تفصیل الشریعه فی شرح تحریر الوسیله: غسل الجنابه - التیمم - المطهرات

اشارة

سرشناسه : فاضل موحدی لنکرانی، محمد، 1310 - ، شارح

عنوان و نام پديدآور : تفصیل الشریعه فی شرح تحریر الوسیله: غسل الجنابه - التیمم - المطهرات/ محمد الفاضل النکرانی

مشخصات نشر : [تهران]: موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)، موسسه چاپ و نشر عروج، 1419ق. = 1377.

مشخصات ظاهری : ص 723

شابک : 17500ریال

يادداشت : عربی

يادداشت : چاپ دوم: 1380

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

عنوان دیگر : غسل الجنابه - التیمم - المطهرات

عنوان دیگر : تحریر الوسیله. برگزیده. شرح

موضوع : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1368 - 1279. تحریر الوسیله -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع : تیمم

موضوع : طهارت

شناسه افزوده : موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س). موسسه چاپ و نشر عروج

رده بندی کنگره : BP183/9/خ 8ت 302823 1377

رده بندی دیویی : 297/3422

شماره کتابشناسی ملی : م 79-25998

[فصل في الأغسال]

اشارة

فصل في الأغسال

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 2

و الواجب منها ستّة: غسل الجنابة، و الحيض، و الاستحاضة، و النفاس، و مسّ الميّت، و غسل الأموات.

و الأقوىٰ عدم الوجوب الشرعي في غير الأخير. (1)

..........

______________________________

(1) أمّا عدم وجوب غير الستّة المذكورة في المتن كالغسل المنذور فلأنّه قد مرّ سابقاً: أنّ الوجوب في النذر إنّما يكون متعلّقه عنوان الوفاء بالنذر، و لا يسري منه إلى العناوين الأُخر، و إلّا يلزم اجتماع حكمين في عنوان واحد. كما أنّه سيأتي عدم وجوب مثل غسل الجمعة.

و أمّا عدم كون الوجوب في غير الأخير من الستّة شرعيّاً؛ فلأنّ وجوبه إنّما هو من باب المقدّمية للصلاة و نحوها، و قد تحقّق في محلّه عدم وجوب المقدّمة بالوجوب الشرعي.

نعم، الأخير يكون واجباً شرعياً بمقتضى دليله

الذي سيجي ء، و لا يكون مقدّمة لشي ء آخر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 3

[فصل في غسل الجنابة]

اشارة

فصل في غسل الجنابة و الكلام في سبب الجنابة، و أحكام الجنب، و واجبات الغسل:

[القول في السبب]

اشارة

القول في السبب

[مسألة 1: سبب الجنابة أمران]
اشارة

مسألة 1: سبب الجنابة أمران:

[أحدهما: خروج المنيّ و ما في حكمه من البلل المشتبه قبل الاستبراء]

أحدهما: خروج المنيّ و ما في حكمه من البلل المشتبه قبل الاستبراء، كما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى.

و المعتبر خروجه إلى الخارج، فلو تحرّك من محلّه و لم يخرج لم يوجب الجنابة، كما أنّ المعتبر كونه منه، فلو خرج من المرأة منيّ الرجل لا يوجب جنابتها، إلّا مع العلم باختلاطه بمنيّها.

و المنيّ إن علم فلا إشكال، و إلّا رجع الصحيح في معرفته إلى اجتماع الدفق و الشهوة و فتور الجسد، و الظاهر كفاية حصول الشهوة للمريض و المرأة، و لا ينبغي ترك الاحتياط سيّما في المرأة بضمّ الوضوء إلى الغسل لو لم يكن مسبوقاً بالطهارة.

بل الأحوط مع عدم اجتماع الثلاث، الغسل و الوضوء؛ إذا كان مسبوقاً بالحدث الأصغر، و الغسل وحده إن كان مسبوقاً بالطهارة.

[ثانيهما: الجماع و إن لم ينزل]

ثانيهما: الجماع و إن لم ينزل. و يتحقّق بغيبوبة الحشفة في القبل أو الدبر، و حصول مسمّى «الدخول» من مقطوعها؛ على وجه لا يخلو من قوّة، فيحصل حينئذٍ وصف الجنابة لكلّ منهما، من غير فرق بين الصغير و المجنون و غيرهما، و وجب الغسل عليهما بعد حصول شرائط التكليف.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 4

و يصحّ الغسل من الصبيّ المميّز، فلو اغتسل يرتفع عنه حدث الجنابة. (1)

في أنّ خروج المنيّ سبب للجنابة

______________________________

(1) أمّا كون خروج المنيّ سبباً لحصول الجنابة التي يترتّب عليها أحكام كثيرة، فالمحكي عن «الخلاف» و «الغنية» و «المعتبر» و «التذكرة» و «الذكرى» و غيرها دعوى الإجماع عليه، بل عن بعضها إجماع المسلمين عليه. و النصوص الدالّة عليه متواترة، بل لا يبعد دعوى كونه من ضروريّات الفقه في الجملة.

و لا فرق بين أن يكون خروجه في حال الاختيار أو الاضطرار، كما أنّه لا

فرق بين حال اليقظة و النوم، و لا بين ما إذا كان بالوطي أو بغيره، كالتفخيذ و التقبيل، و لا بين ما إذا كان كثيراً أو قليلًا و لو بمقدار رأس إبرة، و لا بين ما إذا كان مع الشهوة أو بدونها.

نعم، في المنيّ القليل ربّما يظهر من بعض الروايات العدم، و هي صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل احتلم، فلمّا انتبه وجد بللًا قليلًا.

قال

ليس بشي ء، إلّا أن يكون مريضاً فإنّه يضعف، فعليه الغسل.

«1» كما أنّه يظهر من بعض النصوص اعتبار الشهوة، كما حكي عن مالك و أبي حنيفة و أحمد، كصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه (عليه السّلام): عن الرجل يلعب مع المرأة و يقبّلها، فيخرج منه المنيّ، فما عليه؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 8، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 5

..........

______________________________

قال

إذا جاءت الشهوة و دفع و فتر لخروجه فعليه الغسل، و إن كان إنّما هو شي ء لم يجد له فترة و لا شهوة فلا بأس.

«1» هذا، و لكنّ الظاهر أنّ المراد من الرواية الأُولى صورة الاشتباه. و يؤيّده ترك قوله

قليلًا

في الرواية الكليني، كما أنّه يؤيّده استثناء المريض؛ فإنّ اختلافه مع غيره إنّما هو في خصوص هذه الصورة، و عليه فالمراد بقول السائل: «احتلم» هو تخيّل الاحتلام و اعتقاده، ثمّ الشكّ فيه، فتدبّر.

و أمّا الرواية الثانية، فقد حملها الشيخ أيضاً على صورة الاشتباه؛ و أنّ المراد بخروج المنيّ هو الاعتقاد الظنّي بكونه كذلك.

و يؤيّده أنّ في رواية علي بن جعفر (عليه السّلام) بدل «المنيّ»: «الشي ء».

و قال صاحب «المنتقى»: «إنّ التصريح بكون الخارج منيّاً بناه السائل على الظنّ،

فجاء الجواب مفصّلًا للحكم دافعاً للوهم».

و مع عدم إمكان الحمل على ذلك لا محيص من الحمل على التقيّة، كما أفاده صاحب «الوسائل» (قدّس سرّه).

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص و الفتاوى، أنّه لا فرق في سببيّة الإنزال بين الرجل و المرأة، و حكي عليه دعوى الإجماع عن جماعة، بل عن المحقّق و العلّامة في «المعتبر» و «المنتهى» و عن غيرهما، أنّ عليه إجماع المسلمين.

نعم، ربّما ينسب إلى ظاهر الصدوق في «المقنع» الخلاف و إن نوقش في النسبة أيضاً.

و كيف كان: فالرّوايات المستفيضة بل كادت تبلغ حدّ التواتر تدلّ على

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 8، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 6

..........

______________________________

سببيّة إنزال المرأة للجنابة، و وجوب الغسل و إن لم يتحقّق الجماع، و لا بأس بإيراد بعضها:

كصحيحة محمّد بن إسماعيل، عن الرضا (عليه السّلام) في الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج و تنزل المرأة، هل عليها غسل؟ قال

نعم.

«1» و رواية إسماعيل بن سعد الأشعري قال: سألت الرضا (عليه السّلام) عن الرجل يلمس فرج جاريته حتّى تنزل الماء؛ من غير أن يباشر، يعبث بها بيده حتّى تنزل.

قال

إذا أنزلت من شهوة فعليها الغسل.

«2» و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المرأة ترى أنّ الرجل يجامعها في المنام في فرجها حتّى تنزل.

قال

تغتسل.

«3» و رواية محمّد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن المرأة تعانق زوجها من خلفه، فتحرك على ظهره فتأتيها الشهوة فتنزل الماء، عليها الغسل، أو لا يجب عليها الغسل؟

قال

إذا جاءتها الشهوة فأنزلت الماء وجب عليها الغسل.

«4» و رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال:

سألته عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 7.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 7

..........

______________________________

قال

إن أنزلت فعليها الغسل، و إن لم تنزل فليس عليها الغسل.

«1» و غير ذلك من الروايات الكثيرة الدالّة على ذلك.

لكن في صحيحة أديم بن الحرّ بعد الحكم بوجوب الغسل عليها، نهى عن تحديثهنّ بذلك، حيث قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المرأة، ترىٰ في منامها ما يرى الرجل، عليها غسل؟

قال

نعم، و لا تحدثوهنّ فيتّخذنّه علّة.

«2» و لعلّ النهي عن ذلك مع وجوب إعلامهنّ عند الحاجة، ندرة الابتلاء، و خوف المفسدة المترتّبة على علمهنّ بذلك. و الوجه في ندرة الابتلاء على ما قيل هو أنّ منيّ المرأة قلّما يتّفق أن يخرج من فرجها؛ لأنّه يستقرّ في رحمها، و الحكم إنّما يكون مترتّباً على خروجه، كما سيجي ء.

و على ذلك حمل الروايات الدالّة على عدم وجوب الغسل عليهنّ، كرواية عمر بن يزيد قال: اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة، و لبست ثيابي و تطيّبت، فمرّت بي وصيفة لي ففخذت لها، فأمذيت أنا، و أمنت هي، فدخلني من ذاك ضيق، فسألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن ذلك. فقال

ليس عليك وضوء، و لا عليها غسل.

«3» و رواية الأُخرى قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يضع ذكره على فرج المرأة فيمني، عليها غسل؟

فقال

إن أصابها من الماء شي ء فلتغسله، فليس عليها شي ء، إلّا أن يدخله.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 5.

(2) وسائل

الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 12.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 20.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 8

..........

______________________________

قلت: فإن أمنت هي و لم يدخله.

قال

ليس عليها الغسل.

«1» و رواية عمر بن أُذينة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): المرأة تحتلم في المنام، فتهريق الماء الأعظم.

قال

ليس عليها غسل.

«2» و رواية عبيد بن زرارة قال: قلت له: هل على المرأة غسل من جنابتها إذا لم يأتها الرجل؟

قال

لا، و أيّكم يرضى أن يرى أو يصبر على ذلك؛ أن يرى ابنته أو أُخته أو امّه أو زوجته أو أحداً من قرابته قائمة تغتسل، فيقول: ما لك؟ فتقول: احتلمت، و ليس لها بعل.

ثمّ قال

لا، ليس عليهنّ ذلك، و قد وضع اللّٰه ذلك عليكم، قال وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا و لم يقل ذلك لهنّ.

«3» و صحيحة محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): كيف جعل على المرأة إذا رأت في النوم أنّ الرجل يجامعها في فرجها الغسل، و لم يجعل عليها الغسل إذا جامعها دون الفرج في اليقظة فأمنت؟

قال

لأنّها رأت في منامها أنّ الرجل يجامعها في فرجها، فوجب عليها الغسل، و الآخر إنّما جامعها دون الفرج، فلم يجب عليها الغسل؛ لأنّه لم يدخله، و لو كان أدخله في اليقظة وجب عليها الغسل؛ أمنت، أو لم تمنِ.

«4»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 18.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 21.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 22.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 19.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 9

..........

______________________________

و لكنّ الإنصاف: أنّ حمل هذه الروايات

على صورة عدم خروج المنيّ إلى الظاهر، و استقراره في الرحم، بعيد جدّاً.

قال في «الوسائل» بعد نقل هذه الروايات الخمس:

«أقول: الوجه في هذه الأحاديث الخمسة، إمّا الحمل على الاشتباه، أو عدم تحقّق كون الخارج منيّاً كما يأتي.

أو الحمل على أنّها رأت في النوم أنّها أنزلت، فلمّا انتبهت لم تجد شيئاً، كما يأتي أيضاً.

أو على أنّها أحسّت بانتقال المنيّ من محلّه إلى موضع آخر، و لم يخرج منه شي ء؛ فإنّ منيّ المرأة قلّما يخرج من فرجها؛ لأنّه يستقرّ في رحمها؛ لما يأتي أيضاً.

أو على التقيّة؛ لموافقتها لبعض العامّة، و إن ادّعى المحقّق في «المعتبر» إجماع المسلمين، فإنّ ذلك خاصّ بالرجل، و قد تحقّق الخلاف من العامّة في المرأة، و قرينة التقيّة ما رأيت من التعليل المجازيّ في حديث محمّد بن مسلم، و الاستدلال الظاهري الإقناعي في حديث عبيد بن زرارة، و غير ذلك.

و الحكمة في إطلاق الألفاظ المؤوّلة هنا: إرادة إخفاء هذا الحكم عن النساء إذا لم يسألن عنه، و لم يعلم احتياجهنّ إليه؛ لئلّا يتّخذنّه علّة للزوج (للخروج) و طريقاً لتسهيل الغسل من زنا و نحوه، أو يقعن في الفكر و الوسواس، فيرين ذلك في النوم كثيراً، و يكون داعياً إلى الفساد، أو تقع الريبة و التهمة لهنّ من الرجال، كما يفهم من التصريحات السابقة.

و بعض هذه الأحاديث يحتمل الحمل على الإنكار، دون الإخبار، و اللّٰه أعلم».

أقول: و إن أبيت عن ذلك كلّه، فمقتضى قواعد التعارض و الرجوع إلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 10

..........

______________________________

المرجّحات مع وجودها، هو الرجوع إلى الطائفة الأُولى؛ لموافقتها لفتوى المشهور، بل الجميع؛ لعدم ثبوت الخلاف من أحد في ذلك.

هذا مع ثبوت الوهن الظاهر في

بعض هذه الروايات، كرواية محمّد بن مسلم الظاهرة في أنّ رؤيتها في النوم أنّ الرجل يجامعها في فرجها، سبب لوجوب الغسل و إن لم يتحقّق الإنزال، مع أنّه مخالف لضرورة الفقه؛ فإنّها لا تكون أشدّ حكماً من الرجل في هذه الجهة، حيث إنّه لا يجب عليه الغسل بمجرّد الرؤية مع عدم الإنزال.

و كرواية عبيد بن زرارة المشتملة على الاستدلال، فإنّه يرد على هذا الاستدلال: مضافاً إلى وضوح عدم اختصاص الحكم بخصوص الرجال؛ لعدم اختصاص الوضوء بهم أيضاً أنّ مقتضاه عدم وجوب الغسل من الجنابة في الجماع عليهنّ أيضاً؛ لعدم دلالة الآية على ما عدا حكم الرجال، فتدبّر.

و كيف كان: فلا شبهة في أنّ خروج المنيّ في المرأة أيضاً، سبب للجنابة، و يترتّب عليها جميع أحكامها.

فيما يعتبر في سببيّة الإنزال ثمّ إنّه يعتبر في أصل سببية الإنزال للجنابة أمران:

الأوّل: خروجه إلى الخارج و بلوغه إلى الظاهر؛ بحيث لو تحرّك من محلّه و لم يخرج لا تتحقّق الجنابة، كما هو ظاهر النصوص و الفتاوى، بل صريح بعضها.

و الظاهر أنّه لا فرق بين خروجه من الموضع المعتاد و غيره، مع انسداد الطبيعي، أو بدونه؛ لإطلاقات الأدلّة و ظهورها في كون المناط هو خروج المنيّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 11

..........

______________________________

و الماء الأعظم من حيث هو، من دون اعتبار خصوصيّة زائدة على أصل الخروج و الإهراق.

و دعوى انصراف الإطلاقات إلى المتعارف المعتاد، و إجراء أصالة البراءة، أو عدم السببية في غيره ممنوعة جدّاً؛ لوضوح كون الانصراف بدويّاً لا يختلّ به ركن الإطلاق بوجه.

الثاني: كون المنيّ ممّن يجب عليه الغسل، فلو خرج من المرأة منيّ الرجل لا يوجب جنابتها، إلّا مع العلم باختلاطه بمنيّها،

بلا خلاف، بل عن «كشف اللثام» و ظاهر «التذكرة» الإجماع عليه.

نعم، عن الحسن خلاف ذلك؛ فأوجب الغسل على المرأة إذا خرج منها منيّ الرجل، و يدفعه: مضافاً إلى وضوح ظهور الأدلّة في مدخليّة منيّ الشخص، و لا سيّما مع التعبير ب «الاحتلام» أو «الإمناء» أو «الإنزال» أو «مجي ء الشهوة» و أشباه ذلك رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المرأة تغتسل من الجنابة، ثمّ ترى نطفة الرجل بعد ذلك، هل عليها غسل؟ فقال

لا.

«1» و رواية سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول، فخرج منه شي ء.

قال

يعيد الغسل.

قلت: فالمرأة يخرج منها شي ء بعد الغسل.

قال

لا تعيد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 13، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 12

..........

______________________________

قلت: فما الفرق بينهما؟

قال

لأنّ ما يخرج من المرأة إنّما هو من ماء الرجل.

«1» و دلالتها على عدم وجوب الغسل مع العلم بكون الخارج منها ماء الرجل واضحة.

نعم، ربّما يستفاد منها أنّ الحكم في صورة الشكّ، أيضاً هو الحمل على كونه ماء الرجل؛ إمّا تعبّداً، و إمّا لأجل ما عرفت: من أنّ منيّ المرأة يستقرّ في الرحم غالباً.

و لكنّ الحكم بعدم وجوب الغسل عليها في هذه الصورة، لا يترتّب على الاستفادة المذكورة؛ فإنّ مجرّد عدم إحراز كونه منها يكفي في عدم الوجوب، كما إذا كان أصل الخروج مشكوكاً، و عليه فلا وجه لما عن «الدروس» و «البيان» من وجوب الغسل مع الشكّ.

كما أنّه لا اعتبار بالظنّ على ما حكي عن «نهاية الأحكام» لعدم الدليل على اعتباره. هذا كلّه فيما لو علم بكون

الخارج منيّاً.

فيما لو شكّ في كونه منيّاً و أمّا لو شكّ في ذلك، و احتمل كونه منيّاً، ففي المتن أنّ الصحيح يرجع في معرفته إلى اجتماع الدفق، و الشهوة، و فتور الجسد. و قد صرّح جلّ الأعلام لو لا كلّهم بأنّ ما اجتمع فيه الأوصاف هو الماء الأعظم، الذي رتّب الشارع عليه أحكامه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 13، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 13

..........

______________________________

و يدلّ عليه صحيحة علي بن جعفر (عليه السّلام) المتقدّمة، قال: سألته عن الرجل يلعب مع المرأة، و يقبّلها، فيخرج منه المنيّ، فما عليه؟

قال

إذا جاءت الشهوة، و دفع و فتر لخروجه، فعليه الغسل، و إن كان إنّما هو شي ء لم يجد له فترة و لا شهوة، فلا بأس.

«1» و قد مرّ أنّ المرويّ في محكيّ «كتاب علي بن جعفر» هو: «فيخرج منه الشي ء». و هو الأنسب بالجواب، كما لا يخفى.

و كيف كان: فلا إشكال في أنّه مع اجتماع الصفات المذكورة، يجب الحكم بكون الخارج منيّاً، و إن لم يعلم كونه كذلك، نعم عن بعض اعتبار خصوصية في الرائحة أيضاً. إنّما الإشكال في أنّه هل يعتبر اجتماع تلك الصفات، كما هو ظاهر المتن و غيره و صريح بعض، أم لا؟

و الأقوال في هذه المسألة متكثّرة، فعن ظاهر بعض الاكتفاء بالدفق و الشهوة، و عن بعض آخر الاكتفاء بالدفق و فتور البدن، و عن ظاهر آخرين اعتبار الدفق خاصّة، و عن جماعة الاكتفاء بحصول واحد من الأوصاف الثلاثة، و عن بعض الاكتفاء بالرائحة فقط مع نفي الخلاف عنه؛ معلّلًا له بتلازم الصفات، إلّا لعارض، فوجود بعضها كافٍ.

و الحقّ: أنّه لو قلنا بعدم انفكاك الأوصاف الثلاثة

بعضها عن بعض، بل بعدم انفكاك وصف الرائحة التي هي عبارة عن كونها كرائحة الطلع و العجين رطباً، و بياض البيض جافّاً عنها، فلا يبقى موقع للبحث عن كفاية الواحدة، أو اعتبار اجتماع الثلاث، بل الأربع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 8، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 14

..........

______________________________

كما أنّه لا مجال للإشكال على القائل باعتبار الرائحة أيضاً، أو كفايتها: بعدم الدليل عليها أصلًا؛ لأنّه مع عدم الانفكاك لا وجه لشي ء من ذلك. كما أنّ لازمه حصول الوثوق، بل العلم بكونه منيّاً، فتدبّر.

و أمّا لو قلنا بإمكان الانفكاك؛ و عدم ندرته، و يؤيّده وجوده في المريض و المرأة على ما سيأتي، فاللازم حينئذٍ ملاحظة الدليل، و أنّه هل مقتضاه اعتبار الاجتماع، أو عدمه؟

و نقول: ظاهر صدر صحيحة ابن جعفر (عليه السّلام) اعتبار اجتماع الصفات الثلاث: من الشهوة، و الدفع، و الفتور، في الرجل الذي هو موردها بضميمة كونه صحيحاً غير مريض، الذي هو منصرفها.

نعم، ذيل الصحيحة الذي هو في الحقيقة تعبير عمّا يفهم من الصدر عند العرف، يعارض ما هو ظاهر الصدر؛ من جهة ظهوره في أنّ عدم وجوب الغسل، إنّما هو مع عدم ثبوت شي ء من الأوصاف، و لو كان المجموع دخيلًا في الحكم، لكان يكفي عدم ثبوته و لو بانتفاء واحد منها، و من جهة عدم التعرض لذكر الدفع، و الاقتصار على الوصفين الآخرين.

كما أنّه ربّما يقال: بأنّه ينافي ظاهر الصدر غير واحد من الأخبار، الدالّة على وجوب الغسل عند إنزال الماء من شهوة، و كذا ينافيه صحيح عبد اللّٰه بن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يرى في المنام، و

يجد الشهوة، فيستيقظ فينظر فلا يجد شيئاً، ثمّ يمكث الهون بعد فيخرج.

قال

إن كان مريضاً فليغتسل، و إن لم يكن مريضاً فلا شي ء عليه.

قلت: فما فرق بينهما؟

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 15

..........

______________________________

قال

لأنّ الرجل إذا كان صحيحاً جاء الماء بدفقة قويّة، و إن كان مريضاً لم يجئ إلّا بعد.

«1» و كذا حسنة زرارة، أو صحيحته، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

إذا كنت مريضاً فأصابتك شهوة، فإنّه ربّما كان هو الدافق، لكنّه يجي ء مجيئاً ضعيفاً ليست له قوّة؛ لمكان مرضك، ساعة بعد ساعة، قليلًا قليلًا، فاغتسل منه.

«2» نظراً إلى ظهورهما في أنّ الفرق بين الصحيح و المريض ليس هو قصور شهوة الأوّل عن الطريقية، و عدم قصور شهوة الثاني، بل هو أنّ عدم الدفق في الصحيح أمارة العدم، دون المريض، مع تساوي شهوتيهما في الطريقية إلى كون الخارج منيّاً.

فيكون الوجه في عدم الحكم بكون الخارج منيّاً إذا خرج من الصحيح مع الشهوة بلا دفق هو تعارض الأمارتين، و لا كذلك في الخارج من المريض مع الشهوة بلا دفق؛ لأنّ الشهوة فيه أمارة، و عدم الدفق ليس بأمارة على العدم، فيحكم بكونه منيّاً، عملًا بطريقية الشهوة.

أقول: أمّا الأخبار الدالّة على وجوب الغسل عند إنزال الماء من شهوة، فموردها المرأة كما يظهر بالتتبع فيها، و الكلام فعلًا في الرجل دونها، فلا مجال للنظر فيها، كما في «المصباح».

و أمّا الصحيحان، فمقتضى التأمّل فيهما أنّ وجدان الشهوة، أو إصابتها، لا يكفي بمجرّده في الطريقية و الأمارية، بل الطريق في الصحيح هو الشهوة و الدفق،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 8، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 8، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 16

..........

______________________________

و حيث إنّ المريض فاقد للأمر الثاني، فالطريق بالإضافة إليه هي الشهوة فقط.

و عليه فعدم الدفق في غير المريض، لا يكون أمارة على العدم حتّى يتحقّق التعارض بينه و بين الأمارة على الثبوت، بل يوجب عدم ثبوت الطريق، كيف؟! و لو كان الوجه في عدم الحكم بكون الخارج منيّاً إذا خرج من الصحيح مع الشهوة بلا دفق هو تعارض الأمارتين، لكان اللازم الرجوع مع التعارض إلى أصالة البراءة، أو استصحاب عدم الجنابة، ضرورة أنّه بمجرّد التعارض لا وجه للحكم بعدم كونه منيّاً موجباً للغسل، مع أنّه ليس في الصحيحين إشعار بذلك.

و الإنصاف: أنّه لا مجال لإنكار دلالة الصحيحين على مدخلية الشهوة و الدفق معاً، بالإضافة إلى الصحيح، و عليه فمنافاتهما لظاهر صدر صحيحة علي بن جعفر (عليه السّلام) إنّما هي من جهة دلالته على اعتبار أُمور ثلاثة، و دلالتهما على اعتبار أمرين فقط. كما أنّ أحد وجهي المنافاة بين الصدر و الذيل فيه أيضاً ذلك.

نعم، الأمران في الصحيحين هما الشهوة و الدفق، و في ذيل الصحيحة هما الشهوة و الفترة.

و الذي يقوّى في النظر في مقام دفع المنافاة أن يقال: إنّ ظهور ذيل الصحيحة في عدم اعتبار اجتماع الأوصاف الثلاثة، ليس بحيث يقاوم ظهور الصدر في اعتباره، و ما ذكر من كونه تعبيراً عمّا يفهم من الصدر، فهو إنّما يتمّ بالإضافة إلى بعض المصاديق.

و بعبارة أُخرى: الجمع العرفي بين الصدر و الذيل يقضي ببقاء الصدر على ظهوره، و حمل الذيل على كون موضوعه بعض مصاديق مفهوم الشرطية الاولى، و عدم التعرّض للبعض الآخر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 17

..........

______________________________

و أمّا الصحيحان فهما و

إن كانا ظاهرين في اعتبار أمرين فقط على ما عرفت، إلّا أنّ ظهور الصحيحة في اعتبار أُمور ثلاثة، أقوى من ظهورهما. كما أنّ مقتضى الجمع بينهما و بين ذيل الصحيحة لو ابقي على ظاهره هو الحمل على اعتبار تلك الأُمور.

فالمتحصّل حينئذٍ من مجموع الروايات الواردة في المقام: هو ما اختاره في المتن.

نعم، هنا روايتان أُخريان ظاهرتان في اعتبار أمر واحد، و هو الفتور كما في إحداهما، و الدفق كما في الأُخرى، و هما مرسلة ابن رباط، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

يخرج من الإحليل المنيّ، و المذي، و الودي، و الوذي، فأمّا المنيّ فهو الذي يسترخي له العظام، و يفتر منه الجسد، و فيه الغسل ..

الحديث. «1» و ما يدلّ على أنّ المنيّ هو الماء الدافق. «2» في اعتبار الشهوة فقط في المريض هذا، و لكنّ الظاهر أنّ المرسلة إنّما هي بصدد بيان الفرق بين المياه المشتركة في الخروج مع الشهوة، و إلّا لكان اللازم ذكر البول أيضاً، فاعتبار الشهوة محفوظ في الجميع.

مع أنّ الرواية لا يظهر منها اختصاص المنيّ بخصوصية واحدة، و هكذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 16.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 18

..........

______________________________

الرواية الثانية. و على تقديره، فأقوائية ظهور صدر الصحيحة يقتضي الحمل على بيان بعض الخصوصيات.

فينقدح من جميع ما ذكرنا: أنّه لا محيص عن الالتزام باعتبار اجتماع الأوصاف الثلاثة، على تقدير إمكان الانفكاك بينها.

نعم، لا ينبغي ترك الاحتياط فيما لو تحقّق اثنان منها، أو واحد. نعم على هذا التقدير لا اعتبار بالرائحة بعد عدم الدليل عليها أصلًا، هذا في الرجل

الصحيح.

و أمّا المريض، فمقتضى الصحيحين المتقدّمين كفاية وجدان الشهوة، و يدلّ عليه أيضاً صحيحة معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل احتلم، فلمّا انتبه وجد بللًا قليلًا.

قال

ليس بشي ء، إلّا أن يكون مريضاً فإنّه يضعف، فعليه الغسل.

«1» و بهذه الروايات يقيّد إطلاق صحيحة علي بن جعفر الظاهرة في اعتبار اجتماع أُمور ثلاثة، و يحمل على الصحيح.

نعم، هنا رواية ظاهرة في وجوب الغسل على المريض و لو لم ير في ثوبه شيئاً، و هي صحيحة محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): رجل رأى في منامه فوجد اللذّة و الشهوة، ثمّ قام فلم ير في ثوبه شيئاً.

قال فقال

إن كان مريضاً فعليه الغسل، و إن كان صحيحاً فلا شي ء عليه.

«2» قال في محكيّ «الحدائق»: «إنّ هذه الرواية لا تخلو من إشكال؛ لتضمّنها وجوب الغسل على المريض بمجرّد وجود اللذّة و الشهوة مع عدم رؤية شي ء بعد

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 8، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 8، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 19

..........

______________________________

انتباهه، و لم يذهب إليه ذاهب من الأصحاب، و لم يرد به خبر آخر في الباب، بل ربّما دلّت الأخبار بخلافه».

و قد نفى البعد في «المصباح» عن أن يكون المراد بالرواية ما لو أحسّ وجود شي ء في المجرى، بحيث يعلم عادة بأنّه يخرج فيما بعد و لو مع البول، كما هو الغالب في مفروض السائل، إذ قلّما ينفكّ وجدان اللذّة و الشهوة، ما لم يخرج الماء عن إحساس انتقاله إلى محلّ سيخرج بالبول و نحوه. و ربّما تحمل الرواية على الاستحباب.

و أمّا المرأة، فمقتضى النصوص الكثيرة

الواردة فيها بعد حمل مطلقها على مقيّدها هو كفاية الإنزال مع الشهوة، و مورد الروايات الدالّة على اعتبار أمرين، أو أزيد، هو الرجل كما عرفت.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ مورد مثل صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة الدالّة على اعتبار اجتماع أُمور ثلاثة، و إن كان هو الرجل، إلّا أنّ العرف لا يفهم منها الاختصاص به بل المتفاهم عندهم هو اعتبار ذلك مطلقاً، من دون فرق بين الرجل و المرأة، و عليه فلا بدّ من حمل الروايات الدالّة على كفاية الإنزال مع الشهوة على لزوم ضمّ الوصفين الآخرين أيضاً لو قلنا بإمكان الانفكاك.

هذا، و لكنّ الفتوى باختلافهما كما يظهر من كثير من الأصحاب، خصوصاً مع عدم تحقّق الدفع بالإضافة إليهنّ نوعاً توجب عدم جواز إلغاء الخصوصية من مثل صحيحة ابن جعفر، و الاقتصار على خصوص الرجل، و إبقاء تلك الروايات الدالّة على كفاية الإنزال مع الشهوة على ظاهرها، من كون موردها المرأة. و لكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 20

..........

______________________________

و ممّا ذكرنا انقدح أقوائية مراعاة الاحتياط في المرأة بالنسبة إلى الرجل المريض. هذا تمام الكلام في السبب الأوّل من السببين الموجبين للجنابة.

في سببية الجماع للجنابة و أمّا السبب الثاني، فهو الجماع و إن لم يتحقّق الإنزال، قال في «الجواهر»: «إجماعاً محصّلًا، و منقولًا مستفيضاً، كاد يكون متواتراً، بل هو كذلك».

و النصوص الدالّة عليه كثيرة، مثل صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته متى يجب الغسل على الرجل و المرأة؟

فقال

إذا أدخله فقد وجب الغسل، و المهر، و الرجم.

«1» و رواية البزنطي صاحب الرضا (عليه السّلام) في محكيّ كتاب «النوادر» قال: سألته ما

يوجب الغسل على الرجل و المرأة؟

فقال

إذا أولجه وجب الغسل، و المهر، و الرجم.

«2» و صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: سألت الرضا (عليه السّلام) عن الرجل يجامع المرأة قريباً من الفرج، فلا ينزلان، متى يجب الغسل؟

فقال

إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل.

فقلت: التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة؟

قال

نعم.

«3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 6، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 6، الحديث 8.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 6، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 21

..........

______________________________

و غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه. و الحصر فيما عن علي (عليه السّلام) من قوله

إنّما الغسل من الماء الأكبر

، فهو إضافي بالنسبة إلى مجرّد الاحتلام من دون خروج المنيّ، أو بالإضافة إلى المذي و نحوه، فلا ينافي ما يدلّ على سببية التقاء الختانين للغسل.

فلا إشكال في أصل الحكم في الجملة، إنّما الكلام في أُمور:

حكم الجماع في الدبر أحدها: أنّه هل الحكم يختصّ بالجماع في القبل، أو يعمّ الدبر أيضاً، قد نسب الثاني إلى الأشهر، بل المشهور، بل عن ابن إدريس أنّه إجماع بين المسلمين، و عن السيّد أنّه قال: «لم أعلم خلافاً بين المسلمين في أنّ الوطي في الموضع المكروه من ذكر و أُنثى يجري مجرى الوطي في القبل مع الإيقاب و غيبوبة الحشفة في وجوب الغسل على الفاعل و المفعول به، و إن لم يكن إنزال ..».

و لكن قد يظهر الخلاف من الصدوق في «الفقيه»، و الشيخ، و الكليني في «التهذيبين»، و تردّد الشيخ في طهارة «المبسوط» و «الخلاف»، و تبعه «المنتهى» و «كشف الرموز» و بعض متأخّري المتأخّرين.

و يدلّ على المشهور مضافاً إلى ما استدلّ به المرتضى

في ذيل عبارته المتقدّمة من الإجماع، و القرآن، و هو قوله تعالى أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ، و الأخبار المتضمّنة لتعليق الغسل على الجماع، و الإيلاج في الفرج؛ نظراً إلى أنّ «الفرج» يتناول القبل و الدبر، و لا خلاف بين أهل اللغة و أهل الشرع في ذلك مرسل حفص بن سوقة، عمّن أخبره، الذي رواه عنه ابن أبي عمير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يأتي أهله من خلفها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 22

..........

______________________________

قال

هو أحد المأتيين، فيه الغسل.

«1» و أُورد على الإجماع: بعدم كون المنقول منه حجّة، خصوصاً فيما إذا صرّح الناقل بوجود المخالف في عصره، و سماعه منه.

و على الاستدلال لذلك بالقرآن، بأنّه بعد العلم بعدم كون المراد هو مطلق الملامسة، لا بدّ من أن يكون المقصود هي الملامسة المعهودة، و قد ورد في تفسيرها عن الباقر (عليه السّلام)

أنّه ما يريد بذلك إلّا المواقعة في الفرج

و الظاهر انصراف «الفرج» إلى ما يتعارف وطيه، و هو القبل فقط، فالآية لا دلالة لها على التعميم.

و بهذا يورد على الاستدلال بالأخبار؛ لانصراف

الفرج

فيها إلى خصوص القبل، و انصراف

الإيلاج

و

الإدخال

إلى المتعارف، و هو الوطي فيه.

و أمّا المرسلة فمردودة بالإرسال، و عدم ثبوت الجابر لها؛ لعدم ثبوت استناد المشهور إليها في الحكم بالتعميم، و من الممكن أن يكون مستندهم إطلاق الروايات المتضمّنة لتعليق وجوب الغسل على الإيلاج و الإدخال.

مضافاً إلى ثبوت المعارض لها؛ و هي مرفوعة البرقي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

إذا أتى الرجل المرأة في دبرها فلم ينزلا فلا غسل عليهما، و إن أنزل فعليه الغسل، و لا غسل عليها.

«2» و مرفوعة بعض الكوفيين عنه (عليه

السّلام) في الرجل يأتي المرأة في دبرها و هي صائمة. قال

لا ينقض صومها، و ليس عليها غسل.

«3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 12، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 12، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 12، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 23

..........

______________________________

و ربّما يؤيّد ذلك صحيحة الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يصيب المرأة فيما دون الفرج، أ عليها غسل إن هو أنزل و لم تنزل هي؟

قال

ليس عليها غسل، و إن لم ينزل هو فليس عليه غسل.

«1» بناء على انصراف «الفرج» إلى خصوص القبل، و عليه فإطلاق ما دون الفرج يشمل الوطي في الدبر أيضاً.

و أمّا ما في صحيحة زرارة من قول علي (عليه السّلام) في جواب سؤال عمر عن الرجل يأتي أهله فيخالطها و لا ينزل

أ توجبون عليه الحدّ و الرجم، و لا توجبون عليه صاعاً من الماء؟! إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل.

«2» فليس المراد منه الملازمة بين الغسل و مطلق ما عليه الحدّ، بل المراد منه أنّ مجامعة المرأة التي هي مورد الرواية ملزوم لأمرين: استحقاق حدّ الزنا على تقدير الحرمة، و وجوب الغسل، فلا دلالة للصحيحة على وجوب الغسل في الوطي في الدبر.

هذا، و لكنّ الظاهر أنّه لا محيص عن الالتزام بما عليه المشهور من وجوب الغسل فيه مع عدم الإنزال أيضاً؛ لأنّ دعوى الانصراف في الآية و الروايات ممنوعة جدّاً، بعد شهادة اللغة و الشرع بذلك.

و تفسير الآية بالمواقعة في الفرج، إنّما هو لنفي كون المراد مطلق الملامسة بمعناها العامّ، لا لنفي الوطي في الدبر أيضاً.

و الإرسال لا يقدح في المرسلة، بعد

ظهور استناد المشهور إليها، و كون مرسلها

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 11، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 6، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 24

..........

______________________________

هو ابن أبي عمير، الذي اشتهرت حجّية مراسيله، و إن كان يمكن المناقشة في ذلك: بأنّ مراسيله التي تكون حجّة، هي ما كانت الواسطة بينه و بين من يروي عنه مجهولة، و لا تشمل ما إذا كان الإرسال مستنداً إلى راوٍ آخر كما هنا، فتدبّر.

و الروايات الدالّة على عدم الوجوب مع ضعف سندها معرض عنها لدى المشهور، و على تقدير المعارضة، فالترجيح مع المرسلة.

فيما به يتحقّق الجماع ثانيها: أنّه يتحقّق الجماع بغيبوبة الحشفة في القبل، أو الدبر، كما هو صريح المتن، و الظاهر أنّه لاخلاف فيه، و يدلّ عليه مضافاً إلى أنّه لا يبعد دعوى انصراف الأخبار المتضمّنة لتعليق وجوب الغسل على الإيلاج و الإدخال، إلى إيلاجه بالبعض المعتدّ به، الذي أقلّه مقدار الحشفة الروايات الدالّة على تعليق وجوب الغسل على التقاء الختانين، كصحيحة زرارة المتقدّمة، المشتملة على قول علي (عليه السّلام)

إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل.

و صحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن الرجل يصيب الجارية البكر، لا يفضي إليها، و لاينزل عليها، أ عليها غسل؟ و إن كانت ليست ببكر، ثمّ أصابها و لم يفض إليها، أ عليها غسل؟

قال

إذا وقع الختان على الختان فقد وجب الغسل، البكر و غير البكر.

«1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 6، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 25

..........

______________________________

و قد ورد في صحيحة محمّد بن إسماعيل المتقدّمة «1» تفسير التقاء الختانين بغيبوبة الحشفة،

و معه لا مجال للإشكال على تصوّر المراد من التقاء الختانين بما قيل: من أنّ موضع ختان المرأة من أعلى الفرج، و مدخل الذكر أسفله، و هو مخرج الولد و الحيض، و بينهما ثقبة البول، فالختانان لا يتلاقيان.

و لا حاجة إلى ما ذكره في «الحدائق» من قوله: «و لعلّ توسّط ثقبة البول بين الموضعين المذكورين لا يكون مانعاً من المماسّة، و الملاصقة، و انضغاطها بدخول الذكر، فيحمل الأخبار كلّها على ظاهرها».

نعم، ربّما يشعر بعض الروايات، بل يدلّ بظاهره على مغايرة الإدخال و التقاء الختانين، و أنّه لا يجب الغسل مع ثبوت الثاني دون الأوّل، و هي رواية محمّد بن عذافر، المحكيّة عن كتاب «نوادر محمّد بن علي بن محبوب» قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) متى يجب على الرجل و المرأة الغسل؟

فقال

يجب عليهما الغسل حين يدخله، و إذا التقى الختانان فيغسلان فرجهما.

«2» و ربّما يقال في مقام دفع المنافاة بينها و بين الروايات المتقدّمة: بأنّه يحتمل قويّاً أن يكون المراد من التقاء الختانين في هذه الرواية، تلاقيهما في الظاهر من دون إدخال، بقرينة صدرها، فيكون غسل الفرجين مستحبّاً.

كما أنّه ربّما نفى البعد عن أن يكون قوله

و إذا التقى ..

تفسيراً لقوله

حين يدخله

لا أنّه جملة مستأنفة، و إلّا فلا وجه لدخول «الفاء» في الجزاء؛ لأنّه ليس من موارد دخول «الفاء».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 6، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 6، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 26

..........

______________________________

و يمكن المناقشة فيه: مضافاً إلى كونه خلاف الظاهر بأنّه بناء عليه لا يلائم الاقتصار على ذكر غسل الفرجين، من دون أن يتعقّب بقوله: «ثمّ يغتسلان» مثلًا

كما لا يخفى، و الأظهر هو الاحتمال الأوّل.

فيمن لا حشفة له ثالثها: من لا حشفة له، كما إذا قطعت جميعها، أو بعضها، يجري في حكمه احتمالات أربعة:

أحدها: ما عن المشهور بل عن بعض: عدم الخلاف فيه، بل عن شرح «الدروس»: الظاهر الاتّفاق عليه من أنّ المدار على غيبوبة مقدار الحشفة.

و عمدة ما قيل في وجهه: أنّ المستفاد من الأخبار، التي قد علّق فيها وجوب الغسل على عنوان الإيلاج، أو الإدخال، أنّ المراد من إدخال الذكر فيها، ليس إدخال جميعه، و لا مطلق الإدخال، بحيث يصدق بإدخال جزء منه، بل المراد منه إدخال مقدار معتدّ به، يتّحد ذلك المقدار في المصاديق الخارجية بالنسبة إلى الأفراد المتعارفة مع غيبوبة الحشفة، و يساعده الفهم العرفي، فلا بدّ من إدخال مقدارها؛ ليترتّب عليه وجوب الغسل.

ثانيها: ما نفى خلوّه عن القوّة في المتن؛ من تحقّق جنابته بمسمّى الإدخال و الدخول؛ نظراً إلى أنّ مقتضى إطلاق تلك الأخبار؛ كفاية الإدخال و لو بجزء منه، و القدر المسلّم من تقييدها هو غيبوبة الحشفة لواجدها، ففي غيره لا بدّ من الأخذ بالإطلاق، و الحكم بتحقّق الجنابة بمجرّد الدخول مطلقاً، و قد حكي ذلك عن «المدارك» و «كشف اللثام».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 27

..........

______________________________

ثالثها: اعتبار إدخال تمام الباقي؛ لظهور

الإدخال

في الروايات في إدخال الجميع. و الاكتفاء بإدخال الحشفة لواجدها للروايات الدالّة عليه، لا يوجب رفع اليد عن اعتبار إدخال التمام بالنسبة إلى غير الواجد.

رابعها: عدم تحقّق الجنابة فيه أصلًا؛ لترتّبها على التقاء الختانين، و غيبوبة الحشفة، و هو منتفٍ في المقام.

و بعبارة أُخرىٰ: مفهوم قوله (عليه السّلام)

إذا التقى الختانان ..

أنّه مع عدم الالتقاء لا يجب الغسل أصلًا، و

هذه القضية السالبة كما أنّها تتحقّق بانتفاء المحمول، كذلك تصدق مع انتفاء الموضوع أيضاً، فلا يجب الغسل مع انتفاء الحشفة.

و يرد على الأخير: مضافاً إلى وضوح أنّ مورد الأخبار الواردة في التقاء الختانين، صورة وجود الحشفة؛ لانصرافها إلى خصوصها منع ثبوت المفهوم للقضية الشرطية، الراجع إلى كون الشرط علّة منحصرة لترتّب الجزاء، حتّى يكون ثبوت الغسل في مورد الإنزال مع عدم التقاء الختانين في المقام، منافياً للقضية الشرطية، الدالّة على أنّه إذا التقى الختانان وجب الغسل، لدلالتها على انحصار السبب في الالتقاء، بل غاية مفادها كون الشرط علّة لترتّب الجزاء، بحيث إذا تحقّق الشرط يتحقّق الجزاء، فلا دلالة لها على نفي سببية شي ء آخر.

و عليه فالأخبار الدالّة على سببية الإيلاج و الإدخال، محكّمة في مثل المقام.

إن قلت: إنّ مقتضى الجمع بين الأخبار الظاهرة في سببية مطلق الإدخال و الإيلاج، و الأخبار الدالّة على سببية التقاء الختانين، هو تقييد الطائفة الأُولى بالطائفة الثانية؛ للعلم باتّحاد السببين، و عدم كون كلّ منهما سبباً مستقلّاً، و مقتضى ذلك عدم وجوب الغسل على من لا حشفة له؛ لعدم الدليل عليه، فأصالة البراءة تجري حينئذٍ.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 28

..........

______________________________

قلت: نعم، لو لا أنّ مورد الأخبار الثانية خصوص صورة وجود الحشفة، لما عرفت من انصرافها إليه، و معه يبقى إطلاق الطائفة الأُولى بحاله.

و يرد على الثالث: منع ظهور الإدخال و الإيلاج في المجموع، بل هو ظاهر إمّا في المسمّى، أو في المقدار المعتدّ به.

و يرد على الأوّل: منع الظهور في المقدار المعتدّ به، المتحدّ مع غيبوبة الحشفة في الأفراد المتعارفة، فإنّ الإدخال ظاهر في المسمّى الذي يتحقّق بجزء منه و لو كان أقلّ منها،

غاية الأمر أنّ اعتبار الالتقاء إنّما هو في واجدها، فلا وجه للتقدير في غيره. و لعلّه لذا جعل هذا الوجه غير خالٍ عن القوّة، كما في المتن.

نعم، في خصوص مقطوع بعض الحشفة، لا يبعد أن يكون المدار على غيبوبة تمام المقدار الباقي منها؛ لعدم وضوح الانصراف بالنسبة إليه أيضاً، فلا بدّ من أن يتحقّق الالتقاء في تحقّق الجنابة، و ترتّب وجوب الغسل.

ثمّ إنّه لا فرق في سببية الجماع لوجوب الغسل بين كونه صغيراً أو كبيراً، عاقلًا أو مجنوناً، مختاراً أو مكرهاً، و لا بين كون الموطوءة كذلك؛ لعموم السببية المستفادة من الروايات. و لا ينافي ذلك عدم وجوب الغسل على الصبي و المجنون بالفعل، بل هو واجب عليهما كغيرهما عند اجتماع شرائط التكليف. هذا بناء على القول بوجوب المقدّمة.

و أمّا بناء على القول بالعدم كما اخترناه و حقّقناه، فلا يتحقّق الوجوب و لو عند اجتماع شرائط التكليف، غاية الأمر مدخلية الغسل في صحّة العمل العبادي، المشروط بالطهارة من الحدث، و عليه فالتعبير بالوجوب كما في المتن، لا يخلو عن مسامحة إلّا أن يكون المراد هو اللزوم و اللابديّة العقلية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 29

[مسألة 2: لو رأى في ثوبه منيّاً، و علم أنّه منه و لم يغتسل بعده]

مسألة 2: لو رأى في ثوبه منيّاً، و علم أنّه منه و لم يغتسل بعده، يجب عليه قضاء الصلوات التي صلّاها بعده، و أمّا التي يحتمل وقوعها قبله فلا يجب قضائها.

و لو علم أنّه منه، و لم يعلم أنّه من جنابة سابقة اغتسل منها، أو جنابة أُخرى لم يغتسل منها، فالظاهر عدم وجوب الغسل عليه، و إن كان أحوط. (1)

______________________________

ثمّ إنّ صحّة الغسل من الصبي المميّز، تتوقّف على القول بشرعيّة عبادات الصبي و صحّتها، و

عليه فلو اغتسل الصبي المميّز يرتفع عنه حدث الجنابة، و لا تجب الإعادة بعد البلوغ، و قد مرّ الكلام في ذلك سابقاً.

(1) في من رأى في ثوبه منيّاً من رأى في ثوبه منيّاً تارة: يعلم أنّه منه، و اخرى: يشكّ في ذلك، و يحتمل أن يكون من غيره. و في الصورة الأُولى تارة: يعلم بأنّه لم يغتسل بعده، و اخرىٰ لا يعلم ذلك بل يحتمل أن يكون من جنابة سابقة اغتسل منها. ففي المسألة صور ثلاثة:

فيما إذا لم يعلم كونه منه الصورة الأُولى: ما إذا لم يعلم كون المنيّ منه، بل يحتمل أن يكون من غيره، كما إذا لم يكن الثوب مختصّاً به، و مقتضى القاعدة فيها عدم وجوب الغسل عليه؛ لاستصحاب عدم جنابته، و بقاء الطهارة من الحدث، بعد عدم صلاحية العلم الإجمالي بكونه منه أو من غيره للمنجزيّة؛ لعدم كون التكليف منجّزاً على كلّ تقدير، ضرورة أنّ جنابة الغير لا أثر لها بالإضافة إليه.

نعم، لو كان لها أثر بالنسبة إليه كما إذا أراد الاقتداء به في الصلاة فلا مجال

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 30

..........

______________________________

للرجوع إلى أصالة الطهارة؛ فإنّ العلم الإجمالي يؤثّر في تنجّز التكليف بلحاظ هذا الأثر، و أمّا بالإضافة إلى الآثار الأُخر فلا، و قد تقدّم تحقيق ذلك.

و يدلّ على أصل الحكم: مضافاً إلى كونه مقتضى القاعدة كما عرفت رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يصيب بثوبه منيّاً، و لم يعلم أنّه احتلم.

قال

ليغسل ما وجد بثوبه، و ليتوضّأ.

«1» و المراد من قوله

و ليتوضّأ

ليس هو إيجاب التوضّؤ من جهة رؤية المنيّ في ثوبه، بل نفي وجوب الغسل، و

الاكتفاء بالوضوء مع وجود سببه.

و عن الشيخ (قدّس سرّه) حمل الرواية على الثوب الذي يشاركه فيه غيره؛ جمعاً بينها و بين الروايتين الآتيتين.

أُورد عليه: بأنّ ظاهر إضافة الثوب إليه في كلام السائل، اختصاصه به، فيتعذّر الحمل على الثوب المشترك. و المتبادر من قول السائل: «و لم يعلم أنّه احتلم» عدم علمه بكون المنيّ من احتلام حادث يوجب عليه الغسل بالفعل، و غرضه بحسب الظاهر بيان كونه شاكّاً في جنابته الفعلية، بحيث يكون مكلّفاً بالغسل. و إنّما عبّر بعدم علمه بأنّه احتلم لأنّ احتمال الاحتلام هو السبب العادي للشكّ في الجنابة، فإنّ احتمال حصولها في حال اليقظة مع عدم الالتفات لا يكون احتمالًا عقلائياً، فيدلّ جواب الإمام (عليه السّلام) على عدم وجوب الغسل عليه ما لم يعلم بالجنابة، سواء نشأ شكّه من احتمال كون المنيّ الذي أصاب ثوبه من الغير، أو من بقيّة جناباته السابقة الصادرة منه التي اغتسل منها.

أقول: الظاهر أنّه كما لا وجه للحمل على خصوص الثوب المشترك، كذلك

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 10، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 31

..........

______________________________

لا وجه للحمل على خصوص الثوب المختصّ، و الإضافة لا تقتضي ذلك بعد توقّفها على أدنى الملابسة. و لكن دلالة الرواية على عدم وجوب الغسل في هذه الصورة، لا إشكال فيها على كلّ تقدير.

نعم، تعارضها روايتان أُخريان:

إحداهما: موثّقة سَماعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل ينام و لم ير في نومه أنّه احتلم، فوجد في ثوبه و على فخذه (جسده خ ل) الماء، هل عليه غسل؟

قال

نعم.

«1» و الأُخرى: موثّقته الأُخرى، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل يرى في

ثوبه المنيّ بعد ما يصبح، و لم يكن رأى في منامه أنّه قد احتلم.

قال

فليغتسل، و ليغسل ثوبه، و يعيد صلاته.

«2» و قد أفتى على طبقهما جماعة، فحكموا بوجوب الغسل في الصورة المفروضة، و قد عرفت أنّه جمع الشيخ بينهما و بين رواية أبي بصير؛ بحملهما على الثوب المختصّ، و حملها على الثوب المشترك.

هذا، و لكنّ الظاهر أنّ مورد الموثّقتين اللتين لايبعد كونهما رواية واحدة؛ و أنّ الاختلاف إنّما يكون ناشياً عن الرواة صورة العلم بخروج المنيّ منه، خصوصاً مع رؤيته على فخذه، و مع التعبير عنه بالماء الظاهر في كونه رطباً و منشأ شكّه في وجوب الغسل، هو تخيّله كون رؤية الاحتلام دخيلة في وجوب الاغتسال، لفتوى بعض العامّة باشتراط تذكّر احتلامه في النوم، أو لفتوى أبي حنيفة باشتراط خروجه من شهوة،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 10، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 10، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 32

..........

______________________________

و تحقّق الشرط مشكوك؛ لأنّه لم ير في نومه الاحتلام، أو مقطوع العدم. و عليه فموردهما يختلف مع مورد رواية أبي بصير، الواردة في مورد الشكّ في كون المنيّ منه.

إن قلت: إنّ النسبة بينها و بينهما عموم من وجه؛ لاختصاصهما بمن رأى المنيّ في ثوبه بعد الانتباه بلا فصل، و عموميتها من هذه الجهة، لأنّ موردها مطلق الشاكّ في الاحتلام، و عدم اختصاصهما بخصوص العالم؛ لأنّ ظاهر السؤال فيهما أعمّ من صورة العلم و الشمول لصورة الشكّ مع العلم بعدم الاغتسال منه، و أمّا رواية أبي بصير فتختصّ بالشاكّ، فالنسبة هي العموم من وجه.

قلت: مضافاً إلى أنّك عرفت عدم شمول الموثّقتين لصورة الشكّ أصلًا، و أنّ

الظاهر اختصاصهما بصورة العلم، و إلى عدم اختصاص الرواية بصورة الشكّ أيضاً، لشمولها لما إذا علم أنّه منه، و شكّ في وجوب الغسل عليه، لاحتمال كونه من الجنابة السابقة التي اغتسل منها إنّه على تقدير كون النسبة كذلك، تكون أقوائية ظهور الرواية في الإطلاق موجبة لتقدّمها عليهما.

و قد انقدح من ذلك: أنّ القول بكون رؤية المنيّ في الثوب المختصّ مطلقاً أو بعد الانتباه من النوم أمارة شرعية تعبّدية، حاكمة على استصحاب عدم الجنابة، في غاية الضعف، سواء كان مستنداً إلى الروايات التي قد عرفت وجه الجمع بينها، أو إلى تعرّض العلماء لذكر هذا الفرع بالخصوص؛ نظراً إلى أنّه لو لا كونها أمارة تعبّدية، لكان التعرّض له بعد بيان وجوب الغسل بخروج المنيّ مطلقاً مستدركاً، فإنّ منشأ التعرّض له هو تعرّض الروايات له و وقوع الخلاف فيه، مع أنّ المحكي عن كثير منهم تعليل ذلك بما يناسب القاعدة الظاهر في اقتضائها له، فراجع. فكيف يمكن أن يكون حكماً تعبّدياً مخالفاً لها؟! كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 33

..........

______________________________

ما إذا علم بكون المنيّ منه و أنّه لم يغتسل بعده الصورة الثانية: ما إذا علم بكون المنيّ منه، و أنّه لم يغتسل بعده، و الحكم فيه وجوب إعادة خصوص الصلوات التي تيقّن وقوعها حال الجنابة؛ لأنّ انكشاف الخلاف في الطهارة الحدثيّة موجب للإعادة كما قد تقدّم.

و أمّا الصلوات التي يحتمل وقوعها حالها فلا تجب الإعادة فيها، لقاعدة الفراغ، و استصحاب الطهارة السابقة، التي لم يعلم بارتفاعها حين الإتيان بالصلوات التي احتمل سبقها على الجنابة.

و ليس المقام من صغريات مسألة من عليه فرائض لم يحص عددها، التي نسب إلى المشهور فيها أنّه

يقضيها حتّى يحصل له القطع بالبراءة، أو الظنّ بها على الخلاف، ضرورة أنّ موضوعها صورة العلم الإجمالي بفوت بعض الصلوات، أو بطلانها، لا ما لو علم تفصيلًا ببطلان بعضها بالخصوص، و شكّ في بطلان غيره.

و عن «المبسوط» في المقام وجوب قضاء كلّ صلاة صلّاها بعد آخر غسل واقع، و لكن تعليله بالاحتياط يوجب الوهن فيه؛ لعدم كونه من موارد الاحتياط اللازم.

فيما إذا لم يعلم بكونه ممّا اغتسل منه الصورة الثالثة: ما إذا علم بكون المنيّ منه، و لكن لم يعلم أنّه من جنابة سابقة اغتسل منها، أو جنابة أُخرى لم يغتسل منها، و قد استظهر في المتن عدم وجوب الغسل عليه، و إن كان هو أحوط.

و الوجه فيه هو استصحاب الطهارة، و عدم الجنابة، و لا يجري فيه ما ذكروه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 34

..........

______________________________

في مسألة من تيقّن الطهارة و الحدث و شكّ في المتقدّم منهما، لما أفاده في «الجواهر» من الفرق الواضح بين ما نحن فيه و بين تلك المسألة؛ لأنّه في المقام لا يعلم حدوث جنابة غير الاولى، فكان الأصل عدمها، كما هو الحال في كلّ ما شكّ في تعدّده و اتّحاده، بخلاف تلك المسألة، فإنّ من المعلوم وقوع الحدث و الطهارة معاً، لكنّه جهل صفة السبق و اللحوق، و هنا لم يعلم أصل الوجود، فضلًا عن السبق و اللحوق.

و لكن ربّما يقال كما في «المصباح»: بأنّ استصحاب الطهارة معارض باستصحاب الحدث المتيقّن عند خروج المنيّ الموجود في الثوب، و لا يقدح عدم العلم بكونه مؤثّراً في إثبات التكليف؛ نظراً إلى احتمال حدوثه قبل الغسل، لأنّ المناط في الاستصحاب إحراز وجوده في هذا الحين، سواء حدث

التكليف به، أو بسبب سابق.

و لا شبهة في ثبوت الجنابة حال خروج هذا المنيّ، و وقوع الغسل عقيب الجنابة المعلوم ثبوتها في هذا الحين غير معلوم، و بعد تعارض الاستصحابين لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، القاضية بوجوب تحصيل القطع بالطهارة، التي هي شرط في الصلاة، فلا محيص عن الغسل.

و أنت خبير بأنّه لا يكون حكم المقام أشدّ ممّا إذا علم بوجود جنابة جديدة، و احتمل كونها قبل الغسل أو بعده، و قد مرّ في مبحث توارد الحالين أنّ الحكم في هذه الصورة التي يعلم تأريخ الغسل، و يجهل تأريخ الجنابة، و كانت الحالة السابقة على الحالتين هي الجنابة هو الرجوع إلى استصحاب الطهارة، و أنّه لا يعارضه استصحاب الجنابة، بعد كون أمرها دائراً بين وقوعها قبل الاغتسال فلا يؤثّر،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 35

..........

______________________________

و بعده فيؤثّر. فالعلم الإجمالي إنّما تعلّق بالسبب الأعمّ من الفعلي و الاقتضائي، فلا يترتّب عليه الأثر أصلًا.

إلّا أن يقال في مقام الإشكال على كلا الموردين: بأنّه ليس الكلام في الرجوع إلى العلم الإجمالي حتّى يقال بأنّه إنّما تعلّق بالسبب الأعمّ من الفعلي و الاقتضائي، بل الكلام إنّما في الرجوع إلى الاستصحاب، و لا يعتبر في جريانه أن يكون المستصحب مترتّباً عليه الأثر الشرعي في حال وجوده، بل يكفي ترتّب الأثر عليه، بالإضافة إلى زمان الاستصحاب، و هو زمان الشكّ، و من المعلوم أنّ بقاء الحدث في هذا الزمان يترتّب عليه وجوب الغسل في المقام، و التحقيق في محلّه.

هذا، و يمكن استفادة عدم وجوب الغسل في المقام من رواية أبي بصير المتقدّمة في الصورة الأُولى، بناء على عدم اختصاص موردها بخصوص مورد الشكّ، و

شمولها لما إذا كانت الجنابة معلومة، غاية الأمر أنّه يحتمل كونها ممّا اغتسل منه و لا يعارضها الموثّقان بعد اختصاص موردهما بصورة العلم و عدم الاغتسال، كما لا يخفى.

هذا، و لكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالاغتسال؛ لعدم وضوح شمول الرواية، و عدم ظهور اختصاص جريان الاستصحاب بالطهارة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 36

[مسألة 3: إذا تحرّك المنيّ عن محلّه في اليقظة أو النوم بالاحتلام]

مسألة 3: إذا تحرّك المنيّ عن محلّه في اليقظة أو النوم بالاحتلام لا يجب الغسل ما لم يخرج، فإن كان بعد دخول الوقت، و لم يكن عنده ماء للغسل، فلا يبعد عدم وجوب حبسه، و إن لا يخلو من تأمّل مع عدم التضرّر به، فإذا خرج يتيمّم للصلاة.

نعم، إذا لم يكن عنده ما يتيمّم به أيضاً، لا يبعد وجوب حبسه إذا كان على طهارة، إلّا إذا تضرّر به، و كذا الحال في إجناب نفسه اختياراً بعد دخول الوقت، بإتيان أهله بالجماع طلباً للذّة، فيجوز لو لم يكن عنده ماء الغسل دون ما يتيمّم به، بخلاف ما إذا لم يكن عنده ما يتيمّم به أيضاً كما مرّ، و في غير إتيانها كما ذكر جوازه محل تأمّل، و إن لا يبعد. (1)

______________________________

(1) في إجناب النفس متعمّداً أمّا عدم وجوب الغسل ما دام لم يخرج المنيّ إلى الظاهر، فلما عرفت في المسألة الاولى من أنّ السبب الأوّل هو خروج المنيّ، لا مجرّد تحرّكه من محلّه، و الدليل عليه ظهور النصوص، و الفتاوى في تعليق الحكم على الخروج.

و أمّا نفي البعد عن عدم وجوب حبسه فيما إذا دخل الوقت، و لم يكن عنده ماء الغسل دون ما يتيمّم به، فلما سيأتي من الروايات الواردة في الإجناب، الدالّة على جوازه اختياراً، مع

عدم ثبوت الفرق بينه و بين المقام.

و لكن ذلك لا يخلو من تأمّل في خصوص صورة عدم التضرّر؛ لأنّه بعد عدم شمول الروايات للمقام، و احتمال الفرق، لا يبقى إلّا تفويت شرط الصلاة بعد دخول الوقت مع التمكّن من عدمه، لعدم حصول التضرّر على ما هو المفروض، فيصير كالواجد للماء الذي أتلف ماءه اختياراً، و لكن ذلك على تقدير ثبوت الفرق، و عدم كون احتماله موهوناً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 37

..........

______________________________

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا يبعد وجوب الحبس مع عدم التمكّن من التيمّم أيضاً؛ لعدم ورود الروايات في مثله، و توقّف الصلاة على الطهارة المتوقّفة عليه.

و أمّا الإجناب بإتيان الأهل بالجماع طلباً للذّة، فقد ادّعي الإجماع على جوازه، كما في محكي «المستند»، و في «الجواهر» عن «المعتبر»، و يدلّ عليه مصحّحة إسحاق بن عمّار التي رواها ابن إدريس في آخر «السرائر» قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السّلام) عن الرجل يكون مع أهله في السفر، فلا يجد الماء يأتي أهله.

فقال

ما أحبّ أن يفعل ذلك، إلّا أن يكون شبقاً، أو يخاف على نفسه.

قلت: يطلب بذلك اللذّة؟

قال

هو حلال.

قلت: فإنّه روي عن النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أنّ أبا ذر سأله عن هذا فقال

ائت أهلك تؤجر.

فقال: يا رسول اللّٰه، و اوجر؟

قال

نعم، إنّك إذا أتيت الحرام أزرت، فكذلك إذا أتيت الحلال أُجرت.

فقال

أ لا ترى أنّه إذا خاف على نفسه فأتى الحلال أُجر.

«1» و عن ظاهر عبارتي المفيد و ابن الجنيد أنّه غير جائز، و استدلّ له ببعض الروايات الدالّة على وجوب الغسل على من أجنب نفسه و إن تضرّر، مثل مرفوعة أحمد، عن أبي عبد

اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن مجدور أصابته جنابة.

قال

إن كان أجنب هو فليغتسل، و إن كان احتلم فليتيمّم.

«2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 27، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 17، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 38

..........

______________________________

و مرفوعة إبراهيم بن هاشم قال

إن أجنب فعليه أن يغتسل على ما كان منه، و إن احتلم تيمّم.

«1» و رواية سليمان بن خالد، و أبي بصير، و عبد اللّٰه بن سليمان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه سئل عن رجل كان في أرض باردة يتخوّف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل، كيف يصنع؟

قال

يغتسل و إن أصابه ما أصابه.

قال: و ذكر أنّه كان وجعاً، شديد الوجع، فأصابته جنابة و هو في مكان بارد، و كانت ليلة شديدة الريح باردة،

فدعوت الغلمة، فقلت لهم: احملوني، فاغسلوني، فقالوا: إنّا نخاف عليك، فقلت لهم: ليس بدّ، فحملوني و وضعوني على خشبات، ثمّ صبّوا عليّ الماء فغسلوني.

«2» و المراد من إصابة الجنابة في الأخيرة هو الجنابة الاختيارية؛ للنصّ الوارد الدالّ على عدم احتلام الإمام (عليه السّلام).

هذا، و لكن وجوب الغسل في هذه الصورة لا يلازم حرمة الإجناب بوجه، كيف و الرواية الأخيرة واردة في إجناب الإمام (عليه السّلام) نفسه، و يمتنع عليه فعل الحرام؛ لأنّه قد عصمه اللّٰه تعالى عن المخالفة و ارتكاب المعصية، كما أنّ علمه بوجعه و التضرّر بالغسل ممّا لا ينبغي الارتياب فيه، مع أنّ أصل الحكم و هو وجوب الغسل و لو مع التضرّر لا بدّ من البحث فيه، كما سيأتي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 7، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 17، الحديث 3.

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 39

..........

______________________________

كلّ ذلك مضافاً إلى أنّ صراحة الرواية المتقدّمة في الجواز لا تبقي مجالًا للشكّ في تقدّمها على هذه الروايات كما هو واضح، هذا كلّه مع وجود ما يتيمّم به، كما هو مفروض الرواية.

و أمّا مع عدمه أيضاً فلا وجه لجوازه؛ لعدم دلالة دليل عليه، مع أنّ مقتضى القاعدة المنع؛ لأنّه تفويت للصلاة المشروطة بالطهارة، هذا بالنسبة إلى إتيان الأهل.

و أمّا الإجناب بغيره الخارج عن مورد الروايات، فربّما يتأمّل في جوازه؛ نظراً إلى خروجه عنه، و لكنّه لا يبعد دعوى عدم الفرق بين الموارد، و كون الملاك هو صيرورة الشخص جنباً اختياراً، سواء كان بإتيان الأهل أو بغيره، أو كان بالاحتلام أو بغيره، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 41

[القول في أحكام الجنب]

اشارة

القول في أحكام الجنب

[منها: أنّه يتوقّف على الغسل من الجنابة أُمور]

منها: أنّه يتوقّف على الغسل من الجنابة أُمور بمعنى أنّه شرط في صحّتها:

الأوّل: الصلاة بأقسامها، عدا صلاة الجنازة، و كذا لأجزائها المنسية، و الأقوى عدم الاشتراط في سجدتي السهو، و إن كان أحوط.

الثاني: الطواف الواجب، بل لا يبعد الاشتراط في المندوب أيضاً.

و الثالث: صوم شهر رمضان و قضائه، بمعنى بطلانه إذا أصبح جنباً متعمّداً، أو ناسياً للجنابة.

و أمّا سائر أقسام الصيام فلا تبطل بالإصباح جنباً في غير الواجب منها، و لا يترك الاحتياط في ترك تعمّده في الواجب منها.

نعم، الجنابة العمدية في أثناء النهار تبطل جميع أقسام الصيام حتّى المندوب منها، و غير العمدية كالاحتلام لا يضرّ بشي ء منها حتّى صوم شهر رمضان. (1)

______________________________

(1) ما يتوقّف على الغسل قد تقدّم البحث في اعتبار الطهارة الحدثية في الصلاة و الطواف في فصل غايات الوضوء فراجع، و الذي يزيد هنا استثناء صلاة الجنازة، فإنّها لا تكون مشروطة بها، لما سيأتي من النصوص الكثيرة، الدالّة على جواز إيقاعها على غير طهور و على غير وضوء.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 42

..........

______________________________

في توقّف صوم شهر رمضان و قضائه و أمّا صوم شهر رمضان و قضائه فاشتراط صحّتهما بالغسل من الجنابة، بمعنى بطلانهما إذا أصبح جنباً متعمّداً، أو ناسياً للجنابة، فقد صرّح به في المتن، و لا بدّ من ملاحظة الدليل و الفتاوى في كلّ واحدة من صوره.

فنقول: أمّا صورة العمد في شهر رمضان فالاشتراط فيها هو المشهور، بل عليه الإجماع عن جماعة، و في «الجواهر»: يمكن دعوى تواتر نقله، و أنّ الحكم فيه من القطعيات، و يدلّ عليه جملة من النصوص، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في

رجل احتلم أوّل الليل، أو أصاب من أهله، ثمّ نام متعمّداً في شهر رمضان حتّى أصبح.

قال

يتمّ صومه ذلك، ثمّ يقضيه إذا أفطر من شهر رمضان، و يستغفر ربّه.

«1» و رواية سليمان بن جعفر (حفص) المروزي، عن الفقيه (عليه السّلام) قال

إذا أجنب الرجل في شهر رمضان بليل، و لا يغتسل حتّى يصبح، فعليه صوم شهرين متتابعين مع صوم ذلك اليوم، و لا يدرك فضل يومه.

«2» و غيرهما من الروايات الدالّة على وجوب القضاء، أو مع الكفّارة، أو الكفّارة وحدها من دون التعرّض للقضاء، الظاهرة في البطلان أيضاً، كما هو غير خفيّ.

و تعارض هذه الروايات جملة أُخرى منها، كصحيحة حبيب الخثعمي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

كان رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) يصلّي صلاة الليل في شهر رمضان، ثمّ يجنب، ثمّ يؤخّر الغسل متعمّداً حتّى يطلع الفجر.

«3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 16، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 16، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 16، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 43

..........

______________________________

و رواية عيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل أجنب في شهر رمضان في أوّل الليل، فأخّر الغسل حتّى طلع الفجر.

فقال

يتمّ صومه، و لا قضاء عليه.

«1» و رواية أبي سعيد القمّاط، أنّه سئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عمّن أجنب في شهر رمضان في أوّل الليل، فنام حتّى أصبح.

قال

لا شي ء عليه، و ذلك أنّ جنابته كانت في وقت حلال.

«2» و رواية ابن رئاب المحكية عن «قرب الإسناد» قال: سئل أبو عبد اللّٰه

(عليه السّلام) و أنا حاضر عن الرجل يجنب بالليل في شهر رمضان، فينام و لا يغتسل حتّى يصبح.

قال

لا بأس، يغتسل، و يصلّي، و يصوم.

«3» و غير ذلك من الروايات الظاهرة في ذلك.

و لكن قال صاحب «الوسائل» بعد نقلها: «إن كان المراد من هذه الأحاديث ظاهرها، وجب الحمل على التقية في الفتوى، أو في الرواية، لما يأتي، ذكره الشيخ و غيره، و استشهدوا له بإسناده إلى عائشة كما في بعضها و بعضه يحتمل الحمل على تعذّر الغسل، و بعضه يحتمل النسخ، و بعضه يحتمل الحمل على أنّ المراد بالفجر الأوّل، جمعاً بينه و بين ما يأتي، و لما هو معلوم من وجوب صلاة الليل على النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 13، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 13، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 13، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 44

..........

______________________________

و بعض هذه الاحتمالات و إن كان مخدوشاً، بل ممنوعاً، كاحتمال النسخ، إلّا أنّ البعض الآخر لا مانع من الالتزام به، كما أنّه يمكن حمل بعض الروايات على غير صورة العمد.

و على تقدير المناقشة في الجميع لا محيص عن طرحها، بعد كون الطائفة الأُولى مفتىً بها للمشهور، بل الجميع، و قد مرّ مراراً أنّ أوّل المرجّحات هي الشهرة في الفتوى، فلا يبقى إشكال في الحكم في هذه الصورة.

و أمّا صورة النسيان في شهر رمضان، فالمحكي عن الأكثر فيها هو البطلان للروايات الدالّة عليه، كصحيحة الحلبي عن الصادق (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال: سئل أبو عبد اللّٰه

(عليه السّلام) عن رجل أجنب في شهر رمضان، فنسي أن يغتسل حتّى خرج شهر رمضان.

قال

عليه أن يغتسل، و يقضي الصلاة و الصيام.

«1» و رواية إبراهيم بن ميمون قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب بالليل في شهر رمضان، فنسي أن يغتسل حتّى تمضي بذلك جمعة، أو يخرج شهر رمضان.

قال

عليه قضاء الصلاة و الصوم.

«2» و عن الحلّي و جماعة الصحّة في هذه الصورة، و في محكي «الشرائع» أنّه الأشبه، و لعلّه إمّا لحديث رفع النسيان، الذي لا مجال له مع التصريح بالتعميم لصورة النسيان، كما عرفت دلالة النصّ عليه، أو لما دلّ على الصحّة مع غلبة النوم، و هو كما ترى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 39، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 17، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 45

..........

______________________________

و أمّا صورة التعمّد في قضاء شهر رمضان، فالمنسوب إلى المشهور أيضاً ذلك، و يدلّ عليه ما عن الصدوق و الشيخ في الصحيح، عن عبد اللّٰه بن سنان أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يقضي شهر رمضان، فيجنب من أوّل الليل، و لا يغتسل حتّى يجي ء آخر الليل، و هو يرى أنّ الفجر قد طلع.

قال

لا يصوم ذلك اليوم، و يصوم غيره.

«1» و مثله ما رواه الكليني، عن ابن سنان، و لا تكون تلك رواية مستقلّة، و إن جعلها في «الوسائل» كذلك. «2» و موثّقة سَماعة بن مهران قال: سألته عن رجل أصابته جنابة في جوف الليل في رمضان، فنام و قد علم بها و لم يستيقظ حتّى أدركه الفجر.

فقال (عليه السّلام)

عليه أن يتمّ صومه، و يقضي يوماً

آخر.

فقلت: إذا كان ذلك من الرجل و هو يقضي رمضان.

قال

فليأكل يومه ذلك، و ليقض، فإنّه لا يشبه رمضان شي ء من الشهور.

«3» و المراد بقوله (عليه السّلام)

لا يشبه رمضان شي ء من الشهور

يحتمل أن يكون أنّ القضاء ليس حاله حال الأداء في شهر رمضان حتّى يجب الإمساك و القضاء معاً، و يحتمل أن يكون اختصاص عدم جواز البقاء على الجنابة بصوم رمضان أداءً و قضاءً، كما اختاره غير واحد من متأخّري المتأخّرين.

و بالجملة: فلا إشكال في البطلان في صورة التعمّد في قضاء شهر رمضان.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 19، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 19، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 19، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 46

..........

______________________________

و أمّا ما حكي عن «المعتبر» من قوله: لقائل أن يخصّ هذا الحكم برمضان دون غيره من الصيام، فالظاهر عدم كون المراد به هو خصوص أدائه، بل أعمّ منه و من القضاء.

و أمّا صورة النسيان في قضاء شهر رمضان، فالظاهر أنّه لا دليل عليها بالخصوص، نعم يمكن أن يقال بدلالة إطلاق صحيحة ابن سنان المتقدّمة في الصورة السابقة على البطلان في هذه الصورة أيضاً، فإنّ عدم الاغتسال إلى أن يجي ء آخر الليل يجتمع مع النسيان أيضاً، و يؤيّده ما يدلّ على مساواة القضاء للأداء.

فالمستفاد من جميع ما ذكرنا: أنّ صوم رمضان لا يكاد يجتمع مع الإصباح جنباً، من دون أن يكون هناك فرق بين الأداء و القضاء، و لا بين التعمّد و النسيان.

بقي الكلام في أمرين: الأوّل: صيام غير رمضان من سائر الأنواع.

و هو على قسمين؛ لأنّه تارة يكون

واجباً، و اخرى مستحبّاً.

أمّا المستحبّ: فقد صرّح في المتن بعدم كون الإصباح جنباً مبطلًا له، و لكنّه قد نسب إلى ظاهر المشهور عدم الفرق في الفساد بالبقاء على الجنابة عمداً، بين صوم شهر رمضان و غيره من أنواع الصيام.

نعم، قد عرفت عبارة المعتبر الدالّة على احتمال الاختصاص به.

و ربّما يقال في توجيه كلام المشهور أنّ المتبادر من الصوم في جميع الموارد التي تعلّق به أمر ندبي، أو وجوبي، ليس إلّا إرادة الماهية المعهودة، التي أوجبها الشارع في شهر رمضان، فورود النصّ في خصوص شهر رمضان لا يوجب قصر الحكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 47

..........

______________________________

عليه، بعد أنّ المتبادر من الأمر به في جميع الموارد ليس إلّا العبادة المخصوصة التي أوجبها الشارع.

هذا، و لكن يدفع ذلك دلالة جملة من النصوص على عدم الفساد، كرواية حبيب الخثعمي قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أخبرني عن التطوّع، و عن (صوم) هذه الثلاثة الأيّام إذا أجنبت من أوّل الليل، فأعلم أنّي أجنبت، فأنام متعمّداً حتّى ينفجر الفجر، أصوم أو لا أصوم؟

قال

صُم.

«1» و موثّقة ابن بكير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب، ثمّ ينام حتّى يصبح، أ يصوم ذلك اليوم تطوّعاً؟

فقال

أ ليس هو بالخيار ما بينه و نصف النهار؟!.

«2» و موثّقته الأُخرى، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سئل عن رجل طلعت عليه الشمس و هو جنب، ثمّ أراد الصيام بعد ما اغتسل، و مضى ما مضى من النهار.

قال

يصوم إن شاء، و هو بالخيار إلى نصف النهار.

«3» و هذه الروايات كما ترى صريحة في عدم كون البقاء على الجنابة مانعاً عن الصوم تطوّعاً، بل مقتضى

ترك الاستفصال في الأخيرة، و مقتضى ما يفهم ممّا هو بمنزلة التعليل في التي قبلها، جوازه في الواجب غير المعيّن أيضاً.

و أمّا الواجب: فلم يرد فيه نصّ بالخصوص، سيّما في المعيّن منه، و ما تقدّم في

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 20، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 20، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 20، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 48

..........

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 48

______________________________

توجيه كلام المشهور لا يمكن الالتزام به، بعد احتمال اختصاص صوم رمضان بأحكام لا تجري في غيره، خصوصاً مع ما عرفت من عدم شرطية الطهارة من الجنابة في الصوم المندوب.

نعم، الاستفهام التقريري في الموثّقة الأُولى لابن بكير الذي هو بمنزلة التعليل لعدم الشرطية ربّما يقتضي عدم جريان الحكم في الواجب المعيّن، الذي لا يجري فيه التعليل؛ لعدم ثبوت الخيار فيه ما بينه و نصف النهار.

و لكن ربّما يستشكل في أصل التعليل، بأنّه إنّما يناسب هذا الحكم لو كان الصوم قابلًا للتبعيض، و لم يكن فعل المنافيات في أوّل اليوم منافياً لاختيار الصوم بعده.

و لكنّه محل نظر؛ لأنّ الصوم لا يتبعّض، و امتداد خياره مشروط بعدم حصول شي ء ممّا يجب على الصائم الإمساك عنه، فلا يصلح حينئذٍ أن تكون توسعة زمان اختيار عنوان الصوم علّة لنفي البأس عن الإصباح جنباً، اللهمّ إلّا أن يكون شرط صحّة الصوم الاجتناب عن البقاء جنباً

حين إحداث النية المعتبرة في صحّته، لكن مقتضاه شرطية الطهارة في المندوب أيضاً، غاية الأمر أنّ زمانها موسّع بتوسعة زمان اختيار عنوانه، و هذا مخالف لظاهر الفتاوى، و سائر النصوص، كرواية الخثعمي المتقدّمة.

و عليه فالتعليل الواقع في الموثّقة لا يخلو عن تشابه، فلا يجوز التعدّي عن مورده، و هو الصوم تطوّعاً، كما أنّه لا يجوز الالتزام بكونه مخصّصاً للحكم بالنسبة إلى مجراه، فالواجب المعيّن يبقى بلا دليل، فيحتمل أن يكون ملحقاً بالمندوب، و يحتمل أن يكون ملحقاً بصوم رمضان، و حيث لا دليل على التعيين فالمرجع أصالة عدم الاشتراط، الموجبة لمساواته للمندوب.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 49

..........

______________________________

و أمّا الواجب غير المعيّن: فيدلّ على عدم الشرطية فيه مضافاً إلى التعليل الواقع في الموثّقة الأُولى ترك الاستفصال في الموثّقة الثانية.

و لكن في التعليل ما عرفت من الإشكال، و في ترك الاستفصال أنّه لا يبعد دعوى الانصراف إلى المندوب لو لم نقل بانصراف السؤال في حدّ ذاته إليه، مع أنّه من المعلوم عدم إرادة قضاء شهر رمضان منه، لما عرفت من ثبوت الاشتراط فيه، و عليه فيصير كالواجب المعيّن خالياً عن الدليل، فيجري فيه حكمه الذي ذكرناه آنفاً.

و قد نهى في المتن عن ترك الاحتياط في الصوم الواجب بترك تعمّد الإصباح جنباً فيه، و منشؤه قوّة احتمال إلغاء الخصوصية ممّا ورد في شهر رمضان أداءً و قضاءً، و قيام الدليل على العدم في المندوب لا يقدح في إلغائها بوجه، و لكنّ القوّة ممنوعة، و الظاهر عدم الاشتراط.

و على تقديره فالظاهر أنّ مراد المتن من الواجب هو الواجب بالذات.

و أمّا الواجب بالعرض كما إذا وجب بنذر و شبهه فالظاهر أنّه بحكمه قبل تعلّق

النذر به، خصوصاً على المبنى الصحيح، و هو عدم صيرورة الصوم بالنذر و شبهه واجباً؛ لأنّ متعلّق الوجوب هو عنوان الوفاء بالنذر، و لا يسري الوجوب منه إلى غيره، و لا يصير الصوم غير الواجب بسبب النذر واجباً، كما مرّ مراراً.

الأمر الثاني: الجنابة في أثناء النهار.

و هي تارة تكون عمدية، و اخرى غير عمدية.

أمّا العمدية: فقد صرّح في المتن بأنّها تبطل جميع أقسام الصيام حتّى المندوب منها، و الجماع أحد الأُمور التي يجب الإمساك عنها في الصوم، كما يدلّ عليه الكتاب و السنّة و تقتضيه الفتاوى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 50

..........

______________________________

كما أنّ مفطرية الاستمناء، و حصول المنيّ، قد نفي الخلاف فيها، بل في محكي «المدارك» و غيره دعوى الإجماع عليه صريحاً، و يدلّ عليها أيضاً نصوص كثيرة.

نعم، قد يظهر الخلاف أو التردّد في وطي دبر المرأة، أو الغلام من غير إنزال، و كذا في وطي الدابة، و التحقيق في محلّه.

و أمّا غير العمدية: فلا يكون مفسداً للصوم حتّى في شهر رمضان إجماعاً على ما ادّعاه غير واحد، و النصوص الدالّة عليه كثيرة، و قد جمعها في «الوسائل» في الباب الخامس و الثلاثين من أبواب ما يمسك عنه الصائم، فراجع.

كما أنّه لا يجب عليه البدار إلى الغسل بلا نقل خلاف فيه عن أحد، و إن كان ربّما يستشعر وجوبها من بعض الروايات الفاقدة لشرائط الحجّية، و تمام الكلام في محلّه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 51

[و منها: أنّه يحرم على الجنب أُمور]
اشارة

و منها: أنّه يحرم على الجنب أُمور:

الأوّل: مسّ كتابة القرآن على التفصيل المتقدّم في الوضوء، و مسّ اسم اللّٰه تعالى و سائر أسمائه و صفاته المختصّة به، و كذا

مسّ أسماء الأنبياء و الأئمّة (عليهم السّلام) على الأحوط.

الثاني: دخول المسجد الحرام و مسجد النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و إن كان بنحو الاجتياز.

الثالث: المكث في غير المسجدين من المساجد، بل مطلق الدخول فيها إن لم يكن مارّاً، بأن يدخل من باب و يخرج من آخر، أو دخل فيها لأجل أخذ شي ء منها فإنّه لا بأس به، و يلحق بها المشاهد المشرّفة على الأحوط، و أحوط من ذلك إلحاقها بالمسجدين، كما أنّ الأحوط فيها إلحاق الرواق بالروضة المشرّفة.

الرابع: وضع شي ء في المساجد و إن كان من الخارج، أو في حال العبور.

الخامس: قراءة سور العزائم الأربع و هي اقرأ، و النجم، و الم تنزيل، و حم السجدة و لو بعض منها حتّى البسملة بقصد إحداها. (1)

______________________________

(1) ما يحرم على الجنب قد تقدّم البحث في الأمر الأوّل من الأُمور المحرّمة على الجنب في فصل غايات الوضوء، و لا حاجة إلى الإعادة أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 52

..........

______________________________

دخول المسجدين و أمّا الأمر الثاني: و هو دخول المسجدين، و إن كان بنحو الاجتياز، فقد ادّعي الإجماع على حرمته على الجنب، كما عن «الغنية» و «المعتبر» و «المدارك» و عن «الحدائق» نفي الخلاف فيه.

و يدلّ عليه نصوص كثيرة مستفيضة، كحسنة جميل أو صحيحية قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجنب، يجلس في المساجد.

قال

لا، و لكن يمرّ فيها كلّها إلّا المسجد الحرام، و مسجد الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم).

«1» و روايته اخرى، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

للجنب أن يمشي في المساجد كلّها، و لا يجلس فيها إلّا المسجد الحرام، و مسجد الرسول.

«2» و

رواية محمّد بن حمران، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن الجنب يجلس في المسجد.

قال

لا، و لكن يمرّ فيه إلّا المسجد الحرام، و مسجد المدينة ..

الحديث. «3» و صحيحة أبي حمزة قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)

إذا كان الرجل نائماً في المسجد الحرام، أو مسجد الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، فاحتلم فأصابته جنابة، فليتيمّم، و لا يمرّ في

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 53

..........

______________________________

المسجد إلّا متيمّماً، و لا بأس أن يمرّ في سائر المساجد، و لا يجلس في شي ء من المساجد.

«1» و حسنة محمّد بن مسلم أو صحيحته قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام) في حديث الجنب و الحائض

و يدخلان المسجد مجتازين، و لا يقعدان فيه، و لا يقربان المسجدين الحرمين.

«2» و مقتضى الرواية الأخيرة حرمة مطلق الكون فيهما، و إن لم يصدق عليه عنوان الاجتياز و المرور، فالتعبير بالاجتياز في كلمات جماعة ليس لأنّه أقلّ ما به يتحقّق التحريم، بل المراد به هو القرب الذي هو كناية عن مطلق الكون، كما في قوله تعالى فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ. «3» المكث في المساجد و أمّا الأمر الثالث: و هو المكث في سائر المساجد، بل مطلق الدخول فيها، فيدلّ على حرمته قوله تعالى وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا «4» بمعونة الأخبار الواردة في تفسيره، الدالّة على أنّ المراد النهي عن إتيان المساجد التي هي مواضع الصلاة في حال الجنابة.

فعن الطبرسي في «مجمع البيان»، عن أبي جعفر (عليه

السّلام) في تفسير الآية، أنّ معناه:

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 17.

(3) التوبة 28.

(4) النساء 43.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 54

..........

______________________________

لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد و أنتم جنب إلّا مجتازين.

«1» و في صحيحة زرارة و محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قالا: قلنا له: الحائض و الجنب يدخلان المسجد أم لا؟

قال

الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين، إنّ اللّٰه تبارك و تعالى يقول وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ..

الحديث. «2» و بعد ورود التفسير ممّن نزل في بيوتهم الكتاب، و تكون آراؤهم حجّة بلا ارتياب، لا يبقى مجال للمناقشة في دلالة الآية بعدم إشعار فيها على حكم المسجد، خصوصاً بعد كونه مسبوقاً بقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ حَتّٰى تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ.

و كذا تدلّ على الحرمة روايات كثيرة، تقدّم جملة منها في الأمر الثاني، و لكن مع ذلك حكي عن سلّار القول بالكراهة، و لعلّ مستنده ما يتراءى من ظاهر ما في عدّة من الأخبار المروية عن رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، الدالّة على أنّ اللّٰه كره له ستّ خصال، و عدّ منها إتيان المساجد جنباً.

و لكنّ الظاهر أنّه ليس المراد بالكراهة هي خصوص الكراهة المصطلحة، بل أعمّ منها و من الحرمة، و يؤيّده مضافاً إلى أنّ الكراهة في مقابل الحرمة اصطلاح فقهي حادث الجمع في نفس بعض هذه الأخبار بين الأشياء المكروهة و المحرّمة، كالضحك بين القبور، و الرفث في الصوم، فلا تنافي بين ظاهر الآية و الروايات الدالّة على

الحرمة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 20.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 55

..........

______________________________

نعم، ربّما يستدلّ له بصحيحة محمّد بن القاسم قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن الجنب ينام في المسجد.

فقال

يتوضّأ، و لا بأس أن ينام في المسجد، و يمرّ فيه.

«1» نظراً إلى أنّ مقتضى الجمع بينها، و بين الأخبار الناهية هو الحمل على الكراهة.

و أُورد عليه: بأنّه إن اقتصر في هذه الرواية على موردها فهي أخصّ مطلقاً من سائر الأدلّة، فيجب في مقام الجمع تخصيصها بها، و هو ينافي مطلوب سلّار، و إن تخطّى عن موردها، و استفيد منها جواز المكث مطلقاً و لو لغير النوم و المرور، فيعارضها ظاهر الآية و الأخبار الناهية.

إن قلت: إنّ مقتضى الجمع بينهما هو تقييد مطلقات الأخبار الناهية بما إذا لم يتوضّأ، فيجوز له أن يلبث في المسجد بعد الوضوء مطلقاً.

قلت: مضافاً إلى أنّه لا قائل بهذا القول منّا، و إنّما نقل عن أحمد بن حنبل أنّ التصرّف في الآية الشريفة بمثل ذلك مشكل؛ لأنّ جعل الاغتسال فيها غاية للنهي يدلّ على انحصار السبب المبيح بالغسل، و لا يساعد العرف على الجمع بتقييد إطلاق النهي، و تنزيل الغاية الظاهرة في الانحصار على عدمه.

و عليه فاللازم طرح هذه الرواية بعد مخالفتها لظاهر الكتاب و السنّة و فتوى الأصحاب، موافقتها لمذهب بعض العامّة، و قد صرّح المحقّق (قدّس سرّه) في محكي «المعتبر» بأنّها متروكة بين أصحابنا؛ لأنّها منافية لظاهر التنزيل.

نعم، حكي عن الصدوق القول بجواز نوم الجنب في المسجد من دون تعرّض للوضوء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 18.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 56

..........

______________________________

و بالجملة: لا ينبغي الإشكال في حرمة المكث في المسجد للجنب، و قد استثني من ذلك أمران:

الأوّل: المرور و الاجتياز، الذي فسّر بأن يدخل من باب و يخرج من آخر، يعني من غير مكث و توقّف، و الأصل فيه الآية الشريفة الدالّة على استثناء عابر السبيل.

و الظاهر أنّه لا يتحقّق هذا العنوان بالدخول و الخروج من باب واحد، بل اللازم أن يكون باب الدخول مغايراً لباب الخروج، بل لا يكفي مجرّد المغايرة، فإنّ عبور السبيل يقتضي وقوع البابين في طريقين، فلو كان هناك بابان في طريق واحد و قد دخل من أحدهما و خرج من آخر، لا يتحقّق عنوان عبور السبيل، هذا بالنظر إلى الآية.

و أمّا بالنظر إلى الروايات الواردة: فبعضها مشتمل على تجويز المرور بمجرّده، أو مع النهي عن الجلوس، و بعضها يدلّ على جواز المشي مع النهي عن الجلوس أيضاً، و بعضها ظاهر في النهي عن الدخول إلّا مع الاجتياز، و بعضها دالّ على كراهة إتيان المساجد جنباً بعد حملها على الحرمة، كما عرفت.

و لأجل دلالة بعضها على تجويز المشي، خصوصاً مع اشتماله على النهي عن الجلوس، ربّما يقال كما عن بعض بجواز بقائه في المسجد ماشياً في جوانبه من غير مكث و لا جلوس، بل يمكن الالتزام عليه بعدم كون المكث قائماً أيضاً بمحرّم؛ لأنّ المنهي عنه هو الجلوس فقط.

و لكن يرد عليه: أنّ استدراك المرور بعد النهي عن الجلوس في كثير منها دليل على اختصاص الجواز بالمرور، و هو لا يصدق عرفاً على مطلق المشي، إلّا أن يقال: إنّه استدراك لبعض المصاديق، و لا دلالة على الانحصار.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل

الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 57

..........

______________________________

و أمّا تجويز المشي مع النهي عن الجلوس كما في رواية واحدة فيمكن أن يقال بانصراف المشي فيها إلى المشي الذي يتحقّق به المرور و الاجتياز.

و على تقدير عدم الانصراف، لا بدّ من الحمل عليه في مقام الجمع بينها و بين سائر الروايات، مع أنّك عرفت أنّ الجمود على ظاهره يقتضي عدم تحريم القيام مع المكث أيضاً، و هو ممّا لا يلتزم به القائل.

و الذي يسهّل الخطب، أنّ العناوين الواقعة في مقام الاستثناء في الروايات، إن كانت أعمّ من العنوان الواقع في الآية الشريفة، فاللازم أن تقيّد بما في الآية، خصوصاً مع ملاحظة الاستشهاد بها في بعض الروايات المتقدّمة.

نعم، لو شكّ في المراد من العنوان الواقع في نفس الآية بأن كان مردّداً بين الأقلّ و الأكثر، فربّما يقال: إنّ المرجع أصالة البراءة، لا العمومات الناهية؛ لأنّ إجمال المخصّص يسري إلى عموم العامّ، فلا يجوز التشبّث به في مورد الشكّ، و الاقتصار على الأقلّ في المخصّص المجمل إنّما هو إذا كان في كلام منفصل، لا في مثل المقام.

و لكنّه يتمّ على تقدير أن لا يكون في المقام عموم خالٍ عن التخصيص أصلًا، مع أنّه قد عرفت دلالة بعض الروايات على العموم من غير استثناء، و لكنّ الذي يوجب عدم الحاجة إلى هذه المباحث عدم كون العنوان المأخوذ في الآية مشكوك المراد؛ إذ قد عرفت ظهوره في الدخول من باب، و الخروج من آخر مغاير له من حيث الطريق، فتدبّر.

الثاني: الدخول في المسجد لأخذ شي ء منه، و يدلّ على الجواز روايات متعدّدة، كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجنب و الحائض، يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه.

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 58

..........

______________________________

قال

نعم، و لكن لا يضعان في المسجد شيئاً.

«1» و ذيل صحيحة زرارة و محمّد بن مسلم، المتقدّمة الواردة في الحائض و الجنب المشتمل على قول أبي جعفر (عليه السّلام)

و يأخذان من المسجد، و لا يضعان فيه شيئاً.

قال زرارة قلت له: فما بالهما يأخذان منه و لا يضعان فيه؟

قال

لأنّهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلّا منه، و يقدران على وضع ما بيدهما في غيره.

«2» و رواه علي بن إبراهيم في «تفسيره» مرسلًا، عن الصادق (عليه السّلام) إلّا أنّه قال

يضعان فيه الشي ء، و لا يأخذان منه.

فقلت: ما بالهما يضعان فيه، و لا يأخذان منه؟

فقال

لأنّهما يقدران على وضع الشي ء فيه من غير دخول، و لا يقدران على أخذ ما فيه حتّى يدخلا.

«3» و هل المراد من الروايات تجويز الدخول بقصد أخذ الشي ء من المسجد؟

أو أنّ المراد تجويز نفس الأخذ و إن كان الدخول الذي يتوقّف الأخذ عليه محرّماً؟

و على الأوّل: تكون هذه الروايات مخصّصة لعموم الكتاب و السنّة، الدالّ على حرمة المكث في المسجد و الدخول فيه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 17، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 17، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 17، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 59

..........

______________________________

و على الثاني: لا ارتباط لها بالعموم أصلًا.

و قد حكي عن بعض التصريح بالثاني، و لكنّ التأمّل فيها يقضي بكون المراد هو تحليل الدخول بقصد الأخذ، فإنّ المتبادر من السؤال في صحيحة ابن سنان إنّما هو السؤال عن دخوله لأن يتناول المتاع، فالجواب بقوله (عليه السّلام): «نعم» يدلّ على جواز ذلك، و

كذا المتبادر من التعليل في صحيحة زرارة و محمّد بن مسلم، هو أنّه حيث يحتاج إلى المتاع في المسجد، و هو لا يمكن أخذه بدون الدخول، فلا مانع من الدخول بقصده.

و من المعلوم أنّ المراد بالضرورة فيها هي الضرورة العرفية، لا الضرورة المحلّلة للمحرّم بمقتضى حديث رفع

ما اضطرّوا إليه.

و بعبارة أُخرى: ليس المراد هو حلّية الدخول لأجل الاضطرار الحاصل إلى أخذ المتاع المتوقّف عليه، بل المراد هو حلّيته لأجل احتياجه عرفاً إلى المتاع فيه، و لا يترتّب على تركه مفسدة أصلًا.

و أظهر من الجميع مرسلة علي بن إبراهيم، المشتملة على التعليل الذي له ظهور قويّ في كون الملاك هو الدخول، و لكن دلالتها على الحكم بعكس ما هو المشهور، بل المجمع عليه، بل عن «المنتهى» أنّه مذهب علماء الإسلام أوجبت طرحها و تركها، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصّ و الفتاوى جواز الأخذ من المسجد و إن استلزم المكث، بل الجلوس، و عليه فيكون هذا الأمر المستثنى مغايراً للأمر الأوّل الذي دلّت عليه الآية، و الروايات.

و دعوى أنّ الغالب المتعارف في الأخذ هو الدخول و الخروج بسرعة من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 60

..........

______________________________

غير مكث و هو من مصاديق المرور و العبور الذي هو الأمر الأوّل، فلا يكون هذا الأمر مغايراً له مدفوعة، بما عرفت من أنّ الأمر الأوّل هو الذي يرجع إلى الدخول من باب، و الخروج من آخر، مع تغاير الطريقين، و لم يفرض في هذا الأمر تعدّد الباب أصلًا، فإرجاعه إليه ممّا لا وجه له أصلًا.

و لأجله وقع الإشكال هنا في أنّه هل يختصّ جواز الدخول لأخذ شي ء بغير المسجدين من سائر المساجد، أو

يعمّهما أيضاً؟

فيه وجهان: من إطلاق الصحيحتين الشامل للمسجدين، و من أنّ الظاهر من صحيحة زرارة و محمّد بن مسلم كونها مسوقة لبيان حكم سائر المساجد، لدلالة صدرها على استثناء الاجتياز المختصّ بغير المسجدين، مع أنّه ربّما يقال بانصراف صحيحة ابن سنان إلى غيرهما أيضاً.

نعم، على تقدير الإطلاق تكون النسبة بينهما، و بين رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة، الدالّة على النهي عن قرب المسجدين الحرمين للحائض و الجنب، هو العموم من وجه، فيرجع في مورد التعارض إلى البراءة، لو لم تكن الرواية أظهر في مورد الاجتماع، و لم يكن هناك عموم يرجع إليه بعد التعارض، و كلاهما محلّ نظر، و إن كان تكفي واحدة منهما للحكم بالحرمة، فتدبّر.

بقي الكلام في إلحاق المشاهد المشرّفة و الضرائح المقدّسة بالمساجد، و عن الشهيد أنّه حكاه في «الذكرى» عن المفيد في «الغرية» و ابن الجنيد و استحسنه، و عن بعضهم نقله عن الشهيد الثاني، و عن بعض المتأخّرين الميل إليه، و في «الجواهر» أنّه لا يخلو من قوّة.

و استدلّ له:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 61

..........

______________________________

تارة: بتحقّق معنى المسجدية فيها و زيادة.

و اخرى: بالتعظيم.

و ثالثة: بالأخبار الدالّة على المنع عن دخول الجنب بيوت النبي و الأئمّة (عليهم السّلام) في حال الحياة، بضميمة ما ورد من أنّ حرمتهم بعد وفاتهم كحرمتهم في حال الحياة، بل هم أحياء عند ربّهم يرزقون.

و قد جمع هذه الروايات في «الوسائل» في الباب السادس عشر من أبواب الجنابة، و إن كان العنوان الذي ذكره له هي الكراهة دون الحرمة، و لكنّ الروايات بنفسها ظاهرة في الحرمة، و لا يكون لها معارض أصلًا.

أقول: أمّا الأوّل: فيرد عليه أنّ الحكم قد علّق في

ظواهر الأدلّة على عنوان المسجدية، و لا دليل على إسرائه فيما كان بمعناها؛ لعدم إحراز كون الملاك مجرّد شرافة المكان، و أفضلية الصلاة فيه؛ لاحتمال أن يكون لعنوان المسجدية المتمحّضة في الإضافة إلى اللّٰه تعالى و الانتساب إليه دخلٌ فيه، فلا يجوز التعدية.

و أمّا الثاني: فمضافاً إلى عدم الدليل على وجوب التعظيم، غاية الأمر حرمة التوهين، و قد مرّ مراراً أنّ الحكم لا يسري من عنوان متعلّقه إلى شي ء آخر، فحرمة التوهين لا تستلزم حرمة الدخول فيها، نقول: إنّ تحقّق التوهين بذلك ممنوع، خصوصاً فيما إذا تعلّق بدخوله في المشاهد غرض عقلائي، كما إذا لم يقدر على الدخول في غير هذه الحالة.

و أمّا الثالث: فتارة، لا بدّ من البحث في أنّ دخول الجنب بيوتهم في حال حياتهم هل يكون محرّماً، أم لا؟

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 62

..........

______________________________

و اخرى، لا بدّ من الكلام في أنّ الدخول في مشاهدهم بعد وفاتهم هل يكون كذلك، أم لا؟

أمّا دخول الجنب بيوتهم في حال حياتهم، فالروايات الواردة فيه المجموعة في الوسائل في الباب المذكور خمسة، أربعة منها ترتبط بقصّة أبي بصير، غاية الأمر أنّ الراوي لها قد يكون هو أبا بصير، و قد يكون من معه من الداخلين على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، كما أنّ المستفاد منها أنّ العلّة لدخول أبي بصير عليه (عليه السّلام) جنباً، مرّة كانت هو الاختبار، و أن يعطيه من دلائل الإمامة مثل ما أعطاه أبو جعفر (عليه السّلام)، و اخرى مخافة فوت الدخول معهم.

و واحدة ما رواه جابر، عن علي بن الحسين (عليهما السّلام) أنّ أعرابيّاً دخل على الحسين فقال له

أ ما تستحي يا أعرابي، تدخل على

إمامك و أنت جنب، أنتم معاشر العرب إذا خلوتم خضخضتم.

فقال الأعرابي: قد بلغت حاجتي فيما جئت له، فخرج من عنده فاغتسل، و رجع إليه فسأله عمّا كان في قلبه. «1» أقول: أمّا الروايات الواردة في قصّة أبي بصير فالظاهر أنّه لم يكن في الحقيقة إلّا قصّة واحدة، ضرورة أنّ نقل أبي بصير لها تارة، و نقل مصاحبه لها اخرى لا يوجب تعدّدها.

كما أنّ التعدّد بلحاظ الاختبار و بلحاظ فوت الدخول، أيضاً لا يكاد يتمّ؛ فإنّ ما كان الغرض منه فوت الدخول، إن كان واقعاً قبل الآخر، فلا يبقى موقع للاختبار بعد إخباره بجنابة أبي بصير أوّلًا، خصوصاً مع كون الاختبار متحقّقاً بمثل ذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 7، الحديث 24.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 63

..........

______________________________

و إن كان واقعاً بعد الآخر، فكيف يمكن صدور ذلك من أبي بصير مع النهي الصريح قبله عنه؟! و مخافة فوت الدخول لا تكون أهمّ من الاختبار الذي وقع الاعتراض حاله، فلا مجال لأن يقال: إنّ أبا بصير يحتمل عدم الحرمة مع مخافة فوت الدخول، كما لا يخفى.

و على ما ذكرنا، فالظاهر أنّ القصّة لم تكن إلّا واحدة غير متعدّدة، و حينئذٍ فلا يعلم أنّ التعبير الصادر من الإمام (عليه السّلام) فيها، هل كان بلفظ ظاهر في الحرمة، أو بلفظ لا يدلّ على أزيد من الكراهة، كلفظة

لا ينبغي

الواقعة في رواية بكر بن محمّد. و ليس غضب الإمام (عليه السّلام) على ما يشعر به بعض الروايات دليلًا على حرمة الفعل و استحقاق العقاب عليه؛ لإمكان أن يكون غضبه لكراهة الفعل، و منافاته لمرتبة أبي بصير الذي لا ينبغي أن يصدر منه ما ينافي الأدب

و يكون مرجوحاً شرعاً.

و أمّا رواية جابر، فالظاهر عدم إفادتها للحرمة أيضاً، و الشاهد له إدامة الإمام (عليه السّلام) لكلامه بعد بيان الحكم له؛ و إعلامه بأنّه جنب، و لو كان ذلك محرّماً لما كان ينبغي له (عليه السّلام) ذلك.

و بالجملة: فلا يظهر من الروايات حكم الحرمة، و قد عرفت أنّ صاحب «الوسائل» ذكر في عنوان الباب «الكراهة» دون «الحرمة».

و يؤيّده أنّه من البعيد أن لا يدخل في بيوتهم من يعولون من أزواجهم، و أولادهم، و جواريّهم، و خدّامهم إذا كانوا جنباً.

بل يمكن دعوى القطع بعدمه، كيف؟! و لو كان الأمر كذلك لشاع الحكم بين أصحابهم، و لم يكن يختفي على مثل أبي بصير الذي لم يزل يتردّد إلى بيتهم، و كان مدّة من الزمن في محضر أبي جعفر (عليه السّلام) قبل ذلك، خصوصاً مع عدم الاختفاء على غيره؛

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 64

..........

______________________________

لأجل عدم حدوث مثل القصّة بالإضافة إليه.

ثمّ إنّه على تقدير القول بالحرمة نقول: إنّ مقتضى بعض الروايات أنّ المحرّم هو الدخول على شخص الإمام، الظاهر في الدخول عليه في حال حياته؛ من دون فرق بين أن يكون في بيته، أو في محلّ آخر، و مقتضى بعضها الآخر أنّ المحرّم هو الدخول في بيوتهم التي هي بيوت الأنبياء، و ظاهره حرمة الدخول في بيوتهم و إن لم يكونوا فيها، و عليه فيمكن أن يقال: بأنّه يكفي في إضافة «البيت» إليهم مجرّد النسبة؛ سواء كان في حياتهم، أو بعد مماتهم، فلا يحتاج أصل الاستدلال إلى مقدّمة خارجيّة: و هي أنّ حرمتهم أمواتاً كحرمتهم أحياءً، و إن كان يمكن المناقشة في ذلك: بعدم صدق «البيت» على القبر، و أنّه

لا يصدق على قبورهم عنوان «البيت» عرفاً.

و كيف كان فربّما يقال: إنّ القول بحرمة دخول الجنب في المشاهد المشرّفة، أهون من الالتزام بحرمة الدخول في بيتهم حال حياتهم؛ لأنّ المشاهد من المشاعر العظام التي تشدّ الرحال للتشرّف إليها، فلا يبعد دعوى كون دخول الجنب هتكاً لحرمتها عند المتشرّعة، و هذا بخلاف بيوتهم حال حياتهم، فإنّها لم يعهد كونها من حيث هي في عصرهم بهذه المكانة من الشرف في أنظار أهل العرف، حتّى يكون دخول الجنب هتكاً.

و أنت خبير بأنّ كونه هتكاً عند المتشرّعة إنّما هو لثبوت الحرمة عندهم، لما وصل إليهم من مراجعهم في الفتوى، و إلّا فبدونه لا مجال لكونه هتكاً، و كأنّه لأجل ما ذكرنا توقّف في الحكم جماعة، و إن كان هو الأحوط تبعاً للمتن.

كما أنّ الأحوط هو الإلحاق بالمسجدين؛ لتعليق الحكم على مجرّد الدخول من غير استثناء.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 65

..........

______________________________

و كما أنّ الأحوط هو إلحاق الرواق بالضريح؛ لصدق البيت عليه أيضاً على تقدير الصدق عليه، و تحقّق الدخول عليه (عليه السّلام) إذا دخل في الرواق كتحقّقه إذا دخل في المشهد، و إن لم يكن مثله في الوضوح و الظهور، فتدبّر.

وضع الشي ء في المساجد الأمر الرابع: من الأُمور المحرّمة على الجنب وضع شي ء في المساجد، و إن كان من الخارج، أو في حال العبور، و الدليل على حرمة الوضع الصحيحتان المتقدّمتان في جواز الأخذ، و قد مرّ أنّ مرسلة علي بن إبراهيم الدالّة على جواز الوضع متروكة، لم يعمل بها أحد، فأصل حرمة الوضع ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في أنّه هل يكون الوضع محرّماً بعنوانه و لذاته، كما يظهر من المتن، حيث وقع

التصريح فيه بحرمته، و إن كان من الخارج، أو في حال العبور، و كما هو ظاهر كلماتهم، حيث أفردوه بالذكر، و جعلوه قسيماً للدخول؟

أو يكون محرّماً لأجل استلزامه نوعاً للدخول و اللبث في المسجد، فلا يتحقّق التحريم فيما إذا لم يستلزم الدخول، و قد حكي عن صاحب «الجواهر» تقوية هذا الوجه، و عن ابن فهد التصريح به.

و الظاهر هو الأوّل؛ لأنّه يدلّ عليه مضافاً إلى ظهور النصّ في أنّ المحرّم هو عنوان الوضع وضوح الفرق بين تجويز الأخذ المستلزم للدخول، و بين تحريم الوضع المستلزم له أيضاً، فإنّ تجويز الأخذ الكذائي لا يكاد يجتمع عند العرف مع حرمة الدخول، الذي لا يتحقّق الأخذ بدونه نوعاً.

و أمّا تحريم الوضع كذلك، فإن كان المحرّم هو الدخول دون الوضع بعنوانه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 66

..........

______________________________

تلزم اللغوية، فإنّه كيف يمكن جعل متعلّق الحكم الذي يكون متعلّقه هو الدخول هو الوضع؟ مع أنّه في صحيحة زرارة و محمّد بن مسلم، قد جمع بين النهي عن الدخول و بين النهي عن الوضع، فهل يمكن الالتزام بوحدة هذين الحكمين؟ و التعليل الواقع فيها لو لم يكن مؤيّداً لما ذكرنا لا يكون منافياً له قطعاً.

فالإنصاف: وضوح الفرق بين الأخذ و الوضع، فلا وجه لما في «المستمسك» اعتراضاً على «العروة» من أنّ التفكيك غير ظاهر.

كما أنّه على ما ذكرنا لا يبقى مجال لما في «المصباح» من أنّ مرسلة علي بن إبراهيم بالنسبة إلى الفقرة الأُولى لا معارض لها؛ لأنّ المراد منها الرخصة في الوضع من غير دخول، كما يدلّ عليه العلّة المنصوصة، و ذلك لأنّه مضافاً إلى أنّ عدم المعارض لا يكفي بعد كونها مرسلة فاقدة لشرائط

الحجيّة نقول الصحيحتان بالتقريب الذي ذكرنا تعارضان المرسلة، خصوصاً الصحيحة الثانية، فلا مجال لها معهما كما لا يخفى.

قراءة شي ء من سور العزائم الأمر الخامس: قراءة شي ء من سور العزائم، و لو بعض آية منها، و لو بعض البسملة بقصد إحداها.

و نقول: الروايات الواردة في هذا الأمر مختلفة:

فيظهر من بعضها جواز قراءة الجنب القرآن من دون استثناء، كرواية زيد الشحّام، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

الحائض تقرأ القرآن، و النفساء، و الجنب أيضاً.

«1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 67

..........

______________________________

و رواية ابن بكير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجنب، يأكل و يشرب و يقرأ القرآن.

قال

نعم، يأكل، و يشرب، و يقرأ، و يذكر اللّٰه عزّ و جلّ ما شاء.

«1» و غيرهما من الروايات الكثيرة الدالّة عليه.

و يظهر من بعضها الحرمة كذلك، مثل ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي سعيد الخدري في وصيّة النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) لعلي (عليه السّلام) أنّه قال

يا علي، من كان جنباً في الفراش مع امرأته، فلا يقرأ القرآن، فإنّي أخشى أن تنزل عليهما نار من السماء فتحرقهما.

«2» و يظهر من بعضها التفصيل بين سبع آيات أو سبعين، و بين أزيد، كموثّقة سماعة قال: سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟

قال

ما بينه و بين سبع آيات.

«3» و في رواية زرعة عن سماعة قال

سبعين آية.

«4» و من كثير منها التفصيل بين السجدة و غيرها، كحسنة محمّد بن مسلم أو صحيحته قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)

الجنب و الحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب، و يقرءان من القرآن ما شاءا إلّا السجدة.

«5»

______________________________

(1)

وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 9.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 10.

(5) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 68

..........

______________________________

و صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في حديث قال: قلت له: الحائض و الجنب هل يقرءان من القرآن شيئاً؟

قال

نعم، ما شاءا إلّا السجدة، و يذكران اللّٰه على كلّ حال.

«1» و ما حكاه المحقّق (قدّس سرّه) في «المعتبر» قال: «يجوز للجنب و الحائض أن يقرءا ما شاءا من القرآن، إلّا سور العزائم الأربع، و هي اقرأ باسم ربّك، و النجم، و تنزيل السجدة، و حم السجدة، روى ذلك البزنطي في «جامعه» عن المثنى، عن الحسن الصيقل، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)». «2» أقول: أمّا قراءة سور العزائم أو خصوص السجدة منها، فقد حكي دعوى الإجماع على حرمته عن غير واحد، و أمّا غيرها فالمشهور كما في «الحدائق» دعواه كراهة ما زاد على السبع، و عن ابن البرّاج نفي جواز ما زاد على سبع آيات، و عن سلّار تحريم القراءة مطلقاً، و عن بعض الأصحاب تحريم ما زاد على سبعين.

أقول: أمّا ما يدلّ على التحريم مطلقاً، فلا يكون إلّا رواية واحدة، و هي مع ضعف سندها، و كون راويها من العامّة، و موافقتها لمذهبهم، لا تصلح للاستناد إليها على الحرمة، بعد صراحة الأخبار الكثيرة، و نصوصيتها في الجواز في الجملة، بل في بعضها كما عرفت عطف قراءة القرآن على الأكل و الشرب، فلا مجال لدعوى الحرمة مطلقاً.

و قد حمل الصدوق الرواية بعد نقلها

على قراءة العزائم دون غيرها، و يمكن الحمل على الكراهة و إن كان يبعّده التعبير الواقع فيها، و كيف كان فلا يمكن الالتزام بذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 69

..........

______________________________

و أمّا الروايتان الدالّتان على التفصيل بين السبع أو السبعين، و بين ما زاد، فالظاهر أنّهما رواية واحدة راويها سماعة، و الاختلاف إنّما هو بين من روى عنه و عليه، فلا يعلم أنّ الصادر هل هو السبع، أو السبعون؟ بل يكون مردّداً بينهما.

و ظاهره و إن كان هو حرمة ما زاد على السبع أو السبعين، إلّا أنّه لا بدّ من الحمل على الكراهة؛ للروايات الكثيرة الدالّة على جواز القراءة مطلقاً، أو غير العزائم.

و قد وقع فيها التعليق على المشية الصريح في عدم ثبوت الحدّ في الجواز، فلا محيص عن الحمل على الكراهة، خصوصاً بعد عدم ظهورها في نفسها في الحرمة، فتدبّر.

و لا يبقى فرق على ما ذكرنا بين ما زاد على السبع، و ما زاد على السبعين من جهة الكراهة شدّة و ضعفاً.

نعم، على تقدير كونهما روايتين مستقلّتين لكان مقتضى الجمع الفرق بينهما من هذه الجهة، و الحكم بكون ما زاد على السبعين أشدّ كراهة ممّا زاد على السبع.

كما أنّه على كلا التقديرين وقع البحث في المراد من الكراهة، و أنّها هل هي بالمعنى المصطلح، أو بمعنى أقلّية الثواب؟ و لعلّه يجي ء الكلام فيه فيما بعد.

و أمّا الروايات الدالّة على التحريم في العزائم، فقد عرفت أنّ كثيراً منها تدلّ على تحريم السجدة، و واحدة منها على تحريم سور العزائم مع ذكر أساميها.

و الطائفة الأُولى يمكن

أن يكون المراد بها هي آية السجدة، لا سورتها، و لذا تردّد بعض المتأخّرين، بل قوّى بعض اختصاص الحرمة بقراءة الآيات دون مطلق السور.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 70

..........

______________________________

و يؤيّده بل يدلّ عليه الروايات الكثيرة، الظاهرة في كون السجدة بعض العزيمة، كرواية أبي عبيدة الحذّاء، قال سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الطامث، تسمع السجدة.

فقال

إن كانت من العزائم فلتسجد إذا سمعتها.

«1» و رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال في حديث

.. و الحائض تسجد إذا سمعت السجدة.

«2» و غير ذلك من الروايات الواردة في قراءة سورة فيها السجدة في المكتوبة، أو في إمام يقرأ السجدة، فيحدث قبل أن يسجد، و لا يبقى بعد ملاحظتها ارتياب في كون المراد من السجدة هو خصوص آيتها، لا مجموع السورة، إلّا أنّ الذي يوهن ذلك التصريح في رواية البزنطي، بكون المراد هو مجموع السورة، و لكن يمكن المناقشة فيها:

أوّلًا: باحتمال كون ما ذكره أوّلًا هو مضمون الرواية، بحسب ما استفاده منها، لا نفسها.

و ثانياً: بالقدح في السند بالمثنى و الحسن بن زياد الصيقل.

و ثالثاً: بعدم معلومية كون ما بيده هو جامع البزنطي، بعد فصل زمان طويل بينهما، خصوصاً مع عدم ثبوت هذه الرواية في الكتب المعدّة لنقل الأخبار و الأحاديث، كالكتب الأربعة مع قرب عهدهم بزمان الأئمّة (عليهم السّلام) و أصحابهم. و اعتقاده بكونه كذلك لا تكون حجّة بالإضافة إلينا.

و بعض هذه المناقشات و إن كان يمكن دفعها كالمناقشة الثانية، نظراً إلى أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الحيض، الباب 36، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الحيض، الباب 36، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات،

ص: 71

..........

______________________________

البزنطي من أصحاب الإجماع، و نقله يكفي في توثيق من روى عنه، إلّا أنّ البعض الآخر يصعب دفعه.

فالإنصاف: أنّ المسألة مشكلة، و إن كان المحكي عن «المدارك» أنّ الأصحاب قاطعون بتحريم السور كلّها، و نقلوا عليه الإجماع، فالأحوط تركها.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص و الفتاوى و معاقد الإجماعات، بل تصريح جملة منهم كالمتن، أنّه لا فرق بين قراءة مجموع السورة من أوّلها إلى آخرها، و بين قراءة بعضها؛ لأنّ المتبادر من النهي عن قراءة السورة كقراءة القرآن إنّما هو قراءة أبعاضها، كلّا أو بعضاً. و لا يختصّ تبادر ذلك بالمقام، بل يجري في جميع الموارد التي تعلّق النهي فيها بالأفعال المركّبة، خصوصاً في التدريجية منها، كالجلوس في المسجد يوم الجمعة، و استماع الخطبة التي يقرأها الإمام، و قراءة كتاب الضلال، و أشباه ذلك.

و عليه فلا مجال لدعوى أنّ المتبادر من النهي عن قراءة السورة هي قراءة مجموعها؛ لأنّ السورة اسم للمجموع، فلا دلالة لها على حرمة قراءة البعض.

ثمّ إنّ البعض إن كان من الآيات المختصّة، فلا حاجة إلى نيّة كونها منها؛ لأنّ تعيّنها الواقعي يكفي في حرمتها، و إن كان من الآيات المشتركة بينها و بين غير العزائم، كالبسملة على تقدير كونها آية، كما هو مقتضى التحقيق، فالظاهر أنّ صيرورتها بعضاً منها تتوقّف على نيّة كونها منها، ضرورة أنّه بدون النيّة لا تتعيّن لذلك.

نعم، فيما إذا قرأها من المصحف و نحوه، يكفي في الحرمة و لو من دون نيّة، لأنّ كتابتها جزء من السورة، تعيّنها في الجزئية و القراءة من المصحف، حكاية عمّا هو المتعيّن كذلك، فلا حاجة إلى نيّة الجزئية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 72

[مسألة 1: إذا احتلم في أحد المسجدين]

مسألة

1: إذا احتلم في أحد المسجدين، أو دخل فيهما جنباً عمداً، أو سهواً، أو جهلًا وجب عليه التيمّم للخروج، إلّا أن يكون زمان الخروج أقصر من المكث للتيمّم، أو مساوياً له، فحينئذٍ يخرج بدون التيمّم على الأقوى. (1)

______________________________

و قد انقدح أنّ حرمة قراءة البسملة و لو بعضها إنّما هي في صورتين:

إحداهما: نيّة الجزئية للعزيمة.

ثانيتهما: القراءة من المصحف.

نعم، لا بدّ من العلم بكونه في المصحف جزء لها، أو كان المقصود هي الحكاية عن خصوص هذه القطعة، و إلّا مع عدم العلم بذلك، و عدم كون المقصود كذلك، لا يبعد عدم الحرمة، فتدبّر.

(1) إذا احتلم في أحد المسجدين و يدلّ على وجوب التيمّم للخروج في الجملة صحيحة أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)

إذا كان الرجل نائماً في المسجد الحرام، أو مسجد الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فاحتلم، فأصابته جنابة فليتيمّم، و لا يمرّ في المسجد إلّا متيمّماً، و لا بأس أن يمرّ في سائر المساجد، و لا يجلس في شي ء من المساجد.

«1» و عن «الكافي» روايتها، عن أبي حمزة بسند فيه رفع، و لكنّه زاد فيها

و كذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك، و لا بأس أن يمرّا في سائر المساجد ...

و حكى الرواية في محكي «المعتبر» بعطف

أو أصابته جنابة.

و مقتضى الجمود على مورد النصّ اختصاص الحكم بالمحتلم، كما هو ظاهر المحكي عن جماعة، كالشيخ في «المبسوط» و بني زهرة و إدريس و سعيد و بعض

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 73

..........

______________________________

آخر، فلا يتعدّى عنه إلى من حدثت له الجنابة العمدية في المسجد، فضلًا عمّن

كانت جنابته خارج المسجد فدخل، خصوصاً إذا كان دخوله عمداً.

و لكنّ الظاهر التعدّي؛ لأنّ المتفاهم من النصّ عرفاً كون ذلك من آثار الجنابة، و اتّصاف الشخص بكونه جنباً، و يؤيّده عطف الحائض على الجنب في رواية «الكافي» و عطف أصابه الجنابة على الاحتلام ب «أو» على ما في محكيّ «المعتبر»، مع أنّ الحكم لا يكون مخالفاً للقاعدة حتّى يقتصر فيه على مورد النصّ؛ لأنّه بعد ما ثبت بالأخبار المستفيضة المتقدّمة خصوصية لهذين المسجدين، و هي عدم جواز الاجتياز فيهما كاللبث، لكونهما أعظم حرمة عند اللّٰه من سائر المساجد، فالواجب بحكم العقل إزالة الجنابة حقيقة، أو حكماً عند الاضطرار إلى الجواز، أو المكث فيهما.

و حيث إنّ الغسل فيهما متعذّر نوعاً مطلقاً، أو في زمان مساوٍ لزمان التيمّم، أو أقصر، فلا محيص عن التيمّم؛ لأنّ التراب أحد الطهورين، لكنّه بشرط أن يكون زمان الخروج أطول من زمان التيمّم.

و أمّا إذا كان بالعكس، أو مساوياً، فربّما يقال كما عن «الذكرى» و غيرها، بأنّ إطلاق النصّ يشملها، و أنّه لا فرق بينهما و بين الصورة الأُولى.

لكن عن «شرح المفاتيح» للوحيد (قدّس سرّه) القطع بسقوط التيمّم فيما إذا كان زمانه أطول من زمان الخروج، و لا يبعد دعواه.

نعم، في صورة التساوي ربّما يقال بالتخيير بين التيمّم و الخروج، و لكنّ الإنصاف انصراف النصّ إلى خصوص ما إذا كان زمان التيمّم أقصر، فالحكم في الفرضين الأخيرين هو الخروج بدون التيمّم، كما قوّاه في المتن، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 74

[مسألة 2: لو كان جنباً، و كان ما يغتسل به في المسجد]

مسألة 2: لو كان جنباً، و كان ما يغتسل به في المسجد، يجب عليه أن يتيمّم، و يدخل المسجد لأخذ الماء، و لا ينتقض التيمّم

بهذا الوجدان إلّا بعد الخروج مع الماء، أو بعد الاغتسال.

و هل يباح بهذا التيمّم غير دخول المسجد و اللبث فيه بمقدار الحاجة؟

فيه تأمّل و إشكال. (1)

______________________________

(1) إذا كان ما يغتسل به في المسجد (1) إن كان المسجد غير المسجدين فلا حاجة إلى التيمّم للدخول لأخذ الماء، لما عرفت من جواز الدخول فيه بقصد أخذ شي ء منه، نعم في المسجدين حيث لا يكون الدخول كذلك مستثنى، فلا مانع من ذلك، كما أنّه يجري الحكم في غيرهما لو دخل بقصد الاغتسال فيه، لا لمجرّد أخذ الماء.

نعم، يقع الكلام فيما إذا أمكن كلا الأمرين: أخذ الماء من المسجد و الغسل في خارجه، أو الاغتسال في داخل المسجد، و أنّه هل يكون مخيّراً بين الأمرين، أم يكون رجحان في البين؟

و الظاهر أنّه مع عدم التيمّم للدخول يتعيّن الأخذ و الغسل في الخارج؛ لأنّ جواز الدخول بدونه ينحصر في هذه الصورة.

و أمّا مع التيمّم له فيمكن أن يقال بعدم مشروعيّة هذا التيمّم؛ لأنّه على تقدير إمكان أخذ الماء من المسجد، و الغسل في خارجه، لا يكون دخول الجنب فيه بقصد ذلك محرّماً حتّى يتوقّف رفع الحرمة على التيمّم، و لم يدلّ دليل على مشروعيته في هذه الصورة، و مع دخول فيه بدونه يتعيّن الأخذ و الاغتسال في الخارج.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 75

..........

______________________________

فينحصر فرض المسألة فيما إذا لم يكن له طريق إلى الاغتسال إلّا في المسجد، ففي هذا الفرض لا بدّ و أن يقال بوجوب التيمّم عليه للدخول و المكث، و إن كان يمكن المناقشة فيه بعدم الدليل على وجوب التيمّم في الفرض.

و وجوبه في المسألة السابقة إنّما كان في مورد الاضطرار؛ لأنّه كان

يجب عليه الخروج من المسجدين، و أمّا في المقام فلا اضطرار، و وجود الماء في المسجد، و إمكان الاغتسال فيه، إنّما يترتّب عليه وجوب الغسل مع مشروعيّة الدخول بقصده، و بدونها كما هو المفروض لا يكون الغسل واجباً، و مع عدمه لا تكون مشروعيّة للتيمّم لأجل الدخول و الاغتسال.

و كيف كان: فعلى تقدير وجوب التيمّم لأجله يقع الكلام في حكم هذا التيمّم من جهتين:

الاولىٰ: أنّه هل يبطل تيمّمه بهذا الوجدان، أم يتوقّف البطلان على الاغتسال، أو الخروج مع الماء على تقدير المشروعية فيه أيضاً؟

ربّما يقال: إنّ التمكّن من الغسل في المسجد ممّا يقتضي وجوده عدمه، فإنّه بمجرّد استباهة المكث للغسل بالتيمّم ينتقض التيمّم؛ للتمكّن من الماء، و إذا انتقض التيمّم يحرم الكون في المسجد للغسل، فوجود التمكّن يستلزم عدمه.

و الجواب: أنّه مغالطة، فإنّ التمكّن من الماء إنّما هو بالإضافة إلى سائر الغايات، و أمّا بالنسبة إلى الكون الواجب عليه مقدّمة للغسل فلا، و لا دليل على كون وجدان الماء ناقضاً للتيمّم مطلقاً، بل بشرط التمكّن من إيجاد الغاية الواجبة عليه بعد انتقاض التيمّم متطهّراً، نظير من ضاق وقته عن الغسل فإنّه غير واجد للماء، بالإضافة إلى خصوص الصلاة، و واجد له بالنسبة إلى غيرها، فلا يباح بسبب تيمّمه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 76

..........

______________________________

إلّا الصلاة التي يضيق الوقت عن إتيانها مع الغسل، مع أنّه يمكن قلب الدليل حيث إنّ مقتضاه وجوب الصلاة متيمّماً؛ نظراً إلى أنّه إذا جاز له الدخول في الصلاة مع التيمّم، جاز له الكون في المسجد، و إذا جاز له الكون في المسجد، لا تجوز له الصلاة مع التيمّم؛ لتمكّنه من الطهارة المائية.

الثانية: أنّه هل يباح

بهذا التيمّم غير دخول المسجد و اللبث فيه بمقدار الحاجة، أم لا؟

و قد تأمّل و استشكل في المتن في الأوّل، و لكنّه ربّما يقال: بأنّ التيمّم المشروع في المقام هو ما يكون بدلًا عن الغسل ضرورة، فالالتزام بوجوبه الغيري فرع الالتزام بوجوب الغسل كذلك، مع أنّه ممتنع؛ لأنّ الغسل لا يكون مقدّمة لغسل آخر، إذ به يباح كلّ غاية، و لا يتوقّف على غسل آخر.

و عليه يمتنع أن يكون التيمّم خارج المسجد مقدّمة للغسل في المسجد، بل يتعيّن أن يكون واجباً مقدّمة للصلاة، فيستبيح الصلاة بمجرّد فعله.

و أُجيب عنه كما في «المستمسك»: بأنّ وجوب التيمّم خارج المسجد لايكون مقدّمة للغسل في المسجد، ليلزم وجوب الغسل مقدّمة له، و هو ممتنع، بل إنّما يجب في نظر العقل من جهة وجوب الجمع بين غرضي الشارع، من تحريم كون الجنب في المسجد، و وجوب الصلاة بالطهارة المائية، نظير شراء الدواء لعلاج المرض، فإنّ وجوب الشراء ليس مقدّميّا للعلاج؛ لأنّ العلاج كما يكون بالدواء المباح كذلك يكون بالمغصوب، بل لحكم العقل بوجوب الجمع بين الغرضين: حرمة الغصب، و وجوب العلاج.

و نظيره أيضاً ما لو غرق طفل في حوض المسجد، بحيث توقّف إنقاذه على دخول

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 77

..........

______________________________

المسجد مع كون المنقذ جنباً، فإنّه يجب عليه التيمّم من باب وجوب الجمع بين الغرضين، لا لمقدمية التيمّم للإنقاذ.

أقول: إن قلنا بمشروعية التيمّم في هذه الصورة كما هو المفروض فتارة يقال: بأنّ الغاية المشروع لها التيمّم هي الدخول و المكث في المسجد مطلقاً، مع قطع النظر عن الاغتسال فيه، بمعنى أنّه يجوز له التيمّم و الدخول و المكث، و إن لم يرد الاغتسال فيه،

و لم يغتسل، و اخرى: بأنّ الغاية هي الدخول و المكث للاغتسال فقط.

فعلى الأوّل: لا حاجة إلى ما أفاده في «المستمسك»، بل الجواب ما هو ذكر سابقاً من أنّ عدم وجدان الماء بالإضافة إلى غاية لا يوجب استباحة الغاية الأُخرى، التي يكون الرجل واجداً للماء بالإضافة إليها، ضرورة أنّ عدم الوجدان في المقام إنّما هو بالإضافة إلى الدخول و المكث في المسجد، لا مطلقاً، فلا يباح به غيره ممّا هو واجد للماء بالنسبة إليه.

و على الثاني: يصير نفس الاغتسال في المسجد من الغايات المترتّبة على التيمّم، و لا مجال حينئذٍ لمشروعية الغاية المترتّبة على الغسل قبله بمجرّد التيمّم؛ لأنّ المفروض أنّه قد شرع للوصول إلى الغسل الذي هو مقدّمة لمثل الصلاة، فكيف يمكن استباحتها بمجرّد التيمّم؟! نعم، قد عرفت المناقشة في أصل مشروعية التيمّم في مثل الفرض، إلّا أن يقال باستحبابه؛ للكون على الطهارة، و سيأتي البحث فيه إن شاء اللّٰه تعالى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 78

[و منها: يكره على الجنب أُمور]

و منها: يكره على الجنب أُمور: كالأكل و الشرب، و ترتفع كراهتهما بالوضوء الكامل، و تخفّف كراهتهما بغسل اليد و الوجه و المضمضة، ثمّ غسل اليدين فقط.

و كقراءة ما زاد على سبع آيات غير العزائم، و تشتدّ الكراهة إن زاد على سبعين آية.

و كمسّ ما عدا خطّ المصحف من الجلد و الورق و الهامش و ما بين السطور.

و كالنوم، و ترتفع كراهته بالوضوء، و إن لم يجد الماء تيمّم بدلًا عن الغسل، أو عن الوضوء، و عن الغسل أفضل.

و كالخضاب، و كذا إجناب المختضب نفسه قبل أن يأخذ اللون.

و كالجماع لو كان جنباً بالاحتلام.

و كحمل المصحف و تعليقه. (1)

______________________________

(1) ما يكره على

الجنب قد ذكر في المتن ممّا يكره على الجنب أُموراً:

الأوّل و الثاني: الأكل و الشرب، و قد نسبت الكراهة إلى الشهرة، بل عن «الغنية» دعوى الإجماع، و عن «التذكرة» النسبة إلى علمائنا، و ما عن «الفقيه» و «الهداية» من التعبير ب «لا يجوز»، و عن «المقنع» من النهي محمول على الكراهة، بقرينة التعليل الواقع في كلامهما بمخافة البرص.

و كيف كان: فالروايات الواردة في هذا الباب على قسمين:

قسم منهما: يُدلّ بالصراحة على الجواز، كموثّقة ابن بكير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجنب، يأكل و يشرب، و يقرأ القرآن.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 79

..........

______________________________

قال

نعم، يأكل و يشرب، و يقرأ، و يذكر اللّٰه عزّ و جلّ ما شاء.

«1» و قسم آخر: يدلّ بظاهره على عدم الجواز إلّا بعد مثل الوضوء أو غسل اليد، كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

الجنب إذا أراد أن يأكل و يشرب غسل يده، و تمضمض، و غسل وجهه، و أكل و شرب.

«2» و رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث قال

لا يذوق الجنب شيئاً حتّى يغسل يديه، و يتمضمض، فإنّه يخاف منه الوضح.

«3» قال في محكي «الحدائق»: «الوضح: البرص».

و صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه، عن أبيه (عليهما السّلام) قال

إذا كان الرجل جنباً لم يأكل، و لم يشرب حتّى يتوضّأ.

«4» و رواية الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) في حديث المناهي قال

نهى رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) عن الأكل على الجنابة، و قال: إنّه يورث الفقر.

«5» و صحيحة عبد الرحمن بن

أبي عبد اللّٰه في حديث قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) يأكل الجنب قبل أن يتوضّأ؟

قال

إنّا لنكسل، و لكن ليغسل يده، فالوضوء أفضل.

«6»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 20، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 20، الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 20، الحديث 4.

(5) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 20، الحديث 5.

(6) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 20، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 80

..........

______________________________

و الجمع بين القسمين يقتضي حمل النهي على الكراهة، خصوصاً مع ملاحظة التعليل بإيراث الفقر، أو مخافة البرص، غاية الأمر أنّ للكراهة مراتب ترتفع أُولاها بغسل اليد الظاهر في نفسه في غسل اليدين، خصوصاً مع التصريح به في رواية السكوني. و ثانيتها بغسل اليدين، و المضمضة. و ثالثتها بهما و بغسل الوجه.

و ترتفع الكراهة رأساً بالوضوء، المشتمل على جميع المذكورات مع إضافة لاستحباب المضمضة فيه أيضاً، و يدلّ على أفضلية الوضوء مضافاً إلى ما ذكر صحيحة عبد الرحمن، الدالّة عليها، و كان على المتن التعرّض للمرتبة الثانية أيضاً.

و أمّا عدم تعرّضه للاستنشاق مع كونه مذكوراً في بعض الكلمات، فلعدم التعرّض له في شي ء من الروايات المتقدّمة، نعم هو مذكور في «الفقه الرضوي» الذي لم يثبت اعتباره بوجه.

ثمّ إنّ المحكيّ عن «المدارك» أنّه بعد زعم انحصار المدرك الصحيح للحكم فيما نحن فيه بصحيحة عبد الرحمن و صحيحة زرارة، أنكر دلالتهما على الكراهة، و قال: مقتضى الاولى استحباب الوضوء لمريد الأكل و الشرب، أو غسل اليد خاصّة. و مقتضى الثانية الأمر بغسل اليد و الوجه، و المضمضة، و ليس فيهما دلالة على كراهة الأكل

و الشرب بدون ذلك.

و يرد عليه مضافاً إلى عدم انحصار المدرك بهما على مبناه أيضاً؛ لأنّ صحيحة الحلبي أيضاً واجدة لشرائط الحجيّة عليه أنّ الظاهر من صحيحة زرارة تعليق الجواز على الأفعال المذكورة فيها، و الشاهد له هو فهم العرف، و التبادر، فإنّ مثل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 81

..........

______________________________

العبارة ظاهر في عدم الجواز بدون حصولها، كما أنّ صحيحة عبد الرحمن أيضاً كذلك، خصوصاً مع ملاحظة وقوعه جواباً عن السؤال عن الجواز.

فالصحيحتان ظاهرتان في النهي بدونها، و حيث إنّه لا مجال لحمل النهي على ظاهره، بل لا بدّ من الحمل الكراهة لما عرفت، فارتفاعه مع تلك الأفعال يرجع إلى ارتفاع الكراهة بها، كما لا يخفى.

الثالث: قراءة ما زاد على سبع أو سبعين، و قد تقدّم الكلام فيه في بحث قراءة العزائم، فراجع.

الرابع: مسّ ما عدا خطّ المصحف من الجلد، و الورق، و الهامش، و ما بين السطور، و كراهته هو المشهور شهرة عظيمة.

و عن المرتضى القول بالحرمة لقوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «1»، و لخبر إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال

المصحف لا تمسّه على غير طهر، و لا جنباً، و لا تمسّ خطّه، و لا تعلّقه، إنّ اللّٰه تعالى يقول لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ.

«2» و قد يستدلّ له أيضاً بصحيحة محمّد بن مسلم قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)

الجنب و الحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب، و يقرءان القرآن ما شاء إلّا السجدة.

«3» أقول: قد عرفت في بحث الوضوء الإشكال في دلالة الآية، خصوصاً مع ظهور رجوع الضمير إلى نفس الكتاب المكنون، الذي هو عبارة عن خطوطه، لا المصحف.

______________________________

(1) الواقعة 79.

(2) وسائل الشيعة،

أبواب الوضوء، الباب 12، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 19، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 82

..........

______________________________

و أمّا خبر إبراهيم: فيرد عليه مضافاً إلى ضعفه، و عدم تماميّة الاستدلال بالآية مع رجوع الضمير إلى القرآن، لا المصحف معارضيته مع نصوص اخرى، و دلالة روايات كثيرة على جواز مسّ ما عدا موضع الكتابة، ففي مرسلة حريز، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كان إسماعيل بن أبي عبد اللّٰه عنده فقال

يا بنيّ، اقرأ المصحف.

فقال: إنّي لست على وضوء.

فقال

لا تَمسّ الكتابة، و مسّ الورق، و اقرأه.

«1» و من المعلوم أن الجنب أيضاً لا يكون على وضوء.

و في موثّقة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عمّن قرأ في المصحف، و هو على غير وضوء.

قال

لا بأس، و لا يمسّ الكتاب.

«2» فلا بدّ من حمل النهي في خبر إبراهيم على الكراهة، و اشتماله على النهي عن مسّ الخطّ لا يقدح في ذلك؛ لعدم المانع من كون المراد به هي الحرمة، مع أنّ في بعض النسخ «الخيط» بدل الخطّ.

كما أنّ الاستدلال لا بدّ و أن يحمل على مجرّد المناسبة و التقريب، و إلّا فالتعليق لا يكون مسّاً، و إن كان الضمير في الآية راجعاً إلى المصحف بتمام شئونه.

ثمّ لا يخفى أنّ مستند كراهة التعليق هي هذه الرواية فقط، و قد استفيد منها كراهة الحمل أيضاً، و إن كانت الاستفادة غير خالية عن المناقشة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 12، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 12، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 83

..........

______________________________

و أمّا صحيحة محمّد بن مسلم فغاية مدلولها

مرجوحية المسّ، و هي لا تنافي الكراهة، و لا تكون الجملة الخبرية فيها مستعملة في الوجوب الشرطي، الذي يرجع إلى الحرمة بدونه؛ لأنّ فتح المصحف من المقدّمات العادية للقراءة، و ليس بواجب شرعي، أو شرطي.

لكن التقييد بكونه من وراء الثوب يدلّ على إرادة الاحتراز عن المباشرة، و لا دلالة له على الحرمة، مع أنّه على تقديرها يكون مقتضى الجمع بينها، و بين الروايات الدالّة على الجواز، هو الحمل على الكراهة كما عرفت.

الخامس: النوم حتّى يتوضّأ على المشهور، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه، و عن «المهذّب» التحريم، و يدلّ على المشهور روايات:

كصحيحة عبيد اللّٰه بن علي الحلبي، التي رواها الصدوق بإسناده عنه قال: سئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل أ ينبغي له أن ينام و هو جنب؟

فقال

يكره ذلك حتّى يتوضّأ.

«1» و صحيحة سعيد الأعرج قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول

ينام الرجل و هو جنب، و تنام المرأة و هي جنب.

«2» و موثّقة سماعة قال: سألته عن الجنب، يجنب ثمّ يريد النوم.

قال

إن أحبّ أن يتوضّأ فليفعل، و الغسل أحبّ إليّ و أفضل من ذلك، و إن هو نام، و لم يتوضّأ، و لم يغتسل، فليس عليه شي ء إن شاء اللّٰه.

«3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 25، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 25، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 25، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 84

..........

______________________________

و في مقابلها خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السّلام) قال

لا ينام المسلم و هو جنب، و لا ينام إلّا على طهور، فإن لم

يجد الماء فليتيمّم بالصعيد ..

الحديث. «1» و صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يواقع أهله، أ ينام على ذلك؟

قال

إنّ اللّٰه يتوفّى الأنفس في منامها، و لا يدري ما يطرقه من البلية إذا فرغ، فليغتسل.

«2» و الجمع يقتضي الحمل على الكراهة؛ لصراحة أخبار الجواز في عدم الحرمة، بل تصريح بعضها بالكراهة، كصحيحة الحلبي، فلا مجال لدعوى الحرمة.

ثمّ إنّ ظاهر صحيحة الحلبي ارتفاع الكراهة بالمرّة بالوضوء، و ظاهر موثّقة سماعة أنّ الغسل أحبّ و أفضل، و لا منافاة بينهما؛ لأنّ الغسل يؤثّر في رفع الموضوع، و هو الجنابة، و لا وجه لأن يجعل غاية لارتفاع الكراهة الظاهر في بقاء عنوان الموضوع، فإنّ حجيّته ترجع إلى أنّ الأفضل هو الخروج عن عنوان الموضوع، و رفع الجنابة بالمرّة.

و أمّا مع حفظه و بقائه الموجب لكراهة النوم معه، فالذي ترتفع به الكراهة هو الوضوء لا محالة.

ثمّ إنّه لو لم يجد الماء للوضوء، ففي المتن أنّه يتيمّم بدلًا عن الوضوء، أو عن الغسل، و أنّ الأفضل هو الثاني.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 25، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 25، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 85

..........

______________________________

و الدليل على الانتقال إلى التيمّم هو خبر أبي بصير المتقدّم، مع أنّ الظاهر كون الفاعل في «لا ينام» الثاني هو الضمير الراجع إلى مطلق المسلم، لا خصوص الجنب، و أنّ الخبر يشتمل على حكمين لا ارتباط لأحدهما بالآخر.

الأوّل: النهي عن نوم المسلم في حال الجنابة من دون قيد و شرط.

و الثاني: النهي عن نوم المسلم على غير طهور.

و التعدّد المقتضي للمغايرة يقضي بكون المراد بالمسلم

في الثاني هو غير الجنب، فيرجع إلى النهي عن النوم لغير الجنب من دون طهر، و الظاهر من الطهر حينئذٍ هو الوضوء، و من التيمّم هو ما كان بدلًا من الوضوء.

و على ذلك فلا ترتبط الرواية بذيلها بالمقام أصلًا، نعم، لو قيل بإطلاق الذيل و شموله للجنب أيضاً، يصير المراد بالطهر بالإضافة إليه هو الغسل، و بالتيمّم ما كان بدلًا عنه.

و لا دليل حينئذٍ على بدلية التيمّم عن الوضوء، إلّا أن يتشبّث لذلك بإطلاق ما دلّ على بدليّة التيمّم عن الوضوء، و شموله للوضوء في مثل المقام، و هو محلّ نظر.

و بالجملة: لم يثبت بدليّة التيمّم عن الوضوء في المقام، و كذا أفضلية ما كان بدلًا عن الغسل، إلّا أن يستفاد ذلك من أفضلية نفس الغسل، التي دلّت عليها موثّقة سماعة، بضميمة إطلاق البدليّة، و فيه تأمّل.

ثمّ إنّ الصدوق بعد نقله صحيحة الحلبي قال على ما في «الوسائل»: و في حديث آخر

أنا أنام على ذلك حتّى أصبح، و ذلك أنّي أُريد أن أعود.

و هل المراد به هو النوم مع الجنابة حتّى الصبح من دون وضوء، فيكون الغرض بيان الجواز، و عدم الكراهة في صورة إرادة العود، فيكون الرافع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 86

..........

______________________________

للكراهة أمران على نحو الاستقلال: الوضوء، و إرادة العود، و عليه فالذيل تفسير لما يفهم من ظاهر الصدر، من اختصاص الرافع بالوضوء؟

أو أنّ المراد به هو النوم مع الجنابة مع الوضوء، و غرضه (عليه السّلام) أنّ عدم رعاية ما هو أفضل من الوضوء و هو الغسل كما دلّ عليه بعض الروايات المتقدّمة إنّما هو لإرادة العود، فلا دلالة له حينئذٍ على أنّ إرادة العود تكون

كالوضوء رافعة للكراهة؟

وجهان: و يظهر من «الوسائل» الأوّل، كما يعلم من عنوان الباب، و لكنّ الظاهر هو الثاني، مع أنّ الرواية مرسلة بالنحو الذي لا يجوز الاعتماد عليها، فلا وجه للاستناد إليها في مقابل الروايات الأُخرى، الظاهرة في اختصاص الرافع بالوضوء، أو مثله، فتدبّر.

السادس: الخضاب، أو إجناب المختضب نفسه قبل أن يأخذ اللون، كما هو المشهور، و عن «المهذب» التحريم.

و يدلّ على الكراهة أنّها ممّا يقتضيه الجمع بين الروايات المختلفة، التي طائفة منها ظاهرة في التحريم، و طائفة أُخرى مصرّحة بالجواز، و إن كان في بعضها إشعار بالجمع أيضاً.

أمّا ما يدلّ على التحريم فكرواية عامر بن جذاعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سمعته يقول

لا تختضب الحائض، و لا الجنب، و لا تجنب و عليها خضاب، و لا يجنب هو و عليه خضاب، و لا يختضب و هو جنب.

«1» و ما عن جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) قال

لا تختضب و أنت جنب، و لا تجنب و أنت

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 87

..........

______________________________

مختضب، و لا الطامث، فإنّ الشيطان يحضرها عند ذلك، و لا بأس به للنفساء.

«1» و رواية أبي سعيد قال: قلت لأبي إبراهيم (عليه السّلام): أ يختضب الرجل و هو جنب؟

قال

لا.

قلت: فيجنب و هو مختضب؟

قال

لا.

ثمّ مكث قليلًا، ثمّ قال

يا أبا سعيد، أ لا أدلّك على شي ء تفعله.

قلت: بلى.

قال

إذا اختضبت بالحناء، و أخذ الحنّاء مأخذه و بلغ، فحينئذٍ فجامع.

«2» و رواية كردين المسمعي قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول

لا يختضب الرجل و هو جنب، و لا يغتسل و هو مختضب.

«3» و أمّا

ما يدلّ على الجواز، فكرواية أبي جميلة، عن أبي الحسن الأوّل (عليه السّلام) قال

لا بأس بأن يختضب الجنب، و يجنب المختضب، و يطلي بالنورة.

«4» و رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

لا بأس أن يختضب الرجل، و يجنب و هو مختضب.

«5» هكذا نقل في «الوسائل»، و أظنّ أنّه قد حذف منها: «و يجنب» أيضاً، و لعلّ الكاتب توهّم التكرار و الغلط، فأسقطه، مع أنّه توهّم باطل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 11.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 5.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 1.

(5) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 88

..........

______________________________

و رواية سماعة قال: سألت العبد الصالح (عليه السّلام) عن الجنب و الحائض يختضبان؟

قال

لا بأس.

«1» و أمّا ما هو شاهد للجمع، فهي رواية جعفر بن محمّد بن يونس، أنّ أباه كتب إلى أبي الحسن الأوّل (عليه السّلام)، يسأله عن الجنب يختضب أو يجنب و هو مختضب.

فكتب

لا أُحبّ له ذلك.

«2» و ما نقل من كتاب «اللباس» للعيّاشي، عن علي بن موسى (عليهما السّلام) قال

يكره أن يختضب الرجل و هو جنب.

و قال

من اختضب و هو جنب، أو أجنب في خضابه، لم يؤمن عليه أن يصيبه الشيطان بسوء.

«3» ثمّ إنّ مقتضى خبر أبي سعيد ارتفاع الكراهة بعد أخذ الحناء مأخذه و بلوغه، و تدلّ عليه أيضاً مرسلة الكليني، قال: و روي أيضاً

أنّ المختضب لا يجنب حتّى يأخذ الخضاب، فأمّا في أوّل الخضاب فلا.

«4» السابع: الجماع إذا كان جنباً بالاحتلام، و يدلّ عليه المرويّ

عن «مجالس» الصدوق و «خصاله»: و كره أن يغشى الرجل المرأة و قد احتلم، حتّى يغتسل من احتلامه الذي رأى، فإن فعل و خرج الولد مجنوناً، فلا يلومنّ إلّا نفسه.

الثامن: حمل المصحف، و كذا تعليقه، و قد تقدّم الكلام فيه في الأمر الرابع، فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 8.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 10.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 22، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 89

[القول في واجبات الغسل]

اشارة

القول في واجبات الغسل

[مسألة 1: واجبات الغسل أُمور]
اشارة

مسألة 1: واجبات الغسل أُمور:

[الأوّل: النيّة]
اشارة

الأوّل: النيّة.

و يعتبر فيها الإخلاص، و لا بدّ من استدامتها و لو ارتكازاً. (1)

______________________________

(1) الأوّل: النيّة قد تقدّم الكلام في تحقيق ماهية النيّة و اعتبار الإخلاص فيها و المراد من الإخلاص و لزوم استدامتها و لو ارتكازاً في مبحث نيّة الوضوء، بما لعلّه لا مزيد عليه، و لا حاجة إلى الإطالة بالإعادة؛ لعدم ترتّب فائدة زائدة، و إن كان التكرار في نفسه لا يخلو من الفائدة، كما لا يخفى على اولي النهى و الدراية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 90

[مسألة 2: لو دخل الحمّام بنيّة الغسل]

مسألة 2: لو دخل الحمّام بنيّة الغسل، فإن بقي في نفسه الداعي الأوّل، و كان غمسه و اغتساله بذلك الداعي، بحيث لو سئل عنه حين غمسه ما تفعل؟ يقول: أغتسل، فغسله صحيح، و قد وقع غسله مع النيّة.

و أمّا إذا كان غافلًا بالمرّة، بحيث لو قيل له: ما تفعل؟ بقي متحيّراً، بطل غسله، بل لم يقع منه أصلًا.

[مسألة 3: لو ذهب إلى الحمّام ليغتسل، و بعد ما خرج شكّ في أنّه اغتسل أم لا]

مسألة 3: لو ذهب إلى الحمّام ليغتسل، و بعد ما خرج شكّ في أنّه اغتسل أم لا، بنى على العدم، و أمّا لو علم أنّه اغتسل و لكن شكّ في أنّه على الوجه الصحيح أم لا، بنى على الصحّة. (1)

______________________________

(1) قد تقدّم البحث في هذه المسألة أيضاً في المسألة الثامنة عشر من مسائل شرائط الوضوء، و ملخّصه أنّه لا يعتبر في النيّة التلفّظ، و لا الإخطار في القلب تفصيلًا، بل يكفي فيها الإرادة الإجمالية الارتكازية في النفس، المسمّاة بالداعي.

و مرجعها إلى أنّه لو سئل عن شغله، يقول: أتوضّأ، أو أغتسل مثلًا، و لا بدّ من ملازمة هذا الداعي للعمل إلى حصول الفراغ منه، و لا يكفي مجرّد ثبوته قبله، أو حين الشروع فيه، ثمّ ذهابه و ارتفاعه.

و عليه ففي المقام لا يكفي مجرّد الدخول في الحمّام بنيّة الاغتسال، بل يلزم وجود هذا الداعي حين الشروع إلى حصول الفراغ، بحيث لو سئل عنه ما دام مشتغلًا أنّه ما تفعل؟ لم يبق متحيّراً في الجواب، و لم يقل: إنّي لا أعلم ما أفعل، بل يقول بلا فصل: إنّي أغتسل، و إن كان لا يكون له توجّه و التفات تفصيلي إلى عمله، ما دام لم يتحقّق السؤال منه، بل كان الذهن متوجّهاً إلى مطالب أُخر، إلّا أنّه بالسؤال و مثله

يتوجّه إلى عنوان عمله، و لا يكون متحيّراً. أمّا مع التحيّر فلا خفاء في بطلان غسله، بل عدم وقوعه منه أصلًا، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 91

[الثاني: غسل ظاهر البشرة]
اشارة

الثاني: غسل ظاهر البشرة فلا يجزي غيرها، فيجب عليه حينئذٍ رفع الحاجب، و تخليل ما لا يصل الماء إليه إلّا بتخليله.

و لا يجب غسل باطن العين، و الأنف، و الاذن، و غيرها حتّى الثقبة التي في الاذن، و الأنف، للقرط أو الحلقة، إلّا إذا كانت واسعة بحيث تعدّ من الظاهر، و الأحوط غسل ما شكّ في أنّه من الظاهر أو الباطن. (1)

______________________________

أمّا البناء على العدم مع الشكّ في أصل الغسل؛ فلأنّه لا دليل على البناء على الوجود مع الشكّ فيه، بل الدليل و هو الاستصحاب على خلافه.

و أمّا البناء على الصحّة مع إحراز الوجود، و الشكّ فيها، فلقاعدة الفراغ.

(1) الثاني: غسل ظاهر البشرة أمّا وجوب غسل ظاهر البشرة و استيعابه، فالظاهر أنّه لا خلاف فيه، بل في «الجواهر» دعوى الإجماع عليه تحصيلًا و نقلًا مستفيضاً، كاد يكون متواتراً، و يدلّ عليه الروايات الكثيرة الظاهرة، بل الصريحة في ذلك، كصحيحة زرارة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن غسل الجنابة.

فقال

تبدأ فتغسل كفّيك، ثمّ تفرغ بيمينك على شمالك، فتغسل فرجك و مرافقك، ثمّ تمضمض و استنشق، ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك، ليس قبله و لا بعده وضوء، و كلّ شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته، و لو أنّ رجلًا جنباً ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك، و إن لم يدلك جسده.

«1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات،

ص: 92

..........

______________________________

فإنّ إيجاب غسل الجسد من لدن قرنه إلى قدميه، ظاهر عرفاً في لزوم غسل البشرة، لا ما أحاط بها من الشعر أوّلًا، و لزوم التمامية و الاستيعاب ثانياً.

و الاكتفاء بالمسح على الشعر في الرأس في باب الوضوء، إنّما هو لأنّه لا يتبادر من المسح على ما عليه الشعر نوعاً إلّا مسح الشعر الذي عليه، و هذا بخلاف الغسل، خصوصاً مع تعليقه بالجسد الظاهر في البشرة.

و مثلها صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) عن غسل الجنابة.

فقال

تغسل يدك اليمنى من المرفقين (المرفق خ ل) إلى أصابعك، و تبول إن قدرت على البول، ثمّ تدخل يدك في الإناء، ثمّ اغسل ما أصابك منه، ثمّ أفض على رأسك و جسدك، و لا وضوء فيه.

«1» و قد وقع مثل هذه العبارة في رواية حكم بن حكيم. «2» و في موثّقة سماعة

ثمّ يفيض الماء على جسده كلّه.

«3» و في صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام) بعد الأمر بالصبّ على الرأس ثلاثاً، و على سائر الجسد مرّتين

فما جرى عليه الماء فقد طهر.

«4» و في حسنة زرارة أو صحيحته

فما جرى عليه الماء فقد أجزأه «5»

و غير ذلك من

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 7.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 8.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 1.

(5) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 93

..........

______________________________

الروايات الظاهرة في ذلك.

و يؤيّد بل يدلّ أيضاً على ما ذكرنا: الأخبار الكثيرة، الآمرة بمبالغة النساء في

غسل رءوسهنّ، كصحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

حدّثتني سلمى (سلمة) خادم رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قالت: كانت أشعار نساء النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قرون رءوسهنّ مقدّم رءوسهنّ، فكان يكفيهنّ من الماء شي ء قليل، فأمّا النساء الآن فقد ينبغي لهنّ أن يبالغن في الماء.

«1» و رواية جميل قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عمّا تصنع النساء في الشعر و القرون.

فقال

لم تكن هذه المشطة إنّما كنّ يجمعنه.

ثمّ وصف أربعة أمكنة، ثمّ قال

يبالغن في الغسل.

«2» فإنّ المراد من المبالغة في الماء، أو في الغسل، ليس إلّا إرادة الاهتمام في إيصال الماء إلى أُصول الشعر و الجلد، كما هو ظاهر.

و يدلّ على ما ذكرنا أيضاً: صحيحة حجر بن زائدة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

من ترك شعرة من الجنابة متعمّداً فهو في النار.

«3» قال صاحب «الوسائل»: «المراد أنّه يجب إيصال الماء إلى أُصول الشعر، لا إلى أطرافه».

و لكنّ ظهورها في ذلك محلّ نظر، خصوصاً مع ملاحظة ما في محكيّ كتاب

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 38، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 38، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 1، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 94

..........

______________________________

«المقنع» قال: «رويت أنّ من ترك شعرة متعمّداً لم يغسلها من الجنابة فهو في النار». «1» و يدلّ عليه أيضاً روايات أُخر، دالّة على مسح اللمعة التي بقيت في ظهر أبي جعفر (عليه السّلام) لم يصبها الماء، «2» أو على وجوب الإعادة على من ترك بعض ذراعه، أو بعض جسده من غسل الجنابة. «3» و

صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن المرأة عليها السوار و الدملج في بعض ذراعها، لا تدري يجري الماء تحته، أم لا، كيف تصنع إذا توضّأت، أو اغتسلت؟

قال

تحرّكه حتّى يدخل الماء تحته، أو تنزعه.

و عن الخاتم الضيق، لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضّأ، أم لا، كيف تصنع؟

قال

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 94

إن علم أنّ الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضّأ.

«4» لكن هنا روايات ربّما تدلّ على خلاف ما ذكرنا، كرواية زرارة الصحيحة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قلت له: أ رأيت ما كان تحت الشعر.

قال

كلّ ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يغسلوه، و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء.

«5» باعتبار إطلاقها، و عدم وجود إشعار فيها بالاختصاص بالوضوء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 1، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 41، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 41، الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 42، الحديث 1.

(5) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 46، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 95

..........

______________________________

و صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا (عليه السّلام): الرجل يجنب، فيصيب جسده و رأسه الخلوق، و الطيب، و الشي ء اللكد (اللزق)، مثل علك الروم، و الظرب، و ما أشبهه، فيغتسل، فإذا فرغ وجد شيئاً قد بقي في جسده من أثر الخلوق، و الطيب، و غيره.

قال

لا بأس.

«1» و

رواية إسماعيل بن أبي زياد السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السّلام) قال

كنّ نساء النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إذا اغتسلن من الجنابة يبقين (بقيت) صفرة الطيب على أجسادهنّ، و ذلك أنّ النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أمرهنّ أن يصببن الماء صبّاً على أجسادهنّ.

«2» أقول: أمّا صحيحة زرارة: فالظاهر كونها مجملة، و يقوى احتمال ورودها بعد بيان كيفية الوضوء، فلا يستفاد منها حكم الغسل، و على تقدير تسليم إطلاقها و شمولها للغسل، فاللازم تقييدها بالروايات المتقدّمة الواردة في الغسل، الدالّة على لزوم غسل البشرة بأجمعها، الظاهرة في عدم كون إحاطة الشعر مانعة عن لزومه.

و أمّا صحيحة إبراهيم: فالظاهر عدم منافاتها للروايات السابقة؛ لأنّ بقاء أثر الخلوق و مثله لا دلالة على عدم وصول الماء إلى البشرة، لأنّ الظاهر أنّ المراد به هو اللون الذي لا يرتفع بالغسل، ضرورة أنّه لو كان مرتفعاً به لم يبق بعده، و من المعلوم أنّ بقاء اللون كذلك، لا يمنع عن وصول الماء إليها، بل قد ذكرنا في مبحث

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 30، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 30، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 96

..........

______________________________

نجاسة الدم، أنّ بقاء لونه بعد غسله بما يعدّ في العرف غسلًا لا يوجب بقاء النجاسة، و هكذا المراد من رواية السكوني.

فما عن المحقّق الخوانساري (قدّس سرّه) من نفي البعد عن القول بعدم الاعتداد ببقاء شي ء يسير لا يخل عرفاً بغسل جميع البدن، إمّا مطلقاً أو مع النسيان، لصحيحة إبراهيم بن أبي محمود، لو لم يكن إجماع على خلافه.

مدفوع بما عرفت من منع

دلالة الصحيحة على ذلك، مضافاً إلى احتمال أن يكون غرض السائل هو الشكّ في وصول الماء إلى البشرة، بعد الفراغ عن الغسل، و رؤية الأثر، فيكون الجواب دليلًا على عدم الاعتناء بالشكّ بالفراغ من العمل، فتأمّل.

نعم، حكي عن المحقّق الأردبيلي (قدّس سرّه) أنّه بعد نقل الإجماع على عدم إجزاء غسل الشعر عن غسل بشرة ما تحته، تأمّل في ذلك، استبعاداً من كفاية غرفتين أو ثلاث لغسل الرأس، كما نطق به غير واحد من الأخبار، خصوصاً إذا كان شعر الرأس كثيراً، كما في الأعراب و النساء، أو كانت اللحية كثيرة.

و قد دفعه صاحب «المصباح» بأنّ الشعر إذا كان كثيراً يجتمع الماء فيه، و يسهل إيصاله إلى خلاله بإعانة اليد، مع أنّه ليس غسل مجموع بشرة الرأس بغرفتين أشكل من غسل مجموع الطرف الأيمن بغرفة واحدة، و كذا الأيسر، كما ورد التنصيص بذلك في تلك الأخبار، و لا ريب أنّ استيعاب غسل الطرفين أبعد، مع أنّه لا تأمّل في وجوب الاستيعاب نصّاً و إجماعاً.

ثمّ إنّ مقتضى لزوم غسل ظاهر البشرة رفع الحاجب عن وصول الماء إليه، و تخليل ما لا يصل الماء إليه إلّا بتخليله، من دون فرق بين أن يكون هو الشعر أو غيره.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 97

..........

______________________________

كما أنّه لا فرق في الشعر بين الخفيف منه و الكثيف؛ لأنّ الملاك وصول الماء إلى نفس البشرة. كما عرفت، هذا بالنسبة إلى الظاهر.

و أما الباطن: فقد صرّح في المتن تبعاً لغير واحد من الأصحاب بعدم وجوب غسله، بل عن «المنتهى» و «الحدائق» نفي الخلاف فيه.

و يدلّ عليه مضافاً إلى الأصل، بعد عدم دلالة شي ء من الروايات المتقدّمة على وجوب غسل الباطن

أيضاً؛ لظهورها كما عرفت في لزوم غسل ظاهر البشرة فقط مرسلة أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابه قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الجنب يتمضمض و يستنشق.

قال

لا إنّما يجنب الظاهر.

«1» و رواها الصدوق، عن أبي يحيى، عمّن حدّثه مع زيادة

و لا يجنب الباطن، و الفم من الباطن.

«2» قال الصدوق: و روي في حديث آخر أنّ الصادق (عليه السّلام) قال

في غسل الجنابة إن شئت أن تتمضمض و تستنشق فافعل، و ليس بواجب؛ لأنّ الغسل على ما ظهر لا على ما بطن.

«3» و في رواية عبد اللّٰه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

لا يجنب الأنف و الفم، لأنّهما سائلان.

«4»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 24، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 24، الحديث 7.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 24، الحديث 8.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 24، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 98

..........

______________________________

و في موثّقة سماعة قال: سألته عنهما أي عن المضمضة و الاستنشاق فقال

هما من السنّة، فإن نسيتهما لم يكن عليك إعادة.

«1» و يمكن استفادة حكم المقام من الأخبار المتقدّمة، الواردة في الوضوء أيضاً، فراجع.

و على ما ذكرنا: فلا يجب غسل شي ء من البواطن، حتّى الثقبة التي في الاذن و الأنف، للقرط أو الحلقة، إلّا إذا كانت واسعة، بحيث تعدّ من الظاهر، فيجب غسلها حينئذٍ، و رفع المانع عن وصول الماء إليها، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لو شكّ في كون بعض المواضع من الظاهر، أو الباطن، كأوائل الأنف، و مطبق الشفة، و داخل الاذن، و عكن البطن، و نحوها، فقد احتاط في المتن وجوباً غسله.

و قال السيّد في «العروة»

بعد الحكم بوجوب الغسل على خلاف غسل النجاسات، الذي قال فيه بعدم الوجوب: «و الفرق أنّ هناك الشكّ يرجع إلى الشكّ في تنجّسه، بخلافه هنا، حيث إنّ التكليف بالغسل معلوم، فيجب تحصيل اليقين بالفراغ».

و أُورد عليه: بأنّ مجرّد العلم بالتكليف بالغسل غير كاف في وجوب الاحتياط؛ لتردّده بين الأقلّ و الأكثر، و التحقيق فيه هو الرجوع إلى البراءة.

نعم، لو كان المعلوم هو التكليف بالطهارة، التي هي الأثر الحاصل من الغسل كما يقتضيه قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا، فيرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في المحصّل، الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 24، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 99

..........

______________________________

أقول: وجوب الاحتياط لا يتوقّف على دعوى كون الواجب هي الطهارة الحاصلة بالغسل حتّى تدفع بالمنع عنه، و عدم دلالة الآية الشريفة على كون الطهارة أمراً وراء الغسل و أفعاله، كما مرّ بعض الكلام في ذلك في مبحث الوضوء فلاحظ، بل يتحقّق بأن يقال: إنّ المستفاد من الروايات المتقدّمة أنّ الواجب في باب الغسل هو غسل ظاهر البشرة بتمامها، و من المعلوم أنّ المراد به ما هو ظاهر واقعاً.

و لا وجه لما في «المصباح» من أنّه لم يثبت اشتغال الذمّة بأزيد ممّا علم كونه من الظاهر؛ و ذلك لأنّ العلم لا دخل له في متعلّق التكليف أصلًا، فالواجب غسل ما هو ظاهر بحسب الواقع، و مع الاقتصار على غسل ما هو معلوم كونه من الظاهر، لا يكاد يتحقّق العلم بامتثال هذا التكليف.

و يمكن أن يقال: إنّ وجوب غسل المشكوك إنّما هو لأجل أنّ ظاهر الروايات المتقدّمة الدالّة على وجوب غسل الجسد من لدن القرن إلى

القدم هو وجوب غسله بظاهره و باطنه بالمقدار الذي يمكن غسله، و قد قام الدليل المنفصل على نفي وجوب غسل الباطن؛ لعدم جنابته، و إذا دار أمر المقيّد المنفصل بين الأقلّ و الأكثر، لكان اللازم الرجوع في مورد الشكّ إلى الدليل المطلق، و الحكم بوجوب غسله، فالحكم بالوجوب حينئذٍ ليس لأجل أنّ مقتضى حكم العقل في مورد الشكّ هو الاحتياط، بل لأجل لزوم الرجوع إلى الدليل المطلق في مورد الشكّ في شمول دليل التقييد.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 100

[مسألة 4: يجب غسل ما تحت الشعر من البشرة]

مسألة 4: يجب غسل ما تحت الشعر من البشرة، و كذا الشعر الدقيق الذي يعدّ من توابع الجسد، و الأحوط وجوب غسل الشعر مطلقاً. (1)

______________________________

(1) أمّا وجوب غسل ما تحت الشعر من البشرة، فلما عرفت من ظهور الأدلّة في استيعاب غسل البشرة، من دون فرق بين الموضع الذي كان تحت الشعر، و بين غيره.

و قد مرّ أنّ صحيحة زرارة الدالّة على عدم وجوب غسل ما أحاط به الشعر، إمّا أن تكون مختصّة بالوضوء، أو تكون مقيّدة بالروايات الواردة في الغسل.

و أمّا وجوب غسل الشعر الدقيق الذي يعدّ من توابع الجسد، كشعر اليد غالباً، فلأنّ اتّصافه بالتبعية يوجب أن يكون المتفاهم العرفي من النصوص الظاهرة في لزوم غسل الجسد ما هو أعمّ منه، كما تقدّم في باب الوضوء أيضاً، فإنّه لا يفهم عرفاً من غسل اليد الواجب في الوضوء خصوص غسل البشرة، بحيث كان الشعر خارجاً.

و أمّا غسل غير الشعر الدقيق كذلك، فالمحكيّ عن «المنتهى» و «كشف اللثام» نفي الخلاف عن عدم وجوب غسله، و عن «المعتبر» و «الذكرى» نسبته إلى الأصحاب.

و قد استدلّ عليه مضافاً إلى الأصل برواية غياث بن

إبراهيم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، عن أبيه، عن علي (عليه السّلام) قال

لا تنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت من الجنابة «1»

، و رواه بعينه الحلبي، عن رجل، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام). «2» و لكنّ المحكيّ عن «الحدائق» أنّه قال بعد نقل ما ذكر: «و للنظر في ذلك مجال:

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 38، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 38، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 101

..........

______________________________

أمّا أوّلًا: فلمنع خروجه من الجسد و لو مجازاً، كيف و قد حكموا بوجوب غسله في يدي المتوضّي، معلّلين تارة بدخوله في محلّ الفرض، و اخرى بأنّه من توابع اليد، فإذا كان داخلًا في اليد بأحد الوجهين المذكورين، فاليد داخلة في الجسد البتّة، و لو سلّم خروجه من الجسد، فلا يخرج من الدخول في الرأس و الجانب الأيمن و الأيسر، المعبّر بها في جملة من الأخبار.

و أمّا ثانياً: فلأنّه لا يلزم من عدم النقض في صحيحة الحلبي عدم وجوب الغسل، لإمكان الزيادة في الماء حتّى يروي». إلى أن قال:

«و أمّا ثالثاً: فلما روي في صحيحة حجر بن زائدة، عن الصادق (عليه السّلام) أنّه قال

من ترك شعرة من الجنابة متعمّداً فهو في النار.

«3» و التأويل بالحمل على أنّ المراد بالشعرة ما هو قدرها من الجسد، لكونها مجازاً شائعاً كما ذكروا، و إن احتمل إلّا أنّه خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلّا بدليل».

إلى أن قال: «و يزيدك بياناً و تأكيداً ما روي عنه مرسلًا، من قوله

تحت كلّ شعرة جنابة، فبلّوا الشعر، و أنقوا البشرة.

و استدلّ أيضاً بالأمر بمبالغة النساء في غسل رءوسهنّ في حسنة جميل، و صحيحة

محمّد بن مسلم المتقدّمتين، و بقول الصادق في حسنة الكاهلي

مرها أن تروي رأسها من الماء، و تعصره حتّى يروى، فإذا روى فلا بأس عليها ..

» انتهى ملخّصاً.

أقول: يرد على ما أفاده أوّلًا: أنّ دعوى صدق الجسد على الشعر حقيقة

______________________________

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 1، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 102

..........

______________________________

ممنوعة، و مجازاً غير مفيدة، و كذا دعوى صدق الرأس على الشعر المتدلّي عليه و على اللحية غير واضحة، فإنّ الرأس اسم للعضو المخصوص.

و الفرق بين المقام، و بين الوضوء، ما عرفت من كون الشعر في اليد دقيقاً غالباً، و معدوداً من توابع اليد، و هذا أيضاً يجب غسله في باب الغسل، و الكلام الآن في الشعر الذي لا يكون كذلك، كشعر الرأس.

اللّهم، إلّا أن يقال: بأنّه و إن لم يكن من توابع الرأس، أو الجسد، إلّا أنّ المتفاهم من الأمر بغسل الجسد كلّه من لدن قرنه إلى قدمه هو لزوم غسل ما هو أعمّ من الشعر، كما يظهر بمراجعة العرف.

نعم، ذكر في «المصباح» أنّه يفهم ارادة غسله إرادة تبعية، لا أصلية، و معناها أنّ غسله و إن كان مراداً للمولى، إلّا أنّه حيث كانت الإرادة المتعلّقة به إرادة تبعية، لا تقدح مخالفتها و عدم رعايتها في مقام العمل.

و لكن لا يخفى أنّ التبعية الخارجية لا تقتضي التبعية في مقام الإرادة، و لا مجال لتعلّق الإرادة و جواز المخالفة، مع أنّك عرفت عدم كون التبعية خارجيّة أيضاً، كما هو المفروض في هذه الصورة.

و أمّا ما أفاده ثانياً: فالإنصاف أنّه لا يخلو من وجه، كما أنّ ما أفاده ثالثاً أيضاً كذلك، فإنّه لا مساغ للتأويل في الصحيحة،

و حملها على كون المراد مقدار الشعرة.

و أمّا المرسلة فهي ظاهرة في خلاف ما ذكره؛ لأنّ مفادها ثبوت وصف الجنابة لما هو تحت الشعرة، لا لنفسها، و عليه فالأمر ببلّ الشعر إنّما هو لأجل ترتّب غسل ما هو متّصف بالجنابة عليه، خصوصاً مع قوله بعده

و أنقوا البشرة.

و أمّا الأمر بمبالغة النساء في غسل رءوسهنّ، كما تدلّ عليه الروايتان، فلا دلالة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 103

..........

______________________________

له على وجوب غسل الشعر من حيث هو، كما أنّه لا دلالة له على العدم، بل هو يجتمع مع كلا الاحتمالين.

نعم، دلالته على لزوم غسل البشرة في الرأس واضحة ظاهرة، و لعلّ مثله هو الذي أوجب الفرق بين المقام، و بين باب الوضوء، حيث يكتفى في غسل الوجه فيه بغسل المقدار المتدلّي من اللحية به، و لا يلزم غسل البشرة المحاطة به، لما عرفت من عدم لزوم التخليل، و أنّه لا فرق بين الشعر الكثيف و الخفيف أصلًا، و لا يكتفى في غسل الرأس مثلًا في الغسل بغسل ظاهر الشعر المحيط به.

و أما حسنة الكاهلي فلا بأس بنقلها بتمامها، ثمّ ملاحظة مفادها، فنقول: قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّ النساء اليوم أحدثن مشطاً، تعمد إحداهنّ إلى القرامل من الصوف، تفعله الماشطة، تصنعه مع الشعر، ثمّ تحشوه بالرياحين، ثمّ تجعل عليه خرقة رقيقة، ثمّ تخيطه بمَسلّة، ثمّ تجعلها في رأسها، ثمّ تصيبها الجنابة.

فقال

كان النساء الأُول إنّما يتمشّطن المقاديم، فإذا أصابهنّ الغسل تغدر، مرها أن تروي رأسها من الماء، و تعصره حتّى يروى، فإذا روى فلا بأس عليها.

قال: قلت: فالحائض.

قال

تنقض المشطة نقضاً.

«1» قال صاحب «المنتقى»: «تغدر: معناه تترك الشعر على حاله،

و لا تنقضه»، و قال في «القاموس»: «أغدره: تركه و أبقاه كغادره».

و مثلها موثّقة عمّار بن موسى الساباطي، أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المرأة تغتسل، و قد امتشطت بقرامل، و لم تنقض شعرها، كم يجزيها من الماء؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 38، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 104

..........

______________________________

قال

مثل الذي يشرب شعرها، و هو ثلاث حفنات على رأسها، و حفنتان على اليمين، و حفنتان على اليسار، ثمّ تمرّ يدها على جسدها كلّه.

«1» و الظاهر أنّ الحسنة لا ظهور فيها في وجوب غسل الشعر، و أنّ وجوب عصر الرأس بما عليه من الشعر إنّما يكون مقدّمة لريّ الرأس، خصوصاً بملاحظة أنّ المشطة بالكيفية المذكورة فيها، تمنع عن وصول الماء إلى كلّ شعرة، و نفوذه فيها، مع أنّ الشعر يأبى عن نفوذ الماء فيه، و العصر لا يوجب كذلك.

و أمّا الموثّقة فيمكن حملها على كون شرب الشعر مقدّمة لريّ الرأس، بأن يكون مجموعاً على الرأس، و لكنّ الظاهر دلالتها على وجوب شرب الشعر أيضاً، و أنّ اختصاص الرأس بثلاث حفنات دون اليمين و اليسار، اللذين يكفي فيهما حفنتان، إنّما هو لأجل ذلك، كما عرفت ظهور صحيحة حجر في ذلك أيضاً.

و عليه فما يدلّ على عدم وجوب نقض المرأة شعرها إذا اغتسلت من الجنابة، لا بدّ و أن يكون المراد منه عدم انحصار طريق وصول الماء إلى الشعر بنقضه، و إمكانه بدونه، كما أنّي أظنّ أن يكون المراد من النقض هو نقض المشطة التي كان على الرأس، و أن الغرض بيان عدم لزوم نقضه في مقام الاغتسال، لإمكان إيصال الماء إلى الشعر بدونه، و يؤيّده ذكر كلمة

«النقض» في كثير من الروايات المتقدّمة في مورد التمشّط، خصوصاً بالقرامل.

و على ما ذكرنا فالأحوط لو لم يكن أقوى هو وجوب غسل الشعر، كما مال إليه في «الحدائق» حاكياً له عن «الحبل المتين» و بعض مشايخه، فتدبّر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 38، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 105

[الثالث: الترتيب في الترتيبي الذي هو أفضل من الارتماسي]
اشارة

الثالث: الترتيب في الترتيبي الذي هو أفضل من الارتماسي، الذي هو عبارة عن تغطية البدن في الماء مقارناً للنيّة، و يكفي فيها استمرار القصد و لو ارتكازاً.

و الترتيب: عبارة عن غسل تمام الرأس، و منه العنق، مدخلًا لبعض الجسد معه مقدّمة، ثمّ تمام النصف الأيمن، مدخلًا لبعض الأيسر و بعض العنق معه مقدّمة.

و الأحوط الأولى إدخال تمام الجانب الأيمن من العنق في النصف الأيمن، و إدخال بعض الرأس معه مقدّمة، ثمّ تمام النصف الأيسر، مدخلًا لبعض الأيمن و العنق معه مقدّمة.

و الأحوط الأولى إدخال تمام الجانب الأيسر من العنق في الجانب الأيسر، و إدخال بعض الرأس مقدّمة، و تدخل العورة و السرّة في التنصيف المذكور، فيغسل نصفهما الأيمن مع الأيمن، و نصفهما الأيسر مع الأيسر، إلّا أنّ الأولى غسلهما مع الجانبين، و اللازم استيعاب الأعضاء الثلاثة بالغسل بصبّة واحدة، أو أكثر، بفرك، أو دلك، أو غير ذلك. (1)

______________________________

(1) الثالث: الترتيب في الترتيبي للغسل كيفيتان:

إحداهما: الترتيبي الذي هو أفضل من الارتماسي، و الدليل على الأفضلية هو ورود الأمر به في كثير من الروايات الواردة في كيفية الغسل، و لكنّه محمول على الاستحباب، جمعاً بينها، و بين ما دلّ على إجزاء الارتماسي.

و قد ورد في بعض الروايات الجمع بين الكيفيتين، و لأجله يشكل الحكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 106

..........

______________________________

بالأفضلية؛ نظراً إلى شهادة هذا البعض بكون كلّ من الطائفتين إنّما تدلّ على بيان واحدة من الكيفيتين، من دون أن تكون هناك فضيلة في البين.

و إن شئت قلت: إنّ الأمر الوارد في الطائفة الاولى و إن كان في نفسه ظاهراً في الوجوب التعييني إلّا أنّ الطائفة الثانية قرينة على كون المراد هو التخييري، فلا يبقى وجه للدلالة على الفضيلة، و لكنّ الأمر سهل.

و كيف كان: فالكلام يقع في غسل الرأس من جهتين:

الاولىٰ: في لزوم تقديم غسله على الجانبين في الغسل الترتيبي، الذي هو مفروض الكلام، و قد ادّعى الإجماع صريحاً، أو ظاهراً، جماعة كثيرة من المتقدّمين و المتأخّرين، و لم ينقل التصريح بالخلاف فيه من أحد.

نعم، عن ظاهر الصدوقين عدم الوجوب، لكن في آخر كلامهما قد صرّحا بوجوب الإعادة لو لم يقدّم الرأس.

كما أنّه نسب الخلاف إلى إشعار كلام الإسكافي، من دون أن يكون له تصريح بذلك، و العمدة في الباب هي الروايات المستفيضة؛ لظهور كون الإجماع على تقدير ثبوته مستند إليها، من دون أن يكون له أصالة.

منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن غسل الجنابة.

فقال

تبدأ بكفيك فتغسلهما، ثمّ تغسل فرجك، ثمّ تصبّ على رأسك ثلاثاً، ثمّ تصبّ على سائر جسدك مرّتين، فما جرى عليه الماء فقد طهر.

«1» و منها: صحيحة زرارة أو حسنته قال: قلت: كيف يغتسل الجنب؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 107

..........

______________________________

فقال

إن لم يكن أصاب كفّه شي ء غمسها في الماء، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف، ثمّ صبّ على رأسه ثلاثة أكفّ، ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين،

و على منكبه الأيسر مرّتين، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه.

«1» و منها: صحيحة حريز الواردة في الوضوء يجفّ قال: قلت: فإن جفّ الأوّل قبل أن أغسل الذي يليه.

قال

جفّ أو لم يجفّ اغسل ما بقي.

قلت: و كذلك غسل الجنابة؟

قال

هو بتلك المنزلة، و ابدأ بالرأس، ثمّ أفض على سائر جسدك.

قلت: و إن كان بعض يوم.

قال

نعم.

«2» و دلالتها في الوضوء على ما لا يقول به أصحاب، بحيث لا بدّ من التأويل، أو الحمل على التقية، كما عن الشيخ (قدّس سرّه) لا تقتضي قصوراً فيها، بالإضافة إلى غسل الجنابة، كما لا يخفى.

و أصرح من هذه الروايات الدالّة على المقصود، بلحاظ العطف بكلمة «ثمّ»، الظاهرة في التقديم و التأخير، حسنة زرارة أو صحيحته، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

من اغتسل من جنابة، فلم يغسل رأسه، ثمّ بدا له ان يغسل رأسه، لم يجد بدّاً من إعادة الغسل.

«3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 33، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 28، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 108

..........

______________________________

فإنّ مقتضاها «ان» الشرطية، و اعتبار تقدّم الرأس أمر واقعي، يوجب الإخلال به الإعادة و لو جهلًا، أو سهواً، ضرورة أنّ موردها غير صورة العمد و العلم، فإنّ المريد للاغتسال، العالم بكيفيته، لا يترك غسل الرأس في محلّه فلا بدّ من فرضه في غير هذه الصورة.

نعم، هنا روايات ربّما يستشعر، بل يستظهر منها خلاف ذلك، و أنّ المقصود من الغسل إنّما هو غسل جميع البدن، من دون اعتبار أمر زائد فيه.

كصحيحة زرارة المتقدّمة في بحث غسل ظاهر البشرة، المشتملة على قوله (عليه السّلام)

ثمّ

تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك، ليس قبله و لا بعده وضوء، و كلّ شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته، و لو أنّ رجلًا جنباً ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك، و إن لم يدلك جسده.

«1» فإنّ وقوعها جواباً عن السؤال عن كيفية غسل الجنابة، مع عدم التعرّض لاعتبار تقدّم الرأس، ظاهر في عدم الاعتبار، خصوصاً مع اشتمالها على ذكر أُمور كثيرة خارجة عن الغسل، و بيان الترتيب بينها و العطف بكلمة «ثمّ» فيها.

و رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن غسل الجنابة.

فقال

تصبّ على يديك الماء فتغسل كفّيك، ثمّ تدخل يدك فتغسل فرجك، ثمّ تتمضمض، و تستنشق، و تصبّ الماء على رأسك ثلاث مرّات، و تغسل وجهك، و تفيض على جسدك الماء.

«2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 109

..........

______________________________

فإنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، خصوصاً مع كون غسل الوجه معطوفاً على الرأس كذلك.

و رواية البزنطي المروية في «قرب الإسناد»، عن الرضا (عليه السّلام) أنّه قال في غسل الجنابة

تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى أصابعك، ثمّ تدخلها في الإناء، ثمّ اغسل ما أصاب منك، ثمّ أفض على رأسك و سائر جسدك.

«1» و مرسلة محمّد بن أبي حمزة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في رجل أصابته جنابة، فقام في المطر حتّى سأل على جسده، أ يجزيه ذلك من الغسل؟

قال

نعم.

«2» و ربّما يقال: إنّ مقتضى الجمع بين الطائفتين تقييد هذه الأخبار بما يحصل معه الترتيب، لأظهرية الطائفة الأُولى، سيّما بعضها في الدلالة على الاعتبار من هذه الطائفة.

و لكنّه قد

نوقش فيه بإباء المطلقات عن التقييد، خصوصاً مع ما عرفت من اشتمال بعضها على ذكر أُمور خارجة عن الغسل، و عدم التعرّض للترتيب، و مع اشتمال المقيّدات على ما لا يقول بوجوبه المشهور، سيّما مع عطف بعضها على بعض بكلمة «ثمّ» المفيدة للترتيب، و مع قوّة احتمال وقوع العطف بهذه اللفظة للجري مجرى العادة.

و عليه فحمل المقيّدات على الاستحباب أولى من تقييد المطلقات بها، مع أنّ صحيحة زرارة الدالّة على لزوم الغسل من لدن قرنه إلى قدمه، ظاهرة في أنّه ليس

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 15.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 110

..........

______________________________

للغسل إلّا ماهيّة واحدة، و أنّ خصوصية الارتماسي إنّما هي من جهة عدم اعتبار الدلك فيها، لا من جهة عدم اعتبار الترتيب.

و أمّا رواية زرارة الواردة في مخالفة الترتيب، فقد نوقش فيها بأنّ البطلان إنّما كان من جهة التشريع المنافي لقصد الامتثال، لا من جهة فوات الترتيب؛ لأنّ موردها صورة العمد، كما هو ظاهر قوله (عليه السّلام)

ثمّ بدا له

، فلا ارتباط لها بالمقام أصلًا.

كما أنّ رواية حريز لا تكون مسندة إلى الإمام (عليه السّلام)، نعم عن «الذكرى» أنّه رواها الصدوق في «مدينة العلم» مسندة عن الصادق (عليه السّلام)، اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ مثل حريز لا يروي إلّا عن الإمام، أو عمّن يروي عنه، كزرارة، خصوصاً مع رواية الشيخ للرواية، و رواية رجال السند و فيهم الأجلّاء، و بعضهم من أصحاب الإجماع.

و لكنّ المناقشة في الروايات الدالّة على اعتبار الترتيب مندفعة بظهورها فيه، و أنّه لا مجال لرفع اليد عمّا هو ظاهر العطف ب «ثمّ» من اعتبار

الترتيب.

كما أنّ حمل رواية زرارة الواردة في مورد مخالفة الترتيب على صورة العمد بعيد جدّاً، لما عرفت من عدم تحقّق مثل ذلك من العالم المريد للامتثال أصلًا، غاية ما في المقام ثبوت المعارضة بين الطائفتين، و اللازم بعده الرجوع إلى المرجّحات، و أوّلها على ما هو الحقّ هي الشهرة الفتوائية الموافقة للطائفة الاولى، فلا محيص عن القول بالترتيب.

و يظهر من ذلك أنّه يلزم ارتكاب التأويل، أو الطرح فيما رواه هشام بن سالم، قال: كان أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) فيما بين مكّة و المدينة، و معه أُمّ إسماعيل، فأصاب من جارية له، فأمرها فغسلت جسدها، و تركت رأسها.

و قال لها

إذا أردت أن تركبي فاغسلي رأسك.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 111

..........

______________________________

ففعلت ذلك، فعلمت بذلك أُمّ إسماعيل فحلقت رأسها، فلمّا كان من قابل انتهى أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) إلى ذلك المكان، فقالت له أُمّ إسماعيل: أيّ موضع هذا؟! قال لها

هذا الموضع الذي أحبط اللّٰه فيه حجّك عامّ أوّل.

«1» قال الشيخ: هذا الحديث قد وهم الراوي فيه، و اشتبه عليه، فرواه بالعكس، لأنّ هشام بن سالم راوي هذا الحديث روى ما قلناه بعينه.

و عنى بذلك ما رواه هشام بن سالم، عن محمّد بن مسلم، قال: دخلت على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) فسطاطه و هو يكلّم امرأة، فأبطأت عليه.

فقال

ادنه، هذه أُمّ إسماعيل جاءت، و أنا أزعم أنّ هذا المكان الذي أحبط اللّٰه فيه حجّها عامّ أوّل، كنت أردت الإحرام.

فقلت: ضعوا إليّ الماء في الخباء، فذهبت الجارية بالماء فوضعته، فاستخففتها، فأصبت منها.

فقلت: اغسلي رأسك، و امسحيه مسحاً شديداً لا تعلم به مولاتك، فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك، و لا

تغسلي رأسك، فتستريب مولاتك.

فدخلت فسطاط مولاتها، فذهبت تتناول شيئاً، فمسّت مولاتها رأسها فإذا لزوجة الماء، فحلقت رأسها و ضربتها.

فقلت لها: هذا المكان الذي أحبط اللّٰه فيه حجّك.

«2» فالرواية بالكيفية الاولى مشتبهة، و إن كان الاعتبار من جهة عدم اطّلاع مولاتها ربّما يساعد الأوّل كما لا يخفى، كما أنّ نفس الواقعة محلّ للشكّ و الارتياب؛

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 28، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 29، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 112

..........

______________________________

نظراً إلى أنّه لم يكن موجب لحلق رأسها و ضربها، فلم لم ينكر عليها الإمام (عليه السّلام) و لو بعد وقوعه، و اقتصر بالإخبار بالإحباط بعد مضيّ العامّ.

الجهة الثانية: في كون العنق من الرأس، فيجب غسله معه بلا خلاف فيه ظاهراً، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه، لكنّه استشكل فيه جماعة من المتأخّرين، كالخراساني في «الذخيرة» و بعض آخر.

و منشأ الإشكال: عدم دخول الرقبة في مفهوم الرأس، و عدم ثبوت كون الرأس حقيقة فيما يعمّها، مضافاً إلى إشعار رواية أبي بصير المتقدّمة، المشتملة على قوله (عليه السّلام)

تصبّ الماء على رأسك ثلاث مرّات، و تغسل وجهك، و تفيض الماء على جسدك.

«1» بعدم دخول الوجه في الرأس، فضلًا عن دخول الرقبة فيه.

و الحقّ: أنّه إن أُطلق الرأس في مقابل مثل الوجه، كما في آية الوضوء، فهو كما لا يشمل الرقبة لا يعمّ الوجه أيضاً، و إن أُطلق في مقابل الجانبين الأيمن أو الأيسر، فهو يعمّ الرقبة قطعاً، فضلًا عمّا إذا أُطلق في مقابل المنكبين، كما في صحيحة زرارة المتقدّمة أيضاً، المشتملة على قوله

ثمّ صبّ على رأسه ثلاثة أكفّ، ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين، و

على منكبه الأيسر مرّتين «2»

، فإنّ المتبادر منها ليس إلّا إرادة غسل ما فوق المنكب بالماء الذي يصبّ على الرأس، و ما تحت المنكب بالماء الذي يصبّ على المنكب.

و التعبير بالمنكب مع كون المراد هو مجموع الجانبين، إنّما هو لأنّ صبّ الماء على الجزء العالي يوجب غسل الأجزاء السافلة المسامتة له، و لا وجه

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 113

..........

______________________________

للأمر بصبّ الماء على المنكب مع كون المراد الرقبة أيضاً، لأنّه خلاف المتعارف.

و بالجملة فجعل الرأس قسيماً للمنكبين اللذين يكون المقصود بهما هما مع جميع الأجزاء الواقعة تحتهما دليل على كون المراد به أعمّ من الرقبة، كما أنّه أعمّ من الوجه.

و أمّا تخصيص غسل الوجه بالذكر، بعد الأمر بصبّ الماء على الرأس في رواية أبي بصير، إن دلّ على المغايرة فمقتضاه الترتيب بين الرأس و الوجه أيضاً، مع أنّه لم يقل به أحد، و إلّا فلا يدلّ على خروج الرقبة منه.

و لكن مع ذلك كلّه لا ينبغي ترك الاحتياط بالكيفيّة المذكورة في المتن، خروجاً عن شبهة الخلاف، و إن كانت ضعيفة جدّاً، هذا ما يتعلّق بغسل الرأس.

و أمّا الجانبان فالترتيب بينهما في الغسل بتقديم الأيمن على الأيسر هو المشهور بين الأصحاب على ما ادّعاه غير واحد، بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه، و عن جماعة دعوى الإجماع على عدم الفصل في الترتيب بين الرأس و الجانبين، و بينهما.

و عن «الانتصار» و «الذكرى» الإجماع على عدم الفصل بين الترتيب في الوضوء، و بينه في جميع أعضاء الغسل.

و لكنّه مال إلى النفي جماعة، كالبهائي، و المجلسي،

و صاحبي «المدارك» و «الذخيرة»، بل نسب إلى الصدوقين و بعض آخر أيضاً.

و قد استدلّ على المشهور مضافاً إلى ذلك بصحيحة زرارة المتقدّمة، المعبّرة بالمنكبين الأيمن و الأيسر، العاطفة للثاني على الأوّل بالواو.

و أُورد عليه: بعدم دلالة الواو على الترتيب عند الجمهور.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 114

..........

______________________________

و أُجيب: بأنّه يستفاد من الرواية كون الجسد في الغسل ثلاثة أجزاء: الرأس، و المنكب الأيمن، و المنكب الأيسر، و لا أحد ممّن يقول بذلك إلّا و هو قائل بالترتيب، إذ القائل بعدمه يدّعي أنّه جزءان: الرأس، و الجسد، أو يقال: إنّ المنساق إلى الذهن من هذه العبارة مع قطع النظر عن قاعدة الواو الترتيب.

و نوقش في هذا الجواب: بأنّ العرف و العادة يشهدان بأنّ من يريد أن يكلّف عبده بغسل جسده بالأكفّ بعد غسل رأسه، ربّما يعبّر بقوله: اغسل رأسك، ثمّ أفض الماء على جسدك كلّه، و قد يعبّر بقوله: صبّ كفّاً أو كفّين مثلًا على هذا الطرف، و كذا صبّ كفّاً على ذلك الطرف، و أجر الماء المصبوب على سائر جسدك، كما وقع التعبير به في هذه الرواية.

و مجرّد عدم إمكان إيجاد الفعلين دفعة، و إن كان موجباً لاستشعار الترتيب، من تعلّق الطلب بأحدهما قبل الآخر، إلّا أنّه مجرّد إشعار لا يبلغ مرتبة الدلالة.

و بالغ المناقش في ذلك بحيث أنكر كون المقصود من الرواية الترتيب بين المنكبين و لو على القول بإفادة الواو الترتيب، كما عن الفرّاء خلافاً للجمهور؛ نظراً إلى أنّه من المستبعد جدّاً، بل المستحيل عقلًا أن يكون غرض الإمام بيان وجوب الفراغ من الجانب الأيمن حتّى باطن الرجلين، ثمّ الشروع في الجانب الأيسر، و يعبّر بمثل هذه العبارة

التي أنكر ظهورها في المدّعى أغلب من تصدّى للاستدلال بها، مع كون ما أُريد منها من الأفراد النادرة، التي لا تكاد تتحقّق في الخارج، ممّن يريد غسل جسده إلّا بملزم تعبّدي، و لا ينصرف الذهن إليه إلّا بالتنصيص عليه.

و يرد على أصل المناقشة: أنّ إرادة تكليف العبد بغسل الجسد بالأكفّ بعد غسل رأسه، لا تكاد تجتمع مع تنصيف الجسد، و تخصيص كلّ نصف بمقدار، خصوصاً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 115

..........

______________________________

مع التصريح بالأيمن و الأيسر، و لو كان المراد هو الغسل من دون الترتيب، لما كان ملزم للتنصيف مع الكيفية المذكورة، و ليس هذا راجعاً إلى مفهوم اللقب حتّى يمنع بعدم ثبوت المفهوم له، بل إلى ما هو المتبادر و المتفاهم عند العرف من العبارة.

و على المبالغة فيها: أنّه لو فرض كون الواو مفيدة لمعنى «ثمّ» فأيّ قصور يبقى في إفادة الترتيب؟! كما استفيد بالنسبة إلى الرأس من نفس كلمتها؛ إذ لم يتوهّم أحد كون المراد نفس المنكبين، بعد وضوح لزوم غسل الجسد كلّه في غسل الجنابة، خصوصاً لمثل زرارة، فالمراد هما المنكبان مع الأجزاء السافلة الواقعة تحتهما، فأيّ فرق يبقى بينهما، و بين الترتيب المدلول عليه في الرأس؟! و إنكار أغلب المتصدّين للاستدلال إنّما هو لأجل إنكارهم دلالة الواو على الترتيب، و إلّا فمع البناء على الدلالة كما هو المفروض لم يعلم إنكار من أحد، فالإنصاف تماميّة دلالة الرواية.

و أمّا موثّقة سماعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

إذا أصاب الرجل جنابة، فأراد الغسل، فليفرغ على كفّيه و ليغسلهما دون المرفق، ثمّ يدخل يده في إنائه، ثمّ يغسل فرجه، ثمّ ليصبّ على رأسه ثلاث مرّات مل ء كفّيه،

ثمّ يضرب بكفّ من ماء على صدره، و كفّ بين كتفيه، ثمّ يفيض الماء على جسده كلّه، فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس.

«1» فالظاهر أنّها لا تكون في مقام بيان كيفية الغسل، بل الأُمور الموصوفة فيها إنّما هي مقدّمة للغسل، يؤتى بها قبله استحباباً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 116

..........

______________________________

و الشاهد لذلك مضافاً إلى ظهور قوله

إذا أصاب الرجل جنابة، فأراد الغسل

في كون هذه الأُمور إنّما يؤتى بها قبله، و أنّ نفس الغسل معلومة، لا تكون الرواية بصدد بيانها، و إلى قوله

فما انتضح ..

نظراً إلى أنّه مع تماميّة الغسل لا يبقى ماء منتضح في الإناء أنّ ضرب كفّ من الماء على الصدر، و كفّ بين الكتفين، لا يكون في الغسل واجباً أصلًا، فضلًا عن لزوم الترتيب بينه و بين الرأس أوّلًا بتقدّمه عليه، و بينه و بين الجسد ثانياً بتأخّره عنه.

فلا وجه لجعل الموثّقة دالّة على نفي الترتيب بين الجانبين، كما في «المستمسك» فتدبّر.

ثمّ إنّه قد يستدلّ لثبوت الترتيب بين الجانبين بالأخبار المستفيضة، الواردة في كيفية غسل الميّت، الظاهرة في وجوب الترتيب بينهما، بضميمة الأخبار الكثيرة المصرّحة بأنّ غسل الميّت بعينه هو غسل الجنابة، و إنّما وجب تغسيله لصيرورته جنباً عند الموت.

و في بعض الروايات أنّه مثله، كرواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه قال

غسل الميّت مثل غسل الجنابة، و إن كان كثير الشعر؛ فردّ عليه الماء ثلاث مرّات.

«1» و يرد عليه: ما أُفيد من أنّ ما دلّ على أنّه غسل جنابة، إن كان المراد منه أنّه غسل جنابة تنزيلًا،

فمقتضاه ترتيب أحكام غسل الجنابة عليه، لا ترتيب أحكامه على غسل الجنابة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب غسل الميّت، الباب 3، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 117

..........

______________________________

و إن كان المراد أنّه غسل جنابة حقيقة، فوجوب الترتيب فيه لا يوجب التعدّي منه إلى المقام، لإمكان الفرق بين جنابة الحيّ و الميّت؛ و لذا لا يتوهّم التعدّي في غير الترتيب من الأحكام المختصّة به، كالسدر، و الكافور، و غيرهما.

و من الجائز أن يكون إلزام الشارع بهذا القسم من الغسل، أعني ما كان مرتّباً بالإضافة إلى الميّت، مسبّباً عن خصوصية فيه؛ لكونه تعظيماً للميّت، أو كون غيره توهيناً له بإقامته على قدميه أو إقعاده، فلا يبقى مجال لإلغاء الخصوصية.

و أمّا رواية محمّد بن مسلم الدالّة على المماثلة، فالعرف لا يساعد على استفادة عموم المنزلة منها، فإنّ المنسبق إلى الذهن في مثله، هو إرادة تشبيه غسل الميّت بغسل الجنابة في الكيفيّات المعهودة المعتبرة فيه، دون العكس.

و لكنّ الإنصاف: دلالة هذه الطائفة على اعتبار الترتيب كما هو المتفاهم عند العرف، فإنّه مع عدم كون النظر إلى الترتيب أيضاً لا يبقى وجه للعينية و المماثلة، و اعتبار خصوصيات زائدة فيه من ثلاث تغسيلات، و السدر، و الكافور، قد علم عدمه في غسل الجنابة بالضرورة، فلا يصير شاهداً على عدم اعتبار الترتيب.

و دعوى الفرق بين جنابة الحيّ و الميّت من هذه الجهة واضحة المنع، كما أنّ الفرق بين كونه راجعاً إلى التغسيل و البحث في المقام إنّما هو عن الغسل أيضاً كذلك.

و يؤيّد ما ذكرنا ما يقال من أنّه: لو كانت كيفية غسل الجنابة مخالفة لغسل الميّت من حيث اعتبار الترتيب و عدمه، لوجب في كلّ مقام

أمر فيه بالغسل الاستفصال عن أنّه كغسل الجنابة أو غسل الأموات، فمنه يستكشف أنّ أصل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 118

..........

______________________________

الكيفية في جميع الموارد واحدة، غاية الأمر اعتبار أُمور زائدة في غسل الميّت، مع القطع بالاختصاص به.

نعم، ربّما يدّعي دلالة بعض الروايات على العدم، مضافاً إلى الإطلاقات الواردة في مقام البيان، الآمرة بغسل الجسد كلّه بعد غسل الرأس، من دون تعرّض لاعتبار الترتيب بين الجانبين، و هي صحيحة حكم بن حكيم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن غسل الجنابة.

فقال

أفض على كفّك اليمنى من الماء فاغسلها، ثمّ اغسل ما أصاب جسدك من أذى، ثمّ اغسل فرجك، و أفض على رأسك و جسدك فاغتسل، فإن كنت في مكان نظيف فلا يضرّك أن لا تغسل رجليك، و إن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك.

«1» نظراً إلى ظهورها في إرادة غسل الرجلين، بعد الفراغ عن غسل سائر الجسد، فيدلّ على عدم اشتراط الترتيب بين الجانبين، و لا يتفاوت الحال في ذلك بين أن يراد بغسل الرجلين غسلهما جزء من الغسل، أو لإزالة القذارة التي يتوقّف عليها الغسل.

هذا، و لكنّ الظاهر كون غسل الرجلين في الرواية أمراً زائداً على الغسل، متأخّراً عن تماميته، كما يدلّ عليه التفريع بالفاء.

و القذارة العارضة له في هذه الصورة إنّما كان عروضها بعد الفراغ، و إلّا فالأذي العارض للجسد الشامل للرجلين قطعاً قد أُمر بغسله قبل الشروع في الاغتسال، فتدبّر.

______________________________

(1) أورد صدرها في وسائل الشيعة، في الباب 26، من أبواب الجنابة، الحديث 7، و ذيلها في الباب 27، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 119

..........

______________________________

و صحيحة زرارة، عن أبي

جعفر (عليه السّلام) في حديث قال: قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة.

فقال

إذا شكّ و كانت به بلّة و هو في صلاته، مسح بها عليه، و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما، ما لم يصبّ بلّة، فإن دخله الشكّ، و قد دخل في صلاته فليمض في صلاته، و لا شي ء عليه، و إن استيقن رجع فأعاد عليه الماء، و إن رآه و به بلّة مسح عليه، و أعاد الصلاة باستيقان، و إن كان شاكّاً فليس عليه في شكّه شي ء، فليمض في صلاته.

«1» نظراً إلى أنّ ظاهرها بمقتضى ترك الاستفصال كفاية غسل خصوص الموضع المتروك، و إن كان في الطرف الأيمن، و هذا ينافي اشتراط الترتيب، بل ظاهرها كفاية مسح الموضع بالبلّة التي رآها فيه، من دون حاجة إلى ماء خارجي، و من المعلوم عدم كفايتها على وجه يحصل معه الترتيب، على تقدير كونه في الطرف الأيمن.

هذا، و لكنّ الظاهر أنّ الرواية مضطربة من جهة فرض الشكّ، و قد دخل في الصلاة ثلاث مرّات، حكم في الأُولى بالمسح بالبلّة عليه، و في الأُخريين بالمضي في الصلاة، و أنّه لا شي ء عليه.

و من جهة الحكم بالرجوع و الإعادة عليهما، الظاهر في كون المراد بالضمير هو الصلاة و الغسل، مع أنّ إعادة الغسل من الأوّل لا وجه لها، و إن رجع الضمير إلى بعض الذراع، و بعض الجسد المفروضين في السؤال، فهو لا يجتمع مع كون السؤال عن واحد منهما، لا عن مجموعهما.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 41، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 120

..........

______________________________

كما أنّه على هذا التقدير لا وجه لإفراد الضمير في قوله

(عليه السّلام) في الجملة الأُولى

مسح بها عليه

مع التثنية في هذه الجملة.

و من جهة أنّ ظاهر قوله (عليه السّلام)

و إن كان استيقن ..

عدم وجوب إعادة شي ء من الصلاة و الغسل مع إصابة البلّة، مع أنّ ظاهر قوله (عليه السّلام)

و إن رآه و به بلّة ..

لزوم إعادة الصلاة في هذه الصورة. و الحمل على صورة الشكّ بدعوى كون المراد بالاستيقان هو إتيان الصلاة مع اليقين بوقوعها مع الغسل ينافي مع فرض الشكّ في الجملة الأخيرة.

فالإنصاف: كون الصحيحة في كمال الاضطراب، غايتها الدلالة على عدم لزوم الإعادة مع ثبوت البلّة و لو كان المُترك بعضاً من الجانب الأيمن، و لكنّ الإطلاق الشامل لهذا الجانب قابل للتقييد، بما يدلّ على الترتيب كما هو ظاهر، مع أنّ أقصى ما يلزم سقوط الترتيب في صورة الجهل، أو النسيان التي هي المفروضة في السؤال؛ لأنّه ليس المراد بالترك فيه هو الترك عن عمد، و هذا لا ينافي أصل اعتبار الترتيب، و إن كان المشهور لا يفرّقون بين صور مخالفة الترتيب ظاهراً، فتدبّر.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: أنّ الظاهر بمقتضى الدليل هو اعتبار الترتيب بين الجانبين أيضاً، و مقتضى ذلك دخول العورتين و السرّة في التنصيف المذكور.

و احتمال كفاية غسلهما مرّة واحدة مع أحد الجانبين؛ لعدم مساعدة العرف على استفادة إرادة التنصيف الحقيقي بالدقّة الحكمية، من الأمر بغسل الطرف الأيمن ثمّ الأيسر.

مدفوع: بأنّه على تقدير كونها ذات أبعاض، و كون الأبعاض مختلفة من جهة الجزئية للجانب الأيمن و الأيسر، لا محيص عن التنصيف.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 121

..........

______________________________

لكن حيث إنّ هذا المبنى و إن كان ظاهر الأصحاب، و مقتضى النصوص، باعتبار عدم التعرّض بعد

الرأس لغير الجانبين قابل للخدشة، لاحتمال كونها عضواً مستقلّاً، أو كونها من الجانب الأيمن أو الأيسر، فالأولى أن يغسل تمامها مع كلّ من الطرفين.

ثمّ إنّ لزوم استيعاب الغسل في الأعضاء الثلاثة قد مرّ البحث فيه في غسل ظاهر البشرة، لأنّ لزوم الاستيعاب فيه إذا انطبق على الغسل الترتيبي، فلا محالة يكون استيعاب الغسل في الأعضاء الثلاثة واجباً.

نعم، لا فرق في تحقّقه بين أن يكون بصبّة واحدة، أو أكثر، كما أنّه لا فرق بين الفرك و الدلك و نحوهما.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 122

[مسألة 5: لا ترتيب في العضو]

مسألة 5: لا ترتيب في العضو، فيجوز غسله من الأسفل إلى الأعلى، و إن كان الأولى البدأة بأعلى العضو فالأعلى.

كما أنّه لا كيفية مخصوصة للغسل هنا، بل يكفي مسمّاه، فيجزي رمس الرأس بالماء، ثمّ الجانب الأيمن، ثمّ الأيسر، و يجزيه أيضاً رمس البعض، و الصبّ على آخر.

و لو ارتمس ثلاث ارتماسات ناوياً بكلّ واحد غسل عضو صحّ، بل يتحقّق مسمّاه بتحريك العضو في الماء، على وجه يجري الماء عليه، فلا يحتاج إلى إخراجه منه، ثمّ غمسه فيه. (1)

______________________________

(1) حول الترتيب في العضو و كيفية الغسل أمّا عدم الترتيب في العضو، و جواز الغسل من الأسفل إلى الأعلى، فهو المشهور، بل ظاهر محكي «المهذّب البارع» الإجماع عليه.

و لكنّه قد حكي الخلاف عن الحلبي، و ظاهر «الغنية» و «الإشارة» و «السرائر» و لعلّ منشأه صحيحتا زرارة المتقدّمتين:

إحداهما: ما اشتملت على قوله (عليه السّلام)

ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك

، بدعوى ظهورها في تعلّق الظرف بالغسل، و أنّ المراد لزوم البدأة بالأعلى.

ثانيتهما: ما اشتملت على قوله (عليه السّلام)

ثمّ على منكبه الأيمن مرّتين، و على منكبه الأيسر مرّتين

، بدعوى

ظهورها في لزوم الصبّ على المنكب، الذي هو أعلى العضو من الجانبين.

و لكنّ الظاهر عدم دلالة الصحيحتين على ذلك أصلًا:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 123

..........

______________________________

أمّا الأُولى: فالظاهر أنّ الظرف متعلّق بالجسد، و الغرض إفادة الاستيعاب، و التعبير بذلك إنّما هو لتعارف هذا النحو من التعبير في مقام إفادته، و إلّا فالقرن بالفتح و السكون ليس هو أعلى الرأس، بل هو في الحيوان عبارة عن الزيادة العظيمة، التي تنبت في رءوس بعض أنواعه، و في الإنسان موضعه من رأسه.

فالتعبير إنّما يكون دالّاً على الاستيعاب، لا لأجل اللغة، بل للعرف، و بالجملة فهذه الرواية لا دلالة لها على لزوم البدأة بالأعلى.

و أمّا الثانية: فالظاهر أنّ الصبّ على المنكب إنّما هو لما عرفت من أنّ التعارف في الغسل إنّما هو بالابتداء به من الأعلى؛ لأنّ الماء يسري إلى ما تحته، و لا يسري إلى ما فوقه، مع أنّه ليس المراد بالمنكبين ما هو معناهما لغة، ضرورة أنّه لا يكتفى في الغسل بصبّ الماء عليهما بمجرّده، بل المراد بهما الجانبان الأيمن و الأيسر كما عرفت، مع أنّ ذكر كلمة «مرّتين»، الدالّة على التعدّد، قرينة على كون الأمر بصبّ الماء على المنكبين إنّما هو للاستحباب.

و إن كان يرد على هذا الكلام عدم تعدّد الأمر بالنسبة إلى أصل الصبّ، و بالإضافة إلى المنكبين و التعدّد حتّى يبقى الأوّل على الوجوب، و يحمل الثاني على الاستحباب، بقرينة كون التعدّد من الآداب، بل ليس هنا إلّا أمر واحد، و بعث فارد، و متعلّقه صبّ الماء على المنكبين مرّتين؛ فإمّا أن يكون مفاده الوجوب في المتعلّق بجميع قيوده، و إمّا أن يكون مفاده الاستحباب كذلك.

إلّا أن يقال: بأنّه

ينحلّ إلى أوامر متعدّدة حسب انحلال المتعلّق إلى المتعدّد.

و يرد عليه حينئذٍ: أنّه لا مزية لحمل الأمر الثاني على الاستحباب بقرينة الأمر الثالث، فلِمَ لا يبقى على ظاهره من الوجوب بقرينة الأمر الأوّل، الذي لا محيص

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 124

..........

______________________________

عن الالتزام بدلالته على الوجوب؟ فتدبّر.

هذا، مضافاً إلى أنّ الرواية لا دلالة لها على لزوم البدأة بالأعلى في الرأس أصلًا، و إلى أنّ المنكب كما مرّ في القرن ليس هو أعلى الجانب، بل بعض أعلاه؛ لأنّ المنكب مجتمع رأس الكتف و العضد.

إلّا أن يقال: بأنّ المنكب كما يستعمل في اللغة بهذا المعنى المعروف، كذلك يستعمل فيها بمعنى الناحية و الجانب، يقال: سرنا في منكب من الأرض، أي في ناحية منها، فلا مجال لهذا الإشكال.

و كيف كان: فلا يستفاد من هذه الرواية أيضاً ذلك، سواء كان المراد بالمنكب معناه المعروف، أو كان المراد به الجانب و الناحية.

و أمّا عدم ثبوت كيفية مخصوصة للغسل هنا، فلأنّ الواجب هو عنوان الغسل بأيّ نحو تحقّق و لو كان بنحو الرمس، و الظاهر الاتّفاق عليه، و التعبير بالصبّ و نحوه في عبارات جماعة من القدماء تبعاً للروايات الكثيرة المعبّرة بذلك ليس لأجل خصوصية فيه، بحيث لم يجز التعدّي عن عنوانه، كما قد حكي عن الفاضل النراقي في «المستند»، بل لأجل كونه طريقاً متعارفاً في الغسل.

و قد ورد هذا التعبير في النصوص البيانية في الوضوء، مع إطلاق الغسل في الكتاب و السنّة، و عدم اعتبار الصبّ فيه إجماعاً.

كما أنّ قولهم في نصوص المقام بعد الأمر بالصبّ: «ما جرى عليه الماء فقط طهر»، أو «فقد أجزأه»، أو «كلّ شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته»، قرينة على

كون المراد مجرّد جريان الماء على الجسد و مماسّته معه، مع أنّ حمل الصبّ على الغسل أولى من حمل الغسل المذكور في مثل صحيحة زرارة المتقدّمة على الصبّ، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 125

..........

______________________________

و على ما ذكرنا يجزي رمس الرأس بالماء، ثمّ الجانب الأيمن، ثمّ الجانب الأيسر، كما أنّه يجزي رمس البعض، و الصبّ على آخر.

و لو ارتمس في الماء ثلاث مرّات: مرّة بقصد غسل الرأس، و مرّة بقصد غسل الأيمن، و ثالثة بقصد غسل الأيسر كفى؛ لتحقّق الغسل، و حصول الترتيب بلا إشكال.

و لو ارتمس في الماء مرّة واحدة، و حرّك بدنه تحت الماء ثلاث مرّات بقصد غسل الأعضاء الثلاثة، فالظاهر كفايته لما ذكر من تحقّق الغسل، و حصول الترتيب.

إنّما الإشكال فيما إذا لم يتحقّق التحريك أيضاً، و أنّه هل يكتفى بعد الارتماس بمجرّد النيّة و قصد وقوع غسل الأعضاء مرتّباً، أم لا؟

و منشأ الإشكال أحد أُمور أربعة:

الأوّل: أنّ المأمور به هو الغسل و الجريان الفعلي، أو ما هو بمنزلته، كالتحريك داخل في مفهومه؛ لعدم تحقّقه بدونه.

و الجواب: ما عرفت في مبحث الوضوء أنّ الغسل لا يعتبر في تحقّق مسمّاه مفهوم الجريان، أو ما هو بمنزلته، بل معناه استيلاء الماء على الموضع المغسول، من دون اعتبار شي ء آخر فيه.

الثاني: دلالة النصوص الخاصّة، الظاهرة في اعتبار الجريان في المقام، مثل ما عرفت من قوله (عليه السّلام)

ما جرى عليه الماء فقد طهر

أو

فقد أجزأه

، و من الواضح عدم تحقّق الجريان بدون التحريك، بل يمكن أن يقال بعدم تحقّقه مع التحريك أيضاً، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 126

..........

______________________________

و الجواب: ما عرفت من دلالة النصوص على

كون المأمور به مجرّد الغسل، الراجع إلى استيلاء الماء على الجسد، و قد عرفت أنّ التعبير بالصبّ إنّما هو للتعارف، و إلّا فالمراد به و بالجريان هو وصول الماء إلى الجسد، و مماسّته معه، كما يدلّ عليه قوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته.

الثالث: دعوى أنّ ظاهر أوامر الغسل كون المأمور به فعلًا وجودياً، و إذا كان في داخل الماء و نوى الغسل و لم يتحرّك، لم يتحقّق منه فعل وجودي غير النيّة، فلزوم التحريك إنّما هو لأجل تحقّق هذا المعنى.

و أُجيب عنه: بأنّ نفس المكث في داخل الماء حال النيّة فعل وجودي، صادر من المكلّف باختياره، و لا حاجة إلى التحريك.

الرابع: أنّ الاكتفاء بمجرّد النيّة من دون التحريك، يوجب الإخلال بالترتيب، المأمور به في الغسل الترتيبي؛ لأنّ استقلال غسل كلّ عضو بالفردية حتّى يصحّ اتّصاف غير العضو الأوّل بوقوعه متأخّراً عنه، أو عنه و عمّا قبله، لا يكاد يتحقّق بمجرّد النيّة، بل لا بدّ من التحريك، أو الدلك، أو نحوهما، و مجرّد إرادة وقوعه مرتّباً لا يؤثّر في صيرورته كذلك.

و يمكن الجواب عنه: بأنّه لو كان استقلال غسل كلّ عضو بالفردية متوقّفاً على مثل التحريك، لكان اللازم تحقّقه بالإضافة إلى جميع أجزاء كلّ عضو، مع أنّه لا يمكن تحقّق التحريك أو الدلك بالنسبة إليها، كما لا يخفى، و مع عدمه كيف يصير غسل بعض العضو الذي لم يتحقّق الدلك بالنسبة إليه، متّصفاً بما يعتبر فيه من الترتيب و التأخّر عن العضو المتقدّم.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 127

[مسألة 6: الظاهر حصول الارتماسي بالغمس في الماء تدريجاً]

مسألة 6: الظاهر حصول الارتماسي بالغمس في الماء تدريجاً، و اللازم على الأحوط أن يكون تمام البدن في الماء في

آن واحد، فلو خرج بعض بدنه عن الماء قبل أن ينغمس البعض الآخر لا يتحقّق الارتماس.

نعم، لا يضرّ دخول رجله في الطين يسيراً عند انغماسه للغسل، ففي الأنهار و الجداول التي تدخل الرجل في الطين يسيراً يجوز الارتماسي، و إن كان الأحوط اختيار الترتيبي، و الأحوط أن يكون الغمس بالدفعة العرفية. (1)

______________________________

فمن هذا يستكشف عدم توقّف الترتيب على مثله، و تحقّقه بمجرّد النيّة، لكنّ الاحتياط لا يجوز أن يترك في ذلك، و إن كان المستفاد من المتن أنّ اعتبار التحريك إنّما هو لتوقّف تحقّق الغسل عليه، و لذا وصف التحريك بوجه يجري الماء عليه، و جعله محقّقاً لمسمّى الغسل، مع أنّه على تقدير اعتباره له دخل في الترتيب، لا في تحقّق مسمّى الغسل، فتأمّل.

(1) كيفية الغسل الارتماسي الكيفية الثانية: الغسل الارتماسي، و الدليل على ثبوت هذه الكيفية أيضاً للغسل كثبوت الترتيبي له، هو النصّ و الإجماع.

ففي ذيل صحيحة زرارة المتقدّمة، الدالّة على لزوم الغسل من القرن إلى القدم

و لو أنّ رجلًا جنباً ارتمس في الماء ارتماسة واحدة، أجزأه ذلك، و إن لم يدلك جسده.

«1» و في صحيحة الحلبي، أو حسنته قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول

إذا ارتمس

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 128

..........

______________________________

الجنب في الماء ارتماسة واحدة، أجزأه ذلك من غسله.

«1» و في رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يجنب، فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة و يخرج، يجزيه ذلك من غسله. «2» و في مرسلة الحلبي التي رواها الصدوق، بإسناده عنه، قال: حدّثني من سمعه يقول

إذا اغتمس الجنب في الماء اغتماسة

واحدة، أجزأه ذلك من غسله.

«3» و هذه الروايات حاكمة على ما دلّ على اعتبار الترتيب في الغسل، خصوصاً مع ملاحظة الجمع بين الكيفيتين في صحيحة زرارة، بعد حمل الاولى منهما على الترتيب بقرينة نصوصه، و إن كان ربّما يبعّده أنّ ظاهر قوله

و إن لم يدلك جسده

أنّ الفرق بينهما إنّما هو من هذه الجهة.

لكنّ التأمّل فيها يقضي بخلافه؛ لأنّ الغسل المذكور في الكيفية الأُولى أيضاً لا يعتبر فيه الدلك بوجه، فالفرق إنّما هو من جهة الارتماس و عدمه، المحمول على الترتيب بقرينة أدلّته.

و كيف كان: فلا ينبغي الإشكال في ثبوت هذه الكيفية أيضاً للغسل، خصوصاً مع التعبير بالإجزاء به عنه، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ توصيف الارتماس أو الانغماس بالوحدة في النصوص المتقدّمة، إنّما يراد به الارتماس الواحد في مقابل المتعدّد، لأجل رمس كلّ عضو على حدة، أو لأجل رمس المجموع ارتماسات متعدّدة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 12.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 13.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 15.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 129

..........

______________________________

أمّا في غير صحيحة زرارة فواضح؛ لأنّ العرف لا يكاد يفهم من وحدة الارتماس إلّا ما يقابل المتعدّد.

و أمّا فيها فبعد حمل الكيفية الأُولى فيها على الترتيب، يصير المراد بالوحدة في الثانية أيضاً كذلك؛ لأنّ الترتيب مستلزم لتعدّد الغسل، خصوصاً مع عدم كون المفروض فيه حصوله بالرمس و الغمس.

نعم، يقع الكلام بعد ذلك في أصل حقيقة الارتماس، و أنّه هل يعتبر فيه أن يكون دفعة واحدة عرفية، أو يمكن تحقّقه تدريجاً أيضاً؟

فنقول: القدر المتيقّن منه ما إذا كان خارج الماء بجميع أعضائه، ثمّ نوى الغسل و ارتمس

في الماء دفعة، فإنّه لا إشكال في تحقّق الارتماس بذلك.

و لكنّ الظاهر عدم الاختصاص به؛ لعدم لزوم أن يكون خارج الماء كذلك، بل يكفي أن يكون بعض الأعضاء أو تمامها داخلًا في الماء.

و لا يقدح ذلك في صدق الارتماس بوجه، و لا حاجة إلى التحريك في الثاني أيضاً، إلّا بناء على أكثر الوجوه المتقدّمة، التي قد مرّ الجواب عن جميعها، فراجع.

كما أنّ الظاهر أنّ الارتماس، الذي يتحقّق بالأخذ في الرمس إلى أن يتحقّق التغطية و مستورية الجسد، يكون مجموعه غسلًا، و يكون الشروع فيه الذي يعتبر فيه المقارنة للنيّة و لو ارتكازاً هو أوّل الأخذ في الرمس.

فما حكي عن بعض من أنّه إذا ارتمس في الماء، و استوعب الماء على جميع بدنه، تحقّق الغسل دفعة في هذا الحين، و مقتضاه بطلان الغسل لو نواه بوقوعه في الماء، لا ببقائه، أو بالمجموع من الأمرين، ضعيف.

كما أنّ ما حكي عن «الجواهر» من قوّة احتمال أن يكون ابتداء الغسل أوّل آنات

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 130

..........

______________________________

التغطية، و مستورية الجسد في الماء، و آخره آخر جزء الغسل في تلك التغطية، فلا عبرة بما يغسل قبلها، كما لا عبرة بما يغسل بعدها، و إنّما العبرة بانغسال جميع الجسد في تلك التغطية، طالت مدّته أم قصرت.

و مقتضاه كون الغسل دفعي الحصول إن لم يكن في بدنه مانع، بحيث يصل الماء إلى كلّ جزء منه عند صيرورته مغطّى، و تدريجي الحصول إن لم يكن كذلك، فله الاشتغال بإزالة المانع في تلك التغطية، ما لم يتحقّق الفراغ منها، و إن طالت مدّتها.

قد أورد عليه في «المصباح» بأنّ مستنده هو أنّ الارتماس مأخوذ من الرمس، و هو

التغطية و الكتمان، فما دام لم يستتر بالماء لم يتحقّق الارتماس، و مهما ستره الماء فهو مرتمس إلى أن يخرج، فالموجود الخارجي مصداق واحد لطبيعة الارتماس، طال زمانه أم قصر.

مع أنّ المتفاهم من الأدلّة إنّما هو كفاية انغسال الجسد بالكيفيّة التي تسمّى ارتماساً، و ابتداء زمان حدوث الفعل ليس إلّا أوّل آنات الشروع فيه، لا أوّل آنات تحقّق الرمس؛ إذ ليس الارتماس إلّا كالتكلّم في عدم توقّف جزئية الجزء الأوّل على تحقّق الوصف العنواني.

و المنساق إلى الذهن من قوله (عليه السّلام)

إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة

إنّما هو إرادة غسل الجسد دفعة واحدة بالارتماس، كما يشهد لذلك فهم الأصحاب، لا مطلق غسله في تغطية واحدة. كيفما اتّفق، بحيث عمّ ما لو كان على جسده حاجب فإزالة في الماء بعد فصل معتدّ به.

أقول: الظاهر أنّه لا مجال لإنكار كون ابتداء زمان حدوث الفعل هو أوّل آنات

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 131

..........

______________________________

الشروع فيه، و لا ينافيه كون الارتماس مأخوذاً من الرمس، و هو التغطية و الكتمان؛ لصدق عنوان المستورية و لو بالإضافة إلى بعض الأجزاء، غاية الأمر أنّه يلزم تحقّقها بالإضافة إلى جميع الجسد في الغسل.

و بعبارة أُخرى: حدوث المستورية بالنسبة إلى آخر الأجزاء الذي به يتحقّق وصف الانغماس للمجموع، لا يكون انضمامه مع بقائها في الأجزاء الواقعة قبله مؤثّراً في تحقّق الوصف المذكور، بل الذي يوجب حصوله إنّما هو الحدوث و البقاء معاً فيها، و خصوص الحدوث في آخر الأجزاء، فالمجموع متّصف بذلك.

و أمّا بقاء الارتماس إلى أن يخرج، طال زمانه أم قصر، فالحقّ فيه مع صاحب «الجواهر»، لا بمعنى كون الخروج دخيلًا في حقيقة الارتماس، بحيث لو لم

يخرج لم تتحقّق تلك الحقيقة أصلًا؛ لأنّ الخروج لا دخل له في حقيقته، بل بمعنى أنّه ما لم يخرج لا يحدث وجود آخر للارتماس، بل هو بقاء للوجود الأوّل.

و لا يمنع وجود الحاجب، و إزالته في الماء بعد فصل معتدّ به عن تحقّقه أصلًا، لما عرفت من أنّ الوحدة المأخوذة وصفاً للارتماس، لا يراد بها إلّا ما يقابل المتعدّد، و ليس المراد بها هي الدفعة حتّى تحمل على العرفية؛ لتعذّر الحقيقية.

و منه يظهر صحّة ما نسب إلى بعض متأخّري المتأخّرين، من الاجتزاء بما لو نوى الغسل، فوضع رجله مثلًا ثمّ صبر ساعة بحيث نافى الدفعة العرفية، فوضع عضواً آخر، و هكذا إلى أن ارتمس أجزاءه.

و لا وجه لما أُورد عليه: من أنّ المتبادر من الارتماسة الواحدة ليس إلّا الوقوع في الماء دفعة، لا تدريجاً، لما عرفت من كون عنوان الدفعة أجنبياً عمّا هو المتفاهم من الروايات.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 132

..........

______________________________

ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا خلاف في أنّه يعتبر في الارتماس أن يكون تمام البدن تحت الماء و لو في آن واحد، فلو خرج بعض بدنه قبل أن ينغمس البعض الآخر، كما إذ أُخرجت رجله قبل أن يدخل رأسه في الماء، أو بالعكس، لا يكفي.

و الوجه فيه: أنّ المستفاد عرفاً من الروايات الواردة في الغسل الارتماسي هو اعتبار استيلاء الماء على جميع البدن في آن واحد، خصوصاً مع توصيف الارتماس بالوحدة، الظاهر في حصول الاستيلاء كذلك مرّة واحدة، بحيث تمّ الغسل بهذا الارتماس.

و أمّا عدم قدح كون الرجل في الطين يسيراً، كما هو المتداول في الغسل في الأنهار و الجداول؛ فلأجل أنّه لا يفهم العرف من تلك الروايات عدم

إمكان الغسل فيها، مع شدّة الابتلاء بها، و تحقّق الغسل الارتماسي فيها نوعاً.

و لكنّ الأحوط مع ذلك اختيار الترتيبي، أو الارتماسي بنحو لا يقع الرجل في الطين أصلًا، بوضع مثل حجر عليه، و جعل الرجل على الحجر، و سيأتي في المسألة الآتية ما له نفع بالمقام، فانتظر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 133

[مسألة 7: لو تيقّن بعد الغسل عدم انغسال جزء من بدنه]

مسألة 7: لو تيقّن بعد الغسل عدم انغسال جزء من بدنه، وجبت إعادة الغسل في الارتماسي، و أمّا في الترتيبي فإن كان ذلك الجزء من الطرف الأيسر، يكفي غسل ذلك الجزء و لو طالت المدّة حتّى جفّ تمام الأعضاء، و لا يحتاج إلى إعادة الغسل، و لا إعادة غسل سائر أجزاء الأيسر، و إن كان من الأيمن يغسل خصوص ذلك الجزء، و يعيد غسل الأيسر، و إن كان من الرأس يغسل خصوص ذلك الجزء، و يعيد غسل الطرفين. (1)

______________________________

(1) لو تيقّن بعد الغسل عدم انغسال جزء إذا اغتسل ارتماساً، و بقيت من جسده لُمعة لم يصل إليها الماء، و تيقّن ذلك بعد الغسل، ففيه احتمالات، بل أقوال:

أحدها: ما عن «القواعد» و «المستند» من الاجتزاء بغسل اللمعة مطلقاً، من دون أن تجب الإعادة، و قد علّله في الثاني بترك الاستفصال المفيد للعموم في صحيحة زرارة المتقدّمة، الواردة في من ترك بعض ذراعه، أو بعض جسده من غسل الجنابة. «1» و ربّما يستشهد له أيضاً بعموم قوله (عليه السّلام) في صحيحة أُخرى لزرارة المتقدّمة أيضاً

و كلّ شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته.

«2» و يرد عليه: مضافاً إلى ما عرفت في الرواية الاولى من الاضطراب و التشويش أنّ مورد كليهما هو الغسل الترتيبي، لا سيّما مع كونه هو الشائع المتعارف

في تلك الأزمنة، فالاكتفاء بغسل الجزء المتروك فيه لا يدلّ على الاكتفاء

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 41، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 134

..........

______________________________

بغسله في الارتماسي أيضاً.

ثانيها: ما نسب إلى ظاهر المحقّق الثاني و غيره، من التفصيل بين طول الزمان و قصره، بالحكم بوجوب الإعادة في الأوّل، و الاكتفاء بغسل خصوص الجزء المتروك في الثاني، و كأنّه لما تقدّم عن بعض من منافاة طول الزمان مع صدق الارتماس، دون قصره.

و يرد عليه مضافاً إلى ما عرفت من عدم مدخلية الزمان طولًا و قصراً في ذلك أنّه قد مرّ أنّ المتفاهم عند العرف من الروايات الواردة في كيفية الغسل الارتماسي، هو أن يكون تمام أجزاء البدن تحت الماء و لو في آن واحد، فإذا لم يتحقّق هذا الأمر، لا يتحقّق الغسل الارتماسي، ففي صورة قصر الزمان أيضاً لا بدّ من الإعادة، لحصول هذا الأمر.

و ثالثها: ما عن بعض من جريان حكم الغسل الترتيبي، فيغسله فقط إن كان في الأيسر، و يغسله و يعيد على الأيسر إن كان في الأيمن، و يغسله و يعيد على كلا الجانبين إن كان في الرأس، و لا يقدح طول الزمان، لما سيأتي من عدم اعتبار الموالاة في الغسل الترتيبي.

و مبنى هذا القول: هو القول بالترتيب الحكمي في الغسل الارتماسي، كما حكي عن بعض أصحابنا، و احتمله الشيخ (قدّس سرّه) في محكيّ «الإستبصار» في مقام الجمع بين الأخبار الدالّة على اعتبار الترتيب في الغسل، و الأخبار الدالّة على كفاية الارتماس موصوفاً بالوحدة، و يترتّب عليه الثمرة في المقام، و فيما لو نذر الغسل الترتيبي، أو حلف

عليه، فإنّه يجزيه الارتماس على هذا التقدير.

و يرد عليه: منع المبنى، لما عرفت من حكومة أخبار الارتماس على ما دلّ على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 135

..........

______________________________

اعتبار الترتيب، خصوصاً مع التعبير فيه بالإجزاء، و مع الجمع بين الكيفيتين في بعض الروايات المتقدّمة، بل لو قطعنا النظر عن ذلك، يمكن أن يقال بأنّ دلالة أخبار الارتماس على عدم اعتبار الترتيب، أقوى من دلالة أخبار الترتيب على اعتباره؛ لاحتمال ورودها مورد الغالب، لعدم إمكان الارتماس نوعاً في تلك الأزمنة و الأمكنة، فتدبّر.

رابعها: ما اختاره في المتن تبعاً لجماعة من أعاظم الفقهاء، كالعلّامة في «المنتهى»، و الشهيد في جمع من كتبه على ما نسب إليه، و السيّد في «العروة»، من لزوم إعادة الغسل من رأسٍ.

و الوجه فيه: ما عرفت من أنّ المستفاد من أخبار الارتماس اعتبار استيلاء الماء على جميع البدن و لو في آن واحد، فإذا لم يتحقّق هذا الأمر، لا يتحقّق الغسل الارتماسي بوجه.

و من المعلوم أنّ غسل خصوص الجزء المتروك، لا يوجب تحقّقه، و ما مرّ من الاكتفاء بالغسل في الأنهار و الجداول إنّما هو لأجل وصول الماء إليه قبل الدخول في الطين، غاية الأمر عدم اشتراكه مع سائر الأجزاء في حال الإحاطة و الاستيلاء، بضميمة وضوح صحّة الغسل فيها، و إلّا فلو فرض إخراج جزء من الرجل من الماء بعد وصول الماء إليه، ثمّ غمس سائر الأجزاء في الماء، لا يكفي ذلك بوجه، فلا موقع لاستفادة حكم المقام منه.

و بعبارة أُخرى: يختصّ الحكم بالصحّة بخصوص مثل الرجل و الطين، و لا يستفاد منه حكم كلّي جار في جميع الموارد، كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 136

[مسألة 8: لا تجب الموالاة في الترتيبي]

مسألة 8: لا تجب الموالاة في الترتيبي، فلو غسل رأسه و رقبته أوّل النهار، و الأيمن في وسطه، و الأيسر في آخره صحّ. (1)

______________________________

(1) عدم اعتبار الموالاة في الترتيبي لا خلاف ظاهراً في عدم وجوب الموالاة في الغسل الترتيبي، بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه.

و يدلّ عليه مضافاً إلى الإطلاقات: الرواية المتقدّمة الواردة في قصّة أُمّ إسماعيل. «1» و كذا رواية حريز المتقدّمة أيضاً، المشتملة على قوله: قلت: و إن كان بعض يوم. قال

نعم.

«2» و كذا رواية إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال

إنّ علياً (عليه السّلام) لم ير بأساً أن يغسل الجنب رأسه غدوة، و يغسل سائر جسده عند الصلاة.

«3» و ما رواه صاحب «المدارك» نقلًا من كتاب «عرض المجالس» للصدوق بن بابويه، عن الصادق (عليه السّلام) قال

لا بأس بتبعيض الغسل، تغسل يدك و فرجك و رأسك، و تؤخّر غسل جسدك إلى وقت الصلاة، ثمّ تغسل جسدك إذا أردت ذلك، فإن أحدثت حدثاً من بول، أو غائط، أو ريح، أو منيّ، بعد ما غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك، فأعد الغسل من أوّله.

«4» و كما لا تجب الموالاة بالنسبة إلى الأعضاء الثلاثة، كذلك لا تجب الموالاة

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 29، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 29، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 29، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 29، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 137

[مسألة 9: يجوز الغسل تحت المطر، و تحت الميزاب ترتيباً]

مسألة 9: يجوز الغسل تحت المطر، و تحت الميزاب ترتيباً، لا ارتماساً. (1)

______________________________

في أجزاء عضو واحد؛ لعدم الدليل عليه بعد وجود الإطلاقات، مضافاً إلى دلالة صحيحة

زرارة المتقدّمة الواردة فيمن ترك بعض ذراعه، أو بعض جسده من غسل الجنابة على الصحّة، و إن كانت مشوّشة كما مرّ.

ثمّ إنّه قد يعرض ما يوجب رعاية الموالاة، كما في غسل المستحاضة و المسلوس و المبطون، حيث تجب المبادرة إليه و إلى الصلاة بعده، من جهة خوف خروج الحدث، و قد تقدّم تفصيل الكلام في الأخيرين، و سيأتي البحث في الأوّل إن شاء اللّه تعالى. ثمّ إنّ الموالاة و إن لم تكن واجبة إلّا أنّه يمكن الالتزام باستحبابها، لما في «الحدائق» من أنّ الأصحاب صرّحوا باستحبابها، و ربّما يستدلّ له بمواظبة السلف و الخلف من العلماء و الفقهاء، بل الأئمّة (عليهم السّلام) كما أنّه يستدلّ له بعموم آيات المسارعة و الاستباق إلى الخيرات، و في كليهما مناقشة واضحة، فتدبّر.

(1) الغسل تحت المطر و الميزاب أمّا جواز الغسل تحت المطر و تحت الميزاب ترتيباً، فمضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه، كما حكي عن «المستند» و غيره، و إلى الإطلاقات و النصوص البيانية، حتّى ما كان منها مشتملًا على التعبير بالصبّ، لما عرفت من عدم خصوصية الصبّ، و المناط هو الغسل كما وقع التعبير به في كثير من تلك النصوص، يدلّ عليه الروايات الخاصّة الدالّة على الجواز، كصحيحة علي بن جعفر المروية في كتابه، عن أخيه موسى (عليهما السّلام) أنّه سأله عن الرجل يجنب، هل يجزيه من غسل الجنابة أن يقوم في المطر حتّى يغسل رأسه و جسده، و هو يقدر على ما سوى ذلك؟

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 138

..........

______________________________

فقال

إن كان يغسله اغتسالة بالماء أجزأه ذلك، إلّا أنّه ينبغي له أن يتمضمض و يستنشق، و يمرّ يده على ما نالت

من جسده.

قال: و سألته عن الرجل تصيبه الجنابة، و لا يقدر على الماء، فيصيبه المطر، أ يجزيه ذلك، أو عليه التيمّم؟

فقال

إن غسله أجزأه، و إلّا تيمّم.

«1» و مرسلة محمّد بن أبي حمزة، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في رجل أصابته جنابة، فقام في المطر حتّى سال على جسده، أ يجزيه ذلك من الغسل؟

قال

نعم.

«2» فإنّ القدر المتيقّن منهما صورة رعاية الترتيب، غاية الأمر قيام المطر مقام الماء الخارجي، و إن كان في الصحيحة شي ء، و هو أنّه بعد الحكم بجواز الغسل في المطر عند القدرة على ما سوى ذلك، لا مجال للسؤال عن الجواز عند عدم القدرة عليه، فإنّه لو كان جائزاً مع وجود القدرة، يكون الجواز مع عدمها بطريق أولى.

اللهمّ إلّا أن يقال: بكون السؤالين قد وقعا في موقعين، و الجمع بينهما إنّما وقع في الكتاب.

و كيف كان: فلا إشكال في جواز الغسل الترتيبي في المطر و شبهه، و لا حاجة فيه إلى إقامة دليل خاصّ أصلًا.

و أمّا الغسل الارتماسي فجوازه في مثل المطر محلّ خلاف، فالمحكيّ عن الحلّي و المحقّق في «المعتبر» و غيرهما المنع، و قد اختاره في المتن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 10 و 11.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 139

..........

______________________________

و عن الشيخ و العلّامة و الشهيدين و غيرهم الجواز.

نعم، ظاهرهم أنّه ملحق في سقوط الترتيب بالارتماس، لا أنّه من مصاديقه، و إن اختلفوا من جهة أنّ الشيخ ألحق الجلوس تحت المجرى و المطر فقط، و العلّامة في «التذكرة» ألحق الميزاب و شبهه به أيضاً، و عن بعض إلحاق الصبّ بالإناء دفعة به

أيضاً.

و يرد عليهم: أنّه إن كان مستندهم في ذلك تنقيح المناط، بدعوى القطع بعدم مدخلية الرمس في الماء في صحّة الغسل، و إنّما المناط إحاطة الماء بالبدن دفعة عرفية، فالجواب ما أُفيد من أنّه مضافاً إلى منع تحقّق الإحاطة دفعة في مثل المطر و نحوه، إلّا إذا كان المطر غزيراً، فجرى على جميع البدن، ثمّ نوى الغسل يرد عليه أنّ دعوى القطع بذلك في مثل هذه الأحكام التعبّدية، تكون عهدتها على مدّعيها، و لا يمكن لنا الجزم بذلك.

و إن كان مستندهم الروايات الخاصّة المتقدّمة، فيرد عليهم مضافاً إلى ما عرفت من عدم كون المطر مستولياً على جميع البدن، و محيطاً به إلّا أن يقال: بأنّه على هذا التقدير لا مجال لاعتبار الإحاطة دفعة أنّ الظاهر عدم كون الروايات مسوقة إلّا لبيان كفاية المطر عن الماء، و لا دلالة لها على مطلوبهم أصلًا.

و لو سلّم فأدلّة الترتيب مقيّدة لإطلاقها، إلّا أن يقال: بأنّ النسبة حينئذٍ عموم من وجه، و لا مرجّح لأدلّة الترتيب في مادّة الاجتماع.

و الجواب: أنّ ظهورها في اعتبار الترتيب أقوى من ظهور هذه الروايات في نفيه. نعم، لو كان بينهما التساوي في الظهور لكان المرجع حينئذٍ إطلاق النصوص، الخالية عن التعرّض للترتيب.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 140

..........

______________________________

ثمّ لو كان مفاد الروايات سقوط الترتيب في المطر، كما في الارتماس، فهل يجوز التعدّي عن المطر إلى غيره، كالمجرى و الميزاب، أو لا يجوز، فلا يسقط فيهما فضلًا عن الصبّ بالإناء دفعة واحدة؟

الظاهر أنّه لا وجه للتعدّي؛ لأنّ سقوط الترتيب في المطر يمكن أن يكون لأجل خصوصية فيه غير موجودة في الميزاب و نحوه، فلا وجه للإلحاق الذي اختاره الشيخ

و العلّامة، فضلًا عمّا اختاره بعض آخر.

و يمكن أن يوجّه الإلحاق بأنّ أصل اعتبار الترتيب لم يثبت من الأدلّة اللفظية، بل الدليل عليه إنّما هو الإجماع، و القدر المتيقّن من معقده غير المطر و شبهه، فلا دليل على اعتبار الترتيب في مثله.

و يحتمل أن يقال بعدم اعتبار الترتيب رأساً؛ لأنّ الأخبار الدالّة عليه جارية مجرى العادة، أو محمولة على بيان أفضل الأفراد، و عليه فلا فرق بين أنواع غسل الجسد أصلًا.

و لكنّك عرفت فيما تقدّم بطلان كلا الاحتمالين؛ لأنّ الترتيب لا ينحصر دليله بالإجماع، بل العمدة في دليله هي الروايات الواردة فيه، الدالّة عليه، و لا مجال لحملها على كونها جارية مجرى العادة، بعد ظهورها في اعتبار الترتيب.

كما أنّك عرفت أنّ روايات الغسل في المطر لا تفي بسقوط الترتيب فيه، فلا مجال للغسل الارتماسي في المطر، مع عدم إحاطة الماء بجميع البدن في آن واحد.

نعم، لو كان غزيراً بحيث أحاط بجميعه كذلك، لا مانع من الغسل تحته، كما أنّه في الميزاب و المجرى إذا كانا كذلك، لا يقدح الغسل الارتماسي تحتهما؛ لصدق الارتماس فيها، فيدلّ على حكمها نصوص الارتماس، من دون حاجة إلى نصّ خاصّ، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 141

[الرابع: من الواجبات إطلاق الماء و طهارته و إباحته]
اشارة

الرابع: من الواجبات إطلاق الماء و طهارته و إباحته، بل الأحوط إباحة المكان، و المصبّ، و الآنية، و إن كان عدم الاشتراط فيها لا يخلو من وجه.

و يعتبر أيضاً المباشرة اختياراً، و عدم المانع من استعمال الماء لمرض و نحوه، على ما مرّ في الوضوء، و كذا طهارة المحلّ الذي يراد إجراء ماء الغسل عليه، فلو كان نجساً طهّره أوّلًا، ثمّ أجرى الماء عليه للغسل. (1)

[مسألة 10: إذا كان قاصداً عدم إعطاء الأُجرة للحمّامي]

مسألة 10: إذا كان قاصداً عدم إعطاء الأُجرة للحمّامي، أو كان بناؤه على إعطائها من الحرام، أو على النّسية من غير تحقّق رضا الحمّامي، بطل غسله و إن استرضاه بعده. (2)

______________________________

(1) الرابع: سائر الواجبات قد تقدّم البحث في اعتبار هذه الأُمور في باب الوضوء، و لا حاجة إلى الإعادة؛ لعدم خصوصية للوضوء فيها، فيجري الكلام هنا، فراجع.

(2) أمّا الفرض الأوّل: فقد أُورد على أصل الحكم بالبطلان فيه في «المستمسك»، بأنّ هذا يتمّ إذا كان الالتزام بإعطاء الأُجرة من مقوّمات المعاملة مع الحمّامي، كما إذا كان مضمونها إباحة التصرّف في الماء، بشرط الالتزام بالإعطاء، فإنّ البناء على عدم الإعطاء مناف للمعاملة، فلا يجوز التصرّف، و كذا لو كانت الإباحة معلّقة على الإعطاء الخارجي، فإنّه مع البناء على عدم الإعطاء لم يحرز الإباحة، فيحرم عليه التصرّف.

أمّا لو كان الإعطاء خارجاً عن قوام المعاملة، كما إذا كانت إباحة بشرط الضمان، أو إجارة بما في الذمّة، فالبناء على عدم الإعطاء لا ينافي تحقّق المعاملة المصحّحة للتصرّف. نعم ذلك ينافي الالتزام بالوفاء بها، لكنّ الالتزام

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 142

..........

______________________________

المذكور لا يتوقّف عليه جواز التصرّف، فلا موجب للبطلان.

أقول: يمكن الإيراد عليه بأنّ كون الالتزام بإعطاء الأُجرة من

مقوّمات المعاملة، لا يوجب الحكم بالبطلان في هذا الفرض؛ لأنّ الالتزام المذكور لا ينافي قصد عدم إعطاء الأُجرة، لأنّه ليس المراد بالالتزام هو الالتزام القلبي غير المجتمع مع قصد عدم الإعطاء، بل المراد به إمّا الالتزام اللفظي، أو الالتزام العملي العرفي الحاصل بدخول الحمّام و الورود فيه، و شي ء منهما لا ينافي قصد عدم الإعطاء.

و كذا فيما لو كانت الإباحة معلّقة على الإعطاء الخارجي، يكون المعلّق عليه هو نفس تحقّق الإعطاء في الخارج، بعد الاستفادة من ماء الحمّام و الاغتسال فيه، سواء كان من قصده الإعطاء من أوّل الأمر أم لم يكن.

بل و لو كان من قصده عدم الإعطاء، ثمّ بدا له الإعطاء بعد الغسل، فالبناء على عدم الإعطاء حين الدخول في الحمّام لا يوجب عدم تحقّق المعلّق عليه، و على فرضه فالإباحة غير ثابتة قطعاً، و التعبير بعدم الإحراز كما في كلامه غير مناسب، فلا بدّ من جعل مفروض المسألة ما هو المتعارف في الحمام بالنسبة إلى الداخلين فيه، من كون الإباحة معلّقة على نفس الإعطاء الخارجي بعد الخروج من الحمّام، و الاستفادة من مائه بلا فصل، و جعل مورد الحكم بالبطلان فيه هو ما إذا لم يتحقّق الإعطاء كذلك و إن تحقّق بعد زمان، فإنّه في هذا الفرض حيث لم يتحقّق المعلّق عليه، لأنّ البناء من أوّل الأمر كان على عدم إعطاء الأُجرة، يكون الغسل باطلًا؛ لعدم كون التصرّف في الماء مباحاً له أصلًا.

و منه يظهر وجه الحكم بالبطلان في الفرض الثاني، و كذا الفرض الثالث، فإنّ مقصود الحمّامي هو وصول اجرة محلّلة إليه بلا فصل، فإعطاؤها من الحرام، و كذا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 143

..........

______________________________

النسيئة

التي ترجع إلى تأخير الإعطاء، يوجب عدم تحقّق الإباحة، فالغسل باطل.

و أمّا تعميم الحكم بالبطلان لصورة الاسترضاء منه بعده أيضاً، الظاهر في كون الرضا متأخّراً عن الخروج عن الحمّام بزمان كاليوم و نحوه، فالوجه فيه أنّ الرضا اللاحق لا يوجب تغيير حكم الفعل، و تبدّله من الحرمة إلى الإباحة؛ لامتناع جعل الحكم التكليفي بالإضافة إلى الأزمنة الماضية بالنسبة إلى زمان الجعل.

و الوجه في الاجتزاء بالرضا اللاحق في المعاملات، كالبيع الإكراهي، بناء على كون صحّته مع الرضا اللاحق على طبق القاعدة، هو أنّه لا يستفاد من أدلّة اعتبار الرضا في صحّة البيع لزوم مقارنته مع عقده، فيصحّ من دون مقارنة، غاية الأمر أنّ التأثير و التأثّر إنّما يقع من حين الرضا، و لذا يكون مقتضى القاعدة فيه و في بيع الفضولي كون الإجازة المتأخّرة ناقلة، مؤثّرة في التمليك و التملّك من حين وقوعها، لا وقوع العقد.

و أمّا في المقام فالإباحة متوقّفة على تحقّق الرضا، كما هو ظاهر قوله (عليه السّلام)

لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه

و لا وجه لدعوى ثبوتها قبله، نظراً إلى كون الرضا ملحوظاً بنحو يعمّ الشرط المتأخّر أيضاً، فإنّ ذلك يحتاج إلى دليل و هو مفقود في المقام.

مع أنّه ربّما يقال على فرض صحّة هذه الدعوى: إنّه إنّما يوجب صحّة الغسل حين وقوعه على تقدير العلم بالرضا اللاحق، لا مع الشكّ، لأصالة عدم الرضا، فيكون تجرّياً مانعاً من صحّة الغسل، بناء على إيجابه العقاب، و إن تعقّبه الرضا، و لكنّ التحقيق في صحّة هذا المبنى في محلّه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 144

[مسألة 11: يشكل الوضوء و الغسل بالماء المسبّل]

مسألة 11: يشكل الوضوء و الغسل بالماء المسبّل، إلّا مع العلم بعموم الإباحة من

مالكه. (1)

[مسألة 12: الظاهر أنّ ماء غسل المرأة من الجنابة و الحيض و النفاس]

مسألة 12: الظاهر أنّ ماء غسل المرأة من الجنابة و الحيض و النفاس، و كذا اجرة تسخينه إذا احتاج إليه على زوجها. (2)

______________________________

(1) وجه الإشكال عدم ثبوت إذن المالك، و القدر المتيقّن هي إباحة الشرب منه، و أمّا مثل الوضوء و الغسل فلا، و منه يظهر أنّ مقتضى أصالة عدم الإذن عدم الجواز، لا الإشكال فيه.

نعم، مع العلم بعموم الإباحة من المالك، سواء كان علماً حقيقياً، أو قائماً مقام العلم كالبيّنة، أو ظهور كلام المالك، أو عبارة الوقف في العموم بنحو يكون حجّة عند العقلاء، لا مانع من الوضوء و الغسل به.

(2) هذه مسألة خلافية، فالثبوت على الزوج هو مختار المتن تبعاً للشهيد في «الذكرى»، و حكاه العلّامة في «المنتهى» عن جماعة، و قد نسب إلى بعض التفصيل بين فقر الزوجة فعلى الزوج، و غنائها فعليها، و اختاره العلّامة فيه، و عن صاحب «الحدائق» التوقّف؛ لعدم النصّ.

و قد علّل الثبوت على الزوج في «العروة» بأنّه يعدّ جزء من نفقتها، مع أنّ المنصوص بالخصوص من النفقة هو الإطعام و الكسوة و السكنى.

و على فرض التعدّي، نظراً إلى إطلاق الأمر بالنفقة في الكتاب المجيد و غيره، و الإجماع، إنّما يكون ذلك بالإضافة إلىٰ ما يتعلّق بالمعاش دون المعاد، و إن كان يمكن الجواب بأنّ ارتباط هذه الأغسال بالزوج أوجب الثبوت عليه، و عدّه من النفقة، و لذا لا يجب عليه ماء غسل المرأة من مسّ الميت مثلًا، كما أنّه لا يجب عليه كفّارة إفطارها، و لا يثبت عليه ضمان إتلافها، و غير ذلك من الموارد التي لا ترتبط بالزوج بوجه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 145

[مسألة 13: يتعيّن على المجنب في نهار شهر رمضان أن يغتسل ترتيباً]

مسألة 13: يتعيّن على المجنب في

نهار شهر رمضان أن يغتسل ترتيباً، فلو اغتسل ارتماساً بطل غسله و صومه على الأحوط فيهما. (1)

______________________________

(1) وجوب الترتيبي على الصائم وجه التعيّن أنّ الارتماسي و إن لم يخرج عن المقدّمية لرفع الحدث، و لا للغايات الموقوفة عليه، إلّا أنّ وجوب الجمع بين الفرضين: تحريم الإفطار بالارتماس، و وجوب الغايات الموقوفة على الغسل، اقتضى تعيّن الغسل الترتيبي للوصول إليهما.

فلو اغتسل ارتماساً، فقد احتاط في المتن بطلان غسله و صومه، و الوجه في عدم الفتوى بذلك مضافاً إلى إمكان المناقشة في أصل مفطرية الارتماس في الصوم كما سيأتي إن شاء الله تعالىٰ أنّه يمكن الخدشة في ثبوت الإطلاق لدليل المفطرية، بحيث يعمّ الارتماس في غسل الجنابة أيضاً.

و ربّما يقال: لو نوى الغسل حال الخروج من الماء صحّ غسله.

و أُورد عليه: بعدم تماميته في صوم رمضان؛ لحرمة إتيان المفطر فيه، بعد البطلان أيضاً، فخروجه من الماء أيضاً حرام، كمكثه تحت الماء.

و لكنّك عرفت أنّ الخروج لا مدخلية له في حقيقة الارتماس، مع أنّ الغسل حال الخروج لا يوجب تحقّق الارتماس، بعد اعتبار استيلاء الماء على جميع البدن، كما مرّ.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 146

[مسألة 14: لو شكّ في شي ء من أجزاء الغسل]

مسألة 14: لو شكّ في شي ء من أجزاء الغسل، و قد فرغ من الغسل، بنى على الصحّة، و كذا لو شكّ فيه، و قد دخل في جزء آخر على الأقوى، و إن كان الأحوط في هذا الفرض التدارك. (1)

______________________________

(1) في الشكّ بعد الغسل أمّا البناء على الصحّة في الفرض الأوّل، فلجريان قاعدة الفراغ الحاكمة بالصحّة عند الشكّ فيها بعده، و مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين ما إذا كان المشكوك هو الجزء الأخير، أو كان غيره.

و لكنّه ربّما

يقال: بالفرق، و أنّه إذا شكّ في غسل الأيسر لزم الإتيان به و إن طال الزمان؛ لعدم تحقّق الفراغ حينئذٍ، لعدم اعتبار الموالاة فيه.

نعم، فيما إذا كان معتاد الموالاة يحتمل عدم الاعتناء، نظراً إلى أنّ التجاوز عن المحلّ العادّي أيضاً يوجب جريان قاعدة التجاوز.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 146

و لكنّك عرفت في باب الوضوء أنّ الفراغ الذي هو موضوع قاعدته هو الفراغ الاعتقادي، و لا فرق في حصوله بين الأجزاء أصلًا، و اعتياد الموالاة لا يوجب تحقّق التجاوز؛ لعدم اعتبار المحلّ العادي بوجه، و على تقديره فمجرّد التجاوز لا يكفي، بل لا بدّ من الدخول في الغير كما تقدّم.

و أمّا البناء على الصحّة في الفرض الثاني، فمبني على جريان قاعدة التجاوز في الغسل، و عدم جريانها في الوضوء لا يوجب عدم الجريان في الغسل أو التيمّم، و لم يثبت أنّ الشارع قد اعتبر الطهارات الثلاث كعمل واحد بسيط، و لم تعلم وحدة المناط، لكنّ الاحتياط لا ينبغي أن يترك في هذا الفرض.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 147

[مسألة 15: ينبغي للمجنب إذا أنزل الاستبراء بالبول قبل الغسل]

مسألة 15: ينبغي للمجنب إذا أنزل الاستبراء بالبول قبل الغسل، و ليس هو شرطاً في صحّة غسله، و لكن فائدته أنّه لو فعله و اغتسل، ثمّ خرج منه بلل مشتبه، لا يجب عليه إعادة الغسل، بخلاف ما لو اغتسل بدونه، فإنّ البلل المشتبه حينئذٍ محكوم بكونه منيّاً، سواء استبرأ بالخرطات لتعذّر البول عليه أم لا.

نعم، لو اجتهد في الاستبراء، بحيث قطع بنقاء

المحلّ، و عدم بقاء المنيّ في المجرى، و احتمل أن يكون حادثاً، لا تجب الإعادة على الأقوى، و كذا لو كان طول المدّة منشأً لقطعه، لكنّ الأحوط الإعادة في الصورتين. (1)

______________________________

(1) الاستبراء أمام الغسل من سنن الغسل و مستحبّاته البول أمامه إذا كانت الجنابة بالإنزال، كما أنّ من سنن الجنابة بالإنزال البول بعده، تحرّزاً عن أن يبقى المنيّ في المجرى فيورث المرض.

و قد روي عن النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أنّه قال

من ترك البول على أثر الجنابة، أو شكّ أن يتردّد بقية الماء في بدنه فيورثه الداء الذي لا دواء له.

و الدليل على كونه من سنن الغسل بعض الروايات الدالّة عليه، كصحيحة أحمد بن محمّد قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن غسل الجنابة.

فقال

تغسل يدك اليمنى من المرفقين (المرفق) إلى أصابعك، و تبول إن قدرت على البول، ثمّ تدخل يدك في الإناء ...

«1» و فائدته عدم انتقاض الغسل بالبلل المشتبه، المحتمل كونه من بقية المنيّ،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 148

..........

______________________________

إذ لو لا البول لكان البلل الخارج بحكم المنيّ، كما يدلّ عليه جملة من الأخبار: كصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يخرج من إحليله بعد ما اغتسل شي ء.

قال

يغتسل، و يعيد الصلاة، إلّا أن يكون بال قبل أن يغتسل، فإنّه لا يعيد غسله.

«1» و صحيحة الحلبي أو حسنته، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سئل عن الرجل يغتسل، ثمّ يجد بعد ذلك بللًا، و قد كان بال قبل أن يغتسل.

قال

إن كان بال قبل أن يغتسل (الغسل خ د)

فلا يعيد الغسل.

«2» و موثّقة سماعة قال: سألته عن الرجل يجنب، ثمّ يغتسل قبل أن يبول، فيجد بللًا بعد ما يغتسل.

قال

يعيد الغسل، فإن كان بال قبل أن يغتسل، فلا يعيد غسله، و لكن يتوضّأ و يستنجي.

«3» و رواية معاوية بن ميسرة قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول في رجل رأى بعد الغسل شيئاً.

قال

إن كان بال بعد جماعه قبل الغسل فليتوضّأ، و إن لم يبل حتّى اغتسل، ثمّ وجد البلل فليعد الغسل.

«4» و رواية سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن رجل أجنب، فاغتسل قبل أن يبول، فخرج منه شي ء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 8.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 149

..........

______________________________

قال

يعيد الغسل.

قلت: فالمرأة يخرج منها شي ء بعد الغسل.

قال

لا تعيد.

قلت: فما الفرق فيما بينهما؟

قال

لأنّ ما يخرج من المرأة إنّما هو من ماء الرجل.

«1» و غير ذلك من الروايات الدالّة عليه، و في مقابلها رواية زيد الشحّام، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن رجل أجنب، ثمّ اغتسل قبل أن يبول، ثمّ رأى شيئاً.

قال

لا يعيد الغسل، ليس ذلك الذي رأى شيئاً.

«2» و رواية أحمد بن هلال قال: سألته عن رجل اغتسل قبل أن يبول.

فكتب

أنّ الغسل بعد البول، إلّا أن يكون ناسياً، فلا يعيد منه الغسل.

«3» و رواية عبد اللّه بن هلال قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يجامع أهله، ثمّ يغتسل قبل أن يبول، ثمّ يخرج منه

شي ء بعد الغسل.

قال

لا شي ء عليه، إنّ ذلك ممّا وضعه اللّه عنه.

«4» و رواية جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يصيبه الجنابة، فينسى أن يبول حتّى يغتسل، ثمّ يرى بعد الغسل شيئاً، أ يغتسل أيضاً؟

قال

لا، قد تعصّرت، و نزل من الحبائل.

«5»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 10.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 14.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 12.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 13.

(5) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 150

..........

______________________________

لكنّ مفاد هذه الطائفة مختلف؛ لأنّ رواية أحمد تدلّ على شرطية البول للغسل، و أنّه إذا لم يبل تجب عليه الإعادة و إن لم يخرج منه شي ء، غاية الأمر اختصاصها بغير صورة النسيان.

و رواية زيد تدلّ على عدم الإعادة؛ لعدم كون المرئي شيئاً أي موجباً للغسل.

و رواية جميل و إن كان موردها صورة النسيان إلّا أنّ التعليل عامّ لغيرها أيضاً.

و رواية عبد اللّه تدلّ على ثبوت المقتضي للإعادة، و أنّه ممّا وضعه اللّٰه عنه.

و كيف كان: فقد حكي عن الصدوق أنّه بعد نقله صحيحة الحلبي المتقدّمة قال: و روي في حديث آخر

إن كان قد رأى بللًا، و لم يكن بال، فليتوضّأ و لا يغتسل، إنّما ذلك من الحبائل

«1» قال مصنّف هذا الكتاب: إعادة الغسل أصل، و الخبر الثاني رخصة.

و عن الشيخ في «الإستبصار» في مقام الجمع بين الطائفتين، التفصيل بين ترك البول عمداً و تركه نسياناً، فيعيد في الأوّل دون الثاني، حملًا للطائفة الأُولى على العمد، و الثانية على النسيان.

و يرد على ما أفاده الصدوق: عدم

حجّية المرسلة، و عدم ثبوت الرخصة بها، و احتمال كون المراد به هي رواية جميل المتقدّمة بلحاظ الاشتراك في التعليل يدفعه أنّ موردها صورة النسيان، و المرسلة عامّة مع اشتمالها على الأمر بالوضوء، و خلوّها منه، مع أنّ الجمع بين الأمر بالوضوء في المرسلة، و بين التعليل المذكور فيها، ممّا لا يستقيم، فكيف يمكن إثبات الرخصة بها مع اعترافه بأنّ الإعادة أصل؟!

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 151

..........

______________________________

و على ما أفاده الشيخ (قدّس سرّه): إباء التعليل الواقع في بعض روايات الطائفة الأُولى عن الحمل على العمد، كإباء التعليل الواقع في بعض روايات الطائفة الثانية عن الحمل على النسيان، و التفصيل الواقع في خبر أحمد لا يكون شاهداً على هذا الجمع، لما عرفت من أنّ مفاده شرطية البول للغسل، و وجوب تجديده إذا لم يبل، و إن لم يخرج منه شي ء، و هذا ممّا لم يلتزم به أحد.

فالإنصاف: أنّ الجمع بينهما ممّا لا يمكن، و لا بدّ من الأخذ بالطائفة الأُولى؛ لموافقتها للشهرة من حيث الفتوى، التي هي أوّل المرجّحات في باب المتعارضين، على ما يستفاد من مقبولة ابن حنظلة المعروفة، مقتضاها وجوب إعادة الغسل مع عدم البول قبله، من دون فرق بين صورتي العمد و النسيان.

كما أنّه لا فرق بين ما إذا استبرأ بالخرطات بعد البول، و ما إذا لم يستبرئ، فأثر البول قبله ارتفاع الحكم بوجوب الإعادة، من دون أن يكون واجباً بنفسه، أو شرطاً في صحّة الغسل.

فما حكي عن جماعة من الأصحاب من القول بوجوب البول، مدفوع بمنعه، سواء أُريد به الوجوب الشرطي، أو النفسي.

أمّا على الأوّل: فلما ادّعاه في

محكي «المختلف» من الإجماع على عدم وجوب إعادة الغسل على من أخلّ بالبول، و وجد بللًا يعلم أنّه ليس بمنيّ، فعدم الوجوب فيما إذا لم يجد بللًا بطريق أولى، و للروايات المتقدّمة في الطائفة الأُولى، الظاهرة في عدم الشرطية، و كون الإعادة معلّقة على خروج بلل مردّد بين المنيّ و غيره.

و أمّا على الثاني: فجوابه واضح؛ لأنّ استفادة الوجوب النفسي التعبّدي في مثل هذه الموارد، خلاف ما هو المتفاهم عرفاً من الروايات، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 152

..........

______________________________

ثمّ إنّه قد نقل عن الجعفي القول بوجوب البول و الاستبراء كليهما قبل الغسل، و عن بعض الأصحاب التصريح بأنّه عند تعذّر البول يكتفى بالاجتهاد، أي الاستبراء، و عن «المبسوط» و «الغنية» إيجابهما عليه مخيّراً، مع زيادة الثاني إيجاب الاستبراء من البول، بل ادّعى الإجماع على ما ذهب إليه.

و يرد عليهم: منع الوجوب مطلقاً، سواء أُريد به الوجوب الشرطي أو التعبّدي النفسي، كما عرفت.

نعم، لا بدّ من البحث بعد عدم كون البول واجباً، و إنّما فائدته ارتفاع الحكم بوجوب الإعادة، بعد رؤية البلل المشتبه في أنّه هل يقوم الاستبراء بالخرطات مقام البول في هذه الجهة، أم لا؟

و الظاهر العدم؛ لعدم نهوض دليل عليه من غير فرق بين صورة تعذّر البول و عدمه، نعم لو حصل له القطع بنقاء المجرى بسبب الاستبراء لا تجب الإعادة حينئذٍ؛ لأنّ مورد الروايات الآمرة بالإعادة ما إذا احتمل أن يكون البلل من بقايا المنيّ في المجرى، و إلّا فمع القطع بكونه بولًا مثلًا لا تجب إعادة الغسل، كما حكي ظهور الاتّفاق عليه، و لكنّ فرض حصول القطع بنقاء المجرى نادر التحقّق، قلّما يحصل اليقين بذلك، و لكن

مع ذلك الاحتياط هو الإعادة في هذه الصورة، و كذا فيما إذا كان منشأ حصول القطع له بنقاء المجرى طول المدّة، أو شيئاً آخر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 153

[مسألة 16: المجنب بسبب الإنزال لو اغتسل، ثمّ خرج منه بلل مشتبه]

مسألة 16: المجنب بسبب الإنزال لو اغتسل، ثمّ خرج منه بلل مشتبه بين المنيّ و البول، فإن لم يستبرئ بالبول يحكم بكونه منيّاً، فيجب عليه الغسل خاصّة، و إن بال و لم يستبرئ بالخرطات بعده يحكم بكونه بولًا، فيجب عليه الوضوء خاصّة.

و لا فرق في هاتين الصورتين بين احتمال غيرهما من المذي و غيره، و عدمه.

و إن استبرأ بالبول و بالخرطات بعده، فإن احتمل غير البول و المنيّ أيضاً، ليس عليه غسل و لا وضوء، و إن لم يحتمل غيرهما، فإن أوقع الأمرين قبل الغسل، و خرج البلل المشتبه بعده، يجب الاحتياط بالجمع بين الغسل و الوضوء، و إن أوقعهما بعده، ثمّ خرج البلل المزبور، يكفي الوضوء خاصّة. (1)

______________________________

(1) في حكم خروج البلل المشتبه بعد الغسل في هذه المسألة فروع:

الأوّل: ما إذا اغتسل المجنب بالإنزال، ثمّ خرج منه بلل يجري فيه احتمال المنيّ و البول، سواء جرى فيه احتمال غيرهما، أم لم يجر، و لم يتحقّق الاستبراء بالبول قبل الغسل، و الحكم فيه وجوب إعادة الغسل فقط؛ لأنّ البلل محكوم بكونه منيّاً.

و الدليل على الحكم ما تقدّم من الروايات الآمرة بالإعادة، مع عدم البول قبله، و مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين المشتبه من كلّ وجه، و بين المردّد بين البول و المنيّ، و لا وجه لتخصيصها بالأوّل، كما ربّما حكي عن ظاهر «تمهيد القواعد».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 154

..........

______________________________

كما أنّ ظاهر الروايات أنّ الحكم

بوجوب الإعادة إنّما هو لكون الخارج محكوماً بكونه منيّاً، و أنّه من بقايا المنيّ الخارج في المجرى.

و عليه فلا يبقى مجال لتوهّم أنّ مقتضى القاعدة وجوب الجمع بين الوضوء و الغسل، مع تردّد البلل بين البول و المنيّ فقط، فإنّ الجمع إنّما يجب فيما إذا لم يتعيّن أحد الطرفين و لو شرعاً بمقتضى أصل أو أمارة، ضرورة أنّه مع التعيّن ينحلّ العلم الإجمالي، و يسقط عن التأثير.

و إن شئت قلت: إنّ لزوم الاحتياط عقلًا إنّما هو مع عدم قيام دليل شرعي على الاكتفاء ببعض الأطراف، و مقتضى إطلاق نصوص المقام و شمولها لهذا الفرض الاكتفاء بخصوص الغسل، فلا يجب الوضوء.

و السرّ فيه: ما ذكرناه في محلّه، من أنّ العلم المتعلّق بالتكليف في مثل هذه الموارد، ليس هو العلم الوجداني بثبوت التكليف الفعلي، و إلّا فلا يجتمع مع الترخيص و لو في بعض الأطراف، و لو كانت الشبهة غير محصورة، بل المراد به هي الحجّة القائمة على ثبوته من إطلاق أو عموم أو شبههما، و من الواضح أنّ شمول إطلاق نصوص المقام أظهر من أدلّة ذلك التكليف، فتدبّر.

الثاني: الفرض السابق مع تحقّق البول قبل الغسل، غاية الأمر أنّه لم يتحقّق الاستبراء بالخرطات بعده، و الحكم فيه عدم وجوب إعادة الغسل، و لزوم الوضوء فقط.

أمّا عدم وجوب إعادة الغسل: فللروايات المتقدّمة، الدالّة على أنّ البول قبل الغسل ينفي وجوب الإعادة بعده، و مقتضى إطلاقها أنّه لا فرق بين تحقّق الاستبراء بالخرطات بعده، و عدم تحقّقه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 155

..........

______________________________

و أمّا لزوم الوضوء فيدلّ عليه مضافاً إلى الروايات المتقدّمة في باب الاستبراء، الدالّة على أنّ البلل المشتبه مع عدم الاستبراء بالخرطات

محكوم بكونه بولًا بعض الروايات المتقدّمة في هذا البحث، الصريحة في إيجاب الوضوء مع تحقّق البول قبل الغسل، كموثّقة سماعة، و رواية معاوية بن ميسرة المتقدّمتين.

نعم، هنا شي ء و هو أنّ مقتضى إطلاقهما وجوب الوضوء مع تحقّق الاستبراء بالخرطات أيضاً، و لا يمكن الالتزام به، و لكنّهما محمولان على صورة عدم الاستبراء بها جمعاً بينهما، و بين ما دلّ على عدم الاعتناء بالبلل الخارج بعد البول إذا كان قد استبرأ بالخرطات، و على تقدير عدم إمكان الجمع، و ثبوت الإطلاق لهما، فهو لا يقدح فيما هو الحكم في هذا الفرع، كما هو ظاهر.

الثالث: ما إذا تحقّق الاستبراء بالبول و بالخرطات بعده معاً، فتارة يكون البلل مشتبهاً من كلّ وجه، و اخرى يكون مردّداً بين خصوص المنيّ و البول.

ففي الصورة الاولى: لا يجب عليه شي ء من الغسل و الوضوء؛ لعدم ثبوت دليل على التكليف عقلًا أو نقلًا، فلا مجرى إلّا لأصالة البراءة، أو استصحاب عدم خروج المنيّ أو البول.

و في الصورة الثانية: لا بدّ من التفصيل بين ما إذا كان الأمران و هما الاستبراء بالبول و بالخرطات واقعين قبل الغسل و خرج البلل بعده، و بين ما إذا كانا واقعين بعده، ثمّ خرج البلل المذكور:

ففي الفرض الأوّل: لا محيص عن الجمع بين الوضوء و الغسل؛ للعلم الإجمالي بثبوت أحد التكليفين، و لا دليل على الاكتفاء بأحد الأمرين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 156

..........

______________________________

نعم، قد عرفت أنّ مقتضى إطلاق روايتي سماعة و معاوية الاكتفاء بالوضوء في هذا الفرض أيضاً، و لكن مقتضى الجمع هو الحمل على صورة عدم الاستبراء بالخرطات، و على تقدير التعارض و التساقط، تصل النوبة أيضاً إلى القاعدة الموجبة

للجمع بين الأمرين.

و في الفرض الثاني: يكفي الوضوء خاصّة بسبب البول المتحقّق بعد الغسل على ما هو المفروض، و لا أثر للعلم الإجمالي بكون الرطوبة بولًا أو منيّاً هنا؛ لأنّ الرطوبة إذا كانت بولًا لم تؤثّر في أحداث تكليف جديد، بل كان وجوب الوضوء ثابتاً لأجل البول الحاصل قبل خروج الرطوبة، فالتكليف بالوضوء معلوم و بالغسل مشكوك، يجري فيه أصالة البراءة، بعد عدم تأثير العلم الإجمالي لأجل العلم التفصيلي بثبوت أحد طرفيه قبلًا، كما فيما إذا علم إجمالًا بنجاسة أحد الإناءين نجاسة حادثة، و كان أحدهما معلوم النجاسة تفصيلًا، فإنّ العلم الإجمالي في مثله لا يصلح لإحداث تكليف جديد، بل ليس هنا إلّا علم تفصيلي و شكّ بدوي، و هذا بخلاف ما إذا كان البول واقعاً قبل الغسل، فإنّه لا يؤثّر في التكليف بالوضوء.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 157

[مسألة 17: لو خرجت بعد الإنزال و الغسل رطوبة مشتبهة بين المنيّ و غيره]

مسألة 17: لو خرجت بعد الإنزال و الغسل رطوبة مشتبهة بين المنيّ و غيره، و شكّ في أنّه استبرأ بالبول أم لا، بنى على عدمه، فيجب عليه الغسل، و مع احتمال كونه بولًا الأحوط ضمّ الوضوء أيضاً. (1)

______________________________

(1) أمّا البناء على العدم، فلأصالة عدم تحقّق الاستبراء، الذي يكون حدوثه مشكوكاً.

و أمّا وجوب الغسل عليه، فلأنّ المستفاد من الروايات المتقدّمة، ترتّب وجوب إعادة الغسل على عدم تحقّق الاستبراء بالبول، فوجوب الإعادة من آثار عدم البول شرعاً، فلا مانع من ترتّبه عليه إذا أُحرز بالاستصحاب و نحوه.

و إن شئت قلت: إنّ من آثار عدم البول شرعاً الحكم بكون الخارج منيّاً، و يترتّب على خروجه وجوب الغسل، فوجوب الغسل لا يختصّ مورده بما إذا كان الخارج منيّاً واقعاً، بل يعمّه و ما إذا

كان الخارج محكوماً شرعاً بأنّه منيّ، كما فيما إذا لم يتحقّق الاستبراء بالبول، إمّا واقعاً، و إمّا بالإحراز، هذا مع عدم جريان احتمال البولية فيه.

و أمّا مع جريانه: فقد احتاط في المتن بضمّ الوضوء به أيضاً، و لا بدّ من الالتزام بكون الاحتياط استحبابياً، فيما إذا لم يكن مردّداً بين خصوص المنيّ و البول؛ لعدم كون العلم الإجمالي مؤثّراً حينئذٍ بعد جريان احتمال غيرهما أيضاً.

و أمّا إذا كان مردّداً بين خصوصهما، فهل الاحتياط وجوبي، أو استحبابي؟

و الظاهر ابتناء ذلك على أنّ الأصل المثبت للتكليف في أحد طرفي العلم الإجمالي، هل يوجب انحلال العلم و لو حكماً، أم لا يوجب؟

فعلى الأوّل: يكون الاحتياط استحبابياً.

و على الثاني: وجوبياً.

و التحقيق في محلّه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 158

[مسألة 18: يجزي غسل الجنابة عن الوضوء]

مسألة 18: يجزي غسل الجنابة عن الوضوء لكلّ ما اشترط به. (1)

______________________________

(1) إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء و الدليل على الإجزاء النصوص الكثيرة الدالّة عليه، كصحيحة زرارة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه ذكر كيفية غسل الجنابة فقال

ليس قبله و لا بعده وضوء.

«1» و رواية يعقوب بن يقطين، عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: سألته عن غسل الجنابة فيه وضوء أم لا؛ فيما نزل به جبرئيل.

قال

الجنب يغتسل، يبدأ فيغسل يديه إلى المرفقين قبل أن يغمسهما في الماء، ثمّ يغسل ما أصابه من أذى، ثمّ يصبّ على رأسه و على وجهه و على جسده كلّه، ثمّ قد قضى الغسل، و لا وضوء عليه.

«2» و صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) عن غسل الجنابة.

فقال

تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك، و تبول إن قدرت على

البول، ثمّ تدخل يدك في الإناء، ثمّ اغسل ما أصابك منه، ثمّ أفض على رأسك و جسدك، و لا وضوء فيه.

«3» و رواية حكم بن حكيم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن غسل الجنابة، إلى أن قال قلت: إنّ الناس يقولون يتوضّأ وضوء الصلاة قبل الغسل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 34، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 34، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 34، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 159

..........

______________________________

فضحك و قال

و أيّ وضوء أنقى من الغسل و أبلغ؟!.

«1» و رواية محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): إنّ أهل الكوفة يروون عن علي (عليه السّلام) أنّه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة.

قال

كذبوا على علي (عليه السّلام)، وجدوا ذلك في كتاب علي (عليه السّلام) قال اللّٰه تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا.

«2» و غير ذلك من الروايات الدالّة عليه، كمرسلة ابن أبي عمير، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

كلّ غسل قبله وضوء إلّا غسل الجنابة.

«3» و أمّا رواية أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: سألته كيف أصنع إذا أجنبت؟

قال

اغسل كفّك، و فرجك، و توضّأ وضوء الصلاة، ثمّ اغتسل.

«4» فهي محمولة على التقية، أو مطروحة، لمعارضتها مع الأخبار المستفيضة، التي تكون الفتوى على طبقها، و العمل عليها.

ثمّ إنّ التعبير بالإجزاء كما في المتن لعلّه لا ينافي المشروعية، و لكن قد صرّح بعض بعدمها؛ و لعلّه لما يستفاد من بعض الروايات، كصحيحة زرارة الدالّة على أنّه ليس قبله و لا بعده وضوء.

و إن كان يمكن أن يقال: بأنّ المراد نفي وجوب الوضوء قبله

و لا بعده، لا نفي مشروعيته، لكنّ الظاهر منها ذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 34، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 34، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 35، الحديث 1.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 34، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 160

[مسألة 19: لو أحدث بالأصغر في أثناء الغسل]

مسألة 19: لو أحدث بالأصغر في أثناء الغسل، لم يبطل على الأقوى، لكن يجب الوضوء بعده لكلّ ما اشترط به، و الأحوط استيناف الغسل، قاصداً به ما يجب عليه من التمام أو الإتمام، و الوضوء بعده. (1)

______________________________

و يؤيّده قوله (عليه السّلام) في رواية حكم

و أيّ وضوء أنقى من الغسل و أبلغ؟!

بناء على أنّه مع حصول ما هو أنقى قبلًا، أو تحقّقه فيما بعد لزوماً، لا يبقى موضوع للوضوء الذي أُريد به النقاء و البلوغ.

كما أنّ الاستدلال بقوله تعالى في رواية محمّد بن مسلم، يفيد أنّ وظيفة الجنب ليست إلّا الغسل في مقابل غيره، الذي وظيفته هي الوضوء.

ثمّ إنّه من الواضح أنّه لا مجال لتوهّم: أن يكون محطّ نظر الروايات نفي اعتبار الوضوء في صحّة الغسل، فلا ينافي اعتباره فيما يكون مشروطاً به، كما لا يخفى.

(1) لو أحدث بالأصغر في أثناء الغسل الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين:

الأوّل: لزوم إعادة الغسل و عدمه، و بعبارة أُخرى: بطلان الغسل لأجل وقوع الحدث الأصغر في أثنائه و عدمه.

و القول بالإعادة محكيّ عن «الهداية» و «الفقيه» و «المبسوط» و عن جملة من المتأخّرين، و متأخّريهم، بل عن المحقّق الثاني في «حاشية الألفية» نسبته إلى الأكثر.

و استدلّ له: بما رواه السيّد في كتاب «المدارك» نقلًا من كتاب «عرض المجالس» للصدوق ابن بابويه، عن الصادق (عليه

السّلام) قال

لا بأس بتبعيض الغسل، تغسل يدك و فرجك و رأسك، و تؤخّر غسل جسدك إلى وقت الصلاة، ثمّ تغسل جسدك

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 161

..........

______________________________

إذا أردت ذلك، فإن أحدثت حدثاً من بول، أو غائط، أو ريح، أو منيّ، بعد ما غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك، فأعد الغسل من أوّله.

«1» قال في «الوسائل» بعد نقل الرواية عن «المدارك»: «و رواه الشهيدان، و غيرهما من الأصحاب».

و استدلّ له أيضاً: بعدم ثبوت كون الغسل المتخلّل بالحدث رافعاً للجنابة، فيستصحب أثرها إلى أن يتحقّق المزيل، و هو الغسل الواقع عقيب الحدث.

و أُجيب عن الاستدلال بالرواية: بأنّه لم تثبت حجّيتها؛ لعدم الوقوف على سندها، بل عن جماعة عدم العثور عليها فيه.

و لو لا هذا الاحتمال لأمكن الجواب عن عدم الوقوف على السند، بأنّ إسناد الصدوق الرواية إلى الصادق (عليه السّلام)، لا يكاد يتمّ إلّا على تقدير كون الوسائط موثّقين عنده، و إلّا لكان المناسب الإسناد إلى الرواية دون الإمام (عليه السّلام).

و أمّا الجواب عن استصحاب أثر الجنابة، فهو أنّه لا مجال لهذا الاستصحاب:

أمّا أوّلًا: فلأنّ إطلاق الأدلّة البيانية الواردة في مقام بيان الأجزاء و الشرائط و الموانع، الخالية عن التعرّض لكون الحدث الأصغر مانعاً، ينفي احتمال المانعية.

إلّا أن يقال: إنّ الحدث الأصغر لا يكون من قبيل الموانع التي يكون عدمها معتبراً في الصحّة، ضرورة أنّ وقوعه قبل الغسل لا يمنع عن صحّته بوجه.

و إنّما الكلام في كونه ناقضاً للغسل في الأثناء، نظير القواطع في باب الصلاة، كالضحك و التكلّم و نحوهما، و حينئذٍ مع الشكّ في ذلك، لا مجال للرجوع إلى إطلاق تلك الأدلّة؛ لعدم تعرّضها لهذه الجهة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة،

أبواب الجنابة، الباب 29، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 162

..........

______________________________

و لكن يدفعه: أنّها كما تكون متعرّضة للأجزاء و الشرائط و الموانع، كذلك تكون متعرّضة للقواطع أيضاً، فعدم التعرّض لقاطعية الحدث الأصغر في الأثناء، دليل على عدمها، كما لا يخفى.

و أمّا ثانياً: فلأنّه على تقدير تسليم عدم جواز الرجوع إلى الإطلاق، نقول: إنّ استصحاب عدم الانتقاض الذي يكون مرجعه إلى استصحاب صحّة الأجزاء المأتي بها حاكم على استصحاب أثر الجنابة؛ لأنّ معنى استصحاب صحّة الأجزاء السابقة، ترتيب آثارها الشرعية الثابتة لها قبل عروض ما يشكّ في ناقضيته، و هي كونها مؤثّرة في حصول الطهارة، بشرط لحوق سائر الأجزاء بها.

فكما أنّه لا يرفع اليد عن أثر الغسل و الوضوء بعد عروض ما تحتمل ناقضيته، كذلك لا يرفع اليد عن أثر أبعاض الوضوء و الغسل بمجرّد عروض ذلك، بل يستصحب أثرها إلى أن يعلم ارتفاعه.

و أمّا ثالثاً: فلأنّه لو أُغمض عن استصحاب الصحّة و حكومته، نقول: إنّه لا مجال لاستصحاب أثر الجنابة أصلًا، لأنّه لم يثبت أنّ الجنابة تكون قذارة معنوية حاصلة عند عروض أسبابها، و الغسل يكون رافعاً لها، مؤثّراً في حصول الطهارة؛ فإنّ المقدار الذي ثبت بالدليل هو وجوب الغسل عند عروض تلك الأسباب، و كونه شرطاً في صحّة مثل الصلاة.

و عليه فالشكّ في المقام، يرجع إلى الشكّ في اعتبار عدم الحدث الأصغر في أثناء الغسل، في التكليف به و عدمه، فالشكّ في تكليف زائد على المقدار المعلوم، و قد تبيّن في محلّه: أنّ الأصل الجاري في مقام دوران الأمر بين الأقلّ و الأكثر الارتباطيّين، هي البراءة دون الاشتغال، من دون فرق بين أن يكون الشكّ في

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 163

..........

______________________________

الجزء أو في الشرط، و بين أن يكون في المانع أو القاطع، فاستصحاب أثر الجنابة لا أصل له أصلًا.

و قد انقدح ممّا ذكرنا: أنّه لا وجه للقول ببطلان الغسل، و لزوم الإعادة من رأس.

و ربّما يؤيّد عدم البطلان الرواية المتقدّمة، الدالّة على عدم اعتبار الموالاة، الواردة في قصّة أُمّ إسماعيل.

و ما دلّ على تأخير غسل بعض الأعضاء و لو إلى نصف يوم أو أزيد، فإنّه ربّما يستبعد إرادة ما لو لم يصدر الحدث في الأثناء، و إلّا لكان اللازم بيانه في مقام الحاجة.

المقام الثاني: في وجوب الوضوء بعده لكلّ ما اشترط به و عدمه.

و قد اختار في المتن الوجوب، وفاقاً للسيّد و جماعة من المتأخّرين.

و عن الحلّي و المحقّق الثاني و بعض متأخّري المتأخّرين: عدم وجوب الوضوء، و الاكتفاء بالغسل الذي أتمّه بعد الحدث الأصغر.

و نقول: ربّما استدلّ للوجوب بأنّ الحدث لو تأخّر عن تمام الطهارة، لأبطل إباحتها الصلاة، فللبعض بطريق أولى.

و أُورد عليه: بدلالة الأدلّة من الإجماع و غيره، على أن لا أثر لأسباب الوضوء ما دامت الجنابة باقية، و لا ترتفع الجنابة إلّا بعد أن فرغ من غسلها، فكيف يقاس حال الاشتغال بالغسل بما بعده، فضلًا عن أن يكون أولى منه؟! و أُجيب عن الإيراد: بأنّ غاية ما دلّت عليه الأدلّة إنّما هي كفاية غسل الجنابة عن الوضوء، بل عن كلّ حدث، فيرتفع بغسل الجنابة جنس الحدث الذي تحقّق سببه قبل الاغتسال، و أمّا ما وقع من أسباب الوضوء كأسباب سائر الأغسال في أثناء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 164

..........

______________________________

غسل الجنابة فلا يكاد يستفاد من شي ء من الأدلّة

عدم وقوعه مؤثّراً، أو أنّه يرتفع أثره بهذا الغسل:

أمّا الإجماع فواضح؛ لاختصاصه بغير مورد الخلاف.

و أمّا الأخبار الدالّة على أنّه لا وضوء مع غسل الجنابة، فلا يتبادر منها إلّا عدم كون أسباب الوضوء الحادثة قبل الجنابة، أو بعدها قبل الاغتسال، مؤثّرة في إيجاب الوضوء، و أمّا ما صدر منها في أثناء الغسل، فالأخبار منصرفة عنه جزماً، فيكون حاله حال ما لو صدر بعد الغسل في إيجاب الوضوء، بمقتضى عموم ما دلّ على سببية له.

و هذا الجواب و إن كان تامّاً خالياً عن المناقشة، إلّا أنّ مفاده مجرّد إثبات وجوب الوضوء في مفروض المقام، و لا يصلح لإثبات الأولوية؛ ضرورة أنّ مرجعه إلى شمول أدلّة وجوب الوضوء عند عروض أسبابه، بعد عدم شمول أدلّة إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء للمقام، من دون أن تكون هنا أولوية، بل هي بالعكس، فتدبّر.

ثمّ إنّه ربّما يورد على القول بوجوب الوضوء هنا: بأنّه لا دليل على وجوب الوضوء لكلّ فرد من السبب؛ لأنّ المستفاد من الأدلّة كون الأسباب المذكورة نواقض للوضوء، و النقض لما لم يقبل التكرّر و التأكّد امتنع أن يكون لكلّ واحد منها أثر، بل الأثر إنّما يكون للسابق، فيكون هو الناقض لا غير، و حينئذٍ فلا دليل على وجوب الوضوء في المقام؛ لامتناع كون البول مثلًا ناقضاً ما دام حدث الجنابة، لاستناد الانتقاض إليه حال حدوثه فقط، و لا سيّما إذا كان قد بال قبل الغسل، فإنّ البول في الأثناء في هذا الفرض يكون من البول بعد البول، الذي لا أثر له جزماً.

و أُجيب عنه: بأنّ هذا الإشكال بعينه جار في البول في أثناء الوضوء، و مقتضاه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص:

165

..........

______________________________

عدم وجوب الإعادة، و كما يندفع هناك: بأنّ ما دلّ على ناقضية البول للوضوء يدلّ على نقضه لكلّ جزء جزء منه، و لا يختصّ نقضه بالجزء الأخير فقط، و لذلك اقتضى وجوب تمام أفعال الوضوء لو وقع بعد تمامه، فإذا وقع في أثناء الوضوء اقتضى نقض الأجزاء السابقة، كما يقتضي نقضها لو وقع بعد تمامها، نقول هنا أيضاً: إذا وقع في أثناء الغسل اقتضى انتقاض الأجزاء السابقة، بعين اقتضائه لانتقاضها إذا وقع بعد تمام الغسل، فكما يقتضي الوضوء هناك، يقتضي الوضوء هنا أيضاً.

فلا يتوقّف القول بوجوب الوضوء هنا على عموم سببية كلّ فرد من الأسباب للوضوء، كي يتوجّه الإشكال عليه: بمنع العموم المذكور إجماعاً، بل يتوقّف على عموم السببية لكلّ فرد ناقض و لو للجزء، و لا مانع عقلًا من البناء على هذا العموم، بعد دلالة الأدلّة عليه.

أقول: قد تقدّم في مبحث التداخل و عدمه، أنّ مسألة الوضوء خارجة عن ذلك المبحث، لقيام الإجماع بل الضرورة على الاكتفاء بوضوء واحد عقيب الأسباب المتعدّدة، سواء كانت من جنس واحد، أو أجناس مختلفة، و على أنّ الناقض له هو الحدث، و البول و الغائط و نحوهما إنّما هو من مصاديقه، لا أن يكون كلّ واحد سبباً مستقلّاً، و حينئذٍ فالوجه لوجوبه فيما إذا وقع البول بعده، و كذا وجوب استينافه فيما إذا وقع في أثنائه، هو عدم شمول الإجماع و الضرورة لهما، فيشملهما عموم دليل الوجوب عند عروض مصاديق الحدث.

كما أنّ الوجه للوجوب في المقام إنّما هو شمول العموم بعد عدم اقتضاء دليل إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء للشمول له، و إلّا فالبول لا يكون ناقضاً للغسل حتّى يقال: بأنّ الانتقاض به إذا وقع في الأثناء

إنّما هو كالانتقاض به إذا وقع بعد الفراغ منه، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 166

[مسألة 20: لو ارتمس في الماء بقصد الاغتسال]

مسألة 20: لو ارتمس في الماء بقصد الاغتسال، و شكّ في أنّه كان ناوياً للغسل الارتماسي حتّى يكون فارغاً، أو الترتيبي، و كان ارتماسه بقصد غسل الرأس و الرقبة، و بقي الطرفان، يحتاط بغسل الطرفين، و لا يجب الاستيناف، بل لا يكفي الارتماسي على الأحوط. (1)

______________________________

ثمّ إنّه قد احتاط في المتن بعد تقوية عدم وجوب إعادة الغسل من رأس، بالإعادة و الاستيناف، قاصداً به ما يجب عليه من التمام أو الإتمام.

و المراد قصد ذلك بالنسبة إلى الأجزاء المعادة الواقعة قبل الحدث، و إلّا فبالنسبة إلى الأجزاء الباقية يقصد الإتمام، و قد عرفت عدم اعتبار الموالاة في الغسل.

(1) بعض الشكوك في الغسل أمّا وجوب الاحتياط بغسل الطرفين فلقاعدة الاشتغال؛ لعدم العلم بالفراغ منه، لاحتمال كون الارتماس بقصد غسل الرأس و الرقبة، فلا محرز في البين.

و أمّا عدم وجوب الاستيناف، فلأنّه إن كان بارتماسه قاصداً للغسل الارتماسي فقد فرغ، و إن كان قاصداً للرأس و الرقبة فبإتيان غسل الطرفين يتمّ الغسل الترتيبي.

و أمّا عدم الاكتفاء بالغسل الارتماسي المجدّد، فربّما يقال بمنعه؛ نظراً إلى أنّه يحتمل أن يكون قد نوى الرأس و الرقبة، و بذلك لم يخرج عن كونه جنباً، فيشمله عموم ما دلّ على إجزاء الارتماسي للجنب، و لأجله يجوز العدول من الترتيبي إلى الارتماسي.

هذا و لكنّ الظاهر أنّ شمول عموم تلك الأدلّة لمثل المقام، الذي يحتمل عدم كونه جنباً؛ باعتبار احتمال وقوع الغسل الارتماسي قبله، محلّ نظر، و من هنا يمكن الفرق بينه، و بين مسألة جواز العدول المذكورة، فالارتماسي لا يكفي في المقام.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 167

[مسألة 21: لو صلّى المجنب، ثمّ شكّ في أنّه اغتسل من الجنابة أم لا]

مسألة 21: لو صلّى المجنب، ثمّ شكّ في أنّه اغتسل من الجنابة أم لا، بنى على صحّة صلاته، و لكن يجب عليه الغسل للأعمال الآتية. و لو كان الشكّ في أثناء الصلاة بطلت، و الأحوط إتمامها، ثمّ إعادتها مع الغسل. (1)

______________________________

(1) أمّا البناء على الصحّة في الفرض الأوّل، فلقاعدة الفراغ الحاكمة بها، كما أنّ وجوب الغسل عليه للأعمال الآتية، إنّما هو لعدم إثبات القاعدة؛ لوجود الشرط المشكوك، بالإضافة إلى ما لم يتحقّق الفراغ عنه، بل لم يشرع فيه أصلًا. و قد تقدّم تفصيل الكلام في هذا الفرض، و كذا في الفرض الثاني، في المسألة الاولى من أحكام الخلل في الوضوء، فراجع.

و لكنّ الذي ينبغي التنبيه عليه: أنّه في الفرض الثاني، و هي صورة الشكّ في الأثناء، قد حكم هنا بالبطلان، و في الوضوء بالقطع و التطهّر، و مرجع الأوّل إلى بطلان الأجزاء السابقة أيضاً، و الثاني إلى عدمه، فما الفرق بينهما مع وحدة الملاك و الدليل في بابي الوضوء و الغسل؟! و الذي يمكن أن يقال في مقام الفرق: إنّ الوضوء في أثناء الصلاة ربّما لا يكون منافياً لها، لعدم اشتماله على الفعل الكثير أوّلًا، و عدم استلزامه لكشف العورة ثانياً.

و أمّا الغسل فهو مشتمل على الفعل الكثير، للزوم غسل جميع الجسد و تمام البشرة، و مستلزم لكشفها نوعاً، و إلّا فمع قطع النظر عن هذين الأمرين لا يرى فرق في البين.

بل يمكن أن يقال: بمنع الاستلزام، للكشف كذلك، و عدم كون هذا النحو من الفعل الكثير الذي يؤتى به لأجل تحقّق شرط الصلاة، منافياً لها أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات،

ص: 168

[مسألة 22: إذا اجتمع عليه أغسال متعدّدة واجبة أو مستحبّة أو مختلفة]

مسألة 22: إذا اجتمع عليه أغسال متعدّدة واجبة أو مستحبّة أو مختلفة، فإن نوى الجميع بغسل واحد صحّ، و كفى عن الجميع مطلقاً. فإن كان فيها غسل الجنابة لا حاجة إلى الوضوء للمشروط به، و إلّا وجب الوضوء قبل الغسل أو بعده.

و مع عدم نيّة الجميع ففي الكفاية إشكال، فلا يترك الاحتياط.

نعم، لا يبعد كفاية الجنابة عن سائر الأغسال، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط بنيّة الجميع. (1)

______________________________

ثمّ إنّ الاقتصار على الغسل للأعمال الآتية من دون وضوء، إنّما هو فيما إذا لم يحدث بالأصغر بعد الصلاة الاولى، و إلّا كان عليه الوضوء مع الغسل و إعادتها؛ لأنّه لو اغتسل و صلّى بلا وضوء، يعلم ببطلان إحدى الصلاتين، لأنّه إن كان قد اغتسل أوّلًا، احتاج في صلاته الثانية بعد الحدث الأصغر إلى الوضوء، فلو صلّى بدونه بطلت، و إن كان لم يغتسل فصلاته الأُولى باطلة.

و إن شئت قلت: إذا أحدث بالأصغر، يعلم بأنّه إمّا يجب عليه إعادة الصلاة السابقة، أو الوضوء للصلاة اللاحقة، فيجب الجمع بينهما.

(1) التداخل في الغسل قد مرّ البحث في الجملة في هذه المسألة في مبحث التداخل في باب الوضوء، و اللازم الورود فيها مفصّلًا، و البحث عنها بالنظر إلى القاعدة أوّلًا، و بلحاظ الروايات الواردة في الباب ثانياً.

فنقول: أمّا بالنظر إلى القاعدة، فإن قلنا: بأنّ الحدث الأكبر طبيعة واحدة غير قابلة للشدّة و الضعف، نظير الحدث الأصغر، لكان اللازم الاكتفاء بغسل واحد فيما لو اجتمعت أسباب مختلفة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 169

..........

______________________________

كما أنّه لو كان طبائع مختلفة كالسواد و البياض، فإن قلنا: بتغاير الأغسال أيضاً؛ بمعنى أنّ الغسل الرافع لحدث الحيض مغاير لما هو

الرافع لحدث الجنابة، و مجرّد اتّحاد أفراد الغسل صورة لا يدلّ على وحدة حقيقته و ماهيته، فلا إشكال في وجوب التعدّد حسب تعدّد الأسباب المختلفة.

و إن قلنا: بعدم تغاير الأغسال؛ و أنّ الغسل الواحد إنّما يرفع جنس الحدث الذي اندرجت تحته أنواع متعدّدة، فلا إشكال في الاكتفاء بالواحد.

و لو قلنا: بأنّ الحدث الأكبر طبيعة واحدة قابلة للشدّة و الضعف كمراتب السواد مثلًا، فتارة: يكون كلّ سبب مؤثّراً في حصول مرتبة واحدة من مراتبه، بمعنى: أنّ حدوث السبب الأوّل يؤثّر في حصول أدنى المراتب، و السبب الثاني يؤثّر في حصول مرتبة زائدة عليه، و هكذا إلى أن تتحقّق المرتبة الكاملة التي ليس فوقها مرتبة.

و أُخرى: يكون بعض الأسباب مؤثّراً مع وحدته في حصول المرتبة الشديدة.

و على كلا التقديرين إن قلنا: بأنّ الغسل إنّما يرفع جميع المراتب، و أنّه لا تغاير في الأغسال بوجه، فاللازم الاكتفاء بالواحد أيضاً. و إن قلنا بالتغاير، ففي التقدير الأوّل يجب الغسل متعدّداً حسب تعدّد الأسباب، و في التقدير الثاني يكفي الغسل لذلك السبب الخاصّ عن الباقي، و لا يكفي الغسل للباقي عنه.

هذا كلّه على تقدير إحراز شي ء من الفروض المحتملة، و على تقدير عدم الإحراز يكون مقتضى القاعدة التعدّد؛ لعدم التداخل، كما مرّ في مبحث الوضوء.

و أمّا بلحاظ الروايات الواردة في المسألة، فلا بدّ من نقلها، و التدبّر في مفادها فنقول:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 170

..........

______________________________

منها: صحيحة زرارة التي هي العمدة في الباب؛ لصحّة سندها، و قوّة دلالتها عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة، و الجمعة، و عرفة، و النحر، و الحلق، و الذبح، و الزيارة.

فإذا

اجتمعت عليك حقوق (اللّٰه) أجزأها عنك غسل واحد.

قال ثمّ قال

و كذلك المرأة، يجزيها غسل واحد لجنابتها، و إحرامها، و جمعتها، و غسلها من حيضها، و عيدها.

«1» هذا ما رواه ابن إدريس من «كتاب حريز» و رواه الشيخ كذلك عن أحدهما (عليهما السّلام)، و رواه الكليني، عن زرارة من دون ذكر الإمام (عليه السّلام).

كما أنّ في روايته (الحجامة) بدل (الجمعة)، و الظاهر أنّه اشتباه من النسّاخ، نشأ من تشابههما في الكتابة؛ لأنّهم لم يكونوا يكتبون الألف في مثلها، و استصوبه صاحب «الوسائل» (قدّس سرّه).

ثمّ إنّه يحتمل قوياً أن يكون المراد بالغسل في قوله (عليه السّلام)

إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر

هو خصوص غسل الجنابة؛ لأنّ مفاده أنّ الغسل الذي يمكن الإتيان به قبل طلوع الفجر إذا أخّرته إلى بعده أجزأك ..

و المتبادر من الغسل الكذائي هو غسل الجنابة.

و يؤيّده مرسلة جميل بن درّاج، عن أحدهما (عليهما السّلام) أنّه قال

إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه ذلك اليوم.

«2» و التقييد بقوله: «بعد الفجر»، إنّما هو لتحقّق الأسباب الأُخر؛ من دخول يوم

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 171

..........

______________________________

الجمعة، و عرفة، و سائر الأسباب، و حينئذٍ يصير حاصل مدلول الجملة الأُولى، كفاية الغسل للجنابة عنها و عن غيرها من الأسباب.

و التفريع بقوله: «فإذا اجتمعت ..» إنّما هو للدلالة على عدم اختصاص الإجزاء عن الجميع، بخصوص غسل الجنابة، بل يعمّ ذلك كلّ غسل؛ مستحبّاً كان، أو واجباً، فإذا اغتسل للجمعة مثلًا يكفي عنها، و عن الجنابة، و عن غيرهما من الأسباب.

فحاصل مدلول

الرواية كفاية غسل واحد لجنابة كان، أو لغيرها عن الأغسال المتعدّدة، و حينئذٍ فلا يبقى مجال للنزاع في أنّ كفاية الغسل الواحد عن الأغسال المتعدّدة، هل تختصّ بما إذا نوى جميع الأسباب، أو يعمّ ما إذا نوى سبباً واحداً أيضاً؟ و ذلك لأنّ الرواية على هذا التقدير ظاهرة في أنّ الغسل لخصوص الجنابة، يكفي عن الجميع، و كذا كلّ غسل لسبب مخصوص، فتدبّر.

ثمّ إنّه لو قلنا: بأنّ ظهور صدر الرواية في خصوص غسل الجنابة ليس ظهوراً عرفياً، بل غايته حصول الظنّ بذلك، و لا اعتبار به في فهم الرواية إذا لم يكن منشؤه الظهور العرفي المعتمد عليه عند العقلاء، الذين هم المدار في باب مداليل الألفاظ الواقعة في الروايات، فاللازم الحكم بشمولها لجميع الأغسال.

فيبقى حينئذٍ الكلام في أنّ الرواية، هل تكون مسوقة لمجرّد بيان أنّ الغسل الواحد يكفي عن الأغسال المتعدّدة في الجملة، فلا دلالة لها على أنّ كفايته عنها هل هي بنحو الإطلاق، أو تختصّ بخصوص ما إذا نوى الجميع، أو أنّها تكون مسوقة لإفادة الإطلاق، فلا تختصّ بخصوص صورة نيّة الجميع؟

و لكن الظاهر أنّه على هذا التقدير أيضاً، تكون الرواية ظاهرة في الاكتفاء بغسل واحد عن الجميع و إن لم ينو الجميع، لدلالة ظاهر الصدر عليه؛ لأنّ مفاده أنّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 172

..........

______________________________

الغسل الذي يمكن أن توقعه قبل الفجر، إذا أوقعته بعده و أخّرته إليه، أجزأك .. و من الواضح أنّ الغسل قبل الفجر إنّما يؤتى به لخصوص بعض الأسباب؛ إذ لا يعقل الإتيان به بنيّة الجميع، مع عدم تحقّق بعضها قبل طلوع الفجر، كما عرفت.

و توهّم: أنّه يمكن أن يكون قوله (عليه السّلام)

للجنابة و

الجمعة ..

في الصدر، و

لجنابتها و إحرامها ..

في الذيل، متعلّقاً بقوله

غسلك ذلك في الأوّل، و غسل واحد في الثاني

، لا بقوله

أجزأك

و

يجزيها.

مندفع: بأنّه و إن كان ممكناً، إلّا أنّ الفهم العرفي الذي هو الكاشف عن الظهور على خلافه، كما يشهد به سياق الرواية.

مضافاً إلى أنّ في الذيل قرينة على خلافه، و هي قوله (عليه السّلام)

غسلها من حيضها

، الذي هو معطوف على قوله (عليه السّلام): «لجنابتها»، و لا معنى لتعلّقه بالغسل كما هو ظاهر.

فالرواية تدلّ على كفاية الغسل بنيّة بعض الأسباب جنابة كان أو غيرها عن الجميع، و لا حاجة إلى نيّتها بأجمعها.

و قد استشكل في إطلاق الرواية بناء على القول به، كما استفدناه منها بأنّ ظهور قوله (عليه السّلام)

يجزيك

، في كون الكفاية رخصة لا عزيمة، ينافي الإطلاق؛ إذ لا يعقل مع الاكتفاء بغسل الجنابة مثلًا عن الأغسال الأُخر، المستلزم لحصول أغراضها، و إلّا لم يكن وجه للاكتفاء، و الترخيص في الإتيان بها بعده، كما هو ظاهر.

و أنت خبير بما فيه:

أمّا أوّلًا: فلأنّا لا نسلّم ظهور كلمة «الإجزاء» في كون الكفاية رخصة، كما يشهد له ملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة، أ لا ترى أنّ الأُصوليين يعنونون في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 173

..........

______________________________

الأُصول مسألة الإجزاء الراجعة إلى أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه، هل يقتضي الإجزاء أم لا؟

و من المعلوم أنّه ليس المراد به الكفاية بنحو الرخصة؛ إذ لا يعقل تبديل الامتثال بالامتثال الآخر كما حقّق فيه أيضاً.

و دعوى كون مثله من الاستعمالات مبنياً على المسامحة و التجوّز، ممّا لا يصغى إليه أصلًا.

و أمّا ثانياً: فلأنّه على تقدير تسليم ظهور كلمة «الإجزاء» في كون الكفاية رخصة، نقول: إنّه

لا مانع عقلًا من أن يكون للطهارة مراتب، و يكون الغسل بعنوان مخصوص مؤثّراً في حصول المرتبة التي يؤثّر سائر الأغسال في حصولها أيضاً، و بسببه يسقط الأمر الوجوبي أو الاستحبابي المتعلّق بها، لحصول غرضها، و يكون الإتيان بها بعده مؤثّراً في حصول مرتبة أقوى من تلك المرتبة، يستحبّ تحصيلها، نظير الوضوء على الوضوء، الذي هو نور على نور.

فكما أنّه لا مانع عقلًا من الأمر الوجوبي بغسل الجنابة مرّة، و الأمر الاستحبابي به ثانياً؛ لأنّه يستكشف منه أنّ الإتيان به ثانياً يوجب حصول مرتبة قوية من الطهارة، مطلوبة للمولى استحباباً، كذلك لا إشكال أصلًا في الاكتفاء بغسل واحد عن الأغسال المتعدّدة، و كون الإتيان بها ثانياً مطلوباً استحبابياً للمولى، مستفاداً ذلك من التعبير بالإجزاء.

هذا مضافاً إلى أنّ الإشكال لا ينحصر بالقول بكفاية الغسل بعنوان مخصوص عن الأغسال الكثيرة، بل يجري على القول بكفاية الغسل مع نيّة الجميع عنها.

و لكنّ الحقّ ما عرفت من عدم المانع عقلًا، و كيف يمكن دعوى ذلك مع ذهاب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 174

..........

______________________________

المشهور إلى الاكتفاء بغسل الجنابة عن الجميع، و قد قوّاه المستشكل في ذيل كلامه، فراجع.

و منها: رواية شهاب بن عبد ربّه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الجنب يغسّل الميّت، أو من غسّل ميّتاً له أن يأتي أهله، ثمّ يغتسل؟

فقال

سواء، لا بأس بذلك إذا كان جنباً غسل يده و توضّأ، و غسّل الميّت و هو جنب، و إن غسّل ميّتاً توضّأ، ثمّ أتى أهله، و يجزيه غسل واحد لهما.

«1» و منها: رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

إذا حاضت المرأة و هي جنب أجزأها غسل واحد.

«2»

و منها: رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سئل عن رجل أصاب من امرأة، ثمّ حاضت قبل أن تغتسل.

قال

تجعله غسلًا واحداً.

«3» و الأمر بجعلهما غسلًا واحداً لا يدلّ على الوجوب؛ لكونه في مقام توهّم الحظر، و يدلّ عليه الرواية الآتية.

و منها: رواية عمارّ الساباطي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن المرأة يواقعها زوجها، ثمّ تحيض قبل أن تغتسل.

قال

إن شاءت أن تغتسل فعلت، و إن لم تفعل فليس عليها شي ء، فإذا طهرت اغتسلت غسلًا واحداً للحيض و الجنابة.

«4»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 5.

(4) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 175

..........

______________________________

و منها: رواية حجّاج الخشّاب قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل وقع على امرأته، فطمثت بعد ما فرغ، أ تجعله غسلًا واحداً إذا طهرت، أو تغتسل مرّتين؟

قال

تجعله غسلًا واحداً عند طهرها.

«1» و منها: رواية سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّٰه و أبي الحسن (عليهما السّلام)، قالا في الرجل يجامع المرأة، فتحيض قبل أن تغتسل من الجنابة.

قال

غسل الجنابة عليها واجب.

«2» و قد أشكل توجيه هذه الرواية على القائلين بكفاية غسل واحد عن الجميع مطلقاً، و ربّما وجّهها بعضهم بعدم المنافاة بين وجوبه عليها، و سقوطه بغسل الحيض.

و أُورد عليه: بأنّ ظاهرها وجوبه عليها بعنوان غسل الجنابة لا غير، فهي تدلّ على مغايرته لغسل الحيض، و إلّا لما كان لوجوبه عليها بهذا العنوان وجه.

و أنت خبير بفساد هذا الإيراد، فإنّ الوجوب عليها بعنوان

غسل الجنابة لا ينافي السقوط بغسل الحيض.

و السرّ فيه: أنّ الرواية ناظرة إلى دفع توهّم أنّ مجي ء الحيض يرفع وجوب غسل الجنابة، فمعنى الجواب أنّه لا يرفع هذا التكليف، و أثره أنّه إذا أرادت أن تغتسل للجنابة قبل زوال الحيض لا مانع لها من ذلك، و لا يستلزم محذور التشريع مثلًا.

و الشاهد لما ذكرنا رواية عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن المرأة تحيض و هي جنب، هل عليها غسل الجنابة؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 176

..........

______________________________

قال

غسل الجنابة و الحيض واحد.

«1» فإنّه يظهر من سؤاله أنّه كان يحتمل ارتفاع وجوب غسل الجنابة بمجي ء الحيض، كما أنّه يرتفع بالغسل عنها، و الظاهر أنّ المراد من الجواب بوحدة الغسلين عدم ثبوت مزية في غسل الحيض بالإضافة إلى غسل الجنابة موجبة لتعلّق التكليف به، و زوال التكليف عن غسل الجنابة.

فلا دلالة له على الاجتزاء بغسل واحد و عدمه؛ لعدم كونها في مقام بيان هذه الجهة بوجه، و إن كان المراد به هي الوحدة في الخارج بأن اكتفى بالواحد عنهما، لكان الجواب حينئذٍ ما يستفاد من ذلك بالالتزام، و هو عدم سقوط وجوب غسل الجنابة بمجي ء الحيض، فليتأمّل.

في فروع المسألة و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: أنّه إذا اجتمع عليه أغسال متعدّدة، فإن كان ناوياً للجميع بغسل واحد صحّ في الجميع، سواء كانت الجميع واجبة أو مستحبّة أو مختلفة.

و عن «التحرير» و «القواعد» و «الإرشاد» عدم الصحّة فيما إذا كانت الأغسال مستحبّة، و عن «جامع المقاصد» أنّه أرجح، و عن

ظاهر «الدروس» الميل إليه، و الذي يمكن أن يستند إليه أمران:

الأوّل: أصالة عدم التداخل بعد عدم ما يوجب الخروج عن هذه القاعدة؛ إذ ليس في البين ما يوهم ذلك، سوى قوله (عليه السّلام) في صحيحة زرارة المتقدّمة

فإذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 177

..........

______________________________

اجتمعت عليك حقوق (اللّٰه) ..

و هو غير صالح لذلك؛ لأنّ الظاهر من الحقوق هو خصوص الواجبة، و لا أقلّ من عدم ظهورها في الإطلاق حتّى تشمل المستحبّة أيضاً.

و الجواب عنه: ما عرفت من كون هذه الفقرة مسوقة لبيان الاكتفاء بكلّ غسل عن سائر الأغسال، و أنّه لا يختصّ ذلك بالجنابة، و من الواضح أنّ المراد من الحقوق هي مثل ما أفاده في الجملة الاولى، و هو يشمل المستحبّات أيضاً.

الثاني: رواية عثمان بن يزيد الذي استظهر أنّه عمرو بن يزيد فتكون صحيحة عن الصادق (عليه السّلام) قال

من اغتسل بعد الفجر كفاه غسله إلى الليل في كلّ موضع يجب فيه الغسل، و من اغتسل ليلًا كفاه غسله إلى طلوع الفجر.

«1» و ناقش فيه الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) فيما حكي عنه، حيث قال: إنّها ظاهرة في أنّ من اغتسل لغاية في ليل أو نهار، لم تلزم المبادرة إليها، بل جاز إيقاعها و لو في آخر الليل أو النهار.

و الظاهر أنّ موردها هو الغسل مع نيّة بعض الأسباب دون الجميع، فلا ترتبط بهذا الفرض.

و على تقدير الإطلاق، فإن كان المراد من قوله (عليه السّلام)

اغتسل بعد الفجر

هو خصوص الجنابة، بقرينة نظائرها، فهي أيضاً لا ترتبط به.

و إن كان المراد منه أعمّ منها بقرينة الذيل، فالرواية تدلّ على الاكتفاء مطلقاً، و أنّ المراد من

الوجوب في قوله (عليه السّلام)

كلّ موضع يجب فيه الغسل

هو الأعمّ من الثبوت المتحقّق في المستحبّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الإحرام، الباب 9، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 178

..........

______________________________

و على تقدير الاختصاص بالواجبات، لا دلالة لها على النفي في المستحبّات، الذي هو المدّعى، فالظاهر حينئذٍ أنّه لا فرق بين ما إذا كانت كلّها واجبة، أو كانت الجميع مستحبّة.

و أمّا إذا كان بعضها واجباً و بعضها مستحبّاً، فعن ظاهر المشهور الصحّة عن الجميع، بل عن «الخلاف» الإجماع على الاجتزاء بغسل واحد للجنابة و الجمعة.

لكن عن ظاهر «القواعد» و «الإرشاد» و صريح «جامع المقاصد» و «التذكرة» البطلان، و منشؤه: أنّه كيف يعقل أن يكفي غسل واحد عن الواجب و المستحبّ؟ و هل هذا إلّا اجتماع الوجوب و الاستحباب في شي ء واحد شخصي؟

و أجاب عن هذه الشبهة في «المصباح» بما حاصله: أنّه في أمثال المسألة يكون المجتمع هي جهات الطلب لا نفسها، غاية الأمر أنّه يتولّد منها حكم عقلي متأكّد، فإن كان فيها جهة ملزمة يتبعها الطلب العقلي، و يكون الفرد لأجل اشتماله على جهات أُخر راجحة أفضل أفراد الواجب، و إن لم يكن فيه جهة ملزمة يكون الإتيان بهذا الفرد مستحبّاً مؤكّداً.

قال: أ لا ترى أنّ البديهة تشهد بأنّ اختيار التصدّق على الفقير المؤمن، العالم، من ذوي الأرحام، بقصد سرور المؤمن، و إكرام العالم، و مواصلة ذي الرحم، أرجح من التصدّق على الفقير الفاقد لهذه الأوصاف و لو في مقام إبراء الذمّة عن النذر، و ليس هذا إلّا لكون هذا الفعل الخاصّ محصّلًا لما هو المقصود من جميع الأوامر، و إن ارتفع عنه الطلب الاستحبابي فعلًا؛ لأجل صيرورته مصداقاً للواجب.

و نحن قد

حقّقنا في الأُصول في مبحث اجتماع الأمر و النهي: أنّ متعلّق الأحكام هي نفس الطبائع و العناوين، و أنّه لا يعقل أن يكون الموجود الخارجي متعلّقاً لها،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 179

..........

______________________________

لأنّه قبل وجوده لا يكون شيئاً متحقّقاً حتّى يتعلّق به الحكم، و بعده يحصل المطلوب أو المزجور عنه، و لا يعقل تعلّق الطلب أو الزجر به.

فلا مانع على هذا التقدير من أن يكون متعلّق الأمر الوجوبي هو غسل الجنابة مثلًا بعنوانه، و متعلّق الأمر الاستحبابي هو غسل الجمعة بعنوانه، و اجتماعهما في موجود واحد شخصي لا يوجب تعلّق حكمين بشي ء واحد شخصي، و التفصيل موكول إلى ذلك المبحث، هذا كلّه مع نيّة الجميع.

و أمّا إذا نوى البعض:

فإن كان هو غسل الجنابة، و كان الجميع واجباً، فلا خلاف في ذلك، كما عن «شرحي الجعفرية و الموجز»، بل عن «السرائر» و «جامع المقاصد» الإجماع عليه.

و أمّا إذا كان بعضها مستحبّاً، ففي الاجتزاء بالغسل المنوي به الجنابة عنها و عدمه، قولان: و المشهور الأوّل، و المحكي عن جماعة من الأساطين الثاني، و الأقوى هو الاكتفاء في الفرضين، لما عرفت من دلالة صحيحة زرارة المتقدّمة على أنّ غسل الجنابة بعنوانه يكفي لها و لسائر الأغسال، واجبة كانت أو مستحبّة.

كما أنّه يدلّ عليه أيضاً مرسل جميل المتقدّم، بناء على أن يكون المراد من قوله (عليه السّلام)

يلزمه

هو الثبوت، الذي هو أعمّ من الاستحباب، لا خصوص الوجوب و اللزوم في مقابله.

و أمّا إذا كان المنوي واجباً غير الجنابة، فقد وقع الكلام فيه تارة: من حيث صحّته في نفسه، و اخرى: في الاجتزاء به عن غسل الجنابة لو كان عليه جنابة، و ثالثة: في الاجتزاء به

عن غير غسل الجنابة من الأغسال الواجبة و المندوبة.

أمّا من الحيثية الأُولى: ففي محكي «التذكرة» الاستشكال فيها، قال: «فإن نوت

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 180

..........

______________________________

الجنابة أجزأ عنهما، و إن نوت الحيض فإشكال ينشأ من عدم ارتفاع الحيض مع بقاء الجنابة لعدم نيّتها»، بل عن بعض الجزم بالعدم.

و الجواب: أنّ احتمال اعتبار عدم الجنابة في صحّة غسل الحيض خلاف إطلاق الأدلّة البيانية، و قد تقرّر في محلّه أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء، فلا مجال لعدم اجتزاء غسل الحيض بعنوانه عمّا هو الواجب عليها من هذه الجهة، مع أنّ لازمه وجوب تقديم غسل الجنابة على غسل الحيض إذا أرادت الجمع بينهما؛ لأنّ غسل الحيض لا أثر له على هذا التقدير، و إذا قدّمته لا يبقى مجال لغسل الحيض، فالجمع بين الغسلين لا أثر له أصلًا، مع أنّ لازمه عدم الاجتزاء بغسل واحد عنهما، و لو مع نيّة الجميع؛ لأنّ ظاهره كون اعتبار عدم الجنابة في ارتفاع الحيض إنّما هو على نحو الشرطية، و الشرط لا بدّ من تحقّقه عند تحقّق المشروط، و لا يكفي تحقّقهما في آنٍ واحد.

و كيف كان: فلا ينبغي الاستشكال في صحّة غسل الحيض مع بقاء الجنابة، و عدم ارتفاعها، نعم الإشكال إنّما هو في صحّة غسل الجنابة في حال الحيض، لأنّ مقتضى رواية عمّار المتقدّمة هو الجواز.

و ربّما يستفاد من بعض الروايات العدم، كرواية عبد اللّٰه بن يحيى الكاهلي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المرأة يجامعها الرجل، فتحيض و هي في المغتسل، فتغتسل أم لا؟

قال

قد جاءها ما يفسد الصلاة، فلا تغتسل.

«1» لكنّ الظاهر أنّ المراد بها أنّ غسل الجنابة

حيث لا يكون واجباً لنفسه، بل

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 14، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 181

..........

______________________________

وجوبه إنّما هو للصلاة و نحوها، فإذا جاءها ما يفسد الصلاة من الحيض فلا يجب غسل الجنابة، ما دام المفسد باقياً، فالنهي عن الاغتسال حينه إنّما يراد به عدم الوجوب، لا عدم الجواز، فلا منافاة بين الروايتين.

و بعبارة أُخرى: النهي إنّما هو للإرشاد إلى عدم ترتّب أثر على هذا الغسل، بعد عدم الاكتفاء به حين الطهر، و كفاية الغسل الواحد بعده.

و أمّا من الحيثية الثانية: فالمحكي عن المحقّق في «الشرائع» و «المعتبر» هو الاجتزاء، و نسب إلى الشهيدين و المحقّق الثاني، بل إلى المشهور أيضاً، و عن الشيخ و الحلّي و جماعة العدم، و استشكل فيه في المتن.

و منشأ الإشكال، بل الفتوى بالعدم: إمّا دعوى كون المتيقّن من النصوص خصوص صورة نيّة الجميع، و إمّا موثّقة سماعة المتقدّمة، الواردة في الرجل يجامع المرأة، فتحيض قبل أن تغتسل من الجنابة، الدالّة على أنّ غسل الجنابة عليها واجب، بدعوى كون المراد به عدم الاكتفاء بغسل الحيض عن غسل الجنابة، بل هو واجب بعنوانه.

أقول: أمّا دعوى عدم ثبوت الإطلاق للنصوص، فلو سلّمت بالإضافة إلى ما عدا صحيحة زرارة المتقدّمة فلا نسلّم بالنسبة إليها، بعد ما عرفت منّا من ظهور ذيلها في الاكتفاء بكلّ غسل بعنوانه عن سائر الأغسال، من دون اختصاص بخصوص غسل الجنابة الذي تعرّض له في الصدر.

و دعوى أنّ ظهور الصدر فيما ذكر و إن كان لا تنبغي المناقشة فيه، إلّا أنّ ظهور الذيل في صورة نيّة البعض ممّا لا وجه لادّعائه؛ لعدم الشاهد عليه مدفوعة بأنّ الشاهد هو وحدة السياق،

و كون الفقرة الثانية ناظرة إلى تعميم الحكم و توسعة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 182

..........

______________________________

دائرته، من دون أن يكون بينهما فرق في الكيفية، خصوصاً مع كون إيرادها بصورة التفريع، و مشتملة على كلمة «فاء» التفريعية.

هذا هو مقتضى التحقيق في مفادها، و مع قطع النظر عنه فإنكار الإطلاق في الذيل ممّا لا مجال له؛ لأنّ حمله على خصوص صورة نيّة الجميع، مع كون الصدر ناظراً إلى خصوص نيّة الجنابة، يوجب التفكيك الركيك بين الفقرتين، فتدبّر.

و أمّا موثّقة سماعة فقد عرفت مفادها، و أنّ النظر فيها إنّما هو إلى دفع توهّم كون مجي ء الحيض رافعاً لوجوب غسل الجنابة بالمرّة، و لو بعد ارتفاعه، و زوال ما يفسد الصلاة، فلا دلالة لها على عدم الاكتفاء بغسل الحيض عن غسل الجنابة.

و أمّا من الحيثية الثالثة: فالكلام فيه هو الكلام في الجهة الثانية، لكن عن المحقّق الخوانساري استظهار الاتّفاق عليه، و العمدة فيه هو الإطلاق كما مرّ.

و ربّما يحكى عن ظاهر بعض في خصوص الأغسال المستحبّة التفصيل، بين غسل الجنابة و غيره، بإغناء الأوّل عنها دون غيره.

و لعلّ منشأه توهّم اختصاص نصوص الإغناء بالجنابة، مع أنّك عرفت أنّ ذيل صحيحة زرارة دالّ على التعميم، و أنّ المراد من الحقوق المذكورة فيه يعمّ المندوبة أيضاً، فالتفصيل في غير محلّه.

و أمّا إذا كان المنويّ مستحبّاً، فالكلام فيه يقع تارة في الاجتزاء به عن مثله من الأغسال المستحبّة، و اخرى في الاجتزاء به عن الأغسال الواجبة كالجنابة.

أمّا الصورة الأُولى: ففيها خلاف، فعن المحقّق في «المعتبر» العدم، و عن ظاهر العلّامة في «المنتهى» الاجتزاء، و تبعه عليه غيره.

و قد عرفت أنّ مقتضى إطلاق ذيل صحيحة زرارة المتقدّمة

الاجتزاء في هذه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 183

..........

______________________________

الصورة أيضاً؛ لعدم اختصاص الحقوق بخصوص الواجبة، و عدم كون المورد خصوص صورة نيّة الجميع لو لم نقل بالاختصاص بخصوص صورة نيّة الواحد، كما مرّ.

و أمّا الصورة الثانية: فربّما يقال فيها بأنّه مضافاً إلى عدم إجزائه عن الواجب لا يجزي عن نفسه أيضاً، أمّا عدم إجزائه عن الواجب فلأصالة عدم التداخل، و أمّا عدم إجزائه عن نفسه فلأنّ المقصود منه التنظيف، و هو لا يتحقّق مع بقاء الحدث، و الإطلاق يدفع كلا الأمرين، مع أنّ عدم حصول التنظيف مع بقاء الحدث ممنوع جدّاً، و لعلّه لذا قوّى إجزائه عن نفسه صاحب «الجواهر» (قدّس سرّه)، و إن التزم بعدم إجزائه عن الواجب للأصل المذكور، الذي لا مجال له مع ثبوت الإطلاق.

و يؤيّد الإطلاق في هذه الصورة مرسلة «الفقيه» قال: و روي في خبر آخر

من جامع في شهر رمضان، ثمّ نسي حتّى خرج شهر رمضان، إنّ عليه أن يغتسل، و يقضى صلاته و صومه، إلّا أن يكون قد اغتسل للجمعة، فإنّه يقضي صلاته و صيامه إلى ذلك اليوم، و لا يقضي ما بعد ذلك.

تنبيه: في ما استدلّ به «مصباح الفقيه» بقي في أصل المسألة التنبيه على أمر و هو: أنّ صاحب «المصباح» (قدّس سرّه) أفاد في وجه تطبيق الاكتفاء بغسل واحد عن الأغسال المتعدّدة على القاعدة ما ملخّصه: أنّه لا بدّ بعد العلم بالكفاية، كما هو صريح الرواية، من الالتزام بأحد أُمور ثلاثة:

إمّا القول: بأنّ الحدث الأكبر كالأصغر أمر وحداني، لا يتكرّر بتكرّر أسبابه، و الاختلاف الحاصل بين مصاديقه باختلاف أسبابه على هذا التقدير، إنّما هو لأجل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 184

..........

______________________________

اختلاف تلك الأسباب في التأثير شدّة و ضعفاً، لا لأجل اختلاف أثرها ذاتاً حتّى يتكرّر بسببها الحدث.

و إمّا الالتزام بوحدة طبيعة الغسل، و تأثيره في إزالة جنس الحدث مطلقاً، واحداً كان أو متعدّداً.

و إمّا الالتزام بتصادف الأغسال المتعدّدة، المسبّبة عن الأسباب المتكثّرة في الفرد الخارجي، الواقع امتثالًا للجميع، فالفرد الخارجي يصدق عليه أنّه غسل جنابة، و جمعة، و إحرام، و غيرها من العناوين.

و أمّا ما التزمه بعض المشايخ (قدّس سرّه) بعد الالتزام بمغايرة الأحداث و الأغسال ذاتاً، من خروج هذا الغسل الواحد المجزي عن الجميع من تحت جميع العناوين، و كونه طبيعة أُخرى مغايرة للكلّ، نظراً إلى استحالة صيرورة شيئين شيئاً واحداً، فهو أمر آخر مغاير للجميع، مجزٍ تعبّداً، و لا يكون في حدّ ذاته واجباً و لا مستحبّاً.

فيرد عليه: أنّ الممتنع إنّما هو صيرورة ماهيتين ماهية واحدة، أو الطبيعتين بقيد الوجود موجوداً واحداً، و أمّا إيجاد الطبيعتين بوجود واحد، فلا استحالة فيه، بل شائع ذائع.

مع أنّ هذا التكلّف ممّا لا يجدي أصلًا؛ لأنّ هذه الطبيعة المغايرة للجميع إذا فرض كونها مجزية عنها فلا محالة تكون في كلّ واحد منها أحد فردي الواجب المخيّر، فيعود المحذور كما هو ظاهر.

فالاحتمالات لا تتجاوز عن ثلاثة، و الأوّلان منها يردّهما أكثر أدلّة التداخل، كصحيحة زرارة، فإنّ قوله (عليه السّلام)

فإذا اجتمعت للّه عليك حقوق أجزأك غسل واحد

كالصريح في تعدّد الحقوق، التي أُريد بها الأغسال التي اشتغلت بها ذمّة المكلّف بواسطة أسبابها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 185

..........

______________________________

و لا وجه للتأويل بأنّ إطلاق الحقوق على ما اشتغلت به الذمّة، بلحاظ تعدّد أسبابه، لا تعدّد ما في الذمّة».

و قد استفاد

ما أفاده من كثير من الروايات، ثمّ قال: إنّ الأوفق بالقواعد بحيث لا يستلزم مخالفة شي ء من أخبار التداخل، و لا إطلاقات الأوامر بالأغسال هو الالتزام بتغاير الطبائع المتعلّقة للأوامر، و تصادقها على الفرد المجزي.

فلو أتى بهذا الفرد بقصد امتثال جميع الأوامر، يتحقّق بفعله امتثال الجميع، و يسقط أوامرها.

و لو أتى به بقصد امتثال البعض فلا تأمّل في صحّة غسله بالنسبة إلى هذا البعض، و إجزائه عمّا عدا المنويّ، مبنيّ على أنّ متعلّق الأوامر هل هي نفس الأغسال بعناوينها الخاصّة، فلا يعقل الإجزاء إلّا بالقصد؟ أو أنّ الأمر بالأغسال إنّما هو لأجل كونها مؤثّرة في التطهير، و أنّ المطلوب الواقعي إزالة أثر الجنابة مثلًا؟ كما ليس بالبعيد.

و حينئذٍ بعد بيان الشارع أنّ غسل الجنابة مثلًا مزيل لهذه الآثار و لو لم يشعر بها المكلّف، لا إشكال في سقوط الأوامر لحصول ما هو المقصود منها، و إن لم تتحقّق إطاعتها فيما عدا المنويّ، لأنّ المدار في سقوط الأوامر حصول الغرض، لا تحقّق الإطاعة.

أقول: و لا ينافي ذلك كون الإجزاء في المقام على سبيل الرخصة، كما هو المنسوب إلى ظاهر الأصحاب، و إن كان المحكي عن الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) أنّ التأمّل في كلماتهم يعطي خلاف ذلك، و أنّه عندهم عزيمة، و قد أوضحه (قدّس سرّه).

و الوجه في عدم المنافاة ما عرفت: من أنّه لا مانع عقلًا أن يكون للطهارة مراتب،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 186

..........

______________________________

و الذي يجب تحصيله هي مرتبة خاصّة من تلك المراتب، يؤثّر كلّ غسل في حصول تلك المرتبة، و الزائدة عليها مطلوبة للمولى استحباباً، يمكن تحصيلها بعد حصول المرتبة الواجبة.

و يستفاد ذلك من التعبير بالإجزاء في لسان

الروايات، بناء على ظهوره في الكفاية بنحو الرخصة، كما أنّه لو كان المراد بالإجزاء هو الكفاية بنحو العزيمة، يكون مرجعه إلى أنّه لا يبقى مع حصول المرتبة الواجبة مرتبة زائدة، يمكن تحصيلها بالغسل الثاني، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 187

[فصل في التيمّم]

اشارة

فصل في التيمّم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 189

و الكلام في مسوّغاته، و فيما يصحّ التيمّم به، و في كيفيته، و فيما يعتبر فيه، و في أحكامه.

[القول في مسوّغاته]

اشارة

القول في مسوّغاته

[مسألة 1: مسوّغات التيمّم أُمور]

اشارة

مسألة 1: مسوّغات التيمّم أُمور:

[منها: عدم وجدان ما يكفيه من الماء لطهارته]
اشارة

منها: عدم وجدان ما يكفيه من الماء لطهارته غسلًا كانت أو وضوءً و يجب الفحص عنه إلى اليأس، و في البرية يكفي الطلب غلوة سهم في الحزنة، و غلوة سهمين في السهلة، في الجوانب الأربعة مع احتمال وجوده في الجميع، و يسقط عن الجانب الذي يعلم بعدمه فيه، كما أنّه يسقط في الجميع إذا قطع بعدمه فيه و إن احتمل وجوده فوق المقدار، نعم لو علم بوجوده فوقه وجب تحصيله إذا بقي الوقت و لم يتعسّر. (1)

______________________________

(1) قبل الورود في شرح هذا الفصل، ينبغي التعرّض لأُمور ذكرها الماتن دام ظلّه في رسالة التيمّم:

المقدّمة الأُولىٰ: مشروعيّة التيمّم منها: أنّه لا إشكال في مشروعيّة التيمّم في الجملة، و يدلّ عليها الكتاب و السنّة و الإجماع، بل هي من ضروريّات الفقه. و أمّا كونه من ضروريّات الدين ففيه تأمّل و إن كان لا تبعد دعواه، نعم في كون إنكار الضروري موجباً للكفر مطلقاً، أو في الجملة، كلام يأتي في مباحث النجاسات إن شاء اللّه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 190

..........

______________________________

المقدّمة الثانية: عدم اتّصاف الطهارات بالوجوب و منها: أنّه قد مرّ في بعض المباحث السابقة، أنّ الطهارات الثلاث لا تكاد تتّصف بالوجوب أصلًا، لا نفسياً و لا غيرياً، و لا من طريق تعلّق النذر و شبهه.

أمّا عدم اتّصافها بالوجوب النفسي، فلعدم الدليل عليه؛ لأنّ ظاهر تعلّق الأمر بها في مثل قوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .. هو الإرشاد إلى الشرطية، كما في سائر الأوامر المتعلّقة بالأجزاء و الشرائط.

كما أنّ ظاهر النهي في مثله هو الإرشاد إلى المانعية، كقوله (عليه السّلام)

لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل

لحمه

، بل التعبير عن بعضها بالفريضة، كما في صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في حديث قال

يا زرارة، الوضوء فريضة.

«1» لا دلالة له على كونه مطلوباً نفسياً؛ لأنّ الظاهر كون المراد من مثله هو أنّ الوضوء فريضة في الصلاة، و الشاهد له صحيحة أُخرى لزرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الفرض في الصلاة.

فقال

الوقت، و الطهور، و القبلة، و التوجّه، و الركوع، و السجود، و الدعاء ..

الحديث. «2» فإنّ السؤال فيها و كذا الجواب بلحاظ بِرؤسِكم الوقت أيضاً من الفرائض في عداد الطهور و شبهه، دليل على عدم كونه فرضاً مستقلّاً كما هو ظاهر.

و أمّا عدم اتّصافها بالوجوب الغيري، فلما حقّقناه في مبحث مقدّمة الواجب من إنكار وجوب المقدّمة أوّلًا، و كون الواجب على تقديره هو عنوان الموصل بما

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 191

..........

______________________________

هو موصل ثانياً، و لا يسري الوجوب من هذا العنوان إلى العناوين الأوّلية الثابتة للمقدّمات، كعناوين الوضوء و الغسل و التيمّم.

و أمّا عدم اتّصافها بالوجوب من قبل النذر و شبهه، فلما مرّ غير مرّة من أنّ متعلّق الوجوب في النذر هو عنوان الوفاء بالنذر، و لا يعقل أن يسري منه الوجوب إلى ما يتّحد معه وجوداً؛ لاستحالة السراية في نفسها أوّلًا، و كونها مستلزمة لتعلّق حكمين بفعل واحد كصلاة الليل مثلًا إذا وقعت متعلّقة للنذر ثانياً.

فانقدح من ذلك: أنّ التيمّم الذي هو مورد البحث لا يتّصف بالوجوب أصلًا، و لا منافاة بين ذلك، و بين عبادية التيمّم؛ لأنّ منشأ اتّصافه بالعبادية ليس تعلّق الوجوب به

حتّى يكون المنع عنه موجباً للمنع عن عباديته، ضرورة أنّ الوجوب على تقديره إنّما تعلّق بما هو عبادة في نفسها؛ لأنّ متعلّق الوجوب هي المقدّمة، و التيمّم غير العبادي لا يكون مقدّمة بوجه، فلا بدّ من الالتزام بأنّ وصف العبادية لا يرتبط بتعلّق الوجوب أصلًا، و حينئذٍ يشكل الأمر من جهة أنّ الأصحاب لم يلتزموا في التيمّم باستحبابه النفسي، الموجب لثبوت وصف العبادية له، و التزموا في الوضوء بكونه كذلك.

و يمكن أن يقال: باشتراكهما في الاستحباب النفسي، غاية الأمر افتراقهما في أنّ الوضوء مستحبّ نفسي مطلقاً حتّى فيما كان له وضوء؛ لأنّ الوضوء على الوضوء نور على نور، و التيمّم يكون استحبابه النفسي في ظرف خاصّ، و هو ظرف مشروعيته و قيامه مقام الوضوء أو الغسل، فتأمّل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 192

..........

______________________________

المقدّمة الثالثة: في الخروج من عنوان واجد الماء و منها: أنّه لا خفاء في أنّ التكليف إذا تعلّق بعنوانين متقابلين كالمسافر و الحاضر لا يجب على المكلّف حفظ أحد العنوانين بعدم الخروج منه إلى الآخر، بل يجوز التبديل دائماً، سواء كان قبل تحقّق التكليف و تنجّزه، أو لا؛ لعدم اقتضاء التكليف حفظ موضوعه، و كذا إذا كان التعلّق بنحو الاشتراط، كما إذا قيل: إن كنت في السفر فكذا، و إن كنت في الحضر فكذا؛ لعدم اقتضاء المشروط حفظ شرطه، و هذا واضح.

و كذلك لا ريب في أنّه إذا توجّه التكليف إلى المكلّف بنحو الإطلاق، لا يجوز له تعجيز نفسه؛ لأنّ القدرة لا تكون من العناوين المأخوذة في المكلّف، كعنوان الحاضر، و لا تكون شرطاً للتكليف، لا شرعاً؛ لخلوّ دليله عنه، و لا عقلًا لما قرّرناه في محلّه من

أنّه ليس للعقل تقييد حكم الشرع، غاية الأمر حكمه بأنّ العاجز معذور في مخالفة التكليف الفعلي. و لو كانت القدرة مأخوذة بنحو الشرطية لكان للمكلّف تعجيز نفسه بمقتضى ما ذكرنا، و لما وجب عليه الاحتياط في الشكّ في القدرة، مع التزامهم به فيه.

و يلحق بهذا القسم من القسم الأوّل: ما لو فرض دلالة الدليل على وجود اقتضاء التكليف الثابت لتحقّق عنوان عند عروض عنوان آخر موجب لتعلّق تكليف آخر به، كما لو فرض دلالة دليل الطهارة المائية أو الصلاة معها على ثبوت اقتضاء لزومي حتّي في حال فقدان الماء، فلا تجوز إراقته، أو تحصيل العجز في هذه الصورة أيضاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 193

..........

______________________________

إذا عرفت ذلك، يقع الكلام في حال الطهارة المائية و الترابية، و أنّ عنواني الواجد و الفاقد هل يكونان كعنواني المسافر و الحاضر، أو أنّ انتقال التكليف إلى الطهارة الترابية إنّما هو للاضطرار و العجز و إلّا فالاقتضاء اللزومي في الطهارة المائية باقٍ على حاله؟

و لا بدّ لاستكشاف ذلك من ملاحظة الآية الشريفة، و الروايات الواردة في الطهارة الترابية.

فنقول: قال اللّه تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. «1» أمر اللّه تعالى بالوضوء في صدر الآية مطلقاً، أي من دون قيد، و

كذا بالغسل في صورة الجنابة كذلك؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد من قوله فَاطَّهَّرُوا هو الغسل؛ لوقوعه بعد الأمر بالوضوء، و قبل فرض العجز عن الماء و عدم وجدانه، فالأمر بالوضوء و كذا الغسل مطلق، و لا يكون مقيّداً بالوجدان؛ لأنّ منشأ توهّم التقييد: إمّا كون قيد الوجدان غالب الحصول و الفقدان نادراً، و إمّا فرض عدم الوجدان في الذيل في مقام بيان وجوب التيمّم، فإنّه يوجب كون المفروض في الصدر هو عنوان الواجد، فيصير بحسب الظاهر كعنواني المسافر و الحاضر من دون فرق بين المقامين.

هذا، و لكن غلبة الحصول مع أنّها لا تقتضي التقييد، لعدم كون الكثرة مانعة

______________________________

(1) المائدة 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 194

..........

______________________________

عن ثبوت الإطلاق، ممنوعة صغرى، خصوصاً بملاحظة تلك الأمكنة و الأزمنة.

و أمّا فرض عدم الوجدان في الذيل، فلا يصلح لتقييد الصدر بحيث صار معنوناً بعنوان الواجد؛ لأنّ العرف لا يفهم من عنوان الفاقد و مثله من العناوين الاضطرارية إلّا أنّ الحكم المتعلّق به إنّما هو في فرض الاضطرار و العجز عن تحصيل المطلوب الأوّلي، فنفس عنوان الفاقد يرشدنا إلى كون الحكم الثابت في ظرفه إنّما هو في طول الحكم الأوّلي، لا في عرضه، مع أنّ جعل المرضي في عداد المسافر دليل على أنّ الحكم اضطراري في جميع موارده.

كما أنّ التذييل بقوله مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ظاهر في أنّ الانتقال إلى التيمّم في موارده إنّما هو لأجل التسهيل، و رفع الحرج الثابت عند التكليف بالطهارة المائية في جميع الموارد حتّى في حال عدم الوجدان، و إلّا فمع قطع النظر عن استلزام الحرج، يكون التكليف الأوّل باقياً بحاله؛ لثبوت الاقتضاء فيه كذلك، نعم

في حال عدم الوجدان، يكون التيمّم مؤثّراً فيما كانت الطهارة المائية مؤثّرة فيه، و هي الطهارة.

فالإنصاف: تمامية دلالة الآية على عدم كون التكليفين في عرض واحد، و أنّ التكليف بالتيمّم إنّما هو في حال الاضطرار و في طول التكليف الأوّلي.

و أمّا الروايات فمنها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألت عن رجل أجنب في سفر و لم يجد إلّا الثلج أو ماء جامداً.

فقال

هو بمنزلة الضرورة يتيمّم، و لا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي يوبق دينه.

«1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 195

..........

______________________________

و الظاهر أنّ مفروض السؤال: هو عدم وجدان غير الثلج أو الماء الجامد ممّا يغتسل به، لا عدم وجدان الماء و التراب معاً.

و بعبارة أُخرى: محطّ نظر السائل أنّ وظيفة الرجل المفروض هل هو الغسل أو التيمّم؟ لا أنّ وظيفته التيمّم لكن لا يدري أنّه بما ذا يتيمّم.

فما في «الوسائل» بعد نقل الرواية: من أنّ هذا محمول على أنّه يتيمّم من غبار ثوبه و نحوه، و ليس بظاهر في أنّه يتيمّم بالثلج، خلاف ظاهر الرواية.

و يؤيّده ظاهر الجواب المشتمل على الصغرى و الكبرى، الظاهر في مفروغية الكبرى.

و المراد من الصغرى: أنّه و إن كان يمكن الاغتسال في الماء الجامد، إلّا أنّ خوف ترتّب الضرر على استعماله سيّما مع كون المكلّف مسافراً يوجب تحقّق الضرورة المسوغة للتيمّم.

و على ما ذكرنا: فذيل الرواية باعتبار توصيف الأرض بكونها موبقة للدين، يدلّ على أنّ الطهارة الترابية لا تكون وافية بما تفي به الطهارة المائية.

نعم، لا مجال لإنكار إشعار الذيل بكون هذه الأرض و مثلها ممّا يوجب الانتقال إلى

التيمّم، قلّما يتّفق أن تصير مورداً للابتلاء مع أنّ موارد الانتقال إلى التيمّم كثيرة، أ فلا يكون ذلك قرينة على ما أفاده صاحب «الوسائل» في فهم المراد من الرواية؟! إلّا أن يقال: إنّ هذا الإشعار لا يكاد يقاوم مع ظهور السؤال، و كذا صدر الجواب فيما ذكر، فتدبّر.

و منها: الروايات الدالّة على وجوب الماء للطهارة و إن كثر الثمن، كرواية صفوان قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن رجل احتاج إلى الوضوء للصلاة، و هو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 196

..........

______________________________

لا يقدر على الماء، فوجد بقدر ما يتوضّأ به بمائة درهم، أو بألف درهم، و هو واجد لها، أ يشتري و يتوضّأ، أو يتيمّم؟

قال

لا، بل يشتري، قد أصابني مثل ذلك فاشتريت و توضّأت، و ما يسوؤني (يسرّني) بذلك مال كثير.

«1» و دلالتها على كون المطلوب الأعلى هو الوضوء، و أنّ التيمّم لا يكاد يشتمل على ما يشتمل عليه الوضوء من الجهات الباعثة على التكليف، واضحة.

و منها: الروايات الدالّة على وجوب الطلب التي سيأتي التعرّض لها و لمفادها إن شاء اللّه تعالى، «2» فإنّ وجوب الطلب لا يجتمع عرفاً مع جواز الإراقة بعد الطلب و الوجدان، فيدلّ على عدم كون التكليفين في عرض واحد.

نعم، في مقابلها روايات ظاهرها المنافاة لما ذكر، كرواية إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السّلام) عن الرجل يكون مع أهله في السفر فلا يجد الماء، يأتي أهله؟

فقال

ما أُحبّ أن يفعل ذلك إلّا أن يكون شبقاً، أو يخاف على نفسه.

و رواه ابن إدريس في آخر «السرائر» نقلًا من «كتاب محمّد بن علي بن محبوب» مثله، و زاد قلت: يطلب بذلك اللذّة.

قال

هو له

حلال.

قلت: فإنّه روي عن النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أنّ أبا ذر سأله عن هذا فقال

ائت أهلك تؤجر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 26، الحديث 1.

(2) و قد جمعها في «وسائل الشيعة» في البابين الأوّلين من أبواب التيمّم.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 197

..........

______________________________

فقال: يا رسول اللّه، و اؤجر؟

قال

نعم، إنّك إذا أتيت الحرام أُزرت، فكذلك إذا أتيت الحلال أُجرت.

فقال

أ لا ترى أنّه إذا خاف على نفسه فأتى الحلال أُجر.

«1» هذا، و لكنّ التأمّل فيها يقضي بأنّ مفادها كون نقض الطهارة بالجنابة غير محبوب، بل مكروه، و أنّ الجواز الخالي من الكراهة إنّما هو في صورة الشبق، أو الخوف على النفس الذي يترتّب على الجماع فيها الأجر أيضاً، خصوصاً مع ملاحظة كون أصل الجماع من سنن المرسلين، و أنّ التضييق فيه ربّما يورث الوقوع في الحرام، فلا مجال لإلغاء الخصوصيّة منه.

و رواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن أبي ذر رضي اللّه عنه أنّه أتى النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقال: يا رسول اللّه، هلكت، جامعت على غير ماء، قال: فأمر النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بمحمل فاستترت به، و بماء فاغتسلت أنا و هي، ثمّ قال

يا أبا ذر، يكفيك الصعيد عشر سنين.

«2» و لكنّ الظاهر من الذيل إبطال تخيّل أبي ذر و اعتقاده بالهلاكة، و أنّه عمل على خلاف التكليف لأجل الجماع على غير ماء، فمفادّه أنّ التيمّم في مثل هذه الموارد يقوم مقام الغسل. و أمّا كون التيمّم وافياً بتمام ما يفي به الغسل، فلا دلالة للرواية عليه.

و بعبارة أُخرى: مفاد الرواية و مثلها

ممّا وقع فيه هذا التعبير، الذي يرجع إلى كفاية الصعيد و إجزائه، و أنّ ربّه هو ربّ الماء و أنّه أحد الطهورين، هي مساواة

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 27، الحديث 2- 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 198

..........

______________________________

الطهارتين في مقام الإجزاء و حصول الموافقة، و أمّا مساواتهما في تمام المصلحة و اتّحادهما في جميع مراتب المطلوبية، فلا، و إلّا لكان التيمّم مشروعاً مع وجدان الماء أيضاً، فلا يستفاد منها إلّا التسوية في أصل الطهورية و إجزاء الصلاة.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 198

و من ذلك يظهر الجواب عن جملة من الروايات التي يتوهّم منها المنافاة لما ذكرنا، كصحيحة حمّاد بن عثمان قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل لا يجد الماء، أ يتيمّم لكلّ صلاة؟

فقال

لا، هو بمنزلة الماء.

«1» و صحيحة محمّد بن حمران و جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في حديث قال

.. إنّ اللّه جعل التراب طهوراً، كما جعل الماء طهوراً.

«2» و رواية أبي أيّوب، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

التيمّم بالصعيد لمن لم يجد الماء كمن توضّأ من غدير ماء، أ ليس اللّه يقول فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .. «3»

و غير ذلك من الروايات الواردة بمثل هذا المضمون، هذا كلّه مع أنّ الروايات الاولى تكون راجحة لأجل الموافقة للكتاب و فتوى الأصحاب، فلا مجال للطائفة الثانية على تقدير المخالفة معها.

فالأقوى بعد

ذلك: عدم جواز إراقة الماء و تحصيل الاضطرار، و عدم كون المقام من قبيل الحاضر و المسافر ممّا يجوز فيه التبديل و الانتقال من أحد العنوانين إلى آخر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 23، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 23، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 19، الحديث 19.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 199

..........

______________________________

نعم، يبقى إشكال: و هو أنّ لازم ما ذكرنا من كون التيمّم مختصّاً بحال الاضطرار، و لا يجوز تحصيل تلك الحال؛ لعدم وفائه بجميع ما يفي به المبدل وجوب الاكتفاء فيه على قدر الضرورة، مع عدم التزامهم به، لما سيأتي من جواز البدار، و جواز الاستئجار، و حصول الاستباحة للغايات غير المضطرّ إليها، و صحّة الاقتداء بالمتيمّم، و غير ذلك ممّا لا يجتمع مع الالتزام بنقص الطهارة الترابية؛ و لعلّه لذلك التزم المحقّق (قدّس سرّه) في محكيّ «المعتبر» بجواز الإراقة.

و قد دفع الإشكال بعض المحقّقين: بأنّ الطهارة المائية يكون لها مطلوبية عند الإتيان بشي ء من غاياتها الواجبة زائدة على مطلوبيتها لأجل المقدّمية لها، و وجوب حفظ الماء و حرمة إراقته إنّما هو لأجل ذلك، لا لثبوت خصوصية في الغايات عندها تجب مراعاتها و يلزم تحصيلها.

و أُورد عليه مضافاً إلى أنّ ما ذكر خلاف ما هو المرتكز عند المتشرّعة، لعدم ثبوت هذه المطلوبية النفسية بوجه: بأنّ ظاهر الآية الشريفة ينافي ما ذكر؛ لأنّك عرفت أنّ مقتضاها اختلاف مرتبي الصلاة مع الطهارتين، و أنّ الطهارة الترابية لا تكون وافية بجميع ما تفي به المائية، و كذلك الروايات المتقدّمة.

و قد دفع أصل الإشكال الماتن دام ظلّه في «رسالة التيمّم» بما يرجع إلى أنّ الصلاة مع المائية

و إن كانت أكمل بمقدار تجب مراعاته، و مقتضى ذلك عدم تجويز البدار، و عدم حصول الاستباحة للغايات غير المضطرّ إليها، إلّا أنّه مع العجز تتحقّق مفسدة واقعية مانعة عن عدم تجويز البدار و مثله، و عليه فحرمة الإراقة إنّما هو لأجل لزوم تحصيل المصلحة الكاملة، و جواز البدار إنّما هو للفرار عن تحقّق المفسدة المانعة، فلا منافاة بين الأمرين، و يرتفع الإشكال من البين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 200

..........

______________________________

قال: و أمّا الالتزام بحصول جهة مقتضية في ظرف الفقدان، توجب تسهيل الأمر على المكلّفين، فغير دافع للإشكال؛ لأنّ الجهة المقتضية إن كانت مصلحة جابرة يجوز للمكلّف تحصيل العجز، و إلّا لا يعقل تفويت المصلحة بلا وجه تأمّل.

و لعلّ وجه التأمّل: أنّه يمكن أن يقال بكونها مصلحة جابرة في ظرف خاصّ، و هو عدم حصول الاضطرار بالإراقة و الاختيار، فتدبّر.

ثمّ الظاهر أنّه لا فرق في وجوب حفظ الماء و عدم جواز الإراقة بين ما إذا حضر زمان التكليف، و ما إذا لم يتحقّق الحضور.

و دعوى أنّه قبل حضور زمان التكليف لا يكون التكليف متعلّقاً بذي المقدّمة، أو لا يكون تعلّقه فعلياً أو منجّزاً، و من المعلوم أنّ المقدّمة تابعة لذيها، مدفوعة بابتنائها على القول بوجوب المقدّمة، ضرورة أنّه على القول بالعدم كما اخترناه لا يبقى أصل للتبعية، بل لا بدّ من الرجوع إلى العقل الذي هو الحاكم الوحيد في الباب، و لا إشكال في أنّ العقل يحكم بعدم جواز تحصيل العجز عن تكليف يعلم بحضور وقته و حصول جميع شرائط الفعلية و التنجّز، بل لا يجوز تفويت المقدّمة و لو مع احتمال حصول القدرة عند حضور وقت العمل.

و أولى بذلك

ما إذا كان واجداً في الوقت، فأراد الإراقة مع احتمال الوجدان المجدّد فيه، فإنّ مجرّد الاحتمال لا يسوّغ الإراقة، و لا يكون عُذراً.

و أمّا ما يقال: من أنّه لا مانع من جريان البراءة في هذه الصورة؛ لأنّ انحصار المقدّمة مشكوك، و توقّف ذي المقدّمة عليها بالخصوص غير معلوم، و بالنتيجة يكون وجوب الحفظ مشكوكاً فتجري البراءة.

فيرد عليه: أنّ إجراء البراءة في المقدّمة لا يتمّ؛ لعدم وجوبها أوّلًا، و عدم كون

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 201

..........

______________________________

وجوبها على تقديره مستتبعاً لاستحقاق العقاب، لعدم ترتّبه على الوجوب الغيري، و في ذي المقدّمة أيضاً كذلك؛ لعدم كون وجوبه مشكوكاً كما هو المفروض، و وجوب الحفظ ليس حكماً شرعياً مستقلّاً، بل إنّما هو حكم عقلي قد عرفت ثبوته في المقام، نظراً إلى أنّ مجرّد الاحتمال لا يسوّغ الإراقة بوجه، و لا يكون عذراً عند العقل أصلًا.

و قد ظهر ممّا ذكرنا: عدم جواز الإراقة في الوقت و لو مع احتمال حصول الوجدان فيه.

كما أنّه ظهر ممّا ذكرنا: أنّه لا خصوصية للإراقة بوجه، بل الملاك هو تحصيل الطهارة المائية مع الإمكان، فإبطال الطهارة و نقض الوضوء مع العلم بعدم التمكّن منه، أو احتماله احتمالًا عقلائياً، يكون مثل الإراقة من دون فرق في ذلك بين قبل الوقت و بعده، كما عرفت.

مجمل القول في مسوّغات التيمّم و لنشرع في شرح المتن و نقول: «مسوّغات التيمّم أُمور».

ذكر العلّامة في محكيّ «القواعد» أنّه يجمعها شي ء واحد، و هو العجز عن استعمال الماء. ثمّ ذكر أنّ أسباب العجز ثلاثة: عدم الماء، و عدم الوصلة إليه، و الخوف. و تبعه عليه جماعة منهم صاحب «الجواهر»، و السيّد في «العروة».

و أُورد عليه:

بأنّ المراد من العجز إن كان هو العجز العقلي فيلزم خروج كثير من المسوّغات، و إن كان أعمّ من العقلي و الشرعي كما في «الجواهر» فيخرج بعضها، كالخوف على مال لا يجب حفظه، أو على النفس ببعض المراتب، بناء على عدم حرمته.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 202

..........

______________________________

و ربّما يقال: بأنّ الجامع هو سقوط وجوب الطهارة المائية.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ الكلام إنّما هو في موارد السقوط، و أنّه هل يجمعها شي ء واحد، أم لا؟ و لا معنى لجعل نفس السقوط جامعاً كما هو ظاهر: أنّه في مورد المزاحمة مع الأهمّ لم يسقط وجوب الطهارة المائية، بناء على ما هو التحقيق في باب التزاحم من عدم سقوط الأمر بالمهمّ، و إن كان المكلّف معذوراً في مخالفته.

و قد جعل الماتن دام ظلّه في «الرسالة» الجامع هو عنوان المعذور عقلًا أو شرعاً عن المائية، و استظهر جمعه لجميع المسوّغات حتّى ضيق الوقت، و البحث في هذه الجهة لا يكون بمهمّ، إنّما المهمّ هو النظر في الآيتين الواردتين في التيمّم، ليعلم مفادهما و مقدار سعة دلالتهما للأعذار.

فنقول: قد تقدّمت الآية الواردة في سورة المائدة، و أمّا ما ورد في سورة النساء فهو قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ حَتّٰى تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا غَفُوراً. «1» و من الواضح أنّ الآية الأُولى بلحاظ إفادتها لأحكام صنوف المكلّفين كما مرّ، تكون

أجمع من الآية الثانية التي لم يقع فيها التعرّض للوضوء صريحاً، و إن كان المراد بالسكر هو سكر النوم أيضاً.

و ربّما يقال: إنّ ظاهر الآيتين لا يخلو من إشكال؛ لأنّه قد جمع فيهما أُمور أربعة، عطف بعضها على بعض ب «أو»، و هو يقتضي استقلال كلّ واحد منها في السببية، مع أنّ

______________________________

(1) النساء 43.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 203

..........

______________________________

سببية أحد الأوّلين مشروطة بأحد الأخيرين.

قال المقدّس الأردبيلي في كتاب «زبدة البيان» في ذيل الآية الاولى: «إنّ نظم هذه الآية مثل التي سيجي ء لا يخلو عن إشكال على حسب فهمنا مثل ترك الحدث في أوّلها، و ذكر الجنابة فقط بعده، و الإجمال الذي لم يفهم أنّ الغسل بعد القيام إلى الصلاة، أم لا، و ترك كنتم حاضرين صحاحاً قادرين على استعمال الماء، ثمّ عطف «إن كنتم» عليه، و ترك تقييد «المرضى» و تأخير «فلم تجدوا» عن قوله: «أو جاء»، و ذكر «جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ» مع عدم الحاجة إليها؛ إذ يمكن الفهم عمّا سبق، و العطف ب «أو»، و المناسب بالواو، و غير ذلك مثل الاقتصار في بيان الحدث الأصغر على الغائط، و التعبير عنه ب «جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ»، و الأكبر على «لامستم» و التعبير عن الجنابة به، و كأنّه لذلك قال في «كشف الكشّاف» و نعم ما قال: «و الآية من معضلات القرآن».

و العمدة من هذه الإشكالات هو إشكال العطف؛ لأنّ غيره إمّا قابل للجواب، و إمّا غير قادح.

و أمّا إشكال العطف، فقد ذكر جماعة بل الأكثر في دفعه: أنّ «أو» فيه بمعنى الواو، نظير قوله تعالى وَ أَرْسَلْنٰاهُ إِلىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ

«1» و هو كما ترى.

و قد دفعه صاحب «الجواهر» (قدّس سرّه): بأنّ المراد بالقيام إلى الصلاة القيام من النوم كما ورد في النصّ، و يكون المراد من قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً صورة الاحتلام، و يكون السفر و المرض متعلّقين به، و إطلاق المرض من جهة غلبة الضرر باستعمال الماء، و إطلاق السفر من جهة غلبة فقد بذل الماء، و الجميع

______________________________

(1) الصافّات 147.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 204

..........

______________________________

متعلّق بحدث النوم، فيصحّ عطف المجي ء من الغائط و الملامسة المراد بها الجماع عليه.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ هذا التوجيه لا يجري في الآية الواردة في سورة النساء، و إن كان المراد بالسكر فيها هو سكر النوم أيضاً كما لا يخفى أنّ حمل الجنابة على الاحتلام الحاصل في النوم بعيد، خصوصاً مع كون الجملة معطوفة على قوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ، فهي في عرضها لا في طولها، كما أنّ حمل السفر و المرض على التعلق به أيضاً كذلك.

و الأولى: إبقاء قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً .. على ظاهره، من كون المراد مطلق الجنابة لا خصوص الاحتلام، و كذا قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ من دون أن يكونا متعلّقين بحدث النوم، بل أعمّ منه و من سائر الأحداث صغيرة أو كبيرة، غاية الأمر أنّ الوجه في إطلاقهما هو ما أفاده (قدّس سرّه)، و حمل قوله تعالى أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ .. على الصحيح غير المسافر، و جعل قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً متعلّقاً بالأخيرين.

و هذا المقدار يكفي في المغايرة المسوّغة للعطف ب «أو»؛ لأنّ مرجعه إلى أنّه إن كنتم مرضى و يضرّكم استعمال الماء،

أو على سفر و الماء مفقود، أو حاضرين غير مسافرين، و لكن لم تجدوا ماءً بعد الابتلاء بالحدث الأصغر أو الأكبر، فالواجب هو التيمّم.

و يمكن أن يقال: إنّه كما أنّ العرف لا يرى خصوصية للمجي ء من الغائط، بل هو كناية عن حصول الحدث الأصغر، و كذا لا يرى للملامسة خصوصية؛ لأنّ المراد بها هو الحدث الأكبر، لا هي بعنوانها و لا الأعمّ منها و من الاحتلام، بل مطلق الحدث

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 205

..........

______________________________

الأكبر كذلك، لا يرى العرف خصوصية للمرض، و المراد به حصول الضرر باستعمال الماء، و كذا بالنسبة إلى السفر، فإنّه لا يكون له خصوصية بعنوانه، بل المراد به فقدان الماء الملازم له نوعاً، خصوصاً في الأسفار التي كانت في تلك الأزمنة و الأمكنة.

و على ما ذكرنا: فالمستفاد من الآية مع قطع النظر عن الذيل المشتمل على التعليل بعدم تعلّق الإرادة بأن يجعل على الناس من حرج هو تشريع التيمّم للمعذور عن استعمال الماء، و كذا فاقد الماء رأساً، أو الواجد الذي لا يتمكّن من الوضوء منه؛ إمّا لكونه في بئر لا يتيسّر الوصول إليه، أو لعدم كفايته للطهارة المائية، أو لجهة أُخرى مانعة عن الوضوء منه.

و أمّا التعليل الواقع في إحدى الآيتين فقط، فيجري فيه احتمالان:

الأوّل: أن يكون ناظراً إلى أصل اعتبار الطهارة في الصلاة مطلقاً من دون اختصاص بالتيمّم، و مرجعه إلى دفع توهّم كون التكليف بالطهارة عند كلّ صلاة حرجياً، خصوصاً بالإضافة إلى التيمّم، لما فيه من التذلّل و الخضوع الذي ربّما يشقّ على المؤمنين في بدو الإسلام، و المراد أنّه لم يرد اللّه أن يجعل عليكم من حرج في جعل الصلاة مشروطة

بالطهارة، بل أراد اللّه ليطهّركم و يتمّ نعمته عليكم.

الثاني: أن يكون ناظراً إلى تشريع التيمّم فقط، و مرجعه أنّه لم يرد اللّه أن يجعل عليكم من حرج لأجل جعل الصلاة مشروطة بخصوص الطهارة المائية، بل وسّع دائرة الطهارة و عمّمها للطهارة الترابية أيضاً؛ لئلّا يقع الناس في حرج، و مرجعه حينئذٍ إلى أنّ الانتقال إلى التيمّم إنّما هو في موارد لزوم الحرج من تحصيل الطهارة المائية، سواء كان الحرج في نفسها أو في مقدّماتها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 206

..........

______________________________

فالمتفاهم من الآية صدراً و ذيلًا بعد قوّة هذا الاحتمال و ضعف الاحتمال الأوّل أنّ التيمّم طهور اضطراري مشروع في موارد ثبوت العذر الشرعي أو العقلي التي يكون تحصيل الطهارة المائية فيها حرجياً، و لو فرض عدم استفادة بعض الموارد منها، لكنّه بعد العلم بعدم سقوط التكليف بالصلاة و باشتراطها بالطهور، و أنّ التراب أحد الطهورين، لا يبقى إشكال في مشروعيته في جميع موارد العذر، خصوصاً بعد اقتضاء التدبّر في مجموع الروايات الواردة في الباب لذلك. هذا كلّه في مسوّغات التيمّم بنحو الإجمال.

و أمّا تفصيلها فنقول:

الأوّل: في عدم وجدان الماء منها، عدم وجدان ما يكفيه من الماء لطهارته وضوءً كانت أو غسلًا، و لا إشكال نصّاً و فتوىً في كونه من المسوّغات، و قد ادّعى الإجماع جماعة كثيرة، و لا فرق بين السفر و الحضر، كما أنّه لا فرق في الأوّل بين ما إذا كان السفر طويلًا أو قصيراً.

نعم، حكي عن السيّد (قدّس سرّه) في «شرح الرسالة» وجوب الإعادة على الحاضر، و لكنّه ليس خلافاً في هذه المسألة، بل في مسألة الإجزاء، و خالف فيما ذكر أبو حنيفة و أحمد في

إحدى الروايتين و زفر فقالوا: إنّ الحاضر الفاقد للماء لا يصلّي، بل عن زفر دعوى الإجماع عليه، و ظاهر الآية ردّ عليهم كما عرفت في معناها.

فلا إشكال في أصل مسألة، كما أنّه لا إشكال في وجوب الطلب و الفحص عن الماء في الجملة، و حكي الإجماع عليه عن جملة من الكتب الفقهية، بل عن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 207

..........

______________________________

«السرائر» دعوى تواتر الأخبار به، و لا بدّ أوّلًا من ملاحظة الآية الشريفة، ثمّ الروايات الواردة.

فنقول: أمّا الآية، فقد عرفت في مقام بيان المراد منها أنّ التكليف بالصلاة مع المائية غير مقيّد بحال الاختيار و الوجدان، بل هو تكليف مطلق، و أنّ التعليق بعنوان اضطراري ظاهر عرفاً في أنّ الطهارة الترابية طهارة اضطرارية، يسوّغها الاضطرار مع بقاء المطلوبية المطلقة في المائية على حالها، و مع ذلك يجب عند العقل الفحص و الطلب في تحصيل المطلوب المطلق إلى زمان اليأس، أو حصول عذر آخر، و ليس الشكّ في العذر عذراً عند العقلاء، نظير الشكّ في القدرة في الأعذار العقلية.

بل يمكن استفادة لزوم الطلب من قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا، فإنّ الظاهر من هذه المادّة في العربية و مرادفاتها في الفارسية، هو اليأس عن الوصول إلى المطلوب بعد الطلب و الفحص عنه.

و ربّما يقال: و لا يلزم أن يكون المتفاهم من جميع الصيغ حتّى اسم الفاعل و المفعول كذلك، فلا ينتقض بالواجد و الموجود، فإنّه قد يدلّ بعض المشتقّات و لو انصرافاً على معنى لا يفهم من الآخر، كالماء الجاري حيث يدلّ على الجريان من مبدإ نابع، بخلاف جري الماء لصدقه على ما جرى من الكوز.

أقول: الظاهر عدم كون الواجد و الموجود موردين

للانتقاض بوجه، فإنّ الواجد له معنيان يكون بحسب أحدهما متعدّياً و بحسب الآخر لازماً، و معناه المتعدّي لا يكون مغايراً لمعنى سائر الصيغ من جهة اعتبار الطلب و الفحص فيه أصلًا.

و أمّا الموجود: فتارة يستعمل في مقابل المعدوم، و هو بهذا الاعتبار معناه لازم و

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 208

..........

______________________________

لذا يطلق على الباري تعالى أيضاً، و أخرى في مقابل المفقود، و هو بهذا الاعتبار متعدّ، و لا يغاير معناه مع معنى سائر الصيغ في تلك الجهة، فلا يكونان موردين للانتقاض.

و أمّا التشبيه بالماء الجاري، فلا يكاد يتمّ؛ لأنّك عرفت في مبحث المياه أنّ اسم الفاعل من الجريان ربّما لا دلالة له على الجريان من مبدإ نابع، كما في مثال الكوز؛ لأنّه يصدق على الماء الخارج منه أنّه جارٍ منه، إلّا أن يقال بثبوت الانصراف في بعض موارده، و هو ما لو كان هذا العنوان بنحو الصفة لا بنحو الخبر، ففي مثل الماء الجاري يكون الانصراف متحقّقاً، دون «الماء جارٍ» كما لا يخفى.

و كيف كان: فلا إشكال في دلالة الآية على لزوم الطلب و الفحص.

و أمّا الروايات:

فمنها: رواية السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام) قال

يطلب الماء في السفر؛ إن كانت الحزونة فغلوة، و إن كانت سهولة فغلوتين، لا يطلب أكثر من ذلك.

«1» و لو سلّم ضعف في سندها، و أغمض عمّا عن الشيخ (قدّس سرّه) من إجماع الشيعة على العمل بروايات السكوني الذي يستفاد منه وثاقته، و كذا وثاقة النوفلي؛ لأنّه قلّما يتّفق عدم كون النوفلي في طريقها، و لكنّها مجبورة بعمل الأصحاب قديماً و حديثاً، فالمناقشة فيها من حيث السند غير مسموعة،

و لكنّ دلالتها قابلة للمناقشة، فإنّ الظاهر منها أنّه بصدد بيان مقدار الفحص بعد مفروغية أصله، و أمّا كونه واجباً أو مستحبّاً فلا دلالة لها عليه، خصوصاً بعد ملاحظة ذيلها و هو قوله (عليه السّلام)

لا يطلب أكثر

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 1، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 209

..........

______________________________

من ذلك

، إلّا أن يقال: إنّ قوله

يطلب الماء في السفر

جملة تامّة مستقلّة، مفهومها وجوب طلب الماء في السفر كوجوبه في الحضر، فهي مسوقة لإفادة أصل وجوب الطلب. و قوله

إن كانت الحزونة ..

مفيد لمقداره و مبيّن لكمّيته، و النظر فيها إلى أنّ مقدار الطلب في السفر يختلف مع مقداره في الحضر، و الجملة الأخيرة مؤكّدة لهذه الجهة، و على هذا التقدير تتمّ دلالة الرواية على إفادة وجوب الطلب، و لكنّ الأمر سهل بعد دلالة الآية الكريمة عليه بالنحو الذي ذكرنا.

و منها: رواية علي بن سالم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال قلت له: أتيمّم إلى أن قال فقال له داود الرقّي: أ فأطلب الماء يميناً و شمالًا؟

فقال

لا تطلب الماء يميناً و لا شمالًا و لا في بئر، إن وجدته على الطريق فتوضّأ منه (به)، و إن لم تجده فامض.

«1» و هي مع ضعف سندها بعلي بن سالم المشترك بين المجهول و البطائني الضعيف محمولة على الخوف من اللصّ و السبع، و الإطلاق إنّما هو لأجل كون الأسفار مظنّة الخطر نوعاً، خصوصاً في تلك الأزمنة و الأمكنة، مع أنّه يحتمل قويّاً أن تكون الواقعة عين ما رواه ابن محبوب، عن داود الرقّي قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): أكون في السفر فتحضر الصلاة و ليس معى ماء،

و يقال إنّ الماء قريب منّا، فأطلب الماء و أنا في وقت يميناً و شمالًا.

قال

لا تطلب الماء، و لكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك التخلّف عن أصحابك، فتضلّ و يأكلك السبع.

«2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 2، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 2، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 210

..........

______________________________

و تؤيّده رواية يعقوب بن سالم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن رجل لا يكون معه ماء، و الماء عن يمين الطريق و يساره غلوتين أو نحو ذلك.

قال

لا آمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لصّ أو سبع.

«1» فإنّ عدم الأمر مع وجود الماء عن يمين الطريق و يساره الذي يجب تحصيله و الوصول إليه في نفسه يدلّ على أنّ المانع عن وجوب الطلب في صورة احتمال وجود الماء أيضاً، إنّما هو التغرير بنفسه و عروض اللصّ و السبع له، فمع انتفاء المانع يبقى الطلب على وجوبه، فلا يبقى إشكال بعد ما ذكرنا في أصل وجوب الطلب في الجملة، و أنّ ما عن الأردبيلي (قدّس سرّه) من استحباب الطلب ضعيف جدّاً. هذا كلّه بالنسبة إلى أصل الطلب.

و أما بالنسبة إلى مقداره، ففي المتن: «و يجب الفحص عنه إلى اليأس، و في البرية يكفي الطلب غلوة سهم في الحزنة، و غلوة سهمين في السهلة»، و مرجعه إلى التفصيل بين البرية و غيرها، بالاكتفاء بالمقدار المذكور في الاولى، و وجوب الفحص إلى اليأس في الثانية.

و وجه الحكم في الثانية واضح، فإنّه بعد دلالة الآية على أصل وجوب الفحص، يكون التحديد باليأس و ثبوته مع الرجاء، و ما دام الرجاء مستفاداً من التعليل الواقع فيها بلحاظ عدم تعلّق الإرادة

بالحرج و المشقّة، ضرورة أنّه مع عدمه يلزم الحرج، نعم لا تختصّ الغاية باليأس، بل يرتفع الوجوب بضيق الوقت أيضاً. كما تدلّ عليه صحيحة زرارة، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال

إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم و ليصلّ في آخر

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 2، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 211

..........

______________________________

الوقت، فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه، و ليتوضّأ لما يستقبل.

«1» و موردها و إن كان هو المسافر إلّا أنّه لا يختصّ الحكم به؛ لعدم خصوصية له من هذه الجهة.

و أمّا الأُولى: فوجه الحكم فيها رواية السكوني المتقدّمة، الدالّة على التفصيل بين الحزونة و السهولة، و أنّه يكفي في الأُولى غلوة و في الثانية غلوتان، و أنّه لا يجب الطلب أزيد من ذلك.

و قد عرفت أنّها رواية مشهورة عمل بها الأصحاب قديماً و حديثاً، بل عبّروا بمتنها في فتاويهم، فلا مجال للإشكال فيها بضعف السند، و هي حاكمة على حكم العقل، و مفسّرة للآية الشريفة و شارحة لمفادها، بالإضافة إلى المسافر.

نعم، تعارضها صحيحة زرارة المتقدّمة، الدالّة على أنّ المسافر إذا لم يجد الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإنّ ظاهرها وجوب الطلب إلى أن يتحقّق الخوف من أن يفوته الوقت، من دون أن يكون مقدّراً بالمقدار المذكور، فبين الروايتين منافاة.

نعم، في «حاشية» المحقّق البهبهاني (قدّس سرّه) على «المدارك»: هذه الرواية يعني صحيحة زرارة وردت بإسناد آخر: «فليمسك» بدل: «فليطلب».

أقول: و هو ما رواه الشيخ بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن عروة، عن ابن بكير، عن زرارة. «2» و على هذا الطريق فلا دلالة للصحيحة على

مقدار الطلب، بل موردها صورة عدم الوجدان، المحمول على عدمه بعد الطلب بالمقدار الواجب عليه، و أمّا كون

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 212

..........

______________________________

المقدار الواجب عليه ما ذا، فلا دلالة لها عليه، فالمنافاة إنّما هي على الطريق الآخر.

كما أنّه تعارضها على هذا الطريق الروايات المتعدّدة الدالّة على جواز البدار و صحّة الصلاة في سعة الوقت مع التيمّم، كصحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): فإن أصاب الماء و قد صلّى بتيمّم و هو في وقت.

قال

تمّت صلاته، و لا إعادة عليه.

«1» نعم، توافقها طائفة أُخرى، و هي الروايات الدالّة على عدم جواز البدار، و وجوب الانتظار إلى أن يتضيّق الوقت، و سيأتي البحث في هذه الجهة إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان: فقد قيل في مقام الجمع بين صحيحة زرارة، و موثّقة السكوني وجوه:

أحدها: أنّ الصحيحة مسوقة لبيان وجوب الطلب في سعة الوقت لا مع الضيق، و أمّا مقدار الطلب فغير مقصود لها، فلا تنافي خبر السكوني.

و أُورد عليه: بأنّ الصحيحة كادت تكون صريحة في إرادة أنّه يطلب الماء إلى أن يتضيّق عليه الوقت، و يخاف فوت الصلاة، فحينئذٍ يصلّي مع التيمّم.

ثانيها: ما أفاده في «المصباح» من أنّ وجوب الفحص عن الماء في الجهات الأربع على ما يقتضيه خبر السكوني مشروط بإرادة المسافر المتمكّن من الفحص الذي لم يتضيّق عليه الوقت الصلاة في مكان مخصوص، كما لو نزل بعد الظهر مثلًا منزلًا، و أراد أن يصلّي فيه، و إلّا فله الضرب في الأرض في جهة من الجهات و لو في الجهة الموصلة

إلى المقصد، برجاء تحصيل الماء في أثناء

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 213

..........

______________________________

الطريق إلى أن يتضيّق عليه الوقت، ضرورة أنّ العود إلى المكان الأوّل ليس واجباً تعبّدياً، فحيث ما طلب الماء في جهة و لو في الجهة المؤدّية إلى المقصود بمقدار رمية سهم أو سهمين، فله أن يصلّي في المكان الذي انتهى إليه طلبه، و أن لا يعود إلى المكان الذي ابتدأ منه، لكن يجب عليه الفحص عن الماء فيما حوله بالنسبة إلى المكان الذي انتهى إليه السير، فله في هذا المكان أيضاً كالمكان الأوّل أن يختار أوّلًا الضرب إلى مقصده مثلًا في الجهة التي يقرّبه، و هكذا إلى أن يتضيّق عليه الوقت، و يتعيّن عليه الصلاة مع التيمّم. فثمرة العود إلى المكان الأوّل إنّما هي جواز الصلاة مع التيمّم بعد الفحص عن الماء في سائر الجهات بالمقدار المعتبر شرعاً، و إن لم يتضيّق عليه الوقت فتقيّد رواية زرارة بما عدا هذه الصورة.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ الميزان في الجمع هو ما كان مقبولًا عند العرف و مطابقاً لفهمهم، و من المعلوم أنّ الجمع بهذا النحو مخالف للأنظار العرفية أنّه بعد تسليم دلالة صحيحة زرارة على وجوب الطلب ما دام في الوقت إلى أن يتضيّق، كيف يمكن حملها على الصورة المذكورة، و القول بأنّه في غير هذه الصورة يكفي الطلب مقدار سهم أو سهمين و لو كان في أوّل الوقت، مع أنّ الفرق بين ما إذا كان الضرب في الأرض في الجهة الموصلة إلى المقصد برجاء تحصيل الماء في أثناء الطريق، و بين ما إذا لم يكن مقروناً بهذا الرجاء

غير متّضح؟! ثالثها: ما أفاده الماتن دام ظلّه في «الرسالة» من حمل الصحيحة الظاهرة في لزوم التأخير، و وجوب الطلب ما دام الوقت على الاستحباب؛ لصراحة الموثّقة في عدم الوجوب.

و يؤيّده: أنّه لا محيص عن حمل الصحيحة على الاستحباب و لو لم تعارضها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 214

..........

______________________________

الموثّقة، لوجود روايات دالّة على جواز البدار، فإذا حملت على الاستحباب لأجلها ترتفع معارضتها مع الموثّقة أيضاً.

و الإنصاف: صحّة هذا الجمع، و أنّه لا محيص عنه، نعم مورد الموثّقة هو المسافر، و التعبير الواقع في المتن هو البرّية؛ و لعلّه لأجل أنّ السفر ملازم نوعاً للكون في البرّية، و منه يظهر أنّه ليس المراد به هو السفر الشرعي، بل المراد به هو السفر العرفي الثابت فيه تلك الملازمة، و عليه فالسفر بما هو سفر لا يكون له موضوعية أصلًا، بل الملاك على ما هو المتفاهم عند العرف هو ما ذكر.

و عليه فلا يبعد دعوى كون حكم سكّان البوادي و الجبال حكم المسافرين من حيث الطلب في الأرض، و إن كان بينهما فرق من جهة أنّ السكونة موجبة للاطّلاع على وجود الماء في الحوالي و عدمه، و المفروض في الرواية من لا يكون مطّلعاً عليه، كما لا يخفى.

بقي في هذا المقام أُمور: الأوّل: الطلب في جميع الجوانب أنّه قد عرفت أنّ خبر السكوني يكون حاكماً على الآية الشريفة، الظاهرة في نفسها و بمقتضى حكم العقل في لزوم طلب الماء إلى حدّ اليأس، و مفسّراً للمراد منها بالإضافة إلى المسافر، فهو لا يكون بصدد إفادة أصل إيجاب الطلب، بل هو مفيد لمقداره و مبيّن لكمّيته، و دالّ على عدم وجوب ما زاد على

ذلك المقدار.

و عليه فيظهر عدم اختصاص الطلب بخصوص جهة من الجهات الأربع، بل لا بدّ و أن يكون الطلب في جميع الجوانب، و من الواضح أنّه ليس المراد منها هي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 215

..........

______________________________

الخطوط المتقابلة، بل المراد من كلّ جهة هو ربع الدائرة، فالملاك هو شمول دائرة الطلب لجميع الجوانب، غاية الأمر أنّ سعتها لا تزيد على المقدار المذكور.

و عن «النهاية» و «الوسيلة» الاقتصار على اليمين و اليسار، و عن «المقنعة» الاقتصار على الأمام و اليمين و الشمال.

لكن قد عرفت: أنّ مقتضى حكم العقل وجوب الضرب في جميع الجهات، و يمكن أن يكون المراد من كلّ من اليمين و اليسار فيما عن «النهاية» و «الوسيلة» هو نصف الدائرة، كما أنّه يمكن أن يكون الإهمال الواقع فيما عن «المقنعة» بالنسبة إلى الخلف لأجل وقوع الطلب فيه بالمرور منه، فتدبّر.

الثاني: في كون وجوب الطلب عقلياً قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ وجوب الطلب في المقام لا يكون وجوباً نفسياً كما عن «قواعد الشهيد» و «الحبل المتين» و «المعالم»، و لا غيريّاً بمعنى أن يكون الطلب شرطاً في صحّة التيمّم تعبّداً كما اختاره في «الجواهر» و نسب إلى المشهور احتمالًا، بل هو عقلي محض، منشؤه لزوم إحراز العذر عن ترك المطلوب المطلق أي الصلاة مع الطهارة المائية، التي لا تكون مقيّدة بمثل الوجدان على ما مرّ، فالحاكم به هو العقل بعد ملاحظة دليل التكليف.

و ليس في المقام دليل لفظي يدلّ على الوجوب حتّى يبحث عن كونه نفسياً أو غيرياً؛ لأنّ رواية السكوني قد عرفت أنّها ليست بصدد إفادة أصل الإيجاب، بل هي تدلّ على بيان مقداره، كما أنّ صحيحة زرارة محمولة

على الاستحباب على ما مرّ، فليس هنا دليل لفظي يدلّ على الوجوب حتّى يبحث في نوعه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 216

..........

______________________________

و لو سلّم دلالة الروايتين على وجوب الطلب، فلا شبهة في عدم دلالتهما على الوجوب النفسي؛ لظهور الأوامر في الإرشاد في مثل المقام، فهو إمّا إرشاد إلى حكم العقل، و إمّا إرشاد إلى الشرطية. لا سبيل إلى الثاني؛ لأنّ الظاهر من قوله (عليه السّلام) في رواية السكوني

يطلب الماء في السفر

أنّ الطلب واجب لتحصيل الماء، لا لشرطيته في التيمّم، كما أنّ الظاهر من الصحيحة أيضاً ذلك، و أنّ شرط التيمّم هو خوف فوت الوقت، لا الطلب، فلا محيص عن حمل الروايتين على تقدير دلالتهما على الوجوب على الإرشاد إلى ما هو مقتضى حكم العقل.

و يترتّب على ذلك: أنّ لزوم الطلب في الجوانب الأربع إنّما هو مع احتمال وجود الماء فيها، و إلّا فمع العلم بعدمه في واحد منها أو أزيد أو في جميعها لا معنى لوجوب الطلب في الجهة التي يعلم بعدمه فيها.

نعم، لو علم بوجوده فوق المقدار يجب تحصيله مع بقاء الوقت و عدم تعسّره، لخروجه عن منصرف رواية السكوني قطعاً، فيرجع في حكمه إلى ما هو ما مفاد الآية، و مقتضى حكم العقل، نعم مع ضيق الوقت أو تعسّر تحصيل الماء، كما إذا كان الماء بعيداً، يسقط الوجوب.

و قد انقدح ممّا ذكرنا: بطلان ما حكي عن القائلين بكون وجوب الطلب نفسياً من لزوم الطلب و لو مع العلم بعدم وجود الماء؛ لضعف مبناهم مع أنّ نفس مفهوم الطلب لا يجتمع إلّا مع رجاء الوصول إلى المطلوب، و احتمال حصوله، و لا يلتئم مع العلم بالعدم.

ثمّ الظاهر أنّ

الظنّ بوجود الماء في الزائد على المقدار لا يكون كالعلم به؛ لعدم الدليل على اعتباره، و عدم صدق الوجدان معه، نعم لو بلغ إلى مرتبة الاطمئنان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 217

..........

______________________________

الذي يكون علماً عرفياً، لا يبعد وجوب الطلب معه، لصدق الوجدان حينئذٍ كما هو ظاهر.

الثالث: في تفسير الحزونة و السهولة الواردتين في رواية السكوني و فتاوى الأصحاب، التي قد عرفت أنّهم قد عبّروا فيها بمتنها.

فنقول: قال في «الصحاح»: «السهل نقيض الجبل، و الحزن ما غلظ من الأرض و فيها حزونة»، و المستفاد من تفسير الحزن كون الأرض مأخوذة في معناه، و أنّه عبارة عن الأرض التي كانت فيها غلظة، و لكن ذيله يشعر بل يدلّ على أنّ الحزن بمعنى مطلق ما كان واجداً لوصف الحزونة، أي الغلظة.

و يؤيّد الأوّل: ما عن «القاموس» و «المجمع» من تفسيره بما غلظ من الأرض، و كذا ما عن الأصمعي من أنّ الحزن الجبال الغلاظ.

و يؤيّد الثاني: ما في «المنجد» من قوله: «حزن يحزن حزونة، المكان صار حزناً أي غليظاً». فإنّه كالصريح في أنّ الحزن هو نفس الغلظة التي هي معنى وصفي عامّ، و إن قال بعده: «الحزن ما غلظ من الأرض».

قال الماتن دام ظلّه في «رسالة التيمّم»: «و لا يبعد أن يكون الاحتمال الثاني أرجح، فيقال: أرض سهلة و حزنة، و رجل سهل الخلق، و نهر سهل أي ذو سهولة، و سهل الموضع، بل و أسهل الدواء بمعنى، و يفهم بالانتساب إلى المتعلّقات كيفية السهولة، و كذا الحزن، فإذا قيل للجبال الغلاظ الحزن كصرد، و للشاة السيّئة الخلق الحزون، و لقدمة العرب على العجم في أوّل قدومهم الذي أسحقوا فيه ما

تفصيل

الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 218

..........

______________________________

أسحقوا من الدور و الضياع الحزانة، يكون بمعنى واحد، بل لا استبعاد أن يكون الحزن مقابل الفرح من هذا الأصل و إن اختلفت الهيئات».

ثمّ إنّه بناء على مدخلية الأرض في معنى الحزونة، لا بدّ من ملاحظة الغلظة و السهولة بالإضافة إلى ذات الأرض، فالحزونة حينئذٍ عبارة عن الأرض التي تكون بالذات واجدة للغلظة، ككونها جبلًا مثلًا، و أمّا ما لم تكن كذلك، فلا تكون حزونة و لو كانت مشتملة على الغلظة العرضية باعتبار وجود الأشجار و إحداثها فيها، إلّا أن يقال: إنّ اعتبار الأرض في معنى الحزونة لا ينافي شمولها لما إذا كانت الغلظة عرضية، و عليه فإسراء الحكم إلى الأراضي المشجّرة كما في «العروة» لا يحتاج إلى دعوى إلغاء الخصوصية حتّى يقال: إنّ عهدتها على مدّعيها.

و كيف كان: فبناء على اعتبار الأرض في معنى الحزونة، لا يبقى فرق بين جعل الكون في قوله (عليه السّلام) في رواية السكوني

إن كانت الحزونة فغلوة ..

تامّاً و الحزونة فاعلًا، أو جعله ناقصاً و الأرض المحذوفة اسماً لاعتبار الأرض على كلا التقديرين، فلا يكون فرق في البين.

و أمّا على تقدير عدم اعتباره فيه، فعلى تقدير جعل الكون ناقصاً، يكون الأمر كما مرّ، و أمّا على تقدير جعله تامّاً، فحيث لا تكون الأرض حينئذٍ معتبرة في المفهوم، و لا تكون محذوفة اسماً، فالملاك وجود المانع و تحقّق الغلظة و لو كان مثل الشجر و الثلج و نحوهما، و حيث إنّه لا يحصل للنفس طمأنينة بعدم اعتبار الأرض في معنى الحزونة، و لا لعدم جعل الكون ناقصاً، فلا محيص عن الاحتياط لدلالة الآية و حكم العقل على لزوم الطلب زائداً

على المقدار المذكور في رواية السكوني، فيحتاط بالأخذ بالأكثر، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 219

..........

______________________________

الرابع: في تفسير الغلوة الواقعة في الرواية فنقول: قال في «الصحاح»: «غلوت بالسهم غلواً إذا رميت به أبعد ما تقدر عليه، و الغلوة الغاية رمية سهم»، و قال: «غلا يغلو غلواً، أي جاوز فيه الحدّ»، و يظهر منه مجيئها بمعنى رمية سهم أيضاً.

و قال في «القاموس»: «غلا في الأمر غلواً: جاوز حدّه، و بالسهم غلواً و غلواً رفع يديه لأقصى الغاية» إلى أن قال: «فهو رجل غلاء كسماء، أي بعيد الغلو بالسهم، و السهم ارتفع في ذهابه و جاوز المدى».

و في «المنجد»: «غلا يغلو غلواً و غلوا السهم و بالسهم: رمى به أقصى الغاية» إلى أن قال: «الغلوة المرّة من غلا الغاية، و هي رمية سهم أبعد ما تقدر عليه المغلي، و المغلاة سهم يغلى به، أي يرمى به أقصى الغاية».

و المستفاد منها أنّ الغلوة لا تكون بمعنى مطلق رمية سهم، بل يكون معناها مقيّداً بأقصى الغاية و أبعد مقدور الرامي.

نعم، ذكر في «مجمع البحرين»: «و في الحديث: ذكر الغلوة، و هي بالفتح مقدار رمية سهم». و لكنّ الظاهر أنّه لا يلائم مع معنى هذه المادّة المستعملة في موارد كثيرة، كالغليان في مثل العصير، و الغلوّ في رديف المبالغة، و الغلاة في فرق المسلمين، و الغلاء في السعر، و الغالية التي تكون مركّبة من عدّة من الطيب كأنّها هي نهاية مراتب الطيب، و أغلى الثمن في شراء الزوجة، و نحوها من موارد الاستعمال، فالظاهر بحسب اللغة ما ذكره جلّ اللغويين من كونها عبارة عن الرمية لأقصى الغاية.

و أمّا الفقهاء: فقد اختلفت كلماتهم، فجملة

منهم قد عبّروا بمتن رواية السكوني

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 220

..........

______________________________

المتقدّمة من الغلوة و الغلوتين، و بعضهم بدّل الغلوتين بغلوة سهمين، و طائفة منهم كالشيخ في بعض كتبه و المفيد و أبي الصلاح و جمع آخر قدّر المقدار برمية سهم أو سهمين.

و الظاهر أنّ هذا التفسير اجتهاد منهم و إلّا فاللفظ الواقع في الرواية هو المذكور، و قد عرفت أنّ معنى الغلوة ليس مطلق الرمية و لو حمل كلام هذه الجماعة على التعريف الإجمالي غير المنافي للقيد المذكور، لكنّه يوجد فيهم من لا يكون كلامه قابلًا للحمل المذكور، لتصريحه بخلافه، ككاشف الغطاء (قدّس سرّه) قال: «الغلوة الرمية بالسهم المتوسّط في القوس المتوسّط من الرامي المتوسّط مع الحالة المتوسّطة في الهواء المتوسّط و الوضع المتوسّط و الجذب و الدفع المتوسّطين»، و الشهيد (قدّس سرّه) في «المسالك» قال: «الغلوة مقدار الرمية من الرامي المعتدل بالآلة المعتدلة»، و غيرهما من بعض مقاربي عصرنا.

و لكنّه لا دليل على هذا المعنى مع كونه مخالفاً للغة، بل العرف، فالمعتبر في الرمي هو الرمي إلى أقصى الغاية و أبعد ما يقدر عليه الرامي، نعم يعتبر في الرامي و الآلة و سائر الجهات المتوسّط؛ لأنّه المتعارف، فلا ينبغي الإشكال فيما ذكر.

إنّما الإشكال في المقام في عدم إمكان تعيين هذا المقدار خارجاً في هذه الأزمنة؛ لعدم تداول الرمي بالسهم فيها، و عدم وجود الرامي الماهر المتدرّب في فنّ الرمي، و من المعلوم أنّ المعتبر هو رمي مثله، فاللازم في موارد الشكّ الاحتياط، و الأخذ بالمقدار المحتمل العقلائي؛ لما عرفت من دلالة الآية، و اقتضاء حكم العقل وجوب الطلب إلى حدّ اليأس. و أنّ رواية السكوني لا دلالة

لها على أصل إيجابه، بل هي مبنية لمقداره، فمع الشكّ في تحقّقه يجب الرجوع إلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 221

..........

______________________________

حكم العقل. و لا مجال للأخذ بالمقدار المتيقّن و نفي الزائد بالأصل، مع أنّه يمكن أن يقال بلزوم إحراز كون الطلب بالمقدار المذكور في الرواية، لعدم إجماله مفهوماً، بل الشكّ في تحقّقه في الخارج، و اللازم في مثله الاحتياط، فتدبّر.

الخامس: حكم عدم كفاية الماء للطهارة أنّه لا فرق في سقوط التكليف بالطهارة المائية و وجوب التيمّم، بين عدم الماء أصلًا، و بين وجود ما لا يكفيه لطهارته وضوءاً و غسلًا، فعدم الماء بمقدار الكفاية كعدمه المطلق؛ لأنّ الطهارة الحدثية لا تقبل التبعّض، و لا تتلفّق من الماء و التراب، و المتبادر من قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً ليس هو عدم وجدان الماء مطلقاً، نظراً إلى أنّ النكرة في سياق النفي تقتضي العموم، بل هو عدم وجدان الماء بقدر أن يتوضّأ بالكيفيّة المذكورة في صدر الآية، أو أن يغتسل، و قد استظهر عدم الخلاف في ذلك.

لكنّه حكي عن بعض العامّة القول بأنّ الجنب إذا وجد ماءً لا يكفيه لطهارته استعمل الماء و تيمّم. و في محكيّ «المنتهى» عن بعض الشافعية القول بذلك في الحدث الأصغر أيضاً؛ لأنّه واجد للماء ما لم يستعمله، فلا يسوغ له التيمّم.

و قد حكي عن العلّامة في «النهاية» أنّه احتمل في الجنب الذي يكون واجداً للماء بقدر ما لا يكفي لغسله وجوب صرف الماء إلى بعض أعضائه، لجواز وجود ما يكمل به الطهارة، و الموالاة ساقطة في الغسل دون الوضوء.

و من المعلوم أنّه لا يكون خلافاً فيما نحن فيه من عدم تبعّض الطهارة و عدم التلفيق،

مع أنّه ليس بتمام في نفسه؛ لأنّ احتمال القدرة على تكميل الغسل لا يتوقّف

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 222

..........

______________________________

رعايته على استعمال الماء، بل يمكن حفظه لرجاء وجدان مقدار آخر تكمل به الطهارة.

و كيف كان: فيردّ مثل ذلك مضافاً إلى ظاهر الآية بالمعنى المتبادر منه روايات واردة في الجنب الواجد للماء بقدر الوضوء، دالّة على وجوب التيمّم عليه، كصحيحة الحلبي أنّه سأل أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب و معه قدر ما يكفيه من الماء للوضوء للصلاة، أ يتوضّأ بالماء، أو يتيمّم؟

قال

لا، بل يتيمّم، أ لا ترى أنّه إنّما جعل عليه نصف الوضوء.

«1» و مثلها رواية الحسين بن أبي العلاء، إلّا أنّ في آخرها بدل «نصف الوضوء»، «نصف الطهور» «2» و لعلّ التعليل بقوله: «أ لا ترى ..» إرشاد إلى ما هو المتبادر من الآية الشريفة بلحاظ دلالتها على أنّ من لم يجد ماء بقدر أن يغتسل، ينتقل فرضه إلى التيمّم الذي هو نصف الوضوء، بلحاظ عدم وجوب مسح جميع الوجه و الأيدي، و الخلو من مسح الرأس و الأرجل.

و صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام) في رجل أجنب في سفر و معه ماء قدر ما يتوضّأ به.

قال

يتيمّم و لا يتوضّأ.

«3» و مفاد هذه الروايات و إن كان هو نفي وجوب الوضوء في الفرض المذكور فيها، دفعاً لتوهّم انتقال الفرض من الغسل إلى الوضوء، إلّا أنّ الاقتصار على وجوب التيمّم و السكوت في مقام البيان، و عدم إيجاب صرف الماء في بعض مواضع

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 24، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 24، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب

التيمّم، الباب 24، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 223

..........

______________________________

الغسل، دليل عرفي على عدم وجوبه، و لا مجال معها للتمسّك بمثل قاعدة الميسور بعد تسليم جريانها في مثل المقام.

و ممّا ذكرنا يظهر: عدم اختصاص الحكم المذكور بالمقام، بل يجري في جميع المواضع التي لا يتمكّن إلّا من الإتيان ببعض الوضوء أو الغسل، من غير فرق بين كونه مسبّباً عن نقصان الماء، أو وجود ما يمنع من غسل بعض الأعضاء من مرض، أو نجاسة تتعذّر إزالتها، أو جرح مكشوف، و نحوها ممّا لا يلحقه حكم الجبيرة، و قد تقدّم بعض الكلام في ذلك في مبحث الجبيرة في باب الوضوء، فراجع.

السادس: حكم إمكان مزج الماء بغيره لو تمكّن من مزج الماء الذي لا يكفيه لطهارته بما لا يسلبه إطلاق الاسم و تحصل به الكفاية، فهل يجب عليه ذلك كما عن جماعة من المتأخّرين منهم العلّامة، أو لا كما عن الشيخ و أتباعه؟ وجهان: مقتضى ما تقدّم من أنّ التكليف بالصلاة مع المائية مطلق غير مقيّد، و اللازم بحكم العقل تحصيلها بأيّ نحو كان، و أنّ الانتقال إلى التيمّم إنّما هو في حال الاضطرار، لزوم مثل هذا العلاج لتحصيل المطلوب المطلق، و ليس المراد من عدم الوجدان المعلّق عليه شرعية التيمّم هو ما يقتضي الجمود عليه؛ و لذا يجب الوضوء و الغسل مع وجود الثلج، أو ماء جامد تمكّن إذابتهما و نحوها، ففي رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب في السفر، لا يجد إلّا الثلج.

قال

يغتسل بالثلج أو ماء النهر.

«1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 10، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 224

..........

______________________________

قال في «الوسائل» بعد نقل الرواية: «المراد أنّه يذيب الثلج بالنار و يغتسل بمائه إن أمكن، أو يدلك جسده بالثلج إن كان كثير الرطوبة، بحيث يحصل مسمّى الغسل، و بيان ذلك أنّ السائل فرض أنّه لا يجد إلّا الثلج، فذكر ماء النهر في الجواب يدلّ على أنّ مراده أنّه لا فرق بين أن يغتسل بالماء المذاب من الثلج، و أن يغتسل بماء النهر».

و في رواية معاوية بن شريح قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السّلام) و أنا عنده فقال: يصيبنا الدمق و الثلج و نريد أن نتوضّأ، و لا نجد إلّا ماء جامداً، فكيف أتوضّأ؟ أدلك به جلدي؟

قال

نعم.

«1» و يؤيّدهما رواية الحسين بن أبي طلحة قال: سألت عبداً صالحاً (عليه السّلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ما حدّ ذلك؟

قال

قال: فإن لم تجدوا بشراء و بغير شراء ...

«2» و أمّا ما أفاده في «المصباح» من عدم اعتناء العرف و العقلاء بهذا النحو من القدرة الحاصلة بالمعالجات غير المتعارفة، فإنّهم لا يرتابون في أنّ تكليف من لم يجد الماء بقدر الكفاية بالطهارة المائية تكليف بما لا يطاق، نظير ما لو أمر من لم يجد منّاً من الحنطة مثلًا بالتصدّق به، فإنّه قبيح و لو وجد أقلّ من المنّ بمقدار لو مزجه بشي ء من التراب و نحوه لصار منّاً، و إطلاق اسم الحنطة على الحنطة الممتزجة بشي ء من التراب بعد استهلاكه، إنّما هو لعدم اعتنائهم بالمستهلك، و عدم ملحوظية الخليط في حدّ ذاته محكوماً بحكم. و هذا يناقض حكمهم بوجوب إيجاده

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 10، الحديث 2.

(2) وسائل

الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 26، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 225

..........

______________________________

مقدّمة لامتثال الأمر بتلك الطبيعة المغايرة له، فإنّه موقوف على تصوّره، و ملاحظة كونه جسماً خارجياً مؤثّراً في زيادة المقدار، و بهذه الملاحظة يمتنع وقوعه امتثالًا للأمر المتعلّق بتلك الطبيعة الصرفة، فإنّ استقلاله بالملاحظة مانع من عدّه جزء للماهية المغايرة له، محكوماً بحكمها.

فقد أورد عليه الماتن دام ظلّه في «الرسالة»: بأنّ القياس مع الفارق، فإنّ المدّعى إمّا أنّ العرف لا يستفيد من الآية المطلوبية المطلقة للمائية، و هو كما ترى، بل لا يلتزم به القائل، أو أنّ عدم الوجدان صادق، و لا يجب على المكلّف إيجاد الماء و انسلاك نفسه في الواجد، و هو أيضاً غير وجيه، و لا أظنّ التزامه به، و تردّه الروايات المتقدّمة، أو أنّ العقلاء يرون نفوسهم عاجزة، و لا يكون العلاج المذكور تحصيلًا للقدرة، أو لا يكون تحصيلها كذلك واجباً، و أنّ التكليف بمثله قبيح، فهو أيضاً بجميع تقاديره ممنوع؛ لعدم العجز بحسب الواقع مع إمكان المزج؛ و عدم وجوبه إمّا ناشٍ من عدم التكليف المطلق، أو من حصول شرط التيمّم، و هما ممنوعان، و أمّا غفلتهم عن إمكان تحصيل الماء بمثل ذلك فليست إلّا كغفلتهم عن وجود الماء.

و ممّا ذكرنا ظهر: أنّه لو كان عنده المادّتان المركّبة منهما الماء، و أمكن له مزجهما بحيث يتحقّق الماء، يجب عليه ذلك؛ لكونه قادراً على تحصيل الطهارة المائية، كما لا يخفى.

السابع: في أنّ موضوع مشروعية التيمّم عدم الوجدان و لو كان محرزاً بالعلم لا ينبغي الارتياب في أنّ المتفاهم عرفاً من الآية الشريفة أنّ المراد بعدم الوجدان المعلّق عليه فيها شرعية التيمّم، و انتقال فرض

الوضوء أو الغسل إليه، هو عدم وجدان ما يمكن أن يستعمل في الطهارة المائية المدلول عليها قبل بيان التيمّم.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 226

..........

______________________________

و عليه فعدم الوجدان يجتمع مع عدم الوجود واقعاً و لو كان محرزاً بالعلم، و مع الوجود مع عدم العثور بعد الفحص و الطلب، فالمعلّق عليه شرعيته ليس عنوان عدم الماء واقعاً حتّى يكون لازمه بطلان التيمّم مع وجوده و عدم العثور عليه، و لا عنوان عدم الوجدان الملازم مع الطلب حتّى يكون لازمه لزوم الضرب في الأرض و لو مع العلم بعدم الماء في شي ء من الجهات ليصير الفقدان وجدانياً، ضرورة أنّ كلّ واحد من الاحتمالين خلاف ما هو المتفاهم عند العرف، بل المتفاهم ما ذكرنا من كون المراد هو عدم وجدان ما يمكن أن يستعمل في الطهارة المائية و لو كان محرزاً بالعلم، و لا ينافي ذلك ما استفدناه سابقاً من الآية من أنّ التعليق على عدم الوجدان ظاهر في لزوم الطلب، فإنّ وجوبه لا ينافي عدم موضوعيته؛ لأنّ الملاك هو الوصول إلى الماء و تحصيل الطهارة المائية، و عند الاضطرار ينتقل الفرض إلى التيمّم، فظرف التيمّم هو ظرف الاضطرار، غاية الأمر دلالة رواية السكوني على إفادة حكم تسهيلي، يرجع إلى تحديد مقدار الطلب و عدم لزومه إلى حدّ اليأس، بالإضافة إلى المسافر الذي هو موردها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 227

[مسألة 2: الظاهر عدم وجوب المباشرة]

مسألة 2: الظاهر عدم وجوب المباشرة، بل تكفي استنابة شخص أو أشخاص يحصل من قولهم الاطمئنان، كما أنّ الظاهر كفاية شخص واحد عن جماعة مع حصول الاطمئنان من قوله، و أمّا كفاية مطلق الأمين و الثقة محلّ

إشكال. (1)

______________________________

(1) و قد حكي عدم وجوب المباشرة عن جماعة من الأصحاب، كالشهيدين و ابن فهد و المحقّق الثاني و غيرهم، لكن قال العلّامة في محكيّ «المنتهى»: «لو أمر غيره فطلب الماء فلم يجده، لم يكتف به؛ لأنّ الخطاب بالطلب للمتيمّم، فلا يجوز أن يتولّاه غيره، كما لا يجوز له أن ييمّمه»، و من المعلوم ابتناؤه على أمرين:

أحدهما: كون وجوب الطلب نفسياً أو غيرياً.

و ثانيهما: عدم كونه من موارد النيابة، لعدم الدليل عليه بعد اقتضاء الأصل الأوّلي المباشرة.

و قد عرفت بطلان الأمر الأوّل، و أنّ وجوب الطلب لا يكون إلّا حكماً عقلياً، ناشئاً من لزوم إحراز العذر عن ترك المطلوب المطلق.

و قد عرفت أيضاً: أنّه ليس المراد بعدم الوجدان ما يقتضيه الجمود عليه من مدخلية الطلب و الفحص، بل يجتمع ذلك مع عدم الماء و لو كان محرزاً بالعلم، أو ما يقوم مقامه من الاطمئنان الذي هو علم عرفي، أو البيّنة المعتبرة في الموضوعات.

و عليه فالاكتفاء بحصول الاطمئنان من قول شخص أو أشخاص لا يتوقّف على الاستنابة، و كون طلبه أو طلبهم بعنوان النيابة الراجعة إلى جعل النائب نفسه في النيّة كأنّه هو المنوب عنه، بل يكفي طلبهم و لو لأجل أنفسهم؛ لأنّ الملاك ليس حصول الطلب من المكلّف و لو بالاستنابة، بل هو عنوان عدم الوجدان بالمعنى المذكور، و هو لا يتوقّف عليها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 228

[مسألة 3: لو كانت الأرض في بعض الجوانب حزنة]

مسألة 3: لو كانت الأرض في بعض الجوانب حزنة، و في بعضها سهلة، يكون لكلّ جانب حكمه من الغلوة و الغلوتين. (1)

______________________________

و ممّا ذكرنا ظهر: أنّ البيّنة أيضاً كافية، سواء شهدتا بعدم الماء في الجهات، أو بعدم العثور عليه فيها،

كما أنّ الاكتفاء بمطلق الأمين و الثقة محلّ إشكال، بل منع، لما قرّرناه من عدم حجّية ما هو من سنخ البيّنة إذا كان فاقداً لبعض جهاتها من العدد و العدالة.

(1) بلا خلاف، و يدلّ عليه إطلاق رواية السكوني المتقدّمة، بعد إفادتها لزوم الطلب في الجوانب الأربعة على ما مرّ سابقاً، نعم لو كان الجانب الواحد بعضه حزناً و بعضه سهلًا، فقد قال في «جامع المقاصد»: «توزع الحكم بحسبها»، و الظاهر أنّه يبتني على فهم المناط من الرواية، و هو و إن كان غير بعيد إلّا أنّ الاحتياط بمعاملته معاملة السهلة، خصوصاً بعد كون الحكم أوّلًا بمقتضى نظر العقل وجوب الطلب إلى حدّ اليأس، لا يترك في ذلك.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 229

[مسألة 4: المناط في السهم و القوس و الهواء و الرامي هو المتعارف المعتدل]

مسألة 4: المناط في السهم و القوس و الهواء و الرامي هو المتعارف المعتدل، و أمّا المناط في الرمي فغاية ما يقدر الرامي عليه. (1)

______________________________

(1) أمّا كون المناط في غير الرمي على ما هو المتعارف، فلكون النصّ محمولًا عليه و منصرفاً إليه.

و أمّا كون المناط في الرمي هي غاية ما يقدر الرامي عليه، فلما عرفت في معنى الغلوة الواقعة في الرواية بحسب العرف و اللغة، نعم يرجع في تشخيص الغاية و تحقّق أقصاها إلى العرف لا محالة.

و أمّا ما حكي عن «العين» و «الأساس» من أنّ الفرسخ التامّ خمس و عشرون غلوة، و عن ابن شجاع من أنّ الغلوة ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة، و عن «الارتشاف» من أنّها مائة باع و أنّ الميل عشرة غلاء. فإن كان كلّها أو بعضها موافقاً لأقصى الغاية عرفاً فهو، و إلّا فلا دليل على الاعتبار بوجه، خصوصاً بعد عدم ارتباط ذلك

بما هو فنّهم من تشخيص المعنى اللغوي دون تحديد المصداق، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 230

[مسألة 5: لو ترك الطلب حتّى ضاق الوقت]

مسألة 5: لو ترك الطلب حتّى ضاق الوقت تيمّم و صلّى و صحّت صلاته و إن أثم بالترك، و الأحوط القضاء خصوصاً فيما لو طلب الماء لعثر به، و أمّا مع السعة بطلت صلاته و تيمّمه فيما لو طلب لعثر به، و إلّا فلا يبعد الصحّة لو حصلت نيّة القربة منه. (1)

______________________________

(1) حكم الصلاة مع ترك الطلب يقع الكلام في هذه المسألة في فرضين:

الأوّل: ضيق الوقت، و قد اختار في المتن فيه صحّة الصلاة، و ثبوت الإثم بالترك، و احتاط بالقضاء، خصوصاً في صورة العثور على الماء لو لم يترك الطلب.

أمّا صحّة الصلاة: ففي «المدارك» أنّه المشهور، و عن «الروض» نسبته إلى فتوى الأصحاب، و في «الجواهر» أنّه الأظهر الأشهر، و الظاهر أنّه لم يصرّح أحد بالبطلان، بل لا يظهر منه ذلك؛ لأنّ الحكم بوجوب الإعادة في الفرض كما عن ظاهر «النهاية» و «المبسوط» و «الخلاف» و «السرائر» و «النافع» و «الدروس» لا دلالة فيه على عدم الصحّة؛ لأنّه يجتمع معها أيضاً، غاية الأمر عدم كون الصحّة عندهم ملازمة للإجزاء و نفي وجوب الإعادة، و قد احتمل في بعضها أن يكون مورده هو الفرض الثاني، فراجع.

و كيف كان: فالحكم بالصحّة في هذا الفرض يبتني على أنّ نفس ضيق الوقت الموجب لعدم القدرة على إتيان الصلاة مع الطهارة المائية في الوقت من أسباب العجز، الموجب لانتقال الفرض إلى التيمّم و لو على تقدير وجود الماء، فضلًا عن احتماله، كما سيأتي.

و ليس المراد من عدم الوجدان الماء المعلّق عليه شرعيته إلّا عدم وجدان

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 231

..........

______________________________

ما يمكن استعماله مع حفظ الوقت، ضرورة أنّه ليس المراد به هو عدمه للتالي و إلى آخر العمر، فمرجع الانتقال إلى التيمّم إلى أنّ مصلحة الوقت تقتضي رفع اليد عمّا هو عليه الصلاة مع المائية من المصلحة الكاملة، و لزوم الاقتصار على الصلاة مع الترابية و إن كانت مصلحتها ناقصة كما عرفت، نعم يبقى أمران:

أحدهما: دعوى انصراف الدليل إلى ما لا يكون سببه المكلّف عصياناً، و بعبارة أُخرى ما لا يكون هناك تفريط.

و يدفعها: مضافاً إلى منعها، أنّ لازم ذلك جواز ترك الصلاة في الوقت مع القدرة على الإتيان بها مع الترابية، و لا يمكن الالتزام به أصلًا، و لأجله لا محيص عن الحكم بالصحّة حتّى فيما لو أراق الماء عمداً مع العلم بعدمه بعده، بل فيما لو ترك الوضوء بالماء الموجود عمداً حتّى لو ضاق الوقت و لم يسع للوضوء، فإنّه في جميع هذه الموارد لا بدّ من الحكم بالصحّة و إن تحقّق الإثم و العصيان، و السرّ فيه ما عرفت من اهتمام الشارع بالوقت، بحيث لا يساويه شي ء من الأُمور المعتبرة في الصلاة.

ثانيهما: شرطية الطلب في صحّة التيمّم، فمع الإخلال به لا وجه لها.

و قد مرّ الجواب عن ذلك في بعض الأُمور السابقة، و عرفت أنّ لزوم الطلب ليس إلّا حكماً عقلياً، منشؤه لزوم تحصيل الطهارة المائية، و لا يكون نفسياً و لا غيرياً. و عرفت أيضاً أنّ الأمر به في رواية زرارة المتقدّمة لا دلالة فيه على الشرطية، بل هو إرشاد إلى ما هو مقتضى حكم العقل، فلا مجال للإشكال في الصحّة.

و أمّا وجوب القضاء بعد الوقت: فقد نسبه في محكيّ «الحدائق» إلى

المشهور، و الذي يمكن أن يكون وجهاً له أحد أُمور ثلاثة:

أحدها: المنع من اقتضاء أدلّة مشروعية التيمّم للإجزاء، و لا أقلّ فيما إذا كان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 232

..........

______________________________

السبب المسوّغ له هو التفريط، و نفس المكلّف عصياناً.

و يردّه: وضوح خلافه و أنّ ظاهر أدلّة مشروعية الإجزاء و عدم وجوب الإعادة أو القضاء و لا فرق بين موارد المشروعية و سيأتي الكلام فيه مفصّلًا إن شاء اللّه تعالى.

ثانيها: ما جعله في «الحدائق» مستنداً للمشهور، و هو ما رواه الشيخ عن أبي بصير قال: سألته عن رجل كان في سفر و كان معه ماء فنسيه فتيمّم و صلّى، ثمّ ذكر أنّ معه ماء قبل أن يخرج الوقت.

قال

عليه أن يتوضّأ و يعيد الصلاة ..

الحديث. «1» و الجواب: أنّ ظاهر الخبر المذكور أوّلًا إنّما هو النسيان، و هو أخصّ من المدّعى، و ثانياً أنّ تيمّمه وقع في السعة، و هو خلاف المفروض في كلامهم.

ثالثها: تردّد المكلّف به المعلوم بالإجمال بين الصلاة مع التيمّم في الوقت، و القضاء في خارجه، فيجب الجمع بين الأمرين.

و هذا الوجه بظاهره فاسد؛ لأنّه لا يكون المكلّف به مردّداً بين الصلاة في الوقت، و بينها في خارجه، لما عرفت من أنّه لا إشكال في لزوم رعاية الوقت و الإتيان بالصلاة فيه، و لم يناقش المشهور في صحّة الصلاة الواقعة فيه، إنّما الإشكال في وجوب القضاء بعد الوقت أيضاً، فالمكلّف به لا يكون مردّداً بين الأمرين بوجه.

نعم، ربّما يوجّه هذا الأمر بأنّه كان مكلّفاً في سعة الوقت بإتيان الصلاة مع الطهارة المائية، و قد فوّتها بسوء اختياره عصياناً، فعليه قضاؤها، و إنّما يجب عليه الصلاة مع التيمّم أيضاً؛

لأنّ الصلاة لا تسقط بحال، و اقتضاء الأمر الاضطراري للإجزاء إنّما هو بالإضافة إلى أمره، لا بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي أيضاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 233

..........

______________________________

و يدفعه: ما قرّر في محلّه من أنّه ليس في البين إلّا أمر واحد متعلّق بالصلاة مع الطهارة، غاية الأمر اختلاف حالتي الاختيار و الاضطرار في تحصيل الطهارة، و اختصاص الاولى بالطهارة المائية، و الثانية بالطهارة الترابية، و قد عرفت أنّه لا فرق بينما إذا كان الاضطرار حاصلًا بغير سوء الاختيار، أو بسوئه أصلًا، و أنّ ظاهر أدلّة مشروعية التيمّم هو الإجزاء و عدم لزوم الإعادة أو القضاء، نعم لا ينبغي ترك الاحتياط بالقضاء خروجاً من مخالفة المشهور، خصوصاً فيما لو علم أنّه لو طلب لعثر على الماء.

ثمّ إنّ وجه حصول الإثم و تحقّق العصيان في الفرض المذكور مع صحّة الصلاة مع التيمّم و عدم وجوب القضاء كما مرّ، ما عرفت في بعض الأُمور المذكورة قبل الورود في شرح فصل التيمّم، من أنّ الصلاة مع الترابية بدل اضطراري سوّغه العجز عن تحصيل الطهارة المائية، و لا يجوز إيجاد حالة العجز لاستلزامه فوت المصلحة الكاملة التي تجب رعايتها، و مع ذلك لا تجب الإعادة و القضاء، بل يجوز البدار و الاستيجار، و تحصل الاستباحة للغايات غير المضطرّ إليها، و لا منافاة بين الجهتين، فراجع.

الفرض الثاني: سعة الوقت، و في «الجواهر» بطلانه قطعاً و إجماعاً منقولًا إن لم يكن محصّلًا، لما دلّ على اشتراط صحّته به، و لا فرق بين أن يصادف عدم الماء بعد الطلب، و عدمه.

أقول: غير خفي أنّ دعوى الإجماع في مثل هذا الفرع

الاجتهادي الذي يبتني على الأدلّة المتراكمة العقلية و النقلية غير وجيهة جدّاً، فلا ينبغي الاتّكال عليها.

و أمّا اشتراط صحّة التيمّم بالطلب، فقد مرّ أنّ الطلب لا يكون وجوبه غيرياً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 234

..........

______________________________

و من باب الشرطية للتيمّم حتّى يكون الإخلال به إخلالًا بالشرط، فالحكم بالبطلان من هذا الطريق غير صحيح.

و الذي ينبغي أن يقال: هو التفصيل بين ما إذا كان على فرض الطلب واجداً للماء، و بين ما إذا لم يكن كذلك.

ففي الصورة الاولى: يكون تيمّمه باطلًا؛ لأنّ الانتقال إلى التيمّم بحسب ما تقتضيه الأدلّة إنّما هو فيما إذا عدم الماء الذي يمكن استعماله في الوضوء و الغسل، إمّا لفقده أو لعدم وجدانه، و لا مدخليّة للطلب موضوعاً و لا لعنوان عدم الوجدان كما مرّ، و من المعلوم وجود الماء في المقام، و إمكان تحصيل الطهارة المائية على ما هو المفروض، فالتيمّم لا يكون مشروعاً بالإضافة إليه؛ لعدم تحقّق المعلّق عليه بوجه.

و في الصورة الثانية: لا يبعد الحكم بالصحّة مع تمشّي قصد القربة لتحقّق موضوع التيمّم، و هو فقدان الماء و عدم اشتراط الطلب في صحّته، و عدم كون العلم به دخيلًا في الموضوع من غير فرق بين ما إذا استمرّ العدم إلى آخر الوقت، و بين ما إذا كان في حال الصلاة فقط، بناء على جواز البدار لعدم الفرق بين المقام، و بين سائر الموارد التي يشرع الصلاة مع التيمّم فيها في سعة الوقت، و تدلّ عليه الآية، و مثل صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام) فإن أصاب الماء و قد صلّى بتيمّم و هو في وقت.

قال

تمّت صلاته، و لا إعادة عليه.

«1» فإنّ

مفادها عدم وجوب الإعادة على من صلّى في الوقت بتيمّم مطلقاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 235

..........

______________________________

ثمّ إنّ ظاهر المتن باعتبار عدم التعرّض للإثم في صورة الصحّة في الفرض الثاني هو عدم تحقّق الإثم، كما أنّ ظاهره حصوله في كلتا صورتي الفرض الأوّل، مع أنّ المسلّم باعتبار ما ذكرنا هو حصوله في خصوص الصورة الاولى من الفرض الأوّل، و هي ما لو طلب لعثر بالماء، فإنّ المكلّف حينئذٍ يكون بالتأخير إلى ضيق الوقت مفوّتاً للمصلحة الكاملة الواجبة الرعاية، لأجل إمكان تحصيلها على ما هو المفروض، فهو عاص حقيقة.

و أمّا في صورة عدم كون الطلب موصلًا للمكلّف إلى الماء، فلا يبقى مجال لثبوت الإثم إلّا من باب التجرّي و احتمال وجدان الماء، و حكم العقل و الشرع بلزوم ترتيب الأثر عليه.

نعم، لو التزم بكون وجوب الطلب نفسياً كما عرفت سابقاً أنّه ظاهر جماعة، يكون تحقّق الإثم لأجل الإخلال بالواجب النفسي، لكن قد مرّ بطلان هذا المبنىٰ.

كما أنّه لو التزم بكون المراد بعدم الوجدان المعلّق عليه شرعية التيمّم هو ما يقتضيه الجمود عليه من حصول اليأس بعد الفحص و الطلب، يكون حصول الإثم خالياً عن الإشكال، لكنّه حينئذٍ لا يجتمع مع الحكم بصحّة التيمّم و الصلاة معه؛ لأنّ الإثم الثابت حينئذٍ إنّما هو لأجل الإخلال بالصلاة الواجبة عليه، و المتن يصرّح بالصحّة في كلا الفرضين، فلا يبقى مجال للإثم إلّا إذا لم يكن المراد بالإثم ما يساوق العصيان، بل أعمّ منه و من الخطإ الذي وقع التعبير به في كلمات جماعة من الأعلام كالفاضلين في «الشرائع» و «القواعد» فتدبّر جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 236

[مسألة 6: لو طلب بالمقدار اللازم فتيمّم و صلّي، ثمّ ظفر بالماء]

مسألة 6: لو طلب بالمقدار اللازم فتيمّم و صلّي، ثمّ ظفر بالماء في محلّ الطلب، أو في رحله أو قافلته صحّت صلاته، و لا يجب القضاء أو الإعادة. (1)

______________________________

(1) حكم ما لو ظفر بالماء بعد الصلاة الظاهر أنّه من صغريات المسألة الآتية التي حكم فيها بعدم وجوب الإعادة على من صلّى بتيمّم صحيح، للنصوص الكثيرة الصريحة فيه، و ادّعاء جماعة الإجماع عليه.

لكنّه ربّما نوقش في ذلك: بأنّ موضوع تلك المسألة هو التيمّم الصحيح، و هو أوّل الكلام هنا؛ لأنّه انكشف كونه واجداً للماء حقيقة، فلم يكن التيمّم مشروعاً له.

و تندفع المناقشة بما مرّ من أنّ المراد بعدم الوجدان المعلّق عليه شرعية التيمّم، هو عدم الاهتداء إلى ما يمكن استعماله في الطهارة المائية، سواء كان الماء غير موجود واقعاً، أو كان موجوداً، و لكنّ المكلّف لم يهتد إليه مع الطلب بالمقدار اللازم و بالنحو اللازم، فانكشاف الماء في محلّ الطلب، أو في رحله، أو في قافلته لا يكشف عن بطلان التيمّم بوجه.

نعم، لو اعتقد عدم الماء، و لأجله ترك الطلب و الفحص مع وجوده واقعاً في محلّ الطلب، لكان اللازم عليه الإعادة أو القضاء؛ لعدم كون الواقعة بحيث لا يهتدي المكلّف بماء يمكن له استعماله، و مجرّد اعتقاد العدم لا يؤثّر إلّا في المعذورية، و عدم ترتّب العقاب على المخالفة مع كون التكليف بحسب الواقع هي الصلاة مع الطهارة المائية، و فرق واضح بين انقلاب التكليف، و بين المعذورية في مخالفة التكليف الأوّل.

و منه يظهر وجوب الإعادة على واجد الماء الذي نسيه و اعتقد عدم تمكّنه من استعماله فتيمّم و صلّى، سواء تحقّق الطلب أم لا؛ لأنّه واجد له

و إن كان غافلًا عنه، و

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 237

[مسألة 7: يسقط وجوب الطلب مع الخوف على نفسه أو عرضه أو ماله]

مسألة 7: يسقط وجوب الطلب مع الخوف على نفسه أو عرضه أو ماله المعتدّ به من سبع أو لصّ أو غير ذلك، و كذلك مع ضيق الوقت عن الطلب، و لو اعتقد الضيق فتركه و تيمّم و صلّى، ثمّ تبيّن السعة، فإن كان في مكان صلّى فيه فليجدّد الطلب مع سعة الوقت، فإن لم يجد الماء تجزي صلاته، و إن وجده أعادها، و مع عدم السعة فالأحوط تجديد التيمّم و إعادة الصلاة، و كذا في الفروع الآية التي حكمنا فيها بالإعادة مع عدم إمكان المائية، و إن انتقل إلى مكان آخر فإن علم بأنّه لو طلبه لوجده يعيد الصلاة، و إن كان في هذا الحال غير قادر على الطلب و كان تكليفه التيمّم، و إن علم بأنّه لو طلب لما ظفر به صحّت صلاته و لا يعيدها، و مع اشتباه الحال ففيه إشكال، فلا يترك الاحتياط بالإعادة أو القضاء. (1)

______________________________

عدم الوجدان في غير محلّ وجود الماء كالرحل و نحوه لا يوجب الانقلاب، و يدلّ عليه مع ذلك خبر أبي بصير المتقدّم قال: سألته عن رجل كان في سفر، و كان معه ماء فنسيه فتيمّم و صلّى، ثمّ ذكر أنّ معه ماء قبل أن يخرج الوقت.

قال

عليه أن يتوضّأ، و يعيد الصلاة.

«1» (1) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين:

موارد سقوط وجوب الطلب المقام الأوّل: في موارد سقوط وجوب الطلب، و قد صرّح في المتن بسقوطه في موردين:

أحدهما: مورد الخوف على نفسه أو عرضه أو ماله المعتدّ به من سبع أو لصّ أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم،

الباب 14، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 238

..........

______________________________

غير ذلك، و يدلّ عليه مضافاً إلى ملاحظة النكتة في تشريع التيمّم المذكورة في الآية الشريفة، و هي عدم تعلّق إرادة اللّه تعالى بأن يجعل على الناس من حرج روايتا داود الرقّي و يعقوب بن سالم المتقدّمتان.

قال الأوّل: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام) أكون في السفر فتحضر الصلاة و ليس معي ماء، و يقال إنّ الماء قريب منّا، فأطلب الماء و أنا في وقت يميناً و شمالًا.

قال

لا تطلب الماء، و لكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك التخلّف عن أصحابك، فتضلّ و يأكلك السبع.

«1» و قال الثاني: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن رجل لا يكون معه ماء، و الماء عن يمين الطريق و يساره غلوتين أو نحو ذلك.

قال

لا آمره أن يغرّر بنفسه، فيعرض له لصّ أو سبع.

«2» ثانيهما: مورد ضيق الوقت، و قد عرفت أنّ الانتقال إلى التيمّم مع عدم وجدان الماء إنّما هو لحفظ مصلحة الوقت و رعايتها، و أنّ المراد بعدم الوجدان هو عدمه بحيث يمكن الصلاة مع المائية في الوقت، فإذا ضاق الوقت عن الطلب فلا يكون واجباً بوجه، و يشهد له أيضاً ذيل صحيحة زرارة المتقدّمة، فراجع.

ما لو اعتقد ضيق الوقت فتبيّن خلافه المقام الثاني: فيما لو اعتقد الضيق فترك الطلب و تيمّم و صلّى ثمّ تبيّن السعة، فتارة يكون في مكان صلّى فيه، و اخرى قد انتقل منه إلى مكان آخر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 2، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 2، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 239

..........

______________________________

ففي الصورة الأُولى: يجب عليه الطلب

أو تجديده كما في المتن و إن كان فيه مسامحة لأنّ المفروض أنّه لم يطلب بعد لاعتقاده ضيق الوقت مع سعة الوقت فعلًا و إمكان الطلب، ثمّ إيقاع الصلاة في الوقت، و الدليل على وجوبه هو الدليل على أصل وجوب الطلب بعد عدم كون اعتقاد الضيق بمجرّده مصحّحاً و موجباً للانقلاب، ضرورة أنّ المصحّح هو ضيق الوقت واقعاً، و قد انكشف خلافه بتبيّن السعة، فأصل وجوب الطلب باق بحاله في هذه الصورة، فإذا تحقّق الطلب فإن لم يجد الماء تجزي صلاته؛ لأنّه بالطلب و عدم الوجدان ينكشف أنّ المصحّح للانقلاب و المعلّق عليه شرع التيمّم كان موجوداً و التيمّم كان مشروعاً، فلا وجه لتوهّم بطلانه و بطلان الصلاة. و إن وجد الماء تجب عليه الإعادة؛ لأنّه بالوجدان يتبيّن أنّه لم يكن مصحّح للتيمّم و موجب للانقلاب أصلًا، لا من جهة ضيق الوقت، و لا من ناحية فقدان الماء، فلا مجال لتوهّم صحّته و صحّة الصلاة معه.

و أمّا إذا لم يسع الوقت فعلًا للطلب و إن كان يسع له حين إرادة الصلاة كما هو المفروض فقد احتاط في المتن وجوباً بتجديد التيمّم و إعادة الصلاة، و الظاهر أنّ الوجه فيه أنّه يجري فيه احتمالان؛ فإنّه من جهة أنّ اعتقاد الضيق كان خطأً، و أنّه كانت وظيفته الطلب، و قد تركها باعتقاده الضيق، فالتيمّم لم يكن مشروعاً بالإضافة إليه تجب عليه الإعادة و التجديد، و من جهة أنّه لا يمكن الطلب فعلًا؛ لعدم سعة الوقت واقعاً، و لا مجال لتكرار الصلاة مع الترابية، لعدم ثبوت ترجيح لأحدهما على الآخر، فلا تجب عليه الإعادة بوجه، و مع جريان الاحتمالين يشكّ في تحقّق امتثال التكليف المتوجّه إليه قطعاً، و

مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم تحقّق الفراغ اليقيني المتوقّف على التجديد و الإعادة، فلا بدّ من الاحتياط.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 240

..........

______________________________

و في الصورة الثانية: و هي ما لو انتقل منه إلى مكان آخر فروع:

الأوّل: ما لو علم بأنّه لو تحقّق الطلب في مكان الصلاة مع التيمّم لوجد الماء، و لا مجال للإشكال في وجوب الإعادة حينئذٍ، و إن كان في هذا الحال غير قادر على الطلب، و يكون تكليفه التيمّم؛ لأنّه كانت وظيفته الطلب لفرض السعة، و اعتقاد الضيق بمجرّده لا يكون موجباً للانقلاب، و قد تبيّن فعلًا أنّه لو تحقّق الطلب لوجد الماء، فهو في حال الصلاة كان واجداً للماء واقعاً، و يمكنه الاهتداء إليه بالطلب، فلا وجه لصحّة صلاته.

نعم، لو كان في هذا الحال غير قادر على الطلب لا مناص عن الالتزام بكون تكليفه الفعلي هو التيمّم، فالتيمّم الأوّل كان باطلًا قطعاً و إن كان لا يقدر على الصلاة مع المائية فعلًا.

الثاني: ما لو علم بأنّه لو طلب لما وجد الماء و لما ظفر به، و الوجه فيه صحّة صلاته و عدم لزوم الإعادة، لما عرفت من أنّ وجوب الطلب لا يكون وجوباً غيريّاً، بحيث كان له مدخلية في صحّة الصلاة مع التيمّم، مع أنّ وجوبه إنّما هو في مورد احتمال وجود الماء؛ لبطلان الوجوب النفسي أيضاً كما عرفت، إلّا أن يقال: إنّ ترك الطلب لم يكن لأجل العلم بعدم وجدان الماء، فإنّ العلم إنّما حدث فعلًا، بل كان لأجل الاعتقاد بضيق الوقت، و المفروض خطاؤه.

و لكنّ ذلك لا يقتضي جريان المناقشة في صحّة صلاته بعد العلم فعلًا بعدم وجوب الطلب في حال الصلاة؛ لعدم وجود الماء

في محلّ الطلب، فصلاته صحيحة إلّا على تقدير عدم الاجتزاء بالصلاة مع التيمّم الصحيح مطلقاً، و سيأتي خلافه إن شاء اللّه تعالى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 241

[مسألة 8: الظاهر عدم اعتبار كون الطلب في وقت الصلاة]

مسألة 8: الظاهر عدم اعتبار كون الطلب في وقت الصلاة، فلو طلب قبل الوقت و لم يجد الماء لا يحتاج إلى تجديده بعده، و كذا إذا طلب في الوقت لصلاة فلم يجد يكفي لغيرها من الصلوات.

نعم، لو احتمل تجديد الماء بعد ذلك الطلب مع وجود أمارة ظنّية عليه، بل مطلقاً على الأحوط، يجب تجديده. (1)

______________________________

الثالث: ما لو اشتبه الحال، و فيه إشكال ينشأ من وجوب الطلب في حقّه في ظرفه، لاحتمال وجود الماء في محلّ الطلب، و عدم كون اعتقاد الضيق بمجرّده رافعاً له، فكانت وظيفته الطلب ثمّ الصلاة، و من أنّه لا يجب عليه الطلب فعلًا؛ لعدم القدرة عليه من جهة الضيق أو غيره، و لا مزية لإحدى الصلاتين على الأُخرىٰ؛ لأنّ كلّاً منهما وقعت مع الطهارة الترابية، و حيث إنّه لا ترجيح لأحد المنشأين فاللازم رعاية الاحتياط بالإعادة أو القضاء، فتدبّر.

(1) في عدم اعتبار كون الطلب في وقت الصلاة قال العلّامة (قدّس سرّه) في محكيّ «المنتهى»: «لو طلب قبل الوقت لم يعتدّ به و وجبت إعادته، لأنّه طلب قبل المخاطبة بالتيمّم فلم يسقط فرضه، كالشفيع لو طلب قبل البيع».

إلى أن قال: «لا يقال: إذا كان قد طلب قبل الوقت، و دخل الوقت و لم يتجدّد حدوث ماء، كان طلبه عبثاً. لأنّا نقول: إنّما يتحقّق أنّه لم يحدث ماء إذا كان ناظراً إلى مواضع الطلب، و لم يتجدّد فيها شي ء، و هذا يجزئه بعد دخول الوقت؛ لأنّ هذا هو الطلب، و

أمّا إذا غاب عنه جاز أن يتجدّد فيها حدوث الماء، فاحتاج إلى الطلب».

و ظاهر الذيل هو الفرق بين الطلب قبل الوقت و بعده، و وجوب التجديد مع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 242

..........

______________________________

احتمال العثور في الأوّل و عدمه في الثاني.

و يظهر ذلك من المحقّق في المعتبر و الشهيد أيضاً، و استدلّ عليه في «الجواهر».

تارة: بظاهر ما دلّ على وجوبه من الإجماعات و غيرها، و هو لا يتحقّق إلّا بعد الوقت.

و اخرى: بأنّ صدق عدم الوجدان يتوقّف على الطلب في الوقت.

و ثالثة: بظهور الآية في إرادة عدم الوجدان عند إرادة التيمّم للصلاة و القيام إليها.

و رابعة: بصحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة على أنّه إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت ..

و خامسة: بأنّه لو اكتفى به قبل الوقت لصحّ الاكتفاء به مرّة واحدة للأيّام المتعدّدة، و هو معلوم البطلان.

و سادسة: بأنّ المنساق إلى الذهن من الأدلّة إرادة الطلب عند الحاجة إلى الماء. ثمّ استشكل في الاستصحاب بأنّه لا يعارض ما ذكره من ظهور أدلّة شرطية الطلب في اعتبار أن يكون بعد الوقت.

و أنت خبير بأنّ مقتضى أدلّته عدم الاكتفاء بالطلب قبل الوقت مطلقاً و لو لم يحتمل تجدّد الماء بعد ذلك الطلب، و إن كان الاقتصار على الاستصحاب في مقام بيان المعارضة، و الاستشكال فيه ربّما يعيّن كون محلّ كلامه خصوص صورة احتمال تجدّد الماء، و لا يشمل صورة العلم باستمرار العدم الأوّل.

و كيف كان: فإن كان المراد عدم الاكتفاء بالطلب قبل الوقت مطلقاً:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 243

..........

______________________________

فيرد على دليله الأوّل: ما عرفت من أنّ وجوب الطلب لا يكون شرعياً بوجه،

بل هو حكم عقلي، منشؤه حفظ المطلوب المطلق، و تحصيل الصلاة مع المائية، و لا دليل على الوجوب غير حكم العقل و لو فرض فهو إرشاد إليه، مع أنّ القدر المتيقّن من الإجماع هو وجوب الطلب، و أمّا لزوم وقوعه في الوقت فهو أمر زائد، لا يعلم مدخليته في معقد الإجماع بوجه.

و على دليله الثاني: أنّ توقّف عدم الوجدان على الطلب في الوقت أوّل الكلام، بل ممنوع؛ لأنّ الظاهر كون المراد منه هو عدم الوجدان في الوقت، و هو لا يتوقّف على الطلب فيه، بل يمكن وقوعه قبله، ثمّ إحرازه في الوقت بالعلم باستمرار العدم الأوّل، أو بالاستصحاب، و لا مانع لأن يكون الأصل محقّقاً لموضوع وجوب التيمّم و مشروعيته.

و دعوى: أنّ شرط التيمّم هو عدم وجدان الماء، و هو صفة اعتبارية وجودية، و لا يحرز بالاستصحاب لعدم حجّية الأُصول المثبتة.

مدفوعة: بما عرفت في بيان المراد من عدم الوجدان المعلّق عليه شرعية التيمّم، من أنّه عبارة عن عدم الماء الذي يمكن عقلًا و شرعاً استعماله في الطهارة، فإذا علم بعدم وجوده علم بتحقّقه، و لا وجه بعده للطلب، كما أنّه مع الطلب و عدم الوجدان يتحقّق الموضوع، و في هذا الفرض إذا كان الطلب قبل الوقت و لم يجد الماء يستصحب عدم الوجدان في الوقت، و يتحقّق موضوع التيمّم.

و على دليله الثالث: ما أوردناه على سابقه من إحراز عدم الوجدان حين إرادة التيمّم و الصلاة بالعلم أو بالاستصحاب، مع أنّ لازمه عدم الاكتفاء بالطلب في أوّل الوقت إذا أراد التيمّم و الصلاة في وسط الوقت أو آخره، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 244

..........

______________________________

و على دليله الرابع: ما

ذكرناه سابقاً من أنّه لا محيص عن حمل الصحيحة على الاستحباب، جمعاً بينها و بين رواية السكوني المتقدّمة التي عمل بها الأصحاب قديماً و حديثاً.

و على دليله الخامس: منع كون صحّة الاكتفاء به مرّة واحدة للأيّام المتعدّدة معلوم البطلان بعد العلم أو جريان الاستصحاب، و إحراز عدم الوجدان به في جميعها، و قد صرّح في المتن بالاكتفاء.

و على دليله الأخير: ما عرفت من عدم دلالة الأدلّة على وجوب الطلب حتّى يكون المنساق إلى الذهن منها هو إرادته عند الحاجة إلى الماء، بل الدليل هو حكم العقل، و لا فرق بنظره بين الطلب قبل الوقت، و بعده أصلًا.

و إن كان المراد هو عدم الاكتفاء بالطلب قبل الوقت في خصوص ما إذا احتمل تجدّد الماء و حدوثه في الوقت، فإن لم يكن لاحتماله منشأ عقلائي، و لا يكون معتدّاً به عندهم، فالظاهر عدم لزوم الطلب في الوقت؛ لجريان استصحاب عدم الوجدان المحقّق لموضوع التيمّم و مشروعيته.

و إن كان لاحتماله منشأ كذلك، كما إذا نزل المطر بعد الطلب، و احتمل اجتماع الماء في محلّ الطلب بقدر ما يكفيه لطهارته من الوضوء أو الغسل، فقد ذكر في «المستمسك» أنّ الظاهر وجوب الطلب ثانياً و إن وقع الأوّل في الوقت؛ لظهور النصّ في أنّه يعتبر في صحّة التيمّم و الصلاة به بقاء المكلّف على الحالة التي كان عليها.

و بعبارة أُخرى: ظاهر النصّ الدال على اعتبار الطلب في صحّة التيمّم ظاهراً إنّما هو اعتبار نفس الحالة التي تحصل للطالب بعد الطلب، و هو اليأس من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 245

..........

______________________________

القدرة على الماء، لا اعتبار نفس السعي و الطلب، فإذا فرض زوال تلك الحالة بحدوث

ما يوجب رجاء القدرة عليه، وجب تحصيلها ثانياً.

و مرجع هذا الكلام إلى عدم اعتبار الاستصحاب في المقام؛ لأنّه مع بقاء تلك الحالة لا حاجة إليه، و مع عدم بقائها لا تتحقّق بالاستصحاب كما هو ظاهر.

مع أنّك عرفت أيضاً: أنّ الطلب لا يكون معتبراً في صحّة التيمّم، بحيث يكون وجوبه غيرياً، بل مفاد الآية تعليق المشروعية على عدم الوجدان، و قد مرّ تفسير عدم الوجدان، و أنّ المراد منه هو عدم الماء الذي يمكن عقلًا و شرعاً استعماله في الطهارة، و أنّه يمكن إحرازه بالاستصحاب.

و على ما ذكرنا: فالحكم بوجوب تجديد الطلب مع وجود أمارة ظنّية على حدوث الماء، بل مطلقاً على الأحوط كما في المتن، إن كان منشؤه عدم جريان الاستصحاب في المقام، فيرد عليه مضافاً إلى أنّه لا وجه لعدم جريانه كما صرّح به في «الرسالة» أنّه لا يبقى فرق حينئذٍ بين وجود الأمارة الظنّية و عدمه، فالفرق بينهما بالفتوى بوجوب التجديد في الأوّل و بالاحتياط به في الثاني كما هو ظاهره باعتبار تقديم الأحوط على الحكم بوجوب التجديد، فتدبّر غير ظاهر، إلّا أن يكون المراد بالأمارة الظنّية هو الأمارة المعتبرة شرعاً، كالبيّنة و خبر الواحد على مبناه، و لكنّه خلاف الظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 246

[مسألة 9: إذا لم يكن عنده إلّا ماء واحد يكفي الطهارة، لا تجوز إراقته بعد دخول الوقت]

مسألة 9: إذا لم يكن عنده إلّا ماء واحد يكفي الطهارة، لا تجوز إراقته بعد دخول الوقت، و لو كان على وضوء، و لم يكن عنده ماء، لايجوز إبطاله. و لو عصى فأراق أو أبطل صحّ تيمّمه و صلاته، و إن كان الأحوط قضاؤها، بل عدم جواز الإراقة و الإبطال قبل الوقت مع فقد الماء حتّى في الوقت لا يخلو من

قوّة. (1)

______________________________

(1) قد تقدّم البحث في هذه المسألة في بعض الأُمور التي قدّمناها على الورود في شرح فصل التيمّم، و ذكرنا هناك أنّ المطلوب المطلق هي الصلاة مع الطهارة المائية، و أنّ الانتقال إلى التيمّم إنّما هو في حال الاضطرار و العجز عن تحصيل المطلوب المطلق.

و ذكرنا أيضاً: أنّ الصلاة مع الترابية لا تفي بتمام ما عليه الصلاة مع المائية من المصلحة الواجبة الرعاية، و عليه فلا يجوز الإبطال أو الإراقة من دون فرق بين ما إذا دخل الوقت، و ما إذا لم يدخل؛ لعدم كون المقدّمة واجبة من أجل التبعية، بل عدم كونها واجبة شرعاً بالمرّة؛ لأنّ وجوب الإتيان بها عقلي محض، و لا فرق في لزوم تحصيل المقدّمة و حفظها بين الوقت و قبله.

و لا ينافي ما ذكرنا صحّة التيمّم و الصلاة على فرض الإبطال و الإراقة، لأنّه على هذا الفرض يتحقّق موضوع التيمّم و المشروعية، و قد مرّ أنّه لا يختصّ عدم الوجدان بما إذا لم يتحقّق هناك معصية، فالصحّة في المقام بلا مناقشة.

و لكنّه وقع الإشكال و الخلاف في القضاء و الإعادة، فعن الأكثر عدم الوجوب بالكلّية، و عن «المقنعة» و «الدروس» و «البيان» وجوب الإعادة.

و لكنّه ضعيف، لما سيأتي في المسألة الآتية من الاجتزاء بالصلاة مع التيمّم الصحيح، للنصوص الواردة، و لكنّ الاحتياط لا ينبغي أن يترك خروجاً من خلاف من أوجب الإعادة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 247

[مسألة 10: لو تمكّن من حفر البئر بلا حرج]

مسألة 10: لو تمكّن من حفر البئر بلا حرج وجب على الأحوط. (1)

[و منها: الخوف من الوصول إليه من اللصّ، أو السبع، أو الضياع]

و منها: الخوف من الوصول إليه من اللصّ، أو السبع، أو الضياع، أو نحو ذلك ممّا يحصل معه خوف الضرر على النفس، أو العرض، أو المال المعتدّ به، بشرط أن يكون الخوف من منشإ يعتني به العقلاء. (2)

______________________________

(1) و الوجه في الوجوب ما مرّ من تمكّنه من تحصيل الصلاة مع الطهارة المائية، التي هي المطلوب المطلق، الوافي بالمصلحة الكاملة التي تجب رعايتها.

و بعبارة اخرى: أنّه مع التمكّن من حفر البئر بلا حرج لا يكون عنوان عدم وجدان الماء محقّقاً بالإضافة إليه؛ لأنّه يقدر على الوصول إليه و إيجاده من غير حرج، كما هو المفروض.

و أمّا جعل الوجوب أحوط من دون الفتوى به جزماً؛ فلأنّه يمكن أن يقال بانصراف الدليل عن مثل ذلك، و أنّ القدرة على تحصيل الماء كذلك لا ينسبق إليها ذهن العرف، بل يكون مثل هذا المورد عندهم من مصاديق عدم الوجدان، و يمكن أن يقال بالفرق بينه، و بين ما إذا وهبه غيره بلا منّة و لا ذلّة، و إن جعلهما السيّد (قدّس سرّه) في «العروة» في صفّ واحد، فتدبّر.

(2) الثاني: في الخوف من الوصول إلى الماء هذا هو المسوّغ الثاني للتيمّم، و كان ينبغي أن يجعل عنوان هذا المسوّغ عدم الوصلة إلى الماء الموجود كما صنعه في «الرسالة» ليشمل ما إذا كان غير قادر على الوصول إلى الماء للتعذّر العقلي أو العادي، كما لو كان في بئر لا يمكنه إخراجه و الوصول إليه بوجه، أو كان في محلّ لا يمكنه الوصول إليه لكبر و نحوه، و منه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 248

..........

______________________________

عدم الثمن لشرائه، و كذا يشمل ما إذا كان الوصول إليه حرجياً، كما إذا كان في بئر يمكنه الوصول إليه مع الحرج و العسر، و قد جعل الماتن دام ظلّه الأخير مسوّغاً مستقلّاً، و سيأتي البحث فيه إن شاء اللّه تعالى.

و الدليل على مسوّغية الأوّل واضح، ضرورة أنّه مع التعذّر عقلًا أو عادة عن الوصول إلى الماء، لا يكاد يتحقّق إلّا عنوان عدم الوجدان المعلّق عليه مشروعية التيمّم؛ لأنّه ليس المراد به عدم وجود الماء، بل عدم الوصول إليه و لو كان موجوداً، كما هو المتفاهم منه عرفاً.

و أمّا مسوّغية الخوف، فيدلّ عليها دليل نفي الحرج.

و لكنّه ربّما يقال: إنّ الظاهر من عدم مجعولية الحرج في الدين أنّ أحكام الدين سهلة غير حرجية، و أنّ الحكم الحرجي غير مجعول في الشريعة، و من الواضح اختصاص ذلك بالأحكام المجعولة، فإذا لزم من الوضوء أو الغسل أو نحوهما حرج، يكشف ذلك عن عدم كونه مجعولًا بالإضافة إلى هذا الحال بالمرّة، و أمّا إذا كان الحرج في المقدّمات فلا يشمله ما ينفي الحرج من الأدلّة؛ لأنّ المقدّمات ليست من الدين و الشريعة، بل وجوبها عقلي لا شرعي و من باب التبعية، فما هو من الدين كالوضوء في المقام لا يكون حرجياً، و ما فيه الحرج ليس مجعولًا شرعياً.

و الجواب: أنّ المتفاهم من دليل نفي الحرج بملاحظة وروده في مقام الامتنان أنّه تعالى لم يجعل في الدين تكليفاً موجباً للحرج، سواء كان إيجابه له بنفسه أو بمقدّماته أو بنتائجه، و يؤيّده رواية عبد الأعلى المعروفة، الواردة في المسح على المرارة، نظراً إلى أنّ الحرج ليس في مسح الإصبع برطوبة اليد، بل في مقدّماته من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 249

..........

______________________________

نزع الخرقة و رفع المرارة، فتدبّر.

هذا، مضافاً إلى إمكان استفادته من ذيل آية التيمّم، الدالّ على بيان النكتة في تشريعه في جميع موارده حتّى المسافر، مع أنّ من المعلوم أنّ حرجيّة الوضوء أو الغسل بالإضافة إلى المسافر لا تختصّ بما إذا لم يجد الماء، بل تشمل ما إذا خاف عن الوصول إليه للتخلّف عن الرفقة و غيره، فالاستدلال بدليل نفي الحرج في المقام تامّ، و ربّما استدلّ لذلك بروايات:

منها: صحيحة الحلبي أنّه سأله أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يمرّ بالركية و ليس معه دلو.

قال

ليس عليه أن يدخل الركية، لأنّ ربّ الماء هو ربّ الأرض، فليتيمّم.

«1» و مثلها رواية الحسين بن أبي العلاء. «2» و منها: رواية عبد اللّه بن أبي يعفور و عنبسة بن مصعب جميعاً، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إذا أتيت البئر و أنت جنب، فلم تجد دلواً و لا شيئاً تغرف به، فتيمّم بالصعيد، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد، و لا تقع في البئر، و لا تفسد على القوم ماءهم.

«3» و قد نوقش في الأخيرة: بأنّ النهي عن الدخول إنّما هو لإفساد الماء المعدّ لشرب القوافل و المارّة، و تلك الآبار لا يجوز إفسادها و الدخول فيها؛ لعدم كونها كالمياه المباحة، لأنّها إنّما حفرت لاستقاء المارّة لجميع حوائجهم التي عمدتها

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 3، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 3، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 3، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 250

..........

______________________________

الشرب منها، و عليه يمكن أن يكون الوجه في الأوليين أيضاً ذلك، و إن كان

لا يلائمه التعبير ب «على» في قوله: «ليس عليه أن يدخل الركية».

و لكنّه يمكن الاستفادة منها أنّ أمر التيمّم يكون مبتنياً على التوسعة و التسهيل، و لا يتوقّف على العجز العقلي، بل يكفي في مشروعيته أدنى عذر، فتدبّر.

و منها: رواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام) أنّه سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة، لا يستطيع الخروج من المسجد من كثرة الناس.

قال

يتيمّم و يصلّي معهم، و يعيد إذا انصرف.

«1» و منها: طائفة من الروايات الواردة في الطلب النافية لوجوبه، أو الناهية عنه بالإضافة إلى المسافر؛ معلّلًا بخوف التخلّف عن أصحابه و الضلال و أكل السبع، أو دالّاً على أنّه (عليه السّلام) لا يأمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لصّ أو سبع، و قد تقدّم نقل هذه الطائفة و جمعها في «الوسائل» في الباب الثاني من أبواب التيمّم.

و يتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّه لا مجال للإشكال فيما إذا تحقّق الخوف بالإضافة إلى النفس؛ لدلالة دليل نفي الحرج مضافاً إلى الطائفة الأخيرة كما هو واضح.

و أمّا فيما إذا تحقّق الخوف على العرض، فإنّهم و إن لم ينصّوا في معاقد إجماعاتهم المحكية ككثير من الأصحاب في فتاويهم عليه، إلّا أنّه لا تنبغي المناقشة فيه؛ لأنّه من أوضح موارد الحرج، فإنّ تحمّل هتك العرض ربّما يكون أشقّ من تلف المال، بل ربّما يهون دونه بذل النفوس.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 3، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 251

..........

______________________________

و أمّا فيما إذا تحقّق الخوف على المال، ففي ما إذا حصل الحرج فالدليل على الانتقال إلى التيمّم هو ما يدلّ على عدم مجعولية الحرج

في الدين، و فيما إذا لم يحصل، بل يكون في الوصول إلى الماء خوف مجرّد ضرر مالي، فقد استدلّ على سقوط الطهارة المائية بدليل نفي الضرر، و بالإجماع المحكيّ عن جمع من الكتب الفقهية، و بالطائفة من الروايات التي أُشير إليها، الواردة في النهي عن الطلب أو نفي وجوبه، و باستقراء أخبار التيمّم الكاشف عن السقوط بأقلّ من ذلك.

و لكن قد حقّق في محلّه: أنّ دليل نفي الضرر لا يكون كدليل نفي الحرج بصدد رفع الأحكام الضررية، بل هو حكم سياسي سلطاني صادر من الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بما هو سلطان على الناس و زعيم بالنسبة إليهم، لا بما هو واسطة في تبليغ أحكام اللّه تعالى و مبيّن للتكاليف المجعولة الإلهية، نعم لو كان إفادته بالكتاب أو بلسان الرسول، لا بما هو سلطان و حاكم، لكان كدليل نفي الحرج ناظراً إلى الأحكام، و مبنياً لرفع الضررية منها.

و الإجماع المحكيّ في مثل هذه المسألة التي يجري فيها دليل نفي الحرج، أو الضرر باعتقادهم، و ورد فيها روايات لا أصالة له أصلًا لو سلّم حجّيته بنفسه.

و الطائفة المذكورة و إن كان بعضها مشتملًا على ذكر اللصّ، إلّا أنّه يحتمل قويّاً أن يكون النظر فيه إلى اللصّ المتعرّض للنفس، لا المتعرّض للمال فقط، و على تقديره فلا دلالة لها على خوف الضرر المالي من غير ناحية اللصّ، و الفرق بينهما أنّ لأخذ اللصّ المال و التسلّط عليه مهانة و ذلّة، تأبى عنها النفوس غالباً، و لأجله يكون تحمّله حرجياً، بخلاف مجرّد ترتّب الضرر المالي من غير هذه الناحية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 252

[و منها: خوف الضرر من استعماله]

و منها: خوف الضرر من

استعماله لمرض، أو رمد، أو ورم، أو جرح، أو قرح، أو نحو ذلك ممّا يتضرّر معه باستعمال الماء على وجه لا يلحق بالجبيرة و ما في حكمها، و لا فرق بين الخوف من حصوله أو الخوف من زيادته و بطوء برئه، و بين شدّة الألم باستعماله على وجه لا يتحمّل للبرد أو غيره. (1)

______________________________

و التمسّك بالاستقراء في غير محلّه، بعد ورود وجوب شراء ماء الوضوء بالغاً ما بلغ، كما مرّ، و يأتي إن شاء اللّه تعالىٰ.

و قد انقدح بذلك: أنّه لا دليل على سقوط المائية بمجرّد خوف الضرر المالي إلّا إذا كان بقاء وجوبها حرجياً، فتدبّر جيّداً.

(1) الثالث: في خوف الضرر من استعمال الماء و الدليل على مشروعية التيمّم في هذه الموارد أُمور:

أحدها: الآية الكريمة الواردة في التيمّم، الدالّة على مشروعيته بالإضافة إلى المريض، فإنّ إطلاق عنوان «المرض» و إن كان يشمل المرض الذي لا يضرّه استعمال الماء، إلّا أنّ المناسبة بين الحكم و الموضوع، و كذا ذكر المرض عقيب إيجاب الطهارة المائية، توجب الانصراف إلى خصوص ما كان استعمال الماء مضرّاً به و منافياً له.

كما أنّه يستفاد من هذه المناسبة مشروعية التيمّم في مثل القرح و الجرح، ممّا لا يعدّ مرضاً عرفاً إذا كان استعمال الماء مضرّاً به، فالآية بلحاظ اشتمالها على ذكر المرض، و مناسبة الحكم و الموضوع المذكورة، من أدلّة المقام.

ثانيها: الآية الكريمة بلحاظ اشتمالها على التعليل بقوله تعالى مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ .. نظراً إلى لزوم الحرج من وجوب الطهارة المائية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 253

..........

______________________________

في الموارد المذكورة، و الآية بهذا اللحاظ تدلّ على مشروعية التيمّم حتّى فيما لم يكن مرضاً

بوجه، بل كان مثل البرد الذي لا يتحمّل.

ثالثها: الروايات الواردة المستفيضة لو لم تكن متواترة:

منها: صحيحة محمّد بن سكّين، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة و هو مجدور، فغسّلوه فمات.

قال

قتلوه ألّا سألوا، ألّا يمّموه؟! إنّ شفاء الحيّ السؤال.

«1» و منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الرجل يكون به القرح و الجراحة يجنب.

قال

لا بأس بأن لا يغتسل، يتيمّم.

«2» و منها: صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن الرضا (عليه السّلام) في الرجل تصيبه الجنابة، و به قروح أو جروح، أو يكون يخاف على نفسه من البرد.

فقال

لا يغتسل و يتيمّم.

«3» و مثلها صحيحة داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام). «4» و منها: مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

يؤمّم المجدور و الكسير إذا أصابتهما الجنابة.

«5» و غير ذلك من الروايات الواردة، الدالّة على الانتقال إلى التيمّم في مورد

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 7.

(4) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 8.

(5) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 254

..........

______________________________

خوف الضرر من استعمال الماء.

لكن في مقابلها روايات تدلّ على خلاف ذلك، كصحيحة سليمان بن خالد و أبي بصير، و عبد اللّه بن سليمان جميعاً عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) أنّه سأل عن رجل كان في أرض باردة، يتخوّف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل، كيف يصنع؟

قال

يغتسل و إن أصابه ما أصابه.

قال: و ذكر أنّه كان وجعاً شديد الوجع، فأصابته جنابة و هو في مكان بارد، و كانت ليلة شديدة الريح باردة

فدعوت الغلمة فقلت لهم: احملوني فاغسلوني، فقالوا: إنّا نخاف عليك، فقلت لهم: ليس بدّ، فحملوني و وضعوني على خشبات، ثمّ صبّوا عليّ الماء فغسلوني.

«1» و صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة، و لا يجد الماء، و عسى أن يكون الماء جامداً.

فقال

يغتسل على ما كان.

حدّثه رجل أنّه فعل ذلك فمرض شهراً من البرد.

فقال

اغتسل على ما كان، فإنّه لا بدّ من الغسل.

و ذكر أبو عبد اللّه (عليه السّلام) أنّه اضطرّ إليه و هو مريض، فأتوه به مسخّناً، فاغتسل و قال

لا بدّ من الغسل.

«2» و قد يجمع بين الصحيحتين و الطائفة المتقدّمة بحملهما على الجنابة الاختيارية، و حمل تلك الطائفة على الاحتلام، و اختاره صاحب «الوسائل» حيث

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 17، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 17، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 255

..........

______________________________

جعل عنوان الباب السابع عشر وجوب تحمّل المشقّة الشديدة في الغسل لمن تعمّد الجنابة دون من احتلم، و عدم جواز التيمّم للمتعمّد حينئذٍ، و ربّما يستشهد لهذا الجمع بمرفوعة علي بن أحمد، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن مجدور أصابته جنابة.

قال

إن كان أجنب هو فليغتسل، و إن كان احتلم فليتيمّم.

«1» و مرفوعة إبراهيم بن هاشم قال

إن أجنب فعليه أن يغتسل على ما كان منه، و إن احتلم تيمّم.

«2» و قد حكي عن «الخلاف» دعوى إجماع الفرقة على وجوب

الغسل على من أجنب اختياراً، و عن المفيد و الصدوق اختياره.

و يرد على هذا الجمع: أنّ مرفوعة ابن هاشم لا تكون متعرّضة لنقل الحكم عن الإمام (عليه السّلام)، و لا يبعد أن يكون فتواه و منشؤها تخيّل اقتضاء الجمع بين الروايات لذلك.

و أمّا مرفوعة علي بن أحمد فهي لا تكون شاهدة للجمع، بعد عدم حجّيتها في نفسها للرفع و الجهالة، مع أنّ التعبير بإصابة الجنابة في أكثر روايات تلك الطائفة، و كذا في الصحيحتين، لا يبعد دعوى كونه ظاهراً في الجنابة غير الاختيارية، فإنّ التعبير الشائع فيها هو مثل

أجنب

كما في المرفوعة، فكيف يمكن التفكيك بينهما و حملهما على الاختيارية دونها؟

و دعوى أنّ قرينة تنزّه الإمام (عليه السّلام) عن الاحتلام دليل على كون المراد بإصابة

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 17، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 17، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 256

..........

______________________________

الجنابة المذكورة هو الجنابة الاختيارية، مدفوعة مضافاً إلى أنّ هذه القرينة لا تقتضي إلّا كون المراد بها ذلك في خصوص الرواية المشتملة عليه، لا في جميع الموارد و لو كانت خالية عن هذه القرينة بأنّها لا تنفع الجمع المذكور بعد اشتراك الطائفتين في التعبير بالإصابة، كما عرفت.

و أمّا دعوى «الخلاف» فمع عدم حجّيتها في نفسها مندفعة بدعوى العلّامة في «المنتهى» الإجماع على خلافها، قال في محكيّه: «لو أجنب مختاراً و خشي البرد تيمّم عندنا». و في «الجواهر»: «المشهور بين الأصحاب نقلًا و تحصيلًا عدم الفرق بين متعمّد الجنابة و غيره».

هذا كلّه مضافاً إلى ما أفاده الماتن دام ظلّه في «الرسالة» من منافاة ما ذكر للكتاب و السنّة، و إباء أدلّة نفي الحرج من

التقييد، و مخالفته لسهولة الملّة و سماحتها، و مخالفة بعض مراتبه للعقل كخوف تلف النفس، قال: «و لهذا خصّه بعضهم بما إذا لم يخف منه» زاعماً لكونه جمعاً بين الأخبار، و بين مثل صحيحة عبد اللّه بن سنان أنّه سأل أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة، فيخاف على نفسه التلف إن اغتسل.

فقال

يتيمّم و يصلّي، فإذا أمن البرد اغتسل و أعاد الصلاة.

«1» و كيف كان: فهذا الجمع ضعيف غير مقبول، و لا تساعده العقول، و لا يمكن تأييده بالمنقول.

و قد جمع بينهما في «المصباح» بوجه آخر، قال ما ملخّصه: «يمكن حملهما أي الصحيحتين على الاستحباب فيما هو الغالب من موردهما، فإنّ الغالب أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 16، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 257

..........

______________________________

الخوف على النفس بمرض شديد، أو تلف من الغسل في أرض باردة، عند صحّة المزاج و اعتداله كما هو منصرف السؤال؛ إنّما ينشأ من احتمال موهوم في الغاية، حيث إنّ المظنون فيه التحفّظ و السلامة بشرط أن يتعقّبه التحفّظ من البرد بإكثار الثياب و التحمّي، بل الغالب في مثل الفرض الأمن إلّا من أمراض يسيرة من زكام و نحوه، و يفصح عن ذلك ما لو وقع قهراً في الماء فخرج و تحفّظ.

و الحاصل: أنّ الغالب أنّه لا يترتّب على الغسل كذلك إلّا المشقّة الرافعة للتكليف، و أمّا الخوف من التلف أو المرض الذي يجب التحرّز عنه، فلا يكون غالباً إلّا على سبيل الاحتمال الموهوم الذي لا يؤثّر في حرمة العمل، و لا مانع من تنزيل الصحيحتين على مثل الفرض، و حملهما على الاستحباب، و لا يعارضهما عمومات

نفي الحرج و الصحاح المتقدّمة؛ لأنّ العمومات لا يفهم منها إلّا الرخصة، و الصحاح أيضاً كذلك، لورودها في مقام توهّم الوجوب».

و يرد عليه: أنّ دعوى كون الاحتمال في مورد الصحيحتين موهوماً في غاية الضعف، و لا يساعدها التأمّل فيه، و كيف يكون كذلك؟! مع أنّه ذكر الإمام (عليه السّلام) في صحيحة عبد اللّه بن سليمان أنّه كان وجعاً شديد الوجع، و كان المكان بارداً و الليلة شديدة الريح باردة، بحيث صار ذلك موجباً لخوف الغلمان عليه، الظاهر في الخوف على نفسه، و لم ينكر في الجواب ذلك حتّى يقال إنّ الملاك هو خوف المكلّف لا غيره، بل قرّرهم و قال

ليس بدّ

مع أنّ مورد السؤال فيه هو إصابة العنت من الغسل، و العنت بمعنى المشقّة الشديدة التي ربّما توجب الهلاكة، و الجواب دالّ على وجوب الاغتسال و إن أصابه ما أصابه.

و كذا صحيحة محمّد بن مسلم واردة في مورد ثبوت البرودة، بحيث صار الماء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 258

..........

______________________________

جامداً، و الجواب فيها دالّ على وجوب الاغتسال و إن كان موجباً للمرض شهراً، و الأمراض اليسيرة ربّما لا تكون مرضاً بنظر العرف؛ لقلّة زمانه و عوارضه فضلًا؛ عن أن يطول شهراً.

و بالجملة: حمل الروايتين على كون موردهما صورة موهومية الاحتمال أسوأ من طرحهما و الإعراض عنهما و ردّ علمها إلى أهله، مع أنّ الحمل على الاستحباب لا يلائم لحنهما بوجه، فإنّه كيف يمكن حمل قوله (عليه السّلام)

يغتسل و إن أصابه ما أصابه

على الاستحباب؟! و كذا التعبيرات الأُخر الواقعة في هذه الرواية و الرواية الأُخرى، فالجمع بالحمل على الاستحباب غير صحيح.

و الإنصاف: أنّه لا محيص من الطرح و الإعراض و

لو لأجل المعارضة و المخالفة للمشهور، بل مع الكتاب و السنّة، بل و الموافقة للعامّة كما حكي ذلك عن أصحاب الرأي و أحمد في إحدى الروايتين.

بقي الكلام في الشين الذي ادّعى عدم الخلاف في جواز التيمّم معه، بل ادّعى الإجماع عليه ظاهراً، بل صريحاً.

و أنّه هل المراد به بعض الأمراض الجلدية من قبيل الجرب و السوداء؟

أو الخشونة التي تعلو البشرة، و تشوّه الخلقة، أو توجب انشقاق الجلد و خروج الدم؟

فعلى الأوّل: لا مجال للإشكال في صحّة التيمّم معه؛ لأنّه من الأمراض التي يضرّها استعمال الماء، فيدلّ على حكمه الآية بلحاظ ذكر المريض، و بلحاظ اشتمالها على التعليل بنفي الحرج.

و على الثاني: يمكن المناقشة فيه؛ لعدم الدليل عليه، و عدم دلالة دليل نفي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 259

..........

______________________________

الحرج على حكمه مطلقاً، و معاقد الإجماعات و إن كان أكثرها مطلقة إلّا أنّها لا تكون حجّة في مثل المقام، مضافاً إلى ثبوت القدر المتيقّن، خصوصاً مع ما حكي عن موضع من «المنتهى» و جماعة من المتأخّرين من تقييده بالفاحش، و عن جماعة أُخرى تقييده بما لا يتحمّل، و عن «الكفاية» أنّه نقل بعضهم الاتّفاق على أنّ الشين إذا لم يغيّر الخلقة و يشوّهها لا يشرع معه التيمّم.

حول الحرج المذكور في المقام ثمّ إنّه يظهر من تقييد بعضهم بما لا يتحمّل عادة، أنّ الحرج عبارة عن المشقّة التي لا تتحمّل كذلك، و أهل اللغة يظهر منهم الاختلاف في معنى الحرج، و أنّ المراد به هل هو مطلق الضيق كما يظهر من كثير من كتبهم؟ أو أنّه ضيق خاصّ، و هو أضيق الضيق كما عبّر به بعضهم؟ و في كلام الشيخ علي بن

إبراهيم: «الحرج الذي لا مدخل له، و الضيق ما يكون له مدخل».

لكنّ المستفاد من الروايات الواردة في الموارد المختلفة تفسيره بمطلق الضيق صريحاً، أو يظهر منها ذلك، كما أنّه يظهر من بعضها أنّه ليس المراد بالضيق ما لا يتحمّل، بل مطلق المشقّة و الكلفة، ففي صحيحة زرارة المعروفة الطويلة التي نقلها المشايخ الثلاثة، بعد الجواب عن سؤال زرارة: من أين علمت و قلت إنّ المسح ببعض الرأس؟

قال في آخرها: ثمّ قال

ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج، و الحرج الضيق.

«1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 260

..........

______________________________

و في موثّقة أبي بصير الواردة في باب المياه قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): إنّا نسافر فربّما بلينا بالغدير من المطر، إلى أن قال

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 260

اخرج الماء بيدك ثمّ توضّأ، فإنّ الدين ليس بمضيق، فإنّ اللّه يقول مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.

«1» و يظهر من رواية عبد الأعلى المعروفة الواردة في المسح على المرارة أوسعية الأمر ممّا قيل، فإنّ رفع المرارة و المسح على البشرة ليس ممّا لا يتحمّل عادة، بل غايته أنّه مشقّة و كلفة.

مضافاً إلى أنّ لسان الآيات الشريفة الواردة في مقام الامتنان في الموارد المختلفة المعبّرة بتعبيرات متعدّدة لسان عدم جعل مطلق الضيق، كقوله تعالى في ذيل آية الصوم يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، «2» و قوله تعالى رَبَّنٰا وَ لٰا

تَحْمِلْ عَلَيْنٰا إِصْراً كَمٰا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنٰا. «3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 14.

(2) البقرة 185.

(3) البقرة 286.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 261

[و منها: الخوف باستعماله من العطش للحيوان المحترم]

و منها: الخوف باستعماله من العطش للحيوان المحترم. (1)

______________________________

(1) الرابع: في خوف العطش باستعمال الماء أمّا إذا خاف على نفسه، فيدلّ على جواز التيمّم معه مضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه ظاهراً، و عن «المعتبر» نسبته إلى أهل العلم، و إلى أدلّة نفي الحرج و شمولها للمقام بنحو الوضوح الروايات الكثيرة الدالّة عليه، كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) أنّه قال في رجل أصابته جنابة في السفر، و ليس معه إلّا ماء قليل، و يخاف إن هو اغتسل أن يعطش.

قال

إن خاف عطشاً فلا يهريق منه قطرة، و ليتيمّم بالصعيد، فإنّ الصعيد أحبّ إليّ.

«1» و صحيحة محمّد الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام) الجنب يكون معه الماء القليل، فإن هو اغتسل به خاف العطش، أ يغتسل به أو يتيمّم؟

فقال

بل يتيمّم، و كذلك إذا أراد الوضوء.

«2» و موثّقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يكون معه الماء في السفر، فيخاف قلّته.

قال

يتيمّم بالصعيد، و يستبقي الماء، فإنّ اللّه عزّ و جلّ جعلهما طهوراً: الماء و الصعيد.

«3» و خبر ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب و معه من الماء قدر ما يكفيه لشربه، أ يتيمّم أو يتوضّأ به؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 262

..........

______________________________

قال

يتيمّم أفضل، أ لا ترى أنّه إنّما جعل عليه نصف الطهور.

«1» فلا إشكال فيما إذا خاف على نفسه، و كذلك لا ينبغي الإشكال فيما إذا خاف على أولاده و عياله، أو صديقه، بل غلمته، بل حيوانه الذي يحتاج إليه في سفره إذا كان في حفظه غرض عقلائي، و إن اقتصر في «الشرائع» على عطش نفسه؛ لشمول دليل نفي الحرج للجميع، ضرورة أنّه كما يكون التكليف بالوضوء فيما إذا خاف على نفسه العطش حرجيّاً، كذلك مع الخوف عليهم، مضافاً إلى أنّ إعادة الجواب منكّراً في صحيحة ابن سنان تدلّ على إطلاق العطش، و عدم اختصاصه بنفسه، و إلّا كان حقّ الجواب أن يقول فليتيمّم من دون إعادة السؤال، سيما بنحو التنكير، فهي تفيد توسعة الحكم، و كذلك موثّقة سماعة الدالّة على جواز التيمّم في مورد خوف القلّة، ضرورة عدم اختصاصه بعطاش النفس.

نعم، ربّما يقال: إنّه لا مجال للأخذ بإطلاقه، لاقتضائه جواز التيمّم مع خوف قلّة الماء عن استعماله في سائر حوائجه، كطبخه و غسل ثيابه و أوانيه و نحو ذلك ممّا يقطع بعدم مشروعيته لأجله.

و لكنّ الظاهر انصرافه عن مثل ذلك، فإنّ نفس السؤال بلحاظ كون الرجل في السفر و خوف القلّة ظاهرة في الاستعمالات الضرورية للماء كالشرب، و لا ينقدح في ذهن السائل توهّم الانتقال إلى التيمّم، و صرف الماء في غسل الثياب من غير النجاسات حتّى يسأل عنه، مع أنّ القطع بعدم المشروعية في الموارد المذكورة لا يقتضي إلّا رفع اليد عن الإطلاق في خصوص تلك الموارد، و لا مجال لرفع اليد عنه بالإضافة إلى مثل المقام، فتدبّر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث

4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 263

..........

______________________________

بل يمكن أن يقال كما هو مقتضى إطلاق المتن بعدم اختصاص الحكم بما إذا خاف على من يرتبط به أو ما يتعلّق به، بل يشمل ما إذا خاف على إنسان آخر لا يرتبط به أصلًا، أو حيوان له كبد حرى يؤذيه العطش، لشمول دليل نفي الحرج، ضرورة أنّ التكليف بالوضوء مع رؤية إنسان أو حيوان يتلظّى عطشاً، و يخاف عليهما من هذه الجهة يكون حرجيّاً؛ لأنّ النفوس الطبيعية غير الشقيّة لا تتحمّل ذلك.

و لا يختصّ الحرج بالجهات الجسمية، بل مثل ذلك ربّما يكون أشدّ، مع أنّ إطلاق صحيحة ابن سنان يشمل ذلك.

و يؤيّده: أنّ إطفاء حرّ الكبد من الظماء في حدّ ذاته من الأُمور المستحسنة المرغوبة لدى العقلاء، و قد وقع التحريص به في الشريعة.

و ممّا ذكرنا يظهر: أنّه لا فرق بين المسلم و الكافر، نعم الظاهر انصرافه عن مثل الحربي الذي يجب على الناس قتله بأيّة وسيلة أمكنت، فلو لم يكن مهدور الدم، لكن يجب أو يجوز قتله حدّاً كالقاتل و الزاني المحصن، فالظاهر شمول الرواية له؛ لأنّ قتله إنّما هو بيد شخص خاصّ أو بنحو مخصوص، لا مطلقاً.

و أمّا الحيوان غير المحترم الذي لا يجب قتله، بل يجوز، كالكلب غير العقور، و الخنزير و الذئب، و نحوها، فالظاهر عدم مسوّغية خوف العطش عليه للتيمّم، و إن استظهر صاحب «العروة» جوازه؛ لعدم استفادته من الأدلّة المتقدّمة، و قوله (عليه السّلام)

لكلّ كبد حرّى أجر

، و نحوه، لا يقتضي رفع اليد عن لزوم الطهارة المائية بعد ظهوره في غير هذا المورد، كما لا يخفى.

بقي الكلام في أنّه ليس المراد من خوف العطش، أو القلّة الواقع

في الرواية، مجرّد حصول أوّل مراتب العطش الذي ليس في تحمّله مشقّة عرفاً، بل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 264

[و منها: الحرج و المشقّة الشديدة]

و منها: الحرج و المشقّة الشديدة التي لا تتحمّل عادة في تحصيل الماء أو استعماله و إن لم يكن ضرر و لا خوفه، و من ذلك حصول المنّة التي لا تتحمّل عادة باستيهابه، و الذلّ و الهوان بالاكتساب لشرائه. (1)

______________________________

المراد احتمال العطش المتعارف الذي يكون فيه خطر هلاك أو مرض أو مشقّة. كما أنّك عرفت أنّ المراد بخوف القلّة ما إذا لزم المحذور من قلّة الماء، لا مطلق القلّة، فتدبّر.

(1) الخامس: في لزوم الحرج و المشقّة و الدليل علىٰ مسوّغية هذا الأمر هو دليل نفي الحرج، فإنّه إذا كان تحصيل الماء أو استعماله حرجياً، و مشتملًا على المشقّة الشديدة التي لا تتحمّل عادة، بل مطلق المشقّة العرفية و إن كانت قابلة للتحمّل على ما عرفت في معنى الحرج، يكون التكليف بالطهارة المائية حرجياً منفياً في الشريعة مطلقاً، و في خصوص آية التيمّم، و لا يرتبط ذلك بباب الضرر و خوفه أصلًا.

و يمكن الاستدلال له مضافاً إلى ذلك، بأخبار الركية المتقدّمة، الدالّة على عدم وجوب الدخول فيها مع عدم الوسيلة من الدلو و غيره، بناء على كون النظر فيها إلى الكلفة و المشقّة دون الإفساد على القوم ماءهم، كما وقع التعليل به في الرواية الواحدة.

و حيث إنّ مناط الحكم هو الحرج و المشقّة، فيشمل ما إذا كان في تحصيل الماء منّة؛ لانحصاره بالاستيهاب من غيره، و هي لا تكون متحمّلة عادة لمثله، كما أنّه يشمل ما إذا توقّف تحصيل الماء على الاكتساب و التجارة لأن يقدر معه على الشراء و

المعاملة، مع كون الاكتساب لمثله مشتملًا على الذلّة و المهانة، فإنّه في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 265

[و منها: توقّف حصوله على دفع جميع ما عنده]

و منها: توقّف حصوله على دفع جميع ما عنده، أو دفع ما يضرّ بحاله، بخلاف غير المضرّ، فإنّه يجب و إن كان أضعاف ثمن المثل. (1)

______________________________

مثل ذلك لا ينبغي الإشكال في جواز الطهارة الترابية، لكون الحرج منفياً في الشريعة.

(1) السادس: فيما إذا كان تحصيله موجباً للتضرّر أمّا الانتقال إلى الترابية مع توقّف حصول الماء على دفع ما يضرّ بحاله سواء كان جميع ما عنده أو بعضاً منه فيدلّ عليه دليل نفي الحرج؛ لصدق الضيق و الحرج معه.

و أمّا دليل نفي الضرر، فقد عرفت أنّه لا يرتبط بباب الأحكام، بل هو حكم صدر عن الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بما هو سلطان و حاكم، لا بما هو واسطة في بيان الأحكام و تبليغها.

و أمّا إذا لم يكن مضرّاً بحاله، فيجب الدفع و إن كان أضعاف ثمن المثل، و عن «الخلاف» الإجماع عليه، و عن «المهذّب البارع» أنّه فتوى فقهائنا، و عن غيرهم نسبته إلى المشهور.

و الدليل عليه مضافاً إلى أنّه لا يتحقّق حينئذٍ موضوع عدم وجدان الماء؛ لأنّ المفروض عدم كون تحصيله و لو بالشراء موجباً للضرر و الحرج صحيحة صفوان قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن رجل احتاج إلى الوضوء للصلاة، و هو لا يقدر على الماء، فوجد بقدر ما يتوضّأ به بمائة درهم أو بألف درهم و هو واجد لها، أ يشتري و يتوضّأ، أو يتيمّم؟

قال

لا، بل يشتري، قد أصابني مثل ذلك فاشتريت و توضّأت، و ما يسوؤني

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل

الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 266

..........

______________________________

(يسرّني) بذلك مال كثير.

«1» و قد وقع نقلها في الكتب الفقهية مكان «يسوؤني» «يشتري»، و هو الظاهر.

و خبر الحسين بن أبي طلحة قال: سألت عبداً صالحاً عن قول اللّه عزّ و جلّ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ما حدّ ذلك؟

قال

فإن لم تجدوا بشراء و غير شراء.

قلت: إن وجد قدر وضوء بمائة ألف، أو بألف و كم بلغ.

قال

ذلك على قدر جدّته.

«2» و عن فخر الإسلام في «شرح الإرشاد» أنّ الصادق (عليه السّلام) اشترى وضوءه بمائة دينار.

و كيف كان: فالمستفاد من قوله (عليه السّلام) في خبر ابن أبي طلحة

ذلك على قدر جدّته

أنّ المناط هي استطاعة المتوضّي عرفاً، كما أنّ المراد من قوله: «واجد لها» في سؤال الصحيحة، ليس مجرّد وجدانه لها و لو كان هو تمام ماله و ثروته، بل المتبادر أنّه يقدر عرفاً على دفع هذا المقدار، و يستطيع بحيث لا يضرّ بحاله، و لا يوجب اختلال شأنه، فالملاك هو المتوضّي من جهة التضرّر و عدمه.

فما عن بعضهم من تقييد وجوب الشراء بما إذا لم يجحف في الثمن، لا وجه له، و لعلّ المراد كونه إجحافاً بحسب حال المشتري، لا من حيث هو، فيئول إلى الأوّل.

كما أنّ ما عن ابن الجنيد من عدم وجوب الشراء إذا كان الماء غالياً، ضعيف.

ثمّ إنّ المستفاد ممّا هو بمنزلة التعليل في الصحيحة، و هو قوله (عليه السّلام)

و ما يشتري بذلك مال كثير

أنّ صرف أضعاف الثمن لتحصيل ماء الوضوء، لا يكون

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 26، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 26، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 267

..........

______________________________

أمراً غير عقلائي،

و موجباً بنفسه للضرر و الحرج مع قطع النظر عن حال المتوضّي؛ لأنّه لا يكون موجباً لإتلاف المال، بل يقع في مقابله مال كثير. فإيجاب الوضوء في الفرض رعاية للجمع بين عدم التضرّر بحال المتوضّي، و بين عدم تلفه و وقوع أكثر منه في مقابله، و نظيره ما لو احتاج إلى الماء لشربه في مكان لا يباع إلّا بثمن خطير، و ترك الشرب موجب للخوف على النفس و احتمال هلاكها، فإنّه لا يشتري بما يبذله في مقابل الماء إلّا ما لا ينبغي قياسه بالمال من الأهمّية، و لا يبقى مجال لتوهّم كون دفع المال الكثير بإزاء مقدار ما يكفي من الماء للشرب أمراً غير عقلائي.

و من هذا التعليل يستفاد: أنّه لا فرق بين ما إذا كان الماء لا يبذل إلّا بأضعاف الثمن، و بين ما إذا كانت الآلة التي يتوصّل بها إلى الماء كذلك، لوضوح المناط و عدم الفرق، بل لو لا التعليل لكان المتفاهم من الروايات عدم اختصاص الحكم بالأوّل و شموله للثاني، و نظائره كحفر البئر، و إعطاء المال للإذن على الدخول في ملكه، و العبور عنه للوصول إليه، و استيجار الغير لتحصيله، بل و لو خاف من ضياع ماله في سبيل تحصيله ما لم يكن حرجياً، أو خاف من تلفه أو أخذ شي ء منه قهراً. و دعوى الفرق، و كون القياس مع الفارق واضحة البطلان، سيّما بملاحظة التعليل، نعم لو لم يكن تعليل في البين لكان يمكن أن يقال: بأنّه لا يجوز التخطّي عن مورد الرواية أو ما هو مثله، كشراء الآلة مثلًا، و أمّا مع ملاحظته فلا مجال لهذا الخيال.

فما عن بعضهم من التصريح بنفي الوجوب فيما لو توقّف تحصيل الماء

على أن يصيب ثوبه المطر و يتضرّر بذلك ضعيف، إلّا إذا أراد لزوم الحرج من إصابة المطر إمّا نفساً، و إمّا شأناً، و أمّا مجرّد الضرر المالي الحاصل بها فلا يمنع عن إيجاب الطهارة المائية بوجه، إلّا إذا كان مضرّاً بحاله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 268

[و منها: ضيق الوقت عن تحصيله]

و منها: ضيق الوقت عن تحصيله أو عن استعماله. (1)

______________________________

نعم، في لزوم شقّ الثوب النفيس لإخراج الماء من البئر تأمّل؛ لاحتمال انصراف الدليل عن مثله، و عدم وضوح دلالة الروايات و لو بملاحظة التعليل على حكمه، مع أنّه يصدق عدم الوجدان عرفاً، الذي علّق عليه شرعية التيمّم في الكتاب و السنّة.

(1) السابع: في ضيق الوقت و هذه مسألة وقع الاختلاف فيها، فعن «المعتبر» و «جامع المقاصد» و «كشف اللثام» و «المدارك» عدم مشروعية التيمّم لضيق الوقت؛ لكون الصلاة مشروطة أوّلًا بالطهارة المائية، و الانتقال إلى الترابية إنّما هو في صورة عدم وجدان الماء، و المفروض الوجدان و التمكّن من الاستعمال.

و عن «المنتهى» و «التذكرة» و «المختلف» و «الروضة» مشروعيته لدى الضيق، بل عن «الرياض» أنّه الأشهر، و اختاره صاحب «الجواهر» و غيره ممّن تأخّر عنه من المحقّقين كالماتن دام ظلّه.

و الدليل عليه: أوّلًا: الآية الكريمة الواردة في التيمّم بلحاظ ما تقدّم من دلالتها على أنّ المطلوب المطلق هي الصلاة مع الطهارة المائية، و أنّ الانتقال إلى التيمّم إنّما هو في صورة الاضطرار و الإلجاء المتحقّق بالمرض أو عدم الوجدان، و من الواضح أنّه ليس المراد بعدم الوجدان هو عدمه للتالي و إلى آخر العمر، بل المراد به هو عدمه في الوقت، بحيث لا يقدر على تحصيل الماء و الصلاة بنحو يدرك مصلحة الوقت

التي هي أهمّ من مصالح سائر الأجزاء و الشرائط، فالمستفاد من نفس الآية لزوم رعاية الوقت، و أنّها هي التي اقتضت رفع اليد عن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 269

..........

______________________________

المطلوب المطلق، و الانتقال إلى المطلوب الاضطراري، الذي لا يشتمل على ما اشتمل عليه الأوّل من المصلحة الكاملة التي تجب رعايتها.

و بالجملة: الاضطرار الذي يسوّغ التيمّم، و يوجب الانتقال إلى المرتبة الناقصة، و الاكتفاء بها إنّما هو لأجل حفظ الوقت و إدراكه، ضرورة عدم استدامة المرض نوعاً، و عدم كون الفقدان باقياً كذلك؛ فتشريع التيمّم إنّما هو لئلّا يفوت من المكلّف مصلحة الوقت، مع أنّ الفحص و التتبّع في موارد مزاحمة الوقت مع سائر الأجزاء و الشرائط، يقضي بأنّ الشارع لم يرفع اليد عن الصلاة في وقتها لأجل عذر من الأعذار إلّا فيما هو في غاية القلّة و الندرة، و يشعر بذلك التعبير عن تركها في الوقت ب «الفوت» في دليل القضاء و نحوه، و لم يعهد هذا التعبير في الإخلال بغيره.

كما أنّ الروايات الواردة في تارك الصلاة، و أنّه كافر إذا كان متعمّداً، و أنّ تركها أعظم من سائر الكبائر، ناظرة إلى عدم الإتيان بها في وقتها، و إلّا فلم يعلم لها مصداق إلّا نادراً.

و ممّا ذكرنا يظهر: أنّه لا مجال للمناقشة فيما ذكرنا بأنّ ضيق الوقت إنّما يوجب سقوط الطهارة المائية، و أمّا مشروعية التيمّم فلا بدّ و أن تثبت من طريق الإجماع، و هو غير ثابت، و لا ملازمة بين الأمرين.

فإنّ التأمّل في الآية بالكيفية المذكورة، يقضي بكون المراد أن لا يفوت على المكلّف مصلحة الوقت أصلًا؛ إمّا بالإتيان بما هو المطلوب المطلق، و إمّا بالإتيان بما

هو مرتبة ناقصة له، و ذلك في حال الاضطرار و الإلجاء، فنفي الملازمة في غاية السقوط و المهانة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 270

..........

______________________________

و ثانياً: صحيحة زرارة عن أحدهما (عليهما السّلام) قال

إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم، و ليصلّ في آخر الوقت .. «1»

، و في رواية الشيخ (قدّس سرّه) بدل «فليطلب» «فليمسك».

فإنّ الظاهر منها أنّ وجوب الطلب أو استحبابه إنّما هو للتوصّل إلى المطلوب المطلق، لا لأجل دخالته في موضوع الصلاة مع الترابية، و أنّ الأمر بها معها إنّما هو لتقديم الشارع حفظ الوقت على الطهارة المائية، و إلّا فلا وجه لرفع اليد عن المطلوب المطلق، و معه لا مجال لاحتمال أن يكون وجدان الماء المفوّت للوقت موجباً لترك الصلاة فيه رأساً، و منه يعلم أنّ تمام الموضوع لوجوب التيمّم هو مخافة فوت الوقت، و لا يكون عدم الوجدان بعنوانه قيداً للموضوع.

و دعوى: أنّ المفروض في الرواية هو الفاقد، و لا مانع من أن يكون فوت الوقت منضمّاً إليه، فشرعية التيمّم إنّما هي في مورد الفاقد الذي يخاف الفوت كما هو ظاهرها، مدفوعة: بأنّ الانتقال إلى التيمّم إنّما هو لرعاية الوقت، فإذا كان حفظه مورداً لاهتمام الشارع، فكيف يحتمل تجويزه ترك الصلاة رأساً عند الضيق و الوجدان؟! و هذا من الوضوح بمكان.

فالإنصاف: أنّ جواز التيمّم عند ضيق الوقت غير قابل للمناقشة، نعم القدر المتيقّن من مورده ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الوقت مع الترابية، و عدم إدراك شي ء من الوقت مع المائية.

و أمّا إذا دار الأمر بين إدراك تمام الوقت مع الترابية، و إدراك ركعة من

الوقت مع المائية، فقد يقال: بتقدّم الثاني لقاعدة «من أدرك» المعروفة، و لكنّه لا بدّ أوّلًا من

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 271

..........

______________________________

تحقيق مفاد الصحيحة التي علّق فيها التيمّم على خوف فوات الوقت، و ثانياً من ملاحظة دليل «من أدرك» و بيان مفاده، و ثالثاً من النظر في النسبة بينه و بين الصحيحة.

فنقول: هل المراد بقوله (عليه السّلام) في الصحيحة

فإذا خاف أن يفوته الوقت ..

هو خوف فوت جميع الوقت و عدم إدراك شي ء منه، بحيث لو علم إدراك بعضه لاستمرّ وجوب الطلب أو استحبابه، فتكون غاية الطلب و الموضوع للزوم التيمّم خوف فوت تمام الوقت، و عليه فلا حاجة إلى دليل «من أدرك»، بل مفادها أعمّ منه؛ لشمولها لإدراك أقلّ من الركعة أيضاً؟

أو أنّ المراد به خوف فوت الوقت المضروب للصلاة، أي خوف أن لا تقع الصلاة بتمامها في ظرفها الزماني، فمع خوف وقوع جزء منها خارج الوقت فقد خاف أن يفوته الوقت، فتدلّ الصحيحة على أنّه مع خوف فوت الوقت و لو بجزء منه لا بدّ من التيمّم؟

هذا، و الظاهر هو الاحتمال الثاني؛ لأنّه مضافاً إلى ظهوره في نفسه، يؤيّده، بل يدلّ عليه قوله (عليه السّلام)

و ليصلّ في آخر الوقت

بعد قوله

فليتيمّم

، و الظاهر في وقوع صلاته مع التيمّم بأجمعها في الوقت، كما لا يخفى.

و أمّا دليل «من أدرك» فقد أفاد الماتن دام ظلّه في «الرسالة» في مقام اعتباره و لفظه الوارد و مفاده: «أنّ ما روي عن النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة.

«1» و عنه أيضاً

من أدرك ركعة

من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر.

«2» و عن الوصي

من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، الباب 30، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، الباب 30، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 272

..........

______________________________

الغداة تامّة.

«1» و في لفظ آخر

من أدرك ركعة من الوقت فقط أدرك الوقت

على ما في «المنتهى» و «المدارك» روايات ضعاف، بعضها بالإرسال، و بعضها بضعف السند، و دعوى الجبر بالاشتهار بين الأصحاب مشكلة، لعدم ثبوت كون اتّكالهم في صحّة الصلاة مع إدراك ركعة من الوقت بتلك الروايات، لورود موثّقة عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

فإن صلّى ركعة من الغداة، ثمّ طلعت الشمس فليتمّ، و قد جازت صلاته.

«2» و احتمال اتّكالهم بها مع إلغاء الخصوصية، إلّا أن يقال: ليس بناء أصحابنا خصوصاً قدمائهم على التعدّي من مثل الموثّقة الواردة في الغداة إلى غيرها، فلا محالة يكون مستندهم تلك الروايات.

و عن «المدارك» بعد أن نقل الروايات قال: و هذه الأخبار و إن ضعف سندها إلّا أنّ عمل الطائفة عليها، و لا معارض لها، فتعيّن العمل بها، و الإنصاف أنّ المناقشة فيها من هذه الجهة غير وجيهة.

و أمّا قوله في النبوي

من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة

، و كذا ما في العلوي، يحتمل في بادي الأمر أحد معانٍ: إمّا توسعة الوقت حقيقة لمن أدرك الركعة، فيكون خارج الوقت وقتاً اضطرارياً، و إمّا تنزيل الصلاة الناقصة بحسب الوقت منزلة التامّة، و إمّا تنزيل مقدار ركعة من الوقت منزلة تمام الوقت، و إمّا تنزيل خارج الوقت منزلة الوقت».

هذا، و الظاهر هو الاحتمال الثاني، و

أنّ الصلاة الناقصة بحسب الوقت الواقعة ركعة منها فيه، تكون بمنزلة التامّة الواقعة بأجمعها فيه، نعم ظاهر ما عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، الباب 30، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، الباب 30، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 273

..........

______________________________

«المنتهى» و «المدارك» هو الاحتمال الثالث، فتدبّر.

و أمّا النسبة بين دليل «من أدرك»، و بين الصحيحة المتقدّمة، فنقول بعد ما استظهرنا منها: إنّ المراد بخوف أن يفوته الوقت هو خوف أن لا تقع الصلاة بتمامها في ظرفها الزماني المضروب لها.

فتارة يقال: بانصراف الوقت المأخوذ فيها إلى خصوص الوقت الاختياري، و لا يشمل الوقت الاضطراري الثابت بدليل «من أدرك»، بناءً على الاحتمال الأوّل.

و أُخرى يقال: بمنع الانصراف، و أنّ المراد منه مطلق الوقت و إن لم يكن اختيارياً.

فعلى الثاني: يكون دليل «من أدرك» حاكماً على الصحيحة، بناءً على الاحتمال الأوّل؛ لأنّ المفروض دلالته على توسعة الوقت، و عدم انصراف الوقت المأخوذ فيها إلى خصوص الاختياري، بل على هذا التقدير يكون وارداً عليها؛ لدلالته على توسعة الوقت حقيقة، و ورودها في مورد خوف فوات الوقت مطلقاً.

و على الأوّل: لا مجال للورود أو الحكومة؛ لاختصاص الصحيحة بخصوص الوقت الاختياري على ما هو المفروض، فتقع المعارضة بينهما، إلّا أن يقال: بأنّ دليل «من أدرك» لا يكون ناظراً إلّا إلى إدراك ركعة مع الشرائط المعتبرة فيها، و أمّا خصوصيّات الشرائط فلا بدّ من أن تستفاد من دليل آخر، و المفروض دلالة الصحيحة على أنّ خوف فوات الوقت الاختياري يوجب الانتقال إلى التيمّم، فهي متعرّضة لبيان الشرط، و أنّه في أيّة صورة يكون الشرط هي الطهارة المائية، و في أيّة صورة هي الترابية، و أمّا

دليل «من أدرك» فلا يكون ناظراً إلّا إلى خصوصية الوقت مع حفظ سائر الشرائط، فهي ناظرة إلى خصوصية الشرط، و هو دالّ على وجوده، هذا على تقدير الاحتمال الأوّل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 274

..........

______________________________

و أمّا على تقدير سائر الاحتمالات فلا وجه للحكومة أصلًا؛ لأنّ الموضوع هو الخوف الوجداني، و التنزيل بأيّ فروضه لا يوجب رفع الخوف، كما أنّ استصحاب بقاء الوقت لا يكاد يجدي في رفعه؛ لعدم زوال الخوف الوجداني به، و المفروض عدم دلالة دليل على توسعة الوقت، و لا على تنزيل خوف الفوت منزلة عدم الخوف، كما هو الظاهر.

و كيف كان: فالظاهر في الفرض المذكور هو تقدّم الصلاة مع التيمّم عليها مع الوضوء؛ لشمول الصحيحة لهذا الفرض، و عدم دلالة دليل «من أدرك» على حكمه، لأنّ موضوعه ما إذا لم يبق من الوقت إلّا ركعة، و من الواضح أنّه ليس المراد من الوقت المذكور فيه صريحاً أو تلويحاً إلّا الوقت الاختياري المعهود؛ لأنّ ثبوت الوقت الاضطراري على تقديره إنّما هو بلحاظ نفس الدليل، فالموضوع خصوص الوقت الاختياري، و المفروض في المقام ظرفية الوقت الباقي لجميع الصلاة.

إلّا أن يقال: ليس المراد من إدراك الركعة إلّا إدراكها مع تمام الشرائط المعتبرة فيها، و المحتمل في المقام أن تكون الوظيفة هي تحصيل الطهارة المائية التي لا يبقى معها إلّا إدراك الركعة فقط، فلم لا يكون الدليل دالّاً على لزوم تحصيلها، و إتيان ركعة من الصلاة في الوقت؟! و يرد عليه: ما عرفت من عدم تعرّض دليل «من أدرك» لبيان الوظيفة من جهة الشرائط أصلًا، بل المفروض فيها إدراك الركعة مع الشرائط.

و أمّا صحيحة زرارة فهي تدلّ على بيان الشرط، و

أنّه مع خوف فوات الوقت يصلّي مع التيمّم، بحيث يدرك جميع الوقت، فلا يبقى مجال لدليل «من أدرك» مع وجود الصحيحة أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 275

[و منها: وجوب استعمال الموجود من الماء]

و منها: وجوب استعمال الموجود من الماء في غسل نجاسة و نحوه ممّا لا يقوم غير الماء مقامه، فإنّه يتعيّن التيمّم حينئذٍ، لكنّ الأحوط صرف الماء في الغسل أوّلًا، ثمّ التيمّم. (1)

______________________________

و منه يظهر: أنّه إذا كان الوقت واسعاً للتيمّم و الإتيان بركعة فقط، لا يبعد أن يقال بشمول دليل «من أدرك» له و الحكم بلزوم الصلاة كذلك، و من المعلوم عدم دلالة الصحيحة على الحكم في هذه الصورة، فتدبّر.

(1) الثامن: في لزوم استعمال الماء في غسل نجاسة و نحوه أقول: في دوران الأمر بين الوضوء و الغسل، و بين رفع النجاسة عن البدن أو الثوب، لا مجال للإشكال في وجوب استعماله في رفع الخبث إجماعاً صريحاً و ظاهراً، محكيّاً عن «المعتبر» و «المنتهى» و «التذكرة» و «الذخيرة» و «حاشية الإرشاد».

قال في «المعتبر»: «و لو كان على جسده نجاسة و معه ماء يكفيه لإزالتها أو للوضوء، أزالها به و تيمّم بدلًا من الوضوء، و لا أعلم في هذه خلافاً بين أهل العلم؛ لأنّ للطهارة بدلًا هو التيمّم، و لا كذلك إزالة النجاسة».

و قال في «المنتهى»: لو كان على بدنه نجاسة، و معه من الماء ما يكفي إحداهما صرفه إلى الإزالة، لا إلى الطهارة؛ لأنّ الطهارة واجب لها بدل، بخلاف إزالة النجاسة، لا نعرف فيه خلافاً، و كذا لو كانت النجاسة على ثوبه.

و قال أحمد: إنّه يتوضّأ و يدع الثوب؛ لأنّه واجد للماء، و هو ضعيف إذ المراد من الوجدان التمكّن من الاستعمال،

و هذا غير متمكّن منه شرعاً.

و تشهد له رواية أبي عبيدة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن المرأة الحائض ترى الطهر و هي في السفر، و ليس معها ماء يكفيها لغسلها، و قد حضرت الصلاة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 276

..........

______________________________

قال

إذا كان معها بقدر ما يغتسل به فرجها فتغسله، ثمّ تتيمّم و تصلّي.

«1» بناء على عدم الاكتفاء بغسل الحيض عن الوضوء و لزومه معه، و هو محلّ إشكال، و على ثبوت الإطلاق لقوله (عليه السّلام)

إذا كان ..

، و شموله لما إذا كان الماء بقدر الوضوء أيضاً.

و أمّا ما قيل: من أنّ محتمل السؤال المفروغية عن وجوب الغسل إذا كان الماء يكفي له، و لا يجب غسل الفرج حينئذٍ، فالسكوت في الجواب عن الردع عنه دليل على عدم الأهمّية.

فيرد عليه: وضوح أنّ الكفاية للغسل مرجعها إلى الكفاية لغسل الفرج أيضاً؛ لأنّه لا يتمّ الغسل بدونه، ضرورة أنّ المراد به هو غسل ظاهره، و هو شرط في صحّة الغسل.

و ربّما يستشعر ذلك من مجموع الطائفتين من الأخبار الواردة:

إحداهما: في تتميم الصلاة مع التيمّم إذا دخل فيها أو ركع فأصاب الماء.

و الأُخرى: في وجوب غسل النجاسة العارضة في الأثناء أو نزع الثوب، و أنّه مع عدم الإمكان تبطل الصلاة. و بالجملة لا مجال للإشكال في هذه الصورة.

فيما إذا لزم من استعمال الماء محذور و أمّا في مطلق ما إذا لزم من استعماله في الطهارة المائية محذور شرعي من ترك واجب، أو فعل محرّم، أو ترك شرط معتبر في الصلاة، أو حصول مانع، فهل الحكم

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الحيض، الباب 21، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل

الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 277

..........

______________________________

كذلك، أو يدور مدار الأهمّية و تلزم رعاية قاعدة باب المزاحمة؟

ربّما يقال: بأنّه يستفاد من آية التيمّم أنّ كلّ عذر شرعي أو عقلي مسوّغ للتيمّم و موجب للانقلاب، نظراً إلى أنّه ليس المراد من عدم الوجدان الذي علّق عليه جوازه، إلّا عدم وجدان ما يستعمل في الطهور بلا محذور مطلقاً، أ لا ترى أنّه لو وجد بأقلّ من الوضوء أو كان الماء للغير، لا ينقدح في الذهن صدق وجدانه، و عدم صحّة التيمّم معه، فيكشف ذلك عن كون المراد هو عدم الوجدان بلا أيّ محذور.

و أورد عليه الماتن دام ظلّه في «الرسالة» بما يرجع إلى أنّ عدم الوجدان المأخوذ في آية التيمّم، ليس إلّا كسائر الموضوعات المأخوذة متعلّقة للأحكام، فكما أنّه لا بدّ في فهم المراد منها من الرجوع إلى العرف، و جعله هو الملاك في الموضوع، كذلك لا بدّ في فهم المراد من عدم الوجدان من المراجعة إلى العرف.

و بعبارة أُخرى: المراد بعدم الوجدان هو ما يكون كذلك عرفاً، مع قطع النظر عن تعلّق حكم به أصلًا، و عليه ففي المثالين و إن كان لا يصدق ذلك عرفاً، و أمّا في مثل ما إذا كان استعمال الماء مستلزماً لترك إنقاذ غريق، أو تأخير أداء دين لازم، لأجل المطالبة و الاستطاعة، أو فعل محرّم كالأخذ من آنية الذهب و الفضّة، أو العبور من طريق مغصوب، فالظاهر عدم الصدق.

و دعوى أنّه لا فرق بين الأخير، و بين ما إذا كان الماء للغير، مدفوعة بوضوحه، فإنّه لا يتحقّق عنوان الواجد في الثاني دون الأوّل، فالاستفادة من الآية ممنوعة.

نعم، يمكن أن يستدلّ عليه ببعض الروايات الواردة في الموارد المختلفة: كصحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي

عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألت عن رجل أجنب في سفر و لم يجد إلّا الثلج أو ماء جامداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 278

..........

______________________________

فقال

هو بمنزلة الضرورة يتيمّم، و لا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي يوبق دينه.

«1» بناء على ما عرفت من عدم كون السؤال عن كيفية التيمّم بعد الفراغ عن وجوبه حتّى يحمل الجواب على أنّه يتيمّم من غبار ثوبه و نحوه كما صنعه صاحب «الوسائل» (قدّس سرّه)، بل السؤال إنّما هو عن لزوم الغسل أو التيمّم.

و عليه فيظهر من قوله (عليه السّلام)

هو بمنزلة الضرورة

أنّ المسوّغ للتيمّم هو الضرورة أو ما هو بمنزلتها، فكلّ ما كان كذلك يوجب الانتقال إلى التيمّم، و المورد و إن كان من الضرورات التكوينية، لكن عموم التعليل أو الكبرى لا يكاد يتقيّد بالمورد، بل الحكم يدور مداره، و من المعلوم أنّ جميع ما ذكر ينطبق عليه عنوان الضرورة و المحذور.

و لا ينافي ذلك ما ذكرنا من كون المراد بالعناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام هو العرفي منها، و المحذور الشرعي لا يكون محذوراً عرفياً مطلقاً؛ و ذلك لأنّ العرف يرى أنّ المحذور الشرعي محذور و ضرورة، إمّا مطلقاً، أو لخصوص المتعبّد بالشرع، القاصد للعمل على طبقه.

فهل لا يكون التصرّف في آنية الذهب مثلًا بالاغتراف منه محذوراً في نظر العرف كذلك؟! و بالجملة: فالظاهر دلالة الرواية على ثبوت الانتقال إلى التيمّم في جميع موارد الضرورة، أو ما هو بمنزلتها.

و صحيحة أبي بصير يعني المرادي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إذا كنت في

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 279

..........

______________________________

حال

لا تقدر إلّا على الطين فتيمّم به، فإنّ اللّه أولى بالعذر إذا لم يكن معك ثوب جاف، أو لبد تقدر أن تنفضه و تتيمّم به.

«1» نظراً إلى أنّه يظهر منها أنّ موضوع التبديل هو العذر من التيمّم بالتراب، فيستفاد منها أنّ المناط في الانتقال مطلقاً هو ثبوت العذر، و من المعلوم أنّ العذر الشرعي عذر لا محالة، فتدبّر.

و صحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور و عنبسة بن مصعب جميعاً، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إذا أتيت البئر و أنت جنب، فلم تجد دلواً و لا شيئاً تغرف به، فتيمّم بالصعيد، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد، و لا تقع في البئر، و لا تفسد على القوم ماءهم.

«2» فإنّ الإفساد المذكور:

إمّا أن يكون محرّماً شرعاً، فتدلّ الرواية على أنّ استلزام المحرّم الشرعي يوجب الانتقال إلى التيمّم، و هو المطلوب.

و إمّا أن يكون مكروهاً لأجل حصول التنفّر منه، فتدلّ على ما ذكرنا بطريق أولى، كما لا يخفى.

أضف إلى ما ذكر: أنّ المتفاهم من مجموع الروايات الواردة في التيمّم، الدالّة على أنّ التراب أحد الطهورين، و يكفي عشر سنين، و أنّ ربّه و ربّ الماء واحد، و على عدم لزوم الطلب أزيد من غلوة أو غلوتين و لو احتمل أو ظنّ وجود الماء في الزائد منه، و على جواز إجناب النفس مع عدم الماء، و على جواز إتمام الصلاة مع التيمّم لو وجد الماء بعد الركوع، بل بعد الدخول، و على جواز البدار و

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 3، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 280

..........

______________________________

عدم وجوب الانتظار، و على

الانتقال إلى التيمّم مع خوف العطش و لو على الذمّي أو حيوان محرّم، أنّ الأمر في التبديل سهل السبيل، و هذه الأُمور و إن لم يكن كلّ واحد منها دليلًا مستقلّاً، لكن مجموعها دليل خالٍ عن المناقشة، و يفيد أنّ المحذور الشرعي بأيّ نحو كان يوجب الانتقال إلى التيمّم، كما هو ظاهر.

و لو أُغمض عمّا ذكرنا: فاللازم الرجوع إلى قاعدة باب التزاحم و ترجيح ما هو الأهمّ، أو محتمل الأهمّية؛ لأصالة التعيين في الدوران بينه و بين التخيير، و مع التساوي يكون الحكم العقلي هو التخيير، ففي مثل ما إذا لزم من الصلاة مع المائية ترك إنقاذ غريق يتعيّن الانتقال، و في مثل ما إذا كان استعمال الماء مستلزماً للتصرّف في آنية الذهب و الفضّة لا يعلم الحال، فاللازم الحكم بالتخيير لو لم يكن في البين لأهمّية أحد الطرفين احتمال.

و أمّا ما يظهر من الفاضلين في عبارتهما المتقدّمة: من أنّ ثبوت البدل للطهارة المائية يقتضي ترجيح مزاحمة الذي ليس له بدل مطلقاً، و لعلّه يشعر بذلك عبارة المتن، فتدبّر.

فيرد عليه: أنّه إن كان المراد أنّ ثبوت البدل طريق لإحراز أهمّية المعارض، أو احتمالها، فهو كما ترى، لعدم ثبوت الطريقية، و لا دلالة لجعل البدل على نفي الأهمّية، و لا لعدمه على ثبوتها، و إن كان المراد أنّ الانتقال جمع بين الغرضين و لو في مرتبة البدل، و الأخذ بالطهارة المائية يوجب ترك الآخر رأساً، فيدفعه عدم كونه كذلك؛ لأنّه كما يجري احتمال الأهمّية في المعارض كذلك يجري في المبدل، و لا ترجيح في البين.

نعم، حكي عن الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) في «طهارته» في مبحث الشبهة المحصورة،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص:

281

..........

______________________________

أنّه علّل في بعض الأخبار لزوم ترجيح سائر الواجبات و المحرّمات على الطهارة المائية، بأنّ اللّه تعالى جعل للماء بدلًا، و الظاهر عدم وجود هذا التعليل بهذه الكيفية، و لعلّه أراد الروايات التي استفدنا منها أنّ الانتقال يتحقّق بأدنى عذر، و يتوقّف على ثبوت مجرّد المحذور.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا: ثبوت الانتقال في جميع الموارد المذكورة، و لكنّ مقتضى الاحتياط صرف الماء أوّلًا في المعارض، ثمّ التيمّم؛ ليتحقّق عدم الوجدان الحقيقي أيضاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 282

[مسألة 11: لا فرق في العطش الذي يسوغ معه التيمّم]

مسألة 11: لا فرق في العطش الذي يسوغ معه التيمّم بين المؤدّي إلى الهلاك، أو المرض، أو المشقّة الشديدة التي لا تتحمّل و إن أمن من ضرره.

كما لا فرق فيما يؤدّي إلى الهلاك بين ما يخاف على نفسه، أو على غيره، آدمياً كان أو غيره، مملوكاً كان أو غيره، ممّا يجب حفظه عن الهلاك، بل لا يبعد التعدّي إلى من لا يجوز قتله، و إن لا يجب حفظه كالذمّي.

نعم، الظاهر عدم التعدّي إلى ما يجوز قتله بأيّ حيلة، كالمؤذيات من الحيوانات، و من يكون مهدور الدم من الآدمي، كالحربي، و المرتدّ عن فطرة، و نحوهما.

و لو أمكن رفع عطشه بما يحرم تناوله، كالخمر و النجس، و عنده ماء طاهر يجب حفظه لعطشه، و يتيمّم لصلاته، لأنّ وجود المحرّم كالعدم. (1)

______________________________

(1) في تفصيل مسوّغية الخوف من العطش قد تقدّم الكلام في هذه المسألة في مسوّغية الخوف من العطش باستعمال الماء، نعم يظهر حكم الفرع الأخير منها، و هو ما لو أمكن رفع عطشه بما يحرم تناوله، ممّا ذكرناه آنفاً من أنّ المستفاد من الروايات أنّ ثبوت أيّ محذور شرعي يوجب الانتقال إلى

التيمّم، فلا يجب صرف الماء في الطهارة المائية حتّى يضطرّ إلى رفع العطش بما يحرم تناوله، و الترديد الذي يظهر من «المدارك» إنّما هو لعدم ثبوت حرمة شرب النجس عنده، و إن كان مخالفاً للإجماع ظاهراً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 283

[مسألة 12: لو كان متمكّناً من الصلاة مع الطهارة المائية، فأخّر]

مسألة 12: لو كان متمكّناً من الصلاة مع الطهارة المائية، فأخّر حتّى ضاق الوقت عن الوضوء و الغسل، تيمّم و صلّى و صحّت صلاته و إن أثم بالتأخير، و الأحوط احتياطاً شديداً قضاؤها أيضاً. (1)

______________________________

(1) في التأخير عمداً حتّى ضاق الوقت قد تقدّم البحث في هذه المسألة في المسألة الخامسة المتعرّضة لما إذا ترك الطلب حتّى ضاق الوقت، و ذكرنا أنّه لا محيص عن الحكم بالانتقال إلى التيمّم و إن أثم بالتأخير من جهة ترك المطلوب المطلق، الذي تجب رعايته مهما أمكن؛ لاشتماله على المصلحة الكاملة التي لا يفي بها المطلوب المقيّد، لكن حيث إنّه يحتمل انصراف أدلّة مشروعية التيمّم عن صورة التقصير، خصوصاً مع أنّ أصل المشروعية عند الضيق مورد لإنكار البعض كما تقدّم، فالأحوط احتياطاً شديداً هو القضاء مع المائية بعد الوقت أيضاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 284

[مسألة 13: لو شكّ في مقدار ما بقي من الوقت]

مسألة 13: لو شكّ في مقدار ما بقي من الوقت، فتردّد بين ضيقه حتّى يتيمّم، أو سعته حتّى يتوضّأ أو يغتسل، يجب عليه التيمّم، و كذا لو علم مقدار ما بقي و لو تقريباً و شكّ في كفايته للطهارة المائية، يتيمّم و يصلّي. (1)

______________________________

(1) لو شكّ بين ضيق و سعة الوقت هذه المسألة متعرّضة لفرعين، و أوجب في المتن التيمّم في كليهما، و قد صرّح في «العروة» بالتفصيل بينهما، و وجوب الوضوء أو الغسل في الفرع الأوّل و التيمّم في الثاني، قائلًا بأنّ الفرق بين الصورتين أنّ في الأُولى يحتمل سعة الوقت، و في الثانية يعلم ضيقه فيصدق خوف الفوت فيها دون الاولى، و عن بعض المحشّين أنّ الأقرب عدم الانتقال في الثانية أيضاً.

و كيف كان: فقد استدلّ لوجوب

الطهارة المائية في الأوّل بأمرين:

أحدهما: استصحاب بقاء الوقت إلى ما بعد الصلاة و الطهارة المائية؛ لأنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في الأزمنة المستقبلة، و لا يكون جريانه في المقام مبتنياً على القول بالأُصول المثبتة؛ نظراً إلى أنّ استصحاب بقاء الوقت لا يصلح لإثبات كون الزمان الخارجي وقتاً، نظير استصحاب بقاء الكرّ في الحوض لإثبات كرّية الماء الموجود في الحوض، و ذلك أي وجه عدم الابتناء أنّ الصلاة في الوقت لإيراد منه كون الوقت بنفسه ظرفاً للصلاة؛ إذ لا ظرفية بينهما، بل المراد منه وقوع الصلاة في الأمد الموهوم الذي يكون ظرفاً للوقت كما يكون ظرفاً لها، نظير الصلاة في الطهارة، فكما يجري استصحاب الطهارة لإثبات كون الصلاة في حالها، كذلك يجري استصحاب الوقت لإثبات كونها في الوقت.

ثانيهما: قاعدة الشكّ في القدرة المقتضية للاحتياط؛ لأنّ مرجع الشكّ في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 285

..........

______________________________

ضيق الوقت إلى الشكّ في القدرة على الصلاة بالطهارة المائية، و هو مجرى أصالة الاحتياط.

و يرد على كلا الأمرين: أنّه لا مجال لهما مع وجود دلالة لفظية و هي صحيحة زرارة المتقدّمة الواردة في الطلب، و أنّه إذا خاف فوات الوقت ينتقل إلى التيمّم، و قد مرّ أنّ الخوف أمر وجداني لا يرتفع بالاستصحاب ضرورة، و لا دلالة لدليل الاستصحاب و لا لغيره على تنزيل خوف الفوات منزلة العدم، فليس هذا من الموارد التي ينقّح موضوع الدليل نفياً أو إثباتاً بالأصل، فمع وجود الخوف الكذائي ينطبق الدليل الاجتهادي الحاكم بلزوم التيمّم، فلا مجال للأصل و لا للقاعدة.

و دعوى: عدم صدق خوف الفوات في الصورة الاولى في نفسه كما في «العروة» مدفوعة بوضوح خلافها، ضرورة أنّه يصدق

هذا العنوان فيها أيضاً، و يمكن أن يكون نظر «العروة» إلى أنّ جريان الاستصحاب في خصوص الصورة الأُولى؛ لتردّد الوقت بين القصير و الطويل، يمنع عن صدق الخوف.

و يرد عليه حينئذٍ: مع أنّه خلاف ظاهر العبارة، ما عرفت من أنّ الخوف أمر وجداني، لا يكاد يرتفع بالاستصحاب، فالتفصيل في غير محلّه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 286

[مسألة 14: لو دار الأمر بين إيقاع تمام الصلاة في الوقت مع التيمّم]

مسألة 14: لو دار الأمر بين إيقاع تمام الصلاة في الوقت مع التيمّم، و إيقاع ركعة منها مع الوضوء قدّم الأوّل على الأقوى، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالقضاء مع المائية. (1)

[مسألة 15: التيمّم لأجل ضيق الوقت مع وجدان الماء لا يستباح به إلّا الصلاة التي ضاق وقتها]

مسألة 15: التيمّم لأجل ضيق الوقت مع وجدان الماء لا يستباح به إلّا الصلاة التي ضاق وقتها، فلا ينفع لصلاة أُخرى و لو صار فاقد الماء حينها، نعم لو فقد في أثناء الصلاة الأُولى لا يبعد كفايته لصلاة أُخرى، و الأحوط ترك سائر الغايات غير تلك الصلاة حتّى إذا أتى بها حال الصلاة، فلا يجوز مسّ كتابة القرآن على الأحوط. (2)

______________________________

(1) قد تقدّم البحث في هذه المسألة في مسوّغية ضيق الوقت مفصّلًا، فراجع.

(2) في أنّ التيمّم لأجل الضيق لا يستباح به الغايات الأُخر الوجه في عدم استباحة ما عدا الصلاة التي ضاق وقتها من الصلاة الأُخر واضح؛ لأنّ مشروعيته إنّما هو لخصوص رعاية مصلحة الوقت التي لا يمكن تحصيلها مع الطهارة المائية، فلا وجه للانتفاع به في صلاة أُخرى من دون فرق بين أن يبقى الوجدان حينها، أو يصير فاقد الماء عند الإتيان بها؛ لأنّ انقضاء وقت الاولى يوجب خروجه عن الطهارة، فاللازم تحصيلها ثانياً، فإذا صار فاقد الماء حينها فلا بدّ من التيمّم لتحصيل الطهارة، كما لا يخفى.

نعم، لو صار فاقد الماء في أثناء الصلاة الأُولى التي تيمّم لها لأجل ضيق الوقت، فقد نفى البعد في المتن عن كفاية ذلك التيمّم لصلاة أُخرى، و الوجه فيه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 287

..........

______________________________

ما عرفت من أنّ ثبوت المحذور الشرعي في الطهارة المائية، يوجب الانتقال إلى الترابية، و هو هنا حاصل، فإنّ وجوب إيقاع الصلاة الاولى مع التيمّم

حفظاً لمصلحة الوقت محذور شرعي بالإضافة إلى الصلاة الثانية، التي يمكن تحصيل الطهارة المائية لها قبل أن يصير فاقد الماء، فهي في هذه الحال مبتلاة بالمحذور، فالتيمّم مشروع لها و إن كان الفقدان لم يتحقّق بعد، و إرادة الإتيان بها لم توجد قبل إيقاع الاولى.

و بعبارة أُخرى: كما أنّ ضيق الوقت بالإضافة إلى الأُولى صار موجباً لشرع التيمّم لها، كذلك هو بضميمة الفقدان في حال الاشتغال بها المتحقّق حينه، يكون موجباً لشرعه للثانية في هذا الحال، أي قبل الشروع في الأُولى، فكلتا الصلاتين مشتركتان في مشروعية التيمّم لهما قبل الشروع في الأُولى، فلا بدّ من الاكتفاء به لهما.

و هل يجوز الإتيان بسائر الغايات غير تلك الصلاة، أم لا؟

و قد نفى الخلاف الظاهر عن عدم الجواز، و لا ما يوجب توهّم الخلاف إلّا ما طفحت به عباراتهم، و حكي عليه الاتّفاق، و نفي الخلاف من أنّه يستباح بالتيمّم لغاية ما يستبيحه المتطهّر من سائر الغايات، و لكنّه ينبغي الجزم بأنّ مرادهم عدم الاحتياج في فعل كلّ غاية إلى إيقاع التيمّم لها و تجديده عند فعلها، لا أنّه إذا شرع لغاية لصدق عدم الوجدان بالإضافة إليها يستباح به كلّ غاية و إن لم يصدق عدم الوجدان بالإضافة إليها.

و كيف كان: فقد ذكر في «المصباح» بعد ذهابه إلى ثبوت الوجهين في المسألة في وجه عدم الجواز: أنّ العجز عن الطهارة المائية أُخذ قيداً في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 288

..........

______________________________

موضوعية الموضوع، فهو جهة تقييدية لا تعليلية، فالمتيمّم لضيق الوقت عاجز عن الطهارة المائية لصلاة ضاق وقتها لا مطلقاً، فهو بالمقايسة إلى سائر الغايات متمكّن من الطهارة المائية، حتّى إذا أراد الإتيان بها

في حال الاشتغال بالصلاة، كما إذا أراد مسّ كتابة القرآن حالها، خصوصاً إذا لم يكن الاشتغال بالوضوء أو الغسل في خلال الصلاة منافياً لصورتها.

و ذكر في وجه الجواز الذي قوّاه: أنّ العجز في الجملة أثّر في شرعية التيمّم، فمتى تيمّم فقد فعل أحد الطهورين و حصلت الطهارة، فله الإتيان بجميع ما هو مشروط بالطهور، و كون الجهة تقييدية لا يؤثّر في إمكان اتّصاف المكلّف في زمان واحد بكونه متطهّراً و غير متطهّر، فهو بعد أن فعل أحد الطهورين متطهّر، و إلّا لم يجز له فعل الصلاة، نعم لو كان أثر التيمّم مجرّد رفع المنع من فعل الغايات لا الطهارة، لأمكن التفكيك بينها، لكنّ الحقّ خلافه.

و الحقّ: أنّه بناء على ما ذكرناه من عدم وفاء مثل الصلاة مع الترابية بجميع ما تشتمل عليه مع المائية من المصلحة اللازمة الرعاية، لدلالة الكتاب عليه و السنّة، لا محيص من الالتزام بعدم استباحة سائر الغايات غير المضطرّ إليها، من دون فرق بين ما إذا أراد الإتيان بها حال الاشتغال بالصلاة كما في المثال المذكور، و بين ما إذا أراد الإتيان بها بعدها.

و نحن و إن التزمنا بإمكان الجمع بين الأمرين في بعض مقدّمات مبحث التيمّم المتقدّمة، إلّا أنّه إنّما هو على تقدير وجود دليل على الاستباحة، و إلّا فنفس عدم تمامية الترابية و نقصانها دليل على عدم الاستباحة، فالأحوط لو لم يكن أقوى العدم، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 289

..........

______________________________

بقي الكلام في بحث مسوّغات التيمّم في أُمور تعرّض لبعضها الماتن دام ظلّه، و لم يتعرّض لأكثرها مع لزومه.

في المراد من الخوف المأخوذ في الأدلّة فنقول: من الأُمور التي لم يقع التعرّض

لها في الكتاب أنّه هل الخوف المأخوذ في الأدلّة هو مطلق الخوف، أو ما يكون حاصلًا من منشإ مخوف عرفاً؟

فإنّ الخوف الوجداني قد يحصل من منشإ مخوف، كالخوف الحاصل في مغازة تكون معرض السباع أو اللصوص، و قد يحصل من اعتقاد باطل، كما لو اعتقد كونه في مغازة كذائية مع كونه في محلّ أمن، وجهان:

ذكر الماتن دام ظلّه في «الرسالة» أنّ مقتضى الأدلّة هو الثاني، و أفاد في توضيحه ما ملخّصه: «أنّ غير دليل الحرج من الأخبار الواردة في الباب ظاهرة فيه أو منصرفة إليه، ففي رواية داود الرقّي قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): أكون في السفر فتحضر الصلاة و ليس معي ماء، و يقال إنّ الماء قريب منّا، أ فأطلب الماء و أنا في وقت يميناً و شمالًا؟

قال

لا تطلب الماء، و لكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك التخلّف عن أصحابك، فتضلّ و يأكلك السبع.

«1» و في رواية يعقوب عنه (عليه السّلام) بعد فرض كون الماء عن يمين الطريق و يساره غلوتين.

قال

لا آمره أن يغرّر بنفسه، فيعرض له لصّ أو سبع.

«2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 2، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 2، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 290

..........

______________________________

فإنّ الظاهر منهما أنّ التيمّم إنّما يكون في خصوص المحلّ المخوف الذي يكون معرضاً للخطر و الخوف.

و في صحيحتي ابن أبي نصر و ابن السرحان، عن الرضا و أبي عبد اللّه (عليهما السّلام) في الرجل تصيبه الجنابة و به جروح، أو قروح، أو يخاف على نفسه من البرد.

قالا

لا يغتسل و يتيمّم.

«1» و الظاهر منهما الخوف من البرد المحقّق، لأمن تخيّله، فكأنّه قيل: إذا كان

الهواء بارداً فخاف على نفسه.

و في رواية زرارة عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: قلت رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء و فيها طين ما يصنع؟

قال

يتيمّم، فإنّه الصعيد.

قلت: فإنّه راكب لا يمكنه النزول من خوف، و ليس هو على وضوء.

قال

إن خاف على نفسه من سبع أو غيره، و خاف فوات الوقت فليتيمّم، يضرب بيده على اللبد أو البرذعة و يتيمّم و يصلّي.

«2» فإنّها أيضاً ظاهرة فيما ذكر، خصوصاً إذا كانت الأجمة بمعنى محلّ الأسد كما في «المنجد»، و كذا الكلام في روايات خوف العطش فإنّها أيضاً ظاهرة في أنّ المحلّ كان بحيث يخاف فيه من قلّة الماء أو من العطش.

و كذا في صحيحة زرارة، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال

إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم و ليصلّ في آخر

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 291

..........

______________________________

الوقت .. «1»

فإنّ الظاهر منها الخوف الحاصل من ضيق الوقت، كما هو واضح.

و أمّا دليل نفي الحرج: فقد يمكن أن يقال بصدقه فيما إذا خاف على نفسه من أيّ منشإ كان، فيكون التكليف بالوضوء حرجياً على المكلّف مع اعتقاد معرضية المحلّ للخطر و لو كان اعتقاده خطأً، لكنّه أيضاً مشكل؛ لأنّ الظاهر منه عدم جعل الحرج في الدين، و غاية ما يمكن الاستفادة منه أنّ ما يلزم منه الحرج و المشقّة سواء كان في مقدّماته أو ما يترتّب عليه فهو أيضاً غير مجعول. و أمّا الحرج الحاصل من تخيّل باطل أو تخيّل الحرج، فليس مشمولًا لدليل نفيه؛ لعدم الحرج

في الدين و لا من قبله واقعاً، و لا مجال لإلغاء الخصوصية بالنسبة إلى ما يلزم من اعتقاد باطل».

أقول: الظاهر أنّه لا فرق بلحاظ دليل نفي الحرج بين أن يكون الخوف ناشياً من أمر يقتضيه عادة، أو من مثل الجبن كما صرّح به غير واحد، لأنّه لا فرق في كون التكليف لدى الخوف حرجياً بين الصورتين، بل كونه كذلك في الجبان أظهر؛ لأنّه ربّما يؤدّي ذلك إلى ذهاب عقله لما فيه من ضعف القوّة.

و بعبارة أُخرى: بعد كون الملاك في دليل الحرج هو الحرج الشخصي، و بعد ثبوته في المقام و لو كان منشؤه مجرّد التخيّل و الاعتقاد الباطل، لا مجال لدعوى عدم جريانه في المقام، و بطلان الاعتقاد إنّما هو بحسب الواقع، لا بلحاظ الشخص المعتقد، ضرورة أنّه لا يرى بطلان اعتقاده، و بالجملة فالحرج في مورد التخيّل واقعي و إن كان منشؤه لا واقعية له.

و أمّا الروايات: فمضافاً إلى إمكان المناقشة في استفادة ما ذكر من بعضها، نقول: لا دلالة لها على اختصاص الحكم بخصوص صورة ثبوت المنشإ الواقعي للخوف،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 292

..........

______________________________

بل غايتها الدلالة على الانتقال فيها، و الدليل حينئذٍ عليه في غيرها نفس الآية المشتملة على التعليل بعدم تعلّق إرادة اللّه تعالى بجعل الحرج، فالظاهر حينئذٍ هو الاحتمال الأوّل.

و من تلك الأُمور: أنّه هل الخوف المأخوذ في موضوع الأدلّة على نسق واحد، بمعنى أنّ الموضوع في جميع الموارد هو الخوف بعنوانه، أو أنّ الموضوع ليس عنوان الخوف أصلًا، بل الواقع الذي خاف منه، فإذا تيمّم من خوف العطش و لو في محلّ مخوف، ثمّ تبيّن

عدم حصول العطش على فرض استعماله في الطهارة المائية بطل على الثاني دون الأوّل، أو يفصّل بين المقامات؟

وجوه و احتمالات، اختار الماتن دام ظلّه في «الرسالة» الوجه الثالث، و أفاد في تحقيقه ما ملخّصه: «أنّ الظاهر من الأدلّة غير دليل ضيق الوقت أنّ مجرّد المعرضية للخطر الموجبة للخوف موضوع للانتقال إلى التيمّم، فقوله (عليه السّلام) في صحيحة ابن سنان

إن خاف عطشاً فلا يهريق منه قطرة و ليتيمّم بالصعيد، فإنّ الصعيد أحبّ إليّ «1»

ظاهر في أنّ مجرّد خوف العطش يوجب محبوبية الصعيد.

و قوله (عليه السّلام) في موثّقة سماعة، بعد فرض خوف قلّة الماء

يتيمّم بالصعيد و يستبقي الماء، فإنّ اللّه عزّ و جلّ جعلهما طهوراً، الماء و الصعيد.

«2» و قوله (عليه السّلام) في رواية ابن أبي يعفور، بعد فرض انحصار الماء بمقدار شربه

يتيمّم أفضل، أ لا ترى أنّه إنّما جعل عليه نصف الطهور.

«3» ظاهران في مشروعية التيمّم،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 293

..........

______________________________

و أنّه أحد الطهورين.

و بالجملة: الظاهر من تلك الموارد أنّ الشارع لاحظ حال المكلّف؛ لئلّا يقع في معرض الخطر، و هذه المعرضية أوجبت الانتقال، بل الظاهر أنّ رفع الوضوء فيها إنّما هو لنكتة رفع الحرج، و لا شبهة في ثبوته في موارد المعرضية و إن لم يكن خطر واقعاً.

و أمّا خوف فوت الوقت، فالظاهر أنّه ليس على نسق غيره؛ لأنّ الشارع لاحظ فيه حفظ التكليف الأهمّ، و أمر بالتيمّم لا لأجل صيرورة خوف الفوت موجباً بنفسه للانتقال، بل لأجل الاعتناء باحتمال فوت الأهمّ

في مقابل المهمّ، بل يمكن أن يقال بعدم تشريع التيمّم في هذا الحال.

فقوله (عليه السّلام) في صحيحة زرارة

إذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم

، إرشاد إلى أهمّية الوقت، و أنّه مع الدوران بين احتمال فوت الوقت و فوت الطهارة المائية، توجب أهمّية الوقت تقديمه من غير تشريع للتيمّم في هذا الحال، و معه لا وجه للإجزاء، بل لا معنى للتشريع بعد حكومة العقل، بل يكفي في عدم الإجزاء احتمال ما ذكرناه؛ لأنّ الإجزاء متقوّم بالتشريع».

أقول: إن استفدنا أصل مشروعية التيمّم عند الضيق واقعاً من الآية الشريفة من دون حاجة إلى دلالة أُخرى، لأمكن أن يقال بعدم دلالة الصحيحة على المشروعية، بل مفادها الإرشاد.

و أمّا إن كان المستند في ذلك هي الصحيحة كما مرّ تقريب الاستدلال بها، فكيف يمكن أن تكون للإرشاد؟ فإنّ الأهمّية لا تتحقّق بدون المشروعية، و المفروض ثبوتها بها، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 294

[مسألة 16: لا فرق بين عدم الماء رأساً و وجود ما لا يكفي لتمام الأعضاء]

مسألة 16: لا فرق بين عدم الماء رأساً و وجود ما لا يكفي لتمام الأعضاء و كان كافياً لبعضها في الانتقال إلى التيمّم، و لو تمكّن من مزج الماء الذي لا يكفيه لطهارته بما لا يخرجه عن الإطلاق و يحصل به الكفاية فالأحوط وجوبه. (1)

[مسألة 17: لو خالف من كان فرضه التيمّم فتوضّأ أو اغتسل، فطهارته باطلة]

مسألة 17: لو خالف من كان فرضه التيمّم فتوضّأ أو اغتسل، فطهارته باطلة على الأحوط و إن كان فيه تفصيل، و لو أتى بها في مقام ضيق الوقت بعنوان الكون على الطهارة أو لغايات أُخر صحّت، كما صحّت أيضاً لو خالف و دفع ثمناً عن الماء مضرّاً بحاله، أو تحمّل المنّة و الهوان أو المخاطرة في تحصيله و نحو ذلك ممّا كان الممنوع منه مقدّمات الطهارة لا نفسها، و أمّا لو كانت بنفسها ضررية أو حرجية فالظاهر بطلانها، نعم لو كان الضرر أو الحرج على الغير فخالف و تطهّر فلا يبعد الصحّة. (2)

______________________________

و إذ فرضنا ذلك فيمكن أن يقال: إنّ الموضوع هو خوف الفوات، فلا فرق بينه، و بين سائر الموارد، لكنّ التحقيق يوافق ما أُفيد، فتدبّر.

(1) قد تقدّم البحث في الفرع الأوّل من هذه المسألة في الأمر الخامس من الأُمور الباقية التي ذكرناها في مسوّغية عدم وجدان الماء، و الفرع الثاني منها في الأمر السادس من تلك الأُمور، فراجع.

(2) في هذه المسألة فروع:

فيما لو خالف من كان فرضه التيمّم الفرع الأوّل و هو عمدتها: أنّه لو خالف من كان فرضه التيمّم فتوضّأ أو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 295

..........

______________________________

اغتسل، فهل تكون طهارته باطلة مطلقاً، أم صحيحة كذلك، أو فيه تفصيل؟ و الكلام فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّ سقوط الطهارة المائية في

موارده، هل يكون بنحو العزيمة، أو الرخصة؟

و الكلام فيه تارة بلحاظ دليل نفي الحرج، و اخرى بالنظر إلى الروايات الخاصّة الواردة في الموارد المختلفة، الدالّة على السقوط فيها.

أمّا بلحاظ دليل نفي الحرج: فربّما يقال كما قيل، بل اشتهر بينهم، بل صار كالأُصول المسلّمة إنّ دليل نفي الحرج لا يدلّ إلّا على عدم الوجوب، و لا دلالة له على نفي الجواز، لوروده في مقام الامتنان، و بيان توسعة الدين، فثبوت التيمّم في موارده إنّما هو على سبيل الرخصة لا العزيمة؛ لأنّ العزيمة كلفة على خلاف الامتنان.

و أُورد عليه: بأنّ غاية ما يمكن ادّعاؤه هو عدم دلالة دليل نفي الحرج على كون الرفع على وجه العزيمة، لا أنّه يدلّ على كونه على نحو الرخصة، فلا ينافيه ما يظهر منه العزيمة كقوله تعالى وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «1» حيث إنّ اللّٰه إذا أراد بنا اليسر في أحكامه لا يجوز لنا مخالفة إرادته، فكما أنّه لو أراد منّا شيئاً لا يجوز لنا التخلّف عن إرادته، كذلك لو أراد بنا و في حقّنا شيئاً، خصوصاً مع وقوعه عقيب قوله وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ حيث إنّ الصوم على المسافر، بل المريض الذي يضرّ به الصوم حرام، فيدلّ على أنّ السقوط إنّما هو على نحو العزيمة، و أنّ تعلّق إرادة اللّه تعالى باليسر إنّما هو

______________________________

(1) البقرة 185.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 296

..........

______________________________

على نحو لا تجوزمخالفته؛ لأنّه كالتعليل، و لا يمكن التفكيك بينه، و بين ما هو تعليل له كما هو ظاهر.

و تدلّ على العزيمة أيضاً رواية

يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر.

ثمّ قال

إنّ رجلًا أتى النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقال: يا رسول اللّه، أصوم شهر رمضان في السفر؟

فقال: لا.

فقال: يا رسول اللّه، إنّه عليّ يسير.

فقال رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): إنّ اللّه تصدّق على مرضى أُمّتي و مسافريها بالإفطار في شهر رمضان، أ يحبّ أحدكم لو تصدّق بصدقة أن تردّ عليه صدقته.

«1» فإنّ استشهاد الإمام (عليه السّلام) لما أفاده من التشبيه الظاهر في الحرمة بقول الرسول، يدلّ على أنّ ردّ صدقته تعالى غير جائز، و التعبير بعدم كونه محبوباً لا دلالة فيه على الأعمّ من المبغوضية؛ لأنّه كالتعبير الواقع في باب الغيبة بقوله تعالى أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً. «2» مع أنّ ردّ الصدقة في نفسه مبغوض و ثقيل على النفوس العالية.

و بالجملة: فلا شبهة في دلالة الرواية على مبغوضية ردّ صدقة اللّه تعالى، و لا شبهة في أنّ رفع التكليف بمقتضى دليل نفي الحرج صدقة و هدية من اللّه تعالى، فلا يجوز ردّه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 1، الحديث 5.

(2) الحجرات 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 297

..........

______________________________

و يؤيّده: موثّقة السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (عليهما السّلام) قال

قال رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): إنّ اللّه عزّ و جلّ أهدى إليّ و إلى أُمّتي هدية، لا يهديها إلى أحد من الأُمم كرامة من اللّه لنا.

فقالوا: ما ذاك يا رسول اللّه؟

قال: الإفطار في السفر، و التقصير في الصلاة، فمن

لم يفعل فقد ردّ على اللّه عزّ و جلّ هديته.

«1» فإنّ حرمة الأمرين دليل على حرمة ردّ هدية اللّه تعالى.

و تؤيّد العزيمة أيضاً: ما عن تفسير العيّاشي، عن عمرو بن مروان الخزّاز قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول

قال رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): رفعت عن أُمّتي أربع خصال: ما اضطرّوا إليه، و ما نسوا، و ما اكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا، و ذلك في كتاب اللّه قوله رَبَّنٰا لٰا تُؤٰاخِذْنٰا إِنْ نَسِينٰا أَوْ أَخْطَأْنٰا رَبَّنٰا وَ لٰا تَحْمِلْ عَلَيْنٰا إِصْراً كَمٰا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنٰا رَبَّنٰا وَ لٰا تُحَمِّلْنٰا مٰا لٰا طٰاقَةَ لَنٰا بِهِ، و قول اللّه إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ.

«2» فإنّ ذكر آية التقيّة في سياق حديث الرفع مع أنّ التقيّة واجبة، ليس للمكلّف تركها، خصوصاً مع ملاحظة شأن نزولها دليل على أنّ الرفع في تمام موارده إنّما هو على نحو العزيمة. مع أنّه من المحتمل أن لا يكون رفع الحرج عن العباد لصرف الامتنان عليهم، حتّى يقال: إنّه لا يلائم الإلزام؛ بل لأنّه تعالى لا يرضى بوقوع عباده في المشقّة و الحرج، كالأب الشفيق الذي لا يرضى بوقوع ابنه المحبوب له

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب صلاة المسافر، الباب 22، الحديث 11.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأمر و النّهي، الباب 25، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 298

..........

______________________________

في الحرج و لو اختياراً، فيمنعه إشفاقاً عليه.

كما أنّه يحتمل أن يكون رفع الحرج في عباداته و ما يتعلّق بها؛ لعدم رضائه بوقوع العبيد في المشقّة من ناحيتها، لكونه مظنّة لانزجارهم عنها، فينتهي إلى إدبار نفوسهم عن عبادة اللّه و

دينه، و هو أمر مرغوب عنه.

ففي رواية عمرو بن جميع، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

قال رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): يا علي، إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، و لا تبغض إلى نفسك عبادة ربّك، إنّ المنبت يعنى المفرط لا ظهراً أبقى، و لا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، و احذر حذر من يتخوّف أن يموت غداً.

«1» و بسند معتبر، عن أبى عبد اللّه (عليه السّلام) قال

لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة.

«2» و أمّا ما ورد من بعض الأئمّة (عليهم السّلام) من إيقاع المشقّة على نفوسهم الشريفة، فلأنّهم كانوا مأمونين من خطوات الشيطان و خطراته، و معصومين من الإثم و زلّاته، بل لنفوسهم الشريفة مقامات من الحبّ إلى عبادة اللّه، و الشوق إلى الخشوع و الخضوع لديه، ربّما لا يكون ما هو مشقّة بنظرنا بشاقّ لديهم أصلًا، مع أنّ تحمّل المشاق كان في المستحبّات التي هي خارجة عن مصبّ دليل الحرج، و قد تقدّم الكلام في غسل الإمام (عليه السّلام) في الليلة الباردة الشديدة الريح.

و قد تحصّل ممّا ذكر: أنّ دليل الحرج لا ينهض لإثبات كون الانتقال إلى التيمّم على وجه الرخصة، بل مقتضى ما ذكر كونه على نحو العزيمة و إن كان على خلافه الشهرة، هذا كلّه بلحاظ دليل نفي الحرج.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 26، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 26، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 299

..........

______________________________

و أمّا مع ملاحظة سائر الأدلّة، ففيما إذا لزم محذور شرعي من الوضوء أو الغسل و لو لم يلزم منه حرمتها، يتعيّن التيمّم،

و تسقط الطهارة المائية على نحو العزيمة، و ذلك كما فيما لو كان في التوصّل إلى الماء خوف تلف النفس، أو لزم منه ارتكاب محرّم، أو ترك واجب، أو فوت الوقت.

و أمّا في غيره، فلا تبعد استفادة ذلك من مجموع الروايات، و هي على طائفتين:

الأُولى: ما وردت فيما إذا كان الغسل ضررياً، كصحيحة محمّد بن مسكين و غيره، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة و هو مجدور، فغسّلوه فمات.

فقال

قتلوه، ألّا سألوا، ألّا يمّموه؟! إنّ شفاء العيّ السؤال.

«1» و قريب منها مرسلة ابن أبي عمير. «2» و رواية الجعفري، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إنّ النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) ذكر له أنّ رجلًا أصابته جنابة على جرح كان به، فأمر بالغسل فاغتسل، فكزّ فمات، فقال رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قتلوه قتلهم اللّه، إنّما كان دواء العيّ السؤال.

«3» و إطلاق هذه الروايات يقتضي شمولها لما إذا خاف على نفسه التلف، أو خاف عليها غيره من طول المرض و البرء، بل لا يبعد خروج صورة خوف التلف منها، نظراً إلى أنّ العقلاء لا يرتكبون شيئاً مع خوف التلف، و كذا لا يأمرون به، فالاغتسال أو الأمر به دليل على عدم كون التلف مورداً للخوف بوجه، و عليه فاللوم و المذمّة دليل

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 300

..........

______________________________

على كون الوظيفة هي خصوص التيمّم، أو الأمر به، و إلّا فمع ثبوت

الرخصة لا مجال للوم و المذمّة، كما هو ظاهر.

و مثلها في الدلالة أو أدلّ منها صحيحة ابن أبي نصر، عن الرضا (عليه السّلام) في الرجل تصيبه الجنابة و به قروح، أو جروح، أو يخاف على نفسه من البرد.

فقال

لا يغتسل و يتيمّم.

«1» و مثلها صحيحة داود بن السرحان، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام). «2» فإنّ الخوف على النفس من البرد إمّا ظاهر في خصوص الخوف من التلف، و إمّا يكون أعمّ منه، فخوف التلف هو القدر المتيقّن، و حينئذٍ لا يمكن حمل النهي عن الاغتسال على رفع الوجوب، بدعوى أنّ النهي في مقام توهّم الوجوب لا دلالة له على أزيد من نفي الوجوب غير المنافي لجواز الإتيان بالمنهيّ عنه، ضرورة أنّه مع خوف التلف لا يمكن الترخيص، و لا أقلّ من كون المقام في نظر السائل من قبيل الدوران بين المحذورين، و معه لا مجال لرفع اليد عمّا هو ظاهر النهي، فتدلّ الرواية على أنّ حكم القروح و الجروح هو بعينه حكم خوف التلف؛ لاتّحاد السياق، و الاقتصار على بيان واحد في الجواب عن الجميع، فيشترك الجميع في العزيمة، فتدبّر.

و يبقى في هذه الطائفة أمران:

الأوّل: أنّها و إن وردت في الغسل لكن يستفاد منها حكم الوضوء بلا إشكال، ضرورة أنّ الأمر بالتيمّم إنّما هو لخوف الضرر الذي هو أعمّ من الهلاك، و لا فرق فيه

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 301

..........

______________________________

بين الوضوء و الغسل، و التعرّض لخصوصه فيها إنّما هو لأجل غلبة الخوف فيه، كما لا يخفى.

الثاني: أنّه ربّما يمكن أن تتوهّم

المعارضة بين هذه الطائفة، و بين بعض الروايات الظاهر في الرخصة، كصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الرجل يكون به القرح و الجراحة يجنب.

قال

لا بأس بأن لا يغتسل، يتيمّم.

«1» فإنّ نفي البأس عن ترك الغسل ظاهر في الجواز و ثبوت الرخصة، و لكنّ الظاهر أنّ مفاد الجملة الأُولى إنّما هو الترخيص؛ لرفع توهّم عدم جواز الترك و إن كان به القرح و الجراحة، و الجملة الثانية الآمرة بالتيمّم ظاهرة في تعيّنه و عدم جواز تركه، مع أنّه كثيراً ما يعبّر بعدم البأس في موارد التعيّن أيضاً، كقول أبي جعفر (عليه السّلام) في رواية زرارة

إذا كنت في حال لا تجد إلّا الطين، فلا بأس أن يتيمّم به

، «2» مع أنّ التيمّم بالطين عند عدم وجدان غيره لازم.

مع أنّ نقل صحيحة ابن مسلم مختلف، فقد روى الصدوق بإسناده عنه أنّه سأل أبا جعفر (عليه السّلام) عن الرجل يكون به القروح و الجراحات فيجنب.

فقال

لا بأس بأن يتيمّم، و لا يغتسل.

«3» و لعلّ ظهورها في الرخصة على تقديره أقوى من ظهور النقل المذكور.

و روى الشيخ (قدّس سرّه) بإسناده عنه، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: سألته عن الجنب به

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 302

..........

______________________________

الجرح فيتخوّف الماء إن أصابه.

قال

فلا يغسله إن خشي على نفسه.

«3» و ليس فيه الأمر بالتيمّم، بل ظاهره نفي وجوب غسل الجرح بالماء، و مع ذلك فكيف يمكن الاعتماد على مثلها في استفادة الرخصة، و رفع اليد

عن الروايات المتقدّمة الظاهرة في العزيمة؟! الطائفة الثانية: ما وردت في مورد خوف العطش، كموثّقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلّته.

قال

يتيمّم بالصعيد و يستبقي الماء، فإنّ اللّه عزّ و جلّ جعلهما طهوراً: الماء و الصعيد.

«1» و رواية محمّد الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): الجنب يكون معه الماء القليل، فإن هو اغتسل به خاف العطش، أ يغتسل به أو يتيمّم؟

فقال

بل يتيمّم، و كذلك إذا أراد الوضوء.

«2» و دلالة الروايتين على تعيّن التيمّم، بملاحظة الأمر به الظاهر في التعيّن، و كذا بملاحظة شمول خوف العطش لصورة خوف الهلاك قطعاً، خصوصاً في تلك الأزمنة و تلك الأسفار، و من الواضح أنّه لا يمكن الترخيص في هذه الصورة، واضحة جدّاً.

و صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) أنّه قال في رجل أصابته جنابة

______________________________

(3) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 42، الحديث 1.

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 303

..........

______________________________

في السفر، و ليس معه إلّا ماء قليل، و يخاف إن هو اغتسل أن يعطش.

قال

إن خاف عطشاً فلا يهريق منه قطرة، و ليتيمّم بالصعيد، فإنّ الصعيد أحبّ إليّ.

«1» و رواية ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب و معه من الماء قدر ما يكفيه لشربه، أو يتيمّم أو يتوضّأ به؟

قال

يتيمّم أفضل، أ لا ترى أنّه إنّما جعل عليه نصف الطهور.

«2» و يمكن أن يقال: إنّ صحيحة ابن سنان و إن كانت ظاهرة في

تعيّن التيمّم من جهة النهي عن إهراق قطرة من الماء، و الأمر بالتيمّم الظاهر في التعيّن، لكنّ التعليل بأنّ الصعيد أحبّ له ظهور أقوى في بقاء المحبوبية في الغسل أيضاً، كما هو مقتضى ظاهر صيغة التفضيل، و رواية ابن أبي يعفور صريحة في أفضلية التيمّم، فهاتان الروايتان لا تجتمعان مع السابقتين الظاهرتين في العزيمة، كما عرفت.

و الجواب عنه: أنّ التعبير بالأحبّية لا ينافي التعيّن، كما يدلّ عليه ملاحظة موارد استعمالاتها، مثل قوله (عليه السّلام) في الإفطار تقيّة

أي و اللّه أفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي.

«3» مع أنّ شمول خوف العطش لصورة خوف الهلاك قطعاً، يمنع عن كون المراد ذلك، و منه يظهر عدم دلالة رواية ابن أبي يعفور على الرخصة، خصوصاً مع ملاحظة أنّ محطّ السؤال فيها إنّما هو أنّ المتعيّن هل هو التيمّم أو الوضوء؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 25، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 304

..........

______________________________

و مع ملاحظة التعليل بأنّه إنّما جعل عليه نصف الطهور، الظاهر في أنّ المجعول هو خصوص التيمّم، و لا يجتمع ذلك مع كونه أفضل فردي الواجب التخييري، كما هو ظاهر، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني: في أنّه لو خالف من كان فرضه التيمّم على نحو التعيّن و العزيمة فتوضّأ أو اغتسل، فهل تكون طهارته باطلة مطلقاً، أم لا كذلك، أو فيه تفصيل؟

و الكلام فيه يقع تارة فيما هو مقتضى القواعد العامّة، و اخرى فيما تقتضيه الأدلّة الخاصّة، فالبحث يقع من جهتين:

أمّا من الجهة

الأُولى فنقول: لا ينبغي الإشكال في الصحّة إذا كان التعيّن لأجل التوقّف على مقدّمة محرّمة منحصرة، كطيّ طريق مغصوب أو مخوف، فإنّه مع المخالفة و العصيان و سقوط النهي، تجب عليه الطهارة المائية، و تصير مأموراً بها، فلا مانع من صحّتها أصلًا، كما لا يخفى.

و أمّا إذا كان المحرّم من العناوين المتّحدة مع الطهارة المائية، فربّما يقال فيه بالبطلان، و الوجه فيه أحد أُمور:

الأوّل: امتناع تعلّق الأمر و النهي بالفعل الواحد الشخصي؛ إمّا للتضادّ بين الحكمين الموجب للامتناع الذاتي لاستحالة اجتماع الضدّين، و إمّا لتعذّر الامتثال المستلزم لثبوت الامتناع العرضي في البين، و على أيّ تقدير فلا مجال لاجتماع التكليفين.

و الجواب: أنّا قد حقّقنا في محلّه بما لا مزيد عليه أنّه يجوز اجتماع الأمر و النهي، و لا يلزم الامتناع الذاتي و لا العرضي بوجه؛ لأنّ متعلّقهما هو الماهيات

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 305

..........

______________________________

و الطبائع و هي متعدّدة في مثل المقام، فإنّ ماهية الوضوء و الغسل و طبيعتهما تغاير ماهية الغصب و التصرّف في مال الغير مثلًا.

و أمّا الوجود العنواني لها كعنوان وجود الوضوء و وجود الغصب و كذا الوجود الخارجي، فلا يكون شي ء منهما متعلّقاً للحكم أصلًا؛ لعدم مدخلية الوجود في معاني الألفاظ الواقعة متعلّقة للأحكام، مع أنّه على تقديره يكون هنا عنوانان؛ أحدهما وجود الوضوء، و الآخر وجود الغصب.

و أمّا الوجود الخارجي فلا يعقل أن يتعلّق به الحكم؛ لأنّ الخارج ظرف السقوط لا الثبوت، لاستلزامه تحصيل الحاصل، أو الزجر عنه.

و من هنا يظهر: أنّه لا مجال لأن يقال إنّ الماهيات إنّما تتعلّق بها الأحكام بما أنّها مرآة للمصاديق و الوجودات الخارجية، و ذلك لأنّه مضافاً إلى

ما عرفت من امتناع كون الوجود الخارجي متعلّقاً للحكم و لو كان واحداً، يدفعه أنّ المرآتية ممتنعة، فإنّ اللفظ الموضوع للطبيعة لا يكاد يحكي إلّا عن نفسها، و لا يعقل أن يكون مرآةً للوجود الخارجي، و على تقديره فالمحكيّ به إنّما هو مصداقها بما هو كذلك، لا المقارنات و المتّحدات، كما هو ظاهر.

و ممّا ذكرنا يظهر: بطلان دعوى الامتناع عرضاً لتعذّر الامتثال، فإنّه بعد اختلاف المتعلّقين، و تغاير الماهيتين، و ثبوت المندوحة في البين لإمكان التيمّم على ما هو المفروض، لا يتعذّر الامتثال.

الثاني: أنّ تعلّق النهي بشي ء يكشف عن قبح ذلك الشي ء بلحاظ مفسدته، و مع اتّصافه بالقبح يمتنع تعلّق الأمر به؛ لأنّ الأمر بما هو قبيح قبيح، كما هو واضح.

و الجواب: ما ذكرنا من أنّ الأمر لم يتعلّق بما تعلّق به النهي حتّى يلزم ما ذكر، لما

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 306

..........

______________________________

عرفت من تغاير المتعلّقين، لأنّ المتعلّق هي الطبيعة و الماهية، فلا وجه لذلك.

الثالث: أنّ الفرد الخارجي إنّما يعرضه صفة الحسن أو القبح باعتبار جهته القاهرة، فما يوجده المكلّف ليس من حيث صدوره عنه إلّا حسناً أو قبيحاً على سبيل مانعة الجمع، لامتناع توارد الوصفين المتضادّين على الفعل الخاصّ، الصادر من المكلّف من حيث صدوره منه، فالفرد الخارجي من الصلاة الذي يتحقّق به الغصب المحرّم على الإطلاق، يمتنع أن يطلبه الشارع، ضرورة أنّ الأمر بشي ء في الجملة ينافي النهي عنه على الإطلاق.

و الجواب: أنّه إن كان النظر إلى اجتماع الحكمين و لو في مورد، فقد عرفت أنّ الحكمين لا يجتمعان بوجه؛ لاختلاف المتعلّقين دائماً لأجل تغاير الحقيقتين، و إن كان النظر إلى امتناع عروض صفتي الحسن و

القبح معاً على الفرد الخارجي، لأنّهما وصفان متضادّان.

فيرد عليه: أنّ الحسن و القبح ليسا من الأعراض الخارجية الحالّة في الموضوع، كالسواد و البياض حتّى لا يكفي اختلاف الجهة في رفع التضادّ بينهما، ضرورة أنّ قبح الظلم مثلًا لا يكون له صورة خارجية حالّة في الجسم، بل هو أمر اعتباري عقلي، و كذا حسن العدل مثلًا.

و عليه فيمكن أن يكون شي ء واحد ذا عناوين حسنة و قبيحة، و لا يسري القبح من عنوانه إلى عنوان الحسن، فإنّ الجهات في الأُمور العقلية تقييدية، فتكون الحيثيات بما هي موضوعة للحسن و القبح.

و ممّا ذكرنا يظهر: النظر فيما قيل من وقوع الكسر و الانكسار، في الجهات المقتضية، و تمحّض الفعل في الجهة القاهرة، فالفعل الواحد الصادر من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 307

..........

______________________________

المكلّف لا يكون إلّا حسناً أو قبيحاً على النحو المذكور، و هو منع الجمع.

وجه النظر: ما عرفت من أنّ الفعل الخارجي مجمع العناوين المتعدّدة، و مع فرض كون بعضها قبيحاً، و البعض الآخر حسناً، و فرض قاهرية أحد الأمرين على الآخر، لا يلزم خروج الجهة المقهورة عن وصفها الأُولى، فإنّ مرجع القاهرية ليس إلى السراية و فناء وصف المقهور، بل إلى الأهمّ و المهمّ، فلا يعقل أن تكون نتيجة الكسر و الانكسار إعدام الجهة المقهورة، بل هي باقية على ما كانت و إن كان مقتضى حكم العقل هو لزوم الأخذ بالجهة القاهرة؛ لأنّها أهمّ.

الرابع: امتناع كون شي ء واحد شخصي مقرّباً و مبعّداً معاً، و ذا مصلحة و مفسدة كذلك، فلا محيص إلّا من ثبوت إحدى الجهتين.

و الجواب يظهر ممّا ذكرنا، فإنّ المقرّبية و إن كانت من لوازم الوجود الخارجي، إلّا أنّ

اتّصاف الوجود الخارجي بها إنّما هو لأجل كونه مصداقاً لعنوان كذلك، فلا ينافي ثبوت عنوان المبعّدية لذلك الوجود باعتبار كونه مصداقاً لعنوان آخر، و ليست المقرّبية و المبعّدية كالأعراض الخارجية المتضادّة حتّى لايكفي اختلاف العنوان في الجمع بينهما.

و من هنا يورد على بعض الأعاظم (قدّس سرّه) حيث جمع بين القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، و بين القول ببطلان المجمع إذا كان عبادة كالصلاة في الدار المغصوبة؛ نظراً إلى امتناع كون شي ء واحد مقرّباً و مبعّداً، فإنّه مع الالتزام باختلاف المتعلّقين، و جواز اجتماع الحكمين، لا وجه للإشكال في صحّة العبادة بعد ثبوت وصف المقرّبية لها بما هي صلاة و إن كانت مبعّدة بما هي غصب، فتدبّر.

هذا كلّه فيما إذا كان المحرّم من العناوين المتّحدة مع الطهارة المائية. و أمّا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 308

..........

______________________________

إذا توقّف فعلها على مقدّمة مقارنة محرّمة، فالأمر فيه أوضح لعدم كونه متّحداً مع المحرّم حتّى يجري فيه بعض الأُمور المذكورة.

نعم، ربّما يقال هاهنا: بأنّ الأمر بما يتوقّف على القبيح قبيح كالأمر بالقبيح، بل هو هو، فإنّ الأمر بالشي ء يقتضي إيجاب ما يتوقّف عليه، و لا أقلّ من أنّه يقتضي جوازه، و المفروض حرمة المقدّمة، فيمتنع أن يكون ما يتوقّف عليه واجباً.

و فيه: أنّه إن أُريد بالامتناع ما يرجع إلى امتناع اجتماع الأمر و النهي، فيرد عليه مضافاً إلى أنّ مقتضى التحقيق عدم وجوب المقدّمة ما عرفت من منع المبنى و جواز الاجتماع، و إن أُريد به قبح نفس تعلّق الأمر بما يتوقّف على مقدّمة محرّمة، فيرد عليه منع القبح على فرض، و منع التعلّق على فرض آخر، يتّضح بالتأمّل فيما ذكرناه.

و قد يقال:

بعدم إمكان تصحيح الوضوء المتوقّف على الاغتراف من الآنية المغصوبة؛ لاشتراط تحقّقه في الخارج بقصد حصول عنوانه بداعي التقرّب، فيكون القصد المحصّل لعنوانه من مقوّمات ماهية المأمور به، فيشترط فيه عدم كونه مبغوضاً للشارع، فغسل الوجه إنّما يقع جزء من الوضوء إذا كان الآتي به بانياً على إتمامه وضوءً، و هذا البناء ممّن يرتكب المقدّمة المحرّمة قبيح، يجب هدمه، و العزم على ترك الوضوء بترك الغصب، فلا يجوز أن يكون هذا العزم من مقوّمات العبادة، بل العزم على ذي المقدّمة عزم على إيجاد مقدّمته إجمالًا ولدي التحليل، لا أنّه موقوف عليه.

و فيه: أنّ ما هو القبيح هو العزم على الغصب، لا العزم على إتمام الوضوء، و حكم العقل بلزوم ترجيح جانب الغصب و هدم العزم، ليس لأجل كون الوضوء أو عزمه قبيحاً أو حراماً، بل لأجل ترجيح الأهمّ، فما هو من مقوّمات ماهيّة الوضوء هو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 309

..........

______________________________

العزم على الوضوء متقرّباً به إلى اللّه، و ما هو قبيح هو العزم على المعصية و التصرّف في الآنية المغصوبة.

مع أنّ ما ذكره أخيراً: من كون العزم على ذي المقدّمة عزم على إيجاد مقدّمته، ممّا لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ العزم و الإرادة من الأوصاف ذات الإضافة، و يكون تشخّصها بمتعلّقها، و مع تعدّد المتعلّق لا تعقل وحدة الصفة، مضافاً إلى أنّ الإرادة تتوقّف على مبادئ مخصوصة، و المبادئ فيهما مختلفة، و مع اختلاف الإرادتين لا يبقى مجال للقول بقبح العزم على إتمام الوضوء.

و بما ذكرنا ظهر: فساد ما ربّما يقال من أنّه لا يعقل الأمر بالوضوء مع المقدّمة المحرّمة المنحصرة، للزوم الأمر بما يلازم الحرام و هو قبيح،

بل محال مع بقاء النهي على فعليته، كما هو المفروض، لما عرفت من تعلّق الأمر و النهي بالعناوين، و لا يسري حكم عنوان إلى آخر و إن اتّحد العنوانان في الخارج، و الحاكم في مقام الامتثال من جهة كيفيته، و ترجيح الراجح على المرجوح إنّما هو العقل، و لو فرض ورود حكم من الشارع بلحاظ هذا المقام، فلا بدّ أن يكون إرشاداً إلى حكم العقل، نعم إذا كان بين العنوانين تلازم، فلا مجال لجعل الحكمين المتضادّين عليهما، و لكنّه خارج عن محلّ البحث.

و قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّه لا حاجة في إثبات الأمر بالوضوء مع مزاحمته بالأهمّ إلى التشبّث بذيل مسألة الترتّب المعروفة، بناء على صحّته في نفسه؛ لثبوت الإطلاق لدليل المتزاحمين الشامل لحال التزاحم من غير تقييد، و إنّما يحكم العقل بلزوم الأخذ بالأهمّ و ترك المهمّ مع كونه مأموراً به، و يكون المكلّف معذوراً في ترك المهمّ، إذا اشتغل بالأهمّ، و مع العكس أتى بالمأمور به و يثاب عليه، و لكنّه لا يكون معذوراً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 310

..........

______________________________

في ترك الأهمّ، كما أنّه إذا تركهما يستحقّ العقوبة على كليهما.

هذا كلّه بناء على احتياج صحّة العبادة إلى الأمر، و لكنّ الحقّ خلافه، بل لا يبعد القول بالصحّة مع الالتزام بكون الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه؛ لعدم اقتضاء النهي الغيري للفساد، كما هو ظاهر، و على أيّ تقدير لا إشكال في صحّة الوضوء في الفرض الذي هو مورد البحث بالنظر إلى القاعدة العقلية.

و أمّا من الجهة الثانية: فيقع الكلام تارة في البطلان في الموارد التي سقط التكليف الأوّلي بدليل العسر و الحرج، و اخرى فيه في الموارد

التي دلّت على السقوط فيها الروايات الخاصّة، فهنا مقامان:

الأوّل: في البطلان في موارد جريان دليل العسر و الحرج، و قد حقّق الكلام في هذا المقام الماتن دام ظلّه في «الرسالة» بما لا مزيد عليه، و ملخّصه مع تقريب و تقديم و تأخير منّا: «أنّ الأقرب هو البطلان، للتعليل المستفاد من الآية الكريمة الواردة في الصوم، قال اللّه تعالى شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ الْهُدىٰ وَ الْفُرْقٰانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. «1» فإنّه يجري فيه احتمالات:

أحدها: أن يكون متعلّق التكليف هو نفس عنوان صوم المريض و المسافر، فهو بهذا العنوان موضوع للحرمة، و إرادة اليسر أو عدم إرادة العسر يكون واسطة في ثبوت الحكم لموضوعه.

ثانيها: أن يكون المتعلّق للحكم هو عنوان إبقاء اليسر و عدم هدمه، فالحكم

______________________________

(1) البقرة 185.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 311

..........

______________________________

المتحقّق في المقام هو الحكم الوجوبي الثابت على هذا العنوان، و لا يكون شي ء آخر متعلّقاً للحكم، و لا يكون هنا حكم آخر أصلًا.

ثالثها: أن يكون الحكم هو الحرمة، و متعلّقها عنوان إيقاع العسر على النفس، من دون أن يكون متعلّقاً بشي ء آخر، أو يكون هنا حكم آخر.

و الثمرة تظهر في بطلان العبادة و عدمه، فعلى الأخيرين لا يلزم البطلان؛ لعدم كون الاتّحاد مع العنوان المحرّم أو المضادّة للواجب الأهمّ موجباً للبطلان بوجه، و على الأوّل تبطل؛ لتعلّق الحرمة بنفس عنوان العبادة.

و أقرب الاحتمالات هو الأوّل لأحد الأمرين:

الأمر الأوّل: مفهوم قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، بناء على

ثبوت المفهوم أوّلًا، و كون المفهوم في مثله ممّا كان الجزاء هي الهيئة الدالّة على البعث هي الهيئة الدالّة على الزجر ثانياً، و كلا الأمرين و إن كانت فيهما مناقشة مذكورة في محلّه، إلّا أنّه لا يبعد دعوى مساعدة العرف عليهما في مثل الآية ممّا كان الجزاء من قبيل الهيئة دون المعنى الاسمي، فالمفهوم في المقام: و من لم يشهد منكم الشهر فلا يصمه.

و تؤيّده، بل تدلّ عليه في المورد رواية عبيد بن زرارة التي لا يبعد أن تكون حسنة على رواية الصدوق قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): قوله عزّ و جلّ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.

قال

ما أبينها، من شهد فليصمه، و من سافر فلا يصمه.

«1» و رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، التي رواها في «مجمع البيان»، أنّه قال لمّا

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 1، الحديث 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 312

..........

______________________________

سئل عن هذه الآية

ما أبينها لمن عقلها قال: من شهد شهر رمضان فليصمه، و من سافر فيه فليفطر

، و مع الأمر بالإفطار في هذه الرواية كالأمر بالصيام، لا يبقى مجال لتوهّم أنّ النهي عن الصوم كما في الرواية السابقة لعلّه وارد مورد توهّم الوجوب، فلا دلالة له على أزيد من نفي الوجوب، فتدبّر.

الأمر الثاني: إطلاق قوله تعالى وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ، حيث يدلّ على أنّ نفس المرض و السفر توجب عدّة من أيّام أُخر، من غير دخالة شي ء آخر من إفطار أو غيره فيه، و لا شبهة في أنّ هذه العدّة بدل و قضاء لشهر رمضان؛ لأنّ المستفاد من الكريمة

أنّ الواجب الأصلي هو صوم الشهر، فإذا وجب القضاء بمجرّد طروّ أحد العنوانين مطلقاً، فلا بدّ و أن يكون صومهما في الشهر باطلًا، و إلّا يلزم أن يكون وجوب القضاء مقيّداً بعدم الصوم فيه، و هو خلاف إطلاق الآية، فتدبّر.

و يدلّ على ثبوت الإطلاق مضافاً إلى ظهور الآية في نفسها رواية الزهري، عن علي بن الحسين (عليهما السّلام) في حديث قال

و أمّا صوم السفر و المرض، فإنّ العامّة قد اختلفت في ذلك، فقال قوم: يصوم، و قال آخرون: لا يصوم، و قال قوم: إن شاء صام و إن شاء أفطر، و أمّا نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ فهذا تفسير الصيام.

«1» فإنّ الاستشهاد بالآية، سيّما في مقابل العامّة، يدلّ على دلالتها على البطلان في نفسها من دون إعمال تعبّد.

و يدلّ على بطلان الصوم في السفر روايات كثيرة بتعابير مختلفة، كتسمية

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 1، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 313

..........

______________________________

الصائم فيه عاصياً، أو أنّه لا يصلّي على من مات صائماً في السفر، أو أنّ الصوم فيه ليس من البرّ، أو أنّ الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر فيه في الحضر، و مثل ذلك من التعبيرات الظاهرة في كونه بنفسه محرّماً و باطلًا.

هذا بالإضافة إلى الصوم و أمّا التطبيق على المقام فمن وجهين:

الوجه الأوّل: اشتراك الآيتين في التعبيرات و بيان الحكم، فإنّ قوله تعالى في آية التيمّم وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ

سَفَرٍ إلى قوله فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، إنّما هو كقوله تعالى في آية الصوم وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ فكما أنّ مقتضى إطلاقه وجوب القضاء و لو مع الصوم في الشهر، فكذلك مقتضى إطلاقه وجوب التيمّم و لو مع الوضوء، و هذا لا يجتمع مع صحّة الوضوء، كما لا يخفى.

مع أنّ تمسّك الأئمّة (عليهم السّلام) بآية الصوم للحرمة تارة بمفهوم قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ كما في رواية الزهري، و اخرى بقوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ كما في روايتي زرارة و ابنه، مع كونها في مقام الامتنان، و سياقها كسياق آية التيمّم دليل على بطلان ما ذكره المتأخّرون من أنّ الرفع في مقام الامتنان لا دلالة له على العزيمة و البطلان على فرض التخلّف، ضرورة أنّه معه لا موقع للتمسّك، فيدلّ ذلك على أنّ جعل التيمّم بدل الوضوء أيضاً يكون كذلك.

الوجه الثاني: أنّ القضايا المشتملة على التعليل المعمّم لا ظهور لها في أنّ موضوع الحكم حقيقة إنّما هو حيثية العلّة، بحيث لا يكون ما أُخذ في ظاهر القضيّة موضوعاً عنواناً للموضوع أصلًا، بل الظاهر بحسب نظر العرف كون الموضوع هو نفس ذلك العنوان، غاية الأمر أنّ حيثية العلّة واسطة في ثبوت

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 314

..........

______________________________

الحكم لموضوعه، فقوله: «الخمر حرام لأنّه مسكر» ظاهر عرفاً في أنّ موضوع الحرمة هو الخمر، و أنّ المسكرية واسطة لثبوت الحكم على نفس عنوان الخمر.

و لا ينافي ذلك كون العلّة معمّمة؛ لأنّ معنى التعميم لا يرجع إلى ثبوت الحكم لنفس حيثية العلّة، بل يرجع إلى ثبوتها في جميع موارد تحقّقها و إن كان الموضوع هي

العناوين التي تكون العلّة ثابتة في مواردها، كما لا يخفى.

و عليه فيصير المتفاهم من الآية: أنّ صوم المريض و المسافر حرام بعنوانه، لأجل إرادة اليسر، و مقتضى تعميم العلّة أنّ جميع ما يلزم منه الحرج و العسر بعنوانه حرام، فالوضوء الحرجي بعنوانه حرام، فيكون باطلًا، و كذا الغسل الحرجي.

و مثله الكلام في عنوان ردّ الصدقة، الذي تدلّ عليه رواية يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر.

ثمّ قال

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 314

إنّ رجلًا أتى النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقال: يا رسول اللّه، أصوم شهر رمضان في السفر؟

فقال: لا.

فقال: يا رسول اللّه، إنّه عليّ يسير.

فقال رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): إنّ اللّه تصدّق على مرضى أُمّتي و مسافريها بالإفطار في شهر رمضان، أ يحبّ أحدكم لو تصدّق بصدقة أن تردّ عليه صدقته.

«1» و الظاهر منها هي حرمة عنوان الصوم لعلّة كونه ردّ الصدقة، فيجري في

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 1، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 315

..........

______________________________

جميع موارد ثبوت العلّة كالمقام.

و ليعلم أنّ هاهنا نكتة أُخرى في باب التكاليف الحرجية، و هي أنّه لو سلّم عدم دلالة دليل نفي الحرج على بطلان متعلّقات التكاليف النفسية الحرجية، لدعوى بقاء الجواز، بل الرجحان مع رفع الإلزام، أو دعوى كفاية ما يقتضي الطلب و محبوبية

الفعل لصحّته، لكن لا يسلّم ذلك فيما إذا كان شرط المأمور به أو جزؤه: حرجياً؛ لأنّ مرجع نفي الحرج فيه إلى نفي الجزئية و الشرطية، فيكون المأمور به هو الفاقد لهما، و لو بدل الشرط أو الجزء بالآخر يكون المأمور به فعلًا هي الطبيعة المتقيّدة بالبدل أو المشتملة عليه، فالإتيان به مع الجزء الساقط زيادة في المأمور به الفعلي، و الاكتفاء به مع فرض التبديل غير مجزٍ عن الواقع، و مجرّد الاقتضاء لا يوجب عدم الزيادة و جواز الاكتفاء بما فيه الاقتضاء، فالصلاة المشروطة بالتيمّم أو الطهارة الحاصلة منه هي المأمور بها فعلًا، فالآتي بها مع الوضوء أو الغسل آت بغير شرطها، و كذا في تبديل الجزء.

و دعوى حصول الطهارة الكاملة بالمائية غير متّضحة، و الأكملية في تحصيل الغرض لا توجب الوحدة واقعاً؛ لاحتمال كونهما صنفين أحدهما أفضل من الآخر، مع أنّ في أصل الدعوى كلاماً لقوّة احتمال أن يكون الطهور عبارة عن نفس الوضوء و الغسل و التيمّم، لا الأمر الحاصل منها، مع أنّه أقرب بظواهر الأدلّة و كلمات الأصحاب.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ مقتضى دليل نفي الحرج رفع شرطية الطهارة المائية، و مقتضى جعل التيمّم بدلًا اشتراط الصلاة به فعلًا، و قضيتهما بطلان الصلاة مع الاكتفاء بالمائية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 316

..........

______________________________

و لو قلنا: بأنّ مقتضى دليل نفي الحرج رفع سببية الوضوء و الغسل للطهارة، و مقتضى جعل البدل جعل السببية له، لكان البطلان أوضح، و إن كان الشرط حينئذٍ هو الأمر الحاصل منها.

المقام الثاني: في ملاحظة حال سائر الأدلّة الدالّة على سقوط الوضوء أو الغسل، مثل ما ورد في القرح و الجرح و الخوف على النفس، كصحيحتي

البزنطي و ابن سرحان و غيرهما ممّا تقدّم، و ما ورد في مورد خوف العطش، كصحيحة ابن سنان و موثّقة سماعة و غيرهما كذلك، و ما ورد في الركيّة و فرض إفساد الماء، كصحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور، و ما ورد في مورد خوف فوات الوقت، كصحيحة زرارة بناء على دلالتها عليه كما استفدنا. و الظاهر عدم دلالة شي ء منها على بطلان المائية مكان الترابية.

أمّا ما لم يتعلّق النهي فيها بنفس عنوان الغسل، بل تعلّق بعنوان خارج كإفساد الماء على القوم أو إهراقه فظاهر، لعدم تعلّق النهي بالعبادة، و ظهور كون الأمر بالتيمّم إنّما هو لترجيح أحد المتزاحمين على الآخر، فالأمر به ليس لأجل تبديل الكامل به، بل للمزاحمة الواقعة بين الأهمّ و المهمّ.

و أمّا ما تعلّق النهي فيها بظاهر الدليل بنفس عنوان الغسل، فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ المتفاهم من مجموعها أنّ النهي عنه ليس لأجل كونه مبغوضاً، بل للإرشاد إلى الأخذ بأهمّ التكليفين، فسبيل قوله (عليه السّلام) في فرض القروح و الجروح و المخافة على النفس

لا يغتسل و يتيمّم

، سبيل قوله

لا تقع في البئر و لا تفسد على القوم ماءهم

، و قوله (عليه السّلام)

إن خاف عطشاً فلا يهريق منه قطرة و ليتيمّم بالصعيد

حيث لا يفهم مبغوضية الغسل بعنوانه، بل الظاهر أنّ المبغوض هو هلاك النفس، أو أنّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 317

..........

______________________________

الواجب هو حفظها، فلا دلالة له على البطلان، بل مقتضى القاعدة الصحّة.

و لا يخفى أنّ ما ذكر من الصحّة بمقتضى القاعدة أو بحسب سائر الأدلّة إنّما هو حيثي، بمعنى أنّه إذا انطبق على مورد عنوان آخر موجب للبطلان يحكم به فيه، كما إذا

انطبق عنوان الحرج على مورد الضرر أو الخوف على النفس؛ لأنّ مقتضى أدلّة نفي الحرج هو البطلان على ما عرفت، و عليه فاللازم هو التفصيل بين ما إذا انطبق على مورد عنوان الحرج، و بين ما إذا انطبق عليه عنوان محرّم كالغسل في آنية الذهب و الفضّة ارتماساً لا اغترافاً، فيحكم بالبطلان في الأوّل دون الثاني. و هذا هو المراد من التفصيل المذكور في المتن في الفرع الأوّل من فروع المسألة، و به يتمّ الكلام في هذا الفرع.

في الوضوء في ضيق الوقت الفرع الثاني: لو أتى بالطهارة المائية في مقام ضيق الوقت، فالظاهر صحّتها، من دون فرق بين أن يكون قصده امتثال الأمر المتعلّق به من ناحية هذه الصلاة على وجه التقييد، أو الكون على الطهارة، بناء على مغايرتها مع الطهارات و حصولها بها، أو الغايات الأُخر كمسّ كتابة القرآن، لما ذكرنا سابقاً من أنّ ملاك عبادية الطهارات الثلاث ليس هو الأمر الغيري المتعلّق بها من ناحية الأمر بالصلاة مثلًا؛ لعدم وجوب المقدّمة أوّلًا، و عدم كون الأمر الغيري موجباً للعبادية و ملازماً لها ثانياً، و أنّ العبادية مقدّمة على تعلّقها ثالثاً، لأنّ الأمر الغيري لا يكاد يتعلّق إلّا بما هو عبادة، فالعبادية في الرتبة المتقدّمة على تعلّق الأمر، فلا محيص من الالتزام بأنّ العبادية إنّما هي لأجل تعلّق الأمر الاستحبابي النفسي بها، و لا منافاة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 318

..........

______________________________

بينه و بين تعلّق الأمر الغيري على تقديره؛ لاختلاف العنوان.

و الوجه في الصحّة في هذا الفرع، ما عرفت من أنّ السقوط إنّما هو لأجل المزاحمة مع ما هو أهمّ، و قد مرّ أنّ مقتضى القاعدة في موارد المزاحمة

هي الصحّة، و لا فرق فيما ذكر بين فرض العلم و الجهل، فإنّه في صورة الجهل و إن قصد الأمر الغيري أو التقرّب به إلّا أنّ قصده لغو و عبادته صحيحة؛ لعدم اعتبار شي ء فيها إلّا الرجحان الذاتي، و قصد كونه للّٰه.

نعم، لو كان من قصده عدم التعبّد إلّا بالأمر الغيري، يقع باطلًا و لو في سعة الوقت؛ لعدم وجوده، و عدم كونه مقرّباً على فرض الوجود، و عليه يحمل ما يشعر به المتن من البطلان في صورة قصد الصلاة التي ضاق وقتها و إن كان الحمل عليه بعيداً في نفسه، فتدبّر.

فيما لو كان الممنوع مقدّمات الطهارة الفرع الثالث: لو خالف و دفع ثمناً عن الماء مضرّاً بحاله، أو تحمّل المنّة و الهوان في تحصيله، و نحو ذلك ممّا كان الممنوع منه مقدّمات الطهارة لا نفسها، فطهارته المائية صحيحة أيضاً.

أمّا في صورة الضرر فواضح، و أمّا في مثل تحمّل المنّة و الهوان ممّا كان الدليل على السقوط فيه هو دليل نفي الحرج، مع أنّك عرفت أنّ الطهارة المائية في موارد السقوط لدليل الحرج باطلة، فلأنّ المفروض أنّها بنفسها لا تكون حرجية، بل مقدّماتها تكون كذلك، و عليه فلا تكون العبادة متعلّقة للنهي حتّى تبطل، و هذا بخلاف ما إذا كانت بنفسها كذلك، كما تقدّم تحقيقه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 319

..........

______________________________

فيما لو كان الضرر على الغير الفرع الرابع: لو كان الضرر أو الحرج على الغير فخالف و تطهّر، فقد نفى في المتن البعد عن الصحّة فيه، و السرّ فيه ما عرفت من أنّ اقتضاء دليل نفي الحرج للبطلان إنّما هو فيما إذا كان الحرج موجباً لتعلّق النهي بالعبادة، و صيرورتها

مبغوضة، فالملاك في الحقيقة في بطلان العبادة هو تعلّق النهي بها.

و أمّا إذا كان النهي متعلّقاً بما هو متّحد معها، فقد عرفت أنّه لا ينافي الصحّة، فضلًا عمّا إذا كان متعلّقاً بما لا يكون متّحداً معها، و في المقام أيضاً لا يكون النهي متعلّقاً بعنوان العبادة، فلا تكون باطلة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 320

[مسألة 18: يجوز التيمّم لصلاة الجنازة و النوم مع التمكّن من الماء]

مسألة 18: يجوز التيمّم لصلاة الجنازة و النوم مع التمكّن من الماء، إلّا أنّه ينبغي الاقتصار في الأخير على ما كان من الحدث الأصغر، و لا بأس بإتيانه رجاءً للأكبر أيضاً، كما أنّ الأولى فيه الاقتصار على صورة التذكّر لعدم الوضوء بعد الدخول في فراشه، و في غيرها يأتي به رجاءً، كما أنّ الأولى في الأوّل قصد الرجاء في غير صورة خوف فوت الصلاة. (1)

______________________________

(1) يجوز التيمّم مع التمكّن من استعمال الماء في موضعين:

في التيمّم لصلاة الجنازة أحدهما: صلاة الجنازة، فيجوز التيمّم لها مع التمكّن من الوضوء أو الغسل على المشهور مطلقاً، بل في «الذكرى» نسبته إلى الأصحاب، و يظهر من محكيّ «التذكرة» الإجماع عليه، بل عن الشيخ في «الخلاف» دعوى الإجماع عليه صريحاً.

و استدلّ له مضافاً إلى الإجماع المحكيّ بموثّقة سماعة المضمرة، قال: سألته عن رجل مرّت به جنازة و هو على غير وضوء، كيف يصنع؟

قال (عليه السّلام)

يضرب بيده على حائط اللبن فليتيمّم.

«1» و مرسل حريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

الطامث تصلّي على الجنازة؛ لأنّه ليس فيها ركوع و لا سجود، و الجنب يتيمّم و يصلّي على الجنازة.

«2» و قيّد الجواز ابن الجنيد بصورة خوف فوت الصلاة، و عن ظاهر المرتضى في «الجمل»، و الشيخ في جمع من كتبه،

و أبي علي، و سلّار، و القاضي، و الراوندي، و الشهيد في «الدروس» الموافقة له، و عن المحقّق في «المعتبر» تقويته، فإنّه بعد

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب صلاة الجنازة، الباب 21، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة، أبواب صلاة الجنازة، الباب 22، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 321

..........

______________________________

أن نقل قول الشيخ بالجواز قال: «و فيما ذكره الشيخ إشكال، أمّا الإجماع فلا نعلمه كما علمه، و أمّا الرواية فضعيفة من وجهين:

أحدهما: أنّ زرعة و سماعة واقفيان.

و الثاني: أنّ المسئول في الرواية مجهول.

فإنّ التمسّك باشتراط عدم الماء في جواز التيمّم أصل، و لأنّ الرواية ليست صريحة في الجواز مع وجود الماء، لكن لو قيل: إذا فاجأته الجنازة و خشي فوتها مع الطهارة تيمّم لها، كان حسناً؛ لأنّ الطهارة لمّا لم تكن شرطاً، و كان التيمّم أحد الطهورين، فمع خوف الفوت لا بأس بالتيمّم، لأنّ حال التيمّم أقرب إلى شبه المتطهّرين من الخالي عنه».

أقول: لو أُغمض عن قاعدة التسامح، و بني على الاقتصار على ما قامت عليه الحجّة المعتبرة، فاللازم الأخذ بما دلّت عليه الموثّقة بعد كونها موثّقة، و الإضمار غير قادح في مثلها من الاقتصار على صورة خوف الفوت، لانسباق السؤال فيها إليها.

و تؤيّده حسنة الحلبي أو صحيحته قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل تدركه الجنازة و هو على غير وضوء، فإن ذهب يتوضّأ فاتته الصلاة عليها.

قال

يتيمّم و يصلّي.

«1» و مع عدم الإغماض فلا يبقى إشكال بعد الاشتهار و نقل الإجماع و دلالة الرواية و إن كانت مرسلة، و لكن الأولى كما في المتن هو الإتيان بالتيمّم في غير صورة الخوف برجاء المطلوبية، لا بقصد الورود و المشروعية.

______________________________

(1)

وسائل الشيعة، أبواب صلاة الجنازة، الباب 21، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 322

..........

______________________________

في التيمّم للنوم ثانيهما: النوم، فإنّه يجوز أن يتيمّم له مع إمكان الوضوء أو الغسل على المشهور أيضاً مطلقاً، بل في «الحدائق»: الظاهر أنّه لا خلاف في استحباب التيمّم للنوم و لو مع وجود الماء.

و يدلّ عليه: ما رواه الصدوق و الشيخ مرسلًا عن الصادق (عليه السّلام) قال

من تطهّر ثمّ آوى إلى فراشه بات و فراشه كمسجده، فإن ذكر أنّه ليس على وضوء، فتيمّم من آثاره كائناً ما كان، لم يزل في صلاة ما ذكر اللّه.

«1» و رواه البرقي في «المحاسن»، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

من آوى إلى فراشه، ثمّ ذكر أنّه على غير طهر تيمّم من دثاره و ثيابه، كان في صلاة ما ذكر اللّه.

«2» و الاستدلال بها لا يتوقّف على البناء على قاعدة التسامح لحجّية الرواية و إن كانت مرسلة، لمّا مرّ غير مرّة من أنّ إسناد مثل الصدوق الرواية إلى الإمام (عليه السّلام) دليل على توثيق الوسائط، و هو يكفي في اعتبار الرواية، و إن كان شخص الوسط مجهولًا.

و لا ينافي ذلك ما دلّ على اختصاص شرعية التيمّم بغير المتمكّن من الماء، و خصوص ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السّلام)

لا ينام المسلم و هو جنب، و لا ينام إلّا على طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمّم

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 9، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 323

..........

______________________________

بالصعيد ...

«1»

لكون المرسلة حاكمة على مثل هذه الأدلّة، خصوصاً لو اقتصر في موردها على خصوص صورة التذكّر بعد الدخول في فراشه، فالمرسلة شارحة لهذه الرواية.

كما أنّ الرواية تدلّ على تعميم الحكم، و عدم الاختصاص بخصوص المحدث بالحدث الأصغر.

مع أنّه يمكن أن يدّعى مساعدة العرف عليه، بعد الالتفات إلى ابتناء الحكم على التوسعة و التسهيل، بإلغاء مثل هذه الخصوصيات.

و لكنّ الأولى الإتيان به رجاءً في المحدث بالأكبر، و في صورة تعمّد ترك الوضوء، كما في المتن، ثمّ إنّ عدم استباحة سائر الغايات بأحد التيمّمين واضح، و لا يحتاج إلى الدليل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 25، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 325

[القول فيما يتيمّم به]

اشارة

القول فيما يتيمّم به

[مسألة 1: يعتبر فيما يتيمّم به أن يكون صعيداً]

مسألة 1: يعتبر فيما يتيمّم به أن يكون صعيداً، و هو مطلق وجه الأرض من غير فرق بين التراب، و الرمل، و الحجر، و المدر، و أرض الجصّ، و النورة قبل الاحتراق، و تراب القبر، و المستعمل في التيمّم، و ذي اللون، و غيرها ممّا يندرج تحت اسمها، و إن لم يعلّق منه شي ء باليد.

لكن الأحوط التراب بخلاف ما لا يندرج تحته و إن كان منها، كالنبات، و الذهب، و الفضّة، و غيرها من المعادن الخارجة عن اسمها، و كذا الرماد و إن كان منها. (1)

______________________________

(1) لا إشكال في اشتراط كون ما يتيمّم به أرضاً، و اتّفقت كلمة أصحابنا في ذلك، و قد ادّعى الإجماع أو ما يرجع إليه جماعة من أعاظمهم، و قد نسب إلى أبي حنيفة جواز التيمّم بالثلج، و إلى مالك جوازه بالنبات، لكن يظهر من بعض الكتب أنّه لم يجوّز أبو حنيفة ذلك، و الأمر سهل.

و أمّا أصحابنا فقد اختلفوا بعد الاتّفاق على ما ذكر على أقوال:

فقيل: إنّ المراد بالأرض هو التراب الخالص، و قد حكي ذلك عن الإسكافي و السيّد في «شرح الرسالة» و «الناصريات»، و المفيد في «المقنعة»، و أبي الصلاح، بل عن ظاهر «الناصريات» الإجماع عليه، و قد تنظّر بعض الأعلام في الحكاية عنهم.

و قيل: إنّه كلّ ما يقع عليه اسم الأرض، و هو المشهور تحصيلًا، كما في «الجواهر».

و اختار غير واحد من المتأخّرين تبعاً للمحكيّ عن جماعة من القدماء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 326

..........

______________________________

التفصيل بين حالتي الاختيار و الضرورة، فمنع ممّا عدا التراب في الاولى، و جوّزه في الثانية، و ربّما نسب هذا التفصيل إلى أكثر

الفقهاء، بل في «حاشية المحقّق البهبهاني» (قدّس سرّه) على «المدارك» نسبته إلى معظمهم، إلّا من شذّ منهم، و لكنّه قد نوقش في هذه النسبة، لعدم تمامية منشئها، و حيث إنّ الشهرة و الإجماع على فرض ثبوتهما ممّا لا اعتبار بها في هذه المسألة الاجتهادية المبتنية على الكتاب و السنّة، فالبحث في الثبوت و العدم لا يترتّب عليه فائدة، و المهمّ ملاحظة حال الكتاب و السنّة.

فنقول: أمّا الكتاب فقد عرفت أنّه نزلت في التيمّم آيتان كريمتان:

إحداهما: في سورة النساء، و هي تشتمل على قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ.

و ثانيتهما: في سورة المائدة بعينها مع زيادة لفظة مِنْهُ بعد أَيْدِيَكُمْ، فالآيتان مشتركتان في لزوم التيمّم بالصعيد، فاللازم ملاحظة معنى الصعيد.

في معنى الصعيد و نقول: قد اختلفت كلمة اللغويين و أهل العربية في المراد من الصعيد، فعن «العين» و «المحيط» و «الأساس» و «مفردات الراغب» و جمع آخر، بل المشهور بين أهل اللغة أنّه وجه الأرض، و عن «المنتهى» و «النهاية» نسبته إليهم، و عن الطبرسي في «مجمع البيان» أنّه نقل من الزجاج أنّه قال: لا أعلم خلافاً بين أهل اللغة في أنّ الصعيد مطلق وجه الأرض.

و قال المحقّق في «المعتبر»: «الصعيد هو وجه الأرض بالنقل عن فضلاء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 327

..........

______________________________

اللغة، ذكر ذلك الخليل، و ثعلب، عن ابن الأعرابي، و يدلّ عليه قوله تعالى فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أي أرضاً ملسة مزلقة، و مثله قوله (عليه السّلام)

يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة على صعيد واحد

أي أرض واحدة».

و عن «الوسيلة»: قد فسرّ كثير من علماء اللغة الصعيد بوجه الأرض.

و عن «البحار»: أنّ الصعيد يتناول الحجر، كما صرّح

به أئمّة اللغة و التفسير.

و عن جمع من أهل اللغة: أنّه التراب، أو بضميمة وصف الخلوص، ك «الصحاح»، و الأصمعي، و أبي عبيدة، و عن ظاهر جمع آخر، بل عن السيّد في «ناصرياته» أنّ الصعيد هو التراب بالنقل من أهل اللغة، حكاه ابن وريد، عن أبي عبيدة.

و يظهر من بعضهم الاشتراك اللفظي بين التراب الخالص و مطلق وجه الأرض، بل و بينهما و بين الطريق لإنبات فيها.

قال في «مجمع البحرين»: «و الصعيد التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ و لا رمل، نقلًا عن «الجمهرة»، و الصعيد أيضاً وجه الأرض تراباً كان أو غيره و هو قول الزجاج» إلى أن قال: «و الصعيد أيضاً الطريق لإنبات فيها».

و لكن الاشتراك اللفظي في غاية البعد، خصوصاً مع ملاحظة النكتة في ثبوت الاشتراك اللفظي التي مرجعها إلى ضمّ الطوائف بعضها ببعض و اختلاط اللغات، كما لا يخفى، فيبقى الاحتمالان الأُوليان.

و الظاهر أنّه لا مجال في مقام الترجيح للاتّكال على قول أهل اللغة، بعد ما عرفت من الاختلاف الفاحش بينهم، فلا بدّ له من الاستفادة من طريق آخر مثل موارد استعماله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 328

..........

______________________________

و نقول: قد استعمل في الكتاب العزيز في موضعين أُخريين أيضاً:

إحداهما: ما نقله «المعتبر» في عبارته المتقدّمة من قوله تعالى فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً. «1» و ثانيتهما: قوله تعالى وَ إِنّٰا لَجٰاعِلُونَ مٰا عَلَيْهٰا صَعِيداً جُرُزاً. «2» و الظاهر أنّ المراد من الأوّل هو نفس الأرض، كما في النبوي المحكيّ في «المعتبر» أيضاً، و من الثاني هو التراب الموصوف بكونه جرزاً، أي مستوياً بالأرض، أو خالياً من النبات.

لكن ربّما يقال: إنّ الاستعمال لا دلالة له على الحقيقة، لكونه أعمّ منها،

و أصالة الحقيقة إنّما تكون مرجعاً في مقام تشخيص المراد، لا في كيفية الاستعمال.

و الذي يناسب مع مادّة (ص ع د) التي هي بمعنى الارتفاع و العلوّ هو المعنى العامّ؛ لأنّ جميع ما على الأرض يصدق عليه أنّه في السطح العالي منها، الذي يعبّر عنه بوجه الأرض، أو ظهرها، و لا اختصاص لذلك بالتراب.

و يؤيّد التعميم ما أُفيد من أنّ المتبادر من قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً إرادة القصد إلى صعيد طيّب بالمضيّ إلى نحوه، لا مجرّد العزم على استعماله بأن يكون المراد من قصده قصد استعماله، و هذا المعنى لا يناسب إرادة التراب الذي هو في حدّ ذاته من المنقولات كالماء، بخلاف ما لو أُريد به أرضاً نظيفاً بإرادة معناه الوصفي.

لكن قد يقال: إنّه لا محيص من حمل الكريمة الواردة في سورة المائدة على

______________________________

(1) الكهف 40.

(2) الكهف: 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 329

..........

______________________________

التراب بلحاظ اشتمالها على كلمة

منه

؛ لأنّ المتبادر من هذه الكلمة إرادة المسح ببعض ذلك الصعيد، و هذا لا يستقيم إلّا بإرادة التراب دون الحجر، لأنّ الحجر لا يعلّق باليد حتّى يصدق المسح منه، فتصير الآية قرينة على المراد من الكريمة الواردة في سورة النساء الخالية من هذه الكلمة.

فالمراد بالصعيد في الموضعين هي نفس التراب، و لا فرق في ذلك بين كونه هو تمام الموضوع له، أو أنّ الموضوع له معنى عامّ و أُريد منه الخصوصية، كما أنّه لا فرق على الثاني بين أن تكون إرادة الخصوصية بنحو توجب صيرورة الاستعمال مجازياً، أو بنوع لا توجب ذلك، فإنّ المقصود الوصول إلى مراد اللّه تبارك و تعالى من الصعيد في الآيتين، لا كون إرادته بنحو الحقيقة

أو المجاز.

و أُورد عليه: بما حاصله أنّه يحتمل في هذه الآية وجوه:

أحدها: أن يكون الضمير في لفظة

منه

راجعاً إلى الصعيد، و تكون «من» ابتدائية، و يكون معنى الآية: اقصدوا صعيداً، فإذا انتهيتم إليه فارجعوا منه إلى مسح الوجوه و الأيدي، فيكون الصعيد منتهى المقصود أوّلًا، و بعد الانتهاء إليه يصير مبدأ الرجوع إلى عمل المسح، فيستفاد منها عدم جواز مسح الوجه و اليد على الأرض، و عدم جواز التمرّغ و التمعّك كما فعل عمّار رضي اللّه عنه، فكأنّ رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) حين قال

هكذا يصنع الحمار، أ ما قال اللّه عزّ و جلّ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً

، أراد تفهيم أنّ المستفاد من الآية خلاف ما فعله، فإنّ المستفاد منها كون اليد آلة المسح، لأنّه بعد الأمر بالمسح بعد الانتهاء إلى المقصد، و الرجوع إلى عمل المسح، يعلم أنّ المسح باليد لأنّها الآلة المتعارفة.

و ربّما يؤيّد هذا الوجه ما حكي عن السيّد في طيّ كلام له من التصريح بأنّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 330

..........

______________________________

كلمة «من» للابتداء، و أنّ جميع النحويين من البصريين منعوا ورود «من» لغير الابتداء.

أقول: لم يظهر لي أن يكون عدم جواز مسح الوجه و اليد على الأرض مستفاداً من كلمة «من» الابتدائية، بل الظاهر أنّ منشأ استفادة ذلك هو كلمة «الباء» في بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ، أو ظهور الآية في مسح الصعيد بهما، لا مسحهما بالصعيد، و لم يعلم استشهاد النبيّ في قصّة عمّار بالآية المشتملة على كلمة «منه»، الظاهرة فيما ذكر باعتقاد المورد.

ثانيها: أن يكون الضمير كذلك، و تكون «من» تبعيضية، فيكون المعنى و امسحوا بوجوهكم و أيديكم بعض الصعيد، و

عليه فلا يستفاد من الآية أنّ آلة المسح اليد، لإمكان أن تكون الآلة نفس بعضه، بأن يرفع حجراً أو مدراً و يمسح به، أو يضع وجهه على الصعيد و يمسحه به، بل لمّا كان بعض الصعيد هو الصعيد لصدق الجنس على القليل و الكثير بنحو واحد، فكأنّه قال: امسحوا بوجوهكم و أيديكم الصعيد، فيكون الصعيد آلة المسح، أو الممسوح، و الماسح الوجه، فيكون مناسباً لما صنع عمّار.

قال المورد: و هذا الاحتمال مع بعده؛ لأنّ لازمه اعتبار زائد في معنى الصعيد حتّى يخرجه عن المعنى الجنسي الشامل للقليل و الكثير بنحو واحد، و هو لحاظه مجموعاً ذا أبعاض، و هو خلاف الظاهر، و لأنّ الأصل في «من» الابتدائية على ما قالوا، و لأنّ ذكر المسح ببعضه غير محتاج إليه بعد عدم إمكانه، بل و مع فرض الإمكان أيضاً؛ لأنّ طبيعة المسح توجد بأوّل مصداقه عرفاً، و الفرض أنّ الصعيد اسم جنس صادق على الكلّ، و بعضه لا يثبت مدّعاهم:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 331

..........

______________________________

أمّا أوّلًا: فلما عرفت من عدم دلالة ظاهر الآية حينئذٍ على أنّ الماسح هو الكفّ، بل يمكن أن يكون نفس الصعيد برفع بعضه إلى الوجه، و هو يشعر بخلاف مطلوبهم، و أن يكون المراد مسح الوجه على الأرض نظير ما صنع عمّار.

و أمّا ثانياً: فلأنّ وجه الأرض لا ينحصر بالتراب و الحجر حتّى يثبت مطلوبهم، بل كثير من الأراضي يكون لها علوق مع عدم كونها تراباً، كالجصّ، و النورة، و الرمل.

ثالثها: أن تكون «من» للتأكيد، كقوله تعالى مٰا جَعَلَ اللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، فيكون المعنى: فامسحوا بوجوهكم و أيديكم الصعيد.

و ما قيل: من أنّ مجي ء

الحرف للتأكيد خلاف الظاهر غير مسلّم، إذا كان سائر المعاني خلاف ما وضع له.

نعم، لو ثبت اشتراكها بين المعاني المذكورة لها، يكون التأكيد خلاف الأصل، لكنّه غير معلوم.

رابعها: أن تكون بدلية مع رجوع الضمير إلى الماء. قال: و هذا الاحتمال لا يقصر من احتمال كونها تبعيضيّة.

و هنا احتمالات أُخر بعضها أقرب من الحمل على التبعيض أو مساوٍ له، كأن تكون ابتدائية و الضمير راجعاً إلى التيمّم، و أن تكون سببية و الضمير راجعاً إلى الحدث المستفاد من سوق الآية، أو يكون مساقها مساق قوله (عليه السّلام)

اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه

إلى غير ذلك من الاحتمالات.

أقول: من البعيد جدّاً أن تكون الآية المشتملة على كلمة «من» مفيدة لخصوصية مغايرة للآية الخالية عنها، كما أفاده المورد، حيث إنّ مقتضى بيانه أنّ الآية الواجدة دالّة على لزوم أن تكون الآلة هي الكفّ، و لا يجوز رفع الصعيد إلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 332

..........

______________________________

الوجه أو وضع الوجه عليه، و الآية الخالية دالّة على جواز أحد الأمرين، خصوصاً مع ملاحظة ما عرفت من أنّ استشهاد النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) في قصّة عمّار لم يكن بخصوص الواجدة، بل بالأعمّ منها، فيظهر منه أنّه لا خصوصية لها أصلًا.

و عليه فكلتا الآيتين مشتركتان في لزوم وساطة الكفّ و آليّتها، مع أنّه من البعيد في نفسه إلغاء هذه الخصوصية المهمّة في الآية الخالية، خصوصاً بعد اشتراكهما في ورودهما في مقام البيان، و خلوّ إحداهما عن التعليل لا يضرّ بما هو الأساس، و هو بيان الحكم و الكيفية.

فالإنصاف: أنّ التفكيك في غير محلّه. هذا كلّه مع قطع النظر عن الرواية الواردة في

تفسير الآية.

و أمّا مع ملاحظتها و هي صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

قلت له: أ لا تخبرني من أين علمت و قلت إنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين.

إلى أن قال أبو جعفر (عليه السّلام)

ثمّ قال فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ فلما أن وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحاً، لأنّه قال بِوُجُوهِكُمْ ثمّ وصل بها وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من ذلك التيمّم؛ لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه؛ لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ، و لا يعلق ببعضها.

«1» فربّما يقال: إنّه لا يبقى إشكال في كون «من» للتبعيض؛ لأنّ المراد من التيمّم هو ما يتيمّم به، لبعد الرجوع إلى ذات التيمّم المستفاد من قوله فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً، فيناسب التعليل مع كون «من» كذلك، فكأنّه قال: التيمّم من بعض الصعيد لعدم إجراء

______________________________

(1) أورد صدره في وسائل الشيعة، في أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 1؛ و ذيله في أبواب التيمّم، الباب 13، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 333

..........

______________________________

جميعه على الوجه، لعلوقه ببعض اليد لا تمامها، فحينئذٍ يتمّ المطلوب، و هو كون المراد من الصعيد التراب.

و أُورد على هذا القول مضافاً إلى عدم اختصاص العلوق بالتراب، و غاية مفاد الصحيحة و الآية لزوم كون التيمّم بما يصلح أن يعلق منه في الجملة على اليد بضربها عليه، كالأمثلة المتقدّمة بمنع كون المراد من التيمّم ما يتيمّم به، لوضوح كون عناية الإمام (عليه السّلام) برجوع الضمير إلى التيمّم، و عدم رجوعه إلى الصعيد، و إلّا يصير الكلام المعجز كاللغز؛ لأنّ عدم رجوعه إلى الصعيد المذكور في الكلام، و الرجوع

إلى التيمّم غير المذكور، و إرادة ما يتيمّم به من التيمّم، ثمّ إرادة الصعيد ممّا يتيمّم به أشبه بالأحجّية، فلا محيص عن كون المراد من الرواية هو الرجوع إلى نفس التيمّم.

و لعلّ النكتة فيه إفادة أنّ المسح بالوجه و الأيدي لا بدّ و أن يكون من ذلك التيمّم الذي هو كناية عن ضرب الأرض، بمعنى عدم التأخير، أو تحقّق أمر رافع للارتباط، كغسل اليدين بعد ضربهما على الأرض.

و أمّا التعليل، فالظاهر أن يكون لعدم رجوع الضمير إلى الصعيد حتّى يتوهّم منه لزوم المسح به مع عدم إمكانه، فكأنّه قال: إنّما قلنا من ذلك التيمّم، لا من الصعيد، لعدم إمكان المسح منه، لعدم إجرائه على الوجه؛ لأنّه يعلق منه ببعض الكفّ، و لا يعلق ببعض.

كما أنّه أُورد عليه في «المصباح»: بأنّه و إن كان الظاهر أنّ المراد من التيمّم ما يتيمّم به، إلّا أنّ المتعيّن مع ذلك أيضاً حمل كلمة «من» على الابتداء دون التبعيض؛ لأنّ المقصود بقوله (عليه السّلام)

أنّ ذلك أجمع ..

إنّما هو بيان حكمة أنّ اللّه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 334

..........

______________________________

تعالى أوجب أن يكون المسح من الصعيد، لا به بنفسه، حيث علم أنّه بنفسه لا يتعلّق بالكفّ على وجه يمكن إجراؤه بالكيفية المعتبرة في التيمّم على الوجه و اليدين، فأوجب اللّه تعالى أن يكون المسح ناشئاً منه لا به.

و ليس المراد بما يعلق ببعض الكفّ من الصعيد، العلوق الذي اعتبره القائلون به، ضرورة أنّ ذلك العلوق بعد تسليم صحّة إطلاق كونه بعض الصعيد يعلق غالباً بجميع الكفّ، بل ربّما يعلق بظاهر اليد أيضاً، فالمقصود به على الظاهر ليس إلّا أنّ ذلك الصعيد بنفسه لا يعلق حقيقة إلّا

ببعض الكفّ، فلا يمكن أن يكلّف الناس بإجرائه على الوجه و اليدين بالنحو المعتبر فيهما، و لذا لم يأمرهم بذلك، و إنّما أُوجب عليهم المسح منه بنحو من الاعتبار.

أقول: لا مجال لإنكار كون المراد من التيمّم في الرواية هو التيمّم الذي معناه الضرب على الصعيد، و لا وجه لحمله على كون المراد به هو الصعيد، للزوم الأحجّية كما عرفت.

إلّا أنّ التأمّل في الرواية و الخصوصيات المذكورة فيها يقضي بأنّ المراد منها أنّ كلمة «منه» متعلّقة بخصوص أيديكم، و المراد منه أنّ مسح الأيدي إنّما هو من الضرب الذي مسح الوجه به، من دون أن يكون هنا تيمّم آخر، أي ضرب آخر، و هذا المعنى يناسب مع التعليل الواقع فيها أيضاً؛ لأنّ مرجعه إلى أنّ الصعيد لم يتعلّق بجميع الكفّ حتّى يكون إجراؤه على الوجه مانعاً عن الإجراء على الأيدي، بل إنّما تعلّق ببعضهما، و هو يدلّ على عدم لزوم اشتمال الكفّ على الصعيد، فلا وجه للزوم تيمّم آخر، أي ضرب آخر؛ لأنّ منشأ توهّم اللزوم خلوّ الكفّ عن الصعيد، مع أنّه لا يلزم اشتمالها عليه، فالصحيحة تدلّ على رجوع الضمير إلى التيمّم، و عليه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 335

..........

______________________________

تكون كلمة «من» ابتدائية، و لا وجه للتبعيض، غاية الأمر اختصاصها بخصوص الأيدي، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الصحيحة مع إرجاعها الضمير إلى التيمّم أفاد كون الآلة في المسح هي الكفّ، و هو يدلّ على أنّ دلالة الآية على لزوم آليّة الكفّ لا تتوقّف على ثبوت كلمة «منه»، بل الآية الخالية عن هذه الكلمة أيضاً تدلّ على ذلك، فمن ذلك يستكشف صحّة ما ذكرنا من عدم الفرق في هذه الجهة بين

الآيتين، و أنّ لزوم وساطة الكفّ لا يتوقّف على ثبوت هذه الكلمة، كما أصرّ عليه الماتن دام ظلّه في «الرسالة» فتدبّر.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: عدم دلالة الكتاب على اعتبار خصوص التراب لو لم نقل بدلالته على العدم، بلحاظ مادّة كلمة «الصعيد» على ما عرفت.

و أمّا السنّة: ففيها طوائف من الروايات المشتملة على الصحيحة و الموثّقة، تدلّ على أنّ المراد بالصعيد ما عليه المشهور من كونه مطلق وجه الأرض:

الاولى: النبوي المعروف

جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً «1»

و هي رواية مشهورة مستفيضة، بل متواترة، و قد نسبها الصدوق إلى النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) على سبيل الجزم، و قد رواها الكليني، و «محاسن» البرقي، و الصدوق في «الفقيه»، و في «الخصال» بسندين، و جماعة كثيرة أُخرى.

نعم، عن «العلل» روايتها بذكر «و ترابها طهوراً» مسندة إلى جابر بن عبد اللّه، عن النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بسند جلّ رواتها من العامّة، فلا ينبغي التعويل عليها.

و عن المرتضى أنّه استدلّ لكون المراد بالصعيد هو التراب بقوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم):

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمم، الباب 7، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 336

..........

______________________________

جعلت لي الأرض مسجداً و ترابها طهوراً

قائلًا: بأنّه لو جاز التيمّم بمطلق الأرض لكان لفظ «ترابها» لغواً.

و قال المحقّق في «المعتبر» في مقام الجواب عن المرتضى: إنّ التمسّك به تمسّك بدلالة الخطاب، و هي متروكة في معرض النصّ إجماعاً.

و يظهر منه وجود هذه الرواية و اعتبارها، نعم في محكيّ «مجالس» ابن الشيخ في حديث

جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً أينما كنت، أتيمّم من تربتها و أُصلّي عليها.

و

لكنّه لا يخالف الروايات المتقدّمة؛ لأنّ عمله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) يمكن أن يكون لأجل أفضلية التراب، لا لتعيّنه، فلا ينافي صدرها، و لا يصلح لتقييد إطلاقه، فضلًا عن سائر المطلقات.

و الظاهر أنّه بعد عدم إمكان المناقشة في الرواية بالنقل المعروف، و كون صدورها بغير ذلك النقل أيضاً، بأن صدر من النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) مرّتين: مرّة مع وجود لفظ «ترابها»، و اخرى بدون هذا اللفظ، بعيداً جدّاً، لظهور كون الصادر منه نحواً واحداً، ينقدح في الذهن وقوع اشتباه في النقل الثاني، خصوصاً مع كون رواة السند جلّهم من العامّة، و لم ينقله المرتضى (قدّس سرّه) إلّا مرسلًا، و إن كانت كيفية إرساله بنحو يمكن دعوى اعتبار المرسلة معها، لكنّه لا يقاوم مع النقل المستفيض، بل المتواتر بالنحو المعروف.

و كيف كان: فلا يبقى اعتماد على هذا النقل، و لا يكون واجداً لشرائط الحجيّة حتّى يعامل معه، و مع النقل الآخر معاملة الخبرين المعتبرين، فيجمع بينهما، أو يرجع إلى قواعد التعارض، فاللازم الأخذ بالرواية بهذه الكيفية الظاهرة في أنّ الطهور إنّما هو نفس الأرض، لا خصوص ترابها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 337

..........

______________________________

نعم، ربّما يناقش في دلالتها، لاحتمال كون المراد هي الطهورية من الخبث الثابتة للأرض في الجملة، و لكنّها مندفعة بأنّه إن كان المراد هو الاختصاص بها، فهو مقطوع البطلان بعد معروفية التيمّم، و كونه أحد الطهورين، و إن كان المراد هو الشمول لها أيضاً، فلا يمنع من الدلالة على ما عليه المشهور.

الثانية: ما وردت في قضية عمّار، ففي موثّقة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

أتى عمّار بن ياسر رسول اللّه

(صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقال: يا رسول اللّه، إنّي أجنبت الليلة، فلم يكن معي ماء.

قال: كيف صنعت؟

قال: طرحت ثيابي و قمت على الصعيد فتمعّكت فيه.

فقال: هكذا يصنع الحمار، إنّما قال اللّه عزّ و جلّ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فضرب بيديه على الأرض، ثمّ ضرب إحداهما على الأُخرى، ثمّ مسح بجبينه، ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على الأُخرى، فمسح اليسرى على اليمنى، و اليمنى على اليسرى.

«1» و في صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)

قال رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) ذات يوم لعمّار في سفر له: يا عمّار، بلغنا أنّك أجنبت فكيف صنعت؟

قال: تمرّغت يا رسول اللّه في التراب.

قال

فقال له: كذلك يتمرّغ الحمار، أ فلا صنعت كذا، ثمّ أهوى بيديه إلى الأرض. فوضعهما على الصعيد، ثمّ مسح جبينه (جبينيه) بأصابعه و كفّيه إحداهما بالأُخرى، ثمّ لم يعد ذلك.

«2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 338

..........

______________________________

و قد تتوهّم دلالة الصحيحة أو إشعارها بمخالفة الصعيد للأرض، حيث قال الإمام (عليه السّلام) فيها في مقام الحكاية

ثمّ أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد

و لو كان الصعيد بمعنى مطلق وجه الأرض، لكان المناسب أن يقول: فوضعهما عليها.

و لكن التوهّم مندفع: بأنّه من المحتمل أن يكون ذلك لأجل إفادة تفسير الآية، و بيان أنّ المراد بالصعيد الواقع فيها هو الأرض.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال: بأنّ هذه الطائفة مضافاً إلى دلالتها بنفسها على المذهب المشهور يمكن الاستشهاد بها على كون الصعيد في الآية هو الأرض، لا التراب خاصّة، ضرورة أنّ قصّة عمّار لم

تكن إلّا قضية واحدة، و قد نقلها الأئمّة (عليهم السّلام) بتعبيرات مختلفة، مع وضوح كون الغرض من النقل بيان الحكم و إفادة كيفية التيمّم، ففي أكثرها وقع التعبير بالأرض، و في رواية

وضع يده على المسح

، و في ثالثة ما عرفت في صحيحة زرارة من الجمع بين الأرض و الصعيد.

فيظهر من جميع ذلك: أنّ الأرض و الصعيد واحد، و أنّ المراد بالثاني هو الأوّل؛ إذ لا مجال لتوهّم كون دائرة التيمّم أوسع من الصعيد، خصوصاً مع وقوع الاستشهاد بالآية في بعضها.

ثمّ الظاهر أنّ اعتراض الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) على عمّار، و الاستشهاد بالآية إنّما هو لأجل دلالة الآية على وجوب المسح بالوجوه و الأيدي بدلًا عن الوضوء و الغسل معاً، لاشتمال صدر الآية على بيان الأمرين، و دلالة ذيلها على الانتقال إلى التيمّم بالكيفية المذكورة فيها في كلا الموردين، فلم يكن وجه لعمل العمّار و ما صنعه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 339

..........

______________________________

نعم، الوجه فيه هو تخيّل أنّ التيمّم بالنحو المذكور في الآية، حيث لا يتجاوز عن الوجوه و الأيدي اللتين قد أمر بغسلهما في الوضوء، يكون منحصراً بما هو بدل عن الوضوء، و أمّا البدل عن الغسل فيكون بالنحو الذي صنع، فمنشأ الاعتراض ما ذكر، لا أنّ الآية تدلّ على أنّ المسح من الصعيد، لا مسح الجسد على الأرض، ضرورة أنّه لو كان يمسح الصعيد على جميع أجزاء بدنه لكان الاعتراض عليه باقياً بحاله أيضاً، كما هو ظاهر.

الثالثة: عدّة روايات أُخر، كصحيحة الحلبي قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول

إذا لم يجد الرجل طهوراً و كان جنباً فليتمسّح من الأرض، و ليصلّ، و

إذا وجد ماءً فليغتسل، و قد أجزأته صلاته التي صلّى.

«1» و قد نوقش فيها باحتمال كونها بصدد بيان أجزاء الصلاة التي صلّى مع التيمّم، لا في مقام بيان ما يتيمّم به، كما أنّه يحتمل أن تكون بصدد بيان أنّه مع عدم وجدان الماء يصحّ التيمّم و لو في سعة الوقت، و لا يجب الصبر إلى آخره.

و لكنّ المناقشة مندفعة بظهور كون الرواية في مقام بيان حكمين:

الأوّل: الانتقال إلى التيمّم مع عدم وجدان الماء.

الثاني: أجزاء الصلاة التي صلّاها معه.

و قد اقتصر في بيان الحكم الأوّل على ذكر الأرض، فيظهر منها أنّه هو ما يتيمّم به لا أمر أخصّ منه. و نظيرها صحيحة ابن سنان. «2» و صحيحة ليث المرادي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في التيمّم قال

تضرب بكفّيك

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 340

..........

______________________________

على الأرض مرّتين، ثمّ تنفضهما و تمسح بهما وجهك و ذراعيك.

«1» و رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في التيمّم قال

تضرب بكفّيك الأرض، ثمّ تنفضهما و تمسح بهما وجهك و يديك.

«2» و توهّم: أنّ لزوم النفض أو رجحانه المدلول عليه بالروايتين دليل على كون التيمّم بالتراب لا مطلق الأرض، مدفوع بأنّ الباقي بعد النفض على فرض التيمّم بالتراب هو أثر التراب لا نفسه، و على تقديره فغاية مفادهما لزوم كون الأرض صالحاً للعلوق، و هو لا يختصّ بالتراب لوجوده في الموارد المتقدّمة.

و رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن التيمّم، فضرب بكفّيه الأرض ثمّ مسح بهما وجهه .. «3» و رواية زرارة، عن

أحدهما (عليهما السّلام) قال: قلت: رجل دخل الأجمة، ليس فيها ماء، و فيها طين، ما يصنع؟

قال

يتيمّم، فإنّه الصعيد ...

«4» فإنّ الظاهر منها أنّ الطين صعيد، مع أنّه ليس بتراب، لكن في مرسلة علي بن مطر، عن بعض أصحابنا قال: سألت الرضا (عليه السّلام) عن الرجل لا يصيب الماء و لا التراب أ يتيمّم بالطين؟

قال

نعم، صعيد طيّب و ماء طهور.

«5»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 5.

(4) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 5.

(5) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 341

..........

______________________________

فإنّها ظاهرة في أنّ الطين لا يكون بتمامه صعيداً، بل مركّب منه و من الماء الطهور، فتدلّ على أنّ المراد بالصعيد هو التراب.

و دعوى: أنّ السؤال فيها إنّما هو عن الأراضي الممطورة التي يكون فيها الطين و الأجزاء المائية القليلة التي لا تضرّ بصدق عدم وجدان الماء، و لا بصدق كون الأرض طينة، فالمراد بقوله

صعيد طيّب

هو الطين، و بقوله

ماء طهور

هو الأجزاء المائية، واضحة المنع.

و العمدة في الجواب مضافاً إلى إرسال الرواية أنّ دلالة رواية زرارة على كون الطين صعيداً أظهر من دلالة المرسلة على نفيه، فتدبّر.

و يمكن أن يقال: بأنّ مراد الرواية إبطال ما ربّما يشعر، بل يدلّ عليه سؤال السائل من كون المراد بالصعيد هو التراب الذي لا يصيبه الرجل، و لا يصيب الماء أيضاً، و طريق الإبطال أنّ الطهور بمقتضى الكتاب إمّا الماء الذي وصفه اللّه تعالى به فيه، و إمّا الصعيد الطيّب المذكور في آيتي التيمّم، و عدم وجدان

التراب لا يلازم عدم وجدان الصعيد؛ لأنّ الطين صعيد و إن لا يكون تراباً، فمراد الإمام (عليه السّلام) بيان وجود أحد الطهورين في المقام، لا أنّ الطين مركّب من الطهورين، ضرورة أنّ التركّب لا دلالة له على جواز التيمّم، و إلّا لكان اللازم جواز التيمّم بالماء بطريق أولى، كما لا يخفى.

كلّ ذلك مضافاً إلى ما ورد من قوله (عليه السّلام)

ربّ الماء هو ربّ الأرض

، و قوله (عليه السّلام)

و إن فاتك الماء لم تفتك الأرض

، و الموثّق المتقدّم فيمن مرّت به جنازة، الدالّ على جواز التيمّم بحائط اللبن و غيرها، ممّا يظهر منه عدم اختصاص ما يتيمّم به بخصوص التراب، و أنّ ما عليه المشهور هو الصحيح.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 342

..........

______________________________

و لكنّه قد استدلّ لمذهب الخصم بعد إجماع السيّد و كذا صاحب «الغنية» بروايات:

الأُولى: صحيحة محمّد بن حمران و جميل بن درّاج، أنّهما سألا أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن إمام قوم أصابته جنابة في السفر، و ليس معه من الماء ما يكفيه للغسل، أ يتوضّأ بعضهم و يصلّي بهم؟

فقال

لا، و لكن يتيمّم الجنب، و يصلّي بهم، فإنّ اللّه عزّ و جلّ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً.

«1» و في رواية الشيخ ترك لفظ «بعضهم»، و في رواية الكليني ترك قوله: «كما جعل الماء طهوراً».

و تقريب الاستدلال: أنّها في مقام بيان الامتنان، و لو كان مطلق الأرض طهوراً لكان المناسب للمقام ذكرها مكان التراب، لاقتضاء عموميتها للأنسبية للامتنان، كما هو ظاهر.

و الجواب: أنّه لم يظهر ورود الرواية في مقام الامتنان، فإنّ غاية مفادها لزوم التيمّم في الفرض المذكور في السؤال، معلّلًا بأنّ اللّه عزّ و جلّ جعل

التراب طهوراً.

و بعبارة أُخرى: الرواية إنّما هي بصدد إبطال لزوم التوضّي ء مكان الغسل؛ لعدم كفاية الماء له، و إفادة لزوم التيمّم، و ليس واقعاً موقع الامتنان مع أنّ هذا الظهور لا يكاد يقاوم الروايات المتقدّمة الظاهرة، بل الصريحة في التعميم.

الثانية: صحيحة رفاعة، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إذا كان الأرض مبتلة ليس فيها تراب و لا ماء، فانظر أجفّ موضع تجده فتيمّم منه، فإنّ ذلك توسيع من اللّه عزّ و جلّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 24، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 343

..........

______________________________

قال

فإن كان في ثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمّم من غباره، أو شي ء مغبر، و إن كان في حال لا يجد إلّا الطين فلا بأس أن يتيمّم منه.

«1» و مثلها صحيحة عبد اللّه بن المغيرة مع الخلوّ عن التعليل «2». نظراً إلى أنّ فرض عدم التراب خاصّة دليل على عدم جواز التيمّم حال الاختيار بغيره، و إلّا لكان اللازم فرض عدم الحجر أيضاً، مع أنّ تخصيص عدم البأس عن التيمّم بالطين بما إذا لم يجد غيره أيضاً دليل على عدم كونه من مصاديق الصعيد في الآية الشريفة، و إلّا لكان التيمّم به مشروعاً مطلقاً، كما لا يخفى.

و أُجيب عنهما: بأنّه من القريب أن يكون فرض عدم التراب في الأرض التي لها بلّة لم تصل إلى حدّ الطين، لأجل أنّ البلّة لم تنفذ إلى باطن التراب، فمع وجود التراب في الأرض المتبلّة بالمطر القليل مثلًا، يكون التيمّم بالأرض اليابس ممكناً، برفع ظاهر التراب و التيمّم باليابس، فالصحيحة سيقت لبيان مراتب التيمّم، بأنّه إن أمكن بالأرض اليابسة فهو، و إلّا بأجفّ موضع منها فالأجفّ إلى أن

لا يجد إلّا الطين فيتيمّم به، كما هو المفروض في ذيلها، فلا تكون بصدد بيان تقدّم التراب على سائر وجه الأرض، بل بصدد بيان تقدّم اليابس على غيره، و الأجفّ على غيره، فهي غير مربوطة بالمقام، و مع عدم إمكان الالتزام بهذه المراتب لا بدّ من الحمل على الفضيلة.

الثالثة: رواية معاوية بن ميسرة الدالّة على عدم إعادة الصلاة التي صلاها مع التيمّم، معلّلًا بقوله (عليه السّلام)

فإنّ ربّ الماء هو ربّ التراب.

«3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 10.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 344

..........

______________________________

الرابعة: الأخبار الدالّة على استحباب نفض الكفّ بعد الضرب، بتقريب أنّه لو لا أن يكون التيمّم محصّلًا للعلوق لم يتوجّه رجحان النفض، فإنّه فرع وجود ما ينفض، فيستكشف من ذلك أنّ المراد بما يتيمّم به التراب.

و الجواب من الأخيرتين قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا، و لا يبقى للقائل بالاختصاص إلّا أمران:

أحدهما: دعوى السيّد في «الناصريات» الإجماع على كون المراد من الصعيد هو التراب، و كذا دعوى صاحب «الغنية» الإجماع عليه.

و الجواب: أنّ التأمّل في كلامهما صدراً و ذيلًا يقضي بعدم كون مرادهما دعوى الإجماع على ذلك، بل على أمر آخر خارج عن هذا البحث، فراجعهما و تأمّل فيهما.

و على تقدير كون مرادهما ذلك فلا مجال للاتّكال عليها بعد تطابق اللغة و الروايات على الخلاف و ذهاب المشهور إلى الخلاف، مع أنّ الإجماع المنقول في نفسه لا يكون واجداً لوصف الحجّية، خصوصاً في مثل هذه المسألة التي لا تكون متمحّضة في الشرعية، لارتباطها باللغة، و لا تكون أصالة فيها للإجماع

أصلًا.

ثانيهما: قاعدة الاشتغال، نظراً إلى أنّ مشروعية التيمّم بغير التراب مشكوكة، فمقتضى القاعدة الحاكمة بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ بعد اليقين بالاشتغال، الاقتصار على التيمّم بخصوص التراب.

و الجواب: أنّ الاستدلال بها على تقدير وصول النوبة إليها، لعدم وجود دلالة لفظية على التعميم، و قد عرفت وجودها إنّما يتوقّف على كون الطهور الذي لا صلاة إلّا به عبارة عمّا يحصل من أفعال الطهارات الثلاث من الأمر المعنوي المتحصّل منها، ضرورة أنّه لو كان المراد بالطهور هي نفس تلك الأفعال فالشكّ في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 345

..........

______________________________

شرطية التراب مرجعه إلى الشكّ في تكليف زائد، و المرجع فيه أصالة البراءة، و قد عرفت أنّه لم يظهر لنا كون المراد بالطهور هو الأمر المتحصّل لو لم نقل بظهور الخلاف، كما مرّ فيما تقدّم.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: أن مقتضى التحقيق ما عليه المشهور من عدم اختصاص ما يتيمّم به بخصوص التراب، بل هو مطلق وجه الأرض، نعم الأحوط الذي لا ينبغي تركه هو التراب.

و قد بقي في هذه المسألة أُمور:

التيمّم بالجصّ و النورة الأوّل: أنّه يجوز التيمّم بالجصّ و النورة في الجملة، كما عن المشهور، و عن «مجمع البرهان» أنّه ينبغي أن يكون لا نزاع فيه، و الظاهر أنّ مراده عدم النزاع بين القائلين بعدم الاختصاص بالتراب، و أنّه لا فرق بينه و بين الحجر، و إلّا فالنزاع السابق يجري فيه.

و الدليل على الجواز صدق الأرض عليهما، و انطباق عنوان المعدن لا يقدح في ذلك؛ لأنّ القادح هو عدم انطباق عنوان الأرض، لا انطباق عنوان آخر مثل المعدن، فلا مجال لما عن الحلّي من المنع بلحاظ المعدنية.

كما أنّه لا مجال للتفصيل

بين حالتي الاختيار و الاضطرار؛ لأنّهما إن كانا خارجين عن عنوان الأرض، فلا يجوز التيمّم بهما مطلقاً، و إلّا فيصحّ كذلك، فالتفصيل ممّا ليس إليه سبيل.

و أمّا الفرق بين حال الاحتراق و العدم، كما ربّما يدلّ عليه ظاهر المتن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 346

..........

______________________________

و المحكيّ عن الأكثر، فمنشؤه الشكّ في صدق عنوان الأرض بعد الاحتراق، و احتمال الخروج عن مسمّاها بمجرّد الطبخ، و حصول الاستحالة بذلك.

و ربّما يستدلّ على الجواز بخبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام) أنّه سئل عن التيمّم بالجصّ.

فقال

نعم.

فقيل: بالنورة.

فقال

نعم.

فقيل: بالرماد.

فقال

لا، إنّه ليس يخرج من الأرض إنّما يخرج من الشجر.

«1» فإنّ مقتضى الإطلاق و ترك الاستفصال عدم الفرق بين الحالتين، و لكن ربّما يضعف الرواية و عمدة الدليل على الجواز عدم تحقّق الاستحالة بالطبخ، و عدم الخروج عن مسمّى الأرض بالاحتراق، و مع الشكّ لا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب الحكمي، لأنّه لا يجري الاستصحاب الموضوعي بعد كون الشبهة مفهومية راجعة إلى الشكّ في سعة دائرة مفهوم الأرض، بحيث تشمل بعد الاحتراق أيضاً، أو ضيقها بحيث تختصّ بما إذا لم يتحقّق الطبخ، و في مثلها لا مجال للاستصحاب الموضوعي، كما إذا تردّد عنوان اليوم بين أن يكون موضوعاً لما يمتدّ إلى ذهاب الحمرة المشرقية، أو لما يختصّ بالامتداد إلى الاستتار و سقوط الشمس، و أمّا الاستصحاب الحكمي فلا مانع منه بعد عدم جريان الاستصحاب الموضوعي، كما هو ظاهر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 8، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 347

..........

______________________________

و دعوى: كونه من الاستصحاب التعليقي المشهور بالإشكال، لأنّه إن كان المراد بالجواز

هو الجواز بالمعنى التكليفي المحض فهو معلوم لا حاجة فيه إلى الاستصحاب، و إن كان المراد به هو ترتّب الطهارة عليه فهو معلّق على وجوده، و الاستصحاب تعليقي و الإشكال فيه مشهور.

مدفوعة: بعدم الفرق بين هذا الاستصحاب، و بين استصحاب مثل طهارة الماء و كرّيته، فإنّ الحكم الشرعي المستفاد من قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً

هو حصول الطهارة بالتيمّم بها، و لو كان المراد منه أنّه إن تيمّم بها تحصل الطهارة، و بعبارة اخرى كان مفاده حكماً تعليقياً، فلا مانع من استصحابه أيضاً لما حقّقناه في محلّه من جريان الاستصحاب في التعليقات الشرعية الواردة في ظواهر الأدلّة، فعلى أيّ تقدير لا مانع من الاستصحاب الحكمي.

التيمّم بتراب القبر الثاني: يجوز التيمّم بتراب القبر و إن تحقّق نبشه، بل و إن تكرّر نبشه، حيث إنّه لا مقتضى للمنع منه، و تخصيصه بالذكر في هذا المقام إنّما هو لدفع توهّم كونه مستحيلًا من جسد الميّت، و لكن من الواضح أنّ الاستحالة منه احتمالًا أو قطعاً لا يكاد يقدح في صحّة التيمّم به؛ لأنّ الملاك هو العنوان المستحال إليه.

التيمّم بالتراب المستعمل الثالث: يجوز التيمّم بالتراب المستعمل في التيمّم بلا خلاف فيه ظاهراً، بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه لعدم المانع منه مع إطلاق الأدلّة، و التخصيص

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 348

..........

______________________________

بالذكر إنّما هو للإشارة إلى بطلان ما حكي عن الشافعي في أصحّ قوليه من المنع قياساً على الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، و الوجه فيه بطلان القياس، و المراد بالمستعمل على ما ذكره بعض هو الممسوح به، أو المتساقط عن محلّ الضرب لا المضروب،

فإنّه ليس بمستعمل عند الجميع.

و كذا يجوز التيمّم بالتراب ذي اللون، لعدم الفرق بين أقسام التراب من الأبيض و الأسود و الأصفر و الأحمر بإجماع العلماء، كما عن «التذكرة» لإطلاق التراب.

التيمّم بالرماد الرابع: لا يجوز التيمّم بالرماد و إن كان من الأرض بلا إشكال و لا خلاف في الجملة، لعدم كونه أرضاً، و تؤيّده رواية السكوني المتقدّمة.

لكن ربّما يقال: إنّ التعليل فيها بعدم خروجه من الأرض و خروجه من الشجر ربّما يقتضي جوازه برماد التراب و الحجارة، و ليس بالبعيد؛ إذ الظاهر عدم خروج أجزاء الأرض بتأثّرها من النار، أو حرارة الشمس، و صيرورتها رماداً من كونها من أجزاء الأرض حقيقة.

و الظاهر عدم تمامية هذا القول؛ لأنّ الرماد حقيقة غير حقيقة التراب و الحجر عرفاً، و ليس تبدّلهما به تبدّل صفة مع بقاء الذات، بل تبدّل حقيقة بالأُخرى عرفاً و عقلًا. و منه يظهر أنّه مع الشكّ في الجواز لا يبقى مجال للاستصحاب أصلًا؛ لعدم اتّحاد القضيتين بعد انتفاء الحقيقة الأوّلية، و حدوث الثانوية.

و أمّا الرواية فقد عرفت ضعفها، فلا يبقى مجال لمقتضى التعليل فيها، كما لا يخفى. و كذا التعليل في رواية الراوندي: قيل هل يتيمّم بالرماد؟

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 349

..........

______________________________

قال

لا؛ لأنّ الرماد لم يخرج من الأرض.

«1» و كذا في رواية «الجعفريات»

و لا يجوز بالرماد؛ لأنّه لم يخرج من الأرض.

«2» مع أنّه ربّما يقال: إنّ التعليل لا دلالة له إلّا على المنع من كلّ ما لم يخرج من الأرض، و أمّا الجواز بكلّ ما خرج منها فلا، و إلّا لفهم منه جوازه بالنباتات، و لكن فيه كلام يأتي في بحث المعادن إن شاء اللّه تعالىٰ.

التيمّم

بالمعادن الخامس: لا يجوز التيمّم بالمعادن الخارجة من اسم الأرض، و إن كان منها، و كذا بالنبات و الشجر بلا إشكال و لا خلاف، إلّا من ابن أبي عقيل؛ حيث إنّه حكي عنه أنّه جوّزه بالأرض، و بكلّ ما كان من جنسها كالكحل و الزرنيخ؛ لأنّه يخرج من الأرض، و إن كان يمكن أن يقال: إنّ مراده من قوله: من جنسها، ما لا يخرج عن مسمّاها، فيوافق المشهور، و إن كان المثال و التعليل ربّما لا يجتمعان مع ذلك.

و كيف كان يدلّ على عدم الجواز مضافاً إلى الشهرة المحقّقة و الإجماعات المنقولة ظواهر الأدلّة الدالّة على انحصار ما يتيمّم به في الأرض و الصعيد، و أنّ ما خرج عن مسمّاها، و لا ينطبق عليه عنوان الصعيد و الأرض لا يجوز التيمّم به، من دون فرق بين ما إذا كان أصله غير الأرض، أو كان أصله منها.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ عنوان المعدن لا يكون موضوعاً للحكم بالعدم، بل الملاك هو الخروج عن مسمّى الأرض، فلو فرض صدق عنوان الأرض على بعض المعادن

______________________________

(1) مستدرك الوسائل، أبواب التيمّم، الباب 6، الحديث 2.

(2) مستدرك الوسائل، أبواب التيمّم، الباب 6، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 350

..........

______________________________

لا مانع من التيمّم به، كحجر الرمي و طين الرأس و الأرمني و شبهها من المعادن المنطبق عليها عنوان الأرض.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على الجواز بمطلق المعادن المتكوّنة من الأرض المتحصّلة منها، و إن لم ينطبق عليه عنوانها فعلًا بالروايات المتقدّمة الواردة في الرماد الناهية عن التيمّم به، المعلّلة بعدم الخروج من الأرض، و قد عرفت الإيراد على الاستدلال بتعليلها.

و لكنّه أجاب عنه الماتن دام ظلّه

في رسالة التيمّم بما محصّله: أنّه بعد بطلان النقض بالنباتات لأنّها نابتة من الأرض، لا متبدّلة منها، و المراد من الخروج من الأرض في الروايات ليس مثل خروج النبات من الأرض، بل كخروج الرماد من الشجر أنّ ذلك وارد لو أُريد الاستدلال بمفهوم التعليل بدعوى دلالته على الحصر و الانتفاء عند الانتفاء، ضرورة أنّ مقتضى إطلاق التعليل و إن كان تمام الموضوعية و العلّية التامّة إلّا أنّ ذلك لا يقتضي انحصار العلّة، فيمكن أن يقوم شي ء آخر مقامها في نفي الجواز.

و أمّا لو أُريد الاستدلال بأنّه إذا كان عدم الخروج من الأرض الذي يكون المراد به ظاهراً عدم الانقلاب منها علّة لعدم جواز التيمّم بالرماد، لا يمكن أن يكون التبدّل و الخروج من الأرض أيضاً علّة لعدم الجواز، فالاستدلال على عدم جوازه بالمعادن بأنّها خارجة عن مسمّى الأرض ينافي مفاد الروايات.

إن قلت: هذا إذا أُريد بقوله (عليه السّلام)

لم يخرج من الأرض

أنّه لم ينقلب منها، و أمّا لو أُريد منه أنّه لم تكن مادّته من الأرض، فلا ينافي قول الفقهاء بتقريب أنّ عدم الجواز معلول لعلّتين:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 351

[مسألة 2: لو شكّ في كون شي ء تراباً أو غيره ممّا لا يتيمّم به]

مسألة 2: لو شكّ في كون شي ء تراباً أو غيره ممّا لا يتيمّم به، فإن علم بكونه تراباً في السابق، و شكّ في استحالته إلى غيره، يجوز التيمّم به، و إن لم يعلم حالته السابقة، فمع انحصار المرتبة السابقة به يجمع بين التيمّم به و بالمرتبة اللاحقة من الغبار و الطين لو وجدت، و إلّا يحتاط بالجمع بين التيمّم به و الصلاة في الوقت و القضاء خارجه. (1)

______________________________

إحداهما: عدم كون مادّة الشي ء من الأرض، كما دلّت عليه الروايات.

و الثانية:

عدم كون صورته من الأرض، أي الخروج عن مسمّاها، كما ذكره الفقهاء.

قلت: لا يمكن جعل الشيئين علّة فعلية لشي ء إلّا إذا أمكن افتراقهما في الجملة، فإذا كان تبدّل صورة الأرض، و عدم الخروج عن مادّتها، علّتين لعدم الجواز، لا بدّ من الالتزام بأنّه إذا لم يخرج الشي ء من الأرض لا يجوز التيمّم به و لو صدق عليه مسمّاها، و هو كما ترى، ضرورة صحّة التيمّم بالتراب كتاباً و سنّة و إجماعاً و لو كان أصله غير الأرض، فالعمدة أنّ الروايات ضعيفة سنداً، شاذّة، غير معمول بها.

(1) في الشكّ في كون شي ء تراباً أمّا جواز التيمّم بما يشكّ في كونه تراباً مع العلم بكونه كذلك في السابق، فلجريان الاستصحاب و عدم المانع منه بعد كون الشبهة موضوعية، كاستصحاب الخمرية في المائع المشكوك الذي كان في السابق خمراً، و يحتمل تبدّله إلى عنوان آخر، و تحقّق الاستحالة فيه، فلا ينافي ما ذكرنا سابقاً من عدم جريان الاستصحاب الموضوعي؛ لأنّ مورده هي الشبهة المفهومية و دوران المفهوم بين الأمرين، كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 352

..........

______________________________

و أمّا مع عدم العلم بالحالة السابقة و الانحصار بالمشكوك، فهل ينتقل إلى المرتبة اللاحقة من الغبار و الطين لو وجدت، أو يحتاط بالجمع بين التيمّم به و بها؟؟ وجهان، بل قولان، اختار الأوّل السيّد في «العروة»، و الثاني الماتن دام ظلّه.

و منشأ الأوّل أنّ العلم الإجمالي و إن كان حاصلًا بوجوب التيمّم إمّا بالمشكوك أو بالمرتبة اللاحقة، إلّا أنّه ينحلّ بالأصل الذي يثبت موضوع الانتقال، و هي أصالة عدم وجود التراب، فإنّها تثبت موضوع الحكم بوجوب التيمّم بالمرتبة اللاحقة، و إذا ثبت التكليف تعبّداً في

أحد أطراف الشبهة انحلّ العلم الإجمالي، و أمكن الرجوع إلى أصالة البراءة في الطرف الآخر.

و يرد عليه: أنّ موضوع الانتقال ليس عدم وجود التراب، ضرورة أنّه لا يشكّ في وجود التراب في العالم في أيّ زمان، و لا عدم كون هذا الشي ء تراباً، بل الموضوع عدم وجدان المكلّف تراباً، و عدم كونه واجداً له، و هذا ربّما لا يكون له حالة سابقة، بل حالة سابقة مضادّة، فالعلم الإجمالي المقتضي للزوم الاحتياط بحاله.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ وجوب التيمّم بالمرتبة السابقة لمّا كان من قبيل الوجوب المطلق، وجب في نظر العقل الاحتياط في موافقته مع الشكّ في القدرة عليه، كما إذا تردّد المائع المنحصر بين أن يكون ماء أو غيره، فإنّه يجب الجمع بين الوضوء به و التيمّم بالتراب، فتدبّر.

هذا كلّه مع وجود المرتبة اللاحقة، و مع عدمه فالواجب الاحتياط بالجمع بين التيمّم به و الصلاة في الوقت، و بين الصلاة في خارجه، لأنّ مقتضى العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين هو الجمع بينهما، و لا مجال لاحتمال أن يكون وجوب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 353

[مسألة 3: الأحوط عدم جواز التيمّم بالجصّ و النورة]

مسألة 3: الأحوط عدم جواز التيمّم بالجصّ و النورة بعد احتراقهما مع التمكّن من التراب و نحوه: و مع عدمه الأحوط الجمع بين التيمّم بواحد منهما، و بالغبار و الطين اللذين هما مرتبة متأخّرة، و مع فرض الانحصار الأحوط الجمع بينه، و بين الإعادة أو القضاء، و أمّا الخزف و الآجر و نحوهما من الطين المطبوخ فالظاهر جواز التيمّم بهما. (1)

______________________________

القضاء مرتّباً على عدم وجود ما يتطهّر به، الذي هو مجرى للأصل، و مع ثبوت وجوب القضاء ينحلّ العلم الإجمالي بالانحلال الحكمي؛ و

ذلك لأنّ ترتّب وجوب القضاء على عدم وجوده ليس شرعياً، بل إنّما هو حكم عقلي لا يثبت بالأصل، كما لا يخفى.

(1) قد تقدّم البحث في حكم التيمّم بالجصّ و النورة بعد الاحتراق في المسألة الاولى، و مرّ أنّ الظاهر هو الجواز، لعدم تحقّق الاستحالة بالطبخ، و عدم الخروج عن مسمّى الأرض بالاحتراق، و تقدّم أيضاً أنّه مع الشكّ في ذلك يجري الاستصحاب الحكمي، و مقتضاه الجواز، لكن احتاط في المتن وجوباً بعدم التيمّم بهما مع التمكّن من التراب و نحوه، و منشؤه لا محالة الشكّ في حصول الاستحالة، و المناقشة في جريان الاستصحاب الحكمي بمثل ما تقدّم مع جوابها، و على ما في المتن فالأحوط مع عدم التمكّن من التراب و نحوه هو الجمع بين التيمّم بواحد من الجصّ و النورة، و بالغبار و الطين اللذين هما مرتبة متأخّرة، و مع فرض الانحصار الأحوط الجمع بين التيمّم به، و بين الإعادة أو القضاء لما تقدّم في المسألة السابقة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 354

..........

______________________________

في جواز التيمّم بالخزف و الآجر و أمّا الخزف و الآجر و نحوهما من الطين المطبوخ، فقد استظهر في المتن جواز التيمّم بها، و منشؤه بطلان ما يستند إليه للمنع من تحقّق الاستحالة؛ لأنّ منشأ توهّمها عروض الهيئة الخاصّة و انفصالهما عن الأرض، و إلّا فهما بعد الطبخ بنظر العرف ليسا إلّا مشويّ ما كانا قبله من دون استحالة، و لا أقلّ من الشكّ الموجب للرجوع إلى الاستصحاب، و بهذا يفترقان عن الرماد الذي تغيّر ذاته و تبدّل حقيقته، و لا مجال فيه للرجوع إلى الاستصحاب أصلًا.

لكن عن «المعتبر» التصريح بالمنع في الخزف، قال فيما حكي عنه:

«و لا يعارض بجواز السجود عليه، لأنّه قد يجوز السجود على ما ليس بأرض كالكاغذ».

و أُورد عليه: بأنّه لا يجوز السجود إلّا على الأرض أو نباتها، إلّا أن يدلّ عليه دليل بالخصوص، فتسليمه في الخزف مع عدم كونه نباتاً و لم يدلّ عليه دليل بالخصوص لا يجتمع مع القول بحصول الاستحالة المانعة من التيمّم.

نعم، لو قيل بعدم جواز التيمّم بمطلق الأرض، و اشتراط الترابية إمّا مطلقاً أو مع الاختيار، أمكن الالتزام بالتفصيل، بدعوى بقاء وصف الأرضية دون الترابية بشهادة العرف.

و يظهر من المحكيّ عن بعض التفصيل بين الخزف المسحوق و غيره، فأجاز في الأوّل دون الثاني، و لعلّه ممّن يعتبر وصف الترابية، و قد زعم عدم تأثير الحرارة في زوال هذه الصفة، و إنّما المؤثّر فيه الهيئة الاتّصالية، فإذا زالت عاد إلى ما كان، كما لو انقلب الحجر تراباً.

و المناقشة فيه واضحة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 355

[مسألة 4: لا يصحّ التيمّم بالصعيد النجس]

مسألة 4: لا يصحّ التيمّم بالصعيد النجس و إن كان جاهلًا بنجاسته أو ناسياً، و لا بالمغصوب إلّا إذا أُكره على المكث فيه كالمحبوس، أو كان جاهلًا بالموضوع، و لا بالممتزج بغيره بما يخرجه عن إطلاق اسم التراب عليه، فلا بأس بالمستهلك، و لا الخليط المتميّز الذي لا يمنع عن صدق التيمّم على الأرض، و حكم المشتبه بالمغصوب و الممتزج هنا حكم الماء بالنسبة إلى الوضوء و الغسل، بخلاف المشتبه بالنجس مع الانحصار فإنّه يتيمّم بهما، و لو كان عنده ماء و تراب و علم بنجاسة أحدهما يجب عليه مع الانحصار الجمع بين التيمّم و الوضوء، أو الغسل مقدّماً للتيمّم عليهما، و اعتبار إباحة التراب و مكان التيمّم كاعتبارهما في الوضوء، و

قد مرّ ما هو الأقوى. (1)

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامات:

في عدم صحّة التيمّم بالنجس الأوّل: في اعتبار الطهارة فيما يتيمّم به، فلا يجوز التيمّم بالتراب النجس كما عن «المدارك» نسبته إلى الأصحاب، و عن «المنتهىٰ» نفي الخلاف عنه، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

و يدلّ عليه: توصيف الصعيد بالطيّب في قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً بناء على كونه بمعنى الطاهر الذي يقابل القذر، كما عن ابن عباس و عن غير واحد تفسيره به، و عن «جامع المقاصد» نسبته إلى المفسّرين، ضرورة عدم كون المراد به المستلذّ الذي قيل إنّه معناه الحقيقي؛ لعدم مناسبة الحكم و الموضوع.

كما أنّ احتمال كونه مقابل الخبيث بمعنى الأرض غير النابتة، كما في قوله

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 356

..........

______________________________

تعالى وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لٰا يَخْرُجُ إِلّٰا نَكِداً «1» مندفع مضافاً إلى عدم كون الخبيث لغة بمعنى الأرض غير النابتة، بل بمعنى الرديّ و ما يساوقه، و النجس خبيث بهذا المعنى بما مرّ من كون المراد بالصعيد في آية التيمّم هو مطلق وجه الأرض للشواهد المتقدّمة، فلا مجال لهذا الاحتمال.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ المراد منه هو النظيف عرفاً، الذي جعل مقابل القذر في بعض الروايات، لكن الإجماع على عدم اعتبار النظافة العرفية زائدة على الطهارة الشرعية يدفع هذا الاحتمال، أو يخرج منه غير النجس، فتدبّر.

و ربّما يؤيّد المطلوب بعض الروايات، كمرسلة عليّ بن مطر، عن بعض أصحابنا قال: سألت الرضا (عليه السّلام) عن الرجل لا يصيب الماء و لا التراب، أ يتيمّم بالطين؟

قال

نعم، صعيد طيّب، و ماء طهور «2».

بناء على أنّ المراد أنّ

الطين مركّب من الصعيد الطيّب و الماء الطهور، فإنّ تقييد الأمرين بالطيّب و الطهور مع عدم كون محطّ السؤال إلّا مجرّد التيمّم بالطين من حيث الصحّة و العدم، لا من جهة صيرورة البدن نجساً، لا يكون له وجه إلّا الإشعار بوجود قيد الطهارة المعتبرة فيما يتيمّم به في الطين أيضاً، بل نفس ذكر الطيّب في الصعيد مقام الطهور إشارة إلى كون المراد به هو الطهور، و أنّ الاختلاف بين الأمرين إنّما هو في العبارة، فتدبّر.

هذا، و لكنّ المحكيّ عن «الفقه الرضوي» و «معاني الأخبار» تفسير الطيّب بالمكان الذي ينحدر عنه الماء، و الظاهر أنّه أيضاً ناظر إلى ما ذكرنا؛ لأنّ انحدار

______________________________

(1) الأعراف 58.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 357

..........

______________________________

الماء عنه كاشف عن طهارته و عدم تلوّثه، مع أنّ توصيف الأرض بكونه طهوراً، أو التراب بكونه أحد الطهورين، يؤيّد بل يدلّ على ما ذكرنا، بناء على كون المراد به هو الطاهر المطهّر، أو خصوص المطهّر بضميمة أنّه لا يكاد يمكن أن يكون المطهّر غير طاهر.

فلا يبقى مع ملاحظة جميع ما ذكر ارتياب في اعتبار الطهارة في الأرض التي يتيمّم بها، و إن كان كلّ واحد من الأمور لعلّه لا يخلو عن مناقشة إذا لوحظ منفرداً، ثمّ إنّ مقتضى إطلاق دليل اعتبار الطهارة أنّه لا فرق في ذلك بين صورتي العلم و عدمه، و كذا بين صورتي الالتفات و عدمه؛ لعدم ما يقتضي التخصيص ببعض الصور.

في عدم صحّة التيمّم بالمغصوب الثاني: في اعتبار الإباحة فيما يتيمّم به، فلا يصحّ التيمّم بالمغصوب في الجملة إجماعاً، كما عن «التذكرة»، بل و عقلًا بناء على كون

الضرب على الأرض مأخوذاً في ماهية التيمّم و داخلًا في حقيقته.

و أمّا لو قيل بخروجه عنها، و أنّ التيمّم هو إمرار اليد المضروبة على الأرض على الجبهة و اليدين، بأن لم يكن الضرب مأخوذاً في ماهيّة، و كان من مقدّماته التوصّلية، يتّجه القول بالصحّة عقلًا لاختلاف المتعلّقين وجوداً، كاختلافهما عنواناً.

نعم، يمكن أن يقال بالصحّة كذلك على التقدير الأوّل أيضاً، بناء على القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، و صحّة المجمع إذا كان عبادة، نظراً إلى ثبوت العنوانين المختلفين بالعموم من وجه في المقام، و هما الضرب على الأرض و التصرّف في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 358

..........

______________________________

مال الغير بغير إذنه و رضاه.

كما أنّه يمكن أن يقال بالبطلان على التقدير الثاني أيضاً فيما إذا علّق باليد عند المسح بها شي ء من المغصوب، بحيث يكون إمرار اليد على محلّ المسح تصرّفاً في ذلك الشي ء، فإنّه حينئذٍ يتّصف جزء العبادة بالحرمة، فلا تقع صحيحة.

و كيف كان: فالمسألة بناء على خروج الضرب عن ماهية التيمّم، و جواز اجتماع الحكمين، و صحّة المجمع إذا كان عبادة، مشكلة إلّا إذا كان للإجماع أصالة، و لم يعلم أو يحتمل الاتّكال على العقل في مسألة الاجتماع، كما لا تبعد دعواه.

ثمّ إنّ البطلان إنّما هو فيما إذا لم يكن جاهلًا بالموضوع؛ لأنّه مع الجهل به لا تتنجّز الحرمة، بل الأمر يبقى على حاله، و القدر المتيقّن من الإجماع غير مثل صورة الجهل، و أمّا حكم الإكراه فسيأتي في المسألة الآتية إن شاء اللّه تعالىٰ.

في عدم صحّة التيمّم بالممتزج الثالث: في عدم صحّة التيمّم بالممتزج بغير التراب مثلًا بما يخرجه عن إطلاق اسم التراب عليه، و الوجه فيه واضح،

فإنّ فرض الخروج عن إطلاق اسم التراب مع اعتباره فيما يتيمّم به يقتضي عدم الصحّة في المورد المفروض.

نعم، لو لم يخرج عن ذلك الإطلاق كما إذا استهلك غير الأرض فيها، كما إذا وقع مقدار يسير من الرماد في التراب الكثير، و تحقّق الامتزاج بحيث لا يرى غير التراب أصلًا، فإنّه يجوز التيمّم به بلا إشكال، للصدق الحقيقي عند العرف من دون مسامحة و إغماض.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 359

..........

______________________________

و يلحق بذلك بعض الأجزاء الضعيفة التي لا تقبل الاستهلاك حتّى عند العرف، كالشعرة مثلًا، و كذا مثلها من الأُمور الأُخرىٰ، الذي لا ينفكّ عن الأرض نوعاً كبعض ذرّات التبن؛ لأنّه لا يفهم العرف من الصعيد و الأرض إلّا تلك الأراضي المتعارفة.

و قد فرّق بعض بين صورة الاستهلاك، و بين الصورة الأخيرة، بالمنع في الثاني دون الأوّل، نظراً إلى اشتراط استيعاب ملاصقة الكفّ لما يضرب عليه من الصعيد، لظهور الأدلّة في ذلك و هو لا يحصل فيما إذا امتاز الخليط و إن قلّ كشعرة و نحوها، لا لعدم صدق اسم الصعيد على المضروب عليه، بل لعدم تحقّق ملاصقة جميع أجزاء الكفّ للصعيد بواسطة حاجبية الخليط المتمايز.

و أورد عليه صاحب «المصباح» (قدّس سرّه): بأنّ المعتبر إنّما هو ضرب باطن الكفّ و ملاصقته لما يسمّى في العرف صعيداً، و هو حاصل في الفرض ما لم يكن الجزء المختلط ملحوظاً لدى العرف بحياله، لكون المجموع من حيث المجموع مصداقاً للصعيد في الفرض، و لا يعتبر فيه كون كلّ جزء جزء يفرض منه ممّا يقع عليه الاسم، و إلّا لامتنع تحقّقه على سبيل التحقيق في الفرض الأوّل أيضاً، و لا يدور الأحكام الشرعية مدار التدقيقات

الحكمية، و لذا لا يرتاب أحد في حصول امتثال الأمر بوضع اليد على الحنطة مثلًا عند وضعها على ما يسمّى في العرف حنطة، فهل ترى فرقاً بين ما لو قال: اضرب يدك على الحنطة، أو تصدّق بالحنطة على الفقير، فكلّ طبيعة يحصل بدفعها للفقير برأيه الذمّة عن الأمر بالتصدّق، يتحقّق بوضع اليد عليها امتثال الأمر بالضرب بلا شبهة.

و يمكن الإيراد على كليهما بعد اشتراكهما في تسليم صدق اسم الصعيد على المضروب في الصورة الأخيرة حقيقة عند العرف بمنع الصدق الحقيقي عندهم،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 360

..........

______________________________

و كونه مبيّناً على نحو من المسامحة، و هو يكفي، فإنّ تشخيص موضوعات الأحكام مفهوماً و مصداقاً و إن كان بنظر العرف إلّا أنّ المعتبر هي الدقّة العرفيّة، لا المسامحة عندهم، من غير فرق بين التحديدات و غيرها.

و ما أفاده المورد من أنّ الأجزاء الصغار لا تكون ملحوظة لدى العرف بحيالها، لكون المجموع مصداقاً للصعيد في الفرض، و لا يعتبر أن يكون كلّ جزء جزء يفرض منه ممّا يقع عليه الاسم، مخدوش بأنّ كلّ جزء إذا لم يكن أرضاً فكيف يمكن أن يكون المجموع أرضاً إلّا بالمسامحة و التأويل؟! و الميزان فيما إذا لم يكن هناك قرينة هو تشخيص العرف بالنظر الدقيق، و لا ريب في أنّ الأرض إذا خالطها أجزاء صغار غير أرضية تدرك بالبصر، لا يصدق على مجموعها الأرض حقيقة، بل الإطلاق إنّما هو بنحو من المسامحة، و تنزيل الموجود الصغير منزلة المعدوم.

لكن قد يشتمل بعض المقامات على وجود قرينة تدلّ على أنّ الموضوع للحكم الشرعي هو الموضوع الذي يتسامح فيه العرف، كما في المقام الذي ينصرف الأمر بالتيمّم على الصعيد و

التراب إلى ما هو المتعارف الذي لا ينفكّ عن الخليط بما ذكرنا، و إن لم يصدق عليه الصعيد أو التراب من غير تسامح، و لهذا لو كان الخليط غير متعارف مقداراً أو جنساً، كوقوع ذرّات من الذهب على الأرض، لا يصحّ التيمّم به؛ لعدم تعارف مثل هذا الاختلاط بالأجنبي.

فانقدح ممّا ذكرنا: جواز التيمّم بالتراب و الأرض المتعارف ممّا هو مخلوط بصغار التبن و الحشيش و غيرهما ممّا لا ينفكّ منها غالباً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 361

..........

______________________________

في حكم المشتبه الرابع: في حكم المشتبه، و نقول: إن كان مشتبهاً بالمغصوب أو بالممتزج فحكمه حكم الماء بالنسبة إلى الوضوء أو الغسل، لعدم الفرق كما هو واضح، و إن كان مشتبهاً بالنجس و فرض الانحصار، كما إذا لم يكن هناك غير الترابين اللذين يعلم بنجاسة أحدهما إجمالًا، فيختلف حكمه مع حكم الماء، و يجب التيمّم بهما هنا؛ لأنّه مضافاً إلى وجود النصّ المانع في الطهارة المائية، و عدمه هنا، و لا مجال للقياس، خصوصاً بعد وجود الفارق من جهة ثبوت البدل هناك، و عدمه هنا نقول: إنّه يمكن أن يقال: باقتضاء القاعدة هناك المنع أيضاً لما عرفته في محلّه مفصّلًا، و لا مجال لهذا الاحتمال هنا بعد عدم الابتلاء بنجاسة البدن أصلًا، كما لا يخفى، فلا ريب في لزوم التيمّم بالترابين مع الانحصار، و جوازه بهما مع عدمه، فتدبّر.

العلم الإجمالي بنجاسة الماء أو التراب الخامس: فيما لو كان عنده ماء و تراب و علم بنجاسة أحدهما و فرض الانحصار، فمقتضى العلم الإجمالي بوجوب الطهارة المائية أو الترابية هو الجمع بين الأمرين و تحصيل الطهارتين.

لكن ربّما يقال: إنّ هذا فيما لا يختصّ الابتلاء بالتراب

بالتيمّم به؛ لأنّه مع الاختصاص تكون أصالة الطهارة في الماء بلا معارض، لأنّه ترفع الابتلاء بالتيمّم، فلا مجال لجريان أصالة الطهارة في التراب كي تعارضها.

و التحقيق قد مرّ في بحث الابتلاء، و اعتباره، أو عدمه في تأثير العلم الإجمالي، فراجع.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 362

[مسألة 5: المحبوس في مكان مغصوب يجوز أن يتيمّم فيه]

مسألة 5: المحبوس في مكان مغصوب يجوز أن يتيمّم فيه بلا إشكال إن كان محلّ الضرب خارج المغصوب، و أمّا التيمّم فيه مع دخول محلّ الضرب أو به فالأقوى جوازه و إن لا يخلو من إشكال، و أمّا التوضّؤ فيه فإن كان بماء مباح فهو كالتيمّم فيه لا بأس به، خصوصاً إذا تحفّظ من وقوع قطرات الوضوء على أرض المحبس، و أمّا بالماء الذي في المحبس فإن كان مغصوباً لا يجوز التوضّؤ به ما لم يحرز رضا صاحبه كخارج المحبس، و مع عدم إحرازه يكون كفاقد الماء يتعيّن عليه التيمّم. (1)

______________________________

ثمّ إنّ اللازم هو تقديم التيمّم كما صرّح به في المتن، لأنّه لو توضّأ أوّلًا يعلم بعدم صحّة التيمّم بعده، إمّا لنجاسة أعضائه، و إمّا لنجاسة التراب الملازمة لصحّة الوضوء و عدم مشروعية التيمّم، و نجاسة الأعضاء و إن لم تمنع من صحّة التيمّم عند الاضطرار لكنّها توجب نقصه بنحو لا يجوز إيقاع النفس فيه.

(1) في تيمّم المحبوس في مكان مغصوب لا إشكال في صحّة تيمّم المحبوس في مكان مغصوب إن كان محلّ الضرب خارج المغصوب، و إن كان الفضاء الذي يقع فيه الإمرار و يتحقّق فيه المسح هو الفضاء المرتبط بالمغصوب، إلّا أنّ الإمرار لا يعدّ تصرّفاً فيه محرّماً، مع أنّ اليد لا بدّ أن تشغل المقدار الذي يسعها من الفضاء، سواء كان

بنحو الإمرار أو بغيره، و المفروض عدم كون محلّ الضرب الذي يكون الضرب عليه تصرّفاً فيه مغصوباً، أو تصرّفاً فيه بغير رضا صاحبه، فلا وجه لبطلان هذا التيمّم.

و أمّا التيمّم فيه مع دخول الضرب، فقد قال في «جامع المقاصد»: «و لو حبس المكلّف في مكان مغصوب، و لم يجد ماء مباحاً، أو لزم من استعماله إضرار بالمكان،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 363

..........

______________________________

يتيمّم بترابه الطاهر و إن وجد غيره، لأنّ الإكراه أخرجه عن النهي، فصارت الأكوان مباحة، لامتناع التكليف بما لا يطاق، إلّا ما يلزم منه ضرر زائد على أصل الكون، و من ثمّ جاز له أن يصلّي و ينام و يقوم».

و مرجعه إلى أنّ الإكراه على الكون في مكان كما يرفع الحرمة المتعلّقة بنفس الكون فيه، كذلك يرفع حرمة التصرّفات الملازمة عادة أو شرعاً للكون فيه، كالقيام و النوم و الصلاة و التيمّم، و يمكن الاستشكال في التصرّفات الشرعية بأنّ جوازها متوقّف على ثبوت الإكراه المسوّغ بالإضافة إليها، و ثبوته متفرّع على جوازها في هذه الحال، فكيف يمكن الاستدلال؟! و لعلّه لذا أُورد على «جامع المقاصد» بأنّ ما أفاده إنّما يتمّ بالإضافة إلى الفضاء، و أمّا بالنسبة إلى الأرض فلا يتمّ؛ لأنّ الضرب على الأرض تصرّف فيها زائد على التصرّف في الفضاء، فلا يجوّزه الاضطرار إلى شغل الفضاء بالجسم، هذا بالإضافة إلى التيمّم فيه. و أمّا التيمّم به فجوازه مبنيّ على خروج الضرب على الأرض عن حقيقة التيمّم و ماهية، كما مرّت الإشارة إليه.

و أمّا التوضّؤ في ذلك المكان فإن كان بماء مباح فهو كالتيمّم فيه، و قد عرفت عدم كون هذا النحو من التصرّف في الفضاء محرّماً، فلا

إشكال فيه، خصوصاً إذا تحفّظ من وقوع قطرات الوضوء على أرض المحبس، و مع عدم التحفّظ لا يتحقّق قدح في الوضوء؛ لأنّ غايته حرمة الوقوع عليها، و هي لا تستلزم بطلان الوضوء بعد عدم اتّصاف نفس الكون فيها محرّماً بلحاظ الإكراه على الحبس فيها، كما لا يخفى.

نعم، مع عدم إباحة الماء لأجل عدم إحراز رضا صاحبه يصير كفاقد الماء، و يتعيّن عليه التيمّم، كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 364

[مسألة 6: لو فقد الصعيد تيمّم بغبار ثوبه، أو لبد سرجه، أو عرف دابّته]

مسألة 6: لو فقد الصعيد تيمّم بغبار ثوبه، أو لبد سرجه، أو عرف دابّته ممّا يكون على ظاهره غبار الأرض، ضارباً على ذي الغبار، و لا يكفي الضرب على ما في باطنه الغبار دون ظاهره و إن ثار منه بالضرب عليه، هذا إذا لم يتمكّن من نفضه و جمعه ثمّ التيمّم به و إلّا وجب.

و مع فقد ذلك تيمّم بالوحل، و لو تمكّن من تجفيفه ثمّ التيمّم به وجب، و ليس منه الأرض الندية و التراب الندي، فإنّهما من المرتبة الاولى، و إذا تيمّم بالوحل لا تجب إزالته على الأصحّ، لكن ينبغي أن يفركه كنفض التراب، و أمّا إزالته بالغسل فلا شبهة في عدم جوازها. (1)

______________________________

في التيمّم بالغبار

(1) لا إشكال نصّاً و فتوىً في أنّه مع فقد الصعيد أو تعذّر استعماله يجوز التيّمم بغبار الثوب، أو لبد السرج، أو عرف الدابة، و عن «المعتبر» هو مذهب علمائنا و أكثر العامّة، و مستند الحكم أخبار مستفيضة:

كصحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): أ رأيت المواقف إن لم يكن على وضوء كيف يصنع و لا يقدر على النزول؟

قال

يتيمّم من لبده، أو سرجه، أو معرفة دابّته، فإنّ فيها غباراً،

و يصلّي.

«1» و موثّقته، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

إن كان أصابه الثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمّم من غباره، أو من شي ء معه، و إن كان في حال لا يجد إلّا الطين فلا بأس أن يتيمّم منه.

«2» و لا يبعد أن يكون «معه» مصحف «مغبر»، و تؤيّده صحيحة رفاعة الآتية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 365

..........

______________________________

و صحيحة رفاعة، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إذا كانت الأرض مبتلّة، ليس فيها تراب و لا ماء، فانظر أجفّ موضع تجده فتيمّم منه، فإنّ ذلك توسيع من اللّه عزّ و جلّ.

قال

فإن كان في ثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمّم من غباره، أو شي ء مغبر، و إن كان في حال لا يجد إلّا الطين فلا بأس أن يتيمّم منه.

«1» و صحيحة أبي بصير يعني المرادي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

إذا كنت في حال لا تقدر إلّا على الطين فتيمّم به، فإنّ اللّه أولى بالعذر إذا لم يكن معك ثوب جافّ أو لبد تقدر أن تنفضه و تيمّم به.

«2» فلا إشكال في أصل الحكم، نعم يبقى الكلام في أُمور:

الأوّل: أنّ الظاهر من تعليل صحيحة زرارة بقوله (عليه السّلام)

فإنّ فيها غباراً

و كذا إطلاق قوله (عليه السّلام)

أو شي ء معه

في موثّقته، و كذا

أو شي ء مغبر

في صحيحة رفاعة، أنّ الحكم لا يختصّ بالأمثلة المذكورة في النصوص، بل لو لا ذلك لا يكاد يفهم منها الاختصاص، و التخصيص بالذكر إنّما هو لأجل خصوصية المورد المقتضية لذكره، كالمحارب في الصحيحة الاولى، و المسافر الذي يكون مفروض سائر الروايات ظاهراً،

فمفادها مطلق ما له غبار، كما لا يخفى.

الثاني: ظاهر المتن أنّ جواز التيمّم بالغبار إنّما هو مع فقد الصعيد، فالجواز مشروط به، كما نسبه في محكيّ «التذكرة» إلى علمائنا، و عن «الكفاية» أنّه ظاهر أكثر الأصحاب، و المحكيّ عن السيّد (قدّس سرّه) صحّة التيمّم به اختياراً، و عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 366

..........

______________________________

«المنتهى» و «إرشاد الجعفرية» تقويته، لكنّ عبارتهما كعبارة السيّد قابلة للتوجيه و الحمل على الجواز في الجملة، و مع ذلك فاللازم ملاحظة الأدلّة.

فنقول: أمّا الآية و الروايات الدالّة على أنّ التيمّم إنّما هو بالأرض و التراب، فمقتضاهما عدم صحّته بالغبار مطلقاً و لو في حال الاضطرار؛ لعدم صدق العنوانين على الشي ء المغبر، أو نفس الغبار على مثل السرج و اللبد، لأنّ الغبار أثر التراب لا نفسه، كالرطوبة بالإضافة إلى الماء.

و أمّا الروايات الواردة في التيمّم بالغبار، فمقتضى عموم التعليل في صحيحة زرارة جواز التيمّم بما فيه الغبار مطلقاً، و فرض السائل عدم القدرة على النزول لا يوجب تنزيل التعليل عليه؛ لأنّ المورد لا يوجب تضييقاً في سعة التعليل عموماً أو إطلاقاً.

نعم، لو كان تقديره في كلام الإمام (عليه السّلام) كان ظاهراً في التأخّر، كما في ذيل الرواية الوارد في التيمّم بالطين، هذا مع تسليم أنّ المفروض في الصحيحة عدم القدرة على التيمّم بالأرض، لكنّه ممنوع؛ لأنّ المفروض فيها بحسب الظاهر المتفاهم عرفاً عدم التمكّن من النزول للوضوء.

و أما فرض عدم التمكّن من النزول للتيمّم فهو أمر آخر لا بدّ من فرض فقدان الماء معه، و لم يفرضه مع أنّ فقدانه

نادر، و عدم القدرة على النزول لصرف ضرب الكفّ على الأرض نادر أيضاً، بخلاف عدم القدرة للوضوء لاحتياجه إلى زمان معتدّ به، فالمفروض فيها هو العذر عن الوضوء، فكأنّه قال: إذا تعذّر النزول للوضوء يتيمّم بلبد سرجه، لأنّ فيه غباراً، فيدلّ على أنّه عند فقدان الماء يجوز التيمّم بالغبار، و مجرّد كون المورد مَنِ الذي لا يتمكّن من التيمّم على الأرض لو فرض فقدان الماء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 367

..........

______________________________

على فرض تسليمه، لا يوجب تقييد الإطلاق و رفع اليد عن التعليل بعد عدم فرض فقدان الماء، هذا بالإضافة إلى الصحيحة.

و أمّا الموثّقة، فهي و إن كانت ظاهرة بدواً في الترتيب بلحاظ كون التقدير واقعاً في كلام الإمام (عليه السّلام)، إلّا أنّه يحتمل أن يكون المقصود التنبيه على فرد مغفول عنه، و الإرشاد إلى صحّة التيمّم بالغبار لئلّا يتوهّم أنّه مع إصابة الثلج يكون فاقداً للمتيمّم به أيضاً، كفقدانه للماء، فتدبّر.

و يؤيّده بل يدلّ عليه: أنّه لو كان بصدد إفادة الترتيب كان المناسب أن يقول: إن لم يجد التراب، لأنّ إصابة الثلج لا تكون مانعة من تحصيل التراب و الأرض اليابسة نوعاً، من دون أن تكون هناك مشقّة رافعة للتكليف، خصوصاً في المناطق الباردة التي تكون الأرض تحت الثلج يابسة، و خصوصاً مع أن التيمّم بالأرض الندية جائز قد ادّعي عليه اتّفاق الأصحاب، و يأتي البحث فيه في ذيل هذه المسألة.

فتجويز التيمّم بلبد السرج، أو شي ء معه، أو مغبر، دليل على كون الغبار من المصاديق الاختيارية لما يتيمّم به، فجعل إصابة الثلج كناية عن عدم وجدان التراب و الأرض خلاف الظاهر، فلا يبعد أن يكون التعليق على إصابته إنّما

هو للتنبيه على أنّه لا يلزم مع إصابته أن يتكلّف برفعه من الأرض و يتيمّم بها، بل يجوز التيمّم بغبار الثوب و نحوه.

و يؤيّد ما ذكر من احتمال كون التعليق للإرشاد إلى مصداق آخر اختياري مغفول عنه، صحيحة رفاعة المتقدّمة، نظراً إلى أنّه لإيراد منها الترتيب بين التراب، و بين أجفّ موضع من الأرض المبتلّة، بل المراد دفع توهّم عدم جواز التيمّم بالأرض

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 368

..........

______________________________

المبتلّة و الإرشاد إلى مصداقيتها، فيمكن الاستيناس به للفرض الثاني الذي هو بعينه الفرض الأوّل في الموثّقة.

فالإنصاف: أنّه لو لا مخافة مخالفة الأصحاب لعدم ثبوت مخالف في المسألة حتّى السيّد كما عرفت، لكان الجواز اختياراً غير بعيد، لكن بعد تسلّم المسألة بينهم و ظهور الآية و طائفة من الروايات في تعيّن التيمّم بالصعيد، يمكن دعوى أنّ التجويز بالغبار إنّما هو من جهة كونه ميسور الأرض. لكونه أثرها، و لذا ترى أنّ أدلّة تجويزه قد وردت في موارد خاصّة، كغير القادر على النزول، و المصاب بالثلج، و أشباههما، و لا يكون في الروايات الكثيرة العامّة عين منه و لا أثر، مع أنّ الورود في مقام الامتنان يقتضي التعرّض له أيضاً على تقدير الجواز اختياراً، فيحصل الاطمئنان بما عليه المشهور بل الجميع، كما مرّ.

الثالث: لا إشكال في اعتبار كون الغبار محسوساً على ذي الغبار بحيث يرى ظاهره مغبراً، و لا يكفي ضرب اليد على ما يكون الغبار كامناً فيه و إن أثار الغبار منه بالضرب عليه؛ لعدم صدق التيمّم بالغبار المأمور به في موثّقة زرارة و صحيحة رفاعة.

و دعوى صدق التيمّم به إذا ضرب يده على ذي غبار كامن فيه فأثار منه مدفوعة

بمنعها؛ لأنّ الظاهر من الأمر بالتيمّم على الغبار أن يضرب يده عليه، و مع عدم كون ظاهره مغبراً لا يقع الضرب عليه، نظير الضرب على ما يقع بالضرب عليه أرضاً بعد ما لم يكن كذلك، فإنّه لا يتحقّق به التيمّم على الصعيد.

و ممّا ذكرنا يظهر: أنّ المراد من صحيحة أبي بصير الدالّة على النفض هو النفض بحيث يظهر الغبار على الثوب أو اللبد بعد كمونه فيهما و عدم ظهوره، لا النفض بحيث يتحقّق الافتراق بينهما و يصير الغبار خارجاً، ضرورة أنّ ظاهرها التيمّم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 369

..........

______________________________

بالثوب أو اللبد لاتّحاد مرجع الضميرين، مع أنّه لا يوجد ثوب أو لبد يمكن أن ينفض منه مقدار من الغبار يصحّ التيمّم به اختياراً، فالحمل عليه يوجب اللغوية، بل النفض إنّما هو لأن يظهر الغبار على الظاهر و يتيمّم به، فالصحيحة مؤيّدة لما يستفاد من الروايتين المتقدّمتين.

نعم، يبقى الكلام في صحيحة زرارة المشتملة على التعليل بأنّ فيها غباراً، الظاهرة في كفاية وجود الغبار في باطن الأشياء المذكورة فيها، و لا بدّ من الحمل على ما إذا صار ظاهراً و لو بعد الضرب؛ لعدم جواز الاكتفاء بالغبار الكامن غير الظاهر حتّى بالضرب، كما هو واضح.

هذا، و لكن ظهور الروايات الثلاثة المتقدّمة في اعتبار ظهور الغبار قبل الضرب و وقوع التيمّم به، يقتضي حمل الصحيحة عليه أيضاً، خصوصاً مع أنّ المرتكز هو كون الغبار ميسور الصعيد، و لأجله لا بدّ من حمل إطلاق الغبار في الروايات على الغبار الذي يصحّ التيمّم به، فلا يصحّ بغبار الدقيق و شبهه، مضافاً إلى انصراف الأدلّة أيضاً، نعم لا فرق بعد كون الغبار كذلك بين مراتبه من

حيث الكثرة و القلّة.

و قد انقدح من ذلك: أنّه إذا تمكّن من نفض الثوب و نحوه و جمع الغبار بحيث يصدق التيمّم بالتراب الواجب أوّلًا، لا يبقى مجال للتيمّم بالثوب و نحوه.

في التيمّم بالوحل بقي الكلام في هذه المسألة في التيمّم بالوحل الذي ينتقل إليه مع فقد الغبار كما هو ظاهر المتن، و نقول: لا إشكال نصّاً و فتوىً في جواز التيمّم به إجمالًا، و إنّما الإشكال في أمرين:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 370

..........

______________________________

أحدهما: أنّ مقتضى الأدلّة هل هو جواز التيمّم به في حال الاختيار، أو أنّه مصداق اضطراري لما يصحّ التيمّم به؟

ثانيهما: أنّ مقتضاها هل هو تقدّمه على الغبار، أو تأخّره عنه، أو وقوعهما في رتبة واحدة من دون أن يكون هناك رجحان و تقدّم؟

أمّا الأمر الأوّل فنقول: مقتضى الكتاب و السنّة الآمرين بالتيمّم بالصعيد و الأرض جواز التيمّم بما يصدق عليه عنوانهما، و لا ريب في أنّ الطين إذا كان غليظاً غير رقيق يصدق عليه الأرض و إن لم يصدق عليه التراب، و مجرّد خروجه عن صدق التراب لا يوجب الخروج عن صدق الأرض، ضرورة أنّ اللبنة قبل جفافها و بعده أرض و ليست بتراب مطلقاً حتّى بعد الجفاف.

و يشهد لما ذكرنا من صدق الأرض على الطين موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن حدّ الطين الذي لا يسجد عليه ما هو؟

فقال

إذا غرقت الجبهة و لم تثبت على الأرض.

«1» فإنّ ظاهرها جواز السجدة على الطين الغليظ المتماسك بحيث تستقرّ الجبهة عليه و لم تغرق للأرضية و الاستقرار، و أنّ المانع من السجدة على غيره من أفراد الطين هو عدم الاستقرار، لا عدم

المقتضي و هي الأرضية، كما لا يخفى.

و أظهر منها رواية زرارة، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: قلت: رجل دخل الأجمّة ليس فيها ماء، و فيها طين ما يصنع؟

قال

يتيمّم فإنّه الصعيد.

«2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب مكان المصلّي، الباب 9، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 371

..........

______________________________

نعم، ربّما يشعر قوله (عليه السّلام) في مرسلة علي بن مطر المتقدّمة

صعيد طيّب و ماء طهور «1»

بخلاف ما ذكر، بناء على كون المراد تركّب الطين من الصعيد و الماء لدلالتها على عدم كونه صعيداً محضاً، و لكن قد عرفت أنّ حمل الرواية على هذا المعنى غير صحيح؛ لأنّ التركّب لا يوجب جواز التيمّم كما لا يخفى، فلا بدّ من الحمل على أنّ الطهور أحد الأمرين على سبيل منع الخلوّ، و أنّ الطين هو الصعيد لعدم كونه ماء، و لا يكون خارجاً عن عنوان الصعيد، فتدبّر.

و بالجملة: لا خفاء في صدق الأرض على بعض مراتب الطين، فيجوز التيمّم به اختياراً لظاهر الكتاب و السنّة، فلا بدّ من قيام دليل على عدم الجواز في حال الاختيار لو قيل به، و كونه مصداقاً اضطرارياً، نعم بعض مراتبه الأُخر يكون خارجاً عن صدق الأرض عليه، أو يشكّ فيه، فلا بدّ من قيام دليل خاصّ على الجواز به لو قيل به.

و أمّا الأمر الثاني: فقد استدلّ على ما في المتن من تأخّر الطين عن الغبار بروايات، مثل موثّقة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) المتقدّمة في الغبار قال

إن كان أصابه الثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمّم من غباره أو من شي ء معه، (مغبر ظاهراً)، و إن كان في حال لا يجد

إلّا الطين فلا بأس أن يتيمّم منه.

«2» و قريب منها صحيحة رفاعة المتقدّمة أيضاً، نظراً إلى ظهورهما في أنّ جواز التيمّم بالطين مشروط بكون المكلّف في حال لا يجد إلّا الطين، فمقتضاهما تأخّر رتبته عن رتبة الغبار التي دلّت الموثّقة و الصحيحة على جواز التيمّم به أوّلًا.

و فيه مضافاً إلى أنّ الغبار كما عرفت مصداق اضطراري، و الطين كما مرّ من

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 372

..........

______________________________

مصاديق الأرض حقيقة، و كيف يمكن تأخّر المصداق الاختياري عن الفرد الاضطراري، و إلى أنّ الظاهر من الرواية بلحاظ تقابل الشرطيتين عدم كون الشرطية الثانية في مورد إصابة الثلج و عدم إمكان التيمّم بالغبار، بل مورد الإصابة غير مورد عدم وجدان غير الطين، فتدبّر أنّه لا بدّ من ملاحظة ما أُريد من قوله

إن كان أصابه الثلج

بعد وضوح عدم كون المراد معناه الحقيقي، و عدم جواز الأخذ بإطلاقه، و أنّه هل المراد منه فقدان الأرض غير الطين، أو أنّ المراد منه عدم إمكان التيمّم بالأرض و لو كان طيناً بعد فرض كونه مصداقاً اختيارياً؟

فعلى الأوّل: يتمّ الاستدلال.

و على الثاني: لا يتمّ.

و لكن لا يمكن الالتزام بالأوّل، لأنّه لو كان المراد به هو فقدان الأرض غير الطين لكان ذكر المطر مكان الثلج أولى، لعدم نزول الثلج نوعاً في تلك الآفاق أوّلًا، و أسرعية المطر في تطيين الأرض ثانياً، فذكر الثلج دليل على مدخليته في الحكم، و أنّ المراد هو صيرورة الثلج حاجباً بحيث لا يمكن التيمّم بالأرض مطلقاً و لو على طينه، و عليه فتدلّ الرواية على تقدّم

الطين على الغبار، غاية الأمر أنّ التصريح بجواز التيمّم به في الذيل إنّما هو للتنبيه على كونه من مصاديق الصعيد، كما أنّ تعليق الجواز على حال عدم وجدان غيره من الأرض الجافّة ليس لإفادة تقدّمها على الطين، لأنّ البأس المستفاد من المفهوم لا يكون بمعنى الممنوعية، بل المراد به التنزيه و الكراهة.

و تدلّ على تقدّم الطين على الغبار رواية زرارة الواردة في الداخل في الأجمة المتقدّمة في الأمر الأوّل، و في ذيلها: قلت: فإنّه راكب لا يمكنه النزول من خوف، و ليس هو على وضوء.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 373

..........

______________________________

قال

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 373

إذا خاف على نفسه من سبع أو غيره، و خاف فوات الوقت فليتيمّم، يضرب بيده على اللبد و البرذعة و يتيمّم و يصلّي.

فإنّ صدرها بلحاظ التعليل بقوله (عليه السّلام)

فإنّه الصعيد

دليل على أنّه من المصاديق الاختيارية، و ذيلها بلحاظ الظهور في عدم إمكان التيمّم على الطين له أيضاً ظاهر في تأخّر التيمّم بالغبار عن التيمّم بالطين، كما لا يخفى.

و أمّا صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) المتقدّمة في الغبار قال

إذا كنت في حال لا تقدر إلّا على الطين فتيمّم به، فإنّ اللّه أولى بالعذر إذا لم يكن معك ثوب جاف، أو لبد تقدر أن تنفضه و تتيمّم به.

فمع قطع النظر عن سائر الروايات ظاهرة في أنّ الطين فرد اضطراري عذري متأخّر عن الإفراد الاختيارية، و عن غبار الثوب أو اللبد الذي

هو فرد اضطراري أيضاً.

لكنّ التصرّف فيها بالحمل على خلاف الظاهر، و أنّ المراد من القدرة على النفض هي القدرة عليه بحيث يحصل به مقدار من التراب، و يتحقّق المصداق الاختياري، خصوصاً مع ظهورها في عدم كون صورة النفض عذرية، و أنّ التيمّم بالطين يكون كذلك أهون من التصرّف في سائر الروايات، نعم مدلولها حينئذٍ تقدّم التراب على الطين، و لعلّه كان لأجل ما ذكر سابقاً.

هذا كلّه إذا أُريد بالطين في جميع الروايات معنى واحد، و لكن يمكن الجمع بينها بوجه آخر، و هو حمل ما دلّ على جوازه اختياراً، خصوصاً ما اشتمل على التعليل بأنّه الصعيد على الطين الذي يكون من مصاديقه حقيقة، و حمل صحيحة أبي بصير على الوحل الذي يكون مصداقاً عذرياً بقرينة التعليل بقوله

فإنّ اللّه أولى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 374

..........

______________________________

بالعذر

و بقرينة جعله متأخّراً عن الغبار الذي هو مصداق اضطراري و ظاهر الصحيحة.

و بعبارة اخرى: أنّ إطلاق صدرها و إن كان يشمل مطلق الطين إلّا أنّ التعليل يمنع عن إطلاقه، خصوصاً مع ضميمة الحكم بتأخّره عن الغبار.

و عليه فالمراد بالطين هو ما يصدق عليه عنوان الأرض، و بالوحل ما لا يصدق عليه هذا العنوان، و لعلّ تعبير الفقهاء بالوحل مع تطابق النصوص على التعبير بالطين إنّما هو لأجل ذلك من تغايرهما معنىً، خصوصاً مع ملاحظة اللغة و تفسير أئمّتها، فإنّه يظهر منهم اختصاص الوحل بالطين الرقيق، بل لا يكفي مجرّد الرقّة، فإنّ اللازم كونه بحيث يمكن أن يفرق فيه الإنسان أو الدابّة، و من المعلوم أنّ الطين بهذه الكيفية لا يصدق عليه عنوان الأرض، فمقتضى التأمّل في الروايات، و في معنى الكلمتين أنّ الطين إذا

كان غليظاً متماسكاً بحيث يصدق عليه عنوان الأرض يصحّ التيمّم به اختياراً، و لا وجه لدعوى تأخّره عن الغبار الذي هو فرد اضطراري و إن سلّمنا تأخّره عن التراب، و لا يمكن دعوى الإجماع أو الشهرة على خلافه بعد ما عرفت من تعبير الأصحاب بالوحل و مغايرته للطين من حيث المعنى، و تفسير المتأخّرين الشارحين للمتون الوحل بالطين إنّما هو مبني على المسامحة، أو اجتهاد أنفسهم، أو تخيّل كونه هو المراد بالطين المذكور في الروايات، و إلّا فالوحل هو الطين الرقيق، و قد حكاه في «مفتاح الكرامة» عن نصّ جماعة من الأصحاب.

و قد انقدح ممّا ذكرنا: أنّ المراد بالوحل في عبارة المتن ليس مطلق الطين، و إلّا لا يكون وجه لتأخّره عن الغبار، كما أنّه ظهر أنّه مع إمكان تجفيف الوحل و لو بمقدار يصدق عليه عنوان الأرض يجب ذلك؛ لأنّ ذلك يوجب تحقّق الفرد الاختياري،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 375

..........

______________________________

و ثبوت مصداق الصعيد حقيقة، و إذا لم يكن مطلق الطين خارجاً عن عنوان الأرض، فالأرض الندية و التراب الندي لا يكونان خارجين عن هذا العنوان بطريق أولى، فهما من المرتبة الأُولى الاختيارية التي لا يصل معها النوبة إلى الغبار أيضاً.

بقي الكلام في التيمّم بالوحل في أمرين:

الأوّل: أنّه إذا ضرب بيديه على الوحل فلصق بها فهل تجب إزالته أوّلًا ثمّ المسح بها كما صرّح به في «العروة»، أم لا تجب الإزالة كما هو مختار المتن؟

و الظاهر أنّ منشأ توهّم الوجوب أنّه بدون الإزالة لا يتحقّق المسح باليد المعتبر فيه المباشرة و عدم الحائل مع أنّه ممنوع؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد بالحائل الذي يمنع عن تحقّق المسح باليد هو الحائل

الذي لا يكون من مصاديق الصعيد، لظهور أنّ المراد وصول الصعيد إلى محالّ التيمّم و لو بأثره، فكيف يمكن أن يكون حائلًا مع أنّ مقتضى إطلاق الأدلّة أنّه ليس للتيمّم بالوحل كيفية خاصّة، بل كيفيته هي المعهودة المتداولة في التيمّم بالأرض؟! نعم لا مانع من فرك الطين من اليد، بل لا يبعد استحبابه، لا لرفع الحائل بل للاستفادة من أدلّة استحباب النفض إن قلنا باستحبابه.

الثاني: أنّه هل تجوز الإزالة بالغسل، أم لا؟ و قد نفى الإشكال عن عدم الجواز في المتن، و الوجه فيه وضوح أنّ لزوم الضرب باليدين على الوحل ثمّ المسح بهما إنّما هو لانتقال أثر الأرض و الوحل بسبب المسح، و الغسل يمنع عن تحقّق الانتقال و صدق المسح بأثر الأرض، و دعوى منافاة ذلك للإطلاق مدفوعة، ضرورة أنّ الارتكاز العرفي يفسّر الإطلاق، و يحكم بلزوم بقاء الأثر عرفاً، فلا مجال لجواز الإزالة بالغسل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 376

[مسألة 7: لا يصحّ التيمّم بالثلج]

مسألة 7: لا يصحّ التيمّم بالثلج، فمن لم يجد غيره ممّا ذكر، و لم يتمكّن من حصول مسمّى الغسل به، أو كان حرجياً يكون فاقد الطهورين، و الأقوى له سقوط الأداء، و الأحوط ثبوت القضاء، و الأحوط منه ثبوت الأداء أيضاً، بل الأحوط هنا التمسّح بالثلج على أعضاء الوضوء و التيمّم به، و فعل الصلاة في الوقت، ثمّ القضاء بعده إذا تمكّن. (1)

______________________________

(1) في عدم صحّة التيمّم بالثلج قد صرّح جماعة بانحصار ما يتيمّم به و لو اضطراراً بالمذكورات في المسائل السابقة، فمع فقدها بأجمعها يكون فاقداً للطهورين، من غير فرق بين أن يجد الثلج و عدمه، بل يظهر من «المدارك» نسبته إلى أكثر الأصحاب، حيث نسب

إليهم القول بسقوط فرض الصلاة أداءً عند فقد الوحل الذي هو آخر المراتب.

لكن قد حكي عن ظاهر السيّد و ابن الجنيد و سلّار أنّه يتيمّم بالثلج، و عن المفيد (قدّس سرّه) في «المقنعة» أنّه قال: «و إن كان قد غطّاها الثلج، و لا سبيل له إلى التراب، فليكسره و ليتوضّأ به مثل الدهن».

و اعترض عليه: بأنّه إن تحقّق به الغسل الشرعي كان مقدّماً على التراب و مساوياً للماء في جواز الاستعمال، و إن قصر عن ذلك سقط اعتباره مطلقاً، أمّا في الوضوء و الغسل فلعدم إمكان الغسل المعتبر في ماهيتهما به كما هو المفروض، و أمّا في التيمّم فلأنّه ليس أرضاً، فلا يجوز التيمّم به، و بهذا الأخير اعترض على القائلين بالتيمّم بالثلج.

لكنّهم استندوا في ذلك بصحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألت عن رجل أجنب في سفر، و لم يجد إلّا الثلج أو ماء جامداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 377

..........

______________________________

فقال

هو بمنزلة الضرورة يتيمّم، و لا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي يوبق دينه «1».

نظراً إلى أنّ الظاهر منها عدم وجدان شي ء ممّا يتيمّم به مطلقاً اختياراً و اضطراراً، فيكون المراد من قوله (عليه السّلام)

يتيمّم

هو لزوم التيمّم بالثلج مع فقدان جميع المراتب، و يؤيّده قوله (عليه السّلام)

و لا أرى أن يعود ..

فإنّ التراب أحد الطهورين، و معه لا تكون الأرض موبقة لدينه.

و فيه ما عرفت سابقاً في معنى الصحيحة من أنّه ليس المراد بعدم وجدان غير الثلج و الماء الجامد عدم وجدان شي ء من الطهورين، بل خصوص عدم وجدان الماء و ما هو من سنخه إلّا الثلج و شبهه.

و عليه فالمراد بالجواب

هو سقوط الطهارة المائية و الانتقال إلى التيمّم، و أمّا عدم التعرّض لما يتيمّم به فلوضوحه عند السائل و هو محمّد بن مسلم، و يؤيّده قوله (عليه السّلام)

هو بمنزلة الضرورة

فإنّه إشارة إلى أنّ الانتقال إلى التيمّم إنّما هو في مورد الضرورة، و هي ثابتة في مفروض السؤال.

و أمّا كون الأرض موبقة مع وجود ما يتيمّم به، فلما عرفت في أوّل مبحث التيممّ من عدم جواز تحصيل الاضطرار، و أنّ التيمّم لا يفي بالمصلحة الكاملة التي تشتمل عليها الطهارة المائية، فراجع.

و كيف كان: فالرواية أجنبية عن الدلالة على التيمّم بالثلج، خصوصاً مع أنّه كان اللازم على هذا التقدير التصريح به، مع بعده عن الأذهان، و مخالفته للكتاب و السنّة الظاهرين في حصر التيمّم في غيره.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 378

..........

______________________________

نعم، ربّما يتمسّك بقاعدة الاشتغال، و قوله

الصلاة لا تترك بحال

مع أنّه كما ترى مضافاً إلى حكومة قوله

لا صلاة إلّا بطهور

على مثله لو سلّم وروده، مع أنّه لا يقتضي طهورية الثلج؛ لأنّ غاية مفاده عدم سقوط الصلاة مع فقد الطهور، لا جعل ما ليس بطهور طهوراً.

ثمّ إنّه ربّما يقال بجواز الاغتسال و التوضّي بالثلج، غاية الأمر تبدّل الغسل المعتبر في الأمرين بالمسح، و يستند في ذلك بأمرين:

الأوّل: قاعدة الميسور، و أنّ المسح ميسور الغسل، لأنّ الغسل عبارة عن إيصال الماء على المغسول و إجرائه عليه، و المسح ميسور هذا المعنى.

و يرد عليه: أنّ عنوان المسح مقابل بل مباين للغسل، و لا يكون ميسوره عرفاً، و لا تكون هذه التحليلات العقلية معتنى بها عند العرف بوجه.

الثاني: طائفة من الروايات التي توهّمت دلالتها على

جواز الاغتسال و التوضّي مسحاً بدل الغسل، و هي كثيرة:

منها: رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يجنب في السفر لا يجد إلّا الثلج.

قال

يغتسل بالثلج أو ماء النهر «1».

و هذه الرواية مضافاً إلى الاضطراب الواقع فيها لأنّ المفروض في سؤالها عدم وجدان غير الثلج، و الجواب ظاهر في الاغتسال به أو بماء النهر، و لذا ذكر صاحب «الوسائل» بعد نقلها: «المراد أنّه يذيب الثلج بالنار و يغتسل بمائه إن أمكن، أو يدلك جسده بالثلج إن كان كثير الرطوبة بحيث يحصل مسمّى الغسل،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 10، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 379

..........

______________________________

و بيان ذلك أنّ السائل فرض أنّه لا يجد إلّا الثلج، فذكر ماء النهر في الجواب يدلّ على أنّ مراده أنّه لا فرق بين أن يغتسل بالماء المذاب من الثلج و أن يغتسل بماء النهر» يكون مفادها الاغتسال بالثلج، و المدّعى تبدّل الغسل مسحاً، و مراده من الاغتسال به ما ذكره صاحب «الوسائل» من الدلك على الجسد على نحو يحصل به أقلّ مراتب الغسل، و قد مرّ في باب الوضوء أنّ الغسل المعتبر في ماهيته ليس إلّا أقلّ مراتب الجريان و لو بإعانة اليد، فالرواية لا تنطبق على المدّعى.

و منها: رواية معاوية بن شريح قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عليه السّلام) و أنا عنده. فقال: يصيبنا الدمق و الثلج، و نريد أن نتوضّأ، و لا نجد إلّا ماء جامداً، فكيف أتوضّأ، أدلك به جلدي؟

قال

نعم «1».

و الظاهر عدم كون الرواية في مقام بيان كفاية المسح بدلًا عن الغسل، بل مراد السائل بعد وضوح كيفية الوضوء عنده، و

أنّه يكون عبارة عن الغسلتين و المسحتين، أنّه هل يتحقّق الغسل المعتبر في الوضوء بدلك الماء الجامد على العضو الذي به ربّما يتحقّق أقلّ مراتب الغسل، أم لا؟ فالجواب بقوله

نعم

ناظر إلى هذا المعنى، لا إلى بدلية المسح عن الغسل و تغيّر ماهية الوضوء و حقيقته في هذه الحالة، كما لا يخفى.

و منها: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن الرجل الجنب، أو على غير وضوء، لا يكون معه ماء و هو يصيب ثلجاً و صعيداً، أيّهما أفضل، أ يتيمّم، أم يمسح بالثلج وجهه؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 10، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 380

..........

______________________________

قال

الثلج إذا بلّ رأسه و جسده أفضل فإن لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمّم «1».

و الظاهر أنّ تقييد الثلج بما إذا بلّ الرأس و الجسد، خصوصاً مع التفريع عليه بأنّه إن لم يقدر على ان يغتسل به، ظاهر في أنّ الاكتفاء به إنّما هو مع تحقّق الاغتسال المعتبر في ماهية الغسل و الوضوء به، فالتعبير بالمسح بدلًا عن الغسل في السؤال لا يجدي مع هذا التقييد، و التعبير في الجواب كما هو ظاهر.

و منها: بعض الروايات الأُخر التي يظهر الجواب عن الاستدلال بها ممّا تقدّم.

ثمّ إنّه ربّما يوجّه كلام المفيد (قدّس سرّه) المتقدّم في أوّل البحث بأنّ التيمّم في موارد الحرج لمّا كان رخصة لا عزيمة، يجوز تحمّل المشقّة بالوضوء و الغسل مع كونهما حرجيين، و يجوز تركهما و التيمّم، و هذا هو وجه الجمع بين الطائفة من الروايات المذكورة في الأمر الثاني، و بين صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة المشتملة على قوله (عليه

السّلام)

هو بمنزلة الضرورة يتيمّم

بحمل الأخيرة على جواز التيمّم و عدم تعيّنه، و حمل تلك الطائفة على جواز الوضوء و الغسل مع كونهما حرجيين.

و يرد عليه مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ الرفع الثابت بدليل الحرج عزيمة لا رخصة أنّه لا دلالة لتلك الطائفة على فرض كون الوضوء أو الغسل حرجياً، بخلاف صحيحة محمّد بن مسلم الدالّة على ثبوت الضرورة و التيمّم.

أمّا ما عدا رواية محمّد بن مسلم من تلك الطائفة فعدم كون الفرض فيه ثبوت الحرج فواضح.

و أمّا رواية محمّد بن مسلم فقد أفاد الماتن دام ظلّه في «الرسالة»: «أنّ ظاهر صدرها و إن كان السؤال عن تكليفه عند عدم وجدان غير الثلج، فيكون مطابقاً

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 10، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 381

..........

______________________________

لصحيحته في ذلك، لكنّ الظاهر من الجواب بيان كون الاغتسال بالثلج و بماء النهر سواء، فهو في مقام بيان صحّة الاغتسال به كالاغتسال بماء النهر، و أمّا لزومه أو جوازه فلا يفهم منه، لعدم كونه من هذه الجهة في مقام البيان، فهو كقوله ابتداءً: أنّ الوضوء بالثلج كالوضوء بماء النهر، لا يدلّ إلّا على التسوية بينهما، و أمّا مع حرجيته فيجوز أو يجب فلا يستفاد من مثله، مع أنّه على فرض تسليم شموله لحال الحرج يكون إطلاقاً يجب تقييده بأدلّة الحرج الحاكمة على المطلقات، و دعوى كون المفروض حرجية الاغتسال ممنوعة».

أقول: المهمّ في هذا الباب أنّ السؤال في الروايتين واحد، و هو الرجل المجنب في السفر، و لا يجد إلّا الثلج، نعم في سؤال الصحيحة زيادة: «أو ماء جامداً» و لكنّ الجواب فيها التيمّم لا الاغتسال، و بعد كون السؤال واحداً

يقع الكلام في أنّ المفروض في هذا السؤال إن كان حرجية الاغتسال فلا مجال للجواب بأنّه يغتسل بالثلج، الظاهر في التسوية بينه و بين الاغتسال بالنهر، المقتضي لتعيّنه مع عدم وجدان ماء النهر، كما هو المفروض في السؤال.

و إن كان المفروض فيه عدم الحرجية فلا مجال للجواب بكونه بمنزلة الضرورة و يتيمّم، و حمل كلّ واحد من السؤالين على مورد خاصّ ينافيه وحدة السؤال و عدم الاختلاف فيهما أصلًا.

و ما أفاده دام ظلّه من أنّ الرواية إنّما هي في مقام بيان صحّة الاغتسال بالثلج كالاغتسال بماء النهر، و أمّا لزومه أو جوازه فلا يفهم منه.

فيرد عليه: أنّ نفس الحكم بالصحّة و إفادة التسوية بين الأمرين، يفيد التعيّن مع عدم إمكان الأمر الآخر، و عدم وجدان ماء النهر كما هو المفروض في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 382

..........

______________________________

السؤال، مع أنّ الجواز فقط ينافي الصحيحة الظاهرة في تعيّن التيمّم إلّا على تقدير صحّة التوجيه المتقدّم.

و بالجملة: فمع عدم صحّة التوجيه المتقدّم، و كون السقوط في مورد الحرج عزيمة لا رخصة، كيف يجمع بين الروايتين؟! و لكنّ الظاهر أنّه لا محيص عن حمل الرواية على صورة غير الحرج، و حمل الصحيحة على صورة الحرج التي هي ظاهرها، خصوصاً بلحاظ ذيلها الدالّ على عدم جواز العود إلى الأرض التي توبق دينه، و عليه فلا يبقى مجال للتوجيه المتقدّم بوجه.

في حكم فاقد الطهورين بقي الكلام في حكم فاقد الطهورين مطلقاً، و فاقدهما مع وجدان الثلج فقط، فنقول: أمّا فاقدهما مطلقاً فالكلام فيه قد يقع في الأداء، و قد يقع في القضاء.

في حكم الأداء أمّا الأداء: فالمشهور كما عن «كشف الالتباس» و «الرياض» سقوطه عن

فاقد الطهورين، و عن «روض الجنان» و «المدارك» أنّه مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفاً، و عن «جامع المقاصد» أنّه ظاهر مذهب أصحابنا، و في «الشرائع» حكي قولًا لم يسمّ قائله بوجوب الصلاة و الإعادة، و مثله «التذكرة» ناسباً له إلى بعض الأصحاب، و عن جدّ المرتضى وجوب الأداء لا القضاء، و عن «رسالة» المفيد (قدّس سرّه) إلى ولده و أبي العبّاس و بعض آخر وجوب الذكر عليه مقدار الصلاة، و الاكتفاء به عن الأداء و القضاء.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 383

..........

______________________________

هذا، و الظاهر أنّ مقتضى القاعدة هو السقوط، و توضيحه أنّه قد تقرّر في محلّه أنّه لو علم بجزئية شي ء أو شرطيته في الجملة، و دار الأمر بين أن يكون جزء أو شرطاً مطلقاً، و بين أن يكون كذلك في خصوص حال التمكّن و القدرة، فإن كان لدليل المركّب أو المشروط إطلاق فقط، يجب الإتيان به في صورة العجز عن ذلك الشي ء أيضاً، و إن كان لدليل ذلك الشي ء المشكوك إطلاق فقط، فاللازم سقوط الأمر بالكلّ أو المشروط مع تعذّره، و لو كان لكلا الدليلين إطلاق من غير ترجيح، أو لم يكن لواحد منهما إطلاق، فاللازم الرجوع إلى الأصل و هو يقتضي البراءة، كما حقّق في محلّه.

و في المقام نقول: مقتضى دليل الشرط مدخليته في المأمور به، و هي الصلاة مطلقاً من دون فرق بين مثل قوله

لا صلاة إلّا بطهور

بناء على اختصاصه بالطهارة الحدثية أو شموله لها، و بين الآية الواردة في الوضوء المبنية للاشتراط بنحو الأمر و التكليف.

أمّا الأوّل: فدلالته على الشرطية المطلقة واضحة بعد كونه بنحو الأخبار أوّلًا، و بنحو نفي الحقيقة و الماهية بدونه

ثانياً.

و أمّا الثاني: فقد نوقش في دلالته بقصور الأمر عن إثبات الشرطية حال العجز لعدم إمكان توجيه الخطاب إلى العاجز، و أُجيب عن هذه المناقشة بأنّ مثل هذه الأوامر إرشادية لا يعتبر فيها القدرة على المأمور بها فيها، لأنّ مفادها مجرّد الإرشاد إلى مدخلية المتعلّق في متعلّق الخطاب النفسي من دون أن تكون متضمّنة للبعث و التحريك.

و لكن قد حقّقنا في محلّه عدم صحّة هذا الجواب، فإنّ الأوامر الإرشادية كغيرها لا تستعمل إلّا في البعث و الإغراء الذي هو الموضوع له لهيئة افعل، غاية الأمر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 384

..........

______________________________

انتزاع النفسية و الغيرية و المولوية و الإرشادية عن نفس هذا البعث باعتبار اختلاف الموارد و المقامات، و إلّا فالهيئة في الجميع مستعملة في معناها الذي ليس إلّا البعث و التحريك.

و التحقيق في الجواب عن المناقشة ما حقّقه الأُستاذ العلّامة الماتن دام ظلّه في محلّه ممّا يرجع إلى أنّ الأوامر الكلّية القانونية لا تنحلّ إلى خطابات شخصية و أوامر متعدّدة فردية، بحيث كان لكلّ مأمور خطاب مستقلّ مشروط بشرائطه، و الوجه فيه لزوم مفاسد كثيرة مذكورة في محلّه، بل هي أمر واحد و قانون فارد ثابت على الجميع، و لا يكون مشروطاً بثبوت القدرة لكلّ فرد فرد.

و عليه فالعجز في بعض الأفراد لا يوجب سقوط الأمر الكلّي و ارتفاع القانون العامّ، و في المقام نقول آية الوضوء و إن كانت بلسان التكليف إلّا أنّ مقتضاها ثابت في حقّ العاجز عنه، و لازمه سقوط الصلاة؛ لعدم إمكان تحصيل شرطها.

نعم، يبقى في المقام ملاحظة دليل المشروط، و أنّه هل يكون له إطلاق، أم لا؟

و الظاهر عدم ثبوت إطلاق معتدّ به في

أدلّة تشريع الصلاة، و لم يثبت من طريقنا قوله: «الصلاة لا تترك بحال»، و ما ورد في بعض الروايات الصحيحة في باب النفاس من قوله (عليه السّلام)

و لا تدع الصلاة على حال، فإنّ النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال: الصلاة عماد دينكم «1»

لا يرتبط بالمقام، و ليس قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) علّة يستكشف منها صحّة الصلاة في مورد الشكّ في شرطية شي ء لها أو جزئيته، كما لا يخفىٰ.

و الاستقراء و إن اقتضى تقدّم الوقت من بين الشرائط على غيره من الأجزاء و الشرائط عند دوران الأمر بين رعايته و رعاية غيره، إلّا أنّه ليس بنحو يحصل منه

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الاستحاضة، الباب 1، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 385

..........

______________________________

القطع بثبوت هذا التقدّم بالإضافة إلى جميع الشرائط.

فالإنصاف: أنّه لا بدّ في المقام من الرجوع إلى إطلاق دليل الاشتراط من الآية و الرواية، و هي قوله

لا صلاة إلّا بطهور

لكن ربّما يناقش في الرواية بأنّ صاحب «الوسائل» (قدّس سرّه) قد أوردها في أبواب مختلفة بصور متعدّدة، فقد رواها في الباب الأوّل من أبواب الوضوء عن الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) هكذا قال

لا صلاة إلّا بطهور.

و في الباب الرابع من أبواب الوضوء، و كذا في الباب الرابع عشر من أبواب الجنابة بذلك السند عنه (عليه السّلام) هكذا قال

إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة، و لا صلاة إلّا بطهور

و حكي في البابين أنّ الصدوق رواه مرسلًا.

و في الباب التاسع من أبواب أحكام الخلوة بذلك السند عنه (عليه السّلام) هكذا

قال

لا صلاة إلّا بطهور، و يجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و أمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله.

و الظاهر خصوصاً مع وحدة السند أنّها لا تكون روايات متعدّدة، بل رواية واحدة قطّعها صاحب «الوسائل» كما هو دأبه في موارد كثيرة، حيث يقطّع الرواية المشتملة على أزيد من حكم واحد، و يورد كلّ قطعة في الباب المناسب لها، فالرواية واحدة، و عليه يكون ذيلها الوارد في الاستنجاء و غسل البول شاهداً على أنّ المراد بالطهور الذي لا صلاة إلّا به هي الطهارة الخبثية، لا الحدثية المبحوث عنها في المقام، فلا مجال للاستدلال بها فيه.

و تندفع المناقشة: بأنّ التذيّل بذلك الذيل إن كان فيه شهادة فهي الشهادة على دخول الطهارة الخبثية في قوله

لا صلاة إلّا بطهور

لا خروج الطهارة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 386

..........

______________________________

الحدثية عنه، مع أنّ تلك الشهادة ممنوعة أيضاً؛ لأنّه يحتمل قويّاً أن يكون الذيل مشتملًا على حكم الطهارة الخبثية، و الصدر مختصّاً بغيرها.

و كيف كان: لا دلالة للذيل على الاختصاص بها، و يؤيّده الاستشهاد بهذا القول في الطهارة الحدثية كثيراً، و أنّ صاحب «الوسائل» أوردها في مثل باب الوضوء و الجنابة أيضاً.

و قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأداء بالإضافة إلى فاقد الطهورين، بل ربّما يحتمل الحرمة النفسية في الدخول فيها جنباً، بل و من غير وضوء لقوله تعالى لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ حَتّٰى تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا «1» بناء على أنّ المراد من الصلاة نفسها لا محالّها، كما هو الأظهر في

الآية.

و الظاهر من التعبير ب لٰا تَقْرَبُوا هي الحرمة الذاتية، لا الإرشاد إلى المانعية، للفرق بين قوله: «لا تصلّ جنباً»، و بين قوله: «لا تقربوا الصلاة جنباً»، فإنّ التعبير الثاني ظاهر في المبغوضية، مثل قوله: «لا تقربوا الزنا»، و لموثّقة مسعدة بن صدقة أنّ قائلًا قال لجعفر بن محمّد (عليهما السّلام): جعلت فداك، إنّي أمرّ بقوم ناصبية، و قد أُقيمت لهم الصلاة و أنا على غير وضوء، فإن لم أدخل معهم في الصلاة قالوا ما شاءوا أن يقولوا، أ فأُصلّي معهم ثمّ أتوضّأ إذا انصرفت و أُصلّي؟

فقال جعفر بن محمّد (عليه السّلام)

سبحان اللّه، أ فما يخاف من يصلّي من غير وضوء أن تأخذه الأرض خسفاً «2».

و صحيحة صفوان بن مهران الجمّال، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

أقعد رجل من

______________________________

(1) النساء/ 43.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 2، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 387

..........

______________________________

الأحبار في قبره فقيل له: إنّا جالدوك مائة جلدة من عذاب اللّه عزّ و جلّ.

فقال: لا أُطيقها، فلم يزالوا به حتّى انتهوا إلى جلدة واحدة.

فقال: لا أُطيقها.

فقالوا: ليس منها بدّ.

فقال: فيما تجلّدونيها؟

قالوا: نجلّدك أنكّ صلّيت يوماً بغير وضوء، و مررت على ضعيف فلم تنصره.

فجلّدوه جلدة من عذاب اللّه فامتلأ قبره ناراً «1».

و لكنّ الظاهر عدم إفادة الآية و الروايتين للحرمة النفسية؛ و ذلك لأنّ الآية قد ورد في تفسيرها ممّن نزل في بيوتهم الكتاب، و تكون آرائهم حجّة بلا ارتياب، ما يدلّ على أنّ المراد بالصلاة فيها هي المساجد التي هي مواضع الصلاة لا نفسها، ففي صحيحة زرارة و محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قالا: قلنا له: الحائض و الجنب يدخلان

المسجد، أم لا؟

قال

الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا .. «2».

و بعد ذلك لا مجال للتمسّك بظاهرها.

و أمّا الروايتان، فالظاهر أنّ المراد من الصلاة من غير وضوء فيهما هي الصلاة مع إمكان الوضوء، غاية الأمر وجود التقيّة أو غيرها، فلا تشملان ما إذا كان فاقداً للطهورين، هذا كلّه بالنسبة إلى الأداء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، الباب 2، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنابة، الباب 15، الحديث 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 388

..........

______________________________

في حكم القضاء و أمّا القضاء: ففي «الجواهر» أنّ وجوبه هو الأشهر بين المتقدّمين و المتأخّرين، و عن «كشف الالتباس» أنّه المشهور، لعموم أدلّة القضاء كقوله

من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته

، و في النبوي المشهور كما في «الرياض»

من فاتته فريضة فليقضها إذا ذكرها، فذلك وقتها

، و قد ورد أخبار مستفيضة في أبواب متفرّقة من طريق الإمامية.

مثل صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه قال

أربع صلوات يصلّيها الرجل في كلّ ساعة: صلاة فاتتك فمتى ذكرتها أدّيتها .. «1».

و صحيحة الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السّلام) عن رجل فاتته صلاة النهار متى يقضيها؟

قال

متى شاء «2».

و صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)

و متى ما ذكرت صلاة فاتتك صلّيتها «3».

و صحيحة الأُخرى عنه (عليه السّلام): سئل عن رجل صلّى بغير طهور، أو نسي صلوات لم يصلّها، أو نام عنها.

قال

يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها «4».

و غير ذلك من الروايات الظاهرة في ثبوت القضاء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب قضاء الصلوات، الباب 2، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب المواقيت،

الباب 39، الحديث 7.

(3) وسائل الشيعة، أبواب المواقيت، الباب 63، الحديث 1.

(4) وسائل الشيعة، أبواب قضاء الصلوات، الباب 1، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 389

..........

______________________________

و دعوى أنّه مع عدم وجوب الأداء عليه كما عرفت كيف يجب عليه القضاء مع تبعية القضاء للأداء؟! مندفعة، أوّلًا بعدم ثبوت التبعية، و ثانياً بأنّ الأداء أيضاً فريضة، إمّا لما احتمله الشهيد (قدّس سرّه) من كون عنوان الفريضة اسماً لتلك الصلوات، لا وصفاً لها، و إمّا لما اختاره العلّامة الماتن دام ظلّه من كون وصف الفريضة ثابتاً لها بالفعل، غاية الأمر كون المكلّف معذوراً في الترك، و هو لا يوجب انتفاء الوصف.

كما أنّ دعوى عدم صدق الفوت مع عدم وجوب الأداء غير مسموعة أيضاً، بعد فوات المصلحة، كما هو ظاهر.

هذا، و لكن في الجميع نظر، بل منع:

أمّا النبوي الأوّل: فمع الغضّ عن سنده يكون في مقام بيان حكم آخر، و هي مطابقة القضاء للأداء، و الظاهر أنّ المراد منها هي المطابقة و المماثلة في القصر و الإتمام، دفعاً لتوهّم كون المناط ملاحظة زمان القضاء و إرادة الإتيان بها، كما هو المرتكز في أذهان كثير من العوام، فلا ارتباط له بالمقام.

و أمّا النبوي الثاني: فمع الغضّ المذكور، و الغضّ عن احتمال الاختصاص بالناسي، كما يشعر به قوله (عليه السّلام)

إذا ذكرها

فهو أيضاً في مقام بيان حكم آخر، و هو عدم ثبوت الوقت للقضاء و سعة دائرتها، بحيث يجوز الإتيان بها متى ذكرها، ليلًا كان أو نهاراً، و كذا لا فرق بين المواقع من جهات أُخر.

و هذا يجري في جميع الروايات المروية من طرقنا، فإنّها أيضاً غير مسوقة لإفادة إيجاب القضاء بنحو الإطلاق، حتّى يمكن الاستدلال

بها في مثل المقام من موارد الشكّ، بل مسوقة لبيان حكم آخر، و هو عدم كون القضاء متوقّتة، و عدم كون الأزمنة مختلفة من هذه الجهة، حتّى من حيث الكراهة أيضاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 390

..........

______________________________

فالإنصاف: بملاحظة ما ذكرنا عدم وجوب القضاء أيضاً، بل ربّما يستدلّ لسقوطه بالتعليل الوارد في المغمى عليه، و هو أنّه كلّما غلب اللّه عليه فاللّه أولى بالعذر، و لكنّه مع ورود تخصيصات كثيرة عليه كالناسي و النائم، لا مجال للأخذ بعمومه.

ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى الاحتياط الإتيان بالقضاء، خصوصاً مع دعوى الشهرة على وجوبها كما عرفت، و إن اختار العدم جماعة من أساطين الفقهاء، كالمحقّق و العلّامة و الكركي و بعض آخر.

و أمّا الإتيان بالأداء احتياطاً، فمع انتفاء احتمال الحرمة النفسية فلا إشكال في رجحانه؛ لاحتمال الوجوب و انتفاء احتمال الحرمة كما هو المفروض، و أمّا مع ثبوته فمقتضى ما ذكروه في مسألة اجتماع الأمر و النهي على القول بالامتناع من ترجيح جانب الحرمة لوجوه مذكورة في محلّه هو ترجيح جانب احتمال الحرمة في مثل المقام المقتضي للترك، و لكن حيث إنّ الوجوه المذكورة غير تامّة، فالظاهر حينئذٍ أنّه يكون مخيّراً بين رعاية احتمال الوجوب، و بين رعاية احتمال الحرمة، و لا مجال للاحتياط مع ذلك.

و من هذا بضميمة ما ذكر في أوّل المسألة من ذهاب جماعة من القدماء إلى وجوب التيمّم بالثلج، و من ظهور كلام المفيد (قدّس سرّه) في الوضوء بالثلج مسحاً، يظهر أنّ فاقد الطهورين الواجد للثلج إذا أراد الاحتياط يجمع بين الوضوء بالثلج مسحاً، و بين التيمّم بالثلج، ثمّ يأتي بالصلاة مع ذلك أداءً، ثمّ يقضيها مع

الوضوء بعد التمكّن.

كما أنّ ممّا ذكرنا ظهر: أنّ الاحتياط بالأداء الذي أفاده في المتن لا يتمّ، بناء على ما أفاده الماتن دام ظلّه في «رسالة التيمّم» من نفي البعد عن الحرمة النفسية؛ نظراً إلى الآية و الروايتين على ما عرفت، سواء قيل بترجيح جانب الحرمة، أم لا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 391

[مسألة 8: يكره التيمّم بالرمل]

مسألة 8: يكره التيمّم بالرمل، و كذا بالسبخة، بل لا يجوز في بعض أفرادها الخارج عن اسم الأرض، و يستحبّ له نفض اليدين بعد الضرب، و أن يكون ما يتيمّم به من ربى الأرض و عواليها، بل يكره أيضاً أن يكون من مهابطها. (1)

______________________________

في جملة من المكروهات و المستحبّات

(1) في هذه المسألة أحكام:

الأوّل: كراهة التيمّم بالرمل و هو المشهور، كما في «الجواهر» و غيره، بل عن «المعتبر» و «المنتهى» دعوى الإجماع على جواز التيمّم به على كراهة، و في «جامع المقاصد»: أمّا الرمل فيجوز عندنا على كراهية، نعم عن الحلبي العدم مع وجود التراب، و عن أبي عبيدة أنّ الصعيد التراب الذي لا يخالطه سبخ و لا رمل، و فيما رواه محمّد بن الحسين أنّ بعض أصحابنا كتب إلى أبي الحسن الهادي (عليه السّلام) يسأله عن الصلاة على الزجاج.

قال: فلمّا نفذ كتابي إليه تفكّرت و قلت هو ممّا أنبتت الأرض، و ما كان لي أن أسأل عنه.

قال: فكتب إليّ

لا تصلّ على الزجاج و إن حدثتك نفسك أنّه ممّا أنبتت الأرض، و لكنّه من الملح و الرمل، و هما ممسوخان «1».

هذا، و لكنّ الظاهر أنّ ما عن أبي عبيدة لا يعارض ما عن غيره من أهل اللغة على ما عرفت، و الرواية مع أنّها ضعيفة و غير

معمول بها في الرمل، معارضة بما عن الحميري في «دلائل علي بن محمّد العسكري (عليهما السّلام)» قال: و كتب إليه محمّد بن

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب ما يسجد عليه، الباب 12، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 392

..........

______________________________

الحسين بن مصعب .. إلى أن قال

فإنّه من الرمل و الملح، و الملح سبخ «1».

و الظاهر اتّحاد الروايتين و وحدة السؤال، و على تقدير التعدّد فمقتضى التعارض سقوط دليل المنع، كما لا يخفى.

فالظاهر حينئذٍ هو الجواز، و أمّا الكراهة فمستندها الإجماع على ما عرفت، مضافاً إلى اقتضاء قاعدة التسامح لها، بناء على شمول البلوغ المأخوذ فيها لفتوى الفقيه أيضاً.

الثاني: كراهة التيمّم بالسبخة، و هي كما في «المجمع» أرض مالحة يعلوها الملوحة، و الشهرة المنقولة عن «الجواهر» و غيره جارية فيه، و كذا دعوى الإجماع المتقدّمة، و في «المدارك» نسبته إلى علمائنا أجمع عدا ابن الجنيد، و مستنده غير ظاهر، و منشأ الكراهة ما ذكر في الرمل.

الثالث: المنع في بعض أفراد السبخة الخارج عن اسم الأرض، و وجه المنع فيه ظاهر؛ لعدم كونه حينئذٍ من مصاديق الصعيد المأخوذ في آيتي التيمّم.

الرابع: استحباب نفض اليدين بعد الضرب، و في «المدارك»: أنّه مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفاً. و عن «المختلف» أنّه مذهب الأصحاب عدا ابن الجنيد. و يظهر من «المقاصد العلية» القول بوجوبه.

و يدلّ على الاستحباب روايات كثيرة ظاهرة في الوجوب، محمولة على الاستحباب جمعاً بينها و بين الروايات الواردة في كيفية التيمّم، الدالّة على عدم وجوب غير تلك الكيفية.

منها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)

تضرب بيديك مرّتين، ثمّ تنفضهما

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب ما يسجد عليه، الباب 12، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 393

..........

______________________________

نفضة للوجه، و مرّة لليدين .. «1».

و منها: غير ذلك من الروايات الواردة بهذا المضمون.

الخامس: استحباب أن يكون ما يتيمّم به من ربى الأرض و عواليها، و عن «الخلاف» و غيره دعوى الإجماع عليه، و قد مرّ تفسير الصعيد بالمرتفع من الأرض، و الطيّب بالذي ينحدر عنه الماء في الأخبار و في «الفقه الرضوي»، و يؤيّده كون العوالي أبعد من النجاسة بالإضافة إلى المهابط.

السادس: كراهة أن يكون من المهابط، و يدلّ عليها دعوى الإجماع عليها في محكيّ «الخلاف» و «المعتبر»، و يؤيّده النهي عن التيمّم بما يكون من أثر الطريق، ففي خبر غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

نهى أمير المؤمنين (عليه السّلام) أن يتيمّم الرجل بتراب من أثر الطريق «2».

و في خبره الآخر: قال أمير المؤمنين (عليه السّلام)

لا وضوء من موطإ.

قال النوفلي: يعني ما تطأ عليه برجلك «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 6، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 6، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 395

[القول في كيفيّة التيمّم]

اشارة

القول في كيفيّة التيمّم

[مسألة 1: كيفية التيمّم مع الاختيار ضرب باطن الكفّين]

مسألة 1: كيفية التيمّم مع الاختيار ضرب باطن الكفّين بالأرض معاً دفعة، ثمّ مسح الجبهة و الجبينين بهما معاً، مستوعباً لهما من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى و إلى الحاجبين، و الأحوط المسح عليهما، ثمّ مسح تمام ظاهر الكفّ اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع بباطن الكفّ اليسرى، ثمّ مسح تمام ظاهر الكفّ اليسرى بباطن الكفّ اليمنى، و ليس ما بين الأصابع من الظاهر إذ المراد ما يمسّه ظاهر بشرة الماسح، بل لا يعتبر التدقيق و التعمّق فيه.

و لا يجزي الوضع دون مسمّى الضرب على الأحوط و إن كانت الكفاية لا تخلو من قوّة، و لا الضرب بإحداهما و لا بهما على التعاقب، و لا بظاهرهما و لا ببعض الباطن، بحيث لا يصدق عليه الضرب بتمام الكفّ عرفاً، و لا المسح بإحداهما أو بهما على التعاقب، و يكفي في مسح الوجه مسح مجموع الممسوح بمجموع الماسح في الجبهة و الجبينين على النحو المتعارف، أي الشقّ الأيمن باليد اليمنى و الأيسر باليسرى، و في الكفّين وضع طول باطن كلّ منهما على عرض ظاهر الأُخرى، و المسح إلى رءوس الأصابع. (1)

______________________________

(1) قد وقع التعرّض في هذه المسألة لكيفية التيمّم مع الاختيار، و ذكر لبيانها أُمور مترتّبة:

الأوّل: ضرب باطن الكفّين بالأرض معاً دفعة و هذا الأمر يتضمّن جهات متعدّدة:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 396

..........

______________________________

في اعتبار الضرب الجهة الأُولى: اعتبار الضرب الذي هو أخصّ مفهوماً من الوضع، أو مباين له كما ربّما يحتمل، قد احتاط في المتن في عدم الاجتزاء بالوضع و إن جعل الكفاية غير خالية عن القوّة.

و كيف كان: فهذه الجهة مورد للاختلاف، فعن «كشف اللثام»

نسبة اعتبار الضرب إلى المشهور، و عن «الذكرى» نسبته إلى معظم عبارات الأصحاب، و ظاهر المحقّق في «الشرائع» و العلّامة في «القواعد» و المحكيّ عن جملة من الأصحاب الاكتفاء بالوضع.

نعم، قال في «جامع المقاصد»: «اختلاف الأخبار و عبارات الأصحاب في التعبير بالوضع و الضرب يدلّ على أنّ المراد بهما واحد، فلا يشترط في حصول مسمّى الضرب كونه بدفع و اعتماد كما هو المتعارف».

و لكنّ الظاهر أنّه مع ثبوت الاختلاف بين العنوانين و لو بالعموم و الخصوص لا مجال لما أفاده؛ لأنّه لا وجه لحمل النصّ أو كلام القائل بالأخصّ على المعنى الأعمّ من دون وجود قرينة على ذلك، و لا بدّ من ملاحظة الروايات.

فنقول: ظاهر طائفة منها اعتبار الضرب، ففي صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في التيمّم قال

تضرب بكفّيك الأرض، ثمّ تنفضهما و تمسح بهما وجهك و يديك «1».

و في رواية ليث المرادي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في التيمّم قال

تضرب بكفّيك على الأرض مرّتين، ثمّ تنفضهما و تمسح بهما وجهك و ذراعيك «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 397

..........

______________________________

و في رواية أُخرى لزرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن التيمّم، فضرب بيده على الأرض، ثمّ رفعها فنفضها، ثمّ مسح بها جبينه و كفّيه مرّة واحدة. «3» و غير ذلك من الروايات الظاهرة في اعتبار الضرب.

و طائفة منها ظاهرة في الاكتفاء بالوضع أو لزومه:

مثل: موثّقة سماعة قال: سألته كيف التيمّم؟ فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه و ذراعيه إلى المرفقين. «1» و لكنّها بلحاظ ذيلها قد حملها

الشيخ (قدّس سرّه) على التقيّة.

و الروايات المشتملة على حكاية قصّة عمّار المعروفة، المتضمّنة لكيفية تيمّم رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) في مقام تعليم عمّار، أو لكيفية تيمّم الإمام (عليه السّلام) بعد نقل قصّة عمّار.

فمن الأُولى: صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)

قال رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) ذات يوم لعمّار في سفر له: يا عمّار، بلغنا أنّك أجنبت فكيف صنعت؟ قال: تمرّغت يا رسول اللّه في التراب.

قال: فقال له: كذلك يتمرّغ الحمار، أ فلا صنعت كذا، ثمّ أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد، ثمّ مسح جبينه (جبينيه) بأصابعه و كفّيه إحداهما بالأُخرى، ثمّ لم يعدّ ذلك.

«2» نعم، في النقل الآخر الذي رواه زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) بهذه الكيفية

______________________________

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 3.

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمم، الباب 13، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمم، الباب 11، الحديث 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 398

..........

______________________________

التعبير بالضرب، حيث قال (عليه السّلام)

أتى عمّار بن ياسر رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقال: يا رسول اللّه، إنّي أجنبت الليلة فلم يكن معي ماء.

قال: كيف صنعت؟

قال: طرحت ثيابي و قمت على الصعيد فتمعّكت فيه.

فقال: هكذا يصنع الحمار، إنّما قال اللّه عزّ و جلّ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. فضرب بيديه على الأرض، ثمّ ضرب إحداهما على الأُخرى، ثمّ مسح بجبينه، ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على الأُخرى، فمسح اليسرى على اليمنى و اليمنى على اليسرى «1».

فإنّ الظاهر أنّ قوله

ثمّ أهوى بيديه ..

في النقل الأوّل، و قوله

فضرب بيديه ..

في النقل الثاني من كلام أبي جعفر (عليه

السّلام)، و الفاعل هو النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم).

و ربّما يقال: إنّ وجه اختلاف الحكاية أنّ واقع فعل النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) هو الضرب، لكن لمّا كان العنوان المفيد للأمر الزائد عن حقيقة الوضع غير دخيل في صحّة التيمّم، و كان متقوّماً بمطلق الوضع بأيّ نحو كان، ذكره أبو جعفر (عليه السّلام) لإفادة عدم دخالة شي ء غيره، و لمّا كان الضرب وضعاً أيضاً مع قيد لا يكون النقل خلاف الواقع، كما لو كان مجي ء إنسان موضوعاً لحكم فجاء زيد مثلًا، فيصحّ أن يقال: جاء زيد، و أن يقال: جاء إنسان.

و بالجملة: حكى أبو جعفر (عليه السّلام) تارة واقع القضية مع بعض الخصوصيات غير الدخيلة في صحّة التيمّم و كيفيته، كقوله (عليه السّلام)

أهوى بيديه إلى الأرض

، و كقوله

ضرب بيديه

، و اخرى ما هو دخيل في الحكم، كقوله (عليه السّلام)

وضع يديه

، إفادة لعدم دخالة الخصوصية الزائدة، و ليس هذا من قبيل المطلق و المقيّد، بل

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 399

..........

______________________________

هو حكاية قضية شخصية لا بدّ في ترك القيد الزائد الذي اشتملت عليه من نكتة، و المحتمل أن تكون ما ذكرت.

و يرد عليه: أوّلًا أنّه من الواضح عدم تعدّد الروايتين و كون الرواية واحدة، بمعنى أنّ زرارة قد حكى قول أبي جعفر (عليه السّلام) في قصّة عمّار و ما صنع رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) لبيان التيمّم مرّة واحدة، و أنّ الحكاية له كانت كذلك، غاية الأمر اختلاف النقل عن زرارة، و لم يعلم أنّه كان على النحو الأوّل، أو على

النحو الثاني.

و بالجملة: لا تكون هنا روايتان مختلفتان لا بدّ من ملاحظتهما و الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد، أو بذكر النكتة للاختلاف، بل هنا رواية واحدة، لم يعلم أنّ الصادر عن الإمام (عليه السّلام) هل كان على الطريق الأوّل أو الثاني، فلا مجال حينئذٍ لما ذكر.

و ثانياً: أنّ الجمع بين كون واقع فعل النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) هو الضرب، و بين عدم مدخلية الخصوصية الزائدة عن الوضع في صحّة التيمّم ممّا لا يتمّ، بعد وضوح كون عمل النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إنّما كان في مقام تعليم عمّار الذي اشتبه في المراد من آية التيمّم، فإنّ الضرب في هذا المقام ظاهر في المدخلية، و ليس مثل المثال المذكور في الكلام.

و العمدة: ما ذكر من عدم كون الروايتين متعدّداً، و أنّ الصادر عن الإمام (عليه السّلام) في مقام الحكاية غير معلوم أنّه هل كان مشتملًا على كلمة الضرب، أو الوضع؟! و من الثانية: صحيحة أبي أيّوب الخزاز، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن التيمّم.

فقال

إنّ عمّاراً أصابته جنابة فتمعّك كما تتمعّك الدابّة. فقال له رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): يا عمّار، تمعّكت كما تتمعّك الدابّة. فقلت له: كيف التيمّم، فوضع يده على المسح،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 400

..........

______________________________

ثمّ رفعها فمسح وجهه، ثمّ مسح فوق الكفّ قليلًا «1».

و صحيحة داود بن النعمان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن التيمّم.

فقال

إنّ عمّاراً أصابته جنابة فتمعّك كما تتمعّك الدابّة. فقال له رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و هو يهزأ به: يا عمّار،

تمعّكت كما تتمعّك الدابّة. فقلنا له: فكيف التيمّم؟ فوضع يديه على الأرض ثمّ رفعهما فمسح وجهه و يديه و فوق الكفّ قليلًا «2».

و صحيحة زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السّلام) يقول: و ذكر التيمّم و ما صنع عمّار، فوضع أبو جعفر (عليه السّلام) كفّيه على الأرض، ثمّ مسح وجهه و كفّيه و لم يمسح الذراعين بشي ء «3».

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه ربّما يقال: بأنّ النسبة بين الطائفتين من الروايات الواردة في الباب هي النسبة بين المطلق و المقيّد؛ لأنّ الضرب أخص مفهوماً من الوضع، لأنّه عبارة عن الوضع مع الدفع و اللطم، فاللازم حمل الطائفة الثانية الظاهرة في الاكتفاء بالوضع على المقيّد، و هو الضرب، كما في سائر موارد حمل المطلق على المقيّد.

و لكنّ الظاهر عدم كون المقام من هذا القبيل، فإنّ المتفاهم العرفي من قول الراوي في مقام حكاية فعل الإمام (عليه السّلام) الواقع في مقام تعليم التيمّم: «وضع يده على الأرض» أنّه كان وضعها خالياً عن الدفع و اللطم المذكور، و إلّا كان على الراوي ذكر الخصوصية الزائدة، خصوصاً مع أنّها من الأُمور الخارجة عن العادة، و لا تتحقّق نوعاً مع عدم تحقّق داع قويّ عقلائي.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 401

..........

______________________________

و احتمال الغفلة ممّا لا يعتنى به، خصوصاً مع تعدّد الناقل، و كون الناقلين مثل زرارة و الخزاز و أشباههما، فإذا كان عمل المعصوم (عليه السّلام) في مقام التعليم هو الوضع الذي لا ينطبق عليه عنوان الضرب، فكيف يمكن حمله على الضرب؟!

و ليس الفعل مثل القول له إطلاق قابل للحمل على المقيّد، خصوصاً مع أنّه يحتمل في المقام ثبوت المباينة بين الضرب و الوضع، بحيث كان الخلوّ عن الخصوصية الزائدة مأخوذاً في معنى الوضع، فإنّه حينئذٍ كيف يمكن دعوى الحمل بالنحو المذكور؟! فلا محيص إمّا عن الالتزام بأنّ للتيمّم كيفيتين إحداهما وضع اليد، و الأُخرى ضربها كما احتمله الماتن دام ظلّه في «الرسالة»، غاية الأمر أنّ الضرب له رجحان و مزيّة للأمر به في الروايات المتقدّمة، و إمّا عن القول بثبوت التعارض بين الطائفتين، و عدم إمكان الجمع بينهما، و لزوم الرجوع إلى المرجّحات، و حيث إنّ أوّل المرجّحات هي الشهرة الفتوائية على ما يستفاد من مقبولة ابن حنظلة كما حقّق في محلّه، و هي مطابقة للطائفة الظاهرة في تعيّن الضرب، فاللازم الأخذ بها و الحكم بتعيّنه، و عدم الاكتفاء بالوضع، و هذا هو الظاهر.

بقي الكلام في هذه الجهة في أنّ اعتبار الضرب أو المسح هل يكون على نحو الجزئية كالمسح على الوجه مثلًا، فيكون من أجزاء التيمّم، أو يكون على نحو الشرطية لحصول المسح، نظراً إلى اعتبار حصول المسح باليد فيه؟ وجهان:

ظاهر الآية الواردة في التيمّم هو الثاني، فإنّ قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً مع التفريع عليه بقوله تعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ ظاهر في أنّ قصد الصعيد إنّما هو لأجل المسح و التوصّل إليه، و إلّا لم يكن وجه لتفريع المسح، خصوصاً بعد كون العطف في غيره بالواو.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 402

..........

______________________________

و بعبارة أُخرى: لو كان قصد الصعيد ضرباً أو وضعاً من أجزاء التيمّم كسائر الأجزاء، لم يكن وجه لتخصيص عطف المسح عليه بالفاء، و جعل العطف

في غيره بالواو، بل كان مقتضى ظاهر السياق الاتّحاد كما في الوضوء الذي عطفت أجزاؤه بعضه على بعض بالواو، فالتفريع دليل على خروج القصد عن أجزاء التيمّم.

و أمّا الروايات: فما كان منها مثل قوله (عليه السّلام)

التيمّم ضربة للوجه و ضربة للكفّين «1»

، و قوله

مرّتين مرّتين للوجه و اليدين «2»

، فظاهره الشرطية أيضاً؛ لظهوره في أنّ الضربة أو مرّتين إنّما هي بلحاظ الوجه، و كذا الكفّين بمعنى أنّه الغاية المقصودة، و مرجعه إلى الشرطية، كما لا يخفى.

و ما كان منها بلسان قوله

تضرب بكفّيك الأرض، ثمّ تنفضهما و تمسح بهما وجهك و يديك «3».

أو بلسان البيان و حكاية فعل الإمام (عليه السّلام)، فربّما يقال بظهوره في الجزئية؛ لدلالته على الأمر بالضرب كالأمر بالمسح، أو على فعله كفعله.

و لكنّ الظاهر خلاف ذلك، فإنّها بصدد بيان كيفية التيمّم الصحيح من غير نظر إلى أنّ اعتباره هل هو على نحو الجزئية أو الشرطية؟ بل يمكن أن يقال: إنّ الروايات بلحاظ ورودها في مقام تفسير الآية الواردة في التيمّم لا دلالة لها على الجزئية بوجه، بل لها دلالة على الشرطية، لظهور الآية فيها، كما عرفت.

و أمّا الثمرة بين الوجهين ففي أُمور:

منها: الموالاة بناء على الجزئية نظراً إلى ظهور الأوامر المتعلّقة بالمركّبات

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 403

..........

______________________________

في إتيان أجزائها متوالية، و قد استدلّوا بذلك في اعتبار التوالي بين الأجزاء، و التحقيق في صحّة هذا الاستدلال و بطلانه يأتي في مسألة اعتبار الموالاة إن شاء اللّه تعالىٰ، و لكنّه على

فرض الصحّة يختصّ بالأجزاء، و لا يجري في الشرائط.

و منها: أنّه على الشرطية لا دليل على لزوم قصد التقرّب و التعبّد به، بخلافه على الجزئية، فإنّ القدر المتيقّن من الإجماع على عبادية التيمّم هي عبادية أجزائه التي يتركّب منها ماهيته، لا أعمّ منها و من الشرائط، إلّا أن يقال: إنّ مقتضى ارتكاز المتشرّعة عبادية الضرب أيضاً، و لكنّه لا يدلّ على الجزئية لإمكان أن يكون خصوص هذا الشرط عبادة، فتدبّر.

و منها: جواز تأخير النيّة على الشرطية دون الجزئية.

و أُورد على ترتّب هذه الثمرة: بأنّه لو قيل بالشرطية، فالظاهر أنّه شرط تعبّدي، يعتبر في تحقّقه قصد الغاية بأن يكون إتيانه بداعي المسح الذي أُريد به التيمّم، لأنّ هذا هو المتبادر من الأمر بضربة للوجه و ضربة للكفّين، و على هذا تنتفي هذه الثمرة، لأنّه على تقدير الجزئية أيضاً لا يعتبر أزيد من هذا القصد، بل ليس له إيجاده إلّا بهذا الوجه الذي هو وجه وجوبه، و لا أثر لتشخيص الجزئية و الشرطية في مقام الإطاعة.

و منها: عدم الاختلال بالحدث الواقع بين الضرب و المسح على الشرطية، و الاختلال على الجزئية.

و أُورد عليه أيضاً: بعدم التزام أحد ممّن يقول بالشرطية بعدم الاختلال المذكور؛ إذ لا ينسبق إلى الذهن من الأدلّة إلّا إرادة إيجاد الضرب، كأجزاء التيمّم بعد الحدث الذي يتطهّر منه، فهذه الثمرة منتفية أيضاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 404

..........

______________________________

(1) في اعتبار كون الضرب بالباطن الجهة الثانية: في اعتبار كون الضرب بباطن الكفّين، و قد صرّح به جماعة منهم المفيد و المرتضى و الحلّي، بل عن بعض المحقّقين أنّه وفاقي، و عليه عمل المسلمين في الأعصار و الأمصار من دون شكّ.

و

يدلّ عليه مضافاً إلى أنّه المغروس في أذهان المتشرّعة أنّه المتبادر من الأمر بضرب اليد على الأرض و مسح الجبهة بها، خصوصاً من مثل موثّقة زرارة: «ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الأُخرى» «1»، حيث تعرّض للظهر في جانب الممسوح، و من المعلوم أنّ مخالفة الماسح و الممسوح مرتكزة، نعم عند التعذّر ينتقل إلى الظاهر، كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالىٰ.

في اعتبار كون الضرب بمجموع الباطن الجهة الثالثة: في اعتبار كون الضرب بمجموع الباطن، و أنّه لا يكفي الضرب بالبعض الذي لا يصدق عليه الضرب بالكفّ بعد كونه اسماً للمجموع، فظاهر الضرب بالكفّ المأمور به في التيمّم هو الضرب بالمجموع، نعم في صورة النقص كلام يأتي في محلّه.

في اعتبار مجموع الكفّين الجهة الرابعة: في اعتبار مجموع الكفّين و عدم كفاية إحداهما مطلقاً و لو انضمّ إليه جزء من الأُخرى، للتعبير بالتثنية في الرواية الواردة في بيان التيمّم

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 405

..........

______________________________

و كثير من الروايات البيانية، و من الواضح ظهوره في المجموع.

في اعتبار كون الضرب أو الوضع دفعة الجهة الخامسة: في اعتبار كون الضرب أو الوضع دفعة، و عن «جامع المقاصد» و غيره التصريح به، و في «الحدائق» نسبته إلى ظاهر الأخبار و الأصحاب.

و لكنّه ربّما يناقش في اعتبار هذه الجهة: بأنّه لا دليل عليه إلّا مجرّد الانسباق الذي هو بدوي، لا يقف عنده الذهن بعد الالتفات إلى إطلاق الآية، و كذا الأخبار، و لو كانت الدفعة معتبرة في التيمّم يلزم بيانه و التصريح به.

و أُجيب عنها: بأنّه لو سلّم قصور دلالة كلّ واحدة من الروايات على

اعتبار المعيّة، فلا أقلّ من إشعارها بذلك، فإذا اعتضد بعضها ببعض فلا تقصر عن مرتبة الدلالة، مع أنّ إنكار ظهور مثل قوله (عليه السّلام): «فوضعهما على الصعيد» أو «ضربهما على الأرض» في مقام حكاية الفعل في المعيّة مكابرة، خصوصاً بملاحظة قضاء العادة بأنّه لو وقع مترتّباً لوقع التصريح به و لو في بعض الأخبار الحاكية له.

و الإنصاف: منع ظهور الروايات في اعتبار المعيّة، و اجتماع الإشعارات لا يوجب البلوغ مرتبة الدلالة، نعم لا يبعد أن يكون استمرار العمل الخارجي من المتشرّعة على رعاية المعيّة و التزامهم بها كاشفاً عن اعتبارها، فتدبّر.

في اعتبار كون الضرب بالأرض الجهة السادسة: في كون الضرب بالأرض، و قد تقدّم معنى الصعيد المأخوذ في آية التيمّم مفصّلًا، و المقصود هنا أنّه لا يعتبر اتّصال التراب و نحوه بالأرض، و لا كونه موضوعاً عليها، بل يجزي لو كان على غيرها و لو بدن غيره.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 406

..........

______________________________

و يدلّ عليه مضافاً إلى السيرة القطعية، و قوله

التراب أحد الطهورين

الآية؛ لأنّ الظاهر من قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً إلى قوله مِنْهُ أنّ ما هو دخيل فيه هو محلّ الضرب و وقوع اليد، و أمّا سائر أجزاء الأرض التي لا تقع اليد عليها لا دخالة لها في المسح.

و عليه فما في الروايات البيانية من ضرب الأرض محمول على المثال، بل في «الجواهر» لو كان على وجهه تراب صالح فضرب عليه و مسح أجزأ، كما في «الذكرى» و غيرها، لصدق الامتثال، و عدم ما يصلح للمعارضة، و لكنّه قد قيّد الإجزاء بما إذا لم تتحقّق حيلولة التراب حين المسح بين الماسح و الممسوح. هذا تمام الكلام في الأمر

الأوّل.

الأمر الثاني: مسح الجبهة و الجبينين بهما معاً مستوعباً لهما من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى و إلى الحاجبين، و قد احتاط بالمسح عليهما، و اللازم البحث في هذا الأمر أيضاً في جهات متعدّدة:

في اعتبار كون مسح الجبهة باليدين الاولى: في أنّه بعد وضوح لزوم كون المسح بما يضرب على الأرض، أو يوضع عليها نصّاً و فتوى بداهة، عدم جواز المسح بغيره، و بعد وضوح عدم إمكان كون مسح اليدين باليدين لاستحالته، وقع الكلام في أنّه هل يعتبر أن يكون مسح الوجه باليدين، أو يكفي المسح بيد واحدة؟

فعن «المختلف» و «الذكرى» و «كشف اللثام» أنّ الأوّل هو المشهور، و لكنّه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 407

..........

______________________________

عن «التذكرة» احتمال الثاني، كما أنّه عن المحقّقين الأردبيلي و الخوانساري استظهاره، نظراً إلى إطلاق الآية و بعض الأخبار، و عن ثانيهما أنّه قال: كما يجوز حمل المطلق على المقيّد يجوز القول بكفاية المطلق و حمل المقيّد على أنّه أحد أفراد الواجب.

أقول: الكلام تارة يقع فيما يستفاد من الآية، و اخرى فيما هو مفاد الروايات الواردة في الباب:

أمّا الأوّل: فقد ذكر المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) في مقام الإشكال على الاستدلال بإطلاق الآية: أنّه قد ثبت كون الآية من المتشابهات التي يجب الرجوع فيها إلى تفسير أهل البيت (عليهم السّلام)، و ربّما يدعّى عدم ثبوت الإطلاق لها، لكونها في مقام أصل التشريع، لا في مقام بيان الكيفية.

و لكنّ الظاهر عدم كون الآية متشابهة و لا مجملة؛ لأنّ استدلال رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بها في قصّة عمّار لإثبات خطائه و اشتباهه في وقوعه على الصعيد و تمعّكه فيه في مقام

التيمّم بدلًا عن غسل الجنابة، شاهد على وقوع الآية في مقام البيان، كما أنّ استدلال الإمام (عليه السّلام) بها، و الاستفادة من التعبيرات الواقعة فيها في صحيحة زرارة المعروفة «1»، التي وقع فيها السؤال عن أنّه من أين علم الإمام (عليه السّلام) و قال: إنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين، حيث تعرّض الإمام (عليه السّلام) في مقام الجواب لآية التيمّم أيضاً، و ما يستفاد منها أيضاً شاهد على صلاحيتها للاستدلال، كما أنّ وقوعها في ذيل آية الوضوء التي هي صالحة للاستدلال بلا إشكال شاهد ثالث على ذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 13، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 408

..........

______________________________

نعم، الإشكال إنّما هو من جهة ورود تقييدات كثيرة عليها، لكنّها ليست من الكثرة بحدّ يوجب الاستهجان حتّى يجب الالتزام بالإهمال، أو بقيام القرائن الحالية غير الواصلة إلينا.

فالإنصاف: صلاحية الآية للاستدلال، و مقتضى إطلاقها عدم اعتبار كون مسح الوجه بكلتا اليدين.

و أمّا الثاني: فالأخبار من هذه الجهة على ثلاث طوائف:

الأُولى: ما وقع فيه التعبير باليد بصورة المفرد، و الظاهر أنّ هذه الطائفة هو المراد من «بعض الأخبار» الذي استدلّ به على جواز الاكتفاء بيد واحدة، و هي مثل صحيحة زرارة أو موثّقته قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن التيمّم، فضرب بيده على الأرض، ثمّ رفعها فنفضها، ثمّ مسح بها جبينه و كفّيه مرّة واحدة. «1» و خبر أبي أيّوب الخزّاز المتقدّمة، المشتملة على قوله حكاية لفعل أبي عبد اللّه (عليه السّلام): فوضع يده على المسح، ثمّ رفعها فمسح وجهه .. «2» و غيرهما ممّا وقع فيه التعبير بصورة المفرد.

هذا، و الظاهر أنّه لا مجال للاستدلال بهذه الطائفة؛ لأنّ

الكلام في المقام إنّما هو بعد الفراغ عن اعتبار كون الواجب جزءاً أو شرطاً هو الضرب، أو الوضع باليدين، و أنّه لا يكفي الضرب بيد واحدة فقط.

و عليه فاللازم حمل هذه الطائفة على كون المراد باليد المضافة إلى الضمير جنسها الصادق على الواحد و المتعدّد، لا الفرد غير المعيّن، و حينئذٍ

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 409

..........

______________________________

يمكن أن يقال بأنّ ظهور سياق هذه الطائفة في كون مسح الجبهة أيضاً واقعاً باليد المضروبة على الأرض، و الفرض أنّه متعدّد دليل على كون مسح الجبهة واقعاً باليدين، كما لا يخفى، و لا أقلّ من عدم ظهورها في الاكتفاء بيد واحدة.

الثانية: ما يكون من قبيل موثّقة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في التيمّم المتقدّمة، قال

تضرب بكفّيك الأرض، ثمّ تنفضهما و تمسح بهما وجهك و يديك.

«1» و صحيحة ليث المرادي المتقدّمة أيضاً، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في التيمّم قال

تضرب بكفّيك على الأرض مرّتين، ثمّ تنفضهما و تمسح بهما وجهك و ذراعيك.

«2» و قد ادّعي ظهور هذه الطائفة، بل صراحتها في كون مسح الوجه باليدين، و لكنّه ذكر العلّامة الماتن دام ظلّه في «الرسالة» أنّه يمكن إنكار ظهورها فضلًا عن صراحتها، و ملخّص ما أفاده: «أنّ محتملات قوله

و تمسح بهما وجهك و يديك

أو «و ذراعيك»، كثيرة، بحسب بادي النظر:

أحدها: أن يكون المراد تمسح بهذه و هذه وجهك و يدك اليمنى و يدك اليسرى، جموداً على ظاهر علامة التثنية من تكرير مدخولها و ظاهر الضمير الراجع إلى طبيعة اليدين من غير اعتبار الاجتماع

في المدخول و المرجع، فإنّه يحتاج إلى مئونة زائدة، و لازم هذه الاحتمال لزوم مسح كلّ يد جميع الجبهة أو هي مع الجبينين، و كذا مسح كلّ من اليدين الماسحين كلّ واحد من الممسوحين، و هو غير ممكن في الثاني، و لم يلتزموا به في الأوّل، فهذا الاحتمال مدفوع لذلك.

ثانيها: أن يكون المراد تمسح بمجموعهما وجهك و كلّ واحد من يديك، و لازمه

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 410

..........

______________________________

لزوم مسح كلّ من اليدين بمجموعهما، و هو أيضاً مدفوع لامتناعه.

ثالثها: أن يكون المراد تمسح بمجموعهما وجهك و مجموع اليدين، و لازم ذلك ما هو المشهور.

رابعها: أن يكون المراد تمسح بمجموعهما مجموع الوجه و اليدين، أي بمجموع هذين مجموع الثلاثة، و لازم ذلك جواز مسح الوجه بيد واحدة كما اختاره المحقّقان المتقدّمان، و لا ترجيح لأوّل الأخيرين لو لم نقل بترجيح ثانيهما؛ لأجل ارتكاز العرف بأنّ المسح لإيصال أثر الأرض و لو أثرها الاعتباري من غير دخالة مجموع اليدين في ذلك، و ضرب اليدين إنّما هو لتحصيل المسحات الثلاث، لا لمسح الوجه بهما، فيوافق إطلاق الآية، و مع تساويهما أو الترجيح الظنّي للأوّل لا يترك الإطلاق؛ لعدم ظهور معتدّ به، و عدم كون الظنّ مستنداً إلى ظهور اللفظ حتّى يكون حجّة».

أقول: الظاهر أنّه بعد لزوم ضرب اليدين أو وضعهما أوّلًا، خصوصاً بعد اعتبار المعيّة و الدفعة كما عرفت، و بعد الارتكاز المزبور الذي أفاده دام ظلّه من كون المسح لإيصال أثر الأرض، و بعد ملاحظة أنّ الوجه شي ء واحد لا تعدّد فيه، و أنّ اليدين

مع ثبوت التعدّد فيهما لا يعقل مسحهما بكلّ واحد من الماسحين، يصير الفرق بين الوجه و اليدين بحسب المتفاهم العرفي واضحاً، فإنّ الوجه حيث يكون واحداً و المفروض لزوم مسحه باليدين المضروبتين على الأرض كما هو ظاهر هذه الطائفة، فاللازم مسحه بكلّ واحدة منهما، لا بمعنى مسح كلّ جزء منه بكلّ واحدة منهما لما عرفت من الارتكاز المزبور، و أمّا اليدين من جهة الممسوحية فلمّا يكونان متعدّداً فاللازم أن تمسح كلّ واحدة منهما بواحدة فقط، لعدم المعقولية، و للارتكاز.

فالإنصاف: ظهور هذه الطائفة في اعتبار كون مسح الوجه بمجموع اليدين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 411

..........

______________________________

الطائفة الثالثة: ما يكون من قبيل صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) الحاكية لقصّة عمّار المشتملة على قوله (عليه السّلام)

ثمّ أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد، ثمّ مسح جبينه (جبينيه) بأصابعه و كفّيه إحداهما بالأُخرى، ثمّ لم يعدّ ذلك «1».

و موثّقته الحاكية لهذه القصّة المشتملة على قوله (عليه السّلام)

فضرب بيديه على الأرض، ثمّ ضرب إحداهما على الأُخرى، ثمّ مسح بجبينه، ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الأُخرى «2».

و رواية الكاهلي التي رواها عنه صفوان قال: سألته عن التيمّم قال: فضرب بيده على البساط فمسح بهما وجهه، ثمّ مسح كفّيه إحداهما على ظهر الأُخرى «3». و غيرها من الروايات التي وقع فيها التعبير بهذه الكيفية، الظاهرة في أنّ مسح الوجه و الجبين قد وقع بعين ما ضرب على الأرض أو البساط، و لو لا ذلك لكان اللازم في مقام النقل و الحكاية أن يقال: ثمّ مسح بإحداهما وجهه أو جبينه، كما لا يخفى.

و قد انقدح من جميع ذلك: أنّه مع ملاحظة الروايات لا بدّ

من تقييد إطلاق الآية و الحكم بكونها مقيّدة، بلزوم كون المسح بالإضافة إلى الوجه بكلتا اليدين.

في تحديد الممسوح من الوجه الجهة الثانية: في تحديد الممسوح من الوجه.

فنقول: أمّا الفتاوى و آراء الأصحاب رضي اللّه عنهم فالمشهور بين المتقدّمين،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 8.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 9.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 412

..........

______________________________

و كذا بين المتأخّرين، هو وجوب مسح الجبهة و الجبينين، و قد حكي ذلك عن «جامع المقاصد» و «مجمع البرهان» و «المدارك» و «شرح المفاتيح» و «منظومة الطباطبائي» و «فوائد الشرائع» و «حاشية الإرشاد» و «شرح الجعفرية» و «حاشية الميسي» و «الروضة» و «المسالك» و «رسالة صاحب المعالم»، و عن «مجمع البرهان»: أنّه المشهور، بل عن «شرح المفاتيح»: لعلّه لا نزاع فيه بين الفقهاء. بل في الجبهة على ما في «الجواهر»: إجماعاً محصّلًا و منقولًا مستفيضاً، بل متواتراً. و في «المستند»: هو محلّ الوفاق بين المسلمين، بل هو ضروري الدين. و نحوه ما عن «المصابيح». و عن «رسالة علي بن بابويه» الالتزام باستيعاب مسح الوجه و الذراعين.

و أمّا الأدلّة: فمقتضى إطلاق الآية جواز مسح بعض الوجه، أيّ بعض كان، لكون الباء فيها تبعيضية على ما شهدت به الرواية و الأدبية.

أمّا الرواية: فقوله (عليه السّلام) في صحيحة زرارة المعروفة المتقدّمة

فلمّا أن وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحاً؛ لأنّه قال بِوُجُوهِكُمْ .. «1».

و أمّا الأدبية: فقال السيّد المرتضى (قدّس سرّه) و هو من أهل الخبرة في هذه الصناعة: أنّ الباء إذا لم يكن لتعدية الفعل إلى المفعول فلا بدّ له

من فائدة و إلّا كان عبثاً، و لا فائدة بعد ارتفاع التعدية به إلّا التبعيض.

و أمّا الروايات: فالتعبيرات الواقعة فيها مختلفة، ففي بعضها و هي الأكثر عنوان «الوجه»، و منها ما عبّر فيه بالجبينين، و منها ما عبّر فيه بالجبين مفردة.

و أمّا الجبهة: فعن «كشف اللثام»: ادّعى الحسن تواتر الأخبار بأنّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) حين

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمم، الباب 13، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 413

..........

______________________________

علّم عمّاراً مسح بهما جبهته، و لكنّه اعترض عليه بأنّه لم توجد رواية متضمّنة للجبهة، نعم رواية زرارة المتقدّمة المردّدة بين كونها صحيحة أو موثّقة قد رواها الكليني كما تقدّم من التعبير فيه بالجبين، و رواها الشيخ (قدّس سرّه)، عن الكليني كذلك، و عن المفيد، لكنّه ذكر فيه بدل «الجبين» «الجبهة».

و في رواية زرارة المحكيّة عن «تفسير العياشي» قد عبّر بالمسح من بين العينين إلى أسفل الحاجبين.

و في رواية «فقه الرضا» وقع التعبير بموضع السجود من مقام الشعر إلى طرف الأنف، و روى فيه مسح الوجه من فوق الحاجبين، و بقي ما بقي.

أقول: الروايات التي قد عبّر فيها بالوجه ظاهرها لزوم الاستيعاب؛ لأنّ الأمر بالمسح على الوجه أو حكايته ظاهران في تحقّق الاستيعاب، و لكنّه لا محيص من التصرّف في هذا الظهور، لأنّه مضافاً إلى دلالة روايات كثيرة على عدم وجوب الاستيعاب، قد عرفت ظهور الآية، بل صراحتها بلحاظ كلمة الباء في التبعيض و عدم لزوم الاستيعاب، مضافاً إلى أنّه لم ينقل القول به من أحد غير الرسالة المذكورة، فلا بدّ من التصرّف فيها بوجه، إمّا برفع اليد عن ظهورها في وجوب الاستيعاب بالحمل على الاستحباب، أو

رفع اليد عن ظهورها في الاستيعاب بالحمل على إرادة مسح الوجه في الجملة و لو بمسح بعضه، أو بالحمل على التخيير كما يظهر من «المعتبر» حيث قال بالتخيير بين استيعاب الوجه و مسح بعضه، بشرط عدم الاقتصار على أقلّ من الجبهة.

هذا، مضافاً إلى ما أفاده العلّامة الماتن دام ظلّه في «الرسالة» من أنّ الشأن في صلاحية هذه الروايات المتجاوزة عن العشر لإثبات الوجوب في نفسها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 414

..........

______________________________

للمناقشة فيها سنداً أو دلالة أو جهة، نعم إلّا النادرة منها، و هي صحيحة زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السّلام) يقول: و ذكر التيمّم و ما صنع عمّار، فوضع أبو جعفر (عليه السّلام) كفّيه على الأرض، ثمّ مسح وجهه و كفّيه و لم يمسح الذراعين بشي ء. «1» و هي أيضاً قابلة للمناقشة؛ لعدم تفصيل القصّة فيها حتّى يعلم كون أبي جعفر (عليه السّلام) في مقام بيان أيّة جهة من جهات التيمّم، و كون المذكور فيها عمله، و يصحّ لمن يرى مسح يده على جبهته أو جبينه أن يقول مسح يده على وجهه من غير تسامح و تجوّز، مع أنّه لا تبعد دعوى الفرق بين قوله «اغسل وجهك»، و بين قوله «امسح وجهك بيدك»، بأنّه يفهم الاستيعاب في الأوّل دون الثاني، فتدبّر.

و كيف كان: فلا شبهة في عدم وجوب الاستيعاب في الوجه، لما عرفت.

و أمّا مسح الجبهة: فلا دليل من الروايات على وجوبه لعدم اشتمال شي ء منها عليه، نعم قد عرفت أنّه رويت رواية زرارة المتقدّمة في «التهذيب» عن المفيد (قدّس سرّه)، مشتملة على كلمة «الجبهة» مكان «الجبين»، و لكنّها لم تثبت، مضافاً إلى أنّه ربّما يقال بأنّ الظاهر

أنّها كانت في الأصل «جبينه» و اشتبهت في النسخ لغاية شباهتهما في الخطّ العربي، سيّما في الخطوط القديمة، خصوصاً مع خلوّ سائر الروايات عن ذكر الجبهة، و اشتمالها على الجبين مفردة أو مثناة، نعم حكي عن «الوافي» أنّه رواها عن «الكافي» مشتملة على «الجبهة»، فيظهر من ذلك أنّ نسخ «الكافي» أيضاً مختلفة.

كما أنّه عرفت من «فقه الرضا» التعبير بموضع السجود المنطبق على الجبهة، و لكنّه عرفت مراراً عدم حجية «الفقه الرضوي» بوجه، و كما أنّه ذكر

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 415

..........

______________________________

المحقّق في «النافع»: و هل يجب استيعاب الوجه و الذراعين بالمسح؟ فيه روايتان أشهرهما اختصاص المسح بالجبهة. فإنّ ظاهره كون المسح بالجبهة أشهر و أكثر من حيث الرواية، مع أنّه من الواضح كون روايات الوجه و الجبين أكثر، فلا بدّ من أن يكون مراده هي الأشهرية من حيث الفتوى، لأنّه من الواضح أنّه لم تصل إلى المحقّق (قدّس سرّه) روايات أُخر غير واصلة إلينا، فتدبّر.

هذا، و ربّما يقال بأنّ صحيحة زرارة و موثّقته، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، الحاكيتين لفعل رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) تعليماً لعمّار، كالصريح في كفاية مسح الجبينين من دون لزوم مسح الجبهة، فإنّ قوله (عليه السّلام)

ثمّ مسح أي رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) جبينيه بأصابعه

، أو

ثمّ مسح بجبينيه

في مقام بيان الحكم و إفادة ماهية التيمّم ظاهر، بل كالنصّ في أنّ ما هو الدخيل في هذه الماهية من جهة الوجه هو مسحهما فقط دون غيرهما، ضرورة أنّ نقل الإمام (عليه السّلام) في مقام بيان الحكم ليس كنقل

أحد من الرواة حتّى يجري فيه احتمال الخطإ، أو يقال أنّ ترك ذكر الجبهة كان لأجل توهّم ملازمة مسحها لمسحهما مع عدم ثبوت الملازمة واقعاً.

و حينئذٍ يشكل الأمر في مسح الجبهة، و لو لا الإجماع بل الضرورة على وجوبه على ما عرفت لأمكن الالتزام بالعدم بملاحظة ما ذكر، لكنّه بعد تحقّقهما لا مناص من الالتزام بوجوبه كوجوب مسح الجبينين الذي هو مفاد الأخبار الكثيرة، و لا بدّ من تأويل الروايات على ما تنطبق عليه، بدعوى أنّ مسح جبينيه بتمام أصابعه يلازم عادة مسح الجبهة، و أولى منه ما وقع فيه التعبير بلفظ الجبين مفردة، فإنّ إطلاق الجبين على تمام القطعة التي فوق الحاجبين غير بعيد، بل شائع في مثل قولهم: بكدّ اليمين و عرق الجبين، و في الحديث

إذا مات المؤمن عرق منه الجبين

،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 416

..........

______________________________

و المراد منه السطح المشتمل على الجبهة و الجبين، و هذا الإطلاق و لو كان مجازاً إلّا أنّه لا محيص عنه بعد ملاحظة ما ذكرنا.

و قد انقدح ممّا ذكرنا: أنّ لزوم مسح الجبينين مضافاً إلى الجبهة ممّا لا إشكال فيه، لدلالة روايات كثيرة عليه، و اشتمال الموثّقة على بعض طرق نقلها على خصوص الجبهة، و كذا «الفقه الرضوي»، و مرسلة العياشي عن زرارة التي مرّت الإشارة إليها، لا يصلح لإثبات الاكتفاء بخصوص مسح الجبهة و عدم وجوب الزائد عليه، لعدم ثبوت نقلها بهذا الوجه، و عدم حجّية «فقه الرضا»، و كذا المرسلة.

و لكنّه قد يجمع بينها، و بين الروايات الدالّة على مسح الجبينين فقط، برفع اليد عن ظاهر كلّ من الطائفتين بصريح الأُخرى، فإنّ الطائفة الأُولى نصّ في اعتبار الجبهة، و

ظاهر في عدم اعتبار غيرها من جهة السكوت في مقام البيان، و الطائفة الأُولى عكس ذلك، فيأوّل الظاهر بالنصّ، فيحكم باعتبارهما.

و لكنّ الظاهر أنّه لو وصلت النوبة إلى الجمع لكان مقتضاه الحكم بالتخيير بين الأمرين، لا وجوب الجمع بينهما، كما لا يخفى.

و الحقّ: أنّه لا تصل النوبة إليه لما ذكر، بل اللازم هو ضمّ مسح الجبينين إلى الجبهة، كما هو المشهور على ما مرّ.

بقي الكلام في هذه الجهة في أمرين:

الأوّل: أنّه قد حدّد الوجه الذي يجب مسحه بقصاص الشعر إلى طرف الأنف، و الظاهر أنّ المراد به هو الطرف الأعلى، كما صرّح به العلّامة في محكيّ «المنتهى»، و قال: إنّه المراد في عبارات المفيد و الشيخ و السيّد و ابن حمزة و أبي الصلاح، و هو ظاهر من قال بمسح الجبينين و الحاجبين، كالصدوق في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 417

..........

______________________________

«الفقيه»، بل في «الجواهر»: صرّح بذلك بنو حمزة و إدريس و سعيد و العلّامة و الشهيدان و غيرهم، و عن ابن إدريس الإرزاء ببعض المتفقّهة، حيث ظنّ أنّه الأسفل.

و الظاهر أنّ مقتضى الأدلّة عدم لزومه، لعدم إشعار شي ء منهما بلزوم مسح الزائد على الجبهة و الجبين، بعد حمل أخبار الوجه على خلاف ظاهره الذي هو الاستيعاب.

الثاني: حكي عن الصدوق وجوب مسح الحاجبين، حيث قال في محكيّ «الأمالي»: و قد روي أن يمسح الرجل جبينه و حاجبيه، و عليه مضى مشايخنا.

و يظهر ممّا في «المنتهى» من قوله: إنّه لا يجب مسح ما تحت الحاجبين، أنّ وجوب مسحهما مسلّم، و عليه فدعوى الشهرة على العدم كما في محكيّ «الكفاية» ممنوعة.

و يؤيّد ما ذكر: أنّ المسح إلى طرف الأنف الأعلى مستلزم لمسح

الحاجبين أيضاً؛ لأنّ هذا الطرف أسفل من الحاجبين، كما لا يخفى.

نعم، ظاهر الروايات البيانية الحاكية لتيمّم المعصوم (عليه السّلام) خلافه، لعدم دلالة شي ء منها على مسح الحاجبين، و مرسلة الصدوق غير معتبرة، و مع ذلك يشكل الحكم بالعدم بعد الشهرة المحقّقة، بل التسلّم المستفاد من كلام «المنتهى»، و الأخبار البيانية كانت خالية من ذكر الجبهة أيضاً، و الملازمة المذكورة هناك جارية هنا أيضاً، فالأحوط كما في المتن مسح الحاجبين أيضاً.

في اعتبار كون مسح الوجه دفعة الجهة الثالثة: أنّه هل يجب مسح الوجه باليدين دفعة، أم يجوز تدريجاً؟

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 418

..........

______________________________

مقتقضى إطلاق الآية و بعض الروايات كروايتي زرارة و المرادي المتقدّمتين هو الثاني، لكنّ الروايات البيانية غير خالية عن الإشعار، بل الدلالة على أنّ عمل المعصوم (عليه السّلام) كان بنحو الدفعة، نعم يمكن المناقشة في استفادة اللزوم منها بأنّ تعارف الدفعة يوجب عدم الظهور في التعيين، و ليس هذا مثل سائر الخصوصيات المعمولة كالضرب باليدين لا بيد واحدة، لعدم جريان هذا التعارف فيها، بل تكون رعايتها من دون مدخلية بلا وجه، كما أنّ السيرة المستمرّة على الدفعة لا تدلّ إلّا على صحّتها لا تعيّنها، إلّا أن يقال بأنّ التزام المتشرّعة في مقام العمل يكشف عن اعتبارها، كما ذكرناه في اعتبار المعيّة في الضرب أو الوضع على الأرض.

في اعتبار كون المسح بجميع الكفّ الجهة الرابعة: أنّه هل يعتبر كون المسح بجميع الكفّ، أم لا؟

و نقول: الوجوه المتصوّرة في مسح الجبهة باليدين خمسة، كما ذكره بعض:

الأوّل: أن يمرّ كلّ جزء من الكفّين بكلّ جزء من الممسوح.

الثاني: أن يمرّ تمام كلّ منهما على تمام الممسوح.

الثالث: أن يمرّ تمام أحدهما على بعضه،

و تمام الآخر على الباقي.

الرابع: أن يمرّ كلّاً من الكفّين في الجملة و لو بعضاً من كلّ منهما على جميع أجزاء الممسوح.

الخامس: أن يمرّ كلّاً من اليدين في الجملة و لو بعض كلّ منهما على بعض الممسوح، بحيث لا يبقى منه جزء إلّا و قد مرّ عليه بعض الماسح.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 419

..........

______________________________

أمّا الأوّل: فمضافاً إلى أنّه لم يقل به أحد يكون متعذّراً أو متعسّراً، لأنّه يتوقّف على إمرار كلّ من اليدين مرّات متعدّدة بتعدّد الخطوط الطولية للممسوح.

و أمّا الثاني: فقد نسب إلى ظاهر «المدارك» و غيرها، و أُورد عليه بأنّه يتوقّف على ظهور الأدلّة في استيعاب الماسح، و على ظهورها في لزوم مسح تمام أجزاء الممسوح بكلّ منهما، و هما معاً غير ثابتين، بل الأوّل منهما خلاف قول الباقر (عليه السّلام) في صحيحة زرارة

ثمّ مسح جبينه بأصابعه.

و يتوقّف حصوله على المسح بكلّ من اليدين تدريجاً، و هو غير ظاهر منها لو لم يكن الظاهر منها الدفعة.

أقول: منشأ توهّم ظهور الأدلّة في استيعاب الماسح هو لزوم الاستيعاب في الضرب أو الوضع، فإنّه مع كون الواجب فيهما هو ضرب جميع الكفّ أو وضعه، و من الظاهر أنّه بلحاظ المسح يكشف ذلك عن لزوم استيعاب الماسح، و وصول جميع أجزائه إلى الممسوح.

و يندفع: بظهور الأدلّة في أنّ ضرب اليد على الأرض إنّما هو لإيصال أثرها و لو اعتباراً إلى الممسوح، و ليس للكفّين إلّا سمة الآليّة للمسح منها، فإذا حصل ببعض الكفّ سقط التكليف.

و يمكن أن يقال: إنّ منشأ التفكيك هو عدم ثبوت الخصوصية لبعض أجزاء الماسح على البعض الآخر، و ثبوت التخيير بين أبعاضه، و لا يتحقّق ذلك

إلّا بالاستيعاب في مقام الضرب أو الوضع، لأنّه مع عدمه يتعيّن خصوص البعض المضروب أو الموضوع للمسح، مع أنّه لا تعيّن له بوجه.

هذا، مع أنّ صحيحة زرارة المتقدّمة صريحة في عدم لزوم الاستيعاب، فإنّ الاقتصار في مقام النقل الذي يكون الغرض منه بيان الحكم على خصوص الأصابع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 420

..........

______________________________

التي هي بعض الكفّ، صريح في عدم لزوم الاستيعاب و إلّا لم يجز هذا التعبير كما هو ظاهر.

و بهذا يجاب عن الاحتمال الثالث المنسوب إلى ظاهر النراقي في «اللوامع».

و أمّا الاحتمال الرابع المنسوب إلى بعض، فيرد عليه أنّ لازمه تكرار المسح، بمعنى عدم تحقّقه دفعة واحدة، لأنّ وصول الكفّين و لو ببعض أجزائهما على جميع أجزاء الممسوح لا يتحقّق دفعة واحدة، مع أنّ ظاهر النصوص البيانية تحقّقه كذلك، و لا أقلّ من إمكان تحقّقه كذلك، فيتعيّن الاحتمال الخامس الذي أفاده في المتن.

الأمر الثالث: في مسح اليدين مسح تمام ظاهر الكفّ اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع بباطن الكفّ اليسرى، ثمّ مسح تمام ظاهر الكفّ اليسرى بباطن الكفّ اليمنى. و في هذا الأمر أيضاً جهات من الكلام:

في أصل الوجوب الاولى: في أصل وجوب مسح اليدين في الجملة، و اعتباره في التيمّم، و الظاهر أنّه إجماعي بين المسلمين، و يدلّ عليه الكتاب و السنّة.

في تحديد الممسوح الثانية: في تحديد الممسوح، و المشهور بين الأصحاب بل عليه تكرّر نقل الإجماع هو وجوب مسح الكفّين من الزند و هو المفصل بين الساعد و الكفّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 421

..........

______________________________

إلى أطراف الأصابع، و عليه جملة من العامّة كأحمد و مالك و الشافعي في «القديم».

و عن

علي بن بابويه وجوب استيعاب المسح إلى المرفقين، و هو المحكيّ عن أبي حنيفة و الشافعي في «الجديد»، و عن ابن إدريس عن بعض أصحابنا أنّ المسح من أُصول الأصابع إلى رءوسها، و روي عن مالك أيضاً أنّ التيمّم على الكفّ و نصف الذراع، و عن الزهري: يمسح يديه إلى المنكب.

و يدلّ على المشهور روايتا زرارة المتقدّمتان الحاكيتان لتيمّم رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) تعليماً لعمّار، المشتملة إحداهما على قوله (عليه السّلام)

ثمّ مسح جبينه (جبينيه) بأصابعه و كفّيه إحداهما بالأُخرى ..

و ثانيتهما على قوله (عليه السّلام)

ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على الأُخرى ..

و أصرح منهما صحيحة زرارة المتقدّمة أيضاً الحاكية لتيمّم أبي جعفر (عليه السّلام) المتضمّنة لقوله

ثمّ مسح وجهه و كفّيه، و لم يمسح الذراعين بشي ء.

نعم، في رواية أبي أيّوب الخزّاز المتقدّمة

ثمّ مسح فوق الكفّ قليلًا

، و مثلها رواية داود بن النعمان المتقدّمة أيضاً، حيث قال: فمسح وجهه و يديه و فوق الكفّ قليلًا، و الظاهر أنّ المراد منه هو حدّ المفصل أو فوقه الذي يتوقّف العلم بحصول المسح المأمور به عليه.

و احتمال كون المراد من «الفوق» فيهما هو ظهر الكفّ و ظاهره حينئذٍ عدم استيعاب ظاهر الكفّ بالمسح ففي غاية البعد، خصوصاً في الرواية الثانية التي يكون التعرّض فيها للفوق بعد التعرّض لليدين، كما لا يخفى.

و أمّا رواية ليث المرادي المتقدّمة أيضاً، المتضمّنة لقوله (عليه السّلام)

و تمسح بهما وجهك و ذراعيك

، و كذا رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 422

..........

______________________________

التيمّم، فضرب بكفّيه الأرض، ثمّ مسح بهما وجهه، ثمّ ضرب بشماله الأرض

فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع، واحدة على ظهرها و واحدة على بطنها، ثمّ ضرب بيمينه الأرض، ثمّ صنع بشماله كما صنع بيمينه، ثمّ قال

هذا التيمّم على ما كان فيه الغسل، و في الوضوء الوجه و اليدين إلى المرفقين و ألقى (أبقى) ما كان عليه مسح الرأس و القدمين، فلا يؤمّم بالصعيد «1».

و كذا رواية سماعة قال: سألته كيف التيمّم؟ فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه و ذراعيه إلى المرفقين «2». فمحمولة على التقيّة، و تظهر آثارها من رواية محمّد بن مسلم.

نعم، الرواية الأُولى المشتملة على الذراعين من دون التعرّض للمرفق قابلة للحمل على الروايات الموافقة للمشهور؛ لأنّ مسح الذراعين يتحقّق بمسح بعضهما، كما لا يخفى.

و هنا مرسلتان ظاهرتان في اجتزاء المسح على الأصابع:

إحداهما: مرسلة حمادّ بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) أنّه سئل عن التيمّم فتلا هذه الآية وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا، و قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ، قال

فامسح على كفّيك من حيث موضع القطع

، و قال وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ نَسِيًّا «3».

قال في «الوسائل» بعد نقل الرواية: «أقول: فيه تعليم للسائل الاستدلال

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 13، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمم، الباب 13، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 423

..........

______________________________

على العامّة بما يوافق مذهبهم في السرقة، و يبطل مذهبهم في التيمّم، فكأنّه قال: لمّا أطلق الأيدي في آية السرقة و التيمّم، و قيّدت في آية الوضوء، علم أنّ القطع و التيمّم ليس من المرفقين».

ثانيتهما: مرسلة «فقه الرضا» الدالّة على كونه من أصل الأصابع.

و

لكن من الظاهر أنّ الروايتين فاقدتان لوصف الاعتبار و الحجّية في نفسهما، فضلًا عن صلاحيتهما للمقاومة مع الروايات الكثيرة الموافقة للمشهور، فلا محيص حينئذٍ من الالتزام بما التزموا به.

في اعتبار الاستيعاب الجهة الثالثة: في أنّه هل يعتبر استيعاب الممسوح بالمسح، أم لا؟

ظاهر جملة من الأصحاب و صريح آخرين هو الوجوب، و عن «الرياض» دعوى الإجماع عليه هنا، و عن «الروض» دعواه في الوجه أيضاً.

و منشؤه الانسباق إلى الذهن من الأدلّة، فإنّ المتفاهم عرفاً من الأمر بمسح الجبهة و الكفّين إرادة الاستيعاب بالمسح، و كذلك المنسبق إلى الذهن من النصوص الحاكية لفعل المعصوم من النبي و الإمام صلّى اللّه عليهما و آلهما هو الاستيعاب.

نعم، المراد منه هو الاستيعاب العرفي المتحقّق بإمرار اليدين على ظاهر الكفّين من الزندين إلى أطراف الأصابع مرّة واحدة، و لا تلزم رعايته بنحو الدقّة العقلية التي توجب امتناع تحقّقه عادة في المرّة الاولى، و ذلك لدلالة بعض الأخبار الحاكية على وقوع المسح مرّة واحدة، و هي لا تنفكّ غالباً عن الخلل، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 424

..........

______________________________

و أمّا الاستيعاب بلحاظ الماسح، فقد مرّ الكلام فيه.

في الترتيب في الجزء الواحد الجهة الرابعة: هل التعبير بكلمتي «من» و «إلى» في المتن و شبهه إنّما هو لتحديد الممسوح، فلا تعرّض فيه و في مثله لكيفية المسح و لزوم الشروع من الزند إلى أطراف الأصابع، أو أنّه إنّما يكون بلحاظ الكيفية و مرجعها إلى لزوم البدأة من الزند و الختم بأطراف الأصابع؟ كما نسب إلى المشهور، بل عن «شرح المفاتيح» نسبته إلى ظاهر الأصحاب، و عن «المنتهى» نسبته إلى ظاهر عبارة المشايخ، و لعلّ منشأ النسبة هو التعبير بمثل ما

في المتن مع أنّه يحتمل قويّاً أن يكون لتحديد الممسوح، كما في آية الوضوء.

هذا، و مقتضى إطلاق الآية بعد ما عرفت من كونها في مقام البيان و أنّه يجوز التمسّك بها في موارد الشكّ هو عدم اعتبار كيفية خاصّة، فلا فرق بين أن يكون من الزند أو إلى الزند، و هكذا إطلاق بعض الروايات المتقدّمة، و أظهر منها هو سكوت أبي جعفر (عليه السّلام) في مقام نقل قصّة عمّار و تعليم النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) له التيمّم، مع كون هذا النقل لغرض إفادة الحكم و بيان ماهية التيمّم عن التعرّض للخصوصية الواقعية التي وقع بها تيمّم الرسول، فإنّه لا محالة كان لها كيفية خاصّة من هذه الجهة، و لكن سكوته عنها دليل على عدم اعتبار تلك الخصوصية بوجه.

و أمّا الاستدلال على لزوم البدأة من الزند بتنزيل الترابية منزلة المائية و بدليتها منها المشعرة بالمساواة، خصوصاً بعد ما ورد في بعض الأخبار من «أنّ التيمّم نصف الوضوء»، و في صحيحة زرارة المعروفة من أنّه أثبت بعض الغسل مسحاً،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 425

..........

______________________________

فالجواب عنه واضح، ضرورة عدم اقتضاء شي ء ممّا ذكر لإفادة اللزوم من هذه الجهة.

نعم، استمرار سيرة المتشرّعة على رعاية الكيفيّة المعهودة المتداولة ربّما يكشف عن عدم جواز التعدّي عنها، خصوصاً مع تصريح «الفقه الرضوي» بلزوم الابتداء من الأعلى في اليدين، و عليه فالأحوط هي المراعاة.

في مسح ما بين الأصابع الجهة الخامسة: في أنّ ما بين الأصابع ليس من الظاهر فلا يجب مسحها؛ إذ المراد به ما يماسّه ظاهر بشرة الماسح، و لا ينافي ذلك عدم كونها من الباطن أيضاً، فلا يجب تشريكها في الضرب

على الأرض أو الوضع عليها أيضاً، لعدم الدليل على لزوم اتّصاف أجزاء الكفّ بكونها ظاهرة أو باطنة، بل من الأجزاء ما لا يتّصف بشي ء منهما، كما لا يخفى.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 426

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 426

[مسألة 2: لو تعذّر الضرب و المسح بالباطن انتقل إلى الظاهر]

مسألة 2: لو تعذّر الضرب و المسح بالباطن انتقل إلى الظاهر، هذا إذا كان التعذّر مطلقاً.

و أمّا مع تعذّر بعض، أو بلا حائل، فالأحوط الجمع بين الضرب و المسح ببعض الباطن، أو الباطن مع الحائل و بينهما بالظاهر، و الانتقال إلى الذراع مكان الظاهر في الدوران بينهما لا يخلو من وجه، و الأحوط الجمع بينهما، و لا ينتقل من الباطن لو كان متنجّساً بغير المتعدّي و تعذّرت الإزالة، بل يضرب بهما و يمسح.

و لو كانت النجاسة حائلة مستوعبة، و لم يمكن التطهير و الإزالة، فالأحوط الجمع بين الضرب بالباطن و الضرب بالظاهر، بل لا ينبغي ترك الاحتياط بالجمع في الصورة المتقدّمة أيضاً.

و لو تعدّت النجاسة إلى الصعيد، و لم يكن التجفيف، ينتقل إلى الذراع أو الظاهر حينئذٍ، و لو كانت النجاسة على الأعضاء الممسوحة و تعذّر التطهير و الإزالة مسح عليها. (1)

______________________________

في التيمّم في غير حال الاختيار

(1) قد وقع التعرّض في هذه المسألة لكيفية التيمّم في غير حال الاختيار، و منشأ عدم الاختيار إمّا التعذّر لأجل وجود الحائل أو لأجل غيره من الجهات الموجبة له، و إمّا النجاسة. فالكلام يقع في مقامين:

في التعذّر لأجل الحائل الأوّل: في التعذّر لأجل الحائل أو

غيره، و التعذّر قد يكون مطلقاً، و قد يكون

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 427

..........

______________________________

في الجملة، و يستفاد من المتن أنّ التعذّر لأجل الحائل يترتّب عليه حكم التعذّر في الجملة لغيره، و عليه فالمراد من التعذّر المطلق هو التعذّر لأجل غير الحائل، فهنا صورتان:

الاولى: التعذّر المطلق بحيث لم يمكن الضرب و المسح بشي ء من أبعاض الباطن، و قد حكم فيها في المتن أوّلًا بالانتقال إلى الظاهر، ثمّ نفي الخلوّ عن الوجه في الانتقال إلى الذراع مكان الظاهر عند الدوران بينهما، ثمّ احتاط بالجمع بينهما، و هنا احتمال رابع و هو التخيير بين الظاهر و باطن الذراع.

و في «الرسالة» نفى دام ظلّه البعد عن ترجيح احتمال الانتقال إلى باطن الذراع، مستدلّاً له بقوله: «إنّ أصل اعتبار كون الماسح هو اليد و الكفّين غير مستفاد من الأدلّة اللفظية كما مرّ، و إنّما قلنا باعتباره للسيرة و الإجماع، و المتيقّن منهما اعتباره حال عدم التعذّر و في صورة الاختيار، و أمّا مع التعذّر فالأصل و إن اقتضى عدم اعتبار إحدى الخصوصيتين، لكن المتفاهم من الأدلّة كما مرّت الإشارة إليه مخالفة الماسح للممسوح، و أنّ آلة المسح موصلة لأثر الأرض و لو أثراً اعتبارياً إلى ما لم يلمس الأرض، و مع القول بالانتقال إلى الظاهر لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر.

و بعبارة أُخرى: يعتبر في التيمّم حال الاختيار كون المسح بباطن الكفّ، و مغايرة الآلة للممسوح، و في حال التعذّر يرفع اليد عن الباطن، و تحفظ المغايرة مع حفظ آلية اليد، فيرجّح الذراع على الظاهر، لكن ما ذكرناه لا يساعد كلمات القوم ممّن تعرّض للمسألة، و الاحتياط بالجمع لا ينبغي تركه».

هذا،

و المرجّح للانتقال إلى الظاهر هو حفظ عنوان الكفّ المأخوذ في معقد

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 428

..........

______________________________

الإجماع و الجاري عليه السيرة، و الانتقال إلى الذراع و إن كان يوجب التحفّظ على المغايرة التي أفادها دام ظلّه، إلّا أنّ عنوان الكفّ ينتفي أيضاً، بخلاف الانتقال إلى الظاهر، إلّا أن يقال: إنّ ارتكاز التحفّظ على المغايرة بنحو يوجب انصراف الذهن عن الانتقال إلى الظاهر في صورة التعذّر، و لكنّه لم يثبت، فالظاهر هو التخيير و إن كان غير مساعد لكلمات المتعرّضين.

الثانية: التعذّر في الجملة بالمعنى المذكور الشامل لوجود الحائل على جميع الباطن، و قد احتاط فيها بالجمع، و نقول:

أمّا تعذّر بعض الباطن فيمكن القول فيه بالاجتزاء بضربة و المسح به، لقاعدة الميسور و الإجماع على الاستيعاب، و كذا السيرة يختصّان بصورة عدم التعذّر، مضافاً إلى إطلاق الأمر بضرب اليد بعد وضوح عدم كون المراد هو جميع أبعاضه، كما أنّ الضرب ببعض الباطن أقرب إلى الماهية بنظر المعرف من ضرب الظاهر لحفظ المغايرة المذكورة، و لكنّه يوجب ترجيح الباطن على الظاهر، و أمّا الجمع بينهما كما هو مقتضى الاحتياط للعلم الإجمالي بوجوب واحد منهما فلا ينافيه ما ذكر.

و أمّا وجود الحائل على جميع الباطن فإنّه مع تعذّر إزالته كما هو المفروض يصير بمنزلة البشرة في صورة الضرورة، و يؤيّده المسح على المرارة المأمور به في رواية عبد الأعلى المعروفة و عليه فمع القدرة على ضرب الباطن مع ما عليه من الحائل لا يعدل إلى الظاهر، سيّما مع اقتضائه التحفّظ على المغايرة المذكورة.

و لكنّه يمكن أن يقال: إنّ الضرورة كما يمكن أن تكون مؤثّرة في قيام الحائل منزلة البشرة، يمكن أن تكون

مؤثّرة في الانتقال إلى الظاهر مع تعذّر الباطن بلا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 429

..........

______________________________

حائل، و لا ترجيح لأحد الأمرين على الآخر إلّا أن يقال إنّ الترجيح في التنزيل منزلة البشرة بلحاظ حفظ عنوان الباطن و المغايرة معاً، غاية الأمر انتفاء البشرة، و في الانتقال إلى الظاهر يبقى هذا العنوان و ينتفي العنوانان.

هذا، و الظاهر ما أفاده دام ظلّه في المتن من الاحتياط للعلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين إمّا الضرب أو المسح بالحائل، و إمّا الضرب أو المسح بالظاهر، فيجب الجمع بينهما.

في التعذّر لأجل النجاسة المقام الثاني: في وجود النجاسة، و فيها فروع:

الأوّل: ما إذا كان الباطن كلّه أو بعضه متنجّساً بنجاسة غير حائلة و لا غير متعدّية لا إلى الأرض و لا إلى الممسوح و تعذّرت إزالتها، و قد حكم فيه في المتن بعدم الانتقال في هذا الفرض إلى الظاهر، بل يضرب و يمسح بالباطن، و لكنّه دام ظلّه في «الرسالة» حكم بالانتقال إلى الذراعين، مجيباً عن دعوى أنّ حفظ الذات أولى من حفظ الوصف، فمع الانتقال إلى غير باطن الكفّ ترك الأصل و الذات حفظاً للوصف بخلاف المسح من الباطن النجس، بأنّ أمثال هذه الأُمور الاعتبارية و الترجيحات الظنّية غير معوّل عليها في الأحكام التعبدّية البعيدة عن العقول، مع ما عرفت من أنّ اعتبار باطن الكفّ بل مطلق آلية اليد غير مستفاد من الأدلّة لو لا الإجماع و السيرة المفقودان في مثل المقام.

و الظاهر ما أفاده هنا كما هو المصرّح به في «الجواهر» و غيره، لأنّه لا دليل على اعتبار الطهارة و شرطيتها في هذه الصورة، بل لا دليل معتدّاً به على اشتراط خلوّ

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 430

..........

______________________________

مواضع التيمّم مطلقاً حتّى مع الاختيار عن النجاسة غير السارية عدا الإجماع الذي ادّعاه بعض و لم يثبت، خصوصاً في مقابل إطلاق الكتاب و السنّة، و سيأتي البحث فيه إن شاء اللّه تعالىٰ، و على أيّ فلم يقم دليل على اعتبار الطهارة في هذا الفرض، فلا وجه للانتقال إلى الظاهر، و لا إلى الذراع.

الثاني: ما إذا كانت النجاسة حائلة مستوعبة، و لم تكن سارية، و لم يمكن التطهير و الإزالة، و قد احتاط فيه بالجمع بين الضرب بالباطن و الضرب بالظاهر.

و مقتضى ما أفاده دام ظلّه في «الرسالة» الانتقال إلى الذراع هنا بطريق أولى؛ لأنّ المفروض وجود النجاسة مع وصف الحيلولة المانعة عن المسح بالبشرة، هذا و مقتضى ما استظهرناه في المقام الأوّل في صورة وجود الحائل هو لزوم الاحتياط هنا كما هناك.

الثالث: ما إذا كانت النجاسة متعدّية إلى الصعيد مع عدم إمكان التجفيف، و المستفاد من المتن في هذه الصورة ثبوت التخيير بين المسح بالظاهر، و بين المسح بباطن الذراع، و لكن ربّما يقال إنّ ظاهر الأدلّة اعتبار طهارة الصعيد عند ضرب اليد عليه، فإذا صار قذراً بالضرب لا يضرّ بالتيمّم.

و أُورد عليه في «الرسالة» بقوله: «و فيه أنّ ظاهر الآية مع قطع النظر عن صحيحة زرارة اعتبار طهارته عند رفع اليد منه أيضاً لمكان «منه»، فإنّ الظاهر رجوع الضمير إلى الصعيد الطيّب، فمع ابتدائية «من» كما هي الأرجح يكون المعنى: فامسحوا مبتدئا من الصعيد الطيّب.

نعم، بناء على رجوع الضمير إلى التيمّم كما في صحيحة زرارة المفسّرة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 431

..........

______________________________

للآية، يشكل استفادة ما ذكر منها كما تقدّم

بعض الكلام فيها، إلّا أن يقال إنّ المراد من قوله: «ذلك التيمّم»، ذلك الضرب الواقع على الصعيد الطيّب، و مع قذارته بالضرب يخرج من ذلك العنوان، فتأمّل».

أقول: قد تقدّم تفصيل الكلام في معنى الآية الشريفة، و ذكرنا هناك أنّه من البعيد جدّاً أن تكون الآية المشتملة على كلمة «منه» مفيدة لخصوصية مغايرة للآية الخالية عن هذه الكلمة، و ذكرنا أيضاً أنّ الآية بملاحظة الرواية الواردة في تفسيرها ظاهرة في كون كلمة «منه» متعلّقة بخصوص الأيدي، و الغرض التيمّم من نفس ذلك الضرب الواقع أوّلًا من دون لزوم ضرب آخر، و عليه فلا يستفاد منها ما أفاده دام ظلّه، و لعلّه يأتي الكلام في هذه الجهة فيما بعد أيضاً.

و كيف كان: فالظاهر هو التخيير الذي أفاده هنا، و يظهر وجهه ممّا ذكرنا في حكم الصورة الاولى في المقام الأوّل.

الرابع: ما لو كانت النجاسة على الأعضاء الممسوحة، و تعذّر التطهير و الإزالة، و قد حكم في المتن بلزوم المسح عليها، و الظاهر أنّ مراده ما إذا لم تكن النجاسة حائلة و إن كان التعبير بالإزالة بعد التطهير يشعر بعموم الحكم، موجه إلّا أنّه مع العطف بالواو يكون الظاهر أنّ مراده صورة عدم الحيلولة، فتدبّر.

و مرجع ما أفاده إلى عدم اعتبار الطهارة في هذه الصورة التي يكون المفروض فيها تعذّر التطهير، مع أنّ أصل دليل اعتبار الطهارة في العضو الممسوح ليس بمسلّم، فإنّ الإجماع المدّعى على ذلك غير ثابت، كما أنّ الاستدلال عليه بأنّ بدليته من الطهارة المائية تقتضي مساواته لها في جميع الأحكام التي لم يدلّ دليل على خلافها أيضاً لا ينبغي الالتفات إليه، لعدم استفادة ذلك من أخبار التيمّم بوجه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 432

..........

______________________________

و على تقديره فربّما يقال: إنّ اشتراط طهارة المحلّ في الطهارة المائية إنّما هو لحفظ الماء عن الانفعال، فلا يقتضي دليل التنزيل المنع من النجاسة غير السارية هنا كما هو المفروض.

و منه يظهر الجواب عن استدلال العلّامة (قدّس سرّه) في محكيّ «التذكرة» على اشتراط طهارة الأعضاء الممسوحة في التيمّم، بأنّ التراب ينجس بملاقاة النجس، فلا يكون طيّباً.

مضافاً إلى أنّ زوال وصف «الطيّب» بناء على كونه بمعنى الطاهر الشرعي، كما استفدناه من مجموع الأدلّة التي أُقيمت على إثباته بسبب المسح و الملاقاة مع العضو الممسوح لا يقدح ظاهراً، خصوصاً بالإضافة إلى الأيدي التي لا يكون بعدها مسح، فالظاهر ما أُفيد في المتن من المسح على العضو النجس.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 433

[القول فيما يعتبر في التيمّم]

اشارة

القول فيما يعتبر في التيمّم

[مسألة 1: يعتبر النيّة في التيمّم]

مسألة 1: يعتبر النيّة في التيمّم على نحو ما مرّ في الوضوء قاصداً به البدلية عمّا عليه من الوضوء أو الغسل، مقارناً بها الضرب الذي هو أوّل أفعاله.

و يعتبر فيه المباشرة و الترتيب حسب ما عرفته.

و الموالاة: بمعنى عدم الفصل المنافي لهيئته و صورته.

و المسح من الأعلى إلى الأسفل في الجبهة و اليدين بحيث يصدق ذلك عليه عرفاً.

و رفع الحاجب عن الماسح و الممسوح حتّى مثل الخاتم، و الطهارة فيهما، و ليس الشعر النابت على المحلّ من الحاجب فيمسح عليه، نعم يكون منه الشعر المتدلّي من الرأس إلى الجبهة إذا كان خارجاً عن المتعارف، و يعدّ حائلًا عرفاً، لا مثل الشعرة و الشعرتين فيجب رفعه، هذا كلّه مع الاختيار، أمّا مع الاضطرار فيسقط المعسور، و لكن لا يسقط به الميسور. (1)

______________________________

(1) يعتبر في التيمّم على ما في المتن أُمور:

في قصد القربة أحدها: قصد القربة الراجع إلى قصد عنوان التيمّم و الإتيان به بما يؤتى به سائر العبادات، و الوجه في اعتباره في التيمّم مع أنّ مقتضى إطلاق الآية الواردة في التيمّم اللفظي أو المقامي، و كذا إطلاق جملة من الروايات هو عدم الاعتبار هو الإجماع الذي تظافرت دعواه من جمع كثير من أعلام الفقهاء و أعاظم الأصحاب، بل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 434

..........

______________________________

ربّما تدّعي الضرورة على أنّ التيمّم إنّما هو كمبدله من الوضوء و الغسل في هذه الجهة، فلا ينبغي الارتياب في عباديته المتقوّمة بنيّة القربة.

و يعتبر في نيّته أمران:

في اعتبار قصد البدلية في التيمّم الأوّل: قصد البدلية عمّا عليه من الوضوء أو الغسل، و الدليل عليه على ما في «المصباح» أنّه لمّا

كان التيمّم مختلفاً بالنوع لوقوعه بدلًا من الوضوء و غسل الجنابة و الحيض و غيرها من الأغسال المختلفة بالنوع، من غير أن يجتزئ بما يقع بدلًا من بعض عمّا يقع بدلًا من آخر، إلّا أن يكون مبدله كذلك وجب تمييز كلّ نوع عند إرادة امتثال الأمر المتعلّق به عمّا يشاركه في الجنس حتّى يصحّ وقوعه امتثالًا لذلك الأمر المتعلّق بالنوع، و حيث إنّه لا سبيل لنا إلى تشخيص تلك الطبائع بغير القصد، وجب علينا عند إرادة الإتيان بشي ء من تلك الأنواع القصد إلى وقوعه بعنوان يخصّ ذلك النوع، ككونه بدلًا من الوضوء أو غيره أو ما يؤدّي مؤدّاه في التمييز و إن لم يقصد به عنوان البدلية، كأن قصد مثلًا بفعله تيمّماً، يقع امتثالًا للأمر الناشئ من خروج البول أو المنيّ أو غير ذلك ممّا يوجب تمييز المأمور به عن غيره و لو بتوصيفه بالوجوب، كما إذا انحصر الواجب في حقّه في نوع، فنوى بفعله الإتيان بذلك التيمّم الذي وجب عليه بالفعل.

و لكنّه دام ظلّه في «الرسالة» أنكر اعتبار قصد البدلية و لو مع القول بأنّه بدل؛ لعدم الدليل عليه، بل مقتضى الإطلاق عدمه، لأنّ عنوان البدلية بناء عليه ثابت لنفسه من غير دخالة للقصد فيه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 435

..........

______________________________

ثمّ أفاد أنّه لا دليل على كونه بدلًا، خصوصاً إن أُريد كونه بدل الطهور لكونه مخالفاً للأدلّة، و مجرّد كون التيمّم أمراً ثابتاً في حال الاضطرار لا يستلزم البدلية، فإن أُريد بها ذلك فلا معنى للنزاع فيه، و إن أُريد بها أمر زائد على ذلك بحيث كان عنواناً ملازماً للمصداق الاضطراري فهو ممنوع؛ لأنّ المصداق الاضطراري يمكن أن يكون

مستقلّاً في التأثير في ظرفه، لا نائباً عن غيره و بدلًا عنه، فلا ملازمة بينهما عقلًا و لا عرفاً.

ثمّ قال: «و دعوى استفادة ذلك من بعض الأخبار كصحيحة حمّاد بن عثمان قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل لا يجد الماء، أ يتيمّم لكلّ صلاة؟

فقال

لا، هو بمنزلة الماء «1».

و صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قلت له: كيف التيمّم؟

فقال

هو ضرب واحد للوضوء و الغسل من الجنابة «2».

و موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن التيمّم من الوضوء و الجنابة و من الحيض للنساء سواء.

فقال: «نعم» «3».

مدفوعة، لأنّ كونه بمنزلة الماء في جواز إتيان الصلوات الكثيرة به لا يلازم كونه بدلًا منه، فإنّ وحدة منزلة شيئين في حصول أمر لو لم نقل بكونها دليلًا على استقلال كلّ في حصوله لا يكون دليلًا على نيابة أحدهما عن الآخر أو بدليته.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 20، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 436

..........

______________________________

و بالجملة: لا يستفاد منه إلّا كون التيمّم مثل الوضوء في الحكم المذكور أو مطلقاً، نظير قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

فإنّ كون أمير المؤمنين (عليه السّلام) بمنزلة هارون لا يستلزم نيابته عن هارون، و أصالة هارون في نيابته عن موسى، و عدم أصالة المولى (عليه السّلام) في نيابته عن رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم).

و أمّا الرواية الثانية فلا إشعار فيه للمدّعي، فإنّ كون التيمّم للوضوء لا معنى له بحسب ظاهره، و

الظاهر أنّ ذكر الوضوء و غسل الجنابة لمجرّد المعرّفية عن التيمّم الذي هو للحدث الأصغر و الأكبر، فلا يستفاد منه البدلية بوجه.

و كذا لا تستفاد من الثالثة، لأنّ قوله: «من الوضوء»، لو لا تعقّبه بقوله: «و الجنابة و عن الحيض» لا يبعد ظهوره في البدلية و إن كان وقوعه في لفظ الراوي لا يفيد شيئاً، و ليس قول الإمام (عليه السّلام) تقريراً لذلك، لكن مع تعقّبه به يدفع ذلك.

و الإنصاف: أنّ تلك الروايات لا تكون في مقام إفادة بدلية التيمّم و أصالة الوضوء و الغسل، بل هي بصدد مجرّد المعرفيّة، نظير قوله (عليه السّلام) في صحيحة محمّد بن مسلم بعد بيان التيمّم

هذا التيمّم على ما كان فيه الغسل .. «1»

بل الظاهر من مثل قوله

التراب أحد الطهورين

و قوله

إنّ اللّه جعلهما طهوراً: الماء و الصعيد

عدم البدلية».

و قد ظهر ممّا أفاده دام ظلّه أنّه لا دليل على البدلية بوجه حتّى يبحث في اعتبار قصدها و عدمه، و عليه ففيما إذا اتّحد ما عليه من التيمّم لا يجب التعيين للمبدل منه، و لا الإشارة إليه أصلًا؛ لأنّ الواجب هو التيمّم الواحد و قصد البدلية غير معتبر.

و أمّا مع التعدّد كالحيض و مسّ الميت مثلًا، فالظاهر لزوم التعيين، لا لأجل

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 437

..........

______________________________

اقتضاء البدلية ذلك، بل لأنّ تعيّن نوع واحد من بين الأنواع لا طريق له غير القصد، كما عرفت من «المصباح».

في اعتبار مقارنة النيّة للضرب الثاني: المقارنة للضرب و اعتبارها واضح على تقدير كون الضرب من أجزاء التيمّم و أفعاله، و ذلك لاعتبار مقارنة النيّة لأوّل أفعال العبادة، بداهة

عدم جواز تأخيرها عنه.

و أمّا على تقدير كون الضرب معتبراً في التيمّم على نحو الشرطية، فقد مرّ في مبحث الضرب أنّه ربّما يقال بجواز تأخير النيّة عنه، و لكن عرفت هناك اندفاعه، و أنّه لا فرق بين الجزئية و الشرطية من هذه الجهة، فراجع.

في المباشرة ثانيها: المباشرة، و الدليل على اعتبارها في التيمّم هو الدليل على اعتبارها في الوضوء و شبهه، و قد فصّلنا القول في ذلك في باب الوضوء، و لا حاجة معه إلى الإعادة.

في اعتبار الترتيب في التيمّم ثالثها: الترتيب بين أفعال التيمّم بنحو عرفت، و قد ادّعي الإجماع على اعتباره كما في محكيّ «الغنية» و «المنتهى» و «إرشاد الجعفرية» و «المدارك» و «المفاتيح»، و استظهر من «التذكرة» و «الذكرى».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 438

..........

______________________________

و عن المرتضى أنّ كلّ من أوجب الترتيب في الوضوء أوجبه فيه، فمن فرّق بينهما خرق الإجماع.

و عن بعضهم ترك ذكر الترتيب مطلقاً، أو فيما هو بدل عن الوضوء، و عن جماعة ترك ذكره بين الكفّين.

و مثله يوجب الوهن في الاستناد إلى الإجماع الذي ربّما يقال بأنّه هو العمدة في دليل اعتبار الترتيب، نعم لا يبعد جواز الاتّكال على الشهرة التي لا ارتياب في تحقّقها، لا لأجل كونها حجّة في نفسها، بل لأجل أنّ تحقّقها في المقام بعد كون مقتضى إطلاق الكتاب و السنّة عدم اعتباره بين الكفّين يكشف عن وجود دليل عليه، كما أنّه يمكن الاستدلال عليه بالسيرة العملية المستمرّة من المتشرّعة في مثل هذه المسألة التي تعمّ بها البلوى، فإنّ الظاهر اتّصالها إلى زمن المعصوم الكاشف عن الأخذ منه.

و أمّا الأدلّة اللفظية، فمقتضى إطلاق الكتاب عدم اعتباره أصلًا إلّا بالإضافة إلى

الضرب على الأرض على سائر الأجزاء؛ لعدم تحقّق المسح بدونه، و هو كالضروري، و أمّا في غيره فلا دلالة له عليه.

نعم، ذكر العلّامة الماتن دام ظلّه في «الرسالة» ما ملخّصه: «أنّه يستفاد من الآية بضميمة الارتكاز العقلائي أنّ فاقد الماء يقصد الصعيد لتحصيل الطهور الذي كان يحصل بالماء، و أنّه يجب أن يفعل معه ما يفعل مع الماء عند فقده، فلو لم تتعرّض الآية لكيفيته، و اقتصرت على قوله فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً لكان المتفاهم العرفي منها قيام الصعيد مقام الماء، فيفهم منه ما فهمه عمّار من التمعّك على الصعيد للغسل و مسح أعضاء الوضوء بالكيفية التي فيه للحدث الأصغر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 439

..........

______________________________

و بالجملة: المتفاهم منه وضع التراب موضع الماء من غير تغيير و تبديل في الكيفية، و أنّ التبديل إنّما هو فيما يتطهّر به فقط، و حينئذٍ نقول مع تعقّب ذلك بقوله فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ يستفاد منه سقوط المسح على الرجل و الرأس، و عدم كونه إلى المرفق و لا على جميع الوجه لمكان الباء.

و أمّا سائر ما يعتبر فيه من الشرائط و الموانع فبقيت على حالها، كالبدأة بالوجه، و باليمنى، و طهارة المحالّ، و سائر الشرائط.

أقول: بعد عدم دلالة الآية على اعتبار الترتيب في الوضوء، و استفادة اعتباره من غيرها، كيف يمكن استفادته في التيمّم من آيته؟! إلّا أن يقال إنّه لا منافاة بين عدم دلالة الآية على اعتباره في الوضوء، و دلالة آية التيمّم على اعتبار كلّ ما يعتبر في الوضوء في التيمّم و لو استفيد اعتباره من دليل خارج، نظراً إلى أنّ مفادها قيام الصعيد مقام الماء، و ثبوت الاختلاف في خصوص ما

تدلّ عليه، و ليس من موارده الترتيب.

و أمّا الروايات: فلا إشكال في دلالتها على تقدّم مسح الوجه على مسح الكفّين، و لأجلها يقيّد إطلاق الكتاب و بعض الروايات، إنّما الإشكال في استفادة الترتيب بين الكفّين منها، و ربّما يستدلّ لها بموثّقة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

أتى عمّار بن ياسر رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقال: يا رسول اللّه، إنّي أجنبت الليلة فلم يكن معي ماء.

قال: كيف صنعت؟

قال: طرحت ثيابي و قمت على الصعيد فتمعّكت فيه.

فقال: هكذا يصنع الحمار، إنّما قال اللّه عزّ و جلّ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. فضرب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 440

..........

______________________________

بيديه على الأرض، ثمّ ضرب إحداهما على الأُخرى، ثمّ مسح بجبينه، ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الأُخرى، فمسح اليسرى على اليمنى، و اليمنى على اليسرى «1».

نظراً إلى أنّ حكاية أبي جعفر (عليه السّلام) قصّة عمار لم تكن لمجرّد بيان القصّة و حكاية أمر تأريخي، بل كانت لمجرّد بيان الحكم الشرعي الإلهي، و عليه فلا مجال لأن يقال بعدم الدلالة على الوجوب، لأنّ مجرّد وقوع الترتيب بين الأفعال لا يدلّ على وجوبه، لأنّه من ضروريات الأفعال التي لا يمكن الجمع بينها، فإنّ الظاهر أنّ مثل هذه الحكاية لا يقصر عن البيان الابتدائي.

و حينئذٍ نقول: إنّه لو لم يكن الترتيب بين الكفّين معتبراً لاقتصر على قوله (عليه السّلام)

فمسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الأُخرى

لكفايته في مقام بيان الحكم، فلا بدّ أن يكون لقوله (عليه السّلام) بعد ذلك

فمسح اليسرى على اليمنى ..

نكتة، و لا بدّ و أن تكون هي مسألة الترتيب، لعدم تصوّر نكتة اخرى غيرها، إلّا أن يقال: إنّ

الإتيان بكلمتي «ثمّ»، أو «الفاء» في غير اليدين، و العطف بالواو في خصوصهما، ينفى كون النظر إلى الترتيب، لأنّه مع إرادته لكان اللازم العطف بإحداهما، كما لا يخفى.

و الإنصاف: أنّ الرواية لا تخلو عن إشعار بل دلالة على اعتبار الترتيب بين اليدين.

و يؤيّده ما عن «العيّاشي»، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن التيمّم. فقال

إنّ عمّاراً ..

ثمّ ساقها باختلاف يسير مع الموثّقة، و قال في ذيلها

ثمّ دلك إحدى يديه بالأُخرى على ظهر الكفّ بدأ باليمنى «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 9.

(2) مستدرك الوسائل، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 441

..........

______________________________

في اعتبار الموالاة في التيمّم رابعها: الموالاة، و قد حكي الإجماع على اعتبارها في التيمّم عن «الغنية» و «جامع المقاصد» و «الروض» و «مجمع البرهان» و ظاهر «المنتهى» و «الذكرى» و «المدارك» و السيرة المستمرّة من المتشرّعة جارية عليها من دون فرق بين ما كان للحدث الأصغر، و بين ما كان للحدث الأكبر، لكن عن الشهيد (قدّس سرّه) في «الدروس» هو التفصيل و عدم اعتبار الموالاة في الثاني كما في الغسل.

و يدلّ على اعتبارها مطلقاً مضافاً إلى ما ذكر الآية الشريفة بلحاظ التعبير فيها بالفاء في قوله فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ بعد تحقّق الضرب أو الوضع؛ لأنّ الفاء على ما هو المعروف إنّما هي للترتيب باتّصال، و لكن ربّما يتأمّل في دلالة الفاء عليه، و أنّ غاية مدلولها هو الترتّب و التعقّب و هو غير كاف، فدلالة الآية من هذه الجهة غير تامّة.

و أمّا من جهة اشتمالها على التعبير بكلمة «منه»، فقد ذكر العلّامة الماتن دام ظلّه العالي

أنّ الأولى الاستدلال بها من هذه الجهة؛ لأنّ «من» على ما تقدّم ابتدائية لا تبعيضيته، و المعنى: فامسحوا بوجوهكم و أيديكم مبتدئا من الصعيد و منتهياً إلى الوجوه و الأيدي، و التمسّح من الصعيد بهذا المعنى لا يصدق عرفاً إلّا مع حفظ العلاقة بين الضرب على الأرض و المسح منها على الوجه و اليدين، أ لا ترى أنّه لو قيل لمريض: «تمسّح من الضرائح المقدّسة تبرّكاً» لا ينقدح في ذهن العقلاء منه إلّا مع حفظ العلقة بين المسح عليها و المسح على موضوع العلّة، فلو مسحها بيده ثمّ انصرف و ذهب إلى حوائجه، ثمّ مسح يده على الموضع بعد سلب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 442

..........

______________________________

العلاقة العرفية لم يعمل بقوله «تمسّح منها»، لأنّه لا يكون إلّا بعلاقة خاصّة مقطوعة بالفصل المعتدّ به كما ربّما تقطع بغيره، كما لو ضرب يده على الأرض فغسلها، فإنّ الظاهر سلب العلاقة و عدم صدق التمسّح منها، لا لاعتبار العلوق بل لاعتبار العلاقة الخاصّة العرفية.

ثمّ دفع توهّم أنّ الابتدائية لا تدلّ إلّا على مجرّد كون ضرب اليد مبتدئا من الأرض و منتهياً إلى الوجه، و أمّا اعتبار العلقة فلا، أ لا ترى أنّ المسافر إذا سافر من بلده إلى مكّة المعظّمة مع اشتغاله بين الطريق بأمور كثيرة، بل مع تعطّله عن السير في بعض البلاد التي بين الطريق، يقال: سافر من بلده إلى مكّة، من غير لزوم العلاقة.

بما ملخّصه: أنّه مع أنّ القياس لعلّه مع الفارق، كما يظهر من التأمّل في مثل تمسّح من التربة، أو من الضرائح المقدّسة و الأشباه و النظائر أنّ مورد النقض أيضاً حاله مثل المقام، لأنّه لو فرض التعطّل

عنه بين الطريق بمقدار انقطعت العلقة بين قطعات سفره عرفاً، يخرج من الصدق المذكور، كما لو سافر من بلده إلى الحجّ، فأقام في النجف الأشرف مدّة لتحصيل العلم أو غيره، بحيث سلبت العلاقة بين قطعات سفره، فإنّه يخرج عن الصدق المذكور، فالملاك هو وجود العلاقة، غاية الأمر اختلاف المقامات و تفاوت الموارد.

و ممّا ذكر يظهر: صحّة التمسّك ببعض الأخبار الذي عبّر فيه بكلمة «من»، مثل صحيحة الحلبي قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول

إذا لم يجد الرجل طهوراً و كان جنباً فليتمسّح من الأرض .. «1»

و صحيحة ابن سنان «2» التي هي نظيرها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 443

..........

______________________________

و ما ذكر هو الدليل على اعتبار الموالاة في التيمّم، لا أدلّة البدلية و لا النصوص البيانية فعلًا أو قولًا كما عن «الذكرى»، و لا ما أفاده صاحب «المدارك» من أنّه لو قلنا باختصاص التيمّم بآخر الوقت بالمعنى الذي ذكروه، كانت الموالاة من لوازم صحّته لتقع الصلاة في الوقت، لعدم تمامية شي ء من هذه الوجوه كما يظهر بالتدبّر فيها.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أمران:

أحدهما: أنّه لا فرق في اعتبار الموالاة في التيمّم بين ما يكون بدلًا عن الوضوء، و ما يكون بدلًا عن الغسل، خلافاً لما عرفت من محكيّ «الدروس»؛ لجريان الدليل في كلا المقامين، بل الروايتان واردتان في الجنب، فالتفصيل غير صحيح، بل مقتضى بعض الروايات مساواتهما، كموثّقة عمّار عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن التيمّم من الوضوء و الجنابة و من الحيض للنساء سواء فقال

نعم «1».

و الحمل على

صرف الكيفية دون سائر ما يعتبر فيهما فاسد، بعد اقتضاء الإطلاق السوائية من جميع الجهات، كما لا يخفى.

ثانيهما: أنّ معنى الموالاة المعتبرة يرجع إلى ما أُفيد في المتن من عدم الفصل المنافي لهيئته و صورته، و بعبارة أُخرى عدم سلب العلاقة و العرفية المذكورة، و تفسيرها بالمعنى المعتبر في الوضوء الراجع إلى التقدير بمقدار الجفاف لا دليل عليه، خصوصاً بعد عدم اختصاص اعتبارها بخصوص ما يكون بدلًا عن الوضوء، لما عرفت من اعتبارها في مطلق التيمّم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 9، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 444

..........

______________________________

في اعتبار كون المسح من الأعلى خامسها: الابتداء في المسح بالأعلى إلى الأسفل في الجبهة و اليدين، و قد حكي عن «الكفاية» و «الحدائق» نسبة اعتبار هذا الأمر إلى الشهرة، بل عن «شرح المفاتيح» نسبته إلى ظاهر الأصحاب، و عن ظاهر «جامع المقاصد» الإجماع عليه في اليدين، لكنّ الذي صرّح به هو العلّامة في «التذكرة» و «النهاية» و الشهيد في «الذكرى» و «الدروس».

و في «كشف اللثام» بعد نقل ذلك استدلّ عليه بالتسوية بينه و بين الوضوء، و بالتمسّك بالبياني، ثمّ قال: و فيهما نظر و الأصل العدم.

و أمّا أكثر الكلمات فهي متعرّضة لوجوب المسح من القصاص إلى طرف الأنف، و ربّما استظهر منها رجوع القيد إلى المسح، نظراً إلى أنّه هو الأصل في القيود التي يتردّد الأمر فيها بين كونها قيداً للحكم، و بين كونها قيداً للموضوع، و لكنّ الاستظهار محلّ نظر بل منع، لظهورها في كونها في مقام تحديد الممسوح، لا بيان كيفية المسح، خصوصاً مع عدم التعرّض لذلك بالإضافة إلى الكفّ، فلا مجال لدعوى الشهرة في المقام، هذا بالإضافة

إلى الكلمات.

و أمّا الأدلّة: فمقتضى إطلاق الآية الذي قد مرّ أنّه في مقام البيان، و لذا وقع مورداً لتمسّك النبي و الإمام عليهما الصلاة و السلام، و كذا إطلاق بعض الروايات هو عدم اعتبار كيفية خاصّة في المسح، و أنّ التيمّم متقوّم بمسح الوجه و الكفّين باليدين، سواء وقع من الأعلى، أو إلى الأعلى، أو بكيفيات أُخر مثل وقوع طول الباطن على عرض الظاهر، أو غيره.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 445

..........

______________________________

و عمدة الدليل على عدم الاعتبار هو سكوت أبي جعفر (عليه السّلام) عن الخصوصية الواقعية التي وقع بها تيمّم رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) في مقام تعليم عمّار، فإنّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قد كان في مقام بيان الماهية له بلا إشكال، و كان حكاية أبي جعفر (عليه السّلام) و نقله لذلك إنّما هو لإفادة الحكم و بيان الحقيقة بلا ارتياب و إن كان كما أفاده الماتن دام ظلّه في «الرسالة» في تكرار القضية و من أبي عبد اللّه (عليهما السّلام) فائدة أُخرى أو فوائد أُخر، كإفحام المخالفين، و التنبيه على جهل الثاني بالأحكام و بالقرآن الذي بين أيديهم، أو تجاهله و مخالفته للّه و رسوله.

و قد حكي عن كتاب «سليم بن قيس الهلالي» عن أمير المؤمنين (عليه السّلام): و العجب بجهله و جهل الأُمّة أنّه كتب إلى جميع عمّاله أنّ الجنب إذا لم يجد الماء فليس له أن يصلّي، و ليس له أن يتيمّم بالصعيد حتّى يجد الماء، و إن لم يجده حتّى يلقى اللّه، ثمّ قبل الناس ذلك منه و رضوا به، و قد علم و علم الناس أنّ رسول

اللّه قد أمر عمّاراً و أمر أبا ذر أن يتيمّما من الجنابة و يصلّيا، و شهدا به عنده و غيرهما، فلم يقبل ذلك، و لم يرفع به رأساً.

و كيف كان: فالسكوت المذكور أقوى دليل على عدم اعتبار هذا الأمر، لكن في مقابله السيرة القطعية المستمرّة من المتشرّعة على رعاية هذه الكيفية المعهودة، و احتمال انصراف مسح الوجه إلى المسح من الأعلى و أدلّة المنزلة و البدلية كما في «المدارك»، و إن كان الاستدلال بها غير تامّ بعد كونه بدلًا عن الوضوء و الغسل معاً بنحو واحد، و هذه الكيفية غير معتبرة في الغسل، و كذا التيمّمات البيانية التي أشار إليها «كاشف اللثام» في عبارته المتقدّمة و إن كان الاستدلال بها أيضاً غير صحيح، لأنّ مجرّد الفعل لا يدلّ على اللزوم لإجماله، و مجرّد

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 446

..........

______________________________

كون الفاعل في مقام البيان لا يقتضي ظهوره في ذلك، لأنّه لا بدّ أن يقع الفعل على أحد الوجهين.

و كذا رواية «الفقه الرضوي» بالإضافة إلى الكفّين بضميمة دعوى عدم الفصل بينهما، و كذا إشعار مرسلة «العيّاشي» عن أبي جعفر (عليه السّلام) به، قال: «ثم مسح من بين عينيه إلى أسفل الحاجبين».

و عليه فالأحوط عدم التعدّي عن الكيفية المعهودة، كما في «المدارك» و إن حكي عن الأردبيلي القول بعدم الوجوب.

في اعتبار رفع الحاجب سادسها: رفع الحاجب عن الماسح و الممسوح و عدم ثبوته في واحد منهما، و الدليل عليه ما هو المتفاهم عرفاً من الآية الآمرة بالمسح بالوجوه و الأيدي بالكفّين بعد ضربهما على الأرض و الصعيد الطيّب، فإنّ المتبادر منه هو وقوع البشرة عليها، و تحقّق المسح على البشرة، و مع

وجود الحاجب في أحدهما لا يكاد يتحقّق هذه الجهة، و الظاهر أنّه لا إشكال بل و لا خلاف في اعتبار هذا الأمر.

و الظاهر أنّ الشعر إذا كان في محلّ المسح فإن كان نباته فيه متعارفاً كما في الشعر النابت في ظهر الكفّ الذي يكون نباته فيه مقتضى الغالب فالظاهر كفاية المسح عليه، و عدم كون مثله حاجباً، بحيث يمنع عن صدق المسح على ظهر الكفّ، و كان الواجب فيه الاستبطان أو إزالة الشعر؛ لأنّ إهمال السؤال عن ذلك مع تعارف ثبوته و غلبة تحقّقه يدلّ على كون المراد من الممسوح ما يعمّ الشعر.

و أمّا إذا لم يتعارف نباته فيه كما في الشعر النابت على الجبهة فقد أفاد في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 447

..........

______________________________

المتن أنّه لا يكون من الحاجب، و يجوز المسح عليه، و لكنّه ربّما يشكل بأنّ الشعر خارج عن الجبهة، فالاكتفاء بمسحه خلاف ظاهر ما دلّ على وجوب مسح الجبهة.

و يندفع الإشكال بعدم استفادة العرف من وجوب مسح الجبهة إلّا وجوب مسحها مع الحالة الطبيعية من دون لزوم تصرّف فيها بمثل الإزالة، و لذا لو كان في محلّ المسح لحم زائد يجب مسحه أيضاً، و يكفي عن مسح محلّه، كما لا يخفى.

و أمّا الشعر المتدلّي من الرأس إلى الجبهة، فالذي يدلّ عليه المتن أنّه إذا كان واحداً أو اثنين فلا يجب رفعه، لعدم كونه حائلًا بنظر العرف، و إذا كان زائداً على ذلك فإن كان غير خارج عن المتعارف و لم يعدّ حائلًا عرفاً فيجوز المسح عليه، لما ذكر من أنّ المستفاد من ظاهر دليل وجوب مسح الجبهة هو وجوب مسحها على الحالة الطبيعية، و المفروض عدم

كونه معدوداً عرفاً حائلًا و حاجباً، و أمّا إذا كان خارجاً عن المتعارف فلا يجوز المسح عليه، لما ذكر، فتدبّر.

في اعتبار الطهارة في الماسح و الممسوح سابعها: الطهارة في الماسح و الممسوح، و عن جماعة التصريح به، و عن «شرح المفاتيح» نسبته إلى الفقهاء، بل عن «حاشية الشهيد على القواعد» الإجماع على اعتبار طهارة أعضاء التيمّم، لكن عن «الجواهر»: لم أعثر على مصرّح بشي ء منه من قدماء الأصحاب.

و عن ابن فهد و السيّد العميدي في حواشيه العدم، و مال إليه في «مجمع البرهان» و «الحدائق».

و في «المدارك»: «ذكر جمع من الأصحاب أنّ من الواجبات طهارة مواقع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 448

..........

______________________________

المسح من النجاسة، و استدلّ عليه في «الذكرى» بأنّ التراب ينجس بملاقاة النجس فلا يكون طيّباً، و بمساواة أعضاء الطهارة المائية، و لا يخفى أنّ الدليل الأوّل أخصّ من المدّعى، و الثاني قياس محض، و مقتضى الأصل عدم الاشتراط، و المصرّح بذلك قليل من الأصحاب إلّا أنّ الاحتياط يقتضي المصير إلى ما ذكره».

أقول: عمدة الدليل على اعتبار الطهارة هي المساواة المذكورة، نظراً إلى أنّ مقتضى الارتكاز العرفي أنّه يستفاد من الآية الكريمة الواردة في التيمّم اعتبار ما يعتبر في الغسل و الوضوء معاً في التيمّم، كالطهارة و غيرها من الأحكام المشتركة، نظراً إلى كونه بدلًا منهما.

نعم، لا يمكن إثبات الشرائط المختصّة بكلّ واحد منهما في التيمّم بعد كون مفاد الآية أنّه بدل منهما بنحو واحد، هذا إذا لم تكن النجاسة سارية.

و أمّا إذا كانت سارية ففيه صور تقدّم البحث فيها في المسألة الثانية من مسائل كيفية التيمّم، فراجع.

إذا ظهر لك اعتبار هذه الأُمور السبعة في التيمّم، فاعلم أنّ

اعتبارها إنّما يختصّ بحال الاختيار، و أمّا مع الاضطرار فيسقط المعسور و يكتفي بالميسور، و الظاهر عدم سقوطه لعدم دلالة أدلّة اعتبار تلك الأُمور على اعتبارها بنحو الإطلاق، بحيث يسقط التيمّم مع عدم إمكان رعايته و ثبوت الاضطرار في البين، بل غاية مدلولها هو الاعتبار بنحو الإجمال، و القدر المتيقّن خصوص صورة الاختيار، فراجع.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 449

[مسألة 2: يكفي ضربة واحدة للوجه و اليدين في بدل الوضوء و الغسل]

مسألة 2: يكفي ضربة واحدة للوجه و اليدين في بدل الوضوء و الغسل، و إن كان الأفضل ضربتين مخيّراً بين إيقاعهما متعاقبتين قبل مسح الوجه، أو موزّعتين على الوجه و اليدين، و أفضل من ذلك ثلاث ضربات: اثنتان متعاقبتان قبل مسح الوجه، و واحدة قبل مسح اليدين، و مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط بالضربتين، خصوصاً فيما هو بدل عن الغسل بإيقاع واحدة للوجه و اخرى لليدين، و الأولى الأحوط أن يضرب ضربة و يمسح بها وجهه و كفّيه، و يضرب اخرى و يمسح بها كفّيه. (1)

______________________________

(1) في كفاية ضربة واحدة و عدمها قد وقع الاختلاف في عدد الضربات في التيمّم، و قد نسب إلى المشهور كما عن «المنتهى» و «كشف اللثام» و «المختلف» و «مجمع البرهان» و غيرها التفصيل بين ما للوضوء و بين ما للغسل، باعتبار ضربة واحدة في الأوّل و ضربتين في الثاني، بل عن «الأمالي» أنّه من دين الإمامية، و عن ظاهر «التهذيب» و «التبيان» و «مجمع البيان» أنّه مذهب الشيعة، و قد اعتمد صاحب «الجواهر» على هذه الشهرة كمال الاعتماد، و زعم أنّها بمثابة يسوغ لأجلها المناقشة في الروايات و كلمات الأصحاب، و يجوز تأويلها بما لا ينطبق على ظاهرها، مع أنّ الظاهر أنّه ليس

كذلك؛ لأنّ المحكيّ عن ظاهر الصدوق في «المقنع» و «الهداية»، و السيّد في «الانتصار»، و ابن زهرة في «الغنية»، و ابن الجنيد و أبي عقيل و المفيد في «المسائل الغرية»، و عن «المعتبر» و «الذكرى» و غيرهم كفاية ضربة واحدة في الجميع، بل حكي اشتهاره بين العامّة عن على (عليه السّلام) و ابن عباس و عمّار.

بل هنا قول ثالث محكيّ عن جماعة من القدماء و منهم المفيد (قدّس سرّه) في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 450

..........

______________________________

الأركان، و هو اعتبار ضربتين في الكلّ.

و قول رابع حكاه في «المعتبر» عن قوم من أصحابنا، و هو اعتبار ثلاث ضربات، و ظاهره الاعتبار في الجميع من دون فرق بين ما للوضوء و ما للغسل.

و مع هذا الاختلاف لا مجال للاتّكال على الشهرة التي تكون بهذه المثابة، خصوصاً مع تراكم الأدلّة و كثرتها كتاباً و سنّة، فاللازم ملاحظة الأدّلة فقط.

فنقول: لا خفاء في أنّ مقتضى إطلاق الآية الكريمة هو الاجتزاء بالضربة الواحدة فيهما، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ التعرّض للتيمّم إنّما وقع عقيبه التعرّض للحدثين الأصغر و الأكبر، فدلالة الآية على الاجتزاء بالضربة خالية عن المناقشة.

في الروايات الدالّة على كفاية الضربة و أمّا الروايات فهي على طوائف:

الطائفة الاولى: و هي عمدتها ما هي ظاهرة في الاجتزاء بالواحدة مطلقاً، و هي كثيرة:

منها: الروايات الحاكية لفعل رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) تعليماً لعمّار، حكاه الإمام (عليه السّلام)، مثل صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

أتى عمّار بن ياسر رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقال: يا رسول اللّه، إنّي أجنبت الليلة فلم يكن معي ماء.

قال: كيف صنعت؟

قال: طرحت

ثيابي و قمت على الصعيد فتمعّكت فيه.

فقال: هكذا يصنع الحمار، إنّما قال اللّه عزّ و جلّ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 451

..........

______________________________

فضرب بيديه على الأرض، ثمّ ضرب إحداهما على الأُخرى، ثمّ مسح بجبينه، ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الأُخرى، فمسح اليسرى على اليمنى، و اليمنى على اليسرى «1».

فإنّه لا ريب في أنّ رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) كان في مقام تعليم عمّار و بيان ماهية التيمّم له، و عليه فهل يحتمل أن يكون (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) في هذا المقام خصوصاً بعد كون المورد هو التيمّم بدلًا عن الغسل، لأنّ عمّاراً كان جنباً قد أهمل ما يكون معتبراً في الماهية مطلقاً، أو في التيمّم بدل الغسل، أو أنّه يحتمل الإهمال في مقام نقل القصّة و حكاية عمل رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)؟

فهل الإهمال في هذا المقام من الإمام (عليه السّلام) مع أنّه كان في مقام بيان الحكم بهذه الكيفية؟ أو من الرواة مع أنّ فتح باب هذا الاحتمال يسدّ الاعتماد و الاحتجاج على الروايات مطلقاً؟

فلا محيص من أن يقال بدلالة مثلها من الروايات الحاكية على أنّه لا يعتبر في التيمّم مطلقاً التعدّد، و أنّ ما يدلّ عليه إطلاق الآية الشريفة هو الملاك.

و منها: رواية ابن أبي المقدام، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) أنّه وصف التيمّم فضرب بيديه على الأرض، ثمّ رفعهما فنفضهما، ثمّ مسح على جبينيه و كفّيه مرّة واحدة «2».

و دلالة الرواية على الاكتفاء بالواحدة لا تتوقّف على دعوى كون «مرّة واحدة» في ذيل الرواية قيداً للضرب، أو له و للمسح معاً،

نظراً إلى أنّ الضرب كان مورداً للنزاع و الخلاف عند العامّة و الخاصّة، لا المسح، بل تتمّ و لو على تقدير

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 452

..........

______________________________

كونه قيداً للمسح، لأنّ مقتضي إطلاقها في ناحية الضرب عدم لزوم التعدّد، كما لا يخفى.

و منها: موثّقة زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن التيمّم، فضرب بيده على الأرض، ثمّ رفعها فنفضها، ثمّ مسح بها جبينه و كفّيه مرّة واحدة «1».

و هي مثل الرواية المتقدّمة في الدلالة.

و منها: غير ذلك من الروايات التي يظهر منها الاجتزاء بالمرّة مطلقاً.

في الروايات الدالّة على اعتبار التعدّد الطائفة الثانية: ما تشتمل على التعدّد، كصحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن التيمّم.

فقال

مرّتين مرّتين، للوجه و اليدين «2».

قال العلّامة الماتن دام ظلّه العالي بعد نقل الرواية في «الرسالة»: «و محتملاتها كثيرة، ككون المرّتين قيداً للقول أو لأمر مقدّر كاضرب، أو أحدهما قيداً للقول و الآخر للأمر، ثمّ على فرض كونهما من متعلّقات الضرب يمكن أن يكون الثاني تأكيداً للأوّل، و يمكن أن يكون تأسيساً، لبيان أنّ اللازم في التيمّم أربع ضربات: ضربتان للوجه، و ضربتان لليدين، و الأظهر هو الاحتمال الأخير، فكأنّه قال: ضربتان للوجه، و ضربتان لليدين، و لا أقلّ من كون هذا الاحتمال في عرض احتمال التأكيد، مع أنّه ليس المورد من موارد التأكيد، فهذه الصحيحة بما لها من الظهور خلاف فتوى

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 11، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 453

..........

______________________________

الكلّ، أو هي مجملة في نفسها، لا بدّ من رفع إجمالها بسائر الروايات».

و رواية ليث المرادي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في التيمّم قال

تضرب بكفّيك على الأرض مرّتين، ثمّ تنفضهما و تمسح بهما وجهك و ذراعيك «1».

و هذه الرواية و إن كانت رافعة لإجمال الصحيحة المتقدّمة، و مبيّنة لعدم وجوب الزائد على مرّتين، فاللازم إمّا دعوى التأكيد فيها، و إمّا الحمل على اختلاف المتعلّق، إلّا أنّها ظاهرة في كون المرّتين قبل المسح مطلقاً و هو خلاف المشهور، بل الفتاوى مطلقاً، لأنّ الظاهر أنّ القائل بالتعدّد يوجب التفريق، بكون ضربة الوجه قبل مسحه، و ضربة اليدين بعده.

و صحيحة الكندي، عن الرضا (عليه السّلام) قال

التيمّم ضربة للوجه، و ضربة للكفّين «2».

و هي غير خالية عن الإشعار بالتفريق، لكنّ ظهور الرواية المتقدّمة مقدّم و محكم عليها.

في مفاد الروايات التفصيل الطائفة الثالثة: ما ادّعيت دلالتها على التفصيل، و جعلت شاهدة للجمع بين الطائفتين المتقدّمتين بعد تسلّم دلالة الثانية على الضربتين مع التفريق، و هي صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قلت له كيف التيمّم؟

قال

هو ضرب واحد للوضوء و الغسل من الجنابة، تضرب بيديك مرّتين، ثمّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمم، الباب 12، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 454

..........

______________________________

تنفضهما نفضة للوجه و مرّة لليدين، و متى أصبت الماء فعليك الغسل إن كنت جنباً، و الوضوء إن لم تكن جنباً «1».

قال صاحب «الوسائل» بعد نقل الرواية: «أقول: الأقرب أنّ المراد: التيمّم ضرب واحد، أي نوع واحد و قسم واحد للوضوء و الغسل، و ليس فيه اختلاف في

عدد الضربات، ثمّ تبيّن أنّ كلّ واحد من التيمّمين لا بدّ له من ضربتين، فلا يدلّ على التفصيل، بل يدلّ على بطلانه، و لا أقلّ من الاحتمال، و على ما فهمه بعضهم، فالمعنى غير صحيح إلّا بتقدير و تكلّف بعيد».

و هو و إن أجاد في تفسير الضرب الواحد بالنوع الواحد و القسم الواحد، و كذا في جعل «الواو» في قوله: «و الغسل من الجنابة»، حرف عطف و الغسل معطوفاً على الوضوء، إلّا أنّ ظاهر دلالة الرواية على اعتبار ثلاث ضربات في التيمّمين، لأنّ الظاهر أنّ قوله: «مرّة»، عطف على قوله: «مرّتين»، لا على «نفضة» فالمراد: مرّتين للوجه، و مرّة لليدين.

و على تقدير كون «الواو» للاستيناف، و الغسل مبتدأ، و تضرب خبره، يكون مفاد الرواية اعتبار ثلاث ضربات في ما هو بدل عن الغسل، و الاكتفاء بالواحد فيما هو للوضوء، و لا بدّ من تفسير الضرب الواحد حينئذٍ بالضرب المعتبر في باب التيمّم.

كما أنّه روى الرواية المحقّق في «المعتبر» بهذه الصورة

ضربة واحدة للوضوء، و للغسل من الجنابة تضرب بيديك مرّتين، ثمّ تنفضهما مرّة للوجه و مرّة لليدين

، و على هذه الصورة تصير الرواية دالّة على التفصيل؛ لظهورها في اختصاص

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 455

..........

______________________________

الضربة بالوضوء، و في أنّ قوله: «مرّة للوجه و مرّة لليدين» تفسير لمرّتين، لكنّه (قدّس سرّه) متفرّد بالنقل بهذه الصورة، و لا يجوز الاعتماد عليه.

و قد ذكر العلّامة (قدّس سرّه) في محكيّ «المنتهى» أنّه روى الشيخ في الصحيح، عن الصادق (عليه السّلام)

أنّ التيمّم للوضوء مرّة واحدة، و من الجنابة مرّتان

، و قد استفيد ممّا عن جمل المرتضى

و «الغنية» و غيرهما من نسبة التفصيل إلى رواية أصحابنا، و في «السرائر» نسبته إلى الأظهر في الروايات، و في محكيّ «المعتبر» قال: روي في بعض الأخبار التفصيل، من ذلك رواية حريز، عن زرارة، و عن الصيمري نسبة التفصيل إلى الروايات.

و لكنّه ربّما يناقش في صحيح «المنتهى» بأنّه قد طعن فيه جماعة منهم السيّد في «المدارك» بأنّه لا وجود له في كتب الشيخ و لا في غيرها، و إنّما هو توهّم من عبارة الشيخ في «التهذيب» توهّم ذلك، فإنّه بعد ما جمع بين الأخبار المتقدّمة بالحمل على التفصيل المذكور قال: مع أنّا أوردنا خبرين مفسرين لهذه الأخبار، أحدهما عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، و الآخر عن ابن أبي عمير، عن ابن أُذينة، عن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام)

أنّ التيمّم من الوضوء مرّة واحدة، و من الجنابة مرّتان ...

و من الظاهر بل المقطوع به أنّ ما ذكره حاصل ما فهمه من معنى الخبرين، لا متنهما؛ إذ المراد من الأوّل صحيح زرارة المتقدّم في بيان شاهد التفصيل، و من الثاني صحيح ابن مسلم الدالّ على التعدّد المذيّل بقوله

هذا التيمّم على ما كان فيه الغسل «1»

المحمول على التقيّة، لدلالته على لزوم مسح اليدين إلى

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 456

..........

______________________________

المرفقين، و مخالفته للأحاديث الكثيرة.

و احتمال أنّ العلّامة (قدّس سرّه) قد وقف على الخبر في كتب الشيخ من دون أن يقف عليه أحد غيره ممّا لا مجال له، خصوصاً مع اعتبار الوثوق في حجّية الرواية.

و أمّا المراسيل: فإن كان المراد بها هي المسانيد المتقدّمة فقد عرفت مفادها، و

عدم دلالة شي ء منها على التفصيل، و إن كان المراد بها غيرها فلا حجّية فيها، و مجرّد الموافقة لفتوى المشهور غير كاف، خصوصاً بعد عدم ثبوت الشهرة، كما عرفت.

ثمّ إنّه مع الغضّ عن جميع ما ذكر كيف يمكن حمل الطائفة الأُولى الدالّة على الاكتفاء بالمرّة على التيمّم بدلًا عن الوضوء مع أنّ مورد غالبها الجنابة، كما في الروايات الحاكية لقصّة عمّار؟! و كيف يصحّ دعوى حمل الطائفة الثانية الدالّة على لزوم التعدّد على التيمّم بدلًا عن الغسل مع أنّها في مقام بيان أصل الماهية، و ليس الابتلاء به بأكثر من الابتلاء بما هو بدل عن الوضوء، كما لا يخفى؟! فهذا ليس جمعاً مقبولًا عند العقلاء مخرجاً للطائفتين عن التعارض، خصوصاً مع أنّه يوجد في الروايات ما تدلّ بصراحتها على عدم الفرق بين الوضوء و الغسل من جهة التيمّم، كموثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن التيمّم من الوضوء و الجنابة و من الحيض للنساء سواء.

فقال

نعم «1».

و عليه فلا محيص من الالتزام بمفاد الطائفة الاولى، و حمل الطائفة الثانية إمّا على الاستحباب، و إمّا على التقيّة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 457

..........

______________________________

في مفاد مجموع الروايات ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أمران:

أحدهما: أنّه بمقتضى الطائفة الثانية لا ينبغي ترك الاحتياط في مطلق التيمّم، خصوصاً فيما هو بدل عن الغسل بالضربتين، كما حكي عن جماعة من القدماء بإيقاع واحدة للوجه و إيقاع أُخرى لليدين بعد مسح الوجه، و أحوط من ذلك أن يمسح عقيب الضربة الأُولى المسح و اليدين، ثمّ يمسح اليدين فقط عقيب الضربة الثانية.

و وجه كونه أحوط

أنّه قد روعي في هذا النحو مفاد الطائفة الأُولى بنحو الكمال، حيث لا يجري فيه احتمال أن يكون الضرب الثاني موجباً لكون مسح اليدين بأثره، لا بأثر الضرب الأوّل، فتدبّر.

و ممّا ذكرنا ظهر وجه الاستحبابين المذكورين في المتن.

ثانيهما: أنّه لا فرق في كيفية التيمّم الذي يكون بدلًا عن الغسل بين الأغسال أصلًا جنابة كانت أو غيرها، واجبة كانت أو مستحبّة، قولًا واحداً كما عن «الجواهر» و يدلّ عليه مضافاً إلى إطلاق كثير من الروايات المتقدّمة، و إلى موثّقة عمّار المتقدّمة أيضاً، موثّقة أبي بصير في حديث قال: سألته عن تيمّم الحائض و الجنب سواء إذا لم يجدا ماءً.

قال

نعم «1».

مضافاً إلى أنّ من المعلوم عدم الفصل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 12، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 458

[مسألة 3: العاجز يتيمّمه غيره]

مسألة 3: العاجز يتيمّمه غيره، لكن يضرب الأرض بيدي العاجز ثمّ يمسح بهما، و مع فرض العجز عن ذلك يضرب المتولّي بيديه و يمسح بهما، و لو توقّف وجوده على اجرة وجب بذلها و إن كانت أضعاف أُجرة المثل على الأحوط ما لم يضرّ بحاله. (1)

______________________________

في تيمّم العاجز

(1) تعتبر في التيمّم المباشرة حال الاختيار، فلو يمّمه غيره مع قدرته لا يصحّ بلا إشكال، و عن «المنتهى» لا خلاف عندنا في أنّه لا بدّ من المباشرة بنفسه، و نفى عنه الريب في محكيّ «المدارك».

و الدليل عليه: هو ظهور الأدلّة فيها كسائر الموارد، لظهور الأوامر في لزوم المباشرة و إن وقع البحث في أنّ هذا الظهور هل يكون وضعياً، نظراً إلى أنّ المتبادر من هيئة الأمر هو بعث المأمور لإيجاد المأمور به، فالمباشرة مفهومة من ظاهر الهيئة، لا بمعنى دخول مفهوم

اسمي في مفاد الهيئة، بل بمعنى وضعها لنفس الإغراء المتوجّه إلى الغير بوجه يكون المبعوث خارجاً عنه كخروج القيد و دخول التقيّد بوجه؟

أو أنّه يكون لأجل الانصراف، نظراً إلى أنّ التبادر المذكور لا يكون مستنداً إلى نفس الهيئة، بل منشؤه كثرة الاستعمال بنحو أوجبت الانصراف؟

أو أنّه لأجل حكم العقل كحكمه باللزوم في مفاد هيئة الأمر على ما حقّق في محلّه؟

و بالجملة: لا إشكال و لا خلاف في اعتبار المباشرة مع القدرة، و أمّا مع العجز فمقتضى القاعدة سقوط التكليف، لكنّه في المقام قام الدليل على جواز الاستنابة، بل وجوبها بلا خلاف كما في «الجواهر»، و في «المدارك» نسبته إلى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 459

..........

______________________________

علمائنا، و هي الروايات الكثيرة الدالّة عليه:

كصحيحة محمّد بن مسكين، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة و هو مجدور، فغسّلوه فمات.

فقال

قتلوه، ألّا سألوا؟! ألّا يمّموه؟! إنّ شفاء العيّ السؤال «1».

و مرسلة ابن أبي عمير، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

يؤمّم المجدور و الكسير إذا أصابتهما جنابة «2».

هذا فيما رواه حسين بن سعيد عنه، و أمّا فيما رواه إبراهيم بن هاشم عنه فبدل «يؤمّم» «يتيمّم» «3».

و عليه فلا ترتبط بالمقام، كما أنّ ارتباط الأُولى إنّما هو على تقدير كون «يؤمّم» مبنياً للمفعول، كما لا تبعد دعوى ظهوره، و أمّا على تقدير كونه مبنياً للفاعل كما ربّما يحتمل فلا ارتباط لها بالمقام أيضاً.

و مثلها مرسلة الصدوق المعتبرة أيضاً قال: و قال الصادق (عليه السّلام)

المبطون و الكسير يؤمّمان و لا يغسلان «4».

و كيف كان: فلا إشكال في أصل الحكم، كما أنّه لا إشكال في أنّه يقتصر على مقدار

يعجز عنه المكلّف، فالمتولّي للنيّة هو نفس المكلّف، كما أنّه يضرب الأرض بيدي العاجز ثمّ يمسح بهما؛ لأنّ ضرب اليدين دخيل في حقيقة التيمّم و إن وقع البحث في كون المدخلية هل هي بنحو الشطرية، أو الشرطية؟ كما تقدّم الكلام فيه، و ليس حال الضرب في التيمّم حال الاغتراف في الوضوء أو الغسل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 10.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 4.

(4) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 5، الحديث 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 460

..........

______________________________

نعم، مع عدم إمكان ضرب يدي العاجز ينوب عنه الغير بأن يضرب يديه على الأرض ثمّ يمسح بهما وجه العاجز و يديه، و حكى في «الذكرى» عن الكاتب: أنّه يضرب الصحيح بيده ثمّ يضرب بها يدي العليل.

و قد أُورد عليه: بأنّه مع دوران الأمر بين سقوط ما يتيمّم به و سقوط آلية اليد، لا شبهة في سقوط الثاني، و من الواضح أنّ ضرب اليد على اليد المضروبة على الأرض لا يكون ضرباً عليها، أ لا ترى أنّه لو دار الأمر بين سقوط آلية اليد و التيمّم بالحديد مثلًا اختياراً، لا يحتمل تقديم الثاني، و ضرب اليد على اليد كضربها على الحديد، و لعلّه لأجل ما ذكر قال في «الذكرى» بعد النقل المذكور: و لم نقف على مأخذه.

و لو تمكّن من المسح بيدي العليل، و لم يتمكّن من الضرب بهما، ففي محكيّ «كشف اللثام»: «لا يبعد وجوب ضرب الصحيح يديه على الأرض، ثمّ ضربهما على يدي العليل، ثمّ المسح بيدي العليل على أعضائه كما قال أبو علي».

و فيه: ما عرفت من

أنّ ضرب اليد المضروبة على الأرض على يدي العليل لا يوجب تحقّق الضرب على الأرض بالإضافة إلى العاجز، فلا مجال لما ذكر.

ثمّ إنّه لو توقّف وجود الغير و الاستعانة به في التيمّم على اجرة وجب بذلها و إن كانت أضعاف أُجرة المثل ما لم يضرّ بحاله، و الدليل عليه هو ما تقدّم في الوضوء و وجوب اشتراء مائه و لو كان ثمنه كذلك، نظراً إلى التعليل الوارد فيه الراجع إلى أنّ ما يشتري به مال كثير، فإنّ مقتضاه لزوم بذل الأُجرة في المقام أيضاً؛ ليتحقّق التيمّم الذي هو شرط لصلاته، بل هنا أولى، لأنّ الوضوء له بدل و يمكن أن لا يكون اشتراء مائه واجباً، لثبوت البدل له بخلاف التيمّم، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 461

[مسألة 4: من قطعت إحدى يديه ضرب الأرض بالموجودة]

مسألة 4: من قطعت إحدى يديه ضرب الأرض بالموجودة و مسح بها جبهته، ثمّ مسح ظهرها بالأرض، و الأحوط الجمع بينه و بين تولية الغير إن أمكن، بأن يضرب يده على الأرض و يمسح بها ظهر كفّ الأقطع.

و من قطعت يداه يمسح بجبهته على الأرض، و الأحوط تولية الغير أيضاً إن أمكن، بأن يضرب يديه على الأرض و يمسح بهما جبهته، هذا كلّه فيمن ليس له ذراع، و إلّا فتيمّم بها و بالموجودة، و الأحوط مسح تمام الجبهة و الجبينين بالموجودة بعد المسح بها و بالذراع على النحو المتعارف، هذا في الصورة الاولى، و كذا الكلام في الثانية، فمقطوع اليدين لو كان له الذراع تيمّم بها، و هو مقدّم على مسح الجبهة على الأرض و على الاستنابة، بل الأحوط تنزيل الذراع منزلة الكفّين في المسح على ظهرهما في مقطوع اليدين، و على ظهر

المقطوع في الآخر. (1)

______________________________

(1) في هذه المسألة فرعان:

فيمن قطعت إحدى يديه الأوّل: الأقطع بإحدى اليدين، و فيه فرضان:

الفرض الأوّل: الأقطع بها و عدم ثبوت الذراع له، و لا إشكال في وجوب التيمّم و عدم سقوطه بالإضافة إليه، لقاعدة الميسور، و مقتضاها الاكتفاء بضرب اليد الموجودة بالأرض و مسح الجبهة بها، ثمّ مسح ظهرها بالأرض، و لكنّ الاحتياط يقتضي الجمع بينه، و بين تولية الغير مع الإمكان، بأن يضرب يده على الأرض و يمسح بها ظهر كفّ الأقطع.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 462

..........

______________________________

و الظاهر أنّ المراد باليد فيه هي اليد المغايرة لليد الموجودة للأقطع، و هي اليد التي تكون مكان يد الأقطع المقطوعة.

و لكنّه ذكر في «العروة»: «و الأحوط الاستنابة لليد المقطوعة، فيضرب بيده الموجودة مع يد واحدة للنائب و يمسح بها جبهته و يمسح النائب ظهر يده الموجودة، و الأحوط مسح ظهرها على الأرض أيضاً».

أقول: رعاية الجمع بين الكيفيات المحتملة تقتضي الجمع بين مسح تمام الجبهة باليد الموجودة، و بين مسحه بها و بيد واحدة للنائب، كما أنّها تقتضي الجمع بين مسح ظهر اليد الموجودة على الأرض، و بين مسح النائب إيّاها.

و عليه فكلّ من الكيفيتين المذكورتين إحداهما هنا، و الأُخرى في «العروة» بعنوان الاحتياط المقتضي للجمع، لا يكون احتياطاً جامعاً للكيفيات المحتملة، كما لا يخفى.

الفرض الثاني: الأقطع بإحدى اليدين مع ثبوت الذراع له، و هو تارة يكون مقطوع الإصبع فقط، و اخرى تكون كفّاه مقطوعتين من الزند.

ففي الأوّل: لا يبعد أن يقال بأنّ المستفاد من نفس الخطاب المتوجّه إلى المكلّفين و لو كان لأجل مناسبات مغروسة في الأذهان دخوله تحت الخطاب، فيتيمّم باليد الموجودة السليمة و الناقصة، كما

في باب الوضوء، فإنّ قوله تعالى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ لا يكون منحصراً بالسالم من جهة الوجه و الأيدي، ضرورة أنّ ذا اليد الناقصة مثلًا لا يستفيد من الآية إلّا وجوب غسلها أيضاً كاليد السليمة، بل ذكر الماتن دام ظلّه في «رسالة التيمّم»: «لا يبعد أن يقال: إنّ الكفّ كاليد و الرجل صادقة على الكلّ و البعض، لكن ينصرف مثل قوله: «اضرب كفّيك» إلى ضرب جميعهما، و هو يتمّ مع سلامة الكفّ، و مع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 463

..........

______________________________

نقصها، يصدق أنّه ضرب كفّيه على الأرض حقيقة».

و في الثاني: مقتضى إطلاق المتن أنّه يتيمّم بها و بالموجودة، و ظاهره قيام الذراع مقام الكفّ في المسح على الجبهة و المسح على ظهرها، فقيامها مقامه إنّما هو في جميع الجهات، و لكنّ قوله في الذيل: «بل الأحوط تنزيل الذراع منزلة الكفّين.» يشعر بعدم كون المراد من التيمّم بها و قيامها مقام الكفّ إلّا القيام مقامه في المسح على الجبهة، لا في المسح على ظهرها أيضاً، و وجه الفرق عدم شمول الخطابات للذراع؛ لعدم كونها جزء للكفّ، و عدم كون مسح الذراعين ميسور مسح الكفّين، و إلّا لصحّ أن يقال بلزوم مسح الرجل أو سائر الجسد بدل اليد إذا قطعت يداه من الأصل.

و كيف كان: فمقتضى الاحتياط مسح تمام الجبهة و الجبينين باليد الموجودة السليمة بعد المسح بها و بالذراع على النحو المتعارف، كما أنّ الأحوط تنزيل الذراع منزلة الكفّين في المسح على ظهرها.

فيمن قطعت يداه الفرع الثاني: الأقطع بكلتا اليدين فإن لم يكن له ذراع أيضاً، فاللازم بعد عدم سقوط التيمّم لأجل أنّه لا تترك الصلاة بحال مسح الجبهة

على الأرض، و لكنّ الأحوط تولية الغير أيضاً، بأن يضرب يديه على الأرض و يمسح بهما جبهته.

و إن كان له ذراع، فإن كان مقطوع الإصبع فقط، فالحكم فيه ما تقدّم من وجوب التيمّم باليدين الناقصتين، و عدم منافاته للضرب بالكفّ المأمور به في باب التيمّم؛ لأنّ وجوب ضرب الجميع إنّما هو مع سلامة الكفّ دون نقصها، فإنّه يكتفي فيه بالمقدار الموجود كما في باب الوضوء.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 464

[مسألة 5: في مسح الجبهة و اليدين يجب إمرار الماسح على الممسوح]

مسألة 5: في مسح الجبهة و اليدين يجب إمرار الماسح على الممسوح، فلا يكفي جرّ الممسوح تحت الماسح، نعم لا تضرّ الحركة اليسيرة في الممسوح إذا صدق كونه ممسوحاً. (1)

______________________________

و إن كان مقطوعاً من الزندين، فالحكم فيه يعلم من مثله في الفرع الأوّل من دون فرق، إلّا في أنّه لا يجري هنا الاحتياط المذكور هناك في مسح الجبهة، كما لا يخفى.

(1) في وجوب إمرار الماسح وجوب إمرار الماسح على الممسوح و عدم كفاية جرّ الممسوح تحت الماسح إنّما هو لعدم تحقّق معنى المسح بدونه، فإنّ المسح مغاير للمسّ الذي يكفي فيه مجرّد الاتّصال و المماسّة، ضرورة أنّه يعتبر فيه الحركة، كما أنّه لا يكفي فيه حركة الممسوح و جرّه تحت الماسح، بل يعتبر فيه حركة الماسح و إمراره.

و لكنّه ذكر في «المستمسك»: «أنّه لا يخلو عن إشكال، لصحّة قولنا: «مسحت يدي بالجدار أو بالأرض» بلا عناية، و لا تجوّز، و حمله على القلب خلاف المرتكز منه عرفاً؛ إذ المصحّح لدخول الباء على آلة المسح ليس هو مرورها على الممسوح مع سكونه، بل المصحّح كون الآلة غير مقصودة بالأصالة، فإذا كانت الأرض قذرة صحّ قولنا: «امسح الأرض بيدك»، و لا

يصحّ قولنا: «امسح يدك بالأرض»، و إذا كانت الأرض قذرة كان الأمر بالعكس، و إذا أُريد تطهير الجبهة باليد لما في اليد من الأرض صحّ قولنا: «امسح الجبهة بيدك»، و لا يصحّ «امسح يدك بالجبهة» و إذا أُريد العكس كان الأمر بالعكس، فالمصحّح لدخول الباء على الشي ء و كونه ملحوظاً آلة لإحداث أثر في الممسوح، لا مروره و حركته على الممسوح مع سكونه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 465

..........

______________________________

كما يظهر بالتأمّل في موارد الاستعمال، فتأمّل جيّداً».

أقول: ليس البحث في المصحّح لدخول الباء على الشي ء في باب المسح، بل الكلام في معنى المسح و حقيقته المتقوّمة بوجود الماسح و الممسوح، و أنّه يعتبر في تحقّق هذه الحقيقة إمرار الماسح و جرّه على الممسوح، و أنّه لا يكفي العكس، خصوصاً بعد عدم اشتمال آية التيمّم على آلة المسح و عدم التعرّض لها، و كون الباء في قوله تعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ .. للتبعيض، كما عرفت الكلام فيه مفصّلًا.

فالظاهر ما أفاده في المتن، نعم لا تضرّ الحركة اليسيرة في الممسوح مع صدق كونه ممسوحاً، لما مرّ من الملاك.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 467

[القول في أحكام التيمّم]

اشارة

القول في أحكام التيمّم

[مسألة 1: لا يصحّ التيمّم على الأحوط للفريضة قبل دخول وقتها]

مسألة 1: لا يصحّ التيمّم على الأحوط للفريضة قبل دخول وقتها و إن علم بعدم التمكّن منه في الوقت على إشكال، و الأحوط احتياطاً لا يترك لمن يعلم بعدم التمكّن منه في الوقت إيجاده قبله لشي ء من غاياته، و عدم نقضه إلى وقت الصلاة مقدّمة لإدراكها مع الطهور في وقتها، بل وجوبه لا يخلو من قوّة.

و أمّا بعد دخول الوقت، فيصحّ و إن لم يتضيّق مع رجاء ارتفاع العذر في آخره و عدمه، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط مع رجاء ارتفاعه، و مع العلم بالارتفاع يجب الانتظار، و الأحوط مراعاة الضيق مطلقاً، و لا يعيد ما صلّاه بتيمّمه الصحيح بعد ارتفاع العذر من غير فرق بين الوقت و خارجه. (1)

______________________________

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين:

في التيمّم قبل الوقت المقام الأوّل: التيمّم قبل دخول وقت الفريضة لأجلها، و لا خلاف ظاهراً في عدم صحّة هذا التيمّم، و استفاض نقل الإجماع عليه، بل بلغ النقل من زمان المحقّق و من بعده إلى ثلاثة عشر أو أكثر، و لو انضمّ إليه فحوى الإجماعات المنقولة على عدم الصحّة في سعة الوقت يكاد يتجاوز عن العشرين.

و الظاهر أنّ الدليل على عدم الجواز هي الفتاوى الكاشفة عن المعهودية من الصدر الأوّل، و لا يكون مستنداً إلى الدليل العقلي المتوهّم في المقام، و هو أنّ الصلاة من قبيل الواجب المشروط بالإضافة إلى الأوقات، و قبل مجي ء وقتها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 468

..........

______________________________

لا يكون التكليف بها فعلياً، و مع عدم فعلية وجوب ذي المقدّمة لا تعقل فعلية وجوبها؛ لعدم إمكان تحقّق المعلول قبل علّته، و معه كيف يمكن أن يقع

التيمّم صحيحاً مع توقّفه على الإتيان به بداعي الأمر و هو غير متحقّق؟! أمّا أوّلًا: فلإمكان المناقشة بل النظر في كون الصلاة من قبيل الواجب المشروط بالإضافة إلى الوقت، نظراً إلى إمكان دعوى ظهور الكتاب و السنّة في الوجوب التعليقي، كقوله تعالى أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ، و قول أبي جعفر (عليه السّلام) في صحيحة زرارة

إنّما فرض اللّه عزّ و جلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً و ثلاثين صلاة.

فالوجوب فعلي و الواجب استقبالي، لا لأجل عدم إمكان الواجب المشروط على الطريقة المشهورة، بل لأجل الظهور في غيره، كما هو ظاهر.

و أمّا ثانياً: فلعدم كون المقدّمة واجبة بالوجوب الشرعي الغيري، و قد حقّقناه في محلّه من الأُصول.

و أمّا ثالثاً: فلعدم كون الأمر الغيري صالحاً لتصحيح العبادية، كما قرّر في محلّه أيضاً.

و أمّا رابعاً: فلإمكان وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها؛ لأنّ مرجع الملازمة التي يدّعيها القائل بوجوب المقدّمة ليس إلى ثبوت وجوب شرعي غير اختياري متعلّق بالمقدّمة، بحيث كان البعث إليها معلولًا للبعث إليه، و كان الآمر مقهوراً في البعث إليها من دون حصول مقدّمات البعث، بل مرجعها إلى ثبوت وجوب اختياري، ناشٍ من مقدّماته التي هي عبارة عن تصوّر المقدّمة و تصوّر المقدّمية و التصديق بها و إدراك لزوم حصولها قبله بفعل العبد، و إذا كان كذلك لا يبقى فرق بين الواجب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 469

..........

______________________________

المطلق و الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه، و بينه قبل تحقّقه، فإنّه للمولى أن يبعث إلى المقدّمة قبل تحقّق شرط الوجوب، لتمامية مبادئ البعث إليها، خصوصاً فيما إذا رأى عجز المكلّف عن تحصيلها بعد تحقّق الشرط المذكور، لكنّه

لا ينحصر بصورة رؤية العجز، بل يعمّ غير هذه الصورة أيضاً.

فانقدح: أنّه لا تكون الفتاوى مستندة إلى الأمر العقلي المذكور لعدم تماميته، و لكن موردها ما إذا تيمّم قبل الوقت للصلاة المشروطة به، و بهذا يقع الإشكال في الفرق بينه و بين الوضوء التأهّبي التهيّئي المفتى به عندهم، بناء على كون المراد به هو الوضوء للصلاة قبل وقتها، لأنّ التهيّؤ للفريضة عبارة أُخرى عن كونه لها، فإنّه حينئذٍ لا يبقى فرق بين الوضوء و بين التيمّم.

نعم، لو كان المراد به هو الوضوء لأجل الكون على الطهارة، أو قيل بأنّ نفس التهيّؤ للصلاة غاية أُخرى غير كونه لها المساوق للغيرية، يرتفع الإشكال.

و ربّما يقال في مقام الفرق: بأنّ نظر الأصحاب في الإجماع على عدم صحّة التيمّم قبل الوقت ما يقابل صحّته آخر الوقت و صحّته في السعة، فإنّ عباراتهم في بيان الحكم المذكور هكذا: «لا يصحّ التيمّم قبل الوقت إجماعاً، و يصحّ في آخر الوقت إجماعاً، و في صحّته في سعة الوقت خلاف».

فكأنّ نظرهم إلى أنّ فقدان الماء قبل الوقت غير مجز في صحّة التيمّم و صحّة الصلاة به إجماعاً، و فقدانه في سعة الوقت محلّ الخلاف، و فقدانه في آخر الوقت مجز في الصحّة إجماعاً، فكأنّهم قصدوا الإجماع على اعتبار الفقدان في الوقت في مقابل الفقدان قبله فإنّه لا يكفي في صحّة التيمّم و لو قلنا بتعلّق الأمر الغيري به لعدم الدليل على الاجتزاء بذلك، و أدلّة التشريع واردة في فقدان الماء في الوقت لا غير.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 470

..........

______________________________

و يمكن الاستشكال فيه: بأنّ مقتضى إطلاق كلامهم عدم صحّة التيمّم قبل الوقت و لو مع العلم بالفقدان فيه

و في جميع الوقت، بحيث كان نظرهم إلى نفس وقوعه قبل الوقت الذي يكون الوجوب مشروطاً به، و عليه فلا مجال لحمل عباراتهم على الفقدان.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ القدر المتيقّن من معاقد الإجماعات المنقولة المستفيضة صورة عدم العلم ببقاء الفقدان في تمام أجزاء الوقت، و لكن مع ذلك حمل عباراتهم على ما ذكر بلا شاهد.

و أشدّ إشكالًا ممّا ذكر: أنّ الأصحاب مع حكمهم بعدم صحّة التيمّم قبل الوقت، قد ادّعي إرسالهم صحّة التيمّم قبل الوقت لغاية أُخرى حتّى الكون على الطهارة إرسال المسلّمات.

و الوجه في الإشكال: أنّ مورد الإجماع الأوّل كما عرفت و إن كان هو التيمّم للفريضة بحيث كانت الفريضة غاية له، إلّا أنّ الظاهر كون الطهارة المترتّبة على التيمّم واسطة، بمعنى كون الصلاة مشروطة بالطهارة، و الغاية الأوّلية ليست إلّا نفس الطهارة، و عليه فالتيمّم للفريضة مرجعه إلى التيمّم للطهارة التي هي شرط الفريضة من دون فرق بين الوقت و قبله.

و حينئذٍ كيف يجتمع الحكم بعدم الصحّة قبل الوقت إذا أتى به لغاية الفريضة، مع الحكم بالصحّة قبله إذا أتى به لغاية أُخرى، حتّى الكون على الطهارة، مع أنّ الغاية الأوّلية المترتّبة دائماً هي الطهارة، و الفريضة مشروطة بها؟! إلّا أن يقال بالفرق من جهة الغاية الثانوية، و أنّها إذا كانت الفريضة فيتحقّق البطلان في التيمّم قبل الوقت، و إذا كانت غيرها، أو لم تكن هناك غاية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 471

..........

______________________________

ثانوية، فاللازم هي الصحّة، و لكنّه بعيد جدّاً.

و كيف كان: إن فرض فرق فهو مستند لا محالة إلى الإجماع، و لا يمكن تطبيقه على القواعد، فتدبّر.

و ممّا ذكرنا ظهر وجه استشكال المتن في الحكم

بعدم الصحّة مع العلم ببقاء الفقدان إلى آخر الوقت، كما أنّه ظهر وجه الاحتياط في صورة العلم المذكورة بالإتيان بالتيمّم قبل الوقت لغاية أُخرى غير الفريضة، ثمّ إبقائه و عدم نقضه إلى أن يصلّي معه، كما أنّه ظهر أيضاً أنّ عدم خلو الحكم بالوجوب عن القوّة الراجع إلى الفتوى به إنّما هو لما ذكرناه أخيراً.

في التيمّم في الوقت المقام الثاني: في التيمّم في الوقت، و الكلام فيه يقع في فرضين:

الأوّل: في التيمّم في ضيق الوقت، و لا إشكال و لا كلام في صحّته، و قد عرفت الإجماع عليها، و هو القدر المتيقّن من موارد التيمّم، و قد تقدّم أنّه من جملة الأعذار المسوّغة للتيمّم ضيق الوقت عن استعمال الماء الموجود، فمع فقدانه أو سائر الأعذار يصحّ التيمّم بلا ريب.

الثاني: التيمّم في سعة الوقت، و فيه خلاف، فالمنسوب إلى المشهور أو الأشهر أو الأكثر أو الإجماع هو عدم الجواز مطلقاً، و عن جملة من كتب الأساطين من المتقدّمين و المتأخّرين هو الجواز مطلقاً، بل عن «المهذّب البارع» أنّه مشهور كالقول الأوّل، و حكى إطباق جمهور العامّة عليه.

و عن جماعة التفصيل بين صورة العلم باستمرار العجز فيصحّ، و عدمه فلا يصحّ،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 472

..........

______________________________

و عن «جامع المقاصد» أنّ عليه أكثر المتأخّرين، و عن «الروضة» أنّه الأشهر بين المتأخّرين.

و هنا قول رابع: و هو التفصيل بين صورة العلم برفع العذر فلا يجوز، و غيرها فيجوز، و اختاره جماعة من متأخّري المتأخّرين، و يحتمل أن يكون القول الأوّل راجعاً إليه، بدعوى انصرافه عن هذه الصورة كما لا تبعد.

و كيف كان: فاللازم ملاحظة الأدلّة اللفظية بعد تراكم الآراء، و عدم سهولة تحصيل

الشهرة، فضلًا عن الإجماع، بل عدم إمكانه.

فنقول: قد استدلّ للجواز مطلقاً بالكتاب و السنّة:

أمّا الكتاب: فإطلاق الآية الكريمة الواردة في التيمّم حيث إنّ مقتضاها تسويغ التيمّم مع العذر في أيّ زمان أراد الصلاة.

و قد استشكل في الاستدلال بها السيّد المرتضى (قدّس سرّه) في «الانتصار»، و ملخّصه: «أنّ المراد من قوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ .. إذا أردتم القيام بلا خلاف، ثمّ أتبع ذلك بحكم العادم للماء، فمن تعلّق بالآية لجواز التيمّم في أوّل الوقت لا بدّ أن يدلّ على جواز إرادته القيام للصلاة، فإنّا نخالف ذلك و نقول ليس لمن عدم الماء أن يريدها أوّل الوقت، و إرادة الصلاة شرط في الجملتين، و إلّا لزم وجوب التيمّم على المريض و المسافر إذا حدثا و إن لم يريدا الصلاة، و هذا لا يقول به أحد».

و قد أُجيب عنه:

أوّلًا: بعدم كون إرادة القيام إلى الصلاة شرطاً للوضوء أو التيمّم أو وجوبهما، بل الآية الكريمة مسوقة لإفادة شرطية الطهور للصلاة، كما هو المتفاهم عرفاً في أشباه هذه التراكيب، سيّما في مثل العناوين الآلية و الطريقية المأخوذة في تلو الشرط.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 473

..........

______________________________

و ثانياً: بأنّ إرادة القيام إلى الصلاة على تقدير شرطيتها تكون مدخليتها في الوضوء و الغسل و التيمّم على نسق واحد، كما يقتضيه ظاهر الكريمة، ففي كلّ مورد أراد القيام إلى الصلاة يجب عليه الطهارة المائية مع الإمكان، و الترابية مع العجز من دون فرق و تفكيك بين الطهارتين المائية و الترابية من هذه الجهة، فإذا أراد القيام إلى الصلاة أوّل الوقت يتحقّق بالإضافة إليه شي ء كلا الفرضين، كما أنّه في آخر الوقت كذلك، فلا مجال للتفكيك أصلًا.

فالإنصاف:

تمامية إطلاق الآية و صلاحيتها للاستدلال بها على جواز التيمّم في السعة، خصوصاً مع ملاحظة الذيل الدالّ على أنّ تشريع التيمّم إنّما هو لدفع الحرج عن المريض و غيره، فإنّ مقتضاه عدم لزوم الصبر على المريض و الفاقد إلى الغروب و إلى نصف الليل أو آخره، كما لا يخفى.

و أمّا السنّة: فعلى طوائف:

الطائفة الأُولى: ما دلّت على الصحّة مع التصريح بسعة الوقت مع الحكم بعدم لزوم الإعادة، مثل موثّقة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن رجل تيمّم و صلّى، ثمّ بلغ الماء قبل أن يخرج الوقت.

فقال

ليس عليه إعادة الصلاة «1».

و صحيحة يعقوب بن سالم أو موثّقته، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في رجل تيمّم و صلّى، ثمّ أصاب الماء و هو في وقت.

قال

قد مضت صلاته و ليتطهّر «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 11.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 474

..........

______________________________

و رواية علي بن أسباط، عن علي بن سالم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قلت له: أتيمّم و أُصلّي، ثمّ أجد الماء و قد بقي عليّ وقت.

فقال

لا تعد الصلاة، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد ...

الحديث «1».

و صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): فإن أصاب الماء و قد صلّى بتيمّم و هو في وقت.

قال

تمّت صلاته و لا إعادة عليه «2».

و الظاهر أنّ قول السائل: «و هو في وقت» متعلّق بقوله: «فإن أصاب الماء»، لا بقوله: «و قد صلّى بتيمّم»، خصوصاً مع التعبير بنفي الإعادة.

و رواية معاوية بن ميسرة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل في

السفر لا يجد الماء، تيمّم فصلّى، ثمّ أتى الماء و عليه شي ء من الوقت، أ يمضي على صلاته، أم يتوضّأ و يعيد الصلاة؟

قال

يمضي على صلاته، فإنّ ربّ الماء هو ربّ التراب «3».

و المستفاد من هذه الروايات مفروغية جواز التيمّم و صحّته في سعة الوقت و الدخول معه في الصلاة، و إنّما كان مورد السؤال و الشكّ هي الإعادة و لزومها بعد وجدان الماء و قد بقي من الوقت مقدار الصلاة مع الوضوء، فأصل الحكم مفروغ عنه عند السائلين، و قد قرّرهم الإمام (عليه السّلام) على ذلك.

و من هذه الطائفة مرسلة حسين العامري، عمّن سأله عن رجل أجنب فلم

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 17.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 9.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 475

..........

______________________________

يقدر على الماء، و حضرت الصلاة فتيمّم بالصعيد، ثمّ مرّ بالماء و لم يغتسل، و انتظر ماء آخر وراء ذلك، فدخل وقت الصلاة الأُخرى و لم ينته إلى الماء، و خاف فوت الصلاة.

قال

يتيمّم و يصلّي، فإنّ تيمّمه الأوّل انتقض حين مرّ بالماء و لم يغتسل «1».

و غير ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة الظاهرة في جواز التيمّم في السعة، و عدم لزوم الإعادة.

الطائفة الثانية: ما تدلّ بالإطلاق على الصحّة في السعة مع التصريح بعدم لزوم الإعادة.

مثل: صحيحة الحلبي أنّه سأل أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل إذا أجنب و لم يجد الماء.

قال

يتيمّم بالصعيد فإذا وجد الماء فليغتسل و لا يعيد الصلاة «2».

و صحيحة الأُخرى قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول

إذا لم يجد الرجل طهوراً

و كان جنباً فليتمسّح من الأرض و ليصلّ، فإذا وجد ماء فليغتسل و قد أجزأه صلاته التي صلّى «3».

و مثلها صحيحة ابن سنان، «4» و غيرها من الروايات الواردة بهذا المضمون.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على الصحّة مع الأمر بالإعادة في الوقت عند ارتفاع العذر:

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 19، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 4.

(4) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 476

..........

______________________________

مثل: صحيحة عبد اللّه بن سنان أنّه سأل أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة، و يخاف على نفسه التلف إن اغتسل.

فقال

يتيمّم و يصلّي، فإذا أمن من البرد اغتسل و أعاد الصلاة «1».

و مثلها مرسلة جعفر بن بشير، عمّن رواه عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) «2».

و صحيحة يعقوب من يقطين قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن رجل تيمّم فصلّى، فأصاب بعد صلاته ماءً، أ يتوضّأ و يعيد الصلاة، أم تجوز صلاته.

قال

إذا وجد الماء قبل أن يمضي الوقت توضّأ و أعاد، فإن مضى الوقت فلا إعادة عليه «3».

و موثّقة منصور بن حاذم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في رجل تيمّم فصلّى، ثمّ أصاب الماء.

فقال

أمّا أنا فكنت فاعلًا، إنّي كنت أتوضّأ و أُعيد «4».

و هذه الطوائف الثلاث مشتركة في إفادة صحّة التيمّم في السعة التي هي محلّ البحث في المقام، و إن كان بينها اختلاف من جهة لزوم الإعادة في الوقت و عدمه، و هي مسألة أُخرى سيأتي البحث عنها، و إن كان الظاهر فيها عدم اللزوم من جهة صراحة

الطائفة الاولى في عدم وجوب الإعادة، و مقتضى القاعدة حمل الطائفة الأخيرة الظاهرة في الوجوب على الاستحباب، بل موثّقة منصور الأخيرة يمكن دعوى إشعارها بل ظهورها في عدم الوجوب، كما لا يخفى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 8.

(4) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 477

..........

______________________________

و أمّا ما استدلّ به على عدم الجواز فروايات:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سمعته يقول

إذا لم تجد ماءً، و أردت التيمّم فأخّر التيمّم إلى آخر الوقت، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض «1».

و قد نوقش في الاستدلال بها: بأنّ قوله (عليه السّلام)

فإن فاتك الماء ..

الذي هو بمنزلة التعليل للحكم بتأخير التيمّم إلى آخر الوقت، ظاهر في أنّ الأمر بالتأخير إنّما هو لاحتمال وجدان الماء و إمكان تحصيل الطهارة المائية التي هي المصداق الأرجح، لا لعدم كون التيمّم مع السعة غير مؤثّر في حصول الطهارة، خصوصاً مع قوله

و أردت التيمّم

الظاهر في جوازه و صحّته، كما هو ظاهر.

و منها: موثّقة عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قلت له: رجل أمّ قوماً و هو جنب، و قد تيمّم و هم على طهور.

قال

لا بأس، فإذا تيمّم الرجل فليكن ذلك في آخر الوقت، فإن فاته الماء فلن تفوته الأرض «2».

و منها: موثّقته الأُخرى قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن رجل أجنب فلم يجد ماءً، يتيمّم و يصلّي؟

قال

لا، حتّى آخر الوقت، أنّه إن فاته الماء لم تفته الأرض «3».

و

يجري في الموثّقتين المناقشة المذكورة في الصحيحة، فتدبّر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 22، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 22، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 22، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 478

..........

______________________________

و منها: صحيحة زرارة، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال

إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم و ليصلّ في آخر الوقت، فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه، و ليتوضّأ لما يستقبل «1».

و في نقل آخر: «فليمسك» بدل: «فليطلب».

و قد نوقش في الاستدلال بها على النقل الأوّل: أنّ ظاهرها وجوب الطلب إلى آخر الوقت، و هو مع مخالفته لتحديده بغلوة سهم أو سهمين مخالف لفتوى الأصحاب، فلا بدّ من حملها على الاستحباب، أو تأويلها بأن يقال: إنّ المراد منه أنّه يجب الطلب إذا كان في الوقت، و كان واسعاً له من غير تعرّض لمقدار الطلب، و مع عدم سعته له يتيمّم، فحينئذٍ تدلّ على جواز التيمّم في سعته؛ لأنّ قوله

فليطلب

إذا كان في سعة ظاهر في أنّه يتيمّم بعد الطلب في سعته، خصوصاً مع مقابلته لخوف الفوت، فكأنّه قال: مع خوف الفوت يتيمّم بلا طلب، و مع سعة بعد الطلب.

و قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ الأخبار المانعة لا تصلح في نفسها للاستدلال بها على المنع؛ لجريان المناقشة في جميعها، و عليه فلا تصل النوبة إلى مقام الجمع بحمل الأخبار المجوّزة على صورة اعتقاد الضيق خطأً، أو على صورة وجدان الماء قبل الفراغ من الصلاة مع التيمّم، أو على كون التيمّم قبل الوقت لغاية فدخل وقت الصلاة فصلّاها في السعة، أو على صورة الجهل بأنّ الحكم

المضايقة، أو حمل آخر الوقت في الأخبار المانعة على الآخر العرفي، الذي لا ينافيه وجدان الماء فيه بعد الصلاة، بحيث كان مدلولها هو المنع عن السعة في الجملة، أو غير ذلك من وجود الجمع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 479

..........

______________________________

ثمّ إنّه مع الإغماض عمّا ذكر، فلا شبهة في أنّ مورد الروايات المانعة هو ما إذا احتمل ارتفاع العذر و العثور على الماء.

أمّا ما اشتمل منها على التعليل بقوله

فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض

فالأمر فيه واضح، ضرورة ظهور التعليل في احتمال زوال العذر و الوصول إلى الماء.

و أمّا صحيحة زرارة، فعلى تقدير كون الرواية: «فليمسك»، فظاهرها البدوي و إن كان وجوب الإمساك في نفسه إلّا أنّ العرف لا يكاد يفهم من ذلك الموضوعية، بعد كون الصلاة مع الطهارة المائية فرد المطلوب الأعلى، خصوصاً مع استحباب الإتيان بالصلاة في أوّل وقتها، و استحباب المسارعة إلى الخيرات و المغفرة من الربّ، بل المتفاهم العرفي ليس إلّا أنّ الأمر بالإمساك و وجوب التأخير إنّما هو لاحتمال إمكان تحصيل الطهارة المائية، و الوصول إلى فرد المطلوب الأعلى، لا لكون الإمساك مطلوباً نفساً، أو أن التيمّم مشروط بضيق الوقت.

و من هنا يمكن أن يقال: بأنّ الروايات المشتملة على التعليل المذكور لو كانت خالية عنه لكان المتفاهم العرفي منها أيضاً ذلك، و أنّ وجوب التأخير إنّما هو بلحاظ إمكان الوصول إلى المطلوب الأعلى، لا لخصوصية في التأخير من حيث هو.

و كيف كان: فمحطّ الروايات المانعة بأجمعها هي صورة احتمال ارتفاع العذر، و إمكان العثور على الماء.

و عليه فربّما يقال في مقام الجمع بينها و بين الروايات المجوّزة، أنّها

محمولة على صورة العلم بعدم ارتفاع العذر و بقاء العجز، فينتج القول بالتفصيل بين رجاء ارتفاع العذر و عدمه، و قد تقدّم نقله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 480

..........

______________________________

و لكنّ الإنصاف: أنّه لا مجال لحمل الآية الكريمة و الروايات المتكثّرة المتقدّمة الواردة في مقام البيان و تعيين الوظيفة من غير إشارة إلى القيد المذكور مع ندرة تحقّقه، ضرورة أنّ مورد العلم بعدم ارتفاع العذر و بقاء العجز في غاية القلّة.

و توهّم عدم الندرة بلحاظ قلّة الماء في زمن صدور الروايات، خصوصاً في السفر لقلّة الماء في البوادي، مدفوع بمنع ذلك بعد كون جزيرة العرب محاطة بالبحار، و معرضاً للأمطار الكثيرة العزيزة في كثير من الأوقات، فكيف يصحّ معه حملها على مورد نادر كما هو ظاهر، خصوصاً مع عدم كون السائل في كثير منها من أهل الجزيرة، مثل زرارة، و محمّد بن مسلم، و منصور بن حازم، و غيرهم من الكوفيين، و البغداديين، و غيرهم؟! فالحمل المذكور غير وجيه.

و الظاهر أنّ الروايات المانعة على تقدير تماميتها في نفسها محمولة على الاستحباب، حملًا للظاهر على النصّ على فرض ظهور الأمر في الوجوب، مع أنّه أيضاً محلّ الكلام، كما قرّر في محلّه.

و يشهد لهذا الحمل: رواية محمّد بن حمران، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قلت له: رجل تيمّم ثمّ دخل في الصلاة، و قد كان طلب الماء فلم يقدر عليه، ثمّ يؤتى بالماء حين تدخل في الصلاة.

قال

يمضي في الصلاة، و اعلم أنّه ليس ينبغي لأحد أن يتيمّم إلّا في آخر الوقت «1».

فإنّ الحكم بالمضّي في الصلاة من دون استفصال عن السعة و الضيق إنّما

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب التيمّم، الباب

21، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 481

..........

______________________________

هو كالنصّ في عدم الإلزام، و عليه فالتفصيل بين صورة العلم باستمرار العذر و عدمه ضعيف.

نعم، لا تنبغي المناقشة في انصراف الأخبار المجوّزة عن صورة العلم بارتفاع العذر قبل مضيّ الوقت، بحيث يمكن له الإتيان بالصلاة مع الطهارة المائية، خصوصاً مع ملاحظة ما عرفت في صدر البحث عن التيمّم من تأخّر مرتبة الترابية عن المائية.

بقي الكلام في هذه المسألة في حكم إعادة ما صلّاه بالتيمّم الصحيح بعد ارتفاع العذر و زوال العجز.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 483

[فصل في المطهّرات]

اشارة

فصل في المطهّرات

[و هي أحد عشر]

اشارة

و هي أحد عشر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 485

[أوّلها: الماء]

اشارة

أوّلها: الماء، و يطهر به كلّ متنجّس حتّى الماء، كما تقدّم في فصل المياه، و قد مرّ كيفية تطهيره به.

و أمّا كيفية تطهير غيره به، فيكفي في المطر استيلاؤه على المتنجّس بعد زوال العين، و بعد التعفير في الولوغ، و كذا في الكرّ و الجاري، إلّا أنّ الأحوط فيما يقبل العصر اعتباره، أو اعتبار ما يقوم مقامه؛ من الفرك و الغمز و نحوهما، حتّى مثل الحركة العنيفة في الماء؛ حتّى يخرج الماء الداخل. (1)

______________________________

(1) الأوّل: في مطهّرية الماء قد تقدّم في فصل المياه أصل مطهّرية الماء و عمومها لكلّ متنجّس، سواء كان من الأجسام الجامدة، أو من المائعات، و سواء كان المائع ماء مطلقاً، أو ماء مضافاً، أو غيرهما من اللبن و الدّهن و نحوهما، كما أنّه قد مرّت كيفية تطهير الماء بالماء، فلا حاجة إلى البحث عنه.

في كيفية التطهير بماء المطر و أمّا كيفية تطهير غير الماء بالماء، ففي ماء المطر ذكر في المتن: أنّه يكفي استيلاؤه على المتنجّس بعد زوال العين، و بعد التعفير في الولوغ، و كذا في الكرّ و الجاري، إلّا أنّ مقتضى الاحتياط اعتبار العصر أو ما يقوم مقامه.

أقول: أمّا ماء المطر، فبعد الفراغ عن عموم مطهّريته كما فصّلنا القول فيه في شرح المسألة التاسعة عشرة من مسائل المياه نقول: بأنّه يكفي فيه مجرّد الاستيلاء على المتنجّس بعد زوال العين في غير الولوغ، و لا حاجة فيه إلى العصر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 486

..........

______________________________

بوجه، و كذا إلى التعدّد أيضاً.

و قد يقال في وجهه: إنّ النسبة بين مرسلة الكاهلي

«1» و ما دلّ على اعتبار التعدّد أو العصر، عموم من وجه؛ إذ المرسلة دلّت بعمومها على أنّ

كلّ شي ء رآه المطر فقد طهر

سواء كان ذلك الشي ء ممّا يعتبر فيه العصر، أو التعدّد، أم لم يكن.

كما أنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على اعتبار العصر أو التعدّد، عدم الفرق في ذلك بين أن يصيبه المطر، و بين أن يغسل بماء آخر.

فيتعارضان في مثل غسل آنية الخمر بالمطر، و الترجيح مع المرسلة؛ لما قرّر في محلّه من أنّ العموم مقدّم على الإطلاق، فإنّ دلالة المرسلة بالوضع و العموم؛ لمكان لفظة

كلّ

فلا يعتبر في إصابة المطر شي ء من العصر و التعدّد، بل يكتفى في تطهيره بمجرّد رؤية المطر.

و أنت خبير: ببطلان هذا الوجه؛ لأنّ شمول المرسلة للمقام أيضاً بالإطلاق، لا بالعموم؛ ضرورة أنّ اعتبار العصر أو التعدّد على فرضه لا يوجب التخصيص في المرسلة بإخراج المقام، بل يوجب تقييد الرؤية بتحقّق العصر بعدها، أو بعدم كونه مرّة واحدة، بداهة أنّ التخصيص، إنّما هو فيما إذا لم يتحقّق التطهير بماء المطر في مورد أصلًا، لا فيما إذا تحقّق غاية الأمر مع ضميمة العصر أو التعدّد. و هذا من الوضوح بمكان، فدلالة كلا الدليلين إنّما هي بالإطلاق، و لا مرجّح لأحدهما على الآخر.

______________________________

(1) هي ما رواه عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في حديث قال: قلت له: يسيل علىّ من ماء المطر، أرى فيه التغيّر، و أرى فيه آثار القذر، فتقطر القطرات عليّ، و ينتضح عليّ منه، و البيت يتوضّأ على سطحه، فيكفّ على ثيابنا. قال

ما بذا بأس، لا تغسله؛ كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر.

(وسائل الشيعة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5).

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة

- غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 487

..........

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 487

______________________________

كما أنّه ربّما يقال في وجه عدم اعتبار شي ء من الأمرين في التطهير بماء المطر: بأنّه على تقدير تمامية إطلاق الدليلين بنحو يشمل المقام، يكون رفع اليد عن إطلاق المرسلة و تقييدها بدليلهما، موجباً لإلغاء خصوصيّة المطر، و ذلك خلاف ظاهر الرواية جدّاً، فيتعيّن العكس؛ أعني تقييد دليلي العصر و التعدّد، و الأخذ بإطلاقها.

و الظاهر عدم تمامية هذا الوجه أيضاً؛ لأنّ ثبوت خصوصيّة المطر في المقام أيضاً، إنّما هو فرع تماميّة الإطلاق، و تقدّمه على الإطلاق المعارض، و إلّا فلم يقم دليل على ثبوتها فيه أيضاً.

و دعوى كونه خلاف الظاهر جدّاً، مندفعة بأنّ الظهور إنّما نشأ من الإطلاق، و الكلام فعلًا في تقدّمه على المعارض و عدمه.

و دعوى: أنّه لا يبقى حينئذٍ فرق بين ماء المطر و بين غيره من المياه؛ لا فيما لا يحتاج إلى الأمرين، و لا فيما يحتاج إليهما أو إلى أحدهما، مدفوعة أيضاً: بأنّه لم يثبت كون دليل ماء المطر ناظراً إلى إثبات خصوصية فيه من بين سائر المياه، فلعلّ مراده أنّه مع عدم كونه ماءً مجتمعاً و بالغاً إلى حدّ مخصوص، يكون بحكم المجتمع البالغ، فتجوز استفادة التطهير منه.

و ربّما يستدلّ بوجه ثالث يجري في خصوص العصر: و هو أنّ الدليل على اعتبار العصر في الغسل، إنّما هو أدلّة انفعال الماء القليل؛ لأنّ الماء الداخل في جوف المتنجّس قليل لاقى متنجّساً، فيتنجّس لا محالة مع بقائه في الجوف، فلا بدّ

من إخراجه بالعصر. و من الواضح أنّ هذا الدليل، لا يجري في مثل ماء المطر من المياه المعتصمة؛ لعدم انفعالها بملاقاة المتنجّس، فلا وجه حينئذ لاعتبار العصر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 488

..........

______________________________

و أورد عليه: بأنّ دليل اعتبار العصر ليس ما ذكر، بل الدليل إنّما هو عدم تحقّق عنوان «الغسل» بدون العصر؛ لأنّ مجرّد إدخال المتنجّس في الماء و إخراجه عنه لا يسمّى غسلًا في لغة العرب، و لا ما يرادفه في سائر اللغات، كما أنّه لا فرق من هذه الجهة بين أقسام المياه أصلًا. و سيأتي البحث في هذا الإيراد.

و هنا وجه رابع اختاره بعض الأعلام حيث قال: الصحيح في وجه عدم اعتبار العصر و التعدّد في الغسل بالمطر، أن يتمسّك بصحيحة هشام بن سالم «1» الدالّة على كفاية مجرّد إصابة المطر للمتنجّس في تطهيره، معلّلًا

بأنّ الماء أكثر ..

حيث دلّت على طهارة السطح الذي يبال عليه إذا رسب فيه المطر، فيستفاد منها أنّ للمطر خصوصية من بين سائر المياه، تقتضي كفاية إصابته و قاهريّته في تطهير المتنجّسات، بلا حاجة فيه إلى تعدّد أو عصر.

و الظاهر أنّ الصحيحة مضافاً إلى إجمال العلّة الواردة فيها، و عدم وضوح المراد منها لا دلالة لها على طهارة السطح، حتّى يستفاد منها الخصوصيّة المذكورة؛ لعدم الملازمة، بين الحكم الوارد فيها و بين طهارة السطح بوجه، كما ذكرناه في بحث المياه.

و الظاهر أنّ الوجه في ذلك، هو قصور أدلّة اعتبار الأمرين عن الشمول للمقام:

أمّا دليل العصر، فإن كان هو أدلّة انفعال الماء القليل كما عرفت في الوجه الثالث فعدم شموله لماء المطر و كذا مثله من المياه المعتصمة واضح.

______________________________

(1) و هي ما رواه عن

أبي عبد اللّه (عليه السّلام): أنّه سأله عن السطح يبال عليه، فتصيبه السماء، فيكفّ فيصيب الثوب، فقال

لا بأس به؛ ما أصابه من الماء أكثر منه.

(وسائل الشيعة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1).

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 489

..........

______________________________

و إن كان هو عدم تحقّق عنوان الغسل بدونه كما مرّ في الإيراد على ذلك الوجه فالظاهر تحقّقه بدونه في التطهير بماء المطر؛ فإنّ الارتكاز العرفيّ في الغسل بماء المطر، ليس إلّا أن يجعل المتنجّس تحته، بحيث يراه المطر و يصيب المواضع المتنجّسة منه، و لم يعهد بين العرف أن يعصر حتّى يتحقّق «يغسل».

كما أنّ عنوان التعدّد لا يجري في ماء المطر، فإنّه ليس ماء مجتمعاً في محلّ حتّى يتحقّق فيه التعدّد، بل هو قطرات غير متّصلة نازلة، و في مثلها لا مفهوم للتعدّد أصلًا؛ فإنّ كلّ قطرة لها وجود مستقلّ، و لا معنى لفرض عدّة منها شيئاً واحداً، و فرض عدّة أُخرى شيئاً آخر فتدبّر. هذا بالإضافة إلى العصر.

و أمّا بالنسبة إلى التعفير، فالظاهر لزومه قبل رؤية ماء المطر، لأنّ دليل مطهّرية المطر، ليس بأقوى ممّا دلّ على اعتبار التعفير، بل لا منافاة بين الدليلين أصلًا؛ و ذلك لأنّ دليل اعتبار التعفير مفاده: أنّ ولوغ الكلب في الإناء يوجب تنجّسه؛ بحيث لا يكفي في تطهيره الماء، بل يتوقّف على التعفير بالتراب.

و إن شئت قلت: إنّ الولوغ يوجب حصول موادّ مسمّاة في العصر الحاضر ب (الميكرب) للإناء، و لا يوجب انعدامها إلّا التراب و الأجزاء الترابيّة. هذا مفاد دليل اعتبار التعفير.

و أمّا دليل المطر، فلا دلالة له على أنّ ماء المطر يقوم مقام كلّ مطهّر، حتّى يمكن التمسّك بعمومه لمطهّرية الكافر أيضاً

كالإسلام، بل مدلوله أنّ ماء المطر يكفي في مطهّرية كلّ شي ء تتحقّق الطهارة له بالماء، فغاية مدلوله ثبوت خصوصية جميع المياه من جهة التطهير في ماء المطر، و عليه فلا منافاة بينه و بين دليل التعفير أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 490

..........

______________________________

و إن أبيت إلّا عن ثبوت المعارضة بين الدليلين، و عدم وجود مرجّح في البين، فمقتضى التساقط في مادّة الاجتماع و الرجوع إلى استصحاب النجاسة فيها، عدم تحقّق الطهارة بدون التعفير.

و لازم ما أفاده بعض الأعلام: من كون دلالة المرسلة بالعموم، و دلالة الأدلّة الأُخرى بالإطلاق، عدم الاحتياج إلى التعفير في المقام أيضاً. و لكنّك عرفت بطلان هذا المقال؛ و أنّ دلالة المرسلة أيضاً بالإطلاق، كسائر الأدلّة. هذا كلّه في ماء المطر.

في كيفية التطهير بالكرّ و الجاري فيما يقبل العصر و أمّا في الماء الجاري و الكرّ، فربّما يقال: باعتبار العصر فيما يقبله كالثياب و نحوها؛ نظراً إلى أنّ مقتضى الأدلّة لزوم غسلها؛ ليتحقّق لها الطهارة، و «الغسل» مفهوم عرفي لم يرد تحديده في الشرع، فلا مناص فيه من الرجوع إلى العرف، و هم يرون اعتباره في مفهومه بلا ريب. و من هنا لو أمر السيّد عبده بغسل شي ء، لا يكتفي العبد في امتثاله بإدخال الثوب في الماء فحسب، بل ترى أنّه يعصره و يخرج غسالته.

و لكن يرد عليه: أنّه إن أراد أنّ العصر داخل في مفهوم الغسل مطلقاً، فالجواب عنه: أنّ الغسل إذا كان متعلّقاً بمثل الجسد، لا يعتبر فيه العصر بوجه، و لا يفهم منه هذه الجهة، فلا يستفاد من مثل قوله تعالى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ .. إلّا مجرّد صبّ الماء عليها و جريه، من

دون أن ينتقل الذهن إلى مفهوم العصر، فالغسل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 491

..........

______________________________

بنحو الإطلاق لا يعتبر في مفهومه العصر.

و إن أراد أنّ العصر داخل في مفهومه مع تعلّقه بما يقبل العصر كالثياب و نحوها.

ففيه: أنّ هذا لا يسوّغ دعوى مدخلية العصر في المفهوم، بل لازمه أنّ إضافة الغسل إلى مثل الثوب، لها دخل في استفادة العصر.

مع أنّه أيضاً ممنوع؛ فإنّ العرف لا يرى في المثال المذكور أنّه لا يجوز أن يكتفي العبد في امتثاله بإدخال الثوب في الماء فحسب، بل يحكم بالاكتفاء.

و يؤيّده: أنّ ملاك الغسل هي إزالة وسخ الثوب بانتقاله بنفسه، أو بعلاج إلى الماء المستولي عليه، و إخراجه من الماء فضلًا عن عصره، لا مدخليّة له في تحقّق هذه الحقيقة، بل هو أمر أجنبيّ عنها، و من مقدّمات التجفيف لا يرتبط بالغسل.

نعم، في مثل الفرك و الدلك من المعالجات الحاصلة في خلال الغسل عند استيلاء الماء على المحلّ، المؤثّرة في نقل الوسخ إلى الماء لا العصر الحاصل بعده يمكن أن يقال بمدخليته في ماهية الغسل.

لكن الظاهر أيضاً خروجها عنها، و كونها من مقدّمات حصول المفهوم، لا مقوّمات الماهية، كما أنّ اعتبارها إنّما هو فيما إذا كانت النجاسة عينيّة متوقّفة إزالتها على مثل هذه المعالجات، لا ما إذا كانت حكمية أو ما هو بمنزلتها في عدم احتياج خلوص المحلّ منها إلى إعمال هذه المعالجات.

و قد انقدح ممّا ذكرنا: أنّ الأظهر عدم اعتبار العصر، و إن كان الأحوط رعايته.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 492

و لا فرق بين أنواع النّجاسات و أصناف المتنجّسات، سوى الإناء المتنجّس بالولوغ، أو بشرب الخمر، و موت الجرذ،

فإنّ الأحوط تطهيره بهما، كتطهيره بالقليل. بل الأحوط الأولى تطهير مطلق الإناء المتنجّس كالتطهير بالقليل، و إن كان الأرجح كفاية المرّة فيه.

و أمّا غيره، فيطهر ما لا ينفذ فيه الماء و النجاسة بمجرّد غمسه في الكرّ أو الجاري، بعد زوال عين النجاسة، و إزالة المانع لو كان.

و الذي ينفذ فيه و لا يمكن عصره كالكوز و الخشب و الصابون و نحو ذلك يطهر ظاهره بمجرّد غمسه فيهما، و باطنه بنفوذ الماء المطلق فيه؛ بحيث يصدق أنّه غسل به و لا يكفي نفوذ الرطوبة. و تحقّق ذلك في غاية الإشكال، بل الظاهر عدم تحقّقه إلّا نادراً.

و مع الشكّ في تحقّقه بأن يشكّ في النفوذ أو في حصول الغسل به يحكم ببقاء النجاسة.

نعم، مع القطع بهما و الشكّ في بقاء إطلاق الماء، يحكم بالطهارة. هذا بعض الكلام في كيفيّة التطهير بالكرّ و الجاري، و سنذكر بعض ما يتعلق به في طيّ المسائل الآتية. (1)

______________________________

(1) قد مرّ تطهير ما يقبل العصر بالكرّ و الجاري. و أمّا تطهير غيره بهما.

فتارة: يكون الغير هو الإناء المتنجّس.

و اخرى: يكون غيره.

و على التقدير الأوّل فتارة: يكون الإناء متنجّساً بالولوغ أو بشرب الخمر أو موت الجرذ.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 493

..........

______________________________

و اخرى: يكون متنجّسا بغيرها، كالدم و المنيّ و شبههما.

كما أنّه على التقدير الثاني تارة: يكون غير الإناء شيئاً لا ينفذ فيه الماء و لا النجاسة.

و اخرى يكون شيئاً ينفذ فيه الماء و النجاسة، و لكن لا يمكن عصره.

فهنا فروض أربعة:

الفرض الأوّل: تطهير الإناء المتنجّس بأحد الأُمور الثلاثة المذكورة بالكرّ أو الجاري.

و قد احتاط فيه في المتن وجوباً بتطهيره بهما كتطهيره بالقليل؛ من جهة رعاية التعدّد، و

عدم كفاية المرّة.

و الكلام في هذا الفرض تارة: في الولوغ.

و اخرى: في شرب الخمر.

و ثالثة: في موت الجرذ.

تطهير الإناء المتنجّس بالولوغ أمّا الولوغ؛ فقد يكون ولوغ الكلب، و قد يكون ولوغ الخنزير:

أمّا ولوغ الكلب، فقد نسب القول بالتعدّد فيه في التطهير بالكرّ أو الجاري إلى جماعة؛ لإطلاق موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سئل عن الكوز و الإناء يكون قذراً، كيف يغسل؟ و كم مرّة يغسل؟

قال

يغسل ثلاث مرّات: يصبّ فيه الماء فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ منه، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ ذلك الماء، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ منه و قد طهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 494

..........

______________________________

إلى أن قال

اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميّتاً سبع مرّات.

«1» فإنّ مقتضى إطلاقها أنّه لا فرق بين أن يتنجّس بشي ء من الأعيان النجسة، و بين أن يكون متنجّساً بالمتنجّس.

نعم، في صحيحة محمّد بن مسلم ما يظهر منه الاكتفاء بالمرّة، حيث روى عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن الكلب يشرب من الإناء.

قال

اغسل الإناء.

و عن السنّور قال

لا بأس أن تتوضّأ من فضلها؛ إنّما هي من السباع.

«2» فإنّ ظاهر إطلاق الجواب جواز الاكتفاء بالمرّة لتحقّق عنوان الغسل بها.

إلّا أن يقال: إنّ محطّ السؤال إنّما هي جهة نجاسة الكلب و أنّ شربه من الإناء يوجب تنجّسه أم لا، فلا نظر له إلى كيفيّة التطهير و كمّية الغسل بعد الفراغ عن النجاسة و تنجّس الإناء، فتدبّر.

و لكنّه ربّما يقال في مقام الجمع بين الموثّقة و الصحيحة: إنّ الاولى تختصّ بالغسل بالماء القليل؛ لعدم إمكان جعل الماء الكثير في الإناء

ثمّ تفريغه، خصوصاً مع التصريح ب «الكوز» الذي لا يمكن جعل الماء الكثير فيه أصلًا، فالموثّقة حينئذٍ مختصّة بالماء القليل، و عليه فترفع اليد عن إطلاق الصحيحة الشامل لغسل الإناء بالقليل أو بغيره من المياه المعتصمة بالتقييد بالثاني و الحكم بأنّ الاكتفاء بالمرّة إنّما هو فيما إذا أُريد غسله بمثل الجاري أو الكرّ.

و هنا رواية ثالثة: و هي صحيحة البقباق قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 53، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأسآر، الباب 2، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 495

..........

______________________________

فضل الهرّة و الشاة .. إلى أن قال: فلم أترك شيئاً إلّا سألته عنه، فقال

لا بأس به

حتّى انتهيت إلى الكلب.

فقال

رجس نجس، لا تتوضّأ بفضله، و أصبب ذلك الماء، و اغسله بالتراب أوّل مرّة، ثمّ بالماء.

«1» و قد نقلها المحقّق في محكيّ «المعتبر» هكذا

ثمّ بالماء مرّتين.

و عليه فمقتضى إطلاقها، أنّه لا فرق في لزوم التعدّد و عدم جواز الاكتفاء بالمرّة، بين القليل و غيره، كما أنّ مقتضى إطلاق الرواية بناءً على نقل «الوسائل» في موضعين جواز الاكتفاء بالمرّة مطلقاً، و عليه فيقيّد في القليل بالموثّقة، كما عرفت في الصحيحة المتقدّمة، و يبقى الجواز في غير القليل بحاله، و يقع الكلام حينئذٍ في ترجيح أحد النقلين على الآخر.

قال في «المدارك» بعد ما رواها خالية عن لفظ «المرّتين»: كذا وجدته فيما وقفت عليه من كتب الأحاديث، و نقله الشيخ (قدّس سرّه) كذلك في مواضع من «الخلاف» و العلّامة في «المختلف» إلّا أنّ المصنّف نقله في «المعتبر» بزيادة لفظ

المرّتين

بعد قوله

ثمّ بالماء

و قلّده في ذلك من تأخّر عنه و لا

يبعد أن يكون ذلك من قلم الناسخ.

و مقتضى إطلاق الأمر بالغسل، الاكتفاء بالمرّة الواحدة بعد التعفير، إلّا أنّ ظاهر «المنتهى» و صريح «التذكرة» انعقاد الإجماع على تعدّد الغسل بالماء، فإن تمّ فهو الحجّة، و إلّا أمكن الإجزاء بالمرّة؛ لحصول الامتثال بها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 4، و أبواب النجاسات، الباب 70، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 496

..........

______________________________

و لكنّه ربما يقال: بترجيح نقل «المعتبر» إمّا لأنّ استدلال المحقّق و غيره بها يمنع من احتمال سهو القلم، كما أنّ عدم تعرّض المحقّق لاختلاف الأصل الذي روى عنه مع أصل الشيخ، يشهد بكونها في «التهذيبين» كذلك. و احتمال كون رواية المحقّق لها بالزيادة المذكورة، من جهة الاتّفاق على التثليث بعيد.

و إمّا لأنّه عند دوران الأمر بين احتمالي الزيادة و النقيصة يتعيّن الأخذ بالزيادة؛ لأنّ احتمال الغفلة في طرف الزيادة أضعف و أهون من احتمالها في طرف النقيصة، لأنّ الناقل قد يغفل فيترك شيئاً و ينقصه، و أمّا أنّه يغفل فيزيد فهو احتمال ضعيف. و تفرّد المحقّق في نقلها هكذا، لا يوجب أن يكون احتمال الغفلة و الاشتباه في طرف الزيادة أقوى و آكد، بعد ما عرفت من استدلاله و غيره بها.

و يؤيّده الإجماع المحكيّ في «المسالك» في العبارة المتقدّمة؛ فإنّ ظاهر إطلاق معقده لزوم التعدّد حتّى في الغسل بالمياه المعتصمة. إلّا أن يقال: بأنّ القدر المتيقّن خصوص الماء القليل.

و كيف كان: فبملاحظة ما ذكرنا يظهر أنّ الأحوط لو لم يكن أقوى هو التعدّد. هذا في الكلب.

و أمّا ولوغ الخنزير، فقد ورد فيه صحيحة عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) حيث قال: و سألته عن

خنزير يشرب من إناء، كيف يصنع به؟

قال

يغسل سبع مرّات.

«1» و مقتضى إطلاقها أنّه لا فرق في لزوم التعدّد بين الغسل بالماء القليل، و بين الغسل بغيره من المياه المعتصمة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 13، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 497

..........

______________________________

و لكنّه ربّما يستبعد أصل وجوب الغسل سبع مرّات؛ بمنافاتها لما ورد في صدرها حيث قال في الصدر: سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغلسه، فذكر و هو في صلاته، كيف يصنع به؟

قال

إن كان دخل في صلاته فليمض، فإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه، إلّا أن يكون فيه أثر فيغسله.

نظراً إلى دلالته على الاكتفاء بمجرّد الغسل المتحقّق بالمرّة في ذهاب أثر الخنزير المنتقل منه إلى الثوب، و هذا ينافي إيجاب السبع في الذيل في الإناء، مع أنّ تطهير الثوب أصعب من تطهير الإناء.

و يدفعه: مضافاً إلى أنّ هذا النحو من الاستبعادات العقلية، لا مجال له في الأحكام الشرعية التعبّدية أنّ الفرق يمكن أن يكون لأجل اهتمام الشرع بشأن الإناء المعدّ للأكل و الشرب، بخلاف الثوب كما لا يخفى.

و كيف كان: فمقتضى إطلاق الصحيحة لزوم التعدّد في الغسل بالماء المعتصم أيضاً، و ليس في مقابلها ما يدلّ على الخلاف إلّا بعض الإطلاقات المحمول على غير الخنزير من سائر النجاسات و المتنجّسات، كما أنّه لا بدّ من تقييده بغير الكلب أيضاً على ما عرفت.

تطهير الإناء الذي شرب فيه الخمر و أمّا الإناء الذي شرب فيه الخمر، فقد وردت فيه روايتان:

إحداهما: موثّقة عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدّن يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه

خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟

قال

إذا غسل فلا بأس.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 498

..........

______________________________

و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر، أ يصلح أن يالمِرون فيه ماء؟

قال

إذا غسل فلا بأس.

و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر.

قال

تغسله ثلاث مرّات.

و سأل أ يجزيه أن يصبّ فيه الماء؟

قال

لا يجزيه حتّى يدلكه بيده، و يغسله ثلاث مرّات.

«1» و لا منافاة بين صدرها و ذيلها، بناءً على كونها بأجمعها رواية واحدة صادرة في مجلس واحد؛ لأنّه يحتمل:

أوّلًا: أن يكون الصدر متعرّضاً لبيان أصل النجاسة و لزوم الغسل، من دون نظر إلى كيفية التطهير.

و ثانياً: على تقدير كونه في مقام البيان من هذه الجهة، لا بدّ و أن يقيّد إطلاق الصدر بالذيل الصريح في تعدّد الغسل.

كما أنّ المناقشة في الذيل؛ من جهة احتمال كون التعدّد منحصراً بما إذا أُريد غسله بالماء القليل، و يؤيّده السؤال الأخير من جهة اشتماله على كلمة «الصبّ» الظاهرة في القليل في مثل القدح و الإناء، مدفوعة بأنّ السؤال لا دلالة له على الاختصاص، و مقتضى الإطلاق الواقع قبله، لزوم التعدّد في الغسل بغير القليل أيضاً.

ثانيتهما: موثّقته الأُخرى عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): عن الإناء يشرب فيه النبيذ.

فقال

تغسله سبع مرّات، و كذلك الكلب.

«2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 51، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 30، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 499

..........

______________________________

و هذه تدلّ على وجوب الغسل سبع مرّات، و لكن مقتضى الجمع بينهما هو حمل هذه على الاستحباب، كما هو مقتضى الفهم العرفي في أمثال المقام، و يؤيّده اشتمال هذه على الكلب الذي

لا يلزم فيه الزائد على الثلاث كما عرفت.

تطهير الإناء المتنجّس بموت الجرذ و أمّا موت الجُرَذ و هو الكبير من الفأرة البريّة، فمقتضى ذيل موثّقة عمّار المتقدّمة الواردة في ولوغ الكلب، وجوب الغسل سبع مرّات، حيث قال فيه

اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميّتاً سبع مرّات.

«1» و اختصاص موردها في الكلب بالقليل بلحاظ اشتماله على الحكم بوجوب صبّ الماء فيه، ثمّ تفريغه و الصبّ، و التفريغ إنّما هما في مورد القليل لا يلزم أن يكون الذيل الوارد في موت الجرذ المشتمل على كلمة «الغسل» مختصّاً بالماء القليل أيضاً، فمقتضى إطلاق الذيل عدم الفرق بينه و بين غيره من المياه المعتصمة.

تطهير الإناء المتنجّس بغير الأُمور المذكورة الفرض الثاني: تطهير الإناء المتنجّس بغير الأُمور الثلاثة أو الأربعة المذكورة في الفرض الأوّل.

قال في محكيّ «الذكرى»: لا ريب في عدم اعتبار العدد في الجاري و الكثير في غير الولوغ.

و قال قبل ذلك في الولوغ: و لا يشترط فيهما العدد ..

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 53، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 500

..........

______________________________

و ظاهره أنّ المسألة كأنّها متسالم عليها عند الأصحاب. و ما يمكن الاستدلال به لها أُمور:

أحدها: انصراف دليل اعتبار العدد إلى الغسل بالماء القليل، و عدم شموله للغسل بغيره من المياه المعتصمة، فالمرجع فيه هي الإطلاقات، و مقتضاها الاكتفاء بالغسل مرّة واحدة.

و الجواب عنه: منع الانصراف؛ لأنّه مضافاً إلى أنّ غلبة الوجود لا تكون منشأً للانصراف، بل منشؤه هي غلبة الاستعمال المنتفية في المقام قطعاً تكون غلبة الوجود ممنوعة أيضاً؛ لأنّ الحياض المعمولة في هذه الأزمنة و إن لم تكن متداولة في تلك العصور، إلّا أنّ الغسل بالماء المعتصم كان

رائجاً بينهم لأجل السكنى في أطراف البحار و الشطوط، أو الغدران التي كانت المياه المجتمعة فيها أضعاف الكرّ غالباً، خصوصاً في مثل الشتاء.

ثانيها: ما حكاه العلّامة في «المختلف»: من أنّه ذكر بعض علماء الشيعة أنّه كان بالمدينة رجل يدخل على أبي جعفر محمّد بن علي (عليهما السّلام)، و كان في طريقه ماء فيه العذرة و الجيفة، و كان يأمر الغلام أن يحمل كوزاً من ماء يغسل به رجله إذا خاضة. «1» قال فأبصرني «2» يوماً أبو جعفر (عليه السّلام) فقال

إنّ هذا لا يصيب شيئاً إلّا طهّره، فلا تعد منه غسلًا.

«3»

______________________________

(1) أصابه (خ ل).

(2) فأبصره (خ د).

(3) مستدرك الوسائل، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 501

..........

______________________________

و مراده ببعض علماء الشيعة ابن أبي عقيل كما قيل.

فإنّ مفاده أنّ مجرّد الإصابة، يكفي في التطهير بالماء الكثير، من دون توقّف على تحقّق الغسل، فضلًا عن تعدّده كما لا يخفى.

و يرد عليه: عدم صلاحية الرواية للاستدلال بها؛ لكونها مرسلة، و لا جابر لإرسالها من عمل الأصحاب، بعد عدم وجودها في جوامع الحديث، و كون الناقل لها العلّامة في كتابه الفقهي.

مضافاً إلى عدم ثبوت كون الماء كثيراً؛ لأنّ وجود الماء الكذائي أعمّ من كونه كذلك.

نعم، في طهارة الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) أُضيف قوله: «مشيراً إلى غدير الماء» و الغدير مشتمل على الكثير نوعاً، و لكنّه لم يعلم مأخذه مع كون مراده هذا الخبر، و هو أعرف بما قال. و على أيّ فالرواية غير صالحة للاستدلال.

ثالثها: ما أفاده في «المستمسك»: من أنّه يمكن أن يستفاد عدم اعتبار التعدّد ممّا ورد في ماء المطر من قوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء يراه ماء

المطر فقد طهر

بناءً على عدم القول بالفصل بينه و بين الكثير و الجاري للأولويّة.

و يرد عليه: مضافاً إلى كون الرواية مرسلة أنّ عدم القول بالفصل إن كان مرجعه إلى الإجماع على عدم الفصل، فالجواب: أنّ هذا الإجماع مضافاً إلى كونه إجماعاً منقولًا و هو غير معتبر غير متحقّق؛ لأنّهم قد فصّلوا بين ماء المطر و غيره بعدم اعتبارهم العصر في تحقّق الطهارة بالمطر، بخلاف غيره من سائر المياه.

و إن كان مرجعه إلى الأولويّة كما هو ظاهر العبارة، فالجواب: أنّ الأولويّة الظنّية غير معتبرة، و القطعية غير متحقّقة، خصوصاً مع ملاحظة ما ذكرنا في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 502

..........

______________________________

مسألة اعتبار العصر من التفصيل بين المطر و غيره، فهذا الوجه أيضاً غير تامّ.

رابعها: إطلاق أدلّة مطهّرية الماء من الآيات و الروايات الدالّة على ذلك، و إطلاق ما دلّ على أنّ المتنجّس يطهر بمجرّد تحقّق غسله، من دون التقييد بالعدد.

و يدفعه: أنّ هذا الإطلاق إنّما يصحّ الرجوع إليه فيما إذا لم يكن في مقابله ما يدلّ على اعتبار العدد، و إلّا فلا يبقى مجال للرجوع إليه، هذا من دون فرق بين أن يكون دليل العدد وارداً في مورد خاصّ كما في الموارد المتقدّمة التي قام الدليل على اعتبار التعدّد فيها كما في الولوغ و شرب الخمر و موت الجرذ و بين أن يكون دليل العدد مطلقاً؛ و كان مفاده اعتباره في جميع موارد التطهير بالماء، فإنّ إطلاق دليله مقدّم على إطلاق دليل المطلق، كما لا يخفى.

خامسها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول.

قال

اغسله في المِرْكَن مرّتين، فإن غسلته في ماء جارٍ فمرّة

واحدة.

«1» بتقريب: أنّ الجملة الأخيرة بيان لبعض المفهوم المستفاد من الجملة الأُولى؛ حيث أنّ مفادها في ناحية المفهوم، عدم وجوب التعدّد مع الغسل في غير المركن، و مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الجاري و الكرّ و غيرهما من المياه المعتصمة، و قد صرّح ببعض هذا المفهوم في الجملة الأخيرة، و لعلّ الوجه في التصريح به كثرة وجود الماء الجاري بالإضافة إلى غيره.

و أُورد عليه: بأنّه يمكن أن تعكس الدعوى على المدّعي بالقول: بأنّ الجملة

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1. قال الجوهري: المِرْكَن: الإجانة التي تغسل فيها الثياب.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 503

..........

______________________________

الأُولى بيان لبعض المفهوم المستفاد من الجملة الثانية، حيث إنّ مفهومها عدم كفاية المرّة في غير الماء الجاري، و متقضى إطلاقه أنّه لا فرق بين الكثير و القليل، و قد صرّح ببعضه في الجملة الاولى، و الوجه فيه كثرة وجود الماء القليل بالإضافة إلى الكرّ. فالاحتمالان متساويان، و الصحيحة غير قابلة للاستدلال بها على أحدهما.

و يدفعه: وضوح كون الجملة الثانية بياناً لبعض المفهوم المستفاد من الجملة الأُولى دون العكس؛ و ذلك بقرينة التفريع «بالفاء» فإنّه لو كانت الجملة الثانية مبتدئة بالواو لكان لهذا الاحتمال مجال، و أمّا مع التفريع بالفاء فلا موقع له، كما في قوله تعالى وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّٰهُ .. «1» فإنّه ظاهر في أنّ قوله فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ تفريع على الجملة الاولى و تصريح ببعض مفهومه.

نعم، يمكن الإيراد على الاستدلال بالصحيحة: بأنّ موردها البول، و المدعّى أعمّ منه و من سائر النجاسات غير الولوغ و شبهه ممّا تقدّم.

و يمكن دفع الإيراد: بأنّه إذا لم

يكن تطهير البول محتاجاً إلى التعدّد في المياه المعتصمة، فغير البول لعلّه بطريق أولى؛ و ذلك لاعتبار التعدّد فيه في الغسل بالماء القليل بلا إشكال دون غيره، كما يأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الأدلّة التي أُقيمت على عدم اعتبار العدد في تطهير الإناء المتنجّس بغير الولوغ و شبهه، لا تنهض لإثباته.

______________________________

(1) البقرة/ 222.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 504

..........

______________________________

نعم، لا يكون هناك ما يدلّ على اعتباره أيضاً، فاللازم الرجوع إلى إطلاق أدلّة حصول الطهارة للمتنجّس بمجرّد تحقّق الغسل.

نعم، لو لم يكن هناك إطلاق، و وصلت النوبة إلى الأُصول العملية، لكان مقتضى استصحاب بقاء النجاسة إلى أن يتحقّق التعدّد عدم كفاية المرّة في التطهير، كما حكي اعتباره عن «الخلاف» و «المبسوط» و «المعتبر» و غيرها، و لعلّ وجهه عدم ثبوت الإطلاق لهذه الأدلّة؛ لاختصاص موردها بغير الأواني، و عدم كون إطلاق أدلّة مطهّرية الماء قابلًا للتمسّك؛ لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة فتدبّر.

هذا، و لكن قد عرفت إمكان القول بتمامية بعض الأدلّة الخمسة المذكورة، كالدليل الأخير، و عليه فالأظهر كفاية المرّة و إن كان الأحوط التعدّد.

تطهير ما لا ينفذ فيه الماء غير الإناء الفرض الثالث: المتنجّس الذي لا يكون إناء، و لا ينفذ فيه الماء و لا النجاسة.

و قد حكم فيه في المتن بحصول الطهارة له بمجرّد غمسه في الماء الجاري أو الكرّ، بعد زوال عين النجاسة، و إزالة المانع لو كان.

و مرجعه إلى أنّه لا يعتبر فيه العصر؛ لأنّ المفروض عدم نفوذ الماء فيه، فلا معنى لعصره، و لا يعتبر فيه التعدّد أيضاً؛ لما عرفت من أنّ دليل التعدّد إمّا وارد

في الماء القليل، و إمّا في مورد الإناء مطلقاً، أو في الجملة، و أمّا في غير الإناء مع فرض التطهير بغير الماء القليل من المياه المعتصمة فلا يكون هنا ما يدلّ على اعتبار

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 505

..........

______________________________

العدد و لزوم التعدّد أصلًا.

كما أنّه لا يعتبر فيه انفصال الغسالة، فبمجرّد الغمس يتحقّق له الطهارة و إن لم يخرج من الماء، لوضوح تحقّق عنوان الغسل في مثل ذلك بمجرّد الغمس، من دون توقّف على تحقّق انفصال الغسالة.

نعم، سيأتي اعتباره في التطهير بالماء القليل؛ و أنّ دليله يختصّ به و لا يجري في غيره.

تطهير ما ينفذ فيه الماء غير الإناء مع عدم قابليته للعصر الفرض الرابع: هو الفرض الثالث بعينه، مع الاختلاف في مجرّد نفوذ الماء المتحقّق في هذا الفرض دونه، مع الاشتراك في عدم القابلية للعصر، و عدم كونه إناء كالخشب و الصابون، بل الكوز.

و قد حكم فيه في المتن بأنّه يطهر ظاهره بمجرّد غمسه فيهما، و أمّا باطنه فيتوقّف طهارته على نفوذ الماء المطلق فيه؛ بحيث يصدق أنّه غسل به و لا يكفي نفوذ الرطوبة أو نفوذ الماء مع عدم صدق الغسل به كما هو الغالب.

أقول: أمّا طهارة ظاهره بمجرّد الغمس في أحدهما؛ فلما عرفت من أنّه لا يعتبر في مثله العصر، و لا التعدّد، و لا انفصال الغسالة، فلا موقع للترديد و الإشكال فيه.

و أمّا باطنه، فتتوقّف طهارته على نفوذ الماء المطلق؛ بحيث يصدق أنّه غسل به و وجهه واضح؛ للفرق بين الرطوبة النجسة و الرطوبة الطاهرة، من جهة كفاية الاولى في تحقّق التنجّس؛ ضرورة أنّ سراية الرطوبة النجسة تكفي في تحقّق النجاسة في الأجزاء التي سرت الرطوبة

إليها، و أمّا الرطوبة الطاهرة فلا تكفي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 506

..........

______________________________

في التطهير؛ لأنّ مقتضى الدليل أنّ المطهّر هو الماء المطلق بعد تحقّق الغسل به، فمجرّد سراية الرطوبة الطاهرة غير كافٍ، بل اللازم نفوذ الماء المطلق.

بل مجرّد النفوذ الذي مرجعه إلى الاتصال غير كافٍ؛ لأنّ اللازم تحقّق عنوان الغسل المتوقّف على إحاطة الماء لجميع أجزاء المتنجّس و وصوله إليها، و الاكتفاء بالاتصال بالماء العاصم في مقام التطهير، إنّما هو على تقديره فيما إذا أُريد تطهير المياه المتنجّسة، و أمّا غيرها فلا يكفي مجرّد الاتصال بوجه. فطهارة الباطن في هذا الفرض متوقّفة على ما ذكر، و من المعلوم ندرة تحقّقه.

ثمّ لو شكّ في أصل نفوذ الماء مع وصف كونه ماءً إلى الباطن، أو شكّ بعد العلم بالنفوذ في تحقّق الغسل به؛ بأن لم يعلم إحاطة الماء لجميع أجزاء المتنجّس، فمقتضى استصحاب عدم النفوذ أو عدم تحقّق الغسل، عدم الاكتفاء به في حصول طهارة الباطن، كما أنّ مقتضى استصحاب بقاء النجاسة أيضاً ذلك.

و أمّا لو شكّ بعد العلم بالنفوذ و بتحقّق الغسل به، في بقاء إطلاق الماء بحاله في حال التطهير و عدمه، فمقتضى استصحاب بقاء الإطلاق تحقّق الطهارة. و لا مجال حينئذٍ لاستصحاب بقاء النجاسة؛ بعد كون الشكّ فيه مسبّباً عن الشكّ في بقاء الإطلاق و عدمه، كما لا يخفى. هذا تمام الكلام فعلًا في التطهير بالكرّ أو الجاري.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 507

و أمّا التطهير بالقليل، فالمتنجّس بالبول غير الآنية يعتبر فيه التعدّد مرّتين، و الأحوط كونهما غير غسلة الإزالة.

و المتنجّس بغير البول إن لم يكن آنية، يجزي فيه المرّة بعد الإزالة،

و لا يكتفى بما حصل به الإزالة. نعم، يكفي استمرار إجراء الماء بعدها.

و يعتبر في التطهير به انفصال الغسالة، ففي مثل الثياب ممّا ينفذ فيه الماء و يقبل العصر لا بدّ منه أو ما يقوم مقامه، و فيما لا ينفذ فيه الماء و إن نفذت الرطوبة كالصابون و الحبوب، و لا يقبل العصر، يطهر ظاهره بإجراء الماء عليه، و لا يضرّ به بقاء نجاسة الباطن، و لا يطهر الباطن تبعاً للظاهر. (1)

______________________________

(1) التطهير بالقليل في هذه القطعة من المتن فرعان:

الفرع الأوّل: تطهير المتنجّس بالبول غير الآنية بالماء القليل و قد اعتبر فيه التعدّد مرّتين، و قد نسبه في محكيّ «المعتبر» إلى علمائنا، و في «الحدائق» إلى الشهرة، و في «الجواهر» إليها مع الإضافة إلى المتأخّرين.

و عن الشيخ في «المبسوط» عدم وجوب التعدّد في غير الولوغ، و اختاره الشهيد في محكيّ «البيان» و استظهر ذلك عن العلّامة في جملة من كتبه.

و عن «المنتهى» التفصيل بين صورة جفاف البول و عدمه؛ بالاكتفاء بالمرّة في الأُولى دون الثانية.

و عن صاحبي «المدارك» و «المعالم» التفصيل بين الثوب و البدن؛

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 508

..........

______________________________

بالاكتفاء بالمرّة في الثاني دون الأوّل.

و كيف كان: فيدلّ على اعتبار التعدّد مطلقاً روايات:

منها: صحيحة محمّد، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن البول يصيب الثوب.

قال

اغسله مرّتين «1».

و منها: صحيحة ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن البول يصيب الثوب.

قال

اغسله مرّتين «2».

و منها: صحيحة أبي إسحاق النحويّ، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن البول يصيب الجسد.

قال

صبّ عليه الماء مرّتين «3».

و منها: حسنة الحسين بن أبي العلاء قال: سألت أبا عبد

اللّه (عليه السّلام) عن البول يصيب الجسد.

قال

صبّ عليه الماء مرّتين؛ فإنّما هو ماء.

و سألته عن الثوب يصيبه البول.

قال

اغسله مرّتين ..

الحديث «4».

و منها: ما رواه ابن إدريس من كتاب «الجامع للبزنطي» قال: سألته عن البول يصيب الجسد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 1، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 1، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 1، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 1، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 509

..........

______________________________

قال

صبّ عليه الماء مرّتين؛ فإنّما هو ماء.

و سألته عن الثوب يصيبه البول.

قال

اغسله مرّتين.

«1» و هذه الروايات كما ترى، ظاهرة بل صريحة في لزوم التعدّد مطلقاً؛ أي في الثوب و البدن.

و لكن ربّما يستدلّ على عدم لزوم التعدّد بإطلاق أدلّة طهوريّة الماء، و بإطلاق بعض النصوص الآمر بالغسل من دون تقييده بمرّتين، كما فيما رواه عبد اللّه بن سِنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

اغسل ثوبك من بول كلّ ما لا يؤكل لحمه.

«2» و غيره من بعض الروايات الأُخر.

و بأصالة البراءة عن لزوم التعدّد.

و بمرسلة الكليني قال: و روي

أنّه يجزي أن يغسل بمثله من الماء؛ إذا كان على رأس الحشفة أو غيره.

«3» و أنت خبير: بعدم كون الإطلاق في أدلّة الطهورية و كذا في بعض النصوص المذكور، مسوقاً لبيان هذه الجهة؛ و هي اعتبار التعدّد و عدمه، بل هو مسوق لبيان أصل المطهّرية، و كذا بيان لزوم التطهير فيما أصابه البول من الثوب أو الجسد.

مضافاً إلى أنّ الروايات المتقدّمة الظاهرة بل الصريحة في اعتبار التعدّد، تصلح للتقييد من دون مناقشة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 1، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة، أبواب

النجاسات، الباب 8، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 1، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 510

..........

______________________________

و أمّا أصالة البراءة، فمضافاً إلى أنّه لا مجال لها مع دلالة النصوص على اعتبار التعدّد، يرد عليها: أنّه مع وصول النوبة إلى الأُصول العملية، لا بدّ من الرجوع إلى الاستصحاب الحاكم ببقاء النجاسة مع عدم التعدّد، كما هو ظاهر.

و أمّا مرسلة الكليني، فهي غير معتبرة لا تقاوم الروايات المتقدّمة المتعدّدة المعتبرة. فهذا القول لا مجال له أصلًا.

نعم، ربّما يحتمل أن يكون مراد القائل به صورة زوال العين و جفافها، فيرجع إلى التفصيل المتقدّم المحكيّ عن «منتهى» العلّامة، حيث اكتفى بالمرّة الواحدة في صورة الزوال و الجفاف، دون صورة البقاء.

و ما يمكن أن يكون مستنداً له أمران:

أحدهما: رواية الحسين بن أبي العلاء المتقدّمة، بناءً على نقل المحقّق في «المعتبر» حيث رواها بزيادة

الأُولى للإزالة، و الثانية للإنقاء

لدلالتها على أنّ الغرض من الغسلة الأُولى إنّما هي الإزالة، و أنّ المطهّر هي الغسلة الثانية، و عليه لا فرق في الإزالة بين أن تتحقّق بالغسل أو بغيره كالجفاف مثلًا.

و يؤيّده ما رواه الشهيد في «الذكرى» عن الصادق (عليه السّلام): في الثوب يصيبه البول.

اغسله مرّتين: الأُولى للإزالة، و الثانية للإنقاء.

هذا، و لكن ذكر صاحب «المعالم»: و لم أر لهذه الزيادة أثراً في كتب الحديث الموجودة الآن بعد التصفّح بقدر الوسع. و الظاهر أنّ الزيادة في كلام المحقّق ذكرت تفسيراً للرواية، لا جزءاً و تتمّة لها، و أنّ الشهيد إنّما أخذها عن المحقّق زاعماً كونها جزء لها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 511

..........

______________________________

و بالآخرة لا دليل على كون الزيادة جزء، و على

تقديره لا دليل على اعتبارها؛ لعدم ظهور الواسطة التي نقل المحقّق منه الرواية كما لا يخفى.

مضافاً إلى ما أُفيد: من أنّه لو سلّم ثبوت الزيادة لا تصلح للتصرّف في النصوص المذكورة؛ لأنّه يؤدّي إلى حمل النصوص على صورة وجود العين، و هو خلاف الغالب، و إلى حمل الأمر بالغسلة الأُولى على الحكم العرفي؛ لا الشرعيّ، و على التخييري لا التعييني؛ لأنّ الإزالة كما تكون بالغسل، تكون بالشمس و بالهواء و بالمسح بشي ء و بغيرها، و كلّ ذلك خلاف الظاهر، بل خلاف السياق مع الأمر بالغسلة الثانية كما لا يخفى، و لا يمكن ارتكاب جميع ذلك بمجرّد هذه الزيادة.

ثانيهما: أنّه يستفاد من النصوص الآمرة بالتعدّد و لو لأجل المناسبة المركوزة بين الحكم و موضوعه أنّ الغسلة الأُولى للإزالة، و الثانية للتطهير، و مع زوال العين بنفسها لا حاجة إلى التعدّد بوجه.

و يدفعه: منع الاستفادة بعد ظهور النصوص في اعتبار الغسلتين، و لزوم الأُولى كالثانية، و لم يقم دليل على كون الغرض من الأُولى الإزالة؛ بحيث يقوم مقامها كلّ ما هو موجب للإزالة.

مع أنّه على تقديره، لا مجال لرفع اليد عن ظهور النصوص في مدخلية الماء في تحقّق الإزالة؛ لأنّه يحتمل قويّاً أن يكون الماء في الغسلة الأُولى موجباً لزوال المرتبة الشديدة من النجاسة الحاصلة، و يتوقّف زوالها بالمرتبة الناقصة أيضاً على الغسلة الثانية، فمدخلية لزوم الماء في زوال العين بناءً على ذلك لا دليل على خلافها بعد ظهور الرواية فيها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 512

..........

______________________________

و لعلّه لأجل ما ذكر احتاط في المتن وجوباً بكون الغسلتين غير غسلة الإزالة؛ أي على تقدير تحقّق الإزالة بالغسل، لا بغيره ممّا يقوم مقامه، و

يأتي البحث فيه.

و أمّا التفصيل بين الثوب و البدن المحكيّ عن صاحبي «المدارك» و «المعالم» فمستنده استضعاف نصوص التعدّد الواردة في البدن، و الرجوع إلى المطلقات.

و أجاب عنه في «المستمسك»: بأنّ الروايات الواردة في البدن هي الروايات المذكورة أخيراً، و ليس في الأُولى يعني رواية الحسين من يتوقّف في روايته إلّا الحسين؛ لعدم توثيق الشيخ و النجاشي صريحاً إيّاه، و لكن حكى ابن داود عن شيخه ابن طاوس في «البشرى» تزكيته، و هو ظاهر عبارة النجاشي حيث قال في ترجمته: و أخواه علي و عبد الحميد، روى الجميع عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) و كان الحسين أوجههم .. إلى آخره، و قد نصّوا على توثيق عبد الحميد أخيه، فيدلّ الكلام المذكور على أنّه أوثق منه. و حمل «الأوجه» على غير هذا المعنى خلاف الظاهر.

و ليس في الرواية الثانية يعني رواية أبي إسحاق من يتوقّف في روايته إلّا أبو اسحاق النحويّ، و هو ثعلبة بن ميمون الذي قال النجاشي في ترجمته: إنّه كان وجهاً من أصحابنا قارئاً فقيهاً نحوياً لغوياً راوية، و كان حسن العمل، كثير العبادة و الزهد .. و نحوه كلام غيره.

و قال في «الكشّي»: ذكر حمدويه عن محمّد بن عيسى: أنّ ثعلبة بن ميمون مولى محمّد بن قيس الأنصاري هو ثقة خيّر فاضل مقدّم معلوم في العلماء و الفقهاء الأجلّة من هذه العصابة ..

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 513

..........

______________________________

و قال الوحيد (قدّس سرّه): هو من أعاظم الثقات الزهّاد و العبّاد و الفقهاء و العلماء الأمجاد ..

و أمّا الثالثة يعني رواية ابن إدريس ففيها ابن إدريس، و حاله في الجلالة و الوثاقة ممّا لا مجال للريب فيه،

كما لا مجال للريب في صحّة روايته عن الأُصول المذكورة في «مستطرفاته».

و قد انقدح من ذلك بطلان هذا التفصيل أيضاً، و أنّ الصحيح هو ما اختاره المشهور من وجوب التعدّد في البول، من دون فرق بين الثوب و البدن.

بقي في هذا الفرع جهات من الكلام الجهة الاولى: عدم الفرق بين الثوب و الجسد و غيرهما مقتضى إطلاق المتن أنّه لا فرق في المتنجّس بالبول غير الآنية بين أن يكون ثوباً و جسداً، و بين أن يكون غيرهما، كالفرش و الحصير و الجدار و غيرها، فيعتبر في الجميع تعدّد الغسل.

و لكن ربّما يقال: بعدم لزوم التعدّد في غير الثوب و البدن؛ لأنّ النصوص الآمرة بالتعدّد واردة فيهما، و لا دليل على إلغاء خصوصيتي الثوب و البدن بعد أنّه يحتمل قويّاً أنّ الشارع أراد فيهما المحافظة على المرتبة الشديدة من الطهارة، و الأحكام الشرعية تختلف باختلاف موضوعاتها مع أنّها قد تجمعها طبيعة واحدة، فترى أنّ الشارع حكم بوجوب الغسل ثلاث مرّات في الإناء، و لم نر من الأصحاب من تعدّى عنه إلى غيره ممّا صنع من مادّته من صفر أو خزف أو غيرهما.

و كذا نرى أنّ الشارع حكم بطهارة مخرج الغائط بالتمسّح بالأحجار مثلًا،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 514

..........

______________________________

و لا يحكم بطهارة هذا الموضع إذا تنجّس بغير الغائط من النجاسات بمجرّد إزالتها، بل يجب غسله بالماء.

و لأجل ذلك لا يحصل القطع بإلغاء الخصوصيتين في المقام، ففي غيرهما إطلاقات مطهّرية الغسل المقتضية للاكتفاء بالغسل مرّة واحدة، محكّمة.

هذا، و الظاهر عدم الاختصاص؛ و ذلك لأنّه مضافاً إلى أنّ المتفاهم عند العرف أنّ ذكر الثوب و البدن في النصوص ليس لأجل خصوصية فيهما من

جهة الحكم، بل إنّما هو من جهة شدّة الابتلاء بهما، و أنّ البول المصيب إنّما يصيب أحدهما غالباً، و لأجله لو لم يكن في الرواية إلّا تعرّض لأحدهما لا يستفاد العرف حكم الآخر منه أيضاً، و ما تقدّم من تصحيح روايات الجسد إنّما هو من جهة أنّه لم يكن حاجة إلى الإلغاء، بعد وجود رواية صحيحة دالّة على الحكم لا يكون هناك إطلاقات دالّة على مطهّرية الغسل حتّى نتمسّك بها؛ لأنّها بأجمعها واردة في الثوب، كما تظهر بالمراجعة، و ليس لنا إطلاق دالّ على لزوم التطهير من البول غير وارد في مثل الثوب، و عليه فمع الشكّ أيضاً يكون مقتضى الاستصحاب لزوم رعاية التعدّد في غيرهما أيضاً.

الجهة الثانية: عدم الفرق بين بول الآدمي و غيره مقتضى إطلاق المتن تبعاً لإطلاق النصوص أنّه لا فرق في وجوب التعدّد بين بول الآدميّ و غيره من الأبوال النجسة، كما أنّه لا فرق في الآدمي بين المسلم و غيره، و في غيره بين نجس العين و غيره. نعم، يمكن دعوى كون النظر إلى النجاسة البوليّة، و أمّا من حيث إضافته إلى نجس العين، فيرجع في تطهيرها إلى ما يرجع إليه في نجاسة سائر النجاسات.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 515

..........

______________________________

هذا، و لكن ربّما يقال كما قيل: باختصاص النصوص الآمرة بالتعدّد ببول الآدمي؛ لأنّهم كانوا يبولون على وجه الأرض، و هي في الأغلب صلبة، فكان يترشّح منها البول إلى أبدانهم و أثوابهم، و من أجل ذلك تصدّوا للسؤال عن حكمه، و حينئذٍ لا تبعد دعوى الانصراف إلى بول الآدميّ، و لعلّ هذا هو الوجه في عدم استفصالهم عن كون البول ممّا لا يؤكل لحمه أو

من غيره، مع طهارة البول ممّا يؤكل لحمه.

أقول: الوجه في عدم الاستفصال، وضوح كون المفروض في السؤال هو البول النجس، و هو يختصّ بغير المأكول.

نعم، دعوى الانصراف غير بعيدة، و لا يدفعها استبعاد لزوم التعدّد في بول الآدمي، و عدم لزومه في بول الكلب و الخنزير؛ لما عرفت من أنّه لا مجال لمثل ذلك في الأحكام الشرعية التعبّدية أصلًا.

نعم، هنا رواية يمكن أن تتوهّم دلالتها على لزوم التعدّد في غير الآدمي في الجملة و إن قلنا: باختصاص النصوص انصرافاً به، و هي موثّقة سَماعة قال: سألته عن أبوال السنّور و الكلب و الحمار و الفرس.

قال

كأبوال الإنسان «1».

و لكنّها مضافاً إلى اشتمالها على أبوال الحمار و الفرس مع أنّهما طاهران يكون مورد السؤال فيها مجرّد النجاسة و عدمها، فالتشبيه ببول الإنسان إنّما هو من هذه الجهة، لا في جميع الجهات حتّى يشمل لزوم التعدّد في مقام التطهير أيضاً.

ثمّ الظاهر أنّ لزوم التعدّد في بول الآدمي، إنّما هو بالنسبة إلى غير مخرج

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 516

..........

______________________________

البول؛ لاختصاص السؤال و الجواب في نصوص التعدّد في الجسد بالموضع الذي يمكن أن يصيبه البول، و يمكن أن لا يصيبه، و أمّا مخرج البول الذي هو في معرض الإصابة دائماً، فلا تشمله النصوص أصلًا، فلو دلّ الدليل على عدم لزوم التعدّد فيه كما ذكرناه سابقاً فلا منافاة بينه و بين هذه النصوص و لو بنحو الإطلاق و التقييد، كما لا يخفى.

الجهة الثالثة: في تعداد الغسلات قد مرّ أنّه احتاط في المتن: بكون الغسلتين غير غسلة الإزالة، و مرجعه إلى أنّه على تقدير إرادة الإزالة

بالغسل، لا بدّ من التعدّد ثلاث غسلات: الأُولى للإزالة، و الأخيرتان للتطهير، مع أنّ النصوص الآمرة بالتعدّد مرّتين، لا يستفاد منها أنّ التعدّد إنّما هو بعد الإزالة و تحقّقها؛ فإنّ مفادها أنّ الثوب أو البدن الذي أصابه البول، لا بدّ في اتّصافه بالطهارة من غسله مرّتين، أو صبّ الماء عليه مرّتين.

بل التعليل الوارد في رواية حسين بن أبي العلاء المتقدّمة بعد الحكم بوجوب صبّ الماء على الجسد مرّتين بقوله

فإنّما هو ماء

ظاهر في عدم زوال الماء قبل المرّتين بغسلة خاصّة به، و أنّ مجرّد صبّ الماء مرّتين على الماء يكفي في حصول الطهارة له.

بل ربّما يقال: إنّ المناسبة المرتكزة بين الحكم و موضوعه، أنّ الغسلة الأُولى للإزالة، و الثانية للإنقاء.

و كيف كان: فلم يقم دليل على اعتبار وقوع الغسلتين أو الصبّين بعد الإزالة، لو لم نقل بظهور الدليل في خلافه. نعم مراعاة الاحتياط حسن على كلّ حال.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 517

..........

______________________________

الجهة الرّابعة: في حكم بول الرضيع استثنى المشهور من الحكم المتقدّم في البول الذي هو عبارة عن تعدّد الصبّ أو الغسل بول الرضيع غير المتغذّي بالطعام، فقد حكموا فيه بكفاية صبّ الماء مرّة، خلافاً لما حكي عن «كشف الغطاء» من اعتبار الصبّ مرّتين.

و الاستثناء إنّما يتفرّع على القول بنجاسة أيضاً، خلافاً لما يظهر من عبارة ابن الجنيد من عدم النجاسة، حيث قال: إلّا أن يكون غير البالغ صبيّاً ذكراً، فإنّ بوله و لبنه ما لم يأكل اللحم ليس بنجس. و قد تقدّم البحث معه من هذه الجهة في كتاب النجاسات، فراجع.

و الأصل في هذا الاستثناء ما ورد في ذيل رواية حسين بن أبي العلاء المتقدّمة من قوله: و

عن الصبيّ يبول على الثوب.

قال

تصبّ عليه الماء قليلًا ثمّ تعصره «1».

فإنّ الحكم بذلك بعد الحكم بوجوب تعدّد الغسل في الثوب الذي أصابه البول ظاهر في امتياز بول الصبي من جهة عدم وجوب الغسل و لو مع الإصابة بالثوب؛ للتعبير بالصبّ بعد الحكم بالغسل في غيره، خصوصاً بعد توصيف الماء بالقلّة و من جهة عدم لزوم التعدّد؛ لعدم التعرّض له بعد التصريح به في الثوب و البدن في غيره. فهذه الرواية الظاهرة في التفصيل، دليل على الاستثناء المذكور.

نعم، في موثّقة سَماعة التعبير بالغسل حيث قال: سألته عن بول الصبي يصيب الثوب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 518

..........

______________________________

فقال

اغسله.

قلت: فإن لم أجد مكانه.

قال

اغسل الثوب كلّه «1».

و لكنّه لا مانع من حمل الغسل على الصبّ بعد كونه أيضاً نوعاً من الغسل، و بعد دلالة الرواية المتقدّمة على الاكتفاء بالصبّ.

و إن أبيت عن ذلك نقول: هنا رواية ثالثة وقع فيها التفصيل، و هي شاهدة للجمع بين الروايتين المتقدّمتين؛ و هي صحيحة الحلبي أو حسنته قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن بول الصبيّ.

قال

تصبّ عليه الماء، فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلًا، و الغلام و الجارية في ذلك شرع سواء «2».

هذا من جهة الصبّ.

و أمّا من جهة الاكتفاء بالمرّة، فليس في مقابل رواية الحسين الظاهرة في عدم اعتبار التعدّد، ما يدلّ على اعتباره، و لا يلازم ذلك جواز الاكتفاء بالغسل مرّة في الصبيّ الآكل في رواية الحلبي، بعد ظهورها في التفصيل من جهة الصبّ و الغسل، و عدم التعرّض لجهة الوحدة و التعدّد.

نعم، مقتضى رواية سماعة بعد الحمل على الصبيّ الآكل، جواز

الاكتفاء بالمرّة في الغسل، و لكن الروايات المتقدّمة الصريحة في التعدّد كافية في تقييد هذا الإطلاق، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد ورد في قضيّة الحسنين (عليهما السّلام) في رواية الراوندي و «الجعفريات»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 519

..........

______________________________

عن علي (عليه السّلام): «أنّه لم يغسل رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) ثوبه من بولهما قبل أن يطعما».

و الظاهر أنّه لا منافاة بينه و بين ما دلّ على وجوب الصبّ؛ لانصراف الغسل إلى ما يتعارف من انفصال الغسالة.

و الشاهد على عدم المنافاة: ما رواه الصدوق في «معاني الأخبار» من أنّ رسول اللّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أتى بالحسن بن عليّ، فوضع في حجره فبال، فقال

لا تزرموا ابني

ثمّ دعا بماء فصبّ عليه «1».

قال الأصمعيّ: الإزرام القطع، يقال للرجل إذا قطع بوله: قد أزرمت بولك.

و لا يبعد أن تكون القضيّة واحدة، بل ورد في مولانا الحسين (عليه السّلام) شبه القضيّة، فقال (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

مهلًا يا أُمّ الفضل، فهذا ثوبي يغسل، و قد أوجعت ابني «2»

مضافاً إلى ظهور كون هذه الروايات غير قابلة للركون عليها في إثبات الحكم.

بقي في هذه الجهة أمران:

الأوّل: الظاهر أنّه لا يعتبر في تطهير بول الصبيّ العصر، بل يكفي مجرّد تحقّق الصبّ، و الظاهر تحقّق الإجماع عليه، و لأجله حمل رواية الحسين المتقدّمة الدالّة بظاهرها على وجوب العصر بعد الصبّ على الصبيّ المتغذّي؛ نظراً إلى عدم وجوب العصر في غير المتغذّي إجماعاً.

و لكنّ الظاهر أنّ الحمل على الاستحباب أولى؛ لاقتضاء الحمل الأوّل الحكم بوجوب التعدّد

أيضاً، مع أنّه خلاف ظاهر الرواية جدّاً.

و يؤيّد الحمل على الاستحباب ما قد يقال: من كفاية العصر مع الصبّ على

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 520

..........

______________________________

تقدير اعتباره أيضاً، و لا يعتبر تأخّر الأوّل عن الثاني، كما هو ظاهر الرواية؛ من جهة العطف بكلمة «ثمّ». مع أنّه يحتمل عدم الاستحباب أيضاً؛ و أنّ الحكم بالعصر في الرواية قد جرى مجرى العادة و الغلبة. و لكن هذا الاحتمال بعيد.

و كيف كان: فالظاهر عدم وجوب العصر فيما قلنا فيه بكفاية الصبّ.

الثاني: ظاهر كلمة «الصبيّ» الواردة في الروايات هو الذكر؛ فإنّها و إن كانت ربّما تطلق و يراد منها الجنس الشامل للأُنثى أيضاً، إلّا أنّ ظهورها مع الإطلاق في خصوص الذكر ممّا لا ينبغي أن ينكر، خصوصاً في الحكم المخالف للقواعد العمومات، كما في مثل المقام.

نعم، في رواية الحلبي المتقدّمة قوله (عليه السّلام)

و الغلام و الجارية في ذلك شرع سواء

و ظاهره التساوي بين الذكر و الأُنثى في هذا الحكم.

و لكنّه ربّما يقال: بعدم إمكان الاستدلال به؛ لإجمال المشار إليه في قوله

في ذلك

لأنّ المتقدّم عليه أمران:

أحدهما: قوله

يصبّ عليه الماء.

و ثانيهما: قوله

فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلًا.

و لم يعلم أنّ المماثلة هل هي بالإضافة إلى الصبّ، أم بالنسبة إلى الغسل فيما إذا أكل، و معه يشكّ في التحاق بول الصبيّة ببول الصبيّ، فاللازم الرجوع فيه إلى الأدلّة الدالّة على لزوم تعدّد الغسل، فالظاهر حينئذٍ هو ما ذهب إليه الأكثر بل المشهور من الاختصاص، خلافاً لظاهر الصدوقين من التعميم، و اختاره في «الحدائق» أيضاً.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 521

..........

______________________________

الفرع الثاني: تطهير المتنجّس بغير البول من سائر النجاسات إن لم يكن آنية و قد اختار في المتن الاجتزاء فيه بالمرّة، كما هو المنسوب إلى الأكثر؛ لإطلاق الأمر بالغسل في أكثرها، مثل ما ورد في أبوال ما لا يؤكل لحمه من قوله (عليه السّلام)

اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه «1».

و ما ورد في الكلب من قوله (عليه السّلام)

إذا مسسته فاغسل يدك «2».

و في الخنزير: قلت: و ما على من قلّب لحم الخنزير؟

قال

يغسل يده «3».

و في الكافر من قوله (عليه السّلام)

فإن صافحك بيده فاغسل يدك «4».

و في المنيّ من قوله (عليه السّلام)

إن عرفت مكانه فاغسله «5».

و في الميتة من قوله (عليه السّلام)

و إن أخذت منه بعد أن يموت فاغسله.

و في المسكر من قوله (عليه السّلام)

إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه «6».

و غير ذلك من الروايات الواردة في هذه الأُمور و غيرها من النجاسات، فإنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 12، الحديث 9.

(3) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 13، الحديث 4.

(4) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 14، الحديث 5.

(5) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 16، الحديث 1.

(6) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 38، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 522

..........

______________________________

الأمر بالغسل إرشاد إلى النجاسة، و إلى حصول الطهارة بالغسل، و مقتضى الإطلاق كفاية الغسل مرّة واحدة.

نعم، تمكن المناقشة في بعضها؛ من جهة عدم وضوح كونها في مقام البيان من هذه الجهة، و هو شرط التمسّك بالإطلاق. و لكنّ الظاهر عدم جريان المناقشة في الجميع.

إنّما الإشكال في

نجاسة لا يكون لدليل التطهير منها إطلاق، أو لم يكن في الأدلّة تعرّض للتطهير منها، بل كان التعرّض فيها لمجرّد نجاستها، أو كان دليل نجاستها منحصراً في الإجماع، فإنّه هل يكتفى في أمثال ذلك بالغسل مرّة واحدة، أو لا بدّ فيها من التعدّد، كما في البول على ما عرفت.

و قد استدلّ على الأوّل بوجوه:

الأوّل: الإجماع المركّب، و عدم القول بالفصل بين النجاسات في غير بول الآدمي، كما ادّعاه في «الذخيرة» و في محكيّ «الجواهر»: و يساعده التتبّع.

و لكن يرد عليه مضافاً إلى منع الصغرى؛ لذهاب جماعة من متأخّري المتأخّرين إلى اعتبار التعدّد فيما لم يقم دليل على كفاية المرّة فيه منع الكبرى؛ لوضوح عدم كونه إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم، بعد احتمال الاستناد إلى أحد الوجوه الآتية، كما لا يخفى.

الثاني: إطلاق ما دلّ على مطهّرية الماء، و العمدة فيه النبويّ الذي رواه المؤالف و المخالف كما عن «السرائر»

خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه «1».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 523

..........

______________________________

نظراً إلى إطلاقه بلحاظ المطهّر بالفتح و احتمال عدم وروده في مقام البيان، مندفع بالأصل.

و يرد عليه: أنّ الظاهر كما ذكرنا في أوّل بحث المياه، أنّ «الطهور» بمعنى الطاهر، و ليس فيه معنى المطهّرية أصلًا، حتّى يتمسّك بإطلاقه بلحاظ المطهّر بالفتح و كونه صيغة مبالغة لا تستلزم اشتماله على المطهّرية أيضاً.

و يؤيّده في المقام قوله

لا ينجّسه شي ء ..

الظاهر في أنّ المراد شدّة مرتبة الطهارة الحاصلة له، و التفصيل مذكور هناك.

و على تقدير دلالتها على ثبوت المطهّرية، فلا يستفاد منها كيفية

التطهير؛ و أنّه هل يتحقّق بالمرّة، أو يتوقّف على التعدّد؟ و هذا لا ينافي إطلاقه بلحاظ المطهّر بالفتح فتدبّر.

كلّ ذلك مع إمكان المناقشة في سندها؛ حيث لم تثبت روايتها من طرقنا، فضلًا عن أن يكون نقلها متسالماً عليه بين المؤالف و المخالف. هذا مع أنّ في دلالتها جهات أُخر قابلة للتأمّل.

الثالث: إطلاقات الأخبار:

منها: صحيحة زرارة المعروفة الواردة في الاستصحاب قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من منيّ ..

إلى أن قال

تعيد الصلاة و تغسله .. «1».

نظراً إلى أنّ الظاهر أنّ السؤال فيها إنّما هو عن مطلق النجاسة، لا عن الدم و المنيّ فقط، فإنّ قوله: «أو غيره» و إن كان يحتمل في نفسه أن يراد به غير الدم من

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 41، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 524

..........

______________________________

النجاسات، ليكون ذكر المنيّ بعد ذلك من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ، كما يحتمل أن يراد به دم غير الرعاف، إلّا أنّ المستفاد من جملات السؤال و الجواب الواردة في الصحيحة، أنّ السؤال إنّما هو عن طبيعي النجاسة، و لا سيّما قوله

و لا تعيد الصلاة.

قلت: لم ذلك.

قال

لأنّك كنت على يقين من طهارتك.

و يرد على الاستدلال بها: أنّ السؤال و إن كان إنّما هو عن طبيعي النجاسة، من دون مدخلية للدّم و المنيّ في محطّه أصلًا، إلّا أنّ الظاهر عدم جواز الاستدلال بإطلاق وجوب الغسل للاكتفاء بالمرّة؛ لكون الظاهر من الصحيحة أنّ كيفية التطهير كانت معلومة عند السائل، و إنّما السؤال من جهة نسيانه أو غيرها من الجهات الأُخر، و ليس في الرواية إشعار بعدم معلومية كيفية التطهير لدى السائل، لو

لم نقل بدلالتها على المعلومية، و حينئذٍ كيف يجوز التمسّك بالإطلاق مع عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة أصلًا؟! و منها: موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) أنّه سئل عن رجل ليس عليه إلّا ثوب، و لا تحلّ الصلاة فيه، و ليس يجد ماءً يغسله، كيف يصنع؟

قال

يتيمّم و يصلّي، فإذا أصاب ماءً غسله و أعاد الصّلاة «1».

فإنّ قوله: «و ليس يجد ماء يغسله» قرينة على أنّ المراد من عدم حلّية الصلاة فيه، هو عدم الحلّية المستند إلى النجاسة، لا إلى كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و عليه فإطلاق قوله (عليه السّلام) في الجواب

غسله

ظاهر في الاكتفاء بمجرّد الغسل المتحقّق بالمرّة الواحدة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 45، الحديث 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 525

..........

______________________________

و يرد على الاستدلال بها: ما عرفت من وضوح عدم كون الرواية واردة في مقام البيان من هذه الجهة، و أنّ كيفية التطهير كانت معلومة عند السائل، فكيف تصحّ دعوى الإطلاق مع ذلك؟! و منها: مرسلة محمّد بن إسماعيل بن بَزيع، عن أبي الحسن (عليه السّلام) في طين المطر

أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام، إلّا أن يعلم أنّه قد نجّسه شي ء بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله، و إن كان الطريق نظيفاً لم تغسله «1».

و يرد على الاستدلال بها مضافاً إلى ضعف سندها بالإرسال أنّه لم يعلم وجه التفصيل بين ثلاثة أيّام و غيرها، فإنّه إن كان الطريق نجساً غير نظيف، لا فرق بين الثلاثة و ما بعدها، كما هو ظاهر الرواية، و إن كان نظيفاً فلا فرق بينهما أيضاً، فما وجه التفصيل؟!

إلّا أن يقال: بأنّ الفرق إنّما هو في صورة الشكّ؛ نظراً إلى أنّه في هذه الصورة لا يجب الغسل في الثلاثة، و يجب فيما بعدها. و الوجه في الفرق غلبة التنجيس بعد مضيّ الثلاثة نوعاً.

و مع ذلك لا مجال للاستدلال بإطلاق وجوب الغسل؛ لكون الرواية في مقام بيان التفصيل، لا في مقام بيان كيفية التطهير كما هو ظاهر.

و منها: موثّقة أُخرى لعمّار، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): في رجل قصّ أظفاره بالحديد، أو جزّ من شعره، أو حلق قفاه

فإنّ عليه أن يمسحه بالماء قبل أن يصلّي.

سئل: فإن صلّى و لم يمسح من ذلك بالماء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 75، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 526

..........

______________________________

قال

يعيد الصلاة؛ لأنّ الحديد نجس.

و قال

لأنّ الحديد لباس أمل النار، و الذهب لباس أهل الجنّة «1».

نظراً إلى أنّ حكمه بكفاية المسح بالماء، معلّلًا ب

أنّ الحديد نجس

يعطي أنّ طبيعة النجس تنجّس ملاقياتها بالرطوبة، و تزول نجاستها بمجرّد أن أصابها الماء، و هو معنى كفاية الغسل مرّة واحدة.

نعم، تطبيق ذلك على الحديد لا يخلو من عناية؛ لوضوح عدم كون الحديد نجساً، و لا أنّه منجّس لما يلاقيه، إلّا أنّه أمر آخر. و قال الشيخ (قدّس سرّه): و هذا محمول على الاستحباب دون الإيجاب؛ لأنّه شاذّ مخالف للأخبار الكثيرة.

و يرد على الاستدلال بها: أنّه مع قطع النظر عن ورود الرواية في الحديد، و هو لا يكون نجساً كما عرفت، أنّ غاية مفادها أنّ كلّ نجاسة يجب غسلها لأجل الصلاة، و إذا لم تغسل يوجب ذلك بطلان الصلاة و لزوم الإعادة، و أمّا أنّ كلّ نجس يكفي في تطهيره الغسل فضلًا عن

المسح فلا دلالة للرواية عليه بوجه، فكيف يستفاد منها إطلاق وجوب الغسل مع كلّ نجاسة كما لا يخفى؟! و قد انقدح ممّا ذكرنا، عدم تمامية شي ء من الوجوه الثلاثة، و عدم نهوضه لإثبات الاكتفاء بالغسل مرّة في مطلق النجاسات بمعناها الأعمّ من المتنجّسات.

و أمّا ما استدلّ به على لزوم التعدّد، فوجوه أيضاً:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: ذكر المنيّ و شدّده و جعله أشدّ من البول.

ثمّ قال

إن رأيت المنيّ قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة، فعليك إعادة الصّلاة،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 83، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 527

..........

______________________________

و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه، ثمّ صلّيت فيه، ثمّ رأيته بعد، فلا إعادة عليك و كذلك البول «1».

فإنّ مقتضى الأشدّية عدم الاكتفاء في المنيّ بالمرّة، و إن كان لازمها عدم الاكتفاء بالمرّتين أيضاً، و إلّا لا تحقّق الأشدّية، إلّا أنّ الظاهر الاتّفاق على عدم لزوم الزائد عليهما.

و فيه مضافاً إلى أنّ مقتضى هذا الوجه لزوم التعدّد في المنيّ، لا في مطلق النجاسات كما هو المدّعى أنّ الاستدلال به يبتني على أن يكون المراد من الأشدّية هي الأنجسية، مع أنّه غير معلوم؛ لأنّه يحتمل في الأشدّية وجوه متعدّدة، أظهرها أنّ المراد منها سعة دائرة نجاسة المنيّ؛ حيث إنّه نجس من كلّ حيوان ذي نفس سائلة، محرّماً كان، أم محلّلًا، بخلاف البول، فإنّه تختصّ نجاسته بخصوص المحرّم. و قد فصّلنا القول في ذلك في مبحث نجاسة المنيّ، فليراجع.

و منها: ما في روايتي الحسين و البزنطي المتقدّمتين في الفرع الأوّل؛ من تعليل وجوب صبّ الماء على البول مرّتين بقوله (عليه السّلام)

فإنّما

هو ماء.

نظراً إلى أنّ البول الذي يكون ماءً إذا اقتضى التعدّد، فالثخانة و القوام أولى بالاقتضاء.

و يدفعه: أنّه يتمّ لو كان التعليل لوجوب التعدّد، مع أنّ الظاهر كونه تعليلًا لكفاية الصبّ في مقابل الغسل، فلا ارتباط له بالمقام.

و منها: الاستصحاب، فإنّه مع الاكتفاء بالمرّة يشكّ في زوال النجاسة المتحقّقة، و مقتضى الاستصحاب بقاؤها إلى أن يحصل التعدّد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 16، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 528

..........

______________________________

و قد أُورد عليه بوجوه:

الأوّل: عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية الإلهيّة، و منها ما نحن فيه.

و الجواب: أنّه قد حقّق في محلّه جريانه فيها أيضاً.

الثاني: أنّ النجاسة لا تكون من الأحكام المجعولة الشرعية، بل إنّما هي حكم وضعي منتزع من الحكم التكليفي بالغسل مرّة أو مرّتين، فالشكّ في بقائها يرجع إلى الشكّ في وجوب الغسل مرّة أو أكثر، و من المعلوم أنّ المرجع في مثله هي أصالة البراءة عن الزائد؛ لكونه شكّاً في التكليف الزائد.

و الجواب: ما حقّقناه سابقاً من أنّ الظاهر كون النجاسة أمراً وجودياً متحقّقاً في النجس، غاية الأمر أنّ لها في الشريعة مصداقين:

أحدهما: حقيقي، و هو الذي يستقذره العرف و العقلاء، فإنّه في مثله لم يجعل الشارع له القذارة، و لم يكن له اصطلاح خاصّ في القذر و النجس، بل جعل الشي ء النجس الذي كان فيه خصوصية وجودية موجبة لاستكراه العقلاء و استقذارهم موضوعاً للأحكام المتعدّدة.

و ثانيهما: اعتباري جعلي، و هو النجاسات الشرعية التي لا يكون العرف مستقذراً لها، و في مثله جعل الشارع له النجاسة، و اعتبرها له، ثمّ رتّب أحكاماً بعد جعل النجاسة و الإلحاق الموضوعيّ، غاية الأمر اختلاف الملاك باختلاف أنواع هذا القسم

من النجس.

و كيف كان: فالنجاسة في نفسها، إمّا أن تكون متحقّقة عند العرف، و إمّا أن تكون معتبرة عند الشارع و مجعولة من ناحية الشرع، فلا وجه لدعوى انتزاعها من الحكم التكليفي أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 529

..........

______________________________

الثالث: أنّ استصحاب النجاسة من قبيل استصحاب الفرد المردّد بين طويل العمر و قصيره، و هو ليس بحجّة.

و الجواب أوّلًا: أنّه ليس هنا فرد مردّد بين الطويل و القصير، بل المتيقّن فرد معيّن غير مردّد، غاية الأمر أنّه يشكّ في أنّه هل يزول بالغسل مرّة، أو أنّه يتوقّف زواله على المتعدّد من الغسل؟ فالشكّ في ارتفاع الفرد المعيّن و عدمه.

و ثانياً: أنّه على تقدير تسليمه نقول: إنّه لو أُريد بهذا الاستصحاب إثبات الفرد الطويل، و ترتيب الآثار المترتّبة على خصوصه، فلا مجال له؛ لكونه من الأُصول المثبتة.

و إن أُريد به إثبات بقاء الكلّي، و ترتيب الآثار المترتّبة عليه، فلا مانع من جريانه أصلًا، و مثل عدم جواز الصلاة من الآثار التي تترتّب على كلّي النجاسة و طبيعيّها، فاللازم تكرار الغسل لتجوّز الصلاة فيه. و قد انقدح من ذلك تمامية الاستصحاب.

و لكن الرجوع إليه إنّما هو فيما إذا لم يكن في مقابله دليل مفاده جواز الاكتفاء بالمرّة في مقام التطهير، و قد عرفت قيامه في جلّ النجاسات العينية، بل الظاهر وجوده في كلّها ما عدا البول، فقد ورد في عرق الإبل الجلّالة في صحيحة حفص أو حسنته قوله (عليه السّلام)

و إن أصابك شي ء من عرقه فاغسله «1».

و أمّا عرق الجنب من الحرام، فقد عرفت أنّ الأظهر عدم نجاسته، بل عدم مانعيته عن الصلاة أيضاً.

و قد ورد في الدم قوله (عليه السّلام)

إن اجتمع قدر

حمّصة فاغسله، و إلّا فلا «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 15، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 20، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 530

..........

______________________________

أي لا يجب غسله لأجل الصلاة، لا أنّه ليس بنجس، كما ذهب إليه الصدوق.

و أمّا الغائط، فلا يجب غسله أصلًا، بل يجوز التمسّح بالأحجار و نحوها كما مرّ، في أحكام التخلّي.

و بالجملة: فالدليل على الاكتفاء بالمرّة في المتنجّس بالأعيان النجسة المعهودة ما عدا البول قائم، و مع قيامه لا يبقى مجال للاستصحاب، و إذا كان المتنجّس بها من دون واسطة يكفي فيه المرّة، فالمتنجّس بها مع الواسطة تكفي فيه المرّة بطريق أولى بالأولوية القطعية.

الكلام في المتنجّس بالبول مع الواسطة نعم، يبقى الكلام في المتنجّس بالبول مع الواسطة، و أنّه هل يعتبر فيه التعدّد كالمتنجّس من دون واسطة، أو يكتفي فيه بالمرّة؟

ربّما يقال: بالثاني نظراً إلى رواية العيص بن القاسم قال: سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء.

فقال

إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه «1».

فإنّ مقتضى إطلاقها الاكتفاء بالغسلة الواحدة في المتنجّس بالماء المتنجّس بالبول أو بغيره من النجاسات و الأقذار.

و لكنّه ربّما يناقش في الاستدلال بالرواية تارة: من جهة الإضمار، و اخرى: من جهة الإرسال.

و لكن يدفعها: أنّ جلالة شأن العيص و علوّ مقامه، مانع عن احتمال رجوعه في

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 531

..........

______________________________

أخذ الحكم الشرعيّ إلى غير الإمام (عليه السّلام) و حيث إنّ الشهيد في «الذكرى» و المحقّق في «المعتبر» رويا الرواية عن العيص من دون واسطة، فيدلّ ذلك على أنّهما

وجداها في كتاب قطعي الانتساب إليه، و من الواضح اعتبار نقلهما بعد علوّ مقامهما، و وضوح عدالتهما و وثاقتهما، فالإشكال من جهة الإرسال ممّا ليس له مجال أيضاً.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: جواز الاكتفاء بالمرّة في تطهير عموم النجاسات و المتنجّسات ما عدا المتنجّس بالبول من دون واسطة. هذا في غير الإناء، و أمّا الإناء فسيأتي حكمه.

نعم، لا ينبغي الإشكال في أنّ الأحوط التعدّد، و هو الذي قوّاه جماعة إمّا مطلقاً، أو في خصوص ما له ثخن و قوام.

بقي في هذا الفرع أمران:

في الغسلة المزيلة و المطهّرة الأمر الأوّل: أنّه هل تكفي الغسلة المزيلة في حصول الطهارة، أو أنّه لا بدّ من أن تكون الغسلة المطهّرة بعد غسلة الإزالة، كما عن جماعة؟

منهم المحقّق في «المعتبر» قال فيه: و هل يراعى العدد في غير البول؟ فيه تردّد، و أشبهه يكفي المرّة بعد إزالة العين؛ لقوله (عليه السّلام) في دم الحيض

حتّيه ثمّ اغسليه ...

و أُجيب عنه: بأنّه يمتنع حمل الأمر على الوجوب؛ للقطع بعدم وجوب الحتّ، فالأمر به لا بدّ أن يكون محمولًا على الاستحباب كما عن جماعة، بل في «المنتهى»

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 532

..........

______________________________

نسبته إلى علمائنا و أكثر أهل العلم، أو على الإرشاد إلى أمر عرفيّ؛ لأنّ الحتّ قبل صبّ الماء أرفق في التطهير، فإطلاق الأمر بالغسل و غيره الصادق على الغسلة المزيلة كما اعترف به جماعة منهم السيّد محكّم، و دعوى الانصراف إلى غيرها و لو ببقاء الصبّ مستمرّاً بعد زوالها، غير ظاهرة.

و يؤيّده: أنّ الظاهر أنّ الغسل المأمور به لحصول الطهارة و ارتفاع النجاسة، ليس إلّا مثل الغسل المتداول في إزالة الأوساخ و

القذارات العرفية، فكما أنّه يكفي في تحقّق زوال الوسخ و القذارة مجرّد الغسل المزيل، فكذلك في الشرعيّات، و ما تقدّم من ارتكاز ثبوت غسلتين الأُولى: للإزالة، و الثانية: للإنقاء فإنّما هو لأجل نفي ثبوت الغسلتين بعد الإزالة بحيث يصير المجموع ثلاث غسلات، و إلّا ففي الحقيقة لا مغايرة بين غسلة الإزالة و غسلة الإنقاء؛ فإنّ زوال العين مرجعه إلى حصول الطهارة لها؛ لأنّها كما مرّ سابقاً عبارة عن أمر عدميّ؛ و هو عدم ثبوت النجاسة التي هي خصوصية وجودية في الشي ء النجس، فالإزالة و الإنقاء غير متغايرين.

و قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ مقتضى القاعدة هو الاكتفاء بالغسلة المزيلة، و عدم الحاجة إلى غسلة أُخرى زائدة.

نعم، يبقى الكلام في وجه الفرق بين البول و غيره، حيث إنّه احتاط في المتن في الأوّل بكون الغسلتين غير غسلة الإزالة، و ظاهره في الثاني الفتوى بالمغايرة؛ و لزوم كون الغسلة بعد زوال العين.

و الظاهر أنّ الوجه أنّ دليل الغسلتين، يجري فيه الارتكاز الذي ذكرنا؛ و هو كون الأُولى للإزالة و الثانية للإنقاء، خصوصاً مع ملاحظة تفسير المحقّق (قدّس سرّه)

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 533

..........

______________________________

للرواية على ما عرفت، و أمّا دليل الغسل فلا مجال لهذا الاحتمال فيه، فعلى تقدير تفسيره بغسلة التطهير كما هو مبنى هذا القول لا محيص عن الالتزام بتحقّق الزوال قبله؛ إمّا بالغسل أو بغيره كما لا يخفى.

نعم، يكفي استمرار إجراء الماء و صبّه بعد الزوال و لا حاجة إلى عنوان التعدّد أصلًا.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 533

في اعتبار انفصال الغسالة و اعتبار العصر الأمر الثاني: أنّه يعتبر في التطهير أي تطهير غير الإناء بالماء القليل انفصال الغسالة، سواء كان مثل البدن و نحوه ممّا لا ينفذ فيه الماء، أم كان مثل الثياب و الفرش ممّا ينفذ فيه الماء و يقبل العصر، غاية الأمر أنّه يكفي في الأوّل مجرّد انفصال الماء؛ أي معظمه، و يعتبر في الثاني العصر أو ما يقوم مقامه؛ لعدم تحقّق الانفصال فيه بدون العصر، فهو مقدّمة لانفصال الغسالة عن المغسول.

و الوجه في اعتبار الانفصال ما قيل: من أنّ عنوان الغسل يتوقّف صدقه على انفصال الغسالة عن المغسول؛ لوضوح أنّه لو أخذ كفّه و صبّ الماء عليه بحيث لم تنفصل عنها الغسالة لم يصدق أنّه غسل يده.

و يرد عليه: ما مرّ سابقاً من عدم مدخلية الانفصال في صدق الغسل فهل يتوقّف تحقّق الغسل المأمور به في آية الوضوء، على انفصال مائه عن الوجه و اليدين؛ بحيث لا يتحقّق المأمور به قبل الانفصال؟! و من المعلوم بطلانه، فالانفصال غير داخل في مفهوم الغسل.

نعم، ربّما يقال كما في

المستمسك

: بأنّ الانفصال منصرف أدلّة التطهير، و لو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 534

..........

______________________________

بواسطة ورودها مورد التطهير و إزالة النفرة و القذارة؛ فإنّ ذلك لا يحصل عرفاً إلّا بانفصال ماء الغسالة؛ فإنّه ما دام موجوداً لا ترتفع النفرة و القذارة، و لأجل ذلك لا مجال للأخذ بإطلاق ما اشتمل منها على الصبّ الصادق قطعاً على مجرّد ملاقاة المحلّ؛ فإنّ قرينة ورودها مورد التطهير المنزّل على المرتكز العرفيّ، مانعة عن الأخذ بالإطلاق المذكور.

و يشير إلى ذلك مقابلة الصبّ بالغسل في بعض النصوص،

فإنّ الظاهر منه أنّ التعبير بالصبّ للتنبيه على تحقّق الانفصال في مورده كالجسد بمجرّد الصبّ؛ لترتّبه عليه غالباً بلا حاجة فيه إلى عناية أُخرى.

و يشهد بذلك الأمر بالغسل في كثير من الموارد التي لا يمكن فيها العصر؛ إذ احتمال الفرق بين الموارد بأن يكتفى بالصبّ في بعض الموارد، و لا يكتفى به في المورد الآخر، بل لا بدّ من الغسل ممّا لا مجال له قطعاً، فلا بدّ من حمل الأمر بالصبّ على الأمر بالغسل جمعاً، فيكون المراد من الصبّ، الصبّ على نحو الغسل و التطهير المعتبر فيه الانفصال.

و يرد عليه ما أفاده في ذيل كلامه: من ابتناء تمامية هذا الوجه على نجاسة ماء الغسالة؛ لأنّ الوجه في اعتبار الانفصال عرفاً بناؤهم على سراية القذارة من المحلّ إلى الماء المغسول به، و مع عدم انفصاله عنه يكون المحلّ عندهم كأن لم يغسل، و أمّا إذا فرض طهارته، و حكم الشارع باعتصام الماء، كان ذلك ردعاً لهم، فلا مانع من الأخذ بالإطلاق، و لذا لا يكون الانفصال معتبراً في التطهير بالكثير، كما هو المشهور.

و قد ذكر المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) في «المصباح» في وجه اعتبار الانفصال كلاماً،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 535

..........

______________________________

محصّله: أنّا و إن أنكرنا كون الانفصال معتبراً في مفهوم الغسل لكن ليس لنا إنكار كون الغسل لغة و عرفاً أخصّ من مطلق استيلاء الماء على المحلّ؛ ضرورة أنّ غسل الثوب عبارة عن تنظيفه و إزالة وسخه، فلا يتحقّق غسل الثوب الوسخ بمجرّد إلقائه في الماء و إجراء الماء عليه.

و كون القذارة الشرعية الحكمية أمراً غير محسوس لنا، لا يستلزم أن يتحقّق غسلها بمجرّد استيلاء الماء على المتنجّس؛ لجواز أن

يتوقّف إزالتها على ما يتوقّف عليه إزالة القذارات الحسّية؛ من الفرك و الدلك و نحوهما.

فحالنا بالنسبة إلى القذارات الحكمية، حال الأعمى المأمور بغسل الثوب الملطّخ بالدم؛ في أنّه يجب عليه الاحتياط حتّى يقطع بنظافته.

نعم، لو لم يكن مفهوم الإزالة مأخوذاً في ماهية الغسل و كان الغسل اسماً لمطلق إيصال الماء إلى الشي ء و إجرائه عليه، لم يجب عليه إلّا إيجاد مسمّاه، لكنّه ليس كذلك، فلو أمر المولى عبده بغسل ثوب نظيف، يتنفّر طبعه عن لبسه بواسطة بعض الأشياء المقتضية له ككونه ثوب ميّت و نحوه ليس للعبد الاجتزاء في امتثاله بمجرّد طرحه في الماء و إخراجه؛ لانصراف الأمر بالغسل عن مثل هذا الفعل قطعاً، بل عدم كونه مصداقاً للغسل عرفاً.

و أنت خبير: باضطراب هذا الوجه؛ فإنّه إن كان المراد من أخصّية مفهوم الغسل من مطلق استيلاء الماء على المحلّ هي الأضيقية مفهوماً، مع قطع النظر عن ملاحظة متعلّقه، بل كان الغسل بما هو غسل كذلك، فيرد عليه ما ذكرنا سابقاً: من منع الأضيقية؛ لورود الغسل مأموراً به في مثل آية الوضوء، و من الواضح عدم اعتبار الزائد على استيلاء الماء على الوجه أو اليدين في باب الوضوء و مثله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 536

..........

______________________________

و إن كان المراد هي الأخصّية مع ملاحظة تعلّقه بالشي ء النجس كالثوب و نحوه، فمرجعه إلى ما أفاده في «المستمسك» و قد عرفت ابتناءه على نجاسة ماء الغسالة مع أنّ مراد المستدلّ كما صرّح به في كلامه إثبات دعواه مطلقا و لو مع القول بطهارة ماء الغسالة.

و إن كان المراد صورة الشكّ، كما يدلّ عليه التشبيه بالأعمى في المثال المذكور، و يصرّح به في ذيل كلامه

حيث يقول: لا بدّ من القطع بحصوله أي الغسل في رفع اليد عن استصحاب النجاسة، فمضافاً إلى عدم كون الدليل مسوقاً لإفادة حكم الشكّ، نقول: إنّه يتمّ على تقدير الشكّ، و أمّا في غير هذا التقدير فلا مجال له أصلًا.

و قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّه لم يقم دليل على اعتبار الانفصال، بناء على طهارة ماء الغسالة، أو على القول باختصاص نجاسته بما إذا انفصل عنه، و أمّا إذا كان باقياً في المحلّ كما هو المفروض في المقام فلا يكون نجساً، و قد مرّ تحقيقه في بحث الغسالة فراجع.

ثمّ إنّك عرفت: أنّ العصر على تقدير اعتباره، فإنّما هو لأجل كونه مقدّمة لانفصال الغسالة، فإذا قام مقامه شي ء آخر في هذا الغرض و هو الانفصال فلا يجب العصر بوجه، كما إذا داسه برجله، أو غمزه بكفّه أو نحو ذلك.

هذا، و لكن نسب إلى ظاهر المشهور وجوب العصر تعبّداً، بل عن «الحدائق» نفي خلاف يعرف، و عن «المعتبر» نسبته إلى علمائنا.

و عمدة ما يمكن الاستدلال له به أمران:

أحدهما: المقابلة بين

الصبّ

و

الغسل

في بعض النصوص المتقدّمة، فإنّها ظاهرة في المغايرة، و مع اشتراكهما في انفصال الغسالة لا مغايرة، فاللازم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 537

..........

______________________________

الالتزام باعتبار خصوص العصر في تحقّق عنوان الغسل بخلاف الصبّ.

ثانيهما: ذيل رواية الحسين بن أبي العلاء المتقدّمة، الواردة في بول الرضيع حيث قال (عليه السّلام)

تصبّ عليه الماء قليلًا ثمّ تعصره «1».

و يدفع الأوّل: بما مرّت الإشارة إليه؛ من أنّ المقابلة إنّما هي لأجل كون مورد الصبّ و هو الجسد ينفصل عنه الغسالة غالباً بنفسه، من دون حاجة إلى عناية أُخرى، و مورد الغسل و هو الثوب يتوقّف الانفصال نوعاً

على عناية، و أمّا لزوم كون تلك العناية هو العصر متعيّناً، فلا دليل عليه.

و يدفع الثاني: مضافاً إلى وروده في خصوص بول الرضيع، بما ذكرنا: من كون الأمر بالعصر في الرواية محمولًا على الاستحباب، و لا يكون بواجب كما تقدّم.

ثمّ إنّه لم يبقَ في هذا الفرع إلّا بيان كيفية تطهير مثل الصابون و الحبوب ممّا ينفذ فيه رطوبة النجاسة، و قد ظهر ممّا ذكرنا في كيفية تطهيره بالكرّ و الجاري، أنّ التطهير بالقليل مع فرض عدم نفوذ الماء إلى باطنه، يوجب طهارة ظاهره فقط، و لا سبيل لتطهير الباطن، و لا دليل على التبعية في هذه الموارد.

هذا، و لكنّه ربّما يقال:

تارة كما هو المنسوب إلى شهرة المتأخّرين بعدم طهارة ظاهره أيضاً.

و اخرى: بطهارة الباطن أيضاً مع رسوب الماء القليل فيه.

أمّا الأوّل: فمستنده أنّه يشترط في التطهير بالماء القليل، انفصال الغسالة عن المغسول، و هذا لا يكون بمتحقّق في مثل الصابون و الحبوب من الأجسام غير القابلة للعصر، فيما إذا نفذ الماء في جوفها؛ لأنّه لا ينفصل عنه سوى المقدار غير

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 3، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 538

..........

______________________________

الراسب في جوفها، و مع عدم الانفصال يبقى المتنجّس على نجاسته؛ لأنّ الماء الكائن في جوفها ماء قليل لاقاه المتنجّس و نجّسه، و هو يوجب نجاسة المغسول لا محالة.

و أُجيب عنه: بأنّ المعتبر من انفصال الغسالة على تقديره، إنّما هو انفصالها عن الموضع المتنجّس المغسول، لا عن تمام الجسم، فلو انفصلت عن محلّ الغسل، و اجتمعت في مكان آخر من الجسم، يكفي في طهارة خصوص الموضع الذي انفصلت عنه، فإذا غسل الموضع المتنجّس من يده مثلًا،

و انفصلت الغسالة عنه، و اجتمعت في كفّه، حكم بطهارة ذلك الموضع لا محالة، و عليه يكفي في المقام في الحكم بطهارة الظاهر، انفصالُ الغسالة عنه و إن صارت مجتمعة في جوفه.

و أمّا الثاني: فقد استدلّ له بأمرين:

أحدهما: ما أفاده بعض الأعلام في «شرح العروة»: من أنّ غسل كلّ شي ء إنّما هو بحسبه، فربّ شي ء يكتفى في غسله بصبّ الماء عليه و انفصال الغسالة عنه، كما في البدن و نحوه، و شي ءٍ يعتبر فيه عصره، و لا يكفي صبّ الماء عليه، كما في الثوب مثلًا، و في بواطن الأجسام المذكورة يكفي صبّ الماء على ظواهرها إلى أن يصل الماء الطاهر إلى جوفها؛ لأنّه غسلها.

و يكشف عن ذلك، ملاحظة عمل العرف في تطهيرهم لهذه الأجسام من القذارات التي يتنفّرون عنها، فإنّهم يكتفون في إزالتها و غسلها بصبّ الماء الطاهر على ظاهره إلى أن ينفذ في أعماقه، و ليس الغسل المأمور به في الشرع إلّا الغسل الذي يكون غسلًا عند العرف.

و ثانيهما: ما في محكيّ «المدارك»: من لزوم الحرج و الضرر؛ فإنّ بقاءها على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 539

..........

______________________________

نجاستها، و عدمَ إمكان تطهيرها، ضرر على مالكها؛ لأنّ النجاسة مانعة عن الأكل أو الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة.

و الجواب عن الأوّل: أنّ عمل العرف المذكور، إنّما هو في خصوص ما إذا لم تنفذ القذارة في أعماق الأجسام المذكورة، و أمّا مع نفوذها فيها، فلا خفاء في عدم اكتفائهم بمجرّد غسل الظاهر و لو مع العلم بنفوذ الماء الطاهر في الأعماق، فإذا كانت الفاكهة مثلًا في البالوعة أيّاماً متعدّدة؛ بحيث نفذت القذارة في عمقها، فهل يكتفي العرف في تطهيرها بما أفاده؟! من

الواضح خلافه، إذاً فالظاهر عدم إمكان تحقّق الغسل بالنسبة إلى الباطن.

و أُجيب عن الثاني: بأنّ حديث نفي الضرر إنّما ينفي الأحكام التكليفية الضررية، و لا دلالة على نفي الأحكام الوضعية، التي منها الطهارة و النجاسة.

و لكنّ الصحيح في الجواب بعد وضوح عدم اختصاص الحديث برفع خصوص الأحكام التكليفية الضررية، و لذا يستدلّون به في إثبات خيار الغبن الذي مرجعه إلى نفي اللزوم الذي هو من الأحكام الوضعية و إن أمكن إرجاعه إلى نفي وجوب الوفاء بالعقد الذي هو مفاد آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و التحقيق في محلّه أنّ الحديث لا يرتبط بهذه الأُمور، بل إنّما هو حكم صادر من ناحية الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بما أنّه حاكم، لا بما أنّه رسول و واسطة في تبليغ الأحكام الإلهيّة و بيان الوظائف العمليّة. هذا بالنسبة إلى الضّرر.

و أمّا بالإضافة إلى الحرج، فالحكم يدور مداره كما في سائر الموارد.

و قد ظهر ممّا ذكرنا، تمامية ما أُفيد في المتن من التفصيل بين الظاهر و الباطن في الأجسام المذكورة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 540

و أمّا الآنية، فإن تنجّست بولوغ الكلب فيما فيها من ماء أو غيره ممّا يتحقّق معه اسم «الولوغ» غسلت ثلاثاً، أُولاهنّ بالتراب؛ أي التعفير به، و الأحوط اعتبار الطهارة فيه، و لا يقوم غيره مقامه و لو عند الاضطرار.

و الأحوط في الغسل بالتراب، مسحه بالتراب الخالص أوّلًا، ثمّ غسله بوضع ماء عليه؛ بحيث لا يخرجه عن اسم التراب.

و لا يترك الاحتياط بإلحاق مطلق مباشرته بالفم، كاللطع و نحوه و الشرب بلا ولوغ، و مباشرة لعابه بلا ولوغ به، و لا يلحق به مباشرته بسائر أعضائه على الأقوى، و

الاحتياط حسن. (1)

______________________________

(1) تطهير الآنية بالماء القليل في الآنية المتنجّسة بولوغ الكلب الكلام في الآنية المتنجّسة بولوغ الكلب يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في حكمها من جهة التطهير و كيفيته و قد حكي الإجماع على التثليث عن «الانتصار» و «الخلاف» و غيرهما، و عن «المنتهى»: قال علماؤنا أجمع إلّا ابن الجنيد: إنّه يجب غسله ثلاث مرّات، إحداهنّ بالتراب.

و عن ابن الجنيد: أنّه يغسل سبع مرّات، أُولاهنّ بالتراب.

و المشهور أنّ غسلة التراب أُولاهنّ.

و عن المفيد (قدّس سرّه) في «المقنعة»: أنّ الإناء يغسل من الولوغ ثلاثاً، وسطاهنّ بالتراب، ثمّ يجفّف.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 541

..........

______________________________

و عن «الانتصار» و «الخلاف» إطلاق القول بأنّه يغسل ثلاث مرّات، إحداهنّ بالتراب، و كذا حكي عن الصدوق في «الفقيه» و هو ظاهر عبارة «المنتهى» المذكورة المشتملة على النسبة إلى علمائنا أجمع.

و يدلّ على ما اختاره المشهور صحيحة أبي العبّاس البقباق قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن فضل الهرّة و الشاة .. إلى أن قال: فلم أترك شيئاً إلّا سألته عنه.

فقال

لا بأس به.

حتّى انتهيت إلى الكلب.

فقال

رجس نجس، لا تتوضّأ بفضله، و اصبب ذلك الماء، و اغسله بالتراب أوّل مرّة، ثم بالماء مرّتين

«1». كذا رواها في «المعتبر» و حكي ذلك عن كثير من الكتب الفقهية.

لكن قال في «المدارك» بعد ما رواها خالية عن لفظ

المرّتين

: كذا وجدته فيما وقفت عليه من كتب الأحاديث، و نقله كذلك الشيخ (قدّس سرّه) في مواضع من «الخلاف» و العلّامة في «المختلف» إلّا أنّ المصنّف نقله في «المعتبر» بزيادة لفظ «المرّتين» بعد قوله

ثمّ بالماء

و قلّده في ذلك من تأخّر عنه، و لا يبعد أن يكون ذلك من قلم الناسخ،

و مقتضى إطلاق الأمر بالغسل، الاكتفاء بالمرّة الواحدة بعد التعفير، إلّا أنّ ظاهر «المنتهى» و صريح «التذكرة» انعقاد الإجماع على تعدّد الغسل بالماء، فإن تمّ فهو الحجّة، و إلّا أمكن الاجتزاء بالمرّة؛ لحصول الامتثال بها.

و لكن ربّما يقال: إنّ استدلال المحقّق و غيره بها ممّا يمنع من احتمال سهو القلم،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 4، و أبواب النجاسات، الباب 70، الحديث 1 من دون لفظ

مرّتين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 542

..........

______________________________

بل لعلّ عدم تعرّض المحقّق لاختلاف الأصل الذي روى عنه مع أصل الشيخ، يشهد بكونها في «التهذيبين» كذلك، و احتمال كون رواية المحقّق لها بالزيادة المذكورة من جهة الاتّفاق على التثليث، بعيد.

و لكن مع ذلك، لو نوقش في هذا النقل نقول: يدلّ على لزوم التعدّد إطلاق موثّقة عمّار المتقدّمة، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سئل عن الكوز و الإناء يكون قذراً، كيف يغسل؟ و كم مرّة يغسل؟

قال

يغسل ثلاث مرّات: يصبّ فيه الماء فيحرّك فيه، ثمّ يفرّغ منه، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه، ثمّ يفرّغ ذلك الماء، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه، ثمّ يفرّغ منه و قد طهر.

إلى أن قال

اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجُرَذ ميّتاً سبع مرّات «1».

فإنّ مقتضى إطلاقها أنّه لا فرق بين أن يتنجّس بشي ء من الأعيان النجسة، أو المتنجّسات، و به يرفع اليد عمّا يكون مقتضى إطلاقه جواز الاكتفاء بأقلّ من الثلاث كالصحيحة، بناءً على نقل غير المحقّق.

و كصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن الكلب يشرب من الإناء.

قال

اغسل الإناء.

و عن السنّور.

قال

لا بأس أن تتوضّأ من فضلها؛

إنّما هي من السباع «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 53، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأسآر، الباب 2، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 543

..........

______________________________

بناءً على عدم كون محطّ السؤال مجرّد النجاسة و عدمها، كما ربّما يؤيّده السؤال عن السنّور.

و بالجملة: فالإطلاق في الصحيحتين مقيّد بالثلاث للموثّقة؛ لوضوح عدم إمكان إخراج الكلب من الموثّقة، و الحكمِ بثبوت التثليث في غيره؛ لنصوصيتها بالإضافة إلى الكلب، لأنّه القدر المتيقّن منها، فالموثّقة من هذه الجهة مقيّدة لإطلاق الصحيحتين.

كما أنّك عرفت شمولها بل اختصاصها، بالتطهير بالماء القليل؛ من جهة فرض صبّ الماء في الكوز و الإناء؛ و من المعلوم أنّ الماء المصبوب فيهما يكون قليلًا؛ لندرة فرض كون الكوز و الإناء بحيث يسعان لمقدار الكرّ.

نعم، ظاهر الموثّقة كون الغسلات الثلاث بالماء من تعرّض للتعفير؛ و كون الغسلة الأُولى بالتراب. و لكن صحيحة البقباق تصلح لتقييد الموثّقة من هذه الجهة؛ و الحكم بأنّ الغسلة الأُولى لا بدّ و أن تكون بالتراب.

و دعوى أنّ الغسل بالماء يغاير الغسل بالتراب، فكيف يحمل الغسل بالماء على الغسل بالتراب؟! مدفوعة بعدم المغايرة؛ لما سيجي ء من أنّ المراد من الغسل بالتراب هو الغسل بالماء مع ضمّ التراب، فالمغايرة إنّما هي بنحو الإطلاق و التقييد. و يؤيّده التعبير بالغسل في التراب أيضاً، دون المسح.

و أمّا ما حكي عن ابن الجنيد: من أنّه يغسل سبعاً أُولاهنّ بالتراب، فمستنده روايتان:

إحداهما: موثّقة عمّار: عن الإناء يشرب فيه النبيذ.

فقال

تغسله سبع مرّات، و كذلك الكلب «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 30، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 544

..........

______________________________

و أُجيب عنها: بأنّه يأتي في محلّه أنّ

الإناء إنّما يغسل من النبيذ ثلاث مرّات، و لا يجب فيه السبع، بل الأمر به محمول على الاستحباب، فكيف يجب في الكلب، مع أنّه قد شبّه في الموثّقة بالنبيذ؟! مضافاً إلى أنّ الموثّقة خالية عن الدلالة على التعفير، فإنّ ظاهرها كفاية الغسل بالماء سبع مرّات.

مع أنّ صحيحة البقباق المتقدّمة أخصّ من هذه الموثّقة؛ لاختصاصها بالولوغ من جهة التعبير بقوله

لا تتوضّأ بفضله

و الموثّقة أعمّ من ذلك. و إن كان يرد على هذا الجواب: وضوح عدم كون حكم الولوغ أخفّ من حكم غيره فتدبّر.

و كيف كان: لا مجال للاستدلال بهذه الموثّقة بعد ملاحظة ما عرفت.

ثانيتهما: النبويّ

إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبعاً: أُولاهنّ بالتراب «1».

و أُورد عليه: بأنّه مضافاً إلى أنّه نبويّ ضعيف السند معارض بالنبويّين الآخرين

إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله ثلاث مرّات

مع زيادة

أو خمساً أو سبعاً

في الآخر فإنّ مقتضى التحديد بالثلاث كما في أحدهما، و التخييرَ بين الأقلّ و الأكثر في الآخر، كون الزائد مستحبّاً؛ لأنّه لا معنى للتخيير في تطهير المتنجّس بين الأقلّ و الأكثر، فلا بدّ من الحمل على استحباب الزيادة.

ثمّ إنّ صحيحة البقباق، صريحة في تعيّن كون الغسلة الأُولى بالتراب، كما هو المشهور، و لا معارض لها في ذلك، فما تقدّم من المفيد لم يعرف له مستند، كما

______________________________

(1) حكى عن كنز العمّال، 5: 89.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 545

..........

______________________________

اعترف به غير واحد عدا ما حكي عن «الخلاف» من نسبته إلى الرواية، و كذا ما عن «الانتصار» و غيره.

نعم، يدلّ عليه «الفقه الرضويّ»: «إن وقع الكلب في الماء أو شرب منه أُهريق الماء، و غسل الإناء ثلاث مرّات: مرّة بالتراب،

و مرّتين بالماء، ثمّ يجفّف». و لكنّه كما تقدّم غير مرّة لا حجّية فيه أصلًا، فالأقوى في المسألة ما ذهب إليه المشهور.

بقي في هذا المقام جهات:

الاولى: صرّح المفيد (قدّس سرّه) في ذيل عبارته المتقدّمة؛ بلزوم التجفيف بعد الغسلات الثلاث، و عن الصدوقين أيضاً التصريح بذلك و عن جملة من متأخّري المتأخّرين اختياره.

و الشاهد له عبارة «الفقه الرضويّ» المتقدّمة آنفاً، و حيث إنّه لا حجّية له، و الروايات الواردة في التطهير من نجاسة ولوغ الكلب كلّها خالية عن اعتبار هذا الأمر، فلا يبقى مجال لاعتباره.

الثانية: أنّه هل الحكم بلزوم التثليث، و كون الاولى بالتراب، يختصّ بما إذا ولغ الكلب في الإناء الذي كان فيه ماء، أو يعمّ غير الماء من سائر المائعات أيضاً؟

و الظاهر هو الثاني؛ لأنّ صحيحة البقباق و إن كان يظهر من ذيلها أنّ موردها الماء؛ حيث قال

و اصبب ذلك الماء

إلّا أنّه حيث كان محطّ السؤال في الرواية صدراً و ذيلًا هو عنوان الفضل المضاف إلى الحيوانات، فالحكم أيضاً يجري على هذا العنوان، و من الواضح عدم اختصاصه بخصوص ما يبقى من الماء؛ لأنّه بمعنى ما يبقى من الطعام و الشراب و النهي عن التوضّي بفضله، و الحكم بوجوب صبّ الماء، لا يوجب قصر حكم التطهير بخصوص فضل الماء، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 546

..........

______________________________

نعم لا بدّ أن يكون المائع بنحو يكون شربه منه موجباً لصدق اسم «الولوغ» و «الفضل» كما هو المصرّح به في المتن؛ لعدم ترتّب الحكم بدونه.

الثالثة: أنّه لا بدّ في الغسلة الأُولى التراب، و لا يقوم مقامه الرماد و الأشنان و النورة و الصابون و نحو ذلك؛ لا في حالة الاختيار

و إن حكي عن ابن الجنيد و أبي العبّاس كفايته و لا في حالة الاضطرار، و إن حكي عن جمع من الكتب الفقهية الاكتفاء به حينئذٍ؛ كلّ ذلك لورود الغسل بالتراب في الصحيحة التي هي عمدة المستند في هذا الباب، و لم يحصل لنا القطع بعدم الفرق بين التراب و غيره، خصوصاً بعد ما اشتهر في هذه الأزمنة: من أنّ (ميكروبات) فم الكلب و لسانه، لا تزول و لا تموت إلّا بالتراب، و مقتضى إطلاق الصحيحة أنّه لا فرق بين حالتي الاختيار و الاضطرار.

نعم، لا تبعد دعوى كفاية الرمل، و إن حكي عن «كشف الغطاء» المنع؛ لمنع كونه تراباً، نظراً إلى أنّه من التراب عرفاً، و لكنّه يمكن منعه؛ لكون الرمل في مقابل التراب. و جواز التيمّم بالرمل، لا دلالة له على أنّه منه إلّا بعد تخصيص ما يتيمّم به بخصوص التراب الخالص أوّلًا؛ فإنّ الحكم بالجواز دليل على كونه منه.

مع أنّه يمكن أن يقال: بأنّ الاشتراك في الحكم لأجل قيام الدليل عليه، لا دلالة على كونه من مصاديق التراب، و بالجملة فالمسألة مشكلة.

الرابعة: قد احتاط في المتن باعتبار كون التراب طاهراً يعني قبل الاستعمال في تطهير الإناء، و قد نسب اختياره إلى المشهور، بل لم يحكَ الخلاف فيه إلّا من الأردبيلي و بعض ممّن تبعه.

و قد يقال في وجه ذلك: إنّ العمدة فيه دعوى انصراف النصّ إليه، بنحو يوجب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 547

..........

______________________________

تعيّنه، لا بنحو يوجب رفع الإطلاق.

و أُورد عليه: بأنّه من الفساد بمكان؛ لعدم الفرق بين النجس و الطاهر فيما هو المستفاد من النصّ، لو لم يدّع أنّ الغالب في التعفير هو التعفير بالتراب النجس.

و

يدفع الإيراد: أنّ استفادة عدم الفرق فرع ثبوت الإطلاق و تماميته، مع أنّ المدّعى الانصراف إلى خصوص التراب الطاهر، و ليس وجه الانصراف غلبة التعفير بالتراب الطاهر حتّى يدّعى ثبوت الغلبة في خلافه.

مع أنّه ممنوع جدّاً، بل وجهه هو ارتكاز كون التراب في الرواية كالماء المذكور فيها، فكما أنّه يعتبر في الثاني الطهارة بلا إشكال، يستفاد منها اعتبار طهارة الأوّل أيضاً، و هذا من دون فرق بين أن يكون المراد من قوله (عليه السّلام) في الصحيحة

اغسله بالتراب أوّل مرّة ..

هو مسح الإناء بالتراب من دون اعتبار مزجه بالماء، كما هو أحد المحتملين في معنى الغسل بالتراب، أو كان المراد به هو الغسل حقيقة باستعانة التراب، كما في مثل الغسل بالصابون و نحوه.

و من هنا يظهر: أنّ ما جعله المورد هو الصحيح في المقام من الفرق بين الاحتمالين ممّا لا يتمّ، قال في وجهه ما ملخّصه: أنّ الغسل بالتراب إن أُريد به الاحتمال الأوّل، فلا مانع من اعتبار الطهارة في التراب حينئذٍ؛ إمّا لأجل ما هو المرتكز في الأذهان: من عدم الاكتفاء بالمتنجّس في التطهير غسلًا أو مسحاً؛ للقاعدة المعروفة: و هي أنّ معطي الشي ء لا يمكن أن يكون فاقداً له، و إمّا لأجل أنّ التراب طهور للإناء، و قد مرّ أنّ الطهور هو ما يكون طاهراً في نفسه، و مطهّراً لغيره.

و إن أُريد به الاحتمال الثاني، فلا وجه لاعتبار الطهارة في التراب؛ لأنّ التراب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 548

..........

______________________________

ليس بطهور للإناء حينئذٍ، و إنّما مطهّره الماء؛ لأنّ التراب الذي يصبّ في الإناء، و يصبّ عليه مقدار من الماء، ثمّ يمسح به الإناء، لا بدّ من أن يزال

أثره بالماء بعد المسح؛ لوضوح أنّ مجرّد مسح الإناء بالطين أي بالتراب الممتزج بالماء من غير أن يزال أثره بالماء، لا يسمّى تعفيراً و غسلًا بالتراب.

و عليه فهب أنّ التراب متنجّس، و الماء الممتزج به أيضاً قد تنجّس بسببه، إلّا أنّ الإناء يطهر بعد ذلك بالماء الطاهر، الذي لا بدّ من صبّه على الإناء لإزالة أثر التراب عنه، و هو جزء متمّم للتعفير، ثمّ يغسل بالماء مرّتين، فالمطهّر هو الماء، و هو طاهر في الغسلات الثلاث.

و هذا الكلام عجيب جدّاً؛ فإنّه على الاحتمال الثاني أيضاً لا خفاء في مدخلية التراب في المطهّرية، فإنّه لو قيل: اغسل يدك بالصابون مثلًا، فهل يحتمل عدم مدخلية الصابون في زوال القذارة المتحقّقة في اليد، و كون الغسل بالماء لا يوجب اختصاص هذا الوصف به، و عدم مدخلية الصابون فيه أصلًا؟! بل هو دخيل في الوصف، فكما أنّ الماء لا بدّ و أن يكون طاهراً، كذلك التراب الذي له دخل فيه، من دون فرق بينه و بين الماء.

و دعوى حصول الطهارة للإناء؛ في فرض نجاسة التراب بالماء الطاهر، الذي لا بدّ من صبّه على الإناء لإزالة أثر التراب، مدفوعة بأنّه أوّل الكلام؛ لأنّه على القول باعتبار الطهارة في التراب لا تتحقّق الطهارة للإناء في الفرض المزبور و لو غسل بالماء ألف مرّة.

فالإنصاف: أنّه بناءً على هذا الاحتمال أيضاً، لا بدّ من ثبوت وصف الطهارة للتراب.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 549

..........

______________________________

كما أنّه على الاحتمال الأوّل، يكون الوجه في الاعتبار هو الارتكاز فقط، و أمّا عنوان الطهورية فلم يدلّ دليل عليه في المقام، حتّى يقال: بأنّه الطاهر في نفسه، المطهّر غيره، بل الطهورية الثابتة للتراب، إنّما

هي في باب التيمّم، كما يدلّ عليه قوله (عليه السّلام): التراب أحد الطهورين؛ يكفيك عشر سنين. و أمّا في المقام فلم يظهر من دليل ثبوت هذا العنوان له، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لو شكّ في اعتبار الطهارة في التراب، فاستصحاب مطهّرية التراب الثابتة له قبل عروض النجاسة له يجري، و نتيجته حصول الطهارة للإناء مع التعفير بالتراب النجس، و لا يعارضه استصحاب نجاسة الإناء المتحقّقة قبل التطهير به؛ لأنّه حاكم عليه، لأنّ منشأ الشكّ في بقاء النجاسة هو الشكّ في بقاء مطهّرية التراب، و مع جريان الاستصحاب فيها، لا يبقى مجال لاستصحاب النجاسة.

كما أنّ استصحاب المطهّرية، لا يكون من قبيل الاستصحاب التعليقي بوجه؛ لأنّ المطهّرية حكم تنجيزي ثابت له قبل عروض النجاسة شكّ في بقائها بعده، كالمطهّرية الثابتة للماء؛ فإنّ ثبوت هذا الحكم لا يتوقّف على استفادة التطهير منه خارجاً. مع أنّ المراد من الاستصحاب التعليقي هو ما كان التعليق في لسان الشرع، كما في مثل قوله

العنب إذا غلى يحرم

و مثل ذلك لا يكون متحقّقاً في المقام.

فالإنصاف: أنّه مع وصول النوبة إلى الاستصحاب، يكون مقتضاه عدم اعتبار الطهارة في التراب. لكن عرفت أنّ الظاهر عدم وصول النوبة إليه، فالأحوط لو لم يكن أقوى هو الاعتبار.

الخامسة: هل يعتبر مزج التراب بالماء أم لا؟ قولان:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 550

..........

______________________________

حكي أوّلهما عن الحلّي و الراوندي، و عن العلّامة في «المنتهى» و «كاشف اللثام».

و نسب إلى المشهور القول بعدم اعتباره، لكنّهم على ما في محكيّ «الحدائق» بين ساكت عن حكم المزج، و بين مصرّح بجوازه و إجزائه، كالشهيد في «الدّروس» و «البيان» و هو ظاهر الشهيد الثاني في «المسالك» أيضاً، إلّا

أنّه اشترط أن لا يخرج التراب بالمزج من اسمه.

قال ابن إدريس مستدلّاً على الاعتبار: الغسل بالتراب غسل بمجموع الأمرين منه و من الماء، لا يفرد أحدهما عن الآخر؛ إذ الغسل بالتراب لا يسمّى غسلًا؛ لأنّ حقيقته جريان المائع على الجسم المغسول، و التراب وحده غير جارٍ.

و مرجعه إلى أنّ المستفاد من قوله (عليه السّلام) في الصحيحة

اغسله بالتراب أوّل مرّة

لزوم تحقّق عنوانين:

أحدهما: عنوان الغسل الذي حقيقته جريان المائع على الجسم المغسول.

و ثانيهما: عنوان التراب و الجمع بينهما لا يتحقّق بغير المزج، و اختلاطِ المائع بالتراب.

و لكنّه ربّما يجعل التراب قرينة على أنّ المراد من الغسل ليس هو الغسل بمعناه الحقيقي، بل المراد به هو المسح، و قد استعمل فيه الغسل مجازاً؛ بجامع المدخلية في التطهير و زوال النجاسة، و عليه فاللازم إمّا عدم المزج، و إمّا المزج بنحو لا يخرج التراب عن اسمه، كما عرفت من «المسالك».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ لازمه الغسل بالماء بعده ثلاث مرّات؛ لأنّ تقديم الصحيحة على الموثّقة الحاكمة بلزوم الغسلات الثلاث، إنّما كان لأجل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 551

..........

______________________________

الحكم بكون الاولى مبيّنة للثانية، و حاكمة بتقييد الغسل الأوّل بالتراب، و أمّا مع حمل الغسل على المسح، فالصحيحة و إن كانت مقدّمة على الموثّقة حينئذٍ أيضاً، إلّا أنّ وجه تقديمها، هو حكمها بلزوم المسح بالتراب زائداً على الغسلات الثلاث، فتدبّر أنّ عطف قوله (عليه السّلام) بعد ذلك

ثمّ بالماء

لا يجتمع مع حمل الغسل على المسح؛ لأنّ المسح بالماء غير كافٍ قطعاً، بل لا بدّ من الغسل به.

و عليه، فلا مناص من أن يكون المراد من الغسل بالتراب هو الغسل بالماء باستعانة التراب، فالباء

في الرواية للاستعانة، كما في قولهم: اغسل رأسك بالصابون، أو السدر، أو الخطمي فإنّ المراد منه ليس هو مسح الرأس بأحدها، بل معناه الغسل بالماء، لكن لا بوحدته، بل بضمّ شي ء آخر معه.

و ليس مرجع ذلك إلى الغسل بالماء غير الصافي المشتمل على بعض أجزاء ترابية، كما في تغسيل الأموات بالسّدر و الكافور؛ و ذلك لأنّ حفظ عنوان التراب يقتضي عدم الاكتفاء بمثل ذلك، بل لا بدّ من أن لا يخرج التراب بالمزج عن صدق اسمه، و لا يلازم ذلك خروج الغسل عن حقيقته.

و هذا بخلاف تغسيل الأموات، فإنّ اللازم هناك الماء الذي كان له إضافة إلى السدر و الكافور، و يكفي في تحقّق الإضافة الاشتمال على أجزائهما، فالتعبير في المقامين لا يكون على نحو واحد.

و بالجملة: فالجمع بين الحقيقتين في المقام على ما هو المتفاهم عند العرف هو المزج بالكيفية المذكورة.

و أمّا الاحتياط المذكور في المتن، فمنشؤه إجمال الصحيحة، و عدم وضوح المراد من الغسل المذكور فيها، و قد حكي لزومه عن الوحيد و «الرياض».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 552

..........

______________________________

و لكن بملاحظة ما ذكرنا ظهر: أنّه لا إجمال في الرواية؛ و أنّ المراد هو امتزاج الماء بالتراب على نحو لا يخرج بالمزج عن صدق اسم التراب و اللّه أعلم، و الاحتياط حسن على كلّ حال.

المقام الثاني: في موضوع الحكم و قد ادّعى في «الجواهر»: أنّ المشهور شهرة كادت تبلغ الإجماع، قصر الحكم على الولوغ، و هو الشرب كما عن «المصباح» أو بزيادة «طرف لسانه» كما عن «الصحاح» أو هو ذلك، أو «إدخال لسانه في الإناء و تحريكه» كما في «القاموس».

و قد ظهر لك خلوّ الروايات عن هذا التعبير،

إلّا النبويّان المتقدّمان الضعيفان، و إنّما الوارد في الصحيحة التي هي العمدة في الباب، عنوان الفضل و ظاهره الباقي من الطعام و الشرب.

نعم، الحكم بعدم جواز التوضّي بفضله، يختصّ بالماء الباقي من الشراب، لكن قد عرفت عدم الفرق بين الماء و غيره من المائعات، بل في «الجواهر»: ينبغي القطع به.

و أمّا اللطع، فالظاهر عدم صدق عنوان الفضل عليه، كوضوح عدم صدق عنوان الولوغ.

و يظهر منهم أنّ اللطع يكون عندهم بمعنى الولوغ؛ قال في محكيّ «المعالم»: «و المشهور بين الأصحاب قصر الحكم على الولوغ، و ما في معناه و هو اللطع .. لكن عن الأردبيلي منع التعدية إلى اللطع أيضاً».

و دعوى: أنّ اللطع لا يفقد شيئاً ممّا يتضمّنه الولوغ؛ من الأُمور المناسبة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 553

..........

______________________________

للتنجيس أو التعفير، مدفوعة بعدم العلم بمناطات الأحكام الشرعية، و ليس لنا قطع بعدم الفرق.

كما أنّ ما ذكرنا: من أنّ التعفير إنّما هو لأجل ما اشتهر: من كون فم الكلب و لسانه مشتملًا على (ميكروبات) لا تموت إلّا بالتراب، فإنّما هو حكمة للحكم بعد ثبوته، و ليس ذلك بمقطوع حتّى يدور الحكم مداره.

كما أنّ دعوى الأولوية من جهة أنّ النجاسة مع اللطع، إنّما تسري من الفم إلى الإناء من دون واسطة، فهي أولى من النجاسة السارية إلى الإناء بتوسّط المائع ممنوعة؛ لأنّ الكلام ليس في أصل نجاسة الإناء، بل في النجاسة الخاصّة التي يترتّب عليها التعفير و الغسلتان بعده، و لم يعلم ثبوتها في اللطع، كيف، و لازم هذه الدعوى، ثبوت الحكم فيما إذا باشر الإناء من دون واسطة بسائر أعضائه مع الرطوبة فيه، أو في الإناء؟! و من المعلوم وضوح بطلان هذه

الدعوى فيه.

بل الظاهر عدم الاشتراك في الحكم؛ لعدم تحقّق عنوان الولوغ و لا عنوان الفضل المأخوذ في الصحيحة بوجه. و ممّا ذكرنا يظهر، عدم جريان الحكم في اللعاب أيضاً.

و دعوى: أنّ الإنصاف أنّ اللعاب، لا يقصر عن سائر المائعات في سراية الأثر بواسطة من الفم أو اللسان إلى الإناء، فإلحاق المائعات بالماء دون اللعاب غير ظاهر.

مدفوعة: بأنّ إلحاق المائعات به إنّما هو لصدق عنوان الفضل فيها أيضاً و هو غير متحقّق في اللعاب، و قد عرفت عدم معلومية المناط في مثل هذه الأحكام، و لا يجوز التعدّي عمّا هو الموضوع في النصّ الدالّ على الحكم.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 554

..........

______________________________

نعم، في الشرب بلا ولوغ كما إذا كان مقطوع اللسان أو ممنوعاً من تحريك لسانه لا تبعد دعوى جريان الحكم؛ لصدق عنوان الفضل بل الولوغ بناءً على كونه مطلق الشرب، كما عرفته عن «المصباح».

و أمّا مطلق المباشرة و لو بغير اللسان من سائر الأعضاء، فقد استقرب العلّامة في محكيّ «النهاية» لحوقه بالولوغ، مستدلّاً بأنّ فمه أنظف من غيره، و لهذا كانت نكهته أطيب من غيره من الحيوانات؛ لكثرة لهثه.

و لكنّه في «المنتهى» نقل عن الصدوقين التسوية بين الوقوع و الولوغ، ثمّ أجاب بأنّه تكليف غير معقول، فيقف على النصّ، و هو إنّما دلّ على الولوغ.

و الظاهر أنّ مستند الصدوقين قدّس سرّهما، ما ورد في «الفقه الرضوي» المتقدّم نقله من قوله

إن وقع الكلب في الماء أو شرب منه ...

و لكن قد عرفت: أنّه لا حجّية فيه، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: بأنّ المراد من «وقوع الكلب في الماء» هو وقوعه بتمام جسده الملازم لمباشرة لسانه نوعاً، فلا دلالة له

أيضاً على مباشرة بعض أعضائه فقط، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 555

[مسألة 1: لو كانت الآنية المتنجّسة بالولوغ، ممّا يتعذّر تعفيرها بالتراب]

مسألة 1: لو كانت الآنية المتنجّسة بالولوغ، ممّا يتعذّر تعفيرها بالتراب بالنحو المتعارف؛ لضيق رأسه، أو غير ذلك، فلا يسقط التعفير بما يمكن، و لو بوضع خرقة على رأس عود، و إدخالها فيها، و تحريكها تحريكاً عنيفاً؛ ليحصل الغسل بالتراب و التعفير. و في حصوله بإدخال التراب فيها، و تحريكها تحريكاً عنيفاً، تأمّل.

و لو شكّ في حصوله يحكم ببقاء النجاسة، كما لو فرض التعذّر أصلًا بقيت على النجاسة.

و لا يسقط التعفير بالغسل بالماء الكثير و الجاري و المطر، و لا يترك الاحتياط بالتعدّد أيضاً في غير المطر، و أمّا فيه فلا يحتاج إليه. (1)

______________________________

(1) في هذه المسألة فروع:

فيما لو تعذّر تعفير الآنية بالنحو المتعارف الأوّل: إذا كانت الآنية المتنجّسة بالولوغ ممّا يتعذّر تعفيرها بالنحو المتعارف؛ لضيق رأسها، أو غيره، فبناءً على ما اخترناه: من أنّ اللّازم في المرّة الاولى هو المزج بالماء؛ و أنّه معنى قوله (عليه السّلام) في الصحيحة

اغسله بالتراب ..

فاللّازم إيصال الماء الممتزج بالتراب إلى جميع أطراف الإناء، و هو ممكن غالباً، و لا يحتاج إلى وضع مثل الخرقة على رأس العود و نحوه كما في المتن.

و أمّا بناءً على كون اللازم هو المسح؛ لدلالة النصّ عليه، أو إجماله و لزوم الاحتياط، فاللّازم إيجاد المسح بالكيفية المذكورة في المتن، و لا يتحقّق بمجرّد إدخال التراب في الآنية و لو مع التحريك العنيف، و مع الشكّ يكون مقتضى الاستصحاب بقاء النجاسة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 556

..........

______________________________

نعم، لو كان المراد من المسح هو مجرّد وصول التراب إلى الآنية، يكفي ذلك،

و لكنّه محلّ تأمّل.

لو تعذّر التعفير و لو بغير المتعارف الثاني: الصورة المفروضة مع تعذّر التعفير و لو بغير النحو المتعارف، و إن كان هذا الفرض لا واقع له؛ لعدم اجتماع فرض ولوغ الكلب في الآنية مع عدم إمكان التعفير أصلًا إلّا إذا لم يكن منشؤه ضيق الرأس، بل كان منشؤه الرقّة، أو كونه ممّا يفسده التعفير.

و ربّما يحتمل في هذه الصورة الاجتزاء في التطهير بالغسل بالماء؛ نظراً إلى لزوم تعطيل الإناء، و هو ضرر منفيّ بدليل نفيه.

و لكنّه مضافاً إلى النقض بما إذا كان الغسل بالماء أيضاً متعذّراً؛ ضرورة أنّه لا يقول أحد بصيرورته طاهراً بدونه يرد عليه ما عرفت: من عدم دلالة حديث نفي الضرر على ارتفاع الحكم الضرري؛ لعدم كونه مسوقاً لبيان هذه الجهة، بل هو حكم صادر من شخص الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بما أنّه وليّ و حاكم، كما مرّ.

و دعوى: قصور ما دلّ على اعتبار التعفير عن شمول مثل الفرض؛ فإنّ المتبادر من مثل قوله (عليه السّلام)

اغسله بالتراب أوّل مرة ..

ليس إلّا إرادته بالنسبة إلى ما أمكن فيه ذلك، كما هو الغالب فيما يتحقّق فيه الولوغ، فالأواني التي ليس من شأنها ذلك، خارجة عن مورد الرواية.

مدفوعة: بأنّ مثل هذه الأوامر مسوقة لبيان الاشتراط، و لا يختصّ موردها بصورة التمكّن من الشرط؛ فإنّ مفادها الإرشاد إلى طريق التطهير، و مع عدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 557

[مسألة 2: يجب غسل الإناء سبعاً لموت الجُرَذ]

مسألة 2: يجب غسل الإناء سبعاً لموت الجُرَذ، و لشرب الخنزير، و لا يجب التعفير. نعم هو أحوط في الثاني قبل السبع.

و ينبغي غسله سبعاً أيضاً لموت الفأرة، و لشرب النبيذ، بل مطلق المسكر

فيه، و مباشرة الكلب، و إن لم يجب ذلك، و إنّما الواجب غسله بالقليل ثلاثاً، كسائر النجاسات. (1)

______________________________

التمكّن يبقى على النجاسة إلى الأبد، فما عن الشيخ (قدّس سرّه) و جماعة: من سقوط التعفير، و حصول الطهارة بالغسل مرّتين، ضعيف.

الثالث: تطهير الآنية المتنجّسة بولوغ الكلب بالماء المعتصم من الكرّ و الجاري و المطر، و قد مرّ البحث في هذا الفرع من جهة اعتبار التعفير، و من جهة التعدّد؛ في أوّل البحث عن المطهّرات فراجع، و لا حاجة إلى الإعادة.

(1) في موارد غسل الإناء سبعاً في هذه المسألة فروع أيضاً:

في الآنية التي مات فيها الجرذ الأوّل: الآنية التي مات فيها الجُرذ، و الواجب فيه غسل الإناء بالماء سبعاً، من دون لزوم التعفير، و مستنده ذيل موثّقة عمّار المتقدّمة الواردة في ولوغ الكلب، حيث قال

و اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجُرَذ ميّتاً سبع مرّات «1».

و ظهوره في وجوب الغسل سبعاً مطلقاً سواء كان بالماء القليل أو بغيره لا خفاء فيه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 53، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 558

..........

______________________________

و لا ينافيها إطلاق صدرها الوارد في مطلق القذر، الدالّ على عدم لزوم الزائد على الثلاث؛ لوضوح كون الذيل مقيّداً لإطلاق الصدر.

في الآنية التي شرب منها الخنزير الثاني: الآنية التي شرب منها الخنزير، و يجب فيها الغسل بالماء سبعاً أيضاً؛ لصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير، فلم يغسله، فذكر و هو في صلاته، كيف يصنع به؟

قال

إن كان دخل في صلاته فليمض، فإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه، إلّا أن يكون فيه

أثر فيغسله.

قال: و سألته عن خنزير يشرب من إناء، كيف يصنع به؟

قال

يغسل سبع مرّات «1».

و دعوى استبعاد الفرق بين الثوب و الإناء؛ بالاكتفاء في الأوّل بمجرّد الغسل مرّة، لزوال أثر الخنزير، و لزوم السبع في الثاني. مع أنّ إزالة الأثر من الثوب، لعلّها أصعب من إزالته من الإناء.

مدفوعة بعدم جريان مثل هذه الاستبعادات في الأحكام الشرعية التعبّدية. مع أنّ الإناء لأجل كونه معدّاً للأكل و الشرب، يحتمل أن يكون له خصوصية، لأجلها اهتمّ الشارع بشأنه.

و بعبارة أُخرى: يمكن أن يكون أثر الخنزير، مرتبطاً مع الأكل و الشرب، بمثابة لا يكون مرتبطاً بالثوب بتلك المثابة، كما هو الحال في الكلب أيضاً، حيث إنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 13، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 559

..........

______________________________

وجوب التعفير بل و التعدّد، يختصّ بالإناء كما عرفت.

هذا، و لكن المحكيّ عن الشيخ (قدّس سرّه) في «الخلاف» إلحاق الخنزير بالكلب، مستدلّاً عليه بتسميته كلباً لغةً.

و يرد عليه: منع صدق الاسم حقيقة، و على تقدير التسليم فلا ينصرف إليه الإطلاق عرفاً، و عليه فلا يجب التعفير في ولوغ الخنزير.

و على تقدير الوجوب لأجل كونه كلباً، فاللازم جريان حكم الكلب عليه؛ و هو كون التعفير قبل الغسلتين، لا قبل سبع غسلات، فالجمع بين الحكم بالتعفير، و بين لزوم الغسلات السبع، لا وجه له.

و دعوى: أنّ مقتضى الجمع بين هذه الصحيحة و صحيحة البقباق المتقدّمة الواردة في الكلب بعد كون الخنزير كلباً هو الحكم بلزوم التعفير قبل الغسلات السبع.

مدفوعة: بأنّ مقتضى الجمع حينئذٍ هو جعل الغسلة الاولى من الغسلات السبع غسلًا بالتراب، لا التعفير قبل الغسلات السبع، كما لا يخفى.

فهذا الحكم لا أرى له وجهاً

أصلًا. لكن عرفت عدم صحّة استدلال الشيخ (قدّس سرّه)؛ و أنّ اللازم في المقام هو العمل على طبق صحيحة علي بن جعفر (عليه السّلام).

نعم، حكي عن المحقّق في «المعتبر» حملها على الاستحباب؛ نظراً إلى قلّة العامل بظاهرها. و مرجعه إلى إعراض الأكثر عن ظاهرها.

و لعلّ منشأ الإعراض ما عرفت من الاستبعاد، و حيث انقدح لك أنّه لا يجري مثله في الأحكام التعبّدية، فلا محيص عن الأخذ بظاهر الصحيحة؛ من الحكم بوجوب الغسل سبع مرّات، و عدم لزوم التعفير.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 560

..........

______________________________

نعم، الاحتياط بالتعفير يوجب الخروج عن المخالفة ل «الخلاف» فينبغي رعايته.

في الآنية التي ماتت فيها الفأرة الثالث: الآنية التي ماتت فيها الفأرة، و قد حكي عن الشيخ (قدّس سرّه) أنّه قال: يغسل الإناء من الخمر سبعاً، و روي مثل ذلك في الفأرة إذا مات في الإناء.

و لكن حيث إنّها رواية مرسلة مجرّدة عن الجابر لا تصلح دليلًا على الوجوب. نعم تحمل على الاستحباب؛ للتسامح في دليله.

في الآنية التي شرب فيها النبيذ الرابع: الآنية التي شرب فيها النبيذ، بل مطلق المسكر، و قد وردت فيه روايتان:

إحداهما: موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): عن الإناء يشرب فيه النبيذ.

فقال

تغسله سبع مرّات، و كذلك الكلب.

«1» و ثانيتهما: موثّقته الأُخرى، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن الدن يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خلّ، أو ماء كامخ، أو زيتون؟

قال

إذا غسل فلا بأس.

و عن الإبريق و غيره، يكون فيه خمر، أ يصلح أن يكون فيه ماء؟

قال

إذا غسل فلا بأس.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 30، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة

- غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 561

..........

______________________________

و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر.

قال

تغسله ثلاث مرّات.

سئل أ يجزيه أن يصبّ فيه الماء؟

قال

لا يجزيه، حتّى يدلكه بيده، و يغسله ثلاث مرّات «1».

و مقتضى الجمع هو حمل الاولى على الاستحباب. و يؤيّده اشتمالها على الكلب الذي لا يجب فيه السبع كما عرفت، و يؤيّده أيضاً موثّقته الثالثة «2» المتقدّمة ات.

في الآنية التي باشرها الكلب الخامس: الآنية التي باشرها الكلب من دون ولوغ، و يستحبّ فيه الغسل سبع مرّات؛ لموثّقة عمّار المتقدّمة آنفاً، المشتملة على تشبيه الكلب بشرب النبيذ، المحمولة على الاستحباب؛ جمعاً بينها و بين الموثّقتين الأُخريين له. و الواجب فيه هو الغسل ثلاثاً كما في سائر النجاسات.

حكم الآنية التي تنجس بسائر النجاسات السادس: سائر النجاسات، و الحكم فيه من جهة التطهير بالماء القليل، هو لزوم الغسل ثلاثاً؛ لدلالة موثّقة عمّار المتقدّمة الواردة في مطلق القذر، الدالّة على لزوم الغسل ثلاث مرّات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 51، الحديث 1.

(2) وسائل الواردة في مطلق الإناء القذر، الدالّة على وجوب الغسل ثلاث مرّالشيعة، أبواب أ لنجاسات، الباب 53، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 562

..........

______________________________

و لا ينافيها إطلاقات أوامر الغسل الظاهرة في جواز الاكتفاء بالمرّة؛ لأنّها على تقدير كونها في مقام البيان من جهة الوحدة و التعدّد أيضاً، و عدم كونها مسوقة لإفادة مجرّد النجاسة؛ و لزوم الغسل في الجملة محمولة على التعدّد؛ لصلاحية الموثّقة لتقييدها بعد ورودها في مطلق الإناء القذر، و احتمالِ كون الإناء له حكم خاصّ في التطهير؛ من جهة كونه معدّاً للأكل و الشرب، كما عرفت في الولوغ، فاللازم فيها الغسل ثلاث مرّات بلا إشكال.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 563

[مسألة 3: تطهير الأواني الصغيرة و الكبيرة، ضيقة الرأس و واسعته]

مسألة 3: تطهير الأواني الصغيرة و الكبيرة، ضيقة الرأس و واسعته، بالكثير و الجاري واضح؛ بأن توضع فيه حتّى يستولي عليها الماء، و لا ينبغي ترك الاحتياط بالتثليث كذلك.

و أمّا بالقليل، فبصبّ الماء فيها و إدارته حتّى يستوعب جميع أجزائها بالأجزاء الذي يتحقّق به «الغسل» ثمّ يراق منها، يفعل بها ثلاثاً.

و الأحوط الفورية في الإدارة عقيب الصبّ فيها، و الإفراغ عقيب الإدارة على جميع أجزائها. هذا في الأواني الصغار و الكبار التي يمكن فيها الإدارة و الإفراغ عقيبها.

و أمّا الأواني الكبار المثبتة، و الحياض و نحوها، فتطهيرها بإجراء الماء عليها حتّى يستوعب جميع أجزائها، ثمّ يخرج حينئذٍ ماء الغسالة المجتمع في وسطها مثلًا بنزح و غيره، من غير اعتبار الفوريّة المزبورة.

و الأحوط اعتبار تطهير آلة النزح إذا أُريد عودها إليه، و لا بأس بما يتقاطر فيه حال النزح، و إن كان الأحوط خلافه. (1)

______________________________

(1) في كيفية تطهير الأواني بالماء القليل أمّا تطهير الأواني الصغيرة و الكبيرة غير المثبتة بالكثير و الجاري، فقد عرفته سابقاً في أوّل مبحث المطهّرات؛ و أنّه يتحقّق باستيلاء الماء عليها، و لا يحتاج إلى التعدّد و إن كان أحوط، فراجع.

و أمّا تطهيرهما بالقليل، فيدلّ على كيفيته موثّقة عمّار المتقدّمة، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سئل عن الكوز و الإناء يكون قذراً، كيف يغسل؟ و كم مرّة يغسل؟

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 564

..........

______________________________

قال

يغسل ثلاث مرّات: يصبّ فيه الماء فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ منه، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ ذلك الماء، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ

منه و قد طهر ..

الحديث «1».

و ظاهرها لزوم تحريك الماء و إدارته في الإناء.

و هل له خصوصية في مقام التطهير؛ بحيث لا يتحقّق بدونها، أو أنّ الغرض منه إيصال الماء إلى جميع أجزاء الإناء؛ بحيث لو وصل إليها من دون تحريك، كفى في تطهيره، كما إذا ملأه ماء، ثمّ فرّغ منه ثلاث مرّات؟

يظهر من صاحب «الجواهر» (قدّس سرّه) الاستشكال في الاكتفاء بغير التحريك، و لعلّ منشأه الجمود على ظاهر الرواية.

و لكن المتفاهم عند العرف من الإدارة و التحريك هو وصول الماء إلى جميع أجزاء الإناء، و ليس محلّ الكلام فيما إذا كانت العين باقية قطعاً أو احتمالًا، بل محلّ الكلام صورة زوال العين، و لا فرق في هذه الصورة بين التحريك و غيره؛ ممّا يقوم مقامه في وصول الماء إلى جميع الأجزاء.

و منه يظهر: أنّه لا فرق بين أن يكون الإناء مستقرّاً فيه الماء؛ على نحو يمكن تحريكه، و بين ما لا يستقرّ فيه الماء، و لا يمكن التحريك فيه، كما إذا كانت له ثقبة؛ بحيث لا يبقى الماء فيه، و هل يمكن دعوى عدم استفادة حكم الصورة الثانية من الموثّقة، أو دعوى إمكان تطهيره بالقليل؟! كما أنّ ممّا ذكرنا ظهر: أنّه لو كان الصبّ بحيث يجري بسببه الماء على جميع أجزاء الإناء، لا يحتاج معه إلى التحريك بوجه، كما لا يخفى. و أمّا ما في المتن: من أنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 53، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 565

..........

______________________________

الأحوط الفورية في الإدارة عقيب الصبّ، و الإفراغ عقيب الإدارة، فمنشؤه ظاهراً انصراف الإطلاق إليها، و إلّا فالفورية غير معتبرة في مفهوم الغسل، و الانصراف أيضاً غير

ظاهر، و العطف ب «الفاء» في التحريك عقيب الصبّ، لا دلالة له على الاتّصال، و إلّا فاللازم تخصيص الاحتياط به؛ لأنّ عطف الإفراغ إنّما وقع بكلمة ثمّ فالاحتياط على هذا التقدير استحبابي، لا وجوبي.

و أمّا تطهير الأواني الكبار المثبتة و الحياض، فقد ذكروا: أنّه يمكن بوجوه:

أحدها: أن تملأ ماءً، ثم تفرغ ثلاث مرّات.

ثانيها: أن يجعل فيها الماء، ثمّ يدار إلى أطرافها بإعانة اليد أو غيرها، ثمّ يخرج منها ماء الغسالة ثلاث مرّات.

ثالثها: أن يدار الماء إلى أطرافها مبتدئاً بالأسفل إلى الأعلى، ثمّ يخرج الغسالة المجتمعة ثلاث مرّات.

رابعها: أن يدار كذلك، لكن من أعلاها إلى الأسفل، ثمّ يخرج ثلاث مرّات.

و لا يشكل: بأنّ الابتداء من الأعلى، يوجب اجتماع الغسالة في أسفلها قبل أن يغسل، و مع اجتماعها لا يمكن إدارة الماء في أسفلها، و ذلك لأنّ المجموع يعدّ غسلًا واحداً، فالماء الذي ينزل من الأعلى يغسل كلّ ما جرى عليه إلى الأسفل، و بعد الاجتماع يعدّ المجموع غسالة.

و الدليل على كفاية جميع الوجوه المذكورة، موثّقة عمّار المتقدّمة، بعد عدم كون التحريك الوارد فيها له موضوعية و خصوصية؛ لما عرفت من أنّ المتفاهم العرفي منه هو وصول الماء إلى جميع أجزاء الإناء، و هو يتحقّق بكلّ واحد من الوجوه الأربعة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 566

..........

______________________________

و لا مجال للمناقشة: بعدم كون الحياض من الأواني، فلا تشملها الموثّقة؛ لوضوح عدم الفرق بينها و بين الأواني المثبتة.

ثمّ إنّه أفاد في المتن: عدم اعتبار الفورية المذكورة في الأواني الكبيرة هنا، و لم يظهر لي وجه الفرق؛ فإنّه إن كان وجه الاعتبار، انصراف إطلاق الموثّقة إلى الفورية، فلا فرق بين الصورتين.

و يمكن أن يقال: بعدم كون

الحكم في هذه الصورة مستفاداً من الموثّقة؛ لكون موردها الأواني التي يمكن تحريك الماء فيها بتحريكها، فالأواني الكبيرة المثبتة خارجة عن مورد الموثّقة. و يؤيّد هذا الاحتمال عطف الحياض على الأواني مع أنّها لا تكون منها كما عرفت. و اللازم بناءً على هذا الاحتمال الاكتفاء بالمرّة، و عدم اعتبار التثليث، كما يأتي في التنّور.

إلّا أن يقال: بعدم ظهور عبارة المتن في لزوم التثليث في هذه الصورة و لكنّ ظاهرهم كما عرفت الاعتبار فتدبّر.

في تطهير آلة النزح ثمّ إنّه هل يعتبر تطهير آلة النزح إذا أراد عودها إليه لإخراج بعض كلّ من الغسلتين، أو لإخراج الغسالة الثانية؟

احتاط في المتن في اعتباره، و منشؤه أنّ الآلات المستعملة لإخراج الغسالة الثانية، تصير متنجّسة بسبب ملاقاة الغسالة، و هي نجسة في غير الغسلة الأخيرة المتعقّبة بطهارة المحلّ، فلا بدّ من تطهيرها كلّ مرّة قبل إدخالها الإناء، و قد صرّح باعتباره جماعة، منهم الشهيد الثاني (قدّس سرّه) في «الروضة».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 567

..........

______________________________

و لكنّه ربّما يقال كما في «العروة»: بعدم لزوم تطهير الآلة. و ما يمكن أن يكون وجهاً له أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: إطلاق موثّقة عمّار التي هي العمدة في الباب، الدالّة على الطهارة بالغسل ثلاث مرّات، من دون اعتبار تطهير الآلة في حصول الطهارة المذكورة.

و يرد عليه مضافاً إلى ما أورده عليه في «الجواهر»: من أنّ الموثّقة غير مسوقة لبيان ذلك، و إنّما وردت لبيان أنّ الإناء النجس، تحصل طهارته بغسله ثلاث مرّات أنّ موردها الإناء الذي لا يحتاج التفريغ فيه إلى الآلة؛ لما عرفت من أنّ موردها الأواني التي يمكن تحريك الماء فيها بتحريكها، غاية الأمر استفادة حكم سائر الأواني منها

بإلغاء الخصوصية، و عليه فلا محلّ للإطلاق فيها بالنسبة إلى هذه الأواني فتدبّر.

الثاني: أنّ الغسالة لا تكون منجّسة لما غسل بها.

و أجيب عنه: بأنّ الغسالة و إن لم تكن موجبة لتنجّس المغسول بها مطلقاً سواء قلنا: بطهارتها، أو بنجاستها لأنّ الإيجاب المذكور يستلزم تعذّر تطهير المتنجّسات مطلقاً، فاللازم بناء على نجاستها تخصيص ما دلّ على منجّسية المتنجّسات بالنسبة إلى الغسالة، إلّا أنّ ذلك إنّما هو حال الغسل بالماء و إجرائه على المغسول، و أمّا بعد الغسل و الإخراج فلا فرق بينها و بين غيرها، و عليه فاللازم تطهير آلة إخراج الغسالة.

الثالث: أنّ مقتضى الارتكاز العرفي في كيفية التطهير، عدم تطهير الآلة المستعملة في مقام التطهير.

و الجواب: أنّ الارتكاز العرفي في تطهير القذارات العرفية، تطهير الآلة مع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 568

[مسألة 4: لو تنجّس التنّور]

مسألة 4: لو تنجّس التنّور، يطهر بصبّ الماء في الموضع النجس من فوق إلى تحت، و لا يحتاج إلى التثليث، فيصبّ عليه مرّتين في التنجيس بالبول، و يكفي مرّة في غيره. (1)

______________________________

اشتمالها على القذارة. مع أنّه ليس بنحو موجب التخصيص في أدلّة منجّسية المتنجّسات.

نعم، يمكن الاتّكاء على هذا الارتكاز بالإضافة إلى القطرات المتقاطرة حال النزح، و لأجله ذكر في المتن: أنّه لا بأس به.

(1) في تطهير التنّور عدم الاحتياج إلى التثليث في تطهير التنّور، إنّما هو لعدم كونه من مصاديق الإناء، و مقتضى الموثّقة وجوب التثليث في الأواني.

و الفرق بين التنّور و بين الحياض: أنّه يمكن دعوى كون الحياض من الأواني؛ بلحاظ الظرفية للماء، و على تقدير العدم يمكن دعوى إلغاء الخصوصية و الشمول لمثل الحياض. مع أنّك عرفت إمكان المناقشة في استفادة حكم الحياض من الموثّقة؛

و أنّه يحتمل عدم وجوب التثليث فيها. و كيف كان فالحكم في التنّور واضح.

و لكنّ الغسالة المجتمعة من غسل التنّور محكومة بالنجاسة على تقدير نجاسة الغسالة، و هي تقتضي نجاسة موضعها، فلا بدّ من إخراج الغسالة عن ذلك المكان، و طمّ الموضع بالتراب.

و الأولى أن يحفر فيه حفيرة يجتمع الغسالة فيها، و طمّها بعد ذلك بالطين الطاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 569

[مسألة 5: لو تنجّس ظاهر الأرُز و الماش و نحوهما]

مسألة 5: لو تنجّس ظاهر الأرُز و الماش و نحوهما، يجعلها في شي ء، و يغمس في الكرّ أو الجاري فيطهر، و كذا يطهر بإجراء الماء القليل عليها.

و إن نفذ فيها الرطوبة النجسة، فتطهيرها بالقليل غير ميسور، و كذا في الكرّ و الجاري.

نعم، لا يبعد إمكان تطهير الكوز الذي صنع من الطين النجس؛ بوضعه في الكثير أو الجاري إلى أن ينفذ الماء في أعماقه، و لا يحتاج إلى التجفيف. و لو شكّ في وصول الماء بنحو يصدق عليه الغسل في أعماقه، يحكم ببقاء نجاسته. (1)

______________________________

(1) في كيفية تطهير الأرزّ و الماش إذا تنجّس ظاهر مثل الأرُز و الماش، يمكن تطهيره بالغمس في الكرّ أو الجاري، أو بإجراء الماء القليل عليه.

و لو نفذ فيه الرطوبة النجسة، فقد عرفت عدم إمكان تطهير باطنه أصلًا؛ لفرض عدم وصول الماء إليه حتّى يتحقّق غسله، و مرّ تفصيل القول فيه فراجع.

و أمّا الكوز الذي صنع من الطين النجس، فمع نفوذ الماء في أعماقه يطهر بوضعه في الكثير و الجاري، و لكن الإشكال في ذلك؛ لأنّه ليس مثل العجين النجس الذي يصنع خبزاً؛ لأنّ التصاق بعض الأجزاء ببعض، مانع عن نفوذ الماء في جميع أجزائه، بخلاف الخبز؛ إذ ليس التصاق أجزائه كذلك.

و بالجملة: إذا

أُحرز النفوذ يحصل له الطهارة، و مع الشكّ يكون مقتضى الاستصحاب بقاء النجاسة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 570

[مسألة 6: اللحم المطبوخ بالماء النجس]

مسألة 6: اللحم المطبوخ بالماء النجس يمكن تطهيره في الكثير و القليل، لو صبّ عليه الماء، و نفذ فيه إلى المقدار الذي نفذ فيه الماء النجس، مع بقاء إطلاقه، و إخراج الغسالة. و لو شكّ في نفوذ الماء النجس إلى باطنه، يكفي تطهير ظاهره. (1)

______________________________

(1) في كيفية تطهير اللحم المطبوخ قد ورد في تطهير اللحم المطبوخ المتنجّس روايتان:

الأُولى: رواية زكريّا بن آدم قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر، قطرت في قدر فيه لحم كثير، و مرق كثير.

قال

يهراق المرق، أو يطعمه أهل الذمّة، أو الكلب، و اللحم اغسله و كله.

قلت: فإنّه قطر فيه الدم.

قال

الدم تأكله النار إن شاء اللّه ..

الحديث. «1» الثانية: رواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السّلام)

أنّ عليّاً (عليه السّلام) سئل عن قدر طبخت، و إذاً في القدر فأرة.

قال: يهرق مرقها، و يغسل اللحم و يؤكل.

«2» هذا، و ظاهر الرواية الأُولى تنجّس ظاهر اللحم بالنجاسة الواقعة في المرق؛ لأنّ المفروض فيه وقوع النجاسة بعد الطبخ، و عليه فمفادها إمكان الغسل، و جواز الأكل بعده.

و اشتمالها على عدم حصول النجاسة بوقوع قطرة الدم مع أنّه لا فرق بينه، و

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 38، الحديث 8.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 571

..........

______________________________

بين الخمر و النبيذ أصلًا لا يقدح في الاستدلال بالرواية لما هو المقصود في المقام، خصوصاً بعد عدم كون الحكم المذكور فيها على خلاف القاعدة

من هذه الجهة.

و أمّا الرواية الثانية، فموردها ما إذا تنجّس باطن اللحم أيضاً؛ لأنّ المفروض فيها وجود الفأرة في القدر حين الطبخ، فالمرق المتنجّس حينئذٍ قد نفذ في اللحم المطبوخ.

إلّا أن يقال: بأنّ ظاهرها أنّ وجود الفأرة في القدر، بعد تحقّق طبخه؛ بحيث لم يكن موجوداً حينه.

و كيف كان: فعلى التقدير الأوّل ربّما يقال: بأنّ ظاهر الرواية أنّ غسل الظاهر، يكفي في حصول الطهارة للباطن و لو تبعاً، فإنّ جواز الأكل بمجرّد الغسل الظاهر في غسل الظاهر، لا يتحقّق إلّا مع الالتزام بحصول الطهارة للباطن، من دون اشتراط نفوذ الماء فيه، فهو يطهر تبعاً، أو الالتزام بعدم شرطية طهارته في جواز الأكل، بل الطهارة شرط في خصوص الظاهر.

و أُجيب عن هذا القول: بأنّ اللحم قد يكون جافّاً، كما هو المتعارف في بعض البلاد، و مثله إذا طبخ نفذ الماء في جوفه، فلو كان الماء متنجّساً لأوجب نجاسة الباطن أيضاً.

لكنّ هذا الفرض خارج عن منصرف الرواية؛ لأنّ ظاهرها إرادة اللحم غير الجافّ المتعارف، و هو إذا وضع على النار انكمش كانكماش الجلد، و به تتّصل أجزاؤه المنفصلة، و تنسدّ خلله و فرجه، و يندفع ما في جوفه من الماء و الرطوبات إلى خارجه، و لا ينفذ الماء في أعماقه لينجس جوفه و باطنه، و حينئذٍ فمجرّد الغسل بالماء الطاهر، يحكم بطهارته لا محالة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 572

[مسألة 7: لو غسل ثوبه المتنجّس، ثمّ رأى فيه شيئاً من الأشنان و نحوه]

مسألة 7: لو غسل ثوبه المتنجّس، ثمّ رأى فيه شيئاً من الأشنان و نحوه، فإن علم بعدم منعه عن وصول الماء إلى الثوب، فلا إشكال.

و في الاكتفاء بالاحتمال إشكال، بل في الحكم بطهارة الأشنان لا بدّ من العلم بانغساله، و لا يكفي

الاحتمال على الأحوط. (1)

______________________________

و لكنّ الصحيح في الجواب بعد تسليم كون مورد الرواية نجاسة الباطن أيضاً: أنّ مفادها مجرّد بيان الفرق بين المرق و اللحم؛ و أنّ الأوّل غير قابل للتطهير و الاستفادة في الأكل، و الثاني قابل للتطهير بسبب الغسل، و أمّا أنّ كيفية تطهيره ما ذا؟ فلا تعرّض للرواية لبيانها أصلًا، لو لم نقل: بظهور الأمر بالغسل في لزوم غسل كلّ جزء اتّصف بالنجاسة ظاهراً و باطناً، و عليه فالروايتان لا دلالة لهما على حكم مخالف للقاعدة، و لأجله لا يقدح ضعفهما بحسب السند.

و بالجملة: فمع تنجّس الباطن يحصل له الطهارة بنفوذ الماء فيه، مع بقاء إطلاقه، و إخراج الغسالة، كما في سائر الموارد. و لو شكّ في أصل نفوذ الماء النجس في الباطن، يكفي غسل الظاهر في ترتّب الأحكام المشروطة بالطهارة، و لا حاجة إلى غسل الباطن؛ لاقتضاء الاستصحاب ذلك.

(1) فيما لو رأى في ثوبه المغسول أشناناً وجه عدم الإشكال مع العلم بعدم المنع واضح؛ لتحقّق الغسل بالنسبة إلى المحلّ المتنجّس، و لا ينافي ذلك اتّصاف الأشنان بالتنجّس لأجل الملاقاة على تقدير عدم انغساله بغسل الثوب أو عدم العلم بانغساله بناءً على اعتبار العلم و ذلك لأنّ المفروض زوال التنجّس الحاصل للثوب قبل تطهيره، و قبل استعمال الأشنان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 573

..........

______________________________

و نحوه فيه، و هو قد زال بسبب تحقّق الغسل.

نعم، لا بدّ من العلم بعدم المنع، و أمّا مع الشكّ فالاكتفاء به يبتني على جريان أصالة عدم المانع في مثله الذي كان الشكّ في مانعية الموجود، لا في وجود المانع، و جريانها فيه غير ثابت. هذا بالإضافة إلى الثوب.

و أمّا بالنسبة إلى الأشنان

المتنجّس بالملاقاة، فلا بد في الحكم بطهارته من العلم بانغساله؛ فإن لم تعلم إلّا نجاسة ظاهره فقط، فيكفي انغسال الظاهر.

و إن علم بنفوذ الرطوبة المتنجّسة إلى جوفه؛ و صيرورة باطنه نجساً أيضاً، فلا بدّ في الحكم بطهارته من العلم بنفوذ الماء على إطلاقه فيه، كما ربّما يدّعى أنّه المتعارف، و إلّا فتطهير باطنه غير ميسور، كما عرفت في نظائره.

و هل يكفي احتمال الانغسال في الحكم بطهارة الأشنان؛ نظراً إلى أنّه ليس شيئاً مستقلّاً في عرض الثوب المتنجّس حتّى يحتاج إلى تطهير مستقلّ، بل يكفي في طهارته انغسال الثوب، و وصول الماء إلى جميع؛ لأنّه يصير طاهراً بالتبع أو أنّه لا يكفي بعد كونه عنواناً مستقلّاً حصل له التنجّس، و يحتاج إلى التطهير. و الأحوط لو لم يكن أظهر هو الثاني.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 574

[مسألة 8: لو أكل طعاماً نجساً]

مسألة 8: لو أكل طعاماً نجساً، فما يبقى منه بين أسنانه باقٍ على نجاسته، و يطهر بالمضمضة مع مراعاة شرائط التطهير.

و أمّا لو كان الطعام طاهراً، و خرج الدم من بين أسنانه، فإن لم يلاقِه الدم و إن لاقاه الريق الملاقي له فهو طاهر، و إن لاقاه فالأحوط الحكم بالنجاسة. (1)

______________________________

(1) فيما لو أكل طعاماً نجساً أمّا طهارة ما يبقى من الطعام النجس بين الأسنان بسبب المضمضة؛ فلعدم مدخلية كونه خارج الفم في حصول الطهارة له، بل هو قابل للتطهير في داخل الفم أيضاً، فإذا تمضمض بحيث وصل الماء إلى جميع أجزاء ذلك الطعام يصير طاهراً؛ لتحقّق الغسل بالإضافة إليه، غاية الأمر لزوم مراعاة جميع شرائط التطهير، حتّى التعدّد فيما إذا تنجّس بالبول، كما هو ظاهر.

و أمّا لو كان الطعام طاهراً، و خرج الدم

من أسنانه، فمع عدم الملاقاة مع الدم و إن لاقاه الريق الملاقي له فهو طاهر؛ لأنّ الريق لا يتنجّس بذلك الدم، و مع عدم التنجّس لا يتنجّس الطعام بوجه.

و أمّا مع الملاقاة لنفس الدم، ففي الحكم بنجاسته إشكال، منشؤه أنّه لم يقم دليل على كون النجاسات في الباطن، منجّسة لملاقياتها، من دون فرق بين ما إذا كان الملاقي في الباطن، كأجزاء البدن الملاقية للدم الموجود في الباطن، و بين ما إذا كان الملاقي أمراً خارجيّاً، غاية الأمر حصول التلاقي في الباطن.

لكن الأحوط الاجتناب؛ لأنّ القدر المعلوم هو الفرض الأوّل، و أمّا الفرض الثاني فلا، فلو كان في أنفه نقطة دم، لا يوجب ذلك تنجّس باطن الأنف و الرطوبات الموجودة فيه، و أمّا إذا أدخل إصبعه فلاقته، فإنّ الأحوط غسله و إن خرجت خالية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 575

[ثانيها: الأرض]

ثانيها: الأرض فإنّها تطهّر ما يماسّها من القدم؛ بالمشي عليها، أو بالمسح بها؛ بنحو يزول معه عين النجاسة إن كانت، و كذا ما يوقى به القدم كالنعل.

و لو فرض زوالها قبل ذلك، كفى في التطهير حينئذٍ المماسّة على إشكال، و الأحوط أقلّ مسمّى المسح أو المشي حينئذٍ. كما أنّ الأحوط قصر الحكم بالطهارة؛ على ما إذا حصلت النجاسة من المشي على الأرض النجسة.

و لا فرق في الأرض بين التراب و الرمل و الحجر، أصليّاً كان، أو مفروشة به. و يلحق به المفروش بالآجر و الجصّ على الأقوى، بخلاف المطلّى بالقير و المفروش بالخشب. و يعتبر جفاف الأرض و طهارتها على الأقوى. (1)

______________________________

(1) الثاني: في مطهّرية الأرض يقع الكلام في مطهّرية الأرض في مقامات، و قبل التعرّض لها نقول: إنّه وقع التعبير

بالتراب مكان الأرض في محكي المقنعة و التحرير و في الشرائع تبعاً للنبويّين الآتيين، خلافاً لما وقع التعبير به في أكثر الفتاوى و معقد الإجماع المحكيّ عن غير واحد و هو الأرض.

و الظاهر أنّ الغرض من التراب هو الأرض و التعبير عنها به؛ إمّا لشيوع هذا التعبير، و إمّا لكون المقصود بيان مطهّرية التراب في الجملة، و إفادة التوسعة بعد ذلك.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 576

..........

______________________________

و كيف كان فنقول:

المقام الأوّل: في مطهّرية الأرض في الجملة و الظاهر أنّه لا خلاف فيها عدا ما حكي عن «خلاف» الشيخ (قدّس سرّه) ممّا يظهر منه المخالفة، حيث قال: إذا أصاب أسفل الخفّ نجاسة، فدلكه في الأرض حتّى زالت، تجوز الصلاة فيه عندنا.

ثمّ قال: دليلنا أنّا بيّنا فيما تقدّم: أنّ ما لا تتمّ الصلاة فيه بانفراده، جازت الصّلاة فيه و إن كانت فيه نجاسة، و الخفّ لا تتمّ الصلاة فيه بانفراده، و عليه إجماع الفرقة.

فإنّ ظاهره عدم ارتفاع نجاسة الخفّ بالدلك في الأرض، و لكنّها معفوّ عنها؛ لأجل كون الخفّ ممّا لا تتمّ الصلاة فيه وحده.

و لكن قد تصدّى لتأويله كلّ من تعرّض لنقل كلامه، حتّى أنّ الوحيد البهبهاني (قدّس سرّه) في «حاشية المدارك» قال: الظاهر أنّ استدلاله فيه غفلة منه.

و يؤيّده: أنّه لو كان جواز الصلاة في الخفّ الذي أصابته النجاسة، مستنداً إلى كونه ممّا لا يتمّ، لما كان وجه لأخذ القيود المأخوذة فيه؛ من إصابة النجاسة أسفل الخفّ، و من زوالها، و من كون الزوال بسبب الدلك في الأرض، فإنّ هذه القيود لإدخاله لها في العفو عمّا لا تتمّ كما هو ظاهر.

مع أنّ مخالفته في الخفّ، لا تقدح فيما نحن بصدده؛

من مطهّرية الأرض في الجملة و لو بالإضافة إلى الرجل و القدم، كما لا يخفى.

و يدلّ على المطهّرية النصوص الكثيرة الواردة في المقام، التي سنتعرّض لها في المقامات الآتية، فالحكم في هذا المقام واضح لا ريب فيه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 577

..........

______________________________

المقام الثاني: في الأُمور التي يتحقّق لها الطهارة بسبب الأرض و قد اختلف ظاهر العبارات في بيان هذه الأُمور، و لكنّ الظاهر أنّه لا اختلاف واقعاً، بل ذكر بعض الأُمور دون بعض قد جرى مجرى التمثيل، و يؤيّده ما عن «جامع المقاصد» من دعوى الإجماع على باطن الخفّ، و أسفل القدم و النعل، مع إضافة: «كلّ ما يتنعّل به عادة، كالقبقاب و نحوه».

و لكن مع ذلك لا بدّ في التوسعة و التضييق، من ملاحظة النصوص الواردة في المقام، فنقول:

منها: صحيحة زرارة بن أعين قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): رجل وطأ على عَذِرة، فساخت رجله فيها، أ ينقض ذلك وضوءه، و هل يجب عليه غسلها؟

فقال

لا يغسلها إلّا أن يقذّرها، و لكنّه يمسحها حتّى يذهب أثرها و يصلّي «1».

و ظاهرها إرادة الرجل الظاهرة في نفس البشرة، كما أنّ ظاهر قوله

يمسحها

هو الاختصاص بأسفل الرجل الزائل أثره بالمسح؛ لعدم معهودية المسح في أعلاه الذي هو ظاهره، و عدم التعرّض في الجواب لانتقاض الوضوء بسببه، يكشف عن عدم الانتقاض.

و بالجملة: فالرواية تامّة سنداً و دلالة، و لكن موردها باطن الرجل.

و منها: صحيحة المعلّى بن خنيس، أو حسنته قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الخنزير يخرج من الماء، فيمرّ على الطريق، فيسيل منه الماء، أمرّ عليه حافياً؟

فقال

أ ليس وراءه شي ء جافّ؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 32، الحديث

7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 578

..........

______________________________

قلت: بلى.

قال

فلا بأس؛ إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً «1».

و هي كالسابقة في الدلالة؛ من جهة ورودها مورد الرجل.

و منها: ما رواه محمّد بن إدريس في آخر «السرائر» نقلًا من «نوادر أحمد بن محمّد بن أبي نصر» عن المفضّل بن عمر، عن محمّد الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال قلت له: إنّ طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه، فربّما مررت فيه و ليس عليّ حذاء، فيلصق برجلي من نداوته.

فقال

أ ليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟

قلت: بلى.

قال

فلا بأس؛ إنّ الأرض تطهّر بعضها بعضاً.

قلت: فأطأ على الروث الرطب.

قال

لا بأس، أنا و اللّه ربّما وطئت عليه ثمّ أُصلّي و لا أغسله «2».

و الظاهر أنّ نفي البأس عن الوطي على الروث الرطب، إنّما يكون مقيّداً بالمشي بعده في أرض يابسة، كما يدلّ عليه سؤال الإمام (عليه السّلام) في مقام الجواب عن السائل في السؤال الأوّل. و هذه الرواية أيضاً واردة في أسفل الرجل.

و منها: ما رواه إسحاق بن عمّار، عن محمّد الحلبي قال: نزلنا في مكان بيننا و بين المسجد زقاق قذر، فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فقال

أين نزلتم؟.

فقلت: نزلنا في دار فلان.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 32، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 32، الحديث 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 579

..........

______________________________

فقال

إنّ بينكم و بين المسجد زقاقاً قذراً

أو قلنا له: إنّ بيننا و بين المسجد زقاقاً قذراً.

فقال

لا بأس؛ إنّ الأرض تطهّر بعضها بعضاً.

قلت: و السرقين الرطب أطأ عليه؟

فقال

لا يضرّك مثله «1».

و هذه الرواية غير واردة في خصوص

القدم، بل مقتضى، إطلاقها أنّ الأرض تطهّر باطن القدم و الخفّ، و غيره ممّا يتنعّل به عادة.

و لكنّه ربّما يورد: بعدم كونها رواية مستقلّة في مقابل الرواية المتقدّمة؛ لأنّ الراوي في كلتيهما هو محمّد الحلبي، و الظاهر أنّ القضية واحدة، غاية الأمر الاختلاف في النقل من جهة الرجل، و من غيرها من الجهات الأُخر، و منشؤه إمّا الحلبي، و إمّا الرواة عنه بلا واسطة، أو معها، و عليه فاشتمال أحد النقلين على خصوص الرجل، يمنع عن الأخذ بإطلاق النقل الآخر، بعد عدم العلم بصدوره عن الإمام (عليه السّلام)، و عدم قيام حجّة عليه.

إلّا أن يقال: بعدم الاستبعاد في تعدّد الواقعة، و عدم كون القضية واحدة، فأيّ مانع من أن يكون الراوي سأله (عليه السّلام) عن مسألة واحدة مطلقة تارة، و مقيّدة بالرجل اخرى، حتّى يطمئنّ بحكمها؟! فإنّ المشي حافياً لا يناسب الحلبيّ، و لا يصدر عن مثله إلّا نادراً، فسأله عن حكمه مرّة ثانية حتّى يطمئنّ به، فهما روايتان، و عليه فلا مانع من الأخذ بإطلاق الرواية المطلقة.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ مقتضى ذلك، كون السؤال عن المطلق متأخّراً عن السؤال عن المقيّد، بعد فرض كونه القدر المتيقّن من المطلق، لا كون السؤال عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 32، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 580

..........

______________________________

الرجل متأخّراً أنّ ذلك لا يوجب الطمأنينة للنفس بالتعدّد، و لا يمنع عن استظهار الوحدة كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هذه الروايات الثلاث الأخيرة، مشتملة على التعليل ب

أنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً

و محتملاته متكثّرة؛ للاختلاف في تفسيره:

فالمحكيّ عن المحدّث الكاشاني (قدّس سرّه): أنّ هذا التعليل ناظر إلى أمر عادي؛ و هو

انتقال القذارة من الموضع المتنجّس من الأرض إلى الموضع الآخر منها؛ بوضع القدم و رفعها، حتّى لا يبقى على الأرض شي ء من النجاسة.

و عن الوحيد البهبهاني تفسيره: بأنّ بعض الأرض أي الطاهرة منها يطهّر بعض المتنجّسات كالنعل؛ لأنّ

بعضاً

في الرواية نكرة.

و عن غير واحد تفسيره: بأنّ الأرض يطهّر بعضها ما ينجس من ملاقاة بعض آخر منها؛ لأنّ نجاسة القدم أو الخفّ أو غيرهما، إنّما حصلت من الأرض، كما أُشير إليه في بعض الروايات بقوله: إنّ طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه. فصحّ أن يقال: إنّ الأرض الطاهرة تطهّر الأرض النجسة؛ بمعنى أنّها تطهّر الأثر المترشّح من الأرض القذرة؛ و هو النجاسة.

و أُورد على الأوّل مضافاً إلى أنّ لازمه حمل التعليل على ما ليس بيانه وظيفة للشارع؛ لما عرفت من كونه بناءً على هذا، ناظراً إلى أمر عادي، و هو خلاف ظاهر الرواية بأنّه مخالف لمورد التعليل في الروايات؛ لأنّ مورده هي رطوبة البول و نداوته، أو الماء المنفصل من الخنزير على الأرض، و من المعلوم أنّ زوال الرطوبة عن الرجل، لا يتوقّف على المشي على الأرض، و لم يكن مورد السؤال صورة وجودهما العيني، بل صورة أثرهما الحكمي، فتفسير التعليل بذلك لا يجتمع مع مورده أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 581

..........

______________________________

و يرد على الثاني: وضوح كونه مخالفاً للظاهر؛ فإنّ الظاهر ارتباط البعض الثاني بالأرض، فالحمل على بعض المتنجّسات في غاية البعد.

مضافاً إلى أنّه على هذا التقدير، لا يكون دخول مورد السؤال في البعض الذي يطهّره بعض الأرض، غير معلوم، إلّا من باب وقوعه تعليلًا له، و هو خلاف الظاهر جدّاً.

فالإنصاف: أنّ التفسير الثالث أظهر، و لا تكون الرواية

مجملة من حيث التعليل. و مقتضى هذا الوجه عدم اختصاص الحكم بالرجل التي هي موردها؛ لأنّ مدلوله أنّ الأرض الطاهرة تطهّر الأثر المترشّح من الأرض القذرة، من دون فرق بين أن يكون المتأثّر هو الرجل، أو الخفّ، أو غيرهما.

نعم، وقع هذه التعليل أيضاً في رواية رابعة، و هي حسنة محمّد بن مسلم قال: كنت مع أبي جعفر (عليه السّلام)، إذ مرّ على عَذِرة يابسة، فوطئ عليها، فأصابت ثوبه.

فقلت: جعلت فداك، قد وطئت على عذرة، فأصابت ثوبك.

فقال

أ ليس هي يابسة؟!.

فقلت: بلى.

قال

لا بأس؛ إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً.

«1» و من المعلوم: أنّه لا ارتباط بين مطهّرية الأرض بعضها بعضاً بأيّ معنى فرض و بين عدم تنجّس الثوب بسبب إصابة العذرة اليابسة له و لكنّ ذلك لا يوجب الإجمال في مفاد التعليل في الروايات الثلاثة المتقدّمة الواردة في المقام.

و منها: رواية حفص بن أبي عيسى قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): إن وطئت على عذرة بخُفيّ، و مسحته حتّى لم أرَ فيه شيئاً، ما تقول في الصلاة فيه؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 32، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 582

..........

______________________________

فقال

لا بأس «1».

و هذه الرواية واردة في الخفّ.

و دعوى: أنّ نفي البأس عن الصلاة فيه؛ لعلّه كان مستنداً إلى أنّ الخفّ ممّا لا تتمّ الصلاة فيه وحده، و نجاسته معفواً عنها، كما في غيره ممّا لا تتمّ، مدفوعة بظهور الرواية في حصول الطهارة للخفّ بالمسح؛ بنحو تزول العذرة.

و بعبارة أُخرى: ظاهرها مدخلية العمل المذكور في السؤال في نفي البأس المذكور في الجواب، و هو لا يجتمع إلّا مع حصول الطهارة، و لو كان منشأ نفي البأس هو كونه

ممّا لا تتمّ، لما كان العمل المذكور في السؤال له مدخلية فيه أصلًا؛ لعدم الفرق في العفو عمّا لا تتمّ بين صورة زوال العين بالمسح على الأرض، و عدمها أصلًا، فالمناقشة من هذه الجهة غير تامّة. نعم الرواية ضعيفة؛ لجهالة حفص المذكور.

و منها: ما في حديث زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

جرت السنّة في الغائط بثلاثة أحجار، أن يمسح العجان و لا يغسله، و يجوز أن يمسح رجليه، و لا يغسلهما «2».

و هذه متعرّضة للرجل أيضاً.

و منها: صحيحة الأحول، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف، ثمّ يطأ بعده مكاناً نظيفاً.

قال

لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعاً أو نحو ذلك «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 32، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 32، الحديث 10.

(3) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 32، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 583

..........

______________________________

و هي مطلقة من جهة عدم الاستفصال بين وطئ الموضع برجله الحافية، و بين وطئه متنعّلًا، و هو دليل العموم. و يأتي البحث في اشتراط الخمسة عشر ذراعاً المذكور في الجواب إن شاء اللّه تعالى.

و قد ظهر لك ممّا ذكرنا: أنّه يدلّ على عدم الاختصاص بالرجل، التعليل الوارد في الروايات الثلاثة؛ بناءً على تفسيره بما عرفت، و كذا صحيحة الأحول المذكورة آنفاً. و إعراض المشهور عن ذيلها المتضمّن لاعتبار خمسة عشر ذراعاً، لا يقدح في حجّيتها بالإضافة إلى إطلاق صدرها؛ لإمكان التفكيك بينهما في الحجّية.

هذا على تقدير عدم صحّة الحمل على الاستحباب، أو على كون المشي بالمقدار المذكور محقّقاً لزوال العين خارجاً، كما يؤيّده كلمة

أو نحو ذلك

، فتدبّر.

و

على أيّ: فالرواية بالإضافة إلى إطلاق الصدر، قابلة للتمسّك بها.

و كذا يدلّ على عدم الاختصاص الرواية الواردة في الخفّ؛ نظراً إلى أنّه لا مجال لاحتمال اختصاص الحكم بالخفّ؛ بحيث لا يشمل الرجل أيضاً، فيكشف ذلك عن عمومية الحكم، و عدم كون ذكر الرجل في أكثر الروايات المتقدّمة؛ لأجل اختصاص الحكم بها، فكما أنّ الحكم يتحقّق في مورد الرجل، كذلك يتحقّق في كلّ ما يوقى به القدم، كما في المتن.

نعم، لا تبعد دعوى الاختصاص بما يتعارف استعماله لوقاية الرجل، فمثل الخرقة الملفوفة بالرجل، أو الجورب و نحوهما ممّا لم يتعارف استعماله كذلك خارج عن هذا الحكم، خصوصاً إذا لم تجرِ العادة الشخصية باستعماله أيضاً.

و في شمول الحكم بالنسبة إلى خشبة الأقطع و ركبتيه، و فخذي المقعد، و يدي من يمشي على يديه، و ما جرى مجراها، تأمّل. و كذا بالنسبة إلى ما يوقى به هذه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 584

..........

______________________________

المواضع. و أشكل منه إلحاق كلّ ما يستعان به على المشي، كما عن بعض.

المقام الثالث: في الأمور الدخيلة في مطهّرية الأرض قطعاً أو احتمالًا و هي على ما يستفاد من المتن، كثيرة:

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 584

الأوّل: تحقّق عنوان المسح أو المشي بحيث كان زوال النجاسة مسبّباً عنه، و فيما إذا زالت النجاسة قبلًا يعتبر أقلّ مسمّى المسح أو المشي و يدلّ عليه رواية الحلبي المتقدّمة التي رواها في «السرائر» المشتملة على قوله

أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟

فإنّ

تفريع عدم البأس على الجواب ب «بلى» عن هذا السؤال، يدلّ على مدخلية المشي فيه؛ و أنّه لا يتحقّق بدون تحقّق المشي في أرض يابسة.

و لكنّها لا دلالة لها على الانحصار بخصوص المشي، و على تقديرها فيدلّ على كفاية المسح مكان المشي، صحيحة زرارة المتقدّمة أيضاً المشتملة على قوله (عليه السّلام)

و لكنّه يمسحها حتّى يذهب أثرها.

و يؤيّده تقييد السؤال في رواية حفص بعد فرض الوطي على العَذِرة بالخَفّ بقوله: «و مسحته حتّى لم أر فيه شيئاً» فالمستفاد من المجموع مدخلية المشي أو المسح في مطهّرية الأرض.

إلّا أن يقال: إنّ جعل ذهاب الأثر، غاية للمسح في رواية زرارة، و كذا جعل عدم رؤية شي ء من العَذرة غايةً للمسح في رواية حفص، يشعر بل يدلّ على أنّه لا مدخلية لنفس عنوان المسح بل الغرض منه ذهاب الأثر، فإذا فرض زواله قبل ذلك فتكفي المماسّة المجرّدة من دون مسح.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 585

..........

______________________________

و من ذلك يظهر: أنّ السؤال في رواية الحلبي بقوله (عليه السّلام)

أليس تمشي بعد ذلك ..

لعلّه كان من جهة مدخلية المشي في زوال النداوة البولية الملصقة بالرجل، لا مدخليته في المطهّرية مطلقاً و لو زالت النداوة قبل المشي.

و لكن مع ذلك، لا تحصل الطمأنينة للنفس بعدم مدخلية شي ء من العنوانين، بعد كون الظاهر ثبوت المدخلية، فالأحوط مراعاة أحد الأمرين، كما أفاده في المتن.

الثاني: كون النجاسة حاصلة من المشي على الأرض النجسة، و قد احتاط في المتن أيضاً في اعتبار هذا الأمر.

و الوجه فيه مضافاً إلى أنّ مورد الروايات الواردة في الباب الدالّة على مطهّرية الأرض، هي النجاسة الحاصلة بالمشي على الأرض، كالعَذِرة الموجودة فيها الموطوءة، و الطريق المتنجّس بالبول

الذي يمرّ عليه، و لا دليل على التعميم ما ورد في جملة من الروايات من التعليل بقوله (عليه السّلام)

إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً

بناءً على ما رجّحناه في تفسيره: من أنّ المراد من البعض الثاني هي النجاسة الحاصلة من الأرض التي هي أثرها و لها إضافة إليها، و على تقدير كون النجاسة حاصلة من الخارج، لا يصحّ التعبير المذكور؛ لعدم إضافتها و استنادها إلى الأرض بوجه.

و دعوى: أنّ استبعاد مدخلية مثل هذه الخصوصية في موضوع الحكم، مانع من أن يقف الذهن دونها و إن كان اللفظ مشعراً باعتبارها، و لذا لم يفهم الأصحاب من هذه الروايات الاختصاص، بل لا يتبادر من صحيحة زرارة، بل و كذا من غيرها؛ حتّى هذه الأخبار المعلّلة، و الأخبارِ التي وقع فيها التعبير بلفظ الاشتراط، كقوله

إذا وطئ أحدكم الأذى ..

إلّا أنّ كون المسح أو المشي على الأرض، طهوراً للرجل أو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 586

..........

______________________________

الخفّ من العَذِرة، من غير أن يكون لكيفية وصولها إلى الرجل دخل في الحكم.

و لذا لا يتوهّم أحد فرقاً بين كيفيات الوصول، و لا بين أن تكون العذرة التي يطؤها برجله مطروحة على الأرض، أو على الفراش و نحوه؛ فإنّ مثل هذه الخصوصيات، ليست من الخصوصيات الموجبة لتخصيص الحكم بنظر العرف، كما في سائر الموارد.

مدفوعة: بما أُفيد من كونها خارجة عن محلّ الكلام؛ لأنّ الكلام في المقام غير راجع إلى النجاسة المستندة إلى المشي و إن لم تكن ناشئة من الأرض؛ إذ قد لا تصل النعل أو الرجل إلى الأرض أصلًا، لحيلولة العذرة مثلًا بينهما، كما أُشير إليه في صحيحة زرارة حيث قال: «فساخت رجله فيها ..» أو لكون

العذرة الموطوءة مطروحة على خرقة أو خشبة أو غيرهما من الأشياء الموجودة في الطريق.

فلا يعتبر أن تكون النجاسة ناشئة من الأرض، و إنّما يعتبر استناد النجاسة إلى المشي؛ سواء كانت العذرة واقعة على الأرض، أم على الفراش، فمحلّ الكلام ما إذا استندت النجاسة إلى الخارج و غير المشي، فإن قام دليل على عدم الفرق، و إلّا فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن، و الرجوع في المقدار الزائد إلى العموم أو الإطلاق، و هما يقتضيان اعتبار الغسل بالماء في تحقّق التطهير.

نعم ربّما يقال: بدلالة صحيحة زرارة المتقدّمة الواردة في الاستنجاء المشتملة على قوله

و يجوز أن يمسح رجليه، و لا يغسلهما

على عدم اختصاص الحكم بخصوص النجاسة الحاصلة من المشي على الأرض؛ فإنّ قوله (عليه السّلام)

و يجوز أن يمسح ..

يدلّ بإطلاقه على مطهّرية المسح في كلّ من النجاسة الناشئة من الأرض، و النجاسةِ الناشئة من غيرها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 587

..........

______________________________

و الجواب أوّلًا: أنّه يحتمل أن يكون المراد من هذا القول، هو المسح في الوضوء؛ لنفي ما يزعمه العامّة من اعتبار غسل الرجلين في باب الوضوء، غاية الأمر أنّ هذا النحو من التعبير، قد جرى مجرى التقيّة.

و ثانياً: أنّه لا إطلاق لهذا القول؛ لأنّه في مقام الإيجاب الجزئي في قبال السلب الكلّي؛ للقطع بعدم كون المسح مطهّراً مطلقاً، كالمسح بالخرقة أو الخشب و نحوهما، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه.

الثالث: كون الأرض طاهرة، و قد حكي اعتباره عن جماعة، و ما يمكن الاستدلال به عليه أمران:

الأوّل: أنّ المتبادر من قوله (عليه السّلام)

الأرض يطهّر بعضها بعضاً

و كذا من سائر الروايات؛ بواسطة المناسبة المغروسة في الذهن من اشتراط كون المطهّر طاهراً؛ لأنّ فاقد الشي ء

لا يجوز أن يكون معطياً له إنّما هو إرادة خصوص الأرض الطاهرة.

الثاني: صحيحة الأحول المتقدّمة، المشتملة على قوله (عليه السّلام) في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف، ثمّ يطأ بعده مكاناً نظيفاً.

قال

لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعاً أو نحو ذلك.

فإنّ الضمير في

كان

يعود إلى المورد المفروض في السؤال، فالمستفاد منه اشتراط الخصوصية، و كون الطهارة متوقّفة على كون الأرض نظيفة. و عدم اعتبار الحدّ المذكور عند المشهور، لا يستلزم رفع اليد عن الرّواية باعتبار الدلالة على اعتبار الطهارة، كما هو ظاهر.

و أُورد على هذا الدليل: بأنّ عود الضمير إلى ما كان مفروضاً في السؤال،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 588

..........

______________________________

لا يقتضي كون الخصوصية المفروضة من مقوّمات موضوع الحكم، فهذه الرواية لا تصلح أن تكون مقيّدة لغيرها من الروايات الخالية عن هذا القيد.

و عن «الحدائق»: الاستدلال لاعتبار الطهارة بقوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً

نظراً إلى أنّ الطهور لغة هو الطاهر المطهّر، و هو أعمّ من أن يكون مطهّراً من الحدث و الخبث.

و الجواب: أنّ ثبوت الوصفين للأرض، لا دلالة له على مدخلية الوصف الأوّل في ثبوت الوصف الثاني، فإنّ كون الأرض في حدّ ذاتها طاهرة، لا يستلزم مدخلية وصف الطهارة المجعولة للأرض في المطهّرية المجعولة لها أيضاً.

فالدليل الوحيد في هذا الباب هو الأمر الأوّل، و لا مجال للمناقشة فيه: بأنّ مطهّرية الأرض من الأُمور التعبّدية المحضة، و لا ارتكاز للعرف في هذا الباب أصلًا، و عليه فلا مجال لإعمال الارتكاز العرفي فيها، المبتني على أنّ الفاقد لا يمكن أن يكون معطياً. فإنّ هذه المناقشة مدفوعة: بأنّ هذا الارتكاز يوجب أن يكون

للكلام الملقى إليهم، دلالة خاصّة، لا يفهمون من ذلك الكلام إلّا ما ينطبق على ارتكازهم، فالمستفاد عندهم من الروايات الدالّة على مطهّرية الأرض، هو أنّ المراد منها خصوص الأرض الطاهرة، و لا مجال للإغماض من هذا الارتكاز و إن كان أصل المطهّرية أمراً تعبّدياً، فتدبّر.

و عليه فلا موقع للاستدلال بإطلاق النصّ على عدم اعتبار الطهارة، كما حكي عن الشهيد الثاني (قدّس سرّه).

الرابع: جفاف الأرض كما عن الإسكافي و «جامع المقاصد» و «المسالك» و غيرهم.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 589

..........

______________________________

و عن «الروضة» التصريح بعدم الفرق في الأرض بين الجافّة و الرطبة.

و يدلّ على اعتبار هذا الأمر، قوله (عليه السّلام) في رواية الحلبي المتقدّمة

أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة.

و في رواية المعلّى المتقدّمة أيضاً

أليس وراءه شي ء جافّ.

هذا مضافاً إلى قصور الإطلاقات في نفسها؛ لانصرافها إلى المتعارف و هو الإزالة بالجافّ، و إلى لزوم تنجّس الأرض بالمماسّة، المؤدّي إلى سراية النجاسة إلى ما يراد تطهيره من القدم.

و قد نوقش في الاستدلال بالروايتين تارة: من جهة السند، و اخرى: من جهة الدلالة:

أمّا الاولى: فلأنّ في سند إحداهما مفضّل بن عمر، و الرواي في الأُخرى معلّى بن خنيس، و هما ضعيفان.

و أمّا الثانية: فلأنّه يحتمل قريباً أن يكون المراد بالجافّ ما يقابل المتبلّ بما يسيل من الخنزير، و باليابسة ما يقابل الندية بالبول، فالمقصود وجود قطعة خالية عن النجاسة الحاصلة للرجل و القدم، لا وجود قطعة جافّة كما هو المدّعى.

و يدفع الاولى: أنّ الظاهر وثاقة الرجلين، و قد صرّح بوثاقة الأوّل الشيخ المفيد (قدّس سرّه) في «الإرشاد» و التحقيق في محلّه.

و يدفع الثانية: كون الاحتمال المذكور خلاف الظاهر؛ فإنّ التعبير بالجفاف

في مقام إرادة عدم وجود النجاسة السائلة من الخنزير، ممّا لا ينطبق على الظاهر، و كذا التعبير باليبوسة في مقام إرادة عدم وجود النداوة البوليّة. فالإنصاف كون الاحتمال مخالفاً للظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 590

..........

______________________________

و أمّا سائر الوجوه، فعلى تقدير جريان المناقشة فيها، لا يقدح بعد ظهور الروايتين في الاعتبار، و تماميتهما من جهة السند و الدلالة، كما عرفت.

المقام الرابع: في حدود المطهّر و خصوصياته الموجبة للتضييق أو التوسعة قد عرفت: أنّه قد وقع التعبير عن عنوان هذا المطهّر في بعض الكتب الفقهية بالتراب و عرفت أنّ المراد به هو الأرض؛ لوقوع التعبير بها في النصوص و الفتاوى، دون التراب. و لا فرق في ذلك بين ما إذا كانت الأرض ذات رمل أو حجر أو تراب؛ لإطلاق الأرض و شمولها لجميع الأقسام.

نعم، فيما إذا كانت هذه الأُمور من الابتداء، فلا إشكال في ذلك، و أمّا إذا كانت بالعرض كما إذا كانت مفروشة بالحجر مثلًا، فالظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال فيه أيضاً؛ لأنّ المفروشة بالحجر مثلًا يصحّ أن يقال إنّها أرض حقيقة؛ لأنّ انتقال الحجر من مكان إلى آخر و كذا نصبه مثلًا، لا يوجب الخروج عن عنوان الأرض كما أنّه لا مجال لدعوى انصراف النصوص عن مثله، بعد عدم كون الفرض من الفروض النادرة، و غلبة وجود مثل ذلك في الطرق و الأزقّة التي يمرّ الناس عليها.

ثمّ إنّه ربّما يقال: إنّه على تقدير الشكّ في صدق الأرض على المفروشة بمثل الحجر، يجري هنا استصحابان ابتداء، و بالمعارضة يتساقطان:

أحدهما: استصحاب النجاسة الحاصلة للرجل مثلًا، المشكوك زوالها بالمشي أو المسح على الأرض المفروشة.

ثانيهما: استصحاب مطهّرية الأرض، بل استصحاب أرضية الأرض، لو

لم يناقش

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 591

..........

______________________________

في خصوص الثاني: بأنّه من قبيل استصحاب المفهوم المردّد، غاية الأمر أنّ الاستصحاب الثاني تعليقي، و لكن في جميع موارد الاستصحاب التعليقي، يكون التعارض بينه و بين الاستصحاب التنجيزي متحقّقاً، و المرجع بعد التعارض في المقام قاعدة الطهارة، ففي صورة الشكّ أيضاً تصير النتيجة الطهارة.

و أُورد عليه: بأنّ المقام ليس من موارد الرجوع إلى قاعدة الطهارة، بل لا بدّ من الرجوع إلى الإطلاقات المقتضية لاعتبار الغسل بالماء في تطهير المتنجّسات؛ فإنّ القدر المتيقّن ممّا خرج عن تلك المطلقات، إنّما هو صورة المسح أو المشي على الأرض غير المفروشة، و أمّا الزائد المشكوك فيه، فيبقى تحت المطلقات لا محالة.

هذا، و لكن التحقيق: عدم التعارض بين الاستصحابين؛ لأنّ استصحاب المطهّرية ليس من قبيل الاستصحاب التعليقي؛ لأنّ عنوان المطهّرية بمعنى صلاحية الأرض لحصول التطهير بها أمر فعلي و حكم تنجيزيّ ثابت للأرض، سواء تحقّق المسح، أو المشي عليها في الخارج، نعم حصول الطهارة للمطهَّر بالفتح أمر تعليقي يتوقّف على أحد الأمرين، و ليس عنوان المطهّر للأرض إلّا كعنوانه للماء؛ فإنّ الماء مطهّر فعلًا و لو لم يكن هناك شي ء يحتاج إلى التطهير به.

و بعد ذلك نقول: إنّ استصحاب النجاسة لا مجال لجريانه؛ لكون الشكّ فيها مسبّباً عن الشكّ في المطهّرية، و بعد جريان الاستصحاب في السبب لا يبقى موقع لجريانه في المسبّب. هذا في المفروشة بمثل الحجر.

و قد قوّى في المتن لحوق المفروشة بالآجر أو الجصّ، بالمفروشة بالحجر و نحوه، و الوجه فيه كون الآجر و الجصّ و مثلهما، لم يخرج عن عنوان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 592

..........

______________________________

الأرض

و الأجزاء الأرضية، و المطبوخية لم تصر موجبة للخروج، فالآجر الذي هو التراب المطبوخ باقٍ على عنوانه الأوّلي، و كذا الجصّ و مثله، بخلاف المطلّى بالقير، و المفروش بالخشب أو الصوف أو القطن أو نحوها، فإنّها خارجة عن صدق عنوان الأرض و الاشتمال على بعض الأجزاء الأرضية في بعضها، لا يوجب بقاء العنوان.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ موضوع الحكم أوسع من الأرض؛ لأنّه قد ورد في صحيحة الأحول عنوان «المكان النظيف» و في رواية المعلّى عنوان «الشي ء الجافّ» و مقتضى إطلاقهما الشمول لمثل المطلّى بالقير و المفروش بالخشب.

و لكن مقتضى التعليل الوارد في جملة من الأخبار المتقدّمة و هو قوله (عليه السّلام)

الأرض يطهّر بعضها بعضاً

هو اختصاص الحكم بخصوص عنوان الأرض و لا سيّما مع ملاحظة عدم إمكان الالتزام بعموم الشي ء الجافّ في رواية المعلّى، و عليه فيشكل الأمر في هذه الأزمنة التي تكون أكثر الأراضي التي يمرّ الناس عليها مطلّية بالقير.

و ممّا ذكرنا يظهر: أنّه لا مجال للأخذ بإطلاق الأمر بالمسح في صحيحة زرارة، على تقدير كون المراد من المسح ما هو المراد في المقام، فالإشكال بحاله و إن حكي عن ابن الجنيد و صاحب «المستند» الحكم بالكفاية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 593

[ثالثها: الشمس]

اشارة

ثالثها: الشمس، فإنّها تطهّر الأرض، و كلّ ما لا ينقل من الأبنية، و ما اتصلّ بها من الأخشاب و الأبواب و الأعتاب و الأوتاد، المحتاج إليها في البناء، المستدخلة فيه، لا مطلق ما في الجدار على الأحوط.

و الأشجار و النبات و الثمار و الخضروات و إن حان قطعها، و غير ذلك حتّى الأواني المثبتة، و كذا السفينة. و لكن لا تخلو الأشجار و ما بعدها من

الإشكال، و إن لا تخلو من قوّة.

و لا يترك الاحتياط في الطرّادة، و كذا العربة و نحوها. و الأقوى تطهيرها للحصر و البواري. (1)

______________________________

(1) الثالث: في مطهّرية الشمس يقع الكلام في هذه القطعة من المتن في مقامات:

المقام الأوّل: في أصل مطهّرية الشمس في الجملة و المشهور بين الأصحاب رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين، هي كونها مطهّرة في الجملة كالماء.

و عن المفيد و جماعة من القدماء و المتأخّرين القول بالعفو، و أنّ جواز التيمّم و السجود على ما جفّفته الشمس من المواضع المتنجّسة، لا يكون مستنداً إلى طهارتها، بل الشمس قد أثّرت في العفو، مع بقاء تلك المواضع على النجاسة.

و قد استدلّ للمشهور بجملة من الأخبار المستفيضة:

منها: صحيحة زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن البول، يكون على السطح أو في المكان الذي يصلّى فيه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 594

..........

______________________________

فقال

إذا جفّفته الشمس فصلّ عليه، فهو طاهر «1».

و مقتضاها بمناسبة التعليل بقوله

فهو طاهر

أنّ جواز الصلاة على السطح أو في المكان الذي يصلّى فيه إذا كان البول عليهما، و قد جفّفته الشمس مستند إلى حصول الطهارة له بسبب الشمس و تجفيفها، لا إلى العفو مع بقاء الموضع على نجاسته الأوّلية.

و دعوى عدم كون الطهارة في عرفهم، حقيقة في المعنى الاصطلاحي المقابل للنجاسة، مدفوعة بوضوح كون هذه الكلمة في عصر الصادقين و من بعدهما (عليهم السّلام)، ظاهرة في المعنى الشرعي، فالرواية في كمال الظهور في مرام المشهور.

و منها: صحيحة زرارة و حديد بن حكيم الأزدي جميعاً قالا: قلنا لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): السطح يصيبه البول أو يبال عليه، يصلّى في ذلك المكان؟

فقال

إن كان تصيبه الشمس و الريح و

كان جافّاً فلا بأس به، إلّا أن يكون يتّخذ مبالًا «2».

و الاستدلال بها مبنيّ على أنّ الظاهر أنّ نفي البأس عن الصّلاة في المورد المفروض مع إصابة الشمس و الريح، إنّما هو لأجل حصول الطهارة له بذلك، و السر فيه أنّ السائلين قد اعتقدا عدم جواز الصلاة في الأرض النجسة، و عدم ثبوت العفو عنه، و هو (عليه السّلام) لم يردعهما عن هذا الاعتقاد، فنفي البأس مع الإصابة، ظاهر في حصول الطهارة و زوال النجاسة.

و الاشتمال على الريح لا يقدح بعد عدم مدخليتها بوجه؛ لأنّ الظاهر أنّ ذكرها

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 29، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 29، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 595

..........

______________________________

إنّما هو لبيان أمر عادي؛ لأنّ استناد الجفاف إلى الشمس و إشراقها، لا ينفكّ عن مدخلية هبوب الريح و جريان الهواء.

و لعلّ هذه الرواية كانت مستنداً للشيخ (قدّس سرّه) حيث حكي عنه في موضع من «الخلاف» إلحاق الريح بالشمس في المطهّرية، حيث قال: الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول و ما أشبهه، و طلعت عليه الشمس، أو هبّت عليه الريح حتّى زال عين النجاسة، طهّره.

غاية الأمر أنّه حمل الرواية على كفاية أحد الأمرين، لا اعتبار المجموع.

و يمكن المناقشة في دلالتها بوجهين:

أحدهما: أنّه فرق بين «الصلاة في الشي ء» و بين «الصلاة على الشي ء» فإنّ الأوّل لا يكاد يستعمل بمعنى السجدة على الشي ء؛ لأنّ السجود إنّما هو عليه لا فيه، إذا كان هو المسجود عليه، و الثاني يستعمل بمعنى السجدة عليه، و بعد ملاحظة أنّ المعتبر في باب الصّلاة هو كون سجودها على الشي ء الطاهر لعدم اعتبار الطهارة في مكان المصلّي بما

هو مكانه، و ملاحظةِ أنّ التعبير في الرواية إنّما هو بكلمة «في» لا «على» لا يستفاد من الرواية أنّ إصابة الشمس و الريح و الجفاف، قد صار موجباً لزوال النجاسة و حصول الطهارة؛ لأنّه يجتمع جواز الصّلاة في السطح مع عدم حصول الطهارة.

إلّا أن يقال: إنّه لا محيص من حمل محطّ السؤال على كون النظر إلى السجود الذي هو من أركان الصّلاة؛ و ذلك لأجل أنّه مضافاً إلى استبعاد كون معتقد مثل زرارة، مدخليةَ الطهارة في مكان المصلّى بما هو مكانه، كاعتبار الإباحة و نحوها يكون تقييد نفي البأس في الجواب بما إذا أصابته الشمس و الريح، بلا وجه؛ لعدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 596

..........

______________________________

الفرق في جواز الصّلاة فيه بين صورتي الإصابة و عدمها، كما لا يخفى.

فالتقييد يكشف عن كون محطّ السؤال هو السجدة عليه، و لذا قد عبّر في الرواية السابقة بكلمة «على» في الجواب، و من الظاهر ظهور نفي البأس عن السجود عليه مع ملاحظة اعتبار الطهارة فيما يسجد عليه في زوال النجاسة و حصول الطهارة.

إلّا أن يمنع هذا الظهور أيضاً: بأنّه يجتمع نفي البأس مع القول بالعفو أيضاً.

ثانيهما: أنّه لا دلالة للرواية على اعتبار كون الجفاف مستنداً إلى الشمس؛ لأنّه قد جعل اعتباره في عرض اعتبار الإصابة فالشرط أمران: الإصابة، و الجفاف، و من الممكن أن يستند الجفاف إلى شي ء آخر غير إشراق الشمس.

بل يمكن أن يقال: بظهور الرواية في اعتبار الجفاف حال الصلاة، و لازمه عدم الاكتفاء بالجفاف الحاصل بالإشراق إذا زال الجفاف حال الصّلاة، فالرواية تدلّ حينئذٍ على أمر ثالث مغاير لكلا القولين.

و كيف كان: فالرواية غير تامّة الدلالة على القول بالطهارة الذي

هو مختار المشهور.

و منها: موثّقة عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في حديث قال: سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره، فلا تصيبه الشمس، و لكنّه قد يبس الموضع القذر.

قال

لا يصلّى عليه، و أعلم موضعه حتّى تغسله.

و عن الشمس هل تطهّر الأرض؟

قال

إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك، فأصابته الشمس، ثمّ يبس

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 597

..........

______________________________

الموضع، فالصلاة على الموضع جائزة، و إن أصابته الشمس و لم ييبس الموضع القذر، و كان رطباً، فلا يجوز الصلاة حتّى ييبس، و إن كانت رجلك رطبة و جبهتك رطبة، أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر، فلا تصلّ على ذلك الموضع حتّى ييبس، و إن كان غير الشمس أصابه حتّى ييبس فإنّه لا يجوز ذلك «1».

و حيث إنّ السؤال إنّما هو عن مطهّرية الشمس للأرض، فالحكم بالجواز في الجواب يدلّ على طهارة الموضع و زوال النجاسة عنه، خصوصاً مع ملاحظة عدم إشعار السؤال بخصوص الصلاة على الأرض النجسة، حتّى يتوهّم أنّ المراد من الطهارة فيه هو جواز الصلاة الذي يجتمع مع القول بالعفو أيضاً؛ بداهة أنّ السؤال إنّما هو عن نفس المطهّرية ليترتّب عليها جميع الآثار المترتّبة على طهارة الأرض، كما هو ظاهر.

و لكن مع ذلك، ربّما يقال: إنّه لا يستفاد من هذه الموثّقة، أزيد من سببية تجفيف الشمس لجواز الصلاة، فلا تدلّ على الطهارة، بل ربّما يستشعر من عدول الإمام (عليه السّلام) إلى الجواب بجواز الصلاة عدمها، فتكون حينئذٍ شاهدة للقائلين بالعفو كما أنّ قوله (عليه السّلام)

و إن كانت رجلك رطبة ..

ظاهر في ذلك بناءً على رجوع ضمير

حتّى ييبس

إلى ما

كان منك رطباً، لا إلى الموضع.

و يؤكّده ما عن بعض نسخ «التهذيب» من قوله (عليه السّلام)

و إن كان عين الشمس

بالعين المهملة و النون بدل

غير الشمس

كما أنّه قد رواه بهذه الصورة «الوافي» و «حبل المتين» فيما حكي عنهما، فإنّها على هذا التقدير، صريحة في عدم طهارة الموضع بإصابة الشمس و إشراقها عليه، و كلمة

إن

حينئذٍ وصلية،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 29، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 598

..........

______________________________

كما أنّ قوله (عليه السّلام)

فإنه لا يجوز ذلك

تأكيد لعدم جواز الصلاة على ذلك الموضع حتّى ييبس.

و يردّ هذا القول أُمور:

الأوّل: ما عرفت من ظهور السؤال في كونه راجعاً إلى الطهارة، مع عدم إشعار فيه بخصوص الصّلاة، بل هو ناظر إلى أمر كلّي؛ و هو أنّ الشمس هل تكون مطهّرة للأرض أم لا؟ و لا معنى للعدول عن الجواب إلى الجواب بجواز الصّلاة إلّا على تقدير كونه مساوقاً لبيان الطهارة التي هي محطّ سؤاله، فالاستشعار المذكور في غير محلّه، بل ظاهر السؤال بحاله.

الثاني: ما قد يقال: من أنّ الضمير في

ييبس

غير راجع إلى الجبهة أو الرجل، بل الظاهر رجوعه إلى الموضع؛ لقربه، و لأنّ مرجع الضمير لو كان هو الجبهة أو الرجل، لكان الأولى أن يقول: «حتّى تيبس» بدلًا عن

حتّى ييبس

و ذلك لأنّ الجبهة و الرجل مؤنّثتان، إحداهما: لفظية، و الأُخرى: سماعية.

هذا، و الظاهر عدم تمامية هذا الإيراد؛ و ذلك لأنّ رجوع الضمير إلى الموضع يستلزم مضافاً إلى تحقّق التكرار في الكلام؛ لأنّه (عليه السّلام) قد صرّح في الجملة الأُولى؛ أي السابقة على هذه الجملة: بعدم جواز الصلاة على الموضع القذر إذا كان رطباً قبل أن ييبس، و لا وجه للتكرار

أصلًا أخذ بعض القيود غير الدخيلة؛ فإنّ توقّف جواز الصلاة على الموضع القذر مع الرطوبة المستفادة من قوله

حتّى ييبس

على هذا التقدير على حصول اليبس، أمر متحقّق بنحو الإطلاق، و لا فرق فيه بين أن تكون الجبهة أو الرجل رطبة أو يابسة، ففرض رطوبة العضو المماسّ مع الأرض، يكشف عن مدخليته في الحكم المذكور في هذه الجملة، و هو لا يتمّ إلّا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 599

..........

______________________________

على تقدير رجوع الضمير إلى العضو الرطب، و على هذا التقدير ينطبق على القول بالعفو.

الثالث: ما قد يقال أيضاً: من أنّ كلمة

إن

لو كانت وصلية، لكان المتعيّن أن يقول: «حتّى يبس» بدلًا عن

حتّى ييبس

لأنّ «إن» الوصلية إنّما يؤتى بها في الأُمور مفروضة التحقّق و الوجود، التي تدلّ عليها الأفعال الماضية، دون المستقبلة.

نعم، في كلمة «إن» الشرطية لا يفرّق الحال بين الماضي و المضارع.

أقول: الظاهر أنّه لا فرق بين «إن» الوصلية و «إن» الشرطية في جواز استعمال كلّ منهما في الماضي و المضارع، فيجوز أن يقول الوالد لولده مثلًا: «اجتهد في تحصيل العلم و إن لا تبلغ شيئاً منه» إلّا أنّ فرض الإصابة بنحو الماضي في المقام، يقتضي أن تكون اليبوسة مفروضة بصيغة الماضي، فاللزوم إنّما نشأ من هذه الجهة، لا من اقتضاء «إن» الوصلية، كما لا يخفى.

هذا كلّه، مع أنّه لا معنى محصّل لإصابة عين الشمس شيئاً؛ لأنّ عينها بمعنى شخصها و نفسها لا تصيب شيئاً أبداً، و إنّما يصيب نورها و شعاعها. خصوصاً مع أنّه لا خصوصية في هذه الجملة من جهة إضافة لفظ العين بعد إسناد الإصابة إلى الشمس في الجملات المتعدّدة قبل ذلك.

فالإنصاف: أنّ هذه النسخة غير صحيحة،

خصوصاً مع ملاحظة استدلال الشيخ (قدّس سرّه) في «التهذيب» على ما حكي بهذه الرواية على القول بالطهارة، و هو لا ينطبق على هذه النسخة، فالنسخة المعروفة صحيحة، و الرواية بتلك النسخة ظاهرة الدلالة على القول بالطهارة، و إن كان بعض جملاتها مشعراً بالقول بالعفو، كما عرفت.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 600

..........

______________________________

و منها: رواية أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

يا أبا بكر، ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر «1».

أو

كلّ ما أشرقت عليه الشمس فهو طاهر «2».

و هي من جهة الدلالة على الطهارة، ظاهرة غير قابلة للمناقشة فيها، إلّا أنّه لا بدّ من تقييدها من جهتين:

إحداهما: من جهة اليبوسة و عدمها؛ حيث إنّه لا مناص من تقييدها بما إذا حصلت اليبوسة بإشراقها.

و ثانيتهما: من جهة كون المتنجّس ممّا ينقل أو من غيره، كالثوب و البدن، مع عدم الالتزام بالمطهّرية أو بالعفو في مثلهما من الأُمور القابلة للانتقال المتداول غسلها.

هذه هي الروايات الدالّة على القول بالطهارة، و في مقابلها صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: سألته عن الأرض و السطح يصيبه البول و ما أشبهه، هل تطهّر الشمس من غير ماء؟

قال

كيف يطهّر من غير ماء؟! «3».

نظراً إلى دلالتها على عدم مطهّرية الشمس.

هذا، و لكنّ الظاهر أنّه لا معارضة بين هذه الصحيحة و بين تلك الروايات بوجه؛ لأنّ مورد السؤال ليس هي مطهّرية الشمس و عدمها، بل مورده أنّ الشمس

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 29، الحديث 5 و 6.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 29، الحديث 5 و 6.

(3) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 29، الحديث 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل

الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 601

..........

______________________________

هل تكون سبباً مستقلّاً في المطهّرية؛ بحيث لا تحتاج إلى شي ء آخر، أو أنّ لها شرطاً أيضاً و هو الماء؟ فأجاب (عليه السّلام): بعدم كونها سبباً مستقلّاً؛ و أنّه يحتاج إلى الماء.

غاية الأمر: أنّ مقتضى الجمع بينها و بين الروايات المتقدّمة الدالّ بعضها بالصراحة على عدم الاحتياج إلى الماء، إذا كانت الأرض القذرة رطبة غير يابسة أن تحمل هذه الصحيحة على الأرض اليابسة.

و من هنا يظهر: أنّ الاحتياج إلى الماء إنّما هو بالمقدار الذي به تتحقّق الرطوبة للأرض، لا بالمقدار الذي يتحقّق به الغسل؛ ضرورة عدم الحاجة إلى الشمس بعد الغسل بالماء، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه على تقدير التعارض و عدم إمكان الجمع، لا بدّ من طرح الثانية؛ أي الصحيحة، لكونها مخالفة للشهرة الفتوائية أوّلًا، و موافقة للعامّة ثانياً. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني: في أنّ الشمس هل تكون مطهّرة للأرض بخصوصها، أو أنّها مطهّرة للأعمّ منها؟ و لا مجال لتوهّم الخلاف في الأرض؛ فإنّها مذكورة في معاقد الإجماعات.

نعم، عن «المهذّب»: الاقتصار على الحصر و البواري، مع التنصيص على أنّ غيرهما لا يطهّر. لكن في محكيّ «مفتاح الكرامة» نسبة ذكر الأرض إليه معهما.

و كيف كان: فالمناقشة في الأرض في غير محلّها.

و أمّا غيرها، فالمشهور على جريان الحكم في كلّ ما لا ينقل حتّى الأوتاد في الجدار، و الأوراق على الأشجار.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 602

..........

______________________________

و ذهب بعضهم ك «المهذّب» بناءً على ما ذكر إلى جريان الحكم من غير الأرض في خصوص الحصر و البواري، بل جريانه فيهما مع كونهما منقولين هو الأشهر، بل المشهور كما عن «الحدائق». و استدلّ للمشهور برواية أبي بكر الحضرمي

المتقدّمة، الدالّة على أنّ ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر، فإنّ عمومها أو إطلاقها يشمل الجميع و لا يقدح عدم إمكان الأخذ بعمومه في المنقول بالإجماع و الضرورة؛ فإنّهما يوجبان الحمل على غير المنقول، خصوصاً مع قرب احتمال أن يكون المراد منه ما من شأنه أن تشرق عليه الشمس لثباته، فلا يشمل مثل الثوب و البدن و غيرهما من المنقولات.

نعم، ربّما يناقش في سندها: باشتماله على عثمان بن عبد اللّه، و أبي بكر الحضرمي، و الأوّل مجهول، و الثاني غير ثابت الوثاقة؛ لعدم التنصيص على توثيقه.

و أُجيب عنها: بأنّ في رواية الأساطين لها كالمفيد و محمّد بن يحيى و سعد و أحمد بن محمّد الظاهر أنّه ابن عيسى الأشعري و علي بن الحكم، نوع اعتماد عليها، و لا سيّما أحمد الذي أخرج البرقي من قم؛ لأنّه أكثر الرواية عن الضعفاء، و اعتمد المراسيل، فكيف يعتمد هو على من لا ينبغي الاعتماد عليه؟! و لذا قيل: «إنّ في روايته عن شخص نوع شهادة بوثاقته» و كذا في رواية الشيخ (قدّس سرّه) لها في «الخلاف» و «التهذيب» مستدلّاً بها، و اعتماد مشهور المتأخّرين عليها، كالفاضلين و الشهيدين و المحقّق الثاني، فلا مجال للتوقّف في سند الرواية، و لا في وجوب العمل بها.

و يمكن الاستدلال للمشهور بصحيحة زرارة و موثّقة عمّار المتقدّمتين؛ باعتبار اشتمال الاولى على المكان و الثانية على الموضع لأنّهما أعمّ من الأرض فيشملان الألواح و غيرها من الأشياء المفروشة على الأرض كما أنّهما يشملان مثل السطح من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 603

..........

______________________________

الأبنية. لكن عمومهما بحيث يشمل جميع ما هو مذكور في المتن، محلّ تأمّل، إلّا أن يستدلّ عليه

بعدم القول بالفصل.

و قد وقع الخلاف في الثمار؛ فعن جماعة كونها كالأبنية، و عن العلّامة في «النهاية» المنع فيها، و عن بعض التفصيل بين أوان قطعها فالثاني، و غيره فالأوّل.

و لا تبعد دعوى: أنّه يستفاد و لو بمناسبة الحكم و الموضوع، أنّ مطهّرية الشمس في مثل الأراضي و الأبنية، إنّما هي لأجل كونهما ممّا لا ينقل، فيجري الحكم في الجميع، و إن كان الجمود على اللفظ يأباه، و لأجله يسري الحكم في الأواني المثبتة أيضاً و إن كانت قبل الإثبات لا تطهّر بالشمس.

و أمّا السفينة، فقد صرّح غير واحد بكون مثلها ممّا يجري في الماء، و لا يتحوّل من مكان إلى مكان في خارجه بحكم الأرض. و لا يخلو عن قوّة.

نعم، في مثل الطرّادة و العربة و نحوهما من المراكب المتداولة في هذه الأزمنة، المتحوّلة من مكان إلى مكان في الأرض، يشكل الحكم باعتبار تحقّق النقل فيها، و إن كان يمكن أن يقال: بأنّ النقل فيها بعد تحريكها بنفسها أو بحيوان و نحوه لا ينافي كونها ممّا لا ينقل؛ لعدم إمكان نقلها من حيث هي إذا لم تكن متحرّكة. و لكن ذلك لا يوجب شمول الدليل لها، فالأحوط الترك، كما في المتن.

و أمّا الحصر و البواري، فقد استدلّ لطهارتها بالشمس بصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن البواري يصيبها البول، هل تصلح الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن تغسل؟

قال

نعم، لا بأس «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 29، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 604

..........

______________________________

و بصحيحة الأُخرى، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن البواري يبلّ قصبها بماء قذر،

أ يصلّى عليه؟

قال

إذا يبست فلا بأس «1».

نظراً إلى اشتراط طهارة موضع السجود في جواز الصلاة عليها، فلا بدّ من تنزيل إطلاق الرواية على ما لو حصل الجفاف بالشمس.

و أُورد على الاستدلال بهما في «المصباح»: بأنّ كون الرواية بظاهرها مخالفة للإجماع أو غيره من الأدلّة، لا يعيّن إرادة الجفاف بالشمس؛ حتّى تنهض دليلًا لإثبات مطهّرية الشمس، و قد ورد نفي البأس عن الصلاة في الموضع النجس في صحيحة أُخرى له أيضاً، عن أخيه موسى (عليه السّلام): سأله عن البيت و الدار لا تصيبهما الشمس، و يصيبهما البول، و يغتسل فيهما من الجنابة، أ يصلّى فيهما إذا جفّا؟

قال

نعم «2».

فكلّما يقال في توجيه هذه الصحيحة، يقال في توجيه الأُوليين.

أقول: و أنت خبير بوضوح الفرق بينها و بينهما؛ فإنّ التعبير فيها إنّما هو بكلمة «في» الظاهرة في الظرفية بلحاظ جميع أجزاء الصلاة، و أمّا التعبير فيهما فإنّما هو بكلمة «على» الظاهرة في السجود على المكان، و من المعلوم أنّ اعتبار الطهارة إنّما هو في موضع السجود، لا في مطلق مكان المصلّى، فالفرق ظاهر.

و أمّا ما ربّما يقال كما قيل: بأنّ الصلاة على الشي ء و إن كان مشعراً بإرادة السجود عليه، إلّا أنّه لا يبلغ مرتبة الظهور؛ لتعارف التعبير بذلك في اتّخاذ الشي ء

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 30، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 30، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 605

..........

______________________________

مكاناً للصّلاة، حيث إنّ لفظة «على» للاستعلاء، و هو متحقّق عند اتّخاذ شي ء مكاناً للصلاة؛ لاستعلاء المصلّي على المكان.

و يشهد على ذلك صحيحة زرارة قال: سألته عن الشاذ كونه يكون عليها الجنابة، أ يصلّي عليها في المحمل؟

قال

لا

بأس

أو

لا بأس بالصلاة عليها «1».

فيدفعه مضافاً إلى أنّ مقتضى ذلك رفع اليد عن أكثر أدلّة المطهّرية؛ لأنّ الاستدلال به إنّما كان مبتنياً على استعمال كلمة «على» كما عرفت، فنفي الظهور عن هذا التعبير هدم لذلك أنّ إنكار الظهور في نفسه لا مجال له؛ بعد وضوح اختلاف التعبيرين. و ظهور كلمة «على» في السجدة، و استعمالها في غير هذا المعنى في مورد مثلًا، لا يقدح في الظهور و لزوم الحمل عليه مع عدم قيام القرينة على الخلاف.

مضافاً إلى احتمال أن يكون استعمالها في مثل مورد الرواية بلحاظ وقوع الصلاة على المحمل؛ و كون الشاذكونة فيه.

و يؤيّده الاستعمال أيضاً في الروايات الواردة في الصلاة على المحمل؛ بلحاظ شرطية القبلة و كيفية رعايتها.

فالإنصاف: أنّه لا مجال لإنكار دلالة الروايتين على المقام.

و يدلّ عليه أيضاً: رواية أبي بكر الحضرمي المتقدّمة؛ فإنّ القدر المتيقّن في الخروج عن عمومها أو إطلاقها، ما عدا الحصر و البواري من المنقولات؛ لما عرفت من عدم ثبوت الإجماع فيها، بل تحقّق الشهرة على الخلاف.

إلّا أن يناقش في الاستدلال بها بما ذكرنا: من قرب احتمال أن يكون المراد منها مٰا

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 30، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 606

..........

______________________________

من شأنه أن تشرق عليه الشمس؛ لثباته، مقابل ما من شأنه أن يوضع فيها تارة، و ينحّى عنها اخرى.

و لكن هذا الاحتمال إذا بلغ مرتبة مانعة عن الظهور نظراً إلى إيجابه الانصراف يمكن الاعتناء به، و في غير هذه الصورة لا يقدح في العمل بالظهور بوجه، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه ربّما يتمسّك أيضاً بالاستصحاب؛ نظراً إلى أنّ الحصر و البواري كانتا قبل قطعهما و فصلهما بحيث

لو أشرقت عليهما الشمس طهرتا؛ لكونهما من النبات، و هو ممّا لا ينقل، فلو شككنا بعد فصلهما و صيرورتهما حصراً و بواري في بقائهما على حالتهما السابقة كما هو المفروض يبنى على الحالة السابقة؛ للاستصحاب، و مقتضاه الحكم بكون الشمس مطهّرة للحصر و البواري.

أقول: قد مرّ نظيره في مطهّرية الأرض في مسألة الأرض المفروشة بالحجر، و الفرق بين الفرضين أنّه ذكرنا هناك: أنّ الاستصحاب الجاري في المطهِّر «بالكسر» ليس من الاستصحاب التعليقي، و أمّا هنا فالاستصحاب الجاري في «المطهِّر» تعليقي؛ لعدم كون المطهَّرية «بالفتح» حكماً تنجيزياً ثابتاً له، فلا محالة يكون تعليقياً، و حيث أنّ التعليق في مثله أمر انتزاعي غير مأخوذ في لسان الدليل الشرعي، فلا مجال لجريانه، كما حقّق في محله.

و يمكن أن يقال: بعدم كون الاستصحاب تعليقياً أيضاً و لو على تقدير تسليم التعليق الانتزاعي؛ فإنّ الحصر و البواري تكونان مسبوقتين بالفصل و القطع، و في هذه الحالة لا يجري عليهما حكم النبات؛ لعدم كونهما منقولتين.

نعم، حكي عن الفخر: أنّه عمّم الحكم لما لا ينقل و إن عرضه النقل، كالخشب و الآلات المتّخذة من النباتات، و لكنّه لا دليل عليه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 607

..........

______________________________

فالحالة السابقة المتيقّنة قد ارتفعت، و لا مجال لاستصحابها و لو على نحو التعليق.

و لكن عرفت: أنّه لا حاجة إلى الاستصحاب، و لا تصل النوبة إليه؛ لدلالة روايتي علي بن جعفر (عليهما السّلام) على عموم الحكم للحصر و البواري، كما مرّ.

المقام الثالث: في أنّ الشمس هل تكون مطهّرة من خصوص نجاسة البول؟ أو أنّه لا فرق في مطهّريتها بين البول و غيره من النجاسات و المتنجّسات؟ و الثاني هو المشهور.

و في «الجواهر»:

لا أعرف خلافاً إلّا من «المنتهى» نعم في جملة من الكتب الاقتصار على البول، و لعلّه كان مذكوراً على سبيل المثال.

و يدلّ على التعميم موثّقة عمّار المتقدّمة، حيث وقع السؤال فيها عن الموضع القذر .. و من المعلوم شموله لغير البول أيضاً. بل قد صرّح فيها بالتعميم في قوله (عليه السّلام)

إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك، فأصابته الشمس ..

و ليس المراد من

غير ذلك

ما يشبه البول من النجاسات التي لا عين لها، بل هو مطلق شامل للجميع و الإشكال في السند كما عن العلّامة في «المنتهي» حيث ضعّفه ممّا لا يتمّ؛ لكونه موثّقاً، و الموثّق حجّة، كما قرّر في محلّه.

و يدلّ على التعميم أيضاً صحيحة إسماعيل بن بزيع المتقدّمة؛ بلحاظ قوله في السؤال: «يصيبه البول و ما أشبهه» فإنّ «ما أشبهه» ظاهر في المشابهة من حيث النجاسة، لا من حيث كونه مائعاً لا عين له.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 608

و يعتبر في طهارة المذكورات و نحوها بالشمس بعد زوال عين النجاسة عنها، أن تكون رطبة، رطوبة تعلق باليد، ثمّ تجفّفها الشمس تجفيفاً يستند إلى إشراقها بدون واسطة، بل لا يبعد اعتبار اليبس على النحو المزبور. (1)

______________________________

و الإشكال فيها من جهة الإضمار، واضح الدفع بعد كون المضمر مثل ابن بزيع من الأجلّاء.

كما أنّ التأمّل في ثبوت الإطلاق لها، لا مجال له بعد ظهور الرواية في مفروغية مطهّرية الشمس في الأرض و السطح الذي أصابه البول و ما أشبهه، و بعد تقرير الإمام (عليه السّلام) لابن بزيع على ثبوت هذا الأمر، و لو كان الحكم مختصّاً ببعض ما أشبهه، كان عليه (عليه السّلام) البيان، و لم يجز التقرير

بوجه.

فانقدح: أنّ الحقّ ما عليه المشهور من عدم الاختصاص بالبول، بل يمكن أن يقال بأنّ الروايات الواردة في مورد البول لا يستفاد منها عرفاً الاختصاص، بل المتفاهم منها أنّ ذكره إنّما هو على سبيل المثال، أو لكونه مورداً لابتلاء السائل من دون توهّم الاختصاص أصلًا، كما لا يخفى.

(1) يشترط في مطهّرية الشمس بعد زوال عين النجاسة عن المحلّ، أمران:

في اشتراط الرطوبة في مطهّرية الشمس الأوّل: أن تكون المذكورات و نحوها رطبة رطوبة تعلق باليد حتّى تجفّفها الشمس. و بعبارة اخرى: أن تكون الرطوبة مسرية؛ أي سارية.

و الوجه في اعتبار هذا الأمر، هو أخذ عنوان الجفاف في موضوع الحكم بالطهارة في صحيحة زرارة المتقدّمة. و لكنّه أفاد في «المستمسك»: نعم، مقتضى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 609

..........

______________________________

الاكتفاء باليبس في الموثّق، كفاية مجرّد النداوة و إن لم تكن مسرية؛ لصدق اليبس على ذهابها، و حيث إنّ بين التجفيف و اليبس عرفاً عموماً من وجه بحسب المورد لتوقّف الأوّل على الرطوبة المسرية، و صدقه على ذهابها و لو مع بقاء النداوة في الجملة، و يكفي في الثاني مجرّد النداوة في الجملة، و لا يصدق إلّا مع ذهاب جميعها كان مقتضى الجمع بين الصحيح و الموثّق الاكتفاء بأحد الأمرين؛ فإن كان في الموضع رطوبة مسرية فذهبت بالشمس، طهر و لو مع بقاء النداوة، و إن كانت غير مسرية طهر بذهابها؛ لصدق الجفاف في الأوّل، و اليبس في الثاني.

و لو بني على حمل الجفاف في الصحيح على اليبس إمّا لترادفهما، كما قد يظهر من كلام بعض أهل اللغة، أو لوجوب حمله في المقام عليه؛ لامتناع طهارة المكان مع بقاء نداوة البول التي هي عين

نجاسته كان المدار في التطهير على اليبس، و حيث لا يعتبر في صدقه الرطوبة المسرية، فلا دليل على اعتبارها.

نعم، لو كان اعتبار اليبوسة بنحو التقييد لدليل الجفاف، كان دليل الجفاف دليلًا على اعتبار الرطوبة المسرية، و لكنّه غير ظاهر.

أقول: الظاهر كما يظهر لمن راجع اللغة و الكتب الموضوعة لها، أنّ الجفاف و اليبس مترادفان، لا فرق بينهما بحسب المعنى و المورد أصلًا، كما أنّ الظاهر عدم الاختلاف بينهما بحسب العرف أيضاً، و عليه فملاحظة معناهما لغة و عرفاً بضميمة وضوح عدم حصول الطهارة للمحلّ مع بقاء نداوة البول التي هي عين نجاسته، و بضميمة استبعاد أن تكون النداوة المتنجّسة غير قابلة للتطهير بالشمس يقتضي أن يكون المعتبر في مطهّرية الشمس، هو وجود النداوة و إن لم تكن فيها سراية. كما أنّ المعتبر هو ذهاب النداوة بالكلّية؛ حتّى يصدق الجفاف و اليبوسة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 610

..........

______________________________

في اشتراط عدم الحجاب بين الشمس و المتنجّس الثاني: أن يستند الجفاف إلى إشراق الشمس على المتنجّس من دون حجاب، و بلا واسطة، كما هو المصرّح به في رواية أبي بكر الحضرمي الدالّة على أنّ كلّ ما أشرقت عليه الشمس فهو طاهر، حيث علّق الحكم بالطهارة على إشراق الشمس. بل هو الظاهر من «إصابة الشمس» الواردة في موثّقة عمّار؛ فإنّ إصابتها ظاهرة في إصابة نفسها؛ أي إشراقها، فلا تصدق مع وجود الحجاب على الشمس كالغيم، أو على المتنجّس، كالحصير الملقى على وجه الأرض و نحوه.

بل يمكن أن يقال: باستفادة ذلك من صحيحة زرارة أيضاً؛ فإنّ استناد الجفاف إلى الشمس و توصيفها بكونها مجفّفة، ظاهر في تجفيف نفسها المتحقّق بإشراقها؛ للفرق بين كون المجفّف هي

الشمس، أو الحرارة التي هي أثرها، كما لا يخفى.

فدعوى كونها مطلقة شاملة للجفاف بالمجاورة، غاية الأمر لزوم التقييد فيها، مدفوعة بعدم كونها كذلك، بل هي أيضاً ظاهرة في ذلك. و على تقدير تسليم منع الظهور، فلا مجال لإنكار الانصراف.

كما أنّ إسناد المطهّرية إلى الشمس في صحيحة ابن بزيع، ظاهر أيضاً في أنّها بنفسها أي بنورها و إشراقها مطهّرة، فلا يبقى إشكال في اعتبار هذا الأمر.

كما أنّه لا إشكال في حصول الطهارة فيما إذا أثّر الهواء و الريح المتعارف في الجفاف أيضاً؛ لعدم الخلوّ عنهما نوعاً.

إنّما الإشكال فيما إذا كان الجفاف بمعونة الريح؛ بحيث كان تأثير الإشراق في النصف أو أقلّ، و تأثير الريح في النصف أو أكثر، كما إذا كانت الريح زائدة على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 611

..........

______________________________

المقدار المتعارف، فالمحكيّ عن جماعة الحكم بالطهارة؛ لأنّ المعتبر حسبما يستفاد من الأخبار كون الجفاف مستنداً إلى إشراق الشمس، و أمّا استقلالها في الاستناد إليه فلم يظهر من الأخبار.

و ربّما يؤيّد ذلك بموثّقة عمّار؛ لاشتمالها على قوله: «فأصابته الشمس، ثمّ يبس الموضع» نظراً إلى إطلاق اليبوسة و عدم تقييدها بكونها مستندة إلى الشمس فحسب، فمع الاشتراك يصدق أنّ الأرض أصابتها الشمس، ثمّ يبست.

و يرد على هذا الدليل: أنّ الظاهر من قوله (عليه السّلام) في صحيحة زرارة

إذا جفّفته الشمس ..

هو استقلالها في التجفيف، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الجفاف أمر واحد لا يعقل فيه التعدّد و التكثّر؛ فإنّ إسناد مثله إلى شي ء ظاهر في الاستقلال بلا إشكال، و هذا كما في القتل، بل الأكل و نحوه.

و هذا بخلاف مثل المجي ء الذي لا دلالة لإسناده إلى شي ء على استقلاله فيه، و انحصاره به،

و عدم مجي ء غيره.

و أمّا الموثّقة فهي أيضاً لها ظهور عرفي في كون اليبس عقيب إصابة الشمس مستنداً إليها، لا إلى شي ء آخر، و إلّا للزم كفاية الاستناد إلى الغير فقط، و لا يلتزم به أحد فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 612

و يطهر باطن الشي ء الواحد إذا أشرقت على ظاهره، و جفّ باطنه بسبب إشراقها على الظاهر، و يكون باطنه المتنجّس متّصلًا بظاهره المتنجّس على الأحوط، فلو كان الباطن فقط نجساً، أو كان بين الظاهر و الباطن فصلًا بالجزء الطاهر، بقي الباطن على نجاسته على الأحوط، بل لا يخلو من قوّة.

و أمّا الأشياء المتعدّدة المتلاصقة فلا تطهر إذا أشرقت على بعضها، و جفّت البقية به، و إنّما يطهر ما أشرقت عليه بلا وسط. (1)

______________________________

(1) قد وقع التعرّض في هذه القطعة لحكم صور:

في تطهير الشمس للشي ء الواحد المتنجّس ظاهره و باطنه الأُولى: إذا كان الشي ء الواحد باطنه و ظاهره نجساً، و كان الباطن متّصلًا بالظاهر، و أشرقت الشمس على الظاهر، و جفّ الباطن أيضاً بسبب الإشراق على الظاهر، فإنّ الظاهر طهارة الباطن كالظاهر، و لا يقدح عدم تحقّق الإشراق بالإضافة إلى الباطن؛ و ذلك لصدق جفاف الشي ء بعد فرض وحدته بإشراق الشمس عليه، فلا بدّ من الحكم بطهارته بالنسبة إلى جميع أجزائه.

و لكنّه ربّما يقال: بعدم طهارة الباطن بإشراق الشمس على الظاهر؛ لأنّ مطهّرية الشمس، إنّما استفيدت من الحكم بجواز الصّلاة على الأرض المتنجّسة بعد جفافها بالشمس، و من المعلوم أنّه يكفي في جواز الصلاة على الأرض المتنجّسة، طهارة الظاهر فقط، و لا يعتبر طهارة الباطن إلّا فيما إذا كانت الصلاة على أرض مستتبعة لتبدّل الأجزاء، و صيرورة الباطن ظاهراً،

و بالعكس، فإنّه يعتبر في مثله طهارة الباطن بمقدار يتبدّل و يصير ظاهراً، و في غير هذا الفرض لا تعتبر طهارة الباطن أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 613

..........

______________________________

و يردّه ما عرفت: من ظهور الرواية في حصول الطهارة للشي ء بعد فرض وحدته، و لازمه كونه طاهراً بجميع أجزائه الشاملة للباطن أيضاً، فالملاك تحقّق الجفاف بسبب إشراق الشمس من دون حجاب، لا ثبوت الإشراق بالإضافة إلى كلّ جزء، فتدبّر.

في تطهير الشمس للشي ء الواحد المتنجّس باطنه فقط الثانية: ما إذا كان الباطن فقط نجساً، أو كان بين الظاهر و الباطن فصلًا بالجزء الطاهر. و قد حكم في المتن ببقاء الباطن على النجاسة في هذه الصورة على الأحوط، بل نفي خلوّه عن قوّة.

و الوجه فيه في الفرض الأوّل من هذه الصورة واضح؛ لأنّه لم يتحقّق إشراق الشمس بالإضافة إلى الباطن أصلًا، مع أنّه لا خفاء في اعتبار كون الإشراق متحقّقاً بالإضافة إلى المتنجّس و لو في الجملة.

و بهذا يندفع ما يمكن أن يتوهّم: من ثبوت الطهارة في هذا الفرض بطريق أولى، بالإضافة إلى الصورة الأُولى؛ نظراً إلى أنّه فيما إذا كان الظاهر أيضاً متنجّساً، إذا كان إشراق الشمس على الظاهر فقط، كافياً في حصول الطهارة للباطن بسبب الإشراق على الظاهر، الموجب لجفاف الباطن أيضاً، ففيما إذا لم يكن الظاهر متنجّساً، يكون الحكم بطهارة الباطن بالجفاف، المستند إلى الإشراق على الظاهر، بطريق أولى؛ لعدم تنجّس الظاهر أصلًا.

وجه الاندفاع ما عرفت: من ثبوت الفرق بإشراق الشمس على المتنجّس في الصورة الاولى، و عدمه في هذا الفرض، و كون الشي ء واحداً، لا يقتضي تحقّق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 614

..........

______________________________

الإشراق

بالنسبة إلى الباطن، و هذا كما إذا جفّ بعض الظاهر المتنجّس بالإشراق، و البعض الآخر بالمجاورة، فإنّه لا يكفي في حصول الطهارة لجميع أجزاء الظاهر، كما لا يخفى.

و دعوى: أنّ ذلك يوجب رفع اليد عن طهارة الباطن في الصورة الأُولى أيضاً؛ لعدم تحقّق الإشراق بالإضافة إليه، مدفوعة بأنّه يصدق عرفاً هناك تحقّق الجفاف بالإشراق على المتنجّس و لا يصدق هنا، فتدبّر.

و أمّا الفرض الثاني من هذه الصورة، فالوجه فيه أنّ الفصل بين الظاهر و الباطن بالجزء الطاهر، يوجب التعدّد و صيرورتهما شيئين؛ لفقد الاتّصال المساوق مع الوحدة، فلا مجال لصيرورة الباطن طاهراً بالإشراق على الظاهر.

في تطهير الشمس للأشياء المتعدّدة المتلاصقة الثالثة: ما إذا كانت هناك أشياء متعدّدة متنجّسة متلاصقة، و قد أشرق الشمس على بعضها، فإنّه لا يوجب طهارة البقيّة و لو حصل الجفاف للجميع بالإشراق على البعض؛ لما عرفت من لزوم استناد الجفاف إلى الإشراق من دون واسطة و حجاب، و فرض التعدّد يمنع عن الحكم بكفاية الإشراق على البعض، كالظاهر في الصورة الاولى، و التلاصق غير مانع من بقاء التعدّد، و عدم تحقّق الوحدة، كما هو المفروض.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 615

[مسألة 9: لو كانت الأرض أو نحوها جافّة، و أُريد تطهيرها بالشمس]

مسألة 9: لو كانت الأرض أو نحوها جافّة، و أُريد تطهيرها بالشمس، يصبّ عليها الماء الطاهر أو النجس ممّا يورث الرطوبة فيها، حتّى تجفّفها و تطهر. (1)

[مسألة 10: الحصى و التراب و الطين و الأحجار ما دامت واقعة على الأرض، و تعدّ جزء منها عرفاً، تكون بحكمها]

مسألة 10: الحصى و التراب و الطين و الأحجار ما دامت واقعة على الأرض، و تعدّ جزء منها عرفاً، تكون بحكمها، و إن أُخذت منها أو خرجت عن الجزئية، أُلحقت بالمنقولات.

و كذا الآلات الداخلة في البناء كالأخشاب و الأوتاد، يلحقها حكمها، و إذا قلعت زال الحكم، و لو أُعيدت عاد، و هكذا كلّ ما يشبه ذلك. (2)

______________________________

(1) في تطهير الجافّ الوجه في لزوم صبّ الماء على الأرض المتنجّسة الجافّة و نحوها، ما عرفت في اعتبار الأمر الأوّل من الأمرين المعتبرين في التطهير بالشمس: و هو أخذ عنوان الجفاف و نحوه في موضوع الأخبار الواردة في هذا الباب، و قد عرفت أيضاً: أنّه لا يعتبر أن تكون الرطوبة على نحو تعلق باليد، بل يكفي بمقدار النداوة التي هي مورد الجفاف أيضاً، فصبّ الماء على هذا النحو يكفي في مقام التطهير.

(2) في تطهير ما وقع على الأرض أو في البناء قد عرفت: أنّ المدار في حصول الطهارة للمتنجّس بسبب إشراق الشمس، هو صدق عنوان السطح أو المكان أو الموضع كما هو المذكور في روايات الباب، و عليه فمثل الحصى و التراب و سائر ما ذكر في المتن، ما دامت واقعة على الأرض، و تعدّ بحسب العرف من أجزائها، تكون بحكمها؛ لصدق بعض العناوين عليه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 616

..........

______________________________

نعم، قد لا تعدّ جزء منها و إن كانت موضوعة عليها، كالقطعة من الطين الواقعة في الأرض المفروشة بالآجر و نحوه، فالمناط عدّها جزء.

و بذلك يظهر:

أنّه يمكن اختلاف الحكم باختلاف الحالات، فما دام كونها متّصفة بوصف الجزئية و التبعية، يجري عليها حكم الأرض؛ من صلاحية حصول الطهارة لها بالشمس، و إذا خرجت عن هذا العنوان إمّا بالأخذ منها، أو بغيره ممّا يوجب الخروج عن الجزئية ينقطع هذا الحكم، و لا ينافي جريانه عليها ثانياً بعد صيرورتها جزءً كذلك، و هذا كما في سائر العناوين المتبدّلة الموجبة لتغيّر الحكم؛ لدورانه مدار العنوان المأخوذ في موضوعه أو متعلّقه.

و هكذا الكلام في الآلات الداخلة في البناء كالأخشاب و الأوتاد، بناءً على جريان الحكم في نفس البناء، كما عرفت أنّه المشهور، فإنّها ما دامت تعدّ جزء من البناء يجري عليها حكمه، و إذا خرجت عن الجزئية يرتفع الحكم، و لا ينافي عوده ثانياً بعد صيرورته جزء كذلك، كما عرفت.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 617

[رابعها: الاستحالة إلى جسم آخر]

رابعها: الاستحالة إلى جسم آخر، فيطهر ما أحالته النار رماداً، أو دخاناً، أو بخاراً، سواء كان نجساً، أو متنجّساً، و كذا المستحيل بغيرها بخاراً، أو دخاناً، أو رماداً. أمّا ما أحالته فحماً أو خزفاً أو آجراً أو جصّاً أو نورة، فهو باقٍ على النجاسة.

و يطهر كلّ حيوان تكوّن من نجس أو متنجّس، كدود الميتة و العَذِرة.

و يطهر الخمر بانقلابها خلّاً بنفسها أو بعلاج، كطرح جسم فيه، سواء استهلك الجسم أم لا.

نعم، لو لاقت الخمر نجاسة خارجية، ثمّ انقلبت خلّاً، لم تطهر على الأحوط.

______________________________

(1) الرابع: في مطهّرية الاستحالة يقع الكلام في مطهّرية الاستحالة في مقامات:

المقام الأوّل: في معنى الاستحالة و حقيقتها فنقول: قد نسب الشهيد (قدّس سرّه) في محكي حواشيه على «القواعد» إلى الأُصوليين: تفسيرَها بأنّها تبدّل حقيقة الشي ء و صورته النوعية إلى صورة أُخرى.

و

في محكيّ «قواعده» نسب إلى الفقهاء تعريفها: بتغيّر الأجزاء، و انقلابها من حال إلى حال.

و ربّما تفسّر بتبدّل الحقيقة النجسة إلى حقيقة أُخرى ليست من النجاسات.

و حيث إنّ الظاهر أنّ المراد من الحقيقة هي الحقيقة النوعية العرفية، لا العقلية المركّبة من الجنس و الفصل التي يكون الوقوف عليها متعسّراً، بل متعذّراً إذا أُريد بهما الجنس و الفصل الواقعيان، لا المشهوريان المنطقيان، و

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 618

..........

______________________________

المرادَ بتغيّر الأجزاء في التعريف المنسوب إلى الفقهاء هو تغيّرها في الأوصاف الراجعة إلى النوع، لا الأوصاف الشخصية أو الصنفية، فالتعاريف ترجع إلى أمر واحد من دون أن يكون بينها اختلاف، بعد وضوح كون المراد من «الصورة الأُخرى» في التعريف هي الحقيقة التي لا تكون من النجاسات.

فالاستحالة في الحقيقة معناها عبارة عن تغيّر الشي ء في صورته النوعية العرفية، سواء كان التغاير بين الصورتين ثابتاً بنظر العقل أيضاً، كما في تبدّل الجماد أو النبات حيواناً، أو بالعكس، أو لم يكن كذلك، كالخمر إذا استحالت خلّاً.

و أمّا التغيّر و التبدّل في الأوصاف الشخصية أو الصنفيّة، مع بقاء الحقيقة النوعية بحالها، كتبدّل القطن ثوباً أو بالعكس، و تبدّل الحنطة دقيقاً أو خبزاً، فلا يوجب تحقّق الاستحالة بوجه.

و لكنّ الذي يسهّل الخطب: عدم وقوع هذا العنوان موضوعاً للحكم في الأدلّة الشرعية. نعم وقع التعبير به في بعض معاقد الإجماع لا بنحو الكلّية، بل مقيّداً بمثل استحالة العَذِرة رماداً، أو دخاناً، أو تراباً، أو نحو ذلك، و الظاهر عدم كون الإجماع و لو بهذا النحو له أصالة بل مستنده ما يأتي.

المقام الثاني: في وجه مطهّرية الاستحالة و الدليل عليها فنقول: قد استدلّ لها بوجوه:

الأوّل و الثاني: الإجماع

القولي و السيرة العملية.

و فيهما مضافاً إلى ما عرفت في الأوّل؛ من كون معقد الإجماع غير كلّي، بل مقيّد بمثل استحالة العذرة رماداً و نحوه، و إلى ما في الثاني من عدم العلم بثبوتها على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 619

..........

______________________________

نحو الإطلاق أنّ الظاهر استنادهما إلى أمر ثالث، و لا أصالة لهما بوجه.

الثالث: أنّك عرفت في تعريف الاستحالة، أنّ المراد بها هو تبدّل الصورة النوعية العرفية إلى صورة أُخرى كذلك ليست نجسة، فالملاك فيها تغيّر العنوان، و مغايرة العنوان المستحال منه مع العنوان المستحال إليه عند العرف، و بعد ملاحظة أنّ الأحكام الشرعية منوطة بالعناوين العرفية، و غير مبتنية على الإنظار العقلية الدقّية، يستكشف أنّ طروّ عنوان جديد، يوجب دخول المورد في موضوع حكم ذلك العنوان؛ لفرض تحقّق موضوعه و زوال الموضوع للحكم بالنجاسة، كما في سائر العناوين الموضوعة للأحكام، كالحاضر، و المسافر، و غيرهما.

فإن كان الحكم الثابت للعنوان الجديد عبارة عن النجاسة أيضاً، يترتّب عليه هذا الحكم. و ربّما يختلف مع النجاسة السابقة في بعض الآثار، كالغسل مرّة، أو مرّتين.

و إن كان الحكم الثابت للعنوان الجديد عبارة عن الطهارة، يترتّب عليه هذا الحكم؛ لفرض زوال موضوع النجاسة، و طروّ موضوع الطهارة، و بهذا المعنى يطلق عنوان المطهّر على الاستحالة، و إلّا فهي ليست بمطهّرة؛ بمعنى إيجابها الطهارة مع بقاء الموضوع.

و إن لم يكن الحكم الثابت للعنوان الجديد من جهة الطهارة و النجاسة، معلوماً بالنظر إلى الدليل، بل كان مشكوكاً من هذه الجهة، فالمرجع هي قاعدة الطهارة بعد عدم جريان استصحاب النجاسة السابقة؛ لفرض تبدّل الموضوع، و تغايره عرفاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 620

..........

______________________________

المقام الثالث: في أنّه لا فرق في مطهّرية الاستحالة بين النجس و المتنجّس خلافاً لبعض المتأخّرين، على ما حكاه شيخنا العلّامة الأنصاري (قدّس سرّه) في مبحث الاستصحاب من «الرسائل» حيث فرّق بينهما؛ فحكم بطهارة الأوّل؛ لزوال الموضوع، دون الثاني؛ لأنّ موضوع النجاسة فيه ليس عنوان الخشب مثلًا، و إنّما هو الجسم، و لم يزل بالاستحالة.

و قد أفاد (قدّس سرّه) في مقام الجواب: أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه؛ إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات، محمولة على الصورة الجنسية و هي الجسم و إن اشتهر في الفتاوى و معاقد الإجماعات: أنّ كلّ جسم لاقى نجساً مع رطوبة أحدهما فهو نجس، إلّا أنّه لا يخفى على المتأمّل، أنّ التعبير بالجسم لأداء عموم الحكم لجميع الأجسام من حيث سببية الملاقاة.

و بتقرير آخر: الحكم ثابت لأشخاص الجسم، فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوّم به عند الملاقاة، فقولهم: كلّ جسم لاقى نجساً فهو نجس، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة، من غير تعرّض للمحلّ الذي يتقوّم به كما إذا قال القائل: إنّ كلّ جسم له خاصّية و تأثير، مع كون الخواصّ و التأثيرات من عوارض الأنواع.

و إن أبيت إلّا عن ظهور معقد الإجماع في تقوّم النجاسة بالجسم، فنقول: لا شكّ أنّ مستند هذا العموم هي الأدلّة الخاصّة الواردة في الأشخاص الخاصّة، مثل الثوب و البدن و الماء و غير ذلك فاستنباط القضية الكلّية المذكورة منها إلّا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 621

..........

______________________________

من حيث عنوان حدوث النجاسة، لا ما يتقوّم به، و إلّا فاللازم إناطة النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله.

و دعوى: أنّ ثبوت الحكم لكلّ

عنوان خاصّ من حيث كونه جسماً، ليست بأولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضية العامّة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة، لا من حيث تقوّم النجاسة بالجسم.

نعم، الفرق بين المتنجّس و النجس: أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر الدليل، و في المتنجّس محتمل البقاء، لكنّ هذا المقدار لا يوجب الفرق، بعد ما تبيّن أن العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب.

أ رأيت أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّية أو الحرمة، أو النجاسة أو الطهارة، هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الأحكام على الدقيق و الزبيب، كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخاناً، أو الماء المتنجّس بولًا لمأكول اللحم؟! خصوصاً إذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة.

كما أنّ العلماء لم يفرّقوا أيضاً في الاستحالة بين النجس و المتنجّس، كما لا يخفى على المتتبّع، بل جعل بعضهم الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولوية الجلية، حتّى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجّية مطلق الظنّ.

أقول: الظاهر أنّ النجاسة و الطهارة إنّما هما من عوارض الجسم بما هو جسم، و الخصوصيات المنوّعة و المصنّفة لا مدخلية لها في ترتّب شي ء من الحكمين، و إلّا أمكن أن يقال: بأنّه لا دليل في النجاسة على التعميم.

و ما في موثّقة عمّار من قوله (عليه السّلام)

و يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء .. «1»

و إن

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الماء المطلق، الباب 4، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 622

..........

______________________________

كان يستفاد منه التعميم؛ بلحاظ كلمة «ما» الموصولة، إلّا أنّ موردها الماء الذي وجد فيه فأرة، و لا يشمل جميع النجاسات.

فالحكم بالعموم من كلتا الجهتين، بعد عدم دلالة الدليل عليه،

و وضوح كون الإجماع على تقديره فاقداً لوصف الأصالة، لا يكاد يجتمع مع عدم تقوّم النجاسة بالجسم.

و هذا لا بمعنى أنّ طبيعة الجسم من حيث هي، معروضة للحكمين المذكورين، بل بمعنى أنّ أفراد هذه الطبيعة، بلحاظ كونها فرداً لها و مصداقاً لكلّيها، معروضة لهما، فالثوب الخارجي الملاقي للنجس، يكون محكوماً بالنجاسة بلحاظ كونه من أفراد الجسم الملاقي، لا بلحاظ كونه من أفراد الثوب، و لا بلحاظ الخصوصيات المصنّفة و المشخّصة، ككونه لزيد مثلًا، أو في مكان خاصّ كذلك. و عليه فالجواب المذكور عن التفصيل ممّا لا يتمّ.

و العمدة في مقام الجواب: أنّ النجاسة و إن كانت متقوّمة بالجسمية، إلّا أنّه إذا تبدّل عنوان الشي ء، و تغيّرت صورته النوعية العرفية، لا يصدق عليه و لو بحسب نظر العرف أنّه لاقى النجس فإذا صار الخشب الملاقي له رماداً أو تراباً، لا يصدق على الرماد أو التراب أنّه لاقى النّجس فلا يبقى وجه لنجاسته.

و على تقديرها، لا يصدق عليها أنّها بقاء النجاسة السابقة لكونه موضوعاً أي فرداً آخر مغايراً للفرد السابق.

نعم، لو كان التبدّل و التغيّر في الخصوصيات المشخّصة أو المصنّفة فقط، مع بقاء الصورة النوعية العرفية، و شكّ في بقاء النجاسة، أمكن الرجوع إلى الدليل أو الاستصحاب، و لكنّه خارج عمّا هو المفروض في باب الاستحالة؛ من

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 623

..........

______________________________

التغيّر في الصورة النوعية.

فانقدح: أنّه لا فرق في مطهّرية الاستحالة بين النجس و المتنجّس أصلًا.

المقام الرابع: في أنواع الاستحالة فنقول:

منها: الاستحالة بالنار فإن صار بالاستحالة رماداً أو دخاناً، فقد حكي الإجماع على مطهّريتها عن الشيخ في «الخلاف» و «المبسوط» و عن الحلّي، و عن المحقّق في «الشرائع» و العلّامة

في جملة من كتبه و «جامع المقاصد» و غيرهم.

و يدلّ عليها قبل الإجماع: قاعدة الطهارة بعد تغيّر الصورة النوعية، الموجب لعدم شمول الدليل، و عدم جريان الاستصحاب كما عرفت.

و ربّما يستدلّ على الطهارة في الدخان، بصحيحة حسن بن محبوب قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن الجصّ، يوقد عليه بالعَذِرة و عظام الموتى، ثمّ يجصّص به المسجد، أ يسجد عليه؟

فكتب إليّ بخطّه: «إنّ الماء و النار قد طهّراه». «1» نظراً إلى ما في «الوسائل» من: أنّ المراد تطهير النار للنجاسة؛ بإحالتها رماداً أو دخاناً، و تطهير الماء أعني ما يحيّل به الجصّ يراد به حصول النظافة، و زوال النفرة.

و لكنّه استشكل المحقّق (قدّس سرّه) في محكيّ «المعتبر»: بأنّ الماء الذي يمازج الجصّ هو ما يحتلّ به، و ذلك لا يطهّر إجماعاً، و النار لم تصيّره رماداً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 81، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 624

..........

______________________________

هذا، و ربّما يقال: إنّ المراد بالنار حرارة الشمس، و بالماء رطوبة الجصّ الحاصلة بصبّ الماء عليه؛ لعدم إمكان التجصيص بالجصّ اليابس، فمرجع الرواية إلى أنّ الجصّ المشتمل على الرطوبة و المتنجّس بالعذرة و عظام الموتى، يطهر بإشراق الشمس عليه.

و فيه: أنّ حمل النار في الرواية على حرارة الشمس مع عدم إشعار فيها بوقوع ذلك في محلّ تراه الشمس، و يصل إليه نورها بعيد جدّاً، خصوصاً مع ملاحظة أنّ النار و الشمس عنوانان متغايران عند العرف، كما أنّ حمل الماء على الرطوبة الحاصلة بصبّ الماء عليه، أيضاً كذلك.

و قد أفاد بعض الأعلام: أنّ الماء و النار في الصحيحة باقيان على معناهما الحقيقي و و أنّ الجصّ قد طهّر بهما؛ لأنّ النار

توجب طهارة العذرة و العظام النجستين بالاستحالة، حيث تقلّبهما رماداً، و الاستحالة من المطهّرات.

و أمّا الماء، فلأنّ مجرّد صدق الغسل يكفي في تطهير مطلق المتنجّس، إلّا ما قام الدليل على اعتبار التعدّد فيه، و خروج الغسالة و انفصالها غير معتبر، فإذا صبّ الماء على الجصّ المتنجّس، أو جعل الجصّ على الماء، فلا محالة يحكم بطهارته و إن لم تخرج غسالته.

فصحّ أن يقال

إنّ الماء و النار قد طهّراه

كما يصحّ أن يسجد عليه، و لا يمنع الطبخ عنه؛ لأنّ الجصّ من الأرض، و لا تخرج الأرض عن كونها أرضاً بطبخها أصلًا.

أقول: لا خفاء في أنّ انقلاب العذرة و عظام الموتى، و استحالتهما رماداً بسبب النار، إنّما يوجب طهارتهما للاستحالة، لا طهارة الجصّ المتنجّس الذي لم يعرض له الاستحالة؛ ضرورة أنّ الاستحالة تطهّر معروضها، لا شيئاً آخر عرض له النجاسة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 625

..........

______________________________

قبل تحقّقها.

و دعوى: أنّ النار قد طهّرت العذرة و عظام الموتى، و الماءَ قد طهّر الجصّ المتنجّس بهما، مدفوعة بكونها خلاف ظاهر الرواية؛ فإنّ ظاهرها مدخلية الأمرين في تطهير الجصّ المتنجّس.

و الإنصاف: أنّه لا يمكن الوصول إلى معنى الرواية؛ لا من جهة التعليل الواقع في الجواب، و لا من جهة أصل السؤال الظاهر في حصول النجاسة للجصّ.

مع أنّ الجصّ لا يتّصف بالنجاسة في مفروض الرواية؛ سواء كان الإيقاد عليه بنحو كان الجصّ في ظرف واقع على العذرة و عظام الموتى، أو بنحو كان ملاقياً لهما:

أمّا على الأوّل: فواضح ضرورة أنّ الإيقاد عليه بهذا النحو، لا يوجب نجاسته.

و أمّا على الثاني: فلأنّ الملاقاة الحاصلة بين الجصّ اليابس و العذرة اليابسة إذ هي التي يمكن أن توقد كيف

توجب عروض النجاسة للجصّ و هكذا عظام الموتى؟! و دعوى كون العظام تشمل المخّ، و فيه دهن و دسومة، مدفوعة بعدم كون النظر إلى هذه الجهة. و على تقديره فبالنسبة إلى العذرة التي هي مستقلّة في عروض الشبهة للسائل و لا مجال لإنكار كونها يابسة، و إلّا لا تكون صالحة لأن توقد لا مجال لهذا الكلام.

و دعوى: أنّه يستفاد من الجواب وجود الماء في البين، و لعلّه يتوقّف عليه تبدّل الحجر الخاصّ بالجصّ، بمعنى أنّه مع عدم الرطوبة لا يؤثّر فيه الإيقاد، و لا يتبدّل إلى الجصّ، و هذا الماء صار موجباً لتنجّسه بسبب ملاقاة العذرة اليابسة و عظام الموتى. مدفوعة: بظهور الجواب في كون الماء مؤثّراً في حصول الطهارة له، لا موجباً لاتّصافه بالتنجّس.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 626

..........

______________________________

و بعبارة أُخرى: الماء قد لاقاه قبل عروض التنجّس، لا بعده حتّى يتّصف بكونه مطهّراً و المفروض في الجواب خلافه.

و الإنصاف: أنّ الوصول إلى معنى الرواية و فقه الحديث، غير ممكن.

و لكنّه لا حاجة إلى الاستدلال بها في المقام؛ بعد ما عرفت من كون الرماد بل الدخان، له حقيقة نوعية مغايرة للحقيقة النوعية المستحال منها. هذا كلّه إذا صار بسبب النار رماداً، أو دخاناً.

و أمّا إذا صار بسببه بخاراً، فالمعروف فيه الطهارة، بل ظاهر بعض أنّه لا كلام فيه.

و يدلّ عليه مضافاً إلى ما عرفت من تحقّق الاستحالة فيه؛ لاختلاف الصورتين النوعيتين عرفاً، و كون الاستحالة مطهّرة: إمّا ظاهراً لقاعدة الطهارة، و إمّا واقعاً لتحقّق موضوع الدليل الذي حكم فيه عليه بالطهارة جريان السيرة المتشرّعة على عدم الاجتناب عن بخار النجس و المتنجّس، كما في بخار البول في فصل الشتاء،

و كما في بخار الحمّامات و غيرهما من الموارد.

و منها: الاستحالة بغير النار إلى شي ء من الأُمور المذكورة؛ و هي الرماد، و الدخان، و البخار، و الظاهر حصول الطهارة فيها أيضاً؛ لعدم الفرق في مطهّرية الاستحالة بين أسبابها؛ لأنّ الملاك نفس تغيّر العنوان و الصورة النوعية العرفية، و الأسباب المؤثّرة في التغيّر لا فرق بينها من هذه الجهة أصلًا.

و منها: التغيّر بالفحم أو الخزف أو الآجر أو الجصّ أو النورة، و قد ذكر في المتن: أنّه لا يتحقّق الاستحالة المطهّرة في شي ء من هذه الأُمور، بل هي باقية على النجاسة.

و أقول: أمّا الفحم، فقد اختلفت الفتوى فيه؛ فعن ظاهر «جامع المقاصد»

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 627

..........

______________________________

الطهارة، و عن صريح «المسالك» النجاسة كما في المتن، و كلام الأكثر خالٍ عن التعرّض له.

و الظاهر هو الطهارة؛ لأنّ التبدّل إلى الفحم ليس من قبيل تبدّل الصورة النوعية، بل من قبيل التبدّل في الأوصاف و الخصوصيات كاللون، و تماسك الأجزاء و تفرّقها، و ليس بينه و بين الخشب بنظر العرف مغايرة في النوع. و الاختلاف في الاسم لا يكون كاشفاً عن الاختلاف في الصورة النوعية؛ و ذلك كما في مثل اللحم و الكباب، فإنّه مع وجود اختلاف في الاسم، لا يكون بينهما مغايرة كذلك. و لأجله لا مانع من القول: بجواز السجود عليه بعد عدم الخروج عن حقيقة الخشبية.

و أمّا الخزف و الآجر، فعن جملة من الكتب القول بالطهارة، بل نسب إلى الأكثر، و عن الشيخ (قدّس سرّه) دعوى الإجماع عليه.

و عن «المسالك» و «الروضة» و «الروض» و «الإيضاح» القول بالنجاسة. و عن بعض التوقّف.

و الظاهر أنّ الحكم فيهما هو الحكم في

الفحم؛ من عدم حصول التغيّر و التبدّل في الصورة النوعية بنظر العرف، و أنّ طبخ الطين لا يوجب التغيّر فيه، و لا يستلزم الخروج عن عنوان الأرض و التراب و لأجله لا مانع من السجود عليهما و التيمّم بهما، و إن كان الاحتياط في خلافه.

و أمّا الجصّ و النورة، فربّما يقال فيهما بالطهارة أيضاً و يستدلّ لها بصحيحة ابن محبوب المتقدّمة الواردة في الجصّ.

و لكن عرفت: أنّ الوصول إلى معنى الرواية غير ممكن، و لا مجال للاستدلال بها بعد عدم وضوح المراد منها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 628

..........

______________________________

و الظاهر عدم تحقّق الاستحالة فيهما؛ لأنّ التبدّل إليهما من قبيل التبدّل في الأوصاف و الخصوصيات، و المطبوخية لا تستلزم الخروج عن العنوان الأوّلي، و الصورةِ النوعية السابقة، فالحكم فيهما أيضاً هي النجاسة.

و منها: الحيوان الذي يكون من نجس أو متنجّس، كدود الميتة و العذرة، فإنّ تحقّق الاستحالة الراجعة إلى تبدّل الصورة النوعية عرفاً فيه واضح؛ ضرورة مغايرة الدود الذي هو حيوان حيّ، للميتة و العذرة، فلا يبقى فيه حكم النجاسة الثابت فيهما، كما هو ظاهر.

و منها: الخلّ الذي انقلب من الخمر و تبدّل منها إليه بنفسه، أو بعلاج، و قد حكم فيه في المتن بالطهارة، معمّماً لصورة العلاج بطرح جسم فيه لما إذا استهلك الجسم فيه أم لا. و ظاهره أنّه من مصاديق الاستحالة المطهّرة، مع أنّه في جملة من الكلمات قد جعل مثالًا للانقلاب، بعد جعله مطهّراً مستقلّاً في مقابل الاستحالة.

و لا بدّ أوّلًا من ملاحظة معنى الانقلاب، و ثانياً من ملاحظة الدليل على مطهّريته، فنقول:

أمّا الأوّل: فقد ذكروا أنّ الانقلاب غير الاستحالة؛ لأنّه لا يتبدّل فيه الحقيقة النوعية، بخلاف

الاستحالة، و لذا لا تطهر المتنجّسات به، و تطهر بها، بل ربّما يقال: بأنّه لا تطهر النجاسات به أيضاً سوى الخمر.

و من ذلك يعرف: أنّ إضافة هذا الأمر إلى المطهّرات؛ إنّما هو لإفادة حصول الطهارة للخمر بعد انقلابها خلّاً.

مع أنّ الانقلاب المذكور من مصاديق الاستحالة و صغرياتها، بعد ما عرفت في معناها: من أنّ المراد هو التبدّل في الصورة النوعية بنظر العرف، سواء كان بنظر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 629

..........

______________________________

العقل و بالدقّة العقلية تغيّراً، أم لا، و من المعلوم أنّ الانقلاب المذكور موجب للتغيّر عرفاً؛ ضرورة تغاير الحقيقتين، و اختلاف الصورتين النوعيتين عند العرف، فإنّ الخمر شي ء، و الخلّ شي ء آخر مغاير لها، و الحكم بالنجاسة في لسان الأدلّة إنّما هو ثابت على العنوان الأوّل كالحكم بالحرمة و مع التبدّل إلى عنوان الخلّ يتحقّق الموضوع للحكم بالطهارة و بالحلّية، فالمورد المنحصر للانقلاب إنّما هو من صغريات الاستحالة.

و لكن الذي صار موجباً لإفراد الانقلاب بالذكر على ما أفاده بعض الأعلام أمران:

الأوّل: أنّ الاستحالة و إن كانت من أقسام المطهّرات، إلّا أنّها في مثل تبدّل الخمر خلّاً من المائعات المحتاجة إلى الإناء لا تقتضي الحكم بالطهارة؛ لأنّ الاستحالة إنّما هي في الخمر دون الإناء، و بعد ارتفاع نجاسة الخمر بالاستحالة، يعرض لها نجاسة من قبل الإناء المتنجّس بالخمر الذي لم يعرض له الطهارة؛ لعدم تحقّق الاستحالة فيه، فالنجاسة الذاتية ترتفع، و تنوبها النجاسة العرضية، فالاستحالة في مثل الخمر غير نافعة بوجه، مع أنّ المقصود زوال النجاسة، و عدم عروضها، و صيرورة الإناء طاهراً أيضاً.

الثاني: أنّه لا فرق في الاستحالة كما عرفت، من حيث أسبابها، فإذا تحقّقت في مورد سواء كانت

بنفسها أو بالعلاج يوجب حصول الطهارة للمستحال إليها، مع أنّه في مثل الخمر من المائعات أيضاً إذا كانت استحالتها بالعلاج كطرح جسم فيها غير مستهلك، تكون الاستحالة موجبة لزوال النجاسة الذاتية، و لكن الجسم المطروح فيها غير المستهلك صار متنجّساً بالطرح فيها، و تنجّسه يوجب تنجّس

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 630

..........

______________________________

الخمر التي هو فيها بسبب الملاقاة معه، فتنوب النجاسة العرضية مناب النجاسة الذاتية الزائلة، فتصير الاستحالة فيها غير نافعة من هذه الجهة، مع أنّ المقصود نفعها منها أيضاً. و لأجل هذين الأمرين أُفرد الانقلاب بالذكر، و إلّا لم تكن حاجة إليه بعد كون الاستحالة مطهّرة.

و أمّا الثاني: فالدليل الوحيد بعد عدم كون الانقلاب بالتفسير المذكور له، موجباً لحصول الطهارة بوجه هو الأخبار الواردة في طهارة الخمر مع انقلابها خلّاً، و هي على طوائف ثلاث:

الأُولى: الأخبار الدالّة على طهارة الخلّ الذي انقلب من الخمر إليه، و مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين كون ذلك بنفسه أو بعلاج:

مثل صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه قال: سألته عن الخمر يكون أوّله خمراً، ثم يصير خلّاً.

قال

إذا ذهب سكره فلا بأس.

«1» هذا ما رواه في «قرب الإسناد».

و في محكي «كتاب علي بن جعفر» مثله، إلّا أنّه زاد فيه: أ يؤكل؟

قال

نعم.

«2» و رواية سفيان بن السمط، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

عليك بخلّ الخمر فاغتمس فيه؛ فإنّه لا يبقى في جوفك دابّة إلّا قتلها «3»

و غيرهما من الروايات الدالّة على ذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 10.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 45، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 631

..........

______________________________

الثانية: الأخبار الدالّة على الطهارة الواردة في خصوص الانقلاب بالعلاج، كصحيحة زرارة أو حسنته، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلّاً؟

قال

لا بأس.

«1» فإنّ جعل الخمر خلّاً ظاهر في الجعل بالعلاج، كما لا يخفى.

و رواية عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلّاً.

قال

لا بأس.

«2» و ما رواه ابن إدريس عن «جامع البزنطي» عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): أنّه سأل عن الخمر تعالج بالملح و غيره؛ لتحوّل خلّاً.

قال

لا بأس بمعالجتها.

قلت: فإنّي عالجتها، و طيّنت رأسها، ثمّ كشفت عنها فنظرت إليها قبل الوقت، فوجدتها خمراً، أ يحلّ لي إمساكها؟

قال

لا بأس بذلك؛ إنّما إرادتك أن يتحوّل الخمر خلّاً، و ليس إرادتك الفساد.

«3» و رواية عبد العزيز بن المهتدي قال: كتبت إلى الرضا (عليه السّلام): جعلت فداك، العصير يصير خمراً فيصبّ عليه الخلّ و شي ء يغيّره حتّى يصير خلّاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 632

..........

______________________________

قال

لا بأس به.

«1» و غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المورد.

الثالثة: الروايات الظاهرة في أنّ الانقلاب بالعلاج لا يجدي:

مثل موثّقة أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سئل عن الخمر يجعل فيها الخلّ.

فقال

لا، إلّا ما جاء من قبل نفسه.

«2» و موثّقته الأُخرى قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الخمر، يصنع فيها الشي ء حتّى تحمض.

قال

إن كان الذي صنع

فيها هو الغالب على ما صنع، فلا بأس به.

«3» و حيث إنّ هذه الطائفة ظاهرة في عدم ارتفاع النجاسة بالعلاج، و الطائفة السابقة صريحة في الارتفاع، فاللازم التصرّف في ظهور هذه الطائفة بحملها على الكراهة.

و قد حمل الشيخ (قدّس سرّه) الرواية الأُولى على استحباب الترك، حتّى تصير خلّاً من غير أن يطرح فيها ملح أو غيره، و ذكر: أنّ الرواية الثانية خبر شاذّ متروك؛ لأنّ الخمر نجس ينجّس ما حصل فيها.

و لعلّه لم يستفد من قول السائل: «حتّى تحمض» صيرورتها خلّاً، مع أنّه ظاهر فيه، فلا تكون الرواية متروكة، بل محمولة على الكراهة، كما عرفت.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الأخبار الدالّة على طهارة الخلّ المنقلب إليه من الخمر، أنّه

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 8.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 7.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 633

..........

______________________________

لا فرق في الحكم بالطهارة بين استهلاك الجسم المطروح المعالج به، و بين بقائه و عدم استهلاكه، و قد صرّح بذلك جماعة، بل نسب إلى المشهور.

و لكنّه قد يتأمّل في الطهارة في الثاني، بل في بعض الكتب النسبة إلى القيل، و لعلّ الوجه فيه أنّ الأخبار المتقدّمة، ناظرة إلى حصول الطهارة للخمر بعد انقلابها خلّاً، و لا دلالة لها على حصول الطهارة لذلك الجسم بعد بقائه و عدم تحقّق الانقلاب بالإضافة إليه.

و أُجيب عنه تارة: بأنّ مفاد هذه الأخبار حصول الطهارة الفعلية للخمر المذكورة، و الطهارة الفعلية لا تجتمع مع بقاء ذلك الجسم على النجاسة، لأنّ تنجّسه يوجب تنجّس الخلّ، و لا يمكن معه الحكم بطهارته، فحصول الطهارة الفعلية

يدلّ بالدلالة الالتزامية على طهارة الجسم المطروح المعالج به الباقي أيضاً.

و أُورد على هذا الجواب: بأنّ الأدلّة لا تدلّ على الطهارة الفعلية مطلقاً، و إنّما تدلّ على الطهارة الفعلية من حيث نجاسة الخمر، فلا تصلح للدلالة على طهارة غيرها بالالتزام.

و يدفع الإيراد: بأنّ الأدلّة و إن لم تكن ناظرة إلى نجاسة غير الخمر، لكن النجاسة في هذا الفرض على تقديرها إنّما هي ناشئة من قبل الخمر؛ ضرورة أنّ تنجّس الجسم إنّما كان لأجل ملاقاة الخمر، لا لشي ء آخر، فكما أنّه يستفاد من الأدلّة طهارة الإناء الواقع فيه الخمر؛ لأنّ نجاسته كانت مستندة إليه، فكذلك يستفاد منها طهارة الجسم المعالج به من دون فرق بينهما أصلًا.

إلّا أن يقال: بأنّ الطهارة الفعلية التي هي مدلول الأخبار، كما يلائم مع طهارة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 634

..........

______________________________

الجسم كذلك، يمكن اجتماعها مع فرض تنجّسه أيضاً، غاية الأمر عدم تأثيره في تنجّس الخلّ الملاقي معه.

و بعبارة أُخرى: هذه الأخبار كما يمكن أن تكون متصرّفة في دليل بقاء الجسم على النجاسة، كذلك يمكن أن تتصرّف في دليل تأثير الملاقاة في تنجّس الملاقي؛ بأن يكون المورد خارجاً منه، فالجسم حينئذٍ باقٍ على النجاسة، و لكنّ الخلّ صار طاهراً. و هذا الاحتمال يجري في الإناء أيضاً. لكنّه خلاف ما هو المتفاهم عند العرف من الأدلّة فتدبّر.

و اخرى: بأنّ اختصاص النظر بذلك، لا يمنع من الحكم بطهارته بما فيه تبعاً؛ لأنّ إطلاقها اللفظي إذا كان شاملًا لصورة عدم الاستهلاك، كان إطلاقها المقاميّ دالّاً على طهارة ما لم يستهلك؛ فإنّ مقتضى إهمال النصوص للتعرّض لبقاء الأجسام الملاقية للخمر على النجاسة مع وجودها غالباً فيها طهارتها تبعاً كما لا يخفى.

فرع:

لو لاقت الخمر نجاسة خارجية، ثمّ انقلبت خلّاً ففي المتن: «لم تطهر على الأحوط» و لعلّ منشأ الحكم بعدم الطهارة دعوى أنّ الأخبار المتقدّمة، ناظرة بأجمعها إلى النجاسة الخمرية فحسب، و مدلولها ارتفاعها بالانقلاب، و لا دلالة لها على غيرها من النجاسات، فلا موجب لارتفاعها، و مقتضى الأصل بقاؤها.

و لكنّه ربّما يقال: إنّ الخمر من النجاسات العينية، و هي غير قابلة لأن تتنجّس ثانياً بملاقاة الأعيان النجسة، أو المتنجّسات، كما أنّ نجاستها غير قابلة للاشتداد بالملاقاة، و عليه فالخمر ما دام كونها كذلك نجاستها هي النجاسة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 635

..........

______________________________

الخمرية، و لا تزيد بالبول أو غيره أصلًا.

بل لو قلنا: بتنجّس الخمر بالملاقاة، يكون مقتضى إطلاق الأخبار الطهارة في هذا الفرع أيضاً؛ لأنّ ما دلّ على جواز أخذ الخمر لتخليلها، غير مقيّد بما إذا أُخذت من يد المسلم، بل يشمل المأخوذة من الكافر أيضاً، و من الواضح أنّ الكافر لا يتحفّظ على الخمر من سائر النجاسات، بل تصيبها النجاسة عنده و لو من جهة الأواني، أو يده النجسة أو المتنجّسة.

نعم، هذا فيما إذا لم تصب النجاسة الثانية للإناء، و إلّا فالإناء المتنجّس يكفي في تنجّس الخلّ به بعد انقلابه من الخمر، و الأخبار إنّما تدلّ على طهارة الإناء فيما إذا كانت نجاسته مستندة إلى الخمر، لا إلى نجاسة أُخرى غيرها.

أقول: أمّا على تقدير عدم قابلية الخمر للتنجّس ثانياً، فالنجاسة الواصلة من الخارج و إن لم تؤثّر في الخمر بوجه إلّا أنّها توجب خروج المورد عن منصرف الأخبار؛ فإنّ الظاهر انصرافها عن هذا المورد.

نعم، بناءً على ما ذكرنا: من جريان الاستحالة المطهّرة في المتنجّسات أيضاً، يكون لازمه طهارة الخمر

في هذا الفرض بعد انقلابها خلّاً؛ لانقلاب حقيقته النوعية العرفية و الملاقاة كانت متحققةً؛ في زمن الخمرية فيصدق: «أنّ الخلّ لم يلاقِ نجساً، و لا متنجّساً» إلّا أنّ هذا المعنى لا يجدي في اتّصاف الإناء بالطهارة أيضاً، بعد خروجه عن مورد الأخبار، و الاستحالة لا توجب تحقّق الطهارة بالإضافة إلى غير موردها أصلًا، فعلى هذا التقدير لا دليل على الطهارة.

كما أنّه على التقدير الآخر يكون كذلك بنحو أولى؛ لعدم ثبوت الإطلاق للأخبار من هذه الجهة بوجه، و غلبة عدم التحفّظ فيما إذا أُخذت من الكافر، لا توجب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 636

..........

______________________________

ثبوت الإطلاق، فالأحوط لو لم يكن أقوى هو عدم الطهارة.

في الشكّ في الاستحالة ذكر السيّد (قدّس سرّه) في «العروة»: أنّه مع الشكّ في الاستحالة، لا يحكم بالطهارة.

و الكلام في ذلك يقع في مقامين:

المقام الأوّل: الشكّ في الاستحالة في الأعيان النجسة و الشبهة قد تكون موضوعية، و قد تكون مفهومية:

و الأوّل: كما إذا وقع كلب في المملحة، و شككنا بعد يوم في أنّه هل استحال ملحاً أم لا.

و الثاني: كما إذا صارت العذرة فحماً، و شككنا بذلك في استحالتها؛ نظراً إلى الشكّ في أنّ لفظة العذرة هل وضعت للعذرة غير المحروقة؛ فالإحراق موجب للخروج عن كونها عذرة، أو أنّها وضعت للأعمّ، فلا يكون الإحراق سبباً لاستحالتها.

أمّا الشبهة الموضوعية، فربّما يقال فيها: بأنّه لا مانع من التمسّك فيها باستصحاب نفس العنوان السابق؛ و كون العين النجسة باقية بعنوانها؛ ككونها كلباً في المثال، أو غيره من الأعيان النجسة، و يترتّب عليه جميع الآثار المترتّبة على العنوان السابق النجس.

و أُورد عليه: بعدم جريان الاستصحاب مع الشكّ في بقاء الموضوع؛ لأنّ الشكّ

في الاستحالة التي مرجعها إلى تبدّل الموضوع و تغيّر العنوان، مرجعه إلى الشكّ في بقاء الموضوع، و معه لا مجال لجريان الاستصحاب؛ لأنّه يشترط في جريانه بقاء الموضوع، كما حقّق في محلّه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 637

..........

______________________________

و منه يظهر: أنّه لا مجال لجريان استصحاب النجاسة أيضاً بعد عدم إحراز بقاء موضوعها، فتصل النوبة إلى قاعدة الطهارة.

و الجواب عن هذا الإيراد: أنّ منشأ اعتبار بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب، ظهور دليل

لا تنقض ..

في كون الشكّ متعلّقاً بعين ما تعلّق به اليقين، بضميمة وضوح كون متعلّق الشكّ و اليقين هي القضية المركّبة من الموضوع و المحمول؛ لعدم إمكان تعلّق أحد الوصفين بالأمر التصوّري، فاللازم في جريانه هو اتّحاد القضيتين، و عدم الاختلاف بينهما في الموضوع و المحمول.

نعم، اختلاف الوصفين مع اتّحاد القضيتين، إنّما هو لأجل اختلاف الزمانين فقط، من دون مغايرة بينهما من غير هذه الجهة.

و في المقام نقول: إنّ الموضوع الذي يعتبر بقاؤه في جريان الاستصحاب، ليس هو عنوان الكلب ضرورة أنّ القضية المتيقّنة عبارة عن كون هذا الموجود كلباً فالموضوع هو المشار إليه بكلمة هذا و المحمول هو كونه كلباً و من المعلوم كون هذه القضية متيقّنة قبل اليوم، و في اليوم تكون مشكوكة، فلا مانع من جريان الاستصحاب أصلًا.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 637

نعم، لا مجال لإجراء استصحاب النجاسة؛ لأنّ موضوعها هو الكلب و هو مشكوك البقاء.

و دعوى: أنّ موضوعها أيضاً الموجود الخارجي المشار إليه بهذا و

هو باقٍ، مدفوعة بوضوح أنّ حيثية الكلبية من الحيثيات التقييدية التي لها دخل في الموضوعية، فهذا نجس بعنوان أنّه كلب لا بما أنّه موجود خارجي، فاستصحاب النجاسة لا مجال له بوجه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 638

..........

______________________________

و أمّا الشبهة الحكمية، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيها مطلقاً، لا في ذات الموضوع، و لا في الموضوع بوصف كونه موضوعاً، و لا في الحكم:

أمّا ذات الموضوع؛ فلعدم تعلّق الشكّ به بوجه، لأنّه كانت غير محروقة قبل اليوم يقيناً، و محروقة اليوم كذلك، فالشكّ لم يتعلّق به حتّى يجري الاستصحاب.

و أمّا الموضوع بوصف كونه موضوعاً؛ فلأنّ مرجعه إلى استصحاب الحكم، لأنّ الموضوع بهذا الوصف، لا معنى له غير ترتّب الحكم عليه و ثبوته.

و استصحاب الحكم لا يجري؛ لعدم إحراز بقاء موضوعه، فإنّ الموضوع هو عنوان العَذِرة و بقاؤها مشكوك على ما هو المفروض، فلا مجال لاستصحابه، و بعده لا مانع من جريان قاعدة الطهارة.

المقام الثاني: الشكّ في الاستحالة في المتنجّسات كما إذا شكّ في استحالة الخشب المتنجّس رماداً و عدمها. و الظاهر أنّه يجري فيه استصحاب العنوان السابق بعين ما تقدّم في المقام الأوّل، فيقال: هذا الموجود الخارجي كان خشباً، و الآن يشكّ في بقائه على هذا العنوان، فيستصحب و يحكم بكونه خشباً الآن كما كان، و يترتّب عليه المتنجّس؛ لفرض الملاقاة الموجبة له.

نعم، الفرق بين المقامين هو أنّه لا تعقل الشبهة المفهومية هنا؛ للفرق بين النجس و المتنجّس في أنّ العناوين المحكومة بالنجاسة في الأعيان النجسة، لها دخل في الموضوعية لترتّب الحكم عليها، فعنوان العذرة مثلًا، دخيل في الموضوعية، فالشّك في سعته و ضيقه أمر متصوّر كما عرفت.

و أمّا العناوين في المتنجّسات، فغير

دخيلة في الحكم بالتنجّس، فالخشب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 639

..........

______________________________

إذ لاقى نجساً مع رطوبة أحدهما، يصير متنجّساً بما أنّه جسم لاقى نجساً، لا بما أنّه خشب كذلك، و عليه فالشك في سعة دائرة مفهوم الخشب و ضيقها، لا يرتبط بهذا المقام.

و لا ينافي هذا ما ذكرنا في وجه مطهّرية الاستحالة، و ذلك لعدم المنافاة بين عدم تقوّم التنجّس بعنوان الخشب و بين الاتّصاف بالطهارة بعد استحالته رماداً يقيناً، لأنّ الاستحالة المبتني على ما عرفت تصير موجبة لإخراج المستحال إليها عن كونه ملاقياً للنجس، فلا يصدق أنّه شي ء لاقى نجساً فلا مانع من الالتزام بعدم مدخلية العناوين في المتنجّسات، و بين كون الاستحالة في المتنجّسات أيضاً، موجبة لحصول الطهارة لها، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 640

[خامسها: ذهاب الثلثين في العصير بالنار أو بالشمس إذا غلى بأحدهما]

خامسها: ذهاب الثلثين في العصير بالنار أو بالشمس إذا غلى بأحدهما، فإنّه مطهّر للثلث الباقي بناءً على النجاسة، و قد مرّ أنّ الأقوى طهارته، فلا يؤثّر التثليث إلّا في حلّيته.

و أمّا إذا غلى بنفسه، فإن أُحرز أنّه يصير مسكراً بذلك، فهو نجس، و لا يطهر بالتثليث، بل لا بدّ من انقلابه خلّاً، و مع الشكّ محكوم بالطهارة. (1)

______________________________

(1) الخامس: في مطهّرية ذهاب الثلثين قد مرّ في مبحث النجاسات: أنّ الأقوال في مسألة نجاسة العصير مختلفة، و الآراء متشتّتة، و أنّ دعوى الإجماع أو الشهرة ممّا لا وجه لها، و أنّ مقتضى التحقيق هو القول بالعدم.

نعم، لا مجال لإنكار اتّصافه بالحرمة بالنشيش، أو بالغليان الذي قد يتحقّق بعده على الاختلاف، و عليه فالتثليث إنّما يؤثّر في رفع الحرمة، كما أنّه يوجب رفع الإشكال من جهة النجاسة لمن أراد

الاحتياط.

و تقدّم أيضاً: أنّ العصير المغلّي بنفسه دون النار أو الشمس إن أُحرز أنّه يصير مسكراً بذلك فهو نجس من جهة إسكاره.

و مرّ أيضاً: أنّه قد فصّل ابن حمزة في «الوسيلة» بين العصير العنبي الذي غلى بنفسه، فحكم بحرمته و نجاسته إلى أن يصير خلّاً، و بين ما إذا غلى بالنار، فاختار حرمته قبل ذهاب الثلثين، و عدم نجاسته.

و قد زعم شيخ الشريعة الأصبهاني (قدّس سرّه) أنّ هذا التفصيل لا يكون تفصيلًا في الحكم الشرعي، بل يكون لأجل مسكرية ما غلى بنفسه، فحكمه بالنجاسة إنّما هو لأجل الإسكار، لا للتفصيل في العصير، و طعن على من زعم أنّ ابن حمزة متفرّد في هذا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 641

..........

______________________________

التفصيل، بل نسب الغفلة إلى أساطين العلم و الفقه.

و تقدّم منّا: أنّه مضافاً إلى ظهور كلام ابن حمزة في «الوسيلة» في كون التفصيل الذي اختاره إنّما يكون مورده غير المسكر، بل كلامه صريح في ذلك فراجع، أنّ الإعضالات الأربعة التي ذكر في كلامه: أنّها لا تنحلّ إلّا بالالتزام بمسكرية العصير المغلّي بنفسه كلّها مندفعة، و أنّه لا دليل على كون العصير المغلّي بنفسه متّصفاً بالإسكار لا محالة.

و كيف كان: فإن أُحرز فيه الإسكار فهو نجس، و لا يطهر بالتثليث؛ لعدم دلالة دليل على كون التثليث مطهّراً له أيضاً، بل لا بدّ من استحالته و انقلابه خلّاً؛ حتّى يطهر بالاستحالة الموجبة لتغيّر الموضوع، و تبدّل العنوان.

و لو شكّ في حصول الإسكار له، فمقتضى قاعدة الطهارة الحكم بطهارته، كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 642

سادسها: الانتقال، فإنّه موجب لطهارة المنتقل، إذا أُضيف إلى المنتقل إليه، و

عدّ جزء منه، كانتقال دم ذي النفس إلى غير ذي النفس. و كذا لو كان المنتقل غير الدم، و المنتقل إليه غير الحيوان من النبات و غيره.

و لو علم عدم الإضافة، أو شكّ فيها من حيث عدم الاستقرار في بطن الحيوان مثلًا على وجه يستند إليه كالدم الذي يمصّه العلق بقي على النجاسة. (1)

______________________________

(1) السادس: في مطهّرية الانتقال لا إشكال في أنّ دم ذي النفس الذي يكون محكوماً بالنجاسة، إذا انتقل إلى حيوان غير ذي النفس؛ بحيث عدّ جزء منه، و مضافاً إليه فقط، و انقطعت إضافته الأوّلية، يصير طاهراً، لا لأجل الاستحالة؛ لما عرفت: من أنّ معناها تبدّل الحقيقة و تغاير الماهية النوعية، و هو غير متحقّق في المقام؛ لعدم تبدّل الحقيقة الدموية إلى حقيقة أُخرى مغايرة، بل غاية الأمر تبدّل الإضافة و تغيّر الانتساب و الجزئية.

بل لأجل كون نفس هذا التبدّل، موجباً للاتّصاف بالجزئية للمنتقل إليه، و المفروض أنّ مقتضى الدليل طهارة دمه؛ لكونه غير ذي النفس، فدم الإنسان إذا انتقل إلى بقّ أو قمل أو سمك فرضاً؛ بحيث صار جزء من أحد هذه الحيوانات، و منقطعاً عنه الإضافة الأوّلية، يكون طاهراً لذلك.

و ممّا ذكرنا يظهر: أنّ ما هو المعمول في هذه الأزمنة؛ من تزريق دم الإنسان إلى إنسان آخر قليل الدم بعنوان العلاج، يؤثّر في صيرورته طاهراً، بعد اتّصافه بكونه من البواطن للمنتقل إليه، على تقدير كون الدم في الباطن طاهراً؛ فإنّ الدم بعد الخروج

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 643

..........

______________________________

من المنتقل عنه و إن اتّصف بالنجاسة، إلّا أنّه بعد انقطاع الإضافة الأوّلية و صيرورته بالتزريق من البواطن للإنسان المنتقل إليه يصير طاهراً؛ للإضافة الثانوية، و

كونه معدوداً من الباطن بالنسبة إليه، فهذا القسم لا إشكال فيه.

كما أنّه لا إشكال في عدم حصول الطهارة، و في البقاء على النجاسة؛ فيما لو لم تنقطع الإضافة الأوّلية بوجه، بل كان هو المضاف إليه فقط، كالدم الذي يمصّه العلق من الإنسان، فإنّه لا يكون مضافاً إلّا إلى الإنسان، و تبدّل ظرفه و مكانه لا يوجب الطهارة، كما إذا وقع دم الإنسان في إناء مثلًا، ففي هذه الصورة يكون الدم باقياً على النجاسة.

إنّما الإشكال فيما لو شكّ في بقاء الإضافة الأوّلية و انقطاعها، و ثبوت الإضافة الثانوية، كما إذا لم يستقرّ في بطن الحيوان مثلًا، على وجه يستند إليه، و الظاهر أنّه لا مانع من جريان استصحاب الإضافة الأوّلية، و الحكم ببقائها، و ترتّب النجاسة عليه؛ لإنّ الاتّصاف و الإضافة الذي كان هو المناط في الحكم بالنجاسة، كان متيقّناً سابقاً، و الآن مشكوك البقاء، فيحكم به للاستصحاب.

ثمّ إنّه ربّما يفرض الانتقال؛ بنحو يصحّ أن يضاف إلى كلّ من المنتقل إليه، و المنتقل عنه حقيقة؛ لجواز اجتماع الإضافات المتعدّدة كذلك، لعدم التنافي، و لأنّ الإضافة خفيفة المئونة، و في هذا الفرض لا بدّ من ملاحظة الدليل على النجاسة:

فإن كان الدليل عليها في كلّ منهما، دليلًا لبّياً من إجماع أو سيرة، فمقتضى الأخذ بالقدر المتيقّن، عدم شمول شي ء منهما لمورد الاجتماع، فاللازم الرجوع إلى الأصل العملي؛ و هو استصحاب بقاء النجاسة.

و إن كان الدليل عليها في واحد لفظياً، و في الآخر لبّياً، فاللازم الأخذ بمقتضى الدليل اللفظي الشامل لمورد الاجتماع، و ترك الآخر؛ لعدم الشمول له.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 644

..........

______________________________

و إن كان الدليل عليها في كلّ منهما لفظياً: فإن كان

أحدهما بالإطلاق، و الآخر بالعموم فالدليل العام مقدّم على المطلق؛ لتقدّم الدلالة الوضعية على الإطلاق.

و إن كان كلّ منهما بالإطلاق أو بالعموم، فيجري فيه حكم تعارض الإطلاقين أو العامّين.

ثمّ إنّه لا فرق في مطهّرية الانتقال بين الدم و بين غيره من النجاسات أو المتنجّسات. كما أنّه لا فرق في المنتقل إليه بين أن يكون حيواناً أو غيره من النبات أو غيره، فإذا شرب الحيوان الطاهر البولَ، أو الماءَ المتنجّس و صار جزء منه، يصير طاهراً، كما أنّه إذا سقي الشجر بالماء المتنجّس، يصير الماء طاهراً بعد صيرورته جزء منه، كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 645

[سابعها: الإسلام]

سابعها: الإسلام، فإنّه مطهّر للكافر بجميع أقسامه، حتّى الرجل المرتدّ عن فطرة إذا تاب، فضلًا عن المرأة. و يتبع الكافرَ فضلاتُه المتّصلة به؛ من شعره، و ظفره، و بصاقه، و نخامته، و قيحه، و نحو ذلك. (1)

______________________________

(1) السابع: في مطهّرية الإسلام كون الإسلام مطهّراً للكافر؛ إنّما هو لأنّه بالإسلام يتبدّل عنوان الكافر و يتغيّر موضوعه، فلا يبقى وجه لبقاء النجاسة التي يكون موضوعها الكافر نظير الاستحالة المتقدّمة الموجبة لتغيّر عنوان النجس، و تبدّله إلى عنوان طاهر أو مشكوك الطهارة، كما عرفت. مع دعوى الإجماع عليه كما عن «المنتهى» و «الذكرى» و غيرهما، بل عن «المستند» دعوى الضرورة.

فلا إشكال في أصل الحكم، إنّما الكلام في أمرين:

الأوّل: أنّه يستفاد من المتن، أنّ المرتدّ الفطري إذا تاب، تكون توبته مقبولة ظاهراً و باطناً و لو كان رجلًا، و لأجله يحكم عليه بالطهارة، و هو أحد الأقوال الثلاثة في المسألة، الذي ذهب إليه جماعة من المحقّقين.

و القولان الآخران: عبارة عن القول المشهور الذي هو مقابل هذا

القول، و هو عدم قبول توبته و إسلامه أصلًا؛ و أنّه مخلّد في النار كبقية الكفّار.

و القول الثالث: الذي مرجعه إلى التفصيل و الالتزام بقبول توبته و إسلامه واقعاً؛ و فيما بينه و بين اللّه سبحانه، و عدم قبولها ظاهراً، فيحكم بكفره و نجاسته و سائر الآثار المترتّبة على الكفّار.

و من القائلين بما في المتن من يقول مضافاً إلى قبول توبته و إسلامه بأنّه لا يترتّب عليه بعدها شي ء من الأحكام الثلاثة المترتّبة على المرتدّ: من وجوب قتله

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 646

..........

______________________________

مع الإمكان، و انقطاع الزوجية؛ و أنّه تعتدّ زوجته عدّة الوفاة، و انتقال أمواله الموجودة حال الارتداد إلى الورثة، و قد حكي هذا القول عن ابن الجنيد، و لكنّه شاذّ لا يعبأ به.

و كيف كان: فاللازم ملاحظة الأدلّة، و قبلها نقول: إنّ مقتضى القاعدة قبول توبته؛ لأنّه بسببها يصير مسلماً واقعاً، و يتحقّق فيه ما يعتبر في صدق الإسلام ممّا تقدّم البحث عنه في ذيل البحث عن نجاسة الكافر في فصل النجاسات؛ و ذلك لأنّه ليس المراد بالتوبة المفروضة إلّا التوبة الواقعية، و الرجوع عن الارتداد و الندم عليه حقيقة، و مع هذا الوصف لا يرى نقص في إسلامه، فمقتضى القاعدة القبول.

و لكن ربّما يستدلّ ببعض الروايات على عدم القبول، كصحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: سألته عن المرتدّ.

فقال

من رغب عن الإسلام، و كفر بما انزل على محمّد (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بعد إسلامه، فلا توبة له، و قد وجب قتله، و بانت منه امرأته، و قسّم ما ترك على ولده.

«1» و صحيحة الحسين بن سعيد قال: قرأت

بخطّ رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السّلام): رجل ولد على الإسلام، ثمّ كفر و أشرك؛ و خرج عن الإسلام، هل يستتاب، أو يقتل و لا يستتاب؟

فكتب (عليه السّلام)

يقتل.

«2» و صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن (عليهما السّلام) قال: سألته عن مسلم تنصّر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب حدّ المرتدّ، الباب 1، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب حدّ المرتدّ، الباب 1، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 647

..........

______________________________

قال

يقتل و لا يستتاب.

قلت: فنصراني أسلم، ثمّ ارتدّ.

قال

يستتاب، فإن رجع، و إلّا قتل.

«1» و غيرها ممّا يظهر منها عدم قبول توبته؛ فإنّ نفي التوبة له ظاهر في عدم قبولها، و عدم ترتّب الأثر عليها.

و بعبارة أُخرى: ظاهر في استدامة كفره و عدم تبدّله إلى الإسلام بوجه، و إلّا فلو كان مسلماً قبلت توبته لا محالة. و كذا عدم الاستتابة ظاهر في عدم ترتّب الأثر على التوبة، و إلّا فمع ثبوت الأثر لها لا يبقى موقع لعدم الاستتابة، كما لا يخفى.

و أُجيب عن الاستدلال بصحيحة ابن مسلم: بأنّه يحمل إطلاق نفي التوبة في مثلها على إرادة نفيها بالإضافة إلى الأحكام الثلاثة المتقدّمة، لا مطلقاً:

إمّا لاقتران نفي التوبة فيها بالأحكام المذكورة الصالح لصرفه إليها، فيكون من الكلام المقرون بما يصلح للقرينية، المحقّق في محلّه سقوطه عن الحجّية.

و إمّا لأنّها أظهر الأحكام، فينصرف إليها الإطلاق.

و إمّا لقرينية لام الجرّ الموجبة لظهور نفي التوبة فيما كان المنفيّ أمراً راجعاً له لا غير، فلا يشمل ما كان عليه، كوجوب عباداته، أو لا له و لا عليه كطهارته، فإنّ فائدة الطهارة إنّما تكون لغيره.

و إمّا للقطع و الإجماع على ثبوت تكليفه بالإسلام و سائر أحكامه من

الصلاة و غيرها، الموقوفة على الطهارة، و العلم بصحّتها منه من جهة أنّه لولاها لزم التكليف بما لا يطاق، و هو ممتنع عند العدلية يستلزم العلم بتحقّق الطهارة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب حدّ المرتدّ، الباب 1، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 648

..........

______________________________

و عن الاستدلال بالصحيحتين الأُخريين: بأنّ عدم استتابته لا يقتضي كفره و نجاسته على تقدير توبته، فلعلّ عدم استتابته من جهة أنّ توبته لا يترتّب عليها ارتفاع الأحكام الثلاثة الثابتة عليه بالارتداد، فلا أثر لتوبته بالإضافة إليها، و عدم ارتفاع الأحكام الثلاثة أعمّ من الكفر.

هذا، و لكن الظاهر أنّ الاقتران بالأحكام المذكورة، لا ينافي إطلاق نفي التوبة أصلًا، بل مقتضى المغايرة التي يدلّ عليها العطف، أنّ نفي التوبة أمر، و الأحكامَ المذكورة أمر آخر، بل المعطوف عليه من قبيل الموضوع للمعطوف، و المراد: أنّ توبته لا تنفع، بل هو في حالها كافر، و أنّ وجودها كعدمها، فيترتّب عليه الأحكام المذكورة.

كما أنّ الاقتران بالأحكام المذكورة لا يوجب أظهريتها؛ بحيث يتحقّق الانصراف، لو لم يدّع كون غيرها أظهر؛ بلحاظ كونه من أحكام مطلق الكفر. و عدم كون الطهارة له ممنوع؛ بعد اقتضائها لسعة دائرة المعاشرة، و عدم التحذّر و الاجتناب عنه. و القطع و الإجماع على تقدير تحقّقهما لا يقتضيان ثبوت الطهارة؛ لإمكان دعوى سقوط شرطيتها في هذه الصورة.

و كيف كان: فالظاهر أنّ نفي التوبة مرجعه إلى عدم تأثيرها في رفع شي ء من آثار الكفر التي عمدتها النجاسة.

هذا، و لكنّ المستفاد من الصحيحتين الأُخريين، أنّ عدم الاستتابة إنّما هو لأجل عدم قبول التوبة. كما أنّه يستفاد منهما الملازمة بين عدم الاستتابة و القتل، و الاستتابة و عدمه، فتصير الروايتان قرينتين

على أنّ المراد من عدم التوبة هو وجوب القتل، لا عدمها بحيث يترتّب عليه جميع الأحكام التي عمدتها النجاسة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 649

..........

______________________________

و إن شئت قلت: إنّ رفع اليد عن القاعدة المقتضية لقبول توبته و ارتفاع نجاسته، بمثل قوله (عليه السّلام) في الرواية الاولى

فلا توبة له

مع ملاحظة ما ذكرنا، مشكل جدّاً.

ثمّ إنّه لو وصلت النوبة إلى الاستصحاب، فلا مجال لاستصحاب الكفر المقتضي لبقائه، بعد وجود ملاك الإسلام، و ثبوت ما يعتبر فيه في المرتدّ بعد التوبة، و الرجوع الحقيقي عن الارتداد، كما هو المفروض.

كما أنّه لا مجال لاستصحاب النجاسة التي هي عمدة آثار الكفر، بعد تغاير الموضوع و تعدّده؛ فإنّ الكافر و المسلم موضوعان متغايران عنواناً و حكماً، و إن كان الشخص واحداً، فلا يجري الاستصحاب الحكمي بعد تغاير الموضوع.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق نفي التوبة عنه، نفيها بلحاظ الأُمور الأُخروية أيضاً، فيعاقب بارتداده، و لا يرتفع عنه العقاب بتوبته.

و لا ينافيه ما يدلّ على أنّ

التائب من الذنب كمن لا ذنب له

و غيره من أدلّة التوبة، بناءً على شمول مثل

الذنب

الوارد فيها للارتداد؛ نظراً إلى أنّه ذنب، بل من أعظم الذنوب، كما يؤيّده بعض الروايات الواردة في الكبائر الدالّ على أنّ من جملتها بل أوّلها الشرك باللّه العظيم. وجه عدم المنافاة: قابلية تلك الأدلّة للتخصيص بما ورد في الفطري ممّا يدلّ على أنّه لا توبة له.

و لكنّ المستفاد من قوله تعالى وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئٰاتِ حَتّٰى إِذٰا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قٰالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّٰارٌ أُولٰئِكَ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً. «1»

______________________________

(1) النساء/ 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 650

..........

______________________________

أنّ الاستحقاق للعذاب إنّما هو من آثار بقاء الكفر إلى حال الموت، أو عدم التوبة إلى أن يحضر أحدهم الموت، فالتوبة قبل حضور الموت مؤثّرة في رفع الاستحقاق؛ من دون فرق بين الفطري و غيره، و عليه فالآية تصير قرينة على عدم ثبوت الإطلاق لدليل نفي التوبة للفطري بحيث يشمل الآثار الأُخروية أيضاً.

و يؤيّده ما عن الباقر (عليه السّلام): من أنّه

من كان مؤمناً فحجّ و عمل في إيمانه، ثمّ أصابته في إيمانه فتنة فكفر، ثمّ تاب و آمن، يحسب له كلّ عمل صالح عمله في إيمانه، و لا يبطل منه شي ء.

الأمر الثاني: في أنّه يتبع الكافر في طهارته بالإسلام فضلاته المتّصلة به؛ من بصاقه، و عرقه، و شعره، و نخامته، و غير ذلك، فتتّصف بالطهارة أيضاً تبعاً:

إمّا لأنّ نجاستها كانت تبعاً لنجاسة بدنه لأنّه لم يدلّ دليل بالخصوص على نجاسة هذه الأشياء، بل الحكم بها إنّما هو لأجل التبعية، فإذا حكم بطهارة بدنه بسبب الإسلام زالت النجاسة التبعية لا محالة.

و إمّا لصدق إضافتها إلى المسلم، كما في المحكي عن «الجواهر» و غيره.

و أُورد على هذا الوجه: بأنّ الإضافة إلى المسلم إنّما تجدي في الطهارة لو كان منشأ الإضافة التكوّن فيه، و هو غير حاصل في الفرض.

و إمّا لحديث الجبّ الشامل بإطلاقه للنجاسة في هذه الأشياء أيضاً.

و أُورد عليه: بأنّه يختصّ بالآثار المستندة إلى السبب السابق على الإسلام، و بقاء النجاسة و نحوها ليس مستنداً إلى ذلك، بل إلى استعداد ذاته.

و إمّا لعدم معهودية أمر من أسلم بتطهير بدنه من الأُمور المذكورة، مع عدم خلوّ بدنه عن شي ء منها غالباً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 651

..........

______________________________

و

أُورد عليه: بأنّ هذا المقدار لا يكفي في رفع اليد عن استصحاب النجاسة إلّا أن يكون المراد معهودية العدم.

و العمدة هو الوجه الأوّل الراجع إلى قصور دليل النجاسة عن الاقتضاء لنجاسة هذه الأشياء، بعد زوال الكفر و الاتّصاف بالإسلام، و لا مجال لاستصحاب النجاسة أصلًا، فمقتضى قاعدة الطهارة ثبوتها لها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 652

[ثامنها: التبعية]

ثامنها: التبعية، فإنّ الكافر إذا أسلم يتبعه ولده في الطهارة، أباً كان، أو جدّاً، أو امّاً. و أمّا تبعية الطفل للسابي المسلم إن لم يكن معه أحد آبائه، فمحلّ إشكال، بل عدمها لا يخلو من قوّة.

و يتبع الميّتَ بعد طهارته آلاتُ تغسيله: من الخرقة الموضوعة عليه، و ثيابه التي غسّل فيها، و يد الغاسل، و الخرقة الملفوفة بها حين غسله. و في باقي بدنه و ثيابه إشكال، أحوطه العدم، بل الأولى الاحتياط فيما عدا يد الغاسل. (1)

______________________________

(1) الثامن: في مطهّرية التبعية لا بدّ في مطهّرية التبعية من ملاحظة مواردها كلّ واحد مستقلّاً؛ و أنّه هل قام الدليل فيه عليها أم لا؟

فنقول منها: تبعية ولد الكافر إذا أسلم له في الطهارة؛ بمعنى صيرورة الولد طاهراً أيضاً بسبب إسلام من هو ولد له، و قد نفي الخلاف و الإشكال فيه كما عن «الجواهر». و استدلّ عليه برواية حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب، فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك.

فقال

إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار، و هم أحرار، و ماله و متاعه و رقيقه له، فأمّا الولد الكبار فهم في ء للمسلمين، إلّا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك ...

«1» و لكن ربّما يقال: بأنّه

ليس الملاك في التبعية في هذا المورد الراجعة إلى تبعية الولد لأشرف الأبوين هذه الرواية، لكي يرد عدم شمولها للجدّ و الجدّة؛ لاختصاصها بالأب أو الأبوين. مع أنّها ضعيفة السند بقاسم بن محمّد، و علي بن محمّد

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب جهاد العدوّ، الباب 43، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 653

..........

______________________________

القاشاني الضعيف.

بل المدرك: أنّه لا دليل على نجاسة ولد الكافر غير الإجماع و عدم القول بالفصل بين المميّز المظهر للكفر و غيره، و لا إجماع على نجاسة ولد الكافر إذا أسلم أحد أبويه أو جدّه مثلًا، فدليل النجاسة قاصر الشمول عن المقام رأساً.

و يؤيّد هذا القول أنّه لو لم يكن دليل النجاسة قاصراً، و كان مقتضاه ثبوتها في المقام أيضاً، أمكن أن يقال: بعدم ثبوت التنافي بينه و بين رواية حفص؛ لعدم صراحتها في الطهارة، غايته كون إسلام الكافر إسلاماً لولده الصغار من جهة الحرّية، و عدم كونه فيئاً للمسلمين، لا من جهة الطهارة أيضاً فتدبّر.

لكنّ الأمر سهل بعد ما عرفت: من عدم الخلاف، بل عن «الجواهر» كون الحكم بنحو العموم مفروغاً عنه.

و منها: تبعية الطفل للسابي المسلم إذا لم يكن معه أحد آبائه في خصوص الطهارة، كما هو المشهور، بل نسب إلى ظاهر الأصحاب.

و عن الإسكافي و الشيخ و القاضي و الشهيد: تبعيته له في الإسلام.

و العمدة في الحكم بالطهارة في هذا المورد أيضاً، قصور دليل النجاسة عن الشمول له؛ لوضوح عدم تحقّق الإجماع و عدم القول بالفصل في هذا المورد، مع ذهاب المشهور إلى الطهارة.

و أمّا سائر الوجوه، كقاعدة الطهارة بعد عدم جريان استصحاب النجاسة؛ لتغيّر الموضوع و تبدّله، أو معارضته باستصحاب طهارة الملاقي المقتضية للتساقط،

و كدليل الحرج و النبوي

كلّ مولود يولد على الفطرة ..

و كالسيرة فقابل للمناقشة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 654

..........

______________________________

كما أنّ التبعية في الإسلام خالية عن الدليل رأساً و ما في المتن من الاستشكال في التبعية في الطهارة في هذا المورد، بل جعل العدم غير خالٍ عن القوّة، فإنّما هو لتمامية المقتضي للنجاسة عنده، و عدم تمامية الأدلّة المقتضية للطهارة، و لكنّ الظاهر كما عرفت عدم تمامية المقتضي.

و منها: تبعيّة آلات تغسيل الميّت له في الطهارة؛ من الثوب الذي يغسل فيه، و الخرقة التي تستر بها عورته، و السدّة التي هي الباب التي يغسل عليها، و يد الغاسل، و الخرقة الملفوفة بها.

و الوجه في ذلك: هي السيرة الجارية على عدم غسل هذه الأُمور بعد تغسيل الميّت، مع أنّ مثل الثوب و الخرقة يحتاج في تطهيره إلى العصر، و لم يعهد العصر فيهما.

و ربّما يستدلّ لذلك بالإطلاق المقامي؛ نظراً إلى أنّ سكوت النصوص عن التعرّض لتطهيرها، أمارة على طهارتها، و لا سيّما الثوب و الخرقة، فقد تضمّنت النصوص ذكرهما، و أغفلت حكم تطهيرهما. و لكنّ الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) تنظّر فيما حكي عنه فيما عدا اليد من الآلات، و هو الوجه في احتياط المتن فيه.

نعم، في ثياب الغاسل و باقي بدنه غير اليد حيث لم تجرِ العادة على إصابة الماء لهما حال التغسيل، الظاهر أنّه لا يحكم فيهما بالطهارة؛ لعدم الدليل عليه.

و كيف كان: فالعمدة في هذا المورد هو ملاحظة السيرة العملية من المتشرّعة، فحيث تحقّقت على عدم التطهير يحكم فيه بالطهارة التبعية، و مع عدم تحقّقها يكون مقتضى الدليل النجاسة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 655

[تاسعها: زوال عين النجاسة بالنسبة إلى الصامت من الحيوان]

تاسعها: زوال عين النجاسة بالنسبة إلى الصامت من الحيوان، و بواطن الإنسان، فيطهر منقار الدجاجة الملوّثة بالعذرة؛ بمجرّد زوال عينها و جفاف رطوبتها، و كذا بدن الدابّة المجروح، و فم الهرّة الملوّث بالدم و نحوه، و ولد الحيوان المتلطّخ به عند الولادة؛ بمجرّد زواله عنها.

و كذا يطهر فم الإنسان إذا أكل أو شرب نجساً أو متنجّساً؛ بمجرّد بلعه. (1)

______________________________

(1) التاسع: في مطهّرية زوال العين يقع الكلام في هذا الأمر في مقامين:

المقام الأوّل: في زوال العين بالنسبة إلى الحيوان غير الآدمي (1) و عن «الحدائق» دعوى الشهرة على حصول الطهارة بذلك في خصوص الهرّة. و حكي فيها عن جملة من المتأخّرين إلحاق غيرها من سائر الحيوانات بها.

و العمدة في هذا، السيرة القطعية المستمرّة من الخلف و السلف على مباشرة الحيوانات، و عدم التحرّز من الهرّة و نظائرها؛ ممّا يعلم عادة تلوّثها بالنجاسة، كدم الولادة و الجروح، و المنيّ الخارج منها، و كالميتة و العذرة و المياه النجسة عند الأكل و الشرب منها، مع العلم عادة بعدم ورود مطهّر عليها.

و كأنّه لوضوح الحكم، لم يقع مورداً للسؤال من المسلمين، و لا للبيان من الأئمّة المعصومين، عليهم أفضل صلوات المصلّين، مع شدّة الابتلاء بذلك.

و الظاهر عموم السيرة، و عدم اختصاصها بصورة احتمال ورود المطهّر، خصوصاً بعد ملاحظة ندرة وجود المياه الكثيرة أو الجارية في بلاد المسلمين في تلك الأزمنة. فدعوى الاختصاص بهذه الصورة، كما عن «نهاية الأحكام» حيث إنّه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 656

..........

______________________________

خصّ الحكم بالطهارة بصورة غيبة الحيوان بنحو يحتمل ورود المطهّر عليه، غريبة.

و أضعف منه دعوى الحكم بالنجاسة حتّى يعلم بورود المطهّر عليها؛ اعتماداً على الاستصحاب، لوضوح كون

السيرة القاطعة مانعة عن جريان الاستصحاب.

و كيف كان: فلا ينبغي الارتياب في تحقّق هذه السيرة، و في كفايتها في الحكم بالطهارة.

و لكنّه ربّما يستدلّ لذلك: بما دلّ على طهارة سؤر الهرّة من إجماع «الخلاف» و النصوص الدالّة عليه، مع العلم بنجاسة فمها عادة، لأكل الفأرة أو الميتة أو شرب المائع المتنجّس و غيره، فإنّها و إن كانت في مقام إثبات الطهارة الذاتية لسؤرها في قبال سؤر الكلب، حيث إنّه نجس ذاتاً، إلّا أنّ عدم التعرّض فيها للتنبيه على اختصاص الحكم بصورة عدم التلوّث بالنجاسة وقتاً ما مع غلبة التلوّث بها أمارة على الطهارة مطلقاً و لو في الصورة المذكورة.

و بصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قال: سألته عن العظاية و الحيّة و الوزغ، يقع في الماء فلا يموت، أ يتوضّأ منه للصّلاة؟

قال

لا بأس به.

و سألته: عن فأرة وقعت في حبّ دهن، و أُخرجت قبل أن يموت، أ يبيعه من مسلم؟

قال

نعم، و يدهن منه.

«1» فإنّ الحكم بجواز البيع من المسلم، إنّما هو لأجل طهارة الدهن، و عدم صيرورته متنجّساً بوقوع الفأرة فيه، و هو يلازم الحكم بطهارة موضوع بولها و بعرها.

و بموثّقة عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سئل عمّا تشرب منه الحمامة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأسآر، الباب 9، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 657

..........

______________________________

فقال

كلّ ما أُكل لحمه فتوضّأ من سؤره و اشرب.

و عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب.

فقال

كلّ شي ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلّا أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا توضّأ منه، و لا تشرب.

«1»

و زاد فيما رواه الشيخ عن الكليني: و سئل عن ماء شربت منه الدجاجة.

قال

إن كان في منقارها قذر لم يتوضّأ منه، و لم يشرب، و إن لم يعلم أنّ في منقارها قذراً توضّأ منه و اشرب.

«2» فإنّ الحكم بطهارة الماء الذي شرب منه باز أو صقر أو عقاب، مع عدم رؤية الدم في منقارها، يدلّ على كون زوال العين مطهّراً لمنقارها؛ لأنّها من جوارح الطيور، و العلم العادي حاصل بنجاسة منقارها بملاقاة شي ء من النجاسات، فطهارة سؤرها دليل على مطهّرية زوال العين بالنسبة إليها.

و أُورد على الاستدلال بهذه الأدلّة: بأنّه لم يعلم استناد الطهارة في هذه الروايات إلى كون زوال العين مطهّراً، كما هو المدّعى، بل يحتمل أن يكون منشؤها عدم سراية النجاسة من المتنجّس الجامد الخالي عن العين إلى ملاقياته؛ لأنّ مفاد الروايات مجرّد طهارة الماء، أو مثله كالدهن، و أمّا أنّ منشأ الطهارة ما ذا؟ فلا دلالة لها عليه.

و من الممكن أن يكون المنشإ ما ذكر، كما أنّه يمكن أن يكون الوجه فيه عدم تنجّس الحيوانات المتقدّمة بشي ء، لا أنّها تتنجّس، و تطهّر بزوال العين عنها؛ و ذلك لأنّه لم يدلّ دليل على نجاسة كلّ جسم لاقى نجساً بنحو العموم أو الإطلاق، بل هو أمر

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأسآر، الباب 9، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأسآر، الباب 9، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 658

..........

______________________________

متصيّد من ملاحظة الأخبار الواردة في موارد خاصّة؛ نظراً إلى عدم احتمال خصوصية في تلك الموارد.

و بالجملة: لم يدلّ دليل على تنجّس بدن الحيوان بالملاقاة، حتّى تكون تلك الأدلّة ناظرة إلى حصول الطهارة له بزوال العين.

و هنا احتمال آخر؛ و

هو أن يقال: بأنّ هذه الأدلّة مخصّصة لدليل الاستصحاب، و ناظرة إلى عدم جريانه في الحيوان غير الآدمي؛ فإنّ تعليق نفي البأس عمّا شرب منه باز أو صقر أو عقاب في موثّقه عمّار المتقدّمة على ما إذا لم ير في منقارها دم، و الحكمَ بعدم جواز التوضّي و الشرب مع الرؤية، يشهد بأنّ النظر فيها إنّما هو إلى عدم جريان الاستصحاب فيها مع عدم الرؤية، و عدم إحساس النجاسة؛ لاحتمال ورود مطهّر عليه، كشربه من بحر أو نهر أو ماء كثير و مثله.

و بالجملة: مفاد هذه الأدلّة يمكن أن يكون مجرّد التخصيص في دليل الاستصحاب بالإضافة إلى الحيوان، لا كون زوال العين متطهّراً، كما لا يخفى.

و يدفع الاحتمال الأوّل: أنّه لا مجال له بعد قيام الدليل على منجّسية المتنجّس كالنجس، خصوصاً فيما إذا لم يكن هناك واسطة، كما هو المفروض في هذه الروايات، و قد تقدّم البحث في ذلك مفصّلًا في أحكام النجاسات، فراجع.

و أمّا الاحتمال الثاني فيدفعه: أنّ استفادة العموم لا تبتني على إلغاء الخصوصية من الموارد الخاصّة الواردة فيها الروايات، بل يوجد فيها ما يستفاد منه العموم بالدلالة اللفظية، و ذلك مثل موثّقة عمّار الواردة في رجل وجد في إنائه فأرة، المشتملة على قوله (عليه السّلام)

إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه، ثمّ يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه، و يغسل كلّ ما

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 659

..........

______________________________

أصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء و الصلاة ...

«1» و من المعلوم: أنّه لا خصوصية للفأرة، و لا لنجاسة الميتة، فلا بدّ من أن تكون هذه الروايات، ناظرة إلى

عدم اختصاص حصول الطهارة بعد عروض التنجّس بالغسل، بل له طريق آخر؛ و هو زوال العين في خصوص الحيوان.

و أمّا الاحتمال الثالث فيردّه: أنّه لو كان النظر في هذه الروايات إلى تخصيص أدلّة الاستصحاب، لكان اللازم تعليق الحكم بعدم الجواز في مثل موثّقة عمّار على العلم بعدم ورود المطهّر، لا على رؤية الدم الظاهرة في وجود عينه، و من المعلوم ثبوت الفرق بين وجود العين، و بين العلم بعدم ورود المطهّر و إن لم يكن بالفعل دم مرئي، فتخصيص الحكم بما إذا شكّ في ورود المطهّر عليه الراجع إلى التخصيص في دليل الاستصحاب، خلاف ظاهر الروايات.

فالإنصاف: أنّ مقتضى الروايات كالسيرة، ثبوت الطهارة في الحيوان بزوال العين، و لا استبعاد في كونه مطهّراً بالإضافة إليه أصلًا.

المقام الثاني: في مطهّرية زوال العين بالنسبة إلى بواطن الإنسان، كفمه، و أنفه، و أُذنه و لكنّه قد وقع الكلام في أنّ بواطن الإنسان، هل تتنجّس بملاقاة النجاسة، و تطهر بزوال العين عنها، أو أنّها لا تقبل النجاسة أصلًا، بل النجس إنّما هي العين الموجودة في الباطن، لا الباطن؟

و ممّا يترتّب على الوجهين: أنّه لو كان في فمه شي ء من الدم، فريقه نجس ما دام

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الماء المطلق، الباب 4، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 660

..........

______________________________

الدم موجوداً على الوجه الأوّل، فإذا لاقى شيئاً نجسه، بخلافه على الوجه الثاني، فإنّ الريق طاهر، و النجس هو الدم فقط، فإن أدخل إصبعه مثلًا في فمه، و لم يلاقِ الدم لم ينجس.

و إن لاقى الدم ينجس إذا قلنا: بأنّ ملاقاة النجس في الباطن، أيضاً موجبة للتنجّس، و إلّا فلا ينجس أصلًا إلّا إذا أخرجه و

هو ملوّث بالدم.

و كيف كان: فالظاهر أنّ البواطن إذا كانت ما دون الحلق، فلا ثمرة لهذا النزاع فيها؛ للقطع بصحّة الصلاة من المصلّي الواجد للشرائط المراعي لها، مع العلم بملاقاة الدم الموجود في الباطن له، و كذا العذرة و البول، بل بصحّة الصّلاة ممّن أكل أو شرب نجساً كالخمر، أو متنجّساً كالماء مثلًا.

و إذا كانت ما فوق الحلق، كباطن الفم و الأنف و الاذن و العين، فالظاهر أنّ النجاسة الملاقية له إن كانت متكوّنة في الباطن، لا توجب تنجّسه؛ لموثّقة عمّار الساباطي قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السّلام) عن رجل يسيل من أنفه الدم، هل عليه أن يغسل باطنه؟ يعني جوف الأنف.

فقال

إنّما عليه أن يغسل ما ظهر منه.

«1» فإنّ عدم وجوب غسل الباطن المستفاد من حصر الوجوب في الظاهر، مرجعه إلى عدم تنجّسه، فإنّ النجاسة في جلّ النجاسات بل كلّها إنّما استفيدت من الأمر بغسل ملاقيها، فإذا لم يكن غسل الملاقي واجباً، فهو دليل على عدم تنجّسه. و بالجملة: لا دليل على التنجّس في هذا الفرض.

و أمّا إذا كانت النجاسة الملاقية خارجية، فالظاهر أنّه لا دليل على التنجّس

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 24، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 661

..........

______________________________

فيها. و موثّقة عمّار المتقدّمة الآمرة بغسل كلّ ما أصابه الظاهرة في تنجّسه، منصرفة عن الملاقي الباطني.

و لو قلنا: بالنجاسة فرضاً؛ بدعوى الإطلاق، و عدم الانصراف، فلا محيص عن الالتزام بطهارته بمجرّد زوال العين؛ للسيرة، و لرواية عبد الحميد بن أبي الديلم قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): رجل يشرب الخمر فيبصق، فأصاب ثوبي من بصاقه.

قال

ليس بشي ء.

«1» و مثلها بعض الروايات الأُخر و قد

تقدّم في المسألة العاشرة من مسائل كيفية المتنجّس بالنجاسات في أحكامها، ما ينفع المقام، فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 39، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 662

[عاشرها: الغيبة]

عاشرها: الغيبة، فإنّها مطهّرة للإنسان و ثيابه و فرشه و أوانيه، و غيرها من توابعه، فيعامل معه معاملة الطهارة، إلّا مع العلم ببقاء النجاسة.

و لا يبعد عدم اعتبار شي ء فيه؛ فيجري الحكم سواء كان عالماً بالنجاسة أم لا، معتقداً نجاسة ما أصابه أم لا، كان متسامحاً في دينه أم لا، و الاحتياط حسن. (1)

______________________________

(1) العاشر: في مطهّرية الغيبة لا خفاء في أنّ مطهّرية الغيبة إنّما هي في صورة الشكّ في بقاء النجاسة، و أمّا مع العلم ببقائها فلا تكون مطهّرة بوجه، و هذا يدلّ على عدم كونها مطهّرة في عداد سائر المطهّرات، بل هي طريق لاستكشاف الطهارة في خصوص صورة الشكّ كسائر ما تثبت به الطهارة، كإخبار ذي اليد، أو الثقة، و نحوهما.

و العمدة في وجه مطهّريتها، السيرة المستمرّة المتّصلة بزمن الأئمّة (عليهم السّلام) على المساورة و المعاملة مع المسلمين و ما يتعلّق بهم من الثياب و الفرش و الأواني و غيرها معاملةَ الأشياء الطاهرة، مع العلم العادي بعروض التنجّس لها في زمان لا محالة، و عدمِ العلم بزواله بالتطهير.

لكن الكلام في أنّ الحكم بالطهارة حينئذٍ، هل يكون من باب تقديم الظاهر على الأصل؛ نظراً إلى ظهور حال المسلم في المتجنّب عن شرب النجس و الصلاة فيه و بيعه من غير إعلام، فالعلّة في عدم جريان الاستصحاب بناءً عليه هو وجود الأمارة، و هو ظاهر حال المسلم على خلافه. و انتقاض الحالة السابقة.

أو أنّه يكون حكماً تعبّدياً غير مرتبط بباب التقديم

المذكور، نظير قاعدة الطهارة الجارية في مورد الشكّ فيها، غير المبتنية على ظهور حال المسلم،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 663

..........

______________________________

و عليه يكون تقديمها على الاستصحاب مستنداً إلى كونه مخصّصاً لأدلّته، و مضيّقاً لدائرته.

و تظهر ثمرة الوجهين في أنّه لو كان الحكم بالطهارة من باب تقديم الظاهر، لا بدّ من الاقتصار فيه على موارد ثبوت الظهور، و من المعلوم عدم ثبوته في مورد الجهل بالنجاسة رأساً؛ فإنّه مع الجهل بها لا يكون ظاهر الحال التجنّب و التنزّه عنه، كما أنّه لا يثبت مع عدم الاعتقاد بنجاسة ما أصابه؛ لأنّه لا معنى للاحتراز مع عدم الاعتقاد بها.

و أمّا لو كان الحكم بالطهارة غير مستند إلى الظهور، بل كان حكماً تعبّدياً كقاعدة الطهارة، فلا بدّ من ملاحظة أنّ دليل هذا الحكم التعبّدي، هل يقتضي ثبوته في مورد الشكّ مطلقاً؛ سواء كانت الشروط المذكورة في جملة من الكلمات موجودة فيه، أم لا، أو لا يقتضي إلّا ثبوته مع وجود تلك الشرائط أو بعضها؟

و الظاهر هو الأوّل؛ لأنّك عرفت: أنّ العمدة في هذا الأمر هي السيرة المتّصلة بزمان الأئمّة (عليهم السّلام) و الظاهر عدم اختصاصها بصورة وجودها؛ لأنّهم كانوا يساورون أهل الخلاف الموجودين في زمانهم، مع وضوح عدم التزامهم بنجاسة جملة من النجاسات الثابتة عندنا؛ لذهابهم إلى طهارة جلد الميتة بالدبّاغ، و طهارة مخرج البول بالتمسّح على الغائط، و طهارة المنيّ عند بعضهم و هكذا.

و كذلك كانوا يعاشرون عموم المسلمين، حتّى الفسقة منهم، مع عدم مبالاتهم نوعاً في باب النجاسات و المتنجّسات، فإنّ شارب الخمر لا يبالي بإصابتها بدنه أو ثوبه، و ليس ذلك مبتنياً على مسألة عدم تنجيس المتنجّس؛ فإنّ الظاهر المعاملة مع

الأشياء المأخوذة منهم معاملة الطهارة، بحيث يصلّون فيه،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 664

..........

______________________________

و لا يجتنبون عنه، فيصلّون في الفرو المشترى منهم من دون تطهير.

فالإنصاف: عموم الدليل و عدم اختصاصه بصورة وجود الشرائط المذكورة كلّاً أو بعضاً.

و منه يظهر: أنّ الحكم بالطهارة حكم تعبّدي؛ غير مستند إلى تقديم الظاهر على الأصل، كما حكي عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) حيث ذهب إلى أنّ الشارع جعل ظهور حال المسلم أمارة على الطهارة، فتكون متقدّمة على الاستصحاب لا محالة، و لازمه اعتبار جملة من الشرائط؛ لعدم تحقّق الظهور بدونها، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 665

[حادي عشرها: استبراء الجلّال من الحيوان]

حادي عشرها: استبراء الجلّال من الحيوان بما يخرجه عن اسم «الجلل» فإنّه مطهّر لبوله و خرئه.

و لا يترك الاحتياط مع زوال اسمه في استبراء الإبل أربعين يوماً، و البقر عشرين، و الغنم عشرة أيّام، و البطّة خمسة أيّام، و الدجاجة ثلاثة أيّام، بل لا يخلو كلّ ذلك من قوّة، و في غيرها يكفي زوال الاسم. (1)

______________________________

(1) الحادي عشر: في مطهّرية الاستبراء الكلام في هذا الأمر يقع في مقامين أيضاً:

الأوّل: في كون استبراء الجلّال من الحيوان مطهّراً له؛ أي لبوله و خرئه، بناءً على نجاستهما من الجلّال. مع عدم مساعدة الأدلّة عليها، كما أسلفنا الكلام فيه في مبحث النجاسات، فراجع.

و الدليل عليه: أنّه يوجب زوال حرمة الأكل، و خروجَه إلى الحلّية، و من المعلوم أنّ النجاسة كانت تابعة للحرمة؛ بمعنى أنّ كونه ممّا لا يؤكل اقتضى ثبوت النجاسة للبول و الخرء، فإذا صار محلّل الأكل بالاستبراء لزوال عنوان «الجلل» المأخوذ في موضوع الحكم بالحرمة، و لدلالة الروايات الكثيرة الواردة في

هذا الباب، فلا يبقى مجال للحكم ببقاء نجاسة البول و الخرء.

و بعبارة أُخرى: كانت النجاسة لأجل الملازمة بينها و بين الحرمة المدلول عليها بالنصّ، فإذا زالت الحرمة ارتفعت النجاسة قطعاً.

في مقدار الاستبراء الثاني: في مقدار الاستبراء المتحقّق بمنع الحيوان عن التغذّي بالعَذِرة، و الاغتذاء بالعلف الطاهر، أو مثله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 666

..........

______________________________

مقتضى ما ذكرنا: أنّ المقدار اللازم هو المقدار الذي به يتحقّق زوال عنوان «الجلل» الموضوع للحكم بالحرمة الملازم للنجاسة، كما عرفت، فإذا زال هذا العنوان يرتفع الحكم بالحرمة، و لا يبقى موقع للنجاسة؛ لارتفاع الحرمة الملازمة لها، فمقتضى القاعدة أنّ اللازم في مقدار الاستبراء ما به يتحقّق زوال عنوان «الجلل».

و لكن هنا روايات ظاهرة في اعتبار مدّة خاصّة، و اختلافها في الحيوانات:

منها: ما ورد في الإبل، كرواية مسمع، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): الناقة الجلّالة لا يؤكل لحمها و لا يشرب لبنها حتّى تغذّى أربعين يوماً، و البقرة الجلّالة لا يؤكل لحمها و لا يشرب لبنها حتّى تغذّى ثلاثين يوماً، و الشاة الجلّالة لا يؤكل لحمها و لا يشرب لبنها حتّى تغذّى عشرة أيّام، و البطّة الجلّالة لا يؤكل لحمها حتّى تربّى خمسة أيّام، و الدجاجة ثلاثة أيّام.

«1» و مثلها: ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) قال

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): الدجاجة الجلّالة لا يؤكل لحمها حتّى تقيّد ثلاثة أيّام، و البطّة الجلّالة بخمسة أيّام، و الشاة الجلّالة عشرة أيّام، و البقرة الجلّالة عشرين يوماً، و الناقة الجلّالة أربعين يوماً.

«2» و من الواضح اتّحاد الروايتين؛ بمعنى أنّ الصادر من المولى أمير المؤمنين (عليه

السّلام) واحد، و لعلّ نقل الإمام أبي عبد اللّه (عليه السّلام) عنه كان واحداً، غاية الأمر أنّ السكوني قد سمعه، و مسمعاً أيضاً سمعه، لا أنّه نقله مرّتين و إن كان لا استبعاد فيه أيضاً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 28، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 28، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 667

..........

______________________________

نعم، الاختلاف بينهما واقع في مقدار استبراء البقر؛ حيث إنّ رواية السكوني تدلّ على عشرين، و رواية مسمع على ثلاثين.

نعم، رواها الشيخ في «التهذيب» مطابقة لرواية السكوني، كما أنّه رواها في «الإستبصار» أربعين يوماً كالإبل الجلّالة، و لكنّه لا دلالة لهذا الاختلاف على تعدّد الرواية، بل هي رواية واحدة مردّدة من هذه الجهة، كما لا يخفى.

و ما رواه بسّام الصيرفي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في الإبل الجلّالة قال

لا يؤكل لحمها و لا تركب أربعين يوماً.

«1» و مرفوعة يعقوب بن يزيد قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام)

الإبل الجلّالة إذا أردت نحرها تحبس البعير أربعين يوماً، و البقرة ثلاثين يوماً، و الشاة عشرة أيّام.

«2» و منها: ما ورد في البقر؛ ممّا يدلّ على ثلاثين يوماً، كروايتي يعقوب و مسمع على نقل «الكافي» المتقدّمتين، و قد عرفت دلالة رواية السكوني على عشرين، كرواية مسمع على نقل الشيخ في «التهذيب» كما أنّه على نقله في «الإستبصار» يدلّ على أربعين.

و في رواية يونس أيضاً اعتبار ثلاثين، حيث روى عن الرّضا (عليه السّلام) في السمك الجلّال أنّه سأله عنه.

فقال

ينتظر به يوماً و ليلة ...

و قال في الدجاجة

تحبس ثلاثة أيّام، و البطّة سبعة أيّام، و الشاة أربعة عشر يوماً، و البقرة ثلاثين يوماً،

و الإبل أربعين يوماً، ثمّ تذبح.

«3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 28، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 28، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 28، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 668

..........

______________________________

و منها: ما ورد في الشاة؛ ممّا يدلّ على عشرة أيّام، ككثير من الروايات المتقدّمة، نعم في رواية يونس الأخيرة أربعة عشر يوماً.

و منها: ما ورد في البطّة؛ ممّا يدلّ على خمسة أيّام، كروايتي مسمع و السكوني، و في رواية يونس سبعة أيّام، و في رواية الجوهري ثلاثة أيّام. «1» و منها: ما ورد في الدجاجة؛ ممّا يدلّ على ثلاثة أيّام، كجميع الروايات المتقدّمة و غيرها المتعرّضة لحكم الدجاجة.

ثمّ إنّ المنسوب إلى ظاهر المشهور: أنّ المدار هو مضيّ المدّة المنصوصة في الروايات؛ و أنّه يحرم قبلها و إن انتفى عنه اسم الجلل و يحلّ بعدها و إن بقي له الاسم؛ عملًا بإطلاق نصوص المدّة.

و عن الشهيد و جماعة: اعتبار أكثر الأمرين من المقدار و ما يزول به اسم الجلل استضعافاً للنصوص، و أخذاً بالاحتياط.

و عن «الجواهر»: استظهار الأخذ بالمقدار إلّا أن يعلم ببقاء صدق الجلل فيحرم و لو مع انقضاء المدّة؛ لانصراف نصوص التقدير إلى ما هو المعتاد من زوال الاسم بذلك، لا ما علم بقاء وصف الجلل فيه.

و أُورد على المشهور بوجهين:

أحدهما: أنّ نصوص التقدير كلّها ضعاف؛ لأنّها بين مرسلة و مرفوعة و ضعيفة الإسناد، فلا اعتبار لها بوجه.

ثانيهما: أنّ المرتكز في الأذهان من التحديد بتلك المدّة، أنّ الحرمة أو النجاسة محدّدتان بها بعد زوال عنوان الجلل بمعنى أنّ الإبل الجلّالة مثلًا، بعد ما

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب

28، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 669

..........

______________________________

زال عنها اسم الجلل لا يحكم بحلّية لحمها و طهارة بولها و روثها إلّا بعد أربعين يوماً، لا أنّ الأحكام المترتّبة على الإبل الجلّالة ترتفع بعد المدّة و إن بقي عنوان جللها.

و نظيره الأمر الوارد بغسل الثوب المتنجّس بالبول مرّتين، أو بصبّ الماء على البدن كذلك، و ما ورد في الاستنجاء من المسح بثلاثة أحجار؛ فإنّ ظاهرها كفاية الحدّ بعد زوال النجاسة عن المحلّ، لا أنّ مجرّد الغسل أو الصبّ أو المسح بالأحجار، كافٍ في الحكم بالطهارة و لو بقيت العين بحالها.

نعم، لا يشترط ارتفاع الموضوع قبل الغسل، أو الصبّ، أو قبل انقضاء المدّة المنصوصة في المقام، بل يكفي ارتفاعه و لو مع أحد هذه الأُمور.

هذا، و الإيراد الثاني غير قابل الاندفاع.

و أمّا الأوّل فيدفعه: أنّ النصوص المذكورة لو سلّم النقص في جميعها، فهو مجبور بالعمل؛ فإنّ استناد المشهور إليها و الفتوى على طبقها يكفي في الانجبار، كما نبّهنا عليه مراراً، فلا مجال لرفع اليد عن ظاهر النصوص الحاكم بالتحديد، و الحمل على الاستحباب.

و إلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده الشهيد الثاني: من اعتبار أكثر الأمرين؛ فإنّ الوجه فيه بعد الأخذ بالنصوص هو تفسيرها بكون المراد زوال الجلل في المدّة، و لازمه عدم الاكتفاء بها مع عدم زوال العنوان.

و ليس الوجه فيه ما حكيناه أوّلًا، حتّى يردّ عليه: بأنّه لا مجال للاستضعاف بعد الانجبار بالعمل، و لا للأخذ بالاحتياط بعد كون مقتضى القاعدة الدوران مدار العنوان.

و أمّا ما أفاده صاحب «الجواهر» (قدّس سرّه) فقد أُورد عليه: بأنّه إن أراد أنّ التقدير حجّة في مقام الشكّ، فالحكم معه ظاهري، فهو خلاف ظاهر الأدلّة،

و لازمه الحكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 670

..........

______________________________

بالحلّ مع العلم بانتفاء وصف الجلل و لو قبل حصول المقدّر.

و إن أراد أنّه شرط في الحلّ واقعاً، فالانصراف إلى صورة عدم حصول العلم ببقاء الجلل ممنوع.

و لكنّه ربّما يقال: إنّه لا يريد كون التحديد تحديداً ظاهرياً راجعاً إلى أنّ المقدّرات حجّة في مقام الشكّ و الجهل، بل لعلّ مقصوده أنّ المقدّرات و إن كانت تحديدات واقعية، إلّا أنّ التمسّك بإطلاقها إنّما يصحّ في موردين:

أحدهما: ما إذا علم زوال عنوان الجلل قبل انقضاء المدّة.

ثانيهما: ما إذا شكّ في زواله بانقضائها، و هو الغالب في أهل القرى و البوادي، حيث إنّ أكثرهم غير عالمين بزوال الجلل؛ لجهلهم بمفهومه.

و أمّا مع العلم بالبقاء، فلا يمكن الحكم بالطهارة، لا لأجل الانصراف، بل لأجل ما ذكر: من أنّ الارتكاز العرفي في أمثال هذه التحديدات، هو التحديد بعد زوال الموضوع و ارتفاعه و لو كان مقارناً لانقضاء المدّة.

و بذلك يحصل التوافق بين الشهيد و صاحب «الجواهر» و ينطبق كلّ منهما على ما هو المتفاهم من الدليل، كما ذكرنا.

في مفهوم الجلل بقي الكلام في هذا الأمر في مفهوم «الجلل» و معناه، و قد ذكر: أنّ المراد بالجلّال مطلق ما يؤكل لحمه من الحيوانات المعتادة على تغذّي عَذِرة الإنسان، و يستفاد من هذا التفسير:

أوّلًا: عدم اختصاص الجلل بحيوان دون حيوان، بل يعمّ كلّ حيوان يتغذّى بها، و ما عن بعض كتب اللغة من تفسير الجلّالة: ب «البقرة تتبع النجاسات» فالظاهر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 671

..........

______________________________

أنّه تفسير بالمثال؛ لما عرفت من تصريح الروايات بثبوت هذا العنوان في الإبل و الشاة و غيرهما

ممّا مرّ.

و ثانياً: الاختصاص بخصوص التغذّي بعَذِرة الإنسان، و لا يلحق سائر النجاسات بها، خلافاً لما حكي عن الحلبي، من دون فرق بين أن يكون عذرة أو غيرها:

أمّا غير العذرة؛ فلوضوح أنّ مثل الأسد و الهرّة من السباع يأكل الميتة من الحيوانات، و لا يطلق عليه اسم الجلّال، و إلّا فاللازم أن يكون جلّالًا مطلقاً.

و أمّا عذرة غير الإنسان، فقد استدلّ على عدم تحقّق الجلل فيها بمرسلة موسى بن أكيل، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في شاة شربت بولًا ثم ذبحت.

قال: فقال

يغسل ما في جوفها، ثمّ لا بأس به، و كذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم تكن جلّالة، و الجلّالة التي تكون ذلك غذاها.

«1» نظراً إلى ظهور العذرة في عذرة الإنسان، أو انصرافها إليها.

و لكنّه نوقش في هذا الاستدلال مضافاً إلى ضعف السند بالإرسال بأنّه لا دلالة لها على أنّ الجلل هو التغذّي بعذرة الإنسان فحسب؛ لعدم تقيّدها بشي ء.

و دعوى الانصراف إلى عَذِرة الإنسان مندفعة؛ لأنّها اسم لكلّ رجيع نتن، و لا اختصاص لها بمدفوع الإنسان بوجه.

بل قد أُطلقت في بعض الأخبار على رجيع الكلب و السنّور، كرواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن الرجل يصلّي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب، أ يعيد صلاته؟

قال

إن كان لم يعلم فلا يعيد.

«2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 24، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 40، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 672

..........

______________________________

هذا، و لكنّ الظاهر كما يظهر من اللغة، اختصاصها بعذرة الإنسان، و لأجله تطلق على فناء الدار مجازاً؛ تسمية الظرف باسم مظروفه، لأنّهم كانوا

يلقون الخرء عليه. و الرواية لا تنافي الاختصاص؛ لأنّ استعمالها في السنّور و الكلب عقيب الإنسان، إنّما هو لأجل التغليب، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لو شكّ في سعة مفهوم الجلل بحيث يشمل المتغذّي بعَذِرة غير الإنسان أيضاً، أو ضيقه، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقّن؛ لأنّه من موارد إجمال المخصّص و دورانه بين الأقلّ و الأكثر، مع كون الشبهة مفهومية؛ لأنّ مقتضى العموم حلّية الحيوان و طهارته، خرج الحيوان عنه في حالة عروض الجلل، و مع الشكّ في مفهومه لا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن، و الرجوع في المقدار الزائد إلى عموم العامّ، كما في سائر الموارد، على ما حقِّق في محلّه.

ثمّ إنّ في تعيين المدّة التي يحصل بها الجلل إشكالًا؛ لعدم تعرّض النصوص لذلك.

و عن بعضهم: التقدير بيوم و ليلة. و عن آخر: تقديرها بما يظهر النتن في لحمه و جلده. و عن ثالث: التقدير بصيرورة العذرة جزء منه.

و الظاهر أنّه لا شاهد لشي ء من ذلك، بل لا بدّ بعد دلالة الرواية على أنّ المراد به كون العذرة غذاها من الرجوع إلى العرف، كسائر المفاهيم العرفية المأخوذة في موضوعات الأحكام الشرعية. نعم، يمكن فرض تحقّق الشكّ في مورد، و لا بدّ من الرجوع فيه كسائر موارد الشكّ إلى القواعد المقرّرة لصورة الشكّ، و هي تختلف باختلاف الشبهة؛ من جهة كونها مفهومية، و من جهة كونها مصداقية، كما أنّها تختلف من جهة الشكّ في الحدوث، و من جهة الشكّ في البقاء، و بعد التأمّل يظهر حكم هذه الفروض، خصوصاً بملاحظة ما ذكرنا في نظائرها، فراجع و تأمّل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 673

[القول في الأواني]

اشارة

القول في الأواني

[مسألة 1: أواني الكفّار كأواني غيرهم محكومة بالطهارة]

مسألة 1: أواني الكفّار كأواني غيرهم محكومة بالطهارة؛ ما لم يعلم ملاقاتهم لها مع الرطوبة المسرية، و كذا كلّ ما في أيديهم من اللباس و الفرش و غير ذلك.

نعم، ما كان في أيديهم من الجلود، محكومة بالنجاسة لو علم كونها من الحيوان الذي له نفس سائلة، و لم يعلم تذكيته، و لم يعلم سبق يد مسلم عليها.

و كذا الكلام في اللحوم و الشحوم التي في أيديهم، بل في سوقهم، فإنّها محكومة بالنجاسة مع الشروط المزبورة. (1)

______________________________

(1) في أواني الكفّار أمّا الحكم بالطهارة في الأواني في الصورة المفروضة، ففيما إذا كان أصل تنجّسها مشكوكاً، يكون مستنداً إلى الاستصحاب الذي يدلّ على حجّيته مضافاً إلى الروايات الكثيرة الرواية الخاصّة الواردة في نظير المسألة؛ و هي صحيحة ابن سِنان قال: سأل أبي أبا عبد اللّه (عليه السّلام) و أنا حاضر: إنّي أعير الذمّي ثوبي، و أنا أعلم أنّه يشرب الخمر، و يأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن أُصلّي فيه؟

فقال أبو عبد اللّه (عليه السّلام)

صلّ فيه، و لا تغسله من أجل ذلك؛ فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر، و لم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه.

«1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 74، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 674

..........

______________________________

و من المعلوم: أنّه لا خصوصية للثوب، و لا للإعارة، بل الملاك كونه بيد الكافر مع العلم بعدم اجتنابه عن النجاسة، فيجري الحكم في الأواني و في كلّ ما في أيديهم؛ من اللباس و الفرش و غير ذلك.

و أمّا فيما إذا علم بطروّ حالتين متضادّتين، كما إذا علم بنجاستها في زمان، و طهارتها في

آخر، مع الجهل بتأريخهما، كما هو الغالب، فالمستند هي قاعدة الطهارة الجارية في مثل هذا الفرض في غير أواني الكفّار أيضاً.

ثمّ إنّه قد تقدّم في مسألة نجاسة أهل الكتاب في باب النجاسات: أنّ من جملة ما استدلّ به عليها، طائفة من الروايات الواردة في آنيتهم الناهية عن الأكل منها؛ و أنّ هذه الطائفة بين ما ظاهرها نجاستها من دون قيد، و بين ما تدلّ على حرمة الأكل منها؛ لأنّهم يأكلون فيه الميتة و الدم و لحم الخنزير، و بين ما هو صريح في عدم الحرمة، و في ثبوت التنزّه.

و عرفت هناك: أنّه لا دلالة لشي ء منها على نجاسة أهل الكتاب بما هو كذلك؛ و أنّ مقتضى الجمع هو التنزّه عن أوانيهم؛ لاحتمال ملاقاتها مع نجاسة أُخرى، كالميتة و نحوها.

و كيف كان: فهذه الروايات بعد التأمّل فيها، و الجمع بينها، لا تقتضي ثبوت حكم على خلاف قاعدة الطهارة أو استصحابها، الجاريتين في أوانيهم، كما مرّ.

ثمّ إنّه قد تقدّم إجمالًا: أنّ الجلود التي تكون بأيدي الكفّار و كذا اللحوم و الشحوم، محكومة بالنجاسة لو علم كونها من الحيوان الذي له نفس سائلة؛ لاختصاص النجاسة بغير المذكّى من هذا الحيوان، و كذا كانت تذكيته مشكوكة؛ لوضوح أنّه مع التذكية يكون طاهراً، و مع الشكّ يجري أحكام غير المذكّى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 675

..........

______________________________

و كذا لم يعلم سبق يد مسلم عليها؛ لأنّه قد جعل الشارع على حسب الروايات الكثيرة، يد المسلم أو سوق المسلمين الذي هو أمارة على كون البائع مسلماً، و أنّ اليد يد مسلم أمارة على التذكية، فيترتّب عليها جميع آثارها. و قد فصّلنا القول في هذا المجال في كتاب الصلاة

في شرائط لباس المصلّي، مع كونه بحسب الترتيب الفقهي متأخّراً، و لكن بعض الجهات اقتضت تقديمه في البحث و التأليف، فراجع.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 676

[مسألة 2: يحرم استعمال أواني الذهب و الفضّة في الأكل و الشرب و سائر الاستعمالات]

مسألة 2: يحرم استعمال أواني الذهب و الفضّة في الأكل و الشرب و سائر الاستعمالات؛ نحو التطهير من الحدث و الخبث و غيرها.

و المحرّم الأكل و الشرب فيها أو منها، لا تناول المأكول و المشروب منهما، و لا نفس المأكول و المشروب، فلو أكل منها طعاماً مباحاً في نهار رمضان، لا يكون مفطراً بالحرام و إن ارتكب الحرام من جهة الشرب منها. هذا في الأكل و الشرب.

و أمّا في غيرهما فالمحرّم استعمالها، فإذا اغترف منها للوضوء يكون الاغتراف محرّماً، لا الوضوء.

و هل التناول الذي هو مقدّمة للأكل و الشرب أيضاً محرّم؛ من باب حرمة مطلق الاستعمال، حتّى يكون في الأكل و الشرب محرّمان: هما، و الاستعمال بالتناول؟

فيه تأمّل و إشكال، و إن كان عدم حرمة الثاني لا يخلو من قوّة.

و يدخل في استعمالها المحرّم على الأحوط، وضعها على الرفوف للتزيين، و إن كان عدم الحرمة لا يخلو من قرب.

و الأحوط الأولى ترك تزيين المساجد و المشاهد بها أيضاً. و الأقوى عدم حرمة اقتنائها من غير استعمال.

و الأحوط حرمة استعمال الملبّس بأحدهما إن كان على وجه لو انفصل كان إناء مستقلّاً، دون ما إذا لم يكن كذلك، و دون المفضّض و المموّه بأحدهما.

و الممتزج منهما بحكم أحدهما و إن لم يصدق عليه اسم أحدهما، بخلاف الممتزج من أحدهما بغيرهما، لو لم يكن بحيث يصدق عليه اسم أحدهما. (1)

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 677

..........

______________________________

(1) في أواني الذهب و الفضّة

الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات:

في حرمة استعمالها في الأكل و الشرب الأوّل: في أصل حرمة استعمال أواني الذهب و الفضّة في الأكل و الشرب، في مقابل عدم الحرمة و ثبوت الكراهة. و قد حكى الإجماعَ على الحرمة جماعة كثيرة، بل عن «المنتهى»: «أنّه إجماع كلّ من يحفظ عنه العلم، إلّا ما نقل عن داود؛ فإنّه حرّم الشرب خاصّة، و الشافعي من أنّ النهي نهي تنزيه.

و حكي عن الشيخ في «الخلاف» القول بكراهته، و عبارته فيه هكذا: «يكره استعمال أواني الذهب و الفضّة، و كذلك المفضّض منها.

و قال الشافعي: لا يجوز استعمال أواني الذهب و الفضّة. و به قال أبو حنيفة في الشرب و الأكل و التطيّب على كلّ حال.

و قال الشافعي: يكره المفضّض.

و قال أبو حنيفة: لا يكره، و هو مذهب داود.

دليلنا: إجماع الفرقة، و أيضاً روى الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

لا تأكل في آنية من فضّة، و لا في آنية مفضّضة ...

و عن جملة من الكتب حمل الكراهة في كلامه على التحريم، و لكنّه استبعده كاشف اللثام في محكي «كشفه» و أيّد ذلك بقرينة ما حكاه عن الشافعي.

لكن الظاهر أنّ التأييد في غير محلّه؛ لأنّ الاختلاف بينه و بين الشافعي ليس

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 678

..........

______________________________

في الكراهة و التحريم، بل في أنّ المحرّم هل هو استعمال أواني الذهب و الفضّة فقط، أو الأعمّ منها و من المفضّض؟ فالشيخ (قدّس سرّه) يقول بالثاني، و الشافعي بالأوّل.

و يؤيّد بل يدلّ على ما ذكر: استدلال الشيخ بالإجماع الظاهر في إجماع الفرقة الإمامية بأجمعهم، و بالروايات الظاهرة في النهي و التحريم كما عرفت.

فالإنصاف: أنّ مراده

من الكراهة ليس ما يقابل التحريم، بل بمعناه، و التعبير بها إنّما هو لأجل التبعية لما في جملة من النصوص.

و يؤيّد ما ذكرنا أيضاً: تصريحه بالتحريم في كتاب الزكاة من «الخلاف» حيث قال: «أواني الذهب و الفضّة محرّم اتّخاذها و استعمالها، غير أنّها لا تجب فيها الزكاة.

و قال الشافعي: حرام استعمالها قولًا واحداً.

و في اتّخاذها قولان، أحدهما: محظور، و الآخر: مباح، و على كلّ حال تجب فيه الزكاة ..».

و كيف كان: فقد وردت حرمته في رواياتنا و روايات المخالفين؛ ففي «الحدائق»: «أنّ الجمهور رووا عن النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أنّه قال

لا تشربوا في آنية الذهب و الفضّة، و لا تأكلوا في صحافها؛ فإنّها لهم في الدنيا، و لكم في الآخرة.

و عن علي (عليه السّلام)

الذي يشرب في آنية الذهب و الفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم ...

و أمّا الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) فهي كثيرة جدّاً، و هي على ثلاث طوائف:

الأُولى: ما تدلّ على النهي عن استعمالها في الأكل و الشرب، أو على النهي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 679

..........

______________________________

عن نفسها الذي لا بدّ من أن يحمل على الاستعمال مطلقاً، أو في خصوص الأكل و الشرب، كصحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال

لا تأكل في آنية ذهب و لا فضّة.

«1» و روايته الأُخرى، عن أبي جعفر (عليه السّلام): أنّه نهى عن آنية الذهب و الفضّة. «2» و لكنّ الظاهر كما مرّ غير مرّة: أنّهما رواية واحدة، لا متعدّدة.

و رواية داود بن سِرحان، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

لا تأكل في آنية الذهب و الفضّة.

«3» و رواية

الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «لا تأكل في آنية من فضّة، و لا في آنية مفضّضة». «4» و غير ذلك ممّا يدلّ على النهي.

الثانية: ما تدلّ بظاهرها على الكراهة، مثل صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): أنّه كره آنية الذهب و الفضّة، و الآنية المفضّضة. «5» و موثّقة بريد، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): أنّه كره الشرب في الفضّة، و في القدح المفضّض، و كذلك أن يدهن في مدهن مفضّض، و المشطة كذلك. «6» و صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بَزيع قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) عن آنية الذهب و الفضّة، فكرههما.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 65، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 65، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 65، الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 66، الحديث 1.

(5) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 65، الحديث 10.

(6) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 66، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 680

..........

______________________________

فقلت: فقد روى بعض أصحابنا: أنّه كان لأبي الحسن (عليه السّلام) مرآة ملبّسة فضّة.

فقال

لا و الحمد للّه، إنّما كانت لها حلقة من فضّة، و هي عندي.

ثمّ قال

إنّ العبّاس حين عذر عمل له قضيب ملبّس من فضّة؛ من نحو ما يعمله للصبيان، تكون فضّة نحواً من عشرة دراهم، فأمر به أبو الحسن (عليه السّلام) فكسر.

«1» الثالثة: ما تكون مشتملة على كلمة

لا ينبغي

كموثّقة سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

لا ينبغي الشرب في آنية الذهب و الفضّة.

«2» إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّه ربّما يقال: بأنّ مقتضى القواعد هو حمل الطائفة الأُولى الظاهرة

في الحرمة على الكراهة؛ لصراحة الطائفة الثانية في الكراهة، و ظهور أنّ كلمة

لا ينبغي

في الطائفة الثالثة لا تستعمل في الأُمور المحرّمة، بل في الأُمور غير المناسبة، على ما هو الشائع في الاستعمالات المتعارفة، فقاعدة الجمع مقتضية للحمل على الكراهة.

و لذا حكي عن جماعة: «أنّه لو لا الإجماع على الحرمة لكان القول بالكراهة حسناً» و ارتضاه في «المستمسك».

و الظاهر أنّ الكراهة في لسان الروايات ليست بمعناها الاصطلاحي الذي هو مقابل الحرمة، فإنّه اصطلاح مستحدث، بل هي فيه بمعناها اللغوي الذي هو البغض في مقابل الحبّ، و من المعلوم أنّ الظاهر من المبغوضية هي الحرمة، و قد استعملت في الروايات بهذا المعنى كثيراً.

و ربّما يؤيّد ذلك بصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 65، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 65، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 681

..........

______________________________

المرآة، هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضّة؟

قال

نعم، إنّما يكره استعمال ما يشرب به.

قال: و سألته عن السرج و اللجام فيه الفضّة، أ يركب به؟

قال

إن كان مموّهاً لا يقدر على نزعه فلا بأس، و إلّا فلا يركب به.

«1» فإنّ ظاهر السؤال الأوّل، إنّما هو السؤال بكلمة «يصلح» عن الجواز في مقابل الحرمة، و محطّ النظر أنّه هل يكون جائزاً، أم محرّماً؟

و عليه فقوله (عليه السّلام) في الجواب

إنّما يكره ..

ظاهر في أنّ المراد بالكراهة ما يقابل يصلح فالمراد بها إنّما هو «لا يصلح» الذي يكون المراد منه هي الحرمة، فالكراهة في الرواية الواردة في المقام، قد استعملت في الحرمة بالقرينة المذكورة.

و يؤيّده أيضاً: أنّه لو كانت بمعناها الاصطلاحي،

لم يتمّ الحصر فيها؛ لثبوت الكراهة بهذا المعنى في غير استعمال ما يشرب به أيضاً.

و أمّا كلمة

لا ينبغي

فالظاهر أنّ المراد منها في موارد استعمالها هو عدم التيسّر، و من الظاهر أنّ عدم التيسّر في فعل المكلّف يرجع إلى عدم الجواز شرعاً، و إلّا فهو ميسور له و قد استعملت في الكتاب و السنّة بهذا المعنى، و استعمالها في الكراهة إذا ثبت كونه اصطلاحاً فهو اصطلاح مستحدث؛ لا ينبغي حمل الرواية عليه.

و بالجملة: فالظاهر أنّ مقتضى القاعدة أيضاً هي الحرمة. مع أنّها من الأحكام المتسالم عليها بين الأصحاب، بل بين علماء المسلمين إلّا من شذّ، كما عرفت.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 67، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 682

..........

______________________________

في مطلق استعمالها المقام الثاني: في أنّ متعلّق التحريم، هل هو خصوص الاستعمال في الأكل و الشرب، كما ربّما يظهر من الاقتصار عليهما في كلمات جمع من القدماء، أو أنّ متعلّقه مطلق الاستعمال، فيعمّ سائر الاستعمالات؛ من الوضوء و الغسل و تطهير النجاسات، و غيرها ممّا يعدّ استعمالًا للآنية، كما عن بعض دعوى الإجماع أو ما يشابهه عليه؟

و قد استدلّ على التعميم بروايات:

منها: رواية موسى بن بكر، عن أبي الحسن موسى (عليه السّلام) قال

آنية الذهب و الفضّة متاع الذين لا يوقنون.

«1» نظراً إلى أنّ «المتاع» بمعنى ما ينتفع به و يتمتّع، و منه متاع البيت، فالرواية تدلّ حينئذٍ على أنّ مطلق الانتفاع بآنيتهما، حرام على الموقنين، فتدلّ على حرمة استعمالهما مطلقاً؛ لأنّ استعمال الشي ء هو الانتفاع به.

و أُورد عليه مضافاً إلى ضعف سند الرواية بسهل بن زياد، و موسى بن بكر على طريق الكليني، و بالثاني على رواية «المحاسن»

بأنّ المتاع و إن كان بمعنى ما ينتفع به، إلّا أنّ الانتفاع في كلّ متاع بحسبه؛ فإنّ الانتفاع بالفرش إنما هو بفرشه، و في اللباس بلبسه و هكذا، و من الظاهر أنّ الانتفاع بآنيتهما، إنّما يكون بالأكل و الشرب فيهما؛ لأنّ الإناء إنّما أُعدّ لذلك، و عليه فلا دلالة للرواية على حرمة سائر الاستعمالات.

و يدفعه: أنّ موسى بن بكر باعتبار رواية صفوان بن يحيى عنه في بعض الموارد، لا تبعد وثاقته، و التحقيق في محلّه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 65، الحديث 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 683

..........

______________________________

و أمّا دعوى اختصاص الانتفاع بالآنية بالأكل و الشرب، فمدفوعة جدّاً؛ لظهور أنّ استعمالها في مثل التطهير انتفاع بها، خصوصاً لو كان الإناء معدّاً لمثله.

و بعبارة أُخرى: الإناء تارة: يكون معدّاً للأكل و الشرب، و اخرى: لغيرهما كالإبريق مثلًا، و من الواضح عدم صحّة دعوى أنّ الانتفاع من الثاني إنّما هو خصوص الأكل و الشرب، بعد عدم كونه معدّاً لذلك.

كما أنّه في الأوّل أيضاً لا تبعد دعوى منع الاختصاص؛ فإنّ الكأس المعدّ للأكل و الشرب إذا استعمل في التطهير مثلًا، هل لا يكون ذلك انتفاعاً به؟! من الواضح خلافه. فالإنصاف تمامية هذا الدليل.

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة في الطائفة الأولى، الظاهرة في تعلّق النهي بنفس آنية الذهب و الفضّة.

و صحيحة ابن بزيع المتقدّمة في الطائفة الثانية، الظاهرة في تعلّق الكراهة بها أيضاً. و غيرهما من الروايات الناهية الخالية عن التعرّض للأكل و الشرب.

فإنّ ظاهرها بعد عدم إمكان تعلّق النهي بالذوات، و كذا الكراهة التشريعية التي هي مفاد الرواية قطعاً؛ فإنّ تعلّقها بها لا معنى له أصلًا تعلّق النهي بكلّ ما

يتعلّق بهما من فعل المكلّف.

و بعبارة أُخرى: لا بدّ من التقدير في مثل هذه التعبيرات، و حيث إنّه لم يبيّن ما هو المقدّر، فاللازم أن يكون المقدّر عامّاً شاملًا لمطلق الاستعمالات.

ثمّ لا يخفى اختلاف متعلّق التحريم في الأكل و الشرب من الأواني المذكورة، و في غيرهما من سائر الاستعمالات؛ فإنّ المتعلّق فيهما هو الأكل، أو الشرب منها، أو فيها، لا تناول المأكول و المشروب، و لا نفس المأكول و المشروب. و أمّا المتعلّق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 684

..........

______________________________

في غيرهما فنفس الاستعمال المتعلّق بها.

توضيح ذلك: أنّه قد تقدّم وجود روايات متعدّدة دالّة على النهي عن الأكل في الآنيتين، أو الشرب فيهما، فعنوان الأكل و الشرب محرّم بمقتضى هذه الروايات، و لا يخالفها ما يوجب صرفها عن ظاهرها.

و عليه ففيما إذا أكل أو شرب من الآنيتين، يكون عنوان الأكل أو الشرب متعلّقاً للنهي، و أمّا تناول المأكول و المشروب منهما، ففيما إذا لم يترتّب عليه الأكل و الشرب، لا دليل على حرمته من جهة هذا العنوان.

نعم، بناء على حرمة مطلق الاستعمال يصير محرّماً؛ من جهة كونه من مصاديق الاستعمال. و أمّا إذا ترتّب عليه الأكل و الشرب، ففيه كلام يأتي التعرّض له إن شاء اللّه تعالى.

كما أنّ نفس المأكول و المشروب الموجودين في الإناء، لا دليل على حرمتها بعنوانها، فالماء الموجود في آنية الذهب مثلًا، لا يكون محرّماً شربه و إن نسب إلى المفيد (قدّس سرّه) و ظاهر أبي الصلاح و العلّامة الطباطبائي القول بحرمة المأكول و المشروب أيضاً، و يظهر من «الحدائق» الميل إليه، لكنّ المشهور عدم تعدّي الحرمة إلى المأكول و المشروب.

و قد رتّبوا على هذا النزاع: أنّه

لو أكل طعاماً مباحاً من آنية الذهب مثلًا في نهار شهر رمضان، لا يكون مفطراً على الحرام؛ حتّى يجب عليه كفّارة الجمع، كما إذا أفطر بالخمر أو الميتة و نحوهما، بل يكون نفس الإفطار بلحاظ كونه أكلًا من آنية الذهب حراماً، كما أنّه بلحاظ كونه إفطاراً من غير مجوّز أيضاً، يكون حراماً، لكنّ الملاك في وجوب كفّارة الجمع: أن يكون الإفطار بالحرام؛ بأن يكون المفطر محرّماً

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 685

..........

______________________________

في نفسه مع قطع النظر عن كونه مفطراً.

فعلى مسلك المشهور لا يكون المفطر محرّماً، فلا تجب كفّارة الجمع، و على مبنى غيرهم يكون كذلك فتجب.

هذا، و يمكن أن يقال: بعدم ترتّب هذه الثمرة على النزاع المذكور؛ لأنّ معنى تعلّق الحرمة بالمأكول و المشروب ليس تعلّقها بذواتهما، فإنّ الذوات لا يمكن تعلّق التكليف بها، بل معناها تعلّقها بالأكل و الشرب المتعلّق بها الذي هو فعل المكلّف.

و عليه فمرجع كون المأكول أو المشروب محرّماً، إلى كون الأكل أو الشرب كذلك، فإذا أكل طعاماً محرّماً في إحدى الآنيتين، يكون الأكل بعنوان كونه مضافاً إلى ذاك المأكول محرّماً، و بعنوان كونه في إحداهما أيضاً كذلك، و يستحقّ لأجله عقوبتين؛ لعدم المانع من اجتماع محرّمين هما: أكل الميتة مثلًا، و الأكل في آنية الذهب كذلك.

فإذا فرض أنّ معنى الإفطار بالحرام الذي هو الموضوع لثبوت كفّارة الجمع: أن يكون المفطر مع قطع النظر عن كونه مفطراً محرّماً، يتحقّق هذا المعنى في الأكل من إحدى الآنيتين و إن كان المأكول مباحاً؛ لأنّ الأكل منها مع قطع النظر عن كونه مفطراً، يكون محرّماً، فلا فرق بين القولين في لزوم كفّارة الجمع.

و قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ

مقتضى الروايات؛ كون الأكل أو الشرب من إحدى الآنيتين بعنوانهما محرّماً، فالتناول منها من دون تحقّق شي ء من العنوانين، لا يكون محرّماً بهذا العنوان. نعم حرمته إنّما هي لأجل كون استعمالها محرّماً، على ما عرفت.

و أمّا إذا كان التناول مقدّمة لشي ء منهما، فهل يتحقّق هنا محرّمان؛ أحدهما: التناول من باب كونه استعمالًا، و الآخر: الأكل أو الشرب بلحاظ تعلّق التحريم بالعنوانين، أو أنّه لا يتحقّق إلّا محرّم واحد و هو المحرّم الثاني؟

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 686

..........

______________________________

الذي يخطر بالبال في بادي النظر هو الأوّل؛ لتحقّق عنوانين محرّمين، و لا مانع من اجتماعهما في مورد واحد.

و لكن الظاهر هو الثاني؛ لأنّ المستفاد من الروايات الناهية عن الأكل أو الشرب: أنّه لا يتحقّق بشي ء منهما إلّا مخالفة تكليف واحد؛ و أنّ الآكل أو الشارب لا يكون مستحقّاً إلّا لعقوبة واحدة، خصوصاً بعد ملاحظة توقّف الأكل نوعاً على التناول، و كذا الشرب، كما لا يخفى.

فالمتفاهم عرفاً من هذه الروايات، ليس إلّا ثبوت تكليف واحد في مورد الأكل أو الشرب من إحدى الآنيتين، فالظاهر بمقتضى هذا التفاهم هو الثاني.

و أمّا في غير المأكول و المشروب، فالظاهر أنّ النهي إنّما تعلّق بعنوان الاستعمال على ما استظهرنا من النهي المتعلّق بعنوان الآنية فالاستعمال أي العمل المتعلّق بها، و الفعل الذي له إضافة إليها حرام، و أمّا ما هو خارج عن هذا العنوان فلا دليل على تحريمه، فإذا اغترف منها للوضوء يكون الاغتراف محرّماً، لا الوضوء؛ لأنّ الاغتراف استعمال للآنية، لا الوضوء المتحقّق عقيبه، و عليه فلا يكون الوضوء محرّماً، فلا يكون باطلًا.

نعم، قد تقدّم الكلام في فروع هذا الفرض في باب الوضوء، فراجع.

في مطلق الانتفاع

بهما المقام الثالث: في أنّه بعد عدم اختصاص الحرمة في باب الأواني بخصوص استعمالها في الأكل أو الشرب، بل عمومها لمطلق الاستعمال، يقع الكلام في دائرة متعلّق التّحريم؛ و أنّه هل هو أعمّ من الاستعمال أيضاً، بحيث يشمل مطلق الانتفاع و لو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 687

..........

______________________________

لم يعدّ استعمالًا، أو يختصّ بالاستعمال.

بل على التقدير الأوّل يمكن أن يقال: بأنّه أعمّ من الانتفاع أيضاً، فيشمل مثل الاقتناء و الحفظ عن الضياع أيضاً.

فنقول: قد عرفت أنّ الروايات الواردة في هذا الباب على طائفتين:

طائفة تدلّ على النهي عن عنواني الأكل و الشرب من إحدى الآنيتين.

و طائفة تدلّ على النهي عن نفسهما، و تعلّق الكراهة بهما.

أمّا الطائفة الأُولى، فقد تقدّم مفادها؛ و أنّه لا يتعدّى عن العنوانين، و لا دلالة لهما على حرمة غيرهما.

و أمّا الطائفة الثانية، فبعد لزوم التقدير فيها، و عدم كون المقدّر نفس وجود الآنيتين، يحتمل أن يكون المقدّر هو خصوص الأكل و الشرب؛ بحيث كان مرجعها إلى الطائفة الأُولى المصرّحة بالأكل أو الشرب.

و يحتمل أن يكون المقدّر هو مطلق الاستعمال، فكلّ ما يصدق عليه أنّه استعمال للآنية فهو حرام.

و من الواضح: أنّه بناءً على هذا الاحتمال، يكون المحرّم هو نفس الاستعمال بعنوانه، لا الأفعال المترتّبة عليه، كالأكل و الشرب و الوضوء و نحوها؛ لأنّ الأكل منها ليس استعمالًا لها، بل تناول المأكول منها يكون استعمالًا لها.

و يحتمل أن يكون المقدّر أعمّ من الاستعمال؛ و هو مطلق الانتفاع، سواء عدّ استعمالًا أم لا.

و يؤيّده الرواية المتقدّمة الدالّة على أنّ آنية الذهب و الفضّة، متاع الذين لا يوقنون؛ لأنّ المراد بالمتاع كما عرفت مطلق ما ينتفع و يتمتّع به.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 688

..........

______________________________

و يحتمل أن يكون المقدّر كلّ فعل له إضافة إلى الآنية و إن لم يعدّ انتفاعاً بها، فضلًا عن أن يكون استعمالًا لها، كالاقتناء بناءً على عدم كونه انتفاعاً.

هذا، و الظاهر أنّه لا مجال للاحتمال الأوّل؛ بعد عدم كون جميع الأواني معدّةً للأكل و الشرب، لأنّ جملة منها معدّة لغيرهما من الاستعمالات، و عدم كون النهي المتعلّق بالمعدّ منها لها ظاهراً في خصوص الأكل و الشرب، فهذا الاحتمال لا مجال له أصلًا.

و أمّا الاحتمال الثاني فلا دليل عليه؛ لعدم نهوض دليل على تعيّن خصوص الاستعمال، خصوصاً بعد وجود الرواية المذكورة التي عبّر فيها عنها بالمتاع و هو أعمّ من الاستعمال، و قد مرّ اعتبار هذه الرواية و حجّيتها.

كما أنّ الاحتمال الرابع لا يمكن تتميمه بدليل، و لا يكون التفاهم العرفي مساعداً عليه.

فالإنصاف: أنّ الاحتمال الثالث هو أظهر الاحتمالات، و لازمه حرمة وضعها على الرفوف أو غيرها للتزيين بها؛ فإنّ التزيين انتفاع بالآنية، كالتزيين بغيرها من النقوش و غيرها. و قد ذهب إلى هذا صاحب «الجواهر» (قدّس سرّه) و لا فرق في ذلك بين أن يكون التزيين بها في مثل البيوت، و بين أن يكون في المساجد و المشاهد.

كما أنّ لازم هذا الوجه، عدم حرمة مثل الاقتناء و الحفظ عن الضياع؛ لعدم كون ذلك انتفاعاً بالآنية، و لا دليل على حرمة مطلق الفعل المتعلّق بها و لو لم يكن انتفاعاً، و إلّا فيلزم حرمة النظر إليها أيضاً؛ لأنّه فعل متعلّق بها، خصوصاً إذا ترتّب عليه اللذّة و الفرح و الانبساط، و من الواضح عدم إمكان الالتزام بها.

ثمّ إنّه بناءً على ما ذكرنا: من عدم حرمة اقتناء الأواني

المذكورة يكون بيعها و شراؤها جائزاً؛ لاشتمالها على المنفعة المحلّلة المقصودة. و أمّا بناءً على حرمته

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 689

..........

______________________________

أيضاً، فالتحقيق في جواز المعاملة عليها و عدمه في محلّه.

في حكم بعض الانتفاعات المقام الرّابع: في بيان حكم بعض العناوين الأُخر.

فنقول:

منها: الملبّس بأحدهما من الصفر أو غيره، و الوجه فيه التفصيل، فإنّه إذا كان على وجه لو انفصل كان إناء مستقلّاً؛ بحيث كان من قبيل إناء في إناء، بحيث لو نزع الإناء الصفر مثلًا عمّا لبّس به بقي لباسه إناء مستقلّاً، فهذا حرام؛ لكونه حقيقة إناء ذهب أو فضّة.

و أمّا إذا لم يكن كذلك، كما إذا كان الذهب أو الفضّة قطعات منفصلات، لبّس بهما الإناء من الصفر داخلًا أو خارجاً، فلا إشكال في عدم الحرمة حينئذٍ؛ لعدم كون الإناء إناء ذهب أو فضّة، بل هو إناء صفر مشتمل على قطعة من أحدهما مثلًا، كما لا يخفى.

و منها: المفضّض و المطلّي و المموّه بأحد من الذهب و الفضّة، و المراد بالمفضّض إمّا ما كانت الفضّة فيه جرماً و مادّة، كما ربّما يدّعى انصرافه إليه، و إمّا ما هو أعمّ منه و ممّا كانت فيه الفضّة لوناً و عرضاً.

فعلى الأوّل: يغاير المطلّي و المموّه.

و على الثاني: يكون المطلّي و المموّه من مصاديق المفضّض.

كما أنّ الظاهر أنّ المراد بالمفضّض ما هو أعمّ من المذهّب، و التعبير به إنّما هو لأجل التبعية للرواية؛ لاشتمالها على هذا التعبير و سيأتي البحث فيه إن شاء اللّه تعالى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 690

..........

______________________________

و كيف كان: فقد ورد في المفضّض روايات:

منها: رواية الحلبي المتقدّمة عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام)

قال

لا تأكل في آنية من فضّة، و لا في آنية مفضّضة.

و منها: صحيحة معاوية بن وهب قال: سئل أبو عبد اللّه (عليه السّلام) عن الشرب في القدح فيه ضبّة من فضّة.

قال

لا بأس إلّا أن تكره الفضّة فينزعها.

«1» و منها: حسنة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال

لا بأس أن يشرب الرجل في القدح المفضّض، و اعزل فمك عن موضع الفضّة.

«2» فمقتضى الرواية الأُولى حرمة الأكل من الآنية المفضّضة، كالآنية من فضّة، و مقتضى الأخيرتين الجواز، و قاعدة الجمع تقتضي حمل النهي على الكراهة، و لا مانع من حمل النهي في رواية واحدة على الكراهة في جملة، و حفظ ظهورها في الحرمة في جملة أُخرى و لا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد؛ لأنّ ظهور النهي في الحرمة معلّق على عدم الترخيص في فعل المنهي عنه، و قد تحقّق الترخيص في المكروه، دون الجملة الأُخرى المحرّمة، فتدبّر.

ثمّ إنّ مقتضى رواية ابن سنان، وجوب عزل الفم عن موضع الفضّة، و قد افتى به المشهور.

و عن «المعتبر» و بعض الكتب الأُخر: الاستحباب؛ حملًا للأمر عليه بقرينة رواية ابن وهب، نظراً إلى أنّ ترك الاستفصال فيها مع قيام الاحتمال، يفيد العموم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 66، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 66، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 691

..........

______________________________

هذا، و لكن إفادة العموم لا تنافي التخصيص؛ فإنّ رواية ابن سنان صالحة للتخصيص، فالظاهر حينئذٍ ما أفاده المشهور من وجود عزل الفم عن موضع الفضّة.

و يؤيّده بعض الروايات الأُخر، مثل ما رواه الصدوق، بإسناده عن ثعلبة بن ميمون، عن بريد، عن أبي

عبد اللّه (عليه السّلام): أنّه كره الشرب في الفضّة، و في القدح المفضّض، و كذلك أن يدهن في مدهن مفضّض، و المشطة كذلك، فإن لم يجد بدّاً من الشرب في القدح المفضّض عدل بفمه عن موضع الفضّة. «1» و الظاهر أنّه ليس المراد من عدم وجدان البدّ هي الضرورة المبيحة للمحرّم، و إلّا لم يكن وجه للتعرّض للمفضّض فقط؛ فإنّ الضرورة بهذا المعنى مبيحة للفضّة أيضاً، بل المراد أنّه حيث يكون الشرب في القدح المفضّض مكروهاً لا محرّماً، و من الواضح أنّ العاقل لا يختار المفضّض المكروه مع وجود غيره و كونه باختياره، فإذا لم يكن باختياره فعلًا و إن كان يمكن تحصيله فاللازم أن يعدل بفمه عن موضع الفضّة.

بقي في هذه الجهة أمران: الأوّل: أنّ الظاهر اختصاص وجوب العزل بما إذا اشتمل الإناء على قطعة أو قطعات مشخّصة من الفضّة، و أمّا إذا كان مطلّياً بها؛ بأن كان ماء الفضّة الذي هو من قبيل الأعراض، و لا وجود له بالاستقلال، فلا يأتي فيه هذا الحكم؛ لأنّه ليس هناك فضّة يعزل فمه عن موضعها، و عليه فلا وجه للجزم بذلك؛ لكونه من أفراد المفضّض،

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 66، الحديث 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 692

..........

______________________________

كما عن «كشف الغطاء» و المنسوب إلى العلّامة، و لا للاحتياط فيه كما في «العروة» و ذلك لأنّ احتمال دخوله في المفضّض أو الجزم به، لا يقتضي جريان هذا الحكم فيه؛ بعد وضوح اختصاص موضوعه بما إذا كان موضع الفضّة مشخّصاً، كما لا يخفى.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران -

ايران، اول، 1419 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات؛ ص: 692

الثاني: أنّه هل الحكم بكراهة الأكل و الشرب في الإناء المفضّض، و وجوب عزل الفم عن موضع الفضّة، يجري في المذهّب أيضاً، أم لا؟ و الأوّل محكيّ عن صاحب «الحدائق».

و قد أُورد عليه: بأنّه لا يمكن المساعدة عليه؛ لعدم الدليل، بل القاعدة تقتضي الجواز و إن كان الذهب أعلى قيمة من الفضّة؛ لأنّه لا سبيل لنا إلى ملاكات الأحكام الشرعية. و لو كان الملاك غلاء القيمة لكان مثل الزبرجد و الألماس من الأحجار الكريمة التي هي أعلى قيمة من الفضّة، أولى بالكراهة و الوجوب.

نعم، في رواية الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن السرير فيه الذهب، أ يصلح إمساكه في البيت.

فقال

إن كان ذهباً فلا، و إن كان ماء الذهب فلا بأس.

«1» فإنّ السرير الذي فيه الذهب إذا لم يجز إمساكه في البيت، فالإناء الذي فيه الذهب بطريق أولى.

و يرد على هذا النحو من الاستدلال مضافاً إلى أنّه من الواضح عدم حرمة إمساك الإناء الذي فيه الذهب؛ لأنّ كراهة الأكل أو الشرب فيه محلّ كلام، فكيف يحتمل حرمة إمساكه؟! و إلى جريان المناقشة في الرواية سنداً و دلالة؛ لعدم

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 67، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 693

..........

______________________________

حرمة إمساك السرير الذي فيه الذهب بوجه أنّه على تقدير التسليم فاستفادة حكم المقام لا تنطبق إلّا على القياس، و دعوى الأولوية ممنوعة جدّاً، فتدبّر.

حكم الممتزج منهما و من العناوين الممتزج، و هو على قسمين:

الأوّل: الممتزج من الذهب و الفضّة معاً، بحيث يكون مركّباً منهما، و لا يكون

فيه شي ء غيرهما.

و قد ذكر في المتن: أنّه بحكم أحدهما و إن لم يصدق عليه اسم أحدهما.

و الوجه فيه فيما إذا صدق عليه اسم أحدهما: هو شمول الأدلّة اللفظية الواردة في الباب، و عمومها له؛ لأنّ المفروض صدق أحد الاسمين، و تحقّق واحد من العنوانين.

و أمّا إذا لم يصدق عليه اسم أحدهما، فالأدلّة اللفظيّة و إن كانت قاصرة عن الشمول؛ لعدم تحقّق عنوان موضوعها على ما هو المفروض، إلّا أنّ مقتضى الفهم العرفي و الارتكاز العقلائي في مثل المقام، هو جريان الحكم؛ فإنّ اختلاط أحد المحرّمين بالآخر و الامتزاج بينهما، لا يوجب سلب حكم التحريم، و تغيّر النهي عندهم بوجه، فهل يوجب الخلط بين الميتة و الدم مثلًا، زوالَ حكم الحرمة و ارتفاعها و إن لم يصدق على المخلوط شي ء من العنوانين، كما هو ظاهر؟! و دعوى: أنّه يحتمل أن يكون الخلوص معتبراً في موضوع الحكم، و هو غير حاصل في الممتزج منهما، مدفوعة بكون هذا الاحتمال غير معتنى به عند العقلاء، بعد ملاحظة الأدلّة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 694

..........

______________________________

الثاني: الممتزج منهما أو من أحدهما بغيرهما، كالصفر و النحاس مثلًا، ففيما إذا لم يتحقّق شي ء من العنوانين، و لم يصدق أحد الاسمين، لا مجال لثبوت الحكم بالحرمة؛ لدورانه مدار صدقهما على نحو الحقيقة، و لا يكفي التسامح و المجاز.

و أمّا مع تحقّق شي ء منهما، كما إذا كان الخليط قليلًا، فالظاهر ثبوت الحرمة، و لا دليل على اعتبار الخلوص و الخلوّ من الخليط، بل الملاك هو صدق اسم الموضوع، و المفروض تحقّقه.

في الذهب و الفضّة من غير الأواني بقي الكلام في حكم غير الأواني إذا كان من الذهب و الفضّة،

كاللوح و الحلّي و غلاف السيف و السكّين و القنديل و نقش الكتب و السقوف و الجدران بهما.

و في «الجواهر»: «لا أجد فيه أي في الجواز خلافاً» بل استظهر الوفاق عليه في بعض الكتب.

و يدلّ عليه مضافاً إلى الأصل بعد اختصاص الأخبار الناهية بالآنية، كما عرفت، و إلى عمومات الحلّ خصوص جملة من الروايات:

مثل صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه (عليهما السّلام) قال: سألته عن المرآة، هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضّة؟

قال

نعم، إنّما يكره استعمال ما يشرب به.

«1» و المستفاد منها مضافاً إلى الجواز في موردها، اختصاص الحكم بالكراهة أي

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 67، الحديث 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 695

..........

______________________________

الحرمة بالآنية المستعملة في الشرب، و مفهومها الجواز في غير الآنية مطلقاً.

و ما ورد في ذات الفضول؛ درع النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و أنّها كان لها حلق من فضّة ثلاث «1» أو أربع. «2» و ما ورد في ذي الفقار سيفه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أيضاً: من أنّه

نزل به جبرئيل من السماء، و كانت حلقته فضّة.

«3» و غير ذلك من الروايات الواردة في موارد خاصّة الدالّة على عدم المنع، فراجع.

نعم، ربّما يقال بحرمة غير الأواني منهما؛ نظراً إلى دلالة جملة من الأخبار عليها:

منها: خبر الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن السرير فيه الذهب، أ يصلح إمساكه في البيت؟

فقال

إن كان ذهباً فلا، و إن كان ماء الذهب فلا بأس.

«4» و أُورد على الاستدلال بها: أنّ إمساك الذهب لم يقم دليل على حرمته حتّى في الآنية؛ لأنّ المحرّم إنّما هو استعمالها

في خصوص الأكل و الشرب، أو مطلقاً، و أمّا الإمساك فلا دليل على حرمته.

و لكن الظاهر أنّ المراد من الإمساك في الرواية ليس مجرّد الاقتناء و التحفّظ عن الضياع، بل الإمساك بنحو يتحقّق فيه الاستعمال المناسب له؛ و هو النوم عليه، أو الاتّكاء كذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 67، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 67، الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 67، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 67، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 696

..........

______________________________

فالإنصاف: دلالة الرواية في نفسها على الحرمة؛ بعد كون المراد من الصلاح في السؤال هو الجواز، و نفيه في الجواب ظاهر في الحرمة.

و منها: ذيل صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة قال: و سألته عن السرج و اللجام فيه الفضّة، أ يركب به؟

قال

إن كان مموّهاً لا يقدر على نزعه فلا بأس، و إلّا فلا يركب به.

«1» و الظاهر أنّ هذا السؤال و الجواب، إن كان واقعاً بعد صدر الرواية بلا فصل، فمن المعلوم أنّ إلقاء الضابطة الكلّية في الصدر، دليل على عدم حرمة الركوب في الذيل، لأنّ مقتضى تلك الضابطة كون المحرّم خصوص استعمال ما يشرب به، فلا معنى لتحقّقه في غيره، فالصدر قرينة على عدم الحرمة في الذيل.

و إن لم يكن واقعاً بعده، بل كان كلاماً مستقلّاً مشتملًا على سؤال و جواب، و المقارنة بينه و بين الصدر قد وقعت في مقام النقل أو الكتابة، من دون أن يكون بينهما ارتباط، فالرواية ظاهرة في نفسها في الحرمة.

نعم، ربّما يمنع ذلك؛ نظراً إلى أنّ تعليق الحرمة على التمكّن من النزع، ظاهر في عدمها؛ فإنّه لو كانت الحرمة ثابتة كالحرمة

في الآنية، لما كانت تزول بعدم القدرة على النزع، فإنّه لا يوجب انتفاءها، بل يلزم التعويض، أو تعويض المركب أو غيرهما، و لم يفرض في الرواية الاضطرار إلى الركوب بهذه الكيفية.

ثمّ إنّه على تقدير الدلالة على الحرمة، فهي أخصّ من المدّعى؛ لأنّ مفادها الحرمة في السرج و اللجام فيه الفضّة، و لا دلالة لها على أزيد من ذلك.

و منها: صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بَزيع قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السّلام)

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 67، الحديث 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 697

..........

______________________________

عن آنية الذهب و الفضّة، فكرههما.

فقلت: قد روى بعض أصحابنا: أنّه كان لأبي الحسن (عليه السّلام) مرآة ملبّسة فضّة.

فقال

لا الحمد للّٰه

على نقل «الكافي» أو

لا و اللّه

على نقل «التهذيب»

إنّما كانت لها حلقة من فضّة، و هي عندي.

ثمّ قال

إنّ العباس حين عذر عمل له قضيب ملبّس من فضّة من نحو ما يعمله الصبيان، تكون فضّة نحواً من عشرة دراهم، فأمر به أبو الحسن (عليه السّلام) فكسر.

«1» فإنّه لو لا حرمة استعمال الذهب و الفضّة في غير الأواني أيضاً، لم يكن وجه لتشديده (عليه السّلام) في الإنكار.

و أُورد عليه: بأنّ استنكاره (عليه السّلام) إنّما هو لكذبهم في أخبارهم، كيف؟! فإنّ المرآة الملبّسة لا تناسب آحاد المؤمنين، فضلًا عن الإمام (عليه السّلام).

هذا، و الرواية لا تخلو من الاضطراب أيضاً؛ فإنّ ظاهرها أنّ السؤال الثاني، إنّما كان بصورة الاعتراض على كراهة الإمام (عليه السّلام) في مقام الجواب عن السؤال الأوّل، مع أنّه وارد في الآنية، و كراهة الآنية لا تستلزم كراهة المرآة الملبّسة؛ فإنّ المرآة لا تكون آنية بوجه كما سيأتي، فلا وقع للاعتراض، و بذلك

تصير الرواية مضطربة.

و منها: الرواية النبوية المروية في كتب العامّة الحاكية لقول النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بعد أن أخذ بيمينه حريراً، و بشماله ذهباً، و رفع بهما يديه

إنّ هذين حرام على ذكور أُمّتي

أو مع زيادة

حلّ لأناثهم.

و الجواب مضافاً إلى كونها غير ثابتة من طرقنا، و إلى عدم شمولها للفضّة

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 65، الحديث 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 698

..........

______________________________

التي هي أيضاً جزء المدّعى، و إلى عدم دلالتها على الحرمة في النساء، مع أنّ المدّعى أعمّ كما في الآنية أنّ اقتران الذهب بالحرير دليل على أنّ المراد لبسه، كلبس الحرير، و من المعلوم حرمة لبسه على الرجال كما ثبت في محله.

و يؤيّده: أنّ الرواية في بعض الكتب قد نقلت هكذا

حرام لباس الحرير و الذهب على ذكور أُمّتي، و أُحلّ لأناثهم

فقد صرّح فيه باللبس.

و قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ أكثر الروايات التي استدلّ بها على الحرمة، غير ناهضة لإثباتها، و ما عداها و إن كانت ظاهرة فيها و صالحة لإثباتها، إلّا أنّ دلالة الروايات المتقدّمة على عدم الحرمة خصوصاً صحيحة علي بن جعفر المشتملة على بيان الضابطة، و الظاهرة في الحصر على ما عرفت تصير قرينة على التصرّف في هذا الظهور بالحمل على الكراهة.

و أمّا سائر الوجوه المستدلّ بها على التحريم، فهي وجوه اعتبارية غير صالحة لإثبات التحريم في نفسها، و غير مقاومة للروايات المتقدّمة الدالّة على الجواز على تقدير الصلاحية، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 699

[مسألة 3: الظاهر أنّ المراد بالأواني ما يستعمل في الأكل و الشرب و الطبخ و الغسل و العجن]

مسألة 3: الظاهر أنّ المراد بالأواني ما يستعمل في الأكل و الشرب و الطبخ و

الغسل و العجن، مثل الكأس و الكوز و القصاع و القدور و الجفان و الأقداح و الطست و (السماور) و (القوري) و الفنجان، بل و كوز (القليان) و (النعلبكي) بل و الملعقة على الأحوط، فلا يشمل مثل رأس (القليان) و رأس الشطب، و غلاف السيف و الخنجر و السّكين و الصندوق، و ما يصنع بيتاً للتعويذ و (قاب) الساعة، و القنديل، و الخلخال و إن كان مجوّفاً، و في شمولها للهاون و المجامر و المباخر و ظروف الغالية و المعجون و (الترياك) و نحو ذلك، تردّد و إشكال، فلا يترك الاحتياط. (1)

______________________________

(1) في معنى الآنية قد عرفت وقوع لفظ الآناء أو الآنية التي هي جمع الإناء في موضوع الحكم بحرمة الأكل، أو الشرب، أو مطلق الاستعمال، فاللازم تحقيق معناه.

و لكن لا سبيل إليه؛ لعدم استعماله في عرف اليوم، و لا يعلم مرادفه في سائر اللغات، و المراجعة إلى اللغة غير مجدية؛ لعدم حجّية قول اللغوي أوّلًا؛ لعدم كونه من أهل الخبرة و التشخيص في تمييز المعنى الحقيقي عن غيره، بل شأنه تتبّع موارد الاستعمال و بيانها.

و عدم الفائدة في المراجعة إليها على تقدير الحجّية ثانياً؛ للاختلاف الواقع بين من تصدّى لتعريفه من دون أن يهمله، أو يكتفي بأنّه معروف:

ففي «المصباح»: «أنّه الوعاء».

و في «المفردات»: «أنّه ما يوضع فيه الشي ء».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 700

..........

______________________________

و في محكيّ «مرآة الأنوار و مبادى اللغة»: «أنّه الظرف».

و في «المقاييس»: «أنّه ظرف من الظروف».

هذا مضافاً إلى وضوح كون مثل التفسير بالوعاء تفسيراً بالأعمّ؛ لعدم صدق الإناء على مثل الصندوق و القربة و نحوهما، و صدق الوعاء عليه قطعاً.

و قد استعمل الوعاء في كلام المؤسّس

للأدبية؛ مولى الموحّدين أمير المؤمنين، عليه أفضل صلوات المصلّين، في قوله (عليه السّلام)

يا كميل بن زياد، إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها.

فإنّ هذا الاستعمال و إن كان على سبيل المسامحة و العناية ظاهراً، إلّا أنّه لا يجوز استعمال الإناء مكان الوعاء بهذه الملاحظة أيضاً، فيشكل الأمر بعد ذلك. و الرجوع إلى الارتكاز إنّما يفيد بالإضافة إلى بعض حدود المعنى لإتمامه؛ بحيث يتبيّن الخارج من الداخل، و ليس في الروايات المتقدّمة ما يستفاد منه معنى الآنية.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ صحيحة ابن بزيع المتقدّمة، لها دلالة على بيان معناها في الجملة، حيث إنّه بعد السؤال عن آنية الذهب و الفضّة، و بيان كراهة الإمام (عليه السّلام) إيّاهما كأنّه اعترض عليه (عليه السّلام): بأنّه قد روى بعض أصحابنا: أنّه كان لأبيك أبي الحسن (عليه السّلام) مرآة ملبّسة فضّة.

و نحن و إن جعلنا اشتمال الرواية على هذا الاعتراض دليلًا على اضطرابها؛ لعدم كون المرآة آنية، إلّا أنّه يمكن أن يقال: بأنّ نفس هذا الاعتراض دليل على كون الإناء له معنى وسيع؛ يشمل المرآة أيضاً، و أنّ استنكاره (عليه السّلام) إنّما هو لأجل ذلك، لا لمجرّد الكذب في الرواية، كما عرفت في الإيراد على الاستدلال بها لحرمة الذهب و الفضّة من غير الأواني أيضاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 701

..........

______________________________

نعم، في مقابلها صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة المشتملة على قوله (عليه السّلام)

نعم، و إنّما يكره استعمال ما يشرب به

فإنّها باعتبار الدلالة على الحصر أوّلًا، و استعمال

ما يشرب به

مكان الآنية ثانياً، ظاهرة في أنّ المراد بالإناء الواقع في سائر الروايات، المحكوم بحرمة الاستعمال التي قد عرفت: أنّها المراد من الكراهة في الرواية هو ما

يشرب به، ففي الحقيقة تكون الرواية مفسّرة للإناء الواقع في غيرها من الروايات، بضميمة وضوح عدم كون المراد من الشرب هو الشرب حتّى في مقابل الأكل أيضاً، بل المراد به هو الأعمّ من الأكل.

كما أنّ التعبير بكلمة

به

مكان فيه أو منه يشعر بل يدلّ على عدم كون المراد هو الشرب فيه أو منه بلا واسطة؛ حتّى لا يشمل مثل القدر و الصيني و السماور الذي لا يتعارف الأكل و الشرب منه بلا واسطة؛ فإنّ مثله يصدق عليه أنّه يشرب به، فتدبّر.

و بالجملة: هذه الصحيحة ترشدنا إلى معنى الإناء المأخوذ في غيرها، بعد التصريح بعدم كون المرآة التي لها حلقة فضّة ممّا لا يصلح إمساكها، و تدلّ على عدم كون المرآة منه، و أنّ المراد منه ما يصلح لأن يؤكل أو يشرب به من دون واسطة، أو معها، فتدلّ على وجود الاضطراب في الرواية السابقة؛ و أنّ ما احتملنا في مقام الاستفادة منها غير تامّ.

و لعلّه إلى ذلك ينظر «المقاييس» حيث فسّره. «بأنّه ظرف من الظروف» بناءً على كون مراده منه هو ظرف خاصّ من بين الظروف، و الخصوصية إنّما هي صلاحية لأن يؤكل أو يشرب به.

ثمّ إنّ مقتضى ما ذكر، كون جميع المذكورات في المتن أعمّ ممّا كان بنحو

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 702

..........

______________________________

الجزم و الفتوى، و ممّا كان بنحو الاحتياط داخلًا في الآنية؛ لكونها صالحة لأن يؤكل أو يشرب به.

نعم، في خصوص كوز (القليان) يشكل الأمر؛ فإنّه و إن كان صالحاً لأن يشرب به مثل الماء، إلّا أنّ الظاهر خروجه؛ لكون المراد من الصلاحية هي المعدّية لذلك، و لا يكون كوز (القليان) معدّاً لذلك بلا إشكال، إلّا

في بعض البلاد، حيث يكون كوز (القليان) هو بعينه كوز الماء من دون فرق، و عليه فيكون دخوله لأجله، لا لأجل كونه كوز (القليان).

كما أنّه ظهر ممّا ذكرنا، دخول مثل حلقات الذهب و الفضّة التي يتعارف وضع (الاستكان) فيها في بعض البلاد مكان (النعلبكي) و كذا صحائف الذهب أو الفضّة التي يؤكل فيها الطعام؛ لصدق كون الاولى ممّا يشرب به، و الثانية ممّا يؤكل به، كما لا يخفى.

كما أنّه ظهر عدم كون ما حكم بخروجه عن الآنية في المتن منها، كرأس (القليان) و رأس الشطب، و غيرهما ممّا هو مذكور في المتن.

و قد ورد في بعضها النصّ على الجواز، كالتعويذ على الحائض، حيث روى منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض.

فقال

نعم، إذا كان في جلد أو فضّة أو قصبة حديد.

«1» و إن كان الجواز لا دلالة له على عدم كونه من الآنية؛ لاحتمال كونه منها، و قد وقع مستثنى من الحكم بعدم جواز الاستعمال، و قد قرّر في محلّه: أنّه في مورد دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص، لا ترجيح للثاني إذا كان الحكم معلوماً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، الباب 67، الحديث 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 703

..........

______________________________

و أمّا ما تردّد فيه في المتن، و استشكل فيرد عليه مضافاً إلى أنّ مقتضى الضابطة المذكورة المستفادة من صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة، عدم كونه من مصاديق الإناء؛ لعدم كونه ممّا يؤكل أو يشرب به أنّه مع التردّد و الإشكال لا وجه للزوم الاحتياط؛ لأنّ مقتضى القاعدة فيما إذا كان مفهوم موضوع الحكم مجملًا مردّداً بين الأقلّ و الأكثر، هو الاقتصار

على القدر المتيقّن، و الرجوع في الزائد المشكوك فيه إلى البراءة؛ لكونه شبهة حكمية تحريمية، و هي مجرى أصالة البراءة، و من المعلوم أنّ القدر المتيقّن من مفهوم الإناء هي الظروف المعدّة للأكل أو الشرب، كما عرفت.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 704

[مسألة 4: كما يحرم الأكل و الشرب من آنية الذهب و الفضّة]

مسألة 4: كما يحرم الأكل و الشرب من آنية الذهب و الفضّة؛ بوضعها على فمه، و أخذ اللقمة منها مثلًا، كذلك يحرم تفريغ ما فيها في إناء آخر بقصد الأكل و الشرب.

نعم، لو كان التفريغ في إناء آخر بقصد التخلّص من الحرام، لا بأس به، بل و لا يحرم الأكل و الشرب من ذلك الإناء بعد ذلك.

بل لا يبعد أن يكون المحرّم في الصورة الأُولى أيضاً، نفس التفريغ في الآخر بذلك القصد، دون الأكل و الشرب منه، فلو كان الصابّ منها في إناء آخر بقصد أكل الآخر أو شربه، كان الصابّ مرتكباً للحرام بصبّه، دون الآكل و الشارب.

نعم، لو كان الصبّ بأمره و استدعائه، لا يبعد أن يكون كلاهما مرتكباً للحرام: المأمور باستعمال الآنية، و الآمر بالأمر بالمنكر؛ بناءً على حرمته كما لا تبعد. (1)

______________________________

في التفريغ في إناء آخر

(1) في هذه المسألة فرعان:

ما إذا كان بقصد الأكل و الشرب الأوّل: ما إذا فرّغ ما في الإناء من الذّهب أو الفضّة في ظرف آخر؛ لأجل الأكل و الشرب و بقصده. و لا إشكال في ثبوت الحكم بالحرمة هنا إنّما الإشكال في متعلّقها؛ و أنّه هل هو نفس التفريغ بذلك القصد، أو الأكل و الشرب الذي هو الغاية من التفريغ، أو كلاهما؟ فيه وجوه و احتمالات:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 705

..........

______________________________

من أنّه حيث

لم يتحقّق هنا الأكل و الشرب من أحدهما؛ لأنّ المفروض تحقّقه من إناء آخر، فلا مجال لحرمته، بل المحرّم هو استعمال أحدهما المتحقّق بالتفريغ؛ ضرورة أنّه من مصاديق الاستعمال.

و بعبارة أُخرى: قد عرفت أنّ متعلّق الحرمة في آنية الذهب و الفضّة عنوانان، أحدهما: الأكل و الشرب منها و ثانيهما: استعمالها، و الأوّل غير متحقّق، فيلزم أن يكون المحرّم هو الثاني، و قد نفى البعد عن هذا الوجه في المتن بعد اختياره ظاهراً الوجه الآتي.

و من أنّه قد عرفت: أنّ الأكل و الشرب المحرّم في الإناء من أحدهما، لا يلزم أن يكون من دون واسطة، بل يتحقّق مع ثبوتها أيضاً، و لذا كان الأكل من القدور من أحدهما و الشرب من (السماور) كذلك محرّمين، مع أنّ الغالب فيهما هو الأكل منهما مع الواسطة، و لم تجرِ العادة على الأكل من نفس القدور و الشرب من نفس (السماور).

مضافاً إلى أنّ المتعارف في الأكل؛ هو أخذ اللقمة، و وضعها في الفم، فالطعام يقع أوّلًا في اليد، و ثانياً في الفم، فتحريم الأكل من إناء أحدهما مع ثبوت هذا التعارف، و جريان العادة لا محالة يرجع إلى كون الأكل محرّماً و لو مع الواسطة، فإذا فرّغ ما في إناء أحدهما في ظرف آخر بقصد الأكل و الشرب، يتحقّق الأكل و الشرب من الإناء الأوّل مع الواسطة.

و دعوى: ثبوت الفرق بين وساطة مثل اليد أو مثل الكأس؛ فيما إذا فرّغ ما في القدر من أحدهما فيه، و بين وساطة إناء آخر مع كونه في عرض الإناء الأوّل لا في طوله. و بعبارة أُخرى: فرق بين ما إذا كانت الواسطة متعارفة، و جرت العادة بثبوتها،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 706

..........

______________________________

و بين ما إذا لم تكن كذلك، كما في المفروض في المقام.

مندفعة: بعدم وضوح الفرق بعد صدق الأكل أو الشرب منه و استعماله فيه، خصوصاً مع ملاحظة التعبير الوارد في صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة بقوله (عليهم السّلام)

إنّما يكره استعمال ما يشرب به

فإنّ صدق استعمال ما يشرب به في هذا الفرض ظاهر و لو كان المراد من الاستعمال هو خصوص الاستعمال في مقام الشرب، لا مطلقاً.

و من أنّه لا مانع من اجتماع المحرّمين؛ لثبوت كلا العنوانين أحدهما: الاستعمال المتحقّق بالتفريغ، ثانيهما: الأكل أو الشرب الصادق في المقام كما عرفت.

و هذا من دون فرق بين أن نقول: بحرمة التناول من باب الاستعمال أيضاً؛ فيما إذا أكل أو شرب من نفس إناء أحدهما، و بين أن لم نقل بذلك:

أمّا على الفرض الأوّل: فواضح؛ ضرورة أنّه لو كان الحكمان ثابتين مع عدم التفريغ، فمعه يكون ثبوتهما بطريق أولى؛ لأنّ صدق الاستعمال على التفريغ أوضح من صدقه على التناول.

و أمّا على الفرض الثاني: فلأنّه قد عرفت أنّ المستفاد من الروايات حسب ما هو المتفاهم عند العرف منها عدم ثبوت محرّمين في صورة التناول، و أمّا هنا فلا مانع من ثبوتهما بعد تحقّق عملين مستقلّين: هما التفريغ، و الأكل و الشرب.

و الظاهر هو الاحتمال الأوّل؛ لعدم صدق الأكل و الشرب من إناء أحدهما في المقام؛ لما عرفت من كون الواسطة في عرض ذيها، لا في طولها. و صحيحة علي بن جعفر إن أُريد بالاستعمال فيها هو الاستعمال في مقام الشرب، يلزم عدم كون الاستعمال في غير هذا المقام محرّماً، مع أنّك عرفت حرمته، فاللازم أن يكون المراد مطلق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل

الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 707

..........

______________________________

الاستعمال، و هو متحقّق بالتفريغ؛ لأنّه استعمال ما يشرب به، فالظاهر حينئذٍ هو كون التفريغ محرّماً، لا الأكلِ أو الشرب من الإناء الآخر بعده، و لا كليهما.

و تظهر الثمرة فيما لو كان الصابّ و المفرّغ غير الآكل و الشارب، فإنّه على تقدير كون الصبّ و التفريغ محرّماً فقط، يكون الصابّ مرتكباً للحرام، دون الآكل أو الشارب، إلّا إذا كان الآكل أو الشارب آمراً بالصبّ و التفريغ، فإنّه أيضاً يصير مرتكباً للحرام، لا لأجل الأكل أو الشرب، بل لأجل الأمر بالمنكر؛ بناءً على كون الأمر بالمنكر محرّماً، كما أنّ النهي عنه واجب.

و على تقدير كون الأكل أو الشرب محرّماً، يكون كلاهما مرتكبين للمحرّم: الصابّ باعتبار الاستعمال، و الآكل مثلًا باعتبار الأكل.

و يمكن أن يكون حرمة ارتكاب الصابّ باعتبار الإعانة على الإثم، فيما لو كان قصده تحقّق الأكل أو الشرب، كما هو المفروض.

و على أيّ: فالصبّ حرام؛ إمّا باعتبار الإعانة و و إمّا باعتبار كون نفسه استعمالًا محرّماً، و لا مانع من اجتماع العنوانين، و تحقّق محرّمين أصلًا، فالقضية منفصلة مانعة الخلوّ، لا مانعة الجمع.

كما أنّه بناء على الاحتمال الثالث أيضاً، يكون كلّ واحد منهما مرتكباً للحرام؛ لكون كلّ من الاستعمال و التفريغ و كذا الأكل أو الشرب، محرّماً على هذا التقدير.

ثمّ إنّه ذكر بعض العلماء: أنّه إذا أمر شخص خادمه، فصبّ (الچاي) من (القورى) من الذهب و الفضّة في الفنجان (الفرفوري) و أعطاه شخصاً آخر فشرب، فكما أنّ الخادم و الآمر عاصيان، كذلك لا يبعد أن يكون الشارب عاصياً؛ لأنّ هذا يعدّ منه استعمالًا لهما.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 708

..........

______________________________

و أُورد عليه: بأنّ عصيان الشارب بعيد؛ لعدم

شمول الأخبار الواردة في المقام له، لأنّ ما دلّ منها على النهي عن الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضّة، لا تشمل الشارب بعد كون شربه (الچاي) من الفنجان، لا من (القوري) فهل يصدق على من أكل في (المشقاب): أنّه أكل من القدر.

و ما دلّ منها على النهي عن أوانيهما؛ و أنّهما مكروهتان، لا تشمل أيضاً الشارب؛ لأنّ المقدّر إمّا خصوص الأكل و الشرب، أو مطلق الاستعمال، و لا يتحقّق شي ء منهما بالإضافة إلى الشارب؛ لعدم شربه من (القوري) و عدم استعماله له، و عدم كون الاستعمال واقعاً بأمره و استدعائه، فلا وجه لعصيانه.

فيما إذا كان بقصد التخلّص من الحرام الفرع الثاني: ما إذا فرّغ ما في إناء أحدهما في ظرف آخر بقصد التخلّص من الحرام. و قد نفى عنه البأس في المتن، بل و عن الأكل أو الشرب من ذلك الإناء بعد ذلك.

و الوجه فيه: أنّ ذلك يوجب عدم تحقّق الاستعمال لإناء أحدهما بوجه.

و توضيحه: أنّ المفروض في هذا الفرع مشتمل على خصوصيتين:

الخصوصية الاولى: أنّ الإناء الذي فرّغ فيه لا يكون مثل (القوري) بالإضافة إلى (السماور) أو الفنجان بالإضافة إلى (القوري) ممّا يتعارف التفريغ فيه مقدّمة للأكل أو الشرب.

و بعبارة أُخرى: لا يكون الإناء الآخر من الغايات المقصودة لإناء أحدهما، كما إذا أفرغ ما في القدر من أحدهما إلى قدر آخر لا يكون منهما.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 709

..........

______________________________

و الخصوصية الثانية: كون الغرض من هذا الإفراغ و الداعي له قصد التخلّص من الحرام، و عدم الابتلاء به من جهة الأكل، أو الشرب، أو الاستعمال.

و من الظاهر أنّه مع وجود هاتين الخصوصيتين، لا يتحقّق العنوان المحرّم بوجه:

أمّا عنوان

الأكل أو الشرب فواضح؛ لأنّه قد تحقّق بالإضافة إلى الإناء الآخر الذي لا يكون من أحدهما.

و أمّا عنوان الاستعمال فلأنّ الإفراغ المقرون بقصد التخلّص، لا ينطبق عليه الاستعمال بنظر العرف؛ لأنّه في الحقيقة إعراض عن الإناء الأوّل المحرّم بداعي التخلّص عنه. فالوجه في عدم البأس عدم تحقّق شي ء من العنوانين المحرّمين.

و ممّا ذكرنا ظهر مدخلية كلتا الخصوصيتين في الحكم بعدم البأس، و أنّه مع انتفاء إحداهما ينتفي الحكم؛ لأنّه مع كون الإناء الآخر من الغايات المقصودة لوجود الإناء الأوّل كالمثالين المذكورين لا ينتفي عنوان الأكل أو الشرب و لو كان مقروناً بقصد التخلّص عن الحرام، كما أنّه مع انتفاء قصد التخلّص، لا خفاء في صدق الاستعمال و إن لم يتحقّق عنوان الأكل أو الشرب.

كما أنّه ظهر مع وجود كلتيهما كما أنّه لا يكون الإفراغ و التفريغ محرّماً، كذلك لا يكون الأكل أو الشرب من الإناء الآخر أيضاً كذلك؛ لأنّه أكل أو شرب من غير آنية الذهب و الفضّة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 710

[مسألة 5: الظاهر أنّ الوضوء من آنية الذهب و الفضّة كالوضوء من الآنية المغصوبة]

مسألة 5: الظاهر أنّ الوضوء من آنية الذهب و الفضّة كالوضوء من الآنية المغصوبة؛ يبطل إن كان بنحو الرمس، و كذا بنحو الاغتراف مع الانحصار، و يصحّ مع عدمه، كما تقدّم. (1)

______________________________

(1) في الوضوء من آنية الذهب و الفضّة لا إشكال في أنّ حكم الوضوء من آنية الذهب و الفضّة، هو حكم الوضوء من الآنية المغصوبة؛ لأنّه لا فرق بين الآنيتين من جهة حرمة التصرّف و الاستعمال، و عليه فيجري فيه الفروض الأربعة الجارية هناك، و قد تقدّم البحث فيها مفصّلًا في المسألة الاولى من مسائل شرائط الوضوء، و لا حاجة معه إلى الإعادة، فراجع.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 711

..........

______________________________

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بشرح المطهّرات من كتاب «تحرير الوسيلة» للإمام الخميني مدّ ظلّه العالي، و قد وقع الفراغ منه في اليوم الثامن عشر من شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة 1398 من الهجرة النبوية، على مهاجرها آلاف الثناء و التحية، بيد العبد المفتاق إلى رحمة ربّه الغني؛ محمّد الموحّدي الفاضل اللنكراني، ابن العلّامة الفقيه المهاجر إلى اللّه و رسوله المرحوم آية اللّه الفاضل اللنكراني، حشره اللّه مع أوليائه الكرام، صلوات اللّه عليهم أجمعين.

هذا مع تشويش البال، و عدم استقامة الحال، و المصائب المهمّة الاجتماعية التي ابتلي بها الشعب المسلم الإيراني؛ من ناحية الحكومة الجائرة الإيرانية، التي هي من عملاء الاستعمار و الصهيونية. و قد بذلت جميع المخازن و المنابع التي أعطاها اللّه الشعبَ لمن هي عميلة من ناحيته، و لم تأخذ في مقابلها إلّا بعض الأدوات الحربية و الأسلحة المهلكة التي أعدّتها لهضم الشعب، و قتل النفوس المحترمة من الرجال و النساء، حتّى الأطفال.

و لم يمضِ من الحوادث التي أنتجت قتل آلاف من النفوس، إلّا شهران أو أقلّ، حتّى وقعت هذه الحوادث في أكثر بلاد إيران؛ شرقيها، و غربيها؛ بحيث لم يوجد بلد لم يتحقّق فيه قتل إلّا نادراً.

و من أهمّها: الحادثة الواقعة في مسجد جامع بلد كرمان، حيث هجموا على عموم الطبقات الذين اجتمعوا فيه لإقامة عزاء الشهداء المقتولين في طهران بمناسبة أربعينهم، و كان الخطيب مشتغلًا بالخطابة، و قتلوا فيه نفوساً كثيرة بالخشب و الحديد، و أوقدوا فيه النار، حتّى لم يبقَ من فرشه شي ء، بل و أحرقوا الكتب الموجودة؛ حتّى المصحف الشريف، و هتكوا حرمة النساء، و ضربوا الأطفال، و

أحرقوا جميع الوسائل النقلية، و المراكب المجتمعة في فناء المسجد، ثمّ نهبوا الأموال الموجودة في الدكاكين، و أحرقوا قسماً منها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، ص: 712

..........

______________________________

فهل يظنّ بمثل هذه الحكومة أن تكون إسلامية؟! و هل يحتمل إلّا أن يكون هدفها هدم الإسلام و القرآن و القوانين المقدّسة الإسلامية؟! و قد هيّئ مقدّمات و وسائل لإخراج العلّامة الأُستاذ الماتن الإمام الخميني أدام اللّه ظلاله من النجف الأشرف، و من جوار قبر جدّه مولى الموحّدين عليه الصلاة و السلام، حتّى اضطرّ إلى الإقامة الموقّتة في بلدة «باريس» عاصمة المملكة فرنسية، و الآن هو مقيم فيها؛ و ذلك لأجل كونه إماماً للنهضة، و قائداً للجهاد.

و لكن نشكر اللّه على أنّ الشعب بأجمعهم من الصغير و الكبير و حتّى الأطفال الذين لم يبلغوا إلّا سنين قليلة لا يمتنعون من بذل أموالهم و نفوسهم و جميع شئونهم في تقويته، و ترويج مرامه، و تحكيم نهضته، و ينادون بذلك بأعلى صوتهم، و في كلّ ليل و نهار يقع بينهم و بين المأمورين من قبل الحكومة تنازع و تخاصم، و مع ذلك لا يرفعون اليد عن مرامهم، بل يزيد كلّ يوم في اعتقادهم.

فمن اللّه نسأل أن يوفّقهم في هذه المسيرة التي مضت منها مراحل، و بلغت إلى المرتبة الحسّاسة، و الموقعية الخاصّة، بحقّ مولانا و صاحبنا صاحب العصر و الزمان، عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، بحقّه و بحقّ آبائه الطاهرين، عليه و عليهم الصلوات أجمعين.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - غسل الجنابة،التيمم،المطهرات، در يك جلد، مؤسسه عروج، تهران - ايران، اول، 1419 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.