مصوبون ذلك لهم؛ فجاز أن يقال لهم: أنتم فعلتم، إذ رضيتم قبيح فعلهم) «3».

و عن الصادق عليه السّلام:

نزل القرآن بإياك أعني و اسمعي يا جارة «4».

3- قد أشاروا عليهم السّلام إلى ضرورة معرفة خصوصيات كل لفظ، و سر اختياره لموقعه دون سواه، فقد روي:

أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

______________________________

(3) الاحتجاج ج 2 ص 138 ط سنة 1413 ه. و تفسير الامام العسكري ص 270 و البحار ج 45 ص 296.

(4) الكافي ج 2 ص 631 و تفسير العياشي ج 1 ص 10 و نور الثقلين ج 3 ص 198 و تفسير البرهان ج 4 ص 84 و ج 1 ص 22 و تفسير القمي ج 1 ص 16 و البحار ج 89 ص 382 و ج 9 ص 222 و ج 17 ص 83.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 16

حَصَبُ جَهَنَّمَ «5» قال ابن الزبعرى: فنحن نعبد الملائكة، و اليهود تعبد عزيرا، و النصارى تعبد عيسى (عليه السّلام).

فأخبر النبي (ص) فقال: يا ويل أمه! أما علم أن (ما) لما لا يعقل، و (من) لمن يعقل الخ «6».

و حينما سأل بعضهم الإمام الصادق- أو الباقر- عليهما السّلام عن المسح في الوضوء، فقال له: من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟! و بعض الرجلين؟! قال عليه السّلام: لمكان الباء «7».

أي في قوله تعالى:

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ «8».

4- إن الطهارة من الذنوب أيضا تعين على فهم القرآن؛ ففي دعاء ختم القرآن المروي عن السجاد عليه السّلام:

______________________________

(5) سورة الأنبياء: الآية 98.

(6) راجع: الكنى و الالقاب ج 1 ص 294.

(7) راجع: تفسير العياشي ج 1 ص 299 و تفسير البرهان ج 1 ص 453 و 451 و دعائم الاسلام ج 1 ص 109 و مستدرك الوسائل ج 1 ص

314 و 316 و الوسائل ط مؤسسة آل البيت ج 1 ص 413 و ج 3 ص 364 و الاستبصار ج 1 ص 63 و تهذيب الأحكام ج 1 ص 61 و الكافي ج 3 ص 30 و علل الشرائع ج 1 ص 279.

(8) سورة المائدة الآية 6.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 17

(و اجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنسا. و من نزعات الشيطان، و خطرات الوسواس حارسا. و لأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابسا. و لألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرسا.

و لجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجرا).

و لما طوت الغفلة عنا من تصفح الاعتبار ناشرا. حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه، و زواجر أمثاله الخ ..) «9».

5- و ثمة رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام يذم فيها الغاصبين، ذكر فيها (ع) أصول التفسير، و شروطه التي لا بد من الوقوف عندها، و الانتهاء إليها، و الانطلاق منها. و هي رواية مهمة جدا، نذكر إحدى فقراتها، و هي التالية:

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام: أنه قال في جملة حديث له:

(و ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، و احتجوا بالمنسوخ، و هم يظنون أنه الناسخ، و احتجوا بالمتشابه، و هم يرونه أنه المحكم، و احتجوا بالخاص و هم يقدرون أنه العام، و احتجوا بأول الآية، و تركوا السبب في تأويلها، و لم ينظروا إلى ما يفتح الكلام و الى ما يختمه، و لم يعرفوا موارده و مصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلوا و أضلوا.

______________________________

(9) الصحيفة السجادية، الدعاء عند ختم القرآن ص 136.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 18

و اعلموا رحمكم اللّه أنه من لم يعرف من كتاب اللّه عز و جل الناسخ من المنسوخ، و

الخاص من العام و المحكم من المتشابه، و الرخص من العزائم و المكي من المدني، و أسباب التنزيل، و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلفة، و ما فيه من علم القضاء و القدر، و التقديم و التأخير، و المبين و العميق، و الظاهر و الباطن و الابتداء و الانتهاء، و السؤال و الجواب، و القطع و الوصل، و المستثنى منه و الجاري فيه، و الصفة لما قبل مما يدل على ما بعد، و المؤكد منه، و المفصل، و عزائمه و رخصه، و مواضع فرائضه و أحكامه و معنى حلاله و حرامه الذي هلك فيه الملحدون، و الموصول من الألفاظ، و المحمول على ما قبله، و على ما بعده، فليس بعالم بالقرآن، و لا هو من أهله، و متى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل، فهو كاذب مرتاب، مفتر على اللّه الكذب و رسوله، و مأواه جهنم و بئس المصير) «10».

هذه هي الروايات التي أحببت أن أقدمها أمام تفسير سورة الفاتحة، (إن صح إطلاق اسم التفسير على هذه المطالب). و لا أريد أن أضيف عليها شيئا.

______________________________

(10) بحار الأنوار ج 90 ص 3 و 4 و وسائل الشيعة ج 27 ص 200 و 201 و جامع الاخبار و الآثار للأبطحي ج 1 ص 531/ 532.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 19

إلفات نظر لا بد منه:

إننا نذكر القارئ الكريم بالأمور التالية:

الأول: إن مراجعتنا لكتب اللغة أحيانا، إنما كانت من أجل الاطلاع على موارد استعمالات الألفاظ أو التراكيب، و ذلك للتعرف على آفاق المعنى و حدوده، و إلماحته، و إشاراته، و إيحاءاته.

لأن ذلك مهم جدا في نيل المعاني القرآنية، و تحديد مدلولات مفرداتها، و تراكيبها على حد سواء.

هذا .. إلى

جانب لزوم ملاحظة الاستعمالات القرآنية، و التوفر التام على مناحي و جهات الاستعمالات فيه للفظ، أو للتركيب الذي هو محط النظر، بهدف اكتشاف الحدود و القيود أو حتى المنحى القرآني الخاص، بما له من مزايا و حالات، قد تختلف في مراميها و مغازيها عن غيرها مما هو معروف و مألوف، و متداول.

الثاني: إننا قد حاولنا: أن نقوم ببعض المقارنات فيما بين البدائل اللفظية، التي يمكن اقتراحها، أو الإلتجاء إليها، ثم تحديد الفوارق التي يمكن تلمسها بين اللفظ المختار، و بين اللفظ الآخر، الذي يفترض كونه بديلا.

و قد شعرنا من خلال ذلك: أن هذه المحاولة تسهم في وضوح و تحديد المعنى القرآني بصورة ظاهرة، من حيث انها تساعد على اكتشاف الخصوصيات التي لها مساس بالمعنى المدلول، و تؤثر

تفسير سورة الفاتحة، ص: 20

في معرفة حدوده و آفاقه. بل و قد تساعد على تحديد مناشئه و غاياته. هذا ان لم تكن قد ساعدت على انتاج معان جديدة من خلال إيحاءاتها المختلفة، و دلالاتها، التي تستند الى وسائل تعبيرية لم يسبق أن خضعت للتحديد في معاجم اللغة، و لا في علومها المتداولة ..

الثالث: إننا نتمنى على القارئ الكريم أن يتابع فصول الحديث عن سورة الفاتحة الى نهايته، لأن هذه السورة المباركة كل لا يتجزأ، يسهم آخره في فهم أوله، و أوله يساعد على فهم و استكناه حقيقة المراد من آخره.

فقد حددت هذه السورة المباركة كل الملامح لحياة هذا الإنسان بكل فصولها و أبعادها، من البداية الى النهاية، و أختصرت كل الخطة الإلهية في هدايته لهذا الإنسان ليقوم بدوره على النحو الأكمل و الأمثل و الأفضل في هذا العالم العتيد ..

علي (ع) و تفسير سورة الفاتحة، و البسملة:

عن علي عليه السّلام: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا

في تفسير فاتحة الكتاب «11».

______________________________

(11) التراتيب الادارية ج 2 ص 183 و بحار الانوار ج 89 ص 103 و 93 عن اسرار الصلاة، و مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 53 و تفسير البرهان ج 1 ص 3 و ينابيع المودة ص 65 و جامع الاخبار و الآثار للأبطحي ج 2 ص 48 و احقاق الحق (الملحقات)

تفسير سورة الفاتحة، ص: 21

و عنه عليه السّلام: لو شئت لأوقرت بعيرا من تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «12».

و في حديث آخر عنه: لو شئت لأوقرت أربعين بعيرا من شرح: بِسْمِ اللَّهِ «13»

و في نص ثالث عنه عليه السّلام: (لو شئت لأوقرت ثمانين بعيرا من معنى الباء «14».

______________________________

ج 7 ص 594 كلاهما عن: اسرار الصلاة ص 138 و عن شرح ديوان أمير المؤمنين ص 15 مخطوط. و شرح عين العلم و زين الحلم ص 91 و الروض الازهر ص 33 و جالية الكدر ص 40 و تاريخ آل محمد ص 150.

(12) احقاق الحق (الملحقات) ج 7 ص 595 عن ابن طلحة في مطالب السؤل ص 26. و راجع: كشف الغمة ج 1 ص 130 و التفسير الكبير للرازي ج 1 ص 106 و مستدرك سفينة البحار ج 1 ص 231 و 316.

(13) بحار الانوار ج 40 ص 186 عن مشارق أنوار اليقين

(14) مستدرك سفينة البحار: ج 1 ص 231 و احقاق الحق: ج 7 ص 595 عن الشعراني في لطائف المنن ج 1 ص 171. و راجع:

جامع الاخبار و الآثار للأبطحي ج 2 ص 48.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 22

و عن ابن عباس قال: (يشرح لنا علي (ع) نقطة الباء من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" ليلة؛ فانفلق عمود

الصبح، و هو بعد لم يفرغ) «15».

و نقول:

1- انه قد لا يكون ثمة منافاة بين البعير الواحد، و الأربعين و الثمانين بعيرا؛ إذا كان (ع) قد قال ذلك في مجالس و مناسبات مختلفة، اقتضت كل مناسبة منها أن يشير الى مستوى معين من المعاني و المعارف بل و حتى في مجلس واحد، فإن ذكر الأقل لا ينلفي ذكر الأكثر و لا يناقضه. فهو لو شاء لأوقر بعيرا، و لو شاء لأوقر أكثر من ذلك الى أربعين. بل لو شاء لأوقر ثمانين أيضا.

2- إن سعة علم علي عليه السّلام و غزارته مما لا يختلف فيه اثنان. و قد أثبت عليه السّلام عملا ما يقرب إلى الأذهان معقولية تلك الأقوال و واقعيتها.

3- إنه عليه السّلام بقوله هذا يريد أن يفتح الآفاق الرحبة أمام فكر الإنسان لينطلق فيها، و يكتشف أسرار الكون و الحياة، و يتعامل معها من موقع العلم و المعرفة و يقود مسيرة الحياة فيها من موقع الطموح و الهيمنة الواعية و المسؤولة.

4- إن هذه الأرقام ليست خيالية بالنسبة لسورة الفاتحة، التي هي أم القرآن، و هي السبع المثاني التي جعلت عدلا للقرآن

______________________________

(15) مستدرك سفينة البحار ج 1 ص 231.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 23

العظيم في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «16» كما روي «17».

كما أن ذلك ليس بعيدا عن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أعظم آية في كتاب اللّه العزيز. كما روي عن الإمامين الصادق و أبي الحسن الكاظم عليهما السّلام «18».

5- أما بالنسبة لحديث نقطة الباء فلا ندري مدى صحته، بعد أن كان المؤرخون يذكرون أن تنقيط الحروف قد تأخر عن عهد علي عليه السّلام بعدة عقود من الزمن.

إلا أن يكون ثمة نقط لبعض الحروف في أول الأمر، ثم استوفي النقط لسائرها بعد ذلك.

______________________________

(16) سورة الحجر آية 87.

(17) تفسير البرهان ج 1 ص 40 و 41 و 42 و غرائب القرآن (بهلمش جامع البيان) ج 1 ص 28 و تفسير العياشي ج 1 ص 21.

(18) راجع: البحار ج 82 ص 21 و ج 89 ص 238 عن العياشي ج 1 ص 22 و 21 و مجمع البيان ج 1 ص 19. و تفسير البرهان ج 1 ص 42 و التفسير الكبير ج 1 ص 204 و مستدرك الوسائل ج 4 ص 166 و 167 و جامع الاخبار و الآثار ج 2 ص 62 و 61 و 63 عن من تقدم و عن مواهب الرحمان ص 21.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 24

مناوئوا علي عليه السّلام و حساده:

و حين رأى حساد علي عليه السّلام و مناوئوه المتسترون:

أن عليا عليه السّلام قد ذهب بها فخرا و مجدا و سؤددا في جميع المواقع، و في مختلف الجهات انبروا ليدعوا لأنفسهم ما هو أعظم من علي و من علم علي عليه السّلام. رغم أن كل أحد يعرف مبلغهم من العلم. و يعرف نوع و مستوى ما يتداولونه من أمور عادية و مبتذلة، أطلقوا عليها اسم العلم، و هي أبعد ما يكون عنه.

و ذلك بسبب ما فيها من شوائب، و أباطيل ما أنزل اللّه بها من سلطان.

فلنقرأ ما يقوله هؤلاء عن أنفسهم في انتفاخات و ادعاءات استعراضية خاوية.

فقد ادعى أعظم مفسريهم الفخر الرازي: أنه يمكن أن يستنبط من فوائد سورة الفاتحة عشرة آلاف مسألة «19».

كما و يدعون أن أبا بكر ابن العربي قد استنبط من القرآن بضعا و سبعين ألف علم «20».

______________________________

(19) التفسير الكبير

ج 1 ص 5 و التراتيب الادارية ج 2 ص 183 عنه.

(20) التراتيب الادارية ج 2 ص 183.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 25

أما البكري، فقد تكلم عن بعض علوم البسملة في سنين بكرة كل يوم في الأشهر الثلاثة منها. و قال في بعض مجالسه: لو أردت التكلم على ذلك العمر كله لم يف، أو كما قال «21».

بل إن البكري قد تكلم في نقطة البسملة في ألفي مجلس و مائتي مجلس «22».

و نقول:

حدث العاقل بما لا يليق له، فإن لاق له فلا عقل له:

و نحن لا ندري كيف لم تظهر فرق و مذاهب من الغلاة في البكري يقدسونه، بل و يؤلهونه، كما غلا بعض الناس في علي عليه السّلام حتى ألهوه؟!!

و لا ندري أيضا كيف ضاعت تلك العلوم التي نشرها البكري في محاضراته تلك؟! و كيف لم يحفظها تلاميذه و ينشروها في سائر الأقطار و الأمصار، ليستفيد منها الناس، في أمور معاشهم و معادهم؟!!

و ليت الناس قد نقلوا لنا و لو أسماء و همية للعلوم التي استنبطها أبوبكر ابن العربي من القرآن. و تلك هي مؤلفات هذا الرجل متداولة بين الناس، و لا نجد فيها أي رائحة لهذه العلوم. بل

______________________________

(21) المصدر السابق.

(22) التراتيب الادارية ج 2 ص 184.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 26

لا نجد فيها أي تميز لها عما سواها من مؤلفات أقرانه، و من هم على شاكلته، إن لم نقل: إن الآخرين أكثر براعة منه، و أدق نظرا.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 27

تفسير قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اشارة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 29

بداية و تمهيد:

قد عرفنا: أن البسملة هي أعظم آية في القرآن الكريم، و عرفنا ما نقل عن علي أمير المؤمنين عليه السّلام حول تفسيرها، و ما يمكن أن يقدمه للأمة من شرح قد تنامى و اتسع حتى يمكن كتابة الأسفار التي تنوء بحملها العشرات من وسائل الحمل التي كانت متوفرة آنئذ.

و قد تحدث المفسرون عن أمور كثيرة و متنوعة حول الآية الكريمة التي نرددها عشرات المرات يوميا، وفقا لما ورد عن الشرع الشريف في ذلك، و أكثر ما ذكروه يدخل في السياق اللغوي و التركيبي و طبيعته و مناشئه و غير ذلك.

و نحن هنا نحيل القارئ على ما كتبوه، إن أحب الإطلاع عليه، أما نحن فنتجه إلى منحى آخر فيما نريد أن نثيره من دلالات و إيماءات هذه الآية المباركة.

فنقول:

تفسير سورة الفاتحة، ص: 30

البدء باسم اللّه:

لقد ورد في الحديث الشريف، عن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أنه قال: كل أمر ذي بال لم يذكر فيه «اسم اللّه» أو «بسم اللّه» فهو أبتر «23».

و في حديث آخر: كل امر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر «24».

و عن أبي هريرة عنه (ص): كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر اللّه عز و جل فهو أبتر. أو قال: أقطع «25».

و السؤال هنا هو: لماذا يطلب منا أن ننظر إلى البسملة، أو فقل: أن نتعامل مع بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، على أنها جزء من كل أمر ذي بال (أي شأن)؟.

ثم ما هي المعاني التي يريد اللّه أن يلقننا إياها من خلال التركيز على البسملة، و يطلب منا أن نعيشها الى درجة أن تصبح جزءا من حياتنا و ممارساتنا؟

______________________________

(23) التفسير المنسوب

للعسكري (ع) ص 25 و البحار ج 89 ص 242 و ج 73 ص 305 و تفسير البرهان ج 1 ص 46.

(24) التفسير الكبير للرازي ج 1 ص 213 و جامع الأخبار و الآثار ج 2 ص 66 عنه.

(25) مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 359.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 31

إن مما لا شك فيه أن ثمة معان جميلة و مميزة و لطائف و معارف في بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، يريد تعالى منا أن ندركها بعمق، و أن نتفاعل معها بوعي و مسؤولية، فما هي تلك المعاني؟، و هل يمكننا نيلها أو نيل بعضها و لو بدرجة متواضعة؟.

إننا قبل كل شئ نشير الى ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه اللّه من أن الناس ربما يبدءون في عمل، أو يحققون إنجازا فيقرنونه باسم عزيز على قلوبهم، أو كبير من كبرائهم، ليكتسب عملهم بذلك شرفا، أو بركة، أو ليخلدوا اسم ذلك العزيز، أو الكبير و يبقى ببقاء ذلك العمل. و من هنا نجدهم يسمون انسانا أو مؤسسة، أو غير ذلك بإسم من يحبونه، أو يعظمونه ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد. لأن بقاء المسمى- و الحالة هذه- نوع بقاء للاسم ثم لصاحب الإسم الحقيقي، و من هذا القبيل من يسمي ولده باسم والده تكريما لذلك الوالد «26».

و نقول:

إننا لا ننكر: أن الأمر ينتهي إلى التشريف، و التكريم و البركة. و لكن الأمر بالنسبة لإعتبار البسملة جزءا من كل أمر لا يقتصر على هذه الاعتبارات التي يتعامل معها الناس بالطريقة

______________________________

(26) تفسير الميزان ج 1 تفسير البسملة.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 32

العامية و السطحية، بل هو يتجاوزه ليكون على مستوى الطريقة الإلهية، التي تمثل العمق و الأصالة و الدقة.

و ذلك لأن كلامنا

يريد البركة و يتطلبها. و هي تعني الزيادة و النمو و التكامل المعنوي و المادي. و لكننا حين نجد أنهم عليهم السّلام قد طلبوا منا أن لا ندع البسملة في أي شي ء صغيرا كان أو كبيرا «27»، و بدونها سيكون مبتورا و ناقصا. فإن ذلك يعني أن الأمر ليس مجد بركة و شرف و تكريم، بل هو أكبر من ذلك و أهم.

و يلفت نظرنا هنا قوله (ص):" لا يبدأ فيه" و لم يقل: ليس معه، أو: لم يسبقه.

النقص في البداية و في النهاية:

و لا بد أيضا من التوقف و التأمل في هذا التقابل الذي يقرره هذا الحديث؛ حيث فرض أن البدء من جهة هو نفسه الذي يوجب النقص أو الكمال في الجهة المقابلة.

مع أنك إذا قلت: إذا لم تفعل الأمر الفلاني، فان عملك سيكون ناقصا، فان نقصه إنما يكون من جهة نفس عدم فعلك للأمر الفلاني المشار إليه آنفا. و لكن الأمر هنا ليس كذلك، فإن النقص للبسملة إنما جاء في جهة أول الفعل، و البتر و النقص قد

______________________________

(27) راجع: البرهان في تفسير القرآن ج 1 ص 45- 46 و تفسير الإمام العسكري (ع) ص 22 و البحار ج 89 ص 240.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 33

جاء في آخره؛ لأن المبتور هو مقطوع الآخر أو الذنب، و الأقطع هو مبتور اليد.

و نقول:

إن نقصان آخره إنما هو من حيث إنقطاعه عن البقاء و الدوام، فهو أبتر لانقطاع آخره.

و لعلنا نستطيع أن نفهم مبرر هذا الأمر في ذكر مثال تقريبي هو:

إن اللّه تعالى يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ «28». و قال تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «29».

فقد يقول قائل: ان المراد بوجه اللّه

هو اللّه تعالى نفسه، فكأنه قال: و يبقى اللّه ذو الجلال و الإكرام. و كأنه قال: أينما تولوا فثم اللّه تعالى نفسه.

و لكن هذا التفسير يبقى غير كاف و لا واف بالمقصود.

و ذلك للأمور التالية:

______________________________

(28) سورة الرحمن الآيتان 26 و 27.

(29) سورة البقرة آية 115.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 34

1- إنه لا مجال لأن يضاف الشي ء إلى نفسه. فالإضافة و النسبة دليل المغايرة بين المضاف و المنسوب و هو" وجه" و بين المنسوب و المضاف إليه، و هو" اللّه".

2- هذا، بالإضافة إلى ما ورد من أن أهل البيت عليهم السّلام هم وجه اللّه، فهل يعني ذلك أنهم عليهم السّلام هم الذات الإلهية نفسها؟ تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

3- و إذا كان كل شي ء هالك إلا نفس الذات الإلهية، فعلى الإسلام، و كل أعمال الخير و البر و الصلاح السّلام، لأنها كلها أيضا أشياء، فهل هي هالكة أيضا؟

4- قال تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ، وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «30» و لا معنى لفناء كل شي ء مع بقاء الأشياء التي عند اللّه أيضا.

و التفسير الصحيح لهذه الآية، و لآيتي سورة الرحمان و البقرة هو أن كل شي ء من حيث الوجود المادي يفنى، و لكنه من حيث الوجود المعنوي باق، إذا كانت وجهته إلى اللّه سبحانه، لأن نسبته إليه، و كونه باتجاهه تعالى تكسبه حالة من نوع ما تجعله يبقى و يستمر بسببها، و يشهد لذلك آيات و أحاديث كثيرة. فلنقرأ قوله تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً

______________________________

(30) سورة النحل الآية 96.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 35

مَنْثُوراً «31». إذ لو كان لوجه اللّه لما جعله كذلك. و قوله تعالى:

أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى

إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ «32».

إذن، فكل شي ء وجهته إلى اللّه سبحانه يكون فيه جهة بقاء، و دوام، و خلود. و الذي لا يكون كذلك فهو هباء منثور، كسراب بقيعة، أبتر.

و كمثال على ما نقول: إذا تبرع أحدهم بمبلغ من المال لغير وجه اللّه. فمن جهة الحدوث لا شك في أن ذلك قد حدث. و لكن من جهة البقاء فليس ثمة ما يوجب بقاءه؛ لأنه يفقد عنصر البقاء.

و ذلك مثل العدالة التي هي شرط في إمام الجماعة. و لكن مجرد حدوثها فيه لا يكفي بل لا بد من بقاء تلك العدالة و استمرارها، بحيث لو فسق في آخر جزء من الصلاة، فان الصلاة تبطل بجميع أجزائها.

الباء للاستعانة أم للملابسة:

و عن سؤال: هل الباء للمصاحبة؟ أم للاستعانة، أم للتعدية، أم لمجرد الملابسة؟ أم لغير ذلك؟

______________________________

(31) سورة الفرقان آية 23.

(32) سورة النور آية 39.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 36

نجيب: أن بعض المفسرين رجحوا أنها للاستعانة، و ذلك لأن الإنسان مفتقر بذاته، محتاج إلى الغني بذاته. و نحن نرجح أنها للملابسة، و ذلك لأننا إذا رجعنا إلى حديث: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر، فإننا ندرك: أن الباء ليست للمصاحبة، أو الاستعانة، أو لغير ذلك و إنما هي لمجرد الملابسة، لأن قوله: لا يبدأ فيه، إنما يعني أن البسملة جزء من الأمر الذي نعمله، و إلا لكان اللازم أن يقال: كل أمر ذي بال لا يستعان فيه أو لا تصاحبه. و جزئية البسملة هذه لا تتلاءم إلا مع كون الباء لمجرد الملابسة.

لماذا التركيز على الاسم؟

و من الملاحظ: أن الحديث هنا قد جاء عن الاسم.

و أيضا: ان الآيات القرآنية، تهتم بالاسم و تسلط الضوء على الأسماء، باستثناء البعض من تلك الآيات التي تعدت ذلك إلى الحديث عن الذات الإلهية المقدسة.

فاقرأ مثلا قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «33» و فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ «34»

______________________________

(33) سورة العلق الآية 1.

(34) سورة الواقعة الآية 74.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 37

و وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «35».

فلماذا هذا التركيز و الاهتمام بالاسم و الأسماء؟

و نجيب بسؤال: هل نحن قادرون- بالنسبة للذات الإلهية- على استكناه حقيقة المسمى و تصوره؟

بل هل نستطيع: أن نتصور كنه أسمائه تعالى، فضلا عن المسمى؟

الجواب: طبعا، لا.

ان غاية ما نتصوره هو الحد الأدنى و الجانب الميسور و القريب من الاسم و القادر على أن يشير إلى المسمى إشارة خفيفة و بسيطة تكفي لأن تجعلنا نتضرع

إلى اللّه به، لأنه يعطينا هذا المستوى من الإدراك. و هو سبحانه يقبل ذلك منا: لأننا غير قادرين على أكثر منه. و قد أمرنا بالابتعاد عن التعمق في التفكير في ذات اللّه سبحانه «36» لأنه أمر فوق العقل.

و هكذا يتضح: أنه لا مبرر لما يقوله بعضهم من أن الاسم هو عين المسمى، و كذلك العكس .. و يزيد من وضوح عدم صحة ذلك أنه لا ينسجم مع قوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى

______________________________

(35) سورة الأعراف الآية 180.

(36) راجع البحار ج 2 ص 259.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 38

فَادْعُوهُ بِها «37» حيث جعل اللّه الأسماء الحسنى وسيلة إلى ندائه تعالى- ان كان المعنى: نادوه بها- أو وسيلة للتوصل إلى نيل رضاه سبحانه، فلو كان الاسم عين المسمى لم يصح الأمر بدعاء اللّه بها، و لم يصح إضافتها و نسبتها إليه تعالى.

الأسماء الحسنى وسيلة الدعاء

أما لماذا طلب منا سبحانه أن نجعل أسماءه الحسنى وسيلة دعائنا له؟ أو لماذا طلب منا أن ننادي اللّه بواسطة أسمائه الحسنى؟

كقولك خاطب زيدا باسمه، مقابل خطابه بلقبه مثلا.

فلأن الاسم قد وضع لمعان حسية، أو قريبة من الحس. أريد منها هنا أن تعبر عن معان راقية و عالية، و بمقدار ما تترقى مدارك و استعدادات البشر و تتنامى، فان ذلك يؤثر على مستوى و درجات فهمهم و نيلهم لتلك المعاني السامية، و تتفاوت درجات انكشافها لهم. فإذا سمعنا كلمة رؤوف، رحيم، كريم، قوي، الخ ..

مضافة إلى الذات الإلهية فإن كلامنا يفهم درجة من تلك الرأفة و الرحمة و .. أما حقيقة رحمته تعالى و كرمه و قوته، فلا يمكن لنا إدراكها ..

______________________________

(37) سورة الأعراف الآية 180.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 39

و من جهة أخرى: إننا نتعامل

مع هذه الأسماء من خلال مزيج من الإدراكات العقلية، و الفطرية، مع الأحاسيس و المشاعر الفطرية و الوجدانية. فهي ليست أسماء ذات طابع عقلي فلسفي محض ..

فصفات العزيز الجبار، الرحيم الشافي، التواب، الحنان الخ .. هي أسماء تحاكي الفطرة و تناجيها، و تناغيها، و تلامس الضمير و الوجدان، و تثيره، و تشعر من خلالها بأنك قريب من اللّه، مع انك لا تستطيع أن تدرك نفس الذات.

و من هنا نعرف السر في أنه تعالى قد أمرنا أن ندعوه بواسطة تلك الأسماء، و أن نجعلها و سيلتنا في الدعاء، لأننا حينما نتوجه إليه بالدعاء نكون بأمّس الحاجة إلى الإحساس و الشعور به عز و جل .. لا أن ندركه و نتصوره، فان ذلك ليس هو المهم.

و تلك الأسماء توفر لنا ذلك الشعور العميق المفعم بالمعاني الحية، و المثيرة لكوامن الإحساس به و بوجوده، و بالحاجة إليه، و بالضعف أمامه، و غير ذلك من معان توحي لنا بها تلك الأسماء. انها تجعلنا نتفاعل معه، و نعيش في رحابه، و ننطلق في آفاقه، و تترك آثارها على كل وجداننا، و على حياتنا العملية، على حركتنا و موقفنا و سلوكنا مع الناس، و مع أنفسنا، انها تحل مشاكلنا النفسية، و الروحية، من حيث انها توحي إلينا بالمعاني التي نشعر أننا بحاجة لأن نتلمسها و نعيشها، و نشعر أنها أدواتنا التي توصلنا إلى ما نطمح

تفسير سورة الفاتحة، ص: 40

إليه، و تحقق لنا ما نريد من دون حاجة إلى دليل عقلي أو فلسفي، أو منطقي برهاني.

ان كل ذلك لا يمكن أن تحققه لنا قناعات فكرية، أو معادلات رياضية، أو براهين فلسفية.

فهذه الأسماء إذن توصلنا في موضع الخوف، و الرجاء، و الضعف

و الحاجة إلى اللّه سبحانه، و تصلنا به من أقرب طريق، و أصفاه.

اللّه:

أما بالنسبة للفظ الجلالة" اللّه" فهو اسم علم للذات الإلهية المقدسة.

و قد أخطأ من قال: انه اسم لشي ء عام كلي هو (واجب الوجود بالذات)، أو اسم (للمعبود بالحق) أو ما إلى ذلك.

اذ لو كان كذلك لكان المراد من كلمة" لا اله إلا اللّه" لا واجب الوجود، إلا واجب الوجود، أو لا معبود بالحق إلا المعبود بالحق.

و يدل على ذلك أيضا ما أشار إليه السيد العلامة الطباطبائي رحمه اللّه تعالى، من أن لفظ الجلالة يوصف بجميع الأسماء الحسنى، و لا يصح أن يقع هو وصفا لأي واحدة منها.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 41

الأصنام عند العرب:

و واضح: أن العرب كانوا يستعملون لفظ الجلالة في معناه.

أما الأصنام فكانوا يعتقدون: أنها تقربهم إلى اللّه تعالى زلفى، و أن لها نوعا من التأثير في حياتهم: في الشفاء، و الرزق، و حل المشاكل، و ما إلى ذلك. فيعطونها نوعا من الشراكة مع اللّه سبحانه بهذا المعنى.

و قد كانوا يعظمونها- في الأساس- لأنها تمثل بعض الصلحاء، أو غير ذلك. ثم تطور هذا التعظيم ليصبح تقديسا، ثم تطور ليصبح اعتقادا ببعض التأثير، و تعاظم و نما حتى بلغ درجة الشرك الذي هو ظلم عظيم. فجاء الانحراف عن مقتضيات الفطرة تدريجيا، كما ترى.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 42

الرحمن الرحيم

اشارة

إننا قبل أن نتكلم عن المقصود من هاتين الكلمتين، نشير إلى أمر هام يرتبط بمعناهما، بل هو يرتبط بسائر صفاته و أسمائه تعالى، و هو: أن الرحمة لدى بني الإنسان عبارة عن انفعال نفساني ذي طابع خاص، يحصل بسبب رؤية العجز أو الضعف أو النقص لدى إنسان أو أي مخلوق آخر ذي روح. فإذا رأينا طفلا عمره شهر تحت أشعة الشمس، أو جريحا، أو رجلا تحت الأنقاض يحصل في داخلنا انفعال معيّن بطريقة عفوية و فطرية، يدفعنا إلى العمل و مديد المساعدة لذلك العاجز و المنكوب.

لكن حينما نصف الذات الإلهية المقدّسة المنزّهة بصفة الرحمانية و الرحيمية، فإن نحو و كيفية تلبسها بصفة الرحمة، أو انتساب الرحمة إليها يختلف عن نحو و كيفية تلبسها بالإنسان و انتسابها إليه. و نحن نجهل تماما حقيقة الرحمة التي ننسبها إليه تعالى، و لا نستطيع حتى أن نتصوّر حقيقتها، و نجهل أيضا كيفيتها لديه تعالى.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 43

و قد ورد النهي عن المعصومين عليهم السّلام عن التعمق في التفكير في حقيقة الذات الإلهية «38».

غاية

الأمر أننا حينما نلاحظ كثرة صدور الرحمات، أو فقل: الأمور التي هي من لوازم الرحمة بزعمنا، أو بحسب تصورنا، منه تعالى؛ فإن ذلك يجعلنا ننسب إليه تعالى صفة:

رحمان، أو رحيم.

تحديد معنى الرحمان الرحيم:

و أما بالنسبة لمعنى هذين اللفظين، فإننا نقول:

قالوا: إن كلمة الرحمان، تفيد المبالغة، أي الذي يفيض الرحمة و تصدر عنه كثيرا، و من كل جهة. و معنى ذلك:

أنها وصف لا يختص بالمؤمن، بل يعم الكافر أيضا.

أنها- و الحالة هذه- إنما تناسب الحياة الدنيا، إذ ليس للكافر منها في الآخرة من نصيب.

و قالوا: إن كلمة" الرحيم" صفة مشبهة، أي أنها تدل على وجود الصفة في الموصوف بصورة ثابتة و دائمة، و معنى ذلك:

أن هذا إنما يناسب المؤمن دون الكافر، لأن المؤمن هو الذي يستحق الرحمة الدائمة.

______________________________

(38) راجع: البحار ج 3 ص 259 فما بعدها.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 44

إن هذا الوصف يمتد إلى الآخرة أيضا، ليكون المؤمن مرحوما فيها. و ليناسب ذلك معنى الثبات و الدوام فيها.

و لأجل ما تقدم نجدهم يقولون: رحمان الدنيا و رحيم الآخرة.

و نحن بدورنا نقول:

إن ما ذكروه مشكوك فيه، بل اللّه سبحانه رحمان في الدنيا و الآخرة، و رحيم فيهما معا أيضا. و قد ورد في الحديث الشريف:" رحمان الدنيا و الآخرة و رحيمهما" «39» و قال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً «40» و قال سبحانه:

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ «41» و استعملت" الرحيم" للحديث عن رحمته تعالى في الدنيا، قال تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً «42».

و هذا هو السر في التركيز على هاتين الصفتين في أعظم آية في القرآن الكريم، و ذلك لأن كلمة رحمان تساوي كلمة غضبان

______________________________

(39) امالي الشيخ الطوسي ص 523 ط

سنة 1401 ه مؤسسة الوفاء- بيروت.

(40) سورة مريم الآية 85.

(41) سورة الفرقان الآية 26.

(42) سورة النساء الآية 29.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 45

أو شبعان أو نعسان أو يقظان. و هذه الصفات بهذه الصيغة ليست من صيغ المبالغة، و إنما هي تدل على وجود الصفة في موصوفها على نحو التمام و الكمال، فكلمة" غضبان" مثلا كما يقول أهل اللغة معناها الشخص الممتلئ غضبا «43» أو" الذي يغضب سريعا.

و قيل: شديد الغضب" «44».

فإذا كان المراد بالرحمن هو أنه عز و جل ممتلئ رحمة، فلازم ذلك أن تصدر عنه الرحمات بكثرة، فيرحم سبحانه المؤمن و الكافر، و العالم و الجاهل، و الكبير و الصغير، و الغني و الفقير، و ما إلى ذلك.

فما قاله الطبرسي و غيره:" الرحمان الرحيم: اسمان وضعا للمبالغة، و اشتقا من الرحمة و هي النعمة إلا أن فعلان أشد مبالغة من فعيل" «45».

و قال ابن منظور عن كلمة رحمان:" معناه الكثرة". و قال:

فعلان من أبنية ما يبالغ في وصفه «46».

______________________________

(43) التبيان ج 1 ص 28 و 29 و الكشاف ج 1 ص 41.

(44) لسان العرب ج 10 ص 449.

(45) مجمع البيان ج 1 ص 20 ط دار احياء التراث العربي سنة 1379 ه و لسان العرب ج 12 ص 231.

(46) لسان العرب ج 12 ص 230 و 213 و راجع كلمة: كريم في ص 510 و 511.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 46

هذا القول فيه نوع من التوسع، فلعل الطبرسي و غيره من المفسرين و أهل اللغة، ذكروا لازم المعنى، فصوروه لنا على أنه هو المعنى نفسه، بنوع من التوسع أو التسامح.

أما بالنسبة لكلمة:" الرحيم" فيمكن أن تكون للمبالغة مثل عليم، بمعنى كثير العلم. و قد تكون صفة

مشبهة لمجرد إفادة ثبوت الوصف من دون أي مبالغة أو تكثير، مثل مريض، و قديم و كبير و صغير.

و لكننا إذا رجعنا إلى الآيات القرآنية، فإننا نجد أنها في الأكثر قد وردت و إلى جانبها كلمات هي: غفور، تواب، رؤوف، ودود، بر عزيز.

و هذه الصيغ إما هي للمبالغة، كالأربعة الأول، و هي واقعة في عشرات الآيات، أو أنها صفة مشبهة كالكلمتين الأخيرتين، اللتين وردتا في موارد قليلة جدا، و الصفة المشبهة تدل على نسبة الصفة للموصوف، و قيامها فيه فعلا، من دون إشارة إلى معنى الحدوث .. فاقتران كلمة الرحيم بصيغ المبالغة يشير إلى أنها صيغة مبالغة مثلها ككلمة: عليم .. إذ المفروض وجود تجانس فيما بين الصفتين سوّغ للذوق أن يعقب إحداهما بالأخرى. إذ لو كانت إحداهما للمبالغة دون الأخرى، فإن مستوى الانسجام و التجانس سوف يضعف، و سيشعر القارئ بوجود نقلة غير طبيعية، بعيدة عن السهولة بصورة عامة.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 47

كما أنها حين جعلت إلى جانب الصفة المشبهة، مثل كلمة عزيز، فإنها قد استعملت صفة مشبهة يقصد بها تمامية الصفة في موصوفها على سبيل الثبات و الدوام، من دون إلماح إلى معنى الحدوث. فهي إلى جانب الصفة المشبهة تكون صفة مشبهة مثل كريم، و سقيم، و حكيم، و إلى جانب صيغة المبالغة تكون مثلها صيغة مبالغة تدل على الامتلاء بالرحمة، و يلزم من ذلك كثرة صدورها منه تعالى لمن يستحقها. أو لعلها هي بنفسها أيضا من صيغ المبالغة أيضا كما ذكره الطبرسي و غيره.

و لا نستبعد أنه تعالى قد جاء بكلمة" رحيم" التي هي صيغة مبالغة على شكل الصفة المشبهة ليفيد المعنيين معا. أي ليفيد المبالغة و تمامية الصفة في موصوفها لأنها

على شكل صيغ المبالغة، و ليفيد الدوام و الثبات لأنها على شكل الصفة المشبهة.

و قد اتضح مما تقدم: أن ما قالوه من أنه تعالى: رحمان في الدنيا رحيم في الآخرة، لأن الكافر لا يستحق ثبات و دوام الرحمة لتصل إلى الآخرة. فتكون كلمة رحيم خاصة بالمؤمن. و كلمة رحمن تشمل المؤمن و الكافر.

هذا القول غير دقيق: بل هو استنبطوه من شؤون العقيدة، لا من الدلالات اللغوية لهاتين الكلمتين، فقيدوا المعنى اللغوي بالدليل العقائدي.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 48

و إنما قلنا: إنه غير دقيق، لأن المعنى اللغوي على النحو الذي ذكرناه ليس ناظرا إلى تلبس الرحمة بهذا الشخص أو ذاك، بل هو ناظر إلى كيفية قيام الصفة بموصوفها. و أن كلمة الرحمان لا تدل على كثرة الرحمة دلالة مطابقية. بل المدلول المطابقي الأول لكلمة الرحمان هو الامتلاء بالرحمة. فيلزم من ذلك كثرة صدور الرحمة عنه للمستحق لها. فالفيض و الصدور من لوازم المعنى، خارج عنه عارض له. و كلمة الرحيم، تدل على الثبات و الدوام و الرسوخ، فالرحمان ناظرة للكم، و الرحيم ناظرة للكيف.

بالإضافة إلى المبالغة في ذلك مثل كلمة عليم.

سبب اختيار هاتين الصفتين: و هنا سؤال يقول:

لماذا اختار اللّه سبحانه هذين الوصفين في هذه الآية الكريمة- البسملة- التي يفترض أن يرددها الإنسان في مختلف شؤونه و حالاته، و ربما يرددها عشرات المرات في كل يوم، ثم اعتبرت هذه الآية أعظم آية في القرآن الكريم؟ و لم لم تذكر في البسملة صفات أخرى، مثل: التواب، الغفور، الشافي، الكريم، الخالق، الرازق، العليم، القوي، الرؤوف، الخ؟!.

و الجواب- باختصار شديد-: إن المطلوب للإنسان في سير حياته أن تشمله العناية الإلهية، فيستفيد من خالقيته تعالى

تفسير سورة الفاتحة، ص: 49

خلقا، و من رازقيته رزقا، و من حكمته

تدبيرا، و من قوته و انتقامه و جبروته حماية و رعاية، و من عزته عزا، و من كل صفاته الجمالية كمالا و جمالا، و قوة، و صحة، و شفاء، و توبة و مغفرة، الخ ..

كل هذه الأمور و سواها مآلها إلى صفة الرحمانية و الرحيمية فيه تعالى. فمن خلال الرحمة يصدر ذلك كله عن الذات الإلهية، فيرزق تعالى و يشفي، و يدبر، و يقوي، و يتوب، و يغفر، الخ ..

لكونه رحيما و رحمانا. و لا توجد أية صفة أخرى تستبطن هذه الصفات و سواها. فكلمة التواب، أو الغفور، أو الشافي، أو الرازق، الخ .. لا تقوم مقام رحمان و رحيم. أي إن كلمة التواب مثلا لا تقوم مقام الرازق أو الخالق، لأنها لا علاقة لها بالرزق، و الشفاء. و كذلك كلمة الرزاق لا تقوم مقام غيرها من الصفات، و هكذا ..

أما كلمة الرحمان الرحيم، فإنها تستدعي أن يشفيك اللّه لكونه إلهك الراحم، و أن يقويك لأنه أيضا إلهك الراحم، و أن يتوب عليك و يرزقك لكونه كذلك إلهك الراحم، و هكذا ..

فإذا دخلت من باب الرحمة، فإنه يوصلك إلى مضمون سائر الصفات، و يمكنك منها جميعا.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 50

كما أنك- من جهة أخرى- لا تريد هذه الرحمة لمرة واحدة، بل تريد دوامها، و استمرارها في الدنيا و الآخرة، و في كل حال و مجال.

و خلاصة الأمر: إننا ندخل من باب الرحمة إلى عالم الفيوضات الإلهية اللامحدود و الذي لا ينضب. و نحصل على كل مقتضيات سائر صفات الذات الإلهية المقدسة و على كل شي ء، و نحل بذلك كافة مشاكلنا، و في كل حين فنحصل على الرزق، و الشفاء، و الغفران، و التوبة، الخ ..

و

لا توجد أية صفة أخرى سوى الرحمانية و الرحيمية قادرة على تلبية حاجات الإنسان، و تحقيق طموحاته، و تحصينه من اليأس، الخ ..

كلمة" الرحمان" علم أم صفة؟

و آخر ما نلفت النظر إليه هنا هو: أنه تعالى، قد جعل كلمة الرحمان صفة للفظ الجلالة. مع أن البعض يدعي: أنها قد أصبحت علما بالغلبة، فكيف يصح وصف العلم بالعلم؟

و نقول:

إن صيرورتها علما بالغلبة غير ظاهر، و وصف لفظ الجلالة بها دليل على أنها لا تزال صفة. و قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ

تفسير سورة الفاتحة، ص: 51

تفسير سورة الفاتحة 106

أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «47» لا يدل على علميتها، لا مكان أن يدعو الإنسان اللّه و أن يدعو التواب، و الكريم، و الشافي، الخ ..

و لا تجعل الدعوة هذه الأمور علما.

و يمكن أن يقال: إنك إذا سميت رجلا بكلمة" عادل" أو كريم: فإن لاحظت العلمية فيها، فلا يصح الوصف بها، و إذا لاحظت الوصفية، و أنه يملك صفة العدل صح الوصف بها.

و الحال بالنسبة لكلمة الرحمان من هذا القبيل.

______________________________

(47) سورة الإسراء، الآية 110.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 53

تفسير قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

اشارة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 55

الحمد للّه:

اشارة

قد دلت الآية على أن الحمد كله متمحض للّه تعالى. و قبل بيان ذلك نشير إلى الفرق بين الحمد و المدح فنقول:

قالوا: إن المدح هو الثناء سواء أكان على شي ء اختياري، أو غير اختياري، فقد تمدح الإنسان على إنقاذه الغريق، و قد تمدحه أيضا على جماله، و على طوله، مع أن الجمال و الطول هما خلقة اللّه، و ليس للإنسان فيهما أي اختيار.

و تذم بعض المخلوقات على أفعالها السيئة و على شكلها الذي تراه قبيحا أو غير متناسق، مع أن القبح ليس من اختيار الإنسان.

أما الحمد، فهو- كما يقولون-: الثناء على الفعل الجميل الاختياري.

و نحن لا نوافق على قولهم هذا، و نقول: إن هذا الحمد الوارد في هذه السورة و غيرها قد يكون على فعل اختياري كفعل الخالقية، و الرازقية، و المغفرة، الخ ..

تفسير سورة الفاتحة، ص: 56

و قد يكون ثناء عليه تعالى بأنه حي قيوم منزه عن الشريك، و عن النقص، و عن الصاحبة و الولد، مع أن عدم وجود شريك له تعالى ليس فعلا اختياريا له سبحانه، بل هو ليس من مقولة الفعل أصلا.

و خلاصة الأمر: إن الأفعال المشيرة إلى صفات الفعل تصدر عنه تعالى باختياره. فاللّه قوي لأنه يصدر عنه باختياره ما يشير إلى القوة، و هو رحيم، خالق، رازق، حكيم، لأنه يصدر عنه باختياره فعل يشير إلى الرحمة و الرازقية و الحكمة الخ.

فيستحق الحمد لأجل ذلك، كما يستحق الحمد لأجل أنه حي قيوم، لا شريك له، و لا نقص فيه.

اختصاص الحمد باللّه سبحانه:

و عن سبب تخصيص الحمد كله باللّه تعالى:

إن" أل" للجنس أو للاستغراق و على كلا الحالتين تفيد الاستغراق و الشمول للأفراد. و الفرق بينهما إنما هو بالاعتبار، و الإجمال و التفصيل.

أي

أن حقيقة الحمد إنما يستحقها اللّه سبحانه، أو أن الذي يستحق جميع أفراد و مراتب الحمد هو اللّه سبحانه. فعلى الأول:

تكون للجنس و على الثاني: تكون للاستغراق.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 57

و السر في ذلك هو أن البسملة قد جعلتنا نعترف بأن اللّه الذي له صفة الألوهية متصف بجميع صفات الجمال و الجلال و الكمال. فإذا أردنا أن نطلب من اللّه سبحانه أن يفيض علينا من خلال هذه الصفات: الرزق، و المغفرة، و الشفاء، و الخلق، و القوة، و الصحة .. الخ، فمفتاح ذلك كله هو الرحمة الإلهية، فلا بد من الدخول من بابها فإنه تعالى ممتلئ رحمة، و كثيرة هي رحماته بمقتضى" رحمان".

ثم لأجل استمرار الاستفادة من فيوضات الرحمة التي هي من مقتضيات صفات الألوهية لا بد من ثبات هذه الرحمة و دوامها مفيضة و منيلة، كما ألمحت إليه كلمة" الرحيم".

و بعد تقديم ذلك الاعتراف بأنه سبحانه قد أفاض علينا من كل ما تقتضيه تلك الصفات بجميع فروعها من جلالية و جمالية، أو فقل: من صفات فعل أو صفات ذات، يأتي الحمد و الثناء بمثابة اعتراف بهذه الفيوضات، لأنها هي التي دفعتنا لهذا الثناء ..

و إنما اعتبرنا أن المستحق لحقيقة الحمد، أو لكل مرتبة من مراتب الحمد و كل فرد من أفراده هو اللّه سبحانه، لأن كل ما يصل إلينا من خلال الإفاضة المباشرة مثل خلقنا. أو بالواسطة، كإحسان الوالدين لنا. و مثل ما نستفيده من الطبيعة كالأرض، و الشجر، و الشمس و النجوم. إن كل ذلك إنما ينتهي إلى اللّه سبحانه بالمباشرة أو بالواسطة.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 58

و هذا يفسر لنا إضافة" أل" الاستغراقية أو الحقيقية إلى كلمة" حمد"، فقال:" الحمد".

الحمد و الرحمة بداية و نهاية:

و الملفت للنظر

هنا: أنه سبحانه تعالى قد أفهمنا أن" الرحمانية و الرحيمية" كانت هي البداية كذلك كانت هي النهاية.

حيث قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أي أننا حين نجعل اسم اللّه ملابسا و ليس- فقط- مصاحبا لكل شي ء، فإننا ندخل و نصل إليه من باب الرحمانية و الرحيمية، و نستمد منه كل خير. حتى إنه هو الذي يستحق الحمد الحقيقي، أو يستحقه بجميع مراتبه و أفراده. و نبقى مع هذه الرحمة حتى نصل إلى النهاية. أي أننا مع الرحمة منذ بدء خلقنا مرورا بالرازق، و المعافي، و الشافي، و المربي، وو .. و انتهاء بالتواب و الغفور ..

ثم تكون النهاية الرحمة أيضا. فلا بد أن يكون الحمد أيضا هو النهاية، كما كانت البداية هي الحمد. و هذا ما يشير إليه قوله تعالى: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

إذن، فاللّه سبحانه يريد أن يهيئ الإنسان لأن ينظر إلى كل حياته، و كل آفاقها في بداياتها و في سيرها التكاملي، ثم في نهايتها، نظرة شمولية، مستوعبة، و واعية و عميقة، تربط الأمور بأسبابها، ثم بنتائجها. إنه سبحانه يريد لهذا الإنسان أن يفتح عينيه على

تفسير سورة الفاتحة، ص: 59

حقيقة الحياة و يسجل اعترافه المباشر بتاريخ ارتباطه باللّه سبحانه، و ارتباط الكون كله به تعالى، و برعايته سبحانه له من قبل أن يخلق، و إلى ما بعد أن يبعث و يحشر.

و الاعتراف بهذا التاريخ، و الانصياع له، و الإيمان به يوصل إلى الحمد، إذ لا يمكن أن تكون حامدا كل الحمد إذا لم تعرف و تعترف بكل ما صدر منه و عنه تعالى تجاهك، و تجاه كل المخلوقات في هذا الكون الأرحب الذي بناه لتستفيد منه

في تكاملك في إنسانيتك و في مسيرتك نحو اللّه سبحانه.

و هكذا يتضح: كيف أن هذه الكلمة هي في الحقيقة المفتاح للمعارف الاعتقادية، و هي الأساس القوي للنظرة إلى الكون و إلى الحياة، نظرة عميقة و واعية، من خلال التوحيد الخالص و الصافي.

فمن الواضح: أن أحدا لا يستطيع أن يحمد اللّه بصدق و وعي من دون أن يملك هذه النظرة: بل إن فهم الحياة و التعاطي معها لا بد أن يكون أساسه هذه النظرة بالذات، و مستندا إلى فهم الحمد بهذه الطريقة.

فكلمة الحمد إذن كبيرة جدا بحجم هذا الكون، بل هي أكبر من الكون و من الإنسان. إنها بحجم الفيوضات الإلهية على كل الموجودات و المخلوقات. و لا سيما الذي يعنيك منها،

تفسير سورة الفاتحة، ص: 60

و تستفيد منه، و تتفاعل معه. إنها بحجم العقيدة التوحيدية، بل بحجم كل الصفات الإلهية الجلالية منها أو الجمالية.

إذن فليس من قبيل الصدفة أن تكون أول كلمة- بعد البسملة- في السبع المثاني، التي لا بد أن تقرأ مرات في الصلاة في كل يوم هي كلمة" الحمد"؛ إنه أراد لنا أن ندخل من باب الحمد، إلى كل الحقيقة المنبسطة على هذا الوجود. مدركين حجم الارتباط باللّه، و نوع، و كيفية التعاطي معه سبحانه و تعالى.

له الحمد في الأولى و الآخرة:

اشارة
اشارة

و من أجل توضيح بعض ما ذكرناه آنفا نعود، فنقول:

قد تكلم اللّه سبحانه عن الحمد في عدة آيات قرآنية، منها قوله تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ «48». فما هو المقصود بالأولى، و ما و المقصود بالآخرة؟!.

و هل هذا ينسجم مع ما ذكرناه من معنى الحمد؟! و ارتباطه بآية البسملة؟! .. و كيف نربط أيضا بين ذلك و بين قوله: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ

رَبِّ الْعالَمِينَ «49»؟!

______________________________

(48) سورة القصص، الآية 70.

(49) سورة يونس، الآية 10.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 61

و هل صحيح ما يقولونه: من أن الحمد لا بد أن يكون على فعل اختياري؟!.

إننا في مقام الإجابة على هذه الأسئلة نقول: إن صفات الألوهية؛ تقتضي نفي كل نقص عن الذات، و عن الأفعال، و المدخل لنا إلى هذه الصفات هو الرحمة الإلهية. و الحمد إنما يأتي كنتيجة للاستفادة من هذه الصفات.

فنستفيد منها في الخلق الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا .. «50».

و في الهداية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا «51».

و في التفضيل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا «52».

و في العلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «53».

و في النجاة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا «54».

______________________________

(50) سورة فاطر، الآية 1.

(51) سورة الأعراف، الآية 43.

(52) سورة النمل، الآية 15.

(53) سورة الكهف، الآية 1.

(54) سورة المؤمنون، الآية 28.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 62

و في العافية الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «55».

و في الملك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «56».

بل و قبل كل شئ في التوحيد و نفي الشريك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ «57».

فالحمد في الآية الأخيرة ليس على أمر اختياري لأن عدم الشريك ليس فعلا له تعالى. فتخصيص الحمد بالفعل الاختياري يصبح غير دقيق.

و من جهة أخرى، فإن الحمد بعد كل هذا يصبح بمثابة الدليل القاطع على تحقق ذلك كله من موقع الفيض الإلهي، و هو أيضا تتويج لكل مسيرة التكامل الإنساني الكادح إلى اللّه سبحانه.

فالحمد هو البداية، التي تفتتح بالفيوضات الإلهية لأصل الخلق و الوجود، و كل النعم في الحياة الأولى التي هي الدنيا. و تستمر

هذه الألطاف و الفيوضات إلى الآخرة أيضا، التي هي الحياة

______________________________

(55) سورة فاطر الآية 34.

(56) سورة الإنعام، الآية 1.

(57) سورة الإسراء، الآية 111.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 63

الحقيقية. كما قال تعالى: وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «58».

فيصل الإنسان إلى اللّه و يعرفه، من خلال إحساسه بنعمه و تفضلاته عليه و فيوضاته المتلاحقة و الغامرة. فيبحث عنه، و يعرفه ليقف موقف العرفان، لأن معرفته تعالى عن طريق الإحساس بالنعمة، تكون أعمق و أدق و أكثر تأثيرا من معرفته عن طريق الاستدلال الفلسفي، العقلي، النظري، لأن هذه المعرفة حسية، ثم تترقى لتصبح وجدانية، ثم فطرية، يتفاعل معها بأعماقه، و بكل أحاسيسه و مشاعره و بفطرته. ثم هو يبادر إلى الثناء على هذا المنعم، و بعد ذلك يبادر إلى شكره، و الوقوف في موقع الطاعة و الانقياد.

و هذا هو معنى وجوب شكر المنعم الذي دل عليه القرآن:

أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ «59»، اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «60».

______________________________

(58) سورة العنكبوت، الآية 64.

(59) سورة لقمان، الآية 14.

(60) سورة سبأ، الآية 13.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 64

و تستمر المسيرة في هذا الحمد إلى الحياة الأخرى لتكون:

آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لما شهدوه و يشهدونه من تربية و رعاية إلهية مستمرة و متلاحقة.

و كل ذلك يفسر لنا أيضا: السبب في كون كلمة الحمد هي أول كلمة بعد البسملة في سورة الحمد، و السبع المثاني.

و يتضح من ثم أن الآية منسجمة تمام الانسجام، و لا مجال لأي توهم أو اعتراض.

لماذا لم يقل الحمد لرب العالمين:

و أما لماذا لم يقل: الحمد لرب العالمين. بل قال: الحمد للّه رب العالمين. فلعله لأنه يريد منا أن نتعامل معه، و أن نرتبط به

سبحانه بما هو مستجمع لصفات الجمال و الجلال، صفات الفعل، و صفات الذات، ثم يتبع ذلك بالتنصيص على صفة المربي لتكون هذه التربية هي المبرر لمبادرتنا إلى حمده بما له من صفات الألوهية الكاملة و المطلقة.

و ذلك لأنه تعالى إنما تعامل مع هذا الوجود كله من موقع ألوهيته له و لكل المخلوقات. و قد جاءت صفات الفعل، مثل:

المربي، و الخالق، و الرازق، و الرؤوف، و الرحيم، و القوي، ..

الخ، لتجسد هذا التعامل.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 65

لماذا الحمد؟!:

و نحن إنما نحمده من موقع العرفان بالفضل، الذي يقتضي الشكر للمنعم، لأن الإنسان حين يريد أن يتعامل مع اللّه سبحانه لا بد أن يعرفه أولا. و أعمق درجات المعرفة هي المعرفة الوجدانية. و أعمقها و أشدها تأثيرا هي تلك الناشئة من إحساس الإنسان بالنعمة التي تستلزم معرفة المنعم و المحسن، بدرجة من درجات المعرفة.

و هذا هو الشي ء الذي يتعاطى معه الإنسان بوجدانية و واقعية أكثر و أعمق. حيث تتناغم المعرفة الحسية في مستواها الداني مع ما هو أرقى و أسمى منها و هي المعرفة الوجدانية و الضميرية و الفطرية، التي هي أبعد أثرا من المعرفة التصورية الفكرية، التي هي على حد المعادلات الرياضية، أو العقلية الفلسفية، أو حتى الأمور الغيبية الصرف.

إذ أن الغيب هذا إنما يدخل إليه الإنسان من خلال الحس الوجداني، من حيث ملامسته و مساسه بوجوده، و بحياته و مستقبله.

لغة القرآن في التربية العقائدية:

و لأجل هذه الحقيقة الآنفة الذكر نلاحظ: أن اللّه سبحانه في قرآنه الكريم لم يتكلم عن التوحيد، و عن اللّه، و عن الآخرة،

تفسير سورة الفاتحة، ص: 66

و عن سائر الاعتقادات بمصطلحات فلسفية أو مقتبسة من علم المنطق أو غيره. و إنما دخل إلى الأمور الاعتقادية من باب لغة الحياة، حيث ربطها بصورة مباشرة بالشأن الحياتي العملي المتجسد و الملموس. لتستقر هذه الاعتقادات في القلب من خلال الإحساس، و الشعور المباشر و العميق. و لتتخذ موقعها القيادي و المحرك في هذا القلب.

فمثلا، تحدث اللّه عن التوحيد و ربطه بالليل، من موقع كونه سكنا لهم، ثم ربطه بالنهار، من موقع كونه مناسبا للابتغاء من فضل اللّه سبحانه ثم ربط كلا الأمرين بالرحمة الغامرة، التي تعمل على توفير الأجواء الحياتية الملائمة للسعي نحو التكامل باستمرار.

قال

تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، أَ فَلا تُبْصِرُونَ

تفسير سورة الفاتحة، ص: 67

وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «61».

فاللّه سبحانه قد تحدث إذن عن التوحيد بما له مساس بواقع الإنسان الذي يعيشه و يحس به، و يتفاعل معه بمشاعره و أحاسيسه لا بطريقة تجريدية و نظرية أو بصورة طرح معادلات فكرية جافة.

و في سورة الحمد يريد تعالى أن يطرح قضية التوحيد من موقع التعريف بصفاته تعالى، و الإحساس المباشر بآثار تلك الصفات، ثم سوق هذا الإنسان للإحساس بمدى تأثيره تعالى في كل جهات الحياة، و في جميع مفرداتها، و في كل الموجودات في هذا الكون الرحيب، مع الحرص الأكيد على أن يخرجه عن أن يبقى مجرد أمر تصوري، تجريدي و نظري؛ ليصبح شأنا حياتيا حيا مؤثرا، يفهمه الإنسان، و يتلمسه بوجدانه، و يتحسسه بمشاعره، من خلال إحساسه بالنعمة الغامرة، و بالعطاء، و بآثار الرحمة، و العلم و الغفران، و الحكمة الإلهية، و غير ذلك من صفاته تعالى.

التي يتلمس الإنسان آثارها في كل آن على مدار اللحظات، فضلا عن الساعات، في نفسه، و في كل ما يحيط به، و في كل الموجودات.

______________________________

(61) سورة القصص، الآيات 71 و 72 و 73.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 68

التسبيح بحمد اللّه تعالى:

و في سياق آخر نقول: إننا نجد اللّه سبحانه يقول:

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ «62». و نحن مأمورون بأن نقول في صلواتنا في كل ركوع: سبحان

ربي العظيم و بحمده، و في كل سجود:

سبحان ربي الأعلى و بحمده. و قد اعتبر الشارع هذه الصيغة:

تسبيحة كبيرة. فإذا أردنا أن نتجاوزها، فلا يعوض عنها إلا ثلاث تسبيحات: سبحان اللّه، سبحان اللّه، سبحان اللّه. و اعتبر كلمة سبحان اللّه تسبيحة صغيرة بالنسبة لتلك التسبيحة الكبيرة.

و هنا العديد من الأسئلة:

اشارة

ما معنى هذا التسبيح؟!

و ما هو الرابط بين التسبيح و الحمد؟!

و لماذا كانت تلك تسبيحة كبيرة، و الأخرى صغيرة؟!

و لماذا لا يقوم إلا ثلاث تسبيحات صغار مقام تلك الكبيرة فلا يكفي تسبيحتان مثلا؟!

______________________________

(62) سورة النصر الآية 3. و سورة الحجر الآية 98.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 69

و نقول في الجواب:

التسبيح هو تنزيه اللّه تعالى عن كل شائبة: سواء أكانت من الأفعال الاختيارية: كتنزيهه عن البخل، و عن الظلم، و عن القسوة. أو كانت غير اختيارية كتنزيهه عن الضعف، و الحاجة، و الغفلة، و النسيان، و غير ذلك من أمور تعود إلى الذات. و كتنزيهه عن أمور خارجة عن ذاته سبحانه، مثل الشريك، و الولد، و الصاحبة، و ما إلى ذلك.

و تقدم أن الرحمة هي المدخل إلى الاستفادة من الفيوضات التي تقتضيها كل صفات الذات الإلهية، ليسعد هذا الإنسان بإنسانيته، و سيره التكاملي نحو اللّه تعالى. و بسبب شمولية هذه الفيوضات و استيعابها لكل الحياة و للكون بأسره، فقد استحق اللّه دون غيره حقيقة الحمد (إن كانت أل هي الجنسية) أو جميع أفراد الحمد، إن كانت أل للاستغراق.

و سوف نرى: أنه تعالى إذا كان يحمد من حيث ربوبيته الملازمة للرعاية و التربية، فمعنى ذلك هو شمولية الحمد و استغراقه، و ذلك لأن شمولية آثار الصفات سوف تتسع لتستوعب كل ما له تأثير في هذه الرعاية؛ فالحكمة، و العطف، و العلم الدقيق بخصائص الكون و الإنسان، و بما يصلح و بما يفسد، و الرحمة، و الغنى، و الكرم، و القدرة، و القيومية الدائمة، و والخ .. كل ذلك دخيل في هذه الرعاية و التربية، و مؤثر فيها.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 70

فالفيض الإلهي لكل ما تقتضيه التربية لهذا الإنسان، و الشعور

بهذا الفيض يستدعي الحمد، و الثناء. ثم الشكر، لهذا المنعم، و التزام كل ما يرضيه.

و من الواضح: أننا حين نريد تنزيهه تعالى: نقول:

سبحان اللّه. أي أنزه اللّه و أبعده عن كل شائبة، فقد يقال: هذا مجرد كلام ليس له ما يثبته.

فإذا سبحت اللّه بواسطة الحمد، و نسبت التسبيح لك شخصيا، و قررت أن هذا التسبيح و التنزيه إنما هو للّه بعنوان كونه ربا أي راعيا و مربيا، فإن الأمر يصبح مختلفا تماما عن قولك: سبحان اللّه فقط، و يكون هذا هو الإثبات المطلوب.

و ذلك لأن الحمد يكشف عن: أن اللّه سبحانه قد اتصف بصفة حسن ثابتة فيه استحق الحمد لأجلها، ككونه ليس له شريك، و لا ولد و لا صاحبة، و لا مكان، لا ينسى، و لا يسهو، و لأنه عالم حي قيوم قادر غني، الخ .. كما انه يعني أنه تعالى قد صدرت عنه أفعال اختيارية استحق لأجلها الثناء و الحمد، هي كل ما في هذا الكون من نعم نستفيد منها مباشرة أو بالواسطة «63» كالخلق، و الرزق، و الرحمة و الرأفة، و الشفاء،

______________________________

(63) حتى في مثل الطبيب الذي يشفيك بقدرة اللّه، و الكريم و الهادي الذي يعطيك و يهديك مما أنعم اللّه به عليه، و بهداية اللّه و توفيقه، و إذنه و إرادته.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 71

و القيومية، الخ .. فانتزعنا من هذه الأفعال الاختيارية صفات جمال و أضفناها إلى ذاته المقدسة: كالخالق و الشافي و العالم، و القادر الخ .. فالحمد إذن ينتهي إليه. قال تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «64».

فإذا سبحت اللّه بالحمد فإنك لم تنف النقص بالقول و حسب، بل جئت بما

يدل على انتفاء ذلك النقص عمليا. لأن حمدك هذا يدل على صدور فعل اختياري عنه تعالى قد تجسد في الخارج، بل إن ذلك يدل على أزيد من نفي النقص، و أزيد من الكمال.

و توضيح ذلك: أنه قد يكون شخص مستجمعا لكل الصفات البشرية كالعينين و الأذنين و اليدين و الرجلين و العقل الخ ..

فهو إذن كامل لا نقص فيه. و قد يكون شخص فيه مما يزيد على هذا الكمال، ككونه جميل الصورة، أو أنه عالم. أو قوي، أو كريم، أو نحو ذلك.

و الأمر بالنسبة للذات الإلهية من هذا القبيل، فإن نفي النقص يستبطن إثبات الكمال، و هذا مرتبة أولى، ثم يكون إثبات صفات زائدة على الكمال مرتبة ثانية، فإذا حمدته تعالى فإنك تكون أثبت له الكمال بنزاهته عن النقص بالدليل و تكون أيضا

______________________________

(64) سورة القصص، الآية 70.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 72

قد أثبت صفة إضافية بالدليل أيضا. من حيث أن حمدك يستبطن تأثير تلك الصفة و تجسد أثرها على صفحة الواقع. فإذا أثبت الربوبية فقد جئت بدليل آخر يفيد انبساط تلك الآثار على كل وجود، و كل ما في هذا الكون الفسيح. مما يعني تنوع تلك الصفات التي أثرت هذه الآثار المتنوعة و المستوعبة لكل جهات وجودك.

ثم نسبت المربوبية إلى نفسك كفرد (ربي)، لتؤكد على أن هذا التنزيه و الحمد هو منك على الحقيقة، لأن التربية كانت تتوخّى شخصك مباشرة، و ليست أمرا بعيدا عنك قد استهدف الحياة في مجالها العام.

و خلاصة الأمر: إن التسبيح بالحمد يكون تنزيها مستدلا عليه بالدليل الحسي، لأن الحمد يدل التزاما على أن صفات اللّه سبحانه قد تجسدت بآثارها، و أصبحت واقعا حيا، و فعلا اختياريا يستحق الحمد و الثناء. فالدليل

على نزاهة اللّه من النقص هو هذا الكمال المتجسد، و هو الرازقية و الخالقية، و الشفاء و العطاء و الرأفة الفعلية.

فلم يعد الكمال مجرد دعوى، و إنشاء كلامي.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 73

و قد تكرر التسبيح بالحمد في كثير من الآيات: مثل قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ «65»، وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «66»، و غير ذلك.

و ذلك كله يفسر لنا سرّ ترديدنا في صلاتنا: سبحان ربي العظيم و بحمده.

لماذا تسبيحة كبيرة:

أما لماذا كانت هذه تسبيحة كبيرة تعادلها ثلاث تسبيحات صغار هي: سبحان اللّه- ثلاثا- فلعله لأجل: أن التسبيحة الكبيرة تضمنت ثلاثة تنزيهات للّه تعالى:

التنزيه الأول: هو ما تضمنته كلمة" سبحانه" من إنشاء للتنزيه و تفوه به.

التنزيه الثاني: أنها نسبت التنزيه لكلمة" رب" التي تلمح إلى دليل ذلك التنزيه و هو التربية و الرعاية الإلهية، التي تحتاج في تحققها إلى العديد من الفيوضات و العنايات المستندة إلى صفات إلهية جمالية و جلالية متنوعة و كثيرة، كالعلم، و الحكمة، و الرحمة، و القوة و الغنى، و الحياة، و القيومية و غير ذلك. و هذا

______________________________

(65) سورة النصر، الآية 3.

(66) سورة الإسراء، الآية 44.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 74

التنزيه أشد من التنزيه بمجرد نفي النقص، لأن إثبات تلك الصفات معناه إثبات شي ء زائد على الكمال أيضا.

ثم نسبت هذه التربية إلى نفسك" ربي" لتؤكد على أن شخصك هو المعني بهذا التنزيه، لأنه كان المعني مباشرة بالتربية.

ثم جاء وصف اللّه بالعظيم ليؤكد على ثبوت تلك الصفات له تعالى بصورة أتم و أعلى، أوجبت وصفه بالعظمة.

التنزيه الثالث: قوله: و بحمده. أي و أسبح بواسطة الحمد. حيث إنها تماما مثل كلمة" رب" قد أظهرت: أنه تعالى قد فعل تجاهك باختياره ما هو جميل

و حسن، صادر عن صفة جمال أو كمال ثابتة فيه تعالى. مما دعاك إلى إنشاء هذا الحمد و الثناء.

فإثبات صفة الكمال أيضا بالحمد قد نزه اللّه عن النقص، و أثبت أمرا زائدا على الكمال و هو ما يوجب جمالا أيضا.

فهذه التنزيهات الثلاثة تصبح أقوى في الدلالة على التنزيه من كلمة سبحان اللّه، مجردة، فكانت تلك تسبيحة كبيرة، تعادل ثلاثة تسبيحات صغيرة، بل و تزيد عليها. لأنها دعوى للشي ء مع دليله، و تثبت ما هو فوق التنزيه عن الشريك و عن النقص و غير ذلك، و لا سيما بملاحظة ما توحي به كلمة" العظيم".

تفسير سورة الفاتحة، ص: 75

شمولية كلمة: رب

و أخيرا، فإن" رب": كلمة تستبطن جميع أسماء الفعل للذات الإلهية المقدسة، لأن ربوبيته تعالى من موقع تدبيره. و هو يقتضي أن يكون حكيما، عليما، قادرا، خالقا، شافيا، الخ ..

العالمين:

اشارة

العالمون: جمع لا واحد له من لفظه و ليس جمع عالم، كما زعم بعضهم. بدليل: أنهم قالوا: إن جمع المذكر السالم هو ما كان جمعا لمذكر عاقل. و العالم ليس مذكرا و لا عاقلا، فليس العالمون جمعا له، و إن كان قد جاء على صورة الجمع فألحقوه به في الإعراب إلحاقا. قال ابن مالك في ألفيته، عن جمع المذكر السالم و إلحاق بعض الألفاظ به:

و ارفع بواو و بيا اجرر و انصب سالم جمع عامر و مذنب

و شبه ذين و به عشروناو بابه الحق و الأهلونا

أولوا و عالمون عليوناو أرضون شذ و السنونا

أضف إلى ما تقدم: أن كلمة" عالم" يراد بها كل هذا الوجود بما فيه، فإذا أردت أن تجمعها، فلا بد من تقسيمها إلى أشياء صغيرة، كعالم النبات و عالم الجماد، و عالم الحيوانات و عالم ..

ثم تجمع هذه الأشياء، و مع ذلك فإن الجمع لن يتجاوز مفرده في شموليته، لأن المفرد يشمل كل شي ء في الوجود، و الجمع-

تفسير سورة الفاتحة، ص: 76

و الحالة هذه- قد لا يشمل كل شي ء. فيكون الجمع أخص من المفرد أحيانا، أو مساويا له على أبعد تقدير، و كلاهما لا يصح.

ما المقصود بالعالمين:

اشارة

و هنا سؤال؛ و هو:

هل المقصود بالعالمين هو كل الموجودات و المخلوقات؟ أم المقصود نوع خاص منها؟

و هل تشمل الجن و الملائكة. بل و حتى سائر الموجودات الأخرى، على فرض أن لها درجة من الشعور و الإدراك؟ أم لا تشمل شيئا من ذلك؟

و نقول:

هنا جوابان، الأول منهما يصلح مقدمة للجواب الثاني، و هما:

أولا: التربية للعالمين:
اشارة

إن المقصود بالعالمين معنى يتناسب مع أمر التربية، و الانتقال من حالة النقص إلى حالة الكمال، إذ لا يمكن تربية ما يفقد القابلية للتحول و الرقي و الانتقال. و قد دلت الآيات على أن الجمادات، بل جميع الموجودات أيضا، لها درجة من الشعور،

تفسير سورة الفاتحة، ص: 77

و الإدراك، بحيث تستطيع تسبيح اللّه؛ قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «67».

و قال: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ، وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ «68».

و لم يقل: يسبح من. فإن" ما" تستعمل لغير العاقل.

و كلمة" من" للعاقل.

و قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «69».

وثمة آيات عن سجود الموجودات. و هي كثيرة «70».

وثمة آيات تحدثت عن دور عاقل للنملة، و للهدهد، و تجلي اللّه للجبل، فجعله دكا. و خشوع الجبل و تصدعه من خشية اللّه و غير ذلك.

______________________________

(67) سورة الإسراء، الآية 44.

(68) سورة التغابن، الآية 1.

(69) سورة الأحزاب الآية 72.

(70) سورة النحل، الآية 49. و سورة الرحمان، الآية 6.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 78

و قد نلمح في القرآن أن جميع الكائنات قابلة للتربية و للتكامل، حيث أشار القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى ربوبية و رعاية اللّه تعالى

للجمادات أيضا.

قال تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما* «71» رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ* «72» و رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* «73».

و غير ذلك من آيات كثيرة قررت هذه الربوبية.

إلا أن يقال: إن ربوبية كل شي ء و تكامله إنما هو بحسبه، و من خلال ما يملك من معطيات.

أو يقال: المراد بالرب هنا الإله.

و نقول: إن هذا الاحتمال الأخير يحتاج إلى ما يثبته.

و نشير هنا إلى أمرين:

الأول: سجود المخلوقات و تسبيحها ليس تكوينيا.

و قد حاول البعض أن يقول: إن هذا التسبيح إنما هو من حيث أن وجودها و عجيب خلقتها فيه تنزيه للّه سبحانه عن كل نقص، و عن الشريك و غير ذلك، فهي تسبحه تعالى بلسان التكوين. و تسجد له بمعنى تخضع له تكوينا أيضا .. و عرض

______________________________

(71) سورة ص الآية 66. و سورة الصافات الآية 5.

(72) سورة المزمل، الآية 9.

(73) سورة المؤمنون، الآية 86.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 79

الأمانة إنما هو تصوير رمزي لعدم قدرة هذه الموجودات تكوينا أيضا.

و نقول:

إن هذا التوجيه غير صحيح، فإن قوله تعالى: وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، يدفعه و ينافيه، إذ أن هذا التفسير معناه:

أننا نفقه تسبيحهم؟!

و كون السجود بمعنى الخضوع التكويني فقط، ينافيه قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ «74».

فقوله:" و كثير من الناس" دليل على أن المراد بالسجود ليس هو الخضوع و الانقياد التكويني. فإن الناس جميعهم يخضعون تكوينا له تعالى.

و آية الأمانة أيضا لا يصح تفسيرها بما ذكر،

لأنه تعالى يقول:" و أشفقن منها" و الإشفاق، إنما هو انفعال نفساني خاص، و ليس خضوعا تكوينيا.

______________________________

(74) سورة الحج، الآية 18.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 80

إذن فنحن أمام حقيقة قرآنية هي: أن جميع المخلوقات لهد درجة من الشعور و الإدراك، بحيث تسبح اللّه، و تسجد له، و تشفق من بعض الأمور، و تقبل و ترد بالاختيار و الإرادة. و لكن كيف يتم ذلك!! هذا ما لا نعلمه، و قد لا يتسنى لنا العلم به و بحقيقته و كنهه، و مستوياته.

الثاني: تكامل الإدراك و الشعور و مستواه:

و يبقى أمامنا سؤالان: الأول: عن مستوى و درجة شعور و إدراك الموجودات، من الجماد و النبات، و غيرهما.

الثاني: هل هذا الإدراك و الشعور فيه قابلية النمو و التحول. أم أنه مقفل و محدود في هذه الناحية؟

و الجواب على كلا السؤالين هو: أننا لا نملك الكثير من المعطيات التي تجعلنا قادرين على إعطاء إجابة قاطعة في هذا المجال.

بل إن أكثر ما نعرفه في هذا المجال، هو نفس ما حدثنا عنه القرآن الكريم، و نبي الإسلام العظيم. و لأجل ذلك فنحن لا نتشجع كثيرا للبحث في هذا الأمر، لأننا غير قادرين على إغنائه بالشواهد و الدلائل التي نتجاوز من خلالها حدود المعارف التي رآنا اللّه أهلا لأن يخاطبنا بها في آياته الكريمة، و على لسان نبيه العظيم.

و لم يذكر لنا أكثر من كونها لها درجة من الشعور، و أنه تعالى رب لكل شي ء أما كيف؟ و إلى أي مستوى؟ و أي حد؟ فذلك ما لم يفصح لنا عنه القرآن الكريم.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 81

ثانيا: العالمون خاص بالبشر:
اشارة

إننا إذا تتبعنا الآيات القرآنية نجد: أن كلمة العالمين تستعمل غالبا في خصوص البشر العقلاء، كقوله تعالى:

وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ «75».

وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ «76».

صُدُورِ الْعالَمِينَ «77».

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً، وَ آلَ إِبْراهِيمَ، وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «78».

وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ «79».

ذِكْرى لِلْعالَمِينَ «80».

أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ «81».

______________________________

(75) سورة آل عمران، الآية 42.

(76) سورة البقرة، الآية 47.

(77) سورة العنكبوت، الآية 10.

(78) سورة آل عمران، الآية 33.

(79) سورة آل عمران، الآية 108.

(80) سورة الأنعام، الآية 90.

(81) سورة الحجر، الآية 70.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 82

آيَةً لِلْعالَمِينَ «82»

ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «83».

لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً

مِنَ الْعالَمِينَ «84».

و موارد كثيرة أخرى ظاهرة في ان المقصود بالعالمين هم البشر، لقرائن فيها، مثل كونها مجتمعات فيها نساء، أو ظلم، أو تعذيب، أو ذكر، أو نحو ذلك.

استدلال لا يصح:

أما قوله تعالى؛ حكاية لقول فرعون و موسى عليه السّلام قالَ فِرْعَوْنُ: وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، وَ ما بَيْنَهُمَا «85». و كذا قوله تعالى: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ «86». فقد تخيّل بعضهم: أن المقصود بالعالمين في هذه الآية هو ما يشمل السماء و الأرض، فتكون لغير العاقل. و لعله لأنه رأى أنها بدل مما قبلها.

______________________________

(82) سورة الأنبياء، الآية 91.

(83) سورة المائدة، الآية 20.

(84) سورة المائدة، الآية 115.

(85) سورة الشعراء، الآية 23.

(86) سورة الجاثية، الآية 36.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 83

و قد أكد هذا الأمر فرعون باستعماله كلمة" ما" التي تستعمل بالأصل في غير العاقل.

و نقول: إنه تخيّل باطل، فأما بالنسبة لكلام فرعون، فهو يريد أن يوهّن و يحقّر مقام الربوبية الذي يتحدّث عنه موسى، و يظهر للناس أنه رب غير عاقل، و لا يصلح لأجل ذلك للربوبية، ليثبت للناس: أنه هو ربهم الأعلى.

و أما كون كلمة:" رب العالمين" بدلا مما قبلها، فذلك لا يضر، ما دام انه يمكن أن يكون موسى عليه السّلام قد أراد التعبير عن هذا الرب بذكر ميزات عديدة له ليدفع أي لبس أو اشتباه، فذكر ربوبيته للسماء و الأرض، و للعقلاء أيضا- و هم العالمون- فليست الآية بصدد إجمال ما تقدم بجميع خصوصياته.

ربي أم رب العالمين:

و أما لماذا لم يقل: الحمد للّه ربي، أو ربنا. بل قال: رب العالمين، فلأنه تعالى يريد منا: أن نحيا حياة اجتماعية و يعين بعضنا في مسيرتنا نحو الكمال، إذ لا يكفي التكامل الفردي و الشخصي، فيكون الناس أفرادا، يحيون حياتهم الخاصة منفصلين تمام الانفصال بعضهم عن بعض.

فاللّه يتعامل معنا من موقع المربي للعالمين جميعا، و علينا أن نتعامل

معه من موقع الاستجابة لهذه التربية و بمرونة اجتماعية عامة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 84

و إن كانت محدودة وفق ما يتوافر من إمكانات و طاقات، لا من موقع فرديتنا، و لأجل ذلك نجده تعالى يركز على هذه الناحية، فهو رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* «87» و هو رَبِّ الْعالَمِينَ* «88» و هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ «89».

الكون المتوازن:

و نحن إذا دققنا النظر في هذا الكون الفسيح، فإننا لا نجد سوى التوازن الدقيق و الانسجام و التناسق الظاهر في كل مزاياه و زواياه، و الكل يسير باتجاه الهدف المحدد- كل ميسر لما خلق له- و لا يتخلف عن هذا الأمر إلا هذا الإنسان الذي يتعامل الكثيرون من أفراده بخصوصيتهم الفردية و الشخصية، و من منطلق الأنا.

و لنضرب مثالا توضيحيا لما نريد تقريره هنا:

لنفترض شجرة تنمو وسط مجموعة من مثيلاتها في حديقة أو بستان.

______________________________

(87) سورة الشعراء، الآية 26. و الصافات 126.

(88) الآيات القرآنية المتضمنه لهذه العبارة كثيرة جدا.

(89) سورة الأنعام، الآية 164.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 85

فلهذه الشجرة- من جهة- خصوصيتها الفردية، و إيحاؤها الشخصي كشجرة. فيمكن أن نفترضها و الحالة هذه تنمو بصورة عشوائية تضرب بجذورها و فروعها في كل اتجاه باحثة عن كمالاتها الفردية هنا و هناك. بحيث قد تصل في امتداداتها و تشعباتها إلى حدود و مستويات تحجب معها عن مثيلاتها التي بالقرب منها نور الشمس، و الغذاء و الماء، و تنشر الضعف و الشلل في ما يحيط بها، و تزرع و تثير الفوضى، و التشويه الجمالي، و العشوائية في الإيحاء العام للبستان كله.

و لها خصوصية من حيث كونها جزءا من التركيبة الجمالية، و الإيحاء العام للحديقة أو البستان. و هذه الناحية تفرض درجة من التهذيب و التشذيب، و صياغة غصونها و سائر عناصر شخصيتها بطريقة لها إيحاءاتها الجمالية التي تتناغم مع إيحاءات مثيلاتها، التي تشاركها في صياغة حالة جمالية جديدة و عامة. و حينئذ لا بد أن نطلب من البستاني أن يتدخل ليتدارك أي خلل قد يطرأ على الناحية الجمالية العامة، فيبدأ عملية التشذيب بل و الاستئصال أحيانا لشجرة تمثل حالة فردية شاذة لا تنسجم مع المحيط

العام.

و تؤدي إلى اختلال التوازن، و الفوضى، و التشويش في ملامح الصورة البستانية، و أهدافها و معطياتها.

و نتيجة لذلك التشذيب و التهذيب، تعود للحديقة جماليتها، و للبستان رونقه، و تسهم تلك الشجرة- إذا استطاعت

تفسير سورة الفاتحة، ص: 86

المشاركة- في صنع ملامح تلك الصورة. و تسهم في الإيحاء المطلوب في مسيرة تكاملية، و مشاركة جماعية في صنع وضع جماعي سليم، و طبيعي و قويم.

و كذلك الحال بالنسبة للحياة الإنسانية أيضا. و قد جاءت هذه الآية الشريفة:" رب العالمين" لتوحي بذلك كله في عملية توجيه عفوي لهذا الإنسان نحو المشاركة في صنع هذا الواقع الاجتماعي للإنسان في حياته العامة. و هي بمثابة دعوة له لصنع التوازن و الانسجام في محيطه العام خلال مسيرته الإنسانية التكاملية؛ فيصوغ حياته و إنسانيته و خصائصه بطريقة تحتفظ معها بفرديتها، و لكنها تنسجم و تتوازن و تتكامل مع كل ما يحيط بها، و لا تصطدم معه، بل تشكل هي و إياه رافدا للخير و العطاء، و السمو و التكامل و النمو.

و قد تفرض هذه المشاركة الإيجابية الواعية و المسؤولة قدرا من التضحية من بعض الناس، فيتخلون عن خصائص و امتيازات شخصية و فردية لهم غالية و حبيبة، تكون هي الثمن لما تنعم به المجتمعات من سعادة و رخاء، و وئام و صفاء.

الألوهية و الربوبية معا:

و حين يستقر في وعي الإنسان: أن ثمة خالقا مدبرا لهذا الكون فإنه يدرك: أن هذا الخالق قوي، و غني و عظيم، و قهار و ما

تفسير سورة الفاتحة، ص: 87

إلى ذلك من صفات ألوهية، تعني مزيدا من الإحساس بالبون الشاسع، فيما بين هذا الإنسان الضعيف، العاجز، المحتاج، الخ .. و بين ذلك الإله الخالق العظيم، و قد يتحول هذا

الإحساس بالبون- بصورة لا شعورية- إلى إحساس بالبعد عنه، و بانقطاع العلاقات و الروابط معه أيا كانت «90».

و لأجل ذلك نلمح مزيدا من الإصرار في الآيات القرآنية على تجسيد العلاقة بين اللّه و بين العباد، كواقع حي، يتلمسه هذا الإنسان بأحاسيسه الظاهرة قبل الباطنة. في كل حين، و في كل مجال.

كما أن ثمة تركيزا واضحا على تكوين شعور قوي و عميق بربوبيته سبحانه لهذا الإنسان، و رفقه به، و رعايته له من موقع

______________________________

(90) و قد تجلت سلبيات هذا الشعور حين تحول إلى انحراف فكري خطير جدا حين قالت بعض الفرق: إن اللّه قد كتب ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة، و لم يعد قادرا على أي عمل، و لا يستطيع التدخل لتغيير أي شي ء بل هو محكوم بقدره مغلول اليد، كما قالت اليهود: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا).

فهو تعالى قد أوجد الخلق و انته دوره، و بطل تأثيره. فلم تعد النظرة إليه من المخلوقين- على أساس هذه النظرة المنحرفة- من موقع الحاجة. و لم يعد لصفاته تأثير. فتعطلت و انتهت و بطل مفعولها. و لم يعد الكريم، و الرحيم، و العطوف، و والخ ..

تفسير سورة الفاتحة، ص: 88

المحبة، و الرعاية و التدبير لكل شؤونه على أساس الحكمة و الإشراف و الهيمنة.

فاللّه أوجدك، و لا يزال يرعاك، و يهتم بك، و يدبر شؤونك، و أنت لا تزال بحاجة إليه، و تتعامل معه من موقع حاجتك و غناه، و ضعفك و قوته، فهو يعينك شخصيا في كل آن، و في كل مكان. إنه هو الذي يحميك، و هو الذي يحضنك، و يرشدك، و يهديك، و هو الذي يرزقك، و يشفيك

و هو الذي يرعاك و يربيك.

و من باب ربوبيته لك تنفتح على كثير من صفات الجمال فيه، فهو الراحم و العطوف، و الحكيم، و الحنان، و المنان.

و هذا كله سيجعلك تتعامل معه بروح الود و المحبة، و الحميمية و الصفاء، و الامتنان و الوفاء.

نتائج ثلاثة:

و نستنتج من ذلك الأمور التالية:

إن التعامل الصحيح مع اللّه ليس على أنه موجد و حسب، بل على أساس أنه موجد، و مرب، لا يزال يرعى، و يحفظ، و لسوف نبقى بحاجة إلي ذلك.

إن إحساسنا بالحاجة إليه و إلى رعايته و تربيته لنا يتطلب منا أن نؤهل أنفسنا لهذه التربية، و نستعد لها، و نتجاوب معها. فلا

تفسير سورة الفاتحة، ص: 89

نشعر بالامتلاء و الشبع، و عدم الحاجة إلى المزيد من الكمال و السمو. لأن شعورا كهذا معناه منع تلك الرعاية، و الهداية الإلهية من التأثير، و بالتالي الإحتجاب عن الفيوضات الإلهية الضرورية لذلك.

بما إن الإنسان يحب نفسه، و يحب الكمال لها، فهو يحب الجهة التي تساعدها و ترعاها، و تسعى لرفع نقائصها لتنال ذلك الكمال المنشود. فإذا عرف و شعر- عمليا- أن اللّه سبحانه هو الذي يتولى ذلك من موقع المعرفة، و الحكمة، و الرحيمية، و القدرة، فلسوف يتجه إليه سبحانه، و يرتبط به، على أساس الاعتراف بالنقص، و بالحاجة، و العرفان بالفضل، ثم هو يتعامل معه من خلال صفات الألوهية و الربوبية التي يجد فيها ما يغنيه.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 91

تفسير قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اشارة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 93

الرحمن الرحيم: مرة اخرى:

و قد اتضح مما تقدم: أن قوله:" الرحمان الرحيم" بعد قوله: الحمد للّه رب العالمين. قد جاء في موقعه الطبيعي. فإنه تعالى إنما يرعى الإنسان و يربيه بصورة متوازنة، لا يهمل جهة فيه على حساب أخرى. فيرزقه حيث يحتاج إلى الرزق، و يشفيه حيث يحتاج إلى الشفاء، و يعمل قدرته في موضع القدرة و رحمته في موضع الرحمة و العلم و الحكمة، و والخ .. كل في موقعه.

و هذه هي أفضل رعاية، و أمثل تربية. يصل الإنسان من باب الرحمة إلى الربوبية، و من الربوبية إلى صفات الألوهية.

و إنما دخلنا إلى الربوبية من باب الرحمة، لأن الرحمة- كما قلنا سابقا- إنما هي نتيجة ملاحظة نقص أو ضعف، أو عجز لدى الآخرين، يدفع إلى التحرك باتجاه رفع هذا النقص، أو العجز أو الضعف. و هذا بالذات هو مورد التربية، التي هي الانتقال التدريجي لنا من حالة نقص أو ضعف أو عجز إلى حالة كمال و قوة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 94

أعلى منها و أتم. و يكون ذلك بدافع من رحمة و عطف تشأ عن مشاهدة ذلك الضعف و العجز.

فيصبح قوله تعالى: الرحمان الرحيم، نتيجة طبيعية لقوله:

رب العالمين.

أليست المرأة تهتم- عادة- بتربية طفلها، و تلبية حاجاته، و الحفاظ عليه، و تتحمل الأذى الكثير و الكبير في سبيل ذلك؟!

إن ذلك ليس نتيجة شعورها بالواجب الشرعي أو القانوني الملح. بل لأنها تلاحظ عجزه عن الأكل و الشرب، و عن الحركة، و عن دفع الحر و البرد و سائر الأخطار عن نفسه، فتندفع بدافع من الشعور بالرحمة و العطف لرفع هذا النقص فتحميه و ترعاه و تسهر عليه.

إذن، فمجرد الشعور بالنقص لدى الآخرين لا يكفي للتحريك

باتجاه رفعه، إذ قد يلتذ البعض برؤية آلام الآخرين. بل لا بد من الانفعال الإيجابي تجاهه، و هو ما نسميه بالرحمة.

النقص حقيقي و أساسي:

فتشير كلمة" الرحمان الرحيم" إلى أن هذا النقص ليس بعد تحقق أصل الكمال، ليكون نقصا لما هو زائد عن حد الكمال، كان ينبغي أن يضاف إليه. و إنما هو حاجة و ضعف و نقص عن حد الكمال نفسه. و إلا، فلو كان الكمال حاصلا، و النقص

تفسير سورة الفاتحة، ص: 95

و الضعف إنما هو في عدم نيل الزائد عنه فلا يبقى هذا المورد مصداقا و محلا للرحمانية الشاملة، و لا للرحيمية الثابتة و الراسخة و الدائمة.

ثبات و استمرار الرحمة:

و لا بد من هذا الدوام و الاستمرار للرحيمية بالنسبة لهذا الإنسان، لأن كل شي ء إذا وصل إلى درجة كماله؛ فإنه قد يبقى ثابتا عليها، إلا الإنسان، فإنه دائما في معرض النقص بسبب أنه يملك غرائز و شهوات و طموحات قد تزل قدمه، و تجره إلى المخاطر بل المهالك. فهو بحاجة إلى استمرار هذه الرعاية، و دوام إفاضة الألطاف عليه، حتى و هو في أقصى حالات كماله.

دوافع التربية و الرعاية:

ثم إن هناك رعاية و تربية من موقع الأنانية الشخصية للمربي، حيث يرى أن ثمة نقصا يعود إليه. و ذلك مثل تربية الأولاد، فإنها قد تكون أحيانا بسبب أنانيتنا المهيمنة على مشاعرنا. و لكن رعاية اللّه سبحانه لنا، هي محض التفضل، و محض الرحمة، و محض الخير.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 96

فاتضح من جميع ما تقدم أن" الرحمان الرحيم" كانت هنا هي النهاية، كما كانت" الرحمان الرحيم" هي البداية في آية" بسم اللّه الرحمان الرحيم" و ما أحوجنا لهذا الأمر، و ما أشد غفلتنا عنه.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 97

تفسير قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

اشارة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 99

المعاد مشكلة حقيقية للمشركين:

و قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قد أشار إلى أصل مهم جدا من أصول الدين. و هو المعاد، و القيامة، حيث الحساب و الجزاء، و الثواب و العقاب.

و هذا هو الأصل الأكثر حساسية، و الذي كان يثير حفيظة المشركين، و يحرجهم، و يخرجهم عن أدنى حالات التوازن.

فلماذا هذه الحساسية المتناهية منهم تجاه هذا الأصل يا ترى؟!

للإجابة على هذا السؤال نقول:

إن المشركين و إن كانوا يتمسكون بعبادة الأصنام، إلا أنهم ما كانوا حريصين على عبادتها و على رفض التوحيد إلى درجة أن يضحوا في سبيلها بالمال و الرجال، و الأهل و الولد، و بكل شي ء.

و لم يكن الاعتقاد باللّه عز و جل و بأنه خالق رازق، رحيم، عزيز الخ .. بالأمر البعيد عن أذهانهم، و قد أشار تعالى إلى ذلك، فقال:

تفسير سورة الفاتحة، ص: 100

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .. «91».

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .. «92».

بل إن عبادتهم الأصنام لم تكن تعني لديهم رفض عبادة اللّه، بل كانوا يرون أن عبادتها توصل إليه تعالى، قال سبحانه:

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «93».

نعم، هم كانوا يرون أن للأصنام نوعا من التأثير في أوضاعهم، فهي تؤثر في سعة رزقهم، و شفاء مرضاهم، و في دفع أعدائهم، و في حل مشاكلهم.

فلو أنهم عدلوا عنها إلى الاعتقاد بأن اللّه سبحانه هو الذي يتولى هذه الأمور و غيرها لهم، فهو الذي يرزقهم و يشفيهم، و يدفع أعداءهم و يحل مشاكلهم. فإنهم سوف لن يرفضوا ذلك و لن

يقاوموه بهذه الشراسة.

______________________________

(91) سورة العنكبوت، الآية 61. و راجع: سورة لقمان، الآية 25. و سورة الزمر، الآية 38. و سورة الزخرف، الآيات 9 و 87.

(92) سورة العنكبوت، الآية 63.

(93) سورة الزمر، الآية 3.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 101

كما أن اعتقادهم بنبوة النبي لم يكن يمثل لهم مشكلة كبيرة أيضا. و ما اسهل عليهم أن يعتقدوا أن محمدا يكلّم من السماء لو كان الأمر يقتصر على ذلك. بل لقد عرضوا على النبي (ص) أن يملكوه عليهم، و يعطوه الأموال، و يزوجوه من شاء. فالقضية إذن بالنسبة إليهم ليست قضية الجاه و المقام النبوي للنبي (ص)، و حسب.

و لكن المشكلة كل المشكلة، و الكارثة الحقيقية بالنسبة إليهم، و علة العلل في رفضهم الانقياد للنبي (ص) هي الاعتقاد بالمعاد، و بيوم الدين، و الجزاء و الحساب، و الثواب و العقاب، و هي المشكلة التي تحدث عنها اللّه هنا بقوله" مالك يوم الدين".

و لا يقتصر ذلك على المشركين بل يشاركهم اليهود في هذا الأمر أيضا. فإن حاكمية اللّه ليوم الدين هو الموضوع الأكثر حساسية، و الأكثر إثارة لهذين الفريقين من الناس، لأنه هو الموضوع الأكثر حيوية، و ملامسة لحياة الإنسان، بكل تفاصيلها حتى أخص الخاص منها.

لأن الاعتقاد بالحساب و بالدينونة يقتضي منهم أن يرتبوا حياتهم من جديد، بطريقة تؤدي إلى السلامة الحقيقية في يوم الدين. و يخرج القرار من يدهم في كبير الأمور و صغيرها، و يجعلهم ملزمين بامتثال أوامر اللّه، الذي عرفوا بعضا من صفات ألوهيته و ربوبيته، ككونه حيا قيوما، عالما، قادرا، رازقا الخ ..

تفسير سورة الفاتحة، ص: 102

إن هذا الاعتقاد يخلق لدى الإنسان شعورا مختلفا (لا يخلقه الاعتقاد بالتوحيد، أو بالنبوة، أو بغير ذلك) و هو اعتقاد

له آثار عملية، لأنه يجعل الإنسان يشعر بأنه مطالب و محاسب و مسؤول عن كل ما يصدر منه، و ليس حرا في أن يفعل كل ما يحلو له، بل عليه أن يعيد النظر في كل كبيرة و صغيرة في حياته، حتى في أموره الاعتقادية في أدق تفاصيلها، و في سلوكياته، في صغيرها و كبيرها على حد سواء، و في مشاعره، و علاقاته، و ارتباطاته العاطفية، و في كل شأن، و في كل شي ء يمكن أن يطالب به في يوم الحساب.

و من خلال الاعتقاد بيوم الدين ينفتح هذا الإنسان على اللّه، و على صفاته. خصوصا: عليم، جبار، منتقم، عزيز .. لمن يكون طاغيا مستكبرا، متمردا و قاسيا. فيتراجع: ليدخل من باب الرحمان الرحيم إلى: التواب الغفور، الودود و ينتهي إلى الحمد على تربيته و رعايته له، و ينال الشعور بالأمن مع اللّه، و مع صفة المؤمن، و البر، و السّلام.

و إن لم يتراجع هذا الإنسان. فلسوف يعيش حالة الإحباط، و اليأس، و الخسران أمام صفات المنتقم، الجبار، العزيز الخ ..

فالاعتقاد بيوم الدين هو الأساس، في شعور الإنسان بالمسؤولية عن التغيير في كل حياته، و ليدخل في دائرة التعبد و الانقياد الحقيقي للّه، و الانصياع لكل أمر و نهي و نفي أي عبودية

تفسير سورة الفاتحة، ص: 103

لغيره تعالى: من شخص أو مقام، أو مال، أو هوى، أو صنم، أو أي شي ء له تأثير بدرجة ما على سلوك و مواقف الإنسان، حيث لا بد أن يكون التأثير للّه وحده، و العبودية الخالصة له تعالى دون غيره. ثم يطلب الاستعانة المطلقة به، و الهداية منه كما سنوضحه.

و لهذا نجد أنهم حينما ظهر الإسلام في مكة، كانت ثورتهم الحقيقية و

العارمة ضد الإيمان بالمعاد و الجزاء و القيامة. لأنها تستهدف التغيير الكامل و الشامل في كل شي ء في حياتهم. و مما زاد في حنقهم أنهم رأوها تجد آذانا صاغية لدى الكثيرين، فزاد خوفهم و رعبهم. و لذلك نجد أن القرآن الكريم لم يزل يؤكد على البحث و الجزاء و القيامة. و يضرب لهم الأمثال الإقناعية لذلك و لا يزيدهم ذلك إلا إصرارا و جحودا و عنادا.

قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «94».

و قال سبحانه: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «95».

______________________________

(94) سورة المؤمنون، الآية 37.

(95) سورة يس، الآية 79 و 78.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 104

و قال عز و جل: أَ وَ لَمْ يَرَوْا: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى «96».

و قال عز شأنه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ «97».

ثم بيّن سبحانه سبب إنكارهم ليوم القيامة، فقال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ. فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ .. «98».

إذن، فهم ينكرون يوم القيامة؛ لأنهم يريدون أن يبرروا فجورهم و انحرافهم، و كل تصرفاتهم. و أن يبرروا إصرارهم على مواصلة هذا الفجور في المستقبل.

و بعد كل ما تقدم فإننا نعرف سبب شدة اليهود و المشركين في عداوتهم لأهل الإيمان. قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ

______________________________

(96) سورة الأحقاف، الآية 33.

(97) سورة يس، الآية

12.

(98) سورة القيامة، الآيات 1- 7.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 105

عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ، وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا «99». فإن توراتهم تلك المحرّفة لم تتعرض ليوم القيامة أبدا. نعم قد تحدثت في مورد عن وادي الهلاك. و لذلك نجد أن اليهود عموما لا يعتقدون بيوم القيامة، و الذين يعتقدون به منهم فإنهم ليس لديهم بالأمر الواضح في مغزاه و مرماه و في تفاصيله. و لذا فإن اليهود يرون أن خسارتهم للدنيا لا يعوضها شي ء، فكانت الدنيا كل همهم، و كانوا: أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ «100» مهما كانت تافهة و حقيرة.

ثم جاءت تعاليمهم لتزيد من غرورهم، و من إحساسهم بفرديتهم التي عبّر عنها القرآن بقوله: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى «101». فزاد ذلك من حبهم للدنيا، و زاد من كرههم لأهل الإيمان؛ لأنهم هم الذين تخلوا عن خصوصياتهم الفردية ليذوبوا في المجتمع، و ليكونوا قوة حقيقية يخشاها اليهود أشد الخشية، و لذلك عادوها أشد العداء حتى أكثر من عداء المشركين. و لذلك ذكرهم اللّه قبل أن يذكر المشركين:

اليهود و الذين أشركوا.

______________________________

(99) سورة المائدة، الآية 82.

(100) سورة البقرة، الآية 96.

(101) سورة الحشر، الآية 14.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 106

و يلاحظ أنه لم يقل: اليهود، و المشركون. و ذلك ليشير إلى أن الشرك قد جاء على خلاف الفطرة، و قد خرجوا بشركهم عن فطرة اللّه باختيارهم.

أي أنواع المالكيات للّه تعالى؟

و أما لماذا قال تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ و لم يقل:

المحاسب أو المجازي يوم الدين.

فالجواب هو: أننا نجد أن المالكية على أنواع:

المالكية الاعتبارية: و هي التي تنشأ من تصميم العقلاء الذي لهم صلاحية إنشاء اعتبار كهذا، فوجود هذا النوع من المالكية قائم بوجود الاعتبار و القرار. و ينشأ عنه إطلاق التصرف للمالك

في مورد اعتبار الملكية، و هذه التصرفات يمكن تحديدها بحدود و تقييدها بقيود، كمنع الإسراف، أو الإتلاف، أو التعذيب لذي الروح من دابة أو عبد مملوك.

و يمكن سلب الاعتبار عن أنواع بخصوصها، كالميتة، و الخمر و غير ذلك.

أما بالنسبة لمورد الاعتبار فهو من حيث القيمة:

قد يكون غير ذي قيمة بنظر العرف. و ليس ملكا، كحبة تراب في صحراء، حيث لا يملكها أحد، أو كقطرة من ماء البحر.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 107

قد يكون ملكا و مالا، و لكنه لا قيمة له، كحبة تراب أو حبة قمح في أرض زيد من الناس، فإنها ملك له، و لكنها لا قيمة لها بنظر الناس.

قد يكون له قيمة، و هو ملك، و مال ..

و من جهة أخرى، فإن منشأ القيمة يختلف أيضا:

حيث إن قيمته قد تكون ناشئة من محض اعتبار العقلاء، لأغراض خارجة عن حقيقته و ذاته. كغرض التسهيل في المعاملات أو لغير ذلك. فيعطونه القيمة أو ينزعونها لأجل ذلك. و ذلك مثل الأوراق النقدية، فإن ماليتها و ملكيتها متقومان باعتبار من لهم صلاحية إنشاء اعتبار كهذا. و هم الذين يتحكمون في مستوى هذه القيمة، التي قد تعلو في يوم، و قد تنخفض في يوم بصورة كبيرة و خطيرة. و قد تزول بالكلية في يوم آخر، مع أن الورقة النقدية لا تزال هي ذاتها لم تتبدل، و لم تتغيّر.

قد تكون قيمة المورد كامنة في داخل ذاته و حقيقته، بسبب ما له بنفسه من دور حقيقي في حياة الإنسان، و بسبب الحاجة الواقعية إلى الاستفادة من الخصوصية القائمة في ذاته. فليست قيمته إذن ناشئة من مجرد الاعتبار و الجعل. و ذلك مثل البيت للإنسان، و مثل الغذاء و الدواء، و اللباس

له. فالحاجة الواقعية إليه و خصوصيته الكامنة فيه، و التي يتطلبها الإنسان هي التي أعطته القيمة، ثم اعتبر من له حق الاعتبار و الجعل هذا الشي ء ذا القيمة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 108

تفسير سورة الفاتحة 150

ملكا لهذا الإنسان. و أطلق له التصرف فيه في الحدود و القيود المعقولة، و المقبولة. التي لا توجب حيفا على الآخرين. و لا توجب إحداث أي خلل في مسار الحياة، في مختلف جوانبها و حالاتها.

و هذا القسم هو الأهم من الأقسام التي سبقته.

المالكية الطبيعية: هذا النوع من الملكية أعمق، و أقوى من سابقه، بجميع أقسامه. و ذلك لما فيه من شدة الاختصاص، و قوة العلاقة، و عمق الحاجة. مع التذكير بأن هذه العلاقة و الاختصاص، لا تنشأ من الاعتبار، و لا من الحاجة أيضا.

بل هي حالة واقعية ذاتية يبررها الحاجة إلى الكمال، و إلى فيض الوجود و تطلّب الكمال فيه. و ذلك مثل ملكيتك ليدك، و لرجلك، و لعينك، و لغير ذلك من جوارحك. و هذه الملكية قد تخضع لبعض الحدود و القيود، و قد تتوقف و تلغى من الجهة الأقوى، كما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى.

المالكية الحقيقية: التي تحدثت عنها الآية الشريفة:

" مالك يوم الدين" و هي المالكية الثابتة و الراسخة، التي لا ينالها ضعف، و لا وهن، و لا تقبل الانتزاع، و لا الاعتبار و لا التصرف أو التحديد، و التقييد فيها.

و هي المالكية المنبثقة عن ألوهيته تعالى، و ربوبيته و خالقيته لكل ما في هذا الوجود، و إحاطته به و هيمنته الحقيقية و سلطته

تفسير سورة الفاتحة، ص: 109

عليه الدائمة و الثابتة، و هي ألوهية و ربوبية ثابتة، و رعاية دائمة، و فيض مستمر، يكون به قوام الوجود و استمراره. و هذا

ما يفسر عمق هذا المالكية و ثباتها و دوامها و رسوخها، و يشير إلى حقيقتها و كنهها.

و هو أيضا يجعلنا نفهم بعمق حقيقة: أنه تعالى مصدر كل المالكيات الأخرى. فهو يعطيها، و هو يلغيها، متى شاء و كيف شاء. قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «102».

و قال سبحانه: مالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ «103».

و قال جل شأنه: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «104».

و قال تعالى: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ «105».

نعم، إن كل المالكيات الأخرى تزول و تتلاشى، حتى ملكيتنا ليدنا و لسائر جوارحنا. فلا يملك أحد لأحد ضرا و لا

______________________________

(102) سورة غافر، الآية 16.

(103) سورة آل عمران، الآية 26.

(104) سورة الانفطار، الآية 19.

(105) سورة يونس، الآية 31.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 110

نفعا، و لا يملك أن يدفع عن نفسه، و لا عن غيره بيد، و لا بلسان و لا بموقف، و لا برأي و لا بغير ذلك و يكون اللّه سبحانه فقط هو المتصرف و المهيمن، و المحاسب، و المجازي .. الخ ..

إن أحدا يوم القيامة لن يكون قادرا على التصرف بماله، و لا بقوته، و لا بمنصبه، و لا بموقعه الاجتماعي، أو السياسي، و لا بلسانه، و لا بيده، و لا بغير ذلك.

فلله إذن حق التصرف في كل شي ء كيفما شاء و حسبما يريد، و من هنا يتضح أن كلمة" المجازي" أو" المحاسب يوم الدين" ليست هي الاختيار الأصلح و لا الأنسب في الآية الكريمة.

يَوْمِ الدِّينِ:

اشارة

و أما بالنسبة لكلمة" يوم الدين" فإننا نقول: إنها تشير إلى الجزاء، و إلى الهيمنة الجزائية العادلة. لأنها فرضت وجود دين و جزاء مقابل عمل فهي

إذن ليست هيمنة عشوائية ظالمة و معتدية، و متسلطة بلا مبرر.

و هي كذلك توحي بوجود عمل صحيح تارة و عمل فاسد تارة أخرى، لا بد أن يستتبع في كل حالة ما يناسبها؛ و هذا إيحاء بالعدل؛ فلا يريد اللّه أن يظلم أو يعتدي على أحد. بل يريد أن يجازيك بحسب عملك؛ فأنت السبب في كل ما يجري لك و عليك، إذ كما تدين تدان. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً

تفسير سورة الفاتحة، ص: 111

يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «106» و هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ «107».

إذن فكلمة" الدين" تشير و لو بطرف خفي إلى هذا العدل.

فهي إذن هنا أنسب من كلمة" القيامة" أو" يوم الحساب" و نحو هما لا سيما بعد تلك المسيرة الطويلة عبر النعم و الألطاف الإلهية، بدء من بسم اللّه الرحمن الرحيم، و انتهاء بصفتي الرحمانية و الرحيمية.

لأن هذا" الدين" قد استبطن العدل من موقع كونه تعالى، حكيما. فإذا دخلت إلى محكمة يوم الدين من باب الرحمانية و الرحيمية، فإن باستطاعتك أن تجعل نتيجة هذه المحكمة لصالحك. إذا كنت ممن يستحق الرحمة.

مالكية اللّه سبحانه للدنيا:

و أما لماذا لم يشر اللّه سبحانه هنا إلى مالكيته للدنيا أيضا؛ فقد تقدم: أنه تعالى بعد أن أشار إلى رعايته و تربيته للعالمين من موقع الربوبية، قد أراد أن ينقل هذا الإنسان إلى يوم الجزاء، حيث يجد نفسه فاقدا لأي لون من ألوان المالكية. و لا يمكنه إلا أن ينقاد لإرادة اللّه سبحانه، حيث تجري عليه أحكامه.

______________________________

(106) سورة الزلزال، الآيتان 7 و 8.

(107) سورة الرحمن، الآية 60.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 112

أضف إلى ذلك: إن اللّه سبحانه قد جعل للإنسان حرية و اختيارا في الحياة الدنيا، فلو أنه

تعالى تحدث عن مالكيته فيما يرتبط بهذه الحياة فلربما توهم بعضهم من ذلك: إن ثمة نوعا من الجبرية الإلهية، و إن الإنسان حين يستخدم إرادته و اختياره يكون قد تمرد على اللّه، و اجترأ عليه. إذن فالتجلي للمالكية الإلهية يكون في يوم القيامة، حيث لا يملك الإنسان لنفسه نفعا و لا ضرا لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.

الدين هو الجزاء:

أما ما ورد عن الأئمة عليهم السّلام من: أن الدين هو الحساب. فمن الواضح: أنه من باب ذكر الملزوم و إرادة اللازم، فإن الدين هو الجزاء، ثوابا على الإحسان، و عقابا على الإساءة، و الجزاء إنما يكون بعد الحساب.

يوم:

و يبقى هنا سؤال:

إنه إذا كان اليوم هو مجموع الليل و النهار، و إذا كانت الشمس في يوم القيامة سوف تكور (أي يذهب ضوؤها) و لا يبقى ليل و لا نهار، فأي معنى يبقى لكلمة" يوم" في قوله: يوم الدين؟!

و الجواب عن ذلك: أن كل حادث زماني يبقى زمانيا.

سواء في الدنيا أو في الآخرة. و المراد باليوم هو القطعة من الزمان

تفسير سورة الفاتحة، ص: 113

(و لا يجب أن يشتمل الزمان على ليل و نهار) و قد تكون القطعة طويلة و قصيرة. قال تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «108». و قال: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «109».

و اليوم الذي فيه الليل و النهار هو اليوم الدنيوي. بل إننا حتى في اليوم الدنيوي نجد أماكن يكون فيها الليل بمقدار ستة أشهر. بل قد يقال: إن بعض الأماكن لا تغيب عنها الشمس أبدا، أو تغيب عنها بمقدار ساعة واحدة مثلا. فإذا أراد سكان تلك البلاد أن يمارسوا عباداتهم من صوم و صلاة مثلا، فإن عليهم أن يراقبوا حالة أقرب البلاد إليهم و يعملوا على هذا الأساس.

و من جهة أخرى فإن لغة القرآن هي العربية، و هي اللغة التي وضع الناس مفرداتها للدلالة على أمور حسية في بداية الأمر، ثم وضعوا ألفاظا للدلالة على المعاني القريبة من الحس. و هي التي يتلمسون آثارها، و يحسون بها. ثم

بدأوا يتوسعون في استعمالاتهم لها إلى ما هو أبعد و أدق، و ذلك بواسطة المجازات و الكنايات و الجري و الانطباق، و الاستعارات، و بواسطة تركيب الألفاظ بطريقة معينة، لتدل على المعاني المطلوبة. فاستعمال كلمة يوم في

______________________________

(108) سورة المعارج، الآية 4.

(109) سورة الحج، الآية 47.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 114

القطعة من الزمن الممتد، الذي لا يشتمل على ليل و لا على نهار لا غضاضة فيه. و هو اللغة التي يمكن أن تستخدم لتعريف الناس بحقيقة ما يجري في تلك البرهة الحاسمة من تاريخ الإنسان الذي يقدم عليه.

مالك أو ملك:

و أخيرا: فإننا نلفت إلى ما يقوله بعضهم: من وجود قراءة أخرى لكلمة مالك، فيقرؤونها" ملك يوم الدين". فقد ذكرنا في كتابنا" حقائق هامة حول القرآن" ما يفيد: أن القراءات إن كانت بمعنى اختلاف لهجات القبائل في كيفية التلفظ بالحروف، مثل:

حتى حين، و عتى حين. دون أن تختلف الصورة، و بلا تبديل للكلمات بغيرها، و دون زيادة و لا نقيصة. فهذه القراءات تكون مقبولة إن كانت قد أمضيت من قبل النبي (ص) و الأئمة عليهم السّلام.

أما القراءات بمعنى التصرف بالصيغ، أو بمعنى تبديل الكلمات بغيرها، أو بالزيادة و النقيصة، فهي مرفوضة. و غير صحيحة. و هي إحدى مظاهر القول بتحريف كتاب اللّه سبحانه الذي لا يصح بأي وجه من الوجوه.

و قراءة ملك في هذه الآية توجب اختلافا بل اختلالا أساسيا في المعنى، فلا مجال لقبول ذلك و لا للسكوت عنه، حيث

تفسير سورة الفاتحة، ص: 115

إنه ينتهي إلى ذلك المحذور الكبير و الخطير، الذي دل الدليل القاطع على بطلانه و زيفه.

الخلود في العذاب، و العدل:

و عن سؤال: إنه كيف يمكن فهم قضية العدل في الجزاء، و نحن نرى: أن الكافر إنما عاش كافرا في الدنيا لمدة محدودة، و هي مئة سنة مثلا، فكيف يعاقب على كفر مئة سنة، بخلود دائم في العذاب الأليم؟!

نجيب:

صحيح: أن الكفر و القتل و غيرها قد حصل في زمن محدود، لكن ذلك الكفر و القتل قد أوجد ثغرة في سلامة المجتمع، و سلامة الحياة سوف تبقى إلى الأبد، فالقتل مثلا قد حرم المقتول من بقية حياته إلى الأبد، و الجاني حرم المجني عليه من يده أو من عينه إلى الأبد أيضا.

و هكذا سائر الجنايات و السيئات. فإنها تتسبب بعدم سوف يستمر و يبقى.

و قد كان بإمكان المجني عليه أن يتوب من ذنوب أو أن يعمل في بقية حياته، أو بيده التي ذهبت، أو بواسطة عينه خيرات و مبرات توجب النعيم الأبدي له، أو النجاة من عذاب أبدي.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 116

فالجزاء إذن، قد جاء على قدر جناية الجاني، و بمقدار ما أحدثه من ثغرة في جدار سلامة الحياة. و بدون هذه الملاحظة لا يكون جزاء عادلا، و لا هو وفق الحكمة.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 117

تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

اشارة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 119

بداية:

قد ظهر من كل ما تقدم، ابتداء من بسم اللّه، و إلى قوله:

يوم الدين: أن اللّه سبحانه قد أسس أساسا عقائديا متينا، يتلمسه الإنسان في واقعه، و يحس به بفطرته و يقضي به ضميره و وجدانه، و يحكم به عقله، و ليس نتيجة اندفاع عاطفي أو غريزي، و لا انقيادا لهوى، و لا استجابة لشهوات، أو لطموحات غير مسؤولة، و لا هو حركة عشوائية غير منضبطة.

إنها عقيدة تستند إلى رؤية واضحة، و نظرة عميقة و شاملة عن الكون و عن الحياة، و عن الخلق، و أهدافه، و عن الخالق و صفاته و ألطافه. تؤهل هذا الإنسان لأن يتحرك و ينطلق مصعدا ليقوم بدور بنّاء و إيجابي و سليم مرتكزا على هذه الثوابت العقيدية الأم، ليتلمس تفصيلات عقيدية أخرى منبثقة عنها هي الأقرب إلى التأثير بالواقع السلوك إلى درجة المباشرة أحيانا، فيتعامل

تفسير سورة الفاتحة، ص: 120

و يتفاعل مع كل شي ء من خلالها و على أساسها؛ إذن فليست هي مجرد مفاهيم عقائدية تلقينية خاوية، لا دور فيها للعقل، و لا للمنطق، و لا للفطرة و لا للشعور، و لا للوجدان، بل هي من صميم ذلك كله، هي حياة العقل، و انطلاقة الروح، و وهج الشعور، إنها الحياة الحقيقية، و سر الوجود.

إياك نعبد:

اشارة

و لكي نقترب قليلا إلى واقع قوله تعالى:" إِيَّاكَ نَعْبُدُ" فإننا نعود و نذكّر بالعقائد الأم، كعقيدة التوحيد الكامل مثلا، التي تنبثق عنها تفصيلات تقول: إنه تعالى هو وحده المؤثر، و هو مصدر الفيض للعنايات و الألطاف، و هو وحده المستحق للعبادة.

و هذا الاعتقاد التفصيلي هو الذي يترك آثارا مباشرة و مهمة في التكوين الفكري للإنسان، ثم في صياغة مفاهيمه. ثم هو ينعكس على الواقع

المعاش سلوكا و موقفا، له خصوصياته و مميزاته عما عداه. هذا عدا عن تأثيراته الحقيقية في تكوين الشخصية الفردية و الاجتماعية للإنسان.

و يكفي أن نشير هنا: إلى أن هذا الاعتقاد هو الرافد الشعوري، و الفكري لانطلاقة الصراع مع النفس الأمارة بالسوء، و استمرار هذا الصراع لتطويعها على ممارسة التوحيد في العبادة و في السلوك، لتنتج هذه العبادة أخلاقا تتناسب معها، و إخلاصا

تفسير سورة الفاتحة، ص: 121

للّه عز و جل بمستوى رسوخ هذه العقيدة، و بمستوى وضوحها أيضا. لتصبح ممارسة هذا التوحيد على درجة من العفوية و الفطرية، بعيدة عن حالات الرياء و العجب و الكبر و عبادة الذات، و المال، و المنصب، و الزعيم، و الحزب، و البنين، و السلطة، و الهوى، و ما إلى ذلك من أمراض نفسية تتنافى مع عقيدة التوحيد في العبادة.

فالرياء شرك، سواء أكان العمل ضرورة حياتية للفرد أو للمجتمع. لأن الرياء معناه جعل قسم من هذا العمل لجهة أو لشخص أو لفئة أخرى غير اللّه سبحانه، بحيث يكون لهؤلاء تأثير و مشاركة.

إذن، فلا بد من تخصيص العبادة للّه، و لا بد من توحيد العبادة له تعالى؛ لأنه وحده المستحق لها، ليصبح قولنا:" إياك نعبد" له معناه و مغزاه الحقيقي، بعد أن وضحت الرؤية التوحيدية العقائدية، في العبادة، و في السلوك و العمل. منذ بدأنا بكلمة بسم اللّه .. حتى انتهينا إلى" إياك نعبد". فأثمرت تلك النظرة، و تلك العقيدة عبادة خالصة له سبحانه دون سواه، و أثمرت سلوكا توحيديا، فلا يستعين بغيره تعالى.

و ظهر و حصل الربط بين العقيدة و السلوك بصورة طبيعية و واقعية.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 122

تقديم كلمة إياك:

و في كل ذلك يشير إلى بعض ما يرمي إليه تقديم

كلمة" إياك" على كلمتي"" نعبد" و" نستعين". فإن هذا التقديم ينتج الأمور التالية:

التخصيص للعبادة و للاستعانة به تعالى. و قد أنتج لنا هذا التخصيص، من جهة إيجابية: التوحيد في العبادة، و العمل.

و من جهة أخرى: نفي الشريك، و نفي التأثير لغير اللّه في أي عمل عبادي أو سلوكي كان. و نفي استحقاق العبادة لكل من عدا اللّه سبحانه

هذا بالإضافة إلى حاجة كل عمل في بقائه و استمراره، و تكامله و تحسينه، إليه سبحانه و تعالى.

و هكذا يتضح: أنه قد انبثق عن العقيدة الأم عبادة، هي عمل و حركة، و انبثق عنها صفة لهذا العمل و لهذه الحركة العبادية، و هي كونه عملا توحيديا و حركة توحيدية أيضا.

إنه تعالى يريد من هذا التخصيص، و من استعمال كلمة" إياك" التي تعني الحضور و الخطاب المباشر: أن يوحي لنا أنه يريد من هذا الإنسان أن يتوجه إلى اللّه، و يشعر به، و يتعامل معه حتى كأنه حاضر أمامه إلى درجة الحس المباشر، و لا يكتفي بالاعتماد على الانتقال الذهني، استنادا إلى ضمير الغائب، فلم يقل:

" نعبده و نستعينه".

تفسير سورة الفاتحة، ص: 123

و من الواضح: أنه إذا كان اللّه سبحانه هو وحده مصدر كل خير و عطاء و قوة و والخ .. فإنه يكون وحده المستحق للعبادة و لا تصح الاستعانة بغيره أبدا.

و إذا كان اللّه هو مصدر كل خير و عطاء و قوة فلا يملك الإنسان قوة و لا أي شي ء ذاتي في نفسه خارج نطاق العطاء الإلهي فلماذا يكون ثمة عجب بالنفس فالتوحيد الخالص يمنع العجب كما أنه إذا لم يكن أحد غير اللّه يملك ضرا أو نفعا فلماذا الرياء فالتوحيد الخالص ينفي الرياء أيضا.

إنه يريد

الحضور و المشاهدة و الخطاب، الذي تتشارك فيه العين في نظرتها، مع اليد في إشارتها، مع اللفظ في دلالته، مع السمع في تلقيه، مع القلب في وعيه، مع سائر الحواس و المشاعر، و اللمحات و الخواطر. و ذلك إمعانا في تحقيق التعيين، و نفي أي توهم للمشاركة، و إبعاد أي شبح للإبهام أو للإيهام، فيما يراد إثباته من تخصيص العبادة له و به تعالى، و فيما يراد طلبه منه من الاستعانة و الهداية.

ثم إنّ تمحض الخطاب له تعالى، و معه، و إبعاد شبح أي إيهام أو إبهام أو مشاركة من شأنه أن يوحي لنا بالتحرر من أية رابطة مع غير اللّه سبحانه. ليتحقق الخلوص في عبادته، و في الاستعانة به سبحانه.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 124

و واضح: أن هذا التحرر التام هو نتيجة التوحيد الحقيقي، و تأكد أو رسوخ أساس العقيدة بالنبوة و بالمعاد أيضا. فإن ذلك يفرض توحيد العبادة و العبودية، و توحيد العمل و السلوك أيضا.

نعبد و نستعين بصيغة الجمع:

و قد استعمل سبحانه هنا صيغة الجمع لا المفرد، فقال:

نعبد، نستعين. اهدنا. و لم يقل: اعبد، استعين، اهدني. و لعله من أجل أنه سبحانه يريد لهذا الإنسان أن يعيش خصوصيته الفردية في نطاق حياته الاجتماعية، و لا يريده أن ينعزل، و ينطوي على نفسه و يتقوقع داخل قفص حديدي قضبانه هي الخصوصيات الفردية المحددة، و المؤذية أحيانا. و هذا أسلوب تربوي رفيع يهدف إلى تحويل الحركة الفردية، و الفعل الشخصي إلى إنجاز جماعي، له قيمته الإنسانية الفضلى.

مع الإشارة إلى أن التشذيب و التهذيب، و إيجاد حالة التوازن في الخصوصيات و الطموحات الفردية إنما يكون في ساحة الصراع و التحدي، حيث لا بد أن تعبر تلك الحالات الفردية للأنا

عن نفسها، و عن وجودها، حيث لا مبرر لهذا البروز في حالة الانطواء و البعد عن ساحة الصراع هذه.

و لأجل ذلك، فإنه تعالى حتى حين يشرع العبادات حتى الصلاة، فإنه قد جعل طابعها العام جماعيا و اجتماعيا بصورة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 125

ملموسة و ظاهرة، فالصلاة التي هي صلة للعبد به تعالى قد انطوت في تشريعاتها و خصوصياتها و حالاتها على ما يجعل إحساس العبد بصلته باللّه سبحانه يتبلور في نطاق الحياة الاجتماعية. و من خلالها. ففي الأذان دعوة إلى التجمع من أجل الصلاة جماعة، و هي في المسجد أكثر ثوابا، و يزيد هذا الثواب بعدد أفراد الجماعة المشاركين «110». ثم تتلو نصوص الصلاة التي تصهر روحك في بوتقة المجتمع الكبير فتقول: إياك نعبد و إياك نستعين اهدنا ..

صراط الذين أنعمت عليهم .. ثم تكون آخر كلماتك هي:

السّلام علينا و على عباد اللّه الصالحين. السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته فتخرج من الصلاة لتدخل من باب الصلاة نفسها- بعد أن تكون حصلت على السّلام النفسي و الروحي- إلى قلب هذا المجتمع الكبير، لتعيش بهذا السّلام، بعد أن تكون هذه الصلاة قد أسهمت في تصفية روحك، و تزكية نفسك، و أهّلتك لأن تكون العضو الصالح و القوي و الفاعل في مجتمعك، و لا تزال تنهاك عن الفحشاء و المنكر، و هي عمود الدين. و هي النهر الذي تغتسل فيه كل يوم خمس مرات، لتكون مثال الطهر و الصفاء و النقاء.

فالعبادة الفردية إذن تقوم- بالإضافة إلى سائر منجزاتها الكبرى- بتأهل الفرد و استصلاحه ليكون العضو الفاعل و العامل

______________________________

(110) مع أن عدد أفراد الجماعة ليس عملا، و ليس من اختيار نفس المصلي.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 126

الذي يحمل

في داخله الأمان و السّلام، ليزرعه و ليثمر عزا و قوة، و خيرا و بركة، و سموا و نبلا، ..

و هكذا يتضح أن هذا التوحيد في العبادة، و الانطلاق إلى اللّه سبحانه في رحاب الجماعة بعد أن تسقط جميع الحواجز و الموانع و الحدود الفردية، إن هذا- و لا شك- يفتح أمام هذا الإنسان آفاقا رحبة، تدعوه إلى الانسياب فيها، و الانفتاح على كل ما تحتضنه في داخلها، ليتصل هذا الفرد بكل ما هو خارج حدود فرديته، ليصبح بحجم الإنسان كله، و بمستوى الإنسانية كلها.

و ينطلق كادحا إلى ربه، و إليه فقط دون كل ما سواه، تاركا أفقه الضيق و المحدود، ليستقبل الأفق الأرحب في ملكوت اللّه و يهوّم في رحابه اللامتناهية. سعيدا بما استطاع أن يحصل عليه من مزايا إنسانية، سعيد بدرجات القرب من اللّه تعالى. و بما أكرمه اللّه به يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ «111».

فهذا التوحيد في العبادة و الأفعال قد جعل هذا الإنسان أوسع أفقا و أرحب فكرا، و أكثر وعيا للحياة، و سوف ينتج ذلك مزيدا من التأمل و الفكر، ثم العمل الجاد الذي يكون في مستوى هذه النظرة الشمولية و الواعية.

______________________________

(111) سورة الانشقاق الآية 6.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 127

و في التوحيد في العبادة ربط باللانهائي و اللامحدود، الذي هو مصدر كل عطاء، فما على الفكر من حرج إذن، إذا انطلق ليتصل بالمحدود ليقوم بالإنجاز الكبير بحجم الحياة كلها. هذا كله بالإضافة إلى إخراج الإنسان من حالة الانعزال و الانفصال إلى حالة التواصل و التعاون و المشاركة، و الفهم العميق لهذه المشاركة.

إن الذي يطالع تشريعات الإسلام و أحكامه يجد: أنه يريد أن يصوغ الفرد بطريقة تجعله

صالحا لأن يكون لبنة في بناء المجتمع الكبير، و لا بد لأجل تحقيق هذا الهدف من تحقيق حالة التناسق و الانسجام مع سائر اللبنات التي لا بد لكل منها بحسب موقعها، و ما يتطلبه الوضع الهندسي للبناء ككل من أن تتخلى هي و تفرض على مشاركاتها أن تتخلى أيضا عن كثير من المزايا الفردية التي لو لا ذلك لتركت على طبيعتها.

و يكون التعويض غير المباشر عن تلك الخصائص و المزايا الفردية هو اكتساب كل المزايا و الاستفادة من كل القدرات و الطاقات الجماعية، التي تنعكس قوة للفرد، و طاقة له، و لكن بطريقة أخرى، و بأسلوب آخر، و هذا ما يؤكد أن للعبادة التي لها دور رئيس في صياغة مزايا الفرد، لا بد أن توضع في القالب الجماعي، لتصوغ تلك المزايا في حالة من التوازن و الانسجام، لتنشأ متخذة بصورة عفوية الشكل الهندسي المطلوب. و ليس من الضروري، بل ليس من الحكمة أن تنشأ هذه المزايا بصورة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 128

مستقلة و منفصلة، ثم يصار إلى عملية تقليم و تطعيم، و تهذيب و تشذيب قسرية لها، لأن ذلك لن يكون في منأى عن إحداث أضرار و ندوب، و آثار تبقى و تظهر بصورة أو بأخرى. كان بالإمكان أن لا تكون و أن لا تراها القلوب و العيون.

و بذلك يمكن تفسير صيغة الجماعة في قوله تعالى: نعبد.

نستعين. اهدنا.

مراتب العبادة:

ثم إنه مرة يعبد الإنسان اللّه سبحانه لوجود أمر إلزامي، لا يريد أن يتمرد عليه.

و مرة يأتي هذا الإنسان بكل ما هو مطلوب منه، على سبيل المتاجرة مع اللّه، فيقوم بالعبادة المحبوبة له تعالى، ليأخذ في مقابلها درجات في الجنة.

و مرة يعبد اللّه لأنه يرى اللّه أهلا للعبادة،

و هذه هي أرقى أنواع العبادات.

و ستأتي عن أمير المؤمنين عليه السّلام الإشارة إلى هذه المراتب.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 129

ما المراد بالعبادة:

و إذا أردنا أن نستوضح المراد من العبادة في" إياك نعبد" و سواها، فإننا نقول:

لقد قال اللّه سبحانه: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «112».

و قال تعالى: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «113».

فهدف الخلقة إذن هي عبادته تعالى. و المراد بهذه العبادة هو الانقياد المطلق لإرادة اللّه سبحانه في أوامره و زواجره؛ إذ أن اللّه قد خلق هذا الكون، و هذا الإنسان، و رسم له هدفا لا بد له من التحرك باتجاهه، حتى ينتهي إليه، و هذا الهدف، و تلك المسيرة ليست واضحة المعالم لهذا الإنسان تمام الوضوح، بل هي غارقة في بحر الغيب، و محفوفة بكثير من الأمور التي تحجب الرؤية الصحيحة لها، و الشاملة لكل ما يرتبط بها.

و الذي يعرف ذلك الغيب، و يهيمن على كل هذا الواقع هو الذي يفترض فيه أن يقدم الإرشادات الهادية إلى طريقة التعامل مع كل هذا الواقع، و كيفية استعمال هذه الأجهزة التي تمكن

______________________________

(112) سورة الذاريات، الآية 56.

(113) سورة البينة، الآية 5.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 130

الإنسان من التحرك بصورة سليمة و قويمة باتجاه ذلك الهدف حتى بلوغه.

و هذا كما لو اشتريت جهاز كمبيوتر مثلا، فإن تشغيله بصورة عشوائية لن يحقق الأهداف المتوخاة منه. فلا بد من التماس طريقة التشغيل و تعليماته من نفس صانع ذلك الجهاز، ثم الالتزام الدقيق بها لتحصل على ما يراد الحصول عليه منه.

و الإنسان أيضا قد زوّده اللّه بأجهزة تتناسب و تتناغم مع كل ما أودعه اللّه من أسرار في هذا الكون الذي يريد من خلال

التعامل معه أن يصل إلى اللّه سبحانه و يبلغ رضوانه و يسعد بإنسانيته- لا بالمال و لا بالمنصب، و لا بالجمال أو الشكل، و لا بغير ذلك- و ينطلق ليحيا الحياة الحقيقية بعمق، و بكل ما يملك من طاقات- كما أشار إليه تعالى حين قال: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «114».

و أي استعمال لهذه الأجهزة بغير الطريقة المرسومة لن ينجح في تحقيق هذا التناغم فيما بينها و بين سائر نواميس الطبيعة، فيكون الخلل، و يكون الخسران.

إذن، فلا بد من الطاعة الدقيقة و الشاملة لأوامره تعالى.

و هو المراد بالعبادة. و لا يمكن السماح بأصغر مخالفة للتعليمات

______________________________

(114) سورة العنكبوت، الآية 64.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 131

الإلهية، لأن ذلك سينعكس سلبا على سلامة المسيرة. و لن يمكن ضمان وصول القافلة بسلام إلى الهدف المنشود بدون ذلك، و هذا ما يفسّر لنا: أيضا قوله تعالى: لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «115». فلا يكون ثمة أية عبادة، أو فقل: أي طاعة و انقياد لغير اللّه، بل و ينحصر ذلك به تعالى، و به فقط.

تنوع المستحبات و كثرتها:

و من الواضح أن الإسلام قد قدّم- في نطاق تعليماته- مجموعة من الأوامر و الزواجر. و كل منهما ينقسم إلى ما هو ملزم، و ما هو غير ملزم، حيث أن الواجب ترافق مع المستحب، و جاء إلى جانب الحرام، المكروه.

أضف إلى ذلك: هذا الحجم الهائل، و هذا التنوع العظيم للمستحبات على وجه الخصوص.

فما هو هذا السر في هذا و ذاك يا ترى؟ و لماذا؟!

إننا نعتقد: أن الإجابة على هذين السؤالين تبدأ بالإشارة إلى أن هناك أمورا يسبب فعلها أو تركها خللا مباشرا في الواقع الذي يراد له أن يكون سليما، و متماسكا و قويا. و هناك أمور لها دور صيانة لهذا الواقع. أو دور التأهيل لما يحتاج إلى التأهيل

______________________________

(115) سورة البينة، الآية 5.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 132

لتحمّل أعبائه، و متابعة المسيرة بصورة أكثر أمنا، و أكثر شعورا بالثقة، و أحيانا يكون ثمة طموح إلى تجاوز الحد الأدنى من الأهلية، من أجل مواجهة الصوارف و التحديات القوية، التي قد تأتي من داخل الإنسان: من غرائزه أو شهواته، أو بسبب وجود خلل في تكامل بعض خصائص شخصيته بالمقارنة مع ما عداها. و كذلك مواجهة التحديات الكبيرة التي قد تأتي من خارج شخصية الإنسان. و التي قد تضع الإنسان في أحيان كثيرة في محيط الكارثة الحقيقية. و لأجل كل ذلك و سواه كانت المكروهات و المستحبات فيما يبدو.

و بما ذكرناه أيضا يعرف سبب التنوع في خصوص المستحبات، فإن الهدف بالإضافة إلى أمور أخرى هو شحن هذا الإنسان روحيا بواسطة هذه المستحبات، و المفروض هو وجود تنوع في ظروف و قدرات، و حالات الإنسان، و ضروريات حياته المختلفة، فمع تكثر و تنوع المستحبات يصبح باستطاعته أن يستفيد منها في مختلف حالاته و ظروفه النفسية، و الجسدية، و الاجتماعية،

و المعيشية و غيرها. حيث يجد فيها ما يتلائم مع كل حالة و كل ظرف. فقد يرغب في الصوم إذا كان الصوم يلائم ظروفه و تقبل عليه نفسه، و قد يرغب في قراءة القرآن إذا كانت حالته المعيشية و الجسدية و سواها تسمح له بذلك، و قد يرغب في

تفسير سورة الفاتحة، ص: 133

العمل الاجتماعي و قضاء حاجات المؤمنين. فيختار ذلك أيضا.

و هكذا في سائر الحالات و الأوضاع و الظروف.

و إياك نستعين:

اشارة

و إذا انتقلنا إلى قوله تعالى: و إياك نستعين، فإننا نسجل مد يلي:

الوعي يقتضي الاستعانة:

إنه إذا عرف الإنسان حجم ما يواجهه من تحديات من داخل ذاته، و هو ما يحتاج لدفع آفاته إلى الجهاد الأكبر، على حد تعبيره (ص)، و عرف أيضا حجم التحديات التي تواجهه من خارج ذاته، في كل موقع و في كل مجال، فإنه يدرك أنه بحاجة إلى الاستعانة بمصدر القوة و الالتجاء إلى مصدر العطاء و الفيض. و لن يستطيع أن يحقق حلمه الكبير من دون ذلك.

التوحيد في العبادة و الاستعانة:

و إن الآية الشريفة في حين أكّدت على التوحيد الكامل في العبادة، فإنها قد أكدت أيضا على التوحيد في العمل، حيث حصرت الاستعانة به سبحانه دون كل ما و من عداه. الأمر الذي يعني: أنه تعالى وحده القادر على التأثير، و أنه وحده الغني، و القوي، و والخ .. فمن أجل ذلك كان لا بد من حصر الاستعانة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 134

به تعالى. و من أجل ذلك كان التوحيد في الاستعانة معناه الحرية الكاملة و الحقيقية، حيث لا يشعر أنه بحاجة إلى أحد لأن الجميع لا يملكون ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا. و لأجل ذلك جاءت الاستعانة مطلقة و من دون تقييد أو تحديد.

جبر أم اختيار:

و إذا لو حظت صيغة الآية فإنها تدل دلالة واضحة على أننا نحن الذين نختار أن نفعل، و نحن الذين يصدر عنا الفعل الذي نختاره. فنحن نعبد اللّه، و نحن أيضا نعمل و نطلب منه تعالى أن يعيننا على ما نعمله و لذا قال: نعبد. نستعين. فلو كان هو الذي يعمل فلماذا نطلب منه العون؟! و لماذا أيضا ننسب العبادة إلى أنفسنا؟!

الاستعانة، و العجب و الرياء و غيرها. و نقول أيضا:

أولا: إن إحساسنا بالحاجة إلى معونة الغير لنا، معناه: أننا لا نملك القدرات الكافية لإنجاز الفعل بالاستقلال. و هذا من شأنه أن يبعد الإنسان عن الشعور بالعجب الناشئ عن الإحساس بالقدرة الفائقة، و بالاستقلالية في التأثير.

ثانيا: إذا كان الإنسان يحسّ بالحاجة إلى الغير من الناس، أو يشعر بالضعف أمامه، فقد يلجأ إلى أن يتزلف له، و يتقرّب

تفسير سورة الفاتحة، ص: 135

منه، بإظهار خلاف الحقيقة. فيقع في الرياء، و في محاولة التزييف و الخداع.

أما إذا تأكد لديه: أن اللّه وحده هو الذي يمكن أن يرفع ضعفه، و يسد حاجته، فإنه لا يجد ضرورة للتزلف إلى غيره.

و يكون قد ابتعد بذلك عن حالة الرياء التي تنشأ عادة من الشعور بالحاجة إلى الآخرين، أو بالضعف أمامهم. فإذا وجد أنهم لا يملكون ما يجبر ضعفه، و يسد حاجته؛ فلماذا يتزلف إليهم؟

و لماذا الرياء؟

و إذا رأى: أن غيره ضعيف مثله، و ليس لديه ما يتقوى به، فلماذا و عن أي شي ء يخدعه؟

ثالثا: ثمة نقطة أخرى نشير إليها هنا، و هي أن الإنسان يحتاج إلى المعونة و هو فرد، و يحتاج إليها، و هو جماعة. فلا يمكن أن يستغني عن معونة اللّه سبحانه في الحالتين، فإذا كانت الجماعة تحتاج إلى العون، فحاجة الفرد إلى ذلك تصبح أولى و

أوضح.

الاستعانة بغير اللّه سبحانه:

تمنع بعض الفرق من الاستعانة بغير اللّه سبحانه، و تعد ذلك شركا، و خروجا عن الدين، إذ لا مؤثر في هذا الوجود سوى اللّه سبحانه. و الاستعانة بغيره تستبطن الاعتقاد بوجود مؤثر آخر سواه.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 136

إذن، فلا يجوز (وفق مقولتهم) أن نقول عند ما يتكالب علينا المستكبرون: يا مهدي أدركنا. و عند ما يتكالب علينا الأعداء، و نحتاج إلى الأسوة، و إلى إلهاب روح التضحية و الفداء لندفع عنا كيد الأعداء، لا يجوز أن نقول: يا حسين. و حينما نشعر بالمظلومية و نحتاج لبلسمة الجراح لا يجوز أن نقول: يا زهراء.

و عند ما نحتاج إلى الصبر في موقع الكرب و البلاء، لا يجوز (وفق مقولتهم أيضا) أن نقول: يا زينب. و عند ما نريد أن نتقوى على العمل الكبير و الخطير، لا يجوز أن نقول: يا علي. و لا يجوز أن نطلب شفاء المريض، و حفظ الغائب من النبي أو الولي. إلى آخر ما هنالك.

و هذا الكلام ظاهره جميل و منسجم مع تقديم كلمة" و إياك" المفيد للتخصيص للاستعانة به تعالى، في قوله تعالى:" وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ".

و لكن الحقيقة هي: أنه كلام غير مقبول، بل و غير معقول. و ذلك لما يلي:

إنه لو صح هذا لاقتضى تحريم قصد الطبيب للعلاج.

و لاقتضى تحريم شرب الدواء. و لاقتضى كذلك تحريم طلب المعونة في حمل الحجر أو الصندوق الثقيل، و لاقتضى تحريم أن يطلب الإنسان من أحد أن يناوله الإبريق مثلا ليشرب. فإن ذلك كله

تفسير سورة الفاتحة، ص: 137

أيضا استعانة بالمخلوق. فإن كان ما تقدم يعد شركا، فهذا أيضا مثله.

لقد حفل القرآن الكريم بالآيات الصريحة بطلب العون، أو طلب التعاون من غير اللّه سبحانه،

فلو كان ذلك شركا، فلماذا يأمر اللّه سبحانه بالشرك؟

فلنقرأ الآيات التالية:

قال تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ «116».

و قال: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ، وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «117».

و قال: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ «118».

و قال تعالى: حكاية لقول ذي القرنين: قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً «119».

______________________________

(116) سورة المائدة، الآية 2.

(117) سورة البقرة، الآية 45.

(118) سورة البقرة، الآية 153.

(119) سورة الكهف، الآية 95.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 138

هناك فرق بين الاستعانة و بين العبادة، و المحرم هو عبادة غير اللّه لا الاستعانة به، فيحرم عبادة غير اللّه لأي سبب كان و بأي طريقة كانت. و كما يحرم السجود له كذلك يحرم التمسح به تمسح عبادة.

و كما يحرم السجود له بعنوان كونه ربا و إلها و خالقا.

كذلك يحرم السجود له بعنوان أنه يقربه إلى اللّه زلفى.

أما الاستعانة، فهي لا تلازم الاعتقاد بوجود مؤثر غير اللّه على حد التأثير الإلهي أو الربوبي. بل الاستعانة بالنبي أو الولي، إنما هي من أجل أننا لا نرى في أنفسنا أهلية الوقوف بين يدي اللّه و الطلب منه بسبب ما اقترفناه، فنطلب من هذا النبي و الولي أن يتولى هو طلب حاجاتنا منه تعالى. فإذا شفي المريض فاللّه- و الحالة هذه- هو الذي شفاه، و إذا قضيت الحاجة فإن اللّه هو الذي قضاها. و هذا ليس من الشرك في شي ء، بل هو عين الإخلاص و المعرفة و التوحيد.

كما أننا حين يعين بعضنا بعضا فليس ذلك بقدرة ذاتية، بل بالقدرة التي أعطانا إياها اللّه، و من المال الذي رزقناه اللّه، إلى

آخر ما هنالك.

و هذا من الأمور البديهية التي يدركها حتى الأغبياء، فضلا عن الأذكياء و العلماء.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 139

الاستعانة باللّه و الجبر الإلهي:

و قد يحلو للبعض أن يصور لنا: أن الاستعانة باللّه سبحانه تعني: أنه لم يعد لنا أي استقلالية فيما نعمل، بل لم يعد لنا أي دور في أعمالنا بل هي تنسب إلى اللّه سبحانه، و نحن لا دور لنا فيها، بل نحن مسيرون كما تسيّر أية آلة أخرى بيد محركها.

و نقول:

إن ذلك غير صحيح، فقد قدمنا الحديث عنه تعالى، حيث تحدث هنا بصيغة جمع المتكلمين: نعبد. نستعين. (و تحدثنا عن بعض حكم و أهداف هذا التعبير) و هو تعبير صريح في أنه تعالى يريد منا: أن نبادر إلى العمل باختيارنا، و بمل ء إرادتنا.

و بالاستقلال عن كل أحد. فلو كان اللّه هو الذي يفعل، و نحن دورنا دور الآلة، فلا يبقى مورد للعون منه لنا، بل كان ينبغي أن يقول: أنت تفعل و لا تحتاج إلى معين من أحد.

و الحاصل: أن هذا لا ينافي كون التأثير للّه سبحانه، فاللّه سبحانه:

يمدنا بالقوة البدنية، بالسمع، بالبصر، بكل شي ء؛ و يفيض علينا الوجود لحظة بعد لحظة.

و أعطانا أيضا حرية توظيف هذه القوى في الموارد التي تروق لنا. تماما كما هو الحال في التيار الكهربائي، أو أنابيب المياه، فالذي يمدنا بالماء و الكهرباء هو المولد الكهربائي،

تفسير سورة الفاتحة، ص: 140

و المضخات، و نحن نختار: أن نغتسل في الماء أو نغسل ثيابنا و وسائلنا، أو أن نسقي به زرعنا، أو أن نشربه، أو أن نغرق فيه حيوانا، أو إنسانا أو ..

و المولد الكهربائي يمدنا بالطاقة و نحن نختار: أن نستعملها في التدفئة أو في الإنارة، أو في جهاز الراديو، أو تعذيب

أو قتل إنسان أيضا.

و لكن يمكن أن يقطع المدد بالماء و بالكهرباء من قبل المضخة، و المولد. فنحن لسنا أحرارا بصورة مطلقة.

و بعد أن نختار الفعل من نوع ما و نحرك يدنا أو لسلننا، أو أي جارحة أخرى بالطريقة التي تستكمل العلة التامة عناصر وجودها، فإن اللّه سبحانه وفقا لما أجرى عليه سنة الحياة يفيض الوجود على ما يختاره العبد، إذا اكتملت عناصر علته التامة، حيث لا بد من تحقق معلولها.

و بعبارة أوضح و أصرح: إنه قد تتعلق إرادة اللّه التكوينية بالشي ء مباشرة، و قد تتعلق إرادته به إذا وجدت علته التامة و التي قد يكون من جملة أجزائها إرادة الإنسان و اختياره؛ فلابد من وجود المعلول حين وجود علته التامة، وفقا للسنن الحياتية و الطبيعية التي تحكم هذا الكون و تهيمن عليه، و ليس هذا من الجبر في شي ء. بل هو محض الاختيار للإنسان. و إن كان هذا الاختيار

تفسير سورة الفاتحة، ص: 141

محفوفا بالإرادة الإلهية من الناحيتين. لكن هذه الإرادة لا تصادم اختيار الإنسان و لا تتعرض له بشي ء.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 143

تفسير قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ

اشارة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 145

اهدنا الصراط المستقيم:

هناك عدة أمور لا بد من الحديث عنها في هذا المقام، و هي التالية:

ارتباط الآية بما قبلها:

لكي نفهم بصورة اعمق مدى ارتباط هذه الآية بما سبقها، فعلينا أن نشير إلى التسلسل الطبيعي لما تحدثت عنه الآيات السابقة، فنقول:

إنه بعد أن تأكد الاعتقاد باللّه سبحانه، و بصفاته- الجمالية و الجلالية- ثم بيوم الدين، فلابد أن تترك هذه الاعتقادات آثارها على العقل، و المشاعر، و المفاهيم و العواطف، و غير ذلك. ثم هي قد أنتجت عقائد تفصيلية أثارت حركة، و سلوكا، و موقفا هو عبادة توحيدية خالصة له تعالى.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 146

و كان لا بد أن يكون ذلك السلوك و العمل، و تلك العبادة منسجمة مع طبيعة الهدف الذي يسعى إليه الإنسان، و هو أن يحقق هذا الإنسان ذاته، و يستجمع خصائصه و مزاياه الإنسانية، و يقيم حالة من التوازن فيما بين تلك الخصائص و المزايا، ليحقق من خلال ذلك انسجامها مع ذلك الهدف، و تناغمها معه بصورة إيجابية و بنّاءة و دافعة للحركة الصحيحة باتجاهه، و من ثم باتجاه مواقع الزلفى و القرب من اللّه سبحانه و تعالى.

و بعبارة أخرى: إن الإنسان إنما يسعد بإنسانيته، و باقامة حالة من التوازن بين كل خصائصه و مزاياه و طاقاته بجميع تنوعاتها، لأن حالة التوازن هذه هي التي تعطيه السّلام و الطمأنينة في ظل الرضى، و الرعاية الإلهية. و أي خلل و اهتزاز في حالة التوازن هذه- بسبب اقتراف معصية، أو بسبب تربية خاطئة- سيؤدي إلى اهتزاز هذا السّلام النفسي و تقويضه، و سينعكس سلبا على درجة القرب من اللّه سبحانه. قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «120».

و من الواضح: أن إقامة حالة التوازن هذه، و سعادة الإنسان بإنسانيته،

ثم السعي نحو اللّه سبحانه لنيل درجات القرب

______________________________

(120) سورة الرعد الآية 28.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 147

و الرضى منه تعالى، أن ذلك- إنما يتم بالعمل، و الممارسة، فلا بد من أطروحة عملية تقدم لهذا الإنسان نهجا يساعد على تحقيق ذلك، و تقدم له أيضا قوانين و أحكاما سلوكية تحمي خطواته على هذا الطريق من أن تزل و تنحرف. و هو أيضا بحاجة إلى العون و الرعاية و الهداية.

و لا بد أن نتلمس هذا النهج، و تلك النظم و القوانين و الأحكام و نطلبها منه تعالى لأنه سبحانه- بصفته رب العالمين- هو وحده العارف بما خلق، و هو وحده المطلع على كل الغيب و على جميع الأسرار، و هو المربي، و العالم بطبيعة المربوب، و العالم بسبل الوصول إليه، و الاتصال به.

فقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يأتي كنتيجة طبيعية لقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فهو الجهة التي نلجأ إليها بصورة عفوية و طبيعية.

فإذا كان لا بد من عبادة توصل إليه تعالى، و لا بد من كدح و عمل و مواجهة مصاعب و متاعب، فإن طلب المعونة، و طلب الهداية إلى الضوابط و الأحكام التي تضمن سلامة الحركة يصبح أمرا ضروريا.

فالعبادة ليست هدفا، و إنما هي وسيلة تستبطن العمل الذي يحقق الهدف و لكي يكون العمل مؤثرا لأثره دون أية

تفسير سورة الفاتحة، ص: 148

سلبيات، فلابد من نهج و خطة و ضوابط تمنع من الخطأ، و تجعل الحركة بالاتجاه الصحيح.

الطلب الجازم:

و قد جاء طلب الهداية هذا بتّيا و جازما، فلم يقل: اهدني إن شئت، أو إن أحببت، لأن المطلوب في كل دعاء و طلب من اللّه هو ذلك. فقد أمرنا بالإلحاح في الطلب، و بالجزم و البت

فيه.

فإنه تعالى يحب إلحاح الملحين من عباده المؤمنين «121».

الإسلام لا يغني عن طلب الهداية:

اشارة

و قد يخطر ببال البعض أن يقول: ما دمنا قد أسلمنا و آمنا، فقد حصلت الهداية، فلماذا نطلبها و هي موجودة لدينا؟ و هل هذا إلا طلب الحاصل؟ و لماذا كلفنا اللّه سبحانه بطلبها في صلواتنا كل يوم عشر مرات على الأقل؟

و نقول في الجواب.

أولا: صحيح: أن اللّه سبحانه قد رسم لنا بالإسلام طريق الهداية. و لكن مجرد العمل بأحكامه لا يكفي لتحقيق الهدف

______________________________

(121) راجع البحار، ج 92 ص 155 و قرب الإسناد، ص 5.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 149

المطلوب، و هو أن يحقق الإنسان إنسانيته و يستكمل مزاياها ليصل من خلال ذلك إلى اللّه سبحانه، و ينال درجات القرب منه.

فالكل يصلي، لكن صلاتهم لا تنهاهم عن المنكر، بل بعضهم ينتهي عنه، و بعضهم لا ينتهي، و الذين ينتهون عن المنكر، بعضهم أرسخ امتناعا و انتهاء من بعض.

و عدا عن ذلك فإن الصلاة هي معراج المؤمن، و قربان كل تقي، لكن الكثيرين- و إن كانت صلاتهم تنهاهم عن الفحشاء- لا يكون لهم عروج بها، و لا تكون قربانا لهم، إلا بمقدار ضئيل و ضعيف.

إذ كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع و الظمأ.

و كم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر و العناء «122».

و هذا الحد الأدنى من العمل قد يسقط التكليف، و يمنع من العقاب. و لكن قد لا يثاب المرء عليه، و لا يفيده شيئا في إيصاله إلى هدفه الأسمى.

و قد صرح أمير المؤمنين عليه السّلام، بأن العبادة درجات و مراتب، فقال: (إن قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار.

______________________________

(122) نهج البلاغة ج 3 ص 185 (بشرح عبده) الحكمة رقم 145، و البحار ج 93 ص 294 و راجع ص 293.

تفسير سورة

الفاتحة، ص: 150

و أن قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد. و أن قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار) «123»

و هو الذي يقول: (ما عبدتك خوفا من عقابك، و لا طمعا في ثوابك، و لكني وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) «124».

فالعمل الذي يسقط التكليف هو الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، ثم بقدر إخلاص الإنسان في عبادته، و بقدر ما يبذله من جهد، بقدر ما يكون القرب و الرضى.

فإذا كان الإنسان في درجة و مرتبة، فإنه يحتاج إلى الهداية و إلى المعونة لينتقل منها إلى درجة أعلى، ثم إلى الاعلى منها، و هكذا ..

و وسائل ذلك هو الصبر، و الإخلاص و الجهد، و جهاد النفس.

و لكل منزلة و درجة خصوصياتها و آفاقها، و مسؤولياتها التي تختلف في حجمها و تفاصليها عن سابقتها. و لها كذلك واجباتها التي تنسجم معها، و مع ما استجد لهذا الإنسان، و ما انفتح عليه من معارف و آفاق، و أحوال و غيرها .. فهي إذن تحتاج إلى هدايات إلهية جديدة، ليعرف كيف يتعامل مع هذا الواقع الجديد،

______________________________

(123) نهج البلاغة (بشرح عبده) مطبعة الاستقامة بمصر ج 3 ص 205 الحكمة رقم 237.

(124) مستدرك سفينة البحار ج 7 ص 55.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 151

تفسير سورة الفاتحة 219

ليتفاعل، ثم ليتأقلم معه، و ليتمكن من تهيئة الوسائل لاستمرار تحركه باتجاه مراحل أخرى أرحب و أوسع و أرقى. فلابد له من هداية في محيطه قبل الانتقال، ثم هداية في حركته الانتقالية، ثم هداية ثالثة حين بلوغه المرحلة الجديدة. فهو كالمسافر الذي يحتاج إلى هداية أولية، ثم إلى هدايات في كل مرحلة يصل إليها، ثم إلى هداية بعد الوصول ليكون على علم بتفاصيل و

حالات و مناخ البلد الذي وصل إليه.

و العبادة و القرب من اللّه سبحانه لا ينحصر بالصلاة و الصوم و الحج .. بل إن كل عمل يمكن أن يكون عبادة. و قد يكون تفكرك باللّه، و محاسبتك نفسك في آخر ساعة من نهار أفضل من عامة عباداتك، الخاوية و الخالية من الإخلاص و التفكر، بل قد يصاحبها رياء و عجب، يخرجها من دائرة كونها مظهرا من مظاهر التوحيد، لتكون شركا موبقا و مهلكا.

و قد يكون نومك عبادة إذا كنت صائما. و لا تكون صلاتك عبادة، كما أن كدك على عيالك، و إحسانك لوالديك و مرابطتك على الثغور، و سعيك في قضاء حاجات المؤمنين، قد يوصلك إلى الدرجات العلى، و المراتب السامية، التي ترفعك إلى درجة عبادة الأحرار. و إذا كانت كل درجة تجعل الإنسان ينفتح على اللّه سبحانه، بعقله و وعيه، و فكره و معرفته بصورة أتم و أكبر، فإن صلاته- إذا بلغ بعض المراحل- ربما تصير أكثر معراجية،

تفسير سورة الفاتحة، ص: 152

و أشد نهيا له عن المنكر، و أمرا له بالمزيد من المعروف. ثم يصبح دعاؤه مستجابا. بل قد يصبح المستحب عنده واجبا، و المكروه حراما، و الصغيرة من الذنوب يراها كبيرة. ثم يزداد تكاملا و رقيا حتى يصبح يرى بعين اللّه، و ينطق بما يريده اللّه، و يصير يومه أفضل من أمسه. و يفهم بعمق مغزى قول علي عليه السّلام: من اعتدل يوماه فهو مغبون «125».

و يلحق من ثم بدرجات الأولياء و الأصفياء.

و هذا هو السير الطبيعي الذي مر به الأنبياء و الأوصياء، فوصلوا إلى ما يريدون، و نالوا ما يشتهون بعلمهم و بجهدهم و جهادهم. و إن علمهم بالحلال و الحرام تفسير القرآن،

و إن كان واحدا، و لكنهم يتفاوتون في علمهم بملكوت اللّه سبحانه، و بأسرار الخليقة. و يزدادون في علمهم هذا، كما جاء في بعض الروايات «126».

فالحاجة إلى هداية اللّه و تسديده، و معونته و توفيقه، و فتح آفاق المعرفة باللّه، و الالتذاذ بقربه، و إدراك ألطافه، و التفاعل مع بركاته. هذه الحاجة مستمرة و متجددة، و تحتاج إلى هداية بعد

______________________________

(125) البحار ج 68 ص 181. و معاني الأخبار ص 198. و أمالي الصدوق ص 352. و أمالي الشيخ الطوسي ص 447 ط سنة 1401 ه. ق. و أعلام الدين ص 303.

(126) تفسير البرهان ج 1 ص 17.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 153

هداية. و لا بد من طلبها منه تعالى. و لا بد من الإلحاح و الإصرار على هذا الطلب." اهدنا الصراط المستقيم".

و ثانيا: إن المراد هو استمرار الهداية الإلهية، لأنه إذا و كلنا إلى أنفسنا فإن أهواءنا و شهواتنا، و المغريات و الضغوطات تتسلط علينا فتزين لنا الانحراف و الخطأ. حتى لنرى الحق باطلا، و الباطل حقا، و نقع في المآثم و المظالم، و نصبح في ظلمات بعضها فوق بعض.

كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «127».

فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «128».

و في ناحية الهداية أيضا يكون الأمر كذلك. قال تعالى:

وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً، وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ «129».

و قال سبحانه: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «130».

فالحاجة إلى المعونة و الهداية قائمة و دائمة. فطلبها لا بد أن يستمر، ليشملك اللطف الإلهي الغامر. أما إذا انقطعت عن طلب الهداية، و أحسست بعدم الحاجة إليها، فقد قطعت صلتك

______________________________

(127) سورة المطففين، الآية 14.

(128) سورة الصف، الآية 5.

(129) سورة محمد، الآية 17.

(130) سورة البقرة، الآية 2.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 154

باللّه،

و استوجبت قطع اللطف الإلهي عنك، و أصبحت عرضة للأهواء و الشهوات، لتتلاعب بك، و للشياطين لتغويك و تطغيك.

و هذا ما لا يرغب به عاقل، و لا يرضى به حتى جاهل.

و نجد في اللغة العربية ما يشهد لكون اهدنا بمعنى ثبتنا.

و ذلك فيما لو قلت لأحدهم: قف حتى أعود إليك.

فكلمة: قف، يطلب بها الثبات على حالة الوقوف. و ليس المطلوب، أن يقف بعد أن يكون قاعدا. و كلمة اهدنا هي الأخرى من هذا القبيل.

أنواع الهداية و أقسامها:

اشارة

و قد قسم بعضهم الهداية إلى أربعة أقسام هي:

هداية الإلهام: و هي نوع من الهدايات التي تدفع الطفل لتناول ثدي أمه، و الارتضاع منه بمجرد أن ينفصل عن رحم أمه؛ فالحواس وحدها لا يمكن أن تدفعه إلى ممارسة هذا الفن الرفيع.

و كذلك ليس لديه من الإدراك في تلك الفترة ما يمكنه من ذلك، فضلا عن أن يتعلم ذلك من معلم أو أن يقرأه في كتاب، أو غيره.

الهداية الحسية: فإن الحواس لها دور في الهداية، فالبصر يهدي إلى الأشكال و الأحجام و الألوان. و بالسمع تهتدي

تفسير سورة الفاتحة، ص: 155

إلى الأصوات، و تميز بينها، و تعرف الشجي من النشاز. و القوي من الضعيف، و ما إلى ذلك.

و بواسطة اللمس تعرف الحار و البارد، و اللين و القاسي، و الخشن و الأملس الخ ..

و كذلك بالنسبة إلى حاسة الشم في المشمومات، و حاسة الذوق في المطعوم و المشروب.

الهداية العقلية: التي ندرك بها ما لا يقع تحت قدرة الحواس، و لا ينال بالإلهام، و ذلك مثل الحسن، و القبح، و العدل و الظلم، و التوافق و التضاد، و التناقض و عدمه و ما إلى ذلك.

الهداية الشرعية: و هي تكون فيما يعجز العقل عن

درك كنهه، و يقف حائرا أمامه. و قد تحول الأهواء، و الغرائز و الشهوات دون وصول العقل إليه، حينما تهيمن عليه تلك الأهواء و الشهوات، و تفقده القدرة على التمييز، فتشتبه عليه الأمور، و يخلط الحق بالباطل.

فيأتي دور الشرع ليحل محل العقل في الهداية و البيان.

و بعد هذا البيان نقول: كأنهم يريدون أن يقولوا: إن معنى الآية الشريفة هو: اهدنا إلى شريعتك، و بها، في المواقع التي يعجز العقل، و الإلهام، و الحواس عن إدراك وجه الصواب فيها.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 156

و نقول: إن هذا البيان غير مقبول.

أولا: لأنه كلام غائم، و لا سيما فيما يرتبط بقدرات العقل على الإدراك، و حدوده و مجالاته.

ثانيا: إن الهداية على تفسيرهم هذا تنتهي بمجرد تعليم الشريعة، فإذا عرفت أحكامها فلا حاجة لقوله اهدنا كل يوم عشر مرات أو أكثر، لأن أمور الشريعة و الدين محددة و لا زيادة فيها، و الزيادة إنما هي فيما هو خارج عنها.

ثالثا: قد ذكرنا فيما تقدم: أن الهداية ليست مجرد تلقين و دلالة، ثم تقبل أو لا تقبل، على حد قوله تعالى: هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً. بل الهداية إلى النجدين هي إحدى مراتبها.

و توضيح ذلك:

هذه الهداية ليست هي- كما يقول بعضهم- التوفيق الإلهي. ليردّ عليه بعض آخر: بأن الهدايات التوفيقية خاصة بالأنبياء «131».

______________________________

(131) هذا إذا أريد بالتوفيق الإلهي، الوحي. أما لو الأعم منه، فلا يختص التوفيق بالأنبياء حسبما أوضحناه.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 157

بل هي هداية بعد هداية تزيد و تتسع باستمرار، تبعا لما يستجد للإنسان من معارف، و تنفتح أمامه من آفاق. و يواجهه من أمور جديدة تحتاج إلى حل، و إلى استكناه حقيقتها، و الانسياب في آفاقها.

و ذلك على حد قوله تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً فإن المعرفة كلما اتسعت، كلما زادت معرفة الإنسان بحجم المجهولات التي يحتاج إلى كشفها. و كثرت الألغاز التي تحتاج منه إلى حل، فإن الخير يوصل بعضه إلى بعض، و يهدي بعضه إلى بعض، كما و يشد بعضه أزر بعض.

و لا يختص ذلك بالأنبياء، ما دام أن عبادات الإنسان، و التزامه بأحكام اللّه من الأوامر و الزواجر له آثاره عليه، فتصقل روحه، و فكره و عقله و تجربته؛ و تزيد من طاقاته، و تهيؤه لنيل مراتب أعلى و أرقى.

و بالوصول إليها،

و الحصول عليها يكتسب المزيد، فيوظفه لنيل موقع جديد من مواقع القرب و الزلفى له تعالى، و يصبح أقدر على مواجهة نفسه، و صدها عن شهواتها، ثم مواجهة المغريات و المشكلات بعزم أشد، و قدرات أعظم.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 158

الهداية و الجبر الإلهي:

و قد ادعى بعض المفسرين: أن قوله تعالى:" اهْدِنَا الصِّراطَ الخ .." يدل على صحة قول الأشاعرة: إنه تعالى هو فاعل الخير و الشر. أما العبد فلا يوجد فعله و لا يخلقه. و لذا نسبت الهداية هنا للّه تعالى؛ فهو الذي يفعل و يوجد.

و لكنه نسب الضلال للعبد في قوله:" و لا الضالين"، مع أن اللّه سبحانه هو الذي يضلهم- تأدبا معه تعالى ..

إذن فقوله تعالى:" اهدنا" يمثل ردا على المعتزلة و الرافضة.

و نقول:

إن هذا التأدب- لو صح- فهو دليل على قبح صدور ذلك منه تعالى. و إذا لم يجز نسبة القبح إليه تعالى لفظا، فما بالك بنسبته إليه و صدورها منه خارجا؟!

إن المراد من- اهدنا- ليس هو إيجاد الهداية بطريق جبري و قسري و تكويني، بل المراد: هو المساعدة في الهداية، فإذا قلت لإنسان: ساعدنا على هذا الأمر، فإنك أنت الذي تبذل الجهد، و تعمل، و تؤثر فيه بصورة مباشرة ثم يساعدك الآخرون.

و إذا كانت الهداية بمعنى الدلالة، و التوفيق و التسديد، فالأمر يصير أوضح؛ فإنك إذا قلت لرجل: اهدني و دلني، فإن دلالته لك لا تعني أنه قد خلق المعرفة فيك و أجبرك عليها. بل هو يدلك، و أنت تختار أن تعمل بهذه الدلالة، أو لا تعمل.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 159

إنه سبحانه في نفس سورة الحمد، قد نسب الفعل إلى العبد. و ذلك في قوله: نعبد. نستعين. فأنت الذي تعبد. و أنت الذي

تفعل، و تريد منه أن يعينك، و يقويك، و ينشطك، و يشجعك لتحقق المزيد من النجاح و الفلاح، ثم تطلب المزيد من الهداية و الدلالة إلى كل ما يوجب القرب، و المزيد من المحفزات و المشجعات، و التوفيقات و البركات.

و لو صح ما ذكروه في" اهدنا" للزم التناقض بينه و بين" نعبد. نستعين. الضالين. حيث جعل اللّه فيها معينا هنا. و مجبرا على الهداية خالقا لها هناك.

و إذا صح: أنه نسب الضلال إلينا تأدبا.

فلماذا نسب إلينا الفعل في نعبد و نستعين، إذ لا معنى للتأدب فيهما لننسبهما إلى غيره تعالى. إذ لا قبح في نسبتهما إليه سبحانه.

إهدنا الصراط أو إلى الصراط:

اشارة

و قد يدور بخلد البعض هنا سؤال، و هو: لماذا قال سبحانه هنا: اهدنا الصراط المستقيم، و لم يقل اهدنا إلى الصراط؟! فما هو الفرق بين التعدية المباشرة، و تسلط الفعل على المفعول مباشرة و بين التعدية بواسطة حرف الجر.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 160

و الجواب:

إن التعدية المباشرة تشير إلى الهداية الحسية، أما التعدية بإلى. فتشير إلى الهداية الإرشادية. أي أن الأولى تصلك بالصراط المستقيم، فتلمسه بيدك. و الثانية ترشدك إلى الصراط، و تدلك عليه و لو من بعيد.

و من الواضح: أن الهداية الحسية التي يتجسد الواقع فيها أمامك أشد إغراء و دعوة. و هي التي يحصل فيها الإنسان على السكون و اليقين، بصورة اعمق و أشد. و هي الأقوى و الأجلى و الأوضح. ثم هي الأضمن للوصول. من أية هداية أخرى. و هي أقصى درجات الهداية، و أشدها قطعية.

و نحن بحاجة ماسة إلى هذا الضمان، و إلى السكون و الاطمئنان، لخطورة الأمر، من حيث كونه يتعلق بمصير الإنسان، و بكل حياته و وجوده و حركته.

فكأنه قال: اجعلنا نتحسس الصراط بصورة مباشرة، و لا تكتف بمجرد الدلالة الإرشادية إليه، لأننا نريد أن نسلكه، لنصل منه إلى الهدف الأسمى، و الغاية الفضلى.

مناقشة و ردّها:

و قد يقال: إننا لا نجد فرقا بين قولنا دخلت الدار، و دخلت إلى الدار و نقول:

تفسير سورة الفاتحة، ص: 161

أولا: هذا صحيح في هذا المثال، و لكنه ليس صحيحا في سائر الموارد، و السبب في ذلك هو أن مادة: (دخل) تختلف عن مادة (هدى). فإن (دخل) لا تقبل إلا نوعا واحدا من المعنى، و هو الولوج في الشي ء.

أما كلمة (هدى) فهي قابلة لأكثر من نوع من المعنى، فهناك هداية حسية، و هناك هداية إرشادية الخ .. فهدى الصراط تشير إلى الحسية، و إلى الصراط تشير إلى الإرشادية، فلا يصح قياس الثانية على الأولى.

ثانيا: إننا بالرغم مما ذكرناه أنفا- نشعر بوجود فرق بين قولنا: دخلت الدار، و دخلت إلى الدار.

فإن قلت: (إلى الدار) فإنك تكون قد لاحظت كيفية الدخول،

و آليته، و الطريق إليه، و لم تلحظ في قولك: (دخلت الدار) شيئا من ذلك.

الصراط المستقيم:

اشارة

و قد ورد في العديد من الروايات: أن المقصود بالصراط المستقيم: الإسلام.

و في بعضها: علي بن أبي طالب عليه السّلام.

و في بعضها: الأئمة عليهم السّلام.

فلماذا اختلفت الروايات؟! و هل هي متضادة فيما بينها؟.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 162

الجواب:

إنها غير متضادة، لأننا إذا اهتدينا إلى علي عليه السّلام، و إلى الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين، فإننا نهتدي إلى الإسلام.

و إذا اهتدينا إلى الإسلام، فإنه يهدينا إلى علي عليه السّلام و الأئمة عليهم السّلام، لأن المقصود بعلي هو علي المعصوم و الهادي إلى الحق، و ليس المقصود هو الرجل المكون من لحم و دم

و ينشأ من هذا البيان سؤال.

اشارة

و هو أنه لماذا عدل سبحانه عن كلمة الإسلام، أو علي، أو الأئمة إلى كلمة الصراط .. أي لماذا لم يقل: إهدنا إلى الإسلام، مثلا؟.

و نجيب:

أولا: إن الهدف هو الوصول إلى اللّه سبحانه، و نيل درجات الزلفى لديه. و الإسلام وسيلة للوصول إلى الهدف، و علي و الأئمة عليهم السّلام هم الإدلاء و الهداة، إلى تلك الوسيلة، و المعينون على الوصول.

و قد أراد اللّه سبحانه من عدوله عن التصريح بذلك أن يشعر هذا الإنسان بأن ثمة غاية سامية، و هدفا مقدسا، لا بد أن يسعى إليه، و يسلك السبل الموصلة، و يتطلب الهداية من الإدلاء عليه.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 163

فإذا تحدث عن صراط و طريق، علم أن للطريق نهاية، و للصراط غاية. و على الإنسان أن يتساءل عنها، و يبحث و يستدل. فإذا عرف أنها رضا اللّه سبحانه. فإنه سوف لن يتساهل في جعلها نصب عينيه في كل موقف، و حركة و سلوك.

أما كلمة: (الإسلام) أو (الأئمة) أو (علي) فهي لا تدل على ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بل لا بد من التماس البيان من جهات أخرى، و قد لا يخطر على البال طلب بيان من هذا القبيل.

ثانيا: إن اللّه سبحانه أراد أن يشير إلى القيمة السامية لأحكام الإسلام، فإذا شعر الإنسان بأن الإسلام هو الصراط المستقيم، الموصل إلى اللّه سبحانه، فإن الشعور يعطي المضمون الإسلامي في مجال الممارسة قيمة روحية و إيمانية. و يدفع إلى المزيد من الارتباط الروحي و المعنوي بالإسلام، و إلى المزيد من الإخلاص، و التقدير، و التقديس.

إذن، فلا مجال لأن تكون صلاة هذا الإنسان كنقر الغراب، و لا لأن تكون عباداته مجرد طقوس، و حركات خاوية.

بل عليه أن يدرك

أن الإسلام، و الإمام، و الأئمة ليسوا هم الهدف المقصود لذاته. و إنما هم وسائل و وسائط عليه أن يستفيد منهم للدلالة و الهداية، و المعونة في الوصول إلى الهدف و الحصول عليه.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 164

إنهم هم الأكثر قدرة على المساعدة في الوصول إلى الأهداف العليا، و الغايات السامية. و ذلك بما لديهم من معرفة دقيقة و عميقة، ثم بما لهم من قيمة روحية و معنوية، و بموقعهم المتميز في التكوين الإيماني و العقيدي للإنسان المسلم.

ثالثا: إن ذلك يبعد الإنسان عن ان يتعصب لغير جهة تبرر التعصب المعقول و المقبول. حيث يفهمه أن المطلوب ليس هو التعصب للإسلام، لأنه دين موروث، فإن التعصب للإسلام أي بما هو موروث يكون جريمة كبيرة و عظيمة، و إنما المطلوب هو التعصب للإسلام، لأنه الصراط المستقيم، و لأنه الحق و الصدق.

و ما سواه باطل و مزيف، أو مشوه و محرف.

(ال) في الصراط للجنس أو للعهد:

و قد يسأل البعض عن كلمة (ال) في الصراط هل هي للجنس، أو للعهد؟!

و نقول:

إنه لا مبرر لكونها عهدية، لأن العهد إما ذكرى، أو ذهني أو خارجي. و لم يتضح توفر أي من هذه الأمور الثلاثة في هذا المورد.

و حتى لو كانت عهدية، فإنه العهد، إنما هو للإسلام، أو الدين الحق.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 165

و حين تكون جنسية فذلك أقوى في الدلالة على المقصود، حيث تشير إلى أن طبيعة الصراط المستقيم هي الإيصال إلى الهدف.

فيكون المراد: أن الصراط جنس منحصر في فرد، كالشمس، التي هي معنى عام و كلي منحصر في هذا الجرم السماوي المضي ء بالنهار و إذا أنحصر الجنس في فرد، فإن كل القلوب و العقول، و الأبصار، و حركة اليد في إشاراتها تتوجه إليه مباشرة و

إلى خصوصيته، بسبب تفرده و تعينه.

وصف الصِّراطَ بالمستقيم: لماذا؟!

قالوا: إن كلمة (الصِّراطَ) تعني الخط الأقرب بين نقطتين. فهو إذن يستبطن الاستقامة. لأن أقرب خط بين نقطتين هو الخط المستقيم و هذا الخط واحد، و لا يمكن التعدد فيه.

و هو أيضا يصلك بالهدف بصورة مباشرة.

و لذا، لو افترضنا خطين متوازيين يسيران، فإنهما لن يلتقيا في نقطة و هدف واحد، بل يصل إليه أحدهما دون الآخر. اما في صورة التعرج فقد يصل الخطان إلى الهدف، و قد يكون التخلف عنه منهما معا، أو من أحدهما.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 166

و الخطوط المتعرجة تكون:

أطول.

و تتعدد.

و قد لا توصلك إلى الهدف.

و قد أشار سبحانه إلى ذلك حين قال: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «132».

و الخط المستقيم باتجاه هدف إذا انحرف عن الاستقامة، فإنه لن يصل إلى الهدف قطعا. نعم لو انحرف مرة أخرى فإن كان الانحراف الثاني باتجاه الهدف، فإنه يصل إليه، و إن لم يكن باتجاهه فإنه يحتاج إلى انحراف آخر، و هكذا.

فإن كان الصراط يستبطن معنى الاستقامة حقا، فإن المقصود هنا من كلمة: (الْمُسْتَقِيمَ) هو التأكيد على خصوصية الصراط هذه، و ذلك من أجل:

التصريح و التأكيد على أقربيته إلى الهدف بالنسبة لسائر الطرق، بدلا من الاعتماد على الانتقال من المعنى التركيبي إلى المعنى التجزيئي، الذي يفصل الصفة عن موصوفها ذهنا.

______________________________

(132) سورة الأنعام الآية 153.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 167

الإشارة إلى قصره، و سرعة الوصول من خلاله إلى درجات القرب و الفوز بها.

الإشارة إلى أنه الطريق الواحد، الذي لا ثاني له.

الإشارة إلى إيصاله الأكيد، في مقابل غيره مما قد لا يوصل أصلا.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 169

تفسير قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ

اشارة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 171

نسبة الصراط إلى غير اللّه سبحانه:

اشارة

إن من يراجع الآيات القرآنية يجد: أنها جميعا باستثناء آيتين قد نسبت الصراط إلى اللّه سبحانه. فاقرأ الآيات التالية، و قس عليها غيرها

صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* «133».

صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً «134».

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ «135».

صِراطِ اللَّهِ «136».

و الآيتان اللتان نسب فيهما الصراط لغير اللّه هما:

______________________________

(133) سورة سبأ، الآية 6. و سورة إبراهيم، الآية 1.

(134) سورة الأنعام، الآية 126.

(135) سورة الأنعام، الآية 153.

(136) سورة الشورى، الآية 53.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 172

قوله تعالى: قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً «137».

فإنه اعتبر في هذه الآية: أن الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ هو الدين القيم، أي هو صراط موصوف بأنه دين قيم ..

و لكنه تعالى أيضا لم ينسب في هذه الآية الصِّراطَ إلى أحد.

بل تركه عرضة للاحتمالات، مع العلم أن الدين القيم هو صراط اللّه سبحانه أيضا.

فينحصر نسبة الصِّراطَ لغير اللّه سبحانه في خصوص:

آية سورة الفاتحة: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ..

فهنا أسئلة ثلاثة:

اشارة

الأول: لماذا اختصت سورة الفاتحة بهذا الأمر؟

الثاني: ما هو السبب في نسبة الصراط هنا فقط لغير اللّه سبحانه؟

الثالث: لماذا احتاج إلى هذا التفصيل بعد قوله: الصراط المستقيم؟

______________________________

(137) سورة الأنعام، الآية 161.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 173

و نقول في الجواب عن هذه الأسئلة:

أولا: إن نسبة الصراط في سورة الفاتحة إلى الذين أنعم اللّه عليهم ليس معناها أنه لم ينسبه فيها إلى نفسه، و ذلك لأن صراطهم هو في النتيجة و المآل صراط اللّه سبحانه. فهو ينسبه إليهم، لأنه صراطهم الذي اختاروه و مشوا فيه و قطعوه .. و إن كان اللّه سبحانه هو الذي سنّه و شرعه لهم.

ثانيا: إن اللّه تعالى حين نسب الصراط، للذين أنعم عليهم، فقد أراد أن يقول: إن الذي اهتدى إلى صراطه المستقيم، فإنما اهتدى إليه بنعمة منه تعالى و بفضله و هدايته؛ فيكون ذلك أدعى للإخلاص له، و الارتباط به سبحانه و تعالى.

و ليس هذا الاهتداء نتيجة لقدرات ذاتية بشرية كامنة، و من خلال جهد شخصي، بعيد عن تسديد اللّه سبحانه، و هدايته، و أفضاله.

و ثالثا: إنه إذا ظهر لنا أن الآخرين قد اهتدوا إلى هذا الصراط، فإن ذلك يجعلنا نطمئن إلى إمكانية تحقق ذلك بالنسبة إلينا أيضا، فهو إذن ليس أمرا نظريا تجريديا لا واقعية له، أو ليس فوق طاقة البشر، أو غير قابل للتطبيق، بسبب ظروف موضوعية ذات طابع معين.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 174

و رابعا: إنه تعالى في خصوص هذه السورة التي لا بد أن نقرأها في صلاتنا عشر مرات على الأقل يوميا، يريد أن يجسد لنا الأسوة و القدوة واقعا حيا يمكن أن نترسم خطاه، و نهتدي بهديه.

و ذلك لأن الإنسان- بطبيعته- يتعامل مع الأمور من خلال حواسه الظاهرية بالدرجة الأولى، ثم ينتزع من

القضايا المحسوسة قضايا تصورية، ثم يبحث عن قواسمها المشتركة و يسقط خصوصياتها، ليكتشف المبدأ و النظرية، و القاسم المشترك، و القاعدة.

و قد أراد سبحانه لنا هنا: أن يجسد لنا هديه و تعاليمه لننتقل من المضمون الواقعي و الحسي، الغني بالقيم و الجمالات، ليمثل لنا إغراء يدعونا إلى الاندفاع إليه، و الالتزام به، و التعاطي معه، من موقع الوعي، و المشاعر المرتكزة إلى مناشئها، فنكون أكثر اقتناعا، و أعمق إيمانا، و أشد تمسكا و التزاما به. حتى إننا لنضحي من أجله بالغالي و النفيس حين يقتضي الأمر ذلك.

أما إذا اقتصر على المضمون التصوري، و التخيلي التجريدي، فإن الاندفاع لن يكون بالمستوى المطلوب، بل سوف يعاني من حالات التردد و الخوف من جدوى أو من إمكانية و واقعية ما يطلب منه. و لن يكون في موقع الرضى و الثبات و الطمأنينة في الممارسة و في الموقف.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 175

و لا أقل من أن ذلك لن يكون قادرا على الإثارة و الإغراء بمستوى ما لو كان المضمون حسيا و متجسدا.

أضف إلى ما تقدم: أن من مصلحة الإنسان أن يتطلب أقصى درجات الهداية و أجداها و أوضحها، و أشدها تأثيرا، و الهداية الحسية هي الأقوى و الأجدى حيث تريك القيم، و الجمالات متجسدة أمامك، و تدفع بك، و تشدك إليها.

فإذا صاحب ذلك تنفير، و تخويف من صراط الضالين و المغضوب عليهم. فإن كل المقومات المطلوبة للاندفاع بقوة تصبح جاهزة و مستعدة للتأثير و للتحريك باتجاه الهدف الأقصى و الأسمى.

و بعبارة أوضح: إن النعمة و الاستزادة هي هدف الطالب في جامعته، و هدف المزارع في حقله، و هدف العابد في محرابه، و .. و يتحرك الإنسان من أجل الحصول

عليها بصورة عفوية فيسلك إليها أقرب السبل و أكثرها أمنا. و هو الصراط المستقيم.

فإحساسه بأن ثمة نعمة و ثمة استزادة، يمثل دافعا له إلى التحرك نحوها. و إن الغضب الإلهي- و اللّه سبحانه هو أعظم قوة تملك التصرف في حياة و شؤون الإنسان و غير الإنسان. ثم الضلال عن الهدف، و عن طريق الوصول إليه، نعم، إن هذا الغضب و ذلك الضلال لما كان الإنسان ينفر منه و يبتعد عنه

تفسير سورة الفاتحة، ص: 176

بصورة عفوية أيضا .. لأن الغضب و الضلال يوحيان بزوال النعمة، أو بعدم الحصول عليها، فلا بد له إذن من الابتعاد عن سبل المغضوب عليهم و الضالين لتفادي أية سلبية تنشأ من اتباع سبيلهما.

و يلاحظ أخيرا: أنه تعالى قد عبّر بكلمة" أنعمت" التي تفيد معنى ينطبق على جميع الأمور التي تعني الإنسان من صحة أو مال أو قدرة، أو جاه أو هداية أو علم، أو أمن أو أي شي ء آخر يسهم في إسعاد الإنسان، و يمكن له أن يحصل عليه. و هذا نوع آخر من الترغيب و التحفيز للسير على ذلك الصراط.

و كل ذلك يفسر لنا السبب في أن ذلك قد ورد في سورة الفاتحة التي تتكرر في كل يوم عشر مرات على الأقل. فقد أريد منه أن يصبح خلقا، و طريقة، و حركة عفوية، من خلال ارتكلز ذلك في نفس الإنسان و روحه و كل وجوده.

النعمة و النقمة:

و قد يتخيل البعض: أن الذين أنعم اللّه عليهم. قد تسببت لهم نفس تلك النعمة بالنقمات، فقد أوذي الأنبياء، و قتل الحسين بن علي عليه السّلام في كربلاء بصورة مفجعة. و قال علي عليه السّلام لأهل العراق:" لقد ملأتم قلبي قيحا" «138».

______________________________

(138) نهج البلاغة-

بشرح عبده- الخطبة رقم 26 ج 1 ص 66.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 177

و مع هذا، فكيف نفسر قوله تعالى:

اشارة

فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ، وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ «139»؟.

حيث عد سبحانه الشهداء أيضا في جملة من أنعم عليه، مع أنهم يواجهون الحتوف، بشفار السيوف، مع ما يصاحب ذلك من آلام و مشقات و أهوال، و محن.

هذا بالإضافة إلى الأنبياء الذين يواجهون المصائب و البلايد، و العظائم و الرزايا.

و خلاصة الأمر: إن هذا- وفق تصورهم- لا يتناسب مع نسبة النعمة لهم، بل ذلك نقمة، لأنه ليس إحسانا و تكريما إلهيا. فكان المناسب أن يقول: صراط الذين أتعبتهم و أشقيتهم بالمصائب في سبيل هذا الدين.

و نقول في الجواب:

صحيح أن النعمة هي الشي ء الحاصل للإنسان على سبيل الإفضال و التكريم منه تعالى. و لكن المهم هو أن ندرك نحن هذه النعمة، و نعرف كيف نتلمسها، و ما هي المفردات التي تتجسد

______________________________

(139) سورة النساء، الآية 69.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 178

فيها. فهل تتجسد بالمال، أو بالسلطة، أو بالجاه، أو بالمنصب، أو بالقوة الجسدية، أو بالجمال، أو بالعرق، أو ..

فقد يشعرك المال بالطمأنينة، و السعادة، و الراحة النفسية، و لكنها طمأنينة، و راحة و سعادة تبقى محدودة بحدود، و مقيدة بقيود لا تتجاوز قيمة المال نفسه. فإذا مرضت فقد تستفيد من مالك لدخول أرقى المستشفيات، و استخدام أحدث الأجهزة، و الاستفادة من خبرات أمهر الأطباء، و و .. و لكن هل هذا هو كل شي ء. و هل حصلت على الطمأنينة و على السعادة بأعلى مراتبها؟

و هل زال هاجس الخوف على حياتك بصورة نهائية؟

إن المال يماشيك و يصل معك إلى حد معين، ثم يقف عنده، و كذلك الجاه، و السلطة و و .. و بعد ذلك- و هذه هي المرحلة الأخطر و الأهم- لا بد أن تبحث من

جديد عن السعادة و الطمأنينة الحقيقية في غير ذلك كله، لتجدها متمثلة في رضي اللّه سبحانه، و في الإيمان و السكون بذكره كما قال تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً «140» و قال سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «141».

______________________________

(140) سورة الفجر، الآيتان 28 و 29.

(141) سورة الرعد، الآية 28.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 179

و لأجل ذلك يكون الشهداء سعداء، و الأنبياء و الصالحون و الأولياء سعداء، و في نعمة حقيقية. هم في نعمة و في سعادة حتى و هم يتألمون و يواجهون المحن، و البلايا، و يستشهدون. و تأكل السيوف أجسادهم.

و هذا ما يفسر لنا: قول مسلم بن عوسجة، أو سعيد بن عبد اللّه الحنفي للإمام الحسين عليه السّلام في كربلاء: لو علمت أني أقتل فيك ثم أحيا، ثم أحرق حيا، ثم أذرى، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك، حتى ألقى حمامي دونك «142».

و قال علي عليه السّلام: و اللّه، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه «143».

و حين ضرب عليه السّلام بسيف ابن ملجم لعنه اللّه قال:

فزت و رب الكعبة «144».

______________________________

(142) نفس المهموم ص 206 ط سنة 1412 ه دار المحجة البيضاء و اللهوف ص 39. و مقتل الحسين للمقرم ص 256 عن الإرشاد للمفيد و عن تاريخ الطبري ج 6 ص 239.

(143) نهج البلاغة- بشرح عبده- ج 1 ص 41 ط دار المعرفة- بيروت.

(144) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق (بتحقيق المحمودي) ج 3 ص 303. و مقتل أمير المؤمنين عليه السّلام لابن أبي الدنيا مطبوع في مجلة تراثنا سنة 3 عدد 3 صفحة 96. و ينابيع المودة ص 65.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 180

و حين قال

ابن زياد لزينب رحمها اللّه: كيف رأيت فعل اللّه بأهل بيتك؟

قالت: ما رأيت إلا جميلا «145».

و سأل الحسين عليه السّلام القاسم ابن الحسن عليه السّلام:

يا بني، كيف الموت عندك؟

قال: يا عم، أحلى من العسل. «146»

إلى نماذج كثيرة أخرى للرضى و التسليم و الإيمان و الاطمئنان، و الإحساس بالسعادة و بالفوز بلقاء اللّه سبحانه.

و هذه هي النعمة الحقيقية التي يختار اللّه الشهيد على أساسها، ثم يمضي القرار الإلهي بها من خلال التكليف الإلهي، ثم المبادرة العملية من هذا المكلف لإنجاز ذلك التكليف، و يتوج ذلك بالاصطفاء، الذي هو التعبير عن الرضى الإلهي الغامر.

أما المال و الجمال و القوة و سوى ذلك فلن يستطيع أن يمنحك هذه السعادة، التي قد يجدها الفقير المعدم، و يفقدها الغني بماله، الفقير بما سوى ذلك- بل إن أفقر الناس هم الأغنياء.

______________________________

(145) نفس المهموم ص 371. و اللهوف ص 67.

(146) نفس المهموم ص 208. عن اللهوف ص 82 و 83.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 181

و لأجل ذلك صح التعبير عن الشهداء و الأولياء و و ..

ب" أنعمت عليهم".

و إن شئت لخصت ما تقدم على الشكل التالي:

إن النعمة هي الحصول على المطلوب، و تحقيق الغاية المتوخاة، و النقمة هي الخيبة و الخسران في هذا المجال .. أما الألم و التعب الموصولان إلى الغاية فليسا نقمة أبدا. فما تعرض له الأنبياء و الأوصياء و المؤمنون، لا يعتبر نقمة، لأن ذلك لم يجعلهم يخسرون نعمة القرب من اللّه، و الحصول على مقامات الزلفى منه، بل قد زاد ذلك في علو درجاتهم، و في صقل إيمانهم، و تصفية و تغذية نفوسهم. الأمر الذي زاد في استحقاقهم للألطاف الإلهية، و للتوفيقات و البركات الربانية. فآلامهم تلك كانت سببا في زيادة توغلهم في النعم.

من هم الذين أنعم اللّه عليهم:

لقد حدد اللّه سبحانه لنا الذين أنعم عليهم، فقال:

فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ، وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «147».

______________________________

(147) سورة النساء، الآية 69.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 182

شمول الآية للنبي (ص) و الأئمة (ع):

و قد يدّعي البعض: أن الآية تشمل الأنبياء السابقين على نبينا (ص)، لأنها نزلت في أول البعثة، و لا تشمل نبينا الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الأئمة الطاهرين من أهل بيته عليهم السّلام، لأنهم حين نزول الآية لم يكونوا موجودين، أو ما كانوا يمثلون أسوة و قدوة للناس ليأمر اللّه سبحانه بالتمسك بهم، و الاتباع لهم.

و نقول:

إن الجميع مقصود بالآية حتى نبينا الأكرم و أئمتنا عليهم الصلاة و السّلام. لأن الآية هنا مسوقة على نحو القضية الحقيقية، لا القضية الخارجية أو الذهنية.

و لتوضيح ذلك: نقول: إن كل قضية لا بد لها من موضوع يكون الحكم عليه، و هو أقسام؛ فإنك:

إذا قلت: كل جبل ياقوت ممكن الوجود. فجبل الياقوت لا وجود له في الواقع الخارجي، بل هو موجود في ذهنك فقط (فهذه قضية ذهنية موجبة).

إذا قلت: كل من في الغرفة عمره أقل من عشرين سنة، أو كل من في المعسكر قد درب على حمل السلاح، أو كل من في هذا المدرسة يحمل الشهادة الابتدائية. فقد لوحظ موضوع الحكم

تفسير سورة الفاتحة، ص: 183

هنا موجودا في الواقع الخارجي، و متحققا في أفراده في أحد الأزمنة الثلاثة (فهذه قضية خارجية موجبة).

إذا قلت: كل إنسان قابل للتعليم العالي. أو قلت: من شهد أن لا إله إلا اللّه، و أن محمد رسول اللّه فهو مسلم. أو قلت: كل ماء كريّ فهو طاهر و مطهّر. أو كل من أنعم اللّه عليه فهو

مهتد إلى الصراط المستقيم. أو من بلغ و هو عاقل فقد وجبت عليه الصلاة. و كذا: للّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.

فموضوع الحكم في هذه الأمثلة كلها قد لوحظ وجوده في نفس الأمر و الواقع: أي أن الحكم إنما كان على الطبيعة بما لها من أفراد محققة الوجود، و مفروضة و مقدرة الوجود معا. فكلما فرض وجوده- و إن لم يوجد بعد- فهو داخل في الموضوع و يشمله الحكم. فإذا وجد فإن الحكم يثبت له بصورة تلقائية، و لا يحتاج إلى إنشاء حكم جديد.

و هذا ما نسميه بالقضية الحقيقية الموجبة.

و ما نحن فيه من هذا القبيل. فمن أنعم اللّه عليه من الأولين و الآخرين قبل نزول الآية و بعد نزولها فهو مهتد إلى الصراط.

كما أن من شهد الشهادتين فهو مسلم حتى و لو ولد بعد آلاف السنين، من هذا التاريخ، و هكذا سائر الأمثلة

تفسير سورة الفاتحة، ص: 184

نحن و السابقون:

و قد يتخيل البعض: أن الذين أنعم اللّه عليهم إذا كانوا هم الأئمة و النبي و الشهداء و الصالحون. من هذه الأمة بالإضافة إلى من سبقهم. فإن معنى ذلك: هو أن المصاديق الفضلى و المثلى لذلك يكون عمرها من عمر رسالة نبينا (ص) نحن المسلمين، و لم يكن بمقدور من سبقنا من الأمم أن يصل أو أن يتصل به، و لا أن يطلع على ما استجد من تعاليم توجب المزيد من الرقيّ و السمو و القرب.

أضف إلى ذلك: أن معنى ذلك أن الصراط المستقيم أصبح من الأمور النسبية، التي تتفاوت و تختلف باختلاف الأشخاص و الأزمان. فالمرتبة التي يمكن أن يصل إليها الناس بعد بعثة نبينا (ص) و إمامة الأئمة الأطهار عليهم السّلام تصبح

أكمل و أتم من المراتب التي توفرت للأمم السابقة على بعثته (ص).

فإن نبينا أفضل من أنبيائهم، و تعاليمه أكمل و أتم من تعاليمهم، و تجربتنا أغنى من تجربتهم. و بهذا فسر العلماء تعدد الشرائع بعدد الأنبياء أولياء العزم، حيث كان السابق منهم عليهم السّلام يمهد للاحق، على مستوى تنمية القابليات و الاستعدادات لتأهل الإنسان و تمكينه من مواكبة و تقبل و تحمل المستوى الجديد و الشريعة الجديدة، التي ستنسخ سابقتها.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 185

و نقول: إننا نجمل توضيحنا في إطار النقاط التالية:

إن الصراط الموصل إلى اللّه سبحانه واحد، لا يمكن التعدد فيه و لا الاختلاف، فمن يسير على تعاليم إبراهيم عليه السّلام يصل إلى اللّه سبحانه، و كذلك من يسير على تعاليم موسى و عيسى عليهما السّلام.

و الباب مفتوح أمام الجميع و الشريعة وسيلة للوصول.

غاية الأمر:

أن هناك من يصل نقطة و هناك من يصل إلى نقطة أبعد منها. ثم أبعد، و هكذا ..

و المعيار هو ما يحصل علية من درجة خلوص و إخلاص، و صفاء و نقاء، و معرفة. و لا ينحصر ذلك في سابق، و لاحق، فإبراهيم الخليل عليه السّلام قد سبق من سبقه و من لحقه من الأنبياء حتى موسى و عيسى، باستثناء نبينا محمد (ص) ..

فكما استطاع إبراهيم الوصول إلى تلك المرتبة العليا، فيمكن لغيره أن يصل أيضا إليها، و قد وصل نبينا (ص) من خلال شريعة إبراهيم إلى درجات ربما لم يبلغها إبراهيم نفسه.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 186

إن نبينا محمدا (ص) كان في الأصل على شريعة إبراهيم عليه السّلام قال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «148».

و قد كان موسى و عيسى على شريعة إبراهيم أيضا، و قد أرسلهما اللّه سبحانه إلى بني إسرائيل. و قد كان هناك شريعتان فقط: هما شريعة إبراهيم عليه السّلام، و شريعة نبينا محمد (ص).

بل إن شريعتهما أيضا واحدة و قد قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ «149» و لذلك نصلي على نبينا و آله و على إبراهيم و آل إبراهيم في سياق واحد، و لعل ذلك للإلماح إلى هذا الأمر.

و كون موسى و عيسى و غيرهما من أولياء العزم لا يلزم منه أن يكون

لهما شرائع مستقلة. لأن المقصود بكون النبي من أولي العزم، هو أنه يملك طاقة و قدرة يستطيع معها مواجهة التحديات الكبرى، حتى ليواجه عليه السّلام فرعون الذي كان يدعي الربوبية، و يواجه بني إسرائيل و هم قتلة الأنبياء، و أصعب الناس انقيادا لنبي.

______________________________

(148) سورة النحل، الآية 123.

(149) سورة الحج، الآية 78.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 187

و نسخ بعض الأحكام في شريعة سابقة، لا يعني نسخ أساس الشريعة، بل هو على حد النسخ الذي يكون في أحكام الشريعة الواحدة. كما تنسخ آية في القرآن آية قرآنية أخرى.

فهذا كله لا يعني: أننا أمام شرايع مختلفة، كما أنه لا يعني رفعة مقام النبي اللاحق في أولي العزم أو غيرهم، على مقام النبي السابق. و قد ذكرنا إبراهيم كمثال ناقض لذلك التصور الخاطئ.

إننا لا نمنع من أن يستفيد اللاحقون من تجربة السابقين.

و لا أن يسهم السابقون في تنمية قابليات و استعدادات من يأتي بعدهم. و لكن هذا لا يعني: أن يكون طريق الوصول إلى أعلى المراتب قد كان موصدا أمام السابقين، فإن طريق الوصول للّه مفتوح أمام الجميع، و إذا كان ثمة من تفاوت أو اختلاف في الوصول، فيعود إلى الإنسان نفسه.

ليس للّه على الكافر نعمة؟:

و من الأمور المثيرة للعجب أن نجد بعض المفسرين يدعي:

أنه ليس للّه سبحانه على الكافر نعمة، و استدل على ذلك بقوله تعالى: (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). حيث خصت الآية النعمة بالمؤمنين، إذ لو شملت الكافرين لكان معنى ذلك هو أننا نطلب هنا الهداية إلى صراط الكافرين أيضا، لأنهم ممن أنعم اللّه عليهم حسب المدعى.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 188

و هذا الكلام و إن كان باطلا، لا يستحق الالتفات إليه،

لكننا مع ذلك نقول:

إن هذا القائل ليس فقط لم يقرأ القرآن، فإنه أيضا لم يقرأ بقية نفس هذه الآية: و هو قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ و لم يقرأ أيضا قوله تعالى: وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ «150».

و قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ، وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ «151». يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها، وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ «152».

و قال تعالى: أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ «153».

و قال سبحانه: أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «154».

______________________________

(150) سورة البقرة، الآية 211.

(151) سورة البقرة، الآية 40.

(152) سورة النحل، الآية 83.

(153) سورة النحل، الآية 72.

(154) سورة النحل، الآية 71.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 189

و قال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً الخ «155».

إذن، هناك قسمان من الذين أنعم اللّه عليهم: أحدهما لم يبدل نعمة اللّه كفرا، و لم يغضب اللّه عليه، و لم يضل الخ .. و هم الذين تطلب الهداية إلى صراطهم.

و الآخر: بدل و غيّر، و غضب اللّه عليه و الخ .. فنحن نحترس منهم و نستثنيهم.

إعراب غير المغضوب:

اشارة

إذا قلنا: إن كلمة غير المغضوب بدل من كلمة: الذين أنعمت عليهم، فإن المقصود هو إضافة الصراط إلى البدل نفسه أي: صراط غير المغضوب الخ .. و يكون غير المغضوب عليهم هم نفس الذين أنعم اللّه عليهم.

و أما إذا قلنا: إن كلمة: غير المغضوب صفة للذين. فيرد سؤال: كيف يصح وصف المعرفة بكلمة غير، التي هي متوغلة في الإبهام. و لا تتعرف بالإضافة، و هم يقولون: لا يصح وصف المعرفة بالنكرة.

______________________________

(155) سورة إبراهيم، الآية 28.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 190

و نقول في الجواب:

أولا: إن كلمة غير قد يوصف بها المعرفة أيضا، و ذلك إذا وقعت بين متقابلين، مثل: الحركة غير السكون، حيث إن التقابل بين السابق و اللاحق يقرّبها من المعرفة، لإتضاح معناها بواسطة الطرف الآخر الذي وقعت وصفا له .. و ما نحن فيه من هذا القبيل، لوقوعها بين من أنعم عليهم، و بين المغضوب عليهم. فصح وصف المعرفة بها هنا أيضا لأجل ذلك.

و ثانيا: كلمة الذين ليست من قبيل المعرف بالعلمية، لأنها إنما تعرفت بواسطة الصلة، و هذا التعريف لا يصل إلى درجة سائر المعارف من حيث درجة التحديد، بل يبقى لكلمة (الَّذِينَ) عموم وسعة. فكلمة الذين شبيهة ب (ال) الجنسية أو الحقيقية التي تدخل على كلمة (رجل). و (بعير) فتقول: الرجل.

و البعير. و الكريم. فإنها لا تصل إلى درجة التحديد و التعريف بالعلمية.

إذن، فيصح وصف كلمة الذين التي عرّفت بالصلة بكلمة: غير المغضوب عليهم. و إن كانت متوغلة في الإبهام، لأنها قد تضيقت بالمضاف إليه كما تضيقت كلمة الذين بصلتها.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 191

لماذا المغضوب:

أما السؤال: من هم الذين صدر منهم الغضب على أولئك الناس، فجوابه:

1- أننا لا نجد ضرورة لاعتبار فاعل الغضب على أولئك المجرمين هو خصوص الذات الإلهية المقدسة، إذ أن كل من له ذرة من الوجدان، و العقل و الضمير لا بد أن يغضب على المجرمين و المنحرفين. فليكن غضب كل هؤلاء أيضا بالإضافة إلى غضبه تعالى مقصودا في هذه الآية. و لأجل ذلك لم يعين سبحانه فاعل الغضب، بل جاء باسم المفعول: الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ

و اللّه تعالى يريد منا أن نغضب من الإنحراف و أن نشعر بأننا معنيين بسلامة الحياة الإنسانية، و أن نترجم هذا الشعور غضبا و نفورا ممن

يعبث و يهدد السلامة.

أ ليس اللّه و ملائكته، و المؤمنون، و كل الشرفاء، و العقلاء، و أصحاب الضمير الحي معنيين بمكافحة من سب اللّه و رسوله، و سب عليا، و فاطمة، و الحسنين، و الأئمة على منابر، و ابتزهم حقهم؟!.

ألسنا جميعا معنيين بمكافحة من احتل أرضنا و عاث فيها فسادا، و أهان و عبث بمقدساتنا، و استحل دماءنا، و أعراضنا، و أموالنا، و أوطاننا؟!.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 192

إذن، فاللّه قد أبهم فاعل الغضب و لم يصرح به، ليفيد المشمول و العموم لكل من يغضب للحق. و ينفر من فعل الباطل.

2- ثم إنه تعالى قد عبر عن هذا الغضب بصيغة اسم المفعول، و لم يستعمل صيغة الفعل، حيث لم يقل: الذين غضب عليهم. لأن صيغة الفعل تفيد التصرم و الزوال، و هو تعالى إنما يريد أن يقرر فعلية الغضب، و الدوام و الثبات و الاستمرار فإن هذا أشد من الزجر، و أدعى للإنزجار.

3- و إنما عبر بالمغضوب، مشيرا بذلك إلى الغضب من أجل أن يعرفنا الداعي و السبب لسلب النعمة، و هو إجرامهم المقتضي للغضب، ثم للعقوبة و الجزاء.

من هم المغضوب عليهم و الضالون:

و قد ورد في الروايات، و ذهب إليه عدد من المفسرين: أن المقصود ب (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ): اليهود. و المقصود ب (الضَّالِّينَ): النصارى.

و الظاهر: أن هذا من باب الانطباق، حيث إن اليهود و النصارى من مصاديق المغضوب عليهم، و من مصاديق الضالين.

و الآية عامة صالحة للانطباق عليهم و على غيرهم ممن يعمل عملهم. و في الآيات القرآنية ما يدل على انطباق (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) على غير اليهود، و انطباق الضالين على غير النصارى.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 193

فأما بالنسبة لعنوان المغضوب عليهم، فنقرأ الآيات التالية:

وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها

إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ «156».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «157».

و خاطب سبحانه أهل الكتاب بقوله: وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ «158».

و بالنسبة للضلال، فقد قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ، وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ، وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً «159».

وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ: إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ «160».

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً «161».

______________________________

(156) سورة النور الآية 9.

(157) سورة المجادلة الآية 14.

(158) سورة آل عمران الآية 112.

(159) سورة النساء الآية 136.

(160) سورة النمل الآية 92.

(161) سورة الأحزاب الآية 36.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 194

و هناك آيات كثيرة أخرى.

فترى: أن الآيات الكريمة إما ناظرة إلى المؤمنين، كالآية الأخيرة، و إما ناظرة إلى العصاة و المنحرفين بغض النظر عن الديانة التي ينتمون إليها ...

التوضيح و التطبيق:

و لتوضيح ما سبق نقول:

إنه تعالى قد ذكر صفتين، قد تتوافقان، و قد تختلفان أي أن النسبة بينهما يكون هي العموم و الخصوص من وجه، كالطير و الأسود، حيث يتوافقان في الغراب، الذي هو طير و أسود، و قد لا يكون الأسود طيرا، بل يكون ثوبا مثلا. و الطير قد يكون حماما أبيضا. فكل من الطير و الأسود أعم من الآخر، و أخص منه من وجه.

و المغضوب عليهم و الضالون أيضا كذلك، فقد يكون الإنسان ضالا في عقيدته، و أفكاره. و مجرما في سلوكه و أفعاله، و إجرامه يثير الغضب، فيبادر الغاضب إلى مجازاته. و قد يكون ضالا لكنه ليس بمجرم، فلا يثير غضبا و لا يستحق التأديب و الجزاء المناسب. و قد يكون مجرما، لكنه ليس بضال.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 195

فهناك إذن صفتان في مقابل المنعم

عليهم، قد توجدان في واحد من الناس أو أكثر. و قد توجد إحداهما في بعض الناس، و توجد الأخرى في بعض آخر.

و لا بأس بأن نطبق إحدى الصفتين على اليهود و الذين اجرموا إجراما ظاهرا، فقتلوا الأنبياء، و أفسدوا في الأرض.

فغضب اللّه عليهم لأجل ذلك.

و على النصارى الذين ضلوا و أضلوا الناس. فكان إجرامهم خفيا و ذكيا.

مع العلم بأن اليهود أيضا مصداق للشق الثاني، فإنهم أيضا ضالون و مضلون. و النصارى أيضا حين يقتلون الأبرياء و يشنون حروبهم الصليبية على الحق و الدين، و يناصرون اليهود الغاصبين هم أيضا مجرمون مغضوب عليهم لإجرامهم، و لا بد من مجازاتهم على هذا الإجرام. فالآية لا تخص اليهود بوصف المغضوب عليهم، و لا تخص النصارى بوصف الضالين. بل هي عامة تشمل حتى الملحد، بل و المسلم إذا أجرم، فاستحق العقاب، و كذا إذا ضل و أضل.

فمن أغضب فاطمة عليهاالسّلام يدخل في المغضوب عليهم لقوله (ص): من أغضبها فقد أغضبني، و ذلك ظاهر لا يحتاج إلى مزيد بيان.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 196

تناقض يسي ء إلى المعنى:

و الغريب في الأمر هنا: أننا نجد نفس أولئك الذين فسروا الآية باليهود و النصارى قد ناقضوا أنفسهم حين أضافوا إلى ذلك قولهم: إن المغضوب عليهم هم قوم عرفوا الحق ثم عاندوه. و هم الذين وصفهم اللّه تعالى بأنهم قوم غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «162».

أما الضالون فهم: قوم ما عرفوا الحق، و قصروا في طلبه، فضلوا. و هم الذين وصفهم اللّه بأنهم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَ أَضَلُّوا كَثِيراً، وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ «163».

و هذا كلام عجيب، قد لا يخطر حتى على بال النصارى أنفسهم في صياغة البراءة لأنفسهم، إذ أنه يعني: أن يكون النصراني معذورا في

ضلاله، و يكاد يكون هذا تبريرا لانحرافهم، حيث إن ضلالهم كان نتيجة تقصير، فلا يرقى إلى درجة الجريمة الفاحشة.

و معنى ذلك: أنه تعالى قد انتقل من الحديث عن أمر عظيم الخطورة، قد وصف به اليهود، و هو كونهم من المغضوب عليهم إلى أمر سهل و بسيط، و هو ضلال قوم بسبب تقصير منهم. لا بسبب التعمد لغير الحق!!.

______________________________

(162) سورة المجادلة. الآية 14.

(163) سورة المائدة الآية 77.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 197

و نقول:

إن الحقيقة قد تكون عكس ذلك، أي قد تكون جريمة النصارى أعظم و أخطر من جريمة اليهود، إذا عرفنا: أن النصارى أيضا قد رأوا الحق و أعرضوا عنه، و عاندوه. ثم قاموا بدور الإضلال للناس بصورة ذكية و خفية.

أما اليهود، فإنهم قد ضلوا عن الحق، و هم يعرفون. ثم ارتكبوا الجرائم و الموبقات. فهم ضالون و مجرمون. فلا بد من الحذر مرة من ضلالهم الظاهر، و من إجرامهم المفضوح، أما النصارى فلا بد من الحذر منهم ألف مرة، لأنهم ينساقون وراء أهوائهم، و يعملون على إضلال الناس بصورة ذكية و ماكرة.

و قد نجحوا في ذلك، قال تعالى: لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَ أَضَلُّوا كَثِيراً، وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ و قال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ «164».

فهم إذن يعرفون الحق، و لكنهم يتبعون أهواءهم، و يضلون الناس أيضا. و ليست القضية مجرد ضلال ناشئ عن تقصير، قد لا يكون له هذا المستوى من الخطورة و القبح.

______________________________

(164) سورة الأعراف. الآية 157.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 198

و لا الضالين:

و إنما قال تعالى: وَ لَا الضَّالِّينَ بإضافة كلمة (لَا) و لم يقل:

و الضالين، أو: و غير الضالين، لسببين:

الأول:

إن كلمة (لَا) صريحة في نفي ما بعدها، أما كلمة غير فإنما تنفيه بصورة نفي اللازم.

الثاني: إنه تعالى لا يريد أن يكون المجموع المركب من المغضوب عليهم و الضالين هو مدخول غير، ليكونوا فريقا واحدا مقابل الذين أنعم اللّه عليهم.

بل يريد أن يستثني الفريقين أي: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) و (الضَّالِّينَ). لا بشرط. حيث إنه يريد مقابلة الذين أنعم اللّه عليهم بالمغضوب عليهم تارة، و بالضالين أخرى، و بالمجموع المركب منهما ثالثة.

و هذا إنما يتسنى في ظل كلمة (لَا) دون كلمة غير التي قد توهم المعنى الآخر.

إمامة أبي بكر في سورة الفاتحة:

و يحاول البعض أن يجعل من قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، دليلا على إمامة أبي بكر، لأن المقصود بالذين

تفسير سورة الفاتحة، ص: 199

أنعم اللّه عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ، وَ الشُّهَداءِ، وَ الصَّالِحِينَ «165».

باعتبار أن أبا بكر هو رأس الصديقين: و قد أمرنا اللّه أن نطلب الهداية إلى صراط أبي بكر الصديق.

و نقول:

لنفترض: أن الآية تدل على إمامة الصديقين، فهل تدل على إمامة الصالحين، و الشهداء أيضا ..

2- قد ذكرنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) «166» عدم صحة ما يستندون إليه في تسمية أبي بكر بالصديق، لتتناقض الروايات في سبب هذه التسمية، و قلنا هناك: إن الظاهر هو أن هذا اللقب قد أطلق على أبي بكر بعد وفاته. و لهذا لم يستدل به هو و لا أحد من مؤيديه في يوم السقيفة على استحقاقه الخلافة مع حاجتهم الملحة لاستدلال كهذا، و لا عطر بعد عروس.

______________________________

(165) سورة النساء. الآية 69.

(166) الصحيح من سيرة النبي ج 4 ص 44- 52.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 200

3- هناك روايات

كثيرة صحيحة السند، مروية في عشرات المصادر الإسلامية المتنوعة تنص على أن الصديق الأكبر هو علي عليه السّلام، سماه بذلك رسول اللّه «167» (ص).

و روي عن النبي (ص) أيضا: أنه قال: الصديقون ثلاثة:

حزقيل مؤمن آل فرعون، و حبيب النجار، صاحب آل ياسين.

و علي بن أبي طالب. الثالث أفضلهم. «168»

و قال على عليه السّلام على منبر البصرة: أنا الصديق الأكبر. آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، و أسلمت قبل أن يسلم أبو بكر. «169».

و عنه عليه السّلام؛ بسند صحيح على شرط الشيخين: أنا عبد اللّه، و أخو رسوله، و أنا الصديق الأكبر الخ ... «170»

______________________________

(167) راجع: الغدير. ج 2 ص 313 و 314 عن شمس الأخبار للقرشي.

(168) راجع مصادر هذا الحديث في الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 4 ص 46/ 47.

(169) راجع مصادر هذا الحديث في الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 4 ص 47/ 48.

(170) راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم. ج 4 ص 45/ 46.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 201

و عن النبي (ص): أنه قال لعلي: أنت الصديق الأكبر، و أنت الفاروق الخ ... «171»

و الروايات في ذلك كثيرة، فلترجع في مظانها ... «172»

______________________________

(171) الصحيح من سيرة النبي (ص). ج 4 ص 48.

(172) الصحيح من سيرة النبي (ص). ج 4 ص 45- 49.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 203

كلمة أخيرة:

و أخيرا ...

فإننا إلى هنا نكون قد أنهينا الحديث عن بعض اللمحات و الإشارات التي وفق اللّه لاستفادتها من سورة الفاتحة بصورة أو بأخرى. و قد كانت- بحق- فرصة للقيام بسياحة مباركة و رائعة في رحاب هذا القرآن العظيم، عادت علينا بفوائد و عوائد جليلة و غالية، أين منها فرائد اللآلى، و الدرر الغوالي.

نقول هذا، على الرغم

من أننا لم نوغل في اللامتناهي من آفاق هذا القرآن، و لا حاولنا أستكناه ما يطويه في أغوار أعماقه؛ لإدراكنا أننا- و نحن نقف مبهورين على شواطئ بحاره الغامرة- أعجز من أن ننال سوى القطرة أو القطرات، كما أننا حين نستشرف آفاقه، فلن نستطيع أن نقتحم رحابها إلا في حدود تهاويم و سبحات، و سوانح و خطرات.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 204

و حين وضح ضعفنا، و ظهر عجزنا، و أننا لا نملك أن نجي ء إلا ببضاعة مزجاة، أدركنا بعمق: أن علينا أن نعود للوقوف على أبواب الراسخين في العلم، و هم أهل بيت العصمة، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا. نناديهم بصدق. و نناجيهم بوله و صفاء بأننا قد مسنا و جميع محبيهم الضر فليوفوا لنا الكيل، و ليتصدقوا علينا، فاللّه يحب المتصدقين.

فإننا- و اللّه- نحن العطاشى إلى النمير الزلال من علمهم، و المحتاجون إلى الصادق من هديهم، و الوالهون إلى صفي محبتهم و مودتهم.

نسأل اللّه سبحانه أن يؤهلنا لنيل هذا الشرف، و أن يكرمنا بدرجات الزلفى و القرب، إنه ولي قدير، و بالإجابة حري و جدير.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 205

المصادر و المراجع

- ألف- القرآن الكريم.

الاحتجاج، للشيخ الطبرسي، ط سنة 1413 ه. ق.- قم- إيران.

إحقاق الحق (قسم الملحقات) للسيد شهاب الدين المرعشي النجفي- ط قم- إيران.

الاستبصار، للشيخ محمد بن الحسن الطوسي- ط سنة 1376 ه. ق- النجف الأشرف- العراق.

إعلام الدين في صفات المؤمنين- للحسن الديلمي- ط سنة 1408 ه. ق مؤسسة آل البيت. قم- إيران.

الأمالي للشيخ الصدوق رحمة اللّه- ط الحيدرية- النجف الأشرف. العراق.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 206

الأمالي للشيخ محمد بن الحسن الطوسي ط سنة 1401 ه ق.

مؤسسة الوفاء- لبنان.

- ب- بحار الأنوار: للعلامة المجلسي-

ط سنة 1403 ه ق.

مؤسسة الوفاء. بيروت- لبنان.

البرهان في تفسير القرآن- للبحراني- ط آفتاب- طهران- إيران. و المطبعة العلمية سنة 1393 ه ق.- إيران.

- ت- تاريخ دمشق (ترجمة الإمام على بن أبي طالب- بتحقيق المحمودي) ط- بيروت- لبنان.

التراتيب الإدارية- للكتاني- ط دار إحياء التراث العربي- بيروت- لبنان.

تفسير العسكري- ط سنة 1409 ه ق. مطبعة مهر- قم- إيران.

تفسير العياشي- ط المكتبة العلمية الإسلامية- قم- إيران.

تفسير القمي- لعلي بن إبراهيم بن هاشم. ط سنة 1387.

ه ق. بيروت. لبنان.

التفسير الكبير- للرازي- منشورات دار الكتب العلمية- طهران- إيران.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 207

تهذيب الأحكام- للشيخ محمد بن الحسن الطوسي- ط سنة 1390- قم- إيران.

- ج- جامع الأخبار و الآثار- للأبطحي.

- د- دعائم الإسلام- للقاضي النعمان- ط سنة 1383 ه- ق.

دار المعارف بمصر.

- س- سنن ابن ماجة- ط سنة 1373 ه. ق.

- ص- الصحيح من سيرة النبي الأعظم- جعفر مرتضى العاملي- ط سنة 1415. ه. ق. دار الهادي- و دار السيرة- بيروت- لبنان.

الصحيفة السجادية- منسوبة للإمام زين العابدين عليه السّلام.

- ع- علل الشرائع- للشيخ الصدوق- ط سنة 1385. ه. ق.

النجف الأشرف- العراق.

- غ- الغدير- للعلامة الأميني- ط سنة 1397 ه ق. دار الكتاب العربي بيروت- لبنان.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 208

غرائب القرآن- للنيسابوري (مطبوع بهامش جامع البيان) سنة 1312- ه. ق.

- ق- قرب الإسناد- لعبد اللّه بن جعفر الحميري- إصدار مكتبة نينوى الحديثة- طهران- إيران.

- ك- الكافي- للكليني- ط سنة 1377 ه. ق. الحيدرية- طهران- إيران.

كشف الغمة- للإربلي- المطبعة العلمية سنة 1381 ه. ق.- قم- إيران.

الكنى و الألقاب- للشيخ عباس القمي- ط الحيدرية سنة 1389- ه. ق. النجف الاشرف- العراق.

- ل- اللهوف في قتلى الطفوف- للسيد ابن طاووس- منشورات مكتبة الداوري- قم-

إيران.

- م- مجمع البيان- للطبرسي- ط سنة 1379 ه. ق. دار إحياء التراث العربي. بيروت- لبنان.

مستدرك سفينة البحار- للشيخ علي نمازي الشاهرودي- ط مؤسسة البعثة- طهران- إيران.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 209

المستدرك على الصحيحين- للحاكم النيسابوري ط سنة 1342 ه. ق. الهند.

مستدرك الوسائل- للشيخ حسين النووي- ط مؤسسة آل البيت سنة 1407 ه. ق. قم- إيران.

المسند لحمد بن حنبل- ط سنة 1313 ه. ق.- مصر. ثم نشر دار صادر- بيروت- لبنان.

معاني الأخبار- للشيخ الصدوق. نشر دار المعرفة- سنة 1399 ه- ق. بيروت- لبنان.

مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- لابن أبي الدنيا- مطبوع ضمن مجلة تراثنا، الصادر عن مؤسسة آل البيت- قم- إيران.

سنة 3 عدد 3.

مقتل الحسين- للسيد عبد الرزاق المقرم- ط سنة 1372 ه. ق. مطبعة الآداب- النجف الأشرف.- العراق.

مناقب آل أبي طالب- لابن شهر آشوب- ط دار الأضواء سنة 1412 ه. ق.

- ن- نفس المهموم- للشيخ عباس القمي- دار المحجة البيضاء- سنة 1412 ه. ق. بيروت- لبنان.

نهج البلاغة (جمع الشريف الرضي) بشرح عبده- ط الاستقامة.

تفسير سورة الفاتحة، ص: 210

نور الثقلين- لابن جمعة الحويزي- مطبعة الحكمة- قم- إيران.

- و- وسائل الشيعة- ط مؤسسة آل البيت سنة 1412 ه. ق.

قم- إيران.

- ي- ينايبع المودة- للقندوزي الحنفي- ط سنة 1301 ه. ق.

إسلامبول- تركيا.

الكشاف- للزمخشري- نشر دار المعرفة- بيروت- لبنان

تفسير سورة الفاتحة، ص: 211

محتويات الكتاب

مقدمة الناشر 7

تقديم 9

تمهيد 13

إلفات نظر لا بد منه 19

علي (ع) و تفسير سورة الفاتحة و البسملة 20

مناوئوا علي عليه السّلام، و حساده 24

تفسير قوله تعالى: بسم اللّه الرحمن الرحيم 27 بداية و تمهيد 29

البدء باسم اللّه 30

النقص في البداية و في النهاية 32

الباء للاستعانة أم للملابسة 35

لماذا التركيز على الاسم 36

الأسماء الحسنى

وسيلة الدعاء 38

تفسير سورة الفاتحة، ص: 212

الأصنام عند العرب 41

الرحمن الرحيم 42

- تحديد معنى الرحمن الرحيم 43

- سبب اختيار هاتين الصفتين 48

- كلمة الرحمن علم أم صفة؟ 50

تفسير قوله تعالى: الحمد للّه رب العالمين 52 الحمد للّه 55

- اختصاص الحمد باللّه سبحانه 56

- الحمد و الرحمة بداية و نهاية 58

- له الحمد في الأولى و الآخرة 60

- لماذا لم يقل: الحمد لرب العالمين 64

- لماذا الحمد؟! 65

- لغة القرآن في التربية العقائدية 65

- التسبيح بحمد اللّه تعالى 68

- لماذا تسبيحة كبيرة 73

شمولية كلمة الرب 75

العالمين 75

- ما المقصود بالعالمين 76

- أولا: التربية للعالمين 76

تفسير سورة الفاتحة، ص: 213

الأول: سجود المخلوقات و تسبيحها ليس تكوينيا 78

الثاني: تكامل الشعور و الإدراك و مستواه 80

- ثانيا العالمون خاص بالبشر 81

- استدلال لا يصح 82

- ربي أم رب العالمين 83

- الكون المتوازن 84

- الألوهية و الربوبية 86

- نتائج ثلاثة 88

تفسير قوله تعالى الرحمن الرحيم 91 الرحمن الرحيم: مرة أخرى 93

- النقص حقيقي و أساسي 94

- ثبات و استمرار الرحمة 95

- دوافع التربية و الرعاية 95

تفسير قوله تعالى: مالك يوم الدين 97 المعاد مشكلة حقيقية للمشركين 99

أي أنواع المالكيات للّه تعالى 106

يوم الدين 110

مالكية اللّه سبحانه للدنيا 111

تفسير سورة الفاتحة، ص: 214

الدين هو الجزاء 112

مالك أو ملك 114

الخلود في العذاب و العدل 115

تفسير قوله تعالى: إياك نعبد و إياك نستعين 117 بداية 119

إياك نعبد 120

- تقديم كلمة: إياك 122

- نعبد و نستعين بصيغة الجمع 124

- مراتب العبادة 128

- ما المراد بالعبادة 129

- تنوع المستحبات و كثرتها 131

- و إياك نستعين 133

- الوعي يقتضي الاستعانة 133

- التوحيد في العبادة و الاستعانة 133

- جبر أم اختيار؟ 134

- الاستعانة: و العجب و الرياء

134

- الاستعانة بغير اللّه سبحانه 135

- الاستعانة باللّه و الجبر الإلهي 139

تفسير سورة الفاتحة، ص: 215

تفسير قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم 143 اهدنا الصراط المستقيم 145

- ارتباط الآية بما قبلها 145

- الطلب الجازم 148

- الإسلام لا يغني عن طلب الهداية 148

أنواع الهداية و أقسامها 154

الهداية و الجبر الإلهي 158

اهدنا الصراط أو إلى الصراط 159

- مناقشة وردها 160

الصراط المستقيم 161

- (آل) في الصراط للجنس أم للعهد 164

- وصف الصراط بالمستقيم، لماذا؟ 165

تفسير قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم 169 نسبة الصراط إلى غير اللّه- 171

النعمة و النقمة 176

من هم الذين أنعم اللّه عليهم 181

شمول الآية للنبي (ص) و الأئمة (ع) 182

نحن و السابقون 184

تفسير سورة الفاتحة، ص: 216

ليس للّه على الكافر نعمة 187

إعراب: غير المغضوب 189

لماذا المغضوب؟! 189

من هم المغضوب عليهم، و الضالون 192

- التوضيح و التطبيق 194

- تناقض يسي ء إلى المعنى 196

و لا الضالين 198

إمامة أبي بكر في سورة الفاتحة 198

كلمة أخيرة 203 المصادر و المراجع 205

تفسير سورة الفاتحة، ص: 217

يعلن المركز الاسلامي للدراسات عن وضع مكتبته في خدمة الباحثين الكرام. كما انه أعد لهم مكانا خاصا للكتابة و المطالعة.

فللراغبين بالاستفادة من المكتبة زيارة مركزنا حيث سنقوم بخدمته.

المركز الاسلامي للدراسات بيروت. لبنان. بئر العبد. سنتر الإنماء (2)

تلفون. فاكس: 274519 (1) (00961)

ص ب 52/ 25

الانترنت:WWW .alhadi .org

البريد الالكتروني:alhadi I alhadi .org

تفسير سورة الفاتحة، ص: 219

يعلن المركز الاسلامي للدراسات

الى القراء الاعزاء عن إفتتاحه قريبا موقعه على شبكة الانترنت، و هو يضع بين يدي المهتمين مادة علمية في مختلف الشؤون الفكرية و الثقافية الاسلامية. تفسير سورة الفاتحة 219

كما انه مستعد لتلقي اسئلتكم و الاجابة عليها في مختلف العلوم و الشؤون الاسلامية.

المركز الاسلامي للدراسات بيروت.

لبنان. بئر العبد. سنتر الإنماء (2)

تلفون. فاكس: 274519 (1) (00961)

ص ب 52/ 25

الانترنت:WWW .alhadi .org

البريد الالكتروني:alhadi I alhadi .org

تفسير سورة الفاتحة، ص: 221

إصدارات المركز الإسلامي للدراسات موقف علي عليه السّلام في الحديبية (العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي)

لست بفوق أن أخطئ (العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي)

منطلقات البحث العلمي (العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي)

سنابل المجد (قصيدة) (العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي)

تفسير سورة الفاتحة (العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي)

تفسير سورة الماعون (العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي)

تفسير سورة الكوثر (العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي)

تفسير سورة الناس. (العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي)

عبس و تولى فيمن نزلت؟ (الشيخ رضوان شرارة)

الشورى و البيعة. (الشيخ مصطفى قصير)

الأعياد الإسلامية (الشيخ مصطفى قصير)

قانا الجليل. (الشيخ حاتم اسماعيل)

صلب المسيح عليه السّلام في الإنجيل (الشيخ حاتم اسماعيل)

الحسين و عاشوراء في الكافي. (السيد حسين صولي)

المرأة المسلمة و متطلبات التنمية و البناء (خديجة عبد الهادي الحميد)

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.