تفسير سورة الكوثر

اشارة

نام كتاب: تفسير سورة الكوثر

نويسنده: عاملى، سيد جعفر مرتضى

موضوع: تحليلى- پرسش و پاسخ قرآنى

قرن: 15

زبان: عربى

مذهب: شيعى

ناشر: المركز الاسلامي للدراسات

مكان چاپ: بيروت

سال چاپ: 1419 ق

نوبت چاپ: اول

مقدمة الناشر

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الحمد للّه حمدا كثيرا و سبحان اللّه بكرة و أصيلا، و الصلاة و السّلام على رسوله الذي أرسله بالحق مبشرا و نذيرا و شاهدا و هاديا و سراجا منيرا، و على آله الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

أما بعد ...

من المعلوم لدى القارئ العزيز أن هذه السلسلة المسماة «دروس في تفسير القرآن» قد صدر منها الى الآن ثلاثة كتب في تفسير سور الفاتحة و الناس و الماعون.

و لقد بات باستطاعتنا أن نقول: إن هذا المنهج في التفسير و المسمى «المنهج الاستنطاقي» بدأ يأخذ مكانه و دوره المهم بين المناهج، و أن القارى ء العزيز المهتم بالتفسير القرآني بات ينتظر بفارغ الصبر الإصدارات الجديدة منه.

تفسير سورة الكوثر، ص: 6

و حتى لا ينتظر القارى ء طويلا، ها نحن نقدم له اليوم الكتاب الرابع من هذه الإصدارات، و هو تفسير «سورة الكوثر» و التي تمثل، بحق، نموذجا رائعا للإعجاز القرآني بجميع نواحيه البلاغية و المعرفية و الحكمية و الغيبية و غيرها ..

نعم، ها نحن اليوم نقدم للقراء الأعزاء، في تفسير هذه السورة المباركة بعض الإفاضات النورانية التي أفاضها اللّه على عبده سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، أفاد اللّه المؤمنين ببقائه و جعلهم يستفيدون مما يجريه اللّه على لسانه من حكمة إلهية و أسرار ربانية و سنن و آداب عملية، فجزاه اللّه خير جزاء العارفين و العاملين، إنه سميع الدعاء لطيف خبير، و بعباده عليم بصير.

و الحمد للّه

رب العالمين

المركز الاسلامي للدراسات

تفسير سورة الكوثر، ص: 7

[مقدمة المؤلف

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السّلام على محمد و آله الطاهرين، و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين.

و بعد ..

فقد بات واضحا: أن كتاب اللّه- حسبما ورد في الرواية عن الإمام الحسين عليه السّلام-: على أربعة أشياء:

على العبارة، و الإشارة، و اللطائف، و الحقائق.

فالعبارة للعوام، و الإشارة للخواص، و اللطائف للأولياء، و الحقائق للأنبياء.

و لا ندّعي أننا قد وفّقنا في هذه المحاولة للوصول إلى معرفة حتى ما ترمي إليه العبارة، فضلا عن الوصول إلى ما بعدها من مراتب أشار إليها هذا الحديث الشريف.

بل قد نكتشف، أو يكتشف غيرنا، أن بعض ما

تفسير سورة الكوثر، ص: 8

أوردناه، لعلّه قد جاء من خارج دائرة الدلالات التعبيرية.

كما أن علينا أن نعترف- و ما أشرفه من اعتراف- بقصورنا عن التحديد الدقيق لمعالم و حدود المعاني القرآنية، ثم نقرّ- باعتزاز- بعجزنا عن الإمساك أو فقل عن التعرّف على كل الخيوط التي تربط المعاني، و تشدّها إلى بعضها البعض.

و كيف لا يكون الأمر كذلك، و نحن نجد أنفسنا أمام بحر عميق، لا تفنى عجائبه، و لا تنفذ غرائبه، و لا يشبع منه علماؤه.

غير أننا رغم هذا و ذاك، لا نريد أن ندع الفرصة تفوتنا للإشارة إلى ثلاثة أمور:

الأول:

إن ما يجده القارى ء- ربّما- من تكرار أو ضعف في التراكيب، أو ما إلى ذلك، مردّه إلى أن هذه المطالب لم تكتب لتكون كتابا له منهجيته التي تجعله يحمل الخصوصيات، و اللمحات، و اللفتات الفنّية المناسبة له .. و إنما هي مجرّد مطالب قيلت في جلسات

تفسير سورة الكوثر، ص: 9

لبعض الأخوة من الشباب، فيما بين شهر رجب و شهر رمضان المبارك. و هي أقرب إلى العفوية منها إلى الدراسة التأملية أو الشاملة. و قد استخرجت من أشرطة التسجيل،

ثم لحقتها تعديلات، و تصحيحات حسب الحاجة.

الثاني:

إن ما ذكر هنا لم يستند إلى ما كتبه المفسّرون حول هذه السورة؛ فضلا عن أن يتجه إلى استقصاء أقوالهم و محاكمتها وفق ضوابط البحث العلمي و معاييره.

الثالث:

إن سياحة واعية في آفاق هذه السورة- سورة الكوثر- تعطي من أنصف و تدبر أنّها- على قصرها- مثال للإعجاز و التحدّي الإلهي، الذي يفرض على الانسان الواعي أن يعيش حالة اليقين في أعمق و أرسخ حالاته، فيما يرتبط بعمق التحدّي الإلهي لكل الأمم، و إلى يوم القيامة، قال تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «1» أي حتى و لو بمقدار سورة الكوثر التي لا تزيد

______________________________

(1) سورة البقرة، آية 23.

تفسير سورة الكوثر، ص: 10

على عشر كلمات في ثلاث آيات قصار.

و قبل أن نختم الحديث نسجّل لفتة تثير الإنتباه هنا، و هي أن اللّه سبحانه قد تحدّى البشر بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم بعشر سور، ثم بسورة من مثله. حتى و لو كانت السورة بمقدار ثلاث آيات. و لكنه لم يذكر في هذا التحدّي أن يأتوا بآيات من مثله- و لو بمقدار آيات سورة الكوثر-.

و ربّما يكون سبب ذلك: أن السورة لا بد أن تختزن معنى أساسيا، له موقعه الحسّاس في منظومة الثوابت الإلهية، المنسجمة مع واقع الحياة و الخلق و التشريع ..

أما الآية أو الآيات، فقد لا تتكفّل بمفردها ببيان كل العناصر التي لا بد منها في تكوين المبرّر الأقصى لإفراد سورة بعينها، بما لها من إعجاز حاسم في مقام التحدّي، حتى و إن كانت أعظم آية في القرآن الكريم، كآية الكرسي، و إن كنّا نعتقد، أن الآية قد تستجمع عناصر الإعجاز، كما هو الحال في آية الكرسي و غيرها. و قد تحتاج من أجل ذلك إلى الإنضمام

إلى آية

تفسير سورة الكوثر، ص: 11

أخرى أو أكثر، لتكتمل عناصر الإعجاز من خلال هذا الإنضمام، و ذلك مثل قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ «1» أو مُدْهامَّتانِ «2» فإنّها ليست مثل آية الكرسي، أو آية النور.

فلا يمكن التحدّي بالآية أو الآيات لعدم التحديد الذي أشرنا إليه آنفا.

أمّا السورة ففيها إعجاز على كل حال حتى لو كانت بمقدار سورة الكوثر.

فالتحدّي بها يكون قائما و دائما، و في جميع الأحوال.

و في الختام أتمنى على القارى ء الكريم أن يغضّ الطرف عمّا يجده من تقصير، و الحمد للّه و صلاته على محمد و آله الطاهرين.

جعفر مرتضى العاملي

5 شهر رمضان المبارك

سنة 1419 ه. ق

______________________________

(1) سورة الصافات، آية رقم 25.

(2) سورة الرحمن، آية رقم 64.

تفسير سورة الكوثر، ص: 13

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ

تفسير سورة الكوثر، ص: 15

تمهيد

فضل قراءة سورة الكوثر:

1- عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: من كانت قراءته «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» في فرائضه و نوافله سقاه اللّه من الكوثر يوم القيامة، و كان محدثه عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أصل طوبى «1».

2- في حديث ابي، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأها سقاه اللّه من أنهار الجنة، و أعطي من الأجر بعدد كل قربان قربه العباد في يوم عيد، و يقربون من أهل الكتاب و المشركين «2».

3- و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأها سقاه اللّه من نهر الكوثر، و من كل نهر الكوثر، و من كل نهر في الجنة.

______________________________

(1) تفسير البرهان ج 4 ص 511 و تفسير

نور الثقلين ج 5 ص 680 عن ثواب الأعمال للشيخ الصدوق.

(2) تفسير نور الثقلين ج 5 ص 680 عن مجمع البيان.

تفسير سورة الكوثر، ص: 16

و من قرأها ليلة الجمعة مأة مرة مكملة، رأى النبي في منامه بإذن اللّه تعالى.

4- و قال الصادق عليه السّلام: من قرأها بعد صلاة يصليها نصف الليل سرا من ليلة الجمعة الف مرة مكملة رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في منامه بإذن اللّه تعالى.

5- روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: من قرأ هذه السورة سقاه اللّه تعالى من نهر الكوثر، و من كل نهر في الجنة، و كتب له عشر حسنات بعدد كل من قرب قربانا من الناس يوم النحر، و من قرأها ليلة الجمعة مأة مرة رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في منامه رأي العين، لا يتمثل بغيره من الناس إلا كما يراه «1».

سبب نزول سورة الكوثر:

قد ذكرت كتب الحديث و التفسير: أنّ سبب نزول سورة الكوثر هو: أن عمرو بن العاص قد وصف

______________________________

(1) راجع الأحاديث السابقة في كتاب: البرهان في تفسير القرآن ج 4 ص 512.

تفسير سورة الكوثر، ص: 17

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالأبتر، فأنزل اللّه سورة الكوثر على نبيّه في هذه المناسبة «1».

و قيل: إن العاص بن وائل السهمي هو الذي قال ذلك، فنزلت السورة.

و في رواية أخرى: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرّ- و هو آت من جنازة ولده القاسم- على العاص بن وائل، و ابنه عمرو، فقال حين رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لأشنؤه.

فقال العاص بن وائل: لا جرم

لقد أصبح أبتر، فأنزل اللّه: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «2».

هذا هو المعروف في سبب نزول هذه السورة، و فيما ذكرناه كفاية، و لا يهمّنا تقصّي الروايات.

الإخبارات الغيبيّة في سورة الكوثر:

إنّ من جملة دلائل إعجاز سورة الكوثر هو الإخبارات الغيبيّة التي تضمّنتها حيث جاء فيها:

1- انها أخبرت عن أن اللّه سبحانه، قد أعطى نبيّه

______________________________

(1) تفسير البرهان، ج 4 في تفسير سورة الكوثر.

(2) تفسير الميزان، ج 20، ص 372.

تفسير سورة الكوثر، ص: 18

كوثرا من النسل من خلال فاطمة الزهراء عليه السّلام ...

نعم، أعطاه تعالى كوثرا من الخير، و البركات، و امتداد الدعوة.

و قد جاء هذا الإخبار الصادق في بدء الدعوة، حينما مات أبناء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان أمر الدعوة ضعيفا، و موهونا، و حيث لم يكن ثمة أيّ بارقة أمل بتبدل الأوضاع و الأحوال، إلّا من خلال الإيمان بصدق وعد اللّه سبحانه.

2- ثم أخبرت عن أن كل شانى ء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لسوف يكون أبتر. بما فيهم ذلك الذي فعل ذلك في أوائل بعثته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. رغم أنه كان له أولاد يأمل بامتداد حياته من خلالهم.

و قد ذكر اللّه كلا الخبرين عن الغيب مع مزيد من التأكيد، و الإصرار كما يظهر لمن تأمّل الآيات الكريمة الواردة في السورة.

سورة الكوثر مكّية:

و قد اختلفوا في هذه السورة، هل هي مكّية أم مدنيّة؟

تفسير سورة الكوثر، ص: 19

و الأرجح أنها نزلت في مكّة؛ لأنها نزلت ردّا على ذلك الذي آذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتلك الطريقة الوقحة، حينما مات أبناؤه، حيث شمت به عمرو بن العاص أو العاص بن وائل، و تنقّصه، و وصفه بالأبتر، أي الذي لا عقب له.

ربط القيم بالأمور الواقعية:

اشارة

و يرد هنا سؤال، و هو أن وصف النبي بالأبتر، و تعييره بانقطاع نسله، لا يعدو أن يكون أمرا شخصيا، فهل أن هذه المسألة الشخصية هي من الأهمية بحيث أن اللّه سبحانه و تعالى ينزل سورة يخلّد فيها هذا الأمر، و يفرض قراءتها على العالمين؟

و ما هي الحكمة التي اقتضت ذلك؟!

و نقول في الجواب:

إن السّورة و إن كانت قد عالجت- بحسب الظاهر- أمرا شخصيا و خاصّا، هو الذي اقتضى نزولها. و لكنّها على أي حال قد تضمّنت بيان قواعد و ضوابط، و سننا إلهيّة مهمّة في حياة البشر هي التي اقتضت إفراد صورة خاصة.

تفسير سورة الكوثر، ص: 20

و في القرآن نظائر كثيرة لهذا الأمر، حيث نجد أنّ اللّه سبحانه قد ربط قضايا كثيرة بأحداث واقعيّة، يستجيب لها هذا الإنسان في أحاسيسه، و في مشاعره، و في وعيه ..

و ليكن من جملة ذلك قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ «1»، فإنّها و إن كانت أيضا قضية شخصية، بحسب الظاهر، و لكّنها تتحرّك في نطاق الوعي الإسلامي العام، و في دائرة ضوابطه و منطلقاته، و مثله، و قيمه.

و كذلك الحال في قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ «2». حيث بيّنت الآية أن المال ليس هو الذي يقرّر مصير الإنسان، و ليس هو الذي يتحكّم بمستقبل الحياة.

فالمقصود إذن هو إعطاء الضابطة الحياتيّة الحاسمة في أمر هو أهمّ شي ء يمسّ الإنسان في مجال الإغراء،

______________________________

(1) سورة المجادلة، آية رقم 1.

(2) سورة المسد، آية رقم 1- 2.

تفسير سورة الكوثر، ص: 21

و في مجال إبعاده عن اللّه، و عن القيم، ألا و هو المال الذي هو أشدّ

تأثيرا في حياة الإنسان من أيّ شي ء آخر، حتى من الغريزة الجنسية، فإن الجنس حالة غريزيّة، يمكن أن يجد الانسان الطريقة المشروعة لتنفيسها و التخفيف من حدّة ضغوطها، و ينتهي الأمر. أما المال فهو يمس مجموعة كبيرة من القيم في حياة الإنسان، و يؤثر فيها، فهو يمس صدق الإنسان، و وفاءه و حبّه للدنيا، و كرم نفسه، و سخاءه، و شحّه، و كثيرا من القيم الحياتيّة، التي يريد أن يتعامل بها في حياته مع مختلف الموجودات: من جماد، و حيوان، و إنسان، و من غيب و شهود، و غير ذلك.

إن هذا المال يلامس هذه القيم، و يؤثر فيها، و يحدث فيها الخلل، و يدمّر فيها الكثير من الخلايا النابضة بالحياة.

فله إذن دور خطير جدا في حياة الإنسان، و في مستقبله: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ «1».

______________________________

(1) سورة المسد، آية رقم 2- 3.

تفسير سورة الكوثر، ص: 22

فالقضية إذن ليست قضيّة شخصيّة، تتعلّق بشخص أبي لهب، و لا هي في سورة الكوثر مجرد قضية إنسان عاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّه لم يكن له أولاد، و لا هي هناك مجرّد قضيّة إمرأة شكت زوجها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنما هي قضايا حسّاسة و خطيرة من خلال ما ينتج عنها من ضوابط و معايير، و ما تشير إليه من سنن إلهيّة، و ما توحي به من ارتباطات روحيّة، و مشاعريّة، و غيرها، مع قضايا الحياة، و مع اللّه، و مع النبوّات، و غير ذلك مما يراد لنا أن نفهمه من خلال هذه الآيات التي تعرّضت لها.

و قد ذكرنا سابقا أن آيات

القرآن تربط قضايا الايمان و المثل، و القيم، بأمور محسوسة، و بقضايا جزئية، يعيشها الإنسان، و يحسّ بها.

و هذه سياسة إلهيّة في مجال التعليم، باعتماد أسلوب تجسيد الفكرة التي يراد تعليمها أو الإيحاء بها للإنسان؛ فهو لا يريد أن يحدّثه عن غيب لا يرتبط بالواقع، بل يريد أن يحدّثه عن الغيب الذي تجسّد في الواقع، و تحوّل إلى

تفسير سورة الكوثر، ص: 23

أمر يلمسه، و يحسّ و يشعر به.

و هذا كما جسّد اللّه سبحانه للنّاس الغيب بالكعبة، و بالقرآن، و بالمسجد الأقصى، و بالحجر الأسود.

أي أنّه سبحانه يريد أن يجعلك أيها الانسان تلمس الغيب، و تتعامل معه، من موقع الإحساس، و الإتّصال المباشر به، و لا يقتصر هذا الإتصال على الإتصال الحسي المادي، بل يتعداه الى الاتصال الوجداني و المشاعري، و القلبي و الروحي، لينعكس على الحركة و السلوك ليتجسد تصرفا و منطقا و تعاملا، و لا يبقى حالة غيبيّة ذهنيّة، تعيشها في تصوّراتك، ثمّ قد تمحى هذه الصورة و تنتهي.

إنّه يريد للغيب المتجسّد في الحجر الأسود أن تلمسه، و أن تقبّله، و تتبرّك به، و أن يؤثّر في جسدك، و في كيانك، و روحك، و مشاعرك، من خلال ملامسة خدّك أو شفتيك له، و أنت تقبّله.

إنّه يريد أن يتحوّل الغيب إلى بركات، و إلى حالات شعوريّة، و إلى أحاسيس.

تفسير سورة الكوثر، ص: 24

و لا يريد للغيب أن يبقى أمرا مجهولا، يخاف منه الإنسان؛ لأنّه لا يعرفه، و لا يتلمّسه. بل يريده أمرا حاضرا، و أن يحوّله إلى شهود، يتعامل معه بالحسّ و بالمشاعر القريبة. لا بالمشاعر الناشئة عن التخيّل، و عن الإلتذاذ بالأحلام، على طريقة أحلام اليقظة، حيث يتخيّل الإنسان نفسه أن له قصورا،

و جبالا، و بساتين، و أنه يطير في الهواء، و غير ذلك.

إن الإسلام يريد أن يجسّد للإنسان المثل و القيم، و المعاني الإنسانية، و أضدادها، فيجسّد له الصدق، كما يجسّد له الكذب، و يجسّد له الإيمان، كما يجسّد له النفاق في حركة هذا و في كلمة ذاك، و في موقف هنا، و موقف هناك .. فتقرأ قصّة إبراهيم عليه السّلام في ذبح ولده اسماعيل عليه السّلام، و تقرأ أيضا قصّة عبد اللّه بن أبيّ حينما انخذل بالمنافقين في حرب أحد، و غير ذلك.

و من كلّ ما تقدّم يتّضح

: أنّ قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يريد أن يجسّد لنا جملة من المعاني، و القيم، و المعايير العامّة، و يربطها في هذا الحدث

تفسير سورة الكوثر، ص: 25

الخاص، فإنّنا إذا ارتبطنا بها من خلال الحدث، فإن ذلك يقرّبها إلى الواقع، و يخرجها من عالم التخيّل و التصوّر الذهني، أو الأحلام التي قد تتلاشى و تتبخّر، حينما تضغط علينا الحياة، و تواجهنا فيها المشكلات.

و لأجل أن القيمة تحولّت إلى حقيقة واقعية، و تجسّدت؛ فإنّ هذه الضغوط كلما زادت فسنجد أنفسنا أكثر إحساسا بالحاجة إلى اللجوء إلى قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قبر الإمام الحسين عليه السّلام، و إلى أماكن القرب من اللّه؛ و سنشعر أننا بحاجة إلى أن نقبّل قبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قبر الإمام عليه السّلام.

فاتّضح أن الحديث عن المسألة ليس عن جانبها الشخصي حين عيّر العاص بن وائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل عن الجانب القيمي و المعياري المرتبط بالمثل العليا، و المنطلقات الإنسانية و الإيمانية أيضا.

تفسير سورة الكوثر، ص: 27

تفسير قوله تعالى:

اشارة

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ

تفسير سورة الكوثر، ص: 29

و لنبدأ الآن بتفسير الآيات فنقول: قد ذكرنا في تفسير سورة الفاتحة بعض ما يرتبط بتفسير البسملة، فمن أراد الوقوف على ذلك، فليرجع إلى ذلك الكتاب.

و أما بالنسبة إلى قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ...، فالحديث عنه يحتاج إلى بعض التفصيل فنقول:

الحديث عن المتكلّم بصيغة الجمع:

اشارة

أما لماذا قال «إنّا» «أعطينا» بصيغة الجمع، و لم يقل: إني أعطيتك، مع أن المتكلم هو اللّه الواحد الأحد؟

فالجواب:

أن هذا الأمر قد تكرّر كثيرا في القرآن الكريم، في مقامات تختلف و تتفاوت فيما بينها، و نحن نوضح ذلك فيما يلي: إنه تارة يلاحظ مقام الألوهية، الذي يعني الهيمنة، و الجبارية، و القدرة و الغنى، و القهارية، و التفرد، و استحقاق العبادة، و ما إلى ذلك،

تفسير سورة الكوثر، ص: 30

و أخرى يلاحظ مقام الربوبية، الذي يعني التدبير و الخلق و الرزق، و الشفاء، و الرحمانية و الرحيمية، و ما إلى ذلك.

و نلاحظ هنا: أنه حين يكون المراد التأكيد على انحصار صفة الألوهية، أو الربوبية الحقيقية بالله سبحانه و تعالى، فالحديث يكون بصفة المفرد، و لا يكون بصيغة الجمع؛ فهو تعالى يقول: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ .. و أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ .. «1» و أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ «2» .. الخ؛ لأن المقام يقتضي التنصيص على الوحدة، و على انحصار الألوهية و الربوبيّة فيه سبحانه و تعالى.

أما حين يتحدث بصيغة الجمع، فقد يكون المراد إظهار العزة و العظمة المناسب للألوهية؛ لأن الإيحاء بذلك إلى المخاطب من شأنه أن يعمّق إيمانه، و يطمئن قلبه، و يشعره بالسكينة مع مقام الألوهيّة من حيث أن

______________________________

(1) سورة الأنبياء، آية رقم 92.

(2) سورة المؤمنون، آية رقم 52.

تفسير سورة الكوثر، ص: 31

الألوهية مشعرة بالهيبة و القهر و التوحد، و قد يكون المراد الاشارة إلى مقام الربوبية، فيتحدّث بصيغة الجمع حين يكون المراد الإشارة مثلا إلى الوسائط في الخلق، أو الرزق، و نحوه مما يأتي في مراحل، أو عبر وسائط تقع في سلسلة العلل، و إن كان مصدره الأوّل هو اللّه سبحانه و تعالى،

فالنبات و الشجر مثلا يحتاج إلى الماء، و إلى التربة الصالحة، و غير ذلك، مما يقع في سلسلة الأسباب التي تنتهي هي الأخرى إلى اللّه سبحانه، و كذلك الحال بالنسبة لخلق الإنسان.

و فيما نحن فيه نقول: إن اللّه سبحانه أراد أن يشير إلى هذين الأمرين معا، و لأجل ذلك قال: «إنا» و «أعطينا» لأن المقام هنا هو مقام العزّة و العظمة و الغنى من جهة المشيرة الى الألوهية بكلمة «إنا»، و لأن هذا العطاء إنما يتمّ بوسائطه و بوسائله من جهة أخرى و هي المشيرة إلى الربوبية بكلمة «أعطيناك»؛ فإن إعطاء الأبناء يحتاج إلى استقرار نطفة و نشوءها في عالم الأرحام، ثم إلى تربية، و إلى مساهمة كثير من الأسباب في الحفاظ على هذا

تفسير سورة الكوثر، ص: 32

الموجود، و في تنميته، و تكامله، في جميع جهات وجوده: في علمه و معرفته، و وعيه، و إدراكه، و مشاعره، و في سائر خصوصيّاته.

نعم إنّ هذا يحتاج إلى وسائط، و وسائل و أسباب مختلفة، قد جعل اللّه السببيّة فيها لمصلحة اقتضاها الخلق و التكوين، و ليست سببيّتها ذاتيّة.

و لأجل ذلك كان المناسب في إعطاء الكوثر للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هو أن يعبّر ب «إنّا» و ب «أعطينا» بصيغة جمع المتكلّم. و ذلك ليشير لنا إلى هذين الأمرين: و هما:

جانب العزّة و العظمة، (الألوهية) و للإشارة أيضا إلى أن ذلك يقع في سلسلة الوسائط و الأسباب و العلل (و هو جانب الربوبية) حسبما ألمحنا إليه.

لماذا التأكيد على حصول أمر لم يحصل؟

و يرد هنا سؤالان:

الأول: لماذا جاء بكلمة «إن» التي هي أداة تأكيد، فقال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ ..؟.

الثاني: إنّ قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ..

تفسير سورة الكوثر، ص: 33

إخبار عن أمر قد

تحقّق و مضى، مع أنّ القضيّة إنّما حصلت بعد أن مات أبناء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذكور، و العطاء بمعنى التعويض بالأولاد لم يحصل بعد؛ فإن الزهراء عليه السّلام التي تكاثر منها نسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تكن حين نزول هذه السورة قد ولدت؛ لأنّ ولادتها كانت في الخامسة من البعثة، فكيف يقول اللّه سبحانه و تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. ثم يطلب منه أن يشكره على هذا الإعطاء و العطاء، و أن يتعبّد له، فيقول: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ؟

و نقول في الجواب: إنّ الحديث قد كان مع ذلك الإنسان الحاقد و السيّ ء العاص بن وائل أو ولده عمرو لعنهما اللّه، الذي كان يريد أن يتنقّص من مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يعيّره بأنّه أبتر لا عقب له.

و السورة كلها قد جاءت لتخبر عن وعد إلهي، و أمر غيبي، بصورة جازمة و مؤكدة؛ فكلمة «إنّ» قد جيى ء بها لإفادة هذا التأكيد. ثم ترقّى في تأكيده هذا إلى درجة اعتبر فيها أنّ هذا الأمر قد تحقّق بالفعل، و أصبح واقعا،

تفسير سورة الكوثر، ص: 34

و صار من الماضي الذي يصحّ الإخبار عنه، لأنه قد تجاوز الموانع، و استجمع المقتضيات، و الشرائط المعتبرة في تحقّق الوجود رغم أن ابناءه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد ماتوا، و لم تكن فاطمة قد ولدت بعد.

و الذي يزيد هذا التأكيد قوّة و شدة هذا الإلماح إلى إظهار مقام العزّة و العظمة الإلهية، الأمر الذي يقتضي أن لا يخلف اللّه وعده «1»،

و اللّه لا يخبر عن أمر ثم لا يتحقّق، فإن هذا مما لا يستساغ و لا يرضاه حتى الإنسان العادي لنفسه، فكيف بمقام العزّة الإلهية.

إختيار التعبير ب «أعطينا» دون سواها:

و أما السبب في أنه تعالى قال: .. أَعْطَيْناكَ ..

و لم يقل: سيكون أو سيوجد لك الكوثر، أو نحو ذلك؛ فلعلّه هو أنّ كلمة: «أعطيناك» تفيد أن هذا المعطي يتصرّف من موقع المالكيّة و الواجديّة بالذات؛ فهو

______________________________

(1) لا سيما و أنه قد أخبر عن حتمية حصوله بصيغة الماضي الدالّ على الحصول بالفعل، و لم يورده بصيغة الوعد.

تفسير سورة الكوثر، ص: 35

يعطيه لأنّه يملك أن يعطي، من حيث أنّه واجد لما يعطي.

و فيها أيضا إلماح إلى أن هذا العطاء عطاء حقيقي، من حيث أنّ العطاء يشير للتمليك أيضا، و الشعور بالتملّك من شأنه أن يمنح الإنسان الإحساس بالرضا و الطمأنينة، و لو أنه استبدل كلمة: «أعطيناك» بغيرها مما يشير إلى ذلك لحرم من هذا الإحساس.

فظهر أن التعبير بكلمة: «أعطيناك» فيه إلماح إلى المستوى الذي بلغ إليه تشبثه بما يعطى له، و أنه في مستوى المالكيّة، التي هي أعمق من مجرّد التنعّم أو الإستفادة العابرة مما هو موجود.

العطاء الإلهي:

و إذا كان العطاء من موقع الغنى بالذات و الواجديّة التي هي من مظاهر العظمة، و مقام الألوهية؛ ثم هو من موقع الربوبية التي تعني التدبير في نطاق الرأفة و المحبة و الرعاية، فهذا يعني أنه عطاء لا يستردّ، و ليس فيه ضعف، أو انقطاع، أو أي نوع من أنواع المنّة، بمعنى

تفسير سورة الكوثر، ص: 36

إرادة الإنتقاص، بل هي منّة إلهية، تعني إرادة تكامل الإنسان، و ترسيخ قدمه و منحه المزيد من القدرة على الثبات، و المزيد من القوّة إضافة إلى مزيد من الارتباط بهذا المعطي.

و بذلك يفترق الإمتنان الإلهي الذي هو نعمة و لطف، عن الإمتنان البشري الذي يمثل الذلة و الإنتقاص، لأنّ اللّه يعطي من موقع

عزّته، و كرامته، و ربوبيّته، و ألوهيّته، التي تستتبع الغنى، غنى المربوب بغنى الرب، و غنى السائل بغنى المعطي، فلأجل ذلك لا يحتاج سبحانه و تعالى إلى أن ينقص من مقام أحد في مقابل ما يعطيه.

الكوثر يعني الخلّاقية:

ثم إن ما يعطى قد يكون أمرا مادّيا، كبيت أو قلم، و هذا يعني أن خصوصيته الماديّة لا بدّ أن تفرض عليه أن يستقبل كل عوارضها و آثارها.

و قد يكون معنى يختزن الخلّاقية و الإستحداث

تفسير سورة الكوثر، ص: 37

المستمر للكثرات، المشعر بكونه في حالة تجدّد و عطاء و فيض دائم ..

و هذا من قبيل إعطاء نعمة العقل، أو القدرة، فإن ذلك يختزن معنى إيجابيا له عطاءاته المستمرة.

فلو أن الذي أعطاه اللّه لنبيّه كان أمرا مادّيا ثابتا، فإنه يتحدّد بحدود المادّة، و يتقيّد بقيودها. و لن يكون فيه خلّاقية، و لا يختزن حالة تجدّد أو استزادة.

و لكن اللّه قد أعطى نبيّه ما هو أعلى، و أغلى، و أسمى، من الأمور المادّيّة المحدودة.

لقد أعطاء «الكوثر» الذي هو عين الخلّاقيّة، و التجدّد، و الإستزادة المستمرّة. و هو طاقة لا تزال و لسوف تبقى تعطي المزيد، و الشي ء الجديد ..

و من الواضح: أن هذا النوع من العطاء يحتاج إلى استمرار الصلة مع مصدر الفيض و المدد، و استمرار الرعاية الإلهيّة، فلا انقطاع له عن اللّه سبحانه و تعالى على مرّ الأحقاب و الآباد في الدنيا، و في رحاب الرحمة

تفسير سورة الكوثر، ص: 38

الإلهيّة المتمثّلة في الخلود في مواقع القرب و الرضى في الآخرة.

لا تحديد و لا حصر في الكوثر:

اشارة

فاتّضح أن «الكوثر»: إنما يعني ما تصدر عنه الكثرات، و ما يصدر عنه التعدّد. و هو وصف عامّ لم يحدّد فيه نوع أو جنس ما يتجسّد فيه الكوثر أو الكثرات.

بل أو كل تحديد نوعها إلى خيال الإنسان، ليذهب في تصوّراته إلى أيّ مدى شاء.

و بتعبير أوضح إنه تعالى لم يقل: إنا أعطيناك جنة، مالا، مقاما، جاها، بستانا، علما، أو أيّ شي ء آخر، و إنما تحدّث

عن الكوثر، الذي هو مصدر الكثرة، و سبب الإزدياد في أي نوع تجسّد هذا الكوثر فيه ..

بل إنّنا حتى حينما نريد أن نفسّر الكوثر ببعض التحديد، فنقول:- كما ورد في الروايات- إنه الخير الكثير، الذي من جملته كثرة ذرّية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؛ فإن الأمر في طبيعة هذا الخير الكثير، و في سنخه، و في مواصفاته يبقى بلا تحديد.

تفسير سورة الكوثر، ص: 39

فاللّه سبحانه و تعالى يريد أن لا يحدّ من خيال الإنسان في تصوّراته لنوع و سنخ و حقيقة ما يراد تكثيره، و أن لا يحدّه في تصوّر مواصفات الخير، و النعمة، و التفضّل فيه. و هذا غاية المبالغة في إظهار عظمة هذه النعمة، و أهمّيتها، و استجماعها لحقيقة الخير، و لمواصفاته، بصورة لا يحدّها خيال، و لا يقف في وجهها تصوّر.

«أل» الحقيقية:

و على هذا الأساس نقول: إن الألف و اللام في كلمة: «الكوثر» هي التي يشار بها إلى طبيعة و حقيقة ذلك الذي دخلت عليه؛ مثل «أل» في قولك: الذهب أفضل من الفضّة.

إذن فيراد بالألف و اللام هنا الإشارة إلى أن صدور الكثرات عن هذا الشي ء (أي الكوثر) إنّما هو من خلال طبيعته و حقيقته. و ليست الكثرة عارضة له بالإكتساب، حتى إذا انقطع عنه هذا الإكتساب انقطعت الكثرة منه.

الكوثر هو الردّ المناسب:

ثم إنّ هناك تناسبا فيما بين قول ذلك الرجل اللئيم،

تفسير سورة الكوثر، ص: 40

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه أبتر لا عقب له، فيما يفهمه هذا الرجل، من أن الإمتداد في وجود هذا الإنسان يتمثّل بوجود ذرّيّة له، و بين التعميم الذي لاحظناه في كلمة:

«الكوثر»، التي جاءت مطلقة، صالحة لشمول كل ما هو قابل للتكثير من أمور الخير، و لم تقتصر على أمر النسل؛ و إن كان النسل هو أعز مصاديقه و أسماها ما دام أنه سيتجلى بأئمة الهدى الذين هم خيرة اللّه و صفوته من خلقه. و ذلك ليكون اعطاؤه «الكوثر» غير المحدود هو الردّ القوي و الحاسم على النظرة الضيّقة لأمثال ذلك الحاقد و الشانى ء؛ ليفهم هو و أمثاله أن مجرّد وجود ذرّيّة للإنسان، لا يصلح لأن يعتبر ذلك امتدادا و بقاء له عبر الأعصار و الأزمان. بل قد يكون سببا للتراجع، و الخسران، و الفناء، حينما يكونون يعملون على هدم ما بناه، فكيف إذا كانت ذرية تعيث في الأرض فسادا، و تملؤها ظلما و تكون و بالا حقيقيا في الدنيا و الآخرة على من تنسب إليه تلك الذريّة. الأمر الذي يعني أن يكون عطاء الذرية له، لا من

موقع الكرامة، و لا عن

تفسير سورة الكوثر، ص: 41

حقيقة الجدارة، و إنما على سبيل الإملاء و الإستدراج الموجب للهلاك.

و ذلك كله يعطينا: أن الميزان في الخلود ليس هو الأبناء و الذرّيّة، و إنما الميزان للخلود، و الإمتداد، و البقاء شي ء آخر، و هو: أن يكون عنده الكوثر المتنامي في نفسه، و في حقيقته، بل إنه هو نفس التنامي، و حقيقة الإزدياد في الخير، و الذرية الصالحة تكون بعض تجلياته.

و قلنا الازدياد في الخير، و في الأمور الصالحة و منها الذرية؛ لأن ما عدا ذلك يحمل في داخله الخسر و البوار، و التراجع و القلّة، قال اللّه سبحانه و تعالى:

وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..

و قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...

الحاجة إلى عنصر الإزدياد و الإستحقاق:

و بعد أن يملك الإنسان عنصر التنامي و الإزدياد؛ فإن شكره لهذه النعمة بالعمل بقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ

تفسير سورة الكوثر، ص: 42

وَ انْحَرْ يكون بمثابة توفير عنصر الإستمرار لهذا الإزدياد، و الإستحقاق له. و يكون الحصول على هذا التنامي بواسطة العمل و الجهد.

و هذا هو العمل الصالح الذي أشارت إليه سورة «العصر»، و سورة «التين»، و الذي لولاه لكانت النتيجة هي الخسر و التراجع: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ .. «1».

و بذلك يتّضح: أن إعطاء الكوثر يمثّل المبرّر المقبول و المعقول للطلب إليه بأن يصلّي لربّه، و ينحر، لأنّه نعمة عظيمة توجب الشكر و إخلاص العبودية و العبادة لله سبحانه، لأنّه عطاء كرامة، و إعزاز، و محبّة، و تشريف، و خير، و صلاح، لا عطاء إملاء و هلاك، كما قلنا.

قال تعالى: فَلا

تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ، وَ لا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «2».

______________________________

(1) سورة العصر، آية رقم 3.

(2) سورة التوبة، آية رقم 55.

تفسير سورة الكوثر، ص: 43

كما أن قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ردّ على أهل الشرك و الكفر، الذين كانوا يعبدون غير اللّه، ليقربوهم إلى اللّه زلفى، رغم معرفتهم بأنّ اللّه هو الذي يخلقهم و يرزقهم، و ينعم عليهم!!.

التشريف و التكريم:

و من الواضح: أن هذا العطاء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد جاء على سبيل الكرامة و الإعزاز، و التشريف له، و ليربط على قلبه، و ليقوّيه بهذا العطاء، مع العلم أن الكثرة لا تعني لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سوى الإستزادة في الخير، و نيل درجات الرضى الإلهي، و لم يكن ليلهيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التكاثر كما كان يلهي غيره من الناس، الذين يرون وجودهم، و حياتهم، و مقامهم، هو بما يملكون من أموال، و عشيرة، و ذرّيّة، تمتدّ عبر الأزمان و الأحقاب.

القيمة بين الحقيقة و التزييف:

و قد أراد اللّه عزّ و جل أن يقول لهم: إنّ هذه الكثرات ليست هي القيمة الحقيقية؛ فليست القيمة للنسل لمجرّد أنه نسل، و إنما القيمة للنسل الذي يكون هبة حقيقية من

تفسير سورة الكوثر، ص: 44

اللّه، و تشريفا و تكريما منه، حين يكون فيه تقوية حقيقية للوجود الإنساني و الإيماني الذي يريد اللّه له أن يبقى، و أن يتقوّى بهذا التنامي المطّرد، الذي يرفده مصدر الكثرات الصالحة، و الميمونة، و المباركة.

و هذا هو الميزان في الصلاح و في الفساد، و في القيمة و اللاقيمة، من حيث هو امتداد لشخصيّته الإنسانية، و الإيمانية، و الرسالية، في مختلف معاني الخير، و من جملتها النسل الصالح.

و بذلك نعرف لماذا جاء في الروايات: أنّ «الكوثر» هو فاطمة عليه السّلام و التي ولدت الأئمّة الطاهرين عليهم السّلام و الصالحين من ذرّيّتها، الذين ملأوا الدنيا، رغم كل ما حاق بهم من قتل و اضطهاد؟ و كذا ما ورد من أن المقصود بالكوثر نهر في الجنّة، أو علم النبوّة و الرسالة التي نشرها الأئمة الطاهرون

بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم العلماء من بعدهم؟ أو أن المقصود هو الخير الكثير الذي نالته الإنسانية بواسطة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو الحوض؟ أو غير ذلك من مصاديق للكوثر ذكرت في

تفسير سورة الكوثر، ص: 45

الروايات، أو أشار اليها العلماء. و قد ذكر العلامة الطباطبائي: أنّها بلغت ستة و عشرين قولا.

فظهر الفرق الواضح، و التقابل الصريح، بين نظرة الإنسان الإلهي المؤمن، و بين نظرة غيره، فيما يرتبط بما به بقاء الشخصية الإنسانية و دوامها و امتدادها عبر الأزمان و الأحقاب.

الوعد و الإخبار الصادق:

و نشير هنا إلى أن هذه السورة قد تضمّنت إخبارات غيبيّة من نوع معين، منها ما في قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حيث أخبر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في بدء الدعوة، و حيث لم يكن صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يملك شيئا بأنّ اللّه قد أعطاه كوثرا، و هذا تطمين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ربط على قلبه بالوعد الإلهي المحقق جزما و حقا؛ بأنه سيأتي زمن تتغيّر فيه الحال من حالة الفاقديّة- بنظر المشركين- إلى حالة الواجديّة، و التنامي، و الإزدياد المستمر في كل عناصر الخير، و قد أخبر تعالى عن ذلك بصيغة الماضي، ليفيد أنّه أمر محقّق جزما.

تفسير سورة الكوثر، ص: 46

و إن نفس الوعد الإلهي من شأنه أن يبعث حالة الأنس في نفسه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فضلا عن أنه يقوّيه، و يزيده صلابة على صلابة في مواجهة التحدّي. و ذلك نظير قوله تعالى:

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي

بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا «1»؛ حيث أراد اللّه سبحانه و تعالى أن يري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بعض الآيات ليزيده ذلك قوّة و عزيمة و صمودا و صلابة في مواجهة المشكلات و التحدّيات الكبيرة و الخطيرة، و في مواجهة الطواغيت و الجبارين؛ لأنّ رؤية الآيات تزيده معرفة باللّه سبحانه، و هذا بالذات هو ما يميّز أولي العزم عن غيرهم ..

يأس الحاقد:

و من جهة أخرى فإن إعطاء هذا الكوثر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حين تنقّص ذلك الحاقد له، و شماتته به، من شأنه أن يزرع اليأس في قلوب المشركين، و أن تهيمن عليهم مشاعر الإحباط، خصوصا و أن الوعد

______________________________

(1) سورة الاسراء، آية رقم 1.

تفسير سورة الكوثر، ص: 47

الإلهي قد جاء بهذه القاطعيّة، و الجزم، و اليقين، حسبما أوضحناه.

كما أنّ ذلك، ربما دفع جماعة الحاقدين إلى مراجعة حساباتهم، و هم يواجهون هذا اليقين، و هذه الصلابة، و هذه القناعة المطلقة، لدى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، الذي لم يكن آنئذ يملك شيئا من عناصر القوة التي يفكرون فيها ..

فإن هذا إن دلّ على شي ء فإنّما يدلّ على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجد شيئا لا يجدونه، و يشعر بما لا يشعرون به، و يعلم و يرى أمورا لا يعلمون بها، و لا يرونها.

و الأشدّ من ذلك عليهم أنّه تعالى يخبره في هذه الآيات عن المستقبل و المصير للفريقين معا .. إنه يخبرهم على لسان نبيه، و هو الصادق الأمين بما لا يتوقعونه و لا يخطر لهم على بال، و يعاكس كل حساباتهم الظاهريّة، و مشاهداتهم ..

فها هم يرون النبي صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم- وفق حساباتهم- ليس له نسل، و ليس له امتداد، أو عقب، و ليس لديه قوّة يستطيع أن يعتمد عليها، و لا يملك شيئا من الوسائل

تفسير سورة الكوثر، ص: 48

التي تهيّ ء له الإمتداد في أعماق المستقبل.

و يرون أنفسهم في المقابل يملكون كل ذلك؛ فلديهم أموال، و أبناء، و علاقات، و موقع، و هيمنة، و سلطة، و قدرات مادية، تمكّنهم من الإمتداد في المستقبل، ثم هم يواجهون قول اللّه سبحانه لرسوله أولا: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي مصدر الكثرات، فليست الكثرات تصل إليك من جهة الغير، ليمكنهم قطعها عنك، ثم يواجهون قول اللّه تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثانيا عنهم أنّهم ستنقطع الكثرات التي لديهم، و سينتهون إلى البوار، و إلى الإنقطاع.

فما عليهم إذن إلّا أن يعيدوا حساباتهم، و أن يقولوا لأنفسهم هل هناك شي ء لم نفهمه، و لم نعقله، و لم نلتفت إليه؟!

فهذه الإخبارات من شأنها تثبيت و تقوية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تضعيف و توهين أمر أهل الشرك، و هي بمثابة دعوة لهم لإعادة حساباتهم، فإنّ الإنسان الذي لا يرتبط باللّه، و لم تكتمل معرفته به، و لا هو من

تفسير سورة الكوثر، ص: 49

العارفين و لا المتوكلين، أضعف ما يكون أمام المجهول خصوصا إذا كان له مساس بمستقبله، حيث يرى نفسه عاجزا حياله، لا يملك تجاهه أيّة حيلة أو وسيلة؛ فينهار و يضيع، و لذلك تجده يستسلم للمشعوذين الذين يعرف أنهم يكذبون عليه، و يخترعون له الأباطيل، و هم يتكلمون عن مستقبله المجهول، و يحاول أن يطبّق كلامهم على واقعه، فإن قال له المشعوذ: ستأتيك رسالة؛ فسيقول: من

قريبي، أو من صديقي فلان؛ و إذا قال له: لك عدوّ يكيد لك، فسينتقل ذهنه تلقائيا إلى فلان من الناس، الذي لا يرتاح إليه، و يقول: لعلّه هو .. و هكذا.

و لأجل ذلك نجد: أن الذين يريدون تضليل الناس يعتمدون على أمور من هذا القبيل، فقد يزعم لك أنه رأى مناما يرتبط بك، و بمستقبلك، ثم يحدّثك عن إلهامات و كشوفات حصلت له، و يستمر على هذا المنوال حتى تعلق في حبائله، و يصير يتلاعب بك كيفما شاء ..

تفسير سورة الكوثر، ص: 50

و لكن عند ما تتوجّه لنور الدليل و البرهان، و تقول له: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ،* فإنه سيلتمس المسارب و المهارب للفرار، ثم هو يتركك إلى غير رجعة.

لماذا خصّصنا الكوثر بأمور الخير:

تفسير سورة الكوثر 110

و المقصود بالكوثر ليس أيّة كثرة كانت، و لو لأمر عادي، فإن الرمل- مثلا- كثير، لكنّه ليس مقصودا قطعا؛ لأنه تعالى في مقام الإمتنان على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا العطاء، بهدف إظهار الكرامة له، و ذلك يقتضي أن يكون ما يعطيه له أمرا محبوبا و مرغوبا فيه، و يسعى إليه الانسان و ينسجم مع رغباته، و طموحاته، و آماله؛ كما أن المقصود ليس هو كثرة المال و لا غيره مما هو زينة الحياة الدنيا، لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن يحبّ المال أو المقام الزائل؟ بل كان يحبّ ما هو أغلى، و أعلى، و أسمى، و أهمّ من هذه الدنيا، و أشرف منها ..

و إذا كان علي عليه السّلام- و هو تلميذ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- يقول:

إن دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز، فهل يعقل أن

يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و هو مربي علي عليه السّلام- محبّا لها،

تفسير سورة الكوثر، ص: 51

و متعلّقا بها، و هل يمكن أن يكون صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على خلاف سائر الأولياء فضلا عن الأنبياء، فيما عرفناه من حياتهم و سيرتهم، و أهدافهم، و تعاليمهم. هذا و نبيّنا الأكرم هو الأفضل، و الأعظم من بينهم.

إنّ المراد بالكوثر لا بد أن يكون أمرا ينسجم مع أهداف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مع ما كان يهتمّ به، و يفكر فيه، و يطمح له، كسائر الأنبياء، و الأولياء، و هو الخير كل الخير في الآخرة، و الخير في الدنيا إذا كان يؤدّي و يوصل إلى خير الآخرة. و قد أعطاه اللّه ذلك. و ليس هو زينة الحياة الدنيا قطعا.

فالكوثر إذن يراد به: مصدر الكثرات التي هي من هذا السنخ، و هذا النوع، دون سواها.

تفسير سورة الكوثر، ص: 53

تفسير قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ

اشارة

تفسير سورة الكوثر، ص: 55

صفات الألوهية في من يعطي الكوثر:

بما أن الذي يعطي هذا النوع من الكثرات، لا يمكن أن يكون عاجزا، و لا ناقصا، و لا محتاجا إلى غيره، ليدبّر أمره و شؤونه، و ليعطيه القدرة، و ليمنحه الحياة، و ليرفع نقصه و عجزه بل لا يمكن إلّا أن يكون إلها مستحقّا للعبادة.

كما أنه لا بد أن يكون حكيما عالما، مدبرا رحيما، خالقا رازقا جامعا لكل شؤون الربوبية يستحق الشكر على هذا العطاء العظيم، و هذا يعني أنّ هذا الخطاب لا بدّ أن يعتبر ردا قويا على الذين يتشبّثون بهذه الأصنام العاجزة، و الفاقدة للعقل، و للقدرة، و للتدبير، و للحياة، و للعلم، و لكل شي ء. و لا يمكن أن تجد فيها أيّ خير، أو أيّ كمال، بل هي محض النقص، و الفاقديّة في الدنيا، فكيف تكون مصدرا للخير و للواجديّة في الدنيا و الآخرة معا.

فآية الكوثر إذن تستبطن الاستدلال على واجديّة

تفسير سورة الكوثر، ص: 56

المعطي لكل الصفات التي تؤهله للعطاء، و لكنّها ليست كسائر صفات الذين يعطون؛ هذا الذي يعطي مصدر الكثرات لا بد أن يملك صفات الألوهيّة و الربوبية معا، لأن الرب الذي يعطي، لا سيما إذا كان هذا العطاء هو الكوثر (أي مصدر الكثرات) لا بد أن يكون غنيا بذاته، و الغني لا بد أن يكون عزيزا، و العزيز يكون قويا و القوي حكيما و الحكيم عادلا و هكذا و لا بد أيضا أن يكون منزها عن النقائص مثل الضعف و الظلم (و إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف)، و من هنا قلنا أن الرب الذي يعطي هذا النوع من العطاء لا بد أن يكون هو الإله المستجمع لكل صفات الكمال: ككونه خالقا، رازقا، قادرا، قدرة

شاملة، في الدنيا و الآخرة، حيا، قيوما، عالما، مدبرا، حكيما .. إلى آخر ما هنالك.

فعلام إذن يتشبّثون بعبادة الأصنام، و يكيدون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يحقدون عليه، و يتنقّصونه، و يشنأونه من أجلها، و من أجل تأكيد دورها في حياة الانسان؟!!

تفسير سورة الكوثر، ص: 57

فإذا اتضح ذلك نفهم لماذا جاء الأمر له بالصلاة بالخصوص، فإن الصلاة هي أبرز مظاهر العبودية و العبادة و الشكر الأتم للّه سبحانه؛ لأنّ قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ دليل على استحقاق المعطي للعبادة، و يكون قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ .. بمثابة النتيجة لتلك المقدمات ..

لماذا لم يقل: فاعبد اللّه؟

و قد يقال: لماذا قال: فصلّ ..، و لم يقل فاعبدني، فإن الصلاة من جملة العبادة؟

و نقول: إنّ العبادة قد تكون عن خوف، و قد تكون عن طمع، و قد تكون عن شكر و امتنان، أو عن إحساس بالإستحقاق.

فلو قال هنا: فاعبد، لم يعرف جهة هذه العبادة، فهل هي لأجل استحقاق المعبود لها؟ أم هي لأجل الشعور بالامتنان؟ أم هي لأجل شكر نعم أنعمها؟ بل ليس في كلمة العبادة إشارة إلى النعم أصلا، و إنما هي تشير إلى الألوهيّة فقط.

تفسير سورة الكوثر، ص: 58

لكنه حين قال: فصلّ .. فإنّ الصلاة تستبطن العبادة، و تستبطن ايضا الشكر في ثلاثة إتّجاهات:

1- الشكر في القلب، بمعنى الشعور بالإمتنان و بالعرفان بأنّك مدين لهذا الإله الذي تفضّل عليك، و غمرك بنعمه.

2- الشكر باللسان، بمعنى الثناء على المنعم، لأجل تلك النعم.

3- الشكر بالجوارح، و هو العبوديّة، و الخضوع، و الخدمة و ما أشبه ذلك من مظهرات الإنقياد، و الإستسلام أمام المعبود و المبادرة إلى مواقع رضاه سبحانه و تعالى.

فإذا كان المقام مقام إعطاء لمصدر

الكثرات لكل ما هو من سنخ الخير و الخيرات، مما ينسجم مع أهداف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التي هي أسمى من الحياة الدنيا؛ فإنّ المناسب أن يكون الشكر شاملا أيضا لجميع مظاهره:

للشكر في القلب، و اللسان، و الجوارح.

إذن، فالمناسب في مثل هذا المقام هو التعبير

تفسير سورة الكوثر، ص: 59

ب «صل» لأن مسارها الطبيعي هو قضاء حق الألوهية و ذلك بالتوجه بالعبادة له تعالى، ثم قضاء حق الربوبية لأنها العبادة الشاكرة، التي هي أسمى من عبادة الخائف من العقاب و الطامع في الثواب. و قد قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما عبدتك خوفا من نارك، و لا طمعا في جنّتك، لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» «1».

و عنه عليه السّلام: «إن قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التّجار، و إن قوما عبدوا اللّه رهبة، فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا اللّه شكرا، فتلك عبادة الأحرار» «2».

العبادة الشاكرة:

إنّ اللّه تعالى بعد أن تحدث عن إعطاء رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتمّ النعم، و أكملها، و أشملها، فرّع الأمر بالصلاة على هذا الإعطاء، و هو ترتّب طبيعي، يدركه الإنسان العاقل الحكيم، المتوازن في تفكيره، و في تصرّفاته، و في

______________________________

(1) البحار، ج 67، ص 186 و 197 و 234 و ج 69 ص 278، و ج 38 ص 14.

(2) نهج البلاغة، ج 3، ص 205 و 206، فصل قصار الجمل رقم 237، مطبعة الإستقامة. و البحار ج 67، ص 196 و 212 و راجع ص 236 و 255 و ج 38 ص 14 و ج 75 ص 69 و 117 و 187.

تفسير سورة الكوثر، ص: 60

وعيه، و فهمه للأمور، حيث

يجد نفسه منساقا لأن يقف موقف العابد لهذا الإله المتصف بالعزة و العظمة و الهيمنة و الغنى، و القهارية، ثم أن يقف موقف الشاكر لمقام الربوبية على هذا العطاء العظيم، و بما أن الصلاة هي التي تعطي مفهوم العبادة للإله و مفهوم الشكر له في تجلياته العبادية، فقد جاء التعبير بكلمة: «فصل» منسجما مع السياق، و مع حدود و آفاق المعنى المراد.

فظهر أن مضمون الآية الأولى الذي هو من تجليات الألوهية المستبطنة في الربوبية التي ظهرت بهذا العطاء قد تبلور في الآية الثانية، و عمّق مضمونها في وعي الإنسان؛ من حيث كون الصلاة تجسيدا للعبادة في معنى الألوهية. و كانت هذه العبادة هي الشاكرة في أجلى مظاهر الشكر للعطاء الربوبي.

و قد أكّد ذلك أن النعمة الشاملة المعطاة بذاتها تؤكّد هذا الإستحقاق للشكر.

و قد جاء هذا الأمر بالصلاة منسجما كل الإنسجام مع مقتضيات هذين المعنيين، ما دام أن الصلاة للربّ

تفسير سورة الكوثر، ص: 61

تستبطن إخلاص الشعور القلبي بالامتنان له سبحانه و تعالى، من دون أن يكون هناك أي شرك في هذه العبادة، المشتملة على الثناء على اللّه من أول كلمة فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ...

فإن كل هذا و سواه إضافة إلى ما في الصلاة من تعظيم له سبحانه، في مثل: «اللّه أكبر»، و من تنزيه في مثل:

سبحان ربّي العظيم و بحمده .. و سبحان ربّي الأعلى و بحمده .. و غير ذلك من مظاهر الشكر للّه سبحانه، بالثناء عليه بما يستحقه، في نصوص إلهية خالصة في معانيها و مراميها .. لا تشوبها أية شائبة، و لا تعاني من أيّ إخلال بحقيقة الصفات، التي

يصحّ نسبتها إليه تعالى، و ينبغي أن تطلق عليه بما لها من معنى حقيقي دقيق و عميق.

عبادة الخائفين و الطامعين:

أضف إلى ما تقدّم أنّ الصلاة تعني الخضوع العملي

تفسير سورة الكوثر، ص: 62

الجوارحي، بما فيها من سجود و ركوع، و وقفة، و جلسة العبد الذليل.

و هذا بالذات هو الذي يناسب هذا المقام؛ لأنّ عبادة الطامعين بالثواب، و كذلك عبادة الخوف من العقاب، لا تناسب هذه النعم، و لا تشير إليها، و لا إلى استحقاق العبادة، بل النعم هي التي تشير إلى استحقاق العبادة لمن يعطيها، من حيث استجماعه لصفات الألوهية الظاهرة من خلال الربوبية.

بالاضافة إلى أنّ صلاة الخائف و عبادته، لا تناسب هذا العطاء العظيم، ما دام أن الإنسان قد يخاف من غير اللّه.

كما أنّ عبادة الطامع تعني أنّ العابد يرى أنّ اللّه لم يتمّ نعمته عليه، و ذلك يمثّل نوعا من الإبتعاد عن الموقع الرضيّ و الحفيّ منه تعالى.

و لأجل ذلك إستبعد أمير المؤمنين عليه السّلام، هذين النوعين فقال: «إلهي ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك، و لكنّي وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».

تفسير سورة الكوثر، ص: 63

و هذه هي العبادة الحقيقية السامية ..

كما أن عبادة الطامعين، و عبادة الخائفين، لا تستبطن الاشارة إلى استجماع الذات الإلهيّة للكمالات: و أقصد بها صفات الجمال و الجلال. مثل:

القادر، و الخالق، و الرازق، و العالم و الحكيم، و الرحمن و الرحيم، و الحي و القيوم ... الخ، و مثل كونه تعالى منزها عن أي نقص، أو ظلم، أو جهل، أو عجز، أو ضعف و ما إلى ذلك.

أمّا الصلاة فهي التي تذكّر الإنسان بالأمور الأساسية في العقيدة، و التي من شأنها أن تمنحه الثبات و الإستمرار في خطّ

الإستقامة، وفق ما يرضي اللّه، لأنّها فضلا عن تذكيرها إياه بالدّار الآخرة؛ فإنها تذكّره أيضا باللّه، و بصفات ذاته، أعني بها صفات الجمال و الجلال، حسبما ألمحنا إليه آنفا. و ما عليك إلا أن تراجع نصوص الصلاة؛ فإنّك ستجدها صريحة في ذلك كله ..

و كفى دلالة على التّنزيه المطلق للذات الإلهية عن

تفسير سورة الكوثر، ص: 64

كل نقص، و ظلم، و جهل، و غير ذلك أنك تقول في كل ركوع و سجود: سبحان ربّي الأعلى و بحمده، و سبحان ربّي العظيم و بحمده.

و ليس من قبيل المصادفة، أن تكون سورة الفاتحة، هي السورة التي تجب قراءتها في كل صلاة، أكثر من مرّة، حتى إنه لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب؛ لأنّها قد اشتملت على كلّ العناصر الأساسيّة التي تدفع الإنسان للاستمرار بالإحساس بألوهيّته تعالى، و برقابته، و هيمنته، و تفضّله.

لما ذا قال: لربّك؟

و أما لماذا قال: «لربّك»، و لم يقل: للّه سبحانه و تعالى؟

فلعلّه لأجل: أنّ الربوبيّة تعني إستمرار الرعاية الإلهيّة و تعاهد المخلوقين، و حفظهم، و تدبير أمورهم، من موقع الحكمة، و العلم، و المحبة.

كما أن هذا الرب المدبّر لأمورهم، يدفع العوادي

تفسير سورة الكوثر، ص: 65

عنهم، و يحبوهم بكلّ خير، و يدفعهم إلى كلّ صلاح، و يحرص على تكاملهم و تناميهم بطريقة سليمة، و حكيمة.

و الإستمرارية داخلة أيضا في موضوع هذه الرعاية، إذ بدونها لا يكون هناك تربية و لا تكامل .. و لا معنى لأن تطلق كلمة: «رب» على من يتصدّى إلى عمل مّا كحفظ و رعاية مخلوق بعينه للحظات قصيرة، فإنّ من يرعى عائلة لمدّة يوم واحد في حياته؛ مثلا، لا يصبح ربّا لها، و إنما يقال له: «ربّ»؛ إذا كان هناك إستمرار لهذه

الرعاية، التي تفيد في التكامل، و التنامي التدريجي لهم.

فقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ تستبطن هذه الإستمراريّة من جهة، و تستبطن أيضا: أنّ ثمّة رعاية حانية، من موقع المحبة و الرحمة، و ترتبط بالناحية المشاعريّة، إن صحّ التعبير، من جهة أخرى.

فمن يغرس شجرة، مثلا، أو يزرع بعض النبات و الأزاهير، فإنّه لا يزرعه من موقع الرحمة له، بل

تفسير سورة الكوثر، ص: 66

يزرعه، و يحافظ عليه، و يريد له أن يتنامى و يصل إلى درجة النضج، لإحساسه بحاجته إليه لطعامه، أو إلى ظلّ الشجرة، أو ثمرتها، أو جمالها الطبيعي، و ليس للرّحمة، و الحنوّ، و المحبة أيّ أثر في ذلك.

و حتّى حينما يربّي الانسان الدابّة؛ فيقال له: «ربّ الدابّة»، فإنّ هذا الإطلاق فيه نوع من التجوّز؛ لأنه لا يريد لها أن تتكامل، و تتنامى إمكاناتها، و قدراتها، لكي تغنى هي بذلك، بل هو يربّيها و يحفظها من أجل نفسه، و لكي تقضي حاجته، و تزيد من قدراته هو، لا أكثر و لا أقلّ؛ فهي أشبه بالسيّارة التي يقتنيها.

أمّا التربية الإلهيّة للبشريّة، فهي تبدأ بالرّحمة، و تنتهي بها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

إنّ التربية الإلهية الحقيقية تستبطن الحرص على أن يتكامل الطرف الآخر ليصبح غنيّا، فإنّ اللّه سبحانه و تعالى لا يحتاج إلى غيره، بل كلّ شي ء محتاج إليه ..

و هكذا حالنا حين نهتمّ بتربية أولادنا؛ فإنّنا نريد لهم

تفسير سورة الكوثر، ص: 67

أن تغنى أنفسهم بالكمالات، و أن تبتعد عنهم النقائص و العثرات و المشكلات، و بذلك يتّضح أنّه تعالى لو كان قال: «فصلّ للّه ..» فذلك و إن كان يشير إلى صفات الجمال و الجلال في الذات المقدّسة؛ و

لكنه لا يشير إلى نوع الصلة و العلاقة به سبحانه، و أنّها صلة المربّي الرحيم، الذي يحبّ لنا أن نتكامل و نتنامى بإستمرار، لتغنى أنفسنا بالكمالات، لا لحاجة منه سبحانه إلى ذلك.

فالنعمة المعطاة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هي: «الكوثر» ليست أمرا عارضا، منحه اللّه إيّاه مرّة واحدة، و انتهى الأمر، و إنما هي في سياق تربيته و رعايته له، و الحفاظ عليه، و تناميه، و تكامله ..

لربّك مع كاف خطاب المفرد:

و عن كاف الخطاب في قوله تعالى: .. لِرَبِّكَ ..

نقول: إنّه تعالى قد جاء بكاف الخطاب للمفرد، و لم يقل: للربّ أو لربّكم؛ لأنّ الأمر يرتبط بشخص هذا الإنسان، بما له من فرديّة و تعيّن، تتجسد فيه المحبة،

تفسير سورة الكوثر، ص: 68

و الإرتباط الحقيقي و المباشر، و ليس الأمر قد جرى على وفق السنن الإلهيّة العامة، التي لا تعني الأفراد في خصوصياتهم.

بدأ بالألوهيّة و انتهى بالربوبيّة:

اشارة

و يرد هنا سؤال، و هو: أنّ من يكون مصدر الكثرات، فلا بدّ من أن يكون مستجمعا لصفات الألوهيّة، فيستحقّ العبادة. هذا بالاضافة إلى أن ثمة إلماحا إلى مقام العزة و العظمة، من خلال التعبير بإنا و أعطينا، بصيغة الجمع. فكان من المناسب أن يقول: «صلّ للّه» أو «فصلّ لنا»؛ فلماذا انتقل من الحديث عن الألوهيّة إلى الحديث عن الربوبيّة، و قال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ ..؟

و للإجابة على هذا السؤال نقول:

أشرنا في السابق، إلى أن الالماح إلى الألوهية قد جاء في سياق الحديث عن الربوبية المتجسدة بهذا العطاء الذي هو تجسيد للحكمة و الرحمة، و النعمة و التدبير و ما الى ذلك ..

فاحتاج ذلك إلى تجسيد الشكر بأجلى مظاهره و أتمها في الفعل العبادي لمستحق العبادة من حيث أنّ الصلاة

تفسير سورة الكوثر، ص: 69

تمثّل شكرا للّه في مظاهره الثلاث المتقدم ذكرها على هذا العطاء.

و حيث إنّ التأكيد على ناحية الألوهيّة قد جاء بطريقة إعطاء نعمة جلّى، لا يعطيها إلّا اللّه سبحانه، بما له من صفات.

و بما أن هذا العطاء الذي قصد به إغناء المعطى قد نشأ من موقع ربوبيّته تعالى له، و بما هو يرعاه رعاية فعليّة.

فإنّ ذلك يبطل ما يتخيّله الذين يعبدون غير اللّه من الأصنام أو غيرها، حيث يرون أنها هي التي ترعاهم رعاية مباشرة، و تقضي لهم حاجاتهم، و تشفي مرضاهم، و تحلّ مشكلاتهم، و تقضي ديونهم، و تواكب حركتهم العمليّة، و تقرّبهم إلى اللّه زلفى، كما جاء في القرآن الكريم.

فاللّه سبحانه يردّ هنا على من يعتقد هذا الإعتقاد، و يوجّههم إلى الربوبيّة الحقيقيّة التي ترعى الإنسان، و تدبّر أموره، و تحلّ مشاكله.

تفسير سورة الكوثر، ص: 70

و الخلاصة:

إن هذا الكوثر الذي أعطاه اللّه لنبيّه، سواء فسّرناه بالخير الكثير، أو بمصدر الكثرات، أو بغير ذلك مما يعدّ نعمة يصلح الامتنان بها؛ فإنّه مظهر ربوبي و ينفي بصورة واقعيّة و ملموسة أن يكون ما سواه- مما زعموا- أربابا صالحة للتأثير في الحياة، و في حلّ المشكلات.

النّعم تصل الإنسان بالله:

اشارة

و من الواضح: أن اللّه سبحانه و تعالى يريد أن يقرّب هذا الإنسان إليه، و يصله به، ليتعامل معه من مواقع القرب هذه تعاملا حضوريّا أما هذه النعم التي يتكرّم و يتفضّل اللّه بها عليه، و هذه الرعاية له، فهي صلة الوصل الأولى التي تقرّبه إلى اللّه، و تجعله يشعر بوجوده، و حضوره و برعايته، و بحاجته إليه سبحانه.

و عليه أن يصلح علاقته به، و معه.

و من الناحية الفكريّة و التصوّرية، فإنّ هذا الإنسان مهما حاول أن يتصوّر مقام الألوهية، فسيبقى عاجزا عن ذلك، و ستكون محاولاته غير واقعيّة، و غير مجدية،

تفسير سورة الكوثر، ص: 71

فإنّ كل ما سيصوّره في وهمه، فهو مخلوق له، مردود عليه، و اللّه غيره. و سيكون تأثيره في تحريكه، و إثارة كوامنه الإيمانية محدودا، يحتاج لإعطائه المزيد من القوّة، و الإندفاع إلى إلتماس أنحاء أخرى من المعرفة، تشارك فيها الأحاسيس و المشاعر، و هي تلك التي تتكوّن من خلال مظاهر ربوبيّته سبحانه، و رعايته، و ألطافه القريبة التي يتلمّس آثارها في مختلف جهات حياته و وجوده، فتكون معرفة الربوبية هي الوسيلة التي يستطيع من خلالها أن يدرك عظمة الألوهية و لو إدراكا ناقصا بحسب إستعداداته و قابلياته.

و هذه المعرفة- معرفة الألوهية عن طريق الربوبية- هي الأعظم و الأقوى في تحريك كوامن وجوده، و الأشدّ تأثيرا باتجاه الإنسجام و التناغم مع حركة أهدافه في

الحياة الدنيا و الآخرة على حدّ سواء.

و كمثال على ذلك نقول: إنّنا إذا نظرنا إلى أمر الموت و الآخرة فإنهما إذا تيقّن هذا الانسان بوجودهما، إستنادا إلى دليل العقل أو النقل عن الصادق المصدّق، فإنّ يقينا

تفسير سورة الكوثر، ص: 72

كهذا، لا يعدو أن يكون مجرّد صورة تبقى في نفسه، لا يكون لها ذلك التأثير القويّ في حياته، موقفا و ممارسة، و اندفاعا نحو العمل من أجل الحصول على الأمن في الدار الآخرة، أو على الخير الموعود به.

أما لو تلمّس الموت أو الحياة الآخرة في الأشياء التي يراها، و يتعامل معها، و يباشرها بأحاسيسه. فإنّ تأثيره سيكون أقوى و أعمق، و التزامه أشدّ.

و هذا كما لو رأى من يموت، أو ذهب إلى المقابر ليرى ما انتهى إليه أمر الذين من قبله، و حيث يتذكر أصدقاءه الذين فقدهم، و كذلك الحال لو وقع في أخطار تهدّد حياته، أو أمراض تخيفه من الموت و الآخرة، فإنّ ذلك يدفعه إلى إعادة حساباته، لتكون منسجمة مع هذا الواقع الذي عاشه، و تلمّسه و أحسّ به.

إنّنا حين نصدّق أنّ هناك موتا و بعده حساب، و عقاب، فإننا نرتدع عن أمور كثيرة في حياتنا، و في ممارساتنا. و نكون مصداقا لقول الإمام الصادق عليه السّلام

تفسير سورة الكوثر، ص: 73

لإسحاق بن عمار: «يا إسحاق خف اللّه كأنّك تراه، و إن كنت لا تراه فإنّه يراك» «1».

و بذلك يتّضح السبب فيما ورد من التأكيد على حضور جنائز المؤمنين، و زيارة قبورهم، و زيارة المرضى حيث إنّ ذلك يجعلنا نشعر بضعفنا. و بأنّ هناك أخطارا تواجهنا، لا بدّ أن نحسب لها حساباتها، و أن ننظر إلى ما هو أبعد من حياتنا الحاضرة هذه.

و بعد

ما تقدّم، فإنّنا نفهم بعمق معنى قوله تعالى:

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ «2».

ما دام أنّ الغفلة تستتبع الشعور بالإستغناء عن النصير و المعين، و الأمن من الخطر، فكيف إذا كان لا يعتقد بالآخرة من الأساس، فإنّ الأمر حينئذ أشدّ خطرا و أعظم ضررا.

و خلاصة الأمر:

إنّنا بحاجة دائما إلى الحديث عن

______________________________

(1) الكافي، ج 2، ص 68، و البحار ج 67، ص 355، عنه راجع ص 386 و 390 و ج 5، ص 324 عن ثواب الأعمال ص 133 و عن فقه الرضا (ع).

(2) سورة الأنبياء، آية رقم 1.

تفسير سورة الكوثر، ص: 74

الزواجر الرادعة عن التواجد في مواقع غضب اللّه الّذي هو شديد العقاب. و عن الحوافز التي تجعلنا نعيش الرغبة و الإندفاع إلى مواقع الرضا للربّ المنعم، و الرازق، و الشافي، و القادر على حل مشكلاتنا، و رفع نقائصنا، و في تقوية ضعفنا، فإنّ ذلك يسهّل علينا الإنقياد و الطاعة للّه، و الإلتزام بأوامره، و زواجره. و تكون صلاتنا له حينئذ أكثر إخلاصا و أشدّ صفاء؛ لأنّ تعلّقنا به سبحانه يكون أعظم. و بذلك نستحضر المعاني الصلاتيّة في قلوبنا، فتخرج صلاتنا عن أن تكون مجرّد إسقاط واجب، و لقلقة لسان، و ركوع، و سجود، و قيام ..

عطاء الإعزاز و التكريم:

ثم إنّ هذا العطاء من اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستحيل أن يكون لأجل الإملاء له، لأنه النبي الكريم، و موضع كرامة اللّه، و لأن سياق الآيات نفسه، يشهد بذلك؛ لأنه تعالى في مقام الإمتنان على نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعطاء يستحق الشكر عليه، و قد جاء على سبيل المحبّة، و الرعاية، و من موقع الربوبيّة. و ذلك لعدة جهات:

تفسير سورة الكوثر، ص: 75

- جهة الإعزاز.

- جهة التكريم.

- جهة التربية، و التنامي، و التكامل، و اعطاء ما يدخل في نطاق نصرته، و توفير عناصر القوّة في حركته، و امتداده في الحياة، و في المجتمع الإنساني؛ و ذلك: بإعطائه مصدر الكثرات؛ بحيث يصير عبر حصوله

على هذا الكوثر منشأ كل خير، في الدنيا و في الآخرة ..

لربّك! لماذا؟:

ثم انه تعالى قد صرّح بأن الصلاة لا بدّ أن تكون:

.. لِرَبِّكَ .. و قد كان يمكن أن يقول: فَصَلِّ ..

وَ انْحَرْ.

و لعلّ هذا التنصيص قد جاء ليؤكّد على لزوم الإخلاص في الصلاة، و خلوصها عن أيّ نوع من أنواع الشرك، مهما كان خفيّا؛ فإن الشرك أخفى من دبيب النمل، و أن الرياء عبادة لغير اللّه سبحانه.

أمّا العجب فهو عبادة للذات حين يرى الأنسان نفسه فوق مستواها الحقيقي.

تفسير سورة الكوثر، ص: 76

أولاد فاطمة (ع) أولاد رسول اللّه (ص):

قد عرفنا: أن الكوثر الذي أعطاه اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، منطبق على ما رزقه اللّه إيّاه من الذّريّة من خلال فاطمة الزهراء عليه السّلام، حيث صرّحت السورة بأمرين:

الأول: إن هذا العطاء كان من اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

الثاني: إنه قد ظهر من السورة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ليس هو الأبتر، و ذلك بسبب ذرّيّته من فاطمة عليه السّلام، و إنما الأبتر هو من يشنؤه و يتنقّصه.

غير أن بني أميّة قد حاولوا أن ينكروا هذا الأمر، فادّعوا: أن أبناء الزهراء عليه السّلام ليسوا أبناء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، غير آبهين بما ورد في هذه السورة، و كذلك في آية المباهلة التي اعتبرت الحسنين عليه السّلام صراحة، مصداقا للأبناء بالنسبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ذلك في عودة إلى منطق الجاهلية الذي يقول:

«بنونا بنو أبنائنا و بناتنابنوهن أبناء الرجال الأباعد»

حتى إن بعض الفقهاء، و منهم مالك بن أنس

تفسير سورة الكوثر، ص: 77

و الشيباني، و غيرهما، قد أفتوا في أمر الإرث و الوصية و الوقف بفتاوى تنسجم مع هذه المقولة،

متأثّرين بالجوّ الذي أثاره أعداء أهل البيت عليهم السّلام، و لا تزال هذه الفتاوى موجودة إلى يومنا هذا «1».

«وَ انْحَرْ» في أقوال المفسّرين:

اشارة

قد اختلف المفسّرون في المقصود بقوله تعالى:

... وَ انْحَرْ، فقيل: هو نحر البدن للّه، لا للأوثان.

و قيل: هو النحر يوم العيد. و قيل: هو رفع اليدين في التكبير إلى النحر. و قيل غير ذلك.

حتى إنّ بعضهم روى عن علي عليه السّلام أن معنى قوله:

.. وَ انْحَرْ: «ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر».

قال صاحب مجمع البيان، و صاحب التبيان: إنّ هذه الرواية ما لا يصحّ عن علي عليه السّلام «2».

______________________________

(1) راجع الحياة السياسية للامام الحسن (ع) ص 31- 32.

(2) مجمع البيان، ج 10، ص 704، ط دار احياء التراث العربي سنة 1412 ه، و راجع التبيان للشيخ الطوسي، ج 10، ص 418.

تفسير سورة الكوثر، ص: 78

أضاف الطبرسي قوله: «لأن جميع عترته الطاهرة عليهم السّلام قد رووه بخلاف ذلك، و هو أن معناه إرفع يديك إلى النحر في الصلاة» «1».

المقصود بقوله تعالى: .. و انحر:

تقدم أن الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام تذكر أن المراد بقوله تعالى: .. و انحر، إرفع يديك في التكبير حذاء النحر.

و حين تصح الرواية، و يثبت ذلك عنهم عليهم السّلام، فلا بدّ من القبول و التسليم، حتى و لو لم نعرف ما هي المناسبة، لأنّهم عليهم السّلام أعرف بمعاني القرآن، و لأنهم هم الذين خوطبوا به، و هم الراسخون في العلم، الذين يعلمون تأويله ..

و في محاولة منّا لفهم هذا المعنى الدقيق، و معرفة الحيثيّات التي تؤكّد انسجامه- دون سواه- مع المعاني السامية لهذه السورة المباركة الكريمة، نقول:

______________________________

(1) مجمع البيان، ج 10، ص 704.

تفسير سورة الكوثر، ص: 79

إن الحديث هنا تارة لوحظ فيه مقام الألوهيّة، و أخرى لوحظ فيه مقام الربوبيّة؛ فاقتضى ذلك الشكر لهذا الربّ المنعم بهذا الكوثر العظيم من جهة، ثم التعظيم لهذا

الإله الخالق، و القادر، و الحكيم، و العالم، و .. من جهة أخرى.

و جهة الألوهيّة التي تعني العزّة، و العظمة، و الهيبة، و الكبرياء، و ..، قد نشأ عنها عطاء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيه تعظيم، و تعزيز، و تكريم له ..

و جهة الربوبيّة التي تعني العطاء، و الشفاء، و الرزق، و الإنعام، و التفضّل من اللّه عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قد نشأ عنها عطاء، فيه نعمة و تفضّل، و رعاية، و كمال.

فألمح بالصلاة الشاكرة إلى جهة التفضّل و النعمة، و أسندها إلى مقام الربوبيّة فقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ ...

علما أنّ الصلاة الشاكرة على النعمة، تتضمن الشكر من جهات ثلاث كما أسلفنا.

ثمّ نظر إلى جهة التعظيم، و الإعزاز، و التكريم، و التفخيم، التي أراد اللّه أن يخصّ بها نبيّه الكريم،

تفسير سورة الكوثر، ص: 80

و العظيم، من خلال هذا العطاء التكريمي و التعزيزي.

فناسب ذلك المبادرة إلى مقابلة التعزيز و التعظيم، بتعزيز و تعظيم لمقام الألوهيّة، الذي يكون التكبير القلبي و القولي، بكلمة: «اللّه أكبر»، و الفعلي «برفع اليدين إلى محاذاة النحر» هو التعبير الصادق و الصريح عنه.

و بذلك يكون الحديث أو فقل التعامل مع هذا الذي أعطى الكوثر قد استجمع كل عناصره، حيث راعى مقام الربوبيّة من جهة و مقام الألوهيّة من جهة أخرى.

فكلمة: «وَ انْحَرْ» قد تضمنت الإلتفات إلى مقام الألوهيّة، لأنها تناسب ناحية العزّة و العظمة في جانب الألوهيّة و تناسب الإعزاز و التعظيم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا العطاء.

و كلمة: فصلّ لربّك .. فيها إلتفات لمقام الربوبيّة لمناسبتها للألطاف و النعم، و هذا العطاء العظيم، لمن لم يزل راعيا و حافظا

لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لرسالته و دينه.

و هي نعمة أفاضها اللّه عليه من موقع إنعامه، و رازقيّته،

تفسير سورة الكوثر، ص: 81

و غير ذلك من صفات الربوبيّة.

فيكون هناك تناسب بين هذين المعنيين في هذه الآية و تطابق تام، و انسجام حقيقي بين مضامين الآيتين.

تفسير سورة الكوثر، ص: 83

تفسير قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ

اشارة

تفسير سورة الكوثر، ص: 85

لماذا هذه الحدّة و الشدّة:

ثم إنّ الحقد الذي ظهر من ذلك الشانى ء، كان على درجة كبيرة جدا من الخطورة، جعلت ذلك الحاقد، يستحق أن يواجه بهذا الموقف الشديد و الحازم .. ثم العقوبة بالأبتريّة الشاملة. و استحق أيضا، تخصيص سورة قرآنية كاملة، للردّ عليه و التصدّي له.

و قد يقول قائل:

إنه إذا كان الشنآن هو مجرد البغض و الحقد، فلماذا حاسب اللّه على أمر قلبي- غير جوارحي- و أعلن هذا الموقف المتشدّد و الحازم؟! ..

... و حتى لو كان البعض قد قال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه لا عقب له. فما هو وجه الخطورة في ذلك؟ أ ليس هذا كسائر تنقّصاتهم التي كانوا يواجهون بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتجاوز عنها؟

و ما الذي جعل هذا الكلام بخصوصه أمرا عظيما

تفسير سورة الكوثر، ص: 86

و خطيرا، يستدعي هذا الحزم و هذه الشدّة إلى درجة إنزال سورة بكاملها من أجله؟ فإنّ إفراد سورة لموضوع مّا، يفيد أنّ ذلك الموضوع هو من الأمور الحسّاسة و الأساسيّة في الحياة، حيث لا تفرد سورة لبيان أحكام الشكوك في الصلاة مثلا.

و كذلك الحال بالنسبة لما كافأ اللّه به رسوله الذي تعرّض لهذا الشنآن، حيث حباه بهذا العطاء العظيم لمصدر الكثرات، فانها مهما كان نوعها؛ فهي من سنخ الخير الذي يصح امتنان اللّه به على عبده، و توجب عليه الشكر و التعظيم، لا سيما مع هذا الإطلاق الذي لا يحدّ بحدّ .. حيث لم يذكر للكوثر متعلّقا، ككونه كوثر الأولاد، أو الأموال، أو غير ذلك ..

و الخلاصة: أنّه يوجد أمران:

أحدهما: أنه قد حصل أمر عظيم و حسّاس

و مصيري في حياة الأمة يستحق أن تفرد له سورة.

الثاني: إنّ هذا العطاء العظيم للكوثر،

و ذلك القرار القوي بالحرمان و الأبتريّة، الذي ترتّب على هذا

تفسير سورة الكوثر، ص: 87

الشنآن، يدل على وجود أمر خطير اقتضى هذا و ذاك، كما اقتضى نزول السورة المباركة الخالدة على طول الزمان، و عبر الأحقاب.

الأمر خطير و مصيري:

اشارة

هذا هو السؤال الكبير و الخطير .. و يمكن أن يقال في الجواب: إن ما كانوا يتنقّصون به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أنه لا ذرّية له ينظر إليه من ناحيتين:

الناحية الأولى: الناحية الشخصية،

حيث يتأذى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نفسيا من تعييرهم له بهذا الأمر، و قد تأخذه الحسرة لإنقطاع نسله، فقد يقال: إن هذا لا يستوجب نزول سورة قرآنية فيها هذا الغضب على ذلك الشانى ء، و لا يستوجب هذا العطاء العظيم لمن تعرّض لهذا الأذى.

مع العلم أننا نربأ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يتأثر بمثل هذه الأمور على الإطلاق، فان رضاه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رضى اللّه سبحانه.

فلا مجال لتوهم تأثير ذلك على حركته الرسالية في أي من الظروف و الأحوال.

تفسير سورة الكوثر، ص: 88

الناحية الثانية: أن يلحق الأذى بالدين و بالرسالة.

اشارة

و هذا هو الذي يستحقّ نزول هذه السورة، و هذا العطاء العظيم «الكوثر»، و هذا الموقف الحازم من الشانى ء.

فقد بات من الواضح: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يهتم لأمر الذّريّة، من حيث هي ذرّيّة، و إنما من حيث هي حصانة للشريعة و للرسالة، و امتداد لها.

و قد حدثنا اللّه سبحانه و تعالى عن الكافرين في آيات كثيرة أنهم كانوا يعيّرونه بأن اتباعه هم الضعفاء. قال تعالى: وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «1».

و قد كانوا يطلبون من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يطرد عنه هؤلاء الضعفاء، و كان الردّ الإلهي يقول له: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ «2».

و الهدف من كلامهم هذا هو إضعاف نفوس من آمن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من حيث إشعارهم بالقلّة، و الذلّة، و الضعف، و أنهم لا حول لهم و لا قوّة. فيسقطون بهذه

______________________________

(1) سورة هود، آية رقم 27.

(2) سورة الأنعام،

آية رقم 52.

تفسير سورة الكوثر، ص: 89

الحرب النفسيّة عزّتهم و إرادتهم، و يكسرونها، في ظل الإحساس بأن ما يدعوهم إليه لا يعطيهم قوّة و لا منعة، و لا امتدادا، و لا مالا، و لا عزّا، و لا موقعا، و لا أيّ شي ء آخر. فلماذا يضحون بأنفسهم، و بعلاقاتهم بمحيطهم، حتى أنهوا صلاتهم و ارتباطاتهم بكل ما لهم من أهل و عشيرة و يواجهونهم بالحرب و التحدي

بل إنهم سوف يواجهون أعظم التحدّيات و على مستوى العالم بأسره؛ فإذا كان لا أمل بمستقبل هذا الدين كما يحاولون الايحاء به، فإن قول هذا الشانى ء من شأنه أن يدخل اليأس إلى نفوسهم، و أن يهزمهم في إرادتهم، و طموحهم، و عنفوانهم، في داخل شخصيّتهم، قبل أن يهزمهم مادّيا و عسكريّا، بحيث لا يعود هناك حاجة للحرب.

و الخلاصة:

إن التركيز على الإنقطاع و عدم الإمتداد، يمثّل- بنظرهم- نقطة ضعف فيما يرتبط بإمتداد الرسالة، و بحمايتها، و يؤكّد فقدانها لأسباب النصر، و لأبسط مقوّمات الحياة، قد يوهم بعض من

تفسير سورة الكوثر، ص: 90

أسلم أنه ليس ثمة من أمل بالنجاح، و أن عليهم أن يعيشوا الآلام و العذاب المستمرّ .. و إذا استمرّت إشاعة جو من هذا القبيل؛ فسوف يتسبب ذلك بالمزيد من الضعف و التراجع ثم الانسحاب من الساحة و البحث عن مهرب و ملجأ.

و هذا هو الأخطر في هذه القضية، و لأجل ذلك كان العطاء لمصدر الكثرات «الكوثر». حتى إذا احتاج إلى العزّة، و إلى النصر، و إلى المال، و إلى الرجال، و إلى الذرّيّة، و إلى المقام، و إلى الذكر الحسن، أو أي شي ء آخر من كل ما هو خير، فإنّه سيصل إليه، و يحصل عليه.

فاتّضح كيف أنّ

هذا القول قد كان بالغ الخطورة بالنسبة إلى قضيّة الإيمان، و مستقبل الرسالة؛ لأنهم كانوا يقولون للناس: لن يكون لهذا الرسول امتداد، و لن يكون ثمّة من يحمل قضيّته إلى الآخرين، و لا من يحرص عليها، أو يدافع عنها، و يبذل من أجلها كلّ غال و نفيس.

تفسير سورة الكوثر، ص: 91

و ذلك يعني أنه لا مستقبل لهذه الدعوة سوى الدمار و البوار، و لن ينجوا أتباعها من هذا الضعف، و من الفقر، و الحاجة، و الذلّ، الذي يجتاحهم.

و قد اتّضح مما تقدّم لماذا احتاج إلى هذا العطاء العظيم، و إلى هذا الخطاب القوي في مواجهة هذا التحدّي، و إلى نزول سورة كاملة تخلّد هذه السّنّة الإلهية في مواجهة الأخطار.

التوضيح بمثال قرآني آخر:

و ما أشبه سورة الكوثر بسورة التحريم؛ حيث ذكروا: أن سبب نزولها هو أن حفصة عادت إلى بيتها؛ فوجدت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع ماريّة، فأسرّ إليها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ماريّة عليه حرام، إرضاء لها، على أن تكتم هذا السرّ.

فأخبرت حفصة عائشة، فنزلت الآيات ..

و قيل: إنّ السورة نزلت بسبب أنه قد شرب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شرابا في بيت سودة، فدخل على عائشة؛ فقالت: إنّي أجد منك ريحا. ثم دخل على حفصة، فقالت مثل ذلك؛

تفسير سورة الكوثر، ص: 92

فحرّم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك الشراب على نفسه؛ فنزلت الآيات .. «1».

و نقول: إنه لا يعقل أن يكون سبب نزول هذه السورة أمرا من هذا القبيل، فلم يكن اللّه سبحانه لينزل السور القرآنية استجابة للرغبات المادّية، أو الشهوانيّة للأشخاص، و لم يكن ليجعل هذا النوع من الأمور قرآنا يتلى إلى

يوم القيامة. كما أنّ آيات السورة نفسها تلهج بهذه الحقيقة.

يقول اللّه سبحانه: وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «2»، مما يعني أن القضيّة المطروحة كانت تمثّل خطرا على حياة الرسول، و على حياة الرسالة بأسرها، حتى احتاج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أن يكون اللّه مولاه، و إلى أن يكون جبريل و صالح المؤمنين، و الملائكة، بعد ذلك ظهيرا

______________________________

(1) راجع تفسير الميزان، ج 19، ص 337 و 338.

(2) سورة التحريم، آية رقم 4.

تفسير سورة الكوثر، ص: 93

له. ثم هو يضرب لهما مثلا إمرأة نوح عليه السّلام و إمرأة لوط عليه السّلام.

ثم يضرب لهما مثلا مريم التي ضربت أروع الأمثال في الصلابة و الإستقامة، على خط العقيدة، و هي تقدّم المعجزة الإلهية للناس، متمثلة بابنها عيسى النبي صلوات اللّه و سلامه عليه، الذي حفظ اللّه به هذا الدين.

و هكذا الحال في سورة الكوثر، فإن ما كان يسعى إليه الشانئون هو إسقاط الرسالة بهذه الطريقة، و كان الردّ الإلهي القوي و الحاسم بإنزال سورة تؤكّد التدخّل الإلهي بإتجاهين: أحدهما: إيجابي؛ بإعطاء الكوثر لصاحب الرسالة.

و الآخر: له منحى آخر، يتمثل بتدمير مستقبل الشرك و الإنحراف و العدوان.

التأكيد بإنّ:

و كان لا بدّ من التأكيد على هذه السنّة الإلهية و ترسيخها و تأصيلها في ضمير هذا الإنسان، و في

تفسير سورة الكوثر، ص: 94

وجدانه، و في قلبه، و في فكره حتى يكون لها موقعها المناسب له.

و لأجل ذلك أكّد هذا الأمر بكلمة: «إنّ» و بالجملة الإسمية أيضا.

لماذا «الشانى ء» بصيغة إسم الفاعل:

اشارة

و قد يقال: لماذا قال: «إِنَّ شانِئَكَ ..» بصيغة إسم الفاعل، و لم يقل: من يشنؤك، أو شنأك؛ بصيغة المضارع، أو الماضي؟!

فالجواب:

أن إسم الفاعل هو الأنسب هنا، لأنه يريد أن يشير إلى بقاء الشنآن، و استمراره، مع قيام الصفة في موصوفها بصورة ثابتة، و يكون وجود الشنآن في الخارج مؤشرا على سبق الإرادة، و سبق الإختيار.

أما الفعل فهو يفيد الحدوث و التجدّد. فلو أنّه جاء بصيغة الفعل الماضي لاحتمل أن يكون ذلك مجرّد أمر قد حدث في الماضي لأسباب معيّنة، و لعلّه لا يحدث في المستقبل، و قد يكون فاعله قد ندم عليه، أو قد تغيّر رأيه فيه.

تفسير سورة الكوثر، ص: 95

أما صيغة المضارع «يشنؤك» فهي صفة تفيد صدور الفعل عن إختيار، فيحتاج صدوره مرّة أخرى إلى إرادة متجدّدة .. فلعل هذه الارادة لم تحصل، و لعلّ الإختيار لم يتحقّق؛ فإن صيغة المضارع تفيد حدثا متجددا، يحتاج إلى إرادة بعد إرادة، و إختيار بعد اختيار.

لماذا كلمة: هو؟:

أمّا لماذا جاء بكلمة: هو، و لم يقل: إنّ شانئك الأبتر؟

فإننا نقول: كلمة هو: ضمير فصل، لا محل له من الإعراب، يؤتى به لمزيد من التأكيد على اختصاص الموصوف بالأمر الذي يراد إثباته له، ليفيد أنه لا اشتباه و لا اشتراك لغيره معه، و يفيد أيضا نفي الوصف عن الطرف المقابل، فهو نظير قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.

لم يقل أبتر:

و أمّا سبب إضافة الألف و اللّام في كلمة: «الأبتر» ..

فهو أنّ «أل» تفيد ثبوت الوصف له. لكن قد يكون غيره

تفسير سورة الكوثر، ص: 96

مثله فيه، فإذا كان مع ألف و لام الحقيقة كان المعنى: أنّ حقيقة الأبتريّة ثابتة له دون سواه، فإن كان في غيره صفة أبتريّة فليست هي الحقيقة المطلقة فيه، بل هي وصف عارض له كسائر الأوصاف العارضة.

أو فقل: إن إفادة الجنس لا تتحقّق إلّا مع ذكر الألف و اللّام.

هل الوصف بالأبتر يستبطن بغضا؟!

اشارة

و يرد هنا سؤال: هل وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالأبتر يستبطن حقدا و بغضا؟

الجواب:

أولا: نعم، إنّه يستبطن ذلك، لأنه وارد مورد الشماتة، و الإنتقاص، و صدّ الناس عن اتّباعه.

ثانيا: لقد روي عن الامام جعفر بن محمد عن أبيه عليه السّلام، قال: توفّي القاسم ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمكّة، فمرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو آت من جنازته على العاص بن وائل، و ابنه عمرو، فقال حين رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لأشنؤه.

تفسير سورة الكوثر، ص: 97

فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبترا.

فأنزل اللّه: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «1».

و يستوقفنا في هذه الرواية ما يلي:

أولا: لقد ذكرت هذه الرواية، أنّ الشانى ء- أي المبغض و الحاقد، هو عمرو بن العاص، و على هذا فالآية قد جاءت ردّا عليه، لا على أبيه، فهل ذلك يعني، أنّ هناك تحريفا يهدف إلى إبعاد هذه القضية عن عمرو، لتكون السورة قد نزلت في أبيه دونه؛ لأن أباه مات على الجاهلية و الشرك؛ فلا ضير في التجريح به. أما عمرو فقد كان صحابيّا، و لا يجوز أن تخدش عدالة الصحابة، و كان أيضا من حزب معاوية، و من المحاربين لأمير المؤمنين عليه السّلام، و المبغضين له؛ فلا بدّ من حفظ ماء وجهه، و عدم الإنتقاص من مقامه لأجل ذلك!!

ثانيا: ظاهر الرواية: أنّ الشانى ء هو خصوص المبغض و أن اللّه سبحانه و تعالى قد رتّب الحكم بالأبتريّة على الشانى ء و ذلك معناه أن نفس بغض

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 20 ص 372 عن الزبير بن

بكّار، و ابن عساكر.

تفسير سورة الكوثر، ص: 98

الإنسان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موجب لأن يكون أبترا، حتى و لو لم يلحق هذا البغض و الحقد أيّ إظهار لقول أو لفعل؛ لأن بغض الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من شأنه الحرمان من الألطاف الإلهية، و صيرورة الحاقد أبترا في الدنيا و الآخرة.

ثالثا: ظاهر الآية أنّ هذا البغض و الحقد بنفسه هو السبب في هذه الأبتريّة، لا بعنوان كونه جزاء من اللّه، فإن أي أمر يحمل في داخله بغضا، هو بنفسه زائل، و منقطع، يحمل عوامل فنائه في داخله؛ لأن الباطل و الشرّ بطبيعته نقص و فناء، و عدم، لا امتداد له، ليقال إنه ينقطع بفعل قاهر، و بصورة قسريّة.

الإطلاق في كلمة الأبتر:

أما لماذا أطلق كلمة «الأبتر» و لم يقيّدها بالذّرّيّة مثلا. و لم يقل: إنّ شانئك لا ذرّيّة له، أو عقيم مثلا ..؟

فلأن الإطلاق في كلمة «الأبتر» لعلّه من أجل الإيحاء بالشموليّة و العموم، ليشمل كل شي ء، و لينقطع عن الإمتداد في الدنيا و الآخرة على حدّ سواء. فهو لا يجد

تفسير سورة الكوثر، ص: 99

نتيجة لأفعاله لا الجوانحيّة و لا الجوارحيّة، كما أن نسله يبتر أيضا، و يبتر و ينقطع ذكره الحسن، و تبتر حياته، و يبتر مستقبله و .. إلخ؛ لأن كل عمل يصاحب بغض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا امتداد له و لا بقاء له؛ لأنه يصير من الباطل الذي يزهق و يزول؛ لأنه يحمل موجبات زواله في داخله.

شموليّة الشانى ء لغير من نزلت فيه السورة:

و كلمة «الشانى ء» تشمل كل مبغض لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا يقتصر الأمر على عمرو بن العاص، و لا على أبيه، لا سيّما و أنه استعمل صيغة إسم الفاعل، الذي يفيد أن كل من اتصف بالشنآن للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو الأبتر، كائنا من كان، و في جميع الأزمان.

لماذا الشماتة:

إن أمر الموت و الحياة، و أن يرزق اللّه الإنسان ذرّيّة، ثم بقاء هذه الذّريّة ليس من الأمور الخاضعة لإختيار الإنسان و إرادته.

إذن فما معنى أن ينتقص أحد إنسانا على أمر لا إختيار

تفسير سورة الكوثر، ص: 100

له فيه؟ أو أن يشمت به إذا مات ولده؟!

إن هذا الأمر لا مبرّر له عقلا عند الناس على الاطلاق.

و لكنّك تستطيع أن تلوم الانسان، و أن تشمت به على أمر هو أدخله على نفسه، و على مشكلة هو أوقع نفسه فيها.

و نلاحظ هنا: أن الجزاء جاء موافقا للجرم، و كأنه من سنخه، فالذي عيّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكونه أبترا، و هو أمر لا خيار و لا اختيار له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه، قد جوزي بالأبتريّة نفسها و هي أمر لا حيلة و لا خيار و لا اختيار له فيه.

الحكم مع الدليل:

و عن سؤال لماذ علّق الحكم بالأبتريّة على وصف «الشانى ء» و قد كان يمكن أن يقول: إن القائل أو المتكلم بالكلام السيّى ء هو الأبتر.

نجيب: إنهم يقولون: إن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية.

و قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ يشير إلى أنّ

تفسير سورة الكوثر، ص: 101

الشنآن هو سبب هذه الأبتريّة. فكأنّما ذكر الحكم مع دليله، فالحكم عليه بالأبتريّة؛ إنما هو لبغضه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

المؤمنون هم أعقاب رسول اللّه (ص)!:

و يقول بعض المفسّرين- و هو الزمخشري- إنّ كلّ من يولد إلى يوم القيامة من مؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهم له أعقاب و أولاد.

و نقول:

إن هذا من شيطنتهم الخفيّة، فإن السورة قد أخبرت عن الغيب بكثرة النسل له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من فاطمة عليها السّلام حسبما ذكرناه ..

فهي تثبت فضلا عظيما لها عليها السّلام و انها هي الكوثر كما رواه السنّة و الشيعة.

و هم بهذا التفسير ينكرون- عملا- هذه الفضيلة العظيمة للسيدة الزهراء عليها السّلام، و تصبح بلا لون، و لا طعم، و لا رائحة.

كما أنهم يتخلّصون من حقيقة أن أبناء فاطمة عليه السّلام

تفسير سورة الكوثر، ص: 102

هم ذرّيّة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. هذه الحقيقة التي تنقض أمر الجاهليّة الذي يقول:

«بنونا بنو أبنائنا و بناتنابنوهن أبناء الرجال الأباعد»

كما أنها الحقيقة التي لم تزل تضايق الحكّام الأمويين، و العباسيين على حد سواء.

و قد عملوا جاهدين على طمسها، أو التشكيك فيها، فراجع ما ذكرناه في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الحسن عليه السّلام.

تفسير سورة الكوثر، ص: 103

كلمتنا الأخيرة:

و رغم أننا قد أطلنا الكلام في بيان بعض ما تدل عليه أو تشير إليه هذه السورة المباركة، فإننا نعترف- باعتزاز- بعجزنا الظاهر عن الإمساك بجميع خيوط المعاني التي أشارت إليها أصغر سورة في القرآن، و هي ثلاث آيات فقط في عشر كلمات. و قد رأينا كيف أنها معجزة من عدّة جهات:

1- من الناحية البلاغيّة.

2- و من جهة الإخبارات الغيبيّة التي تضمّنتها.

3- و من جهة المعاني الشاملة و المحورية، و الكبيرة، و السنن الإلهية التي احتوتها.

و الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السّلام

على محمد و آله.

جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة الكوثر، ص: 105

محتويات الكتاب

مقدمة الناشر 5

مقدمة المؤلف 7

تمهيد 15

فضل قراءة سورة الكوثر 15

سبب نزول سورة الكوثر 16

الإخبارات الغيبيّة في سورة الكوثر 17

سورة الكوثر مكّية 18

ربط القيم بالأمور الواقعية 19

تفسير قوله تعالى: إنا أعطيناك الكوثر الحديث عن المتكلّم بصيغة الجمع 29

لماذا التأكيد على حصول أمر لم يحصل؟ 32

تفسير سورة الكوثر، ص: 106

إختيار التعبير ب: «أعطينا» دون سواها 34

العطاء الإلهي 35

الكوثر يعني الخلّاقية 36

لا تحديد و لا حصر في الكوثر 38

«أل» الحقيقية 39

الكوثر هو الردّ المناسب 39

الحاجة إلى عنصر الإزدياد و الاستحقاق 41

التشريف و التكريم 43

القيمة بين الحقيقة و التزييف 43

الوعد و الإخبار الصادق 45

يأس الحاقد 46

لماذا خصّصنا الكوثر بأمور الخير 50

تفسير قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ صفات الألوهية في من يعطي الكوثر 55

لماذا لم يقل: فاعبد اللّه؟ 57

العبادة الشاكرة 59

تفسير سورة الكوثر، ص: 107

عبادة الخائفين و الطامعين 61

لماذا قال: لربّك؟ 64

لربّك مع كاف خطاب المفرد 67

بدأ بالألوهية و انتهى بالربوبية 68

النّعم تصل الإنسان باللّه 70

عطاء الإعزاز و التكريم 74

لربّك! لماذا؟ 75

أولاد فاطمة (ع) أولاد رسول اللّه (ص) 76

«و انحر» في أقوال المفسّرين 77

المقصود بقوله تعالى: .. و انحر 78

تفسير قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ لماذا هذه الحدّة و الشدّة 85

و الخلاصة: أنّه يوجد أمران 86

الأمر خطير و مصيري 87

التوضيح بمثال قرآني آخر 91

التأكيد بإنّ 93

تفسير سورة الكوثر، ص: 108

لماذا «الشانى ء» بصيغة إسم الفاعل 94

لماذا كلمة: هو؟ 95

لم يقل أبتر 95

هل الوصف بالأبتر يستبطن بغضا؟! 96

الإطلاق في كلمة الأبتر 98

شمولية الشانى ء لغير من نزلت فيه السورة 99

لماذا الشماتة؟ 99

الحكم مع الدليل 100

المؤمنون هم أعقاب رسول اللّه (ص) 101

كلمتنا الأخيرة 103

محتويات الكتاب 105

تفسير سورة الكوثر، ص: 109

صدر للمؤلف

- الآداب الطبية في الاسلام (ترجم إلى الفارسية).

- ابن عباس و أموال

البصرة.

- أبو ذر مسلمان يا سوسياليست (الترجمة الفارسية).

- إدارة الحرمين الشريفين في القرآن الكريم.

- الاسلام و مبدأ المقابلة بالمثل (ترجم).

- أكذوبتان حول الشريف الرضي.

- أهل البيت في آية التطهير (ترجم).

- بنات النبي أم ربائبه؟ (ترجم).

- تفسير سورة الفاتحة.

- تفسير سورة الماعون.

- تفسير سورة الناس.

- حديث الإفك.

- حقائق هامة حول القرآن الكريم (ترجم).

- الحياة السياسية للامام الجواد (ع) (ترجم).

تفسير سورة الكوثر، ص: 110

- الحياة السياسية للامام الحسن (ع) (ترجم).

- الحياة السياسية للامام الرضا (ع) (ترجم).

- خلفيات كتاب مأساة الزهراء (ع) (صدر منه جزءان).

- دراسات و بحوث في التاريخ و الاسلام 1/ 4 (أربعة أجزاء).

- دراسة في علامات الظهور و الجزيرة الخضراء (ترجم).

- الزواج المؤقت في الاسلام (المتعة).

- سلمان الفارسي في مواجهة التحدي (ترجم).

- السوق في ظل الدولة الاسلامية (ترجم).

- صراع الحرية في عصر المفيد (ترجم).

- الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) 1/ 11 احد عشر جزءا (ترجم بعض اجزائه الى الفارسية).

- ظاهرة القارونية، من أين؟ و إلى أين؟

- الغدير و المعارضون.

- لما ذا كتاب مأساة الزهراء (ع)؟

مأساة الزهراء (ع) شبهات و ردود (جزءان).

- منطلقات البحث العلمي في السيرة النبوية.

تفسير سورة الكوثر، ص: 111

- المواسم و المراسم (ترجم الى الفارسية).

- موقع ولاية الفقيه من نظرية الحكم في الاسلام.

- موقف علي (ع) في الحديبية.

- نقش الخواتيم لدى الأئمة (ع).

- ولاية الفقيه في صحيحة عمر بن حنطة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.