الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه ، مع الركب الحسينى

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

الجزء الأول

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة (الجز الاول)

اشارة

الامام الحسين (ع) في المدينة المنوره

المقالة الاولى: حركة النفاق ... قراءة في الهويّة والنتائج ..... ص : 35

اشارة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 36

(ما لم نعرف ولو على سبيل الاجمال ما صنعته حركة النفاق في حياة الاسلام والامّة الاسلاميّة طوال نصف قرن أي منذ رحلة النبىٍّ الاكرم محمّد (ص) حتّى أواخر سنة ستّين للهجرة لايكون بإمكاننا أن نعرف أدنى ما يمكن معرفته من عظمة عاشوراء، ولا أن نفقه معنى الفتح في قيام الامام الحسين (ع). ولذا كان لابدّ من هذه القراءة ...).

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 37

المقالة الاولى: حركة النّفاق ... قراءة في الهويّة والنتائج

التعريف: ..... ص : 37

النفاق: هو استظهار الايمان واستبطان الكفر والتستّر عليه. فالمنافق: هو الانسان الذي يستبطن الكفر ويستره ويستظهر الايمان، وهو مصطلح إسلامي لم تعرفه العرب قبل الاسلام بالمعنى المخصوص به، وإ ن كان اءصله في اللغة معروفا. «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 38

المشهور الخاطي عن البداية والنهاية: ..... ص : 38

اءمّا متى بداءت حركة النفاق الدخول في (الوسط الاسلامي)؟ وهل كانت ثمّة نهاية لهذه الحركة في تأريخ حياة المسلمين!؟

هناك نظرة مشهورة تقول: إنّ حركة النفاق بداءت بدخول الرسول الاكرم (ص) المدينة المنوّرة حين هاجر إليها، حيث أسّس الدولة الاسلاميّة، كما تقول هذه النظرة: إنّ هذا الحركة استمرّت إلى قرب وفاة النبىٍّ (ص)!

لقد اعتمدت هذه النظرة عامل (الخوف) من شوكة الاسلام والمسلمين وسطوتهم فقط كدافع يدفع (الكافر حقيقة) إلى أن ينافق، فيستظهر الايمان بدخوله الاسلام ويستبطن الكفر، وهذا الحصر يؤدّي بالضرورة إلى القول بأنّ النفاق لايكون في الوسط الاسلامي إلّا حيث تكون للا سلام شوكة وحاكميّة وغلبة وقهر.

غير أنّ التأمّل يسيرا يكشف عن أنّ هناك دافعا قويّا آخر للنفاق هو (الطمع)، فالطمع ب (مستقبل الاسلام) مثلا لم يكن وليد المدينة المنوّرة، بل كان مع الاسلام منذ أوّل أيّامه في مكّة المكرّمة، إذ كان في العرب رجال أهل خبرة ومعرفة بحقائق السنن الاجتماعيّة، وسنن الصراع، وقراءة المستقبل، فكانوا يعرفون أنّ دعوة هذا النبىٍّ (ص) المستضعف في مكّة آنئذٍ هي التي ستنتصر، وأنّ كلمة هذا النبىٍّ (ص) ستكون هي الكلمة العليا.

ولايجد المتتبع في وقائع تأريخ الدعوة الاسلاميّة والسيرة النبويّة صعوبة في العثور على مصاديق لهذه الحقيقة ... لقد عبّر عن ذلك رجل من بني عامر بن صعصعة بقوله:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 39

(واللّه لو أنّني أخذت هذا الفتى من قريش لا كلت به العرب). «1»

ثمّ قال للنبىٍّ (ص): (أرأيت إن نحن

بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك أيكون لنا الامر من بعدك؟)

قال: (الامر للّه يضعه حيث يشاء.)

قال: فقال له: (أفتهدف نحورنا للعرب دونك فإ ذا أظهرك اللّه كان الامر لغيرنا!؟ لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه). «2»

وكما كان في العرب أذكياء توسّموا منذ البدء أنّ هذا الدين سيكون له شأن عظيم في المستقبل، كذلك كان هناك في العرب رجال لهم علاقات وطيدة باليهود والنصارى الذين كانوا يتوارثون أخبار الملاحم والفتن وأنباء المستقبل، ويخبرون الناس أنّ عصرهم آنئذٍ عصر ظهور النبىٍّ الخاتم (ص)، بل كانوا يعرفون النبىّ (ص) بصفاته البدنيّة والمعنويّة معرفة يقينيّة (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) «3»، وكانوا يحدّثون الناس بأنّه هوالرسول الخاتم الفاتح (ص).

فلمّا آن أوان ظهوره أخبروا بعض العرب بذلك، وأكّدوا لهم أنّ المستقبل لهذا النبىٍّ (ص) ولدعوته الجديدة!

لقد كان النظر إلى مستقبل هذا الدين دافعا قويّا إلى الانضوأ تحت رايته والانتماء إليه، وكان أكثر العرب في قضايا العقائد ومستقبل الاحداث يعتمدون رأي أهل الكتاب.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 40

لقد استدلّ بعض أفراد قبيلة كندة مثلا على صدق دعوة الرسول (ص) بأنّ أهل الكتاب قد قالوا: إنّه سوف يظهر نبيّ من الحرم قد أظلّ زمانه. «1»

ويذهب وفد قبيلة بني عبس إلى يهود فدك يساءلونهم عن رسول اللّه (ص) بعد أن عرض دعوته عليهم. «2»

وفي رواية أن أبابكر كان في تجارة له بالشام، فأخبره راهب بوقت خروج النبىٍّ (ص) من مكّة، وأمره باتّباعه، فلمّا رجع سمع رسول اللّه (ص) يدعو إلى اللّه فجاء فأسلم. «3»

وأمّا عثمان بن عفّان فيقول: إنّه سمع عند مداخل الشام من كاهنة أنّ أحمد (ص) قد خرج، ثمّ انصرف فرجع إلى مكّة فوجد رسول اللّه (ص) قد

خرج بمكّة يدعو إلى اللّه عزّ وجلّ. «4»

وعن إسلام طلحة بن عبيداللّه يقولون: إنّه كان في بصرى، فسمع خبر خروج نبىٍّ إسمه أحمد (ص) في ذلك الشهر من راهب، فلمّا قدّم مكّة سمع الناس يقولون: تنبّاء محمّد بن عبداللّه (ص)، فاءتى إلى أبي بكر فساءله فاءخبره، ثمّ أدخله على رسول اللّه (ص) فاءسلم ... «5»

ولقد ظلّ بعض الصحابة حريصين على هذه الصلة الوطيدة باليهود والنصارى والاستمداد من فكرهم إلى درجة الجرأة والجسارة على عرض صحائف من التوراة وقرأتها على رسول اللّه (ص) وإيذائه بذلك ايذاءً شديدا.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 41

ففي الاثر: (جاء عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول اللّه، إنّي مررت باءخٍ لي من يهود (من قريضة) فكتب لي (وكتب لي) جوامع من التوراة، قال: أفلا أعرضها عليك!؟ (قال): فتغيّر وجه رسول اللّه (ص)، فقال عبداللّه: مسخ اللّه عقلك، ألا ترى ما بوجه رسول اللّه (ص)!؟ فقال عمر: رضيت باللّه ربّا، وبالا سلام دينا، وبمحمّدٍ رسولًا. قال فسرِّي عن النبىٍّ (ص)، ثمّ قال:

(والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لظللتم، إنّكم حظّي من الامم وأنا حظّكم من النبيّين). «1»

كما ظلّت هذه العلاقة وهذا التاءثّر باءهل الكتاب يؤ ذيان الرسول (ص) حتّى في بيته، فقد روي (أنّ حفصة زوج النبىٍّ (ص) جاءت إلى النبىٍّ (ص) بكتاب من قصص يوسف في كتف، فجعلت تقرأ عليه والنبيّ (ص) يتلوّن وجهه، فقال:

) والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا فيكم فاتّبعتموه وتركتموني لظللتم.) «2»

كما ظلّ بعض الصحابة حريصا على هذه العلاقة الوطيدة باليهود والنصارى، يدّخرها للا ستفادة منها عندما تحلّ بالمسلمين هزيمة قاصمة أو حينما تبدو في الافق ملامح ضعفهم وأفول القوّة عنهم وإنكسار شوكتهم:

قال السدّي:

لمّا أصيب النبىٍّ

(ص) باءحد قال عثمان: لا لحقنّ بالشام، فإن لي به صديقا من اليهود، فلا خذنّ منه أمانا، فإني أخاف أن يدال علينا اليهود. وقال طلحة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 42

بن عبيداللّه: لا خرجنّ إلى الشام، فإ نّ لي به صديقا من النصارى، فلا خذنّ منه أمانا، فإ ني أخاف أن يدال علينا النصارى. قال السدّي: فاءراد أحدهما أن يتهوّد، والاخر أن يتنصّر ...). «1»

ويمكننا أن نتصوّر مراتب الطمع في دخول المنافقين الاسلام إلى:

1- الطمع في الوصول إلى الزعامة والحكم والسيطرة إشباعا للنزعة السلطويّة في النفس، يقول العلّامة الطباطبائي (ره):

(فكثيرا ما نجد في المجتمعات رجالا يتّبعون كلّ داع ويتجمعّون إلى كلّ ناعق ولايعباءون بمخالفة القوىٍّ المخالفة القاهرة الطاحنة، ويعيشون على خطر مصرّين على ذلك رجاء أن يوفّقوا يوما لا جرأ مرامهم ويتحكّموا على الناس باستقلالهم بإ دارة رحى المجتمع والعلوّ في الارض ...). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 43

و هذا النوع من المنافقين يحرص في العادة على مصالح الاسلام ما وافقت مصالحه الخاصّة المنشودة، يقول العلّامة الطباطبائي (ره):

(... والاثر المترتّب على هذا النوع من النفاق ليس هو تقليب الامور وتربّص د الدوائر على الاسلام والمسلمين وإفساد المجتمع الديني، بل تقويته بما أمكن وتفديته بالمال والجاه لتنتظم بذلك الامور وتتهيّاء لاستفادته منها واستدرارها لنفع شخصه.

نعم، يمكر مثل هذا المنافق بالمخالفة والمضادّة فيما إذا لاح من الدين مثلا ما يخالف أمنيّة تقدّمه وتسلّطه، إرجاعا للا مر إلى سبيل ينتهي إلى غرضه الفاسد). «1»

إنّ التدبّر الكافي في تأريخ السيرة النبويّة الشريفة خاصّة وتأريخ صدر الاسلام عامّة يضع عددا مهمّا من مشاهير الصحابة في قفص الاتّهام بجرم الدخول في الاسلام طمعا لا إيمانا، ذلك لا نّ تحليل إشارات ودلالات وقائع وأحداث تلك الفترة يكشف

بوضوح عن انطباق مواصفات (المنافق) على أولئكم الصحابة!!

2- الطمع في الوصول إلى موقع معنوي في قلوب الحكّام أو في قلوب المسلمين من أجل (التخريب من الداخل)، ومصداق ذلك: الذين دسّهم أهل الكتاب في الصفّ الاسلامي كمثل (كعب الاحبار) اليهودي، وكمثل (تميم الداري) النصراني.

3- الطمع في الوصول إلى أهداف وغايات أخرى أقلّ أهمّية كالحصول على

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 44

مغانم أو تنمية مصالح وتوسعتها في ظلّ نماء مصالح الاسلام، أو انتصارا لعصبيّة أو حميّة، أو غير ذلك.

ومن مصاديق أهل هذا النوع من الطمع جميع (النفعيّين) وهم كثير.

يضاف إلى ذلك أنّ بعض من دخل الاسلام مؤ منا في البدء قد يرتاب في دينه خلال طريق المعاناة نتيجة هزّات عظمى وصدمات كبرى أو شبهات مضلّة مثلا، كاءن يرتاب في نبوّة النبىٍّ (ص)، فيرتدّ عن دينه لكنّه يكتم ارتداده طمعا أو خوفا فيكون منافقا مادام يستبطن ريبته وكفره.

وهذه الحالة ممكنة الوقوع في مكّة المكرّمة قبل الهجرة إلى المدينة، كما هي ممكنة الوقوع بعد الهجرة وقيام الدولة الاسلاميّة في المدينة المنوّرة وما حولها.

ممّا مر يتّضح بجلاء أنّ حركة النفاق لم تبدأ بدخول الرسول الاكرم (ص) المدينة المنوّرة، بل بدأت بدخول الصفّ الاسلامي منذ أوائل حياته في مكّة المكرّمة.

نعم، لم تتّخذ حركة النفاق شكل الظاهرة الاجتماعيّة الخطيرة إلّا في المدينة المنوّرة بعد قيام الدولة الاسلاميّة.

هذا من حيث البداية، أمّا من حيث النهاية فإ نّ هذه النظرة المشهورة الخاطئة تدّعي أنّ حركة النفاق استمرّت إلى قرب وفاة النبىٍّ الاكرم (ص)!!

وهذه الدعوى أيضا لايصدّقها التاءريخ الحقّ، ذلك لا نّنا ينبغي أن نفرّق أوّلًا بين أمرين:

أحدهما: انقطاع الاخبار عن نشاط حركة المنافقين الظاهر في مواجهة الاسلام والمسلمين وعدم ظهور ما كان يظهر منهم من أعمال مضادّة

وآثار معاكسة ومكائد ودسائس مشؤ ومة.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 45

والاخر: هو انتهاء هذه الحركة بالفعل وانحلالها وزوالها من خريطة العمل السياسيّ والاجتماعي.

نعم، انقطع الخبر عن المنافقين وعن أعمالهم المضادّة بعد موت النبىٍّ (ص) مباشرة وانعقاد السقيفة وانتشار الخبر عن نتائجها، فلم يعد يظهر منهم ما كان يظهر قبل رحلة النبىٍّ (ص)، واختفت هذه الحركة الهائلة عن ظاهر الحياة السياسية والاجتماعيّة فجاءةً!!

هذه الحركة التي بلغت من القوّة والفعل يوما أن سحبت ثلث الجيش الاسلامي عن ساحة معركة أحد قبل نشوب الحرب، أي ثلاثماءئة رجل من جيش مؤ لّف من تسعمائة أو ألف «1»، ولها مواقف مشينة مخزية كثيرة في مواقع أخرى، ومابرحت دسائسها ومكائدها ومواقفها المضادّة ظاهرة بيّنة إلى أخريات أيّام الرسول الاكرم (ص).

فما علّة اختفائها وانقطاع خبرها!!؟

هناك احتمالات ثلاثة:

الاوّل: أنّ جميع أفرادها أو رموزها الفعّالة أو أعضائها النشطين قد أبيدوا وقتّلوا تقتيلا قبل رحلة النبىٍّ (ص)، الامر الذي يعني أنّه قد تمّ القضاء على هذه الحركة قضاءً مبرما، أو أنّها قد شلّت نتيجة ذلك شللا تامّا.

وتأريخ السيرة النبويّة لايصدّق هذا الاحتمال بل يرفضه رفضا تامّا!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 46

الثاني: أنّ المنافقين بعد رحلة النبىٍّ (ص) مباشرة قد أخذتهم هزّة مصيبة فقده ورحلته (ص) ماءخذا عظيما، وتاءثّروا لذلك تاءثّرا بالغا، فتابوا إلى اللّه جميعا وأخلصوا الايمان عن آخرهم وحسن بذلك اسلامهم!

وهذا الاحتمال أيضا يرفضه تأريخ ما بعد موت النبىٍّ (ص) رفضا باتا.

الثالث: اءّن حركة النفاق نفسها تسلّمت زمام الامور بعد رحلة النبىٍّ (ص)، اءو أنّها على الاقلّ كانت قد صالحت أولياء الحكومة بعد رحلة النبىٍّ (ص) على ترك المضادّة والمشاغبة مصالحة سرّيّة قبل الرحلة أوبعدها بشرط أن يسمح لها تحقيق ما فيه أمنيّتها، أو أنّ حركة المسلمين وحركة

النفاق بعد رحلة النبىٍّ (ص) وبعد السقيفة كانتا قد وقعتا في مجرى واحد واتّجاه واحد وتصالحتا مصالحة عفويّة بلا تكلّف عقد وعهد، فارتفع التصاك والتزاحم والمضادّة والمعارضة بينهما!!

ولا شك أنّ التدبّر الكافي والتاءمّل العميق في حوادث آخر عهد النبىٍّ (ص) والفتن الواقعة بعد رحلته مباشرة يرشد حتما إلى أنّ ما وقع لايخرج عن إطار محتويات الاحتمال الثالث، هذا إذا كان المتدبّر والمتاءمّل في تلك الحوادث خارجا من سلطان القداسة الكاذبة التي إبتدعها التضليل الاعلاميّ السياسيّ الامويّ لمشاهير الصحابة بعد رحيلهم عن دار الدنيا.

فصائل حركة النفاق: ..... ص : 46
حزب السلطة: ..... ص : 46

يكفي هنا لا ثبات انتماء مجموعة من الصحابة إلى دائرة النفاق أن نثبت أنّهم صدّوا عن رسول اللّه (ص) صدودا في أمر قضى به، وذلك لقوله تعالى: (وإذا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 47

قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا) «1»

ويستمرّ انتماؤ هم إلى دائرة النفاق ما أصرّوا على ذلك الصدود ولم ينتهوا عنه.

والصدُّ: الاعراض والامتناع والمنع «2»

ذلك لانّ الايمان لايكون إلّا بالطاعة المطلقة لرسول اللّه (ص) في كلّ ما جاء به وعدم التحرّج ممّا قضى به والتسليم لا مره، وهذا من الحقائق القرآنيّة الكبيرة التي لاتحتاج في وضوحها إلى نافلة بيان.

فما بالك بمجموعة من الصحابة لم تعرض ممتنعة عن قبول الامر الالهي النازل على رسول اللّه (ص) فحسب، بل سعت في صدّها عن رسول اللّه (ص) لتمنع من تحقّقه وتحول دون تنفيذه!!؟

وما بالك إذا كان هذا الامر الالهي في أخطر وأهمّ قضيّة من قضايا الاسلام وهي قضيّة الولاية والخلافة!؟

كان قياديو هذا الحزب قبل الاسلام رجالا مغمورين في قريش، لايشار إليهم بالبنان عند شدّة أو خطر أو شاءن ذي بال، وكانت تشكيلة المواقع القيادية في تركيبة قريش قبل

الاسلام متسالما عليها حيث يتسنّم تلك المناصب رجال مرموقون من بطون محدّدة من قريش، وليس لرجال قيادة هذا الحزب أىٍّ حظّ في ذلك لا كما اختلق لهم الاعلام الامويّ المضلّ بعد ذلك من أهمّية موهومة وشاءنيّة كاذبة حيث ادّعى باءنّ اللّه تعالى قد أعزّ دينه بإ سلامهم!! بل كان أهمّ رجلين في قيادة هذا الحزب من (أقلّ حيين) من قريش على حدّ تعبير أبي سفيان بن حرب رأس الحزب الامويّ الذي دخل في

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 48

تحالف معهم بعد ذلك.

فقيادة هذا الحزب تعلم علما يقينا أن لا أمل لها في زعامة ورئاسة خارج إطار الحالة الاسلاميّة ... وهي التي دخلت الاسلام ناظرة إلى مستقبله الذي سمعت عنه كثيرا من أهل الكتاب الذين توارثوا اخبار الملاحم والفتن أملا في أن تمتطي صهوة الحكم بعد رحلة رسول اللّه (ص).

إذن فمن مصلحة قيادة هذا الحزب في ظرفها الراهن اَّنذاك بقاء الاسلام بكلّ تشريعاته إلّا ما يتعلّق منها بموضوع الخلافة وشخص الخليفة بعد النبىٍّ (ص).

ومع أنّ قيادة هذا الحزب كانت تعيش مشكلة كبيرة فيما يواجهها من البيّنات والهدى ممّا بيّنه اللّه تعالى في كتابه المجيد فيما يتعلّق بالولاية والخلافة وشخص د الخليفة من بعد رسول اللّه (ص)، وأنّ الخلافة كالنبوّة إختيار إلهي ليس للناس د إختيار فيه، لكنّ قيادة هذا الحزب كانت ترى مشكلتها الكبرى في مواجهة البيان النبويّ في هذا الصدد ذلك لا نّ البيان النبويّ هو الكاشف عن دلالة البيان القرآني، هذا أوّلا.

وثانيا لا نّ البيان النبويّ كان قد ركز منذ البدء على تعيين أشخاص الخلفاء من بعد رسول اللّه (ص) حتّى قيام الساعة في مواصفات عامّة وأخرى خاصّة وحدّدهم باءسمائهم، كما ركز على شخص الخليفة الاوّل اميرالموءمنين

علىٍّ (ع) بما لايقبل التاءويل أو الانكار.

لقد أعلن البيان النبوىٍّ عن الولاية والخلافة في نفس الساعة التي أعلن فيها عن النبوة، وحدّد في نفس تلك الساعة شخص الوليّ والخليفة بعد رسول اللّه (ص)، وذلك في حديث الدار يوم الانذار، ذلك الحديث المتواتر الذي رواه الفريقان، والذي قال فيه (ص) بعد أن أنذر عشيرته الاقربين مشيرا إلى

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 49

اميرالمومنين علىٍّ (ع):

(إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.) «1»

ومنذ ذلك اليوم لم يرد عنه (ص) ما يلغي هذا التنصيب الالهي، بل توالت البيانات النبويّة في التاءكيد على أنّ أئمّة أهل البيت (ع) وأوّلهم علىٍّ (ع) هم خلفاء النبىٍّ (ص)، ومن أهمّ تلك البيانات المقدّسة حديث الثقلين، وحديث السفينة، وباب حطّة، وحديث النجوم «2» وحديث المنزلة، وبيان يوم الغدير، وآخرها الكتاب المانع من الضلال الذي أراد الرسول (ص) ان يكتبه للا مّة قبيل رحلته. «3»

هاهنا كانت المشكلة الكبرى التي عانت منها قيادة حزب السلطة.

ومن هنا كان لابدّ من المواجهة مع رسول اللّه (ص)!!

ولكن على أيّ صعيد تكون هذه المواجهة وهذا الصدود!؟

لا شك أنّه لم يكن أمامهم في حياة الرسول (ص) إلّا التشكيك بعصمة الرسول (ص) سرّا وعلانية ما وسعت الفرصة والمجال، ومحاصرة البيانات النبويّة عامّة والمتعلّقة منها بالولاية والخلافة خاصّة.

لقد بثّ هذا الحزب في صفوف المسلمين مقولة:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 50

(رسول اللّه بشر يتكلّم في الرضا والغضب!!)

ولايخفى على الواعي اللبيب أنّ مؤ دّى هذه المقولة هوأنّ رسول اللّه (ص) قد يثني على إنسانٍ ما في الرضا فوق ما هو أهل له ويمنحه منزلة أكبر ممّا يستحقّ!! كما قد يذمّ انسانا ما في الغضب فوق ما هو أهل له!! فهو ينطق عن الهوى في الرضا والغضب لا

عن وحي يوحى!! والعياذ باللّه ومن الوثائق الكاشفة عن هذا البثّ التشكيكي ما رواه عبداللّه بن عمرو بن العاص قال:

(كنت أكتب كلّ شي أسمعه من رسول اللّه (ص) أريد حفظه، فنهتني قريش (!!) وقالوا أتكتب كلّ شي تسمعه!؟ ورسول اللّه (ص) بشر يتكلّم في الغضب والرضا!، فاءمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول اللّه (ص)، فاءوماء باءصبعه إلى فيه فقال: أكتب، فو الذي نفسي بيده مايخرج منه إلّا حقُّ). «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 51

كانت قيادة هذا الحزب ورأ هذا البثّ التشكيكي في الصد عن رسول اللّه (ص)، تلك القيادة التي ابتدعت شعار: (لاتكون النبوّة والخلافة في بني هاشم «1» «22 (وتحالفت تحت هذا الشعار مع العديد من خصوم الاسلام من بطون قريش الذين دخلوا في الاسلام كارهين وأنوفهم راغمة.

والدليل على صدور هذا النهي وهذا البثّ التشكيكي عن قيادة هذا الحزب، وأنّ هذا الفعل من متبنياتها، هو أنّ هذه القيادة بعد رحلة رسول اللّه (ص)

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 52

على امتداد عهودها الثلاثة كانت قد واصلت ضرب حصار حديديّ لاتراخي فيه على البيانات النبويّة، إذ كان أوّل ما فعله الخليفة الا

اوّل هو أنّه جمع الاحاديث التي كتبها هو شخصيّا فاءحرقها، وقد روت ذ لك ابنته عائشة «1»

ثمّ جمع الناس وقال لهم: (إنّكم تحدّثون عن رسول اللّه (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافا، فلاتحدّثوا عن رسول اللّه شيئا (!!)، فمن ساءلكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب اللّه). «2»

وكان من مشاريع الخليفة الثاني أن طلب من الناس أن ياءتوه بما عندهم من أحاديث النبىٍّ (ص)، فاءتوه بها، فاءمر بإ حراقها كلّها «3»، كما فرض الاقامة الجبريّة على رواة الاحاديث النبويّة في المدينة مادام حيّا «4»، ونهى جيوشه عن التحديث عن رسول

اللّه (ص). «5»

وأمّا الثالث فقد بادر إلى إصدار مرسوم منع فيه رواية أيّ حديث لم يسمع به في عهدي أبي بكر وعمر. «6»

لقد كانت الغاية الحقيقيّة من كلّ ذلك النهي والمنع والصد هي إبطال فاعلية البيانات النبويّة المتعلّقة بالولاية والخلافة وشخص الخليفة بعد النبىٍّ (ص)، وبالموقع المميّز لا هل بيت النبوّة في حياته (ص) وبعد وفاته، وكان لابدّ لقيادة هذا الحزب أن تتستّر على هذه الغاية الحقيقيّة بذرائع واهية كذريعة مخافة (الاختلاف بين الناس!!) وغيرها التي هي أوهن من بيت العنكبوت

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 53

عند محك الدليل والبرهان.

حتّى إذا مرّت الايّام بالدواهي العظام، وثنيت الوسادة لمعاوية بن أبي سفيان وارث قيادة هذا الحزب وامتدادها الطبيعي كشف بجرأة تامّة عن الغاية الحقيقيّة لكلّ ذلك المنع والنهي والصد المتطاول حيث أصدر في السنة العجفاء التي أسموها بعام الجماعة مرسوما صريحا أعلن فيه أن:

(برئت الذمة ممّن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته). «1»

ولقد بلغت قيادة هذا الحزب ذروة الجرأة في الصد عن رسول اللّه (ص) حينما منعت البيان النبويّ الاخير (المانع من الضلال والاختلاف) «2» عن الصدور في جسارة على رسول اللّه (ص) ما بعدها جسارة، حيث اتّهمته ب (الهجر) أي الهذيان ورفعت بوجهه علنا شعار (حسبنا كتاب اللّه)، وفوجي ء الحاضرون من غير هذا الحزب وذهلوا لهول ما سمعوا!! وتنازعوا مع تيّار الصد عن رسول اللّه (ص)، لكنّ زبانية هذا الحزب كانوا هم الاكثر في الظاهر، فتنادوا بقوّة وتصميم وضجيج وقالوا ما قال عمر!! حتّى حالوا بين رسول اللّه (ص) وبين أن يكتب ذلك البيان الاخير فكانت الرزيّة!! وما أعظمها من رزيّة!؟ على حدّ تعبير ابن عبّاس. ويعترف الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب في

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص:

54

محاورة مع عبداللّه بن عبّاس باءنّ قول رسول اللّه (ص) عنده لايثبت حجّة ولايقطع عذرا، وأنّه (ص) في مرضه أراد أن يصرّح في بيانه الاخير باسم اميرالموءمنين علىٍّ (ع)، كما يقرّر الخليفة الثاني أنّه الناطق الرسمي باسم قريش!! الحاكي عن مشاعرها!! الممثّل لها في الصد عن رسول اللّه (ص) صدودا. ورد كلّ هذا في أوّل خلافته وهو يحاور عبداللّه بن عبّاس ويسائله عن علىٍّ (ع) ... قائلا:

(يا عبداللّه، عليك دماء البدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شي من أمر الخلافة؟

قلت: نعم.

قال: أيزعم أنّ رسول اللّه (ص) نصّ عليه؟

قلت: نعم، وأزيدك، ساءلت أبي عمّا يدّعيه فقال صدق.

فقال عمر: لقد كان من رسول اللّه (ص) في أمره ذرو من قول لايثبت حجّة ولايقطع عذرا، ولقد يربع في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الاسلام، لا وربّ هذه البنية لاتجتمع عليه قريش د ابدا، ولو وليّها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول اللّه (ص) أنّي علمت ما في نفسه فاءمسك، وأبى اللّه إلّا إمضاء ما حتم). «1»

ولقد يعزّ ويشقّ كثيرا على بعض المؤ رّخين والمفكّرين الاسلاميّين ممّن قد تحرّر من وهم القداسة الكاذبة التي اختلقها التضليل الامويّ لبعض

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 55

مشاهير الصحابة أن يذعن لحقيقة أنّ قيادة هذا الحزب كانت قد دخلت الاسلام طمعا في مستقبل الاسلام ورغبة في أن يكون لها نصيب في مواقع الحكم في حياة رسول اللّه (ص) وبعد وفاته، لا إيمانا بهذا الدين وحقائقه، فيميل إلى القول باءنّ قيادة هذا الحزب قد دخلت في الاسلام مؤ منة به لكنّها لم تستطع الانعتاق والتحرر من (حبّ الشهرة والسيطرة والحكم) التي تحكّمت في كثير

من تصرّفاتها، وهذا من (مرض القلب) الذي قد يعتري كثيرا من المؤ منين ولايخرجهم عن دائرة الايمان.

ويدعم هذا المفكّر رأيه باءنّ القرآن الكريم قد جعل (المنافقين) و (الذين في قلوبهم مرض) في صفّ واحد في أكثر من خطاب قرآنىٍّ، «1» لكنّه ميّز بينهما في التعريف كما لايخفى، إذ كلّ منافق في قلبه مرض، وليس كلّ من في قلبه مرض د منافقا. «2»

وهذا الرأي صحيح لو أنّ صحابيّا كان قد دخل الاسلام مؤ منا لكنّ مرضه القلبيّ مرتبط بشهوة أو أكثر من شهوات الدنيا كشهوة الحكم أو شهوة النساء أو الشهرة أو المال مثلا، فإ ذا تهيّاءت الفرصة السانحة لا شباع شهوته واغتنمها واستوفى لذّته منها، حرص بعد ذلك بسسب إيمانه أن يجري أمر الاسلام على ما فرض اللّه ورسوله (ص)، أو أنّه على الاقلّ لاياءبى بعد ذلك أن يجري أمر الاسلام على المحجّة البيضاء التي أرادها اللّه ورسوله (ص).

أمّا أن يكون هذا الصحابي مع كلّ اعترافاته باءخطائه وجهله وقلّة فقهه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 56

مصرّا الى آخر لحظات حياته على أن يجري أمر الاسلام في قضيّة الاستخلاف على ما تعاهدت عليه قيادة حزبه لا على ما أراد اللّه ورسوله، فهذا ممّن ليس (في قلبه مرض) فحسب، والعلّة الاقوى إذن علّة أخرى ليست هي من شهوات مرض د القلب التي قضى منها وطره، بل هي اعتقاد آخر مضمر وخطّة مسبّقة مدروسة قامت على معصية اللّه ورسوله (ص) عمدا، وحرص هذا الصحابي على تنفيذها حتّى الممات!!

يحدّثنا ابن الاثير قائلا:

(إنّ أبابكر أحضر عثمان بن عفّان خاليا ليكتب عهد عمر.

فقال له أكتب، (بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبوبكر بن أبي قحافة إلى المسلمين. أمّا بعد:) ثمّ أغمي عليه.

فكتب عثمان:

(أمّا بعد فإ نّي قد استخلفت عليكم. عمر بن الخطّاب ولم آلكم خيرا).

ثمّ أفاق أبوبكر فقال: إقرأ عليَّ.

فقرأ عليه، فكبّر أبوبكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي؟

قال: نعم.

قال: جزاك اللّه خيرا عن الاسلام وأهله!!). «1»

سبحان اللّه!! أين كان هذا الحفّاظ وهذه الخشية من الاختلاف يوم حالت قيادة هذا الحزب دون أن يكتب الرسول (ص) للا مّة كتابه الاخير المانع من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 57

الضلال والاختلاف!؟ وهل يصدّق العقل أنّ رجال قيادة هذا الحزب أشدّ حرصا وغيرةً على حال الامّة من رسول اللّه (ص)!؟

وقد تمنّى عمر بن الخطّاب أن لو كان أبوعبيدة بن الجرّاح حيّا لاستخلفه «1»، تذكرة الحفّاظ، وأبوعبيدة هذا ثالث ثلاثة في قيادة هذا الحزب، كما تمنّى أن لو كان خالد بن الوليد الذي آزرهم بقوّة في أيّامهم الصعبة حيّا لاستخلفه، «2» وكذلك أن لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيّا لاستخلفه، «3».

وكاءنّ سالما هذا كان رابع أربعة في تلك القيادة، ولايخفى أنّ استخلاف سالم معارض لمبدأ هذا الحزب في أنّ الخلافة لاتكون إلّا في قريش، وهو المبدأ الذي رفعته قيادة هذا الحزب في وجه الانصار في السقيفة!!، كما أنّ عمر تمنّى أيضا أن لو كان معاذ بن جبل حيّا لاستخلفه «4»،. ومعاذ هذا من الانصار!!

ثمّ إنّ التامّل في حقائق الشورى التي خطّط لها عمر بن الخطّاب يهدي كما سوف ياءتي بيانه إلى أن الخليفة الثاني قد عيّن عثمان تعيينا ضمن إخراج فنّيّ خاصّ، هذا فضلا عن تمهيده للحكم الملكيّ الامويّ بإ طلاقه يد معاوية في الشام يفعل ما يحلو له وكما يشاء، فالخليفة الصارم في المدينة قد أغمض عينيه عمدا عن الشام لفتى قريش وكسرى العرب!!

ممّا مضى يتاءكّد بما لايقبل

الشك أنّ هؤ لاء الصحابة كانوا قد أصرّوا على الصدّ عن رسول اللّه (ص) الصدود الكبير فيما جاء به من الامر الالهيّ المتعلّق

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 58

بالخلافة من بعد رسول اللّه (ص) وبشخص الخليفة المعيّن من قبل اللّه تبارك وتعالى، وواصلوا هذا الصدود حتّى الممات.

وحزب السلطة أشد فصائل حركة النفاق أثرا في حياة الاسلام والمسلمين، لا نّه هوالذي شقّ مجرى الانحراف الرئيس الذي تفرّعت عنه جميع فروع الانحرافات الاخرى التي كانت ولم تزل حياة الاسلام والمسلمين تعاني منها أمرّ الويلات والنكبات، وقيادة هذا الحزب تتحمّل على ظهرها أوزارها وأوزار ما نتج ولايزال ينتج عن يوم السقيفة إلى قيام الساعة.

منافقو أهل الكتاب: ..... ص : 58

إنّ لا هل الكتاب مع الاسلام والنبىٍّ الاكرم محمّد (ص) قصّة مؤ سفة ينبغي لكلّ مؤ من ألّايغفل عن الاتّعاظ بها في انتظاره الامام المهديّ المنتظر عجّل اللّه تعالى فرجه.

كان أهل الكتاب بعد عهد المسيح عيسى بن مريم (ع) ينتظرون خروج خاتم الانبياء (ص) ويترقّبون حلول أوانه، ذلك لا نّهم توارثوا البشارات بظهوره عن أنبيائهم وأوصياء أنبيائهم (ع)، وتوارثوا معرفة صفاته البدنيّة والمعنويّة، فكانوا يعرفون أسماءه وألقابه وكناه ويعرفون شخصه معرفة تفصيليّة يقينيّة كما يعرفون أبناءهم.

وقد أكّد القرآن الحكيم هذه الحقيقة في قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم). «1»

كما كانوا يعرفون شخصيّته في سيرته المعلومة عندهم ممّا توارثوه من الانباء

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 59

عنه في كتبهم ورواياتهم، فكانوا يعرفون ما ينبغي عنده من الفعل وما لاينبغي، ويعرفون حتّى سننه، في القعود والقيام، واليقظة والمنام، والصمت والكلام، وسوى ذلك (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل ...) «1» وكانوا يعرفون صفات من معه والامثال المضروبة في أحوالهم: (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل ...) «2»،

بل كانوا يعرفون خصائص أوصيائه (ع) كما ورد ذلك في روايات كثيرة.

وكانت جماهير من اليهود ينتظرون النبىٍّ الخاتم (ص) إنتظارا جادّا مقرونا بكلّ مستلزماته العمليّة، حتّى لقد حملهم هذا الانتظار الجاد على ترك ديارهم والهجرة إلى المنطقة التي سيهاجر إليها النبيّ المنتظر (ص) كما هوعندهم في الاخبار التي توارثوها جيلا بعد جيلٍ، وعانوا من أجل ذلك الكثير، تقول الرواية: (كانت اليهود تجد في كتبها أنّ مهاجر محمّد (ص) ما بين عيرٍ واءُحدٍ، «3» فخرجوا يطلبون الموضع فمرّوا بجبل يسمّى حدادٍ فقالوا:

حدادٌ واءُحد سواء، فتفرّقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرّ أعرابىٍّ من قيس فتكاروا منه، وقال لهم: أمرّ بكم ما بين عيرٍ واءُحد. فقالوا: إذا مررت بهما ف آذنّا بهما، فلمّا توسّط بهم أرض المدينة قال لهم: ذاك عيرٌ وهذا أحد.

فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة لنا في إبلك فاذهب حيث شئت. وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: أنّا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا. فكتبوا إليهم: أنّا قد استقرّت بنا الدار واتّخذنا الاموال

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 60

، وما أقربنا منكم، فإ ذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم. فاتّخذوا باءرض المدينة الاموال، فلمّا كثرت أموالهم بلغ تُبَّعا فغزاهم، فتحصّنوا منه فحاصرهم، وكانوا يرقّون لضعفاء أصحاب تبّعٍ فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير، فبلغ ذلك تبّعا فرقّ لهم وآمنهم، فنزلوا إليه فقال لهم: إنّي قد استطبت بلادكم ولاأراني إلّا مقيما فيكم. فقالوا له: إنّه ليس ذاك لك، إنّها مهاجر نبىٍّ وليس ذلك لا حد حتّى يكون ذلك. فقال لهم: إنّي مخلّف فيكم مِن أسرتي مَن إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلّف حيّين الاوس د والخزرج، فلمّا كثروا

بها كانوا يتناولون أموال اليهود، وكانت اليهود تقول لهم: أما لو قد بعث محمّد ليخرجنّكم من ديارنا وأموالنا، فلمّا بعث اللّه عزّ وجلّ محمّدا (ص) آمنت به الانصار وكفرت به اليهود، وهو قول اللّه عزّ وجلّ:

(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين «1»). «2»

تُرى لماذا كانت نتيجة هذا الانتظار الجادّ نتيجة خاسرة!!؟

كانت نتيجة انتظار اليهود خاسرة لا نّهم كانوا ينتظرون النبىٍّ الاكرم (ص) بشرط ألّا يساويهم مع غيرهم من الناس، وألّا يكون غيرهم الافضل عنده، وألّا ياءخذ منهم ما كانوا يتمتّعون به من مواقع اجتماعيّة ماديّة ومعنويّة، وألّا وألّا ... فهم كانوا ينتظرونه (بشرط لا). فلمّا وجدوا الناس عند رسول اللّه (ص) سواسية كاءسنان المشط في الحقوق والواجبات، وأنّ أكرمكم عنداللّه أتقاكم ... نكسوا على رؤ وسهم وانقلبوا على أعقابهم وآثروا إتّباع أهوائهم وكفروا بما عرفوه من الحقّ ... فكانت الخسارة وما أعظمها من خسارة!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 61

ولو أنّهم انتظروه (لا بشرط) يشترطونه عليه، بل بتسليم تامّ لا مره وطاعة مطلقة وامتثال لكلّ ما يشترطه هو عليهم لكانت نتيجة انتظارهم هي الفوز المبين، وقد فاز المسلّمون. «1»

ولمّا رفض اليهود بعد انتظارهم الجادّ الطويل ان يسلّمو للّه ولرسوله (ص)، ويدخلوا في الاسلام بلا شرط كما دخل الناس، صاروا أشدّ الناس عداوة للّذين آمنوا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ، وانضمّوا في مناوئتهم الدعوة الجديدة إلى صفوف أعدائها، ولقد واثقوا النبىٍّ (ص) ثمّ نقضوا ميثاقهم غير مرّة، حتّى هزمهم اللّه وأخرجهم من ديارهم أذلّاء خاسئين.

ولمّا قويت الدعوة المحمّديّة واشتدّ ساعدها، وتحطّمت أمامها كلّ قوّةٍ تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها ويصدّون عن

سبيلها إلّا أن يكيدوا لها من طريق الحيلة والخداع بعد أن عجزوا عن النيل منها بالقوّة والنزاع.

والمكر اليهودىٍّ أظهر من كلّ مكر آخر في أسلوب (التخريب من الداخل)،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 62

ولليهود تاءريخهم الطويل الممتدّ إلى يومنا الحاضر في هذا المجال، ولعلّنا لانجانب الصواب إذا قلنا إنّ اليهود لا تأريخ لهم يذكر في مجال التبليغ المباشر بديانتهم، بعكس ما لهم من تأريخ أسود معروف في مجال التخريب على الاخرين من الداخل، وشواهد ه ذه الحقيقة كثيرة مبثوثة في الحياة الانسانيّة منذ أيّامهم الاولى وإلى يومنا هذا.

وقد حاكى النصارى في التخريب من الداخل منهج اليهود في ذلك، ونجحوا نجاحا كبيرا، وكان لهم تاءريخهم الخاصّ في هذا المجال أيضا، وكان ولم يزل تاءثيرهم بالغا وخطيرا في حياة المسلمين إلى اليوم.

ظلّ أهل الكتاب يرصدون تطوّر حركة الاسلام في عهد النبىٍّ (ص) وقلوبهم ياءكلها الحسد الشديد، ولم تكن هذه المراقبة مراقبة من كفّ يده عن التدخل والتاءثير في مجرى الاحداث، بل مراقبة من يتمنّى الفرصة السانحة للتدخّل من أجل حرف المسيرة الاسلاميّة عن المحجّة البيضاء.

ومع أنّهم كانوا يعتمدون كثيرا ويعوّلون بشكل كبير في تسريب تاءثيرهم على علاقاتهم القديمة الوطيدة بعناصر كثيرة دخلت الاسلام وصارت من الصحابة، إلّا أنّهم لم يكتفوا بذ لك، بل أدخلوا في الاسلام عناصر (معلومة أسماؤ هم) «1» من علمائهم المتمرسين في التخريب الفكريّ والعلميّ، ليشكّلوا فصيلا من فصائل حركة النفاق داخل المسيرة الاسلاميّة، وليقوم هذا الفصيل بتقديم إسناد قوىٍّ مؤ ثّر لخطّ الانحراف، والصد عن رسول اللّه (ص)، لكنّ أبرز هذه العناصر المخرّبة من اليهود كان (كعب الاحبار)، ومن النصارى

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 63

(تميم الداري)، وجاء بعدهم من تلاميذهم آخرون شكّلوا شبكة خطيرة من مستشاري الخلفاء وكتّابهم

وخدمهم وحواشيهم.

ومثيرٌ للعجب أن يدخل كعب الاحبار الاسلام في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب خاصّة دون زمن النبىٍّ (ص) وزمن خلافة أبي بكر!!، مع أن أستاذه الذي كان يُدعى (أبا السموءل) قد أظهر إسلامه في زمن الخليفة الاوّل أبي بكر!! «1»

ولمّا ساءل العبّاس بن عبدالمطّلب كعب الاحبار عن علّة تاءخّر إسلامه إلى وقت عمر! اعتذر باءنّ أباه أخفى عنه حقيقة صفة محمّد (ص) وأمّته في كتاب ختمه الاب وأمره ألّايفضّ الختم عنه، حتّى فتحه كعب في زمن الدولة العمريّة فجاء مسلما!! «2» هذا مع أنّ التاءريخ يقول إنّ كعبا هذا كان من أكبر علماء اليهود!!

بدأ كعب الاحبار حياته تحت عنوان الاسلام مقرّبا من الخليفة الثاني، ياءنس به ويستشيره ويتاءثّر بفكره، ويعود إليه في القضايا التي لاتروقه أجوبة العلماء من الصحابة فيها فيساءله عنها!!

فقد قيل إنّ الخليفة الثاني ساءل سلمان (ر) ذات مرّةٍ قائلا: (أ ملك أنا أم خليفة!؟) فقال سلمان (ر) (إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقلّ أو أكثر، ثمّ وضعته في غير حقّه فاءنت ملك غير خليفة). «3»

وكاءنّ الخليفة الثاني لم يجد ما يحبّ في إجابة سلمان (ر) فساءل كعبا الذي يحسن صناعة الاجابات المحبّبة قائلا: (أنشدك باللّه، أتجدني خليفة أم ملكا؟ قال: (بل خليفة). فاستحلفه عمر، فقال: (خليفة واللّه من خير الخلفاء،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 64

وزمانك خير الازمان)!! «1»

وقد رافق كعب عمر بن الخطّاب في زيارة القدس بعد فتحها، وفي بيت المقدّس د لما أراد الخليفة الثاني أن يصلّي ساءل كعبا: (أين ترى أن أصلّي؟)!! «2»

وحينما أراد بناء المسجد ساءله أيضا: (أين ترى أن نجعل المسجد؟)!! «3»

وساءله ذات مرّة: (أخبرنا عن فضائل رسول اللّه (ص) قبل مولده!!) «4»

وساءله في مرّة

أخرى: (حدّثني يا كعب عن جنّات عدن؟)!! «5»

وظلّ كعب بعد الخليفة الثاني مستشارا مقرّبا عند الخليفة الثالث عثمان، يتاءذّى لا ذاه ويهيج لنصرته ...

فقد (روي أنّ عثمان قال يوما: أيجوز للا مام أن ياءخذ من المال فإ ذا أيسر قضى؟

فقال كعب الاحبار: لا باءس بذلك!

فقال أبوذر (ر): يا ابن اليهوديّين، أتعلّمنا ديننا!؟

فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولّعك باءصحابي، إلحَق بالشام.

فاءخرجه إليها). «6»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 65

وفي الوقت الذي واصل الخليفة الثاني ضرب الحصار الحديديّ على الاحاديث النبويّة ومنع انتشارها كان قد فتح الباب واسعا أمام منافقي أهل الكتاب ليدسّوا في أذهان المسلمين ما ليس من عقائد الاسلام المحمّدي الخالص، وذلك من خلال القصّ، فراجت بين المسلمين بعض دفائن كتب اليهود والنصارى وكثير من مخترعات ومفتريات القصّاصين أنفسهم ممّا يحرف الامّة المسلمة عن دينها الحقّ.

ولقد (كان أوّل من قصّ تميم الداري، إستاءذن عمر بن الخطّاب أن يقصّ على الناس قائما فاءذن له عمر!!) «1»

ثمّ عظمت الماءساة بدخول كعب ساحة القصّ، وحتّى بعد أن التحق كعب بمعاوية في الشام أمره معاوية بالقصّ في الشام أيضا، ولكعب تلاميذ من سنخه ولهم تلاميذ كذلك في سلسلة تخريبيّة متواصلة.

لقد تعاظم تاءثير القصّ في حياة المسلمين في الوقت الذي حيل بينهم وبين الاحاديث النبويّة حتّى أصبح القصّ الصحيفة اليوميّة الوحيدة التي تؤ ثر في حياة المسلمين وتصبغ أذهانهم بالصبغة التي تريدها.

ولقد اعتنى الامويّون عناية فائقة بالقصّ كوسيلة إعلاميّة سياسيّة يرفعهم بها القصّاصون في أعين الناس باختلاق فضائل مكذوبة لهم ولبعض مشاهير الصحابة ممّن مهّد لهم السبيل بعد أن لم يكن لهم فضل يرفعهم على عهد النبىٍّ (ص).

وعلى هذا الدرب اخترعت الاحاديث الكثيرة، واختلطت الحقيقة بالخيال،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 66

وتراكم كمُّ هائل من

الموهومات ممّا ابتدعه الوضّاعون واخترعه القصّاصون حتّى صار على مَرِّ السنين جزءً من التراث الديني الذي يتعبّد به كثير من المسلمين، وصار من الصعب المستصعب على كثير من المحقّقين أن يمتلكوا الجرأة على نقد ورفض الغثّ الكثير الذي دخل على هذا التراث رغم ما يقفون عليه من وثائق دامغة تثير الشك في الاذهان أوتسلّط الضوء على الحقائق المعاكسة.

ولا عجب إذا كان القصّاصون في عهد بني أميّة يذكرون عليّا وولده (ع) بما يشينهم لا طفاء نورهم وكتم فضائلهم، ذلك لا نّ فصيل منافقي أهل الكتاب يرى أنّ غاية وجوده وعلّة تاءسيسه هي دعم خطّ الانحراف عن أهل البيت (ع)، وتكفي نظرة عابرة على سيرة أمثال كعب الاحبار، وتميم الداري، ووهب بني منبّه، ونافع بن سرجس مولى عبداللّه بن عمر، وسرجون مستشار معاوية ويزيد، وأبى زبيد مستشار الوليد بن عقبة، وغيرهم دليلا على منهج هذا الفصيل.

ومن طريف ما يذكر التاءريخ عن ابن عبّاس:

أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب كان قد تبرّم بالخلافة في آخر أيّامه وخاف العجز وضجر من سياسة الرعية فكان لايزال يدعو اللّه باءن يتوفّاه!.

فقال لكعب الاحبار (!) يوما وأنا عنده: إنّي قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الامر، وأظنّ وفاتي قد دنت، فما تقول في عليٍّ؟ أشر عليّ في رأيك، واذكر لي ما تجدونه عندكم فإ نّكم تزعمون أنّ أمرنا هذا مسطور في كتبكم.

فقال: أمّا من طريق الرأي فإ نّه لايصلح، إنّه رجل متين الدين، لايُغضي على عورة، ولايحلم عن زلّة، ولايعمل باجتهاد رأيه، وليس هذا من سياسة الرعية في شي، وأمّا ما نجده في كتبنا فنجده لايلي الامر ولا ولده، وإن وليه كان هرج شديد.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 67

قال: وكيف ذاك؟

قال: لا

نّه أراق الدماء، ومن أراق الدماء لايلي الملك، إنّ داود لمّا أراد أن يبني حيطان بيت المقدس أوحى اللّه إليه: إنّك لاتبنيه لا نّك أرقت الدماء، وإنّما يبنيه سليمان.

فقال عمر: أليس بحقٍّ أراقها!؟

قال كعب: وداود بحقٍّ أراقها يا اميرالموءمنين ...). «1»

يا للمضحك المبكي!! ... لقد أراد هذا المنافق الكبير أن يشين سيّد الاوصياء (ع) فمدحه وهو لايشعر، وكذب على داود (ع) غافلا عن أنّ اللّه تبارك وتعالى صرّح بخلافته في قوله:

(يا داود إنّا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحقّ ...). «2»

بقي أن نقول: إنّ فصيل منافقي أهل الكتاب كان يقوم بدوره في ظلّ الفصائل الاخرى من حركة النفاق، فقد عمل في ظلّ دور فصيل منافقي أهل المدينة من الاوس والخزرج في عهد رسول اللّه (ص)، وعمل في ظلّ حزب السلطة طيلة عهوده الثلاثة، وعمل في ظلّ الحزب الامويّ، على امتداد أيّامه الطويلة، كما عمل في ظلّ الحزب العباسي.

وشواهد هذه الحقيقة ظاهرة ومتعدّدة، فإ نّ المتاءمّل في المؤ امرة المعقّدة المتعدّدة الاطراف لقتل الامام علىٍّ (ع) يجد أثر اليد اليهوديّة قويّا فيها، وفي رواية أنّ اميرالموءمنين عليّا (ع) قال لولده الحسن (ع) بعد أن أصيب في محرابه:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 68

(قتلني ابن اليهوديّة عبدالرحمن بن ملجم المرادي!) «1»

كما لايخفى على مطّلع دور (سرجون النصراني) مستشار معاوية ويزيد في السياسة الامويّة وتدبير أمورها، ودوره في التخطيط للقضاء على ثورة الامام الحسين (ع) أظهر من أن يخفى. وهذا المتوكّل العبّاسى يكرب قبر الامام الحسين (ع) على يد (إبراهيم الديزج) اليهودي بمعونة جمع من اليهود ... «2»

وتخفّى هذا الفصيل من فصائل حركة النفاق في ثياب كثير من الطواغيت والحكومات الظالمة التي تعاقبت على الامّة الاسلاميّة المنكوبة في أكثر

أقطارها حتّى يومنا الحاضر، وكان ومايزال لليهود والنصارى أثرهم البالغ في المصائب التي حلّت باءمّتنا الاسلاميّة، فقد كان هؤ لاء أوّل من بادر إلى إشاعة المظاهر اللاإسلاميّة والمنكرات في مجتمعات المسلمين، وعلى أيديهم أولا تاءسّست وانتشرت الافكار والاحزاب اللاإسلاميّة الكافرة في عالمنا الاسلامي كالا حزاب الشيوعيّة والاشتراكيّة والقوميّة، كما كان هؤ لاء أصل ومنشاء الحركات المتطرّفة المحسوبة على العنوان الاسلامي، والتي كفّرت المسلمين عامّة والشيعة منهم خاصّة.

منافقو أهل المدينة: ..... ص : 68

ويتشكّل هذا الفصيل من منافقي الاوس والخزرج الذين أبت قلوبهم قبول الاسلام لكنّهم أظهروا إسلامهم خوفا من قوّة الشوكة الاسلاميّة بعد أن أقبل جلّ أهل المدينة من الاوس والخزرج على الاسلام ودخلوا فيه وأعلنوا عن استعدادهم التامّ للتضحية في سبيله، ورئيس هذا الفصيل هو عبداللّه بن اءُبَيّ بن سلول العَوفي

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 69

(كان قومه قد نظموا له الخرز ليتوِّجوه ثمّ يملّكوه عليهم، فجاءهم اللّه تعالى برسوله (ص) وهم على ذلك، فلمّا انصرف قومه عنه إلى الاسلام ضغن، ورأى اءّن رسول اللّه (ص) قد استلبه ملكا، فلمّا راءى قومه قد اءبوا إلّا الاسلام دخل فيه كارها مصرّا على نفاق وضغن). «1»

وقد تميّز هذا الرجل وفصيله بعلانية القول والعمل ضدّ الاسلام وضدّ الرسول (ص)، وكان اليهود عامّة ومنافقوا اليهود خاصّة يدعمون هذا الفصيل دعما قويّا ويسندونه إسنادا مؤ ثّرا والعكس صحيح أيضا، فقد ألحّ عبداللّه بن اءُبيّ على رسول اللّه (ص) في اءن يحسن إلى يهود بني قينقاع بعد انكسارهم أثر محاصرة الرسول (ص) لهم، إلى درجة أنّه كان قد أدخل يده في درع رسول اللّه (ص) (ذات الفضول) ولم يرسله إلى أن أجابه الرسول (ص) إلى ذ لك. «2»

كما أنّ اليهود و منافقيهم كانوا قد انضمّوا في تعبئة الرسول

(ص) لموقعة اءُحد إلى القوّة العسكريّة التي شكلها فصيل منافقي اءهل المدينة بقيادة عبداللّه بن اءُبيّ، وقيل إنّ هذه القوّة كانت ثلث الجيش الاسلاميّ وتعدادها ثلاثمائة رجل، وكان عبداللّه بن اءُبيّ قد رجع بهذه الكتيبة إلى المدينة قبل القتال تخذيلا للمسلمين بدعوى (لونعلم قتالا لاتّبعناكم) «3» وقيل إنّ النبىٍّ (ص) أمرهم بالا نصراف لكفرهم وإنّ عددهم كان ستّمائة رجل.

تقول الرواية:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 70

انّ النبىٍّ (ص) خرج يوم اءُحد، حتّى إذا جاوز ثنيّة الوداع فإ ذا هو بكتيبة حسناء.

فقال: من هؤ لاء؟

قالوا: عبداللّه بن اءُبيّ في ستّمائة من مواليه من اليهود من بني قينقاع.

فقال: وقد أسلموا؟

قالوا: لا، يا رسول اللّه.

قال: مروهم فليرجعوا، فإ نّا لانستعين بالمشركين على المشركين). «1»

لقد دأب هذا الفصيل من حركة النفاق على تعويق تقدّم مسيرة الاسلام وتخذيل المسلمين وإيذأ الرسول (ص) والمكر به لقتله، وكانت غزوات الرسول (ص) وحروبه شاهدة على كلّ ذلك، والمتتبّع لا حداث السيرة النبويّة لايجد صعوبة في رؤ ية هذه الحقيقة الظاهرة، لكنّ أعمال ومكائد هذا الفصيل لم تثمر شيئا للمنافقين سوى الخيبة والخزي طيلة السنوات العشر التي عاشها الرسول (ص) في المدينة.

ولقد عامل الرسول (ص) قائد هذا الفصيل وأتباعه وواجه أعمالهم ومكائدهم بما تقتضيه مصلحة الاسلام وحركة تقدّمه إلى الامام، فكان (ص) يصبر ويتحمّل ويصفح أو يغلظ ويعاقب حسب ظرف الاسلام ومقتضيات الحكمة الربانية التي لاتخطي.

وكانت لهذا الفصيل ولقائده عبداللّه بن اءُبيّ علاقات حسنة خفيّة بفصائل النفاق الاخرى، وقد يكتشف المتتبّع هذه العلاقات في الربط بين دلالات

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 71

بعض د الروايات وقرأة ما ورأ السطور فيها، ففي موقعة أحد مثلا لمّا شاع بين الناس أنّ النبىٍّ (ص) قد قُتل قال بعض الذين استزلّهم الشيطان ففرّوا يُصعدون

ولايلوون على أحد: (ليت لنا رسولا إلى عبداللّه بن اءُبيّ لياءخذ لنا أمانا من أبي سفيان، يا قوم إنّ محمّدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن ياءتوكم فيقتلوكم). «1»

وقال بعضهم: (لو كان نبيّا ما قتل فارجعوا إلى دينكم الاوّل)، «2»

وقال آخرون: (نلقي إليهم باءيدينا فإ نّهم قومنا وبنو عمّنا). «3»

قال صاحب كتاب السيرة الحلبيّة: (وهذا يدلّ على أنّ هذه الفرقة ليست من الانصار بل من المهاجرين). «4»

ولا شك أنّ هذه المتون تشير إلى أنّ هناك علاقة غير ظاهرة بين منافقي قريش د هؤ لاء وبين عبداللّه بن اءُبيّ بن سلول وبين اءبي سفيان راءس الكفر في مواجهة الاسلام والذي تحوّل بعد ذلك إلى رأس النفاق الامويّ (وكان كهفا للمنافقين) «5» ولا شك أنّ قيادة حزب السلطة كانت ممّن رقى صخرة الجبل فرارا، تثبت هذا أدلّة تاءريخيّة خاصّة، «6» ويؤ كّد ذلك أيضا أنّ من الثابت تاءريخيّا أنّ جميع المهاجرين سوى اميرالموءمنين عليّ (ع) كانوا قد فرّوا عن رسول اللّه (ص) في اءُحد، وفي الاثر اءنّ اءنس بن النضر قبل استشهاده في تلك المعركة استنهض الخليفة عمر بن الخطّاب مع آخرين من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 72

الفارّين الذين ألقوا باءيديهم، ودعاهم إلى الجهاد والشهادة فلم ينهضوا.

تقول الرواية:

(إنتهى أنس بن النضر، عمّ أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطّاب وطلحة بن عبيداللّه في رجال من المهاجرين والانصار وقد ألقوا باءيديهم.

فقال: ما يجلسكم!؟

قالوا: قتل رسول اللّه (ص).

قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده!؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه (ص).

ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل ...) «1»

والرواية مشعرة باءنّهم لم ينهضوا معه!

إنّ الانقلاب على الاعقاب الناشي عن الارتياب بنبوّة النبىٍّ (ص) لم ينحصر وقوعه من بعض الصحابة في موقعة

اءُحد فقط، بل كان يتكرّر عند كلّ شدّة أو انكسار وعند جريان الرياح بما لاتشتهي الامنيّة، هذا الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب أيضا يحدّثنا عن تكرّر حالة الارتياب هذه عنده يوم الحديبيّة ولكن بصورة أشدّ إذ دعته إلى التفكير بالتمرّد على رسول اللّه (ص) والخروج عليه، فيقول: (ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت إلّا يومئذٍ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة عن القضيّة لخرجت!!). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 73

ومن المضحك المبكي أنّ هذه المزايدات من هؤ لاء الصحابة كانت لاتظهر إلّا إذا ذهب الخوف وأمن الروع حيث تنشط الالسنة الحداد، وكان رسول اللّه (ص) إذا ضاق ذرعا بمزايداتهم الكاذبة وأراد أن يسكتهم ذكّرهم بجبنهم كما فعل يوم الحديبيّة إذ قال لهم:

(أنسيتم يوم اءُحدٍ إذ تصعدون ولاتلوون على اءَحَد، واءنا اءدعوكم في اءُخراكم!؟ اءنسيتم يوم الاحزاب إذ جاؤ كم من فوقكم ومن اءسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر!؟ أنسيتم يوم كذا!؟ ...). «1»

الحزب الامويّ: ..... ص : 73

كان فتح مكّة المكرّمة منعطفا من منعطفات تأريخ الاسلام الرئيسة، فقد تحوّل المسلمون بعده من عصابة ثائرة إلى قوّة مركزيّة قاهرة ودولة ظافرة ظاهرة، وتحوّل المشركون بعده من تجمّع مركزىٍّ مؤ ثّر في الاحداث إلى شتات ضعيف فاشل.

وكان قد أدرك دهاة النفعيّين من قريش هذه النتيجة قبل حصولها باءشهر، أمثال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فدخلوا في الاسلام حين أيقنوا أنّه لابدّ من الدخول فيه.

أما الامويّون فقد أصرّت غالبيتهم على المكابرة والعناد حتّى حلّت بساحتهم رايات الفتح الاسلامي، فكانوا من الطلقاء.

دخل الامويّون الاسلام مقهورين بالفتح، وقلوبهم تتجرّع الاسلام ولاتكاد تسيغه، وحقيقة نفاقهم وإصرارهم على الكفر من حقائق التاءريخ التي لايشك منصف فى ثبوتها، وشواهد هذه الحقيقة أمنع في ظهورها

من أن تخضع لتاءويلات يتكلّفها مجانبو الحقيقة وأعدأ الحقّ.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 74

هاهو أبوسفيان يدخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فيقول له:

(صارت إليك بعد تيم وعدي فاءدرها كالكرة، وأجعل أوتادها بني أميّة، فإ نّما هو الملك ولاأدري ما جنّة ولا نار). «1»

وهاهو معاوية يخلو به المغيرة بن شعبة فيقول له بعد أن استقامت الامور لمعاوية:

(إنّك قد بلغت مناك يا أميرالمؤ منين، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا، فإ نّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فواللّه ما عندهم اليوم شي تخافه ...). «2»

فيثور معاوية ويكشف عن كفره وجاهليّته قائلا:

(هيهات، هيهات، ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فواللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلّا أن يقول قائل أبوبكر، ثمّ ملك أخو عديّ فاجتهد وشمّر عشر سنين، فواللّه ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلّا أن يقول قائل عمر، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل (وعمل به)، فواللّه ماعدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل به، وإنّ أخا هاشم يُصرخ به في كلّ يوم خمس مرّات: أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه (ص)، فاءيّ عمل يبقى بعد هذا لا أمّ لك؟ واللّه إلّا دفنا دفنا ...). «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 75

وهاهو يزيد يصرّح بكفره وكفر آبائه ومعبّرا عن تشفّيه بقتل سيّدالشهدأ (ع) في تمثّله باءبيات ابن الزبعرى:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل

لا هلّوا واستهلّوا فرحا ثّم قالوا يا يزيد لاتشل

قد قتلنا القوم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت الهاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل «1»

دخل الامويّون الاسلام مقهورين بالفتح، وأعينهم تراقب مجرى حركة الاحداث لعلّ الامر بعد رسول اللّه

(ص) ينحرف عن مساره المرسوم فيرجع القهقرى، ويتجدّد لهم الامل والرجاء في أن يعود لهم سابق شاءنهم في الجاهليّة، فيمتطون صهوة الزعامة من جديد ولكن بثوبها الاسلامي، وقد عبّر أبوسفيان عن هذا الرجاء في محضر عثمان قائلا: (يا بني أميّة، تلقّفوها تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبوسفيان مازلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة)، «2» وفي نصّ آخر: (يا معشر بني أميّة، إنّ الخلافة صارت في تيم وعدي حتّى طمعت فيها، وقد صارت إليكم، فتلقّفوها بينكم تلقّف الكرة، فواللّه ما من جنّة ولا نار). «3»

يقول عبداللّه العلايلي في كتابه (الامام الحسين (ع):

(وفي قوله (ما زلت أرجوها لكم) ما يشعرنا باءنّ الحزب الامويّ كان موجودا من قبل، وكان يعمل تحت ستر الخفاء، ويحيك في الظلماء، وإلّا فباءىٍ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 76

سبب كان يرجوها لهم؟ وليسوا باءهل سابقة في الاسلام ولا أيادي لهم معروفة سوى المظاهرة ضدّ اللّه ورسوله). «1»

ولا شك أنّ التفاتة العلايلي في أنّ الحزب الامويّ كان موجودا من قبل هي التفاتة في محلّها، لكنّ تساؤ له عن سبب رجاء أبي سفيان في أن تكون الخلافة لبني أميّة تساؤ ل في غير محلّه، ذلك لا نّ اغتصاب الخلافة من أهلها المنصوص عليهم ودفعهم عن مقامهم وصيرورتها في (أقلّ حيين) من قريش على حدّ تعبير أبي سفيان نفسه هوالذي أطمع الامويّين فيها، وقد صرّح أبوسفيان بهذا السبب (إنّ الخلافة صارت في تيم وعدي حتّى طمعت فيها)، وذلك لا نّ الامويّين يرون أنفسهم أشرف عشيرة وأعزّ نفرا وأكثر علما وخبرةً ودهاءً من الاوّل والثاني، فلماذا لايطمعون بها وقد تهافت أمرها وتدانى شاءنها!؟

دخل الامويّون الاسلام ظاهرا بعقليّة (الحزب)، وتحسّسوا في البدء من الفصائل الاخرى المماثلة التي تعمل في دائرة

الصد عن رسول اللّه (ص) ليقيموا معها أواصر التعاون في ظلال الهويّة الاسلاميّة الساترة بعد ما كانوا قد تعاونوا معها وهم تحت راية الكفر السافرة. «2»

وقد يسّرت العلاقات القديمة سبل التعاون الجديدة بين الحزب الاموىّ وفصائل النفاق الاخرى، وقد يصعب على المتتبّع أن يعثر على دلائل كاشفة عن التعاون الجديد بين الامويّين بعد الفتح وبين فصائل النفاق الاخرى الى وقت رحلة النبىٍّ الاكرم (ص)، أللّهم إلّا بعض الاشارات الكاشفة عن حالة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 77

نفسيّة مساعدة في اتّجاه التعاون كمثل هذا الرواية التي رواها مسلم:

(أنّ أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر

فقالوا: واللّه ما أخذت سيوف اللّه من عنق عدوّاللّه ماءخذها!

فقال أبوبكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم!؟

فاءتى النبىٍّ (ص) فاءخبره.

فقال: يا أبابكر، لعلّك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك ...). «1»

لكنّ المتتبّع لايجد صعوبة تذكر في العثور على دلائل التعاون الجديد بعد أن استقرّت نتائج السقيفة لصالح حركة النفاق، وهذه الدلائل كثيرة جدّا، ولايقدح فيها الموقف المؤ قّت الذي وقفه أبوسفيان في طلبه من اميرالموءمنين علىٍّ (ع) في أن يمدّ يده ليبايعه، وفي تنكّره بادئ ذي بدء لنتائج السقيفة، فإ نّ هذا الموقف أملته على أبي سفيان أمنيّته المكبوتة في أن يبطش بالا سلام البطشة الكبرى بعد رحلة الرسول (ص) مباشرة من خلال إيقاع الاقتتال بين المسلمين على الخلافة وإسقاط الدولة الاسلاميّة وإعادة الناس إلى الجاهليّة وإلى قريش بزعاماتها السابقة، ولم تخف نيّة أبي سفيان في موقفه هذا على اميرالموءمنين علىٍّ (ع) فنهره وأغلظ له قائلا: (واللّه إنّك ما أردت بهذا إلّا الفتنة، وإنّك واللّه طالما بغيت للا سلام شرا ...). «2»

لقد كان الصحابة كلّهم أو جلّهم يعلمون أنّ بني أميّة هم الشجرة

الملعونة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 78

في القرآن، ذلك ممّا علّمهم رسول اللّه (ص) وصرّح به، «1» وهذه المعلومة جزء من معلومات ملفّ الملاحم والفتن المقبلة التي كشف عنها الرسول (ص) كشفا تامّا للا مّة إقامة للحجّة عليها في تشخيص المحجّة البيضاء ومعرفة خلفائه من بعده، يقول حذيفة بن اليمان (ر) (واللّه ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا!؟ واللّه ما ترك رسول اللّه (ص) من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعدا إلّا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته). «2»

إذن فقيادة حزب السلطة وهي من الصحابة كانت تعلم جيّدا من هم بنوأميّة، ومن الادلّة على ذلك أيضا أنّ:

(الخليفة الثاني عمر لمّا ساءل كعب الاحبار اليهودىٍّ عمّا يجدونه في كتبهم في قضيّة (إلى من يفضي الامر؟) قال كعب الاحبار: نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه وحاربهم على الدين. فاسترجع عمر مرارا وقال: أتسمع يا ابن عبّاس؟ أما واللّه لقد سمعت من رسول اللّه ما يشابه هذا، سمعته يقول: ليصعدنّ بنوأميّة على منبري، لقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة، وفيهم اءُنزل: (وما جعلنا الرؤ يا التي أريناك إلّا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن). «3»

وقد روى الزبير بن بكّار في الموفقيّات ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة، قال: قال لي عمر يوما: يا مغيرة هل أبصرت بهذه عينك العورأ منذ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 79

اءُصيبت؟ قلت: لا. قال: اءما واللّه ليعورنّ بنواءميّة الاسلام كما اءعورت عينك هذه، ثمّ ليعمينّه حتّى لايدري أين يذهب ولا أين يجي ...). «1»

لكنّ قيادة حزب السلطة مع كلّ هذه الدراية كانت قد تعاونت مع الحزب الامويّ تعاونا وثيقا في إطار علاقة

صميميّة أساسها الصد عن رسول اللّه (ص).

وملفتٌ للا نتباه (أنّ أكثريّة الامرأ والولاة كانوا من بني أميّة في أزمان أبي بكر وعمر وعثمان)، «2» في الوقت الذي منعت قيادة حزب السلطة الهاشميّين منعا باتا من تسلّم أىٍّ مسؤ وليّة من إمارة أو ولاية أو دون ذلك، ويعلّل عمر لابن عبّاس د هذا الموقف المتشدّد في منع الهاشميّين من ذلك باءنّ الهاشميّين إذا ما تولّوا منصبا في إدارة شؤ ون الامّة دعوا الناس إلى الالتفاف حول أهل الخلافة الحقيقيّين من بني هاشم وبصّروا الناس باءهل الصدّ عن رسول اللّه (ص)، وهذا ما لايمكن أن تسمح به قيادة حزب السلطة أبدا.

يقول عمر مخاطبا ابن عبّاس في هذه المساءلة:

(يابن عبّاس، إنّ عامل حمص هلك، وكان من أهل الخير، وأهل الخير قليل، وقد رجوت أن تكون منهم، وفي نفسي منك شي لم أره منك، وأعياني ذلك، فما رأيك في العمل؟

قال: لن أعمل حتّى تخبرني بالذي في نفسك.

قال: وما تريد إلى ذلك؟

قال: أريده فإن كان شي أخاف منه إلى نفسي خشيتُ منه عليها الذي

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 80

خشيتَ، وإن كنت بريئا من مثله علمت أنّي لست من أهله، فقبلت عملك هنالك، فإ نّي قلّما رأيتك طلبت شيئا إلّا عاجلته.

فقال: يا ابن عبّاس، إنّي خشيتُ أن ياءتي عليَّ الذي هو آت وأنت في عملك فتقول: هلمّ إلينا، ولاهلمّ إليكم دون غيركم ...). «1»

فالخليفة الثاني إذن لاياءبى فقط أن تعود الخلافة إلى أهلها المنصوص عليهم من قبل اللّه تبارك وتعالى، بل ياءبى حتّى أن يتمكّن الهاشميّون من الدعوة إلى أنفسهم ولو بعد موته. هذا في الوقت الذي سعى حزب السلطة منذ أوائل أيّام تسلّمهم الحكم إلى تمهيد الامور للحزب الامويّ ليتسلّم زمام الامور

بعد قيادة حزب السلطة، لا نّ هذه القيادة رأت في الامويّين امتدادها الفكري والعملي، والضمانة الاكيدة في استمرار وجود قوّة حاقدة على أهل البيت (ع)، تواصل مواجهتهم وعزلهم وحرمانهم من حقّهم في التصدي لا مور المسلمين.

فبعد أن استقرّت نتيجة السقيقة لحزب السلطة، كانت ظاهرة استمالة هذا الحزب للا مويّين على صعيد التعاون الجديد معهم في المواجهة السافرة مع أهل البيت (ع) من الظواهر الواضحة في تأريخ المسلمين بعد الرسول (ص).

وتكفي دليلا على هذه الحقيقة العلاقة الخاصّة جدّا بين الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب ومعاوية بن أبي سفيان الطليق الذي لعنه الرسول (ص) مرارا على رؤ وس د الاشهاد، وأمر المسلمين بقتله إذا رأوه على منبره. «2»

كانت للخليفة الثاني خلوات بمعاوية منذ أوائل الايّام ...

يحدّثنا التاءريخ بواقعة من وقائع طفولة الامام الحسين (ع) في أوائل أيّام

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 81

حكم عمر بن الخطّاب عن لسان الامام الحسين (ع) أنّه قال:

(صعدتُ إلى عمر بن الخطّاب، فقلت له: إنزل عن منبر أبي واصعد منبر أبيك! قال: فقال: إنّ أبي لم يكن له منبر. قال فاءقعدني معه، فلمّا نزل ذهب بي إلى منزله، فقال لي: أي بنىٍّ، من علّمك هذا؟ قال: قلت: ما علّمنيه أحد! قال: أي بنىٍّ لو جعلت تاءتينا وتغشانا؟ قال: فجئت يوما وهو خال بمعاوية!! وابن عمر بالباب ولم ياءذن له، فرجعتُ، فلقيني بعدُ فقال لي: يا بنىٍّ لم أرك تاءتينا؟ فقلت: قد جئت وأنت خال بمعاوية، فرأيت ابن عمر رجع فرجعتُ.

فقال: أنت أحقّ بالا ذن من عبداللّه بن عمر، إنّما أنبت في رؤ وسنا ما نرى اللّه ثمّ أنتم!! ...). «1»

وذُكر معاوية عند عمر فقال:

(دعوا فتى قريش وابن سيّدها!! إنّه لمن يضحك في الغضب ولاينال منه

الّا على الرضا، ومن لاياءخذ من فوق رأسه إلّا من تحت قدميه). «2»

يقول هذا فيمن لعنه رسول اللّه (ص) ولعن أباه ولعن ابنه!

وكان معاوية يتذلّل لعمر ويتملّقه، وإذا جاوز رضاه في قضيّة من القضايا خاطبه بلسان المتذلّل الخاضع:

(يا أميرالمؤمنين، علّمني أمتثل.) «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 82

ومعاوية في ذلك إنّما يمثّل الدور الذي رسمه له أبوه أبوسفيان منظّر الحزب الامويّ حين أوصاه قائلا:

(يا بُنىٍّ إنّ هؤ لاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتاءخّرنا ... فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعا، وقد ولّوك جسيما من أمورهم فلاتخالفهم، فإ نّك تجري إلى أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقبك). «1»

والامويّون لايتردّدون في الاعتراف باءنّهم امتداد لحزب السلطة، بل هم يحاجّون من يُنكر عليهم قبائحهم ممّن هم من نسل أبي بكر أو عمر باءنّ الاوليين إن كانا قد أحسنا فإ نّا احتذينا بهما! وإن كانا قد أساءا فهما أولى بالذم والمعابة!

يقول معاوية في رسالة جوابيّة بعث بها إلى محمّد بن أبي بكر (ر):

(... وقد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا صلّى اللّه عليه، نرى حقّ ابن أبي طالب لازما لنا، وفضله مبرّزا علينا، فلمّا اختار اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما عنده، وأتمّ له ما وعده، وأظهر دعوته وأفلج حجّته، قبضه اللّه إليه، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه وخالفه، على ذلك اتّفقا واتّسقا ... فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، فسترى وبال أمرك، وقسْ شبرك بفترك، تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه، ولاتلين على قسر قناته، ولايدرك ذومدى أناته، أبوك مهّد مهاده، وبنى ملكه وشاده، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فاءبوك أوّله، وإن يك جورا فاءبوك أسّسه، ونحن شركاؤ ه، وبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، ولولا ما

سبقنا إليه أبوك ماخالفنا ابن أبي طالب وأسلمنا له، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك فاحتذينا بمثاله، واقتدينا بفعاله، فَعِب أباك ما بدا لك أودع ...). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 83

ولمّا قتل الحسين (ع) كتب عبداللّه بن عمر إلى يزيد بن معاوية:

(أمّا بعد، فقد عظمت الرزيّة وجلّت المصيبة، وحدث في الاسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسين!)

فكتب إليه يزيد:

(أمّا بعد يا أحمق، فإ نّا جئنا إلى بيوت مجدّدة وفرش ممهّدة ووسادة منضّدة، فقاتلنا عنها، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن كان الحقّ لغيرنا فاءبوك أوّل من سنّ هذا واستاءثر بالحقّ على أهله!). «1»

أمّا علاقة الحزب الامويّ بفصيل منافقي أهل المدينة فيمكن أن نتحسّس د جذورها في موقعة أحد لمّا تمنّى الفارّون من أصحاب صخرة الجبل وفيهم قيادة حزب السلطة طبعا أن يجدوا رسولا إلى عبداللّه بن اءُبيّ بن سلول ليتوسّط لهم عند أبي سفيان في العفو عنهم، الامر الذي يكشف عن العلاقة الخاصّة بين ابن سلول وأبي سفيان آنذاك.

وأمّا علاقة الحزب الامويّ بفصيل منافقي أهل الكتاب فاءوضح من أن تحتاج إلى بيان، وذ لك لا نّ بطانة السوء التي اتّخذها الامويّون من منافقي اليهود والنصارى من ظواهر التاءريخ الامويّ التي لاتخفى على من له أدنى معرفة بهذا التاءريخ، ويكفي ذكر هذه الاسماء: كعب الاحبار، نافع بن سرجس، سرجون، ابن أثال، أبوزبيد، دليلا على ذلك.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 84

ويفوق الحزب الامويّ كلّ فصائل حركة النفاق في مستوى الاضرار الشديدة التي ألحقها بالا سلام والمسلمين، فكرّيا وعمليّا، كمّا وكيفا، تلك الاضرار التي لازال العدد الكبير من المسلمين إلى اليوم تحت تاءثير عوالقها التي اءُلصقت بالا سلام وهي ليست منه، بل هي ممّا ابتدعه الامويّون على صعيد الحديث

والفقه والتفسير والتاءريخ.

ومع هذا فإ نّ الحزب الامويّ يبقى فيما استطاع أن يصل إليه من التحكّم في رقاب هذه الامّة وتشويه نظريّتها وتاءريخها وتدمير حياتها ناتجا من نواتج حزب السلطة وسيّئة من سيّئاته إلى يوم القيامة.

منافقون نفعيّون: ..... ص : 84

بقي أن نقول: إنّ في دائرة النفاق أفرادا لم يشكّل وجودهم فصيلا ذا خطّ محدّد مُلتزَم، بل كانت مطامعهم الدنيويّة ترسم اتّجاه مواقفهم المتذبذبة في السخط والرضا، أمثال: عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، والمغيرة بن شعبة، وأبى موسى الاشعري، وسمرة بن جندب، وأبى هريرة وغيرهم.

والدنيا التي يريدها هؤ لاء ويطمعون بها لايجدونها في صفّ علىٍّ وآل علىٍّ (ع)، من هنا فإ نّ هؤ لاء عموما لم يخرجوا طيلة حياتهم عن خطّ خدمة حزب السلطة أو الحزب الامويّ، ولذا لم نفصّل القول في قرأة مواقف هؤ لاء النفعيّين في هذه المقالة.

المنعطفات الاساسيّة ونتائجها: ..... ص : 84
السقيفة: ..... ص : 84

يهمّنا من السقيفة هنا نتائجها، غير أنّ من الجدير بالذكر أن ننبّه قبل ذلك إلى أنّ هناك دلائل تاءريخيّة تشير إلى أنّ مؤ تمر السقيفة لم يكن قد انعقد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 85

انعقادا عفويّا كما تصوّر ذلك أكثر كتب التاءريخ، بل تشير هذه الدلائل إلى أنّ حزب السلطة نفسه كان قد خطّط لعقد مؤ تمر كهذا تخطيطا دقيقا بطريقة (التحفيز والاثارة)، وقد أعدّت قيادة هذا الحزب ما يمكّنها لتكون هي الفائزة فيه. ومن الدلائل على ذلك:

: (كان عامّة المهاجرين وجلّ الانصار لايشكّون أنّ عليّا هو صاحب الامر بعد رسول اللّه (ص)، «1» وذلك لقرب عهدهم بواقعة الغدير وببيان النبىٍّ (ص) فيها، الذي نصب فيه عليّا وليّا للا مر من بعده، والبيانات النبويّة الاخرى الكثيرة المماثلة التي كانت لاتزال حيّة في ذاكرة المهاجرين والانصار خاصّة والامّة عامّة، لكنّ إنتشار نباء مواجهة قيادة حزب السلطة لرسول اللّه (ص) علنا في مرضه قبيل موته، وصدّه عن كتابة بيانه الاخير المانع من الضلال والاختلاف، واتّهامه بالهجر، كان قد أشعر الناس عمليّا باءنّ هناك احتمالا قويّا لوقوع انقلاب على الشرعية

الالهيّة سوف ينفّذ مباشرة بعد موت رسول اللّه (ص)، وأنّ قريشا سوف تمنع أهل البيت (ع) عن حقّهم في الامر، فكان هذا أوّل الحوافز التي دفعت الانصار للتفكير بكيفيّة مواجهة الحالة الجديدة.

كان حزب السلطة قد اخترق الانصار فضمّ إليه جماعة منهم، وجعل من بعضهم جواسيس وعيونا له ترصد اتّجاه تفكير الانصار ورأيهم وطريقة تحرّكهم ومواقيتها، الامر الذي ساعد حزب السلطة كثيرا في بثّ المحفّزات المطلوبة لتحريك عقليّة الانصار بالا تّجاه الذي يريده.

فاءُسَيد بن حضير الذي تحدّثت عنه وسائل إعلام حزب السلطة على أنّه سيّد الاوس، كان من أعوان قيادة هذا الحزب المقرّبين، وقد تفانى في خدمتهم، وكان ممّن اشترك مع عمر في مهمّة إحراق بيت فاطمة (س)

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 86

وإخراج علىٍّ (ع) كرها من بيته للبيعة بالقوّة.

ومعاذ بن جبل الذي كان عضوا كبيرا من اعضاء حزب السلطة وشريكا لقيادة هذا الحزب في التوقيع على الصحيفة السريّة التي أبرموا أمرها في مكّة، وتعاهدوا فيها على عزل علىٍّ (ع) عن الخلافة إذا مات النبىٍّ (ص).

وبشير بن سعد الخزرجي، الذي كان يبغض عليّا (ع) فتعاون مع حزب السلطة، وحسد سعد بن عبادة ونفس عليه منزلته في الانصار فكان أوّل من بادر من الانصار فبايع أبابكر في السقيفة.

وعويم بن ساعدة الذي آخى الرسول (ص) بينه وبين عمر في المؤ اخاة بن المهاجرين والانصار، كان هو ومعن بن عدىٍّ الانصاري من جواسيس وعيون قيادة حزب السلطة لمراقبة الانصار ورصد تحرّكاتهم، وهما اللذان أفسدا على سعد بن عبادة أمره في السقيفة وأشاعا الوهن في نفوس الانصار حين خاطبهم عويم قائلا: (يا معشر الخزرج إن كان ه ذا الامر فيكم دون قريش فعرّفونا ذلك وبرهنوا حتّى نبايعكم عليه، وإن كان لهم دونكم

فسلّموا إليهم ...)، «1» وهما اللذان أسرعا إلى أبي بكر وعمر بخبر انعقاد السقيفة ليحضراها ومن معهما في الوقت المحدّد (وكان معن بن عدىٍّ يشخّصهما إشخاصا ويسوقهما سوقا عنيفا إلى السقيفة مبادرة إلى الامر قبل فواته). «2»

باءمثال هؤ لاء من الانصار استطاعت قيادة حزب السلطة أن تدبّر تنفيذ خطّتها جيّدا لتوقع الانصار في فخّ مصيدتها. «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 87

: (توفّي رسول اللّه (ص) وأبوبكر بالسنح وعمر حاضر)، «1» وقد صدر نباء موته (ص) عن بيته، فلوكان ثمّة احتمال أن يصدر عن بيته الشريف مثل هذا النباء كذبا أو خطاءً!! فإ نّ بإ مكان عمر أن يتيقّن من موته (ص) كما فعل أبوبكر حينما جاء من السنح حيث كشف عن وجه رسول اللّه (ص) فتيقّن، وبهذا يكون عمر قد قطع الشك باليقين كما يفعل أيّ عاقل في مثل هذا الحال، لكنّ عمر وهو ينتظر مجي ء أبي بكر على أحرّ من الجمر ظلّ يذهل الناس عن أيّ تفكير أو تحرّك وهو يزبد ويرعد قائلا:

(إنّ رجالا من المنافقين!! يزعمون أنّ رسول اللّه (ص) توفّي، وإنّ رسول اللّه واللّه ما مات ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع بعد أن قيل قد مات، واللّه ليرجعنّ رسول اللّه فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنّ رسول اللّه مات). «2»

فلمّا جاء أبوبكر وأسكته بالا ية القرآنيّة: (وما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ...) «3» توقّف عمر عن أدأ ذلك الدور واندفع يؤ دّي دورا آخر فقال:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 88

(أيّها الناس، هذا أبوبكر وذو شيبة المسلمين فبايعوه) «1»

مُطلِقا بذلك إشارة البدء بتنفيذ

الخطّة عمليّا في الانقلاب على الشرعيّة الالهيّة، وذلك قبل السقيفة، فعندها تيقّن الانصار من وقوع الانقلاب، وتسارعوا متحفّزين يجمعون شملهم لمواجهة الحالة الطارئة، فحملوا سعد بن عبادة مريضا إلى السقيفة واجتمعوا فيها.

كانت قيادة حزب السلطة قد استقدمت أعدادا كبيرة من مرتزقة الاعراب بعد الاتّفاق معهم على أن يحضروا المدينة حيث ينعقد المؤ تمر وفي وقت محدّد، ليكثر بهم سواد حزب السلطة في مؤ تمر الاغتصاب، وليضعف بإ زائهم صوت الانصار، تقول المصادر: (إنّ أسلم أقبلت بجماعتها حتّى تضايق بهم السكك) «2» و (جاءت أسلم فبايعت، فقوي أبوبكر بهم، وبايع الناس د بعدُ)، «3» وتعليق عمر على أثر حضور هذه القبيلة دليل على استقدامها من قبل حزب السلطة، كان يقول: (ما هو إلّا أن رأيت أسلم فاءيقنت بالنصر). «4»

كان هذا سببا كبيرا من أسباب انكسار الانصار وانتصار حزب السلطة في سقيفة بني ساعدة، حيث ضعف صوت الانصار إلى درجة أن لم تنفعهم حتّى مناداتهم أواخر الامر: (لانبايع إلّا عليّا!!) «5»

كان الهمّ الاكبر لحزب السلطة في خطّة الاغتصاب هو أن ينحصر النزاع

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 89

والتخاصم في مؤ تمر السقيفة بين الانصار بما لهم من فضل وبين المهاجرين بما لهم من فضل، بمعزل عن ذكر (الوصيّ الشرعىٍّ) وذكر فضائله، ذلك لا نّ قيادة حزب السلطة إذا ضمنت إخراج علىٍّ (ع) من دائر النزاع والتخاصم على الخلافة، واطماءنّت إلى عدم ذكره في أيّ احتجاج، فإ نّها وهي تتحدّث باسم المهاجرين تكون قد أحرزت الفوز حتما لا نّ حجّة المهاجرين هي الاقوى في حال عزل أهل البيت (ع) عن دائرة الاحتجاج (إذ هم الثمرة إذا احتُجّ بالشجرة!).

لكن ماذا تصنع قيادة هذا الحزب والامّة قريبة عهد بواقعة الغدير التي شهدها جلّ

الصحابة وسمع بها القاصي والداني!؟ حيث نصب فيها رسول اللّه (ص) عليّا (ع) وليّا للا مر بعده، في بيان نبوىٍّ رواه من الصحابة في التاءريخ المدوّن فقط مائة وعشرة، «1» وكيف ستواجه قيادة حزب السلطة من يعترض عليها بحديث الغدير وبيعته!؟ فضلا عن البيانات النبويّة الاخرى الكثيرة المتعلّقة بولاية علىٍّ (ع) وخلافته!؟

ليس بإ مكان أحد من الصحابة عامّة والمهاجرين والانصار خاصّة أن ينكر واقعة الغدير آنذاك، ولذا لم يكن أمام قيادة حزب السلطة في مواجهة هذه المشكلة إلّا أن تدّعي أنّ النبىٍّ (ص) قد نسخ بيان الغدير والبيانات النبويّة الاخرى المتعلّقة بخلافة علىٍّ (ع)، وتدّعي على لسان النبىٍّ (ص) أنّ اللّه سبحانه منع اجتماع النبوّة والخلافة لاهل البيت (ع)، والقضيّة لاتحتاج إلّا إلى مدّعٍوشهود!!

وهكذا كان، فقيادة حزب السلطة إضافة إلى مواصلتها لعمليّة تحفيز الانصار باتّجاه منازعة المهاجرين على الامارة لا نفسهم بعيدا عن التوجّه الى (الوصىٍّ الشرعىٍّ) كانت تردّ على كلّ معترض عليها بواقعة الغدير أنّ الامر قد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 90

نُسخ، والامر يحدث بعده الامر!! ويبدو أنّ قيادة حزب السلطة لم تكن تردّ بهذا فقط، بل كانت تبادر الى إشاعة دعوى النسخ هذه في صفوف الانصار بواسطة عملائها منهم، ولايبعد أنّها روّجت هذا الادّعاء قُبَيل وفاة النبىٍّ (ص) بقليل أو بعد وفاته مباشرة لخلق حالة ذهنيّة ونفسيّة عامّة تتقبّل إنحصار النزاع بين الانصار والمهاجرين بعيدا عن علىٍّ (ع).

وهكذا كان فقد نجحت قيادة حزب السلطة في استغفال كثير من جماهير الانصار وأوقعتهم في فخّ مصيدتها، فلما انقضت (الفلتة) إنتبهوا من غفلتهم أواخر الامر (فقالت الانصار أو بعض الانصار لانبايع إلّا عليّا)، «1» ويقول التاءريخ أيضا إنّه:

(لمّا بويع أبوبكر واستقرّ أمره ندم قوم كثير من الانصار على

بيعته، ولام بعضهم بعضا، وذكروا علىٍّ بن أبي طالب وهتفوا باسمه ...) «2»

ولات حين فائدة!!

ومن الدلائل على أنّ قيادة حزب السلطة لجاءت إلى دعوى النسخ في مواجهة من يعترض عليها بواقعة الغدير، ما رواه التاءريخ أنّ بريدة الاسلمي قال لعمر: (يا عمر، ألستما الذين قال لكما رسول اللّه (ص): انطلقا إلى عليّ فسلّما عليه بإ مرة المؤ منين. فقلتما: أعن أمراللّه وأمر رسوله!؟

فقال: نعم.؟

فقال أبوبكر: قد كان ذلك يا بريدة، ولكنّك غبت وشهدنا، والامر يحدث بعده الامر! ...). «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 91

ولمّا حاجّهم أميرالمؤ منين عليُّ (ع) في المسجد حينما أحضروه كرها وقهرا للبيعة فخاطبهم قائلا:

(يا معشر المسلمين والمهاجرين والانصار، اءُنشدكم اللّه اء سمعتم رسول اللّه (ص) يقول يوم غدير خم كذا وكذا، فلم يدع (ع) شيئا قاله فيه رسول اللّه (ص) علانية للعامّة إلّا ذكرهم إيّاه.

قالوا: نعم.

فلمّا تخوّف أبوبكر أن ينصره الناس وأن يمنعوه بادرهم فقال: كلّما قلتَ حقّ، قد سمعناه ب آذاننا ووعته قلوبنا، ولكن قد سمعتُ رسول اللّه يقول بعد هذا:

إنّا أهل بيت اصطفانا اللّه وأكرمنا واختار لنا الاخرة على الدنيا، وإنّ اللّه لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة.

فقال علي (ع): هل أحد من أصحاب رسول اللّه (ص) شهد هذا معك!؟

فقال عمر: صدق خليفة رسول اللّه، قد سمعته منه كما قال!

وقال ابوعبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل: قد سمعنا ذلك من رسول اللّه.

فقال علي (ع): لقد وفيتم بصحيفتكم التي تعاقدتم عليها في الكعبة: إن قتل محمّد أو مات لتزونّ هذا الامر عنّا أهل البيت.

فقال أبوبكر: فما علمك بذلك!؟ ما أطلعناك عليها.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 92

فقال (ع): أنت يا زبير، وأنت يا سلمان، وأنت يا أباذر، وأنت يا مقداد! أساءلكم باللّه

وبالا سلام، أما سمعتم رسول اللّه (ص) يقول ذلك، وأنتم تسمعون، إنّ فلانا وفلانا حتّى عدّهم هؤ لاء الخمسة، قد كتبوا بينهم كتابا وتعاهدوا فيه وتعاقدوا على ما صنعوا؟

فقالوا: أللّهمّ نعم، قد سمعنا رسول اللّه (ص) يقول ذلك لك إنّهم قد تعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا، وكتبوا بينهم كتابا إن قُتِلْتُ أو متُّ أن يزووا عنك هذا يا علىٍّ ...). «1»

نتائج السقيفة: ..... ص : 92
اشارة

أفرز مؤ تمر السقيفة نتائج كثيرة جدّا في جميع مجالات حياة الامّة المسلمة، هي ذات النتائج الناشئة عن انقلاب أمّة على أعقابها «2» ورجوعها القهقرى عن المسار المعصوم الذي أراده اللّه تعالى لها تحت ظلّ قيادة حججه على العباد وخلفائه في البلاد بعد رحلة النبىٍّ الاكرم (ص).

وهذه النتائج على كثرتها منها ما ظهر فورا وأثّر تاءثيرا مباشرا في حياة الامّة، ومنها ما شرع بالنشوء والتكون، ويهمّنا هنا ملاحظة النتائج التي كان لها تاءثير في التمهيد للتطوّرات الكبرى التي أدّت إلى سيطرة الحزب الامويّ على زمام الامور، وأهمّ هذه النتائج:

1 (إقصاء (الوصىٍّ الشرعىٍّ (ع) عن مقامه ..... ص : 92

: إقصاء (الوصىٍّ الشرعىٍّ) عن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 93

مقامه الذي فرضه اللّه تعالى له، وقهره على البيعة بعد تهديده بالقتل إن لم يبايع، وبعد أن هجموا على داره «1» التي كان جبرئيل الامين (ع) يستاءذن كلّما أراد الدخول إليها، وأضرموا النار على بابها «2» وعصروا فاطمة الزهرأ (س) وديعة الرسول (ص) بين الحائط والباب حتّى اءُسقط جنينها وكُسر ضلعها ... «3» لقد كانت تلك الجسارة على أهل البيت (ع) فاتحة كلّ الجسارات التي توالت عليهم بعد ذلك.

2 (التضييق على أهل البيت (ع) ..... ص : 93

: التضييق على أهل البيت (ع) اجتماعيّا وسياسيّا واقتصاديّا، فلقد أظهر القوم التذمّر من كثرة بكاء فاطمة (س) على أبيها (ص) حتّى بنى اميرالموءمنين علي (ع) لها بيت الاحزان بعيدا عن مسامعهم التي كانت تستشعر لغة الاحتجاج السياسيّ في بكائها، كما مارس القوم رقابة أمنيّة مشدّدة على أبي الحسن (ع) خشية من قيامه باءيّ تحرّك ضدّهم، ومنعوا فاطمة (س) إرثها، وأخذوا فدكا منها وهي نحلتها من أبيها (ص) «4» كما منعوهم وبني هاشم حقّهم في الخمس، كلّ ذلك من أجل ألّايجد أهل البيت (ع) في سعة الحال قدرة على التبليغ بحقّهم في الامر والقيام والنهضة.

3 (منع بني هاشم من تولّي المناصب الحكوميّة ..... ص : 93

: منع بني هاشم من تولّي أيّة مناصب حكوميّة، خصوصا المناصب الاداريّة والعسكريّة والماليّة، خشية من أن يدعوا بنوهاشم إلى حقّ أهل البيت (ع) بالا مر كما صرّح بذلك

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 94

عمر لعبداللّه بن عبّاس (كما مرّ في رواية سابقة).

4 (بسط يد الامويّين في تولّي المناصب الحكومية ..... ص : 94

: بسط يد الامويّين في تولّي الامارات والولايات والمناصب الحكوميّة الاخرى بمقتضى التعاون الجديد بين الحزب الحاكم والحزب الامويّ بعد أن استقرّ الامر لا بى بكر، فقد شكلت نسبة عدد الامويّين من مجموع عمّال أبي بكر وولاته وأمرأ جنده حوالي الثلث، «1» الامر الذي أحيا أمل الحزب الامويّ في الاستحواذ على السلطة.

لقد كان حزب السلطة يرى امتداده الفكريّ والعمليّ في الحزب الامويّ، وكان الحزب الامويّ بعد استتباب الامر لا بى بكر يرى نفسه هوالفائز بفوز حزب السلطة الرافع لشعار الخلافة لقريش دون بني هاشم.

يقول عبداللّه العلايلي في هذه النقطة:

(... فلم يفز بنو تيم بفوز أبي بكر بل فاز الامويّون وحدهم، ولذلك صبغوا الدولة بصبغتهم، وأثّروا في سياستها وهم بعيدون عن الحكم، كما يحدّثنا المقريزي في رسالته (النزاع والتخاصم).

ومن تأريخ هذا الفوز الانتخابي بدأت سعاية بني أميّة لتهيئة الاسباب إلى الانقلاب الذي سيفضي في نهايته إلى استحواذهم على السلطة، وأىٍّ ناظر في حركات أبي سفيان لايشك باءنّه بدأ يعمل بهمّة لاتعرف الكلل لتعبيد الامور على ما يريد ...). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 95

5 (انتعاش الروح القبلية وانبعاثها من جديد ..... ص : 95

: انتعاش الروح القبليّة وانبعاثها فعّالة من جديد بعد أن أخمدها الاسلام بتعاليمه الساميّة وتربيته الرفيعة، ذلك لا نّ منطق السقيفة قام على أساس التنابز بالا لقاب والمفاضلة القبليّة بعيدا عن المقياس الاسلامي: (إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم). لقد كانت الروح القبليّة ظاهرة بيّنة في المنطق الذي ساد النزاع بين المهاجرين والانصار في السقيفة، فقد ذكّر أبوبكر كُلّا من الاوس والخزرج بالا حقاد والاحن التي كانت بينهم قبل الاسلام، وأغراهم بها حين تحدّث عمّا كان بينهما من القتلى والم آسي.

وكان خطيب الانصار الحباب بن المنذر يهيج الانصار ويؤ جج عزائمهم بنَفَس د جاهلي بحت.

وكان عمر

بن الخطّاب يفصح عن لسان قريش بهذه الروح القبليّة قائلا:

(من ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤ ه وعشيرته!!).

هذه الروح القبليّة التي اندلعت كالنار من تحت الرماد يوم السقيفة، فتحت على المسلمين بابا كبيرا من أبواب التمزّق والفتنة، إذ سرعان ما تجرّأ بعض د القرشيّين من الطلقاء والمنافقين النفعيّين أمثال سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبى جهل وعمرو بن العاص والوليد بن عقبة وغيرهم بالتعرض للا نصار وهجائهم والدعوة إلى قتالهم بعد أن أغاضهم اعتزال الانصار على أثر السقيفة، فردّ عليهم الانصار دفاعا عن أنفسهم، وتعاظم الخطب، ولولا تدخّل أمير المؤ منين علىٍّ (ع) وبعض المهاجرين ودفاعهم عن الانصار لوقعت مصيبة عظمى أخرى في تأريخ الامّة الاسلاميّة آنذاك. «1»

ولقد استثمرت حركة النفاق عامّة والحزب الامويّ منها خاصّة تاءجيج روح التناحر القبلىٍّ في تمزيق كيان الامّة، وتاءليب بعضها على بعض، من أجل اقتيادها بعد ذلك بسهولة على طريق تحقيق أهداف حركة النفاق في

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 96

طمس حقائق ومعالم الاسلام المحمّديّ الخالص.

6 (محاصرة السنّة النبويّة علنا ..... ص : 96

: سبق فيما قدّمنا أن قلنا إنّ قيادة حزب السلطة كانت أيّام حياة النبىٍّ (ص) تنهى سرّا عن كتابة البيان النبوىٍّ بدعوى أنّ النبىٍّ (ص) بشرٌ يتكلّم في الغضب والرضا!!، كما كشف عن ذلك عبداللّه بن عمرو بن العاص، وقلنا إنّ غاية تلك المحاولة هي محاصرة البيانات النبويّة عامّة والمتعلّقة بالخلافة وشخص الخليفة من بعد النبىٍّ (ص) خاصّة.

أمّا بعد رحلة النبىٍّ (ص)، وبعد أن تمخّض مؤ تمر السقيفة عن فوز حزب السلطة بالحكم، فإ نّ السريّة في مواجهة تلك البيانات النبويّة كانت قد فقدت مسوّغاتها، وصار الصد عن البيان النبوىٍّ علنا ولكن تحت غطاء خشية انتشار الاختلاف في الامّة!! فقد جمع أبوبكر الناس وقال لهم:

(إنّكم تحدّثون عن

رسول اللّه (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافا، فلاتحدّثوا عن رسول اللّه شيئا!!، فمن ساءلكم فقولوا:

بيننا وبينكم كتاب اللّه!). «1»

وفضلا عن ملاحظة التحول من التكتّم في المواجهة إلى الاعلان عنها، نلاحظ أيضا أنّ قوله (فلا تحدّثوا عن رسول اللّه شيئا) يعني المنع المطلق عن البيان النبوىٍّ مطلقا!! وضرب حصار تامّ شامل على كلّ ما ورد عنه (ص)!.

لقد أدركت قيادة هذا الحزب أنّ ما يقلقها وتخشى من انتشاره ليست البيانات النبويّة المتعلّقة بمقام علىٍّ (ع) ومنزلته وأحقّيّته بالخلافة فحسب، بل هناك

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 97

البيانات المتعلّقة بالا مر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخرى في أوصاف (الائمّة المضلّين) وضرورة القيام ضدّهم، وأخرى تشخّص الشجرة الملعونة في القرآن، وأخرى تتحدّث في الفتن وقادتها، وأخرى في فضائل بعض الصحابة الذين يضيق الحزب الحاكم ذرعا بهم، ولايسرّه بل يسوءه انتشار عبير فضائلهم، وأخرى وأخرى ... فكان لابدّ من تعميم المنع وإطلاقه!!.

وكما ذكرنا في مامضى، فقد طُبِّق هذا المنع بصرامة وشدّة في عهد عمر، ومنع عثمان رواية أي حديث لم يُروَ في عهدي أبي بكر وعمر. ونتيجة لكثرة الفتوحات ودخول كثير من الشعوب في الاسلام وتباعد الايّام عن عهد النبىٍّ (ص)، ولتوهّم الناس أنّ الخلفاء الثلاثة الذين حكموا بعد النبىٍّ (ص) امتداد له، فقد اختلط الامر على أكثر الامّة التي لم تعرف عن سنّة النبىٍّ (ص) إلّا نزرا يسيرا، وصار أكثر الناس د يرى السنّة في سنّة عمر (وهي مجموعة البدع التي خالف فيها سنّة النبى (ص)، حتّى إذا اءَلَفُوها اءصرّوا عليها واءبوا أن يتحوّلوا عنها حتّى وإن ذكّروا باءنّ ذلك خلاف سنّة النبىٍّ (ص).

فقد ساءل أهل الكوفة (وهي عاصمة البلاد الاسلاميّة يومئذٍ) اميرالموءمنين عليّا (ع) أن ينصب لهم إماما

يصلّي بهم نافلة شهر رمضان، فزجرهم، وعرّفهم أنّ ذلك خلاف السنّة، فتركوه واجتمعوا لا نفسهم، وقدّموا بعضهم، فبعث إليهم ابنه الحسن (ع)، فدخل المسجد ومعه الدرّة، فلمّا رأوه تبادروا الابواب وصاحوا: واعمراه! «1» وفي بعض المصادر أنّهم قالوا: يا أهل الاسلام غيّرت سنّة عمر. «2»

وهنا يتّضح أمام المتتبّع وجه من أوجه الصعوبات الكبيرة التي واجهها الامام

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 98

عليّ (ع) في إرجاع الامور إلى أصولها الصحيحة، يقول (ع):

(قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللّه (ص) متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنّته، ولو حملت الناس على تركها، وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول اللّه (ص) لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب اللّه عزّ وجلّ وسنّة رسول اللّه (ص) ...). «1»

7 (نشوء حالة الشلل النفسي في الامّة ..... ص : 98

: ويلاحظ المتتبّع لنتائج السقيفة أيضا نشوء حالة روحيّة ونفسيّة جديدة في الامّة بعد السقيفة، هي حالة (شلل نفسىٍّ) لم تكن في الامّة أيّام النبىٍّ (ص)، ويمكن تعريفها باءنّها حالة سكوت المسلم عن أمرٍ يعتقد أنّه باطل ومخالف لا مراللّه ورسوله (ص)، وهذه الحالة واحدةٌ من النتائج السيئة التي تنشاء عن ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي إذا تعاظمت في المجتمع أدّت في النهاية إلى نتائج سيّئةٍ مريرةٍ كثيرةٍ، أسوأها (انقلاب الرؤ ية) حيث ينتكس المسلم فيرى الباطل حقّا والحقّ باطلا.

وهذه الحالة الخطيرة كان رسول اللّه (ص) قد حذّر الامّة منها إذا ما تركت الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولك أن تتاءمّل في ترابط محتوى هذا الحديث النبويّ الشريف لتعرف كيف تصل حالة الامّة في التداعي من سىٍ ءٍ إلى أسوأ حتّى تصل في انتكاسها إلى درجة (انقلاب الرؤ ية)،

فعن أبي عبداللّه الصادق (ع)، عن رسول اللّه (ص) أنّه قال:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 99

(كيف بكم إذا فسدت نساؤ كم وفسق شبابكم ولم تاءمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر!؟

فقيل له: ويكون ذلك يا رسول اللّه!؟

فقال: نعم، وشرُّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف!؟

فقيل له: يا رسول اللّه، ويكون ذلك!؟

قال: نعم، وشرُّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا!؟) «1»

ويمكن رصد بداية نشوء ظاهرة الشلل النفسي في الامّة بعد السقيفة مباشرة حيث اعتزل جلّ الانصار في المدينة وبعض المهاجرين اعتراضا على نتيجة السقيفة وندما وتاءسّفا على التفريط بحقّ (الوصيّ الشرعىٍّ) (ع)، «2» لكنّهم مع ذلك لم ينهضوا مع الوصيّ الشرعي (ع) حين استنهضهم للقيام معه لتغيير الوضع الخاطي المخالف لا مر اللّه ورسوله (ص)، إستنادا إلى أصل أنّ البيعة في الاعناق أوّلا كانت لعلىٍّ (ع) يوم الغدير. «3»

والروايات في تثاقلهم عن نصرته عديدة، تقول واحدة منها:

(فلم يدع أحدا من أهل بدرٍ من المهاجرين ولا من الانصار إلّا أتاه في منزله، فذكّرهم حقّه ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب له منهم إلّا أربعة وأربعون

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 100

رجلا، فاءمرهم أن يُصبحوا بُكرةً محلّقين رؤ وسهم معهم سلاحهم ليبايعوا على الموت، فاءصبحوا فلم يوافِ منهم أحدٌ إلّا أربعة. فقلت لسلمان: من الاربعة؟ فقال: أنا وأبوذر ومقداد والزبير بن العوّام. ثمّ أتاهم علىٍّ (ع) من الليلة المقبلة فناشدهم فقالوا: نُصبحك بكرةً. فما منهم أحدٌ أتاه غيرنا، ثمّ أتاهم الليلة الثالثة، فما أتاه غيرنا، فلمّا رأى غدرهم وقلّة وفائهم له لزم بيته ...). «1»

وقد اشارت الصديقة الكبرى مولاتنا فاطمة الزهرأ (س) في ثنايا خطبتها في المسجد إلى تعجّبها من هذا الشلل النفسي في مخاطبتها الانصار حيث

قالت:

(... يا معشر الفتية وأعضاد الملّة وحضنة الاسلام، ما هذه الغميزة في حقّي والسِّنة عن ظلامتي!؟ أما كان رسول اللّه (ص) أبي يقول: (المرء يحفظ في ولده؟) سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا اهالة، ولكم طاقة بما أحاول، وقوّة على ما أطلب وأزاول ... إيها بني قيلة، «2» أ أهضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع، ومنتدى ومجمع، تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذووالعدد والعدّة، والاداة والقوّة، وعندكم السلاح والجُنّة، توافيكم الدعوة فلاتجيبون، وتاءتيكم الصرخة فلاتغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت والخيرة التي اختيرت لنا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 101

أهل البيت قاتلتم العرب وتحمّلتم الكدّ والتعب، وناطحتم الامم وكافحتم البُهم، فلانبرح وتبرحون ناءمركم فتاءتمرون، حتّى إذا دارت بنا رحى الاسلام، ودرَّ حلب الايّام، وخضعت نعرة الشرك، وسكنت فورة الافك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين، فاءنّى جرتم بعد البيان، وأسررتم بعد الاعلان، ونكصتم بعد الاقدام، وأشركتم بعد الايمان، بؤ سا لقوم نكثوا أيمانهم وهمّوا بإ خراج الرسول وهم بدؤ كم أوّل مرّة أتخشونهم!؟ واللّه أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤ منين ...). «1»

ولا كثر من سبب بعد السقيفة ظلّ هذا الشلل النفسي يتفشّى أكثر فاءكثر في الامّة ويتعاظم خطره حتّى استحكم التناقض بين ظاهر الانسان المسلم وباطنه في أكثر أبناء الامّة، واستحوذ الشيطان على السواد الاعظم منهم، وبلغ هذا الدأ العضال أقصى مداه في هذه الامّة يوم خرجت لقتال ابن بنت نبيّها الامام الحسين (ع) بقلوب معه وسيوف عليه!! فقتلته وهي تعلم أنّه ليس على الارض أحدٌ أفضل منه!!

وفي متابعتنا هذه سنشير إلى العلل الاخرى التي كانت ورأ تعاظم هذا المرض فى الامّة والى مظاهره في المواضع المناسبة التي تحسن فيها الاشارة

إلى ذلك.

خلافة عمر بن الخطّاب: ..... ص : 101
اشارة

وجاء عمر بن الخطّاب خليفة بعد أبي بكر بتعيين منه، فجرى على ما كان قد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 102

جرى هو وأبوبكر عليه أيّام خلافة أبي بكر من مواصلة التضييق الاجتماعيّ والسياسىٍّ والاقتصاديّ على أهل البيت (ع) خاصّة وبني هاشم عامّة، وبسط يد الامويّين في تولّي الامارات والولايات، وزاد على أبي بكر في ذلك، ويكفي في الدلالة على هذا أنّه أطلق معاوية بن أبي سفيان واليا على الشام على سيرة الملوك يجمع كيف يشاء ويتصرّف كيف يشاء بلا رقيب ولا حسيب، فإ ذا ذكره المعترضون عند عمر ردّهم بقوله (دعوا فتى قريش وابن سيّدها!! ...)، «1» وكان يقول فيه (تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية!)، «2» حتّى أنّ عمر بن الخطّاب ليعتبر الممهّد للحكم الامويّ، بل هوالمؤ سّس له.

وزاد في شدّة الحصار المضروب على السنّة النبويّة حتّى لقد فرض الاقامة الجبريّة في المدينة على رواة الاحاديث النبويّة مادام حيّا، ونهى جيوشه عن التحديث عن رسول اللّه (ص)، في الوقت الذي قرّب منافقي اليهود والنصارى ككعب الاحبار وتميم الداري، وفتح لهم الابواب واسعة ليمارسوا القصّ على الناس ويبثّوا ماشاؤ ا من أباطيل كتبهم ومخترعاتهم ممّا يعارض د عقائد الاسلام المحمّديّ الخالص.

ويهمّنا هنا أن نركّز على عملين من أعماله شكّلا في أهميتهما منعطفين أساسيّين في حياة الامّة الاسلاميّة بما ترتّب عليهما من الاثار البالغة الخطورة، وهذان العملان هما:

أ) مبدأ عمر في العطاء ..... ص : 102

: كان النبىٍّ (ص) قد ساوى بين المسلمين في العطاء فلم يفضّل أحدا منهم على أحد، وجرى أبوبكر على مبدا التسوية هذا مدّة حكمه، (وأمّا عمر فإ نّه لمّا ولي الخلافة فضّل بعض الناس على بعض،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 103

ففضّل السابقين على غيرهم، وفضّل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضّل

المهاجرين كافّة على الانصار كافّة، وفضّل العرب على العجم، وفضّل الصريح على المولى). «1» (وفرض لا هل اليمن في أربعمائة، ولمضر في ثلاثمائة ولربيعة في مائتين) «2» وفضّل الاوس على الخزرج. «3»

فلئن كان منطق السقيفة قد قام على أساس التنابز بالا لقاب والمفاضلة القبليّة فاءنعش بذلك روح التعصب القبلىٍّ التي كان قد أخمدها الاسلام، فإ نّ مبدأ عمر في العطاء قد أطلق روح التعصّب من عقالها، فولّدت أسوء الاثار في الحياة الاسلاميّة: (حيث إنّه وضع أساس تكوّن الطبقات في المجتمع الاسلامىٍّ، وجعل المزية الدينيّة من سبل التفوّق المادّيّ، وزوَّد الارستقراطيّة (الطبقة المترفة) القرشيّة التي مكّنت لنفسها من جديد بتمكّن أبي بكر من الحكم بمبرّر جديد للا ستعلاء والتحكّم بمقدّرات المسلمين، فجميع اعتبارات التفضيل تجعل القرشيّين أفضل في العطاء من غير القرشيّين، وهذا يعني أنّ قريشا هي أفضل الناس لا نّها قريش! وكفى بهذا مبررّا للتحكّم والاستعلاء.

وقد كوّن هذا المبدأ سببا جديدا من أسباب الصراع القبلىٍّ بين ربيعةٍ ومضر، وبين الاوس والخزرج، بما تضمّن من تفضيل سائر مضر على سائر ربيعة، وتفضيل الاوس على الخزرج. ونظنّ أنّ هذا المبدأ قد أرسى أوّل أساس من أسّس الصراع العنصرىٍّ بين المسلمين العرب وغيرهم من المسلمين بما جرى عليه عمر من تفضيل العرب على العجم والصريح على

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 104

المولى). «1»

ولم يطل الوقت حتّى رأى عمر نفسه خطورة الاثار الضارة التي أوجدها هذا المبدأ في حياة الامّة الاسلاميّة، حيث تسرّبت روح التحزب والانقسام إلى المجتمع، وتعاظم الشعور بالا متياز والتفرد لدى قريش، وتفشّى الحنق والحسد والكراهيّة والتفتيش عن المثالب بين القبائل، فكان هذا من العوامل المهمّة التي مهّدت للفتنة بين المسلمين.

وهنا تجدر الاشارة إلى أنّ مبدأ عمر في العطاء

كان انحرافا واضحا عن سيرة الرسول (ص) في العطاء والتي جرى عليها أبوبكر أيضا، فكان الاولى بالا مّة أن تقف بوجهه وتمنعه من هذا الانحراف على أساس النصيحة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإ ذا امتنع وأبى قوّمته بالسيوف. غير أنّ التاءريخ لم يحدّثنا عن أيّ إنكار على عمر من قبل الامّة، وهذا مؤ شر من مؤ شرات تفشّي حالة الشلل الروحي والنفسي الذي أصيبت به الامّة نتيجة السقيفة.

ب) الشورى ..... ص : 104

: يهمّنا في هذه القضيّة الحديث في نتيجة هذا المنعطف الاساس د وآثاره الكبيرة في حياة هذه الامّة، إلّا أنّه لابدّ من التاءكيد قبل ذلك أنّ هذه الشورى المدّعاة لم تحمل من الشورى إلّا اسمها، وأمّا حقيقتها فإ نّ عمر كان قد خطّط لها بدقّةٍ بحيث يكون فوز عثمان فيها أمرا محتّما، فعنوانها إذن شورى وحقيقتها تعيين، وهي بذاتها دليل على أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب كان يصرّ إصرارا لايتزعزع على إبعاد الخلافة عن بني هاشم باءيّ صورة حتّى بعد موته، وهذا منتهى الصدّ.

كما أنّ الخليفة الثاني بتعيينه لعثمان خليفة من بعده يكون قد أسّس

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 105

الحكم الامويّ بالفعل فضلا عن تمهيده له من قبل.

قال الخليفة الثاني: (ادعوا لي أبا طلحة الانصاري، فدعوه له، فقال: انظر يا أباطلحة إذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلا من الانصار، حاملي سيوفكم، فخذ هؤ لاء النفر بإ مضاء الامر وتعجيله، واجمعهم في بيتٍ، وقِف باءصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحدا منهم، فإن اتّفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما، وإن اتّفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبدالرحمن فارجع إلى ما قد اتّفقت عليه، فإن أصرّت الثلاثة الاخرى

على خلافها فاضرب أعناقها ...). «1»

كان عمر ذا دراية تامّة بميول الرجال الستة الذين اختارهم لهذه الشورى، فهو يعلم يقينا أنّ عثمان وسعدا وعبدالرحمن ميلٌ واحدٌ في انحرافهم عن علىٍّ (ع)، ويعلم أنّ طلحة لايميل إلى عليّ (ع)، والاحتمال الاقوى أنّه سيعطى رأيه إلى عثمان، وتحسّبا من المفاجاءة في تحقّق الاحتمال الاضعف وهو ميل طلحة إلى عليٍّ (ع) والزبير، حيث تتساوى الكفّتان ثلاثة وثلاثة، تدخّل عمر ليحسم النزاع لصالح عثمان بترجيح الكفّة التي فيها عبدالرحمن بن عوف.

فاءيّة شورى هذه!؟

هذا فضلا عن السيوف التي جرّدها أبوطلحة الانصاري ورجاله الخمسون باءمر عمر لحماية الرأي الحرّ!!

ولقد أدرك أميرالمؤ منين علىٍّ (ع) هذه الخدعة المعلومة النتيجة ...

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 106

فقال لعمّه العبّاس: (عُدِلَت عنّا!

فقال: وما علمك!؟

قال: قرن بي عثمان وقال كونوا مع الاكثر، فان رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، فسعدٌ لايخالف ابن عمّه عبدالرحمن، وعبدالرحمن صهر عثمان لايختلفون، فيولّيها عبدالرحمن عثمان أو يولّيها عثمان عبدالرحمن، فلو كان الاخران معي لم ينفعاني، بَلْهَ إنّي لاأرجو إلّا أحدهما). «1»

ج (نتائج الشورى ..... ص : 106
اشارة

: ومن نتائج الشورى نستطيع أن نذكر الموارد التالية.

1- مواصلة إقصاء (الوصيّ الشرعي) ..... ص : 106

: مواصلة إقصاء (الوصيّ الشرعي) استمرارا في الصدّ عن رسول اللّه (ص) فيما بلّغ عن اللّه تبارك وتعالى بشاءن علىٍّ (ع).

2- استيلاء الحزب الامويّعلى الحكم ..... ص : 106

: استيلاء الحزب الامويّ ممثلا في شخص د عثمان على الحكم، الامر الذي كانت قد خطّطت له ونفّذته قيادة حزب السلطة التي كانت ترى في الحزب الامويّ امتدادا لها على خطّ مواجهة أهل البيت (ع).

3- أثر الشورى نفسياً على الانصار ..... ص : 106

: تركت الشورى أسوأ الاثر في نفسيّات الانصار، فبعد أن كانوا قد وعدوا في السقيفة باءنّهم سيكونون وزرأ وشركاء في الحكم، وجدوا أنّ عمر في خطّة الشورى قد حرمهم حتّى من حقّ المشورة، ولم يمنحهم إلّا دور حرّاس الابواب المسلّحين.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 107

4 الطمع المفتوح في الخلافة ..... ص : 107

: فتحت الشورى باب الطمع في الخلافة لمن لم يكن يطمع فيها يوما ما، ذلك لا نّ عمر أدخل في الشورى في مواجهة علىٍّ (ع) من لم يكن ياءمل أن يكون خليفة من قبل، فصار بعدها يرى نفسه أهلا لذلك، الامر الذي دفع بهؤ لاء إلى ركوب الفتن بعدها.

كما أنّ الشورى فتقت الفتق الكبير في التنافس والاختلاف بين كلّ القبائل طمعا في الخلافة، وذلك لا نّ رجالا غير رجال الشورى من قريش رأوا أنّ بعض من رشّحهم عمر لايفضلونهم في شيٍ، بل ربما امتازوا هم على أولئك في أشياء كثيرة!

إذن فعمر في خطّة الشورى كان قد أطلق للجميع نفسيّا أن يرغبوا في الامارة والخلافة وأن يتحرّكوا عمليّا باتّجاهها على طريق الاهوأ الملغومة بكلّ أنواع الاختلاف!

حتّى أنّ معاوية بن أبي سفيان وهو من دهاة العرب كان يصرّح باءنّ الشورى هي أشدّ منعطفات الانحراف أثرا في تشتيت أمر المسلمين، فقد نقل ابن عبد ربّه في كتابه العقد الفريد:

إنّ معاوية قال لابن حصين: (أخبرني، ما الذي شتّت أمرالمسلمين وفرّق أهوأهم وخالف بينهم؟

قال: نعم، قتل الناس عثمان.

قال: ما صنعت شيئا.

قال: فمسير عليّ إليك وقتاله إيّاك.

قال: ما صنعت شيئا.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 108

قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ ايّاهم.

قال: ما صنعت شيئا.

قال: ما عندي غير هذا يا اميرالموءمنين.

قال: فاءنا أخبرك، إنّه لم يشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهوأهم ولا خالف بينهم إلّاالشورى التي جعلها عمر إلى ستّة

نفر ... فلم يكن رجل منهم إلّا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلّعت إلى ذلك نفسه، ولو أنّ عمر استخلف عليهم كما استخلف أبوبكر ما كان في ذلك إختلاف.) «1»

5 تعاظم منطق السقيفة القَبَل ..... ص : 108

: يلاحظ أنّ المفاضلة في السقيفة كانت بين الانصار وبين المهاجرين (من قريش)، غير أنّ المفاضلة التي دارت في أجوأ الشورى أكّدت تعاظم منطق السقيفة القبلي وازدياد التباعد والانحراف عن منطق الاسلام، إذ صارت المفاضلة بين المسلمين ككل بدلا من الانصار، وبين قريش بما هي قريش بدلا من المهاجرين منها، ففي الجدل الذي دار في مسجد النبي (ص) في أجوأ الشورى بدا واضحا أنّ قريشا اعتبرت الخلافة شاءنا من شؤ ونها الخاصّة وامتيازا من امتيازاتها، وليس لا حد من المسلمين أن يتقدّم برأي في الخلافة يتنافى مع رغباتها.

ولاينقضي العجب من أن تتدهور الحال إلى درجة أن يتجرّأ عدوّاللّه وعدوّ رسوله (ص)، عبداللّه بن أبي ربيعة المخزومي فيقول للمقداد (ر) الحوارىّ الجليل الذي عزّ نظيره في الصحابة:

(يابن الحليف العسيف، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 109

أو يرّد لئيم آخر من بني مخزوم على عمّار بن ياسر (ر) قائلا:

(لقد عدوت طورك يا بن سميّة، وما أنت وتاءمير قريشٍ لا نفسها). «1»

إنّ حلول كلمة (قريش) بدلا من (المهاجرين) في جدل المفاضلة التي جرت في أجوأ الشورى يعني رفع الحظر عن الطلقاء في أن يتسنّموا منصب الخلافة، بعد أن رفعت عنهم الحظر من قبلُ قيادة حزب السلطة وعيّنتهم أمرأ وولاة، ومن هنا تكون قد انفتحت حتّى شهية الطلقاء أمثال معاوية في تسنّم منصب الخلافة، ومنذ ذلك الوقت كان معاوية قد سعى سعيه نحوها.

خلافة عثمان: ..... ص : 109
اشارة

إبتدأ الحكم الامويّ عهده الاوّل منذ اليوم الاوّل لخلافة عثمان، فسرعان ما تبيّن للمسلمين أنّهم حين بايعوا عثمان قد سلّموا الحكم عمليّا إلى آل أميّة، وأنّ عثمان ليس إلّا واجهة يكمن خلفها الحزب الامويّ، وسرعان ما أكّدت الايّام هذه الحقيقة

للا مة، ذلك لا نّ عثمان أسند الولايات الكبرى آنذاك وهي البصرة والكوفة ومصر والشام إلى ذويه، وهذه الولايات ذات المنزلة العظيمة في الحرب والاقتصاد والاجتماع كانت مركز الثروة الماليّة والزراعيّة لدولة الخلافة، فمنها تحمل الاموال والاقوات، وهي مركز تجمّع الجيوش الاسلاميّة الوافدة من كلّ أنحاء البلاد، كما أنّها مراكز عمليّات الفتح الكبرى آنذاك.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 110

وقامت إنتفاضة الامّة على عثمان نتيجة تفسّخ حكمه عن فساد كبير في الادارة والمال، والاستخفاف علنا باءحكام الشريعة، وسكوته عن فضائح ولاته ودفاعه عنهم، ونفيه وتعذيبه لصلحاء الامّة لا لشي إلّا لا نّهم أنكروا المنكر وأمروا بالمعروف، وانقياده لغلمان بني أميّة عامّة ولمروان بن الحكم خاصّة، وامتناعه عن الاستجابة لشكاوى الامّة وتظلّمها من ولاته الذين يصلّون بالناس وهم سكارى، ويرون السواد بستانا لهم، وأنّ الفي لهم أوّلا ثمّ لمن شاؤ وا!!

وركب موجة الانتفاضة على عثمان بعد اندلاعها النفعيّون الساخطون عليه مثل عمرو بن العاص، ومترفون يحلمون بالخلافة من بعده مثل طلحة والزبير وكانوا يؤ لّبون الجماهير ضدّه ويحرّضون في الخفاء على قتله، هذا فضلا عن الدور الكبير الذي لعبته عائشة في التاءليب عليه والدعوة إلى قتله!! «1» وفي كلّ ذلك كان ابوالحسن (ع) يسفر ناصحا للا سلام والامّة بين عثمان والثوّار، لكنّ عثمان كان ينكل ولايفي بما يعد به من الاستجابة لمطالب الثوّار لاستحواذ مروان عليه.

وما برحت الفتنة تتاءجّج وتجد ما يزيدها اشتعالا، حتّى انفلت زمام الامور، وبلغت الماءساة ذروتها بمقتل عثمان.

وتفاصيل قصّة هذه الفتنة معروفة في كتب التاءريخ ...

نتائج عهد عثمان ..... ص : 110
اشارة

: أمّا نتائج عهد عثمان التي أثّرت في مسار حياة الامّة فيما بعد، فاءهمّها:

1 اتساع الهوّة في الفروق الطبقية ..... ص : 110

: اتّسعت الهوّة في الفروق الطبقية التي كانت قد نشاءت نتيجة مبدأ عمر في العطاء، ذلك لا نّ عثمان أغدق الهبات

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 111

الضخمة على أعيان قريش من بني أميّة وغيرهم، وعلى بعض أعضاء الشورى خاصّة، وسار عمّال عثمان في أنحاء البلاد على نهجه في المدينة فاءنفقوا بيوت المال المحليّة على ذويهم وأنصارهم والمقرّبين إليهم، وقام عثمان باجرأ ماليّ فتح به للطّبقة الثريّة أبوابا من النشاط الماليّ حين أباح للناس أن ينقلوا فيئهم من الارض د إلى حيث أقاموا، فسارع الاثرياء إلى الاستفادة من هذا الاجرأ فاشتروا باءموالهم المكدّسة أراضي في البلاد المفتوحة واستثمروها فنمت ثرواتهم نموّا عظيما، وازدادت هذه الطبقة الطامحة إلى الحكم والتسلّط قوّة إلى قوّتها حتّى صارت غلّة طلحة من العراق كلّ يوم ألف دينار أوأكثر، وبلغ ربع ثمن مال عبدالرحمن بن عوف أربعة وثمانين ألفا أي أنّ ما يملكه مليونان وستمائة وثمانية وثمانون ألفا، وكان الزبير قد خلّف خمسين ألف دينار وألف فرس وألف عبد وأمة، وخلّف زيد بن ثابت من الذهب ما كان يكسر بالفؤ وس عدا ما خلّف من الاموال والضياع بقيمة ألف دينار، «1» وسوى هؤ لاء كثيرون ...

وقد وجدت إلى جانب هذه الطبقة المترفة المتسلّطة طبقة أخرى كبيرة وفقيرة لاتملك أرضا ولا مالا تلك هي طبقة الجنود المقاتلين وأهليهم، وقد تكوّنت هذه الطبقة نتيجة استئثار عثمان وعمّاله بالفي والغنائم لا نفسهم والمقرّبين منهم وحرمان المقاتلين وبقيّة الامّة منها.

إنّ إنتشار أعلام قريش في البلاد الاسلاميّة بسمعتهم الدينيّة (صحابة رسول اللّه (ص) وازدياد ثرواتهم دفع كثيرا من أهل تلك البلدان إلى التجمّع حولهم والتحزّب لمطامعهم

السياسيّة تهالكا على الدنيا، فانتشرت لذلك حالة (الانتهازيّة) في نفوس كثيرٍ من الناس، حيث صار ولاؤ هم لمن عطاؤ ه أكثر والدنيا معه، وصاروا لايعباءون بالمانع الشرعي الحائل دون وصولهم إلى غاياتهم الدنيويّة، فزاد هذا من حالة الاستخفاف بالشريعة وبحرمة أحكامها،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 112

وهي حالة شاهدتها الامّة أوّلا في تصرّفات عثمان وولاته كالوليد بن عقبة وغيره.

ينقل الطبري في هذه النقطة أنّه (كان عمر بن الخطّاب قد حجر على أعلام قريش د من المهاجرين الخروج في البلدان إلّا باءذن وأجل ... فلمّا ولي عثمان لم ياءخذهم بالذي كان ياءخذهم به عمر فانساحوا في البلاد، فلمّا رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس، انقطع من لم يكن له طَولٌ ولا مزية في الاسلام فكان مغمورا في الناس، وصاروا أوزاعا إليهم، وأمّلوهم، وتقدّموا في ذلك فقالوا يملكون فنكون قد عرفناهم وتقدّمنا في التقرب والانقطاع إليهم، فكان ذلك اوّل وهن دخل على الاسلام، وأوّل فتنة كانت في العامّة ليس إلّا ذ لك. «1»

2 انفتاح باب القتل والقتال على هذه الامة إلى يوم القيامة ..... ص : 112

: إنّ عمليّة اغتيال عمر بن الخطّاب التي أدّت إلى مقتله كانت محدودة الاثر إذ كان القاتل شخصا معلوما وإن كان عبيداللّه بن عمر قد تجاوز فقتل عدّة أبرياء لمقتل أبيه، أمّا مقتل عثمان بالكيفيّة التي قتل فيها فقد كان ذا أثر وسيع ممتدّ في حياة الامّة الاسلاميّة بعده، إذ قد فتح عليها باب القتل والقتال فيما بينها، وقد حذّره أميرالمؤ منين علىٍّ (ع) في نصحه أيّاه من هذا المقتل قائلا:

(وإنىٍّ أنشدك اللّه ألّا تكون إمام هذه الامّة المقتول، فإ نّه كان يقال: يقتل في هذه الامّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبثّ الفتن فيها، فلايبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجا،

ويمرجون فيها مرجا ...). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 113

ولقد حصل هذا بالفعل، فكانت المطالبة بدم عثمان ذريعة أهل الجمل التي أضلّوا بها شطرا من الامّة في نكثهم البيعة وخروجهم على الامام (ع)، وألبسوا على الناس د الامور، وبثّوا الفتنة في الامّة، حتّى كانت وقعة الجمل، التي كانت أولى المعارك التي اقتتل فيها المسلمون فيما بينهم، وانتهت بهزيمة جيش عائشة وطلحة والزبير الذين كان لهم دور كبير في التحريض على قتل عثمان.

وأمّا معاوية الذي تلكّاءَ عن نصرة عثمان عمدا، «1» فقد صنع أضعاف ما صنع أهل الجمل فيما ادّعاه بهذه الذريعة، حتّى لقد أضلّ الشطر الكبير من هذه الامّة وألبس عليهم الامور فاستبسلوا في مواجهة عليّ (ع) استبسالا مريرا في صفّين، الوقعة التي كاد الطرفان أن يهلكا فيها جميعا، والتي تركت أسوأ الاثار في حياة الامّة إلى يومنا هذا.

3 ارتفاع درجة الشلل النفسي في الامّة: ..... ص : 113

ويلاحظ هنا أيضا استمرار ارتفاع مؤ شّر الشلل النفسي في الامّة، إذ قد رأت من عثمان فضلا عن انحرافه حتّى عن سيرة أبي بكر وعمر بطشه بجماعة من أعيان الصحابة لا لشي إلّا لا نّهم أمروه بالمعروف ونهوه عن المنكر، كاءبي ذر وعمّار بن ياسر وعبداللّه بن مسعود، فلم تتحرّك الامّة أثناء ذلك حتّى في المدينة على كثرة من فيها من الصحابة لمنعه من التعدي عليهم أو لا نكار ذلك عليه على الاقلّ، ومع معرفة الصحابة بمنزلة أبي ذرّ (ره) فلم يخرج منهم لتوديعه إلى منفاه في الربذة إلّا عليّ والحسنان (ع) وعقيل وعبداللّه بن جعفر وعمّار، بل لقد قاطعت الامّة أباذرّ امتثالا لا وامر عثمان!!

وقد أشار عمّار بن ياسر إلى هذا الوهن الذي أصاب الامّة حينما خاطب

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 114

أباذرّ وهو يودّعه إذ قال:

(... وما منع الناس

أن يقولوا بقولك إلّا الرضا بالدنيا والجزع من الموت ...). «1»

ويلاحظ هنا أيضا أنّه حتّى الانتفاضة الجماهيريّة التي قامت تنكر على عثمان مجموع انحرافاته لم تقم إلّا في سنة 35 للهجرة أي بعد حوالي ثلاث سنين من وفاة أبى ذرّ (ره) في الربذة سنة 32 للهجرة، كما أنّ هذه الانتفاضة لم تقع إلّا بعد عامين من نفي عثمان أفاضل أخيار الكوفة والبصرة إلى الشام.

عهد معاوية: ..... ص : 114
اشارة

تسلّم معاوية بن أبي سفيان ولاية الشام بعد موت أخيه يزيد الذي كان واليا عليها، فاصطنعها معاوية لنفسه لايحاسب في أمرها على شي من أعماله، كلّ ذلك بتدبير من الخليفة الثاني الذي كان يردّ على التقارير المرفوعة إليه عن مخالفات معاوية بقوله الشهير: (دعوا فتى قريشٍ وابن سيّدها!!).

وازدادت سيطرة معاوية على الشام رسوخا في عهد عثمان، واستقرّ له أهلها نفسيّا وسياسيا، ولم يجد ما ينغّص عليه هناءة حكمه إلّا قيام اميرالموءمنين عليّ (ع) بالا مر خليفة لرسول اللّه (ص)، الذي دانت له كلّ أقطار العالم الاسلامي بالطاعة إلّا الشام، حيث امتنع معاوية عن الطاعة لعليّ (ع) متشبّثا بذريعة الطلب بقتلة عثمان، الامر الذي جرّ في النهاية إلى معركة صفّين التي كادت أن تنتهى بالنصر الحاسم لصالح اميرالموءمنين (ع)، لكنّ حيلة رفع المصاحف التي ابتدعها عمروبن العاص د وأنجحها غباء

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 115

الخوارج وتحجّرهم العقليّ أدّت في النتيجة إلى مهزلة التحكيم، لتنتهي المواجهة بذلك نهاية غير حاسمة.

ثمّ قتل اميرالموءمنين عليّ (ع) وقام الامام الحسن (ع) بالا مر، لكنّ المواجهة بينه وبين معاوية لم تطل إلّا أشهرا كشفت الامّة فيها عن نفورها من مواصلة الحرب وميلها إلى دنيا معاوية وتنكّرها لا هل الحق (ع)، فاضطرّ الامام (ع) إلى الصلح وتسليم الامر إلى معاوية

...

فاتّسقت لمعاوية الامور وسيطر على العالم الاسلاميّ كلّه، وبذلك استعادت حركة النفاق هيمنتها على كلّ بلاد الاسلام من جديد في شخص أكبر قادتها دهاءً وأشدّهم عداوة للا سلام وهو معاوية بن أبي سفيان.

نتائج عهد معاوية ..... ص : 115
اشارة

: ولعهد معاوية الطويل نتائج كثيرة جدّا أثّرت تاءثيرا بالغا على الاسلام والامّة الاسلاميّة، ومن أهمّ ه ذه النتائج:

1 تحوّل شكل الحكم من الخلافة إلى الملك ..... ص : 115

كان معاوية منذ تسلّمه ولاية الشام قد تصرّف فيها كملك مطلق اليد، يفعل ما يشاء وينفق كيف يشاء بلا رقيب أو حسيب، معتمدا في ذلك على غضّ الطرف من قبل الخليفة الثاني الذي استقبله معاوية في الشام في موكب عظيم، فعجب عمر من تلك الابّهة وساءله عن ذلك، فاءجابه معاوية:

(يا اميرالموءمنين، إنّا باءرضٍ جواسيس العدوّ فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عزّ السلطان ما يكون فيه عزُّ للا سلام وأهله ويرهبهم به! فإن أمرتني فعلت! وإن نهيتني انتهيت!!)، «1»

فقال له عمر في ختام ردّه عليه: (لاآمرك ولاأنهاك!)، «2» وكان يشبّه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 116

معاوية بكسرى وقيصر قائلا: (تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية!؟) «1» ولمّا بلغ معاوية إخبار النبىٍّ (ص) عن الملك العضوض د قال:

مستهزئا (رضينا بها ملكا). «2»

وقال يخاطب أهل الكوفة شامتا بهم:

(يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحجّ؟ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون، ولكنّي قاتلتكم لا تاءمّرَ عليكم وأليَ رقابكم ...)، «3»

وكان يقول: (أنا أوّل الملوك!). «4»

وبذلك تحوّل الحكم إلى ملك عضوض يرثه فاجر عن فاجر ...

2 التعتيم الكامل على فضائل أهل البيت (ع) واختلاق مثالب لهم: ..... ص : 116

لم يكتف معاوية بمواصلة الحصار المضروب على البيانات النبويّة منذ عهد أبي بكر وعمر وعثمان، بل كشف عن غاية هذا الحصار بعد الصلح حين خضعت له جميع البلاد، حيث أصدر بيانا عاما إلى جميع عمّاله جاء فيه:

(أن برئت الذمة ممّن روى شيئا من فضائل أبي تراب وأهل بيته)، «5» ..... ص : 116

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 117

فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّا ويبرؤ ن منه ويقعون فيه وفي أهل بيته. «1»

وزاد على سنّة سبّ الامام (ع)، إذ استخدم جماعة من نفعيّي حركة النفاق من صحابة وتابعين مثل عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وأبى هريرة، وسمرة بن جندب، وعروة بن الزبير، وغيرهم، للكذب على رسول اللّه (ص) في اختلاق أحاديث تطعن باءهل البيت (ع)، كما سخّر معاوية الوعّاظ في جميع بلاد الاسلام ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت (ع) ويذيعوا الاضاليل في انتقاصهم دعما للحكم الامويّ، كما ألقى معاوية إلى معاهد التعليم ومعلّمي الكتاتيب أن يغذّوا الشباب والصبيان ببغض أهل البيت (ع) لخلق جيل جديد معادٍ لهم بافترأ أحاديث تنتقصهم، وقد تعلّم الصبيان ذلك كما تعلّموا القرآن وحفظوه!

وكان معاوية على سبيل المثال لا الحصر قد أعطى سمرة بن جندب أربعمائة ألف درهم على أن يخطب في أهل الشام ويروي لهم أنّ هذه الاية الشريفة: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهداللّه على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام، وإذا تولّى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، واللّه لايحبّ الفساد) نزلت في عليّ (ع)، ففعل سمرة ذلك. «2»

وافترى عمرو بن العاص على النبىٍّ (ص) أنّه قال: (إنّ آل أبي طالب ليسوا لي باءولياء، إنّما وليّي اللّه وصالح المؤ منين). «3»

و (لمّا قدم أبوهريرة العراق مع معاوية عام الجماعة (!) جاء إلى مسجد الكوفة فلمّا رأى

كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه، ثمّ ضرب صلعته مرارا، وقال:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 118

يا أهل العراق، أتزعمون أنّي أكذب على اللّه وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار، واللّه لقد سمعت رسول اللّه (ص) يقول: (إنّ لكل نبيّ حرما، وإنّ حرمي بالمدينة ما بين عيرٍ إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين) وأشهد باءنّ عليّا أحدث فيها. فلمّا بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولّاه أمارة المدينة.) «1»

وفي محاورة جرت بين معاوية وابن عبّاس ...

(... قال: فإ نّا كتبنا في الافاق ننهى عن ذكر مناقب علىٍّ وأهل بيته، فكفّ لسانك يا ابن عبّاس واربع على نفسك.

قال: فتنهانا عن قرأة القرآن؟

قال: لا.

قال: فتنهانا عن تاءويله؟

قال: نعم!

قال: فنقرأه ولانساءل عمّا عنى اللّه به؟

قال: نعم!

قال: فاءيّما أوجب علينا قرأته أوالعمل به؟

قال: العمل به.

قال: فكيف نعمل به حتّى نعلم ما عنى اللّه بما أنزل علينا؟

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 119

قال: سل عن ذلك ممّن يتاءوّله على غير ما تتاءوّله أنت وأهل بيتك!

قال: إنّما أنزل القرآن على أهل بيتي، فاءساءل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط واليهود والنصارى والمجوس!!؟

قال: فقد عدلتنابهم!؟

قال: لعمري ما أعدلك بهم إلّا إذا نهيت الامّة أن يعبدوا اللّه بالقرآن وبما فيه من أمر أو نهيٍ أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عامّ أو خاصّ أو محكم أو متشابه، وإن لم تساءل الامّة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا!

قال معاوية: فاقرأوا القرآن ولاترووا شيئا ممّا أنزل اللّه فيكم، وممّا قال رسول اللّه (ص)، وارووا ما سوى ذلك!

قال ابن عبّاس: قال اللّه تعالى في القرآن: (يريدون أن يطفئوا نور اللّه باءفواههم وياءبى اللّه إلّا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون).

قال معاوية: يا ابن

عبّاس اكفني نفسك، وكفّ عنّي لسانك، وإن كنت لابدّ فاعلا فليكن سرّا، ولاتسمعه أحدا علانية ... «1»

وروي أنّ قوما من بني أميّة قالوا لمعاوية: يا اميرالموءمنين، إنّك قد بلغت ما أمّلت فلو كففت عن لعن هذا الرجل. فقال:

(لا واللّه حتّى يربو عليها الصغير ويهرم عليها الكبير ولايذكر له ذاكرٌ فضلا). «2»

وفي موازاة ذلك، عمد معاوية أيضا عن طريق مرتزقة الافترأ على رسول اللّه (ص) إلى نشر فضائل ومناقب مكذوبة لعثمان والخليفتين الاوّلين

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 120

وصحابة آخرين في جميع البلاد الاسلاميّة، كلّ ذلك ليدحض حجّة أهل البيت (ع) في أنّه ليس لا حد سهم كسهمهم في الفضائل والمناقب!

لنقرأ هذا النصّ التاءريخي:

(وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الافاق ألّايجيزوا لا حدٍ من شيعة عليٍّ وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فاءدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته، ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجي أحدٌ مردودٌ من الناس عاملا من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حينا، ثمّ كتب إلى عمّاله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية فإ ذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاوّلين، ولاتتركوا خبرا يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلّا وأتوني بمناقص له في الصحابة مفتعلة، فإ نّ هذا أحبّ

إلىٍّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله، فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع وحتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ماشاءاللّه ...). «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 121

حتّى لقد قال ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم:

(إنّ أكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أميّة تقرّبا إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أنوف بني هاشم). «1»

إنّ هذا التعتيم المطبق على فضائل أهل البيت (ع) إضافة إلى اختلاق روايات الطعن بهم، وتسخير جميع أجهزة الحكم لهذا الغرض، كان قد أثّر مع مرور حوالي عشرين عاما تاءثيرا بالغا في أن يجهل معظم هذه الامّة موقع أهل البيت (ع) وأن يتنكّروا لهم ... حتّى اضطرّ الامام الحسين (ع) قبل موت معاوية بسنةٍ أن يعقد مؤ تمرا في منى جمع فيه بني هاشم رجالا ونساءً ومواليهم وجمعا غفيرا بلغ سبعمائة رجل، فيهم مائتان من الصحابة وعامّتهم من التابعين، فما ترك شيئا ممّا أنزل اللّه في أهل البيت من القرآن إلّا تلاه وفسّره، ولا شيئا ممّا قاله رسول اللّه (ص) في أبيه وأخيه وأمّه وفي نفسه وأهل بيته إلّا رواه، وأشهد الحاضرين عليه، وطلب منهم أن يحدّثوا من يثقون بهم من الناس بذلك، «2» في محاولة منه (ع) لكسر ذلك الحصار ولاختراق ذلك التعتيم الذي مارسه معاوية لطمس د فضائلهم (ع).

3 انخداع جلّ الامةّ بالتضليل الدينيّ الاموي ..... ص : 121

: كان الهمّ الاكبر لمعاوية بعد أن استتبّ الامر

له هو اكتساب الاطار الديني والشرعيّة لحكمه، ومزج الامويّة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 122

بالا سلام في عقل الامّة مزجا لايمكن بعده الفصل بينهما.

ومعاوية يعلم أنّه لايكفي من أجل ذلك التعتيم على فضائل أهل البيت (ع) وحجب الامّة عنهم، في وقت لايملك هو أيّة قدسيّة في ضمير الامّة، وله من تصرّفات الملوك الطغاة وسلوكهم ما يجعله هدفا لكثير من الاحاديث النبويّة الداعية إلى القيام بوجه الظلم والحاكم الظالم، لذا فقد عمد من خلال عمل إعلامي واسع ومركّز إلى تضليل الامّة في هذه النقطة على ثلاثة أصعدة:

أ) إختلاق قداسة دينيّة لشخصه من خلال افتعال أحاديث نبويّة في فضله، واخفاء ما اءُثر عن النبىٍّ (ص) في ذمّه، ولم يجد معاوية صعوبة في ذلك مادام يبذل الكثير، ومادام مرتزقة الافترأ على النبىٍّ (ص) يحوطونه وينتظرون أمره فيما يشتهي من الرواية المفتراة على رسول اللّه (ص)!

فشاع في كلّ بلاد الاسلام الكثير من الاحاديث المكذوبة في فضل معاوية، منها: أنّه (ص) قال:

(ومعاوية بن أبي سفيان أحلم أمّتي وأجودها.) «1»

وقال:

(وصاحب سرّي معاوية بن أبي سفيان.) «2»

وقال عن لسان جبرئيل (ع):

(يا محمّد أقري ء معاوية السلام واستوص به خيرا، فإ نّه أمين اللّه على

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 123

كتابه ووحيه ونعم الامين.) «1»

أو:

(الامناء ثلاثة: جبرئيل وأنا ومعاوية.) «2»

أو:

(أللّهمّ اجعله هاديا مهديا واهد به.) «3»

وغير هذا كثير من الاحاديث الموضوعة التي لم تزل حتّى اليوم تضلّ كثيرا من أبناء هذه الامّة.

ب) منع الامّة باسم الدين عن التذمر من الحاكم الظالم والثورة عليه:

سعى معاوية إلى تخويف الامّة من الثورة على الظلم والجور، وزيّن لها الرضوخ للحاكم وإن كان جائرا، وشهر في وجه كلّ من يفكّر بالقيام والثورة تهمة جرم تفريق أمر هذه الامّة، التي جزاؤ ها القتل، كلّ ذلك

باسم الدين من خلال أحاديث كثيرة افتعلتها أجهزته الاعلاميّة لتخدير الامّة وإذلالها، ومنها على سبيل المثال:

أنّه (ص) قال:

(من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإ نّه من فارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة ...). «4»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 124

ويساءل أبوهريرة العجّاجَ قائلا: ممّن أنت؟

قال: قلت من أهل العراق.

قال: يوشك أن ياءتيك بُقعان أهل الشام فياءخذوا صدقتك، فإ ذا أتوك فتلقّهم بها، فإ ذا دخلوها فكن في أقاصيها وخلّ عنهم وعنها، وإيّاك أن تسبّهم، فإ نّك إن سببتهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك، وإن صبرت جاءتك في ميزانك يوم القيامة). «1»

وغير هذه أحاديث كثيرة موجودة في الكتب الحديثيّة لابناء العامّة لازال بعض د هذه الامّة يتاءثّر بها مصدّقا بها إلى اليوم.

ج) واللون الاخر من ألوان التضليل الديني الذي استخدمه معاوية وبرع في استخدامه هو تاءسيس فرق دينيّة سياسيّة تقدّم للناس تفسيرات دينيّة تخدم سلطة الامويّين وتبرّر أعمالهم، كما هو الحال في مذهب الجبر ومذهب الارجاء ...

يقول أبوهلال العسكري في الاوائل: إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها. «2»

ولمّا اعترض عليه عبداللّه بن عمر في نصب ولده يزيد خليفة من بعده قال معاوية:

(... وإنّي أحذّرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملا هم وأن تسفك دماءهم، وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 125

أمرهم). «1»

وأجاب عائشة أيضا بمثل هذا الجواب عندما نازعته في هذا الاستخلاف. «2»

فطغى مذهب المجبّرة واتّسع انتشاره على يد معاوية وبني أميّة واضطُهِدَ القول باختيار الانسان في أفعاله حتّى كان يُقتل من يقول به!

كما انتشرت في العهد الامويّ فرقة المرجئة التي ترى الاكتفاء في الايمان بمجرّد الاعتقاد والاقرار باللسان بلا جانب العمل، وسمّوا

المرجئة لا نّهم أرجاءوا العمل أي أخّروه، وعند هذه الفرقة أنّه:

(لاتضرّ مع الايمان معصية كما لاتنفع مع الكفر طاعة)

وقالوا:

(إنّ الايمان، الاعتقاد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه، وعبد الاوثان، ولزم اليهوديّة أو النصرانيّة في دار الاسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث، ومات على ذلك فهو مؤ من كامل الايمان عند اللّه عزّ وجلّ، ولىٍّ للّه عزّ وجلّ، من أهل الجنّة). «3»

إنّ النتيجة المنطقيّة لمذهب المجبّرة هنا هي أنّ الامويّين لايعترض على حكمهم ولا على أعمالهم لا نّ اللّه أرادهم لذلك وأراد أعمالهم، وتسلّطهم من قضاء اللّه الذي لايردّ، وهم على مذهب المرجئة مؤ منون مهما ارتكبوا من كبائر المعاصي!!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 126

وينطلق وعّاظ السلاطين ومحدّثوهم في كلّ البلاد الاسلاميّة ينفثون هذه السموم في قلوب الناس وعقولهم ليلجموهم عن التذمر والثورة بلجام ينسبونه إلى الدين والدين منه برأ، وليقعدوهم بها عن الاحتجاج على سياسة العسف والظلم، ويحجزوهم عن أيّة محاولة للقيام من أجل تحسين أحوالهم!

وبمرور حوالي عشرين عاما من حكم معاوية على كلّ بلاد الاسلام، وبتاءثير هذا التضليل الدينيّ الذي نجح مع الاغرأ والارهاب أيّما نجاح، صدّق جلّ هذه الامّة بشرعيّة الحكم الامويّ وانحدعوا به، وامتزجت في عقولهم الامويّة بالا سلام، وصار في تصوّرهم أنّ القيام ضدّ الحكم الامويّ قيام ضدّ الاسلام!

لذا كان لابدّ لفصل الامويّة عن الاسلام في عقول الناس وقلوبهم، من أن يُراق دمٌ مقدّسٌ عند جميع المسلمين غاية القداسة، على مذبح المواجهة مع الحكم الامويّ، وهذا الدم ليس إلّا دم ابن رسول اللّه (ص) سيّد شباب أهل الجنّة أبي عبداللّه الحسين (ع). الامر الذي كان يدرك أثره معاوية تمام الادراك، فكان يتحاشاه قدر استطاعته.

4 اضطهاد الشيعة: ..... ص : 126

عمد معاوية بعد التحكيم إلى الاغارة على البلاد التي تمثل أطراف

الارض التي تقع تحت سيطرة اميرالموءمنين عليّ (ع)، فنكّل بها، وقد صرّح باءهدافه لقادته العسكريّين الذين بعثهم في تلك المهمّات، فقد قال لبسر بن أرطاة:

(لاتنزل على بلدٍ أهله على طاعة عليٍّ إلّابسطت عليهم لسانك حتّى يروا أنّهم لا نجاء لهم وأنّك محيط بهم، ثمّ اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي، فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة عليٍّ حيث كانوا). «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 127

فسار بسر وأغار على المدينة ومكّة، فقتل ثلاثين ألفا عدا من أحرق بالنار!

ودعا معاوية بالضحاك بن قيس الفهري وأمره بالتوجّه ناحية الكوفة، وقال له:

(فمن وجدته من الاعراب في طاعة عليٍّ فاءغر عليه)، فاءقبل الضحاك فنهب الاموال وقتل من لقي من الاعراب، وأغار بالثعلبيّة على الحاجّ، وقتل فيمن قتل عمروبن عميس بن مسعود الذهلي ابن أخي عبداللّه بن مسعود وناسا من أصحابه. «1»

ووجّه سفيان بن عوف الغامدي إلى جانب الفرات باتّجاه هيت ثمّ الانبار ثمّ المدائن، وممّا قاله له:

(إنّ هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح كلّ من له هوىً فينا منهم، وتدعو إلينا كلّ من خاف الدوائر، فاقتل كلّ من لقيته ممّن هو ليس د على مثل رأيك، وأخرب كلّ ما مررت به من القرى، وأحرب الاموال فإ نّ حرب الاموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب). «2»

واستمرّ معاوية على هذه السياسة بعد استشهاد الامام عليٍّ (ع)، بصورة أكثر عنفا وشمولا وتنظيما، ثمّ اشتدّ البلاء على الشيعة في الامصار كلّها بعد معاهدة الصلح، وكان أشدّ الناس بليّة أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، واستعمل عليها زيادا، ضمّها إليه مع البصرة، وجمع له العراقين، وكان يتّبع الشيعة وهو بهم عالم، لا نّه كان منهم وقد عرفهم وسمع كلامهم أوّل شي، فقتلهم تحت

كلّ كوكب وتحت كلّ حجر ومدر، وأجلاهم وأخافهم، وقطّع الايدي والارجل منهم، وصلبهم على جذوع النخل، وسمّل أعينهم، وطردهم وشرّدهم حتّى انتزعوا عن العراق فلم يبق بها أحد منهم إلّا مقتول

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 128

أو مصلوب أو طريد أو هارب، وكتب معاوية إلى قضاته وولاته في جميع الارضين والامصار أن لاتجيزوا لا حد من شيعة عليّ ولا من أهل بيته ولا من أهل ولايته الذين يرون فضله ويتحدّثون بمناقبه شهادة. «1»

وكان قد كتب بيانا واحدا إلى عمّاله في جميع البلاد:

(انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّا وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه). «2»

ثمّ شفع ذلك ببيان آخر:

(من اتّهمتوه بموالاة هؤ لاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره). «3»

فضاقت الاحوال بالشيعة إلى حدّ الاختناق حتّى أنّ الرجل من شيعة عليٍّ (ع) لياءتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه ولايحدّثه حتّى ياءخذ عليه الايمان الغليظة ليكتمنّ عليه. «4»

ولقد بلغ الارهاب حدّا لايطاق حتّى صار الرجل يفضّل أن يقال عنه أنّه زنديق أو كافر ولايقال عنه أنّه من شيعة عليٍّ (ع). «5»

ومن أعيان الشيعة الذين قتلهم معاوية: حجر بن عدي وجماعته، و رشيد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 129

الهجري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وأوفى بن حصن، وعبداللّه الحضرمي وجماعته، وجويريّة بن مسهر العبدي، وصيفي بن فسيل، وعبدالرحمن العنزي.

ومن أعيان الشيعة الذين اضطهدهم معاوية وضيق عليهم تضييقا شديدا:

عبداللّه بن هاشم المرقال، وعدي بن حاتم الطائي، وصعصعة بن صوحان، وعبداللّه بن خليفة الطائي.

كما روّع كوكبة من النساء المؤ منات ولم يرع لهنّ حرمة المرأة.

هذا فضلا عن سياسة الابعاد، حيث أبعد زياد خمسين ألفا من الشيعة في الكوفة إلى خراسان، من أجل إضعاف المعارضة الشيعيّة فيها. «1»

والظاهر

أنّ معاوية كان يسعى من ورأ ذلك فضلا عن أهداف أخرى كثيرة إلى إضعاف الوجود الشيعي إلى درجة أنّ أىٍّ قائد من قادتهم إذا أراد القيام بوجه الحكم الامويّ فسوف لن يجد في أحسن الحالات إلّا عصابة قليلة يمكن القضاء عليها بسرعة وسهولة.

5 تمزّق الامّة الاسلاميّة قبليا وطبقيا ..... ص : 129

من الاسس الكبيرة التي أشاد معاوية عليها استقرار حكمه سياسة الاستكبار المعروفة في الامم المستضعفة وهي (فَرِّقْ تَسُدْ). فالعصبيّة التي أماتها الاسلام كان معاوية قد أطلق لها العنان لتمزّق شمل الامّة، وفجر التناحر القبلي تفجيرا شديدا، واحتقر الموالي واضطهدهم، وأذلّ الفقرأ، وفرّق بين البلدان الاسلاميّة في العطاء والمنزلة، كما فرّق بين أشراف القبيلة الواحدة وبين عامتها، كلّ ذلك من أجل أن تجد الامّة نفسها في حال تمزّقها وتناحرها مضطرّة إلى التقرّب إليه بالطاعة والانقياد لا وامره، وكان أبرع ولاته في تنفيذ خططه التمزيقيّة هذه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 130

زياد ابن أبيه الذي ادّعاه معاوية لا بيه.

وشواهد هذه الحقيقة المرّة كثيرة في المتون التاءريخيّة، لكنّنا هنا نكتفي في الدلالة عليها من خلال فقرات منتخبة من كتاب سرّي بعثه معاوية إلى زياد جاء فيه:

(أمّا بعدُ، فإ نّك كتبتَ إليّ تساءلني عن العرب، من أكرم منهم ومن أهين، ومن اءُقرّب ومن اءُبعد، ومن آمن منهم ومن اءحذر؟ ... واءنا يا اءخي اءعلم الناس بالعرب، انظر هذا الحيّ من اليمن فاءكرمهم في العلانية وأهنهم في السرّ، فإ نّي كذلك أصنع بهم ... وانظر ربيعة بن نزار فاءكرم أمرأهم وأهن عامّتهم فإ نّ عامّتهم تبع لا شرافهم وساداتهم، وانظر إلى مضر فاضرب بعضها ببعض، فانّ فيهم غلظة وكبرا ونخوةً شديدة، فإ نّك إذا فعلت ذلك وضربت بعضهم ببعض كفاك بعضهم بعضا ... وانظر إلى الموالي ومن أسلم من الاعاجم

فخذهم بسنّة عمر بن الخطّاب، فإ نّ في ذلك خزيهم وذلّهم: أن تنكح العرب فيهم ولايُنكحهم، وأن تقصر بهم في عطائهم وأرزاقهم، وأن يُقدّموا في المغازي، يصلحون الطريق ويقطعون الشجر، ولايؤ مُّ أحدٌ منهم العرب في صلاة، ولايتقدّم أحد منهم في الصفّ الاوّل إذا حضرت العرب إلّا أن يتمّوا الصفّ، ولاتولّ أحدا منهم ثغرا من ثغور المسلمين ولا مصرا من أمصارهم، ولايلي أحد منهم قضاء المسلمين ولا أحكامهم فإ نّ هذه سنّة عمر فيهم وسيرته، وجزاه عن أمّة محمّد وعن بني أميّة خاصّة أفضل الجزأ! فلعمري لولا ما صنع هو وصاحبه وقوّتهما وصلابتهما في دين اللّه!! لكنّا وجميع هذه الامّة لبني هاشم الموالي، ولتوارثوا الخلافة واحدا بعد واحدٍ ...

فإ ذا جاءك كتابي هذا فاءذلّ العجم وأهنهم وأقصهم ولاتستعن باءحدٍ منهم ولاتقض لهم حاجة ... وحدّثني ابن أبي معيط أنّك أخبرته أنّك قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى الاشعري وبعث إليه بحبل طوله خمسة أشبار وقال له:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 131

أعرض من قبلك من أهل البصرة فمن وجدت من الموالي ومن أسلم من الاعاجم قد بلغ خمسة أشبار فقدّمه فاضرب عنقه، فشاورك ابوموسى في ذلك فنهيته وأمرته أن يراجع فراجعه، وذهبت أنت بالكتاب إلى عمر، وإّنما صنعت ما صنعت تعصّبا للموالي وأنت يومئذٍ تحسب أنّك عبد ثقيف، فلم تزل بعمر حتّى رددته عن رأيه، خوّفته فرقة الناس فرجع، وقلت له: ما يؤ منك وقد عاديت أهل هذا البيت أن يثوروا إلى عليٍّ فينهض بهم فيزيل ملكك، فكفّ عن ذلك، وما أعلم يا أخي وُلِدَ مولود من أبي سفيان أعظم شؤ ما عليهم مثلك حين رددت عمر عن رأيه ونهيته عنه ... فلوكنت يا أخي لم تردّ عمر

عن ذلك لجرت سنّةً، ولاستاءصلهم اللّه وقطع أصلهم، وإذن لاستنّت به الخلفاء بعده ... فماأكثر ما قد سنّ عمر في هذه الامّة بخلاف سنّة رسول اللّه (ص) فتابعه الناس عليها وأخذوا بها، فتكون هذه مثل واحدة منهنّ .... «1»

وكان من نتائج إثارة التناحر القبلي أن شُغل زعماء القبائل بالسعي عند الامرأ الامويّين للوقيعة بخصومهم من زعماء القبائل الاخرى، وتودّدوا إلى هؤ لاء الامرأ وتملّقوهم، الامر الذي وحّدهم في طاعة حكم معاوية الذي أشعل الفتنة بينهم وهم لايشعرون، وقد دفعهم هذا الوضع أيضا إلى أن يقفوا دائما مع الحاكمين ضدّ الثائرين حفاظا على الامتيازات والعطايا الممنوحة لهم، وكانوا يقفون في وجه كلّ محاولة للثّورة ويخذّلون الناس عنها، ويتسابقون في استخدام أقصى ما يملكونه من نفوذ ودهاء في هذا السبيل للتاءكيد على ولائهم التامّ للسلطة، وفي قصّة اقتسام القبائل رؤ وس شهدأ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 132

كربلاء دليل واضح على هذه الحالة المزرية التي وصلت إليها قبائل العرب نتيجة المنافسة بينها والتناحر والمفاخرة الجاهليّة التي ما برحت تتعاظم فيهم منذ يوم السقيفة بعد ما أماتها الاسلام.

6 الانتكاس الروحي والنفسي في الامّة: ..... ص : 132

نتيجة لمجموع سياسات معاوية التضليليّة على كلّ المستويات الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة والنفسية كانت الامّة قد هوت إلى الحضيض في الجانب النفسي والروحي، وتفشى في كيانها الوهن المتمثّل بحبّ الدنيا وكراهية الموت، وطغى هذا الشلل الذي كان قد بدأ التسرّب إلى حياتها منذ يوم السقيفة حتّى أقعدها عن نصرة كلّ قضيّة من قضايا الحق، وساءت أخلاقيّتها إلى درجة أنّ الرجل الوجيه في قومه لايتورّع في انقياده إلى الدنيا من أن يبيع دينه لمعاوية صراحة، فقد روي أنّه:

(وفد على معاوية جماعة من أشراف العرب، فاءعطى كلّ واحد منهم مائة ألف، وأعطى الحتّات عمّ الفرزدق سبعين

ألفا، فلمّا علم الحتّات بذلك رجع مغضبا إلى معاوية.

فقال له: فضحتني في بني تميم، أمّا حسبي فصحيح، اءَولستُ ذا سن؟

ألستُ مطاعا في عشيرتي؟

قال: بلى.

قال: فما بالك خسست بي دون القوم، وأعطيتَ من كان عليك أكثر ممّن كان لك؟

قال: إنّي اشتريت من القوم دينهم، ووكلتك إلى دينك! ورأيك في عثمان (وكان عثمانيّا).

قال: وأنا فاشتر منيّ ديني.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 133

فاءمر له بإ تمام جائزته. «1»

وشاعت الانتهازيّة والوصوليّة بين الناس، فصار جلّ سعيهم في التزلّف إلى السلطان والتقرّب منه والتملّق إليه طمعا في دنياه، حتّى صاروا أطوع له من يده، وبذلك ضمن معاوية انقياد جلّ هذه الامّة له، ممّن لا بصيرة لهم في أحنائهم ولا همّ لهم إلّا دنياهم!

وامّا أولئك الذين لم تنطل عليهم أضاليل الامويّين وأكاذيبهم، فقد آل الامر باءكثرهم أيضا إلى أخطر ظاهرة في حياة الانسان المسلم وهي الازدواجيّة في الشخصيّة حيث يتعارض ظاهر الانسان مع باطنه، ذلك لا نّ سياسة معاوية في الترغيب بالمال والجاه والدنيا، وأسلوبه الوحشي في التنكيل باءعدائه علّما الناس د على الدجل والنفاق والسكوت عن الحق، والتظاهر بخلاف ما يعتقدون، وهذا الوضع الشاذّ الذي فرض عليهم أن يخفوا دوما ما يعتقدونه حقّا، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم مع علمهم باءنّه الباطل، ولّد عندهم حالة ازدواج الشخصيّة، هذا الازدواج الذي كان يعمل عمله في فضّ أعوان الثورة عنها، أو إفشاء أسرارها، أوالقضاء عليها، بتاءثير ظاهر الشخصيّة الخاضع لا وامر السلطة الحاكمة والمنسجم معها، خلافا لباطن هذه الشخصيّة المؤ يّد للثّورة والمقدّس لقيادتها والراغب في نصرتها والانتماء إليها.

هذا الازدواج الذي صوّره الفرزدق للا مام الحسين (ع) حيث عبّر عن حال أهل الكوفة قائلا: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك).

ولم تختلف عمليّا حال المزدوجين عن

حال المضلَّلين بالباطل الامويّ، ذلك لا نّ الحكم الامويّ استطاع أن يجنّد الصنفين معا تحت رايته فاءسرجوا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 134

وألجموا وتنقّبوا للقضاء على كلّ الثورات التي قامت تدعو إلى الحقّ!

وظلّ كثيرا ممّن عرفوا الحقّ وأهله أسارى الشلل النفسي المتعاظم منذ يوم السقيفة، فخذلوا الحقّ عمليّا ولم ينصروه مع علمهم بعاقبة من يخذله ولم ينصره عند اللّه!

هذا عبداللّه بن عمر يقول إنّه سمع رسول اللّه (ص) يقول:

(حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه ليخذلهم اللّه إلى يوم القيامة). «1»

ومع هذا فلم ينصره بل قعد عن ذلك، بل أمره بمبايعة يزيد!!

وأولئك الذين أشاروا على أبي عبداللّه (ع) بعدم الخروج ونصحوه باءلّايعرّض د نفسه للقتل، وقعدوا عن نصرته، وهم يعلمون عن لسان رسول اللّه (ص) أنّه مقتول، وأنّه:

(لايُقتل بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف اللّه بين قلوبهم وألسنتهم.) «2»

وهذا شريك بن الاعور وجماعة معه ممّن كانوا شيعة لعليّ، يصحبون عبيداللّه بن زياد من البصرة إلى الكوفة، فيتساقطون في الطريق متظاهرين بالعياء لعلّ ابن زياد يتاءخّر من أجلهم فيسبقه الحسين (ع) إلى الكوفة ويستقرّ له أمرها. «3»

أنظر إلى الشلل النفسي كيف يقيّد حركة المصاب به! فشريك وجماعته يتمنّون لو أنّ الامور تستتبّ للا مام (ع)، لكنّهم بدلا من تعويق ابن زياد أو قتله في البصرة أو الطريق باءلف حيلة وحيلة، يكتفون فقط بالتساقط في الطريق

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 135

رجاء أن يتاءخّر ابن زياد عن الوصول إلى الكوفة في الوقت المناسب!!؟

وهذا عبيداللّه بن الحرّ الجعفي يدعوه الامام (ع) إلى نصرته، فيجيب معترفا بشلله النفسيّ قائلا:

(واللّه إنّي لا علم أنّ من شايعك كان السعيد في الاخرة، ولكن ما عسى أن اءُغني عنك ولم اءخلّف لك بالكوفة ناصرا؟، فاءنشدك اللّه اءن تحملني

على هذه الخطّة، فإ نّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت! ولكن فرسي هذه (الملحقة) واللّه ما طلبت عليها شيئا قطّ الّا لحقته، ولا طلبني وأنا عليها أحد إلّا سبقته، فخذها فهي لك!) «1»

فيقرّعه الامام (ع) مبيّنا أنّه لا حاجة له بمشلول في نفسه، قائلا:

(أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة لنا إلى فرسك). «2»

وروى الطبرى عن سعد بن عبيدة أنه رأى في وقعة كربلاء أشياخا من أهل الكوفة واقفين على التلّ يبكون ويقولون: أللّهم أنزل نصرك (أي على الحسين (ع)!) فقال لهم سعد: يا أعدأ اللّه! ألاتنزلون فتنصرونه!!؟ «3»

إن الشلل النفسيّ يسوّغ للا نسان أن يخادع حتّى نفسه، وكلّ ما قدمناه من الامثلة يحكي في الواقع عن مخادعة الانسان نفسه في التعامل مع الحقيقة، ولنختم هذه الامثلة بهذه القصّة المؤ سفة حقّا: قال هرثمة بن سليم:

(غزونا مع على بن أبي طالب غزوة صفّين، فلمّا نزلنا بكربلا صلّى بنا صلاة فلمّا سلّم رفع إليه من تربتها فشمّها ثمّ قال: واها لك أيّتها التربة، ليُحشرنّ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 136

منك قوم يدخلون الجنّة بغير حسابٍ.

فلمّا رجع هرثمة من غزوته إلى إمرأته وهي جردأ بنت سمير، وكانت شيعة لعليّ فقال لها زوجها هرثمة: ألاأعجّبك من صديقك أبي الحسن؟ لمّا نزلنا كربلاء رفع إليه من تربتها فشمّها فقال: واها لك يا تربة، ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنّة بغير حسابٍ، وما علمه بالغيب!؟ فقالت: دعنامنك أيّها الرجل، فإ نّ اميرالموءمنين لم يقل إلّا حقّا.

فلمّا بعث عبيداللّه بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن عليّ وأصحابه، قال: كنت فيهم في الخيل التي بُعث إليهم، فلمّا انتهيت إلى القوم وحسينٍ وأصحابه عرفتُ المنزل الذي نزل بنا عليُّ فيه والبقعة التي رفع إليه من

ترابها، والقول الذي قاله، فكرهت مسيري، فاءقبلت على فرسي حتّى وقفت على الحسين، فسلّمت عليه، وحدّثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل، فقال الحسين: معنا أنت أو علينا؟ فقلت: يابن رسول اللّه! لا معك ولا عليك! تركت أهلي وولدي، أخاف عليهم من ابن زياد. فقال الحسين: فولّ هربا حتّى لاترى لنا مقتلا، فو الذي نفس د محمّدٍ بيده لايرى مقتلنا اليوم رجلٌ ولايُغيثنا إلّا أدخله اللّه النار. قال: فاءقبلت في الارض هاربا حتّى خفي عليّ مقتله. «1»

تاءمّل! كيف يخادع الانسان نفسه بسبب الشلل النفسيّ في أعماقه!!؟

وبعدُ: فلم يبق في أواخر عهد معاوية من هذه الامّة من لم ينخدع بالضلال الامويّ أولم تزدوج شخصيّته أو لم يقعد به الشلل النفسي عن نصرة الحقّ إلّا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 137

أقلّ القليل، بين طريد وشريد وسجين ومتخفٍّ مترقّب، ومن هذا القليل كانت الصفوة التي نصرت سيّد الشهدأ (ع).

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 139

المقالة الثانية: بين يدي الشهيد الفاتح ..... ص : 139
اشارة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 141

المقالة الثانية: بين يدي الشهيد الفاتح!

--- حدثٌ ماءلوف في تأريخ دين اللّه على الارض منذ عهد آدم (ع)، ويبقى ماءلوفا إلى عصر الوصيّ الخاتم (ص)، أن يُقتل المؤ من في سبيل اللّه فيكون شهيدا.

ومشهدٌ كان ولايزال ماءلوفا على مسرح الصراع أن تُحسّ هذه الارض وطاءة الانسان الفاتح وتسمع ركزه، منذ خرجت حياة الجماعة البشريّة عن موازين فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، فكان الاختلاف والصراع، وكان النصر والهزيمة.

والمؤمن المجاهد في سبيل اللّه لايحقّ له الانهزام في المواجهة، مادام شاريا الحياة الدنيا بالا خرة، فهو في المواجهة إمّا أن (يُقتل أو يَغلب).

يُقتل ويكون شهيدا، فيؤ تيه اللّه (أجرا عظيما).

أو يَغلب، فيؤ تيه اللّه ذلك الاجر العظيم أيضا!

إذ قد وعد اللّه تعالى المؤ من المجاهد في سبيله

شهيدا أو غالبا أجرا عظيما، وما لم (يُقتل) أو (يَغلب) فهو دون حظوة ذلك الاجر العظيم وإن كان ماءجورا.

وقدّم اللّه تعالى الشهيد على الغالب في الحديث عن ذلك الاجر العظيم الذي وعدهما إيّاه، لا نّ الشهيد لايُخشى عليه بعد قتله من فقدان الاجر بسبب اجتراح سيّئة أو انحراف عن الصراط يحبط الاجر، إنّه قد ضمن أجره ولا خوفٌ عليه ولا هو يحزن!

لكنّ الغالب وإن كان له أيضا ذلك الاجر العظيم كما للشهيد، غير أنّ نوال هذا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 142

الاجر مشروط بدوام الاستقامة على الصراط وعدم اجتراح ما يحبط الاجر.

الغالب إذن على خطر! حتّى يُنهى شوط الدنيا مستقيما على الصراط السويّ إلى الاخرة!

هذا من بعض عطاءات الاية الكريمة:

(فليقاتل في سبيل اللّه الذين يشرون الحياة الدنيا بالا خرة، ومن يقاتل في سبيل اللّه فيُقتل أو يَغلب فسوف نؤ تيه أجرا عظيما). «1»

عادة الامر إذن أن يكون الشهيد غير الغالب، وإن مهّد الشهدأ للنصر بدمائهم الزاكية.

غير أنّ الفتح أخصّ من الغلبة، إذ كم من غلبة لم تثمر فتحا! هذا إذا عنينا بالفتح نوعا من الغلبة يثمر تغييرا وتحوّلا حاسما ومنعطفا رئيسا لصالح أهداف الفاتح.

ومن هنا كان صلح الحديبيّة فتحا مبينا كما قرّر القرآن الحكيم، لا نّه أنتج تغييرا وتحوّلا حاسما لصالح الاسلام والمسلمين لم تنتجه معركة بدر، على عظمة النصر فيها!، ذلك لا نّ قريشا في هذا الصلح قد اعترفت بالمسلمين رسميّا كقوّة عدوّة تكافئها، فوقّعت معها معاهدة تحترمها وترعاها.

وقد أنزل اللّه تعالى: (إنّا فتحنا لك فتحا مبينا ...) في واقعة صلح الحديبيّة التي كانت قبل فتح مكّة بعامين! «2»

إذن فكلُّ فاتح غالب، وليس كلّ غالب فاتحا!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 143

وعادة الامر إذن أن يكون الشهيد غير الفاتح، وإن

مهّد الشهدأ للفتح بدمائهم الزاكية.

لكن، هل خرج هذا الامر عن مجرى عادته مرّة!؟

وهل كان إنسانٌ شهيدا فاتحا معا ...!؟

وإذا كانت صفة (الشهيد الفاتح) من الخصائص ... فمن هو هذا الانسان الوتر في الخالدين، والاوحد في الربّانيّين ...؟

من أجل قرأة إنسانٍ فذٍّ فريد كهذا ... لابدّ لنا أن ندع مطالعة الماءلوف والقاعدة ... ونقرأ في سفر الخصائص والاستثناءات!

«الشهيد الفاتح» من الخصائص الحسينيّة: ..... ص : 143

شهادة هي عين الفتح ... ومصرع هو عين الانتصار والغلبة!!

شهيد فاتح معا ... إنّها خصوصيّة من خصائص الامام أبي عبداللّه الحسين (ع)، لم تكن لا حد قبله من أنبياء اللّه (ع) ولا لا حد من أوليائه ... ذلك لا نّ التاءريخ العام لم يحدّثنا أنّ أحدا من رجال دين اللّه تعالى قُتل فكانت شهادته عين الفتح لا هدافه والغايات التي يجاهد في سبيلها.

والتاءريخ القرآني لم يقصَّ علينا أنّ أحدا من أنبياء اللّه تعالى ممّن قُتل في سبيل اللّه وما أكثر الانبياء الشهدأ كانت شهادته عين الفتح لبقاء دين اللّه وانتشاره!

نعم، كان هناك أنبياء فاتحون، وأولياء فاتحون ... وكان هناك أنبياء شهدأ، وأولياء شهدأ ...، ولكنّنا نتاءمّل في صفة (الشهيد الفاتح)!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 144

ولو أنّ هذه الصفة كانت لا حدٍ من أنبياء اللّه تعالى وأوليائه (ع) فيمن كانوا قبل نبيّنا الاكرم (ص)، لكان لقصّته موضوع متميّز في التاءريخ القرآنيّ، ولحظي ذكره بعناية فائقة في هذا التاءريخ الالهي، كما حظي بذلك إبراهيم وموسى ويوسف (ع) مثلا، ذلك لا نّ التاءريخ القرآني الذي اهتمّ بالمقاطع والمنعطفات واللقطات التاءريخيّة ذات العبرة والعظة التربويّة، والذي سجّل لنا حتّى اللقطة التاءريخيّة لحديث نملة لما في حديثها من درس وعبرة، لم يكن ليعرض صفحا عن ذكر صفة (شهيد فاتح) على ما في هذه الصفة من

عبرة تربويّة وتاءريخيّة عظمى!

وفي مقطع حياة رسول اللّه (ص)، كان هناك أكثر من انتصار وأكثر من فتح ...

ولم يكن حتّى شهدأ بدر فاتحين ... ذلك لا نّ بدرا كانت غلبةً ونصرا ولم تكن فتحا والقرآن الحكيم لم يسمّها فتحا كما أنّ التحولات الحاسمة لصالح الاسلام بعد بدر لم تكن لشهادة شهدأ بدرٍ الابرار 1 بل لوجود النبىٍّ الاكرم (ص) ولسيف عليّ (ع) والسيوف الصادقة الاخرى التي كانت مع هذا السيف الفريد في أهمّ مواقع الاسلام المصيريّة!

نعم، كان لدماء شهدأ بدر الزاكية وللشهدأ الاخرين أثر وتمهيد للفتح فيما بعد ... ولكنّ كلامنا هنا في شهادة هي عين الفتح!

وفي تأريخ الخمسين سنة من بعد رسول اللّه (ص)، أي إلى نهاية سنة ستّين للهجرة لم يحدّثنا التاءريخ عن شهادة هي عين الفتح! حتّى دخلت سنة إحدى وستّين ... فتحقّقت تلك الخصوصيّة التي كانت مكنونة في مطاوي الزمان لصاحبها الامام أبي عبداللّه الحسين (ع) ذلك الوتر في الخالدين ... ثمّ امتنعت عن سواه إلى قيام الساعة!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 145

وأمّا أنّها لاتكون لا حد بعد الحسين (ع)، فذلك لا نّ عاشورأ قد كشفت عن وحدة وجوديّة لا انفكاك لها بين الاسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (ع)، فصارت الدعوة إلى هذا الاسلام هي عين الدعوة إلى الحسين (ع)، وبالعكس، وصارت مواجهة هذا الاسلام ومعاداته هي عين مواجهة الحسين (ع) ومعاداته، وبالعكس، وصار بقاء هذا الاسلام بعد كربلاء ببقاء عاشورأ الحسين (ع)، حتّى لقد قيل وما أصدقه من قول: (الاسلام محمّديّ الوجود حسينيّ البقاء). «1»

لقد امتدّ النهج الحسيني بعد عاشورأ فهيمن على كلّ مساحة الزمان والمكان في انبعاث كلّ قيام إسلاميّ حقّ إلى قيام الساعة، لقد غدا الحسين (ع) قدوة كلّ مسلم

ثائر للحقّ وبالحقّ، وغدت كلّ نهضة إسلاميّة حقّة تجد نفسهاامتدادا لنهضة الحسين (ع)، حتّى نهضة المهدي (ع) تجد نفسها امتدادا لنهضة الحسين (ع) وتؤ كّد هذا الامتداد بشعار: (يا لثارات الحسين).

وغدا كلّ طاغية من أعدأ الاسلام بعد عاشورأ يجد نفسه في مواجهة الحسين (ع)، فهو يذعر من ذكر الحسين (ع)، بل ويخاف من قبر الحسين (ع)، وقد كان ولايزال هذا القبر المقدّس يتعرّض في الماضي والحاضر لا شرس د الهجمات ومحاولات الطمس من قبل الطغاة، فلا يزداد إلّا علوّا وشموخا! يقول اميرالموءمنين عليُّ (ع) مشيرا إلى هذه الخصوصيّة الحسينيّة في وصف منزلة شهدأ كربلاء (ع):

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 146

(... ومصارع عشّاق شهدأ، لايسبقهم من كان قبلهم، ولايلحقهم من بعدهم). «1»

إنّ في (لايسبقهم من كان قبلهم) و (لايلحقهم من بعدهم) إشارة إلى هذا التفرّد الناشي عن تلك الخصوصيّة!

وهنا قد يقول قائل: إذن فاءنصار أبي عبداللّه الحسين (ع) من أهل بيته وصحبه الكرام الذين استشهدوا بين يديه شهدأ فاتحون أيضا!

نعم، ولكنّ هذا الاشتراك لايقدح في أصل أنّ هذه الصفة من خصائص د الحسين (ع)، ذلك لا نّ في ظلّ هذا الامتياز الحسيني الخاصّ كان أنصار أبي عبداللّه (ع) من أهل بيته وصحبه الكرام الذين استشهدوا بين يديه شهدأ فاتحين أيضا، وتسنّموا هذا المقام الذي لم يسبقهم إليه سابق ولايلحق بهم إليه لاحق، لا عن استقلاليّة منهم بذلك، بل تبعا لصاحب هذا الاختصاص أصالة، إذ لو لم يكن الامام أبوعبداللّه الحسين (ع) صاحب كربلاء، لما كان شهدأ الطفّ الاخرون على ما هم عليه من هذه المرتبة في السمو والشرف التي ينحدر عنها السيل ولايرقى إليها الطير، ولما كانت كربلاء التي نعرف، ولا عاشورأ التي تاءخذ بمجامع قلوب المؤ منين

خاصّة وأحرار العالم عامّة.

انّ قداسة الامام الحسين (ع) (المثل الاعلى) في ضمير ووجدان الامّة هي التي أسبغت على عاشورأ كلّ هذه القداسة وهذه الرمزيّة في الزمان (كلّ يوم عاشورأ)، وهي التي نشرت كربلاء على كلّ الارض عنوانا لميدان انتصار دم الحقّ على سيف الباطل، فكانت (كلّ أرض كربلاء)، ولولاه (ع) لكانت واقعة الطفّ بكلّ ما غصّت به من فجائع أليمة: ماءساة يذكرها الذاكر فياءسف لها كما ياءسف لكثير من وقائع التاءريخ الاليمة الاخرى المقيّدة بحدود الزمان والمكان.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 147

إنّ واقعة كربلاء بعظمتها الفريدة من كلّ جهة، وبكلّ أبطالها وبطولاتها، إنّما استمدّت خصائصها من الخصائص المنحصرة بصانع ملحمتها الامام أبي عبداللّه الحسين (ع)، فكانت الحدث التاءريخي الذي لايرقى إليه أيّ حدث تاءريخيّ آخر في مستوى تاءثيره ...

منطق الشهيد الفاتح: ..... ص : 147

إنّ الفترة الزمنية الممتدّة من يوم إعلان الامام الحسين (ع) رفضه البيعة ليزيد بن معاوية أمام الوليد بن عتبة والي المدينة آنئذٍ، إلى اليوم الذي وصل فيه كتاب عبيداللّه بن زياد إلى الحرّ بن يزيد الرياحي (ر)، والذي جاء فيه: (أمّا بعدُ: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعرأ في غير حصن ولا ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولايفارقك حتّى ياءتيني بإ نفاذك أمري، والسلام)، «1» تعتبر فترة التعريف بنهضة الامام الحسين (ع)، كما يمكن اعتبارها أهمّ مقطع من مقاطع هذه الثورة المقدّسة لما حوته من محاورات ومراسلات وخطب ووصايا ضبطها لنا التاءريخ، فهي أغنى مقاطع هذه الثورة بالنصوص المعرّفة بها والكاشفة عن هويّتها ممّا ورد عن الامام الحسين (ع).

كما أنّ هذه الفترة تعتبر أيضا أهمّ مقاطع هذه الثورة المقدّسة بمنظار التحليل التاءريخي، من ناحية عدد الاختيارات التي كان يملكها الامام الحسين

(ع) في هذه الفترة، ومن ناحية موقف الامام (ع) إزأ كلّ من هذه الاختيارات، ثمّ من ناحية نوع الاختيار الذي أصرّ إليه الامام (ع) منذ البدء.

لكنّ الاستفادة من نصوص هذه الفترة المهمّة في الوصول إلى تعريف صحيح تامّ لهذا الثورة المقدّسة لم تسلم في الغالب من عثرات القصور والخطأ في

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 148

الاستنتاج في كثير ممّا كتب حول هذه الثورة، ويكفي التاءمّل اليسير في كثير من الكتب والدراسات التي تناولت البحث في حقيقة قيام الامام الحسين (ع) دليلا لا ثبات ما قلناه والامثلة تاءتي ولعلّ مرّد ذلك بالا ساس إلى عدم الانتباه إلى النقاط الثلاث التالية:

1 معرفة هويّة المخاطَب في تلك النصوص.

2 النظر إلى هذه النصوص كوحدة في مجموعها.

3 ردّ المتشابه منها إلى المحكم.

انّ معرفة هويّة المخاطَب من العناصر المهمّة في فهم واستيعاب روايات أهل البيت (ع)، لا نّهم صلوات اللّه عليهم إنّما يخاطبون الناس على قدر عقولهم ومستوى بصيرتهم ودرجة ولائهم لهم ونوع علاقتهم باءعدائهم، وهذه نقطة مهمّة يجب حضورها دواما في ذهن الباحث المتاءمّل في النصوص الواردة عنهم (ع).

ولا شك أنّ الامام الحسين (ع) كان قد خاطب أخاه محمّد بن الحنفيّة في محاوراته معه ووصاياه إليه خطابا مختلفا عن خطابه مع أخيه عمر الاطرف الذي كان قد أشار على الامام (ع) قائلا: (فلو لا ناولت وبايعت!!). «1»

كما أنّه (ع) يخاطب أمَّ سلمة رضوان اللّه عليها خطابا يختلف عن ردّه على كتاب عمرة بنت عبدالرحمن التي عظّمت عليه ما يصنع وأمرته بالطاعة ولزوم الجماعة!!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 149

وخاطب (ع) الشاعر الفرزدق في محاوراته معه بمنطق اختلف عن منطقه مع عبداللّه بن مطيع العدوي الذي كان همّه الاكبر أن يكون ماء بئره عذبا وكثيرا!

ويحاور (ع) عبداللّه

بن جعفر وابن عبّاس حوارا يختلف كثيرا عن حواره مع عبداللّه بن عمر صاحب الموقف والرأي المريب! الذي كان لايرى إلّا:

(أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل). «1»

حتّى ضاق الامام (ع) ذرعا به وباقتراحاته المريبة فقال له:

(أفٍّ لهذا الكلام أبدا مادامت السموات والارض ...). «2»

وإذا تاءمّل الباحث في جميع نصوص هذه الفترة المهمّة لوجد أثر نوع المخاطب في نوع كلّ منها بيّنا جليّا، وممّن انتبه إلى هذه النقطة المهمّة المؤ رّخ المحقّق السيّد المقرّم حيث قال:

(وإنّما لم يصارح بما عنده من العلم لكلّ من رغب في إعراضه عن السفر إلى الكوفة لعلمه باءنّ الحقائق لاتفاض لا يّ متطلّب بعد اختلاف الاوعية سعة وضيقا وتباين المرامي قربا وبُعدا، فلذلك (ع) يجيب كلَّ أحد بما يسعه ظرفه وتتحمّله معرفته وعقليّته، فإ نّ علم أهل البيت (ع) صعب مستصعب لايتحمّله إلّانبيّ مرسلٌ أوملك مقرّبٌ أومؤ منٌ امتحن اللّه قلبه بالا يمان). «3»

كما أنّ تاءثير نوع المخاطب على درجة صراحة ووضوح محتوى النصّ يفرض أن تؤ خذ مجموعة هذه النصوص كوحدة في مجموعها، لا نّ النظر إلى بعض هذه النصوص وقد تكون مبهمة ومتشابهة أوغير صحيحة دون البعض الاخر قد يؤ دّي بالباحث إلى استنتاج نظرة تكون في الغالب قاصرة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 150

أو خاطئة.

كما لو نظر الباحث فقط إلى مثل هذا المقطع من المحاورات الواردة بين الامام (ع) وبين الشاعر الفرزدق حين ساءله: (ما أعجلك عن الحجّ!؟) «1»

حيث أجابه (ع): (لو لم أعجل لا خذت). «2»

أو مثل هذه المحاورة الواردة بين الامام (ع) وبين أبي هرّة الازدي في منطقة الثعلبيّة، تقول الرواية:

(فلمّا أصبح الحسين وإذا برجل من الكوفة يكنّى أبا هرّة الازدي،

أتاه فسلّم عليه

ثمّ قال: يا ابن بنت رسول اللّه، ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدّك محمّد (ص)!؟

فقال الحسين: يا أباهرّة، إنّ بني أميّة أخذوا مالي فصبرتُ، وشتموا عرضي فصبرتُ، وطلبوا دمي فهربتُ، وأيم اللّه يا أباهرّة لتقتلنّي الفئة الباغية، وليلبسهم اللّه ذلٍّا شاملا وسيفا قاطعا، وليسلّطنّ اللّه عليهم من يُذلّهم حتّى يكونوا أذلَّ من قوم سباء إذ ملكتهم إمرأة منهنّ فحكمت في أموالهم ودمائهم). «3»

إنّ ظاهر مثل هذه النصوص يوحي باءنّ الامام (ع) كان همّه الاكبر النجاة بنفسه!! فقد صبر على أخذ ماله وشتم عرضه، وحين أرادوا قتله هرب لينجو

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 151

بنفسه!! هذه حدود مظلوميّته لا أكثر!! وكاءنّه ليس هناك رفض بيعة لا طلب اصلاح وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولا قيام!!

ولقد انطلى هذا الاستنتاج الخاطي على بعض الناس، فتوهّموا أنّ أساس حركة الامام (ع) هوطلب النجاة والفرار من الاغتيال والقتل!!

كذلك إذا اقتصر نظر الباحث على مثل ردّه (ع) على المسور بن مخرمة حينماكتب إليه ألّايغترّ بكتب أهل العراق حيث قال الامام (ع): (أستخير اللّه في ذلك). «1»

وقوله (ع) لا خيه محمّد بن الحنفيّة: (يا أخي، ساءنظر فيما قلت). «2»

أو قوله (ع) لعبداللّه بن مطيع العدوي: (أمّا في وقتي هذا اءُريد مكّة، فإ ذا صرت إليها استخرتُ اللّه تعالى في أمري بعد ذلك). «3»

أو قوله (ع) لعبداللّه بن عبّاس حين حذّره من التوجّه إلى العراق: (وإنّي أستخير اللّه، وأنظر ما يكون). «4»

أو قوله (ع) لعبداللّه بن الزبير: (واللّه لقد حدّثت نفسي بإ تيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير اللّه). «5»

ذلك لا نّ ظاهر مثل هذه النصوص يوحي باءنّ الامام (ع) لم تكن لديه خطّة على الارض في مسار

النهضة منذ البدء، ولا علم له بما هو قادم عليه في مستقبل أيّامه من مصير، بل كانت تُوجّه حركته بوصلة الاستخارة!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 152

الامر الذي يعارض وينافي كثيرا من النصوص الواردة عنه (ع) في نفس ه ذه الفترة، فضلا عن منافاته للا عتقاد الصحيح بعلم الامام (ع)!

كذلك الحال إذا اقتصر نظر الباحث مثلا على النصوص المتعلّقة برسائل أهل الكوفة إلى الامام (ع)، خصوصا النصوص الواردة عنه (ع) في ذلك، لا نّ نتيجة مثل هذا النظر ستكون اعتبار رسائل أهل الكوفة هي سبب قيام الامام (ع)، وهذا من أشهر الاشتباهات الحاصلة في مجرى النظر إلى قيام الامام الحسين (ع)!

وكذلك لايكون الاستنتاج سديدا إذا اقتصر مثلا على النصوص المتعلّقة بالرؤ يا التي رأى فيها الامام (ع) جدّه رسول اللّه (ص) وأمره فيها باءمرٍ لابدّ أن يمضي إليه!

وكذلك لايكون الاستنتاج سديدا إذا اقتصر مثلا على النصوص التي توحي باءنّه (ع) كان ياءمل النصر والنجاح وتسلّم زمام الامور، وأنّه كان يتوقّع ذلك ويرجوه، وأنّه لم يكن يعلم المصير!.

كلّ تلك النتائج القاصرة أوالخاطئة إنّما تنشاء نتيجة الاخذ الجزئي المفكّك، أمّا أخذ جميع النصوص المتعلّقة بهذه الفترة كمجموعة واحدة أخذا كليّا موحّدا فهو أحد عناصر عصمة الاستنتاج من القصور والخطأ.

هذا، وكما يُردُّ متشابه القرآن إلى محكمه، كذلك يردّ متشابه قول أهل البيت (ع) إلى محكم قولهم.

وفي مجموعة هذه النصوص هناك متشابهات لايتجلّى معناها الحقّ للنظرة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 153

الاولى، ويؤ دّي الاقتصار عليها في النظر إلى نتائج قاصرة أو خاطئة أيضا.

كما لو اقتصر النظر مثلا على مثل قوله (ع) لعمرو بن لوذان حينما أشار عليه بعدم التوجّه إلى الكوفة لا نّ أهلها لم يتحرّكوا عمليّا لنصرته ولم يغيّروا شيئا من أمورهم استقبالا

لمقدمه، حيث قال (ع): (يا عبداللّه، ليس يخفى عليَّ الرأي، ولكنّاللّه تعالى لايُغلب على أمره). «1»

أو إلى مثل قوله (ع) بعد أن قرأ كتاب عمرة بنت عبد الرحمن، وكانت في كتابها هذا (تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتاءمره باالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنّه إنّما يُساق إلى مصرعه، وتقول: أشهد لحدّثتني عائشة أنّها سمعت رسول اللّه (ص) يقول: (يقتل حسين باءرض بابل)، حيث قال (ع): (فلابدّ لي إذن من مصرعي!). «2»

وإلى مثل إجابته (ع) حين أشار عليه عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي بعدم التوجّه إلى العراق، حيث قال (ع): (جزاك اللّه خيرا يا ابن عمّ، فقد واللّه علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يقض من أمرٍ يكن، أخذتُ برأيك أو تركته!). «3»

أو إلى مثل قوله (ع) لا مّ سلمة رضي اللّه عنها: (يا اءُمّاه، قد شاءاللّه عزّ وجلّ أن يراني مقتولا مذبوحا ظلما وعدوانا، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين ماءسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا ولا معينا ...). «4»

وإلى مثل قوله (ع) لعمّته اءُمّ هاني رضي اللّه عنها: (يا عمّة، كلّ الذي مقدّر

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 154

فهو كائن). «1»

وإلى قوله (ع) للا وزاعي: (مرحبا بك يا أوزاعي، جئت تنهاني عن المسير، وياءبى اللّه إلّاذ لك!). «2»

وإلى قوله (ع) لا خته زينب (س): (يا أختاهُ، المقضيُّ هو كائن). «3»

ذلك لا نّ هذه النصوص تنطوي على إبهام وتشابه يوحي للنظرة الاولى باءنّ هناك جبرا وقهرا لم يكن الامام (ع) إزأه يملك أيَّ اختيار في كلّ ما جرى عليه! وهذا خلاف واقع الحال، وخلاف الاعتقاد الصحيح!

إنّ من لم يطّلع على معنى القدر والقضاء وأقسام القضاء بما ورد عنهم

(ع) لايؤ مَنُ عليه من الوقوع في مزالق الفهم الخاطي ء لمعاني مثل هذه النصوص د المتشابهات.

إنّ فهم الاشارات الكامنة في مثل هذه النصوص يفرض على الباحث أن يعرض د متشابهات هذه النصوص على محكمات براهين الاعتقاد الحقّ، وعلى نظائرها من النصوص الاخرى المحكمة حتّى يتجلّى له معناها الحقّ تماما.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 155

ممّا سبق تتجلّى لنا هذه الحقيقة وهي: أنّ قرأة معمّقة للنصوص الواردة عن الامام الحسين (ع) في هذه الفترة، قرأة واعية لحقائق هذه النقاط الثلاث التي قدّمناها، لابدّ أن تصل إلى هذه النتيجة وهي:

أنّ الامام الحسين (ع) كان قد تعامل في العمق مع كلّ قضيّة في مسار النهضة المقدّسة بمنطق (الشهيد الفاتح)، وخاطبها بلغة الشهادة التي هي عين الفتح، وإن كان في نفس الوقت قد تعاطى مع ظواهر القضايا بمنطق الحجج الظاهرة ولا منافاة بين المنطقين بل هما في طول بعضهما البعض.

فكان صحيحا مثلا أنّ الامام (ع) أراد أن (ينجو) من أن يُقتَل في المدينة أوفي مكّة خاصّة، قتلة يُقضى بها على ثورته في مهدها، وتُهتك بها حرمة البيت: (يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فاءكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت). «1»

حيث يتمكّن الامويّون في كلّ ذلك أن يدعّوا أنّهم بريئون ممّا جرى على الامام (ع) سوأ في المدينة أو في مكّة أو في الطريق، فيحافظو بذلك على الاطار الديني لحكمهم، أو أن تزداد المصيبة سوءً حين يطالبون هم بدم الامام (ع) ويقتلون من أمروه بقتله، فيخدعون الناس بادّعائهم أنّهم أصحاب دمه الاخذون بثاءره، فيزداد الناس انحداعا بهم ومحبّة لهم وتصديقا بما يستظهرون من التدين والالتزام، فتكون المصيبة على الاسلام والامّة الاسلاميّة أدهى وأمرّ!

وصحيح في العمق أيضا

أنّ الامام (ع) كان قد تحرّك على علمٍ منذ البدء نحوالمصرع المختار على الارض المختارة التي تنفرج وقائع المصرع في ساحتها عن الفتح المنشود:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 156

(وخِيرَلي مصرعٌ أنا لاقيه). «1»

(الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلا). «2»

(لا سبيل لهم عليّ ولايلقونى بكريهة أو أصل إلى بقعتى). «3»

(ولكن أعلم يقينا أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي ...). «4»

فحيث إن لم يبايع (ع) يُقتل، فقد سعى (ع) ألّايقتل في ظروف زمانيّة ومكانيّة وبكيفيّة يختارها ويخطّط لها ويعدّها العدوّ، وسعى (ع) بمنطق الشهيد الفاتح أن يتحقّق مصرعه الذي لابدّ منه على أرض يختارها هو، لايتمكّن العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه، فتختنق الاهداف المرجوّة من ورأ هذا المصرع الذي سيهزّ الاعماق في وجدان الامّة ويحرّكها بالا تّجاه الذي أراده الحسين (ع)، كما سعى (ع) أن تجري وقائع الماءساة في وضح النهار لا في ظلمة الليل، ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلايتمكّن العدوّ من أن يعتّم على هذه الوقائع الفجيعة ويغطّي عليها، وهذا هو الهدف المنشود من ورأ العامل الاعلامي والتبليغي في طلب الامام (ع) عصر تاسوعاء أن يمهلوه إلى صبيحة عاشورأ!

وكان صحيحا مثلا أنّ رسائل أهل الكوفة كانت حجّة لهم على الامام (ع)، وحجّة له عليهم وعلى الامّة في وقت معا، وكانت حجّة هذه الرسائل تقضي أن يتوجّه الامام (ع) بعدها إلى الكوفة، خصوصا بعد أن كتب إليه مسلم بن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 157

عقيل (ر) يخبره باءنّه قد بايعه منهم ثمانية عشر ألفا ويطلب منه القدوم. «1»

وذلك وفاءً بالوعد الذي قطعه لهم الامام الحسين (ع) على نفسه:

(... فإن كتب إليّ أنّه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم

وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاءاللّه ...). «2»

ولو لم يتوجّه الامام (ع) إلى الكوفة بعد هذه الرسائل لقال التاءريخ والناس إلى يومنا هذا إنّه (ع) قد أخلف الوعد، وإخلاف الوعد قبيح! وضيّع الفرصة التي لاتُعوَّض د وفوّتها تفويتا، وفرّط في الامر خلافا للحنكة السياسيّة!

لكنّ حجّة أهل الكوفة على الامام (ع) كانت قد انتفت بالفعل بعد انقلاب الكوفة على مسلم بن عقيل (ع) وخذلان أهلها له، ونكولهم عن نصرته والوفاء ببيعته، وتفرّق بقيّة المخلصين من الشيعة وهم قليل جدّا تحت جنح التستّر والتخفّي خوفا من بطش ابن زياد بهم، بعد أن سجن جمعا منهم، ووصول الخبر بذلك إلى الامام (ع).

فلم يعد في الظاهر ثمّة إلزام يقضي بضرورة مواصلة التوجّه إلى الكوفة.

فلماذا لم ينثنِ الامام (ع) عن المسير إليها والتوجّه نحوها!؟

لعلّ هناك من يتصوّر أنّ إصرار الامام (ع) على التوجّه إلى الكوفة كان بسبب إصرار بني عقيل على الاخذ بثاءر مسلم (ع) بعد وصول خبر مقتله، كما هو ظاهر الرواية الواردة عن عبداللّه بن سليمان والمنذر بن المشمّعل

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 158

الاسديّين الذين نقلا خبر مقتل مسلم (ع) عن طريق أسديّ آخر شهد مقتله في الكوفة، ثمّ قالا للا مام (ع): (ننشدك اللّه في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفت من مكانك هذا، فإ نّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوّف أن يكونوا عليك ...). «1»

تقول الرواية:

(فنظر إلى بني عقيل فقال: ما ترون، فقد قتل مسلم (ع)؟ فقالوا: واللّه لانرجع حتّى نصيب ثاءرنا أو نذوق ما ذاق. فاءقبل علينا الحسين (ع) وقال: لا خير في العيش د بعد ه ؤلاء!). «2»

معنى ذلك أنّ الامام (ع) أصرّ على التوجّه إلى الكوفة نتيجة لا صرار بني عقيل

على الاخذ بثاءر مسلم (ع)!! وإلّا لكان الامام (ع) قد رجع من حيث أتى. أو كان قد انصرف عن وجهته، وما كانت لتقع عاشورأ!!

وهذا ما تاءباه ماهيّة النهضة الحسينيّة وياءباه تاءريخها الوثائقي.

فممّا يدلّ على أنّ القضيّة عند الامام (ع) هي قضية نجاة الاسلام التي هي أكبر من دم مسلم (ع) ومن كلّ دم. قول الامام (ع) لمسلم (ع) وهو يودّعه، موجّها إيّاه إلى الكوفة ومبشّرا إيّاه بالشهادة:

(إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وهذه كتبهم إليّ، وسيقضى اللّه من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهدأ، فامض على بركة اللّه ...). «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 159

وقوله (ع) للفرزدق حين ساءله: (كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته!؟) «1»

حيث قال (ع):

(رحم اللّه مسلما، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ...). «2»

وفي إطار نقطة الانتباه إلى نوع المخاطب في معرفة المراد من النصوص الواردة عن أهل البيت (ع)، يحسن هنا أن نذكّر باءنّ الرجلين الاسديين الذين رويا تلكم القصّة والرواية تاءتي في موضعها من هذا الكتاب لم يكونا ممّن عزم على نصرة الامام (ع) والالتحاق بركبه!!

كلّ ما في أمرهما هو أنّ الفضول دفعهما إلى معرفة مايكون من أمر الامام (ع) فقط هذا باعترافهما كما في الرواية وقد تخليّا عنه أخيرا وفارقاه!!

والمتتبّع لمّا ورد في هذه الفترة من نصوص محاورات الامام (ع) خاصّة، يجد أنّ الامام (ع) كان لايخاطب هذا النوع من الرجال بمُرّ الحقّ وصريح القضيّة، بل كان (ع) يسلك إلى عقولهم في الحديث عن مراميه سبلا غير مباشرة يعرض فيها سببا أو أكثر من الاسباب

التي تقع في طول السبب الرئيس بما يناسب المقام والحال.

فقوله (ع) صدقٌ وحقٌ: (لا خير في العيش بعد هؤ لاء!).

لكنّ هذا لايعني أنّ مواساة بني عقيل كانت هي السبب الرئيس في إصرار

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 160

الامام على التوجّه إلى الكوفة.

يضاف إلى ذلك أنّ الامام (ع) لم يعلّل في أيّ موقع أونصٍّ آخر إصراره على التوجّه إلى الكوفة بطلب الثاءر لمسلم (ع)! بل كان يعلّل ذلك في أكثر من موقع ونصّ بحجّة رسائل أهل الكوفة وببيعتهم، وظلّ (ع) يؤ كّد التزامه بالوفاء بالعهد وبالقول الذي كان بينه وبين أهل الكوفة حتّى بعد أن منعه جيش الحرّ بن يزيد الرياحي عن الكوفة وحال بينه وبينها (وعن الرجوع إلى المدينة على بعض د الروايات). «1»

فقد قال (ع) للطّرمّاح الذي عرض عليه اللجوء إلى جبل (أجاء) المنيع بعد مضايقات جيش الحرّ:

(جزاك اللّه وقومك خيرا، إنّه قد كان بيننا وبين هؤ لاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ...). «2»

وفي نصٍّ آخر:

(إنّ بيني وبين القوم موعدا أكره أن اءُخلفهم، فإن يدفع اللّه عنّا فقديما ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لابدّ منه ففوز وشهادة إن شاء اللّه). «3»

كما خاطب (ع) جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بهذه الحجّة أيضا حيث قال:

(أيّها الناس، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 161

علينا فإ نّه ليس لنا إمام، لعلّ اللّه أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ ...). «1»

وما فتاء الامام (ع) يحتجّ بذلك على أهل الكوفة ويذكّر به حتّى استشهد!

وعلى ضوء مثل هذه النصوص، يكون صحيحا القول: إنّ الامام (ع) واصل التزامه بالوفاء بهذا الموعد والقول، وأصرّ على التوجّه إلى الكوفة لا لا نّ لا هل الكوفة

حجّة باقية عليه في الواقع، بل لا نّه (ع) لم يشاء أن يدع أىّ مجال لا مكان القول باءنّه (ع) لم يفِ تماما بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجّه إلى الكوفة في بعض د مراحل الطريق، حتّى بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها، ذلك لا نّ الامام (ع) مع تمام حجّته البالغة على أهل الكوفة أراد في المقابل بلوغ تمام العذر وعلى أكمل وجه فيما قد يُتصوَّر أنّ لهم حجّة باقية عليه، بحيث لايبقى ثمّة مجال للطّعن في وفائه بالعهد!

هذا، وإذا انتبهنا إلى أنّ الامام (ع) بعد أن أختار موقفه المبدئي برفض البيعة ليزيد وبالقيام، كان يعلم منذ البدء أنّه مقتول لامحالة، خرج إلى العراق أو لم يخرج، وهذا ما تؤ كّده كثير من النصوص الواردة عنه (ع)، منها:

(إنّي واللّه مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضا ..) «2»

لوكنت في جحر هامّة من هو امّ الارض لاستخرجونى منه حتّى يقتلونى «3»

إتّضح لنا أنّ من الحكمة أن يختار الامام (ع) لمصرعه أفضل الظروف الزمانيّة والمكانيّة والنفسية والاجتماعيّة المساعدة على كشف مظلوميّته

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 162

وفضح أعدائه ونشر أهدافه، وأن يتحرّك باتّجاه تحقيق ذلك ما وسعته القدرة على التحرك.

وبما أنّ الامام (ع) كان يعلم منذ البدء أيضا أنّ أهل الكوفة لايفون له بشي من عهدهم وبيعتهم وأنّهم سوف يقتلونه:

(هذه كتب أهل الكوفة إليّ ولاأراهم إلّا قاتليَّ ...). «1»

إذن فهو (ع) بمنطق الشهيد الفاتح كان يريد العراق ويُصرّ على التوجّه إليه لا نّه أفضل أرض للمصرع المختار، ذلك لما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتاءثّر بالحدث العظيم (واقعة عاشورأ) والتغيّر نتيجةً لها.

وذلك لا نّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ إقليم إسلامي آخر ولا

نّ العراق لم ينغلق إعلاميّا ونفسيّا لصالح الامويّين كما هو الشام، بل لعلّ العكس د هوالصحيح.

وهذه الحقيقة أكّدتها الوقائع التي تلت واقعة عاشورأ، وأثبتت أيضا صحّة هذا المنطلق، ولعلّ هذا هوالسرّ المستودع في قوله (ع) لمّا ساءله عبدالله بن عيّاش: أين تريد يا ابن فاطمة؟ حيث أجاب (ع): (العراق وشيعتي). «2»

وقوله (ع) بعبدالله بن عبّاس (رض): (لابدّ من العراق). «3»

وعلى ضوء هذا يُفسَّر رفض الامام (ع) اقتراحات في المدينة طلبت إليه عدم التوجّه إلى العراق، وأن يتوجّه إلى اليمن أو إلى شعاب الجبال الامنة (وذلك

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 163

قبل رسائل أهل الكوفة إليه)، كان قد اقترحها عليه مثل محمّد بن الحنفيّة (ر) وأمّ سلمة وغيرهم.

وفي هذا الاتّجاه أيضا يمكن أن نفسّر رفض الامام (ع) لاقتراح الطرمّاح عليه باللجوء إلى جبل (أجاء) المنيع بعد اللقاء بجيش الحرّ بن يزيد الرياحي.

وكذلك إعراض الامام (ع) عن استثمار الفرصة التي أتاحها له الحرّ (ر) ليرجع من حيث أتى أو يمضي إلى حيث شاء كما في الرواية الاتية وإصراره على التوجه إلى الكوفة، وذلك قبل وصول الرسالة الصارمة التي بعث بها عبيداللّه بن زياد إلى الحرّ والتي أمره فيها أن يجعجع بالا مام (ع).

ففي الاثر أنّ حوارا ساخنا دار بين الامام (ع) وبين الحرّ بن يزيد الرياحي: فقال الامام (ع): (فذر إذن أصحابك وأصحابي، وابرز إليّ، فإن قتلتني حملت رأسي إلى ابن زياد، وإن قتلتك أرحت الخلق منك!

فقال الحرّ: إنّي لم أؤ مر بقتالك، وإنّما أمرت أن لاأفارقك أو أقدم بك على الامير، وأنا واللّه كاره أن يبتليني اللّه بشيٍ من أمرك، غير أنّي أخذت ببيعة القوم وخرجت إليك، وأنا أعلم أنّه ما يوافي القيامة أحدٌ من هذه الامّة إلّا وهو

يرجو شفاعة جدّك، وإنّي واللّه لخائف إن أنا قاتلتك أن أخسر الدنيا والاخرة، ولكن أمّا أنا يا أباعبداللّه فلستُ أقدر على الرجوع إلى الكوفة في وقتي هذا، ولكن خذ غير الطريق وأمضِ حيث شئت، حتّى أكتب إلى الامير أنّ الحسين خالفني الطريق فلم أقدر عليه ...). «1»

فالحرّ على ضوء هذه الرواية كان قد سمح للا مام (ع) عدا الكوفة أن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 164

(... وأنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيّه (ص)، فإ نّ السنّة قد أميتت، وإنّ البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد ...). «1»

وصحيح في العمق أيضا بمنطق الشهيد الفاتح أنّ الامام (ع) كان يعلم أنّ النصر الظاهري وتسلّم الحكم حتّى لوتحقّق له على فرض الاحتمال فإ نّه قد يتحقّق في إقليم (العراق مثلا) أو أكثر من إقليم على أحسن إحتمال، لكنّ الشام وما تبعها من الاقاليم الاخرى تبقى آنئذٍ في يد الحكم الامويّ، ويعود الصراع بين الحقّ والباطل إلى سابق حلباته ومعاركه غير الحاسمة، في مثل (صفّين) مرّةً أخرى، وتبقى قدرة الامويّين على تضليل الامّة كما هي، وتبقى ماءساة الاسلام على حالها، ويبقى الامر دون مستوى الفتح المنشود.

فلابدّ إذن من (واقعة حاسمة) تفصل تماما بين الحقّ والباطل، وتحيل شلل الامّة ومواتها حركة وحياة، وتشلّ الباطل فلا تبقى له بعدها أيّة قدرة على التلبّس بلباس د الحقّ وتضليل الناس على الصعيد الديني والنفسي والسياسي والاعلامي.

(واقعة حاسمة) تنتهي بكل نتائجها لصالح الحقّ ولو بعد حين، فلا تنتهي كما انتهت صفّين مثلا!

(واقعة حاسمة) تكتب بمداد من الدم المقدّس كلّ البلاغات والبيانات اللّازمة في طريق الكمال الانساني على هدي الاسلام المحمّدي الخالص!

(واقعة حاسمة) تمنح مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (قيمة إثباتيّة)

عليا تضاف إلى قيمته الثبوتيّة العالية في الشريعة المقدّسة!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 166

(واقعة حاسمة) لايكون بعدها الاصلاح في الامّة إلّا في ظلّها وببركتها وتحت شعارها!

(واقعة حاسمة) تمتدّ في الزمان فيكون كلّ يوم يومها، وتمتدّ في المكان فتكون كلّ أرض أرضها!

وحيث إنّ كلّ منطق آخر غير منطق الشهيد الفاتح لايؤ دّي آنئذٍ إلى هذا الحسم المنشود، من هنا رأينا الشهيد الفاتح (ع) يرفض كلّ نصر دون مستوى ذلك الحسم، ويختار لقاء اللّه تعالى شهيدا فاتحا!

وفي هذا البعد بعد منطق الشهيد الفاتح يكون بإ مكاننا أن نفهم السر في الرواية القائلة إنّه: (لمّا التقى الحسين (ع) وعمر بن سعد لعنه اللّه وقامت الحرب، اءُنزل النصر حتّى رفرف على راءس الحسين (ع)، ثمّ خُيِّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء اللّه تعالى، فاختار لقاء اللّه تعالى). «1»

وه ذا البعد أيضا أحد الابعاد التي يمكن على ضوئها أن نفهم سرّ عدم إذنه (ع) للملائكة والجنّ الذين أظهروا له استعدادهم لنصرته أن ينصروه فعلا، فقال للملائكة:

(الموعد حفرتي وبقعتي التي استشهد فيها وهي كربلا)

وقال للجنّ:

(أما قرأتم كتاب اللّه المنزل على جدّي رسول اللّه (ص) في قوله: (قل لوكنتم

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 167

في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم). «1»

وعلى ضوء هذا المنطق منطق الشهيد الفاتح نفهم أيضا سرّ موقف الامام الحسين (ع) من الاقتراحات والمشورات الصحيحة والنصائح الصائبة (بمقياس هدف النصر الظاهري وتسلّم الحكم) التي اقترحها عليه كلُّ من محمّد بن الحنفيّة، وعمر بن عبدالرحمن وعبداللّه بن عبّاس وعمربن لوذان ...

فقد قال له أخوه محمّد:

(أخرج إلى مكّة، فإن اطماءنّت بك الدار فذاك الذي تحبّ وأحبّ، وإن تكن الاخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإ نّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس،

وأرقّهم قلوبا، وأوسع الناس بلادا، وأرجحهم عقولا، فإن اطماءنّت بك أرض اليمن وإلّا لحقت بالرمال وشعوب الجبال، وصرت من بلد إلى بلد لتنظر ما يؤ ول إليه أمر الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين). «2»

وقد أقرّ الامام (ع) أنّ هذه النصيحة صواب! إذ قال له:

(... جزاك اللّه يا أخي عنّي خيرا، ولقد نصحت وأشرت بالصواب ...). «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 168

وقال له عمر بن عبدالرحمن:

(... قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفق عليك، إنّك تاءتي بلدا فيه عمّاله وأمراؤ ه ومعهم بيوت الاموال، وإنّما الناس عبيد الدنيا والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه). «1»

وقد أثنى الامام (ع) على رأيه هذا، إذ قال له:

(جزاك اللّه خيرا يا ابن عمّ، فقد واللّه علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل ...). «2»

وفي هذا المجرى قال له ابن عبّاس أيضا:

(أخبرني رحمك اللّه، أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم!؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فَسِر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم، وعمّاله تجبي بلادهم، فإ نّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولاآمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك). «3»

وقال له عمرو بن لوذان في هذا الاتّجاه أيضا:

(أنشدك اللّه لما انصرفت، فواللّه ما تقدم إلّا على الاسنّة وحدّ السيوف، وإنّ هؤ لاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤ نة القتال، ووطّاءوا لك الاشياء،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 169

فقدمت عليهم كان ذلك رأيا، فاءمّا على هذه الحال التي تذكر فإ نّي لاأرى لك أن تفعل). «1»

ويجيبه الامام (ع):

(يا عبداللّه، ليس يخفى علىّ الرأى، ولكنّ اللّه تعالى لايغلب على أمره). «2»

وفي هذا

الاجابة إقرار بعقلائيّة هذا الرأي وصوابه!

لكنّ الامام (ع) مع إقراره بصحّة وصواب تلكم النصائح والاقتراحات كان يؤ كّد لكلٍّ من هؤ لاء الرجال بطريقة تتناسب ونوع المخاطب أنّه لابدّ له من عدم الاخذ بتلكم النصائح والاقتراحات!!

وذلك لا نّ منطق هؤ لاء وإن كان صحيحا بمقياس حدود الظاهر إلّا أنّه لايتعدّى التفكير بالسلامة والمنفعة الذاتيّة والنصر الظاهري وإن كان جزئيّا وعلى نحوالاحتمال!

في حين أنّ الاسلام كان آنئذٍ يمرُّ بمنعطف حرجٍ حاسم النتيجة في أن يبقى أو لايبقى، وقد لخّص الامام (ع) حال الاسلام الحرجة هذه بقوله لمروان بن الحكم:

(وعلى الاسلام السلام إذ قد بليت الامّة براعٍ مثل يزيد!). «3»

كان الاسلام آنئذٍ في حالة كما المريض الذي لاينفع في علاجة إلّا الكَيُّ! وقديما قيل في المثل: (آخر الدوأ الكَيُّ)، لما يترتّب عليه من علاج حاسم.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 170

حال الاسلام آنئذٍ لم يكن ينفع في علاجها منطق السياسة والمعاملة السياسيّة، والدهاء السياسي ورعاية المصالح الذاتيّة، والتفكير بالسلامة، وحسابات الاستفادة والمنفعة والربح والخسارة الشخصيّة، ومنطلقات التخطيط للسيطرة على الحكم!

حال الاسلام آنئذٍ ماكانت لتصل إلى علاجها الحاسم وتبلغ الشفاء التامّ إلّا بمنطق الشهيد الفاتح الذي جاء من قلب (المدينة) يسعى، يحدو به الشوق إلى المصرع المختار:

(وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف). «1»

في ركب من العشّاق (ومصارع عشّاق شهدأ ...) «2» لاتثنيهم عن الغاية عقلائيّة عقلاء الظاهر، ولا نصائحهم، ولا ملامة المحجوب عن المحبوب.

حتّى إذا قيل: هذه كربلاء!

تنفّس الشهيد الفاتح الصعدأ!

فهاهنا: أرض المصرع المختار وبقعة الفتح!

آفاق الفتح الحسيني: ..... ص : 170
اشارة

يحدّثنا التاءريخ في واحدة من روائع وثائقه (المعتبرة): أنّ الامام أباعبداللّه الحسين (ع) بعث بهذه الرسالة إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ومن قبله من بني هاشم:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 171

(بسم اللّه الرحمن الرحيم)

(من الحسين

بن علّي إلى محمّد بن علّي ومن قبله من بني هاشم. أمّا بعد: فانّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح. والسلام.) «1»

يقول المحقّق السيّد المقرّم (ره) مشيرا إلى هذه الرواية:

(كان الحسين (ع) يعتقد في نهضته أنّه فاتح منصور لما في شهادته من إحياء دين رسول اللّه (ص)، وإماتة البدعة وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الامّة أنّهم (ع) أحقّ بالخلافة من غيرهم، وإليه يشير في كتابه إلى بني هاشم:

من لحق بنا منكم استشهد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح. فانّه لم يرد بالفتح إلّا ما يترتّب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة وإقامة أركان العدل والتوحيد، وأنّ الواجب على الامّة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الامام زين العابدين لا براهيم بن طلحة بن عبيداللّه لمّا قال له حين رجوعه إلى المدينة: من الغالب!؟

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 172

فقال السجّاد (ع): إذا دخل وقت الصلاة فاءذّن وأقم تعرف الغالب! «1»

وقال المتتبّع باقر شريف القرشي تعليقا على الرواية نفسها:

(لقد أخبر (ع) الاسرة النبويّة باءنّ من لحقه منهم سوف يظفر بالشهادة، ومن لم يلحق به فإ نّه لاينال الفتح، فاءيّ فتح هذا الذي عناه الامام؟

إنّه الفتح الذي لم يحرزه غيره من قادة العالم وأبطال التاءريخ، فقد انتصرت مبادؤ ه، وانتصرت قيمه وتاءلّقت الدنيا بتضحيته، وأصبح اسمه رمزا للحقّ والعدل، وأصبحت شخصيّته العظيمة ليست ملكا لا مّةٍ دون أمّة ولا لطائفةٍ دون أخرى، وإنّما هي ملك للا نسانيّة الفذّة في كلّ زمان ومكان، فاءيّ فتح أعظم من هذا الفتح، وأيّ نصر أسمى من هذا النصر؟؟) «2»

ويمكننا هنا أن ننظر إلى أهّم آفاق الفتح الحسيني- بما تتّسع له صفحات هذه المقالة-

في المقاطع الزمانيّة الثلاثة التالية:

مقطع عصر عاشورأ: ..... ص : 172
اشارة

وفي هذا المقطع هناك آفاق فتح حسينيّ عديدة، أهمّها:

أ) الفصل بين الامويّة والاسلام ..... ص : 172

: مرّ بنا في المقالة الاولى من مدخل هذا الكتاب: كيف أنّ معاوية بن أبي سفيان (الذي انتهت إليه قيادة حركة النفاق آنذاك) قد أضلّ جلّ هذه الامّة إضلالا بعنوان الدين نفسه! حيث عتّم على ذكر أهل البيت (ع) وعلى ذكر فضائلهم تعتيما تامّا، وافتعل من خلال وضّاع الاحاديث- افتراءً على النبىٍّ (ص) قداسة مكذوبة له ولبعض من مضى من الصحابة الذين قادوا حركة النفاق أو ساروا في ركابها، وت آزروا على غصب أهل البيت (ع) حقّهم الذي فرضه اللّه لهم، وخدّر معاوية بن أبي سفيان الامّة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 173

المسلمة عن القيام والنهوض د ضدّ الظلم من خلال تاءسيس فرق دينيّة تقدّم للناس تفسيرات دينية تخدم سلطة الامويّين وتبرّر أعمالهم، كما في مذهب الجبر ومذهب الارجاء وأعانه على ذلك ما بذله من جهدٍ كبير في تمزيق الامّة قبليّا وطبقيّا، وفي اضطهاد الشيعة اضطهادا كبيرا.

ومع طول مدّة حكمه، انخدع جلّ هذه الامّة بالتضليل الديني الاموىٍّ، واعتقدوا أنّ حكم معاوية حكم شرعيّ، وأنّه امتداد للخلافة الاسلاميّة بعد رسول اللّه (ص)، وأنّ معاوية إمام هذه الامّة، وأنّ من ينوب عنه في مكانه إمام لهذه الامّة وامتداد لا ئمتها الشرعيّين!! ومن المؤ سف حقّا أنّ جلّ هذه الامّة خضع خضوعا أعمى له ذا التضليل وانقادله، فلم يعد يبصر غيره، بل لم يعد يصدّق أنّ الحقيقة شي آخر غير هذا!

هذا ابن زياد يخطب في الناس في خطبته التي خذّلهم فيها عن مسلم بن عقيل (ع) فيقول فيها:

(إعتصموا بطاعة اللّه وطاعة أئمّتكم!!). «1»

وهذا مسلم بن عمرو الباهلي يخاطب مسلم بن عقيل (ع) مفتخرا بضلاله قائلا:

(أنا ابن من عرف الحقّ إذ أنكرته!، ونصح لا

مامه إذ غششته!، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت!) «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 174

و هذا عمروبن الحجّاح الزبيدي- من قادة الجيش الامويّ في كربلاء- صاح يحرّض أهل الكوفة على الامام الحسين (ع) وأنصاره قائلا:

(يا أهل الكوفة، إلزموا طاعتكم وجماعتكم، ولاترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الامام!) «1»

هذا في الكوفة والعراق! أمّا في الشام فقد كان أهل الشام يرون أنه ليس د لرسول اللّه (ص) قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أميّة!! «2»

وكان الحكم الامويّ حريصا كلّ الحرص في الحفاظ على هذا الاطار الدينيّ الذي تلبّس به عن طريق الجهد الطويل في المكر والخداع ..

ولقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الاطار الديني هو أن يثور عليه رجلٌ ذو مركز دينيّ مسلَّمٌ به عند الامّة الاسلاميّة، فثورة مثل هذا الرجل كفيلة باءن تفضح الزخرف الديني الذي يتظاهر به الحكّام الامويّون، وأن تكشف هذا الحكم على حقيقته، وجاهليّته، وبُعده الكبير عن مفاهيم الاسلام، ولم يكن ه ذا الرجل إلّا الحسين (ع)، فقد كان له في قلوب الاكثريّة القاطعة من المسلمين رصيد كبير من الحبّ والاجلال والتعظيم.

وكان معاوية منتبها لهذه الحقيقة، فكان يتحاشى أيّة مواجهة علنيّة مع الامام الحسين (ع)، وكان يجتهد في الحيلولة دون قيام الامام (ع) بالمراقبة الشديدة والمداراة، وكان عازما على الصفح (في الظاهر طبعا) عن الامام (ع) إذا قام ثمّ ظفر به- على ما في بعض الروايات، كما سوف ياءتي في متن هذا الكتاب- ذلك لا نّ معاوية يُدرك جيّدا أنّ سفك مثل هذا الدم المقدّس حماقة كبرى تُعرّي الحكم الامويّ عن كلّ الزيف الذي تلبّس به.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 175

لكنّ يزيد بن معاوية ارتكب هذه الحماقة الكبرى!! لا سباب عديدة منها افتقاره إلى الدهاء

والحنكة السياسيّة اللذين كان يتمتّع بهما أبوه معاوية!

وفي عاشورأ كربلاء لم يرض الجيش الامويّ من الامام الحسين (ع) إلّا بالقتل، قتله وقتل أنصاره من أهل بيته وأصحابه الكرام في وضح نهار ذلك اليوم، بعد منعهم عن الماء، حتّى مضوا عطاشى وفيهم حتّى الطفل الرضيع!، ثمّ ما فعلوه بعد ذلك من رضّ أجسادهم بحوافر الخيل، وسبي بنات النبوة على الوجه المعروف، حاسرات بلا غطاء ولا وطاء، ونقل رؤ وس القتلى مع السبايا من كربلاء إلى الكوفة وإلى الشام ...

كلّ ذلك جرّد الامويّين من كلّ صبغة دينيّة وانسانيّة، بل أظهرهم على حقيقتهم المضادّة للدّين والانسانيّة. لقد كانت الرؤ وس والسبايا، وأحاديث الجنود العائدين دلائل حيّة، بليغة الادأ، قوّضت كلّ ركيزة دينيّة موهومة للحكم الامويّ في نفوس المسلمين.

ولقد زاد الامام الحسين (ع) موقف الامويّين حراجة إذ لم يصّر على القتال ولم يبدأهم به، وقد أعطاهم (ع) الفرصة ليتّقوا بها ارتكاب قتله وقتل آله وصحبه، ولكنّهم أبوا إلّا ارتكاب قتلهم وأصرّوا على ذلك، فزادهم ذلك فضيحة في المسلمين.

لقد عمي الجيش الامويّ في حماقته الكبرى في كربلاء يوم عاشورأ عن أنّه يقاتل شخص رسول اللّه (ص) في شخص الحسين (ع).

هذه الحقيقة التي فطن لها- في من فطن- الحرّ بن يزيد الرياحى رضوان اللّه تعالى عليه، فتعذّب بها العذاب الاكبر، حتّى دفعته في يوم عاشورأ إلى اختيار الجنّة على النار، فتحوّل إلى صفّ الامام (ع) واستشهد بين يديه!

لقد تحوّل الجيش الامويّ في إصراره على قتل الامام الحسين (ع) إلى متمرّد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 176

على الاسلام نفسه! وقد استغلّ الامام الحسين (ع) إصرارهم على قتله وامتناعهم عن الاستجابة لاقتراحاته استغلالا رائعا في احتجاجاته يوم عاشورأ، لفضحهم ولكشف عدائهم للا سلام نفسه! فاءظهر لكلّ

مشاهد من ذلك الملا الكبير الحاضر على أرض الواقعة حقيقة نفاق الامويّين، ثمّ انتشرت بعد ذلك أنباء فجائع وقائع يوم عاشورأ في كلّ الامّة، ليتحقّق بذلك هذا الافق الكبير من آفاق الفتح الحسيني في فصل الامويّة عن الاسلام.

ولو لم تكن واقعة كربلاء لكان الامويّون قد واصلوا حكم الناس باسم الدين حتّى يترسّخ في أذهان الناس بمرور الايّام والسنين أنّه ليس هناك إسلام غير الاسلام الذي يتحدّث به الامويّون ويؤ خذ عنهم!! وعلى الاسلام السلام!

لو لم تكن واقعة عاشورأ لما كان بالا مكان فصل الاسلام والامويّة عن بعضهما البعض، ممّا يعني أن زوال الامويّة يوما ما كان سيعني زوال الاسلام أيضا!، ولكانت جميع الانتفاضات والثورات التي قامت على الظلم الامويّ تقوم حين تقوم على الاسلام نفسه! لكنّ الفتح الحسيني في عاشورأ هو الذي جعل كلّ هذه الانتفاضات والثورات التي قامت بعد عاشورأ إنّما تقوم باسم الاسلام على الامويّة!. «1»

وعند هذه النقطة- فصل الامويّة عن الاسلام- تكون عاشورأ قد أعادت مساعي حركة النفاق- منذ وفاة النبىٍّ (ص) حتّى سنة ستّين للهجرة- إلى نقطة الصفر! فلو لم تكن عاشورأ لتمكّنت حركة النفاق المتمثّلة بالحزب

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 177

الامويّ آنئذٍ من القضاء على الاسلام المحمّديّ الخالص تماما، ولمّا بقي منه الّا عنوانه!

فاءىُّ أفق في الفتح أوضح وأكبر من أفق الحفاظ على الاسلام المحمّديّ الخالص د من خلال فصل الامويّة بكلّ عوالقها عن هذا الاسلام!؟

ب)- عاشورأ، بداية نهاية الحكم الامويّ ..... ص : 177
اشارة

: لقد أثارت واقعة عاشورأ موجة رهيبة من الانكار والرفض والقلق النفسي والشعور بالا ثم، وقد سيطرت هذه الموجة على نفوس المسلمين أفرادا وجماعات، ودفعتهم إلى العمل السياسي والتكتّل الاجتماعي للا طاحة بالحكم الامويّ.

ومنذ عاشورأ إلى سقوط الحكم الامويّ حفل تأريخ الامّة الاسلاميّة بانتفاضات وثورات، فرديّة

وجماعيّة، قامت ضدّ الحكم الامويّ، وكان لثورة الامام الحسين (ع) أثر مباشر أو غير مباشر في كلٍّ منها.

وبذلك تكون عاشورأ قد رسمت بداية نهاية الحكم الامويّ.

ومن الانتفاضات والثورات التي كان لثورة الامام الحسين (ع) أثرها المباشر فى اندلاعها:

1- إنتفاضة عبداللّه بن عفيف الازدي (رض) ..... ص : 177

وقد قام هذا المؤ من المجاهد في وجه ابن مرجانة انتصارا لا هل البيت (ع)، وأحال نشوة ابن مرجانة بالنصر الظاهري إلى غصّة بانكسار أليم حينما ردّ عليه وعنّفة منكرا عليه سوء ما فعل بذريّة النبىٍّ (ص) ففضحه أمام الملا العام، وكان للمواجهة السافرة بينه وبين ابن مرجانة أثر بالغ في كسر حاجز الخوف في قلوب الناس، وتشجيعهم على التمّرّد، وياءتي ذكر هذه الانتفاضة الشجاعة في موقعها من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 178

هذا الكتاب.

وهناك انتفاضة فرديّة أخرى ضبطها التاءريخ، إذ رُوي أنّ رجلا من بكر بن وائل يقال له جابر كان حاضرا في مجلس ابن زياد، وحينما عرف أنّ الرأس الذي بين يدي ابن زياد هو رأس ابن بنت رسول اللّه (ص) انتفض وهو يقول مخاطبا ابن زياد:

(للّه عليّ أن لاأصيب عشرة من المسلمين خرجوا عليك الّا خرجتُ معهم.). «1»

2- ثورة المدينة: ..... ص : 178

وهي من أحداث سنة ثلاث وستّين للهجرة، حيث انتفض أهل المدينة فيها وأخرجوا عنها عامل يزيد بن معاوية فيها وهوعثمان بن محمّد بن أبي سفيان، وأظهروا خلع يزيد بن معاوية، في قصّة مفصّلة انتهت بوقعة الحرّة الاليمة على يد مسلم بن عقبة المرّي الذي أباح المدينة ثلاثة أيّام وقتل من أهلها خلقا كثيرا، ناف عدد ما اءُحصي منهم على الاربعة آلاف، حتّى لُقّب هذا المريّ اللعين ب (مسرف)! وكان لهذه الفاجعة أيضا أثر بالغ في تاءجيج مشاعر الناس ضدّ الحكم الامويّ.

والذي أجّج شعلة هذه الثورة أسباب كان أهمّها مقتل الامام الحسين (ع) فإ نّ زينب بنت علي (ع) دأبت بعد وصولها إلى المدينة على العمل للثّورة، وعلى تعبئة النفوس لها وتاءليب الناس على حكم يزيد، وقد تعاظم أمر نشاطها وتاءثيرها في أهل المدينة حتّى خاف والي المدينة

آنذاك عمرو بن سعيد الاشدق من انفلات الامر وانتقاضه عليهم فشكاها إلى يزيد، وأتاه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 179

كتاب يزيد باءن يفرّق بينها وبين الناس. «1»

3- ثورة التوّابين ..... ص : 179

: وكانت هذه الثورة ردّ فعل خالصا لثورة الامام الحسين (ع)، إذ لم يكن لغير ثورة الامام الحسين (ع) أثر فيها، وقد انبعثت نتيجة الشعور بالا ثم والندم والحسرة على عدم نصرة الامام الحسين (ع)، وقد رأى الثوّار فيها أنّه لايغسل عارهم والاثم عنهم إلّا قتل من قتل الامام (ع) أوالقتل في هذا الامر، وكان زعيم هذه الثورة سليمان بن صرد الخزاعي، وقد ابتدأ الاعداد لهذه الثورة اجتماعيّا وعسكريّا بعد عاشورأ سنة إحدى وستّين للهجرة، وكان هذا الاعداد سرّيا حتّى مات يزيد، فخرجوا بعد موته من السر إلى العلن، فتوجّهوا سنة خمس د وستّين للهجرة إلى قبر الامام الحسين (ع)، فلمّا وصلوا إليه صاحوا صيحةً واحدةً، فما رُئِىٍّ أكثر باكيا من ذلك اليوم، وكان من قولهم عند تربته:

(أللّهمّ ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد، المهديَّ بن المهديِّ، الصدّيقَ بن الصدّيقِ، أللّهمّ إنّا نشهدك أنّا على دينهم وسبيلهم، وأعدأ قاتليهم وأولياء محبّيهم، أللّهمّ إنّا خذلنا ابن بنت نبيّنا (ص)، فاغفرلنا ما مضى منّا وتب علينا، وارحم حسينا وأصحابه الشهدأ الصدّيقين، وإنّا نشهدك أنّا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين. «2»

ثمّ توجّهوا إلى الشام، والتحموا مع كتائب الجيش الامويّ في منطقة (عين الوردة) في وقعة دمويّة رهيبة هزّت نتائجها الفادحة أركان الحكم الامويّ هزّا عنيفا!

(ولقد اعتبر التوّابون أنّ المسؤ ول الاوّل والاهمّ عن قتل الحسين (ع) هو النظام وليس الاشخاص، وكانوا مصيبين في هذا الاعتقاد، ولذا نراهم توجّهوا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 180

إلى الشام، ولم يُلقوا بالا إلى

من في الكوفة من قتلة الحسين (ع). «1»

ولقد شهد المجتمع الاسلامي في هذه الثورة ظاهرة جماعيّة جديدة انبعثت بعد خمودٍ طويل، وهي ظاهرة روحيّة الفدأ والتضحية وطلب الموت، بعد وهن غامر تمثّل في حبّ الدنيا وكراهية الموت، هذا الوهن الذي جثم على قلب هذه الامّة نتيجة الافساد الامويّ المتعمّد.

انّ من يتاءمّل في خطب قادة ثورة التوّابين يكتشف بوضوح كيف أنّ ثورة الامام الحسين (ع) كانت قد عصفت بكلّ ركام معاني العجز والوهن والانهيار والتلوّن، وأحلّت محل ذلك الرغبة في الاستقامة والتحرّر والاستشهاد.

4- ثورة المختار (ره) ..... ص : 180

: وفي سنة ستّ وستّين للهجرة ثارالمختار بن أبي عبيدة الثقفي بالعراق طالبا ثاءرالحسين (ع). وقد نال تاءييدا جماهيريّا واسعا في العراق، فقد أقبل الناس عليه وأدبروا عن ابن الزبير الذي لم يحقّق لهم ما كانوا ياءملونه منه في الانتقام لمظلوميّة الحسين (ع)، والاصلاح الاجتماعيّ.

لقد أخرج ابن الزبير الامويّين عن سلطانهم في العراق، لكنّ سلطانه لم يكن خيرا من سلطان الامويّين بالنسبة إلى أهل العراق لا نّ قتلة الامام الحسين (ع) ظلّوا مقرّبين إلى سلطة بن الزبير كما كانوا في العهد الامويّ، مثل شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وعمر بن سعد، وعمرو بن الحجّاج، وغيرهم. كما أنّه لم يحقّق لهم العدل الاجتماعيّ الذي كانوا يطلبونه، فقد كانوا يريدون سيرة عليّ أبى طالب (ع) فيهم، تلك السيرة التي كانوا لازالوا يذكرونها ويحنّون إليها، في حين أنّ عبداللّه بن مطيع العدوي عامل ابن الزبير على الكوفة كان يريد أن يسير فيهم بسيرة عمر وعثمان، الامر الذي كانوا لايريدونه. «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 181

كان هذا سببا في إدبار الناس عن ابن الزبير، وتاءييدهم لثورة المختار الذي نادى بشعار: (يا لثارات الحسين (ع).

وقد تتبّع المختار قتلة

الامام الحسين (ع) وآله وصحبه الكرام، فقتل جلّ ه ؤ لاء القتلة، حتّى أنّه قتل منهم في يوم واحد مائتين وثمانية وأربعين رجلا، «1» ولم يفلت من قادتهم وزعمائهم أحد.

5- قيام زيد بن علي ..... ص : 181

ولم يؤ دّ القضاء على ثورة المختار من قبل ابن الزبير إلى خمود الروح الثوريّة عند الشيعة، فلقد قامت بعده ثورات أخرى، كثورة زيد بن علي (ر) في سنة مائة واثنتين وعشرين للهجرة، وقيام ابنه يحيى بن زيد (ر) من بعده.

ولم يزل يتّسع الخرق على الحكم الامويّ ويزداد ضعفا على ضعف حتّى أطاحت جيوش أبي مسلم الخراساني بالحكم الامويّ إطاحة تامّة في سنة مائة واثنتين وثلاثين للهجرة.

من كلّ ما مضى تتجسّد لنا حقيقة أنّ واقعة عاشورأ كانت بداية نهاية الحكم الامويّ، بل لنا أن نقول: إنّ عاشورأ هي التي قضت على الحكم الامويّ حيث نجحت نجاحا تامّا في فصل الامويّة عن الاسلام!

وأمّا الثورات التي لم يكن لثورة الامام الحسين (ع) أثر مباشر فيها، كثورة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 182

عبداللّه بن الزبير، وثورة مطرف بن المغيرة، وثورة عبدالرحمن بن محمّد بن الاشعث، فلم تخلُ من أثر غير مباشر لثورة الامام (ع) فيها، إذ إنّها استمّدت الجرأة على الحكم الامويّ من جرأة قيام الامام (ع)، ولم تجد لها متنفّسا للقيام إلّا بعد أن نجحت عاشورأ في فصل الامويّة عن الاسلام، ومزّقت عن الحكم الامويّ إطاره الديني الموهوم، الامر الذي مكّن مثل ه ذه الثورات أن تجد في هذه الامّة مددا جماهيرا لقيامها.

مقطع ما بعد عاشورأ إلى عصر الظهور: ..... ص : 182
اشارة

وفي هذا المقطع يتجلّى لنا أفق مبين من آفاق الفتح الحسيني وهو:

الاسلام حسينيّ البقاء ..... ص : 182

: قلنا فيما مرّ- تحت عنوان الشهيد الفاتح من الخصائص د الحسينيّة- إنّ عاشورأ قد كشفت عن وحدة وجوديّة لا انفكاك لها بين الاسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (ع)، فصارت الدعوة إلى هذا الاسلام بعد عاشورأ هي عين الدعوة إلى الحسين (ع)، وبالعكس، وصارت مواجهة الحسين (ع) ومعاداته بعد عاشورأ هي عين مواجهة هذا الاسلام ومعاداته، وبالعكس، وصار بقاء هذا الاسلام بعد كربلاء ببقاء عاشورأ الحسين (ع)، فالا سلام محمّديّ الوجود حسينيّ البقاء.

ذلك لا نّ نهضة الامام الحسين (ع) في هدفها وشعارها ورسائلها وبياناتها وأخلاقيّاتها هي عين نهضة الاسلام المحمّديّ الخالص للتحرّر من كلّ رواسب الجاهليّة التي علقت به نتيجة (السقيفة) التي مكّنت حركة النفاق من التحكم في رقاب المسلمين!

ونتيجة لهذه الوحدة الوجوديّة بين الحقيقة الاسلاميّة والحقيقة الحسينيّة امتّدت عاشورأ في الزمان فكان (كلّ يوم عاشورأ) وانتشرت كربلاء في

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 183

المكان فكانت (كلّ أرض كربلاء).

وغدت كلّ نهضة إسلاميّة حقّة بعد عاشورأ تجد في ثورة الحسين (ع) نبراسها وتجد نفسها إمتدادا لتلك الثورة المقدّسة.

كما غدت كلّ نهضة تدعو إلى الضلال السفيانيّ تجد نفسها عدوّة للحسين (ع) وعدوّة للا سلام المحمّديّ الخالص، وفي التاءريخ الماضي والحاضر شواهد على ه ذه الحقيقة!

وفي إطار هذه الوحدة الوجوديّة بين الاسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (ع) يتجلّى لنا سرُّ كبيرٌ من أسرار تركيز أئمّة أهل البيت (ع) على عاشورأ وعلى تثبيت دعائمها ونشر آفاقها ما وسعتهم الفرصة وتراخى عن منعهم الظرف الخانق، وذلك بتوجيه الامّة توجيها مركّزا وشدّها شدّا محكما إلى سيّد الشهدأ الامام أبي عبداللّه الحسين (ع)، من خلال تاءكيداتهم المتواصلة على (عزأ الحسين (ع) وعلى (زيارة

الحسين (ع).

سرُّ تاءكيد الائمة (ع) على عزأ الحسين (ع) وزيارته ..... ص : 183

: إنّ العناية الفائقة التي خصّ أئمتنا (ع) بها عزأ الحسين (ع)، وتاءكيداتهم المتلاحقة على زيارة قبره المقدّس د لايصحّ تفسيرها بلحاظ المثوبات العظيمة الموعودة عليها كعمل تعبّديٍّ فقط- وإن كان لسان جلّ الروايات المتعلّقة بهذه المساءلة يقتصر على ذكر المثوبة فقط- بل لابدّ في تفسيرها من النظر أيضا إلى الاثار الاخرى المترتّبة على عزائه (ع) وعلى زيارته. «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 184

ومن أهمّ تلك الاثار: الاثر التربويّ المنشود من ورأ العزأ والزيارة خاصّة، ومن ورأ الشعائر الحسينيّة الاخرى عامّة، إذ إنّ صناعة (الانسان الحسينيّ):

المؤ من الحرّ الابيّ البصير القاطع الصلب المتاءسيّ بمناقبية الامام الحسين (ع) وأنصاره الكرام لاتكون إلّا في (مصنع عاشورأ).

ومن تلك الاثار: الاثر السياسي والاجتماعي، والتغيّر الفكري والروحي في الامّة الناشي عن العزأ والزيارة خاصّة وعن الشعائر الحسينيّة الاخرى عامّة، خصوصا في فترة ما بين مقتله (ع) إلى أيّام الغيبة الصغرى، حيث كان العزأ والزيارة مثلا يعنيان في بعض مقاطع تلك الفترة رفض الناس للسلطات الحاكمة آنذاك، وإعلان البرأة منها، والخروج عليها والتصديّ لا نواع نكالها وبطشها، إذ صار (... أهل السواد يجتمعون باءرض نينوى لزيارة قبر الحسين (ع)، فيصير إلى قبره منهم خلق كثير ...) «1»

ثمّ صاروا يصرّون على زيارته (ع) ويقولون:

(.. لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا ... حتّى كثر جمعهم، وصار لهم سوق كبير ....)، «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 185

الامر الذي هال الحكّام الطغاة وأفزعهم خوفا ورعبا من آثاره، فمنعوا الزيارة بعد أن تحوّلت إلى ظاهرة سياسيّة اجتماعيّة خطيرة، واعتدوا على القبر المقدّس نفسه غير مرّة، فقد كربه والي الكوفة موسى بن عيسى الهاشميّ في زمن

هارون العبّاسي، «1» كما كربه المتوكلّ العبّاسي على يد إبراهيم الديزج اليهودي بمعونة جمع من اليهود، «2» أملا من الطغاة في اندراس هذا القبر المقدّس ومحو وجوده، وهو لايزداد إلّا علوّا وإشراقا!

وفي الازمان الاخيرة أيضا هوجم قبر الامام الحسين (ع) عدّة مرّات، ففي سنة 1216 ه. ق هجم الجيش الوهابيّ المكوّن من اثني عشر ألف مقاتل بقيادة سعود بن عبدالعزيز بإ يعاز من أبيه على مدينة كربلاء المشرّفة، فباغتها صبيحة يوم الغدير على حين غفلة من أهلها، فاءباحوا القتل فيها سبع ساعات من النهار، وقتلوا سبعة آلاف من أهلها، وهتكوا حرمة القبر الشريف وحرمة هذه المدينة المقدّسة. «3»

وفي سنة 1222 ه. ق تكرّرت هذه الفعلة أيضا فقد هجم الجيش الوهابي المكوّن من عشرين ألف مقاتل بقيادة سعود بن عبدالعزيز نفسه على النجف وكربلاء. «4»

وفي سنة 1258 ه. ق تكرّرت هذه الفعلة الشنيعة أيضا على يد نجيب باشا والي بغداد في عهد السلطان العثماني عبد المجيد، حيث هاجم نجيب هذا مدينة كربلاء المقدّسة وهتك حرماتها وقتل من أهلها مقتلة عظيمة! «5»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 186

وفي سنة 1411 ه. ق هجم حسين كامل أحد أشرس أعوان صدام التكريني حاكم العراق على مدينة كربلاء وضرب القبر المقدّس بالمدفعيّة وقتل من أهلها مقتله عظيمة!

وما خوف الطغاة ورعبهم من صاحب هذا القبر (ع) إلّا لوحدة الحقيقة بينه وبين الاسلام المحمّديّ الخالص، الذي صار بقاؤ ه رهين بقاء عاشورأ الحسين (ع)، النبراس والقدوة لكلّ إنتفاضة إسلاميّة حقّة.

مقطع عصر الظهور: ..... ص : 186
اشارة

وفي هذا المقطع يتجسّد الفتح الحسينيّ في عاشورأ مبينا لاريب فيه، من خلال الوحدة الصميميّة بين قيام الامام الحسين (ع) وقيام الامام المهدي (ع)، وبين الفتح الحسيني والفتح العالمي!

قيام المهدي (عج) هو الفصل الاخير من قيام عاشورأ ..... ص : 186

: يبدو للمتاءمّل في الروايات التي تتناول العلاقة بين هذين القيامين العظيمين وكاءنّ قيام الامام الحسين (ع) في مجموع أحداثه يتاءلّف من ثلاثة فصول:

الفصل الاوّل منها: كان قد تمّ بوقوع فاجعة عاشورأ وعودة الركب الحسينيّ إلى المدينة بقيادة الامام زين العابدين (ع).

والفصل الثاني: يمتدّ في الفترة ما بعد ذ لك إلى قيام الامام المهدي (ع)، وهو فصل الحفاظ على الاسلام وبقائه.

والفصل الثالث: يتحقّق بقيام الامام المهديّ (ع) ثائرا للحسين (ع) ومظهرا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 187

لهذا الدين على الدين كلّه.

ويرى المتاءملّ في هذه الروايات الشريفة بوضوح أنّ قيام الامام المهديّ (ع) امتداد حقيقيّ لقيام الامام الحسين (ع)، وأنّ عاشورأ سنة إحدى وستّين للهجرة كانت المعركة الاولى من معارك الامام الحسين (ع)، وإن كان قد استشهد فيها، وأنّ الفترة ما بين عاشورأ وبين الظهور فترة مليئة بمواجهات ومعارك عديدة أخذ الامام الحسين (ع) فيها بخناق جميع طواغيت تلك الفترة لا بخناق يزيد بن معاوية وحده! وأنّ العالم إنّما يشهد في عصر الظهور الفصل الاخير من قيام الامام الحسين (ع) بقيادة ابنه الامام المهديّ (ع)، الذي يقتل ذراري قتلة الامام الحسين (ع) في كلّ فترة ما بين عاشورأ والظهور لرضاهم بفعال آبائهم!، وأنّ الفتح العالمي هو الحلقة الاخيرة من حلقات الفتح الحسينيّ في عاشورأ.

دلائل روائية ..... ص : 187

: وإثباتا لكلّ ما قدّمناه هنا، نتبرّك بذكر بعض هذه الروايات الشريفة على سبيل المثال لا الحصر:

صاحب الفتح العالميّ من ذريّة الحسين (ع):

قال رسول اللّه (ص):

(ومن ذرّيّة هذا- وأشار إلى الحسين (ع) رجل يخرج في آخر الزمان يملا الارض د عدلا كما ملئت ظلما ووجورا ...). «1»

وقال الامام الحسين (ع):

(منّا إثنا عشر مهديّا، أوّلهم اميرالموءمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 188

التاسع من ولدي،

وهوالقائم بالحقّ، يحي اللّه به الارض بعد موتها، ويظهر به دين الحقّ على الدين كلّه ولوكره المشركون ...). «1»

امتداد المواجهة في فصول بين أهل الحقّ وأهل الباطل:

قال الامام الصادق (ع):

(إنّا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في اللّه، قلنا: صدق اللّه. وقالوا: كذب اللّه. قاتل أبوسفيان رسول اللّه (ص)، وقاتل معاوية عليّ بن أبى طالب (ع)، وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن عليّ (ع)، والسفيانىّ يقاتل القائم (ع). «2»

المهدي (عج) الثائر للحسين (ع):

قال الامام الصادق (ع):

(لمّا ضُرب الحسين بن علىٍّ (ع) بالسيف ثمّ ابتُدِر ليُقطع رأسه نادى منادٍ من قبل ربّ العزّة تبارك وتعالى من بطنان العرش فقال: ألا أيّتها الامّة المتحيّرة الظالمة بعد نبيّها، لا وفّقكم اللّه لا ضحى ولا فطرٍ. قال: ثمّ قال أبوعبداللّه (ع): لاجرم واللّه ماوفّقوا ولايوفّقون أبدا حتّى يقوم ثائر الحسين (ع). «3»

وقال الامام الباقر (ع):

(لمّا قُتل جدّي الحسين (ع) ضجّت الملائكة إلى اللّه عزّ وجلّ بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيّدنا، أتصفح عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك؟ فاءوحى اللّه عزّ وجلّ إليهم قُرّوا ملائكتي، فوعزّتي

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 189

وجلالي، لا نتقمنّ منهم ولو بعد حين. ثمّ كشف اللّه عزّ وجلّ عن الائمّة من ولد الحسين (ع) للملائكة، فسُرَّتِ الملائكة بذلك، فإ ذا أحدهم قائم يصلّي، فقال تعالى: بذلك القائم أنتقم منهم.). «1»

القائم (عج) الطالب بدم المقتول في كربلاء:

وعن الامام الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: (أذن للّذين يقاتلون باءنّهم ظلموا وإنّ اللّه على نصرهم لقدير)

(إنّ العامّة يقولون نزلت في رسول اللّه (ص) لمّا أخرجته قريش من مكّة، وإنّما هي للقائم (ع) إذا خرج يطلب بدم الحسين (ع)، وهوقوله: نحن أولياء الدم، وطُلّاب الدِّية ...). «2»

خروج القائم (عج) يوم

عاشورأ!:

قال الامام الباقر (ع): (يخرج القائم (ع) يوم السبت، يوم عاشورأ، يوم الذي قتل فيه الحسين (ع). «3»

وشعارهم: (يالثارات الحسين):

قال الامام الرضا (ع): (يابن شبيب، إن كنت باكيا لشي فابك للحسين بن علىٍّ ابن أبي طالب (ع) فإ نّه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا مالهم في الارض شبيهون، ولقد بكت السموات السبع والارضون لقتله، ولقد نزل إلى الارض من الملائكة أربعة آلاف لنصره، فوجدوه قد قتل،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 190

فهم عند قبره شعثٌ غبرٌ إلى أن يقوم القائم فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين.) «1»

القائم (عج) يقتل ذراري قتلة الحسين (ع) لرضاهم بفعال آبائهم:

عن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: (قلت لا بي الحسن علىٍّ بن موسى الرضا (ع): يا ابن رسول اللّه، ما تقول في حديث رُوي عن الصادق (ع) أنّه قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين (ع) بفعال آبائها؟ فقال (ع): هو كذلك. فقلت: فقول اللّه عزّ وجلّ (ولاتزر وازرة وزر أخرى) ما معناه؟ فقال:

صدق اللّه في جميع أقواله، لكنّ ذراري قتلة الحسين يرضون أفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئا كان كمن أتاه، ولو أنّ رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند اللّه شريك القاتل، وإنّما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم ...). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 193

الفصل الاول: الامام الحسين) ع) بعد اخيه الامام الحسن) ع) ..... ص : 193
مكانة الامام الحسين (ع) في الامّة: ..... ص : 193

--- امتاز الحسنان (ع) بمكانتهما السامية وقداستهما الخاصّة في وجدان هذه الامّة الاسلاميّة منذ عهد جدّهما الرسول الاكرم (ص) وإلى يوم تقوم الساعة.

فهما من أهل آية المباهلة وآية التطهير وآية المودّة وآية الابرار ...

وهما ريحانتا رسول اللّه (ص)، والامامان إن قاما وإن قعدا، وسيّدا شباب أهل الجنّة، وهما السبطان، وهما

إبنا رسول اللّه (ص). «1»

وفي البيانات النبويّة الكثير في الدعوة إلى حبّهما والتحذير من بغضهما .. وقد عرف لهما الصحابة موقعهما الخاصّ من قلب رسول اللّه (ص)، فعظم عند المخلصين من الصحابة قدرهما وتنافسوا في تكريمهما وتقديسهما ..

اعترض مُدرك بن زياد على ابن عبّاس، وقد أمسك ابن عبّاس للحسن والحسين بالركاب وسوّى عليهما

قائلا: أنت أسنّ منهما تمسك لهما بالركاب؟!

فقال: يالُكَع، وتدري من هذان؟ هذان ابنا رسول اللّه (ص)، أوليس ممّا أنعم

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 194

اللّه به عليّ أن أمسك لهما واءُسوّىٍّ عليهما؟! «1»

وبلغ من تعظيم المسلمين وتكريمهم لهما، أنّهما لمّا كانا يحجّان إلى بيت اللّه الحرام ماشيين والنجائب تقاد بين أيديهما، يترجّل كلُّ راكبٍ يجتاز الطريق عليهما إكبارا لهما وتعظيما لشاءنهما، حتّى شقّ المشي على كثير من الحجّاج، فكلّموا أحد أعلام الصحابة، وطلبوا منه أن يعرض عليهما الركوب أو التنكّب عن الطريق، فعرض عليهما ذلك، فقالا: (لانركب، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت اللّه الحرام على أقدامنا، ولكنّا نتنكّب عن الطريق.) «2»

(وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما ممّا يزدحمون عليهما للسلام عليهما ..) «3»

ومابرح الحسنان (ع) فرقدَي سماء هذه الامّة، تتطلّع إليهما قلوب المؤ منين حبّا وإكبارا وتقديسا، حتّى غاب أبومحمّد الحسن المجتبى عن هذه الدنيا منتقلا إلى جوار ربّه تبارك وتعالى وجدّه (ص) وأمّه وأبيه (ع) ...

وبقي الامام أبوعبداللّه الحسين (ع) وحده ...

فصارت الامّة ترى فيه فضلا عن قدسيّته الخاصّة بقيّة أهل الكساء وآية التطهير وآية المودّة وآية الابرار وأهل البيت وتذكار الرسول وعليٍّ وفاطمة والحسن صلوات اللّه عليهم أجمعين، فكان (أعظم الخلف ممّن مضى) كما عبّرت عن ذلك إحدى رسائل التعزية التي وصلته من الكوفة. «4»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 195

وكان محلّه من الناس

محلّ جدّه النبىٍّ (ص)، تجد فيه الارواح الحائرة القلقة ما تشتهي من طماءنينة وسكينة، حتّى النفوس المنحرفة عن هدى أهل البيت (ع) لم تكن تملك أمام أبي عبداللّه (ع) إلّا أن تُجلَّه وتظهر له فائق الاكبار وتعترف له بسمّو القدر والمنزلة.

تقول الرواية: (.. أعيى الحسين (ع) فقعد في الطريق، فجعل أبوهريرة ينفض د التراب عن قدميه بطرف ثوبه ...

فقال الحسين (ع): يا أباهريرة، وأنت تفعل هذا!؟

قال أبوهريرة: دعني، فواللّه لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم.) «1»

وكان (ع) في المدينة الشمس التي تفيض على الناس نورا وهدىً وأمنة وطماءنينة، وكان (ع) إذا خطب في مسجد جدّه (ص) أوتحدّث إلى حضّاره انبهرت له القلوب وتسمّرت إلى محيّاه الاعين، وكاءنّ على رؤ وس الناس الطير.

هذا معاوية العدوّ اللدود يقول لرجل من قريش:

(إذا دخلت مسجد رسول اللّه (ص) فرأيت حلقة فيها قومٌ كاءنّ على رؤ وسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبداللّه، مؤ تزرا على أنصاف ساقيه، ليس فيها من الهزيلى «2» شئٍّ «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 196

ويجتاز الامام الحسين (ع) في مسجد جدّه رسول اللّه (ص) على جماعة فيهم عبداللّه بن عمرو بن العاص، فيسلّم الامام عليهم، فيردّون عليه السلامَ، ثمّ ينبري عبداللّه بن عمرو بن العاص فيردّ السلام بصوت عالٍ، (.... ثمّ أقبل على القوم.

فقال: ألاأخبركم باءحبّ أهل الارض إلى أهل السماء؟

قالوا: بلى.

قال: هو هذا المُقْفي، واللّه ماكلّمته كلمة ولاكلّمني كلمة منذ ليالي صفّين، واللّه لا ن يرضى عنّي أحبّ إليّ من أن يكون لي مثل اءُحُد! ...). «1»

وكان (ع) سيّد أهل الحجاز وسيّد العرب في دهره، وسيّد المسلمين ...

قال ابن عبّاس في إحدى محاوراته مع الامام (ع): (إنّ أهل العراق قوم غدرٌ فلاتقربنّهم، أقم بهذا

البلد فإ نّك سيّد أهل الحجاز ..). «2»

وممّا قال له عبداللّه بن مطيع العدويّ وهو يحذّره ألّايغرّه أهل الكوفة: (فالزم الحرم فإ نك سيّد العرب في دهرك هذا ..). «3»

وكان هذا العدويّ يعلم أنّ أباعبداللّه الحسين (ع) من مساكن بركة اللّه ووسائط فيضه، فقال للا مام (ع): (إنّ بئري هذه قد رشحتها، وهذا اليوم أوان ما خرج إلينا في الدلو شي من ماء، فلو دعوت اللّه لنا فيها بالبركة!!

فقال له الامام (ع): (هات من مائها).

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 197

فاءتى من مائها في الدلو، فشرب منه ثمّ تمضمض ثمّ ردّه في البئر فاءعذب وأمهى. «1»

وأقام (ع) بمكّة المكرّمة (فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ويقدمون عليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد، وأمّا ابن الزبير فإ نّه لزم مصلّاه عند الكعبة، وجعل يتردّد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولايمكنه أن يتحرّك بشي ممّا في نفسه مع وجود الحسين، لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه عليه ...

بل الناس إنّما ميلهم إلى الحسين لا نّه السيّد الكبير، وابن بنت رسول اللّه (ص)، فليس على وجه الارض د يومئذٍ أحد يساميه ولايساويه ...). «2»

وفي فقرات رسائل أهل الكوفة إليه ما يكشف عن مكانته (ع) في قلوبهم، كمثل قولهم:

(إنّه ليس علينا إمام، فاءقبل لعلّاللّه أن يجمعنا بك على الهدى). «3»

وقولهم (أمّا بعد: فحيَّ هلّا، فإ نّ الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل، والسلام عليك). «4»

وقام يزيد بن مسعود النهشلي (ره) وهومن أشراف البصرة خطيبا في جموع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد في البصرة، يدعوهم إلى نصرة الحسين (ع)، فكان ممّا قاله لهم في التعريف بمكانة الامام (ع):

(.. وهذا

الحسين بن علي، إبن بنت رسول اللّه (ص) ذوالشرف الاصيل،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 198

والرأي الاثيل، له فضل لايوصف، وعلم لاينزف، وهو أولى بهذا الامر لسابقته وسنّه وقدمته وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فاءكرم به راعي رعيّة، وإمام قوم وجبت للّه به الحجّة، وبلغت به الموعظة ..). «1»

ولم تخل قلوب بعض بني أميّة من استشعار حرمة ومكانة أبي عبداللّه الحسين (ع)، ويبدو أنّ قلب الوليد بن عتبة والي المدينة عند موت معاوية كان من تلك القلوب، فقد قال لمروان بن الحكم الذي أشار عليه بحبس الحسين (ع) حتّى يبايع أو تضرب عنقه:

(ويحك إنّك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي، واللّه ما اءُحبّ اءنّ ملك الدنيا باءسرها لي وأننّي قتلت حسينا، واللّه ما أظنّ أحدا يلقى اللّه بدم الحسين (ع) إلّا وهو خفيف الميزان، لاينظر اللّه إليه ولايزكّيه وله عذاب أليم). «2»

وهذا يحيى بن الحكم أخو مروان يعترض مستنكرا قتل الامام الحسين (ع) في بلاط يزيد قائلا:

لهامٌ بجنب الطفّ أدنى قرابة من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

سميّة امسى نسلها عددالحصى وليس لال المصطفى اليوم من نسل) «3»

ولمّا استشعر المجرمون سخط الامّة لقتل الامام (ع) حتّى في بيوتهم، حاولوا التهرّب من مسؤ وليّة قتله، وصار بعضهم يُلقي بالمسؤ وليّة على بعض! فهذا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 199

الطبري يروي أنّه لمّا وضع رأس الامام (ع) بين يدي يزيد، وسمعت بذلك زوجة يزيد هند بنت عبداللّه بن عامر، تقنّعت بثوبها فخرجت ..

(وقالت: يا اميرالموءمنين، أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه!؟

قال: نعم، فاعولي عليه، وحُدِّي على ابن بنت رسول اللّه (ص) وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله اللّه!!!). «1»

وأراد عبيداللّه بن زياد بعد قتل الامام (ع) أن ياءخذ من عمر

بن سعد الكتاب الذي أمره فيه بقتل الامام (ع) ..

فقال: (يا عمر! أين الكتاب الذي كتبت به إليك في قتل الحسين!؟

قال: مضيتُ لا مرك، وضاع الكتاب.

قال: لتجيئنَّ به!

قال: ضاع.

قال: واللّه لتجيئنَّ به!

قال: تُرِك واللّه يُقرأ على عجائز قريش إعتذارا إليهنّ بالمدينة! أما واللّه لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقّاص كنت قد أدّيتُ حقّه.

قال عثمان ابن زياد أخو عبيداللّه: صدق، واللّه لوددت أنّه ليس من بني زياد رجلٌ إلّا وفي أنفه خِزامةٌ إلى يوم القيامة وأنّ حسينا لم يقتل ...). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 200

الاخبار بمقتله (ع): ..... ص : 200

و من أبعاد مكانته في الامّة، بُعد معرفتها باءنّه سيّد الشهدأ الذي يقتل مظلوما مع كوكبةٍ من أهل بيته وأصحابه عند شاطئ الفرات في أرض كربلاء من العراق، وأنّ شفاعة النبىٍّ (ص) لاتنال قتلة الحسين (ع)، وكانت الامّة تعرف أيضا أيَّ طاغية ياءمر بقتل الامام (ع)، ومن يتولّى قيادة الجيوش التي تخرج لقتاله، وتعرف أيضا كثيرا من تفاصيل تلك الفاجعة المرتقبة!!

وقد عرفت الامّة كلّ ذلك لما شاع فيها من الاخبارات الكثيرة عن رسول اللّه (ص) وعن علي (ع) وعن الحسين نفسه (ع) حول مصرعه ومصرع أنصاره وزمان ومكان ذلك.

فلقد نعى رسول اللّه (ص) سبطه الحسين (ع) منذ يوم ولادته، وأقام عليه العزأ فبكى وأبكى من حوله في مناسبات متعدّدة، وكذلك كان اميرالموءمنين عليّ (ع) يَبكي ويُبكي من معه كلّما تذكّر ما يجري على مولانا الحسين (ع).

فكان الامام الحسين (ع) الشهيد الحىَّ فى الامّة، تتطلّع إليه أعين المؤ منين، وقلوبهم المنشدَّة إليه يعتصرها الاسى حسرة عليه وحزنا لمصابه وعظمة رزيّته، ويَغمر أرواحهم خشوع الاجلال والاكبار لمقام سيّد الشهدأ (ع) ومقام أنصاره الذين لايسبقهم سابق ولايلحق بهم لاحق.

وقد

وردت هذه الاخبارات في كتب الخاصّة والعامّة، ننتقي هنا نماذج منها:

(.. قالت أسماء: فلمّا ولدت فاطمة الحسين (ع) نفّستها به، فجاءني النبىٍّ فقال: هلمّ ابني يا أسماء. فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسن، قالت: وبكى رسول اللّه، ثمّ قال: إنّه سيكون لك حديث. أللّهمّ العن قاتله. لاتُعلمي فاطمة بذلك.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 201

قالت أسماء: فلمّا كان في يوم سابعه جاءني النبىّ فقال: هلمّي ابني. فاءتيته به، ففعل به كما فعل بالحسن وعقّ عنه كما عقّ عن الحسن ... ثمّ وضعه في حجره ثمّ قال: يا أباعبداللّه، عزيزٌ عليَّ، ثمّ بكى.

فقلت: باءبى أنت وأمّي، فعلت في هذا اليوم وفي اليوم الاوّل فما هو؟ قال:

أبكي على ابني هذا تقتله فئة باغية كافرة من بني أميّة لعنهم اللّه، لاأنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر باللّه العظيم ...). «1»

ولمّا بلغ عمر الحسين (ع) عامين (خرج النبي إلى سفر فوقف في بعض الطريق، واسترجع ودمعت عيناه، فسُئِل عن ذلك فقال: هذا جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يقال لها كربلاء يُقتل فيها ولدي الحسين، وكاءنّي أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكاءنّي أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا، وقد اءُهدي راءس ولدي الحسين إلى يزيد لعنه اللّه، فواللّه ما ينظر اءحد إلى رأس الحسين ويفرح إلّا خالف اللّه بين قلبه ولسانه وعذّبه اللّه عذابا أليما.

ثمّ رجع من سفره مغموما مهموما كئيبا حزينا، فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين، وخطب ووعظ الناس، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس د الحسن، ويده اليسرى على رأس الحسين، وقال: أللّهمّ إنّ محمّدا عبدك ورسولك، وهذان أطائب عترتي وخيار أرومتي وأفضل ذريّتي ومن اءُخلّفهما في

اءمّتي، وقد اءخبرني جبرئيل اءنّ ولدي هذا مقتول بالسمّ، والاخر شهيد مضرّج بالدم، أللّهمّ فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشهدأ، أللّهمّ ولاتبارك في قاتله وخاذله، وأصلِه حَرَّ نارك واحشره في أسفل درك الجحيم.

قال: فضجّ الناس بالبكاء والعويل، فقال لهم النبيّ: أيّها الناس، أتبكونه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 202

ولاتنصرونه، أللّهمّ فكن أنت له وليّا وناصرا ...). «1»

(ولمّا اشتدّ برسول اللّه (ص) مرضه الذي مات فيه، وقد ضمّ الحسين (ع) إلى صدره، يسيل من عرقه عليه، وهو يجود بنفسه، ويقول: مالي وليزيد، لا بارك اللّه فيه، أللّهمّ العن يزيد. ثمّ غشي عليه طويلا وأفاق وجعل يقبّل الحسين وعيناه تذرفان، ويقول: أما إنّ لي ولقاتلك مقاما بين يدي اللّه عزّ وجلّ). «2»

وعن اءُمّ سلمة قالت: قال رسول اللّه (ص): (يُقتل الحسين راءس ستّين من مهاجري). «3»

وعن عائشة أنّ رسول اللّه (ص) قال لها: (يا عائشة إنّ جبرئيل أخبرني أنّ ابني حسينا مقتول في أرض الطف، وأنّ أمّتي ستفتن بعدي ثمّ خرج إلى أصحابه فيهم عليُّ، وأبوبكر، وعمر، وحذيفة، وعمّار، وأبوذرّ، وهويبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول اللّه!؟ فقال: أخبرَني جبرئيل (ع) أنّ ابني الحسين يُقتل بعدي باءرض الطفّ، وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أنّ فيها مضجعه). «4»

وعن ابن عبّاس قال: (كنتُ مع اميرالموءمنين (ع) في خرْجته إلى صفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو بشطّ الفرات قال باءعلا صوته: يا ابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟ قلت له: ماأعرفه يا اميرالموءمنين. فقال (ع): لوعرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي. قال: فبكى طويلا حتّى اخضلّت لحيته،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 203

وسالت الدموع على صدره، وبكينا معا وهو يقول: أوّه أوّه، مالي ولا ل أبي سفيان؟ مالي ولا ل حرب، حزب الشيطان وأولياء الكفر!؟

صبرا يا أباعبداللّه، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم). «1»

و (روي عن أبي جعفر عن أبيه (ع) قال: مرّ عليّ (ع) بكربلاء فقال لمّا مرّ به أصحابه وقد أغرورقت عيناه يبكي ويقول: هذا مناخ ركابهم، وهذا مُلقى رحالهم، هاهنا مراق دمائهم، طوبى لك من تربة عليها تراق دماء الاحبّة.

وقال الباقر (ع): خرج عليُّ يسير بالناس حتّى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل تقدّم بين أيديهم حتّى طاف بمكان يقال لها المقذفان، فقال: قُتل فيها مائتا نبيّ ومائتا سبط كلّهم شهدأ، ومناخ ركاب ومصارع عشّاق شهدأ لايسبقهم من كان قبلهم ولايلحقهم من بعدهم). «2»

وعن حذيفة قال: (سمعت الحسين بن عليٍّ يقول: واللّه ليجتمعنّ على قتلي طغاة بني أميّة، ويقدمهم عمر بن سعد. وذلك في حياة النبىٍّ (ص)!

فقلت: أنباءك بهذا رسول اللّه؟

قال: لا.

فاءتيتُ النبىٍّ فاءخبرته فقال: علمي علمه، وعلمه علمي، وإنّا لنعلم بالكائن قبل كينونته). «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 204

ويقول ابن عبّاس: (ماكنّا نشكُّ، وأهل البيت متوافرون، أنّ الحسين بن علىّ يقتل بالطفّ). «1»

وروى عبداللّه بن شريك العامري قال: (كنت أسمع أصحاب عليّ (ع) إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين بن علي (ع).

وذلك قبل أن يقتل بزمان). «2»

وروي أنّ عمر بن سعد قال للحسين (ع): يا أباعبداللّه، إنّ قِبَلَنا ناسا سفهاء يزعمون أنيّ اءَقتلك.

فقال له الحسين (ع): إنّهم ليسوا بسفهاء، ولكنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عيني أن لاتاءكل من برّ العراق بعدي إلّا قليلا!). «3»

وعُنِّف ابن عبّاس على تركه الحسين فقال: (إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلا ولم يزيدوا رجلا، نعرفهم باءسمائهم من قبل شهودهم!!) «4»

وقال محمّد بن الحنفيّة: (وإنّ أصحابه عندنا لمكتوبون باءسمائهم وأسماء آبائهم!!). «5»

إنّ أخبار الملاحم والفتن

الماءثورة عن أهل بيت العصمة (ع) عامّة وعن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 205

رسول اللّه (ص) خاصّة فضلا عن أنّها تؤ كّد على أنّ علم هؤ لاء المصطفين الاخيار (ع) علمٌ لدنّيٌ ربّانيُّ كاشف عن مكانتهم الالهيّة الخاصّة المنصوص عليها من قبل اللّه تعالى، تؤ كّد أيضا على مدى حرصهم الكبير على رعاية هذه الامّة وإنقاذها من هلكات مدلهمّات الفتن التي أحاطت بها منذ بداية التيه في يوم السقيفة.

لقد كان رسول اللّه (ص) يعلم مدى الانحراف الذي سيصيب الامّة من بعده ويلقي بها في متاهات تنعدم فيها القدرة على الرؤ ية السديدة إلّا على قلّة من ذوي البصائر، ويصعب فيها تشخيص الحقّ من الباطل إلّا على من تمسّك بعروة الثقلين، وكان (ص) يعلم خطورة حالة الشلل النفسي والازدواجية في الشخصيّة التي ستتعاظم في الامّة من بعده حتّى لايكاد ينجو منها إلّا أقلّ القليل.

لذا لم ياءلُ (ص) جهدا في تبيان سبل الوقاية والنجاة من تلك الهلكات، ومن جملة تلك السبل سبيل إخبار الامّة بملاحمها وبالفتن التي ستتعرّض لها إلى قيام الساعة، فكشف لها (ص) عن كلّ الملاحم والفتن وأوضح لها مزالق وعثرات الطريق إلى أن تنقضي الدنيا، يقول حذيفة بن اليمان (ره): (.. واللّه ما ترك رسول اللّه (ص) من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا بلغ من معه ثلثمائة فصاعدا إلّاقد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته). «1»

وذلك لكي لاتلتبس على الامّة الامور، ولاتقع في خطاء الرؤ ية أو انقلابها فترى المنكر معروفا والمعروف منكرا، إضافة إلى ما يتضمّنه بيان الملاحم للا مّة من دعوة إلى نصرة صفّ الحق وخذلان صفّ الباطل بعد تشخيص كلٍّ من الصفين.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 206

وعلى هذا النهج، ولهذه الغاية أيضا، كانت أخبار

الملاحم والفتن التي وردت عن أئمّة أهل البيت (ع).

وقد اختُصّ قتل الحسين (ع) بنصيب وتركيز أكبر في الاخبارات الواردة عن النبىٍّ (ص) وعن اميرالموءمنين (ع)، وذلك لعظيم حرمة الامام الحسين (ع)، ولنوع مصرعه المفجع ومصارع أنصاره، ولشدّة مصابهما بتلك الوقعة الفظيعة والرزيّة العظيمة، ولا همّية واقعة عاشورأ بلحاظ ما يترتّب عليها من حفظ الاسلام وبقائه، ولا هميّة المثوبة العظيمة والمنزلة الرفيعة المترتّبة على نصرة الحسين (ع)، واللعنة الدائمة والعقوبة الكبيرة التي تلحق من يقاتله ويخذله.

ولعلّ قرب عاشورأ الزمني من عهد النبىٍّ (ص) وعليّ (ع) عامل أيضا من عوامل هذا التركيز، لا نّ النبيّ (ص) ووصيّه (ع) يعلمان أنّ جماعة غير قليلة من الصحابة والتابعين سوف يدركون يوم عاشورأ، فالتركيز على الاخبار بمقتله (ع) ومخاطبة هؤ لاء مخاطبة مباشرة بذلك يؤ ثّران التاءثير البالغ في الدعوة إلى نصرته (ع)، والتحذير من الانتماء إلى صفّ أعدائه، مع ما في ذلك من إتمام الحجّة على هؤ لاء الناس آنئذٍ.

ولذا كان رسول اللّه (ص) يخاطب الباكين معه لبكائه على الحسين (ع) خطابا مباشرا، فيقول لهم: (أيّها الناس، أتبكونه ولاتنصرونه!؟). «1»

ويخاطب عليّ (ع) البراءَ بن عازب قائلا: (يا براء، يُقتل ابني الحسين واءنت حيّ لاتنصره.). فلمّا قتل الحسين (ع) كان البرأ بن عازب يقول: صدق واللّه عليّ بن أبي طالب، قتل الحسين ولم أنصره، ثمّ أظهر على ذلك الحسرة والندم. «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 207

وفي المقابل فقد انتفع بهذا الاخبار جمع من أهل الصدق والاخلاص من الصحابة والتابعين، فقدروى الصحابيّ الجليل أنسُ بن الحارث رضوان اللّه تعالى عليه عن النبيّ (ص) أنّه قال: (إنّ ابني هذا- وأشار إلى الحسين- يُقتل باءرض د يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره.). ولمّا

خرج الامام الحسين (ع) إلى كربلاء خرج معه الصحابي الجليل أنس بن الحارث رضوان اللّه تعالى عليه، واستشهد بين يدي الحسين (ع). «1»

ولعلّ سرّ التحوّل في موقف زهير بن القين رضوان اللّه تعالى عليه ما كان يحفظه من قول سلمان الفارسيّ رضوان اللّه تعالى عليه وإخباره عن بشرى نصرة الامام الحسين (ص)، يقول زهير: (ساءحدّثكم حديثا، إنّا غزونا البحر، ففتح اللّه علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسيّ (ره): أفرحتم بما فتح اللّه عليكم وأصبتم من الغنائم؟

فقلنا: نعم.

فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد (ص) فكونوا أشدَّ فرحا بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم). «2»

و (قال العريان بن الهيثم: كان أبي يتبدّى «3»، فينزل قريبا من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين، فكنّا لانبدو إلّا وجدنا رجلا من بني أسد هناك.

فقال له أبي: أراك ملازما هذا المكان!!؟

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 208

قال: بلغني أنّ حسينا يقتل هاهنا، فاءنا أخرج إلى هذا المكان لعلّي أصادفه فاءقتل معه!!

قال ابن الهيثم: فلمّا قتل الحسين قال أبي: انطلقوا بنا ننظر هل الاسديّ فيمن قتل مع الحسين؟

فاءتينا المعركة، وطوّفنا، فإ ذا الاسديُّ مقتول!!). «1»

زوبعة اليوم الاوّل: ..... ص : 208

لم ينطوِ معاوية إلّا على الخيانة ونقض العهد من اليوم الاوّل للصّلح بل منذ أن فكّر في الصلح، وقد أعلن عن غدره في الايّام الاولى بعد الصلح، ولا أوضح من قوله في خطبته الاولى بعد الصلح:

(ألا وإنّ كلّ شي أعطيته الحسن بن عليّ تحت قدميَّ هاتين لا أفي به!!). «2»

وقوله:

(يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتُكم على الصلاة والزكاة والحجّ، وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون؟ ولكنّي قاتلتُكم لا تاءمّر عليكم وألِيَ رقابكم، وقد آتاني اللّه ذلك وأنتم كارهون!، ألا إنّ كلّ دمٍ أصيب في هذه الفتنة مطلول، وكلّ

شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين!!). «3»

ومع أنّ معاوية لم يفِ باءيّ بندٍ من بنود المعاهدة، لكنّه لم يجد الراحة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 209

والاستقرار في نفسه والاطمئنان على مستقبل خلافة يزيد من بعده وهو يرى أبامحمّدٍ الحسن (ع) حيّا، فمكر لقتله مرارا لكنّه لم ينجح في ذلك إلّا أخيرا على يد جعدة بنت الاشعث بن قيس الكندىٍّ التي سمّت الامام (ع) طمعا في الزواج من يزيد بعد أن أغراها معاوية بذلك وخطّط لها المكيدة.

وانتقل الامام المظلوم أبومحمّد الحسن المجتبى إلى جوار ربّه وجدّه وأبيه وأمّه بعد أن كابد مرارة السم وآلامه أربعين يوما، وكانت شهادته في السابع من صفر سنة خمسين، أوفي آخر صفر سنة تسع وأربعين للهجرة. «1»

فابتدأت في ذلك اليوم إمامة سيّد الشهدأ (ع) ...

وكانت زوبعة اليوم الاوّل من امامته (ع) مشكلة دفن أخيه الحسن (ع)، تلك المشكلة التي أثارتها عائشة بتخطيط وتحفيز من مروان بن الحكم.

وفي قصّة هذه الزوبعة روايات كثيرة متفاوتة رواها الفريقان، ننتقي هنا هذه الرواية منها، وفيها أنّ الحسن (ع) قال لا خيه الحسين (ع):

إذا متُّ فغسّلني، وحنّطني، وكفّنّي، وصلّ عليَّ، واحملني إلى قبر جدّي حتّى تُلحدني إلى جانبه، فإن مُنعتَ من ذلك فبحقّ جدّك رسول اللّه (ص) وأبيك اميرالموءمنين وأمّك فاطمة، وبحقّي عليك إن خاصمك أحدٌ ردّني إلى البقيع، فادفنّي فيه ولاتهرق فيَّ محجمة دم.

فلمّا فرغ من أمره، وصلّى عليه، وسار بنعشه يريد قبر جدّه رسول اللّه (ص) ليلحده معه، بلغ ذلك مروان بن الحكم طريد رسول اللّه (ص)، فوافى مسرعا على بغله، حتّى دخل على عائشة ...

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 210

فقال لها: يا أمّ المؤ منين، إنّ الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن عند قبر جدّه، وواللّه لئن دفنه معه

ليذهبنّ فخر أبيك وصاحبه عمر إلى يوم القيامة.

فقالت له: فما أصنع يامروان؟

قال: إلحقي وامنعيه من الدخول إليه.

قالت: فكيف ألحقه؟

قال: هذا بغلي فاركبيه والحقي القوم قبل الدخول.

فنزل لها عن بغله، وركبته، وأسرعت إلى القوم، وكانت أوّل امرأة ركبت السرج هي، فلحقتهم وقد صاروا إلى حرم قبر جدّهما رسول اللّه (ص)، فرمت بنفسها بين القبر والقوم.

وقالت: واللّه، لايُدفن الحسن هاهنا أو تحلق هذه وأخرجت ناصيتها بيدها.

وكان مروان لمّا ركبت بغله جمع من كان من بني أميّة وحثّهم، فاءقبل هو وأصحابه وهو يقول: يارُبّ هَيْجا هيَ خيرٌ من دِعَة. أيُدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن مع رسول اللّه؟! واللّه، لايكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف.

و كادت الفتنة تقع!!

وعائشة تقول: واللّه لايدخل داري من أكره.

فقال لها الحسين (ع): هذه دار رسول اللّه (ص)، وأنتِ حشيّة من تسع حشيّاتٍ خلّفهنّ رسول اللّه (ص)، وإنّما نصيبك من الدار موضع قدميك.

فاءراد بنوهاشم الكلام وحملوا السلاح!

فقال الحسين (ع): اللّه اللّه، لاتفعلوا فتضيعّوا وصيّة أخي.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 211

وقال لعائشة: واللّه، لولا أنّه أوصى إليّ ألّا اءُهرق فيه محجمة دم لدفنتُه هنا ولو رغم لذلك أنفك.

وعدل به إلى البقيع فدفنه مع الغرباء!

وقال عبداللّه بن عبّاس: يا حميرأ، كم لنا منكِ!؟ فيوم على جمل، ويوم على بغل!

فقالت: إن شاء أن يكون يوم على جمل ويوم على بغل، واللّه ما يدخل الحسن داري ..). «1»

وروي أنّ الامام الحسين (ع) حاجَّ عائشة هكذا:

(قديما هتكتِ أنتِ وأبوك حجاب رسول اللّه (ص)، وأدخلتِ بيته من لايحبّ رسول اللّه (ص) قربه وإنّ اللّه سائلك عن ذلك يا عائشة.

إنّ أخي أمرني أن اءُقرّبه من اءبيه رسول اللّه (ص) ليحدث به عهدا، واعلمي أنّ أخي أعلم الناس باللّه ورسوله، وأعلم بتاءويل كتابه

من أن يهتك على رسول اللّه (ص) ستره، لا نّ اللّه تبارك وتعالى يقول: (يا أيّها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوت النبيّ إلّا أن يؤ ذن لكم)، وقد أدخلتِ أنتِ بيت رسول اللّه (ص) الرجال بغير إذنه.

وقد قال اللّه عزّ وجلّ: (يا أيّها الذين آمنوا لاترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ)، ولعمري لقد ضربتِ أنتِ لا بيك وفاروقه عند أذنِ رسول اللّه (ص) المعاول!

وقال اللّه عزّ وجلّ: (إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول اللّه أولئك

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 212

الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى)، ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول اللّه (ص) بقربهما منه الاذى، وما رعيا من حقّه ما أمرهما اللّه به على لسان رسول اللّه (ص)، إنّ اللّه حرّم على المؤ منين أمواتا ما حرّم منهم أحياء.

وتاللّه يا عائشة لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عند أبيه صلوات اللّه عليهما جائزا فيما بيننا وبين اللّه لعلمت أنّه سيدفن وإن رغم معطسك ...). «1»

وروى ابن عساكر أنّ مروان كان قد راسل معاوية باءخبار الامام الحسن (ع) وما آلت إليه حالته الصحيّة عند ما ثقل عليه السمُّ. «2»

وروي أيضا أنّ معاوية بلغه ما كان قد أراد الامام الحسين (ع) في دفن أخيه الحسن (ع) إلى جوار جدّه (ص)، فقال: (ما أنصفتنا بنوهاشم حين يزعمون أنّهم يدفنون حسنا مع النبيّ (ص) وقد منعوا عثمان أن يُدفن إلّا في أقصى البقيع.

إن يك ظنّي بمروان صادقا لايخلصون إلى ذلك.

وجعل يقول: ويها مروان! أنت لها!) «3»

إذن فهذا الموقف الامويّ الذي قام بتنفيذه مروان في قضيّة دفن الامام الحسن (ع) كان رسالة موجهة إلى الامام الحسين (ع) في وقت مبكّر، هذه الرسالة تتضمّن رسم الحدود المسموح بها له والحدود الممنوعة عليه

من قبل معاوية، فكاءنّ الامويّين أرادوا أن يقولوا له منذ البدء: لك أن تتكلّم كما

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 213

تحبّ، وليس لك أن تقوم باءي فعل لانرضاه، وإلّا فالسيف!

نظرة الامام الحسين) ع) إلى صلح أخيه) ع) مع معاوية ..... ص : 213
القيام عند أهل البيت (ع): ..... ص : 213

إنّ لا ئمة أهل البيت (ع) دورا عامّا يشتركون جميعا في السعي إلى تحقيقه بالرغم من تفاوت الظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي يمرّون بها، كمثل مسؤ وليّتهم في الحفاظ على الرسالة الاسلاميّة وتحصينها من كلّ ما يشوبها من عوالق لا إسلاميّة، ومسؤ وليّتهم في الحفاظ على الامّة ووقايتها من الاخطار التي تهدّدها، وتبيين الاحكام الشرعيّة والحقائق القرآنيّة، وإنقاذ الدولة الاسلاميّة من كلّ تحدٍّ كافر، وتعريف الامّة بفضل أهل البيت (ع) وأحقّيّتهم بالا مر ما سنحت الفرصة واتّسع المجال، وإلى غير ذلك من مصاديق دورهم العام المشترك.

ولكلٍّ منهم أيضا دور خاصّ به، تحدّده طبيعة الظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي يعيشها كلُّ من الاسلام والامام والامّة. وقد تتشابه الادوار الخاصّة لبعضهم نتيجة تشابه تلك الظروف، كما هي الحال في الظروف التي عاشها كلّ من الباقر والصادق (ع) أوالهادي والعسكريّ (ع). وقد تتعارض الادوار الخاصّة لبعضهم نتيجة التغاير بين تلك الظروف، كما هي الحال في مهادنة الامام الحسن (ع) مع معاوية والثورة التي قام بها الامام الحسين (ع) ضدّ يزيد بن معاوية.

ومن الدور العامّ المشترك لا ئمة أهل البيت (ع) أصل القيام بوجه الحاكم الظالم إذا توفرّت (العدّة) اللّازمة للقيام بكلّ أبعادها لا في بُعد العدد فقط، ويمكن استفادة هذه الحقيقة أوهذا الهدف من أهداف دورهم العام المشترك من مجموعة روايات وردت عنهم (ع)، فاءمير المؤ منين عليّ (ع) بعد السقيفة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 214

كان قد حرّض د البدريّين من المهاجرين والانصار على القيام والثورة، فلم يدع أحدا منهم إلّا أتاه في منزله، يذكّرهم

حقّه ويدعوهم إلى نصرته، فما استجاب له منهم إلّا أربعة وأربعون، فاءمرهم أن يصبحوا بكّرة محلّقين رؤ وسهم معهم السلاح ليبايعوا على الموت، فما وافاه في الصباح منهم إلّا أربعة، ثمّ أتاهم أيضا في الليلة التالية فناشدهم فقالوا: نصبحك بكرة، فما أتاه غير أولئك الاربعة، وكانت النتيجة نفسها أيضا في غداة اليوم التالي، فلمّا رأى غدرهم وقلّة وفائهم له لزم بيته. «1»

ولم يقل اميرالموءمنين (ع) قوله المشهور: (.. وواللّه، لا سلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلّا عليَّ خاصّة ..) «2» إلّا بعد أن ظهرت نتيجة مؤ امرة الشورى واءُعطِيت الخلافة لعثمان، وزويت عنه للمّرة الثالثة، وهو يرى الامّة في غمرتها تغطُّ في غفلة عميقة عن حقّه المغتصب، فما صبر على ما صبر إلّا لعدم توفّر عدّة القيام حتّى فيما بعد الشورى. «3»

ويستفاد هذا الاصل أيضا من قصّة سدير الصيرفي مع الامام الصادق (ع)، التي قال له الامام (ع) في آخرها:

(واللّه يا سدير، لوكان لي شيعة بعدد هذه الجدأ ما وسعني القعود!) «4»

وكان عدد هذه الجدأ سبعة عشر!.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 215

كما يستفاد من رواية ماءمون الرقّي في قصّة الصادق (ع) مع سهل بن حسن الخراساني الذي اعتذر للا مام (ع) عن امتثال أمره في دخول التنّور المسجور، ودخله هارون المكّي (ره)، فقال (ع) للخراساني: (كم تجد بخراسان مثل هذا؟) فقال: واللّه ولا واحدا، فقال (ع):

(لا واللّه ولا واحدا، أما إنّا لانخرج في زمانٍ لانجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت). «1»

وكان هذا الاصل أيضا عند الامام الحسن (ع)، إذ كان أوّل ما فعله بعد اميرالموءمنين (ع) هو مواصلة التعبئة العامّة لقتال معاوية في حرب مصيريّة، ولولا الخيانات الكبرى والخذلان الخطير والوهن

المتفشّي في عسكره وما أشبه ذلك من أسباب أجبرته على ترك الحرب لما آل الامر إلى صلح مع معاوية، وكان الامام الحسن (ع) قد ابتلى الناس في عزمهم على الجهاد قبل المهادنة فما وجد فيهم إلّاالخَور والضعف وحبّ السلامة والدنيا، حين صعد المنبر فخطبهم قائلا:

(.. ألا وإنّ معاوية دعانا إلى أمرٍ ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه (وحاكمناه إلى اللّه عزّ وجلّ بضُبا السيوف)، وإن أردتم الحياة قبلناه، وأخذنا لكم الرضا.)

فناداه القوم (من كلّ جانب): البقية! البقية!، (فلمّا أفردوه أمضى الصلح). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 216

ولمّا أن شكى إليه الصحابيّ البطل الشهيد حجر بن عديّ (ره) مرارة الحال بقوله: (خرجنا من العدل ودخلنا في الجور، وتركنا الحقّ الذي كنّا عليه ودخلنا في الباطل الذي كنّا نذمّه، وأعطينا الدنيّة ورضينا بالخسيسة، وطلب القوم أمرا وطلبنا أمرا، فرجعوا بما أحبّوا مسرورين، ورجعنا بما كرهنا راغمين) أجابه الامام الحسن (ع):

(يا حجر، ليس كلّ الناس يحبّ ما أحببت، إنّي قد بلوت الناس، فلو كانوا مثلك في نيّتك وبصيرتك لا قدمت). «1»

الخيارات المتاحة للا مام الحسن (ع): ..... ص : 216
اشارة

لقد وقف الامام الحسن (ع) من هذه المحنة المحيّرة الموقف المعصوم الذي لايعتوره خطاء في فكرٍ أو قولٍ أو عملٍ، هذا ما يفرضه اعتقادنا الحقّ بإ مامة مولانا أبي محمّد الحسن المجتبى (ع)، لكنّنا في معرض تحليل ورصد الخيارات التي كانت متاحة له (ع) يمكن أن نحدّدها تاءريخيّا كما يلي:

1 (بقاء الحالة القائمة ..... ص : 216

: وهي حالة اللّاسلام واللّاحرب، وكان الامام (ع) يعلم أنّ بقاء هذه الحالة أمر غير ممكن آنذاك، وذلك لتزايد الوهن في أهل الكوفة وخذلانهم له، وكثرة الخيانات ممّن حوله، ولا نّ معاوية ياءبى حالة المتاركة هذه بسبب إصراره على مدّ سلطانه على كلّ البلاد طوعا أوكرها. فإ ذن لابدّ من حالة حرب أو حالة سلم.

2 (حالة الحرب واحتمالاتها ..... ص : 216

: لم يكن للا مام (ع) أىّ أمل في نصر مؤ زّر حاسم على ضوء الحالة النفسيّة والروحيّة لجيشه المكوّن من أخلاط وأهوأ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 217

مختلفة وهممٍ هامدة، كما أنّ الامل ضعيف جدّا في أن تنتهي الحرب مع معاوية كما انتهت صفّين إلى حالة اللاحسم وذلك لا نّ ميزان القوى قد تغيّر تغيّرا ملحوظا لصالح معاوية.

إذن لم يبق إلّا احتمال هو أقرب إلى اليقين منه إلى الظنّ، وهو احتمال الهزيمة المنكرة للا مام (ع) والنصر الحاسم لمعاوية.

وعندها فإ مّا أن يُقتل الامام (ع) وأهل بيته وأصحابه فينتهي الصفّ الاسلامي تماما، ويخسر الاسلام قادته ومن معهم دون أيّة استفادة، ذلك لا نّ معاوية لِمابلغ به من تضليل الناس ولِما يملكه من دهاء وحنكة وقدرة على قلب الحقائق، كان يستطيع أن يُلقي على مقتلهم ألف حجاب وحجاب.

وإمّا أن يؤ سر الامام (ع) فيُقتل ومن معه صبرا أو يمنّ عليهم معاوية ويطلقهم في ذلٍّ مقابلة ليوم فتح مكّة، فتكون سُبّة على بني هاشم، ومنّة لبني أميّة عليهم، باقية إلى آخر الدهر. وقد صرّح الامام (ع) بذلك حيث قال:

(فواللّه، لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمنّ عليّ فتكون سُبّة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لايزال يمنّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميّت). «1»

3) الصلح ..... ص : 217

: وهذا ما اقتضت حكمة المعصوم (ع) القبول به، وإن كان قذىً في العين وشجىً في الحلق وأمرَّ من العلقم، لا نّه الخيار الوحيد الذي يحفظ للا سلام بقاءه وبقاء رجاله، ويعرّي حقيقة نفاق معاوية وجاهليّته وكفره، ذلك لا نّه إذا استتبّ له الامر بلامنازع تخلّى عن تحفّظاته وكشف تماما عن عدائه للا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 218

سلام. هذا وتجدر الاشارة

هنا إلى أنّ الامام الحسن (ع) لم ينظر إلى الصلح على أنّه نهاية القضيّة مع معاوية، بل كان ينظر إليه كمتاركة مؤ قّتة حتّى ياءتي الوقت المناسب للقيام ضدّ معاوية في حربٍ أخرى، فها هو يجيب حجربن عدي الكندي بقوله:

(إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقيا على شيعتنا خاصّة من القتل، فرأيت دفع هذه الحروب إلى يومٍ ما، فإ نّ اللّه كلّ يومٍ هو في شاءنٍ). «1»

صدق أبومحمّد (ع) ..... ص : 218

كان الامام الحسين (ع) قد وقف من كلّ قرارات ومواقف الامام أبي محمّد الحسن (ع) موقف الشريك المعاضد والنصير المؤ ازر، هذا ما تؤ كّده المتابعة التاءريخيّة للعلاقة بينهما طيلة فترة إمامة الحسن (ع)، فضلا عن أنّ الاعتقاد الحقّ بإ مامتهما وعصمتهما يفرض القطع باءنّ كلّا منهما يصدّق الاخر في القول والفعل والتقرير. وفيما يتعلّق باءمر الصلح مع معاوية كان الامام الحسين (ع) قد أكّد دعمه التامّ للقرار الحسني، وعبّر عن اشتراكه مع أخيه في موقفه، وعن امتثاله لا مره كإ مام مفترض الطاعة في أكثر من مناسبة. فقد قال له عديّ بن حاتم (ره): (يا أباعبداللّه، شريتم الذلّ بالعزّ، وقبلتم القليل وتركتم الكثير، اءَطِعنا اليوم واعصِنا الدهر، دعِ الحسن وما راءى من هذا الصلح، واجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة وغيرها، وولّني وصاحبي (يعني عبيدة بن عمر) هذه المقدّمة، فلايشعر ابن هند إلّا ونحن نقارعه بالسيوف).

فاءجابه الحسين (ع): (إنّا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل لنقض بيعتنا). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 219

ولمّا طلب منه حجر بن عديّ (ره) مثل ذلك أجابه الامام الحسين (ع) أيضا:

(إنّا قد بايعنا، وليس إلى ما ذكرت سبيل). «1»

كما أظهر تصديقه لا خيه في

الالتزام بالمعاهدة ولوازمها عمليّا في جوابه لعليّ بن محمّد بن بشير الهمداني حين ذكر له امتناع الامام الحسن (ع) من إجابة من دعاه إلى الثورة بعد الصلح قائلا: (صدق أبومحمّد، فليكن كلّ رجل منكم حلسا من أحلاس د بيته مادام هذا الانسان حيّا). «2»

وعبّر (ع) عن امتثاله التامّ لا مر الامام الحسن (ع) في هذا الموقف لمّا دعاهما معاوية ومن معهما من أصحاب عليّ (ع) للبيعة في الشام، وكان معهم قيس بن سعد بن عبادة الانصاري، فلمّا أتوه دعا معاوية الحسن (ع) للبيعة فبايعه، ثمّ دعا الحسين (ع) أيضا فبايعه، فلمّا طلب من قيس بن سعد البيعة التفت قيس د إلى الحسين (ع) ينظر ما ياءمره، فقال الحسين (ع): (يا قيس إنّه إمامي). يعني الحسن (ع). «3»

ولاينافي هذه الحقيقة ما ورد في مجموعة أخرى من النصوص أنّه (ع) كان كارها لتلك البيعة، كمثل قوله لبعض الشيعة:

(قد كان صلح، وكانت بيعة كنت لها كارها، فانتظروا مادام هذا الرجل حيّا، فإن يهلك نظرنا ونظرتم). «4»

ذلك لا نّ هذا الصلح كان أبغض الاختيارات أمام الامام الحسن (ع)، وقد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 220

اضطرّ إليه اضطرارا حرصا على مصالح إسلاميّة كبرى، ولاشك أنّ رعاية هذه المصالح قد تفرض على الامام في ظروف صعبة غير مساعدة أن يقدم على أمرٍ هو عند الامام أمرّ من العلقم، وأشدّ من السمّ، وأفجع من الموت.

ولا تفاوت في كراهيّة هذا الصلح عند الحسن والحسين (ع)، كما أنّ التعبير عن الكراهيّة لا مرٍ لايعني التعبير عن عدم الرضا بفعله. ذلك لا نّ الرضا بهذا الصلح بلحاظ ما يترتّب عليه من نتائج مرجّوةٍ أمرٌ آخر.

ولا تفاوت في الرضا به أيضا عند الحسن أوالحسين أو أيّ إمام آخر من

أئمّة أهل البيت (ع)، ولقد عبّر الامام الباقر (ع) عن نظرة الرضا بهذا الصلح قائلا:

(واللّه، للّذي صنعه الحسن بن عليّ (ع) كان خيرا لهذه الامّة ممّا طلعت عليه الشمس ...). «1»

ومع اعتقادنا باءنّ الموقف الذي يتّخذه الامام المعصوم هو الافضل في ظرفه، أي أنّ كلًّا من صلح الحسن (ع) وقيام الحسين (ع) كان هوالافضل في ظرفه، صحّ لنا إذن أن نقطع باءنّ إمامة الحسين (ع) لوكانت قبل إمامة الحسن (ع) لصالح معاوية كما فعل الحسن (ع) في ظرفه، ولوكانت إمامة الحسن (ع) بعد إمامة الحسين (ع) لثار الحسن (ع) كما فعل الحسين (ع) في ظرفه.

أمّا ما ورد في مجموعة أخرى من الروايات أنّ الامام الحسين (ع) قال لا خيه الامام الحسن (ع) حينما عزم على الصلح: (يا أخي، أعيذك باللّه من هذا) «2» اعتراضا عليه، أو أنّه قال: (نشدتك اللّه أن تصدّق أحدوثة معاوية وتكذّب اءُحدوثة عليّ!). «3» اءو (اءنشدك اللّه اءن تكون اءوّل من عاب

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 221

أباك وطعن عليه ورغب عن أمره!) فاءجابه الامام الحسن (ع): (إنّي لاأرى ما تقول، واللّه لئن لم تتابعني لا سندتك في الحديد، فلاتزال فيه حتّى أفرغ من أمري!) «1» أو أنّه (ع) قال: (أعيذك باللّه أن تكذّب عليّا في قبره وتصدّق معاوية!)، فيجيبه الامام الحسن (ع): (واللّه ما أردت أمرا قطّ إلّا خالفتني إلى غيره، واللّه لقد هممت أن أقذفك في بيت فاءُطيّنه عليك حتّى أقضي أمري!). «2» فإ نّ هذه الروايات كلّها عاميّة، مردودة لايمكن القبول بها، لا نّها تعارض الاعتقاد الحقّ بمعنى الامامة وحقائقها والادب الرفيع الذي يتعامل به حجج اللّه تعالى فيما بينهم، وهي من افتعال الخيال السنّي المتاءثّر بالتضليل الامويّ الذي عمد إلى

تشويه صورة الامام الحسن (ع) بشكل خاصّ ليظهره بمظهر الموادع الذي يحبّ السلامة والراحة والنساء والمال، وأنّه لا عزم له على حرب ولا شدّة، كلّ ذ لك ليجرّده في أذهان الناس عن أهليّته للخلافة. ومن المؤ سّف حقّا أنّك قد لاتجد في تواريخ العامّة كتابا لم يتاءثّر بهذا التضليل الظالم!!

مواصلة الامام (ع) الالتزام بالهدنة ..... ص : 221

آثر الامام (ع) مواصلة الالتزام بالهدنة، وحرص (ع) في حياة الامام الحسن (ع) على تهدئة ثائرة الشيعة، وأمرهم بالصبر والترقّب، وأوصاهم بالتخفّي عن أعين السلطة، وبالا نتظار، وواصل السير على هذا الخطّ أيضا بعد شهادة الامام الحسن (ع)، فقدروى البلاذري: أنّه لما توفّي الحسن بن عليٍّ اجتمعت الشيعة، ومعهم بنوجعدة بن هبيرةبن أبي وهب المخزومي وأمّ جعدة أمّ هاني بنت أبي طالب، في دار سليمان بن صرد، وكتبوا إلى الحسين كتابا بالتعزية، وقالوا في كتابهم: إنّ اللّه قد جعل فيك أعظم الخلف ممّن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 222

مضى، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، المنتظرة لا مرك.

وكتب إليه بنوجعدة يخبرونه بحسن رأي أهل الكوفة فيه وحبّهم لقدومه وتطلّعهم إليه، وأن قد لقوا من أنصاره وإخوانه من يُرضى هديه ويُطماءنّ إلى قوله، ويعرف نجدته وباءسه، فاءَنضَوا إليهم ما هم عليه من شن آن ابن أبي سفيان والبرأة منه، ويساءلونه الكتاب إليهم برأيه.

فكتب الحسين (ع) إليهم:

(إنّي لا رجو أن يكون رأي أخي رحمه اللّه في الموادعة ورأيي في جهاد الظلمة رشدا وسدادا، فالصقوا بالا رض، وأخفوا الشخص، وأكتموا الهوى، واحترسوا من الاضاء مادام ابن هند حيّا، فإن يحدث به حدثٌ وأنا حيّ ياءتكم رأيي إن شاءاللّه). «1»

وكذلك نقل الشيخ المفيد (ره) عن الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة أنّهم قالوا: (لمّا مات الحسن (ع) تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا

إلى الحسين (ع) في خلع معاوية، والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهدا وعقدا لايجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة، فإ ذا مات معاوية نظر في ذلك). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 223

موقف معاوية من الامام الحسين) ع) ..... ص : 223
دعوى) الدم المضنون في بني عبد مناف (وحقيقتها ..... ص : 223

روى ابن عساكر أنّ الوليد بن عتبة أغلظ للا مام الحسين (ع) في القول، فشتمه الامام (ع) وأخذ بعمامته فنزعها من رأسه ...

فقال الوليد: إن هجنا باءبى عبداللّه إلّا أسدا!

فقال له مروان أو بعض جلسائه: أقتله.

قال الوليد: إنّ ذلك لدم مضنون في بني عبد مناف!!. «1»

لاشك أنّ الوليد بن عتبة وهو والي المدينة يومئذٍ لم ينطق عن رأيه الشّخصيّ، بل نطق عن الرأي الرسمي للحكم الامويّ الذي كان معاوية بن أبي سفيان على رأسه آنئذٍ. والدم المضنون في بني عبد مناف معناه الدم الذي يعزّ على القتل ولايجوز سفكه، فهل كان دم الامام الحسين (ع) كذلك فعلا في عهد معاوية؟ وما هي حدود الحقيقة في هذه الدّعوى!؟

لقد كتب معاوية إلى واليه سعيد بن العاص على المدينة قبل الوليد بن عتبة بصدد الموقف من الامام الحسين (ع) قائلا:

(... وأنظر حسينا خاصّة فلايناله منك مكروه، فإ نّ له قرابة وحقّا عظيما لاينكره مسلم ولا مسلمة، وهو ليث عرين، ولست آمنك إن شاورته أن لاتقوى عليه ...). «2»

إذن فمشكلة معاوية في موقفه من الامام الحسين (ع) هي في قرابة الامام

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 224

الحسين (ع) الخاصّة من رسول اللّه (ص)، إنّه ابن فاطمة الزهرأ (س)، وهذه الصلة الخاصّة قد فرضت له (ع) حقّا عظيما على كلّ مسلم ومسلمة، وقد عرفت الامّة كلّها هذا الحقّ العظيم فهي لاتنكره.

من هنا فإ نّ أيّة مواجهة علنيّة بين النظام الامويّ وبين الامام (ع) لاتكون في مصلحة هذا النظام الحريص

على التظاهر بالزيّ الديني.

لكنّ هذا الموقف الامويّ في عدم مسّ الامام (ع) بمكروه هو محدّد غير مطلق، ويلتزم به الحكم الامويّ في حال عدم قيام الامام (ع) ضدّ هذا الحكم، وقد صرّح الوليد بن عتبة للا مام الحسين (ع) بحدود الموقف الامويّ الرسمي منه حينما عنّفه الامام (ع) على منعه أهل العراق من اللقاء به، فقال الوليد يخاطب الامام (ع):

(ليت حلمنا عنك لايدعو جهل غيرنا إليك، فجناية لسانك مغفورة لك ما سكنت يدك، فلاتخطر بها فتخطر بك ...). «1»

أي لك أن تقول ما شئت وكما تحبّ مادمت لم تقم ضدّنا ولم تخرج علينا، وأمّا إذا تحرّكت عمليّا ضدّنا وخرجت علينا فلا غفران ولا أمان، ولايكون بيننا وبينك عندها إلّا السّيف والقتل. هذا هوالخطّ الاحمر المرسوم للدّم المضنون في بني عبدمناف! وعليه ألّايتجاوزه حتّى لايطاله القتل فيسفك كاءيّ دم آخر غير مضنون!

هذا هو الموقف الامويّ الرسمي بحدوده وأبعاده سافرا في تصريح الوليد بن عتبة، ولقد بلّغ الامويّون الامام الحسين (ع) بهذا الموقف وأشعروه بهذه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 225

الحدود أيضا قبل ذلك في زوبعة اليوم الاوّل من إمامته (ع) في المواجهة التي أثاروها لمنع دفن الامام الحسن (ع) قرب جدّه (ص).

إذن فدم الامام الحسين (ع) دم مضنون في بني عبدمناف عند الحكم الامويّ ما لم يخرج الامام (ع) على هذا الحكم، وهو دم مظنون لا عن إيمان بحقّه العظيم وقداسته، بل لا نّ سفك هذا الدم المقدّس يمزّق الاطار الديني الذي يتشبّث به الحكم الامويّ.

وظلّ معاوية مدّة بقيّة حياته يهتمّ باءمر الامام الحسين (ع) اهتماما فائقا، ويحسب له حسابا خاصّا، في موازنة دقيقة بين عدم التحرّش به وتحاشي إثارته وبين مراقبته ليل نهار مراقبة دقيقة متواصلة للحيلولة دون

خروج فكرة القيام والثورة عند الامام (ع) من مكنون النيّة إلى حيّز التطبيق والتنفيذ العملي، خشية من مواجهة الخيارات الحرجة التي يسبّبها لمعاوية قيام الامام (ع) في حال تمكّنه من تنفيذ هذا القيام عمليّا.

الرقابة المشدّدة على الامام (ع) ..... ص : 225

ولذا فلانعجب إذا شدّد معاوية الرقابة على الامام (ع)، ورصد عليه الصغيرة والكبيرة من سكناته وحركاته في حياته الخاصّة والعامّة، وفي حِلّه وترحاله.

وكان معاوية يتعمّد تحسيس الامام (ع) وإشعاره بهذه المراقبة، وإعلامه باءنّ الصغيرة والكبيرة من مجريات حياته مرفوعة إليه آنا ف آنا بلا انقطاع بواسطة جواسيسه، لعلّ ذلك ينفع في ردع الامام (ع) عن الفكرة بالخروج والقيام!!

والامثلة على هذه الحقيقة كثيرة، ننتقي منها هذا المثال الدال على أنّ معاوية كان قد رصد على الامام حتّى شؤ ونه الخاصّة في منزله، يقول التاءريخ: (وكان لمعاوية بن أبي سفيان عين بالمدينة يكتب إليه بما يكون من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 226

أمور الناس وقريش، فكتب إليه: أنّ الحسين بن علي أعتق جارية له وتزوّجها، فكتب معاوية إلى الحسين:

من اميرالموءمنين معاوية إلى الحسين بن عليّ:

أمّا بعدُ: فإ نّه بلغني أنّك تزوّجت جاريتك، وتركت أكفاءك من قريش، ممّن تستنجبه للولد، وتمجّد به في الصهر، فلا لنفسك نظرت، ولا لولدك انتقيت.

فكتب إليه الحسين بن علي (ع):

(أمّا بعد: فقد بلغني كتابك، وتعييرك إيّاي باءنّي تزوّجت مولاتي، وتركت أكفائي من قريش، فليس فوق رسول اللّه منتهى في شرف، ولا غاية في نسب، وإنّما كانت ملك يميني خرجت عن يدي باءمرٍ التمست فيه ثواب اللّه تعالى، ثمّ ارتجعتها على سُنّة نبيّه (ص)، وقد رفع اللّه بالا سلام الخسيسة، ووضع عنّا به النقيصة، فلا لوم على امرىٍ مسلم إلّا في أمر ماءثم، وإنّما اللوم لوم الجاهليّة).

فلمّا قرأ معاوية كتابه نبذه إلى يزيد، فقرأه

وقال: لشدّما فخر عليك الحسين! قال: لا، ولكنّها ألسنة بني هاشم الحداد التي تفلق الصخر، وتغرف من البحر! «1»

ولاريب أنّ الامام (ع) وإن اقتصر في ردّه على معاوية بالاحتجاج عليه فيما يتعلّق بموضوع هذه الجارية، إلّا أنّه قد أدرك مراد معاوية الخفيّ من ورأ هذه الرسالة، وهو أنّني على علم بكلّ ما تفعله حتّى شؤ ونك الخاصّة في داخل منزلك! فمابالك بعلاقاتك الاجتماعيّة وشؤ ونك السياسيّة العامّة!؟ فاحذر

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 227

ولاتتجاوز تربّصك بنا إلى القيام بفعلٍ لاتكون عاقبته إلّا وقوع السيف بيننا!

لقد كانت الموازنة دقيقة وحسّاسة جدّا في المتاركة القائمة بين الامام الحسين (ع) وبين معاوية، لكنّ بعض الامويّين ممّن كانت قلوبهم تغلي بنار الحقد على أهل البيت (ع)، وليس لهم دهاء معاوية، كانوا يستعجلون معاوية في تقاريرهم التي يبعثونها بالا خذ على يد الامام (ع) أخذا شديدا أو التخلّص منه قبل أن تستفحل الامور وتستعصي معالجتها على بني أميّة!

وأشدّ هؤ لاء الامويّين حقدا على أهل البيت (ع)، وأكثرهم عجلة وخرقا، كان مروان بن الحكم الذي كانت تقاريره تتوالى على معاوية، وتشعُّ بالا ندفاع والاستعجال، فقد كتب إلى معاوية ذات مرّة (يعلمه أنّ رجالا من أهل العراق قدموا على الحسين بن عليّ (ع)، وهم مقيمون عنده، يختلفون إليه، فاكتب إليَّ بالذي ترى). «1»

وقال البلاذري: (وكان رجال من أهل العراق وأشراف أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين يجلّونه ويعظّمونه، ويذكرون فضله، ويدعونه إلى أنفسهم، ويقولون إنّا لك عضدٌ ويدٌ، ليتّخذوا الوسيلة إليه، وهم لايشكّون في أنّ معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسينٍ أحدا.

فلمّا كثر إختلافهم إليه أتى عمرو بن عثمان بن عفّان مروان بن الحكم وهو إذ ذاك عامل معاوية على المدينة فقال له: قد كثر

اختلاف الناس إلى حسينٍ، واللّه إنّي لا رى أنّ لكم منه يوما عصيبا.

فكتب مروان ذلك إلى معاوية ...). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 228

وكتب إليه أيضا: (إنّي لست آمن أن يكون حسين مرصدا للفتنة، وأظنّ يومكم من حسين طويلا!). «1»

لكنّ معاوية الذي كان يرى أنّ من مصلحته أن يبقى الامام الحسين (ع) ملتزما بالهدنة ولو ظاهرا، لم يكن ليرغب في الخروج عن حال المتاركة مع الامام (ع)، فكان يردّ مروان عن تجاوز هذه المتاركة، وياءمره بالصبر وينهاه عن الخرق والعجلة، فقد كتب إليه:

(اترك حسينا ما تركك ولم يظهر لك عداوته ويُبدِ صفحته، واكمن عنه كمون الثرى إن شاء اللّه، والسلام). «2»

ومع هذا فإ نّ مروان الذي كان أشدّ ولاة المدينة الامويّين على أهل البيت (ع) لم يكن ليطيق وجود الامام الحسين (ع) في المدينة وهويري التفاف الامّة حوله وانشدادها إليه، فاقترح على معاوية إبعاد الامام عن المدينة وفرض الاقامة الجبريّة عليه في الشام، لينقطع بذلك اتصاله باءهل العراق، لكنّ معاوية رفض هذا الاقتراح أيضا، وردّ عليه قائلا:

(أردت واللّه أن تستريح منه وتبتليني به، فإن صبرتُ عليه صبرتُ على ما أكره، وإن أساءتُ إليه قطعتُ رحمه). «3»

وفوق الرقابة المشدّدة على الامام (ع) كان بعض ولاة المدينة الامويّين يتدخلون عمليّا فيمنعون وفود الامّة من لقاء الامام (ع) خوفا من تطوّر الامور عمليّا لصالح الامام (ع)، فقد روى البلاذري عن العتبي أنّ الوليد بن عتبة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 229

حجب أهل العراق عن الامام الحسين (ع).

فقال الحسين (ع): يا ظالما لنفسه، عاصيا لربّه، علامَ تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمّك!؟

فقال الوليد: ليت حلمنا عنك لايدعو جهل غيرنا إليك، فجناية لسانك مغفورة لك ما سكنت يدك، فلاتخطر بها

فتخطر بك، ولوعلمت ما يكون بعدنا لا حببتنا كما أبغضتنا!!). «1»

وإضافة إلى ما قدّمناه قبل ذلك في أن تصريح الوليد هذا كاشف عن حقيقة ما يعنيه الحكم الامويّ في دعوى (الدم المضنون)، نلفت هنا الانتباه إلى أنّ قول الوليد (ولو علمت ما يكون بعدنا لا حببتنا كما أبغضتنا) ربّما كان إشارة إلى أنّ هذه المتاركة الموزونة بيننا وبينك سوف لن تتحقّق في غير عهد معاوية، وأنّ يزيد الذي سيخلف أباه شخصيّة أخرى، لاترى في التعامل معك غير الشدّة والصرامة، وسوف تضيق عليك الارض بما رحبت، وعندها إذا التفتَّ إلى ورأ ستذكر أيّامنا وعفونا وسماحتنا!! فكاءنّه يمنّ على الامام (ع) بهذه المتاركة الموزونة التي هي في نفعهم هم أوّلا وأساسا!!

الخطّ العامّ في رسائل معاوية إلى الامام (ع) ..... ص : 229

لعلّ أوّل ما يلفت انتباه المتاءمّل في رسائل معاوية إلى الامام الحسين (ع) هو المكر الظاهر في الموازنة بين الترغيب والترهيب، ولاتكاد تخلو واحدة من رسائل معاوية إلى الامام (ع) من النهج المتوازن بين الترغيب والترهيب.

وهذه الظاهرة إنعكاس واضح لما يتبنّاه معاوية من مبدأ الحفاظ على حالة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 230

المتاركة مع الامام (ع)، وهذه الرسائل نفسها برهان على تبنّي معاوية هذا المبدأ أيضا.

ولننتق هنا أمثلة من هذه الرسائل ...

(كان مالٌ حُمل من اليمن إلى معاوية، فلمّا مرّ بالمدينة وثب عليه الحسين بن علي (ع) فاءخذه وقسّمه في أهل بيته ومواليه، وكتب إلى معاوية:

(من الحسين بن عليّ إلى معاوية بن أبي سفيان.

أمّا بعد: فإ نّ عيرا مرّت بنا من اليمن تحمل مالا وحلالا وعنبرا وطيبا إليك، لتودعها خزائن دمشق وتعلُّ بها بعد النهل بني أبيك، وإنّي احتجت إليها فاءخذتها، والسلام).

فكتب إليه معاوية:

(من عند عبداللّه معاوية اميرالموءمنين إلى الحسين بن عليّ سلام عليك ...

أمّا بعد: فإ نّ كتابك

ورد عليّ تذكر أنّ عيرا مرّت بك من اليمن تحمل مالا وحلالا وعنبرا وطيبا إليَّ، لا ودعها خزائن دمشق، وأعلّ بها بعد النهل بني أبي، وأنّك احتجت إليها فاءخذتها.

ولم تكن جديرا باءخذها إذ نسبتها إليّ، لا نّ الوالي أحقّ بالمال ثمّ عليه المخرج منه، وأيمُ اللّه لو تركت ذلك حتّى صار إليّ لم أبخسك حظّك منه، ولكنّي قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوة، وبودّي أن يكون ذلك في زماني فاءعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك، ولكنّي واللّه أتخوّف أن تبتلى بمن لاينظرك فُواق ناقة). «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 231

ولايخفى أنّ معاوية في هذه الرسالة مع إظهاره المسامحة والتجاوز كان قد هدّد الامام (ع) بمن ياءتي بعده، يعني يزيد.

كما كتب إليه نتيجة التقارير الكثيرة التي كانت تبعث بها عيونه إليه عن حركة الامّة وحركة الامام (ع):

(أمّا بعد: فقد انتهت إليَّ أمور أرغب بك عنها، فإن كانت حقّا لم أقارّك عليها، ولعمري) إنّ من أعطى اللّه صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء. (وإن كانت باطلا، فاءنت أسعد الناس بذلك، وبحظّ نفسك تبدأ، وبعهد اللّه تفي، فلاتحملني على قطيعتك والاساءة بك، فإ نّي متى أنكرك تنكرني، وإنّك) متى تكدني أكدك. وقد اءُنبئتُ اءنّ قوماً من اءهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، (فإ تّق شقّ عصا هذه الامّة، وأن يرجعوا على يدك إلى الفتنة). وأهل العراق من قد جرّبت، قد أفسدوا على أبيك وأخيك، (وقد جرّبت الناس وبلوتهم، وأبوك كان أفضل منك، وقد كان اجتمع عليه رأي الذين يلوذون بك، ولاأظنّه يصلح لك منهم ما كان فسد عليه). فاتّق اللّه، واذكر الميثاق، (وانظر لنفسك ودينك، ولايستخفّنّك الذين لايوقنون). «1»

فكتب إليه الامام (ع) جوابا على رسالته هذه كان بمثابة

الصاعقة التي نزلت على رأس معاوية الذي ارتبك وتاءثّر بشدّة من حدّتها إلى درجة أن كان يشكو إلى مقرّبيه من قوّة جواب الامام (ع)، وقد أوردت كتب التاءريخ والتراث ه ذا الجواب كاملا، وسنورده في محلّه من هذا الكتاب.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 232

لماذا لم يثر الامام الحسين (ع) على معاوية!؟ ..... ص : 232

كان رأي أهل بيت العصمة (ع) هو رفض أن يكون معاوية حاكما ولو لمدّة سواد ليلة واحدة رفضا تامّا، ولم يساوم اميرالموءمنين عليّ (ع) على هذا المبدأ قيد أنملة، ورفض كلّ نصيحة تدعو إلى المداهنة في ذلك، وخاض حرب صفّين الطاحنة لتحقيق هذا الرفض، ثمّ لم يتزعزع عن هذا الرأي حتّى قتل (ع).

وواصل الامام الحسن (ع) الاصرار على هذا الرأي، ولم ياءل جهدا في الاعداد لتحقيق ذلك، لكنّ نكد الدهر وانقلاب الامور اضطرّه في الختام إلى القبول باءَمَرِّ اختيار، وحسبك من أمرين أحلاهما مُرّ!، فسلّم الامر إلى معاوية مؤ جّلا الحرب ضدّه إلى يوم آخر قد ياءتي به مستقبل الايّام (فرأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإ نّ اللّه كلّ يوم هو في شاءنٍ) «1»، وانطوى على ذلك حتّى مضى شهيدا (ع).

فمسوّغات الثورة على معاوية ودواعيها كانت قائمة وموجودة منذ أوّل يومٍ من أيّام ولايته على الشام، لكنّ دواعي الثورة عليه ودوافعها تكاثرت وتعاظمت بعد شهادة الامام الحسن (ع)، وكان الامام الحسين (ع) يعلم ذلك ويشخّص أبعاده، ويصرّح به لثقاته، بل وقد صرّح به لمعاوية نفسه في الكتب والمحاورات التي كانت بينهما، ومن هذه التصريحات على سبيل المثال:

(وهيهات هيهات يا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السُّرُج، ولقد فضّلتَ حتّى أفرطتَ، واستاءثرتَ حتّى أجحفتَ، ومنعتَ حتّى بخلتَ، وجُرتَ حتّى جاوزتَ، وما بذلت لذي حقّ من أتمّ حقّه بنصيب، حتّى أخذ

الشيطان حظّه الاوفر، ونصيبه الاكمل ...). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 233

وممّا خاطبه به في رسالةٍ أخرى:

(... وقلتَ فيما قلتَ: لاتردَّ هذه الامّة في فتنة، وإنّي لاأعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلتَ فيما قلتَ: انظر لنفسك ولدينك ولا مّة محمّد، وإنّي واللّه ما أعرف أفضل من جهادك، فإن أفعل فإ نّه قربة إلى ربّي وإن لم أفعله فاءستغفراللّه لديني وأساءله التوفيق لما يحبّ ويرضى ...). «1»

وهنا يفرض هذا السؤ ال نفسه على مجرى البحث وهو: لماذا لم يثر ولم يقم الامام الحسين (ع) على معاوية أيّام إمامته مع توافر جميع الدواعي والدوافع للقيام بالثورة!؟

وفي الاجابة عن هذا السؤ ال لابدّ في البدء من تحديد الهدف المنشود من الثورة، فما هو هدف الامام الحسين (ع) من الثورة على معاوية؟

لاشك أنّ هدفه (ع) هوذات الهدف الذي أعلن عنه في قيامه ضدّ يزيد بن معاوية، وهو طلب الاصلاح في أمّة جدّه (ص) بالا مر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يتضمّن ذلك من إزالة الحكومة الفاسدة وإقامة الحكومة الحقّة، من خلال قيام الامّة مع الامام (ع) لتحقيق نصر حاسم يتوفّر في ظلِّه هذا الهدف.

اوتعريض الامّة لصدمة مروّعة في الوجدان وصعقة كبرى في الضمير من خلال ملحمة بطوليّة وفاجعة ماءساوية تنتهي بمقتله (ع) ومقتل أنصاره من أهل بيته وصحبه الابرار الذين هم صفوة أخيار هذه الامّة، في إطار عمل

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 234

إعلامي وتبليغي كبير ناجح يتكشّف نتيجة له كلّ الزيف الذي تستّر به معاوية، وتتراجع كلّ خطط وآثار حركة النفاق الحاكمة منذ يوم السقيفة إلى نقطة الصفر، ويعود الاسلام المحمّدي الخالص خالصا من كلّ شائبة، وتتحرّر الامّة روحيّا ونفسيّا من كلّ آثار التضليل والافساد الذي تعرّضت له بعد غياب النبيّ

الاكرم محمّد (ص) وتتمزّق الغشاوة عن بصيرتها فتعرف الحقّ وأهله وتنهج على هدي نوره.

فهل كان بإ مكان الامام الحسين (ع) أن يحقّق أحد هذين الاختيارين في زمن معاوية؟

أمّا الاختيار الاوّل، وهو طريق الانتصار العسكريّ الحاسم على معاوية، فكان لابدّ فيه من تعبئة شطر من الامّة كافٍ على الاقلّ لتحمّل تبعات ومقتضيات حرب طاحنة حتّى النصر، فهل كانت الامّة آنئذٍ تنطوي على مثل هذا الاستعداد الكبير نفسيّا وعمليّا!؟

لنقرأ هذا المقطع الذي يصوّر فيه صاحب كتاب (ثورة الحسين ظروفها الاجتماعيّة وآثارها الانسانيّة) حال الامّة آنئذٍ، يقول: (لقد كانت حروب الجمل وصفّين والنهروان، والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع السوريّة وبين مراكز الحدود في العراق والحجاز واليمن بعد التحكيم قد ولّدت عند أصحاب الامام (ع) حنينا إلى السلم والموادعة، فقد مرّت عليهم خمس سنين وهم لايضعون سلاحهم من حرب إلّا ليشهروه في حرب أخرى، وكانوا لايحاربون جماعات غريبة عنهم، وإنّما يحاربون عشائرهم وإخوانهم بالا مس، ومن عرفهم وعرفوه ... وما نشك في أنّ هذا الشعور الذي بدأ يظهر بوضوح في آخر عهد عليّ (ع) إثر إحساسهم بالهزيمة أمام مراوغة خصمهم في يوم التحكيم أفاد خصوم الامام من زعماء القبائل ومن إليهم ممّن إكتشفوا أنّ سياسته لايمكن أن تلبّي مطامحهم التي تؤ ججها سياسة معاوية في المال والولايات، فحاولوا إذكاء هذا الشعور والتاءكيد عليه، وقد ساعد على تاءثير هؤ لاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الروح القبليّة التي استفحلت

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 235

في عهد عثمان بعد أن أطلقت من عقالها بعد وفاة النبيّ (ص)، فإ نّ الانسان ذا الروح القبليّة عالمه قبيلته، فهو ينفعل بانفعالاتها، ويطمح إلى ما تطمح إليه، ويعادي من تعادي، وينظر إلى الامور من الزاوية التي تنظر

منها القبيلة، وذلك لا نّه يخضع للقيم التي تخضع لها. وتتركّز مشاعر القبيلة كلّها في رئيسها، فالرئيس في المجتمع القبلي هوالمهيمن والموجّه للقبيلة كلّها ... وقد عبّر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السوريّة التي كانت تغير على الحجاز واليمن وحدود العراق، وتثاقلهم عن الاستجابة للا مام (ع) حين دعاهم للخروج ثانية إلى صفّين.

فلمّا استشهد الامام عليّ (ع) وبويع الحسن (ع) بالخلافة برزت هذه الظاهرة على أشدّها، وبخاصّة حين دعاهم الحسن (ع) للتجهز لحرب الشام، حيث كانت الاستجابة بطيئة جدّا. وبالرغم من أنّ الامام الحسن (ع) قد استطاع بعد ذلك أن يجهّز لحرب معاوية جيشا ضخما إلّا أنّه كان جيشا كتبت عليه الهزيمة قبل أن يلاقي العدوّ بسبب التيارات المتعدّدة التي كانت تتجاذبه، فقد: (خفّ معه أخلاط من الناس: بعضهم شيعة له ولا بيه، وبعضهم محكّمة أي خوارج يؤ ثرون قتال معاوية بكلّ حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكّاك، وأصحاب عصبيّة اتبعوا رؤ ساء قبائلهم). وقد كان رؤ ساء القبائل هؤ لاء قد باعوا أنفسهم من معاوية الذي كتب إلى كثير منهم يغريهم بالتخلّي عن الحسن (ع) والالتحاق به، وأكثر أصحاب الحسن (ع) لم يستطيعوا مقاومة هذا الاغرأ، فكاتبوا معاوية واعدين باءن يسلّموا الحسن (ع) حيّا أو ميّتا. وحين خطبهم الامام الحسن (ع) ليختبر مدى إخلاصهم وثباتهم هتفوا به من كلّ جانب: البقية، البقية، بينما هاجمته طائفة منهم تريد قتله، هذا في الوقت الذي أخذ الزعماء يتسلّلون تحت جنح الليل إلى معاوية بعشائرهم!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 236

ولمّا رأى الامام الحسن (ع) أمام هذا الوقع السّي ء أنّ الظروف النفسيّة والاجتماعيّة في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع عاجزا

عن النهوض بتبعات القتال وانتزاع النصر، ورأى أنّ الحرب ستكلّفه استئصال المخلصين من أتباعه بينما يتمتّع معاوية بنصر حاسم، حينئذٍ جنح إلى الصلح بشروط منها ألّايعهد معاوية لا حد من بعده، وأن يكون الامر للحسن (ع)، وأن يُترك الناس ويؤ منوا ... ولقد كان هذا هوالطريق الوحيد الذي يستطيع الحسن (ع) أن يسلكه باعتباره صاحب رسالة قد اكتنفته هذه الظروف الموئسة ...). «1»

تُرى هل بقيت الامّة في العراق خاصّة على هذه الحال بعد ذلك، أم أنّها قد تغيّرت نحو الاحسن إلى درجة أن صار بالا مكان أن يعتمد عليها الامام الحسن (ع) في حياته أو الامام الحسين (ع) بعده في تعبئة عامّة لحرب طاحنة حتّى النصر الحاسم على معاوية!؟

صحيح أنّ الناس الذين كرهوا الحرب لطول معاناتهم منها، ورغبة منهم في الدنيا والسلامة والدعة، وطاعة لرغبات زعماء قبائلهم، كانوا قد اكتشفوا بعد مدّة مدى الخطاء الذي وقعوا فيه بضعفهم عن القيام بتبعات القتال وخذلان الامام (ع)، بعد ما عرفوا طبيعة حكم معاوية وذاقوا طعم واقعيّته، وما يقوم به من اضطهاد وإرهاب، وتجويع وحرمان، ومطاردة مستمرّة، وخنق للحرّيات واستهزأ بالشريعة واستخفاف بالقيم، وإنقاص من أعطياتهم ليُزاد في أعطيات أهل الشام، وحمل معاوية إيّاهم على محاربة الخوارج، الامر الذي لم يُتح لهم أن ينعموا بالسلم الذي كانوا يحنّون إليه والدعة التي يتمنّونها ... فندموا على ما فرّطوا في جنب أهل البيت (ع)، (وقد جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيّام عليّ فيحزنون عليها، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم ويندمون كذلك على ما كان من الصلح بينهم

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 237

وبين أهل الشام، وجعلوا كلّما لقي بعضهم بعضا تلاوموا فيما كان، وأجالوا الرأي فيما يمكن أن يكون،

ولم تكد تمضي أعوام قليلة حتّى جعلت وفودهم تفدُ إلى المدينة للقاء الحسن (ع)، والقول له والاستماع منه ...). «1»

وصحيح أنّ كثيرا من الناس، وعامّة أهل العراق بنوع خاصّ، صاروا يرون بغض د بني أميّة وحبّ أهل البيت (ع) دينا لهم، نتيجة ظلم معاوية وجوره وبُعده عن الاسلام، لكنّ هذه العاطفة لم تستطع أن تخترق حاجز الازدواجيّة في الشخصيّة عند أكثر هؤ لاء، بل ظلّت تعشعش في إطارها في باطن الشخصيّة الرافض لا ل أميّة ولحكمهم خلافا لظاهر الشخصيّة المطيع لكل أوامرهم، فهم في إزدواج الشخصيّة كما وصفهم اميرالموءمنين عليّ (ع) في ظلّ ظلم بني أميّة حيث قال:

(واللّه لايزالون حتّى لايدعوا للّه محرّما إلّا استحلّوه، ولا عقدا إلّا حلّوه ...

وحتّى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه، وحتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه ...). «2»

فالوصف العام للا مّة آنئذٍ هو أنّ جُلَّها خاضع لا رادة الحكم الامويّ طائع لا مره، سوأ الذين عُمِّي على بصيرتهم تحت تاءثير التضليل الامويّ، فتوهّموا أنّ الاسلام متمثّل بحكم معاوية، أو ضعاف النفوس الذين قادهم حبّ الدنيا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 238

فباعوا دينهم بدنيا غيرهم، أو الذين عرفوا الحقّ وأهله فاءحبّوهم في الباطن وتنكّروا لهم في الظاهر خوفا من الارهاب الامويّ، وفي القليل المتبقّي كثير ممّن يمنعه الشلل النفسي عن نصرة الحقّ والالتحاق بركبه مع معرفته باءهل الحقّ (ع)!

هذا الوصف العام ظلّ منطبقا على هذه الامّة حتّى بعد موت معاوية!! إذن فالا مّة لم تتاءهّل لكي يعتمد عليها الامام الحسين (ع) في التخطيط لحرب طاحنة تقصر أو تطول حتّى النصر الحاسم على معاوية، وشواهد هذه الحقيقة في الوصف العام للا

مّة كثيرة جدّا مرّ بنا بعضها في المدخل.

بقي الاختيار الثاني المتاح أمام الامام الحسين (ع) في الثورة على معاوية، وهو تعريض الامّة لصدمة مروّعة في وجدانها وصعقة كبرى يهتزّ لها ضميرها، من خلال ملحمة بطوليّة ماءساويّة تنتهي بمصرعه ومصرع أنصاره، مقرونة بعمل إعلامي وتبليغي كبير ينجح في كشف الزيف الامويّ، وينهي الاثار العمليّة الناشئة عنه.

وهذا الاختيار الذي كُتب له النجاح التام أيّام حكم يزيد، كان محكوما عليه بالفشل التام في حياة معاوية، وسرّ ذلك يكمن في شخصيّة معاوية، وأسلوبه الخاص في معالجة الامور، فإ نّ معاوية لم يكن من الجهل بالسياسة بالمثابة التي يُتيح فيها للحسين (ع) أن يقوم بثورة مدوية، بل الراحج أنّه كان من الحصافة بحيث يُدرك أن جهر الحسين (ع) بالثورة عليه وتحريضه الناس على ذلك كفيل بزجّه في حروب تعكّر عليه بهاء النصر الذي حازه بعد صلح الحسن (ع)، إن لم يكن كافيا لتفويت ثمرة هذا النصر عليه، لا نّه عارف ولا ريب بما للحسين (ع) من منزلة في قلوب المسلمين.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 239

وأقرب الظنون في الاسلوب الذي يتبعه معاوية في القضاء على ثورة الحسين (ع) لوثار في عهده هو أنّه كان يتخلّص منه بالسمّ قبل أن يتمكّن الحسين (ع) من الثورة، وقبل أن يكون لها ذلك الدويّ الذي يموّج الحياة الاسلاميّة التي يرغب معاوية في بقائها هادئة ساكنة.

والذي يجعل هذا الظنّ قريبا ما نعرفه من أسلوب معاوية في القضاء على من يخشى منافستهم له في السلطان، أوتعكير صفو السلطان عليه، فإ نّ الطريقة المثاليّة عنده في التخلّص منهم هي القضاء عليهم باءقلّ ما يمكن من الضجيج. ولقد مارس معاوية هذا الاسلوب في القضاء على الحسن بن عليّ (ع)، وسعد بن

أبي وقّاص، ومارسه في القضاء على الاشتر لمّا توجّه إلى مصر، ومارسه في القضاء على عبدالرحمن بن خالد بن الوليد لمّا رأى افتتان أهل الشام به. وقد أوجز هو أسلوبه هذا في كلمته الماءثورة (إنّ للّه جنودا من العسل).

والذي يرتفع بهذا الظنّ إلى مرتبة الاطمئنان ما نعلمه من أنّ معاوية كان قد وضع الارصاد والعيون على الحسين (ع) وعلى غيره ممّن يخشاهم على سلطانه، وأنّهم كانوا يكتبون إليه بما يفعل هؤ لاء، ولايغفلون عن إعلامه باءيسر الامور وأبعدها عن إثارة الشك والريبة)، «1» كمثل ما كتبوا إليه في أمر جارية كان الحسين (ع) قد أعتقها ثمّ تزوّجها. «2»

(فلو تحفّز الحسين (ع) للثّورة في عهد معاوية، ثمّ قضي عليه بهذه الميتة التي يفضّلها معاوية لا عدائه، فماذا كانت تكون جدوى فعله هذا الذي لم يخرج عن حدود الفكرة إلى أن يكون واقعا يحياه الناس بدمائهم

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 240

وأعصابهم، وما كان يعود على المجتمع الاسلامي من موته وقد قضى كما يقضي سائر الناس بهدوء وبلا ضجيج؟ إنّه لن يكون حينذاك سوى علويّ مات حتف أنفه، يثير موته الاسى في قلوب أهله ومحبّيه وشيعة أبيه إلى حين ثمّ يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات). «1»

وقد صرّح معاوية للا مام (ع) بهذا التهديد بقوله: (... فإ نّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق شقّ عصا هذه الامّة ...). «2»

ولو قُدّر للا مام (ع) أن يخترق حصار جواسيس وعيون معاوية، ويقوم بالثورة عمليّا، فيخرج مع صفوة أنصاره في جيش قليل العدّة والعدد، ويتّجه إلى العراق مثلا، فهل كان سينجح في صنع ملحمة بطوليّة ماءساويّة يهتزّلها ضمير الامّة كما صنع ذلك بالفعل أيّام يزيد؟

وهل كان العمل الاعلاميّ والتبليغي المطلوب

في مثل هكذا نهضة أن ينجح في عهد معاوية كما نجح بالفعل في زمن يزيد؟

لا شك أنّ معاوية في مثل هذا الفرض سيواجه ماءزقا عمليّا صعبا، لكنّ معاوية من الدهاء والخبرة في معالجة الم آزق بما يمكّنه من استيعاب هذا الماءزق المحرج، والمتوقّع أنّه سيحاصر جيش الامام الصغير، وسيحرص على سلامة الامام (ع) وسلامة بني هاشم خاصّة، ويعفو عنهم بطريقة فنيّة مقرونة بعملٍ إعلاميّ كبير، تكون نتيجته سقوط الامام (ع) في عين الامّة وتجريده من قداسته الدينيّة، وقد يحجزه ومن معه بعد ذلك في الشام في إقامةٍ جبريّة لاتنتهي إلّا بموته الذي قد يكون بالسمّ أيضا ... ويخرج معاوية من هذا الماءزق في النهاية بمظهر من عفا بعد المقدرة، وقابل الاساءة بالا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 241

حسان، والقطيعة بالصلة، فيكسب قلوب الناس د ويزدادون حبّا له ويزداد هو شاءنا وعظمةً، وعندها لايتحقّق للا مام الحسين (ع) ما كان يؤ مِّله في هذا التحرّك من أثرٍ إيجابيٍّ فضلا عن ما سيلحقه من آثار سلبيّة بسبب دهاء معاوية.

ولقد صرّح معاوية للا مام (ع) بهذا النهج حين كتب إليه على أثر قضيّة الاموال المحمولة إليه التي أخذها الامام (ع) قائلا: (ولكنّني قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوة، وبودّي أن يكون ذلك في زماني فاءعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك، ولكنّني واللّه أتخوّف أن تبلى بمن لاينظرك فواق ناقة). «1»

ولايبعد أنّ معاوية يتمنّى لو يوفّق لمثل موقف العفو هذا، فيطلق أسارى بني هاشم في منّة يقابل بها منّة الرسول (ص) على الطلقاء في مكّة، فيكونون سوأ في حلبة المفاخرة، وهذا ما كان يحذره الامام الحسن (ع) كما مرّ بنا، ولاشك أنّ هذا الامر لم يكن ليغيب عن بال الامام

الحسين (ع) أيضا.

وعلى فرض أنّ معاوية لوثار عليه الامام (ع) قد يضطرّ إلى قتل الامام (ع) ومن معه من أنصاره، فإ نّ في مسحة الدين التي كان معاوية يحرص على إسباغها على سلوكه وسائر تصرّفاته أمام العامّة وفي صفة الشرعيّة التي أفلح في أن يسبغها على منصبه لدى جانب كبير من الرأي العام الاسلامي ما يمكّنه من إطفاء وهج مصارع هؤ لاء الثوّار، وإثارة الناس عليهم لا لهم، ذلك (لا نّ الجواب الذي كان سيقدّمه معاوية وأعوانه للناس حين يتساءلون عمّا حمل الحسين (ع) على الثورة، أو يجيب به الناس أنفسهم، هو أنّ الحسين طالب ملك! ولو قُتل الحسين في سبيل ما توهّمه الناس هدفا من ثورته لما أثار قتله استنكارا، ولما عاد قتله بشي على مبادئه ودوافعه الحقيقيّة للثورة، بل ربّما

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 242

عدّه فريق من الناس مستحقّا للقتل! ولن يُجدي الحسين (ع) وأنصاره أن يُعلنوا للناس أنّ ثورتهم لحماية الدين من تحريف وتزييف معاوية وإنقاذ الامّة من ظلمه، فلن يصدّقهم الناس لا نّهم لايرون على الدين من باءس، ولم يُحدِث معاوية في الدين حدثا ولم يجاهر بمنكر، بل سيرى الناس أنّ مقالتهم هذه ستار يخفي مقاصدهم الحقيقيّة). «1»

وعلى كلّ الفروض، فإ نّ معاوية كان سيستثمر في سبيل تشويه ثورة الحسين (ع) لو ثار في عهده قضيّة الميثاق الذي كان نتيجة صلح الحسن (ع) مع معاوية، فلقد عرف عامّة الناس أنّ الحسن والحسين (ع) قد سلّما الامر إلى معاوية وعاهداه على السكوت عنه، فلوثار الامام (ع) لا مكن معاوية أن يصوّره بصورة الخائن الناقض لبيعته وميثاقه الذي أعطاه!

ولايضرّ معاوية هنا أنّه كان قد نقض العهد قبل ذ لك ولم يف بشرط من شروطه، ولم

يعرف له حرمة ولم يحمل نفسه مؤ ونة الوفاء به ...

كما لايغيّر في النتيجة شيئا هنا أيضا سوأ أكان الحسن والحسين (ع) بايعا أو لم يبايعا معاوية بل سلّما له الامر تسليما مشروطاً. «2»

ذلك لا نّ وسائل معاوية الاعلاميّة المهيمنة على أذهان عامّة الناس هي الغالبة والمؤ ثّرة في ميدان التبليغ والدعاية، وباستطاعتها التضليل تماما على الرأي العام فيما تطرحه من إدانة دينيّة لقيام الامام (ع). ثمّ إنّ نفس المجتمع الذي لم يكن أهلا للقيام بالثورة، والذي كان يؤ ثر السلامة والعافية، كان يرى أنّ الامام (ع) قد بايع وعاهد، سوأ كما هوالواقع أو كما أشاع الاعلام الامويّ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 243

فيه، فهو يرى أنّ على الامام (ع) أن يفي بالعهد وألّا ينقض البيعة. ..... ص : 243

إذن فشخصيّة معاوية بما انطوت عليه من دهاء وحيلة ومكر وغدر وطول ممارسة وتجربة في العمل السياسي الاجتماعي كانت العامل الاهمّ إن لم تكن العامل الوحيد الذي اضطرّ الامام (ع) إلى عدم القيام ضدّه.

ومن هنا نفهم سرّ حصر السبب بوجود معاوية في الاجوبة التي أفاد بها الامام (ع) ردّا على مطالب بعض شيعته بالنهضة والقيام، كمثل: (ليكن كلّ رجل منكم حلسا من أحلاس بيته مادام معاوية حيّا ... فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم ...) «1» أو (... فالصقوا بالا رض، واخفوا الشخص، واكتموا الهوى ... مادام ابن هند حيّا) «2» أو (... مادام هذا الانسان «3» حيّا).

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 245

الفصل الثانى: المعالم العامة لنهج الامام الحسين (ع) في عهد معاويه ..... ص : 245
اشارة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 247

الفصل الثانى: المعالم العامة لنهج الامام الحسين (ع) في عهد معاويه

ضمن إطار موقفه العامّ في رعاية حالة الهدنة مع معاوية وعدم القيام ضدّه في الظروف الراهنة آنذاك، كان الامام الحسين (ع) يقوم بمهامّه في حياة الامّة الاسلاميّة كإ مامٍ لها من قبل اللّه تبارك وتعالى. ومن مهامّه ما كان في إطار الدور العامّ المشترك لجميع أئمّة أهل البيت (ع)، ومنها ما كان في إطار دوره الخاصّ الذي حدّدته طبيعة الظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي كانت تحيط به وبالا سلام وبالا مّة الاسلاميّة. ويمكننا أن نتصوّر المعالم العامّة لنهجه صلوات اللّه عليه في عهد معاوية كما يلي:

الدعوة إلى الحقّ والدفاع عنه: ..... ص : 247
اشارة

في خضم تيّار التضليل الامويّ الديني والسياسي المهيمن على الرأي العامّ الاسلامي كان الامام الحسين (ع) يصارع هذا التيار ويحاول اختراقه في تبيين الحقّ والدعوة إليه والدفاع عنه، وكشف الضلال وزيفه عن ذهنيّة الامّة بإ يضاح الحجّة والدلالة على المحجّة البيضاء، وبالا مر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الامّة وتربيتها من خلال حلقات الوعظ والارشاد التي كان يقوم بها في المدينة ومكّة، وكان الناس في حلقة الامام الحسين (ع) كاءنّ على رؤ وسهم الطير كما وصف ذلك معاوية نفسه، وذلك لسموّ مكانته، وعناية

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 248

الناس الفائقة بحديثه، ولقوّة انشدادهم إليه، ولا نّ حديثه الحقّ الفصل الذي (ليس فيه من الهُزيلى شي) على حدّ تعبير معاوية. ويمكننا أن نلحظ هذا الخطّ في الدعوة إلى الحقّ والدفاع عنه في المجالات التالية:

التعريف بمكانة أهل البيت (ع) وفضلهم ومعرفتهم: ..... ص : 248

وننتقي في هذا المجال النماذج التالية:

قيل لمعاوية: إنّ الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسين (ع)، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب فإ نّ فيه حصرا أوفي لسانه كلالة.

فقال لهم معاوية: قد ظننّا ذلك بالحسن، فلم يزل حتّى عظم في أعين الناس د وفضحنا. فلم يزالوا به حتّى قال للحسين (ع): يا أباعبداللّه، لو صعدت المنبر فخطبت. فصعد الحسين (ع) المنبر، فحمد للّه وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ (ص)، فسمع رجلا يقول: من هذا الذي يخطب؟ فقال الحسين (ع):

(نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه (ص) الاقربون، وأهل بيته الطيّبون، وأحد الثقلين اللذين جعلنا رسول اللّه (ص) ثاني كتاب اللّه تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كلّ شي، لاياءتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوَّل علينا في تفسيره، لايُبطينا تاءويله، بل نتّبع حقائقه، فاءطيعونا فإ نّ طاعتنا مفروضة، أن كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة، قال

اللّه عزّ وجلّ:

(أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم، فإن تنازعتم في شيٍ فردّوه إلى اللّه والرسول)، وقال: (ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلّا قليلا). واءُحذّركم الاصغاء إلى هتوف الشيطان بكم، فإ نّه لكم عدوُّ مبين، فتكونوا كاءوليائه الذين قال لهم: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جارٌ لكم،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 249

فلمّا ترأت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنّي بري منكم)، فتُلقَون بالسيوف ضربا، وللرّماح وردا، وللعُمُد حطما، وللسهام غرضا، ثمّ لايقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.)

قال معاوية: حسبك يا أباعبداللّه، قد بلغت. «1»

وقال الامام الحسين (ع) ذات مرّةٍ في مجلس معاوية:

(أنا ابن ماء السماء وعروق الثرى، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالحسب الناقب والشرف الفائق والقديم السابق، أنا ابن من رضاه رضا الرحمن وسخطه سخط الرحمن.

ثمّ ردّ وجهه للخصم فقال:

هل لك أبٌ كاءبي، أو قديم كقديمي؟ فإن قلت: لا، تُغلب، وإن قلت: نعم.

تُكذَّب.

فقال الخصم: لا، تصديقا لقولك. فقال الحسين (ع):

الحقّ أبلج، لايزيغ سبيله، والحقّ يعرفه ذوو الالباب). «2»

وعن الباقر (ع)، عن أبيه (ع) أنّه قال: (صار جماعة من الناس بعد الحسن إلى الحسين (ع)، فقالوا: يا ابن رسول اللّه، ما عندك من عجائب أبيك التي كان يريناها؟

فقال (ع): هل تعرفون أبي؟

قالوا: كلّنا نعرفه.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 250

فرفع له سترا كان على باب بيت، ثمّ قال: (أنظروا في البيت).

فنظروا فقالوا: هذا اميرالموءمنين، ونشهد أنّك خليفة اللّه حقّا). «1»

وفي رواية أخرى: سئل الحسين بن عليّ (ع) بعد مضيّ اميرالموءمنين فقال لا صحابه: (أتعرفون اميرالموءمنين (ع) إذا رأيتموه)؟

قالوا: نعم.

قال: (فارفعوا هذا الستر).

فرفعوه، فاذاهم به

لايُنكرونه.

فقال لهم عليّ (ع): (إنّه يموت من مات منّا وليس بميّت، ويبقى من بقي منّا حجّة عليكم). «2»

وساءله حبيب بن مظاهر الاسدي (ر) قائلا: أيّ شي كنتم قبل أن يخلق اللّه عزّ وجلّ آدم (ع)؟

فقال الامام الحسين (ع): (كنّا أشباح نورٍ ندور حول عرش الرحمن، فنعلّم الملائكة التسبيح والتهليل والتحميد). «3»

وعن عقيصا وهو أبوسعيد دينار قال:

سمعت الحسين (ع) يقول: (من أحبّنا نفعه اللّه بحبّنا وإن كان أسيرا في الديلم، وإنّ حبّنا ليساقط الذنوب كما تساقط الريح الورق). «4»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 251

وعن اسماعيل بن عبداللّه قال:

قال الحسين بن عليّ (ع): (لمّا أنزل اللّه تبارك وتعالى هذه الاية (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه) ساءلت رسول اللّه (ص) عن تاءويلها.

فقال: واللّه ما عنى غيركم، وأنتم أولوا الارحام، فإ ذا متّ فاءبوك عليُّ أولى بي وبمكاني، فإ ذا مضى أبوك فاءخوك الحسن أولى به، فإ ذا مضى الحسن فاءنت أولى به.

قلت، يا رسول اللّه، فمن بعدي أولى بي؟

قال: إبنك عليّ أولى بك من بعدك، فإ ذا مضى فابنه محمّد أولى به من بعده، فإ ذا مضى محمّد فابنه جعفر أولى به وبمكانه من بعده، فإ ذا مضى جعفر فابنه موسى أولى به من بعده، فإ ذا مضى موسى فابنه عليّ أولى به من بعده، فإ ذا مضى عليّ فابنه محمّد أولى به من بعده، فإ ذا مضى محمّد فابنه عليّ أولى به من بعده، فإ ذا مضى عليّ فابنه الحسن أولى به من بعده، فإ ذا مضى الحسن وقعت الغيبة في التاسع من ولدك، فهذه الائمّة تسعة من صلبك، أعطاهم علمي وفهمي، طينتهم من طينتي، ما لقوم يؤ ذونني فيهم، لاأنالهم اللّه شفاعتي). «1»

وعن النضر بن

مالك قال: قلت للحسين بن عليّ بن أبي طالب (ع): يا أباعبداللّه، حدّثني عن قول اللّه عزّ وجلّ (هذان خصمان اختصموا في ربّهم).

قال: (نحن وبنوأميّة اختصمنا في اللّه عزّ وجلّ، قلنا: صدق اللّه. وقالوا: كذب اللّه. فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة) «2»

وعن أبي جعفر (ع) قال:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 252

قال الحارث بن عبداللّه الاعور للحسين بن علي (ع): يا ابن رسول اللّه، جعلت فداك، أخبرني عن قول اللّه في كتابه: (والشمس وضحيها). قال: (ويحك يا حارث، ذلك محمّد رسول اللّه (ص).

قال: قلت: جعلت فداك، وقوله: (والقمر إذا تليها).

قال: (ذاك اميرالموءمنين عليّ أبي طالب (ع)، يتلو محمّدا (ص).

قال: قلت: (والنهار إذا جلّيها).

قال: (ذلك القائم (ع) من آل محمّد (ص)، يملا الارض عدلا وقسطا «1» (والليل إذا يغشيها) بنوأميّة). «2»

وقيل مرّ المنذر بن الجاورد بالحسين (ع) فقال: كيف أصبحت جعلني اللّه فداك يا ابن رسول اللّه؟

فقال (ع): (أصبحنا وأصبحت العرب تعتدُّ على العجم باءنّ محمّدا (ص) منها، وأصبحت العجم مقرّة لها بذلك، أصبحنا وأصبحت قريش يعرفون فضلنا ولايرون ذلك لنا، ومن البلاء على هذه الامّة أنّا إذا دعوناهم لم يُجيبونا، وإذا تركناهم لم يهتدوا بغيرنا). «3»

وفي رواية أخرى أنّه اجتاز به وقد اءُغضب، فقال (ع): (ماندري ما تنقم الناس منّا، إنّا لبيت الرحمة، وشجرة النبوّة، ومعدن العلم). «4»

وكان في خُلُقه العظيم دعوة مفتوحة للا قبال على الحقّ وتعريف رائع

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 253

باءهل الحقّ (ع).

فقد روي عن عصام بن المصطلق أنّه قال: دخلت المدينة فرأيت الحسين بن عليّ (ع)، فاءعجبني سمته ورواؤ ه، وأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لا بيه من البغض.

فقلت له: أنت ابن أبي تراب؟

فقال (ع): (نعم).

فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إليّ نظرة عاطفٍ

رؤ وفٍ.

ثمّ قال: (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، وإمّا ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ باللّه إنّه سميع عليم، إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا فإ ذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدّونهم في الغيّ ثمّ لايقصرون).

ثمّ قال (ع) لي: (خفّض عليك، أستغفر اللّه لي ولك، إنّك لو استعنتنا لا عنّاك ولو استرفدتنا لرفدناك، ولواسترشدتنا لا رشدناك).

قال عصام فتوسّم منّي الندم على ما فرط منّي.

فقال (ع): (لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين. من أهل الشام أنت؟)

قلت: نعم.

فقال (ع): (شِنشِنةٌ أعرفها من أخزم. «1» حيّانا اللّه وإيّاك، انبسط إلينا في

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 254

حوائجك وما يعرض لك، تجدني عند أفضل ظنّك إن شاء اللّه تعالى).

قال عصام: فضاقت عليَّ الارض بما رحبت، ووددت لو ساخت بي، ثمّ سللت منه لواذا وما على الارض أحبّ اليَّ منه ومن أبيه. «1»

وعن عبداللّه بن عمر قال:

سمعت الحسين بن عليّ (ع) يقول: (لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه عزّ وجلّ ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من ولدي، فيملا ها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، كذلك سمعت رسول اللّه (ص) يقول). «2»

وعن عبدالرحمن بن سليط قال:

قال الحسين بن عليّ بن أبي طالب (ع): (منّا إثنا عشر مهديّا، أوّلهم اميرالموءمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، وآخرهم التاسع من ولدي، وهو القائم بالحقّ، يحيي اللّه به الارض بعد موتها، ويُظهر به دين الحقّ على الدين كلّه ولوكره المشركون، له غيبة يرتدُّ فيها أقوام ويثبت فيها على الدين آخرون، فيؤ ذَون ويقال لهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)؟، أما إنّ الصابر في غيبته على الاذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف

بين يدي رسول اللّه (ص). «3»

ومرّ الحسين (ع) على حلقةٍ من بني أميّة وهم جلوس في مسجد الرسول (ص).

فقال (ع): (أما واللّه لاتذهب الدنيا حتّى يبعث اللّه منّي رجلا يقتل منكم

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 255

ألفا، ومع الالف ألفا ومع الالف ألفا).

فقال له عبيداللّه بن شريك: جعلت فداك، إنّ هؤ لاء أولاد كذا وكذا، لايبلغون هذا.

فقال (ع): (ويحك، في ذلك الزمان يكون الرجل من صلبه كذا وكذا رجلا، وإنّ مولى القوم من أنفسهم). «1»

وقال رجلٌ للحسين (ع): يا ابن رسول اللّه أنا من شيعتكم.

قال (ع): (إتّق اللّه، ولاتدّعين شيئا يقول اللّه تعالى لك كذبت وفجرت في دعواك. إنّ شيعتنا من سلمت قلوبهم من كلّ غشٍّ وغلٍّ ودغلٍ، ولكن قل أنا من مواليكم ومحبّيكم). «2»

وعن يزيد بن رويان قال: دخل نافع بن الازرق المسجد الحرام، والحسين بن عليّ (ع) مع عبداللّه بن عبّاس جالسان في الحجر، فجلس إليهما.

ثمّ قال: يا ابن عبّاس، صف لي إلهك الذي تعبده.

فاءطرق ابن عبّاس طويلا مستبطئا بقوله.

فقال له الحسين (ع): (إليّ يا ابن الازرق المتورّط في الضلالة، المرتكن في الجهالة، أجيبك عمّا ساءلت عنه).

فقال: ما إيّاك ساءلت فتجيبني.

فقال له ابن عبّاس: مَهْ! عن ابن رسول اللّه، فإ نّه من أهل بيت النبوّة، ومعدن الحكمة.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 256

فقال له: صف لي.

فقال (ع): (أصفه بما وصف به نفسه، وأعرّفه بما عرّف به نفسه، لايدرك بالحواس، ولايقاس بالناس، قريب غير ملتزق، وبعيد غير مقصٍ، يُوحَّد ولايتبعّض، لا إله إلّا هو الكبير المتعال).

قال فبكى ابن الارزق بكاء شديدا!

فقال له الحسين (ع): (ما يبكيك؟)

قال: بكيت من حسن وصفك.

قال (ع): (يا ابن الازرق، إنّي اءُخبرتُ اءنّك تُكفّر اءبي واءخي وتُكفّرني).

قال له نافع: لئن قلت ذاك لقد كنتم الحكّام ومعالم

الاسلام، فلمّا بدّلتم استبدلنا بكم.

فقال له الحسين (ع): (يا ابن الازرق، أساءلك عن مساءلةٍ، فاءجبني عن قول اللّه لاإله إلّا هو: (وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما) إلى قوله (كنزهما)، مَن حُفِظَ فيهما؟).

قال: أبوهما.

قال (ع): (فاءيّهما أفضل أبوهما أم رسول اللّه (ص) وفاطمة؟).

قال: لا، بل رسول اللّه وفاطمة بنت رسول اللّه (ص).

قال (ع): (فما حفظنا حتّى حال بيننا وبين الكفر).

فنهض ابن الازرق، ثمّ نفض ثوبه، ثمّ قال: قد نبّاءنا اللّه عنكم معشر قريش

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 257

أنتم قوم خصمون). «1»

وعن أبي عبداللّه (ع) قال:

(خرج الحسين بن عليّ (ع) على أصحابه فقال: (أيّها الناس، إنّ اللّه جلّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه فإ ذا عرفوه عبدوه، فإ ذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه).

فقال له رجل: يا ابن رسول اللّه، باءبى أنت وأمّي، فما معرفة اللّه؟

قال: (معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته). «2»

وروى عبدالعزيز بن كثير: أنّ قوما أتوا إلى الحسين (ع).

وقالوا: حدّثنا بفضائلكم!

قال (ع): (لاتطيقون، وانحازوا عنّي لا شير إلى بعضكم، فإن أطاق ساءحدّثكم).

فتباعدوا عنه، فكان يتكلّم مع أحدهم حتّى دهش ووَلِهَ وجعل يهيم ولايجيب أحدا، وانصرفوا عنه. «3»

استثمار المناسبات الدينيّة لنشر الحقّ وكشف التضليل الامويّ ..... ص : 257

ومن الامثلة على ذلك ما رواه سليم بن قيس (ره)، قال:

(فلمّا مات الحسن بن عليّ (ع) لم تزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدّان، فلم يبق وليُّ للّه إلّا خائفا على دمه (وفي رواية أخرى: إلّا خائفا على دمه أنّه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 258

مقتول) وإلّاطريدا وإلّا شريدا، ولم يبق عدو للّه إلّا مظهرا حجّته غير مستترٍ ببدعته وضلالته، فلمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن عليّ صلوات اللّه عليه وعبداللّه بن عبّاس وعبداللّه بن جعفر معه، فجمع الحسين

(ع) بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم من الانصار ممّن يعرفه الحسين (ع) وأهل بيته، ثمّ أرسل رسلا: لاتدعوا أحدا ممّن حجّ العام من أصحاب رسول اللّه (ص) المعروفين بالصلاح والنسك إلّا أجمعهم لي، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل وهم في سرادقه، عامّتهم من التابعين ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبيّ (ص)، فقام فيهم خطيبا فحمد اللّه وأثنى عليه. ثمّ قال:

(أمّا بعد: فإ نّ هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإنّي أريد أن أساءلكم عن شيٍ، فإن صدقت فصدّقوني وإن كذبت فكذّبوني، وأساءلكم بحقّ اللّه عليكم وحقّ رسول اللّه (ص) وقرابتي من نبيّكم لما سيّرتم مقامي هذا، ووصفتم مقالتي ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم من آمنتم من الناس (وفى رواية أخرى بعد قوله فكذّبوني: اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، فمن أمنتم من الناس) ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا، فإ نّي أتخوّف أن يدرس هذا الامر ويذهب الحقّ ويُغلَب، واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون).

وما ترك شيئا ممّا أنزل اللّه فيهم من القرآن إلّا تلاه وفسرّه، ولاشيئا ممّا قاله رسول اللّه (ص) في أبيه وأخيه وأمّه وفي نفسه وأهل بيته إلّا رواه.

وكلّ ذلك يقول أصحابه: أللّهمّ نعم، وقد سمعنا وشهدنا.

ويقول التابعي: أللّهمّ قد حدّثني به من أصدّقه وأئتمنه من الصحابة.

فقال: أنشدكم اللّه إلّا حدّثتم به من تثقون به وبدينه.

(قال سليم): فكان فيما ناشدهم الحسين (ع) وذكّرهم أن قال:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 259

(أنشدكم اللّه، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول اللّه (ص) حين آخى بين أصحابه ف آخى بينه وبين نفسه وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والاخرة؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال:

(أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ رسول اللّه (ص) اشترى موضع مسجده ومنازله، فابتناه ثمّ ابتنى فيه عشرة منازل، تسعة له وجعل عاشرها في وسطها لا بي، ثمّ سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه، فتكلّم في ذلك من تكلّم، فقال: ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ اللّه أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه، ثمّ نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان يجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول اللّه (ص) فولد لرسول اللّه (ص) وله فيه أولاد؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حرص على كوّةٍ قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فاءبى عليه، ثمّ خطب فقال: إنّ اللّه أمرني أن أبنيَ مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أنشدكم اللّه أتعلمون أنّ رسول اللّه (ص) نصبه يوم غدير خمّ فنادى له بالولاية وقال: ليبلّغ الشاهد الغائب؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أنشدكم اللّه أتعلمون أنّ رسول اللّه (ص) قال له في غزوة تبوك:

أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وأنت وليّ كلّ مؤ من بعدي؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 260

قال: (أنشدكم اللّه، أتعلمون أنّ رسول اللّه (ص) حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم ياءت إلّا به وبصاحبته وابنيه؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أنشدكم اللّه، أتعلمون أنّه دفع إليه اللوأ يوم خيبر، ثمّ قال: لَادفعه إلى رجل يحبّه اللّه ورسوله ويحبّ اللّه ورسوله، كرّار غير فرّار، يفتحها اللّه على يديه؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أتعلمون أنّ رسول اللّه بعثه ببرائة، وقال: لايبلّغ عنّي إلّا أنا أو رجل منّي؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أتعلمون أنّ رسول اللّه (ص) لم تنزل به شدّة قطّ إلّا قدّمه لها ثقة به، وأنّه لم يدعه باسمه قطّ إلّا يقول: يا

أخي، وادعوا لي أخي؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أتعلمون أنّ رسول اللّه (ص) قضى بينه وبين جعفرٍ وزيدٍ، فقال: يا عليّ، أنت منّي وأنا منك، وأنت وليّ كلّ مؤ من بعدي؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أتعلمون أنّه كانت له من رسول اللّه (ص) كلّ يوم خلوة وكلّ ليلة دخلة، إذا ساءله أعطاه، وإذا سكت أبداه؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أتعلمون أنّ رسول اللّه (ص) فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة (س): زوّجتك خير أهل بيتي، أقدمهم سلما، وأعظمهم حلما، وأكثرهم علما؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 261

قال: (أتعلمون أنّ رسول اللّه (ص) قال: أنا سيّد ولد بني آدم، وأخي عليّ سيّد العرب، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، والحسن والحسين إبناي سيّدا شباب أهل الجنّة؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أتعلمون أنّ رسول اللّه (ص) أمره بغسله، وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

قال: (أتعلمون أنّ رسول اللّه (ص) قال: في آخر خطبة خطبها: إنّي تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه وأهل بيتي، فتمسّكوا بهما لن تضلّوا؟)

قالوا: أللّهمّ نعم.

فلم يدع شيئا أنزله اللّه في عليّ بن أبي طالب (ع) خاصّة وفي أهل بيته من القرآن، ولا على لسان نبيّه (ص) إلّا ناشدهم فيه.

فيقول الصحابة: أللّهمّ نعم، قد سمعنا.

ويقول التابع: أللّهمّ قد حدّثنيه من أثق به، فلان وفلان.

ثمّ ناشدهم أنّهم قد سمعوه يقول: (من زعم أنّه يحبّني ويبغض عليّا فقد كذب، ليس د يحبّني ويبغض عليّا. فقال له قائل: يا رسول اللّه، كيف ذلك؟

قال: لا نّه منّي وأنا منه، من أحبّه فقد أحبّني، ومن أحبّني فقد أحبّ اللّه، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض د اللّه).

فقالوا: أللّهمّ نعم، قد سمعنا.

وتفرّقوا على ذلك ... «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 262

وفي هذه الرواية دلالة بليغة على شدّة وشمول الحصار

الاعلاميّ والتعتيم الذي فرضه الحكم الامويّ على البيان النبويّ المتعلّق بفضائل أهل البيت (ع)، وتقادم الايّام على هذا الحصار والتعتيم المتواصل، الامر الذي اضطرّ الامام الحسين (ع) إلى عقد مثل هذا الاجتماع والمحفل الكبير ليذكّر بقيّة الصلحاء من الصحابة والاخيار من التابعين بفضائل أهل البيت (ع). وكاءنّه يذكّر باءمر يكاد يُنسى، ويُنفِّس د عن حقيقة تكاد تموت إختناقا من شدّة الحصار وطول مدّته!

هاهو (ع) يقول: (فإ نّي أتخوَّف أن يُدرس هذا الامر ويذهب الحقّ ويُغلَب ...)!

وهاهو (ع) يدعو إلى اختراق هذا الحصار فيقول لبقيّة الصحابة والتابعين:

(وأساءلكم بحقّ اللّه عليكم وحقّ رسول اللّه (ص) وقرابتي من نبيّكم لما سيّرتم مقامي هذا، ووصفتم مقالتي، ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم من أمنتم من الناس ووثقتم به، فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا ...

أنشدكم اللّه إلّا حدّثتم به من تثقون به وبدينه).

كما أنّ في هذه الرواية دلالة بليغة على المجهود العظيم الذي كان يبذله الامام الحسين (ع) لاختراق ذلك الحصار والتعتيم، وعلى الصعوبة الكبيرة التي كان يواجهها في هذا السبيل، ذلك لا نّ أثر هذا الحصار والتعتيم بلغ أشدّه في زمانه (ع)، فلم يكن على هذه الشدّة في زمن الحسن (ع) ولا في زمن أمير المؤ منين (ع).

احتجاجه (ع) على العلماء ودعوتهم إلى نصرة الحقّ: ..... ص : 262

ومن كلام له (ع) في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يخاطب به أهل العلم من الصحابة خاصّة والتابعين عامّة، يحتجّ عليهم فيه ويدعوهم إلى نصرة الحقّ وإتّخاذ الموقف المشرّف اللّائق باءهل العلم.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 263

قال (ع): (اعتبروا أيّها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الاحبار إذ يقول (لولا ينهاهم الربّانيّون والاحبار عن قولهم الاثم) وقال: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل إلى قوله لبئس ما كانوا

يفعلون)، وإنّما عاب اللّه ذلك عليهم لا نّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلاينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ورهبة ممّا يحذرون، واللّه يقول: (فلا تخشوا الناس واخشونِ) وقال: (المؤ منون والمؤ منات بعضهم أولياء بعض ياءمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) فبدأ اللّه بالا مر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه باءنّها إذا اءُدّيت واءقيمت استقامت الفرائض كلّها، هيّنها وصعبها، وذلك أنّ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفي والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها.

ثمّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وباللّه في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف، ويؤ ثركم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الاكابر، أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحقّ اللّه، وإن كنتم عن أكثر حقّه تُقصّرون، فاستخففتم بحقّ الائمّة، فاءمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم، وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالا بذلتموه ولا نفسا خاطرتم بها للّذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات اللّه، أنتم تتمنّون على اللّه جنّته ومجاورة رسله وأمانا من عذابه!

لقد خشيت عليكم أيّها المتمنّون على اللّه أن تحلّ بكم نقمة من نقماته لا نّكم بلغتم من كرامة اللّه منزلة فُضّلتم بها، ومن يعرف باللّه لاتُكرِمون، وأنتم باللّه في عباده تُكرَمون، وقد ترون عهود اللّه منقوضة فلاتفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمّة رسول اللّه (ص) محقورة، والعميُ والبكم والزُمنَّ في المدائن مهملة، لاترحمون ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تُعينون، وبالا دهان والمصانعة

عند الظلمة تاءمنون، كلّ ذلك ممّا أمركم اللّه به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون، وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون، ذلك باءنّ مجاري الامور والاحكام على أيدي العلماء باللّه، الامناء على حلاله وحرامه، فاءنتم

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 264

المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلّا بتفرّقكم عن الحقّ، واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم على الاذى وتحمّلتم المؤ ونة في ذات اللّه كانت أمور اللّه عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحيوة التي هي مفارقتكم، فاءسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبَد مقهور وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلّبون في الملك ب آرائهم ويستشعرون الخزي باءهوأهم اقتدأ بالا شرار وجرأة على الجبّار، في كلّ بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالا رض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خَوَل لايدفعون يد لامس، فمن بين جبّار عنيد، وذي سطوة على الضَّعَفة شديد، مطاع لايعرف المبدي ء المعيد.

فيا عجبا، وما لي لاأعجب، والارض من غاش غشوم ومتصدّق ظلوم وعامل على المؤ منين بهم غير رحيم، فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

أللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافسا في سلطان ولا التماسا من فضول الحطام، ولكن لنُري المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، وياءمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك.

فإ نّكم إلّا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيّكم، وحسبنا اللّه وعليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير). «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 265

إحتجاجاته (ع) على معاوية وبني أميّة ..... ص : 265

لم يمنع التزام الامام (ع)

بالهدنة والمتاركة من إعلانه المتواصل عن اعتراضه على منكرات معاوية وعلى نقضه شروط الهدنة، واحتجاجه المتواصل عليه وعلى ولاته في انحرافهم عن الاسلام وظلمهم الامّة.

ومن أشمل احتجاجات الامام (ع) على معاوية ذلك الكتاب الذي بعث به إليه جوابا لكتاب دعا معاوية فيه الامام (ع) إلى رعاية الهدنة، وحذّره فيه من مغبّة الفتنة وشقّ عصا الامّة بزعمه.

وهذا نصّ جوابه (ع): (... أمّا بعدُ: فقد بلغني كتابك، تذكر أنّه قد بلغك عنّي أمور أنت لي عنها راغب، وأنا لغيرها عندك جدير، فإ نّ الحسنات لايهدي لها ولايسدّد إليها إلّا اللّه.

وأمّا ما ذكرت أنّه انتهى إليك عنّي، فإ نّه إنّما رقاه إليك الملّاقون المشّاؤ ون بالنميم، وماأريد لك حربا ولا عليك خلافا، وأيمُ اللّه إنّي لخائف للّه في ترك ذلك، وما أظنّ اللّه راضيا بترك ذلك ولا عاذرا بدون الاعذار فيه إليك، وفي أولئك القاسطين الملحدين حزب الظلمة وأولياء الشياطين.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولايخافون في اللّه لومة لائم، ثمّ قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الايمان المغلّظة والمواثيق المؤ كّدة لاتاءخذهم بحدثٍ كان بينك وبينهم، ولا بإ حنة تجدها في نفسك. «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 267

أولستَ قاتل عمرو بن الحمق 1 صاحب رسول اللّه (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة، فنحل جسمه، وصفرت لونه، بعد ما أمنته وأعطيته من عهود اللّه ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل، ثمّ قتلته جرأة على ربّك واستخفافا بذلك العهد. «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 268

أولست المدّعي زياد بن سميّة 1 المولود على فراش عبد ثقيف!؟ فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللّه (ص): (الولد للفراش وللعاهر الحجر)،

فتركت سنّة رسول اللّه تعمّدا وتبعت هواك بغير هدى من اللّه، ثمّ سلّطته على العراقين، يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمّل أعينهم، ويصلّبهم على جذوع النخل، كاءنّك لست من هذه الامّة، وليسوا منك!. «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 269

أولست صاحب الحضرميّين «1» الذين كتب فيهم ابن سميّة أنّهم كانوا على دين عليٍّ صلوات اللّه عليه، فكتبت إليه: أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ، فقتلهم ومثّل بهم باءمرك. ودين عليّ (ع) واللّه الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين. «2»

وقلت فيما قلت: «3» (أنظر لنفسك ولدينك ولا مّة محمّد، واتّق شقّ عصا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 270

هذه الامّة وأن تردّهم إلى فتنة)، وإنّي لاأعلم فتنة أعظم على هذه الامّة من ولايتك عليها، ولاأعلم نظرا لنفسي ولديني ولا مّة محمّد (ص) وعلينا أفضل من أجاهدك، فإن فعلتُ فإ نّه قربة إلى اللّه، وإن تركتُه فإ نّي أستغفر اللّه لديني (لذبني)، وأساءله توفيقه لا رشاد أمري.

وقلت فيما قلت: (إنّي إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني)، فكدني ما بدا لك، فإ نّي أرجو أن لايضرّني كيدك فيّ، وأن لايكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لا نّك قد ركبت جهلك، وتحرّصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤ لاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والايمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلّا لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقّنا، فقتلتهم مخافة أمرٍ لعلّك لو لم تقتلهم متَّ قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فاءبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ للّه تعالى كتابا لايغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلّا أحصاها، وليس

اللّه بناسٍ لا خذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك، غلام حدث، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب.

لاأعلمك إلّا وقد خسرت نفسك وتبّرت دينك وغششت رعيتك وأخزيت أمانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقيّ لا جلهم، والسلام).

فلمّا قرأ معاوية الكتاب قال: لقد كان في نفسه ضبٌ ما أشعر به!

فقال يزيد: يا اميرالموءمنين، أجبه جوابا يصغّر إليه نفسه، وتذكر فيه أباه بشرّ فعله.

قال: ودخل عبداللّه بن عمرو بن العاص.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 271

فقال له معاوية: أما رأيت ما كتب به الحسين؟

قال: وما هو؟

قال: فاءقرأه الكتاب.

فقال: وما يمنعك أن تجيبه بما يصغّر إليه نفسه؟ وإنّما قال ذلك في هوى معاوية.

فقال يزيد: كيف رأيت يا أميرالمؤمنين رأيي؟

فضحك معاوية، فقال: أمّا يزيد فقد أشار علىّ بمثل رأيك!

فقال عبداللّه: فقد أصاب يزيد.

فقال معاوية: أخطاءتما، أرأيتما لو أنّي ذهبت لعيب عليٍّ محقّا، ما عسيتُ أن أقول فيه!؟ ومثلي لايحسن أن يُعيب بالباطل وما لايُعرف، ومتى ما عبت به رجلا بما لايعرفه الناس لم يُحفل بصاحبه، ولايراه الناس شيئا وكذّبوه، وما عسيتُ أن أعيب حسينا، واللّه ما أرى للعيب فيه موضعا، وقد رأيتُ أن أكتب إليه أتوعّده وأتّهدّده، ثمّ رأيت أن لاأفعل ولاأمحكه). «1»

و (لمّا قتل معاوية حجر بن عديّ وأصحابه حجّ ذلك العامّ، فلقي الحسين بن عليّ (ع). فقال: يا أباعبداللّه، هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه، وشيعة أبيك؟

فقال (ع): وما صنعت بهم!؟

قال: قتلناهم، وكفنّاهم، وصلّينا عليهم!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 272

فضحك الحسين (ع)، ثمّ قال: خصمك القوم يا معاوية، لكنّنا لو قتلنا شيعتك ما كفّناهم، ولا صلّينا عليهم، ولا قبرناهم. ولقد بلغني وقيعتك في عليٍّ، وقيامك ببغضنا، واعتراضك بني هاشم بالعيوب، فإ ذا

فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ثمّ سلها الحقّ عليها ولها، فإن لم تجدها أعظم عيبا فما أصغر عيبك فيك، وقد ظلمناك يا معاوية فلاتوترنّ غير قوسك، ولاترمّينّ غير غرضك، ولاترمنا بالعداوة من مكان قريب، فإ نّك واللّه لقد أطعت فينا رجلا ما قدُم إسلامه، ولا حدث نفاقه، ولا نظر لك فانظر لنفسك أودع يعني (عمروبن عاص). «1»

وروي أنّ الامام الحسين (ع) كتب إلى معاوية كتابا يقرّعه فيه ويبكّته باءمور صنعها، كان فيه: (ثمّ ولّيت ابنك وهو غلام يشرب الشراب، ويلهو بالكلاب، فخُنت أمانتك وأخربت رعيّتك، ولم تؤ دّ نصيحة ربّك، فكيف تولّي على أمّة محمّد من يشرب المسكر!؟ وشارب المسكر من الفاسقين، وشارب المسكر من الاشرار، وليس شارب المسكر باءمين على درهم فكيف على الامّة!؟ فعن قليل ترد على عملك حين تُطوى صحائف الاستغفار). «2»

وكان معاوية يحيط علما بالكثير من حالات وأوضاع الامام الحسين (ع) لكثرة جواسيسه وعيونه الذين يرصدون الصغيرة والكبيرة من حياة الامام (ع) الخاصّة والعامّة، ولقد ضاقت ذات يد الامام (ع) لكثرة جوده وسخائه، فركبه الدين.

فاغتنم الفرصة معاوية، فكتب إلى الامام (ع) يريد أن يشتري منه (عين أبي نيزر) التي حفرها اميرالموءمنين عليّ (ع) بيده الشريفة، وأوقفها على فقرأ أهل المدينة وابن السبيل، وأرسل معاوية مع الكتاب مائتي ألف دينار.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 273

فاءبى الامام الحسين (ع) أن يبيعها وقال: (إنّما تصدّق بها أبي ليقي اللّه بها وجهه حرّ النار! ولست بائعها بشي). «1»

وروي أنّه كان بين الامام الحسين (ع) وبين معاوية كلام في أرض للا مام (ع)، فقال له الامام الحسين (ع): (اختر خصلة من ثلاث خصال: إمّا أن تشتري منّي حقّي، وإمّا أن تردّه عليّ، أو تجعل بيني وبينك ابن الزبير

وابن عمر، والرابعة الصَّيلَم.

قال: وما الصيلم؟

قال: أن أهتف بحلف الفضول.

قال: فلا حاجة لنا بالصيلم). «2»

وروي عن محمّد بن السايب أنّه قال:

(قال مروان بن الحكم يوما للحسين بن عليّ (ع): لولا فخركم بفاطمةبم كنتم تفتخرون علينا!؟

فوثب الحسين (ع) وكان (ع) شديد القبضة فقبض على حلقه فعصره، ولوى عمامته على عنقه حتّى غشي عليه، ثمّ تركه.

وأقبل الحسين (ع) على جماعة من قريش، فقال: أنشدكم باللّه إلّا صدّقتموني إن صدقت، أتعلمون أنّ في الارض حبيبين كانا أحبّ إلى رسول اللّه (ص) منّي ومن أخي؟)

قالوا: أللّهمّ لا.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 274

قال: وإنّي لاأعلم أنّ في الارض ملعون بن ملعون غير هذا وأبيه، طريدي رسول اللّه، واللّه ما بين جابرس وجابلق أحدهما بباب المشرق والاخر بباب المغرب رجلان مّمن ينتحل الاسلام أعدى للّه ولرسوله ولا هل بيته منك ومن أبيك إذا كان. وعلامة قولي فيك أنّك إذا غضبت سقط رداؤ ك عن منكبك!

قال: فواللّه ما قام مروان من مجلسه حتّى غضب، فانتفض وسقط رداؤ ه عن عاتقه). «1»

و (استعمل معاوية مروان بن الحكم على المدينة، وأمره أن يفرض لشباب قريش د ففرض لهم.

فقال عليّ بن الحسين (ع): فاءتيته.

فقال: ما اسمك؟

فقلت: عليّ بن الحسين.

فقال: ما اسم أخيك؟

فقلت: عليّ.

فقال: عليّ وعليّ! ما يريد أبوك أن يدع أحدا من ولده إلّا سمّاه عليّا!!

ثمّ فرض لي، فرجعت إلى أبي فاءخبرته.

فقال: ويلي على ابن الزرقاء دبّاغة الادُم، لو ولد لي مائة لا حببت أن لا أسمّي أحدا منهم إلّاعليّا). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 275

وروي أنّه (خطب الحسن (ع) عائشة بنت عثمان، فقال مروان: أزّوجها عبداللّه بن الزبير.

ثمّ إنّ معاوية كتب إلى مروان وهو عامله على الحجاز ياءمره أن يخطب أمّ كلثوم بنت عبداللّه بن جعفر لابنه يزيد،

فاءبى عبداللّه بن جعفر، فاءخبره بذلك، فقال عبداللّه: إنّ أمرها ليس اليَّ إنّما هو إلى سيّدنا الحسين وهو خالها.

فاءخبر الحسين بذلك فقال: أستخير اللّه تعالى، أللّهمّ وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمّد.

فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول اللّه أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسين (ع) وعنده من الجلّة، وقال: إنّ اميرالموءمنين أمرني بذلك، وأن أجعل مهرها حكم أبيها بالغا ما بلغ، ومع صلح ما بين هذين الحيّين، مع قضاء دينه، واعلم أنّ من يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم، والعجب كيف يستمهر يزيد وهو كفو من لاكفو له، وبوجهه يستسقى الغمام، فرُدَّ خيرا يا أباعبداللّه!!

فقال الحسين (ع): الحمد للّه الذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لدينه، واصطفانا على خلقه)، إلى آخر كلامه.

ثمّ قال: يا مروان قد قلت فسمعنا، أمّا قولك مهرها حكم أبيها بالغا ما بلغ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدونا سنّة رسول اللّه في بناته ونسائه وأهل بيته، وهو اثنتا عشرة أوقية يكون أربعمائة وثمانين درهما!

وأمّا قولك: مع قضاء دين أبيها، فمتى كنّ نساؤ نا يقضين عنّا ديوننا!؟

وأمّا صلح ما بين هذين الحيّين فإ نّا قوم عاديناكم في اللّه، ولم نكن نصالحكم للدّنيا، فلعمري فلقد أعيي النسب فكيف السبب!؟

وأمّا قولك: العجب ليزيد كيف يستمهر، فقد استمهر من هو خيرٌ من يزيد ومن أب يزيد ومن جدّ يزيد.

وأمّا قولك: إنّ يزيد كفو من لا كفوله، فمن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم، ما زادته إمارته في الكفاءة شيئا.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 276

وأمّا قولك: بوجهه يستسقى الغمام، فإ نّما كان ذلك بوجه رسول اللّه (ص).

وأمّا قولك: من يغبطنا به أكثر ممّا يغبطه بنا، فإ نّما يغبطنا به أهل الجهل، ويغبطه بنا أهل العقل.

ثمّ قال بعد كلام:

فاشهدوا جميعا أنّي قد زوّجت أمّ كلثوم بنت عبداللّه بن جعفر من ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر على أربعمائة وثمانين درهما، وقد نحلتها ضيعتي بالمدينة، أوقال: أرضي بالعقيق، وإنّ غلّتها في السنة ثمانية آلاف دينار، ففيها لهما غنىً إن شاء اللّه.

قال: فتغيّر وجه مروان، وقال: أغدرا يا بني هاشم، تاءبون إلّا العداوة.

فذكّره الحسين (ع) خطبة الحسن عائشة وفعله ثمّ قال: فاءين موضع الغدر يا مروان!؟ ...). «1»

وروي أنّه (ع) كان جالسا في مسجد النبيّ (ص) فسمع رجلا من بني أميّة يقول ويرفع صوته ليسمع الامام (ع): إنّا شاركنا آل أبي طالب في النبوّة حتّى نلنا منها مثل ما نالوا منها من السبب والنسب، ونلنا من الخلافة ما لم ينالوا، فبم يفخرون علينا!؟ وكرّر هذا القول ثلاثا.

فاءقبل عليه الحسين (ع) فقال له: (إنّي كففت عن جوابك في قولك الاوّل حلما، وفي الثاني عفوا، وأمّا في الثالث فإ نّي مجيبك. إنّي سمعت أبي يقول:

إنّ في الوحي الذي أنزله اللّه على محمّد (ص): إذا قامت القيامة الكبرى حشر اللّه بني أميّة في صور الذرّ، يطاءهم الناس د حتّى يفرغ من الحساب، ثمّ يؤ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 277

تى بهم فيحاسبوا، ويُصار بهم إلى النار).

فلم يُطقَ الامويّ جوابا وانصرف وهو يتميّز من الغيظ. «1»

رعاية الامام (ع) للا مّة عامّة وللشيعة خاصّة ..... ص : 277

من الدور العامّ المشترك لجميع ائمّة أهل البيت (ع) رعايتهم للا مّة الاسلاميّة عامّة وللشيعة منها خاصّة، فليس بدعا من أمر الامامة الحقّة أن يهتمّ الامام الحسين (ع) إهتماما فائقا باءمور هذه الامّة في جميع مجالات حياتها، وأن لاياءلو جهدا في الدفاع عنها وانقاذها من كلّ خطر وهلكة يحيقان بها، وهو الذي قدّم نفسه الزكيّة وأهل بيته وخاصّته وأصحابه قرابين مقدّسة على مذبح الهدف العام

من قيامه وخروجه وهو إصلاح هذه الامّة المنكوبة بعد ما شملها الفساد في كلّ أبعاد حياتها (... وإنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي ...)

ولمّا كانت مصاديق رعايته لهذه الامّة في قضاياها العامّة قد وردت مبثوثة في ثنايا أبحاث الابواب والفصول الاخرى من هذا الكتاب، فإ نّنا نقتصر هنا على تقديم نماذج منتقاة من رعايته لا فراد هذه الامّة، تمثّل عفوه ورأفته وحنانه وكرمه وباقي سجاياه السامية، ثمّ نعرض بعدها نماذج من رعايته للشيعة خاصّة:

(جنى له غلام جناية توجب العقاب، فاءمر (ع) به أن يضرب.

فقال: يا مولاي، (والكاظمين الغيظ).

قال (ع): (خلّوا عنه!)

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 278

فقال: يا مولاي، (والعافين عن الناس).

قال (ع): (قد عفوتُ عنك!)

قال: يا مولاي، (واللّه يحبّ المحسنين).

قال (ع): (أنت حرّ لوجه اللّه، ولك ضعف ما كنت أعطيك.) «1»

و (خرج سائل يتخطّى أزقّة المدينة حتّى أتى باب الحسين بن عليّ (ع)، فقرع الباب وأنشاء يقول:

لم يَخبِ اليوم من رجاك ومن حرّك من خلف بابك الحلقه

فاءنت ذوالجود، أنت معدنُه أبوك قد كان قاتل الفسقه

قال: وكان الحسين بن عليّ (ع) واقفا يصلّي، فخفّف من صلاته، وخرج إلى الاعرابي فرأى عليه أثر ضُرٍّ وفاقة، فرجع ونادى بقنبر

فاءجابه: لبّيك يا ابن رسول اللّه (ص).

قال (ع): ما تبقّى معك من نفقتنا؟

قال: مائتا درهم، أمرتني بتفريقها في أهل بيتك.

فقال (ع): فهاتها، فقد أتى من هو أحقُّ بها منهم.

فاءخذها (من قنبر) وخرج فدفعها إلى الاعرابي، وأنشاء يقول:

خذها فإ نّي إليك معتذر واعلم باءنّي عليك ذوشفقه

لوكان في سيرنا الغداة عصا كانت سمانا عليك مندفقه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 279

لكنّ ريب الزمان ذونَكَدٍ والكفُّ منّا قليلة النفقه

قال: فاءخذها الاعرابيّ وولّى، وهو يقول:

مطهَّرون نقيّاتٌ جيوبهم تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

وأنتم أنتم الاعلون، عندكم علم الكتاب وما

جاءت به السوَرُ

من لم يكنْ علويّا حين تنسبه فماله في جميع الناس مفتخرُ «1»

وفي رواية: (قال: فاءخذها الاعرابي وبكى.

فقال (ع) له: لعلّك استقللت ما أعطيناك؟

قال: لا، ولكن كيف ياءكل التراب جودك!؟). «2»

و (دخل الحسين (ع) على أسامة بن زيد وهو مريض، وهو يقول: واغمّاه.

فقال له الحسين (ع): ما غمّك يا أخي؟

قال: ديني، وهوستّون ألف درهم.

فقال له الحسين (ع): هو عليّ.

قال: إنّي أخشى أن أموت.

فقال له الحسين (ع): لن تموت حتّى أقضيها عنك.

فقضاها قبل موته). «3»

وروي أنّه (ع): (دخل المستراح، فوجد لقمة ملقاة، فدفعها إلى غلام له،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 280

فقال: يا غلام، أذكرني بهذه اللقمة إذا خرجتُ.

فاءكلها الغلام.

فلمّا خرج الحسين بن عليّ (ع) قال: يا غلام أين اللقمة؟

قال: أكلتها يا مولاي.

قال: أنت حرّ لوجه اللّه تعالى.

قال له رجل: أعتقته يا سيّدي!؟

قال: نعم، سمعت جدّي رسول اللّه (ص) يقول: من وجد لقمة ملقاة فمسح منها أو غسل ما عليها ثمّ أكلها لم تستقرّ في جوفه إلّا أعتقه اللّه من النار. (ولم أكن أستعبد رجلا أعتقه اللّه من النار). «1»

و (مرّ الحسين بن عليّ (ع) بمساكين قد بسطوا كساءً لهم فاءلقوا عليه كِسَرا،

فقالوا: هلمَّ يا ابن رسول اللّه (ص)!

فثنّى وركه فاءكل معهم، ثمّ تلا: (إنّ اللّه لايحبّ المستكبرين).

ثمّ قال: قد أجبتكم فاءجيبوني.

قالوا: نعم يا ابن رسول اللّه (ص) ...

فقاموا معه حتّى أتوا منزله ...

فقال (ع) للرّباب: أخرجي ما كنت تدّخرين). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 281

(وجاءه رجل من الانصار يريد أن يساءله حاجة ...

فقال (ع): يا أخا الانصار صُن وجهك عن بذل المساءلة، وارفع حاجتك في رقعة، فإ نّي آتٍ فيها ما سارّك إن شاء اللّه.

فكتب: يا أباعبداللّه، إنّ لفلان عليّ خمسمائة دينار، وقد ألحّ بي، فكلّمه ينظرني إلى ميسرة.

فلمّا

قرأ الحسين (ع) الرقعة دخل إلى منزله فاءخرج صرّة فيها ألف دينار،

وقال (ع) له: أمّا خمسمائة فاقض بها دينك، وأمّا خمسمائة فاستعن بها على دهرك، ولاترفع حاجتك إلّا إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دين أو مروّة أو حسب، فاءمّا ذو الدين فيصون دينه، وأمّا ذو المروّة فإ نّه يستحيي لمروّته، وأمّا ذو الحسب فيعلم أنّك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك). «1»

و (مرّ الحسين بن عليّ (ع) براعٍ، فاءهدى الراعي إليه شاة،

فقال له الحسين (ع): حرُّ أنت أم مملوك؟

فقال: مملوك.

فردّها الحسين (ع) عليه ..

فقال له المملوك: إنّها لي.

فقبلها منه، ثمّ اشتراه واشترى الغنم، فاءعتقه، وجعل الغنم له). «2»

و روي (أنّ الحسين (ع) كان جالسا في مسجد جدّه رسول اللّه (ص)، بعد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 282

وفاة أخيه الحسن (ع)، وكان عبداللّه بن الزبير جالسا في ناحية المسجد، وعتبة بن أبي سفيان في ناحية أخرى، فجاء أعرابيّ على ناقة فعقلها باب المسجد ودخل، فوقف على عتبة بن أبي سفيان فسلّم فردّ عليه السلام

فقال له الاعرابي: إنّي قتلت ابن عمٍّ لي، وطولبت بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئا؟

فرفع رأسه إلى غلامه وقال: إدفع إليه مائة درهم.

فقال الاعرابي: ما أريد إلّا الدية تماما!

ثمّ تركه وأتى عبداللّه بن الزبير، وقال له مثل ما قال لعتبة.

فقال عبداللّه لغلامه: إدفع إليه مائتي درهم.

فقال الاعرابيّ: ماأريد إلّا الدية تماما!

ثمّ تركه وأتى الحسين (ع)، فسلّم عليه

وقال: يا ابن رسول اللّه، إنّي قتلت ابن عمّ لي، وقد طولبت بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئا؟

فقال (ع) له: يا اعرابي، نحن قوم لانعطي المعروف إلّا على قدر المعرفة.

فقال: سل ما تريد.

فقال له الحسين (ع): يا أعرابيّ، ما النجاة

من الهلكة؟

قال: التوكّل على اللّه عزّ وجلّ.

فقال (ع): وما الهمّة؟

قال: الثقة باللّه.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 283

ثمّ ساءله الحسين (ع) غير ذلك وأجاب الاعرابيّ، فاءمر له الحسين (ع) بعشرة آلاف درهمٍ، وقال له: هذه لقضاء ديونك. وعشرة آلاف درهم أخرى، وقال:

هذه تلمّ بها شعثك وتحسّن بها حالك وتنفق منها على عيالك. فاءنشاء الاعرابيّ يقول:

طَرِبْت وما هاجَ لي مَعبقُ ولا لي مقام ولا مَعشقُ

ولكنْ طربتُ لا لِ الرسولِ فلذَّ لي الشعرُ والمنطقُ

هم الاكرمون، هم الانجبون نجومُ السماء بهم تُشرِقُ

سبقتَ الانام إلى المكرمات فقصّر عن سبقك السُّبَّقُ

بكم فتح اللّه باب الرشاد وباب الفساد بكم مغلق «1»

وفي رواية أنّه (وجد على ظهره (ع) يوم الطفّ أثر، فسئل زين العابدين (ع) عن ذلك، فقال: هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الارامل واليتامى والمساكين). «2»

وأمّا عنايته الخاصّة بالشيعة ورعايته لهم ...

فقد أولى الامام الحسين (ع) شاءن جميع أئمّة أهل البيت (ع) شيعته عناية فائقة ورعاية خاصّة، وحرص في ظرفه السياسي الاجتماعي الشديد الحسّاسيّة والخطورة على حفظهم من كلّ سوء، وعمل بما وسعه الامكان على إبقائهم بمناءى عن منال يد البطش الامويّ الهادف إلى محو الوجود الشيعي من خريطة المجتمع الاسلاميّ.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 284

ويمكن أن نلحظ بوضوح تامّ حرص الامام (ع) على حفظ الشيعة في وصاياه العامّة لهم بعد الصلح مع معاوية في حياة الامام الحسن (ع) وبعد شهادته، كمثل قوله (ع): (... فالصقوا بالا رض، وأخفوا الشخص، واكتموا الهوى، واحترسوا ...). «1» وكقوله (ع): (... فليكن كلّ رجل منكم حلسا من أحلاس د بيته ...)، «2» كما يمكن أن نلحظ ذلك في استقباله وفود الشيعة من أقطار البلاد الاسلاميّة وحرصه على إخفاء هذه اللقاءات عن عيون الرصد الامويّ، وكان

صلوات اللّه عليه يحرص على توعية وفود الشيعة ووجهائهم على حقائق مجريات الامور في إطار التزامه بالهدنة مع معاوية، ويبثّ فيهم من هدي أهل البيت (ع) ما يركّز الايمان والمعرفة في قلوبهم، ويقوّي ارتباطهم بإ مامهم، ويزيد من صبرهم على المكاره، ويعرّفهم منزلتهم عند اللّه تعالى.

روي أنّه: (وفد إلى الحسين صلوات اللّه عليه وفدٌ

فقالوا: يا ابن رسول اللّه، إنّ أصحابنا وفدوا إلى معاوية، ووفدنا نحن إليك.

فقال: إذن أجيزكم باءكثر ممّا يجيزهم.

فقالوا: جعلنا فداك، إنّما جئنا لديننا.

قال فطاءطاء رأسه ونكت في الارض، وأطرق طويلا، ثمّ رفع رأسه ...

فقال: قصيرة من طويلة، من أحبّنا لم يحبّنا لقرابة بيننا وبينه ولا لمعروفٍ أسديناه إليه، إنّما أحبّنا للّه ورسوله، جاء معنا يوم القيامة كهاتين وقرن بين سبّابتيه). «3»

وروي عنه (ع) أنّه قال: (واللّه، البلاء والفقر والقتل أسرع إلى من أحبّنا من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 285

ركض د البراذين، ومن السيل إلى صمره!). «1»

وعن حبّابة الوالبيّة قالت: (سمعت الحسين بن عليّ (ع) يقول: نحن وشيعتنا على الفطرة التي بعث اللّه عليها محمّدا (ص) وسائر الناس منها برأ). «2»

وكان صلوات اللّه عليه يحثّ أهل المعرفة والعلم من الشيعة ليكفلوا إخوانهم المحرومين من العلم، المنقطعين عن مواليهم، الذين هم يتامى آل محمّد (ص)، ويرشدوهم ويهدوهم ويخرجوهم من ظلمة الجهل.

وقد رويت عنه (ع) في ذلك نصوص كريمة منها: (فضل كافل يتيم آل محمّد المنقطع عن مواليه، الناشب في رتبة الجهل، يخرجه من جهله، ويوضّح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه، كفضل الشمس على السُّها). «3»

و (من كفل لنا يتيما قطعته عنّا محنتنا باستتارنا، فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتّى أرشده وهداه، قال اللّه عزّ وجلّ: يا أيّها العبد الكريم المواسي

لا خيه أنا أولى بالكرم منك، إجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كلّ حرف علّمه ألف ألف قصر، وضمّوا إليها ما يليق بها من سائر النعيم). «4»

وكان صلوات اللّه عليه يحنو على أفراد الشيعة حنوّا خاصّا يفوق حنوّ الوالد على ولده، وقد رويت عنه (ع) في ذ لك أخبار كثيرة، اخترنا منها نماذج على

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 286

سبيل المثال:

روي عن صالح بن ميثم أنّه قال: (دخلتُ أنا وعباية الاسدي على حبّابة الوالبيّة.

فقال لها: هذا ابن أخيك ميثم.

قالت: إبن أخي واللّه حقّا، ألا أحدّثكم بحديث عن الحسين بن عليّ (ع).

فقلت: بلى.

قالت: دخلتُ عليه وسلّمت فردّ السلام ورحّب.

ثمّ قال (ع): ما بطّاءَ بك عن زيارتنا والتسليم علينا يا حبّابة؟

قلت: ما بطّاءني إلّا علّة عرضت.

قال: وما هي؟

قالت: فكشفتُ خماري عن برص.

قالت: فوضع يده على البرص، ودعا فلم يزل يدعو حتّى رفع يده، وكشف اللّه ذلك البرص، ثمّ قال: يا حبّابة، إنّه ليس أحدٌ على ملّة إبراهيم في هذه الامّة غيرنا وغير شيعتنا، ومن سواهم منها برأ). «1»

وعن يحيى بن أمّ الطويل قال: (كنّا عند الحسين (ع) إذ دخل عليه شابّ يبكي.

فقال له الحسين (ع): ما يبكيك؟

قال: إنّ والدتي توفّيت في هذه الساعة ولم توص، ولها مالٌ، وكانت قد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 287

أمرتني ألّااءُحدثَ في اءمرها شيئا حتّى اءُعلمك خبرها.

فقال الحسين (ع): قوموا بنا حتّى نصير إلى هذه الحرّة.

فقمنا معه حتّى انتهينا إلى باب البيت الذي توفّيت فيه المرأة، وهي مسجّاة.

فاءشرف على البيت ودعا اللّه ليحييها حتّى توصي بما تحبُّ من وصيّتها، فاءحياها اللّه تعالى، فإ ذا المرأة جلست وهي تتشهّد، ثمّ نظرت الى الحسين (ع).

فقالت: أدخل البيت يا مولاي، ومرني باءمرك.

فدخل وجلس على مخدّة، ثمّ قال (ع) لها: وصّي،

يرحمك اللّه.

فقالت: يا ابن رسول اللّه، إنّ لي من المال كذا وكذا في مكان كذا وكذا، وقد جعلت ثلثه إليك لتضعه حيث شئت من أوليائك، والثلثان لابني هذا، إن علمت أنّه من مواليك وأوليائك، وإن كان مخالفا فخذه إليك، فلا حقّ للمخالفين في أموال المؤ منين.

ثمّ ساءلته أن يصلّي عليها وأن يتولّى أمرها، ثمّ صارت المرأة ميتة كما كانت). «1»

و (عن الحسن البصري قال: كان الحسين (ع) سيّدا زاهدا، ورعا، صالحا، ناصحا، حسن الخلق، فذهب ذات يومٍ مع أصحابه إلى بستان له، وكان في ذلك البستان غلام يقال له، صافي.

فلمّا قرب من البستان رأى الغلام يرفع الرغيف فيرمي بنصفه إلى الكلب وياءكل نصفه، فتعجّب الحسين (ع) من فعل الغلام، فلمّا فرغ من الاكل قال:

الحمد للّه ربّ العالمين، أللّهمّ اغفرلي ولسيّدي، وبارك له كما باركت على أبويه، يا أرحم الراحمين.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 288

فقام الحسين (ع) ونادى: يا صافي.

فقام الغلام فزعا وقال: يا سيّدي وسيّد المؤ منين إلى يوم القيامة، إنّي ما رأيتك فاعفُ عنّي.

فقال الحسين (ع): إجعلني في حلٍّ يا صافي، دخلت بستانك بغير إذنك!

فقال صافي: بفضلك وكرمك وسؤ ددك تقول هذا!

فقال الحسين (ع): إنّي رأيتك ترمي بنصف الرغيف إلى الكلب وتاءكل نصفه، فما معنى ذ لك؟

فقال الغلام: يا سيّدي، إنّ الكلب ينظر إليّ حين آكل، فإ نّي أستحيي منه لنظره إليّ، وهذا كلبك يحرس بستانك من الاعدأ، وأنا عبدك، وهذا كلبك، ناءكل من رزقك معا.

فبكى الحسين (ع) ثمّ قال: إنْ كان كذلك، فاءنت عتيق للّه.

ووهب له ألف دينار!

فقال الغلام: إن أعتقتني فإ نّي أريد القيام ببستانك.

فقال الحسين (ع): إنّ الكريم إذا تكلّم بكلامٍ ينبغي أن يصدّقه بالفعل، البستان أيضا وهبتُه لك، وإنّي لمّا دخلت البستان

قلت: إجعلني في حلٍّ فإ نّي قد دخلتُ بستانك بغير إذنك، كنت قد وهبتُ البستان بما فيه، غير أنّ هؤ لاء أصحابي، لا كلهم الثمار والرطب فاجعلهم أضيافك وأكرمهم لا جلي، أكرمك اللّه يوم القيامة، وبارك لك في حسن خلقك ورأيك.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 289

فقال الغلام: إن وهبت لي بستانك، فإ نّي قد سبلته لا صحابك). «1»

قاطعيّته) ع) في رفض الاقرار بولاية يزيد والبيعة له ..... ص : 289
مختصر قصّة البيعة ليزيد بولاية العهد ..... ص : 289

كان المغيرة بن شعبة وهو من رؤ وس جماعة النفعيّين في حركة النفاق، ومن دهاة العرب ومحترفي المكر والغدر، وممّن خدم معاوية طويلا قد بلغه أنّ معاوية يريد عزله عن ولاية الكوفة واستعمال سعيد بن العاص مكانه، فرأى أن يذهب إلى معاوية فيستعفي من منصبه عنده قبل صدور الامر بعزله، ليظهر للناس د بمظهر الكاره الولاية الزاهد فيها.

لكنّ تعلّقه الشديد حقيقة بمنصب الولاية دفعه إلى التفكير مليّا وهو في الطريق إلى الشام بحيلة تصرف معاوية عن عزله، فلم يرَ وهو الخبير بمعاوية من حيلة أفضل من إثارة أمنية معاوية الكبرى التي لم تساعده الظروف على التحرّك عمليّا لتحقيقها حتّى ذلك الوقت، وهي أمنيّته في عقد البيعة بالخلافة من بعده لابنه يزيد.

فقرّر المغيرة بن شعبة أن يعزف على أوتار هذه الامنيّة المكنونة في قلب معاوية، ويدعو إلى إثارتها وإظهارها، ويُبدي استعداده للخدمة من أجل تحقيقها، لعلّ معاوية ينصرف بذلك عن عزله فيبقيه واليا على الكوفة.

ورأى المغيرة أن يدخل أوّلًا على يزيد نفسه فيثير فيه خفّته إلى مثل هذا الامر، ليكون يزيد بعد ذلك مفتاح المدخل إلى قلب أبيه، (ومضى حتّى دخل على يزيد، وقال له: إنّه قد ذهب أعيان أصحاب النبىٍّ (ص)، وآله

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 290

وكبرأ قريش وذوو أسنانهم، وإنّما بقي أبناؤ هم، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا وأعلمهم بالسنّة

والسياسة!، ولاأدري ما يمنع اميرالموءمنين أن يعقد لك البيعة!؟

قال: اءَوَتَرى ذلك يتمُّ!؟

قال: نعم.

فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة، فاءحضر المغيرة ...

وقال له: ما يقول يزيد!؟

فقال: يا اميرالموءمنين، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف، فاعقد له فإ نْ حدث بك حادثٌ كان كهفا للناس، وخلفا منك، ولاتُسفَك دماء ولاتكون فتنة.

قال: ومن لي بهذا!؟

قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحدٌ يخالفك.

قال: فارجع إلى عملك وتحدَّث مع من تثق إليه في ذلك، وترى ونرى.

فودّعه ورجع إلى أصحابه، فقالوا: مه!؟

قال: لقد وضعتُ رِجل معاوية في غرزٍ بعيد الغاية على أمّة محمّد، وفتقت عليهم فتقا لايُرتق أبدا ...!!

وسار المغيرة حتّى قدم إلى الكوفة، وذاكَر من يثق إليه ومن يعلم أنّه شيعة لبني أميّة أمر يزيد، فاءجابوا إلى بيعته، فاءوفد منهم عشرة، ويقال أكثر من عشرة، وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 291

وقدموا على معاوية فزيّنوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها.

فقال معاوية: لاتعجلوا بإ ظهار هذا، وكونوا على رأيكم.

ثمّ قال لموسى: بكم اشترى أبوك من هؤ لاء دينهم!؟

قال: بثلاثين ألفا.

قال: لقد هان عليهم دينهم ... «1»

وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد، فاءرسل إلى زياد يستشيره، لكنّ زيادا كتب إلى معاوية يشير عليه بالتريث وعدم العجلة حتّى ياءتي الوقت المناسب.

وهناك رأيٌ يقول إنّ معاوية كان قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الامام الحسن (ع) وعرّض بها، ولكنّه لم يكشفها ولا عزم عليها إلّا بعد موت الحسن (ع). «2» ويؤ يّد ذلك الرواية التاءريخيّة التي تقول إنّ معاوية سافر إلى المدينة سنة خمسين قبيل وفاة الامام الحسن (ع)، في محاولة

لجسّ نبض المدينة في قضيّة فكرة البيعة ليزيد، وعقد فيها اجتماعا مغلقا مع عبداللّه بن جعفر، وعبداللّه بن عبّاس، وعبداللّه بن الزبير، وعبداللّه بن عمر وطرح عليهم نيّته في عقد البيعة ليزيد، لكنّ هذا الاجتماع المغلق باء بالفشل الذريع لا نّ هؤ لاء العبادلة عارضوا هذه الفكرة بشدّة. فسكت معاوية عن ذكر البيعة ليزيد إلى سنة إحدى وخمسين، أي إلى ما بعد وفاة الامام الحسن (ع). «3» وتقول بعض المصادر التاءريخيّة إنّ معاوية لم يلبث بعد وفاة الامام الحسن (ع) إلّا يسيرا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 292

حتّى بايع ليزيد في الشام، وكتب ببيعته إلى الافاق. «1» وقيل إنّه تريّث في ذلك حتّى مات زياد الذي لم يكن في الحقيقة يرجّح لمعاوية هذا التوجّه في عقد البيعة ليزيد. «2»

فلمّا مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد ... وكتب إلى مروان بن الحكم قائلا: (إنّي قد كبرتْ سنّي، ودقّ عظمي، وخشيت الاختلاف على الامّة بعدي!، وقد رأيت أن أتخيّر لهم من يقوم بعدي، وكرهتُ أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك، فاءعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردّون عليك).

فقام مروان في الناس فاءخبرهم به ...

فقال الناس: أصاب ووفّق، وقد أحببنا، أن يتخيّر لنا فلا ياءلو!!

فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فاءعاد إليه الجواب يذكر يزيد.

فقام مروان فيهم وقال: إنّ اميرالموءمنين قد اختار لكم فلم ياءل، وقد استخلف إبنه يزيد بعده ...). «3»

فقام إليه وجهاء المدينة فاءنكروا ذلك عليه وعلى معاوية، كالا مام الحسين (ع) وعبدالرحمن بن أبي بكر وابن الزبير وابن عمر.

وكان معاوية قد قام حينذاك بحملة إعلاميّة ودعائيّة كبيرة ليزيد، فقد كتب إلى عمّاله بتقريظ يزيد ووصفه بالا وصاف الحميدة التي تجعله في أعين الناس د أهلا للخلافة، كما

أمر عمّاله أن يوفدوا إليه الوفود من الامصار، ولم

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 293

يزل معاوية يعطي المقارب ويُداري المباعد ويلطف به حتّى استوثق له أكثر الناس وبايعوه على ذلك!!

وبقيت معضلة معاوية الكبرى في استعصاء المدينة بوجهائها، وتقول المصادر التاءريخيّة إنّ معاوية استشعر برودة موقف مروان وعدم اندفاعه في مشروع أخذ الناس بالبيعة ليزيد، فعزله وجعل محلّه سعيد بن العاص، الذي حاول أخذ الناس د في ذلك بالغلظة والشدّة، لكنّه لم يفلح في مسعاه، فكتب إلى معاوية قائلا: (أمّا بعد، فإ نّك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد بن اميرالموءمنين، وأن أكتب إليك بمن سارع ممّن أبطاء، وإنّي اءُخبرك اءنّ الناس عن ذلك بطاء لاسيّما أهل البيت من بني هاشم، فإ نّه لم يجيبني منهم أحد، وبلغني عنهم ما أكره، وأمّا الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الامر فعبداللّه بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلّا بالخيل والرجال، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك، والسلام). «1»

المواجهات الحادّة ..... ص : 293

فكتب معاوية إلى كلّ من الامام الحسين (ع) وعبداللّه بن عبّاس وعبداللّه بن جعفر وعبداللّه بن الزبير، وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ثمّ يبعث إليه بجواباتها، وأمره بالحزم والتصلّب مع الرفق وتجنّب الخرق، وكان ممّا أوصاه في التعامل مع الامام الحسين (ع) أن قال: (وانظر حسينا خاصّة، فلايناله منك مكروه، فإ نّ له قرابة وحقّا عظيما لاينكره مسلم ولا مسلمة، وهوليثٌ عرين، ولست آمنك إن شاورته أن لاتقوى عليه ...). «2»

وكان كتاب معاوية إلى الامام الحسين (ع): (أمّا بعدُ: فقد انتهت اليّ منك أ مور، لم أكن أظنّك بها رغبة عنها، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء لَمن أعطى بيعته من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 294

كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك اللّه بها،

فلا تنازع إلى قطيعتك، واتّق اللّه ولاتردّنّ هذه الامّة في فتنة، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمّد، ولايستخفّنّك الذين لايوقنون). «1»

أمّا الامام الحسين (ع) فقد ردّ على معاوية الردّ الاحتجاجي الشامل الذي تضمّن إدانته معاوية بقتل حجر بن عديّ وأصحابه العابدين، وبقتل الصحابي الجليل عمرو بن الحمق، وبقتل عبداللّه بن يحيى الحضرمي، وباستلحاقه زياد بن عبيد الرومي ثمّ تسليطه على الامّة يبطش بها، وذكّره مغبّة سوء العاقبة وزوال الدنيا، وأنّ للّه كتابا لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، وكانت الفقرة الختاميّة في هذا الردّ الشامل: (واعلم أنّ اللّه ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيّا يشرب الشراب ويلعب بالكلاب، ما أراك إلّا وقد أوبقت نفسك وأهلكت دينك وأضعت الرعية، والسلام). «2»

يقول ابن قتيبة: (وذكروا أنّه لمّا جاوب القوم معاوية بما جاوبوه من الخلاف لا مره والكراهيّة لبيعته ليزيد، كتب إلى سعيد بن العاص ياءمره أن ياءخذ أهل المدينة بالبيعة ليزيد أخذا بغلظة وشدّة، ولايدع أحدا من المهاجرين والانصار وأبناءهم حتّى يبايعوا، وأمره ألّا يحرّك هؤ لاء النفر ولايهيجهم. فلمّا قدم عليه كتاب معاوية أخذهم بالبيعة أعنف ما يكون من الاخذ وأغلظه فلم يبايعه أحدٌ منهم. فكتب إلى معاوية أنّه لم يبايعني أحد، وإنّما الناس تبع له ؤلاء النفر، فلو بايعوك بايع الناس جميعا ولم يتخلّف عنك أحد. فكتب إليه معاوية ياءمره ألّا يحرّكهم إلى أن يقدم، فقدم معاوية المدينة حاجّا، فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس د يتلقّونه ... حتّى إذا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 295

كان بالجرف لقيه الحسين بن علي وعبد اللّه بن عبّاس، فقال معاوية: مرحبا بابن بنت رسول اللّه، وابن صنو أبيه، ثمّ انحرف إلى الناس فقال: هذان شيخا بني عبد

مناف، وأقبل عليهما بوجهه وحديثه، فرحبّ وقرّب، وجعل يواجه هذا مرّة ويضاحك هذا أخرى حتّى ورد المدينة، فلمّا خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل فانصرفا عنه ...). «1»

ثمّ إنّه أرسل إلى الامام الحسين (ع)، وعبداللّه بن الزبير، وعبداللّه بن عمر، وعبدالرحمن بن أبي بكر، كلٍّ على انفراد، ودعاهم إلى قبول البيعة ليزيد، لكنّه لم يحصل منهم على ما يريد ...

وفي اليوم الثاني، جلس مجلسه، وأمر حاجبه أن لاياءذن لا حد من الناس وإن قرب، (ثمّ أرسل إلى الحسين بن علي وعبداللّه بن عبّاس، فسبق ابن عبّاس، فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليّا ...

حتّى أقبل الحسين بن عليّ (ع)، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه، فدخل الحسين وسلّم، فاءشار إليه فاءجلسه عن يمينه مكان الوسادة، فساءله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم، فاءخبره ثمّ سكت.

قال: ثمّ ابتدأ معاوية فقال: أمّا بعدُ، فالحمد للّه وليّ النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لاإله إلّا اللّه المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا، وأنّ محمّدا عبده المختصّ المبعوث إلى الجنّ والانس كافّة لينذرهم بقرآن لاياءتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد، فاءدّى عن اللّه وصدع باءمره وصبر عن الاذى في جنبه، حتّى أوضح دين اللّه وأعزّ أولياءه،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 296

وقمع المشركين وظهر أمر اللّه وهم كارهون، فمضى صلوات اللّه عليه وقد ترك من الدنيا ما بُذل له واختار منها الترك لما سخّر له زهادة واختيارا للّه واءَنفة واقتدارا على الصبر بغيا لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرسول (ص).

ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك، وبين ذلك خوض طال ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة

وسماعا، وما أعلم منه فوق ما تعلمان.

وقد كان من أمر يزيد ما سُبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم اللّه ما أحاول به من أمر الرعيّة، من سدّ الخلل ولمّ الصدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة وحظوة العلم وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنّة وقرأة القرآن والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب!!

وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سُنّة مذكورة، فقادهم الرجل باءمره، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئهم، وقال ولم يقل معه، وفي رسول اللّه (ص) أسوة حسنة.

فمهلا بني عبدالمطلّب، فإ نّا وأنتم شعبا نفعٍ وجدٍّ، وما زلت أرجو الانصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما، فَرِدّا على ذي رحم مُستَعتِبٍ ما يحمد به البصيرة في عتابكما، وأستغفر اللّه لي ولكما.

قال: فتيسّر ابن عبّاس للكلام، ونصب يده للمخاطبة.

فاءشار إليه الحسين فقال: على رسلك، فاءنا المراد ونصيبي في التهمة أوفر!

فاءمسك ابن عبّاس، فقام الحسين فحمد اللّه وصلّى على الرسول، ثمّ قال:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 297

(أمّا بعدُ يا معاوية فلن يؤ دّى القائل وإن أطنب في صفة الرسول (ص) من جميعٍ جزءا، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول اللّه من إيجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ البيعة.

وهيهات هيهات يا معاوية، فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السُّرُج، ولقد فضّلتَ حتّى أفرطتَ، واستاءثرتَ حتّى أجحفتَ، ومنعتَ حتّى بخلتَ، وجُرتَ حتّى جاوزتَ، ما بذلت لذي حقّ من اءَتمّ حقّه

بنصيب، حتّى أخذ الشيطان حظّه الاوفر ونصيبه الاكمل!!

وفهمت ما ذكرته عن يزيد، من اكتماله وسياسته لا مّة محمّد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كاءنّك تصف محجوبا، أو تنعت غائبا، أوتخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ.

وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المُهارشة عند التحارش، والحمام السُّبَّق لا ترابهنّ، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى اللّه بوزر هذا الخلق باءكثر ممّا أنت لاقيه، فواللّه ما برحت تقدح باطلا في جور، وحنقا في ظلم، حتّى ملا ت الاسقية، وما بينك وبين الموت إلّاغمضة، فتقدم على عملٍ محفوظٍ في يومٍ مشهودٍ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الامر، ومنعتنا عن آبائنا تراثا، ولقد لعمرُاللّه أورثنا الرسول (ص) ولادة، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول، فاءذعن للحجّة بذلك، وردّه الايمان إلى النصف، فركبتم الاعاليل وفعلتم الافاعيل، وقلتم كان ويكون، حتّى أتاك الامر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الابصار.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 298

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللّه (ص) وتاءميره له، وقد كان ذ لك ولعمرو بن العاص يومئذٍ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له وما صار لعمرو يومئذٍ حتّى اءَنِفَ القوم اءمرته وكرهوا تقديمه وعدوّا عليه اءفعاله، فقال (ص): لا جرم معشر المهاجرين لايعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف يُحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الاحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب!؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا، وحولك من لايؤ مَن في صحبته ولايعتمد في دينه وقرابته، وتتخطاهم إلى مسرفٍ مفتون، تريد أن تلبس الناس د شبهة يُسعد بها الباقي

في دنياه وتشقى بها في آخرتك، إنّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر اللّه لي ولكم.

قال: فنظر معاوية إلى ابن عبّاس، فقال: ما هذا يا ابن عبّاس!؟ ولما عندك أدهى وأمرُّ.

فقال ابن عبّاس: لعمراللّه، إنّها لذرّيّة الرسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطّهر، فَالْهَ عمّا تريد، فإ نّ لك في الناس مقنعا حتّى يحكم اللّه باءمره، وهو خير الحاكمين ...) «1»

وكان قد أرسل بعدهما إلى عبدالرحمن بن أبي بكر وعبداللّه بن الزبير وعبداللّه بن عمر، وطلب إليهم أن يبايعوا يزيد، وادعّى أنّها قضاء من قضاء اللّه الذي ليس د للعباد الخيرة فيه!، فردّ عليه عبدالرحمن بن أبي بكر بشدّة رافضا ذلك، وكذلك فعل ابن الزبير، ومع أن ابن عمر كان ليّنا في ردّه لقوله: (... ولكنّي إن استقام الناس د فساءدخل في صالح ما تدخل فيه أمّة محمّد) «2» لكنّ اجتماع معاوية بهؤ لاء الثلاثة قد انفضّ أيضا دون أيّة نتيجة يرجوها معاوية.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 299

ثمّ إنّه (احتجب عن الناس ثلاثة أيّام لايخرج، ثمّ خرج فاءمر المنادي أن ينادي في الناس أن يجتمعوا لا مرٍ جامعٍ، فاجتمع الناس في المسجد، وقعد هؤ لاء حول المنبر. فحمداللّه وأثنى عليه، ثمّ ذكر يزيد وفضله وقرأته القرآن، ثمّ قال: يا أهل المدينة، لقد هممتُ ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها ببيعته فبايع الناس جميعا وسلّموا، وأخّرت المدينة بيعته، وقلتُ بيضته وأصله ومن لاأخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله، وواللّه لو علمتُ مكان أحدٍ هو خيرٌ للمسلمين من يزيد لبايعت له!

فقام الحسين فقال: واللّه لقد تركت من هو خير منه أبا وأمّا ونفسا!

فقال معاوية: كاءنّك تريد نفسك؟

فقال الحسين: نعم، أصلحك

اللّه.

فقال معاوية: إذن أخبرك، أمّا قولك خيرٌ منه أمّا، فلعمري أمّك خير من أمّه، ولولم يكن إلّا أنّها امرأة من قريشٍ لكان لنساء قريش فضلهنّ، فكيف وهي ابنة رسول اللّه صلّى عليه وسلّم، ثمّ فاطمة في دينها وسابقتها، فاءمّك لعمرُ اللّه خير من أمّه، وأمّا أبوك فقد حاكم أباه إلى اللّه فقضى لا بيه على أبيك!

فقال الحسين: حسبك جهلك، آثرت العاجل على الاجل!

فقال معاوية: وأمّا ما ذكرت من أنّك خير من يزيد نفسا فيزيد واللّه خير لا مّة محمّد منك!!

فقال الحسين: هذا هو الافك والزور، يزيد شارب الخمر، ومشتري اللهو خير منّي!؟ «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 300

وفي رواية أخرى ...

(فقال الحسين (ع): من خيرٌ لا مّة محمّد، يزيد الخمور والفجور!؟

فقال معاوية: مهلا أباعبداللّه، فإ نّك لوذكرت عنده لما ذكر منك إلّا حسنا.

فقال الحسين (ع): إن علم منّي ما أعلمه منه أنا فليقل فيَّ ما أقول فيه.

فقال له معاوية: أبا عبداللّه، إنصرف إلى أهلك راشدا، واتّق اللّه في نفسك، واحذر أهل الشام أن يسمعوا منك ما قد سمعته، فإ نّهم أعداؤ ك وأعدأ أبيك.

قال: فانصرف الحسين (ع) إلى منزله). «1»

وقدروى ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح هذه القصّة بنحو آخر: (أنّه لما كان من الغد خرج معاوية وأقبل حتّى دخل المسجد، ثمّ صعد المنبر فجلس عليه، ونودي له في الناس فاجتمعوا إليه، وأقبل الحسين بن علي (ع)، وابن أبي بكر، وابن عمر، وابن الزبير، حتّى جلسوا إلى المنبر ومعاوية جالس، حتّى علم أنّ الناس قد اجتمعوا وثب قائما على قدميه، فحمد اللّه وأثنى عليه.

ثمّ قال: أيّها الناس، إنّا قد وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، وإنّهم قد زعموا أنّ الحسين بن علي، وعبدالرحمن بن أبي بكر، وعبداللّه بن

عمر، وعبداللّه بن الزبير لم يبايعو يزيد، وهؤ لاء الرهط الاربعة هم عندي سادة المسلمين وخيارهم، وقد دعوتهم إلى البيعة فوجدتهم إذا سامعين مطيعين، وقد سلّموا وبايعوا وسمعوا وأجابوا وأطاعوا!

قال: فضرب أهل الشام باءيديهم إلى سيوفهم فسلّوها، ثمّ قالوا:

يا اميرالموءمنين، ما هذا الذي تُعظمه من أمر هؤ لاء الاربعة!؟ إئذن لنا أن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 301

نضرب أعناقهم، فإ نّا لانرضى أن يبايعوا سرّا ولكن يبايعوا جهرا حتّى يسمع الناس أجمعون.

فقال معاوية: سبحان اللّه، ما أسرع الناس بالشرّ، وما أحلى بقائهم عندهم، إتّقوا اللّه يا أهل الشام ولاتسرعوا إلى الفتنة، فإ نّ القتل له مطالبة وقصاص.

قال: فبقي الحسين بن علي (ع)، وابن أبي بكر، وابن عمر، وابن الزبير، حيارى لايدرون ما يقولون، يخافون إن يقولوا: لم نبايع، الموت الاحمر تجاه أعينهم في سيوف أهل الشام أو وقوع فتنة عظيمة، فسكتوا ولم يقولوا شيئا، ونزل معاوية عن المنبر، وتفرّق الناس وهم يظنّون أنّ ه ؤلاء الاربعة قد بايعوا.

قال: وقُرّبت رواحل معاوية فمضى في رفاقه وأصحابه إلى الشام.

قال: وأقبل أهل مكّة إلى هؤ لاء الاربعة فقالوا لهم: يا هؤ لاء، إنّكم قد دعيتم إلى بيعة يزيد فلم تبايعوا وأبيتم ذ لك، ثمّ دعيتم فرضيتم وبايعتم!!

فقال الحسين (ع): لا واللّه ما بايعنا، ولكنّ معاوية خدعنا وكادنا ببعض ما كادكم به، ثمّ صعد المنبر وتكلّم بكلام، وخشينا إن رددنا مقالته عليه أن تعود الفتنة جذعا، ولاندري إلى ماذا يؤ ول أمرنا، فه ذه قصّتنا معه). «1»

روايات مكذوبة على سيرة الامام الحسين (ع) ..... ص : 301
اشارة

في التراث الروائي الاسلامي هناك الكثير من الروايات المفتريات، وفيما يتعلّق بتاءريخ حياة أهل بيت العصمة (ص) نصيب غير قليل من هذه الروايات المكذوبة.

ولم ينجُ تأريخ حياة سيّد الشهدأ (ع) من أن تعلق به مجموعة

من هذه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 302

الروايات المفتريات.

والمؤ سف أنّ بعض الذين كتبوا في حياة الامام الحسين (ع) تلقّوا هذه الروايات المكذوبة تلقّي المسلّمات، وتناولوها بالشرح والتعليق، واستلهموا عظات موهومة منها، «1» ونذكر هنا من هذه الروايات المكذوبة أهمّ ما اعترضنا في متابعاتنا أثناء تحضيرنا لهذا البحث:

الرواية الاولى: ..... ص : 302

يقول ابن عساكر في مطلع ترجمته للا مام الحسين (ع):

(ووفد على معاوية، وتوجّه غازيا إلى القسطنطينيّة في الجيش الذي كان أميره يزيد بن معاوية). «2»

لاشك أنّ من له أدنى معرفة بشخصيّة الامام الحسين (ع) وحكمته وإبائه ومعرفته بزمانه وأهل زمانه ومنهم معاوية ويزيد خاصّة، لايحتاج في تفنيد هذه الرواية المكذوبة إلى تحقيق في سند ومناقشة في متن.

ومع هذا فإ نّنا نقول هنا: إنّ ابن عساكر تفرّد بهذا الادّعاء المُرسَل، ولم ياءتِ له حتّى بشاهدٍ واحدٍ، ولو بخبرٍ ضعيفٍ!

وقصّة غزوة القسطنطينية ذكرها ابن الاثير في (الكامل في التاءريخ) في أحداث سنة تسع وأربعين ه كذا: (في هذه السنّة، وقيل: سنة خمسين، سيَّرَ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 303

معاوية جيشا كثيفا إلى بلاد الروم للغزاة، وجعل عليهم سفيان بن عوف، وأمر ابنه يزيد بالغزاة معهم، فتثاقل واعتلَّ، فاءمسك عنه أبوه، فاءصاب الناس في غزاتهم جوع ومرض د شديد، فاءنشاء يزيد يقول:

ما إن أبالي بما لاقت جموعهم بالفرقدونة من حُمّى ومن مومِ

إذا اتكاءتُ على الانماط مرتفقا بدَيْرِ مُرّانَ عندي أمُّ كلثومِ

وأمّكلثوم امرأته، وهي بنت عبداللّه بن عامر.

فبلغ معاوية شعره فاءقسم عليه ليلحقنّ بسفيان في أرض الروم، ليصيبه ما أصاب الناس، فسار معه جمع كثير أضافهم إليه أبوه، وكان في هذا الجيش ابن عبّاس د وابن عمر وأبوأيّوب الانصاري وغيرهم، وعبدالعزيز بن زرارة الكلابي ... ثمّ رجع يزيد والجيش إلى الشام، وقد توفّي أبوأيّوب الانصاري عند القسطنطينيّة

فدفن بالقرب من سورها ...). «1»

فالمتيقّن من نصّ ابن الاثير إذن: هو أنّ يزيد لم يكن قائد هذا الجيش وأميره، وأنّ الامام الحسين (ع) لم يكن في من حضر هذه الغزوة!

ويؤ كّد الطبري في تاءريخه عدم حضور الامام الحسين (ع) في هذه الغزوة، وإن ادّعى أنّ أميرها يزيد، قائلا: (وفيها: كانت غزوة يزيد بن معاوية الروم، حتّى بلغ القسطنطينيّة، ومعه ابن عبّاس وابن عمر وابن الزبير وأبوأيّوب الانصاري). «2»

أمّا اليعقوبي فيقول: (وأغزى معاوية يزيد ابنه الصائفة ومعه سفيان بن عوف الغامدي فسبقه سفيان بالدخول إلى بلاد الروم، فنال المسلمين في

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 304

بلاد الروم حمّى وجدري، وكانت أمّ كلثوم بنت عبداللّه بن عامر تحت يزيد بن معاوية، وكان لها محبّا ...) «1»

وأقوى الادلّة على عدم حضور الامام الحسين (ع) هذه الغزوة التي لم يكن يزيد أميرها أيضا، هو أنّ الفضل بن شاذان (ره) سئل عن أبي أيّوب الانصاري (خالد بن زيد) وقتاله مع معاوية المشركين، فقال (ره): (كان ذلك منه قلّة فقه وغفلة، ظنّ أنّه إنّما يعمل عملا لنفسه يقوّي به الاسلام ويوهي به الشرك، وليس عليه من معاوية شي كان معه أو لم يكن). «2» وهذا التصريح الصادر عن الفضل بن شاذان، وهو من أصحاب الائمة: الجواد والهادي والعسكري (ع)، وقيل إنّه من أصحاب الامام الرضا (ع) أيضا، وهو من أجلّ فقهاء الشيعة ومتكلّميهم في عصره، هذا التصريح كاشف عن عدم حضور الامام الحسين (ع) في هذه الغزوة، وذلك لا نّ الفضل لم يكن ليعيب على أبي أيّوب إشتراكه فيها مع علمه باشتراك الامام (ع) فيها.

ولايقال إنّ هناك احتمالا في أنّ الفضل بن شاذان علم باشتراك أبي أيّوب ولم يعلم باشتراك الامام (ع)، ذلك

لا نّ منزلة الفضل العلميّة تمنع من ذلك، خصوصا وهو من أصحاب مجموعة من أئمة الحقّ (ع)، ثمّ إنّه لايُتصوّر أنّ حضور أبي أيّوب الانصاري في واقعةٍ ما أشهر وأظهر من حضور الامام الحسين (ع) فيها بطبيعة الحال!!

هذا ولو أنّ الامام (ع) كان قد اشترك فعلا في هذه الغزوة، لصار ذلك الحدث من أشهر مسلّمات التاءريخ، لا نّ الاعلام الامويّ خاصّة في عهد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 305

معاوية كان سيستثمر هذا الحدث أوسع الاستثمار في التبليغ والدعاية لصالح النظام الامويّ في كلّ أنحاء البلاد الاسلاميّة، الامر الذي يجعل من قضيّة اشتراك الامام في هذه الغزوة أشهر من أن تخفى على أحد، وأمنع من أن يرقى إليها شكّ!

من كلّ ما مضى يكون المتيقّن في قصّة هذه الغزوة أمران هما: عدم اشتراك الامام الحسين (ع) فيها، وثبوت اشتراك أبي أيّوب الانصاري (ره) فيها.

الرواية الثانية ..... ص : 305

قال ابن عساكر أيضا: أخبرنا أبومحمّد طاهر بن سهل بن بشر، أخبرنا أ بوالحسن عليّ بن الحسن ابن صصرى إجازة، أخبرنا أبومنصور طاهر بن العبّاس بن منصور المروزي العماري بمكّة، أخبرنا أبوالقاسم عبيداللّه بن محمّد بن أحمد بن جعفر السقطي بمكّة، أخبرنا إسحق بن محمّد بن إسحق السوسي، أخبرنا أبوعمر الزاهد:

أخبرنا عليّ بن محمّد بن الصائغ، حدّثني أبي: قال:

رأيت الحسين بن عليّ بن أبي طالب بعينيّ وإلّا فعميتا، وسمعته باءذنيّ وإلّا فصمتا، وفد على معاوية بن أبي سفيان زائرا فاءتاه في يوم جمعة وهو قائم على المنبر خطيبا

فقال له رجل من القوم: يا اميرالموءمنين إئذن للحسين بن عليّ يصعد المنبر.

فقال معاوية: ويلك، دعني أفتخر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: ساءلتك باللّه يا أباعبداللّه، أليس أنا ابن بطحاء مكّة؟

فقال الحسين (ع): إي والذي بعث جدّي بالحقّ بشيرا!

ثمّ

قال: ساءلتك باللّه يا أباعبداللّه، أليس أنا خال المؤ منين؟

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 306

فقال: إي والذي بعث جدّي نبيّا!

ثمّ قال: ساءلتك باللّه يا أباعبداللّه، أليس أنا كاتب الوحي؟

فقال: إي والذي بعث جدّي نذيرا!

ثمّ نزل معاوية، فصعد الحسين بن عليّ، فحمد اللّه عزّ وجلّ بمحامد لم يحمده الاوّلون والاخرون، ثمّ قال: حدّثني أبي، عن جدّي، عن جبرئيل (ع)، عن ربّه عزّ وجلّ: أنّ تحت قائمة كرسيّ العرش ورقة آسٍ خضرأ مكتوب عليها: لاإله إلّااللّه، محمّد رسول اللّه، يا شيعة آل محمّد، لاياءتي أحد منكم يوم القيامة يقول لاإله إلّااللّه إلّا أدخله اللّه الجنّة.

قال: فقال معاوية بن أبي سفيان: ساءلتك باللّه يا أباعبداللّه، من شيعة آل محمّد؟

فقال: الذين لايشتمون الشيخين أبابكر وعمر، ولايشتمون عثمان، ولايشتمون أبى، ولايشتمونك يا معاوية!

ثمّ قال ابن عساكر: هذا حديث مُنكَر، ولا أرى إسناده متّصلا إلى الحسين، واللّه أعلم). «1»

إضافة إلى هذا، فإ نّ عليّ بن محمّد الصائغ الراوي عن أبيه في سند هذه الرواية ممّن ضعفهم الخطيب أبوبكر على ما في (ميزان الاعتدال، 3: 153 رقم 5924 (وكذلك في (لسان الميزان، 4: 254 رقم 691 (.

وفي السند أيضا من هو مجهول مثل المروزي العماري (لا ترجمة له في كتب الرجال المعروفة).

فالرواية لايُعبَاء بها سندا ... أما متنها فيغني عن متابعة سندها لما فيه من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 307

افترأ واضح على الامام (ع)، حتّى أنكره ابن عساكر نفسه الذي قد يغفل عن روايات منكرة كثيرة أو قد يغضّ الطرف عنها!

نعم، في متن هذه الرواية نصّ تؤ يّده وتسنده روايات أخرى عندنا، وهو:

(لاإله إلّااللّه، محمّدا رسول اللّه، يا شيعة آل محمّد، لاياءتي أحدٌ منكم يوم القيامة يقول لاإله إلّااللّه إلّا أدخله اللّه الجنّة).

غير أنّ صاحب الافترأ في هذه

الرواية نسج حول هذا النصّ الادعاءات الاخرى الكاذبة! المنافية للماءثور عن نهج وسيرة أبي عبداللّه (ع).

إنّ سيرة الامام الحسين (ع) شاهدة على أنّه ما خطب في محفل عام إلّا ونشر من فضائل أهل البيت (ع) وفضل شيعتهم ما تشرأبّ له الاعناق وتهفو له الارواح، وكشف عن نقائص ومثالب أعدائهم من بني أميّة وغيرهم ما تشمئزّ منه النفوس.

والعارف بمنسوجات الاعلام الامويّ ومفتعلاته من الروايات التي تصبّ في مجرى تنظيف سمعة معاوية وعثمان وبعض الصحابة ممّن ليس لهم منقبة تُذكر في حياة النبىٍّ (ص) يعلم من نسق المتن أنّ هذه الرواية من تلك المفتعلات المكذوبة والمنسوجات الموهومة.

الرواية الثالثة ..... ص : 307

(وقال عمر بن سُبينة: حجّ يزيد في حياة أبيه، فلمّا بلغ المدينة جلس على شراب له، فاستاءذن عليه ابن عبّاس والحسين فقيل له: إنّ ابن عبّاس إن وجد ريح الشراب عرفه، فحجبه وأذن للحسين، فلمّا دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب.

فقال: للّه درُّ طيبك ما أطيبه! فما هذا؟

قال: هوطيب يصنع بالشام.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 308

ثمّ دعا بقدح فشربه، ثمّ دعا ب آخر، فقال: إسق أباعبداللّه.

فقال له الحسين: عليك شرابك أيّها المرء لا عين عليك منّي!

فقال يزيد:

ألا يا صاح للعجب دعوتك ثمّ لم تجب

إلى الفتيات والشهوات والصهباء والطرب

وباطية مكلّلة عليها سادة العرب

وفيهنّ التي تبلت فؤ ادك ثمّ لم تتب

فنهض الحسين وقال: بل فؤ ادك يا ابن معاوية تبلت). «1»

إنّ عمر بن سُبينة أو (عمر بن سبيئة: كما في الكامل في التاءريخ: 317: 3 (إدارة الطباعة المنيريّة مصر الطبعة الاولى) أو عمر بن سمينة على إحتمال ثالث، ليس د له ترجمة في كتب الرجال المعروفة. أمّا احتمال كونه عمر بن سفينة فقد قال فيه الذهبي في ميزان الاعتدال: (لايُعرف ... وقال البخاري إسناده مجهول)

«2» وعلى احتمال كونه عمر بن شيبة؛ فقد قال فيه الذهبي أيضا في ميزان الاعتدال: (مجهول). «3»

أمّا من جهة محتواها فهو أيضا يغنينا في تكذيبها عن متابعة نوع سندها، ذلك لا نّه على فرض أنّ يزيد قد ذهب للحجّ فعلا، فقد ذهب في السنين الاواخر من عمر أبيه معاوية، والاقوى أن أباه دفعه إلى الحجّ بعد أو أثناء محاولاته لا خذ البيعة له بولاية العهد من بعده، لتشيع عنه مقالة الايمان والصلاح

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 309

والتقوى خدعة، ودلائل هذه الحقيقة عديدة منها أنّ معاوية لما أراد أن ياءخذ البيعة ليزيد من الناس، طلب من زياد أن ياءخذ بيعة المسلمين في البصرة، فكان جواب زياد له: (فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبّغ ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبداللّه بن عبّاس، وعبداللّه بن الزبير، وعبداللّه بن عمر!؟

ولكن تاءمره ويتخلّق باءخلاق هؤ لاء حولا أو حولين، فعسانا أن نُمَوِّه على الناس!!). «1»

وهذا دليل على أنّ خدعة التخلّق بمظاهر التديّن في حياة يزيد إنّما كانت تمهيدا لا خذ البيعة له بولاية العهد، وما كان هذا إلّا بعد وفاة الامام الحسن (ع)، أي في العقد الاخير من حياة معاوية.

وقد نصّ اليعقوبي في تاءريخه أنّ يزيد وليَ الحجّ سنة إحدى وخمسين للهجرة، «2» وكذلك قال ابن الاثير في تاءريخه، «3» وكذلك قال الطبري في تاءريخه. «4»

وفي تلك الايّام، كان فسق وفجور يزيد أظهر من أن يخفى على أكثر الناس بدليل نفس نصّ جواب زياد لمعاوية! فكيف يخفى ذلك على الحسين (ع)!؟

في تلك الايّام خاطب الامام الحسين (ع) معاوية بصدد يزيد قائلا:

(وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لا مّة

محمّد، تريد أن توهم الناس في يزيد كاءنّك تصف محجوبا أو تنعت غائبا أو تخبر عمّا كان

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 310

ممّا احتويته بعلم خاصّ! وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عندالتحارش، والحمام السُّبَّق لا ترابهنّ، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرا ودع عنك ما تحاول ...). «1»

وفي تلك الايّام قال (ع) لمعاوية أيضا:

(... هذا هو الافك والزور، يزيد شارب الخمر مشتري اللهو خير منّي ...!؟). «2»

إذا كان هذا، فكيف نصدّق أنّ الامام الحسين (ع) يستاءذن للدّخول على يزيد في المدينة، وهو على هذه المعرفة التامّة بفسق يزيد وفجوره!؟

أليس في دخوله عليه ومجالسته معنى التاءييد والدعم له!؟ وكيف يوافق هذا معارضة الامام (ع) الشديدة والصريحة لمعاوية في مساءلة البيعة ليزيد!؟ إنّ هذا ما لايفعله مؤ من عاديّ يدرك الاثر السياسي والاجتماعي لمثل هذا الفعل، فما بالك بالا مام الحسين (ع)!؟ وهو يعلم أنّ في كلّ حركة أو سكنة منه إشارة ذات معنى للا مّة.

ثمّ كيف يجسر يزيد على مثل هذا التصرّف بمحضر الامام (ع) على فرض أنّهما اجتمعا فعلا خصوصا وأن سفر يزيد إلى مكّة والمدينة كان لا ظهار تديّنه وصلاحه وإظهار لياقته للخلافة!؟

لقد علّق المؤ رّخ المصري الشيخ عبدالوهّاب النجّار في حاشية (الكامل في التاءريخ) على هذه الرواية قائلا:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 311

(أعتقد أنّ هذه الابيات مصنوعة منحولة، فلم يكن يزيد من البلاهة بحيث يعرض د ذلك على الحسين ويوجد عليه مقالا، وإذا نظرنا من جهة أخرى إلى أنّ معاوية إنّما ولّى ابنه الحجّ لتشيع عنه قالة الخير، ويوصف بالدين والتقوى، فلانشك في أنّ يزيد كان في حجّه يتسمّت ويظهر التمسّك بالدين وهذا ينافي هذه

الرواية. وقد أحسن ابن جرير (الطبري) كلّ الاحسان في إهمالها ولعلّها اخترعت بعد زمانه!). «1»

الرواية الرابعة ..... ص : 311

(وأخبرنا محمّد بن أبي الازهر قال: حدّثنا الزبير قال: حدّثنا أبوزيد عمر بن شبّة قال: حدّثنا سعيد بن عامر الضبعي، عن جويريّة بن أسماء قال:

لمّا أراد معاوية البيعة ليزيد ولده كتب إلى مروان وهو عامله على المدينة، فقرأ كتابه وقال: إنّ اميرالموءمنين قد كبر سنّه ودقَّ عظمه، وقد خاف أن ياءتيه أمر اللّه تعالى فيدع الناس كالغنم لا راعي لها، وقد أحبّ أن يُعلِمَ عَلَما ويقيمَ إماما!

فقالوا: وفّق اللّه اميرالموءمنين وسدّده، ليفعل!

فكتب بذلك إلى معاوية، فكتب إليه: أن سمِّ يزيد!

قال: فقرأ الكتاب عليهم وسمّى يزيد، فقام عبدالرحمن بن أبي بكر (ر).

فقال: كذبت واللّه يا مروان وكذب معاوية معك! لايكون ذلك! لاتُحدِثوا علينا سنّة الروم! كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل!

فقال مروان: إنّ هذا الذي قال لوالديه: اءُفٍّ لكما اءتعدانني اءن اءُخرج. قال:

فسمعت ذلك عائشة (رض) فقالت: ألا بن الصديق يقول هذا!؟ استروني.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 312

فستروها، فقالت: كذبت واللّه يا مروان، إنّ ذلك لرجلٌ معروف نسبه.

قال: فكتب بذلك مروان إلى معاوية، فاءقبل، فلمّا دنا من المدينة استقبله أهلها، فيهم عبداللّه بن عمر وعبداللّه بن الزبير والحسين بن علي وعبدالرحمن بن أبي بكر رضوان اللّه عليهم أجمعين.

فاءقبل على عبدالرحمن بن أبي بكر فسبّه فقال: لا مرحبا بك ولا أهلا!

فلمّا دخل الحسين (ع) قال: لا مرحبا بك ولا أهلا، بَدَنَةٌ يترقرق دمها واللّه مهريقه!

فلمّا دخل ابن الزبير قال: لا مرحبا بك ولا أهلا، ضبُّ تلعة مدخلٌ رأسه تحت ذنبه!

فلمّا دخل عبداللّه بن عمر قال: لا مرحبا بك ولا أهلا وسبّه.

فقال: إنّي لست باءهل لهذه المقالة.

قال: بلى، ولما هو شرّ منها!

قال: فدخل معاوية المدينة

وأقام بها، وخرج هؤ لاء الرهط معتمرين، فلمّا كان وقت الحجّ خرج معاوية حاجّا.

فاءقبل بعضهم على بعض فقالوا: لعلّه قد ندم!

فاءقبلوا يستقبلونه. قال: فلمّا دخل ابن عمر قال: مرحبا بك وأهلا بابن الفاروق، هاتوا لا بي عبدالرحمن دابّة! وقال لابن أبي بكر: مرحبا بابن الصدّيق، هاتوا له دابّة! وقال لابن الزبير: مرحبا بابن حواريّ رسول اللّه، هاتوا له دابّة! وقال للحسين: مرحبا بابن رسول اللّه، هاتوا له دابّة!

وجعلت ألطافُه تدخل عليهم ظاهرة يراها الناس، ويُحسن إذنهم وشفاعتهم.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 313

قال: ثمّ أرسل إليهم!

فقال بعضهم لبعض: من يكلّمه؟

فاءقبلوا على الحسين فاءبى!

فقالوا لابن الزبير: هات، فاءنت صاحبنا.

قال: على أن تعطوني عهد اللّه ألّا أقول شيئا إلّا تابعتموني عليه!

قال: فاءخذ عهودهم رجلا رجلا، ورضي من ابن عمر بدون ما رضي به من صاحبيه.

قال: فدخلوا عليه، فدعاهم إلى بيعة يزيد، فسكتوا!

فقال: أجيبوني. فسكتوا!

فقال: أجيبوني. فسكتوا!

فقال لابن الزبير: هات، فاءنت صاحبهم!

قال: إخترْ منّا خصلة من ثلاث!

قال: إنّ في ثلاث لمخرجا.

قال: إمّا أن تفعل كما فعل رسول اللّه (ص).

قال: ماذا فعل؟

قال: لم يستخلف أحدا!

قال: وماذا؟

قال: أو تفعل كما فعل أبوبكر.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 314

قال: فعل ماذا؟

قال: نظر إلى رجل من عرض قريش فولّاه!

قال: وماذا؟

قال: أو تفعل كما فعل عمر بن الخطّاب.

قال: فعل ماذا!؟

قال: جعلها شورى في ستّة من قريش!

قال: ألاتسمعون!؟ إنّي قد عوّدتكم على نفسي عادة، وإنّي أكره أن أمنعكموها قبل أن أبيّن لكم، إن كنت لاأزال أتكلّم بالكلام فتعترضون عليّ فيه، وتردّون عليّ، وإنّى قائم فقائل مقالة، فإ يّاكم أن تعترضوا حتّى أتمّها، فإن صدقت فعليَّ صدقي، وإن كذبتُ فعليَّ كذبي، واللّه لاينطق أحدٌ منكم في مقالتي إلّا ضربتُ عنقه!

ثمّ وكّل بكلّ رجل من القوم رجلين يحفظانه لئلّا يتكلّم ...

وقام خطيبا

فقال: إنّ عبداللّه بن عمر وعبداللّه بن الزبير والحسين بن علي وعبدالرحمن بن أبي بكر قد بايعوا، فبايعوا.

فانجفل الناس عليه يبايعونه، حتّى إذا فرغ من البيعة ركب نجائبه فرمى إلى الشام وتركهم. فاءقبل الناس على الرهط يلومونهم!

فقالوا: واللّه ما بايعنا، ولكن فعل بنا وفعل). «1»

ورواها ابن الاثير مرسلة بتفاوت في كتابه الكامل في التاءريخ، «2» وفيها:

أنّ معاوية قال لابن الزبير أخيرا: هل عندك غير هذا!؟

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 315

قال: لا.

ثمّ قال: فاءنتم!؟

قالوا: قولنا قوله!

كما رواها ابن قتيبة مرسلة بتفاوت أيضا في الامامة والسياسة. «1»

ويكفي في مناقشة سندها أن نقول إنّ الراوي الذي ينتهي إليه سند هذه الرواية هو جويريّة بن أسماء الذي قال فيه الامام جعفر بن محمّد الصادق (ع): (وأمّا جويريّة فزنديق لايفلح أبدا). «2»

وأمّا أوّل رجل في سندها، وهو محمّد بن أبي الازهر فقد قال الذهبي في ترجمته: (يروي عن الزبير بن بكّار، فيه ضعف وقد تُرك، واتُّهم وقيل بل هو متّهم بالكذب. قال الخطيب: قد وضع أحاديث). «3»

فالرواية ساقطة سندا.

أمّا متنها فقد احتوى على ما تاءباه ساحة الحسين (ع) المقدّسة وتتنزّه عنه، من قبيل سكوته وهو صاحب شعار (هيهات منّا الذلّة) على الاهانة التي وجّهها إليه معاوية عندما لقيه على مشارف المدينة حيث قال له بزعم هذه الرواية:

(لا مرحبا بك ولا أهلا، بدنة يترقرق دمها واللّه مهريقه!).

ومن قبيل تفويض الامر لابن الزبير ليكون ناطقا باسم كبّار المعارضين، والامام الحسين (ع) يعلم من هو ابن الزبير وما هي دوافعه للمعارضة! ويعلم انحراف عقيدته! ويعلم رأيه في أهل البيت (ع) وفي قضيّة الخلافة بالذات التي

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 316

هي أساس المحاجّة مع معاوية!!

فكيف يمكن للا مام (ع) أن يُمضي قول ابن الزبير وادّعاءه أنّ رسول اللّه

(ص) قبض ولم يستخلف أحدا!؟

أليس إمضاء هذا القول إقرارا بالمغالطة الكبرى التي اءُغتُصبت بها الخلافة، وتنازلا عن مبدأ القول بالنصّ على خلافة عليّ (ع)!؟

هذا فضلا عن أنّ الامام (ع) لاتنقصه الجرأة والقدرة والبلاغة على مخاطبة معاوية بما هوالحقّ، وكلّ مواقف الامام (ع) مع معاوية شاهدة على جرأته في الصدع بالحقّ والامر بالمعروف والنهي عن المنكر!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 317

الفصل الثالث: قصة بداية الثورة ..... ص : 317
اشارة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 319

الفصل الثالث: قصة بداية الثورة

موت معاوية بن أبي سفيان: ..... ص : 319

حكم معاوية حوالي اثنين وأربعين سنة من عمره البالغ أكثر من سبعين سنة، منذ أن عيّنه عمر بن الخطّاب في السنة الثامنة عشرة من الهجرة واليا على دمشق خلفا لا خيه يزيد بن أبي سفيان الذي توفّي فيمن توفّي في طاعون عمواس، إلى أن توفي معاوية في سنة ستّين للهجرة.

منها سبع عشرة سنة تقريبا واليا في عهد كلّ من عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان، وخمس سنوات تقريبا متمردا باغيا في عهد أميرالمؤ منين علىٍّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ تسع عشرة سنة وبضعة أشهر ملكا على جميع البلاد الاسلاميّة، وهوالقائل:

) أنا أوّل الملوك ( «1» و) رضينابها ملكا ( «2».

ولو أغمضنا عن أهمّية وخطورة الدور الرئيس الذي قامت به قيادة حزب السلطة في تاءسيس الانحراف لرأينا معاوية بن أبي سفيان أهمّ الرجال خطرا وأثرا على الاسلام وعلى حياة المسلمين، وفيما مضى من هذا الكتاب أدلّة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 320

عديدة كافية لا ثبات هذه الحقيقة.

ومعاوية بن أبي سفيان ليس بدعا من الطواغيت الذين تحكّموا في حياة الامم ومصائرها، واءُشربوا حبّ الدنيا في قلوبهم، وانقادوا لشهواتهم في كلّ لذائذها انقياد منهوم لايروى ولايشبع، إذا دنا منهم الاجل وأحسّوا بمرارة الفوت ولوعة الفراق وانتهاء المهلة، وأشرفوا على العذاب المقيم، تمنّوا أن لم يكونوا قد فعلوا ما فعلوا، (ولورُدّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون). «1»

قال المسعودي:

(وذكر محمّد بن إسحاق وغيره من نقلة الاثار: أنّ معاوية دخل الحمّام في بدء علّته التي كانت وفاته فيها، فرأى نحول جسمه، فبكى لفنائه وما قد أشرف عليه من الدثور الواقع بالخليقة، وقال متمثّلا:

أرى الليالي أسرعت في نقضي اءَخَذْنَ بعضي وتركن بعضي

حَنَيْنَ طولي وحَنَيْنَ

عرضي أقعدنني من بعد طول نهضي

ولمّا اءَزف اءمره، وحان فراقه، واشتدّت علّته، وآيس من بُرئِهِ، اءنشاء يقول:

فياليتني لم اءُعْنَ في الملك ساعة ولَمْاءك في اللذات اءعشى النواظر

وكنتُ كذِي طِمْرَين عاش ببُلْغَةٍ من الدهر حتّى زار أهلَ المقابر) «2»

وعلى كثرة جرائمه الموبقة التي لاتحصى، والدماء الزاكية المحرَّمة التي سفكها، والاعراض المصونة التي هتكها، قيل إنّه لمّا تناهبت جسمه العلّة، وشعر بدنوّ أجله، كان أشدّ ما يحزنه من تلك الجرائم التي اقترفها جريمته المنكرة في قتل حُجر بن عدىٍّ الكندي (ره) وأصحابه الميامين، فقد كان يقول:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 321

(ويلي منك يا حجر) و (إنّ لي مع ابن عدىٍّ ليوما طويلا!) «1».

وكان معاوية أواخر أيّامه يستشعر ملل الامّة منه وسئمها من وجوده، حتّى لقد روي أنّه قد خطب قبل مرضه فقال: (إنّي كزرعٍ مستحصد وقد طالت إمرتي عليكم حتّى مللتُكم ومللتموني وتمنّيت فراقكم وتمنّيتم فراقي ...) «2»، كما كان معاوية يستشعر قبيل وفاته أنّ الناس شامتون به لقرب رحيله إلى دار الجزأ ولمصيره الاسود عند اللّه تعالى، فقد روي أنّه:

(لمّا ثقل معاوية، وحدّث الناس أنّه الموت، قال لا هله: احشوا عينىٍّ إثمدا وأوسعوا رأسي دهنا. ففعلوا وبرّقوا وجهه بالدهن، ثمّ مُهِّدَ له، فجلس وقال:

أسندوني، ثمّ قال: إئذنوا للناس فليسلّموا قياما ولايجلس أحدٌ، فجعل الرجل يدخل فيسلّم قائما فيراه مكتحلا مدهّنا، فيقول: يقول الناس هو لما به، وهو أصحّ الناس!!، فلمّا خرجوامن عنده قال معاوية:

وتجلّدي للشامتين أريهم أنّي لريب الدهر لاأتضعضع

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ألفيت كلّ تميمة لاتنفعُ

قال: وكان به النفاثات «3» فمات من يومه ذلك.). «4»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 322

وهلك معاوية في النصف من رجب، وقيل: مات لهلال رجب، وقيل: لثمانٍ بقين منه. «1»

(ولولا هواي في يزيد لا بصرتُ

رشدي وعرفتُ قصدي ..) «2»

هذه العبارة من أقوال معاوية التي لايمكن لمؤ رّخ يتلمّس حقائق الامور في ماورأ السطور أن يمرَّ عليها مرور الكرام دون أن يتأ مّل في أبعاد دلالتها، ذلك لا نّها من نوع العبارات التي تصدر عن الطواغيت في حالة من حالات الاسترخاء والضعف النفسي التي تتكشف فيها الاعماق المكنونة وتظهر فيها المضمرات على فلتات اللسان.

تُرى ما هو هذا الرشد الذي عناه معاوية بقوله هذا!!؟

هل هو الايمان والاستقامة على الصراط المستقيم وردّ حقّ كلّ ذي حقٍّ إليه والانابة إلى اللّه تبارك وتعالى والتوبة إليه ..!؟

لاشك أنّ الرشد الذي عناه معاوية ليس هذا، لا نّ وجود يزيد وحبّ معاوية الشديد له وتعلّقه به لم يكن يوما ما عائقا عن نيل هذا الرشد والوصول إليه، بل العكس هوالمحتمل احتمالا قوّيا، وهو أنّ رشاد معاوية لو كان راشدا يحتمل احتمالا كبيرا أن يكون سببا في رشاد يزيد وهدايته.

وقد يتصوّر البعض أنّ معاوية كان على يقين باءنّ يزيد ليس أهلا لتولّي زمام

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 323

الحكم، وكان إصرار معاوية على استخلاف يزيد إصرارا على ذنب كبير متيقّن، كما صرّح معاوية بذلك ليزيد فيما نسب إليه: (ما ألقى اللّه بشيٍ أعظم من استخلافي إيّاك.) «1» وقد اقترف معاوية وزرا عظيما فيما جناه على الامّة بتحويل الخلافة إلى ملك عضوض لايُعنى فيه بإ رادة الامّة واختيارها!!

ولكن، متى كان الاب أهلا وصالحا حتّى يرى عدم تاءهّل إبنه وزرا!؟

وهل حكم الاب بإ رادة الامّة واختيارها حتّى يرى تحوّل الحكم إلى ملك عضوض وزرا كبيرا يلقى اللّه به!؟ والاب هو القائل: رضينا بها ملكا، وأنا أوّل الملوك، مستهزئا بالخلافة وباختيار الامّة!!

إنّ الرشد الذي عناه معاوية هو: تهيئة كلّ عوامل دوام الحكم الامويّ

وبقائه، واستمرار آثار ضلاله على الارض!!

وتوضيح ذلك: أنّ معاوية بما لديه من خبرة عميقة، وتجربة طويلة، ودهاء نادر، كان يعلم أنّ استمرار نجاح جهود حركة النفاق التي انتجت الحكم الامويّ الجاهلي المتستّر بالمظهر الاسلامي، يقتضي فيما يقتضيه أن ياءتي بعد معاوية حاكم آخر داهية أيضا يتصنّع الايمان والحكمة والحلم، ولايرتكب من الحماقات ما يفضح خطّة التستّر بلباس الدين، حتّى تستمرّ الخدعة إلى وقت لايبقى من الدين إلّا إسمه، ومن القرآن إلّا رسمه، ومن التشريع إلّا ما وافق الشرعة الامويّة .. هذا هوالرشد الذي عناه معاوية!!

ومعاوية يعلم أنّ هذه المتطلّبات لاتتوفر في يزيد، بل في يزيد من الرعونة والحماقة والافتضاح ما يكفي لهدم ما بنته حركة النفاق طيلة خمسين سنة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 324

بعد رسول اللّه (ص) ...

لكنّ معاوية في حبّه لذاته وليزيد كامتداد وجودي ونسبي له كان قد أصرَّ على استخلاف يزيد انقيادا له ذا الهوى، وهذا هو معنى التعارض الذي عناه في عبارته:

ولولا هواي في يزيد لا بصرت رشدي .. ..... ص : 324

وقد ظنّ معاوية على ما يبدو أنّ نقاط الضعف في شخصيّة يزيد يمكن أن تعالج بوصايا تفصيليّة يوصى بها، وبإ حاطته بمستشارين أكفاء يحولون بينه وبين أن يرتكب حماقة كبرى لايجبر كسرها ولايرتق فتقها.

وهكذا كان، ومن أهمّ وصايا معاوية لابنه يزيد الوصية التي رسم له فيها كيفيّة التعامل مع روؤ س المعارضة، والتي ورد فيها:

(أنظر أهل الحجاز فإ نّهم أصلك، فاءكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وأنظر أهل العراق فإ نْ ساءلوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملا فافعل، فانّ عزل عامل أحبّ اليّ من أن تُشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شي من عدوّك فانتصر بهم، فإ ذا أصبتهم فاردد أهل الشام

إلى بلادهم، فإ نّهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم.

وإنّي لست أخاف من قريش إلّا ثلاثة، حسين بن عليّ، وعبداللّه بن عمر، وعبداللّه بن الزبير، فاءمّا ابن عمر فرجلٌ قد وقذه الدين (!) فليس ملتمسا شيئا قبلك. وأمّا الحسين بن عليّ فإ نّه رجل خفيف (!) وأرجو أن يكفيكه اللّه بمن قتل أباه وخذل أخاه، وإنّ له رحما ماسّة وحقّا عظيما وقرابة من محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم ولاأظنّ أهل العراق تاركيه حتّى يخرجوه، فإن قدرت

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 325

عليه فاصفح عنه، فإ نّي لو أنّي صاحبه عفوت عنه. وأمّا ابن الزبير فإ نّه خَبُّ ضبُّ، فإ ذا شخص لك فالَّبد له، إلّا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت). «1»

هذه الوصية مع ما أريد فيها من ثناء على ابن عمر وإساءة للا مام (ع) تنسجم تماما مع الخطّ العام لمنهج معاوية، خاصّة في نوع التعامل المطلوب مع الامام الحسين (ع)، ذلك لا نّ معاوية يدرك تماما أن قتل الامام الحسين (ع) في مواجهة علنيّة عموما وبالطريقة التي يختارها ويرسم حركة أحداثها الامام الحسين (ع) خصوصا سيقلب السحر على الساحر، وسيفصل الاسلام

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 326

عن الامويّة، ويمزّق الاطار الديني الذي يتشبّث به الحكم الامويّ، ويمنح الامّة روحا ثوريّة وتضحويّة جديدة خالصة من كلّ شوائب وآثار الشلل النفسي، وبذلك تتتابع الثورات ضدّ الحكم الامويّ، وعندها يبدأ العدّ التنازلي لعمر هذا الحكم حتّى يصل إلى نهايته المحتومة، فيمسي خبرا من أخبار تأريخ الامم، وحديثا من أحاديث الحضارات البائدة، ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا.

من هنا .. يطمئنّ الباحث المتاءمّل إلى أنّ معاوية لهذه الاسباب لابدّ أن يوصي يزيد بالمتاركة مع الامام الحسين (ع)

وبعدم إثارته والتعرّض له بما يدفعه إلى التمرّد والخروج والثورة، وبالعفو عنه في حال المقدرة عليه.

وليس ذ لك من معاوية حبّا للا مام (ع)، بل حرصا على بقاء واستمرار الحكم الامويّ، وخوفا من النتائج الضارّة التي تفرزها المواجهة العلنيّة معه.

وقد رويت هذه الوصيّة في المصادر التاءريخيّة بصورة أخرى «1»، فيها أنّ معاوية تخوَّف على يزيد من أربعة لا من ثلاثة، والرابع هو عبدالرحمن بن أبي بكر، في حين أنّ هذا الاخير كان قد توفّي قبل معاوية، ممّا دفع ببعض د المحقّقين «2» الى رفض هذه الوصيّة والقول باءنّها مكذوبة، لهذا السبب ولا سبابٍ أخرى منها أنّه لايُعقل أن يوصي معاوية ابنه يزيد بالعفو عن الامام الحسين (ع) إن ظفر به!

إذ: (لم يكن معاوية بالذي يرعى لرسول اللّه (ص) حرمة أو قرابة حتّى يوصي إبنه برعاية آل محمّد، كلّا أبدا، فقد حارب الرسول في الجاهليّة حتّى أسلم كرها يوم فتح مكّة، ثمّ حارب صهر الرسول وخليفته وابن عمّه عليّا، ونزا على

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 327

خلافة المسلمين، وانتزعها قهرا، وسمَّ ابن بنت الرسول الحسن، فهل يُصدَّق بعد هذا كلّه أن يوصي بمثل ما أوصى به!؟) «1»

والمتامّل يرى أنّ استبعاد هذا المحقّق لهذه الوصيّة على أساس هذا السبب، إنّما نشاء عن الخلط بين المواجهة العلنيّة مع الامام (ع) والمواجهة السرية معه من حيث نوع الاثار والنتائج، أو عن تصوّر أنّ الامر منحصر في المواجهة السريّة التي يتمّ فيها قتل الامام (ع) بتدبير وتخطيط من الحكم الامويّ في ظروف زمانيّة ومكانيّة يختارها ويصنعها الحكم الامويّ نفسه.

نعم، في المواجهة السريّة يمكن لمعاوية أو يزيد أن يتوسّل لقتل الامام (ع) بوسائل متعدّدة، منها السمّ والاغتيال، وغير ذلك، ثمّ يُموِّهُ على مقتله باءكثر

من ادّعاء كاذب لتبرئة ساحته من تلك الجريمة، فتنطلي الحيلة على الامّة، ولايكون لمقتله (ع) في مثل هذه المواجهة تلك الاثار المحذورة التي تكون لمقتله في مواجهة علنيّة مكشوفة.

ولكنّ الامر ليس منحصرا في احتمال المواجهة السريّة، بل هناك احتمال حصول المواجهة العلنيّة التي يستطيع فيها الامام (ع) نفسه أن يختار ظروفها الزمانيّة والمكانيّة ويصنع أجوأها الاعلاميّة والتبليغيّة كما يريد هو لا كما يريد معاوية أو يزيد، فتكون كلّ آثارها ونتائجها في صالح الامام (ع) وفي ضرر الحكم الامويّ، كما حصل ذلك بالفعل في واقعة عاشورأ سنة إحدى وستّين للهجرة، الامر الذي كان يخشاه معاوية ويتحاشاه طيلة أيّام المواجهة بينه وبين الامام الحسين (ع).

لقد كان معاوية يعلم يقينا أنّه: في إطار مواجهة علنيّة وخصوصا المواجهة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 328

التي تتمّ في ظروف زمانيّة ومكانيّة وعسكريّة وإعلاميّة بتخطيط من الامام (ع) يكون العفو عن الامام (ع) عملا إعلاميّا لصالح النظام الامويّ، ولذا فإ نّ هذه الوصيّة في هذه الحدود منطقيّة ومنسجمة مع دهاء معاوية ونمط تفكيره، ولايصحّ استبعادها.

وقال هذا الكاتب في الختام:

(ولو أنّ الوصيّة المزعومة كانت صحيحة لما كان يزيد لا همَّ له بعد موت أبيه إلّا تحصيل البيعة من الحسين وتشديده على عامله بالمدينة بلزوم إجبار الحسين على البيعة). «1»

و واضحٌ أنّه لاتلازم بين وجود الوصيّة وبين تنفيذها من قبل يزيد، فمن الممكن أن يوصي معاوية يزيد باءمور ثمّ لاينفّذها ولاياءخذ بها يزيد، وقد أوصى معاوية يزيد باءمور لم يطعه فيها أيّام حياته، منها مثلا عدم إظهار التهتّك، والتستّر عليه، والفارق بين الشخصيّتين واضح وكبير!

وقد يُقال:

إنّ هذه الوصيّة كانت في غياب يزيد، وقد حمّلها معاوية كلّا من الضحاك بن قيس د الفهري ومسلم بن عقبة المرّي ليوصلاها

إلى يزيد، ومن المحتمل أنّها لم تصل إليه!

وهذا أمر مستبعد، لم تحمل أيّة رواية تاءريخيّة إشارة ما إلى احتماله. ومع هذا فإ نّ من البعيد جدّا أيضا أنّ معاوية منذ أن عزم على استخلاف يزيد من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 329

بعده لايكون قد شافه وطارح يزيد ب آرائه ووصاياه في كلّ القضايا المهمّة التي ستواجه يزيد أثناء حكمه، ولاشك أنّ هذه القضيّة هي الاهمّ.

نعم، يمكن أن يقال في ختام بحث هذه المساءلة:

إنّ معاوية بإ صراره على تنصيب يزيد من بعده، وأخذه الناس بالبيعة له بولاية العهد كان قد أمضى عمليّا قتل الامام الحسين (ع) من بعده، وذلك لا نّه يعلم أنّ يزيد سيرتكب هذه الجريمة الشنعاء من طريقين على الاقلّ هما:

أولا: كان قد انتشر في الامّة أن الامام الحسين (ع) يُقتل في أرض في العراق يقال لها كربلاء مع كوكبة من أهل بيته وأصحابه، وكان قد انتشر أيضا أنّ يزيد قاتله، بل كان عمر بن سعد إذا دخل مسجد الكوفه أشار الناس إليه قائلين:

هذا قاتل الحسين، حتّى شكا ذلك إلى الامام الحسين (ع) نفسه، كلُّ ذلك نتيجة ما تناقلته الامّة من الاخبارات الكثيرة بذلك، ماءثورة عن النبىٍّ (ص) وعن اميرالموءمنين والحسن والحسين (ع) وعن جمع من الصحابة.

فهل يُعقل أنّ معاوية لم يسمع بذلك، وهوالذي كان يتابع كلّ شاردة من أخبار الملاحم الماءثورة عن النبىٍّ (ص) وعن أميرالمؤ منين (ع) وخصوصا فيمايتعلّق بمستقبل بني أميّة وعدد حكّامهم وكم يحكمون وما إلى ذلك.

ثانيا: كان معاوية يتباهى أنّه أعرف الناس بالرجال عامّة وبقريش خاصّة، فهل يُتصوّر أنّه لم يعرف يزيد ابنه وهو منه على هذا القرب، من حيث التركيب النفسي والمؤ ثرات الحاكمة في شخصيّته والميول الطاغية عليه، وكيفيّة نظره في

الامور وطريقة معالجته المشاكل، بل وحقده وحنقه على الامام الحسين (ع) خاصّة، أليس د معاوية هو القائل في رسالة للا مام الحسين (ع): (ولكنّى قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوة وبودّي أن يكون ذلك في زماني فاءعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك، ولكنّي واللّه أتخوّف أن تُبتلى

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 330

بمن لاينظرك فواق ناقة ...) «1» يعني يزيد!؟

من هنا، فإ نّ النتيجة العمليّة الاولى لا صرار معاوية على استخلاف يزيد بعده هي قتل الامام الحسين (ع) على علم من معاوية بذلك، ولاينافي هذا أنّه حاول أن يحول دون تحقّق هذا الامر بالتاءكيدات والوصايا التي حثّ فيها يزيد على المسامحة مع الامام (ع) والعفو عنه إن ظفر به.

وهذا الاصرار من معاوية على استخلاف يزيد يعني أيضا أنّ معاوية الذي أشاد كيان الحكم الامويّ كان أوّل من أهوى بمعول الهدم على هذا الكيان بتنصيبه يزيد حاكما بعده.

وقد حقّ له أن يقول:

ولولا هواي في يزيد لا بصرت رشدي وعرفت قصدي!!

شخصية يزيد بن معاوية: ..... ص : 330

ولد يزيد بن معاوية في الشام سنة 25 أو 26 للهجرة، في قصر إمارة كثر فيه الترف وكثر العبيد والخدم، و (يبدو مستغربا بادئٍّ ذي بدء أن نعرف أنّ يزيد نشاء نشاءة مسيحيّة تبعد كثيرا عن عرف الاسلام، وتزيد بالقاري الدهشة إلى حدّ الانكار، ولكن لايبقى في الامر ما يدعو إلى الدهشة إذا علمنا أنّ يزيد يرجع بالا مومة إلى بني كلب، هذه القبيلة التي كانت تدين بالمسيحيّة قبل الاسلام، ومن بديهيّات علم الاجتماع أنّ إنسلاخ شعب كبير من عقائده يستغرق زمنا طويلا، بين معاودات نفسيّة ورجعات ضميريّة وذكريّات

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 331

وجدانيّة، وبالا خصّ إذا كانت عقيدة سيطرت على الافكار والعادات والعرف العام.

والتاءريخ يحدّثنا أنّ يزيد

نشاء فيها إلى طور الشباب، أو حتّى جاوز طور الطفولة. ومعنى هذا أنّه أمضى الدور الذي هو محطّ أنظار المربّين وعنايتهم، وبذلك ثبت على لون من التربية النابية تمازجها خشونة البادية وجفاء الطبع.

على أنّ طائفة من المؤ رّخين ترجّح ولايبعد أن يكون صحيحا أنّ من أساتذة يزيد بعض د نساطرة «1» الشام من مشارقة النصارى، وربّما شهد لهذا التقدير ما جاء في تأريخ الشام لابن عساكر (من أنّ يزيد كان يعرف طرفا من الهندسة) هذا الفنّ الذي كان مجهولا من العرب، ممّا يضعنا أمام الامر الواقع الذي يتّسق تفسيره على ه ذه الوجه، ولايخفى ما يكون لهذه التربية من أثرٍ سي فيمن سيكون وليَّ أمر المسلمين ... فقد كان يتزيّد في تقريب المسيحيّين ويستكثر منهم في بطانته الخاصّة، لما إنّه يقع بينهم على من يمتزج به وينسجم معه (على ما يقولون). ولقد اطماءنّ إليهم حتّى عهد بتربية ابنه إلى مسيحي على ما لا اختلاف فيه بين المؤ رّخين ...

إذا كان يقينا أو يشبه اليقين أنّ تربية يزيد لم تكن إسلاميّة خالصة، أو بعبارة أخرى كانت مسيحيّة خالصة، فلم يبق ما يُستغرب معه أن يكون متجاوزا مستهترا مستخفّا بما عليه الجماعة الاسلاميّة، لايحسب لتقاليدها واعتقاداتها أيّ حساب ولايقيم وزنا، بل الذي يُستغرب أن يكون على غيرذلك ...). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 332

وكان يزيد متهتّكا في معاصيه ومباذله وهواياته لاياءبه بالا عراف الاجتماعيّة ولايقيم لها وزنا، ولم يكن معاوية ينهاه عنها، بل كان يدعوه إلى التستّر عليها كي لايفتضح فيشمت به عدوُّ ويُساء به صديق، فقد قال له يوما:

(يا بنيّ ما أقدرك على أن تصل حاجتك من غير تهتّك يذهب بمروءتك وقدرك ويشمتُ بك عدوّك ويسي بك صديقك،

ثمّ قال: يا بنيّ إنّي منشدك أبياتا فتاءدّب بها واحفظها، فاءنشده:

انصب نهارا في طلاب العلا واصبر على هجر الحبيب القريب

حتّى إذا الليل أتى بالدجى واكتحلت بالغمض عين الرقيب

فباشر الليل بما تشتهي فإ نّما الليل نهار الاريب

كم فاسقٍ تحسبه ناسكا قد باشر الليل باءمرٍ عجيب

غطّى عليه الليل أستاره فبات في أمنٍ وعيشٍ خصيب

ولذّة الاحمق مكشوفة يسعى بها كلّ عدوٍّ مُريب «1»

وكاءنّ معاوية يحدّثه عن تجربته هو فيما يتستّر به في الليل!!

ولمّا أراد معاوية أن ياءخذ البيعة ليزيد من الناس، طلب من زياد أن ياءخذ بيعة المسلمين في البصرة، فكان جواب زياد له: (فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبّغ، ويُدمن الشراب، ويمشي على الدفوف ...). «2»

وفي هذا الخبر إشارة واضحة إلى أنّ يزيد كان مشهورا بذلك عند الناس، ويؤ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 333

يّد ذلك قول الامام الحسين (ع) لمعاوية:

(كاءنّك تصف محجوبا أوتنعت غائبا عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد في ما أخذ من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السُّبَّق لا ترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرا ودع عنك ما تحاول ...). «1»

بل هناك عبارة لابن كثير في تاءريخه تصرّح باشتهار يزيد في ذلك:

(اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغناء والصيد، واتّخاذ الغلمان والقيان والكلاب، والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلّا ويُصبح فيه مخمورا ...). «2»

بل عدّه بعض المؤ رّخين من الاوائل في ذلك:

(كان يزيد بن معاوية أوّل من أظهر شرب الشراب والاستهتار بالغناء، والصيد واتّخاذ القيان والغلمان، والتفكّه بما يضحك منه المترفون من القرود، والمعافرة بالكلاب والديكة). «3»

ومنذ أن فتح عينيه على الدنيا في قصر أبيه،

كانت كلّ طلباته مستجابة فورا، فما تعوّد أن يُردَّ له طلب، وكان هذا من الاسباب الذي جعلت شخصيّته ذات بُعدٍ واحد خلافا لشخصيّة أبيه المتعدّدة الابعاد، وجعلت منه قاصر النظر ضعيف الرأي لاينظر إلى أمرٍ ما إلّا من زاوية واحدة من زواياه، ولذا فقد عالج القضايا المستعصية التي واجهها بحسمٍ أرعن لايرتكز على أساسٍ من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 334

حكمة ونضج وبصيرة، وكاءنّ الدنيا كلّها قصر أبيه المترف فلاينبغي لا حدٍ إلّا أن يخضع لا مره ورغبته (ولم يكن يزيد يحتمل أن يلتوي عليه أحدٌ بطاعة، وإنّما كان يرى أنّ طاعته حقُّ على الناس جميعا، فمن التوى بها عليه فليس له عنده إلّاالسيف). «1»

وكان قصور نظره وضعف رأيه وتشنّجه النفسي قد تجلّى في القضايا الكبرى كقضيّة مواجهة الامام الحسين (ع)، ومواجهة انتفاضة المدينة المنوّرة.

فقد كان يزيد هوالذي أمر بقتل الامام الحسين (ع)، إذ قد خيّر عبيداللّه بن زياد بين قتله أو قتل الامام (ع)، وبين أن يبقى حُرّا يحمل اللقب الامويّ أويعود عبدا روميّا كما هو حقيقة، يقول عبيداللّه بن زياد:

(أمّا قتلي الحسين فإ نّه أشار إليَّ يزيد بقتله أوقتلي فاخترتُ قتله ...). «2»

وروى اليعقوبي أنّ يزيد كتب إلى عبيداللّه بن زياد قائلا:

(قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّها نحوهم، وقد بُلىٍّ به بلدك من بين البلدان، وأيّامك من بين الايّام، فإن قتلته، وإلّا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عُبَيدٍ، فاحذر أن يفوتك). «3»

لكنّ بعض المؤ رّخين رووا هذه الرسالة بدون أمر يزيد الصريح بقتل الامام (ع)، كمثل ابن عساكر الذي رواها مخفّفة هكذا:

(إنّه قد بلغني أنّ حسينا صار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من

بين الازمان،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 335

وبلدك من بين البلدان، وابتليت به أنت من بين العمّال، وعندها تُعتقُ أو تعود عبدا كما تعتبدُ العبيد. فقتله ابن زياد وبعث برأسه إليه). «1»

وفي موضع آخر خفّف ابن عساكر من القضيّة تخفيفا أكثر فقال:

(وبلغ يزيد خروجه فكتب إلى عبيداللّه بن زياد وهو عامله على العراق، ياءمره بمحاربته وحمله إليه إن ظفر به، فوجّه اللعين عبيداللّه بن زياد الجيش إليه مع عمر بن سعد بن أبي وقّاص). «2»

والغريب أنّ الراوي في هذا النصّ الاخير يوجّه اللعن إلى عبيداللّه بن زياد ولايلعن يزيد الذي أمره بمحاربة الامام (ع)!!

يقول عبداللّه العلايلي:

(لذلك أعتمد رواية اليعقوبي المحقّقة (من أنّ يزيد أمر ابن زياد بقتل الحسين (ع)، وأشك في غيرها وأميل إلى أنّها «3» تنصّلٌ من يزيد لمّا رأى عِظم ما جنّت يداه، وإنّما إعتمدها المؤ رّخون المعتدلون تخفيفا لحمّى الماءساة). «4»

ولو لم يكن يزيد هوالامر بالقتل لما ترنّم حين رأى السبايا والرؤ وس المقدّسة على أطراف الرماح وقد أشرفوا على رُبى نهر جيرون قائلا:

لمّا بدت تلك الحمول وأشرقت تلك الشموس على رُبى جيرونِ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 336

نعب الغرابُ فقلتُ صِحْ أو لاتصح فلقد قضيتُ من الغريمِ ديوني «1»

(ومن هنا حكم ابن الجوزي والقاضي أبويعلى والتفتازاني والجلال السيوطي بكفره ولعنه ...). «2»

ويعترف يزيد باءنّه قاتل الامام الحسين (ع) إقرارا، إذ لمّا (اءُتي براءس الحسين إلى يزيد بن معاوية بدمشق فنصب، فقال يزيد: عليّ بالنعمان بن بشير. فلمّا جاء:

قال: كيف رأيت ما فعل عبيداللّه بن زياد؟

قال: الحربُ دُوَلٌ.

فقال: الحمدللّه الذي قتله.

قال النعمان: قد كان اميرالموءمنين يعني به معاوية يكره قتله.

فقال: ذ لك قبل أن يخرج، ولو خرج على أميرالمؤ منين واللّه قتله إن قدر ...). «3»

فيزيد في ردّه

هذا يقرّ بتبنّي قتل الامام الحسين (ع) إذا خرج، وقد حمد اللّه على قتله، ثمّ هو ينسب ه ذا الموقف إلى أبيه معاوية خلافا لما ورد في بعض د الاخبار من طريق الفريقين «4» من أنّ معاوية قد أوصاه بالمسامحة مع الامام وبالعفو عنه، والتي هي أقرب إلى منهج معاوية في دهائه، ولايبعد أن يكذب يزيد على أبيه بعد أن أدرك عظم ما اجترح في هذه الماءساة، وهو الغرير الذي يفتقر حتّى إلى أبسط مسحة من الدهاء.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 337

نعم قد يقدم معاوية على قتل الامام (ع)، خرج أو لم يخرج، إذا رأى أنّ بقاءه يشكّل خطرا عليه أو على الحكم الامويّ، ولكنّه لايقتله بهذه الطريقة المكشوفة التي فعلها يزيد، بل يقتله سرّا بالسم أو اغتيالا ثمّ ينسب الفعلة إلى غيره، ويطلب هو بدم الامام (ع) فيوهم الناس ويخدعهم ويزداد بذلك حبّا عند أكثر الناس.

ثمّ إنّ هناك فارقا واضحا بين موقف معاوية من الامام (ع) وموقف يزيد منه، وهو أنّ معاوية لم يشدّد على الامام في أمر البيعة ليزيد وإن كان قد أوهم الناس أنّ الامام (ع) قد بايع كما في بعض الروايات، أمّا يزيد فلم يرخصّ للا مام (ع) في ألّايبايع، بل ركز بين اثنتين: البيعة أو القتل.

وقد خرج يزيد عن طوره النفاقي فاءظهر كفره وعدأه السافر لرسول اللّه (ص)، وافتخر بانتمائه إلى جاهليّة أسلافه، وإلى حركة النفاق، حينما وضع رأس د الامام (ع) بين يديه فتمثّل متشفّيا باءبيات ابن الزبعرى التي مطلعها:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسلْ

وقيل: إنّ يزيد قد أضاف إليها هذه الابيات من عنده:

لا هلّوا واستهلّوا فرحا ثمّ قالوا يا يزيد لاتُشَل

لست من عتبة إن لم أنتقم من

بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل «1»

وهذا بنفسه كاشف عن شخصيّة يزيد ذات البعد الواحد والتي لاتتمتّع بشي ءٍ من الدهاء العادي فضلا عن دهاء أبيه.

وكاءنّ يزيد قد ظفر باءمنيّته الكبرى بقتل سيّد الشهدأ (ع)، وغمرت كيانه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 338

نشوة الغلبة العاجلة والتشفّي، فقد (جلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، ذلك بعد قتل الحسين (ع)، فاءقبل على ساقيه فقال:

إسقني شربة تروّي مُشاشي ثمّ مِلْ فَاسْقِ مثلَها ابنَ زيادِ

صاحب السرِّ والامانة عندي ولتسديد مغنمي وجهادي

ثمّ أمر المغنّين فغنّوا به ...). «1»

(وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق. وفي أيّامه ظهر الغناء بمكّة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب.

وبالجملة، كان موفّر الرغبة في اللهو والقنص والخمر والنساء وكلاب الصيد حتّى كان يُلبسها الاساور من الذهب والجلال والمنسوجة منه، ويهب لكلّ كلبٍ عبدا يخدمه، وساس الدولة سياسة مشتقّة من شهوات نفسه، وكانت ولايته ثلاث سنين وستّة أشهر، ففي السنة الاولى قتل الحسين بن علي، وفي السنة الثانية نهب المدينة وأباحها ثلاثة أيّام، تمّ فيها قتل سبعمائة من المهاجرين والانصار، فلم يبق بدريُّ بعد ذلك، وقتل عشرة آلاف من الموالي والعرب والتابعين، وافتضاض ألف عذرأ). «2»

الخبر في المدينة: ..... ص : 338

اختلف شاءن مدينة رسول اللّه (ص) عن سائر مدن الاسلام الاخرى من حيث طريقة وصول خبر موت معاوية إليها، فقد وصل إليها هذا الخبر

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 339

بتخطيط خاصّ مدروس من قِبل يزيد في الشام، لا نّه أراد من واليه على المدينة وهو الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، على ما في أكثر التواريخ «1» أن ياءخذ البيعة له من الامام الحسين (ع) بالا ساس ومن عبداللّه بن الزبير ثانيا

قبل أن يعلم أهل المدينة بخبر موت معاوية.

هذا ما يستفاد من الرسالة الصغيرة التي وصفت كاءنّها أذن فاءرة والتي بعثها يزيد إلى الوليد بن عتبة مع رسالة النعي الكبيرة، وكانت تلك الرسالة الصغيرة على ما في رواية اليعقوبي:

(إذا أتاك كتابي هذا، فاءحضر الحسين بن علىٍّ (ع)، وعبداللّه بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث إليّ برؤ وسهما، وخذ الناس د بالبيعة، فمن امتنع فاءنفذ فيه الحكم، وفي الحسين بن عليّ وعبداللّه بن الزبير، والسلام). «2»

ويستفاد هذا أيضا من قول مروان بن الحكم حينما استشاره والي المدينة في كيفيّة أخذ البيعة من هؤ لاء الرجال، حيث أجاب قائلا:

(أرسل الساعة إلى هؤ لاء النفر فخذ بيعتهم، فإ نّهم إن بايعوا لم يختلف على يزيد أحدٌ من أهل الاسلام، فعجّل عليهم قبل أن يُفشى الخبر فيمتنعوا ...). «3»

وفي رواية الفتوح:

(فقال مروان: إبعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 340

في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية، فإ نّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فاءظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ...). «1»

إذن فقد كانت الخطة أن تؤ خذ البيعة من الامام الحسين (ع) ومن عبداللّه بن الزبير ومن عبداللّه بن عمر على ما في بعض الروايات قبل أن يفشو الخبر ويعلم أهل المدينة بموت معاوية.

وممّا يؤ كّد هذا أيضا:

أنّ رسول الوليد لمّا أتى إلى الامام الحسين (ع) وإلى عبداللّه بن الزبير يستدعيهما إلى الوليد، ووجدهما في المسجد، وأخبرهما بالا ستدعاء، قال عبداللّه بن الزبير يسائل الامام (ع):

(يا أباعبداللّه، إنّ هذه ساعة لم يكن الوليد بن عتبة يجلس فيها للناس، وإنّي قد

أنكرت ذلك وبَعْثَه في هذه الساعة إلينا ودعاءَه إيّانا لمثل هذا الوقت، أترى في أيٍّ طلبنا!؟

فقال له الحسين (ع):

إذا اءُخبرك اءبابكر، إنّي اءظنّ باءنّ معاوية قد مات، وذلك اءنّي راءيت البارحة في منامي كاءنّ منبر معاوية منكوس، ورأيت داره تشتعل نارا، فاءوّلتُ ذلك في نفسي أنّه مات. «2»

فلو كان خبر موت معاوية قد فشا وانتشر في المدينة ساعتئذٍ لكان ابن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 341

الزبير قد علمه كما علم الناس.

والظاهر أنّ خبر موت معاوية ظلّ مكتوما عن عامّة أهل المدينة إلى ما بعد خروج الامام الحسين (ع) منها فلم ينتشر إلّا انتشارا ضعيفا، ولم يعلم به إلّا بعض خواصّ أهلها ممّن يحيط بالوالي من بني أميّة وبعض رجال السلطة، وممّن يحيط بالا مام الحسين (ع) من بني هاشم وبعض شيعته، وعبداللّه بن الزبير وإخوته وبعض من يحيطون بهم، وعبداللّه بن عمر وخاصّته.

ولعلّ هذا ما كانت تريده السلطة في المدينة بالذات، لعزل الامّة في المدينة عن حركة الامام (ع) سوأ بقي في المدينة أو خرج منها، إذ إنّ السلطة الامويّة على فرض بقائه ستواصل إحراجه منفردا لتذليل بيعته، ولن يطول ذلك أكثر من يومٍ أو يومين، فإ ذا بايع فلن يمتنع بعده أحدٌ من الامّة عن البيعة، وإذا أصرّ على الامتناع فلابدّ له من أن يحتال للخروج من المدينة مخافة الاغتيال، ولن يطول مكثه حتّى يخرج ثلاث ليال على الاكثر، فتخلو المدينة منه وممّن يتّبعه، وعندئذ تسهل عمليّة أخذ البيعة من أهل المدينة في غياب الامام (ع)، أمّا من عداه من وجهاء المدينة فلايتمتّع بمثل تلك المنزلة التي يتمتّع بها الامام (ع) في قلوب الناس وليس له تلك الاهمّية، فضلا عن أنّ بعضهم يتّسم بالميوعة والمسالمة في المواقف

ولا قاطعيّة له، كمثل عبداللّه بن عمر، الذي أشك بقوّةٍ أنّ بعض الروايات حشرته مع الامام (ع) وعبداللّه بن الزبير في وجهاء المدينة المعارضين للتغطية على ميله للحكم الامويّ.

وممّا يؤ كّد ما ذهبنا إليه في تعمّد سلطة المدينة عدم الاعلان عن موت معاوية إلى ما بعد انجلاء الموقف الحسينيّ، هوأنّ الامام (ع) طلب من الوالي الوليد بن عتبة أن يُدعى إلى البيعة بمحضر الناس فيكون الامر سوأ حيث قال (ع):

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 342

(إنّ مثلي لايعطي بيعته سرّا، وإنّما أحبّ أن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة، ولكن إذا كان من الغد ودعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فيكون أمرنا واحدا ...). «1»

فالعادة إذن أن ينعى الوالي الخليفة الميّت في الغد ويدعو الناس إلى بيعة من يخلفه، هذا ما تُشعر به عبارة الامام (ع):

(... ولكن إذا كان من الغد ودعوت الناس إلى البيعة ...).

والتاءريخ لم يحدّثنا أنّ الوليد بن عتبة قد جمع الناس في اليوم التالي للبيعة في المسجد كما العادة «2» ولا في اليوم الذي بعده، بل إنّ التاءريخ ليؤ كّد عكس ذ لك، إذ كتب الوليد إلى يزيد (يخبره بما كان من أهل المدينة وما كان من ابن الزبير وأمر السجن (حيث أخرج بنوعدي عبداللّه بن مطيع العدوي منه بالقوّة وأخرجوا كلّ من كان في السجن)، «3» ثمّ ذكر له بعد ذلك أمر الحسين بن عليّ (ع):

(أنّه ليس يرى لنا عليه طاعة ولا بيعة). «4»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 343

فكتب إليه يزيد:

(من عبداللّه يزيد اميرالموءمنين إلى الوليد بن عتبة. أمّا بعدُ:

فإ ذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة ثانيا على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم، وذر عبداللّه بن الزبير فإ نّه لن يفوتنا ولن ينجو منّا أبدا

مادام حيّا، وليكن مع جوابك إليّ رأس الحسين بن علي، فإن فعلتَ ذلك فقد جعلتُ لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الاوفر والنعمة واحدة، والسلام). «1»

فقوله: (فخذ البيعة ثانيا على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم) كاشف عن أنّ الوليد لم يكن يستطيع أخذ البيعة من أهل المدينة بوجود الامام الحسين (ع)، وقوله: (البيعة ثانيا): يتضمّن الاشارة إلى البيعة الاولى التي أخذها معاوية بولاية العهد ليزيد من أهل المدينة في حياته خدعة. لا أنّ الوليد أخذ البيعة من أهل المدينة ليزيد ثمّ دعاه يزيد إلى أخذها مرّةً ثانية منهم بتوكيد عليهم.

وقوله: (وذر عبداللّه بن الزبير ...) كاشف عن عدم تمتّع ابن الزبير بالا همية التي يتمتع بها الامام (ع).

وقوله: (وليكن مع جوابك إليّ رأس الحسين بن عليّ (ع) كاشف عن أنّ وجود الامام (ع) بماله من منزلة ومكانة قدسيّة في الامّة هوالعقبة الكبرى في طريق البيعة التي يريدها يزيد من أهل المدينة خاصّة.

كما أنّ هذه الرسالة كاشفة بنوع محتواها عن نوع شخصيّة يزيد التي لاتتمتّع حتّى بذرّة من الحكمة والدهاء، وكاشفة عن سطحيّته وضحالته الظاهرة، فها هو أمام رغبته وغضبه لاينظر إلى حقائق الواقع السياسي

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 344

والاجتماعي ولايعباء بها، إنّه فيما ياءمر به متجاوزا هذه الحقائق كما ياءمر الطفل في تخيّلاته وألعابه خلافا لما تحكم به السنن الطبيعيّة والاجتماعيّة.

إنّ كتمان خبر موت معاوية عن أهل المدينة عموما عدّة أيّامٍ ربّما شكّل واحدا من أسباب تخلّف أهل المدينة عن نصرة الامام (ع) وفيهم آنئذٍ مئات من الصحابة وأكثر من ذلك من التابعين، لا نّ الظاهر أنّ جُلّهم لم يعلم حتّى بخروجه من المدينة، وما علموا بذلك إلّا بعد حين من مكثه في مكّة المكرّمة، مع

أنّ الذين التحقوا به من المدينة في مكّة بعد ذلك أفراد قليلون.

الاستدعاء والتشاور في المسجد: ..... ص : 344

لنعد إلى بداية القصّة في أحداث سنة ستّين للهجرة ...

تقول الرواية: (وفي هذه السنة بويع ليزيد بن معاوية بالخلافة بعد وفاة أبيه للنصف من رجب في قول بعضهم، وفي قول بعض لثمانٍ بقين منه ...

وقال هشام بن محمّد عن أبي مخنف:

ولي يزيد في هلال رجب سنة ستّين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير الكوفة النعمان بن بشير الانصاري، وأمير البصرة عبيداللّه بن زياد، وأمير مكّة عمرو بن سعيد بن العاص.

ولم يكن ليزيد همّة حين ولي إلّا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الاجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته وأنّه وليّ عهده بعده، والفراغ من أمرهم.

فكتب إلى الوليد:

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

من يزيد اميرالموءمنين إلى الوليد بن عتبة. أمّا بعدُ: فإ نّ معاوية كان عبدا من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 345

عباداللّه، أكرمه اللّه واستخلفه وخوّله ومكّن له، فعاش بقدر ومات باءجل، فرحمه اللّه، فقد عاش محمودا (!) ومات برّا تقيّا (!) والسلام.

وكتب إليه في صحيفة كاءنّها اءُذن فاءرة:

أمّا بعدُ: فَخُذ حسينا وعبداللّه بن عمر وعبداللّه بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رُخصة حتّى يبايعوا، والسلام). «1»

أمّا محتوى هذه الصحيفة الصغيرة التي كاءنّها أذن فاءرة على ما في رواية الفتوح فهو:

(أمّا بعدُ: فخذ الحسين بن علي (ع)، وعبدالرحمن بن أبي بكر، وعبداللّه بن الزبير، وعبداللّه بن عمر بن الخطّاب أخذا عنيفا ليست فيه رخصة، فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه). «2»

ويلاحظ على هذا النص أنّ عبدالرحمن بن أبي بكر مات في عهد معاوية، في نومة نامها، ويقال إنّ معاوية دسّ إليه سمّا فقتله.

ولم يروها ابن عساكر كصحيفة صغيرة

مخصوصة، بل رواها هكذا ككتاب عام: (وبايع الناس ليزيد يعني في الشام فكتب يزيد مع عبداللّه بن عمرو بن أويس د العامري من بني عامر بن لؤ يّ إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو على المدينة: أن ادع الناس فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكن أوّل من تبدأبه الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإ نّ أميرالمؤ منين رحمه اللّه عهد إليّ في أمره الرفق به واستصلاحه). «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 346

ولم يروها اليعقوبي أيضا كصحيفة صغيرة مخصوصة، لكنّ محتوى الرسالة التي رواها يشهد على أنّها من الرسائل السرّية التي لايطّلع عليها سوى المسؤ ول المقصود بها، كما أنّ نصّها يبدو من أضبط النّصوص المرويّة بصددها، لا نّه ليس د فيه اسم عبداللّه بن عمر الذي لم يكن يشكّل في مساءلة بيعته ليزيد أيّة مشكلة بالفعل، إذ كان معروفا بالميوعة في مواقفه والمسالمة والدخول فيما دخل فيه الناس، كما أنّ نصّ اليعقوبي ينسجم تماما مع ضيق نظر يزيد وسرعة انفعاله ولا مبالاته بالسنن والقيم الاجتماعيّة، كما أنّ نمط الترتيب فيه كاشف عن دقّته.

ونصّ اليعقوبي هو:

(إذا أتاك كتابي هذا، فاءحضر الحسين بن علّي وعبداللّه بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث إليّ برؤ وسهما، وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فاءنفذ فيه الحكم، وفي الحسين بن علي وعبداللّه بن الزبير، والسلام). «1»

لنعد إلى تسلسل القصّة، ولنقرأ ماذا صنع الوليد بن عتبة!؟ تقول الرواية:

(فلمّا أتاه نعيّ معاوية فظع به وكبر عليه، وبعث إلى مروان بن الحكم فدعاه وكان مروان عاملا على المدينة من قبل الوليد، فلمّا قدمها الوليد كان مروان يختلف إليه متكارها، فلمّا رأى الوليد ذلك منه شتمه عند جلسائه، فبلغ ذلك مروان فانقطع

عنه، فلم يزل مصارما له حتّى جاء نعيّ معاوية، فلمّا عظم على الوليد هلاكه وما اءُمِرَبه من بيعة هؤ لاء النفر استدعى مروان فلمّا قرأ الكتاب بموت معاوية استرجع وترحّم عليه، واستشاره الوليد كيف يصنع

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 347

؟ قال: أرى أن تدعوهم الساعة، وتاءمرهم بالبيعة، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإ نّهم إن علموا بموته وثب كلّ رجل منهم بناحية وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، أمّا ابن عمر فلايرى القتال ولايحبّ أن يلي على الناس إلّا أن يُدفع إليه هذا الامر عفوا.

فاءرسل الوليد عبداللّه بن عمرو بن عثمان وهو غلامٌ حَدث، إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما في المسجد وهما جالسان، فاءتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس.

فقال: أجيبا الامير.

فقالا: انصرف، ألا ن ناءتيه.

وقال ابن الزبير للحسين: وما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس د فيها!؟

فقال الحسين: أظنّ أنَّ طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا لياءخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر.

فقال: وأنا ماأظنّ غيره، فما تريد أن تصنع؟

قال الحسين: أجمع فتياني الساعة، ثمّ أمشي إليه، وأجلسهم على الباب وأدخل عليه.

فقال: فإ نّي أخافه عليك إذا دخلت!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 348

فقال: لاآتيه إلّا وأنا قادر على الامتناع). «1»

وفي رواية أخرى أنّ ابن الزبير قال للا مام الحسين (ع):

(ظُنَّ يا أباعبداللّه فيما أرسل إلينا!؟).

فقال الحسين: لم يرسل إلينا إلّا للبيعة.

فقال؟ فما ترى؟

قال: آتيه، فإن أراد تلك امتنعت عليه). «2»

ويلاحظ في محاورة الامام (ع) مع ابن الزبير أنّ الامام (ع) كان واضحا تمام الوضوح في موقفه وفيما يريد أن يفعله، ولم يكتم شيئا عن ابن الزبير في معرض د الاستشارة، غير أنّ

ابن الزبير كان على عكس ذلك، فلم يكن همّه إلّا معرفة ما سيفعله الامام (ع)، ولم يفصح بشيٍ عمّا يريد هو أن يقوم به ويفعله!

وفي كتاب الفتوح عرض لهذا المقطع من القصّة لايمكننا الاعراض عنه لما فيه من تفصيلات مهمّة لم تاءت فيما ذكره ابن الاثير والطبري وابن قتيبة، فلنقرأ رواية هذا المقطع في الفتوح على ترتيبه:

قال ابن أعثم: (فلمّا ورد كتاب يزيد على الوليد بن عتبة وقرأه قال:

إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، يا ويح الوليد بن عتبة، من أدخله في هذه الامارة؟ ما لي وللحسين بن فاطمة!؟

... ثمّ بعث إلى مروان بن الحكم، فاءراه الكتاب فقرأه واسترجع، ثمّ ... قال: يرحم اللّه اميرالموءمنين معاوية!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 349

فقال الوليد: أشر عليّ برأيك في هؤ لاء القوم، كيف ترى أن أصنع!؟

فقال مروان: إبعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم، وإن اءَبَوا قدّمهم واضرب اءعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية، فإ نّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فاءظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذ لك أخاف أن ياءتيك من قبلهم ما لا قبل لك به وما لايقوم له، إلّاعبداللّه بن عمر فإ نّي لاأراه ينازع في ه ذا الامر أحدا إلّا أن تاءتيه الخلافة فياءخذها عفوا، فذر عنك ابن عمر. «1»

وابعث إلى الحسين بن علي، وعبدالرحمن بن أبي بكر، وعبداللّه بن الزبير فادعهم إلى البيعة، مع أنّي أعلم أنّ الحسين بن علي خاصّة لايجيبك إلى بيعة يزيد أبدا ولايرى له عليه طاعة، وواللّه إن لو كنتُ في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتّى أضرب رقبته كائنا في ذلك ما كان.

... فاءطرق الوليد بن عتبة

إلى الارض ساعة ثمّ رفع رأسه ...

وقال: يا ليت الوليد لم يولد ولم يكن شيئا مذكورا!

... ثمّ دمعت عيناه ...

فقال له عدوّاللّه مروان: أوّه أيّها الامير! لاتجزع ممّا قلتُ لك، فإ نّ آل أبي تراب هم الاعدأ في قديم الدهر ولم يزالوا، وهم الذين قتلوا الخليفة عثمان

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 350

بن عفّان، ثمّ ساروا إلى أميرالمؤ منين فحاربوه، وبعدُ فإ نّي لستُ آمن أيّها الامير! أنّك إن لم تعاجل الحسين بن علي خاصّة أن تسقط منزلتك عند اميرالموءمنين يزيد.

فقال له الوليد بن عتبة: مهلا! ويحك يا مروان عن كلامك هذا، وأحسن القول في ابن فاطمة فإ نّه بقيّة ولد النبيّين.

... ثمّ بعث الوليد بن عتبة إلى الحسين بن علي وعبدالرحمن ابن أبي بكر «1» وعبد اللّه بن عمر وعبداللّه بن الزبير فدعاهم، فاءقبل إليهم الرسول، والرسول عبداللّه بن عمرو بن عثمان بن عفّان، لم يُصب القوم في منازلهم، فمضى نحو المسجد فإ ذا القوم عند قبر النبيّ (ص)، فسلّم عليهم ثمّ قام وقال: أجيبوا الامير!

فقال الحسين: يفعل اللّه ذلك إذا نحن فرغنا عن مجلسنا هذا إن شاء اللّه.

... فانصرف الرسول إلى الوليد فاءخبره بذلك.

وأقبل عبداللّه بن الزبير على الحسين بن عليّ وقال: يا أباعبداللّه، إنّ هذه ساعة لم يكن الوليد بن عتبة يجلس فيها للناس، وإنّي قد أنكرتُ ذلك وبعثَه في هذا الساعة إلينا ودعاءه إيّانا لمثل هذا الوقت، أتُرى في أيٍّ طلبنا!؟

فقال له الحسين: إذا اءُخبرك اءبابكر، إنّي اءظنّ باءنّ معاوية قد مات، وذلك إنّي رأيت البارحة في منامي كاءنّ منبر معاوية منكوس، ورأيت داره تشتعل نارا، فاءوّلتُ ذلك في نفسي أنّه مات.

فقال له ابن الزبير: فاعلم يا ابن عليّ أنّ ذلك كذلك، فما ترى أن

تصنع إن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 351

دعيتَ إلى بيعة يزيد أباعبداللّه!؟

قال: أصنع أنّي لااءُبايع له اءبدا، لا نّ الامر إنّما كان لي من بعد اءخي الحسن، فصنع معاوية ما صنع، وحلف لا خي الحسن أنّه لايجعل الخلافة لا حدٍ من بعده من ولده، وأن يردَّها إليَّ إن كنتُ حيّا، فإن كان معاوية قد خرج من دنياه ولم يفِ لي ولا لا خي الحسن بماكان ضمن فقد واللّه أتانا ما لا قوام لنا به.

أنظر أبابكر، أنّى أبايع ليزيد!؟ ويزيد رجل فاسق معلنُ الفسق، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب والفهود، ويبغض بقيّة آل الرسول! لا واللّه لايكون ذلك أبدا.

... فبينما هما كذلك في هذا المحاورة إذ رجع إليهما الرسول ... «1»

فقال: أباعبداللّه، إنّ الامير قاعد لكما خاصّة فقوما إليه.

... فزبره الحسين بن علي، ثمّ قال: إنطلق إلى أميرك لا أمَّ لك، فمن أحبَّ أن يصير إليه منّا فإ نّه صائرٌ إليه، وأمّا أنا فإ نّي أصير إليه الساعة إن شاء اللّه تعالى.

... فرجع الرسول أيضا إلى الوليد بن عتبة فقال: أصلح اللّه الامير، أمّا الحسين بن علي خاصّة فقد أجاب، وهاهو صائرٌ إليك في أثري.

فقال مروان بن الحكم: غدر واللّه الحسين!

فقال الوليد: مهلا! فليس مثل الحسين يغدر، ولايقول شيئا ثمّ لايفعل.

... ثمّ أقبل الحسين على من بحضرته فقال: قوموا إلى منازلكم فإ نّي صائرٌ إلى هذا الرجل فاءنظرُ ما عنده وما يريد.

فقال له ابن الزبير: جعلت فداك يا ابن بنت رسول اللّه (ص)، إنّي خائف عليك أن يحبسوك عندهم فلايفارقونك أبدا دون أن تبايع أو تقتل.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 352

فقال الحسين: إنّي لستُ أدخل عليه وحدي، ولكن أجمع أصحابي إليَّ وخدمي وأنصاري وأهل الحقّ من شيعتي، ثمّ آمرهم أن ياءخذ كلّ

واحد سيفه مسلولا تحت ثيابه، ثمّ يصيروا بإ زائي، فإ ذا أنا أوماءتُ إليهم، وقلتُ: يا آل الرسول ادخلوا، دخلوا وفعلوا ما أمرتهم به، فاءكون على الامتناع، ولااءُعطي المقادة والمذلّة من نفسي، فقد علمتُ واللّه اءنّه جاء من الامر ما لا قوام به، ولكنّ قضاء اللّه ماضٍ فيّ، وهوالذي يفعل في بيت رسوله (ع) ما يشاء ويرضى). «1»

لقاء المناورة وإعلان رفض البيعة: ..... ص : 352
اشارة

نعود إلى متابعة القصّة وكيف تمّ اللقاء بين الامام (ع) وبين الوليد.

يتابع ابن أعثم روايته قائلا:

(ثمّ صار الحسين بن علي إلى منزله، ثمّ دعا بماء، فلبس وتطهّر بالماء، وقام فصلّى ركعتين، ودعا ربّه بما أحبّ في صلاته، فلمّا فرغ من ذ لك أرسل إلى فتيانه وعشيرته ومواليه وأهل بيته وأعلمهم بشاءنه، ثمّ قال:

(كونوا بباب هذا الرجل فإ نّي ماضٍ إليه ومكلّمه، فإن سمعتم أنّ صوتي قد علا وسمعتم كلامي وصحتُ بكم، فادخلوا يا آل الرسول واقتحموا من غير إذنٍ، ثمّ اشهروا السيوف ولاتعجلوا، فإن رأيتم ما تكرهون فضعوا سيوفكم ثمّ اقتلوا من يريد قتلي.

ثمّ خرج الحسين (ع) من منزله وفي يده قضيب رسول اللّه (ص)، وهو في

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 353

ثلاثين رجلا من أهل بيته ومواليه وشيعته، حتّى أوقفهم على باب الوليد بن عتبة، ثمّ قال: أنظروا ماذا أوصيتكم فلاتتعدّوه، وأنا أرجو أن أخرج إليكم سالما إن شاءاللّه). «1»

أمّا الشيخ المفيد (ره) قد روى أنّ الامام (ع) قال لهم:

(إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولستُ آمن أن يكلّفني فيه أمرا لاأجيب إليه، وهو غير ماءمون، فكونوا معي، فإ ذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عنّي). «2»

لنعد إلى رواية ابن أعثم حيث قال:

(ثمّ دخل الحسين على الوليد بن عتبة فسلّم

عليه، فردّ عليه ردّا حسنا ثمّ أدناه وقرّبه ... ومروان بن الحكم هناك جالس في مجلس الوليد، وقد كان بين مروان وبين الوليد منافرة ومفاوضة).

فاءقبل الحسين على الوليد فقال: أصلح اللّه الامير، والصلاح خير من الفساد، والصلة خير من الخشناء والشحناء، «3» وقد آن لكما أن تجمتعا، فالحمد للّه الذي ألّف بينكما.

... فلم يجيباه في هذا بشيٍ ...

فقال الحسين: هل أتاكم من معاوية كائنة خبر، فإ نّه كان عليلا وقد طالت علّته، فكيف حاله الان؟

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 354

... فتاءوّه الوليد وتنفّس الصعدأ وقال: أباعبداللّه، آجرك اللّه في معاوية، فقد كان لك عمّ صدقٍ، وقد ذاق الموت، وهذا كتاب أميرالمؤ منين يزيد.

فقال الحسين: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وعظّم اللّه لك الاجر أيّها الامير، ولكن لماذا دعوتني!؟

فقال: دعوتك للبيعة، فقد اجتمع عليه الناس.

فقال الحسين: إنّ مثلي لايعطي بيعته سرّا، «1» وإنّما اءُحبّ اءن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة، ولكن إذا كان من الغد ودعوتَ الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فيكون أمرنا واحدا.

فقال له الوليد: أباعبداللّه، لقد قلت فاءحسنت في القول، وأحببت جواب مثلك، وكذا ظنيّ بك، فانصرف راشدا على بركة اللّه حتّى تاءتينى غدا مع الناس.

فقال مروان بن الحكم: أيّها الامير، إنّه إذا فارقك في هذه الساعة لم يبايع فإ نّك لن تقدر منه ولاتقدر على مثلها، فاحبسه عندك فلاتدعه يخرج أو يبايع وإلّافاضرب عنقه.

... فالتفت إليه الحسين وقال: ويلي عليك يا ابن الزرقاء! أتاءمر بضرب عنقي!؟ كذبت واللّه، واللّه لو رام ذ لك أحدٌ من الناس لسقيتُ الارض من دمه قبل ذلك، وإن شئت ذلك فرُم ضرب عنقي إن كنت صادقا.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 355

ثمّ أقبل الحسين على الوليد بن عتبة وقال: أيّها الامير، إنّا أهل

بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمةّ، وبنا فتح اللّه وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلنٌ بالفسق، مثلي لايبايع لمثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة.

... وسمع من بالباب الحسين فهمّوا بفتح الباب وإشهار السيوف، فخرج إليهم الحسين سريعا فاءمرهم بالا نصراف إلى منازلهم، وأقبل الحسين إلى منزله. «1»

فقال مروان بن الحكم للوليد بن عتبة: عصيتني حتّى انفلت الحسين من يدك، أما واللّه لاتقدر على مثلها أبدا، وواللّه ليخرجنّ عليك وعلى اميرالموءمنين فاعلم ذلك. «2»

فقال له الوليد بن عتبة: ويحك! أشرتَ عليّ بقتل الحسين، وفى قتله ذهاب دينى ودنياي، واللّه ما أحبّ أن أملك الدنيا باءسرها وأنّي قتلت الحسين بن عليّ، إبن فاطمة الزهرأ، واللّه ما أظنّ أحدا يلقى اللّه بقتل الحسين إلّا وهو خفيف الميزان عنداللّه يوم القيامة لاينظر إليه ولايزكّيه وله عذاب أليم.

... فسكت مروان!!) «3»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 356

تاءمّلٌ و ملاحظات: ..... ص : 356
اشارة

إنّ التاءمّل في حوار الاستشارة بين الوليد بن عتبة وبين مروان بن الحكم قبل اللقاء بالا مام (ع)، وفي وقائع اللقاء بين الامام (ع) وبين والي المدينة الوليد بحضور الشيطان المريد مروان بن الحكم يؤ دّي إلى عدّة ملاحظات أهمّها:

1 (الخطّة العسكريّة للحفاظ على حياة الامام (ع) ..... ص : 356

: لقد احتاط الامام (ع) في توجّهه إلى لقاء الوليد بن عتبة بمجموعة كافية من رجاله المسلّحين (في ثلاثين رجلا من أهل بيته ومواليه وشيعته: على ما في رواية الفتوح) تحسّبا لمحاولة اغتياله من قبل السلطة الامويّة في مقرّ والي المدينة الوليد بن عتبة الذي وصفه الامام (ع) على ما في رواية الشيخ المفيد (ره) باءنّه (غير ماءمون)، خاصّة وأنّ الامويّين يعلمون أنّ الامام الحسين (ع) يتربّص بهم الظرف المناسب للخروج والثورة عليهم، «1» وأنّه إنّما آثر المتاركة المؤ قّتة بينه وبينهم لبقاء معاوية في الحياة، لا سباب تتعلّق بشخصيّة معاوية، كنّا قد فصّلنا القول فيها من قبل.

وقد كشف مروان بن الحكم في هذا اللقاء عن هذا العلم وهذه القناعة بقوله على ما في رواية الفتوح: (و واللّه ليخرجنّ عليك وعلى اميرالموءمنين) وقوله على ما في رواية الارشاد: (واللّه لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ...)

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 357

من هنا، كان الاحتمال قويّا في أن تقدم السلطة الامويّة على اغتيال الامام (ع) إجهاضا لحركة الثورة قبل اندلاعها والاعلان عنها، وقد سعت السلطة الامويّة إلى تنفيذ هذه المحاولة بعد ذلك في المدينة وفي مكّة كما سياءتي في ثنايا هذا البحث.

وبعد قتل الامام (ع) في مقرّ الوالي في الظلام بعد منتصف الليل على فرض نجاح عمليّة الاغتيال فإ نّ السلطة الامويّة تستطيع أن تفتعل قصّة مكذوبة

لقتله تتّهم بها بريئا لتضليل بني هاشم خاصّة والامّة عامّة، ثمّ تقوم هي بقتل ذلك البري ء في إطار مطاردة مسرحيّة مفتعلة، وتخرج منها السلطة الامويّة وكاءنّها المطالب بدم الامام (ع) والاخذ بثاءره، وفي الوقت نفسه تكون قد قضت على قائد الثورة قبل اندلاعها والاعلان عنها.

لذا فقد أراد الامام (ع) أن يفوّت هذه الفرصة المحتملة على السلطة الامويّة بإ عداد قوّة عسكريّة مكوّنة من ثلاثين من أهل بيته وشيعته ومواليه شاكين بالسلاح ليكونوا على الباب بانتظار الاشارة منه للتدخل في اللحظة المناسبة، وبذلك يكون الامام (ع) قادرا على الامتناع على أيّ محتمل من محتملات السوء في لقاء تلك الليلة مع الوليد.

2 (لماذا طلب الامام (ع) أن يدعى إلى البيعة علنا مع الناس!؟: ..... ص : 357

ويلاحظ أيضا في هذا اللقاء أنّ الامام (ع) باءسلوب الحكيم الواثق المطمئن قد أجاب الوالي حين طلب منه البيعة ليزيد قائلا على ما في رواية الفتوح:

(إنّ مثلي لايعطي بيعته سرّا، وإنّما أحبّ أن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة، ولكن إذا كان من الغد ودعوتَ الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فيكون أمرنا واحدا)، ولا شك أن أيّ مطّلع يقطع باءنّ الامام الحسين (ع) لايبايع يزيد وإن حضر اجتماع الناس في المسجد للبيعة، أ ليس هو القائل

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 358

لاخيه محمّد بن الحنفيّة:

(يا أخي، واللّه لو لم يكن في الدنيا ملجاء ولا ماءوى لمابايعت يزيد بن معاوية؟).

إذن ما هوالهدف المنشود من ورأ هذا الطلب الذي عرضه الامام (ع)؟ هل كان السبب ورأ هذا الطلب هو أنّ الامام (ع) أراد أن يتخلّص من ضغط الاحراج في دعوة الوالي إيّاه لبيعة يزيد في هذا اللقاء، فسعى إلى تاءجيل ذلك رغبة في الحصول على مهلة أوسع للتخلّص من هذه الورطة!؟

إذا تذكّرنا أوّلا: أنّ الامام (ع) لايبايع يزيد لا سرّا

ولا علنا، وثانيا: أنّه (ع) قد احتاط لكلّ مكروه محتمل في هذا اللقاء وللا متناع على أيّ قهرٍ فيه بقوّة عسكريّة كافية لدى الباب، وثالثا: أنّه (ع) في ختام هذا اللقاء كان قد أعلن عن استحالة مبايعته ليزيد (مثلي لايبايع مثله)، بل أعلن عن خروجه وقيامه في نفس هذا اللقاء حين قال: (ولكنّ نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة)، علمنا أنّ التاءجيل رغبة في الحصول على مهلة أوسع للتخلّص من ورطة إحراج المطالبة بالبيعة لم يكن السبب ورأ هذا الطلب.

إنّ ما أوصلنا إليه التاءمّل في هذه المساءلة هو: أنّ الامام الحسين (ع) أراد في إجابته على طلب الوالي منه البيعة ليزيد باءن يُدعى إليها علنا مع الناس:

إستثمار قوّة وسعة تاءثير العامل الاعلامي والتبليغي في الاجتماع الجماهيري العام الذي تدعى إليه الامّة في المدينة للبيعة عادة، ذلك لا نّه (ع) لو أعلن عن رفضه البيعة ليزيد أمام جماهير أهل المدينة، وفضح أمام هذه الجموع الحاشدة حقيقة يزيد في فسقه واستهتاره، وحرّضهم على رفض البيعة له، واستنهضهم للثّورة ضدّه، وأعلن أمامهم عن قيامه هو (ع)، وبيّن لهم ما هو عازم على النهوض به، ودعاهم بما هو ماءثور وشائع من الاخبار عن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 359

رسول اللّه (ص) في حقّه إلى تاءييده ونصرته والخروج معه، لكان لهذا العمل أثرٌ كبيرٌ جدّا على أهل المدينة باتّجاه تعبئتهم لرفض البيعة ليزيد ولنصرة الامام (ع)، لوكان قد تحقّق للا مام (ع) بالفعل ما كان يرجوه من ورأ هذا الطلب.

ولكنّ مروان الخبيث كان قد فطن إلى خطورة نتائج هذا الطلب، فتدخّل ليحول دون نجاحه حيث طلب من الوليد أن يحبس الامام (ع) عنده حتّى يبايع أو يضرب عنقه، فاضطرّ الامام (ع)

إلى التعجيل بالكشف عن موقفه صراحة في رفض البيعة ليزيد، والاعلان عن ذلك في نفس اللقاء متخلّيا عمّا كان يرجوه في الاجتماع العامّ من أثر العامل الاعلاميّ والتبليغىٍّ في كسب التاءييد الجماهيري لنصرة قيامه (ع).

3 (مروان ... والغرض المزدوج ..... ص : 359

: كان مروان بن الحكم في محاورة الاستشارة قبل اللقاء وفي محاورة اللقاء شيطانا يسعى إلى ضرب عصفورين بحجرٍ واحد، إذ هو يتمنّى قتل الامام الحسين (ع) بغضا وعداوة لا هل البيت (ع)، ويتمنّى أن يرتكب الوليد هذه الجريمة لتشتعل فتنة كبرى في المدينة خاصّة وفي سائر بلاد الاسلام عامّة تكون أقلّ نتائجها عزل الوليد عن منصب الولاية في المدينة، كلّ ذلك حسدا وحنقا على الوليد الذي شغل منصب الولاية بدلا منه.

ولايعني هذا أنّ مروان قد خرج بهذا عن ولائه الامويّ، بل هو يرى أنّ هاتين الامنيّتين تصبّان في مجرى مصلحة الحكم الامويّ، إذ إنّ إحداهما تخلّص د الامويّين من أقوى أعدائهم وهو الامام الحسين (ع)، والثانية تخلّصهم من أمويٍّ ضعيف يفتقر إلى الحزم المطلوب في نظر مروان.

وقد أكدّ مروان ثباته على ولائه الامويّ في لقائه مع الامام الحسين (ع) في صباح اليوم التالي حيث عاود مطالبة الامام (ع) بالبيعة ليزيد، كما عاود تهديد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 360

الامام (ع) إن لم يبايع.

تقول الرواية: (وأصبح الحسين من الغد خرج من منزله ليستمع الاخبار، فإ ذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه.

فقال: أباعبداللّه، إنّي لك ناصح، فاءطعني ترشدْ وتسدّدْ!!

فقال الحسين: وما ذلك!؟ قل حتّى أسمع!

فقال مروان: أقول إنّي آمرك ببيعة أميرالمؤ منين يزيد فإ نّه خَوَلُك في دينك ودنياك!!

فاسترجع الحسين وقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وعلى الاسلام السلام إذ قد بليت الامّة براعٍ مثل يزيد!

ثمّ أقبل الحسين على مروان وقال:

ويحك! أتاءمرني ببيعة يزيد!؟ وهو رجل فاسق! لقد قلت شططا من القول يا عظيم الزلل! لاألومك على قولك لا نّك اللعين الذي لعنك رسول اللّه (ص) وأنت في صلب أبيك الحكم بن أبي العاص، فإ نّ من لعنه رسول اللّه (ص) لايمكن له ولا منه إلّا أن يدعو إلى بيعة يزيد.

ثمّ قال: إليك عنّي يا عدوّ اللّه، فإ نّا أهل بيت رسول اللّه (ص)، والحقّ فينا وبالحقّ تنطق ألسنتنا وقد سمعت رسول اللّه (ص) يقول: (الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان وعلى الطلقاء أبناء الطلقاء، فإ ذا رأيتم معاوية على منبرى فابقروا بطنه)، فواللّه لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اءُمروا به فابتلاهم اللّه بابنه يزيد زاده اللّه في النار عذابا.

... فغضب مروان بن الحكم من كلام الحسين.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 361

ثمّ قال: واللّه لاتفارقني أو تبايع ليزيد بن معاوية صاغرا، فإ نّكم آل أبي تراب قد ملئتم كلاما واءُشربتم بغض آل بني سفيان، وحقّ عليكم اءن تبغضوهم وحقّ عليهم أن يبغضوكم.

فقال له الحسين (ع): ويلك يا مروان! إليك عنّي فإ نّك رجسٌ، وإنّا أهل بيت الطهارة الذين أنزل اللّه عزّ وجلّ على نبيّه محمّد (ص) فقال:

(إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا).

... فنكس مروان رأسه لاينطق بشي ...

فقال له الحسين (ع): أبشر يا ابن الزرقاء بكلّ ما تكره من الرسول (ع) يوم تقدم على ربّك فيساءلك جدّي عن حقّي وحقّ يزيد.

... فمضى مروان مغضبا حتّى دخل على الوليد بن عتبة فخبّره بما سمع من الحسين بن علي). «1»

4 (شخصيّة الوليد بن عتبة ..... ص : 361

: وقد يلاحظ أيضا في ظاهر حوار الاستشارة بين الوليد بن عتبة وبين مروان ابن الحكم قبل الاجتماع مع الامام

(ع)، وفي حوار الوليد مع الامام (ع) أثناء اللقاء، أنّ الوليد بن عتبة شخصيّة أمويّة متميّزة تُكنُّ الحبَّ للا مام الحسين (ع) خاصّة ولا هل البيت (ع) عامّة!!

فقوله يخاطب نفسه بعد ما قرأ كتاب يزيد الاوّل الذي أمره فيه باءخذ الامام (ع) أخذا شديدا لا رخصة فيه بالبيعة: (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، يا ويح الوليد ابن عتبة، من أدخله في هذه الامارة!؟ مالي وللحسين بن فاطمة!؟) وقوله أمام مروان: (يا ليت الوليد لم يولد ولويكن شيئا مذكورا!) وقوله

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 362

لمروان: (فليس مثل الحسين يغدر، ولايقول شيئا ثمّ لايفعل). وقوله له أيضا:

(ويحك، أشرت عليّ بقتل الحسين، وفى قتله ذهاب ديني ودنياي، واللّه ماأحبّ أن أملك الدنيا باءسرها وأنّي قتلتُ الحسين بن علي، إبن فاطمة الزهرأ، واللّه ماأظنّ أحدا يلقى اللّه بقتل الحسين إلّا وهو خفيف الميزان عنداللّه يوم القيامة لاينظر إليه ولايزكّيه وله عذاب أليم). وقوله لمّا ورد عليه كتاب يزيد الثاني الذي أمره فيه أن يبعث إليه برأس د الامام (ع) مع الجواب:

(لا واللّه، لايراني اللّه قاتل الحسين بن عليّ، وأنا لاأقتل ابن بنت رسول اللّه (ص) ولو أعطانى يزيد الدنيا بحذافيرها). «1» وقوله لمّا ظنّ أنّ الامام (ع) خرج من المدينة: (الحمدللّه الذي لم يطالبني اللّه عزّ وجلّ بدمه). «2»

كلّ هذه الاقوال وأخرى نظائرها تدلّ في ظاهرها على أنّ عند الوليد بن عتبة معرفة بالا مام الحسين (ع) ومحبّة له، وتوحي أنّ ثمّة مسحة من التديّن في قلبه، كانت السبب في الصراع الباطني في أعماقه بين خوفه من اللّه وحبّه لا هل البيت (ع) وبين أن يمتثل لا وامر يزيد التي فيها ذهاب دينه ودنياه على حدّ قوله.

لكنّ هناك نصوصا أخرى تدلّ

دلالة مغايرة، وتؤ كّد على أنّ الوليد بن عتبة يخدم الحكم الامويّ بتمام الاخلاص له، حتّى لو فرضت عليه هذه الخدمة أن يُغلظ في القول للا مام الحسين (ع) ويُسي إليه (وقد كان الوليد أغلظ للحسين ...). «3» أو فرضت عليه هذه الخدمة أن يهدّد الامام الحسين (ع) بالقتل، كما حصل بالفعل حين منع الوليد أهل العراق عن لقاء الامام (ع) فوبَّخه الامام (ع) قائلا: (يا ظالما لنفسه، عاصيا لربّه، علامَ تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمُّك!؟). فقال الوليد: (ليت حلمنا عنك

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 363

لايدعو جهل غيرنا إليك، فجناية لسانك مغفورة لك ما سكنت يدك، فلاتخطر بها فتخطر بك، ولو علمت ما يكون بعدنا لا حببتنا كما أبغضتنا). «1»

ومن كلّ ما تقدّم، ومن مجموع سيرة الوليد في منصب ولاية المدينة، يمكن أن نخلص إلى نتيجة عامّة هي: أنّ الوليد بن عتبة أمويُّ مخلصٌ كلَّ الاخلاص للحكم الامويّ عن وعيّ تام لانتمائه القبلى وحرص بالغ على تقديم بنى أميّة على من سواهم، وهذا لاينافي أنّه يرى لا هل البيت (ع) منزلة خاصّة عند اللّه تعالى، ففي الامويّين أفراد من هذه الشاكلة، ممّن يحرص على تقديم آل اميّة ويخدم مصلحة هذا الانتماء، وفي نفس الوقت يتمنّى ألّا يصطدم مع بني هاشم عامّة وأهل البيت (ع) خاصّة، ويطلب العافية من ذلك ويرجوها، والوليد من هذا النوع.

لكنّ هذه الشاكلة من الرجال تبقى غير ماءمونة في لحظات الحرج الشديد، فقد تقدم على تنفيذ أبشع الجرائم امتثالا لا وامر الحاكم الطاغية في حالة من حالات الضعف النفسي وطغيان حالة الازدواجية.

ولذا نجد الامام (ع) يصف الوليد بن عتبة باءنّه (غير ماءمون) لرجاله الذين أوقفهم عند باب الوليد

ليتدخّلوا إذا اقتضى الامر قائلا: (إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلّفني فيه أمرا لاأجيب إليه، وهو غير ماءمون ...). «2»

هذا ويمكن القول أيضا: إنّ الوليد لم يعانِ من مشكلة عمليّة تذكر في منصب الولاية أيّام معاوية، لا نّ معاوية كما الوليد كان يحبّذ معالجة الامور

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 364

المستعصية بالمرونة واللين والدهاء أوّلا وبالصبر عليها إذا اقتضى العلاج الصبر، لكنّ الوليد بعد موت معاوية مباشرة أصبح أمام مشكلة أساسيّة كبيرة في إدارة الامور، وهي أنّ أوامر يزيد وطريقة معالجته الامور، تتّسم بالعجلة والاعتساف والشدّة وعدم التروّي خلافا لسنن النجاح في الادارة والحكم، الامر الذي أحرج الوليد إحراجا شديدا في تنفيذ الاوامر المتشدّدة الصادرة إليه، وخصوصا في أصعب القضايا وهي أخذ البيعة من الامام الحسين (ع).

والظاهر من المتون التاءريخيّة أن الوليد عالج المشكلة على طريقته التي يراها بلون من الرفق والمرونة والدهاء لا كما أراد يزيد فلم يشدّد على الامام (ع)، كما احتال لا خفاء خبر موت معاوية عن عموم أهل المدينة حتّى خروج الامام (ع) منها في خطوة لعزل الامّة عن الامام (ع)، إذ لم يحدّثنا التاءريخ المعتبر أنّه عقد اجتماعا عامّا للبيعة في المدينة قبل خروج الامام (ع) منها كما بينّا ذلك من قبل، وهذه الطريقة التي سلكها الوليد خلافا للا وامر المحدّدة الشديدة التي أمره بها يزيد هي التي أثارت حنق يزيد عليه إذ سرعان ما عزله عن ولاية المدينة بعد خروج الامام الحسين (ع) منها، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الاشدق بدلا منه.

وهنا لابدّ من تسجيل هذه الملاحظة التاءريخيّة المهمّة وهي:

أنّ طابع المرونة والرفق في تعامل الوليد مع الامام الحسين (ع) وتباعده عن إحراجه والتشدّد معه كان من

الاسباب التي ساعدت الامام (ع) على الخروج من المدينة في ركب من عياله وأهل بيته وبعض أصحابه دونما أيّة ممانعة أو مضايقة أو خطورة تذكر، فلو كان الوالي هو مروان بن الحكم مثلا لكان من المحتمل والمتوقّع بدرجة كبيرة أن يُقتل الامام (ع) غيلة أو لا أقلَّ من أن تفرض عليه إقامة جبريّة في المدينة ويمنع من مغادرتها، حيث تاءخذ السلطة لذلك كلّ الاحتياطات والاستعدادات اللّازمة، فلا يتسنّى للا مام (ع)

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 365

الانفلات من طوق الحصار، ولاتسنح له فرصة الخروج بالثورة إلى رحاب أوسع، فتختنق في مهدها، ويُلقى عليها ألف حجاب وحجاب من أباطيل الاعلام الامويّ ودعاياته الكاذبة!

لقد كان وجود الوليد بن عتبة واليا على المدينة آنذاك من الفرص السانحة التي ساعدت الثورة الحسينيّة على الانفلات من طوق الرصد الامويّ الذي كان يتوقّعها منذ موت الحسن (ع) ليخنقها في مهد انبعاثها.

5 (مع العامل الاوّل من عوامل الثورة الحسينيّة ..... ص : 365

: كان العامل الاوّل من العوامل المؤ ثّرة في قيام الثورة الحسينيّة المقدّسة وهو عامل رفض البيعة ليزيد قد أعلنه الامام الحسين (ع) في زمن معاوية أيّام سعيه إلى أخذ الامّة بالبيعة ليزيد بولاية العهد.

وكانت قاطعيّة الامام (ع) في رفض البيعة ليزيد منذ تلك الايّام وإلى أن صار يزيد حاكما هي هي لم تتذبذب ولم يعتورها ضعف أو فتور.

وكان معاوية قد أغمض عن موقف الامام (ع) الصارم في رفض البيعة ليزيد لا نّه كان يؤ ثّر الحفاظ على حالة المتاركة مع الامام (ع) ويحرص على عدم التحرّش به وإثارته لا سباب كنّا قد قدّمنا التفصيل فيها قبل ذلك.

ومع أنّ الامام (ع) كان قد أعلن عن رفضه القاطع للبيعة بولاية العهد ليزيد في زمن معاوية، فإ نّ عامل رفض البيعة لم يُشعل فتيل الثورة

الحسينيّة أيّام معاوية لا نّ الامام (ع) كان بدوره أيضا يؤ ثر آنذاك الصبر على حالة المتاركة مع معاوية وعدم القيام مادام معاوية حيّا لا سباب قدّمنا التفصيل فيها أيضا فيما مضى تحت عنوان: (لماذا لم يثر الامام الحسين (ع) على معاوية!؟)، ولا نّ يزيد آنذاك لم يكن قد صار بالفعل حاكما بعد أبيه.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 366

على هذا، فالمواجهة بين الامام الحسين (ع) وبين الحكم الامويّ كانت معلنة من قبل الامام (ع) منذ ذلك الوقت، لكنّها كانت مؤ جّلة مادام معاوية في الحياة، ومادام يزيد لم يصبح حاكما بعده بالفعل.

وهنا قد يُثار هذا السؤ ال وهو:

لو أنّ يزيد بعد أن أصبح حاكما بعد أبيه بالفعل لم يكن قد طلب البيعة من الامام الحسين (ع)، وترك الامام الحسين (ع) وشاءنه، هل كان الامام (ع) سيسكت عن حكومة يزيد، ويؤ ثر القعود والمتاركة وعدم القيام!؟

وفي الاجابة عن هذا السؤ ال لابدّ من التذكير بهذه الحقيقة وهي:

أنّ التفكيك بين عامل رفض البيعة ليزيد وبين عامل طلب الاصلاح في الامّة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر تفكيك إعتباريّ غير حقيقيّ، هذا التفكيك نتعاطاه في الذهن ولا حقيقة له في الخارج، إذ إنّ هذين العاملين ممتزجان في الحقيقة منذ البدء، فما رَفْضُ الامام (ع) لهذه البيعة إلّا كي لاتتحقّق المفسدة ويُقضى على الصلاح ويتلاشى المعروف ويستحكم المنكر، وما طلب الامام (ع) الاصلاح والتغيير في أمّة جدّه والامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كي يقضي على الفساد والمنكر الذي من أهمّ مصاديقه الحكومة الفاسدة التي على رأسها رجل متهتّك مثل يزيد.

والمتاءمّل في البيانات الاولى التي صرّح بها الامام (ع) يكتشف بوضوح حقيقة الامتزاج الذي لايقبل التفكيك بين هذين العاملين، إنّ رفض الامام

(ع) البيعة ليزيد في مجلس والي المدينة آنئذٍ الوليد بن عتبة كان قد امتزج منذ اللحظات الاولى بعامل طلب الاصلاح في الامّة وإقامة الخلافة الحقّة في احتجاجه (ع) حين قال للوليد بن عتبة:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 367

(أيّها الامير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، وبنا فتح اللّه وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس د المحرّمة، ملعنٌ بالفسق، ومثلي لايبايع مثله، ولكنّ نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة). «1»

كما يلحظ المتاءمّل أيضا حقيقة الامتزاج بين هذين العاملين في احتجاجات الامام الحسين (ع) على معاوية في قضيّة البيعة ليزيد بولاية العهد.

وامتزاج عامل رفض البيعة بعامل طلب الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني أنّ الامويّين لو تركوا الامام الحسين (ع) وشاءنه، ولم يطالبوه بالبيعة لماتركهم وشاءنهم ولماكفّ عنهم.

ولايخفى أنّ قاطعيّة الامام الحسين (ع) في رفض البيعة ليزيد، والتي عبّر عنها الامام (ع) بقوله لا خيه محمّد بن الحنفيّة قائلا:

(يا أخي واللّه لو لم يكن في الدنيا ملجاء ولا ماءوى لمابايعتُ واللّه يزيد بن معاوية أبدا)، «2» لم تنشاء عن سبب شخصيٍّ، بل عن سبب مبدئيٍّ.

لقد آثر الامام الحسين (ع) أن يقتل ولايقبل بالبيعة ليزيد لا نّ خطر مبايعة يزيد كان موجّها للا سلام وليس لشخص الامام (ع)، أي أنّ هذا الخطر كان يهدّد النظام الكليّ للا سلام وفلسفة قيام الحكم الاسلامي، وهي ليست مساءلة جزئيّة أو فرعيّة تتحمّل التقيّة.

كانت بيعة الامام (ع) ليزيد تعني إضفاء المشروعيّة والمصادقة على تحوّل

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 368

شكل الحكم الاسلامي إلى ملك وراثىٍّ عضوض، وهذا يعني في جملة ما يعنيه بقاء الحكم والسلطة في البيت الامويّ، الامر الذي يعني بدوره أيضا بقاء الحكم والسلطة في

يد أخطر فصيل من فصائل حركة النفاق التي دأبت تسعى منذ رحلة النبيّ (ص) إلى القضاء التدريجي على الاسلام المحمّديّ الخالص.

ولمّا انتهى الامر إلى معاوية بن أبي سفيان، تمكّن هذا الرجل الداهية مع طول المدّة وعمق الحيلة وتعدّد الاساليب من أن يخدع جلّ هذه الامّة الاسلاميّة على كلّ الاصعدة، فلم يعد أكثر هذه الامّة يرى إلّا ما يطرحه الامويّون تحت عنوان الاسلام أو يرتضونه من الاسلام على صعيد الاعتقاد والتشريع والاخلاق، حتّى صار أكثر الناس لايعرفون إلّا (الاسلام الامويّ)، ولايرون فصلا بين الامويّة والاسلام، ولايدرون أنّ الحقيقة شي آخر غير هذا!!.

فلو أنّ الامام الحسين (ع) كان قد بايع يزيد، لكان بذلك قد صادق على اءُكذوبة عدم الفصل بين الامويّة والاسلام، وصادق على مشروعيّة وحقّانيّة (الاسلام الامويّ)، وصادق على مشروعيّة كلّ مبتدعات حركة النفاق، ووقّع معترفا بصحّة الانحراف وبمشروعيّة استمراره ... وهذا لايعني إلّا المصادقة على القضاء التامّ على الاسلام المحمّدي الخالص.

من هنا أكّد الامام الحسين (ع) على أنّ مبايعته ليزيد هي القضاء على الاسلام حين قال لمروان بن الحكم:

(إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وعلى الاسلام السلام إذ قد بُلِيت الامّة براعٍ مثل يزيد). «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 369

ومن نافلة القول بعد هذا أن نذكّر باءنّ مبايعة الامام الحسين (ع) ليزيد كانت تعني أيضا فضلا عن القضاء التامّ على الاسلام إضفاء المشروعيّة والمصادقة على كلّ سوءات ومساءات الحكم الامويّ، ومنها سبّ الامام عليٍّ (ع) ولعنه، وهو ما كان قد شرع به في زمن معاوية.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 371

الفصل الرابع بداية رحلة الفتح بالشهادة ..... ص : 372
اشارة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 373

الفصل الرابع بداية رحلة الفتح بالشهادة

لماذا لم يبق الامام (ع) في المدينة المنوّرة؟ ..... ص : 373

لماذا عزم الامام الحسين (ع) على ترك المدينة المنوّرة وآثر الخروج منها؟

ألم يكن له فيها ماءمنٌ مع كثرة من فيها من بني هاشم والصحابة من مهاجرين وأنصار وكثرة من فيها من التابعين!؟

هل كان هناك من يستطيع أن يجسر على قتال الامام الحسين (ع) في المدينة ومواجهته فيها مواجهة عسكريّة علنيّة مع ما كان يتمتّع به الامام (ع) من قدسيّة خاصّة ومنزلة سامية وشاءن رفيع في قلوب أهل المدينة!؟

هل كان ثَمَّ احتمال لاغتيال الامام (ع) في المدينة!؟

وهل كان خروج الامام (ع) (خائفا يترقّب) خشية من تحقّق هذا الامر خوفا على نفسه الشريفة وعلى صفوة أنصاره من أهل بيته وأصحابه!؟

أم أنّ الامام (ع) أراد من ورأ كلّ ذلك أمرا آخر؟

لايخفى على متاءمّل أنّ احتمال وقوع مواجهة عسكريّة في المدينة بين الامام (ع) وأنصاره من جهة وبين قوّات السلطة الامويّة من جهة أخرى كان احتمالا قويّا بسبب رعونة يزيد بن معاوية التي تجسّدت في أوامره المشدّدة لوالي المدينة آنئذٍ الوليد بن عتبة بقتل الامام الحسين (ع) في حال رفضه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 374

البيعة، خصوصا في رسالته الاخيرة إلى الوليد الذي ذكر له في رسالة بعد لقائه بالا مام (ع) وإعلان الامام (ع) رفضه المبايعة: (أنّه ليس يرى لنا عليه طاعة ولا بيعة)، «1» حيث غضب يزيد لذلك غضبا شديدا، وكان إذا غضب انقلبت عيناه فعاد أحول، وكتب إلى الوليد قائلا: (من عبداللّه يزيد اميرالموءمنين إلى الوليد بن عتبة. أمّا بعدُ: فإ ذا ورد عليك كتابي هذا، فخذ البيعة ثانيا على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم، وذر عبداللّه بن الزبير فإ نّه لن يفوتنا ولن ينجو منّا أبدا مادام حيّا، وليكن

مع جوابك إليَّ رأس الحسين بن عليّ، فإ ذا فعلت ذلك فقد جعلت لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الاوفر والنعمة واحدة، والسلام). «2»

وعلى فرض أنّ والي المدينة الوليد بن عتبة لم يكن ليمتثل لا مر يزيد بقتل الامام (ع)، حيث يروي التاءريخ أنّه لمّا ورد عليه كتاب يزيد قال: (لا واللّه لايراني اللّه قاتل الحسين بن عليّ، وأنا لاأقتل ابن بنت رسول اللّه (ص) ولو أعطاني يزيد الدنيا بحذافيرها)، «3» فإن يزيد لن يُعدم أمويّين آخرين يُسارعون إلى تنفيذ أوامره بقتل الامام (ع)، من أمثال مروان بن الحكم وأضرابه، وحادثة المواجهة المسلّحة التي كادت أن تقع بين الامويّين بقيادة مروان بن الحكم وبين بني هاشم في يوم دفن الامام الحسن (ع) خير شاهد على ذلك.

لكنّ المتاءمّل يجد أنّ الامويّين أنفسهم لايرون هذا الاختيار أفضل من اختيار اغتيال الامام الحسين (ع) في صورة غامضة يمكنهم فيها الظهور بمظهر البُرَآء من دمه، بل ويمكنهم فيها تمثيل دور المطالب بدمه، فيتقرّبون بذلك

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 375

إلى قلوب الامّة ويفوزون بميلها إليهم.

إنّ من الامويّين نخبة من أهل الدهاء والتخطيط والتدبير، كما إنّ فيهم جماعة من الحمقى وذوي الخرق والاعتساف، ولا شك أنّ أهل الدهاء على منهج معاوية في التخلّص من أعدائه يرجّحون أسلوب الاغتيال على أسلوب المواجهة المسلّحة المكشوفة.

لقد كان احتمال الاغتيال هو الاحتمال الاكبر، وقد حسب له الامام الحسين (ع) حسابه الواقعي فاستبق الاحداث زمنيا تحسّبا من تحقّقه وخرج من المدينة.

وكفى برسائل يزيد إلى الوليد بن عتبة دليلا على عزم يزيد وتصميمه على اغتيال الامام (ع) بشكل غامض أو صريح، غير أنّ من الدلائل التاءريخيّة الاخرى على ذ لك ما ورد في رسالة ابن عبّاس إلى يزيد

حيث خاطبه فيها قائلا: (... وما أنسَ من الاشياء، فلستُ بناس اطّرادك الحسين بن علي من حرم رسول اللّه إلى حرم اللّه، ودسّك عليه الرجال تغتاله، فاءشخصته من حرم اللّه إلى الكوفة، فخرج منها خائفا يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديما، وأعزّ أهلها بها حديثا، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لوتبوّأ بها مقاما واستحلّ بها قتالا، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول اللّه، فاءكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست عليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ...)، «1» فهذا المقطع من رسالة ابن عبّاس كاشف عن أنّ يزيد سعى إلى اغتيال الامام (ع) في المدينة كما سعى إلى ذ لك في مكّة المكرّمة.

واستباقا لما هو متوقّع الحدوث، فقد خرج الامام (ع) بركبه من المدينة، إذ لم تعد مدينة رسول اللّه (ص) ماءمنا لابن بنت رسول اللّه (ص)!!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 376

وصحيح أنّه (ع) كان قد خرج من المدينة خشية الاغتيال خوفا على نفسه الشريفة، وخوفا من أن تهتك حرمة حرم رسول اللّه (ص) بقتله غيلة أو في مواجهة مسلّحة، لكنّ الصحيح في العمق أيضا أنّ هذا الخوف كان يقع ضمن إطار خوفٍ أكبر، وهو خوفه (ع) من أن تخنق ثورته المقدّسة قبل اشتعالها بقتله غيلة في المدينة في ظروف زمانيّة ومكانيّة وملابسات مفتعلة يقوم بإ عدادها وإخراجها الامويّون أنفسهم، يستطيعون من خلالها الاستفادة حتّى من حادثة قتله لصالحهم إعلاميا فتبقى ماءساة الاسلام على ما هي عليه، بل تترسّخ المصيبة وتشتدّ!!

كان الامام (ع) حريصا على أن يتحقّق مصرعه الذي كان لابدّ منه ما لم يبايع في ظروف زمانيّة ومكانيّة يختارها هو (ع)، لايتمكّن العدوّ فيها أن يعتمّ على مصرعه، أو

أن يستفيد من واقعة قتله لصالحه، فتختنق الاهداف المنشودة من ورأ هذا المصرع الذي أراد منه (ع) أن تهتزّ أعماق وجدان الامّة لتتحرّك بالا تّجاه الصحيح الذي أراده (ع) لها.

فكان خروجه (ع) من المدينة وكذلك من مكّة في الاصل انفلاتا بالثورة المقدّسة من طوق الحصار والتعتيم الامويّ، إضافة إلى خوفه (ع) من أن تهتك حرمة أحد الحرمين الشريفين بقتله.

الليلة أو الليلتان الاخيرتان في المدينة: ..... ص : 376

لنعد إلى مجرى أحداث القصّة في المدينة المنوّرة بعد لقاء الامام الحسين (ع) بوالي المدينة الوليد بن عتبة، ذلك اللقاء الذي أعلن (ع) فيه رفضه للبيعة، كما أعلن فيه أنّه أحقّ الناس بالخلافة.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 377

وقد يتساءل المتابع قائلا: كم بقي الامام الحسين (ع) في المدينة المنوّرة بعد ذلك اللقاء الساخن المشحون بالتوتّر؟

ولايقع المتابع في هذه المساءلة على جواب تاءريخيّ واحد، لا نّ المصادر التاءريخيّة قد اختلفت في الاجابة عن هذا السؤ ال، فالسيّد بن طاووس (ر) في كتابه اللهوف، يقول: (قال رواة حديث الحسين (ع) مع الوليد بن عتبة ومروان: فلمّا كان الغداة توجّه الحسين (ع) إلى مكّة لثلاث مضين من شعبان سنة ستّين ...). «1» وهذا يعني أنّ الامام (ع) لم يبق بعد ذلك اللقاء إلّا سواد تلك الليلة نفسها حيث خرج أوّل صبحها من المدينة!! وهذا لاينسجم من حيث سعة الوقت مع الاخبار التي تتحدّث عن ذهابه إلى زيارة قبر جدّه (ص) مرّتين، وذهابه إلى زيارة قبر أمّه وأخيه (ع)، ولقائه مع كلٍّ من أمّ سلمّة رضى اللّه عنها ومحمّد بن الحنفيّة (ر)، وعمر الاطرف، ونساء بني هاشم، ومروان بن الحكم وغيرهم ... فسواد تلك الليلة لايتّسع لكلّ ذلك، فضلا عن الوقت الذي يستلزمه الاعداد للرّحيل، فضلا عن أنّ لقاءه (ع) مع الوليد

بن عتبة كان في ساعة متاءخّرة من تلكم الليلة.

و تقول بعض المصادر الاخرى: (وخرج الحسين في الليلة الاتية باءهله وفتيانه، وقد اشتغلوا عنه بابن الزبير، فلحق بمكّة). «2»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 378

وهذا يعني أنّ الامام (ع) قد خرج في الليلة التي تلت ليلة اللقاء مع الوالى، لكنّ هذا المصدر التاءريخي نفسه (تذكرة الخواصّ) ينقل بعد ذلك مباشرة هذا الخبر: (وقال أبوسعيد المقري: سمعت الحسين (ع) يتمثّل تلك الليلة وهو خارج من المسجد بقول ابن مفرغ: «1»

لا ذعرت السوام في غسق الصبح مغيرا ولا دعوت يزيدا

يوم اءُعطي من المهانة ضيما والمنايا يرصدنني اءن اءَحيدا

قال: فقلت في نفسي ما تمثّل بهذين البيتين إلّا لشيٍ يريده، فخرج بعد ليلتين إلى مكّة). «2»

ويستفاد من هذا الخبر أنّ الامام (ع) قد خرج بعد ليلتين من ليلة اللقاء بالوليد بن عتبة، كما يستفاد منه أيضا أنّه (ع) زار قبر جدّه (ص) زيارته الاولى في نفس ليلة اللقاء «3» في الساعات الاخيرة منها.

وهذا عموما يوافق المستفاد أيضا من سرد ابن أعثم الكوفي لمجريات أحداث القصّة في كتابه الفتوح. «4»

يقول التاءريخ:

(وخرج حسين بن عليّ من منزله ذات ليلة (وهى ذات ليلة اللقاء بالوليد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 379

بن عتبة كما بيّنّا)، وأتى إلى قبر جدّه (ص) فقال:

السلام عليك يا رسول اللّه، أنا الحسين بن فاطمة، أنا فرخك وابن فرختك، وسبطك في الخلف الذي خلّفت على أمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ اللّه أنّهم قد خذلوني وضيّعونى، وأنّهم لم يحفظوني، وهذه شكواي اليك حتّى ألقاك صلّى الله عليك وسلّم.

ثمّ وثب قائما وصفّ قدميه، ولم يزل راكعا وساجدا ...

قال: وأرسل الوليد بن عتبة إلى منزل الحسين لينظر هل خرج من المدينة أم لا، فلم يصبه في منزله فقال: الحمدللّه

الذي لم يطالبني اللّه عزّ وجلّ بدمه، وظنّ أنّه خرج من المدينة.

قال: ورجع الحسين إلى منزله مع الصبح!) «1»

(قال: وأصبح الحسين من الغد، خرج من منزله ليستمع الاخبار، فإ ذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه ...). «2»

لنتابع ما حدث في الليلة الثانية ...

يقول صاحب الفتوح: (... فلمّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضا فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول:

أللّهمّ، هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابن بنت محمّد وقد حضرني من الامر ما قد علمت، أللّهمّ وإنّي أحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أساءلك يا ذا الجلال والاكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه إلّا ما اخترت من أمري هذا ما هو لك

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 380

رضى.

قال: ثمّ جعل الحسين (ع) يبكي، حتّى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فاءغفى ساعة، فرأى النبيّ (ص) قد أقبل في كبكبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتّى ضمّ الحسين إلى صدره وقبّل بين عينيه.

وقال: يا بنيّ يا حسين، كاءنّك عن قريب أراك مقتولا مذبوحا باءرض كرب وبلاء من عصابة من أمّتي، وأنت في ذلك عطشان لاتُسقى، وظم آن لاتروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم!، لاأنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة! فما لهم عنداللّه من خلاق. حبيبي يا حسين، إنّ أباك وأمّك وأخاك قد قدموا عليّ، وهم إليك مشتاقون. وإنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلّا بالشهادة.

قال: فجعل الحسين ينظر في منامه إلى جدّه (ص) ويسمع كلامه ..

وهو يقول: يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا أبدا، فخذني إليك، واجعلني معك إلى منزلك.

قال: فقال له النبيّ (ص): يا حسين، إنّه لابدّ لك من الرجوع إلى

الدنيا حتّى ترزق الشهادة وما كتب اللّه لك فيها من الثواب العظيم، فإ نّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة). «1»

... وانتبه الامام (ع) وقصّ رؤ ياه على أهل بيته وبني عبدالمطلّب (فلم يكن

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 381

ذلك اليوم في شرق ولا غرب أشدّ غمّا من أهل بيت الرسول (ص) ولا أكثر منه باكيا ولا باكية.) «1»

ويقول صاحب الفتوح: (وتهيّاء الحسين بن علي (ع) وعزم على الخروج من المدينة ومضى في جوف الليل إلى قبر أمّه فصلّى عند قبرها وودّعها ثمّ قام عن قبرها وصار إلى قبر أخيه الحسن (ع) ففعل مثل ذلك، ثمّ رجع إلى منزله.

وفي وقت الصبح أقبل أخوه محمّد بن الحنفية). «2»

ومع أنّ ابن أعثم لم يحدّد أيّة ليلة كانت تلك الليلة التي زار فيها الامام (ع) قبر أمّه وقبر أخيه (ع)، إلّا أنّ القرينة في قوله: (وفي وقت الصبح أقبل إليه أخوه محمّد) كاشفة عن أنّ تلك الليلة هي الليلة التي سبقت ليلة السفر إلى مكّة، لا نّ لقاء أخيه محمّد معه (ع) كان في آخر نهار له (ع) في المدينة (على ما في الفتوح) كما سياءتي.

لقاءات الوداع في المدينة ..... ص : 381
اشارة

وفي غضون هذه الفترة الوجيزة هرع إلى الامام (ع) رجال ونساء من بني هاشم ومن غيرهم يودّعونه ويتزوّدون من رؤ يته قبل الفراق، وقد سجّل لنا التاءريخ بعض هذه اللقاءات المشحونة بالحزن والاسى والقلق والخوف على الامام (ع).

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 382

ونحن نذكر هنا من هذه اللقاءات ما هو متيقّن الحدوث في المدينة، وأمّا ما لم نقطع تحقيقا بحدوثه في المدينة، أو في مكّة، فسوف نذكره ضمن لقاءات الامام (ع) في مكّة لوجود قرينة تجعله مظنون الحدوث في

مكّة.

عزأ نساء بني عبدالمطّلب ..... ص : 382

عن الامام الباقر (ع) أنّه قال: (لمّا همّ الحسين (ع) بالشخوص عن المدينة أقبلت نساء بني عبدالمطّلب، فاجتمعن للنياحة حتّى مشى فيهنّ الحسين (ع) فقال: اءُنشدكنَّ اللّه اءن تُبدين هذا الامر معصية للّه ولرسوله.

قالت له نساء بني عبدالمطّلب: فَلِمَ نستبقي هذه النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيومٍ مات فيه رسول اللّه (ص) وعليّ (ع) وفاطمة (س) ورقيّة وزينب وأمّكلثوم، فننشدك اللّه، جعلنا اللّه فداك من الموت، فيا حبيب الابرار من أهل القبور.

وأقبلت بعض عمّاته تبكي وتقول: أشهد يا حسين لقد سمعت الجنّ ناحت بنوحك، وهم يقولون:

وإنّ قتيل الطفّ من آل هاشمٍ أذلّ رقابا من قريشٍ فذلّتِ

حبيب رسول اللّه، لم يك فاحشا أبانت مصيبتك الانوف وَجَلَّتِ

وقلن أيضا:

بكّوا حسينا سيّدا ولقتله شاب الشَّعَر ولقتله زُلزلتمُ ولقتله انكسف القمر

واحمرّت آفاق السماء من العشيّة والسحر وتغيّرت شمس البلاد بهم وأظلمت الكُوَر

ذاك ابن فاطمة المصاب به الخلائق والبشر أورثتنا ذُلّا به جَدْعُ الانوف مع الغرر «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 383

وقد ذكر صاحب كتاب معالي السبطين: (ثمّ إنّ نساء بني هاشم أقبلن إلى أمّهاني عمّة الحسين (ع) وقلن لها: يا أمّ هاني، أنت جالسة والحسين (ع) مع عياله عازم على الخروج!؟

فاءقبلت أمّهاني، فلمّا رآها الحسين (ع) قال: أما هذه عمّتي أمّهاني؟

قيل نعم.

فقال: يا عمّة، ما الذي جاء بك وأنت على هذه الحالة!؟

فقالت: وكيف لاآتي، وقد بلغني أنّ كفيل الارامل ذاهب عنّي!؟

ثمّ إنّها انتحبت باكية، وتمثّلت باءبيات أبيها أبي طالب (ع):

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للا رامل

تطوف به الهلّاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

ثمّ قالت: سيّدي وأنا متطيّرة عليك من هذا المسير لهاتف سمعتُ البارحة يقول:

وإنّ قتيل الطفّ من آل هاشم اءَذلَّ رقابا من قريش فذلّتِ

حبيب رسول اللّه،

لم يك فاحشا أبانت مصيبته الانوف وجلّتِ

فقال لها الحسين (ع): يا عمّة لاتقولي من قريش، ولكن قولي (أذلّ رقاب المسلمين فذلّت).

ثمّ قال: يا عمّة، كلُّ الذي مقدّر فهو كائن لامحالة.

وقال (ع):

وما هم بقومٍ يغلبون ابن غالب ولكن بعلم الغيب قد قُدِّرَ الامرُ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 384

فخرجت أمّ هاني من عنده باكية وهي تقول:

وما أمُّ هاني وحدها ساء حالَها خروج حسينٍ عن مدينة جدّه

ولكنّما القبرُ الشريف ومن به ومنبره يبكون من أجله فقده «1»

عزأ امّ المومنين امّ سلمة (رض): ..... ص : 384

وروي أنّه: (لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته أمّ سلمة رضي اللّه عنها فقالت: يا بنيّ لاتحزنّي بخروجك إلى العراق، فإ نّي سمعت جدّك يقول:

يُقتل ولدي الحسين باءرض العراق في أرض يُقال لها كربلا.

فقال لها: يا أمّاه، وأنا واللّه أعلم ذلك، وإنّي مقتول لامحالة، وليس لي من هذا بدُّ، وإنّي واللّه لا عرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي اءُدفن فيها، وإنّي اءعرف من يُقتل من اءهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أمّاه اءُريك حفرتي ومضجعي.

ثمّ أشار إلى جهة كربلاء فانخفضت الارض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره، وموقفه ومشهده.

فعند ذلك بكت أمُّ سلمة بكاءً شديدا، وسلّمت أمره إلى اللّه ...

فقال لها: يا أمّاه، قد شاء اللّه عزّ وجلّ أن يراني مقتولا مذبوحا ظلما وعدوانا، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مُشرَّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، ماءسورين مقيّدين وهم يستغيثون فلايجدون ناصرا ولا معينا.

وفي رواية أخرى:

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 385

قالت أمّ سلمة: وعندي تربة دفعها إليَّ جدُّك في قارورة.

فقال: واللّه إنّي مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضا. ثمّ أخذ تربة فجعلها في قارورة، وأعطاها إيّاها.

وقال: إجعليها مع قارورة جدّي، فإ ذا فاضتا دما فاعلمي أنّي

قد قُتلت). «1»

امّ سلمة (رض) والودائع ..... ص : 385

وروي أنّه (لمّا توجّه الحسين (ع) إلى العراق دفع إلى أمّ سلمة رضي اللّه عنها زوج النبيّ (ص) الوصيّة والكتب وغير ذلك، وقال لها: إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك.

فلمّا قُتل الحسين (ع) أتى علي بن الحسين (ع) أمَّ سلمة رضي اللّه عنها فدفعت إليه كلّ شي أعطاها الحسين (ع). «2»

وفي رواية أخرى: (وكتب الحسين (ع) وصيّة، وأودعها أمّ سلمة، وجعل طلبها منها علامةً على إمامة الطالب لها من الانام، فطلبها زين العابدين (ع). «3»

وهذا كاشف عن صدق ايمان أمّ المؤ منين (أمّ سلمة رضوان اللّه تعالى عليها) وجلالة شاءنها ومنزلتها الخاصّة عند أهل البيت (ع).

عمر الاطرف ومنطق المداهنة وحبّ السلامة!! ..... ص : 385

وروي عن عمر الاطرف بن الامام علىٍّ (ع) أنّه قال: (لمّا امتنع أخي

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 386

الحسين (ع) عن البيعة ليزيد بالمدينة دخلت عليه فوجدته خاليا.

فقلت له: جُعلت فداك يا أباعبداللّه، حدّثني أخوك أبومحمّد الحسن عن أبيه (ع) ...

ثمّ سبقتني الدمعة، وعلا شهيقي، فضمّني إليه.

وقال: حدّثك أنّي مقتول؟

فقلت: حوشيتَ يا ابن رسول اللّه!

فقال: ساءلتك بحقّ أبيك، بقتلي خبّرك؟

فقلت: نعم، فلو لا ناولت وبايعت!!

فقال: حدّثني أبي أنّ رسول اللّه (ص) أخبره بقتله وقتلي، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته، فتظنُّ أنّك علمت ما لم أعلمه!؟ وإنّه لاأعطي الدنيّة من نفسي أبدا، ولتلقينّ فاطمة أباها شاكية ما لقيت ذرّيتها من أمّته، ولايدخل الجنّة أحدٌ آذاها في ذرّيتها!!). «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 387

محمّد بن الحنفيّة ... النصيحة والوصيّة ..... ص : 387

في صباح آخر نهار للا مام الحسين (ع) في المدينة أقبل إليه أخوه محمّد بن الحنفيّة (ر)، وقد غلبه الاسى والحزن، وطغى عليه القلق والخوف على حياة الامام (ع)، وقد قلّب أوجه التفكير في الامر، ورأى أن يقدّم النصيحة بين يدي أخيه (ع)، فلمّا استقّر به المقام:

قال: (يا أخي أنت أحبُّ الناس إليّ، وأعزّهم عليّ، ولستُ أدّخر النصيحة لا حد من الخلق إلّا لك، وأنت أحقّ بها، تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الامصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعك الناس د وبايعوا لك حمدت اللّه على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لن يُنقص اللّه بذلك دينك ولا عقلك ولاتذهب به مروّتك ولا فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصرا من هذه الامصار، فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لا وّل الاسنّة غرضا، فإ ذا خير ه ذه الامّة كلّها نفسا وأبا وأمّا أضيعها دما وأذلّها

أهلا!!

فقال له الحسين (ع): فاءين أذهب يا أخي؟

قال: إنزل مكّة، فإن اطماءنّت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد، حتّى تنظر إلى ما يصير أمر الناس إليه، فإ نّك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الامر استقبالا.

فقال: يا أخي، قد نصحت وأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديدا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 388

موفّقا. «1»

وفي رواية الفتوح: أخرج إلى مكّة، فإن اطماءنّت بك الدار فذاك الذي تحبُّ واءُحبُّ، وإن تكن الاخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإ نّهم اءنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوبا، وأوسع الناس

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 389

بلادا، وأرجحهم عقولا، فإن إطماءنّت بك أرض اليمن وإلّا لحقت بالرمال وشعوب الجبال، وصرت من بلد إلى بلد، لتنظر ما يؤ ول إليه أمر الناس ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين.

فقال له الحسين (ع): يا أخي، واللّه لو لم يكن في الدنيا ملجاء ولا ماءوى لما بايعتُ واللّه يزيد بن معاوية أبدا، وقد قال (ص): (أللّهمّ لاتبارك في يزيد).

قال: فقطع عليه محمّد بن الحنفيّة الكلام وبكى، فبكى معه الحسين ساعة ..

ثمّ قال: (جزاك اللّه يا أخي عنّي خيرا، ولقد نصحت وأشرتَ بالصواب، وأنا أرجو أن يكون إن شاء اللّه رأيك موفّقا مسدّدا، وإنّي قد عزمت على الخروج إلى مكّة، وقد تهيّاءتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو إخوتي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي. وأمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم، ولاتخف عليّ شيئا من أمورهم). «1»

(ثمّ دعا الحسين (ع) بدواة وبياض وكتب هذه الوصيّة لا خيه محمّد:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا ما أوصى به الحسين بن علىٍّ بن أبي طالب إلى أخيه محمّد المعروف بابن الحنفيّة: أنّ

الحسين يشهد أن لاإله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحقّ، وأنّ الجنّة والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور، وإنّي لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدّي (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علىٍّ بن أبي طالب (ع)، فمن قبلني بقبول الحقّ فاللّه أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين، وهذه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 390

وصيّتي يا أخي إليك وما توفيقي إلّا باللّه عليه توكّلت وإليه اءُنيب.

قال: ثمّ طوى الحسين الكتاب وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمّد، ثمّ ودّعه وخرج في جوف الليل). «1»

تاءمّل وملاحظات: ..... ص : 390
الامام (ع) في المدينة يتحدّث عن مصرعه في العراق!! ..... ص : 390

ملفتٌ للا نتباه أنّ الامام الحسين (ع) مع قصده المرحلي في الخروج من المدينة إلى مكّة المكرّمة كان قد أعلن لا هل بيته وشيعته عن قصده النهائي في الخروج إلى أرض العراق وهو في المدينة لمّا يخرج عنها بعدُ، فها هي أمّ سلمة رضي اللّه عنها تقول له: (يا بنيّ لاتحزنّي بخروجك إلى العراق، فإ نّي سمعتُ جدّك يقول: يُقتل ولدي الحسين باءرض العراق في أرض يُقال لها كربلاء) فيقول (ع): (يا أمّاه وأنا، واللّه أعلم ذلك، وإنّي مقتول لامحالة ...)، ويقول (ع) لا خيه عمر الاطرف: (حدّثني أبي أنّ رسول اللّه (ص) أخبره بقتله وقتلي، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته ...)، وهناك نصوص أخرى تؤ كّد هذه الحقيقة.

ويستفاد من هذه الحقيقة على صعيد التحليل التاءريخي إضافة إلى البعد الاعتقادي الحاكي عن أنّ الامام الحسين (ع) كان يعلم بكلّ تفاصيل ما يجري عليه

بعلمٍ إلهي موهبيّ لكونه إماما أنّ الامام الحسين (ع) على ضوء درايته السياسيّة الاجتماعيّة كان يرى أنّ العراق أفضل أرض يختارها مسرحا للمواجهة وللمعركة الفاصلة بينه وبين السلطة الامويّة، وأنّ العراق أفضل بقعة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 391

يختارها للمصرع المحتوم (وإنّي مقتولٌ لامحالة)، وذلك لما في العراق من كمٍّ شيعىٍّ كبير، اءَو قُل كمّ كبير محبّ لا هل البيت (ع)، برغم ما في هذا الكمّ الكبير من مرض الازدواجيّة في الشخصيّة (قلوبهم معك وسيوفهم عليك)، ولا نّ العراق لم ينغلق لصالح الامويّين كما انغلقت الشام تماما، الامر الذي يجعل أرض العراق أفضل البقاع للتاءثّر بإ شعاعات الثورة الحسينيّة وفاجعة الطفّ.

ويؤ كّد التاءريخ في نصوص كثيرة أنّ الشيعة في العراق كانوا على اتّصال دائم بالا مام الحسين (ع) في زمن معاوية منذ عهد الامام الحسن (ع)، وكانوا يساءلونه القيام والخروج على الحكم الامويّ، ويبدون استعدادهم للنصرة والتضحية، غير أنّ الامام الحسين (ع) كان ياءمرهم بالصبر والاحتراس والترقّب مادام معاوية حيّا.

من هنا يستفاد أنّ نيّة التوجّه إلى العراق كانت منعقدة عند الامام (ع) منذ البدء على ضوء درايته السياسيّة الاجتماعيّة وعلى ضوء صلته وارتباطه باءهل العراق.

أي أنّ نيّة التوجّه إلى العراق لم تنعقد عند الامام (ع) بسبب رسائل أهل الكوفة بعد موت معاوية، بل كانت هذه النيّة وهذا العزم عند الامام (ع) قبل هذه الرسائل، على أساس منطق الشهيد الباحث عن أفضل أرض مختارة لمصرعه المحتوم، وما شكّلت رسائل أهل الكوفة إلّا حجّة ظاهرة لتاءكيد هذه النيّة وذلك التصميم.

مع العامل الاهمّ من عوامل الثورة الحسينيّة ..... ص : 391

في لقائه (ع) مع أخيه عمر الاطرف الذي قال للا مام (ع) (فلولا ناولتَ وبايعتَ!) جدّد الامام (ع) رفضه القاطع لمبايعة يزيد قائلا: (لااءُعطي الدنيّة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 392

من نفسي أبدا)،

وأكّد (ع) لا خيه محمد بن الحنفية (ر) أيضاً على هذه القاطعية في رفض البيعة حيث قال: (يا أخي، واللّه لو لم يكن في الدنيا ملجاء ولا ماءوى لمابايعتُ واللّه يزيد بن معاوية أبدا ...).

وهذا الرفض القاطع لبيعة يزيد وهو العامل الاوّل من العوامل المؤ ثّرة في النهضة الحسينيّة لو كان منبعثا من سبب شخصي لكان الامام (ع) قد سكت عن الحكم الامويّ في حال سكوت هذا الحكم عن مطالبة الامام (ع) بالبيعة، ولكانت مشكلة هذا الحكم مع الامام (ع) قد انتهت عند هذه الحدّ!!.

لكنّ عامل رفض البيعة عند الامام (ع) كان منبعثا من سبب مبدئي تمثل في الخطر الماحق الذي يهدّد الاسلام في حال سكوت الامام (ع) عن حاكم مثل يزيد بن معاوية: (وعلى الاسلام السلام إذ بُليت الامّة براعٍ مثل يزيد)، وهذا السبب نفسه هو الذي جعل الامام (ع) وجها لوجه أمام مسؤ وليّة التحرّك والنهوض لطلب الاصلاح في أمّة جدّه (ص) والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

و هذا السبب المبدئي المشترك هو الذي مزج في الحقيقة بين عامل رفض البيعة وعامل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما التفكيك بينهما في الحديث عنهما إلّا تفكيك إعتباري.

ونتيجة لهذا الامتزاج في الحقيقة، كان عامل رفض البيعة قد استمدَّ أهميّته الكبيرة الناشئة عن الاهمّية العليا التي يختصّ بها عامل الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلّا لكان من المحتمل أن ينتهي الامر بسكوت الامام (ع) حاشاه عن يزيد بسكوت يزيد عن مطالبته بالبيعة!!

فعامل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن هوالعامل الاهمّ في مجموعة العوامل المؤ ثّرة في النهضة الحسينيّة المقدّسة.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 393

وفي الوصيّة التي أوصى بها الامام الحسين (ع) إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة (ر) نجدُ

الامام (ع) يحصر العلّة في خروجه بهذا العامل وحده، إنّه (ع) لايعلّل الخروج في هذه الوصيّة بعامل رفض البيعة ولايتحدّث عنه فيها، كما لايعلّله بعاملٍ آخر من العوامل الاخرى المؤ ثّرة في نهضته المقدّسة كعامل رسائل أهل الكوفة مثلا، إنّه (ع) في هذه الوصيّة يتحدّث فقط عن طلب الاصلاح وضرورة تغيير الاوضاع الفاسدة من خلال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا دليل واضح وقاطع على الاهمّية العليا لعامل الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكاءنّ هذه الوصيّة تتحدّث عن ظهور التاءثير المستقلّ لهذا العامل الاهمّ.

في إطار عامل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر نجدُ الامام (ع) هوالذي يقرّر المواجهة مع الحكم الامويّ ابتداءً، لا اءنّ دعوة اءهل الكوفة هي التي دفعته إلى المواجهة، ولا مطالبة الحكم الامويّ إيّاه بالبيعة ورفضه (ع) لهذه البيعة هوالذي دفعه إلى المواجهة، بل لا نّ تحوّل الحرام إلى حلال والحلال إلى حرام وتفشّي الفساد في حياة الامّة هو الذي وضع الامام (ع) أمام ضرورة المواجهة ووجوب القيام والنهضة.

ولايعني هذا أنّ الامام (ع) كان قد ترك أو تهاون في واجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب الاصلاح في الامّة في زمن معاوية، بل قد كان (ع) ينهض في زمن معاوية باءعباء هذا الواجب المقدّس باءشكال مختلفة ومناسبات متوالية، لكنّ أدأ هذا الواجب في إطار النظر إلى الاثار وحساب النتائج المترتّبة على ذلك آنئذٍ (عدم احتمال حصول النتائج المرجوّة) كان يقف دون حدّ الخروج على معاوية مادام حيّا.

وإذا كانت العوامل المؤ ثّرة في أيّة نهضة هي التي تمنحها القيمة والاهمّية

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 394

الجديرة بها، فإ نّ عامل الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر قد منح الثورة الحسينيّة قيمة أعلى بكثير ممّا منحتها العوامل

الاخرى المؤ ثّرة فيها، كعامل رفض د البيعة، وعامل رسائل أهل الكوفة مثلا، فلقد تمكّنت هذه الثورة المقدّسة استنادا إلى عامل طلب الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تكون جديرة بالخلود والحياة، وأن تكون الثورة الاسوة.

وكما أنّ عامل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قد رفع من قيمة وأهمّية الثورة الحسينيّة، فإ نّ هذه الثورة المقدّسة بالمقابل قد رفعت من قيمة وأهمّية مبدأ وأصل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر إثباتا لا ثبوتا.

وتوضيح ذلك: هوأنّ لمبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قيمة محدّدة وأهميّة معيّنة ثبوتا، أي في واقع الامر، أو في نفس الامر، أو في متن الاسلام، هذه القيمة حدّدها اللّه تبارك وتعالى في متن التشريع الاسلامي، ويعلمها كما هي في الواقع اللّه تبارك وتعالى والراسخون في العلم محمّد وأهل بيته المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين.

وهذا الامر ينطبق على كلّ الاصول والمبادي الاسلاميّة، فلكلٍّ منها حدُّ معيّن ومقام معلوم وأهمّية محدّدة في متن الاسلام في مقام الثبوت أي في الواقع أو في مقام الشئ بذاته.

وهذا غير مقام الاثبات، أي مقام الشي ء بالنسبة إلينا، حيث يمكن في هذا المقام أن نُخطي في النظر والتاءمّل والاستنتاج، فنقيّم الشي تقييما نبخسه فيه حقّه من القيمة والاهمية، أو نمنحه فوق ما يستحقّ منها.

إذن فمقام الاثبات يختلف عن مقام الثبوت، إذ إنّ هناك فرقا بين ما هو منظور بالنسبة إلينا وبين ما هو واقع الشي ء بنفسه.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 395

وفي مقام الاثبات يلاحظ المتاءمّل أنّ علماء الاسلام مع إقرارهم باءنّ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسمى الواجبات الدينيّة وأعظمها، لكنّ قيمة هذا المبدأ ودرجة أهمية هذا الاصل الاسلامي والاولويّة الممنوحة له قضيّة تفاوتت فيها نظراتهم في تفصيلات الاحكام

المستنبطة في إطار مبحث هذا الاصل خصوصا بلحاظ قضيّة الضرر (المتيقّن أو المظنون أو المحتمل احتمالا يُعتدُّ به) المترتّب على القيام بهذا الواجب.

فتتصاعد القيمة والاهمية والاولويّة التي يتمتّع بها هذا الاصل الاسلامي في عالم الاستنباط: من النظرة الاجتهاديّة التي ترى أنّ من شرائط القيام بهذا الواجب: (أن لايلزم من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ضررٌ في النفس أو في العرض أو في المال، على الامر أو على غيره من المسلمين، فإ ذا لزم الضرر عليه أو على غيره لم يجب شي ...)، «1» ثمّ لم تتحدّث عن أكثر من ذلك!.

إلى النظرة الاخرى التي تضيف إلى ما سبق فتقول: (... هذا فيما إذا لم يحرز تاءثير الامر أو النهي، وأمّا إذا اءُحرز ذلك فلابدّ من رعاية الاهمية، فقد يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العلم بترتّب الضرر أيضا، فضلا عن الظنّ به أو احتماله). «2»

إلى النظرة الاخرى التي تعتمد في شرائط هذا الواجب شرط عدم حصول المفسدة، وترى في جملة ما ترى في إطار هذا المبحث:

(: لو وقعت بدعة في الاسلام، وكان سكوت علماء الدين ورؤ ساء المذهب أعلى اللّه كلمتهم موجبا لهتك الاسلام وضعف عقائد المسلمين يجب عليهم الانكار باءيّة وسيلة ممكنة، سوأ كان الانكار مؤ ثّرا في قلع الفساد أم لا،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 396

وكذا لو كان سكوتهم عن إنكار المنكرات موجبا لذ لك، ولايلاحظ الضرر والحرج بل تلاحظ الاهمية.

: لوكان في سكوت علماء الدين ورؤ ساء المذهب أعلى اللّه كلمتهم خوف أن يصير المنكر معروفا أو المعروف منكرا يجب عليهم إظهار علمهم، ولايجوز السكوت ولو علموا عدم تاءثير إنكارهم في ترك الفاعل، ولايُلاحظ الضرر والحرج مع كون الحكم ممّا يهتمّ به الشارع الاقدس

جدّا.

: لوكان في سكوت علماء الدين ورؤ ساء المذهب أعلى اللّه كلمتهم تقوية للظالم وتاءييد له والعياذ باللّه يحرم عليهم السكوت، ويجب عليهم الاظهار ولو لم يكن مؤ ثّرا في رفع ظلمه). «1»

هذه النماذج التي أوردناها على سبيل المثال لا الحصر شاهدٌ على تفاوت النظر الاجتهادي في إطار مبحث الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي صدد ما نحن فيه: فليس قصدنا أنّ ثورة الامام الحسين (ع) قد غيّرت أو رفعت من القيمة والاهمية الواقعيّة الموضوعة في متن الاسلام لا صل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أهميته في مقام الثبوت.

يقول الشهيد آية اللّه الشيخ مرتضي مطهري في هذه النقطة:

(ما أقصده هو أنّ النهضة الحسينيّة إنّما رفعت من إمكانيّات الاستنباط والاجتهاد لعلماء الاسلام والمسلمين، بشكلٍ عامٍّ، في دائرة أصل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 397

وعليه، فإ نّني عندما أقول باءنّ الحسين بن علي (ع) قد رفع من قيمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإ نّ قصدي هوالقول باءنّه (ع) قد رفع هذه القيمة في عالم الاسلام، وليس في الاسلام.

ذلك أنّ الحسين بن علي (ع) قد بيّن للعالم أجمع أنّ مساءلة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تصل إلى درجة يتطلّب فيها من الانسان أن يضحّي بنفسه وماله وكلّ ما يملك في سبيل هذا الاصل، ويتحمّل في سبيل ذلك كلّ أنواع اللوم والانتقاد، كما فعل الحسين نفسه.

فهل هناك أحد في الدنيا منح قيمةً لا صل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقدار ما أعطاه الحسين بن علي (ع)!؟

إنّ معنى النهضة الحسينيّة يفيد باءنّ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالغ القيمة إلى الحدّ الذي يمكن فيه للمرء أن يضحّي في سبيله بكلّ شي). «1»

سيرة الاصلاح ..... ص : 397

في النصّ الذي نقله

ابن شهر آشوب (ره) لبعض الوصيّة التي كتبها الامام الحسين (ع) لا خيه محمّد بن الحنفيّة (ر)، «2» وكذلك في نصّها الذي نقله العلّامة المجلسي (ره) عن كتاب المقتل للسيّد محمّد بن أبي طالب الموسوي، والذي أوردناه من قبل، نجدُ الامام (ع) في تعليله لخروجه على الحكم الامويّ يقرن مع طلب الاصلاح في الامّة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله: (وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب (ع).

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 398

وممّا يستفاد من هذا الاقتران وهذا الحصر بهاتين السيرتين المقدّستين أمران:

الاوّل: هو أنّ الاصلاح العملي في الامّة من خلال تقديم الصورة الحيّة المثلى لهذا الصلاح، والدعوة العمليّة إلى كلّ معروف والنهي العملي عن كلّ منكر، إنّما يتحقّقان بالسير بهاتين السيرتين المقدّستين.

والثاني: هو أنّ الامام (ع) بذكره هاتين السيرتين فقط قد أعلن عن إدانته للسِّيَر الاخرى التي حكمت حياة المسلمين بعد رسول اللّه (ص)، وكانت السبب في مناشي ء الانحراف الذي تعاظم حتّى آلت الامور إلى حاكم مثل يزيد بن معاوية!.

ومعنى هذا أنّ الاصلاح في الامّة وتطبيق مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيقا لحياة يحكمها الاسلام المحمّدي الخالص لايكون إلّا بالا عراض عن تلك السِّيَر الاخرى ورفضها.

ويبدو أنّ بعض الاقلام التي دوّنت سيرة الامام الحسين (ع) أو التي استنسخت بعض كتب التاءريخ قد انتبهت إلى قوّة إدانة الامام (ع) لهذه السير الاخرى في قوله: (وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب (ع) فقط، فاءضافت إليها عبارة (وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين رضي اللّه عنهم) رفعا لهذه الادانة الحسينيّة لتلكم السير الاخرى.

يقول السيّد مرتضي العسكري وهو محقّق مرموق (إنّ الراشدين اصطلاح تاءخّر استعماله عن عصر الخلافة الامويّة، ولم يرد في نصٍّ ثبت وجوده قبل ذلك،

ويُقصد بالراشدين الذين أتوا إلى الحكم بعد رسول اللّه (ص) متواليا، من ضمنهم الامام علي (ع)، فلايصحّ أن يعطف الراشدين على اسم الامام،

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 399

كلّ هذا يدلّنا على أن الجملة اءُدخلت في لفظ الامام الحسين (ع). «1»

ولقد وردت هذه الاضافة في نصّ الوصيّة في رواية كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي وفي كتاب مقتل الحسين (ع) للخوارزمي نقلا عن الفتوح.

لماذا الخروج من المدينة ليلا!!؟ ..... ص : 399

تكاد المصادر التاءريخيّة تجمع على أنّ الركب الحسينيّ خرج من المدينة في جوف الليل، وإن كانت هذه المصادر قد إختلفت في الليلة التي كان الخروج فيها.

والظاهر من متون بعض الروايات أنّ ساعة الخروج من المدينة كانت من ساعات الليل المتاءخّرة، ممّا يوحي باءنّ الخروج كان بصورة سريّة وعلى خوف من طلب السلطة، خصوصا وأنّ الروايات تحدّثت أنّ الامام (ع) قد خرج وهو يقرأ قوله تعالى: (فخرج منها خائفا يترقّب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين).

وظاهر أجوأ وقائع ما بعد لقاء الامام (ع) بوالي المدينة يثير مثل هذا التصوّر ولاينفيه، خصوصا وأنّ الامام (ع) كان حريصا على أن لايُقتل غيلة في المدينة، أو تقع مواجهة مسلّحة في المدينة، فتُهتك بذلك حرمة حرم رسول اللّه (ص)، فاستبق (ع) الزمن والاحداث كي لايقع كلّ ذلك المحذور، وخرج ليلا بتلك الصورة السريّة!

وقد تكرّر الامر نفسه مع الامام (ع) في مكّة المكرّمة أيضا، فخرج (ع) منها مستبقا الزمن والاحداث كي لايقع ذلك المحذور أيضا فتُهتك بذلك حرمة البيت، وكان (ع) قد خرج منها في السحر أو في أوائل الفجر كما في الروايات.

فيكون الدافع واحدا في المرّتين (مع أنّنا قدّمنا من قبل أنّ هذا المحذور يقع

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 400

عند الامام (ع) في إطار خوف أكبر، وهو خوفه من أن تخنق ثورته

في مهدها، سوأ في المدينة أو في مكّة ...).

غير أنّ ما يُلفت الانتباه ويثير التاءمّل هو أنّ الامام (ع) قبل خروجه من مكّة قام خطيبا وأعلن في خطبته عن موعد خروجه منها حيث قال فيما قال في تلك الخطبة:

(... من كان باذلا فينا مهجته، وموطّنا على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا فإ نّي راحلٌ مصبحا إن شاء اللّه تعالى) «1»

وبهذا يكون الامام (ع) قد كشف عن موعد ارتحاله أوائل الصباح كما في هذه الرواية، أي في الوقت الذي يعتبر أواخر الليل وتكون فيه بعدُ بقيّة من ظلام تصلح للستر والخفاء.

لكنّ كشفه (ع) عن موعد ارتحاله في تلك الساعة ينفي التعليل باءنّه (ع) خرج في ظلام السحر أو في بقيّة ظلام أوائل الصبح تستّرا من رقابة السلطة الحاكمة كي لايدركهُ الطلب!

هذا فضلا عن أنّه من المستبعد أن يخفى على السلطة خروج الركب الحسينيّ ساعة خروجه من المدينة (وهو ركب كبير نسبيّا) أو ساعة خروجه من مكّة (وقد كان أكبر)، إذا حرصت هذه السلطة على أن تعلم متى يخرج هذا الركب، خصوصا والمدن آنئذٍ تعتبر مدنا صغيرة قياسا إلى المدن المعروفة اليوم.

وهذا فضلا عن أنّ والي المدينة آنئذٍ الوليد بن عتبة كان متراخيا في الضّغط على الامام (ع)، وكان يتمنّى خروجه من المدينة وألّا يُبتلى بدمه! وهذا ليس د بخافٍ على الامام (ع) كما هو اعتقادنا وكما تشير إلى ذلك أدلّة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 401

تاءريخيّة.

إنّ التعليل الذي اءَطمئنُّ له في هذه المساءلة هو اءنّ الامام (ع) لم يخرج في الظلام من المدينة أو من مكّة حذرا من أعين السلطة وخوف الطلب، بل خرج في الظلام من كلتا المدينتين وليس في النهار كي لاتتصفّح أعين الناس فيهما النساء في

الركب الحسيني، أو تنظر الاعين عن قربٍ كيف يركبن المطايا، الامر الذي تاءباه الغيرة الحسينيّة الهاشميّة!

ولو لم يكن هذا الامر هو العلّة التامّة لخروج الركب الحسينيّ في جوف الليل، فلاأقلّ من أن يكون العلّة المهمّة جدّا في مجموعة العلل الاخرى التي شكّلت العلّة التامّة لهذا الخروج في ظلمة الليل.

الاصرار على الطريق الاعظم! ..... ص : 401

وتقول الرواية التاءريخيّة وهي تصف الجادة التي سلكها الركب الحسينيّ بقيادة الامام الحسين (ع) عند خروجه من المدينة إلى مكّة المكرّمة:

(فسار الحسين (ع) إلى مكّة وهو يقرأ: (فخرج منها خائفا يترقّب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين)، ولزم الطريق الاعظم.

فقال له أهل بيته: لو تنكّبت الطريق الاعظم كما فعل ابن الزبير كي لايلحقك الطلب.

فقال: (واللّه، لاأفارقه حتّى يقضي اللّه ما هو قاض!) «1»

وفي رواية الفتوح:

(فقال له ابن عمّه مسلم بن عقيل بن أبي طالب: يا ابن بنت رسول اللّه

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 402

(ص)، لو عدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادّة كما فعل عبداللّه بن الزبير كان عندي الرأي، فإ نّا نخاف أن يلحقنا الطلب!

فقال له الحسين (ع): (لا واللّه يا ابن عمّي، لا فارقت هذا الطريق أبدا أو أنظر إلى أبيات مكّة، أو يقضي اللّه في ذلك ما يحبّ ويرضى).

ثمّ جعل الحسين يتمثّل بشعر يزيد بن مفرغ الحميري وهو يقول:

لا سهرت السوام في فلق الصب ح مضيئا ولا دُعيتُ يزيدا

يوم اءُعطي من المخافة ضيما والمنايا يرصدنني اءن اءحيدا «1»

وهنا قد يتساءل المتاءمّل عن سبب إصرار الامام (ع) عن سلوك الطريق الاعظم إصرار من يرضى بمواجهة كلّ خطر محتسب وغير محتسب ولايرضى بالتخلّي عن سلوك هذا الطريق الرئيس!؟

هل هي الشجاعة الحسينيّة من ورأ كلّ هذا الاصرار؟

أم أنّ الامام (ع) أراد من ورأ ذلك أمرا إعلاميّا وتبليغيّا للتعريف بقيامه

ونهضته من خلال التقاء الركب الحسينيّ القاصد إلى مكّة بكلّ المارّة والقوافل على الطريق الاعظم، لا نّهم سيتساءلون عن سبب خروج الامام (ع) من مدينة جدّه (ص) مع جلّ بني هاشم ومَن معهم مِن أنصاره، ويتعرّفون من الامام (ع) مباشرة على أهدافه التي نهض من أجلها، فينضمُّ إليه من يوفّقه اللّه تعالى إلى نصرته، وينتشر أمر هذا القيام المقدّس بين الناس في مناطق عديدة، فيتحقّق بذلك عملٌ إعلامي وتبليغي ضروري لتوسيع رقعة هذا القيام المبارك وكسب الانصار له؟

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 403

لاشك أنّ تعليل إصراره (ع) على لزوم الطريق الاعظم بالشجاعة الحسينيّة تعليلٌ صحيحٌ في نفسه، وكذلك تعليله بالهدف الاعلامي والتبليغي للتعريف بقيام الامام (ع) ونهضته، ولا منافاة بين هذين التعليلين.

ولعل التعليل الاهمّ الذي يمكن أن يُضاف إليهما، هو أنّ الامام الحسين (ع) في إصراره على لزوم الطريق الاعظم أراد أن يُعلن للا مّة أنّه ليس من العصاة البغاة الخارجين على حكومة شرعيّة كانوا قد اعترفوا بها ثمّ تمرّدوا عليها، أولئك الذين يلوذون بالطرق الفرعيّة خوفا من رصد الحكّام وفرارا من قبضتهم.

أراد (ع) أن يُعلن للا مّة أنّه هو ممثّل الشرعيّة لا الحكم الامويّ، وأنّه هو صاحب الحقّ بالطريق الاعظم، وبالخلافة، وبكلّ شؤ ون الامّة، وأنّه هو الاصل الشرعي، وأنّ يزيد هو الشذوذ والخلاف والانحراف والمتمرّد على الشرعيّة.

وهذا البعد بعدٌ تبليغي وإعلامي ثابت في حركة الامام الحسين (ع)، وهو مفسّرٌ عامُّ لجميع تفاصيل حركة نهضته المقدّسة منذ حين قال لوالي المدينة:

(أيّها الامير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، وبنا فتح اللّه وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، مثلي لايبايع لمثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون أيّنا

أحقّ بالخلافة.) «1» إلى ساعة استشهاده (ع) في كربلاء.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 404

الركب الحسينىّ الخارج من المدينة: ..... ص : 404
بنو هاشم: ..... ص : 404

لم يرد في الكتب التاءريخيّة ذكر تفصيليّ لا سماء الهاشميّين في الركب الحسينيّ القاصد من المدينة إلى مكّة المكرّمة، بل ورد في أغلب هذه الكتب ذكر إجمالي لمن خرج من الهاشميّين مع الامام (ع) من المدينة، كمثل قول الشيخ المفيد (ره): (فخرج الحسين (ع) من تحت ليلته وهي ليلة الاحد ليومين بقيا من رجب متوجّها نحو مكّة ومعه بنوه وبنو أخيه وإخوته وجلّ أهل بيته إلّا محمّد بن الحنفيّة ...). «1»

وقال الدينوري: (فلمّا أمسوا وأظلم الليل مضى الحسين رضي اللّه عنه أيضا نحو مكّة، ومعه أختاه: أمّ كلثوم، وزينب، وولد أخيه، وإخوته أبوبكر وجعفر والعبّاس، وعامّة من كان بالمدينة من أهل بيته إلّا أخاه محمّد بن الحنفيّة ...). «2»

وقال ابن أعثم الكوفي: (وخرج في جوف الليل يريد مكّة بجميع أهله). «3»

وقال الطبري: (وأمّا الحسين فإ نّه خرج ببنيه وإخوته وبني أخيه وجلّ أهل بيته إلّامحمّد بن الحنفيّة). «4»

كما أشارت بعض المصادر التاءريخيّة الاخرى إلى أنّ الامام (ع) بعث إلى

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 405

المدينة (وهوفي مكّة) يستقدم إليه من خفّ من بني هاشم، فخفّ إليه جماعة منهم، وتبعهم إليه محمّد بن الحنفيّة، ولكنّها لم تحدّد من هؤ لاء! «1»

وعلى هذه الاجمال جرت المصادر التاءريخيّة الاخرى التي تعرّضت لهذا الحدث، ولم أعثر على رواية تتحدّث في تفصيلات قضايا هذا الركب وفي أشخاصه إلّا ما ورد في كتاب (أسرار الشهادة) في رواية ضعيفة جدّا: (عن عبداللّه بن سنان الكوفي، عن أبيه، عن جدّه) يصف فيها كيف أركب بعض بني هاشم محارمهم من النساء من عيالات أبي عبداللّه الحسين (ع) على محامل الابل، ثمّ كيف ركب بنوهاشم والامام

(ع). والرواية مصوغة باءسلوب هو أقرب إلى الاسلوب المنبري المعتمد على الاثارة العاطفيّة في الوصف، ومع هذا فالرواية غلب عليها الاجمال في ذكر من هم (بنوهاشم) في الركب، وكم كان عددهم. «2»

نعم، تشير الدلائل التاءريخيّة إلى أنّ محمّد بن الحنفيّة، وعمر الاطرف، وعبداللّه بن جعفر، وعبداللّه بن عبّاس لم يكونوا مع الركب الحسينيّ الخارج من المدينة.

و تشير أيضا إلى أنّ الامام (ع) قد خرج بجميع أبنائه، وجميع أبناء أخيه الامام الحسن (ع)، وجميع بقيّة إخوته لا بيه عليه وعليهم السلام.

ومن المتيقّن أيضا أنّ مسلم بن عقيل (ع) كان قد خرج معه، أمّا ولداه عبداللّه ومحمّد فالا ظهر أنّهما كانا مع أبيهما مسلم في الخروج مع الامام الحسين (ع).

وأمّا ولدا عبداللّه بن جعفر، وهما عون ومحمّد، فإ نّ ظاهر القرائن التاءريخيّة يفيد أنّهما كانا مع أبيهما، ثمّ التحقا بالا مام (ع) وانضّما إليه بعد خروجه من مكّة، ويبقى الاحتمال واردا أنهما خرجا مع الامام (ع)، ثمّ صارا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 406

مع أبيهما في مكّة، ثمّ عادا فالتحقا.

أمّا بقية الانصار من آل عقيل فالقرائن التاءريخيّة لاتفيد القطع في معرفة من منهم خرج مع الامام (ع) من المدينة، أو من منهم التحق به بعد ذ لك.

الانصار الاخرون: ..... ص : 406
اشارة

أمّا الانصار الاخرون غير الهاشميّين الذين خرجوا مع الامام (ع) من المدينة فقد لايجد المتتبّع تلك الصعوبة في معرفتهم، وقد أثبت التاءريخ الاسماء التالية:

1 (عبداللّه بن يقطر الحميري ..... ص : 406

: كانت أمّه حاضنة للامام الحسين (ع)، ولم يكن رضع عندها، لا نّه صحّ في الاخبار أنّ الحسين (ع) لم يرضع إلّا من صدر فاطمة (س) ومن إبهام رسول اللّه (ص) وريقه، لكنّ عبداللّه اشتهر في أنّه أخوالحسين (ع) من الرضاعة.

وقال ابن حجر في الاصابة: إنّه كان صحابيّا لا نّه لدة الحسين (ع). وكان الامام (ع) قد سرّحه إلى مسلم بن عقيل بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلم إلى الحسين (ع)، فقبض عليه الحصين بن تميم بالقادسيّة، وأرسله إلى عبيداللّه بن زياد، فساءله عن حاله فلم يخبره، فقال له: إصعد القصر والعن الكذّاب بن الكذّاب ثمّ انزل حتّى أرى فيك رأيي. فصعد القصر فلمّا أشرف على الناس قال: أيّها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه (ص) إليكم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدعيّ بن الدعي، فاءمر به عبيداللّه فاءُلقي من فوق القصر إلى الارض، فتكسّرت عظامه، وبقي به رمق فاءتاه عبدالملك بن عمير اللخمي قاضي الكوفة وفقيهها فذبحه، فلمّا عيب عليه، قال إنّي أردت أن أريحه!! «1»

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 407

2 (سليمان بن رزين مولى الحسين (ع) ..... ص : 407

: وهو الذي أرسله الامام الحسين (ع) بكتاب إلى رؤ وس الاخماس وإلى الاشراف بالبصرة حين كان بمكّة، ومنهم المنذر بن الجارود، وكانت بحرية بنت الجارود زوجة لعبيداللّه بن زياد، فاءخذ المنذر سليمان بن رزين والكتاب وقدّمهما إلى عبيداللّه بن زياد، فلمّا قرأ الكتاب قتل سليمان، فكان من أنصار الحسين (ع) الذين قتلوا في البصرة. «1»

3 (أسلم بن عمرو مولى الحسين (ع) ..... ص : 407

: من شهدأ الطف، وقد ذكر أهل السير والمقاتل أنّ الامام الحسين (ع) اشتراه بعد وفاة أخيه الحسن (ع) ووهبه لابنه علي بن الحسين (ع)، وكان أبوه تركيّا، وكان أسلم كاتبا عند الحسين (ع) في بعض د حوائجه، فلمّا خرج الحسين (ع) من المدينة إلى مكّة كان أسلم ملازما له حتّى أتى معه كربلاء، فلمّا كان يوم العاشر وشبّ القتال استاءذن الامام (ع)، وكان قارئا للقرآن، فاءذن له، فجعل يقاتل ويرتجز حتّى قتل من القوم جمعا كثيرا، ثمّ سقط صريعا، فمشى إليه الحسين (ع) فرآه وبه رمق وهو يومي إلى الحسين (ع)، فاعتنقه الحسين (ع) ووضع خدّه على خدّه، ففتح عينيه فتبسّم وقال: من مثلي وابن رسول اللّه واضع خدّه على خدّي، ثمّ فاضت نفسه (ر). آ «2»

4 (قارب بن عبداللّه الدئلي مولى الحسين (ع) ..... ص : 407

: أمّه جارية للحسين (ع)، واسمها فكيهة، كانت تخدم في بيت الرباب زوجة الامام (ع)، تزوّجها عبداللّه الدئلي فولدت منه قاربا، فهو مولى للحسين (ع)، خرج معه من المدينة إلى

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 408

مكّة، ثمّ إلى كربلاء، وقتل في الحملة الاولى التي هي قبل الظهر بساعة. «1»

5 (منجح بن سهم مولى الحسين (ع) ..... ص : 408

: (حكي عن ربيع الابرار للزّمخشري أنّه قال: حسينيّة كانت جارية للحسين (ع) اشتراها من نوفل بن الحارث بن عبدالمطّلب، ثمّ تزوّجها سهم فولدت منه منجحا فهو مولى للحسين (ع).

(انتهي).

وقد كانت في بيت السجاد (ع)، فلمّا خرج الحسين (ع) إلى العراق خرجت معه ومعها ابنها منجح حتّى أتوا كربلاء، ولمّا تبارز الفريقان يوم الطفّ قاتل القوم قتال الابطال، وقُتل في أوائل القتال رضوان اللّه عليه. «2» وقيل: (كان منجح من موالي الحسن (ع)، خرج من المدينة مع ولد الحسن (ع) في صحبة الحسين (ع) فاءنجح سهمه بالسعادة وفاز بالشهادة). «3»

6 (سعد بن الحرث الخزاعي مولى علي (ع) ..... ص : 408

: (كان سعد مولى لعليّ (ع) فانضمّ بعده إلى الحسن (ع)، ثمّ إلى الحسين (ع)، فلمّا خرج من المدينة خرج معه إلى مكّة ثمّ إلى كربلاء، فقتل بها في الحملة الاولى)، «4» وقيل: (له إدراك صحبة النبىٍّ (ص)، وكان على شرطة اميرالموءمنين (ع) بالكوفة، وولّاه آذربيجان ...). «5»

7 (نصر بن أبي النيزر مولى عليّ (ع) ..... ص : 408

: (كان أبونيزر من ولد بعض ملوك العجم أو من ولد النجّاشي. قال المبرّد في الكامل: صحّ عندي أنّه من ولد

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 409

النجّاشي، رغب في الاسلام صغيرا، فاءُتي به رسول اللّه (ص) فاءسلم، وربّاه رسول اللّه (ص)، فلمّا توفّي صار مع فاطمة وولدها. وقال غيره: إنّه من أبناء ملوك العجم، اءُهدي إلى رسول اللّه (ص)، ثمّ صار إلى اءمير المؤ منين (ع)، وكان يعمل له في نخله ... ونصرُ هذا ولده، انضمّ إلى الحسين (ع) بعد عليّ والحسن (ع)، خرج معه من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى كربلاء، فقتل بها، وكان فارسا فعقرت فرسه، ثمّ قتل في الحملة الاولى (ر). «1»

8 (الحرث بن نبهان مولى حمزة بن عبدالمطلّب (ع) ..... ص : 409

: (قال أهل السير: إنّ نبهان كان عبدا لحمزة، شجاعا فارسا، مات بعد شهادة حمزة بسنتين، وانضمّ ابنه الحرث إلى اميرالموءمنين (ع)، ثمّ بعده إلى الحسن (ع)، ثمّ إلى الحسين (ع)، فلمّا خرج الحسين (ع) من المدينة إلى مكّة خرج الحارث معه، ولازمه حتّى وردوا كربلاء، فلمّا شبّ الحرب تقدّم أمام الحسين (ع) ففاز بالشهادة (ر). «2»

9 (جون بن حوي مولى أبي ذرّ الغفّاري (ر) ..... ص : 409

: (كان جون منضّما إلى أهل البيت (ع) بعد أبى ذر، فكان مع الحسن (ع) ثمّ مع الحسين (ع)، وصحبه في سفره من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق ... فلمّا نشب القتال وقف أمام الحسين (ع) يستاءذنه في القتال. فقال له الحسين (ع): يا جون أنت في إذن منّي، فإ نّما تبعتنا طلبا للعافية، فلاتبتل بطريقتنا. فوقع جون على قدمَي أبي عبداللّه الحسين (ع) يقبّلهما ويقول: يا ابن رسول اللّه (ص)، أنا في الرخاء ألحسُ قصاعكم وفي الشدّة أخذلكم! إنّ ريحي لنتن، وإنّ حسبي للئيم، وإنّ لوني لا سود، فتنفّس عليّ في الجنّة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيضّ لوني، لا واللّه لاأفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الاسود مع دمائكم. فاءذن له

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 410

الحسين (ع) ... ثمّ قاتل حتّى قتل ... فوقف عليه الحسين (ع) وقال: أللّهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه واحشره مع الابرار، وعرّف بينه وبين محمّد وآل محمّد (ص). وروى علماؤ نا عن الباقر (ع)، عن أبيه زين العابدين (ع) أنّ بني أسد الذين حضروا المعركة ليدفنوا القتلى وجدوا جونا بعد أيّام تفوح منه رائحة المسك ...). «1»

10 (عقبة بن سمعان ..... ص : 410

: كان عقبة بن سمعان مولى للرّباب بنت امري القيس الكلبيّة زوجة الامام الحسين (ع)، وكان في الركب الحسينيّ الخارج من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق. وقال الطبري في تاءريخه: (وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان وكان مولى للرّباب بنت امرئ القيس الكلبيّة وهي أمّ سكينة بنت الحسين (ع) فقال له: ما أنت؟ قال: أنا عبدٌ مملوك. فخلّى سبيله). «2»

وقد نقل الشيخ عبّاس القمي (ره) في نفس المهموم «3» ذلك عن الطبري والجزري. وقال المامقاني (ره) في تنقيح المقال: (وقد ذكره الطبري

وغيره من مؤ رّخي الواقعة، ويفهم ممّا ذكروه أنّه كان عبدا لرباب زوجة الحسين (ع)، وأنّه كان يتولّى خدمة أفراسه وتقديمها له، فلمّا استشهد الحسين (ع) فرّ على فرس د فاءخذه أهل الكوفة فزعم أنّه عبد للرّباب بنت أمرئ القيس الكلبيّة زوجة الحسين (ع) فاءُطلق، وجعل يروي الواقعة كما حدثت، ومنه اءُخذت أخبارها ...). «4»

لكنّ بعض علمائنا ذهب إلى القول باستشهاد عقبة بن سمعان في زمرة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 411

شهدأ الطفّ (رضى) إستنادا إلى ورود التسليم عليه في زيارة الحسين (ع) (أوّل يوم من رجب وليلته، وليلة النصف من شعبان)، «1» ومن هؤ لاء العلماء السيّد أبوالقاسم الخوئي (ره) في معجم رجال الحديث حيث قال: (من أصحاب الحسين (ع) ... واستشهد بين يدي الحسين (ع)، ووقع التسليم عليه في الزيارة الرجبيّة، وعن بعض المؤ رّخين من العامّة أنّه فرَّ من المعركة ونجا). «2»

ومنهم الشيخ علي النمازي في مستدركات علم رجال الحديث حيث قال:

(عقبة بن سمعان ... من أصحاب الحسين (ع)، وكان معه في كربلاء، واستشهد معه يوم عاشورأ كما ذكره السيّد في عداد الشهدأ في الزيارة الرجبيّة ...). «3»

لقاءات في الطريق ..... ص : 411
اشارة

ومع أنّ الامام الحسين (ع) لزم الطريق الاعظم من المدينة إلى مكّة المكرّمة لكنّ الرواية التاءريخيّة لم تحدّثنا عن كثير من تفاصيل هذا السفر، بل لعلّ ما ورد في التاءريخ من ذلك يعتبر نزرا قليلا جدّا، ومنه:

لقاوه (ع) باءفواج من الملائكة ومؤ مني الجنّ ..... ص : 411
اشارة

نقل العلّامة المجلسي (ره) في بحاره عن كتاب المقتل للسيّد محمّد بن أبي طالب الموسوي قوله: (وقال شيخنا المفيد بإ سناده إلى أبي عبداللّه (ع) قال: لمّا سار أبوعبداللّه من المدينة لقيه أفواج من الملائكة المسوّمة في

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 412

أيديهم الحراب على نجب من نجب الجنّة، فسلّموا عليه وقالوا: يا حجّة اللّه على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه، إنّ اللّه سبحانه أمدَّ جدّك بنا في مواطن كثيرة، وإنّ اللّه أمدّك بنا.

فقال لهم: الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلاء، فإ ذا وردتُها فاءتوني.

فقالوا: يا حجّة اللّه، مُرنا نسمع ونطع، فهل تخشى من عدوٍّ يلقاك فنكون معك؟

فقال: لا سبيل لهم عليّ ولايلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.

وأتته أفواج مسلمى الجنّ ...

فقالوا: يا سيّدنا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا باءمرك، وما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوٍّ لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك.

فجزّاهم الحسين خيرا وقال لهم: اءَ وَما قراءتم كتاب اللّه المنزل على جدّي رسول اللّه (ص): (أينما تكونوا يدرككم الموت ولوكنتم في بروجٍ مشيّدة)، وقال سبحانه: (لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم)، وإذا أقمت بمكاني فبماذا يُبتلى هذا الخلق المتعوس؟ وبماذا يختبرون؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء؟ وقد اختارها اللّه يوم دحا الارض، وجعلها معقلا لشيعتنا، ويكون لهم أمانا في الدنيا والاخرة؟ ولكنّ تحضرون يوم السبت، وهو يوم عاشورأ الذي في آخره أقتل، ولايبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي، ويُسار برأسي إلى يزيد لعنه

اللّه.

فقالت الجنّ: نحن واللّه يا حبيب اللّه وابن حبيبه، لولا أنّ أمرك طاعة وأنّه لايجوز لنا مخالفتك، قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 413

فقال صلوات اللّه عليه لهم: نحن واللّه أقدر عليهم منكم، ولكن ليهلك من هلك عن بينّة ويحيى من حيّ عن بيّنة). «1»

«اشارة»: ..... ص : 413

لنوع المخاطب أثر في نوع خطاب أهل البيت (ع) مع الغير، وهذه الحقيقة من الحقائق اللّازم استذكارها لفهم وإدراك متون خطاباتهم (ع).

وعلى قدر درجة المخاطب من العقل والايمان واليقين بهم (ع) والتسليم لهم تكون درجة مخاطبتهم (ع) الغير بصريح القضيّة ومُرِّ الحقّ.

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 414

وفي هذه الرواية نجدُ المخاطب من الملائكة ومؤ مني الجنّ، من شيعة أهل البيت (ع) ومن أهل الصدق والاخلاص في الاهبة والنصرة، وعلى درجة عالية جدّا من المعرفة بمنزلة الامام (ع) ومن اليقين والتسليم لا مره، كما هو واضح في متن المحاورة في هذه الرواية.

ولذا نجد الامام (ع) يجيبهم بصريح القضيّة ووضوح تام، إنّه (ع) في هذه المحاورة بمنطق العمق، منطق الشهيد الفاتح يؤ كّد أنّه ماضٍ إلى مصرعه المختار (الموعد حفرتي) على الارض المختارة (بقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلاء). ويؤ كّد (ع) أنّ الامر لابدّ منه تحقيقا للا رادة الالهيّة في اختبار (هذا الخلق المتعوس) حتّى يتشخّص لهم بوضوح تامّ طريق السعادة من متاهات الشقاء والتعاسة، وليمتاز الحقّ من الباطل تماما بلا شائبة اختلاط وشبهة، حين يتحقّق بذ لك المصرع وعلى تلك البقعة فصل الاسلام المحمّدي الخالص عن الامويّة المتلبّسة بمسوح الاسلام، وهذا من أهمّ أبعاد الفتح الحسينيّ المبين، المتواصل على امتداد الزمان، بركة من بركات مصرع (الذبح العظيم)، وفيضا من فيوضات ذلك القبر المقدّس الذي اختاره اللّه يوم دحا الارض

مركزا لا شعاع ذلك الفتح، ومعقلا للشيعة الحسينيّين على مرّ الايّام وأمانا لهم في الدنيا والاخرة.

ويؤ كّد (ع) أيضا أنّ الامر لابدّ من جريان وقائعه في إطار الاسباب العادية بعيدا عن خوارق العادة من أسباب ما فوق العادة، ولو كانت الغاية نصرا ظاهريّا عاجلا ولا سبيل إلى تحقيقه إلّا بالخوارق فإ نَّ الامام (ع) بولايته التكوينيّة العامّة بإ ذن اللّه تبارك وتعالى أقدر من الملائكة والجنّ على تحقيق ذلك (نحن واللّه أقدر عليهم منكم، ولكن ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيَّ عن بيّنة ...).

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 415

أنصار آخرون يلتحقون بالركب من منازل جهينة ..... ص : 415

ويروي لنا التاءريخ من وقائع الطريق من المدينة إلى مكّة أيضا أنّ جماعة من الاعراب كانوا يلتحقون بالركب الحسيني عند مروره بمنازلهم، ومن تلك المنازل منازل جهينة (مياه جهينة)، وقد التحق بالا مام (ع) منها جماعة، منهم ثلاثة رجال لم ينفضّوا عنه فيمن انفضّ من الاعراب عنه بعد ذلك، بل أقاموا معه ولازموه ولم يتخلّوا عنه حتّى فازوا باءسمى مراتب الشرف في الدنيا والاخرة حيث استشهدوا بين يديه في الطفّ يوم عاشورأ، وهم:

1 مجمع بن زياد بن عمرو الجُهَني (ر).

2 عبّاد بن المهاجر بن أبي المهاجر الجهني (ر).

3 عقبة بن الصلت الجهني (ر). «1»

هل لقي الامام (ع) ابن عبّاس وابن عمر في الطريق إلى مكّة؟ ..... ص : 415

قال ابن الاثير في الكامل: (وقيل إنَّ ابن عمر كان هو وابن عبّاس بمكّة فعادا إلى المدينة، فلقيهما الحسين وابن الزبير فساءلاهما: ماورأ كما!؟

فقالا: موت معاوية وبيعة يزيد!

فقال ابن عمر: لاتفرّقا جماعة المسلمين). «2»

أما الطبري فقال: (فزعم الواقدي أنّ ابن عمر لم يكن بالمدينة حين ورود نعي معاوية وبيعة يزيد على الوليد، وأنّ ابن الزبير والحسين لمّا دعيا إلى البيعة ليزيد أبيا، وخرجا من ليلتهما إلى مكّة، فلقيهما ابن عبّاس وابن عمر جائيين

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 416

من مكّة فساءلاهما: ما ورأكما ...) «1» إلى آخر خبر ابن الاثير بتفاوت يسير.

وأمّا ابن كثير في تاءريخه «2» فقال: (وقال الواقدي ...) ثمّ أورد نفس رواية الطبري بتفاوت يسير.

والظاهر أنّ هذه الرواية لم يروها أحدٌ من المؤ رّخين غير هؤ لاء الثلاثة إضافة إلى الواقدي الذي نسبها إليه إثنان منهما!

وقول ابن الاثير في تصدير الرواية: (وقيل)، وقول الطبري: (فزعم الواقدي)، يشعران بعدم اطمئنانهما إلى هذا الزعم وبضعف هذه الرواية، خاصّة وأنّهما قد رويا في تاءريخيهما أنّ عبداللّه بن عمر كان في المدينة حينما كان الامام

الحسين (ع) فيها قبل خروجه منها. «3» كما أنّ هذه الرواية مخالفة لما هو مشهور من أنّ عبداللّه بن عبّاس خاصّة كان في مكّة حينما دخلها الامام الحسين (ع)، ومن روايات هذا المشهور قول الدينوري في الاخبار الطوال:

(وأمّا عبداللّه بن عبّاس فقد كان خرج قبل ذلك باءيّام إلى مكّة)، «4» وقول ابن أعثم الكوفي وقد نقله عنه الخوارزمي: (وأقام الحسين بمكّة باقي شهر شعبان، وشهر رمضان، وشوّال، وذي القعدة، وبمكّة يومئذٍ عبداللّه بن عبّاس د وعبداللّه بن عمر بن الخطّاب ...). «5»

هذا فضلا عن أنّ هذه الرواية مخالفة لما ذهب إليه جلّ المؤ رّخين من الفريقين من أن عبداللّه بن الزبير خرج إلى مكّة قبل الامام الحسين (ع)، إذ

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 417

خرج ابن الزبير في سواد نفس الليلة التي استدعاه إلى البيعة فيها الوليد بن عتبة، فيكون الفارق الزمني بين مسيره إلى مكّة ومسير الامام (ع) ليلتين أو ليلة على الاقلّ، هذا فضلا عن أنّ ابن الزبير تنكّب عن الطريق الاعظم الذي أصرّ الامام الحسين (ع) على السير عليه، ممّا يدلّ على أنّهما لم يجمعهما منزل من منازل الطريق، خصوصا وأنّ ابن الزبير قد جدّ في السير إلى مكّة كما يجدّ الهارب حتّى أنّ واحدا وثمانين راكبا من موالي بني أميّة طلبوه فلم يدركوه ورجعوا. «1»

إذن فكيف يصحّ ما في هذه الرواية من أنّهما كانا معا حتّى لقيهما ابن عبّاس وابن عمر!؟

هذه الرواية إذن مخالفة للحقيقة التاءريخيّة فضلا عن إرسالها وضعفها. «2» أمّا مارواه ابن عساكر في تاءريخه حيث قال: (وخرج الحسين وعبداللّه بن الزبير من ليلتهما إلى مكّة، وأصبح الناس وغدوا إلى البيعة ليزيد وطُلب الحسين وابن الزبير فلم يوجدا ... ولقيهما عبداللّه بن

عمر، وعبداللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة بالا بوأ منصرفين من العمرة، فقال لهما ابن عمر: أذكّركما اللّه إلّا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظرا، فإن اجتمع الناس د عليه لم تشذّا عنهم، وإن افترق الناس عليه كان الذي تريدان ... وقال له ابن عيّاش: «3» أين تريد يا ابن فاطمة!؟ قال: العراق وشيعتي. فقال: إنّي لكاره لوجهك هذا، أتخرج إلى قوم قتلوا أباك، وطعنوا أخاك حتّى تركهم سخطة

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 418

ومَلَّةً لهم!؟ أذكّرك اللّه أن تغرر بنفسك ...). «1»

فهذه الرواية كتلك مخالفة للحقيقة التاءريخيّة أيضا على ضوء المناقشة التاءريخيّة التي قدّمناها في ردّ الرواية الاولى، هذا فضلا عن ضعفها سندا «2» على الاقلّ بجويرية بن أسماء الذي قال فيه الامام الصادق (ع): (وأمّا جويريّة فزنديق لايفلح أبدا). «3»

ولو فرضنا صحّة وقوع المحاورة الاخيرة في رواية ابن عساكر بين ابن عيّاش د وبين الامام (ع)، فإ نّ الدلائل التاءريخيّة تشير إلى أنّ مثل هذه المحاورات التي تحدّث فيها الامام (ع) بصراحة عن توجّهه إلى العراق وشيعته هناك لم تقع إلّا في مكّة أثناء إقامته فيها أو قبيل خروجه منها، لا نّ الامام (ع) لم يكشف عن نيّة عزمه على التوجّه إلى العراق لكلّ محاور إلّا في مكّة، وأمّا في المدينة وفي الطريق منها إلى مكّة فلم يكشف الامام (ع) عن هذه النيّة إلّا لمن يثق بهم كاءمّ سلمة رضي اللّه عنها ومحمّد بن الحنفيّة (ر) مثلا، أمّا عبداللّه بن مطيع العدوي وأمثاله فكان (ع) لايكشف لهم إلّا عن توجّهه إلى مكّة.

وعبداللّه بن عيّاش «4» هذا لم يعرف له قرب من أهل البيت: أو ولاء لهم، بل

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 419

الظاهر من نصّ هذه

المحاورة التي رواها ابن عساكر هو أنّ عبداللّه هذا على فرض حصول هذه المحاورة لم يكن يُحسن حتّى مراعاة الادب مع الامام (ع) فضلا عن معرفة إمامته إذ يقول له: (أذكرّك اللّه أن تغرر بنفسك!)، فهو من نوع عبداللّه بن مطيع العدوي بل هو أسوأ منه لا نّ هذا الاخير على الاقلّ كان يحسن مراعاة الادب مع الامام (ع) والتودّد إليه في محاوراته معه.

لقاؤه (ع) مع عبداللّه بن مطيع العدوي ..... ص : 419

يروي لنا التاءريخ لقائين لعبداللّه بن مطيع العدوي مع الامام الحسين (ع)، الاوّل في الطريق من المدينة إلى مكّة، والثاني على ما في رواية المفيد في الارشاد لمّا أقبل الامام الحسين (ع) من الحاجز يسير نحو العراق فانتهى إلى ماء من مياه العرب. «1»

وتهمّنا في هذا المقطع من تأريخ حركة الركب الحسينيّ قصّة اللقاء الاوّل، تقول الرواية التاءريخيّة في متابعتها حركة الامام الحسين (ع) على الطريق من المدينة إلى مكّة: (فبينما الحسين كذ لك بين المدينة ومكّة إذ استقبله عبداللّه بن مطيع العدوي، فقال: أين تريد أباعبداللّه جعلني اللّه فداك؟

قال: أمّا في وقتي هذا أريد مكّة فإ ذا صرتُ إليها استخرتُ اللّه تعالى في أمري بعد ذلك.

فقال له عبداللّه بن مطيع: خار اللّه لك يا ابن بنت رسول اللّه فيما قد عزمت عليه، غير أنّي أشير عليك بمشورة فاقبلها منّي!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 420

فقال له الحسين: وما هي يا ابن مطيع؟

قال: إذا أتيتَ مكّة فاحذر أن يغرَّك أهل الكوفة، فيها قُتل أبوك، وأخوك بطعنة طعنوه كادت أن تاءتي على نفسه، فالزم الحرم فاءنت سيّد العرب في دهرك هذا، فواللّه لئن هلكتَ ليهلكنّ أهل بيتك بهلاكك، والسلام.

قال فودّعه الحسين ودعا له بخير). «1»

وفي رواية الدينوري في الاخبار الطوال أنّ ابن مطيع قال للا

مام (ع): (إذا أتيت مكّة فاءردت الخروج منها إلى بلد من البلدان فإ يّاك والكوفة، فإ نّها بلدة مشؤ ومة، بها قتل أبوك، وبها خذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تاءتي على نفسه، بل الزم الحرم، فإ نّ أهل الحجاز لايعدلون بك أحدا، ثمّ ادع اليك شيعتك من كلّ أرض د فسياءتونك جميعا.

قال له الحسين (ع): يقضي اللّه ما اءَحبَّ. «2»

أمّا ابن عساكر فروى قصّة هذا اللقاء على النحو التالي:

(لمّا خرج الحسين بن عليّ (س) من المدينة يريد مكّة مرّ بابن مطيع وهو يحفر بئره، فقال له: أين فداك أبي وأمّي؟

قال: أردت مكّة.

قال وذكر له أنّه كتب إليه شيعته بها.

فقال له ابن مطيع: أين فداك أبي وأمّي؟ متّعنا بنفسك ولاتسر إليهم! فاءبى الحسين (ع)، فقال له ابن مطيع: إنّ بئري ه ذه قد رشحتها، وهذا اليوم أوان ما

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 421

خرج إلينا في الدلو شي من ماء، فلو دعوت اللّه لنا فيها بالبركة!

قال: هاتِ من مائها.

فاءتى من مائها في الدلو، فشرب منه، ثمّ تمضمض، ثمّ ردّه في البئر، فاءعذب وأمهى). «1»

من هو عبداللّه بن مطيع العدوي؟ ..... ص : 421

ها نحن في محضر الامام الحسين (ع) في الطريق إلى مكّة مع مخاطبٍ آخر من نوع آخر، هو عبداللّه بن مطيع العدوي، رجل من قريش، همّه العافية والمنفعة الذاتية، وحرصه على مكانة قريش والعرب أكبر من حرصه على الاسلام، وهو ليس من طلّاب الحقّ ولا من أهل نصرته والدفاع عنه، وكاذب في دعوى مودّة أهل البيت (ع) مع معرفته بمنزلتهم الخاصّة عنداللّه تبارك وتعالى، والامام الحسين (ع) يعرفه تمام المعرفة!

ولذا نراه (ع) يمرُّ به مرور الكرام ولايعباءُ به، ولايحدّثه بصريح قضيّة النهضة ولايكشف له عن تفاصيل مستقبلها كما حدّث بذلك أمّ سلمة رضي اللّه عنها

ومحمّد بن الحنفيّة، (ر) والملائكة، ومؤ مني الجنّ مثلا، بل حدّثه فقط عن مقصده المرحلىٍّ (مكّة)، ولم يكشف له عن شئ بعد ذلك إلّا (فإ ذا صرتُ إليها استخرتُ اللّه تعالى في أمري بعد ذلك!)، أو (يقضي اللّه ما اءَحبَّ!).

في محاورته مع الامام (ع) في لقائه الثاني به (على ما في رواية الارشاد) نجد أكبر همّ ابن مطيع هو ألّا تنهتك (حرمة العرب وحرمة قريش)، ونجده هنا أيضا يخاطب الامام (ع) قائلا: (فاءنت سيّد العرب في دهرك هذا!) ممّا يكشف عن قوّة النزعة العرقيّة (القوميّة) في عقله ونفسيته!

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 422

ونراه مع معرفته بمنزلة الامام (ع) في الاسلام وفي الامّة، ومع علمه بحقّانيّة خروج الامام (ع) لايندفع إلى نصرة الامام (ع) والانضمام إليه، بل يبقى همّه في ماء بئره كيف يكثر ويحلو! وببركة الامام (ع)!!

لقد فوّت عليه حبّ العافية والمنفعة الذاتيّة فرصة العمر النادرة بمرور الامام (ع) به في عدم اغتنامها بنصرته والالتحاق به والفوز بشرف الدنيا والاخرة في الاستشهاد بين يديه، وتسافل بهمّه إلى درجة أن انحصر في كثرة ماء البئر وعذوبته!

ونرى ابن مطيع هذا يكشف عن كذبه في دعوى حبّه للا مام (ع) بعد مقتل الام «1» ام (ع)، حين انضمَّ إلى ابن الزبير، وصار عاملا له على الكوفة، (فجعل يطلب الشيعة ويخيفهم)، «2» وقاتلهم في مواجهته لحركة المختار، واستعان عليهم بقتلة الامام الحسين (ع) أنفسهم، أمثال شمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وغيرهم!!

وفي أوّل خطبة له في الكوفة أعلن عن عزمه على تنفيذ أمر ابن الزبير في السير باءهل الكوفة بسيرة عمر بن الخطّاب وسيرة عثمان بن عفّان، لكنّه فوجئ بحنين أهل الكوفة إلى سيرة عليّ (ع) ورفضهم للسِّيَر الاخرى، حين

قام إليه السائب بن مالك الاشعري فقال له: (أمّا حملُ فيئنا برضانا فإ نّا نشهد أنّا لانرضى أن يُحمل عنّا فضلُه، وأن لايُقَسَّم إلّا فينا، وألّا يُسار فينا إلّا بسيرة علىٍّ بن أبي طالب (ع) التي سار بها في بلادنا هذه حتّى هلك، ولا حاجة لنا

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 423

في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا، ولا في سيرة عمر بن الخطّاب فينا، وإن كانت أهون السيرتين علينا ...). «1»

هل وصلت إلى الامام (ع) رسائل قُبَيْلَ رحيله عن المدينة؟ ..... ص : 423

من الطبيعي أن تكون للا مام الحسين (ع) في زمن معاوية مراسلات بينه وبين شيعته في العراق والحجاز وباقي مناطق العالم الاسلامي آنئذٍ.

لكنّ سؤ النا التحقيقي في هذا المجال حول ما إذا كانت هناك رسائل قد وصلت إلى الامام (ع) في غضون اليومين أو الثلاثة قبيل سفره عن المدينة، أي منذ أن جاء نباء موت معاوية، وطلب منه أن يبايع يزيد، وإلى أن ارتحل (ع) عن المدينة المنوّرة.

هناك ثلاث روايات يوحي ظاهرها بحصول هذا الامر:

الاولى: وهي الرواية التي مرّت بنا عن ابن عساكر في قصّة اللقاء الاول لعبدالله بن مطيع مع الامام (ع)، حيث ورد فيها بعد أن أجاب الامام (ع) ابن مطيع أنّه يريد مكّة قول الراوي إنّ الامام (ع) (ذكر له أنّه كتب إليه شيعته بها).

والمتبادر من ظاهرها أنّ للا مام الحسين (ع) شيعة في مكّة قد كتبوا إليه! وهذا ممكن إذا كانت هذه الرسائل قد كتبت وأرسلت قبل يوم وصول نباء موت معاوية إلى المدينة باءيّام، فوصلت إليه (ع) في غضون اليومين أو الثلاثة أيّام قبيل سفره عن المدينة، لا نّ المسافة بين مكّة والمدينة في السفر العاجل تقتضي زمانيّا ثلاثة أيّام على الاقلّ. وأمّا إذا كانت هذه الرسائل قد كتبت واءُرسلت

إليه (ع) بعد خبر موت معاوية، فلا شك اءنّها لاتصل إليه في غضون ما قبيل سفره، بلى، قد تصل إليه وهو في الطريق إلى مكّة وقد فصل

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 424

بعيدا عن المدينة، هذا في أحسن الفروض.

لكنّ المتاءمّل في بقيّة الرواية يجد ابن مطيع بعد ذلك مباشرة يقول للا مام (ع): (أين فداك أبي وأمّي؟ متعنّا بنفس ولاتسر إليهم!).

ولا شك أنّ ابن مطيع لم ينه الامام (ع) عن مكّة، بل نهاه عن الكوفة! ممّا يدلّ على أنّ ه ذه الرسائل المذكورة كانت من الكوفة وليست من مكّة! وهنا يظهر لنا الخلط في متن هذه الرواية بين لقاء ابن مطيع الاوّل ولقائه الثاني مع الامام (ع)، حيث كان الامام (ع) في اللقاء الثاني قد حدّث ابن مطيع عن رسائل أهل الكوفة، ولم يحدّثه عنها في اللقاء الاوّل، لا نها لم تصل إليه إلّا في مكّة، ولا نه لم يكن قد وصل إلى مكّة بعدُ.

الثانية: وهي أوضح في الخلط بين وقائع اللقائين من رواية ابن عساكر، وقد رواها صاحب العقد الفريد، وجاء فيها: (... ومرَّ حسين حتّى أتى على عبداللّه بن مطيع وهو على بئر له، فنزل عليه، فقال للحسين: يا أباعبداللّه، لا سقانا اللّه بعدك ماءً طيّبا، أين تريد؟ قال: العراق!. قال: سبحان اللّه! لِمَ؟ قال: مات معاوية، وجاءني أكثر من حمل صحف. قال: لاتفعل أباعبداللّه، فواللّه ما حفظوا أباك، وكان خيرا منك، فكيف يحفظونك؟ وواللّه لئن قتلت لا بقيت حرمة بعدك إلّا استحلّت! فخرج حسين حتّى قدم مكّة ...). «1»

وهذه الرواية مغايرة للرّوايات الكثيرة التي تحدّثت عن وقائع اللقاء الاوّل، لقاء ما بعد المدينة، حيث حكت هذه الروايات أنّ الامام (ع) لم يصرّح لابن مطيع فيه

إلّاأنّه يريد مكّة، ولم يحدّثه أنّه يريد العراق!

ثمّ كيف يُتصوّر أنّ حملا من الرسائل يصل إلى الامام وهو في المدينة من

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 425

أهل الكوفة بعد انتشار نباء موت معاوية!؟ والثابت تاءريخيّا أنّ أهل الكوفة علموا بموت معاوية بعد وصول الامام (ع) إلى مكّة بفترة، ثمّ كتبوا إليه يدعونه إليهم.

فالرّاوي لهذه الرواية على فرض صحّتها يكون قد خلط بين مجريات اللقائين خلطا ظاهرا من حيث يعلم أو لايعلم! والمقطوع به تاءريخيّا أنّ رسائل دعوة أهل الكوفة للا مام (ع) لم تصل إليه في المدينة، بل في مكّة.

الثالثة: وهي الرواية التي حكاها صاحب (أسرار الشهادة) عن بعض (الثقات الادباء الشعرأ من تلامذتي من العرب) حسب قوله، وأنّ هذا الثقة قد ظفر بها في مجموعة كانت تنسب إلى (الفاضل الاديب المقري) فنقلها عنها، وهذه الرواية أنّه: (قد روى عبداللّه بن سنان الكوفي، عن أبيه، عن جدّه، أنّه قال:

خرجت بكتاب من أهل الكوفة إلى الحسين (ع) وهو يومئذٍ بالمدينة، فاءتيته فقرأه وعرف معناه، فقال: أنظرني إلى ثلاثة أيّام. فبقيت في المدينة، ثمّ تبعته إلى أن صار عزمه بالتوجّه إلى العراق، فقلت في نفسي أمضي وأنظر إلى ملك الحجاز كيف يركب وكيف جلا

له و شانه «1» ثم يصف ..... ص : 425

الراوي كيف أركب الهاشميّون محارمهم من عيالات الامام الحسين (ع) على محامل الابل، ثمّ كيف ركب بنوهاشم والامام (ع).

وهذه الرواية على د فرض صحّتها (وهي ليست كذلك) «2» هي الرواية الوحيدة التي تخبر عن وصول رسالة من أهل الكوفة إلى الامام (ع) وهو في المدينة في أيّام ما بعد رفضه البيعة ليزيد بعد موت معاوية، أو قبل ذلك بيوم!

ولا شك أن هذه الرسالة تعتبر من رسائل أهل الكوفة إلى الامام (ع) في فترة ما ..... ص : 425

مع الركب الحسينى(ج 1)، ص: 426

قبل علم أهل الكوفة بموت معاوية، لا نّ نباء موت معاوية من قرائن تاءريخيّة عديدة لم يصل إلى أهل الكوفة إلّا بعد وصول الامام (ع) إلى مكّة المكرّمة، أو وهو في الطريق إليها.

من كلّ ما قدّمناه في هذه القضيّة نستنتج:

أنّه لم تصل إلى الامام (ع) وهو في المدينة في غضون أيّام إعلانه رفض البيعة ليزيد إلى حين خروجه عنها أيّة رسالة من أهل الكوفة تُنبي عن علمهم بموت معاوية، وعن دعوتهم الامام (ع) إليهم، ولا من مكّة أيضا، ولا من سواهما.

على مشارف مكّة المكرّمة: ..... ص : 426

وتواصل رواية الفتوح متابعة مسار الامام الحسين (ع) بركب الشهادة من المدينة إلى مكّة حتّى مشارفها من بعيد حيث تبدو جبالها للناظر، فتقول:

(وسار حتّى وافى مكّة، فلمّا نظر إلى جبالها من بعيد جعل يتلو هذه الاية:

(ولمّا توجّه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سوأ السبيل). «1»

وتقول رواية الاخبار الطوال:

(ثمّ أطلق عنانه ومضى حتّى وافى مكّة، فنزل شِعبَ عليٍّ ...). «2»

وتقول رواية ابن عساكر:

(فنزل الحسين دار العبّاس بن عبدالمطّلب ...). «3»

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

الجزء الخامس

الجزء السادس

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

الجزء الثاني

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة (الجز الثاني)

مقدمة مركز الدراسات الإسلاميّة التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية ..... ص : 3

اشارة

الحمد للَّه الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره و دليلًا على نعمه و آلائه، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

و بعدُ: فهذا الكتاب هو الجزء الثاني من سلسلة أجزاء الدراسة التأريخية التفصيلية (مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة)، و يختص هذا الجزء بالمقطع الثاني من مقاطع هذه الدراسة، و هو مقطع «الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية»، أي الأيام التي أقام الإمام الحسين عليه السلام فيها بمكّة المكرمة بعد إعلانه عن رفضه مبايعة يزيد بعد موت معاوية بن أبي سفيان.

و فترة الأيام المكيّة من عمر النهضة الحسينية من أصعب أيام هذه النهضة المباركة على صعيد المتابعة التاريخيه، لأنها أقلّ مقاطع هذه النهضة المقدّسة من حيث كميّة الوثائق التأريخية التي تحدّثت عنها، مع أنّ هذه الفترة هي أطول مقاطع النهضة الحسينية إذ بلغت ما يقارب مائة و خمسة و عشرين يوماً، و لا شكّ أنها كانت مليئة بالمهم من وقائع حركة الإمام عليه السلام لأنّ مكّة المكرّمة في تلك الأيام

كانت محطّ و ملتقى جموع المعتمرين والحجّاج.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 4

ولذا فقد عمد مؤلّف هذا الكتاب- من أجل سدّ ثغرة قلّة وثائق هذه الفترة- إلى دراستها من خلال متابعات ثلاث: الأولى هي متابعة حركة الإمام عليه السلام، والثانية متابعة حركة السلطة الأموية في مواجهة حركة الإمام عليه السلام، والثالثة هي متابعة حركة الأمّة إزاء قيام الإمام عليه السلام.

فجاءت هذه الدراسة غنيّة و جديدة بمعنى الكلمة من حيث النظم والمحتوى، والإلتفاتة البكر، والإستنباط الذكيّ الرائع، والتبويب المغني عن عناء المتابعات المرهقة.

و مؤلف هذا البحث هو سماحة الشيخ المحقّق الأستاذ نجم الدين الطبسي، صاحب الخبرة الطويلة في ميدان التحقيق العلمي والتأريخي، إذ هو أحد محقّقي موسوعة: «معجم أحاديث المهدي عليه السلام»، و من مؤلفاته القيّمة: كتاب «موارد السجن في النصوص والفتاوى»، و كتاب «النفى والتغريب»، و كتاب «الوهابية:

دعاوى و ردود».

ولا يسعنا هنا إلّاأن نتقدّم الى شيخنا المحقّق مؤلف هذا الكتاب بالشكر الجزيل على ما بذله من جهد متواصل و عناء كبير من أجل إنجاز هذا البحث القيّم، داعين له بمزيد من الموفقية والنجاح في ميدان خدمة الحقّ والحقيقة و نصرة دين اللَّه تعالى.

كما نتقدّم بالشكر الجزيل إلى الأخ الأستاذ المحقّق علي الشاوي الذي آزر مؤلّف الكتاب مؤازرة صميمية، و بذل جهداً كبيراً مشكوراً في مراجعة و نقد و تنظيم هذا البحث القيّم، داعين له بمزيد من الموفقية في ميدان التحقيق و مؤازرة المحقّقين، و في مواصلة عنايته الكبيرة في خدمة الأجزاء الباقية من هذه الدراسة القيّمة.

مركز الدراسات الإسلاميّة

لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 7

مقدمة المؤلف (الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية) ..... ص : 7
اشارة

ارتحل الإمام الحسين عليه السلام عن المدينة المنوّرة سنة ستين للهجرة إلى مكّة المكرّمة بعد موت معاوية بن أبي سفيان

على أثر إعلانه رفض البيعة ليزيد، وكان عليه السلام قد أقام في مكّة المكرّمة منذ اليوم الثالث من شعبان الى اليوم الثامن من ذي الحجة من نفس السنة، أي ما لايقلّ عن مائة وخمسة وعشرين يوماً، وهي فترة طويلة نسبياً في إطار حساب عمر النهضة الحسينيّة المباركة، غير أن هذه الفترة برغم طولها تعتبر الفترة المجهولة من عمر هذه النهضة المباركة إذا قورنت مع فتراتها الأخرى من حيث الوقائع والأحداث التي سجلها التاريخ عنها، ذلك لأن كتب التأريخ مرّت على هذه الفترة المكيّة مرور الكرام، فعدا وقائع أيّام ما قبيل خروج الإمام عليه السلام من مكة التي حظيت بنوع من العناية التأريخيّة التفصيلية، نلاحظ أنّ التأريخ لم يسجّل عن بقيّة هذه الأيام المكيّة الطويلة إلّا ملاحظات عامة هي أقرب إلى الغموض منها إلى الوضوح.

هذا مع أنّ دراسة النهضة الحسينيّة واستيعاب أبعادها وفهم أسرارها منال لا يبلغ منه المحقق أقصى غايته بمعزل عن معرفة مجريات وقائع هذه الأيام المكيّة ودراسة الأجواء والتحركات المؤيّدة والمضادة التي كانت تعايشها النهضة الحسينيّة والإمام عليه السلام في مكّة.

وتتزاحم في ذهن المتأمل في هذه الفترة المكيّة أسئلة كثيرة، قد يكون أوّلها

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 8

هو السؤال عن علّة ارتحال الإمام عليه السلام من المدينة المنورة إلى مكّة المكرّمة لا إلى سواها. هل أراد الإمام عليه السلام أن يتّخذ من مكّة مركزاً لانطلاق الثورة على الحكم الأمويّ!؟ أم كان عليه السلام يريد استثمار أشهر الحج في مكّة المكرّمة لإيصال صوت هذه النهضة المباركة والتعريف بأهدافها الى كلّ العالم الإسلامي آنذاك؟

وكان يمكن للمتأمّل أن يجيب بالإيجاب على محتوى الشقّ الأوّل من السؤال، أو يتبنّى الجمع بين محتوى الشقّين الأوّل والثاني معاً لو كان

في مكّة المكرّمة قاعدة شعبية كبيرة موالية لأهل البيت عليهم السلام، ولكن هل كانت هذه القاعدة الشعبية الموالية موجودة فعلًا آنذاك!؟

من المؤسف أنّ مثل هذه القاعدة الشعبية الموالية لم تتوفر للإمام الحسين عليه السلام ولا لأخيه الإمام الحسن عليه السلام من قبله ولا لأبيهما الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام من قبلهما، بسبب ما تركته معارك الإسلام الأولى كبدرٍ وأُحدٍ وغيرهن في قلوب بطون قريش من أحقادٍ على أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام خاصة وعلى أهل البيت عليهم السلام فأضبّت على عداوتهم وأكبّت على منابذتهم، ذلك لأنها لا تنسى عليّاً عليه السلام الذي ناوش ذؤبانها وقتل صناديدها، وكيف تنساه «وهو صاحب لواء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمهاجرين» «1»!؟ كيف تنسى قريش علياً عليه السلام وقد أورد أوّلها النار وقلّد آخرها العار على حدّ قول الإمام زين العابدين عليه السلام وابن عبّاس «2»!؟ كيف تحبّه وقد قتل في بدرٍ وأُحد من ساداتهم سبعين رجلًا تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟ هكذا قال ابن عمر لأميرالمؤمنين عليّ عليه السلام الذي ردَّ عليه قائلًا:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 9

ماتركتْ بدرُ لنا مُذيقا ولا لنا من خلفنا طريقا «1»

عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن أميرالمؤمنين عليه السلام كيف مال الناس عنه الى غيره، وقد عرفوا فضله وسابقته ومكانه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله!؟ فقال عليه السلام:

«إنّما مالوا عنه الى غيره وقد عرفوا فضله لأنه قد كان قتل من آبائهم وأجدادهم وإخوانهم وأعمامهم وأخوالهم وأقربائهم المحادّين للَّه ولرسوله عدداً كثيراً، وكان حقدهم عليه لذلك في قلوبهم فلم يحبّوا أن يتولّى عليهم، ولم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك، لأنه

لم يكن له في الجهاد بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مثل ما كان له، فلذلك عدلوا عنه ومالوا إلى سواه». «2»

وقد مارس ساسة السقيفة ومؤيدوهم عملًا إعلامياً مدروساً ومتواصلًا لتأجيج ثائرة قريش على عليّ عليه السلام ولترسيخ حقدها عليه، فهاهو عمر بن الخطّاب مثلًا ينظر الى سعيد بن العاص فيقول له: «مالي أراك كأنّ في نفسك عليَّ شيئاً، أتظنّ أنّي قتلت أباك؟ واللَّه لوددت أنّي كنت قاتله! ولو قتلته لم أعتذر من قتل كافر، ولكنّي مررت به في يوم بدر فرأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه، وإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ، فلمّا رأيت ذلك هبته ورغتُ عنه! فقال: إلى أين يابن الخطّاب!؟ وصمد له عليٌ فتناوله، فواللَّه ما رمت مكاني حتى قتله». «3»

وكان عليُ عليه السلام حاضراً في المجلس فقال:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 10

«اللّهُمَّ غفراً، ذهب الشرك بما فيه، ومحا الإسلام ما تقدّم، فمالك تُهيِّج الناس عليَّ!؟». «1»

وقد لخّصت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام علّة كراهية قريش لعليّ عليه السلام أمام نساء المهاجرين والأنصار اللواتي جئن لعيادتها في مرضها قبل شهادتها حيث قالت عليها السلام:

«وما الذي نقموا من أبي الحسن!؟ نقموا منه واللَّه نكير سيفه، وقلّة مبالاته بحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات اللَّه». «2»

وما برح أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يشكو الى اللَّه ما فعلت به قريش من غصب حقّه وتصغير عظيم شأنه حتى مضى شهيداً، ومن شكايا بثّه الى اللَّه تعالى في هذا قوله عليه السلام:

«مالنا ولقريش!؟ وما تنكر منّا قريش غير أنّا أهل بيت شيّد اللَّه فوق بنيانهم بنياننا، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا، واختارنا اللَّه

عليهم، فنقموا على اللَّه أن اختارنا عليهم، وسخطوا مارضي اللَّه، وأحبّوا ماكره اللَّه، فلمّا اختارنا اللَّه عليهم شركناهم في حريمنا، وعرّفناهم الكتاب والنبوّة، وعلّمناهم الفرض والدين، وحفّظناهم الصحف والزبر، وديّناهم الدين والإسلام، فوثبوا علينا، وجحدوا فضلنا، ومنعونا حقّنا، وأَلتونا «3» أسباب أعمالنا وأعلامنا، اللّهم فإنّي أستعديك على قريش فخذ لي بحقّي منها، ولا تدع مظلمتي لديها، وطالبهم- ياربّ- بحقّي، فإنّك الحكم العدل، فإنّ قريشاً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 11

صغّرت عظيم أمري ...». «1»

ويقول عليه السلام في نفثة أخرى وهو يدعو اللَّه تعالى على قريش:

«فأَجزِ قريشاً عني بفعالها، فقد قطعت رحمي، وظاهرت عليَّ، وسلبتني سلطان ابن عمّي ..». «2»

ويجيب عليه السلام أخاه عقيلًا في كتاب إليه: «فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه، فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبلي، فجزت قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن عمي ..». «3»

ويلخّص عليه السلام موقفه في صبره على الطامّة الكبرى في انحراف الأمّة عن وصيّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وغصب قيادة السقيفة حقّه الإلهي في الخلافة:

«ما رأيت منذ بعث اللَّه محمّداً صلى الله عليه و آله رخاءً، والحمد للَّه، واللَّه لقد خفت اللَّه صغيراً وجاهدت كبيراً، أقاتل المشركين وأعادي المنافقين حتى قبض اللَّه نبيّه صلى الله عليه و آله فكانت الطامّة الكبرى، فلم أزل حذراً وجلًا أخاف أن يكون ما لا يسعني معه المقام، فلم أرَ- بحمد اللَّه- إلّا خيراً، واللَّه مازلت أضرب بسيفي صبياً حتى صرت شيخاً، وإنّه ليصبّرني على ما أنا فيه أنّ ذلك كلّه في اللَّه ...». «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 12

مكّة المكرّمة والتركيبة القبلية فيها ..... ص : 12

إنّ تركيبة مكّة المكرّمة

الإجتماعية آنذاك تركيبة قبلية، فهي بيوتات وعشائر وبطون، وتتألف قريش من خمسة وعشرين بطناً، «1» و «ما أن أعلن النبي صلى الله عليه و آله نبوّته رسمياً، واختياره لوليّ عهده، حتى وقفت قريش وقفة رجل واحد بقيادة البيت الأموي، وأعلنت رفضها المطلق للنبوّة والكتاب وولاية العهد، وصرّحت بأنها ستجنّد كلّ طاقاتها الماديّة والمعنوية لصدّ أهل مكّة خاصة والعرب عامة عن إتباع محمد صلى الله عليه و آله والدخول في دينه، وانقسم المجتمع المكي الى قسمين:

الأوّل: وهو الأكثر عدداً ومدداً ظاهرياً، ويتألّف من ثلاثة وعشرين بطناً من بطون قريش ومن والاهم من الموالي والأحابيش.

الثاني: وهو الأقلّ عدداً، ويتألّف من رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله ومن بطنه الهاشمي وبطن بني المطّلب بن عبد مناف، ومن والى هذين البطنين من الموالي والأحابيش، مضافاً إليهم الذين اعتنقوا الدين الإسلامي». «2»

وقد «قرّرت البطون استعمال كلّ الوسائل لعزل محمد صلى الله عليه و آله عن الهاشميين، فإن هم أصرّوا على عدم التخلّي عنه فلابدّ من عزل الهاشميين أنفسهم عن البطون، وفرض محاصرتهم ومقاطعتهم، فإن لم تُجدِ هذه الوسائل تعيّن على البطون أن تختار رجالًا منها يشتركون جميعاً في قتل محمد صلى الله عليه و آله فيضيع دمه بين البطون، ولا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه، وإن لم تنجح محاولة القتل، وجب ملاحقة محمد صلى الله عليه و آله، ومحاربته حتى يتمّ القضاء التام عليه وعلى دعوته». «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 13

لكنّ هذه البطون المناوئة للدعوة المحمّدية أحسّت بالخيبة وبقوّة الصدمة وشدّة النكسة وهول ما أصابها من بني هاشم عامة ومن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام خاصة بعد تعاظم أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واشتداد

شوكته، خصوصاً بعد معركة بدر الكبرى التي عبّأت فيها قريش كلّ قواها، إذ «مابقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرج مالًا لتجهيز الجيش، وقالوا: من لم يخرج نهدم داره»، «1» ويرى أبوسفيان أنّ لوازم المواجهة مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تقتضي العداء الى آخر الدهر، هاهو يخاطب الرجل الجهني وهو يستقصيه أخبار جيش النبي صلى الله عليه و آله قبيل وقعة بدر الكبرى قائلًا:

«واللات والعُزّى لئن كتمتنا أمر محمّد لا تزال قريش لك معادية آخر الدهر، فإنّه ليس أحد من قريش إلّا وله شي ء في هذا العير». «2»

لقد ترسّخ حقد قريش على بني هاشم عامة وعلى أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام خاصة منذ انجلت بدر الكبرى عن انكسار قريش واندحارها، وإنها لتعلم أنّ علياً عليه السلام هو السبب الرئيس في انهزامها وخسارتها المفجعة، فهو الذي قتل الوليد ثم شرك في قتل عتبة وشيبة، ولقد تفرّد عليه السلام بقتل خمسة وثلاثين رجلًا ببدر- على ما أثبتهُ رواة العامة والخاصة معاً- سوى من اختلفوا فيه، ومن شرك أميرالمؤمنين عليه السلام غيره في قتله. «3»

وهو عليه السلام صاحب الموقف الفذ الفريد في الشجاعة والثبات يوم أحد، وكشاهد على هذا الموقف العُجاب ننقل من ميدان موقعة أحد هذه اللقطة: «قد كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري من بني عبد الدار، فبرز ونادى:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 14

يامحمّد، تزعمون أنكم تجهّزونا بأسيافكم الى النار ونجهّزكم بأسيافنا الى الجنّة، فمن شاء أن يلحق بجنّته فليبرز إليَّ. فبرز إليه أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يقول:

ياطلحُ إنْ كنتم كما تقول لكم خيول ولنا نصولُ

فاثبت لننظر أيّنا المقتول وأيّنا أولى بما تقولُ

فقد أتاك الأسدُ الصؤول بصارم ليس به

فلولُ

ينصره القاهر والرسولُ

فقال طلحة: من أنت ياغلام؟

قال: أنا عليّ بن أبي طالب.

قال: قد علمتُ ياقضم «1» أنه لايجسرُ عليَّ أحدٌ غيرك!.

فشدَّ عليه طلحة فضربه، فاتّقاه أميرالمؤمنين عليه السلام بالحجفة، ثمّ ضربه أميرالمؤمنين عليه السلام على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره، وسقطت الراية، فذهب عليّ عليه السلام ليجهز عليه فحلّفه بالرحم فانصرف عنه، فقال المسلمون: ألا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 15

أجهزت عليه؟ قال: قد ضربته ضربة لايعيش منها أبداً.

ثم أخذ الراية أبوسعيد بن أبي طلحة، فقتله عليّ عليه السلام، وسقطت رايته الى الأرض. فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله عليّ، وسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها مسافع بن أبي طلحة، فقتله عليّ عليه السلام، وسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها الحارث بن أبي طلحة فقتله عليّ عليه السلام، وسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها عُزير بن عثمان فقتله عليّ عليه السلام، وسقطت الراية الى الأرض. فأخذها عبداللَّه بن جميلة بن زهير فقتله عليّ عليه السلام وسقطت الراية الى الأرض. فقتل أمير المؤمنين التاسع من بني عبدالدار وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزة، وسقطت الراية إلى الأرض. فأخذها مولاهم صوأب فضربه أميرالمؤمنين عليه السلام على يمينه فقطعها، وسقطت الراية الى الأرض، فأخذها بشماله، فضربه أميرالمؤمنين عليه السلام على شماله فقطعها، فسقطت الراية إلى الأرض، فاحتضنها بيديه المقطوعتين ثم قال: يابني عبدالدار، هل أُعذرت فيما بيني وبينكم؟ فضربه أميرالمؤمنين عليه السلام على رأسه فقتله، وسقطت الراية الى الأرض ...». «1»

فبنو عبدالدار يعادون بني هاشم عامة وعلياً وآل عليّ عليهم السلام خاصة ويبغضونهم الى يوم الدين، حتى وإن عرفوا أنّ علياً «أحد الأربعة الذين أمر اللَّه نبيّه أن يُحبّهم»، «2» أو سمعوا أنّه يقول فيه: «لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق»، «3»

أو أنه «أحبّ

الخلق إلى اللَّه»، «4»

أو أنه «وليُّ النبيّ صلى الله عليه و آله في الدنيا والآخرة». «5»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 16

ولبطون قريش الأخرى نصيبها من القتلى الذين مضوا الى جهنم بسيف أميرالمؤمنين عليه السلام في بدر وأحد ومعارك الإسلام الأخرى، هذا فضلًا عمّن قُتل منهم في حربي الجمل وصفّين، وأولاء عدا من حدّه عليّ عليه السلام لفسقه، أو فرَّ من طائلة عدل عليّ عليه السلام وقصاصه.

لذا فقد كان أهل مكّة وكثير من أهل الحجاز لايميلون الى بني هاشم عامة والى عليّ وآل عليّ عليهم السلام خاصة، ومالوا الى قيادة السقيفة ثمّ إلى بني أميّة بعدهم، يقول الإمام علي بن الحسين عليهما السلام كاشفاً عن تلك الحقيقة:

«ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا ..». «1»

ويقول أبوجعفر الإسكافي في هذا الصدد: «أمّا أهل مكّة فكلّهم كانوا يبغضون علياً قاطبة، وكانت قريش كلّها على خلافه، وكان جمهور الخلق مع بني أميّة عليه». «2»

لقد كان لحركة النفاق بجميع فصائلها دور مدروس ومخطّط وذو أثر بالغ في تأجيج ضغائن الجاهلية ضد أهل البيت عليهم السلام عامة وضد أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام خاصة، ولمّا تسلّم الحزب الأموي قيادة حركة النفاق بزعامة معاوية بن أبي سفيان الذي مابرح يبكي على قتلى مشركي قريش في بدر حتى لحظات احتضاره، «3» كان الهمّ الأكبر للأمويين هو فصل الأمّة عن أمير المؤمنين علي عليه السلام حتىّ على الصعيد الوجداني، فأمر معاوية بسبّه ولعنه والبراءة منه، واضطهد محبّيه معيشياً وسياسياً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 17

اضطهاداً رهيباً. «1»

من كلّ ما مضى تتأكد لنا حقيقة أنّ أهل البيت عليهم السلام لم تكن لهم قاعدة شعبية في مكة المكرّمة خاصة، قاعدة شعبية واسعة تتولاهم وتدعم مواقفهم وتنصرهم، أو تحبّهم على الأقلّ، والأمر

كما وصفه الإمام السّجاد عليه السلام:

«ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا»!!

ومن هنا أيضاً تتأكّد لنا حقيقة أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يقصد من توجّهه الى مكّة المكرّمة أهل هذه المدينة بالأساس، بل كان قصده الرئيسي في التوجّه إليها هو إبلاغ وفود العالم الإسلامي من المعتمرين والحجّاج بقيامه ونهضته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طلباً للنصرة وإتماماً للحجّة على الناس.

ومن هنا نرجّح أنّ ماورد في بعض الروايات من أنّ أهل «2» مكّة فرحوا بالإمام عليه السلام فرحاً شديداً، أو عكف الناس بمكّة يفدون إليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه، ويضبطون مايروون عنه ... ليس المراد بذلك جلّ أهل مكّة بالذات بل المراد بذلك هم جموع الوافدين على مكّة من معتمرين وحجّاج ونزر قليل جداً من المكيّين الذين استوطنوا مكّة بعد فتحها وبعد انتشار الإسلام ومما يؤكّد ماذهبنا إليه أن التأريخ لم يحدّثنا أنّ أحداً من المكيين قد التحق بالإمام عليه السلام وسار معه الى العراق.

والأيام التي قضاها الإمام أبو عبداللَّه الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة تشكّل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 18

المقطع الأطول من عمر النهضة الحسينيّة المقدّسة، ولاشك أنّ ما يقارب المائة وخمسة وعشرين يوماً مساحة زمنية حفلت ثناياها بكثير من الإتصالات واللقاءات والمحاورات والمراسلات وأنشطة أخرى متعدّدة غيرها كان الإمام أبوعبداللَّه الحسين عليه السلام قد قام بها، ولو كان التأريخ قد سجّل لنا جميع تلك الوقائع وتفاصيلها، لكان أغنى المؤرخين والمتتبّعين المحققّين بمادة تأريخية مهمة، ولأعانهم عوناً كبيراً على كشف كثير من الغموض المحيط ببعض الأحداث والمواقف الواقعة في إطار تأريخ هذه النهضة المباركة.

لكنّ المؤسف فعلًا- كما قلنا في بداية هذه المقدّمة- أنّ التأريخ لم يسجل لنا عن هذه الأيام المكيّة

إلّا ملاحظات عامّة غضّت الطرف وأغمضته عن كثير من التفاصيل التأريخية اللازمة في الإجابة على كثير من التساؤلات التي تنقدح في ذهن المتأمل حول تلك الفترة وما جرى فيها وبعدها.

ويمكن للمتتبع أن يحدّد المحاور العامة التي سجلها التأريخ لهذه الفترة المكيّة بما يأتي:

1- إنشداد الناس في مكّة الى الإمام عليه السلام واحتفاؤهم به، وتضايق عبداللَّه بن الزبير والسلطة الأموية المحلّية في مكّة لذلك.

2- محاولات بعض وجهاء الأمّة لثني الإمام عليه السلام عن التوجّه الى العراق في إطار لقاءات ومحاورات النصح والمشورة وبعض المكاتبات في هذا الصدد.

3- رسائل أهل الكوفة الى الإمام عليه السلام، ورسائل الإمام عليه السلام إليهم والى أهل البصرة.

4- إرسال الإمام عليه السلام مسلم بن عقيل عليه السلام إلى أهل الكوفة.

5- خطب الإمام عليه السلام قبيل مغادرة مكّة، والمحاولات الأخيرة لثنيه عن التوجّه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 19

الى العراق.

ومجموع الروايات التأريخية الواردة في إطار هذه المحاور تعتبر نزراً قليلًا جداً إذا قيست إلى ما يمكن أن تتضمّنه فترة لا تقلّ عن مائة وخمسة وعشرين يوماً من وقائع وأحداث، خصوصاً في مدينة مكّة المكرّمة وفي أيّام كانت هذه المدينة قد غصّت بجموع غفيرة من معتمرين وحجّاج وفدوا إليها من شتى أنحاء العالم الإسلامي، وفيهم شخصيات مهمة كثيرة يستبعد المتأمّل ألا تكون لها لقاءات كثيرة وطويلة مع الإمام الحسين عليه السلام الذي هو آنذاك الرمز الديني والروحي لهذه الأمّة.

ومن أجل جبران هذا النقص في المادّة التأريخية لفترة الأيام المكيّة من عمر النهضه الإسلامية رأينا أن نتابع وقائع وأحداث هذه الفترة من خلال الزوايا الثلاث التالية:

1- حركة الإمام الحسين عليه السلام في هذه الفترة.

2- حركة السلطة الأموية في مواجهة الإمام عليه السلام.

3- حركة الأمّة إزاء قيام الإمام

عليه السلام.

وقد حاولنا- فضلًا عن الروايات المبذولة في إطار هذه الزوايا الثلاث- أن نلتقط كلّ الشوارد والإشارات التأريخيّة المتفرّقة في كتب التأريخ والتراجم وغيرها ونجمعها في متجهاتها كيما نزيح بأضواء جديدة بعض الغموض الجاثم على مساحة كبيرة من تلك الفترة، لنكون بذلك قد قدّمنا جديداً في إطار هذه الدراسة التأريخية التحليلية النقدية.

تُرى هل وفّقنا الى ذلك؟

التقييم في ذلك متروك الى القارى ء الكريم.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 20

وفي الختام: ..... ص : 20

أود أن أتقدم بالشكر والتقدير الفائق إلى صاحب الفضيلة الأستاذ المحقّق علي الشاوي المحترم حيث أتحفنا بملاحظات قيمة، مع بذل غاية جهده في تنظيم وترصين هذا الجهد المتواضع: كتاب «الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة» فله الفضل عليَّ والأيادي.

واستميح سيّدي الوالد المرحوم آية الله الطبسي عذراً إذ لم أوفّق حتّى الآن لتنفيذ ما أوصى به إلينا من تحقيق وطبع ونشر مؤلّفه القيّم- المخطوط- مقتل الإمام الحسين عليه السلام، وعسى أن يكون هذا الجهد المتواضع بداية خير لإنجاز ما طلبه منّا في قريب عاجل إن شاء الله تعالى.

نجم الدين الطبسي

قم المقدّسة

19/ محرّم الحرام/ 1421 ه. ق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 23

الفصل الأول ..... ص : 23

اشارة

حركة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام في مكّة

الفصل الأوّل: حركة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام في مكّة ..... ص : 23
ورود الإمام الحسين عليه السلام مكّة المكرّمة ..... ص : 23
اشارة

سار الإمام عليه السلام بالركب الحسينيّ من المدينة المنورة حتى وافى مكّة المكرّمة، فلمّا نظر إلى جبالها من بعيد جعل يتلو هذه الآية الكريمة: «ولمّا توجّه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل»، «1» وذلك ما قاله رسول اللَّه موسى بن عمران عليه السلام حينما خرج من مصر إلى مدين.

وقيل: إنه لمّا قدم مكّة قال: «اللّهمَّ خِرْ لي واهدني سواء السبيل». «2»

وقد دخل عليه السلام مكّة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان. «3» أو دخلها عليه السلام يوم الجمعة، «4» ومكث فيها أربعة أشهر وخمسة أيّام.

الإستقبال الحافل والحفاوة البالغة ..... ص : 23

قال ابن كثير: «وعكف الناس بمكّة يفدون إليه، ويجلسون حواليه،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 24

ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه، ويضبطون ما يروون عنه». «1»

وقال الشيخ المفيد قدس سره: «فأقبل أهلها يختلفون إليه، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ...». «2»

وقال ابن الصباغ: «فأقبل الحسين حتى دخل مكّة المشرّفة ونزل بها، وأهلها يختلفون إليه ويأتونه، وكذلك من بها من المجاورين والحجاج والمعتمرين من سائر أهل الآفاق». «3»

وذكر بعض المؤرّخين أنّ أهل مكّة فرحوا به عليه السلام فرحاً شديداً، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّاً. «4»

ويبدو أنّ بعض المتتبعين المعاصرين- كباقر شريف القرشيّ- قد استفاد من مجموع مثل هذه النصوص أنّ المكيّين أنفسهم هم الذين احتفوا بالإمام عليه السلام وكانوا يختلفون إليه بكرة وعشياً، فأطلق القول هكذا: «وقد استقبل الإمام عليه السلام استقبالًا حافلًا من المكيّين، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّاً، وهم يسألونه عن أحكام دينهم وأحاديث نبيّهم». «5»

لكننا نرجّح- كما قدّمنا في مقدمة الكتاب- أنّ الذين احتفوا بالإمام الحسين عليه السلام وكانوا يفدون إليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه، ويضبطون مايروون عنه، هم أهل الأقطار

الأخرى من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 25

المعتمرين والحجاج المتواجدين آنذاك في مكّة، وفيهم من المكيين القليل ممن ليسوا من بطون قريش، ممن سكن مكّة بعد الفتح وبعد انتشار الإسلام في الأرض، ذلك لأنّ قريشاً توارثت العداء لعليّ وآل عليّ عليهم السلام، والظاهر أنّ جلّ المكيّين آنذاك هم من قريش، ولا ننسى قول الإمام السجاد عليه السلام:

«ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا ...». «1»

منزل الإمام الحسين عليه السلام بمكّة ..... ص : 25

صرّح الذهبي بأنّ الإمام الحسين عليه السلام «نزل بمكّة دار العبّاس»، «2» وكذلك قال المزّي، «3» ومن قبلهما ابن عساكر، «4» غير أنّ بعضاً آخر من المؤرخين ذكروا أنه عليه السلام «نزل في شِعب عليّ عليه السلام»، «5» ولامنافاة بين القولين و لأنّ دارالعبّاس بن عبدالمطلب كانت فى شعب عليّ عليه السلام.

لكن السؤال الذي قد يفرض نفسه هنا هو:

لماذا اختار الإمام الحسين عليه السلام دار العبّاس بن عبدالمطّلب؟

هل هناك غرض سياسي أو اجتماعي أو تبليغي من وراء ذلك؟ أم أنه عليه السلام لم يُرد أن يكون لأحدٍ عليه منّة بذلك؟ أو أنّه عليه السلام خشي أن ينزل على أحدٍ فيكلّف المنزول به ثمناً باهضاً وحرجاً شديداً، لأنّ السلطة الأموية بعد ذلك سوف تضطهد صاحب المنزل بأشدّ عقوباتها؟ أو أنه عليه السلام لم يُرد أن يمنح رجلًا من أهل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 26

مكّة بنزوله عنده اعتباراً اجتماعياً ومنزلة في قلوب الناس لا يستحقّها أو يستثمرها بعد ذلك لمنافعه الخاصة؟

أم أنّ الإمام عليه السلام لم ينزل من دور بني هاشم في مكّة إلا دار العباس بن عبدالمطلب لأنّ بني هاشم لم تبق لهم دار في مكّة إلّا دار العبّاس، ذلك لأنّ عقيل ابن أبي طالب كان قد باع دور المهاجرين من بني هاشم خشية أنّ

تستولي عليها قريش وتصادرها، لأنّ قريشاً عمدت حينذاك الى مصادرة منازل المهاجرين من المسلمين الى المدينة انتقاماً وإرهاباً، ولم يكن العبّاس بن عبدالمطلب قد هاجر آنذاك على فرض إسلامه حين هجرة النبي صلى الله عليه و آله- فسلمت داره من المصادرة.

يقول الواقدي: «قيل للنبي: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: فهل ترك لنا عقيل منزلًا؟ وكان عقيل قد باع «1» منزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكّة». «2»

ويعلل السيد علي خان الشيرازي هذه المصادرة قائلًا: «كان عقيل قد باع دور بني هاشم المسلمين بمكّة، وكانت قريش تعطي من لم يُسلم مال من أسلم، فباع دور قومه حتى دار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكّة يوم الفتح قيل:

ألا تنزل دارك يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار؟». «3»

أمّا الشيخ الطوسي فيعلّل هذه المصادرة بسبب الهجرة لا بسبب الإسلام فقط حيث يقول: «.. قول النبي صلى الله عليه و آله يوم فتح مكّة وقد قيل له: ألا تنزل دارك؟ فقال:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 27

وهل ترك لنا عقيل من ربع؟ لأنه كان قد باع دور بني هاشم لمّا خرجوا الى المدينة ..». «1»

وفي الإجابة عن السؤال المثار حول سبب اختيار الإمام عليه السلام دار العبّاس بن عبدالمطّلب نقول: مما لاشك فيه أنّ سبب هذا الإختيار لاينحصر في كون دار العبّاس هي الدار السانحة آنذاك، وذلك لأنّ الإمام عليه السلام كان مقتدراً ذا سعة، وكان بإمكانه بل من اليسير عليه أن يهيأ داراً أو أكثر من دار في مكة له ولغيره من أفراد الركب

الحسينيّ، ونرى ألا منافاة بين جميع الدواعي المعقولة لهذا الإختيار، سواء التي ذكرناها في معرض التساؤل أو التي لم نذكرها، فمن الممكن أن يجتمع السبب السياسي مع السبب الاجتماعي مع السبب التبليغي مع الأسباب الأخرى وتتعاضد جميعها في متّجه واحد لتشكّل العلّة التامّة لهذا الإختيار.

رسائل الإمام عليه السلام إلى الولايات الأخرى ..... ص : 27
رسالته عليه السلام إلى البصرة ..... ص : 27

كانت الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام على صلة بالإمام أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام رغم الإضطهاد والإرهاب والمراقبة الشديدة من قبل الحكم الأمويّ على محبّي أهل البيت عليهم السلام، فكانت الشيعة في أنحاء البلاد الإسلامية تبعث الى الإمام الحسين عليه السلام المكاتيب وتسأله عمّا يهمّها من أمور دينهم، وكان للبصرة نصيبها من الصلة بالإمام عليه السلام، وقد أثبت التأريخ بعض رسائل شيعتها إليه، كالرسالة التي بعثوا بها إلى الإمام عليه السلام يسألونه فيها عن معنى الصمد، وبعث إليهم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 28

بجوابها ... «1»

لكنّ الملفت للإنتباه في الرسالة التي بعث بها الإمام عليه السلام إلى اشراف البصرة ورؤساء الأخماس «2» فيها هو أنَّ الإمام عليه السلام كان البادي ء بالمكاتبة، وقد دعا فيها أولئك الأشراف والرؤساء ومن يتبعهم من أهل البصرة إلى نصرته، في وقت لم يكن أحدٌ من أولئك قد بعث من قبل إلى الإمام عليه السلام بكتاب يدعوه فيه إلى القيام والنهضة ضد الحكم الأموي، كما فعل أشراف الكوفة ووجهاؤها وكثير من أهلها الذين كانت رسائلهم تنهال على مكّة حتى بلغت في يوم واحدٍ ستمائة رسالة!

فما هي علّة مبادرة الإمام عليه السلام الى الكتابة إلى أشراف البصرة ورؤسائها؟

لايشك مطّلع على التأريخ الإسلامي بالأهمية الخاصة التي كانت تتمتع بها كلٌ من ولايتي الكوفة والبصرة وأثرهما البالغ على حركة أحداث العالم الإسلامي آنذاك، خصوصاً وأنّ هاتين الولايتين المهمتين

لم تنغلقا لصالح الحكم الأموي كما انغلق الشام تماماً لصالحه آنذاك، فمحبّو أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم في كلّ من هاتين الولايتين برغم الإرهاب والقمع الأمويّ كانت لهم اجتماعاتهم ومنتدياتهم السريّة، وتطلّعاتهم الى يوم الخلاص من كابوس الحكم الأمويّ.

نعم، هناك فارق واضح بين الكوفة والبصرة من حيث تأريخ كلّ منهما في نصرة أمير المؤمنين عليه السلام، ومن حيث عدد الشيعة في كلّ منهما، ومن حيث درجة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 29

تحفّزهم للتحرّك ضد الحكم الأمويّ.

ويُضافُ الى ذلك أنّ البصرة آنذاك كانت تحت سيطرة والٍ قويّ وإرهابي مستبدّ هو عبيداللَّه بن زياد الذي كان قد هيمن على إدارة أمورها، وأحكم الرقابة الشديدة على أهلها، في وقت كانت الكوفة قد تراخت أزمّة أمورها بيد والٍ ضعيف يميل الى العافية والسلامة هو النعمان بن بشير، فكان الشيعة في الكوفة أقدر على الحركة والفعل من الشيعة في البصرة عموماً، مما قد يفسّر سبب مبادرة أهل الكوفة وبهذا الكمّ الكثير إلى المبادرة في الكتابة إلى الإمام عليه السلام ودعوته إليهم، في وقت لم تصل إلى الإمام عليه السلام رسالة من أهل البصرة يدعونه فيها إليهم أو يظهرون فيها استعدادهم لنصرته. «1»

فبادر الإمام عليه السلام إلى الكتابة إلى أهل البصرة عن طريق أشرافها ورؤساء الأخماس فيها، لأنَّ أهلها- عدا خُلَّص الشيعة منهم- لايتجاوزون أشرافهم في اتخاذ موقف وقرار، فكان لابدَّ من مخاطبتهم عن طريق أشرافهم ورؤساء الأخماس، وإن كان بعض هؤلاء ممّن يميل إلى بني أميّة، وبعضهم ممن لا يؤتمن، وبعضهم ممن لا تتسق مواقفه باتجاه واحد ..

ولعلّ الإمام عليه السلام أراد إلقاء الحجّة على الجميع، «2» مع ما قد تثمره رسالته من صدّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 30

المتردّد من الأشراف ورؤساء الأخماس عن

الإنضمام إلى أيّ فعل مضاد لحركة الإمام عليه السلام، وما تثمره هذه الرسالة أيضاً من إعلام البصريين الراغبين في نصرته بأمر نهضته وتعبئتهم لذلك من خلال أشرافهم الموالين لأهل البيت عليهم السلام كمثل يزيد بن مسعود النهشلي وأمثاله.

نصّ رسالة الإمام عليه السلام إلى أهل البصرة ..... ص : 30

قال الطبري: «قال أبومخنف: حدّثني الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهدي، قال: كتب الحسين مع مولىً لهم يُقال له سليمان، وكتب بنسخة إلى رؤوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكري، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود، وإلى مسعود بن عمرو، وإلى قيس بن الهيثم، وإلى عمرو بن عبيداللَّه بن معمر.

فجاءت منه نسخة واحدة إلى جميع أشرافها:

أمّا بعد، فإنّ اللَّه اصطفى محمّداً على خلقه وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثم قبضه اللَّه إليه، وقد نصح لعباده وبلّغ ما أرسل به، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقَّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم اللَّه وغفر لنا ولهم. «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 31

وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب اللَّه وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة اللَّه». «1»

وقد نقل ابن نما الكتاب باختصار واختلاف قائلًا:

«كتب عليه السلام كتاباً إلى وجوه أهل البصرة، منهم الأحنف بن قيس، وقيس بن الهيثم، والمنذر بن الجارود، ويزيد بن مسعود النهشلي.

وبعث الكتاب مع زرّاع السدوسي، وقيل مع سليمان المكنّى بأبي رزين، فيه:

«أدعوكم إلى اللَّه وإلى نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتت، فإن تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد».

«2»

نماذج من أشراف البصرة الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام ..... ص : 31
اشارة

من هم أولئك البصريون الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام رسالته؟ هل كانوا جميعاً من محبّي أهل البيت عليهم السلام أو شيعة لهم؟ أم كانوا جميعاً على هوى واحد لبني أميّة؟ أم كانوا مختلفين في الميل والهوى؟

يحسن منا هنا أن نلقي ضوءً- وإن كان يسيراً- يكشف لنا عن هوية نماذج من هذه الشخصيات ومتجهات ميولها، لعلّنا بذلك نتعرّف على حقيقة الوضع النفسي والإجتماعي لولاية البصرة آنذاك، كما يساعدنا ذلك على معرفة سبب كون رسالة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 32

الإمام عليه السلام بذلك النصّ بالتحديد، لأنّ نوع المخاطَب مؤثّر في نوع الخطاب، فمن هذه الشخصيات المؤثرة في حياة المجتمع البصري آنذاك:

11- مالك بن مسمع: ..... ص : 31

كان رأيه مائلًا إلى بني أميّة، وكان مروان بن الحكم قد لجأ إليه يوم الجمل، وكان مالك بن مسمع يأمر الناس بعد واقعة الطف وقتل الإمام الحسين عليه السلام بتجديد البيعة ليزيد بن معاوية. «1»

2- الأحنف بن قيس: ..... ص : 31

قيل إنّه ولد في عهد النبيّ صلى الله عليه و آله ولم يدركه، ومات عام 67 ه، وقد روى فضائل عليّ عليه السلام عن أبي ذر، وعندما قرأ ابن عبّاس كتاب عليّ عليه السلام على أهل البصرة كان الأحنف أوّل رجل أجابه وقال: نعم، واللَّه لنجيبنّك ... وهو الذي اقترح على أميرالمؤمنين عليه السلام أن يجعله حكماً، وقد وجّهه عليّ عليه السلام إلى الخوارج.

وهو الذي بعث إلى عليّ قائلًا: إن شئتَ أتيتك في مائتي فارس فكنت معكَ، وإن شئتَ اعتزلت ببني سعد فكففت عنك ستّة آلاف سيف. فاختار عليّ عليه السلام اعتزاله. «2»

وعلى ضوء هذه المواقف يراه الرجالي المعروف المامقانيّ حسناً. «3»

ويقول رجاليّ آخر وهو النمازي: «يظهر منه كماله وحكمته ورضاية أميرالمؤمنين عليه السلام به، وأنه من السفراء الفصحاء». «4»

ولكن أليس الأحنف بن قيس هو القائل بعد أن دعاه الإمام أبوعبداللَّه الحسين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 33

إلى نصرته ولم يجبه: «قد جرّبنا آل أبي الحسن فلم نجد عندهم إيالة للملك ولا جمعاً للمال ولا مكيدة للحرب». «1»

أليس الأحنف بن قيس هو الذي ساعد مصعب بن الزبير على قتل المختار، «2» وكان على خمس تميم في قتل المختار. «3»

أليس هو القائل في صفين- وهو مع عليّ عليه السلام- «هلك العرب». «4»

وفي هذا مؤشّر على ضعف اعتقاد الأحنف بأميرالمؤمنين عليه السلام وبالحسنين عليهما السلام، إذ لو كان له اعتقاد راسخ بهم عليهم السلام لكان سلماً لمن سالمهم وحرباً لمن حاربهم، ولما همّه بعد ذلك،

هلكت العرب في حقّ أو بقيت.

ولذا لم يرتض رجاليّ آخر وهو التستري «5» تحسين المامقاني له، كما سكت الخوئي «6» في المعجم عن تأييده أو تضعيفه.

ومن المواقف الدالّة على عدم رسوخ اعتقاده بأمير المؤمنين عليه السلام بل الدالّة على تردده وضعف يقينه ووهن موقفه في وجوب نصرة أهل الحقّ وخذلان أهل الباطل أنه حينما قرأت رسالة معاوية على أهل البصرة لتحريضهم على أميرالمؤمنين عليه السلام تحت شعار الأخذ بثأر عثمان أنّ الأحنف قال: «أمّا أنا فلا ناقة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 34

لي في هذا ولا جمل، واعتزل أمرهم». «1»

3- مسعود بن عمرو بن عدي الأزدي: ..... ص : 34

وهو أحد قادة الأزد في معركة الجمل في جيش عائشة وطلحة والزبير، «2» وهو الذي أجار ابن مرجانة لمّا نابذه الناس ومنعه منهم، «3» ومكث ابن مرجانة تسعين يوماً بعد موت يزيد ثم خرج إلى الشام، وبعث معه مسعود بن عمرو مائة من الأزد عليهم قرّة بن قيس حتى قدموا به إلى الشام، وكان ابن زياد قد استخلف مسعود بن عمرو على البصرة حينما تركها متوجهاً إلى الشام. «4»

4- قيس بن الهيثم السلمي: ..... ص : 34

لمّا استنصر عثمان بأهل البصرة قام قيس فخطب وحرّض الناس على نصر عثمان، فسارع الناس إلى ذلك، وأتاهم قتل عثمان فرجعوا، «5» وكان قيس هذا والياً لعثمان على خراسان، «6» وقد ولي شرطة البصرة على عهد معاوية لعبد اللَّه بن عامر، ثم بعثه والياً على خراسان سنتين حيث عزله عنها بعد ذلك وعاقبه وسجنه، «7» وكان من أخواله فتشفّعت فيه أمّه فأخرجه «8» ... ثم عطف على قيس فاستخلفه على البصرة ... ثمّ ولىّ معاوية على البصرة زياد بن سميّة سنة 45 ه، فبعث قيس بن الهيثم على مرود الروذ والفارياب والطالقان، ثم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 35

انعزل قيس بعزل يزيد لعبد الرحمن بن زياد، فلمّا هلك يزيد كان قيس بالبصرة.

وكان قيس هذا على المقاتلة لابن الزبير في مقاتلة مثنّى بن مخربة الداعي إلى المختار سنة 66 ه، وكان على خمس أهل العالية مع مصعب بن الزبير لمقاتلة المختار سنة 67 ه، وكان قيس سنة 71 ه يستأجر الرجال ليقاتلوا معه خالد بن عبداللَّه داعية عبدالملك بن مروان معيناً وناصراً لابن الزبير، وكان يحذّر أهل العراق من الغدر بمصعب. «1»

5- المنذر بن الجارود العبدي: ..... ص : 35

ولّاه الإمام عليّ عليه السلام بعض أعماله فخان فيه، فكتب عليه السلام إليه:

«أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك غرَّني منك، وظننت أنّك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقي إليَّ عنك لا تدع لهواك انقياداً، ولا تبقي لآخرتك عتاداً، أتعمّر دنياك بخراب آخرتك!؟ وتصل عشيرتك بقطيعة دينك!؟ ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، من كان بصفتك فليس بأهل أن يُسدَّ به ثغر أو ينفذ به أمر أو يُعلى له قدر أو يُشرك في أمانة أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ

حين يصلُ إليك كتابي هذا إن شاء اللَّه».». «2»

وقال عليه السلام في المنذر بن الجارود هذا أيضاً:

«إنّه لنظّارٌ في عطفيه، مختالٌ في بُردَيْه، تفّال في شِراكَيْه». «3»

أي أنه ذو زهوٍ، معجب بنفسه ومظهره، متكبر، همّه في نظافة ظاهره لا في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 36

طهارة الباطن وتزكية النفس وتهذيب المحتوى والعروج إلى آفاق المعنويات السامية.

و «كان عليّ عليه السلام ولّاه فارساً فاحتاز مالًا من الخراج .. وكان المال أربعمائة ألف درهم، فحبسه عليّ عليه السلام، فشفع فيه صعصعة وقام بأمره وخلّصه». «1»

ولقد شفّع المنذر بن الجارود خيانته في الأموال بخيانته في النفوس حيث قدّم نسخة رسالة الإمام الحسين عليه السلام إليه مع رسول الإمام عليه السلام سليمان بن رزين إلى عبيداللَّه بن زياد تقرّباً إليه وطمعاً في الزلفة منه، وكانت نتيجة هذه الخيانة أن قُتل رسول الإمام عليه السلام صبراً.

ولقد كافأ ابن زياد ابن الجارود على خيانته فولاه السند حيث توفي فيها سنة 61 ه، «2» فلم يهنأ بجائزته إلا شهوراً قليلة.

هذه صورة موجزة لمجموعة من أشراف البصرة آنذاك، قد تمثّل جلّ أشراف البصرة المعروفين يومها، ورأيناها مؤلّفة من ذي هوىً أموي خالص كمالك بن مسمع، ومعادٍ لأهل البيت عليهم السلام كمسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم السلمي، أو ذي معرفة بحقّ أهل البيت عليهم السلام ضعيف اليقين مترددٍ واهن المواقف كالأحنف بن قيس، أو طالبٍ للدنيا متكبّر معجب بنفسه متملّق للأمراء غير مؤتمن كالمنذر بن الجارود العبدي.

وكما قلنا من قبل، فقد اضطرّ الإمام عليه السلام إلى الكتابة إلى هؤلاء لأنهم المنفذ الوحيد إلى جلّ أهل البصرة الذين كانوا تبعاً لأشرافهم في فهم الأحداث وتبنّي المواقف، وكان لابدّ من إلقاء الحجّة على الجميع من خلال هذا

الطريق، فلعلَّ ثمّة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 37

من يهتدي ويُسعد بإبلاغ الحجّة.

وهنا لابدّ من التنبيه أنّ من أشراف البصرة مجموعة تعرف حقّ أهل البيت عليهم السلام وتواليهم ولها مواقف كريمة ورائعة في المبادرة إلى نصرة الإمام الحسين عليه السلام كمثل يزيد بن مسعود النهشلي الذي دعا قومه إلى نصرة الإمام عليه السلام وعبّأهم روحياً بهذا الإتجاه، وهو من الأشراف الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام بتلك النسخة أيضاً، وسيأتي تفصيل موقفه في فصل حركة الأمّة فيما يأتي من البحث، وقد دعا له الإمام عليه السلام بهذا الدعاء المبارك:

«مالكَ، آمنك اللَّه يوم الخوف، وأعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر». «1»

وكيزيد بن ثبيط العبدي، وهو من أشراف البصرة أيضاً، ومن الشيعة، وقد بادر- بعدما علم بما عزم عليه الإمام الحسين عليه السلام- إلى الإلتحاق بركب الإمام عليه السلام في مكّة، مع ولديه عبداللَّه وعبيداللَّه وجماعة آخرين من الشيعة البصريين، ورزقوا الشهادة بين يدي الإمام أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام في كربلاء يوم العاشر من المحرم. «2»

الشهيد الأوّل في الثورة الحسينيّة: ..... ص : 37

يُطلق لقب (الشهيد الأوّل) في الثورة الحسينية عادةً على مولانا مسلم بن عقيل عليه السلام، وهو المشهور، وهذا صحيح إذا أردنا بذلك الشهيد الأوّل من شهداء بني هاشم في هذه الثورة المقدّسة، ولكننا إذا أردنا (الشهيد الأوّل) من شهداء هذه الثورة المقدّسة عموماً فإنّ رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى أشراف البصرة ورؤساء الأخماس فيها هو ذلك الشهيد الأوّل رضوان اللَّه تعالى عليه، الذي قتله عبيداللَّه بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 38

زياد قبل يوم من تركه البصرة متوجهاً إلى الكوفة، وذلك بسبب خيانة المنذر بن الجارود العبدي، الذي زعم «1» أنه خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيداللَّه بن زياد- وكانت بحرية بنت المنذر

زوجة لعبيداللَّه بن زياد- فأخذ عبيداللَّه بن زياد الرسول فصلبه، «2» أو قدّمه فضرب عنقه. «3»

وقد ذهب جلّ المؤرّخين إلى أنّ اسم هذا الرسول هو سليمان، إلا أنّ ابن نما ذكر- على قول- أن إسمه زراع السدوسي حيث قال: «وبعث الكتاب مع زراع السدوسي، وقيل مع سليمان المكنّى بأبي رزين ..»، «4» لكنّ السلام الوارد عليه في زيارة الناحية المقدّسة يؤكّد أنّ إسمه سليمان: «السلام على سليمان مولى الحسين ابن أميرالمؤمنين، ولعن اللَّه قاتله سليمان بن عوف الحضرمي» «5»

ويُكنى سليمان بأبي رزين، وقيل إنّ أبا رزين «هو إسم أبيه، وأمّه كبشة، جارية للحسين عليه السلام، فتزوجها أبورزين فولدها سليمان»، «6» لكنّ المحقّق السماوي ضبط اسم هذا الشهيد هكذا: سليمان بن رزين. «7»

وكان سليمان قد خرج مع الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة، ثم بعثه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 39

الإمام عليه السلام برسالته إلى البصرة، «1» وهذا كاشف عن ثقته به واعتماده عليه ومنزلته الخاصة عنده.

إجتماع الإمام عليه السلام برسل أهل الكوفة ومبعوثيهم ..... ص : 39

بعد أن علم أهل الكوفة بامتناع الإمام عليه السلام عن البيعة ليزيد، وأنه عليه السلام قد صار إلى مكّة، تقاطرت رسائلهم الكثيرة إليه بلا انقطاع، وقد أبدوا فيها استعدادهم لنصرته والقيام معه، ودعوه فيها إلى القدوم إليهم.

«وتلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن الناس ...»، «2» وكان هاني بن هاني وسعيد بن عبداللَّه الحنفي آخر الرسل القادمين عليه.

«فقال الحسين عليه السلام لهاني وسعيد بن عبداللَّه الحنفي:

خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب معكما إليّ؟

فقالا: يا أميرالمؤمنين، «3» اجتمع عليه شبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، ويزيد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 40

ابن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجّاج، ومحمد بن عمير بن عطارد. «1»

قال:

فعندها قام الحسين عليه السلام فتطهّر وصلّى ركعتين بين الركن والمقام، ثمّ انفتل من صلاته وسأل ربّه الخير فيما كتب إليه أهل الكوفة، ثمّ جمع الرسل فقال لهم: إني رأيتُ جدّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في منامي، وقد أمرني بأمر وأنا ماضٍ لأمره.

فعزم اللَّه لي بالخير، إنه وليّ ذلك والقادر عليه إن شاء اللَّه تعالى» «2».

رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة: ..... ص : 40

«... ثم كتب مع هاني بن هاني وسعيد بن عبداللَّه «3»، وكانا آخر الرسل:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 41

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين:

أمّا بعدُ: فإنّ هانياً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 42

فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم: إنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ اللَّه أن يجمعنا بك على الحق والهدى.

وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليَّ أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ماقدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللَّه، فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات اللَّه، والسلام» «1».

سفير الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة: ..... ص : 42
اشارة

«ودعا الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي «2»، وعمارة بن عبداللَّه السلولي «3»، وعبداللَّه وعبدالرحمن ابني شدّاد الأرحبي «4»، وأمره

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 44

بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك ..» «1».

ماذا يعني كتمان الأمر هنا؟ ..... ص : 44

هل يعني أن يكتم مسلم بن عقيل عليه السلام أمر سفارته مادام في الطريق حتى يصل الى الكوفة؟ أم يعني أن يتّبع مسلم بن عقيل عليه السلام الأسلوب السرّي في تعبئة أهل الكوفة للنهضة مع الإمام عليه السلام؟ أم يعني أن يكتم أمر مكانه وزمان تحركاته ومواقع مخازن أسلحته وأشخاص قياداته ومعتمديه من أهل الكوفة وكلمة السرّ في وثبته؟ أم غير ذلك؟

وماذا يعني اللطف هنا؟ هل هو اللطف مع الناس وهو من أخلاق الإسلام؟

أم اللطف هنا بمعنى عدم المواجهة المسلّحة مع السلطة المحلّية الأموية في الكوفة حتى يصل إليها الإمام عليه السلام أو يأذن بذلك؟

وهل كانت مهمة مسلم بن عقيل عليه السلام- على ضوء هذه الرواية- منحصرة في معرفة الرأي العام الكوفي، ومعرفة صدق أهل الكوفة فيما كتبوا به إلى الإمام عليه السلام؟

هناك رواية أخرى تقول إنّ رسالة الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة حوت أيضاً هذه العبارات:

«... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّى مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وأمرته

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 45

أن يكتب إليَّ بحالكم وخبركم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم، وهو متوجّه إليكم إن شاء اللَّه، ولا قوة إلّا باللَّه، فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولا تخذلوه، فلعمري ما الإمام العامل بالكتاب القائم بالقسط كالذي يحكم بغير الحقّ ولا يهتدي سبيلًا ...» «1».

ومن هذا النصّ يتجلّى لنا

أنّ مهمة مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة لم تنحصر في استطلاع الرأي العام الكوفي ومعرفة حقيقة ومصداقية التوجهات فيها، بل كانت مهمته الأساسية فيها هي الثورة بأهل الكوفة ضد السلطة المحلّية الأموية فيها والتمهيد للقضاء على الحكم الأموي كلّه، والدليل على هذا قوله عليه السلام:

«فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولا تخذلوه ..».

ويتابع ابن أعثم الكوفي روايته التأريخية قائلًا:

«ثم طوى الكتاب، وختمه، ودعا بمسلم بن عقيل فدفع إليه الكتاب، وقال:

إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي اللَّه من أمرك مايحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامضِ ببركة اللَّه وعونه حتى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق اهلها، وادع الناس الى طاعتي، فإن رأيتهم مجتمعين على بيعتي فعجّل عليّ بالخبر حتى أعمل على حساب ذلك إن شاء اللَّه تعالى. ثم عانقه الحسين عليه السلام وودّعه وبكيا جميعاً» «2».

ومن هذه الرواية نستفيد أنّ «كتمان الأمر» في الرواية الأولى لايعني اتّباع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 46

مسلم بن عقيل أسلوب العمل السرّي في الدعوة إلى طاعة الإمام عليه السلام ذلك لأن ظاهر قوله عليه السلام «وادع الناس إلى طاعتي» هو العلانية في العمل. نعم قد يلزم الأمر أن تكون البداية والمنطلق من أهل الثقة والولاء، وهذا ما يشعر به قوله عليه السلام: «فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها».

ويستفاد من هذه الرواية أيضاً أنّ الإمام عليه السلام قد أشعر مسلم بن عقيل عليه السلام أو أخبره بأنّ عاقبة أمره الفوز بالشهادة من خلال قوله عليه السلام: «وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء!» والعلم بأن المصير هو القتل لايمنع من المضيّ في أداء التكليف إذا كان الأمر متعلقاً بإحدى مصالح الإسلام العُليا. ومما

يدلّ على أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام قد علم من قول الإمام عليه السلام أنه متوجّه إلى الشهادة، وأنّ هذا آخر العهد بابن عمّه الإمام الحسين عليه السلام هو أنهما تعانقا وودّع أحدهما الآخر وبكيا جميعاً!

وتقول رواية تأريخية: «فخرج مسلم من مكّة في النصف من شهر رمضان، حتى قدم الكوفة لخمس خلون من شوّال ..» «1».

من هو مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 46

إنه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، من أصحاب عليّ والحسنين عليهما السلام، وقد تزوّج رقيّة «2» بنت الإمام عليّ عليه السلام، وكان على ميمنة جند أميرالمؤمنين عليه السلام يوم صفين مع الحسن والحسين عليهما السلام وعبداللَّه بن جعفر «3».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 47

قال الخوئي: «وكيف كان فجلالة مسلم بن عقيل وعظمته فوق ما تحويه عبارة، فقد كان بصفين في ميمنة أميرالمؤمنين عليه السلام ..» «1».

وعليه لا يعقل أن يكون عمره الشريف يوم بعثه الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة 28 سنة على ما قاله المامقاني «2»، لأنّ صفين كانت عام 37 للهجرة، ومعناه أن عمره يوم صفين كان أقل من عشر سنين!!.

هذا وقد أخبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله علياً عليه السلام بأنّ مسلماً عليه السلام سوف يقتل في محبّة الحسين عليه السلام، فقد روى الصدوق قدس سره في أماليه: «قال عليّ عليه السلام لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يارسول اللَّه، إنّك لتحبّ عقيلًا؟ قال: إي واللَّه، إني لأحبّه حبين: حباً له، وحبّاً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولده لمقتول في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون، ثمّ بكى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى جرت دموعه على صدره، ثمّ قال: إلى اللَّه أشكو ما تلقى عترتي من

بعدي». «3»

وكان مسلم عليه السلام مثالًا سامياً في الأخلاق الإسلامية عامة وفي الشجاعة والجرأة والبأس خاصة، وقد شهدت له ملحمته في الكوفة بتلك الأخلاقية السامية عامة وتلك الشجاعة خاصة، حتى قال عدوّه محمد بن الأشعث وهو يصفه لابن زياد: «.. أولم تعلم أيها الأمير أنّك بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام ..» «4».

«ونقل عن بعض كتب المناقب: أنّ مسلم بن عقيل كان مثل الأسد، وكان من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 48

قوّته أنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت» «1».

وفي بعض كتب المناقب: أرسل الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد «2».

ومن مواقفه الكاشفة عن شجاعته الهاشمية الفذّة موقفه أمام معاوية أيّام حكمه وقد طلب منه ردّ المال وأخذ الأرض، حيث قال له مسلم: مه، دون أن أضرب رأسك بالسيف! «3».

هل طلب مسلم الإستعفاء من السفارة؟!: ..... ص : 48
اشارة

روى الطبري في تأريخه، والشيخ المفيد قدس سره في إرشاده أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام بعث إلى الإمام الحسين عليه السلام أثناء طريقه إلى الكوفة يطلب منه أن يعفيه من مهمة السفارة إلى أهل الكوفة، في قصة هي على رواية الطبري كمايلي:

«فأقبل مسلم حتى أتى المدينة، فصّلى في مسجد رسول اللَّه، وودّع من أحبّ من أهله، ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به، فضلّا الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وقال الدليلان: هذا الطريق حتى تنتهي الى الماء، وقد كادوا أن يموتوا عطشاً (وفي رواية الإرشاد: ومات الدليلان عطشاً)، فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي الى الحسين وذلك بالمضيق من بطن الخُبيت (وفي رواية الإرشاد: بطن الخبت): أمّا بعدُ، فإنّي أقبلت من المدينة معي دليلان لي فجارا عن الطريق وضلّا،

واشتدّ علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 49

إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يُدعى المضيق من بطن الخبيت، وقد تطيّرتُ من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري، والسلام.

فكتب إليه الحسين:

أمّا بعدُ، فقد خشيت ألّا يكون حملك على الكتاب إليَّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجّهتك له إلا الجبن، فامضِ لوجهك الذي وجهتك له، والسلام عليك.

فقال مسلم لمن قرأ الكتاب (وفي رواية الإرشاد: فلما قرأ مسلم الكتاب قال:) هذا مالستُ أتخوّفه على نفسي ..» «1».

إنّ من يراجع ترجمة حياة مسلم بن عقيل- على اختصارها في الكتب- وله معرفة بالعرف العربي آنذاك عامة وبالشمائل الهاشمية خاصة لايتردد في أنّ هذه القصة مختلقة وأنها من وضع أعداء أهل البيت عليهم السلام لتشويه صورة وسمعة هذا السفير العظيم.

فإنّ مسلماً عليه السلام كان أحد قيادات ميمنة جيش أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وهو الذي خاطب معاوية وكان آنذاك الطاغية ذا اليد المطلقة في العالم الإسلامي: مه، دون أن أضرب رأسك بالسيف!، وهو الذي ودّع الإمام الحسين عليه السلام وداع فراق لا لقاء بعده إلّا في الجنّة بعد أن عرف أنّه متوجّه إلى الشهادة لا محالة من قول الإمام عليه السلام له: وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 50

تُرى هل تخشى الموت نفس مطمئنّة بالسعادة بعده!؟ وهل تتطيّر من لقاء الموت نفس مشتاقة الى لقاء اللَّه ولقاء رسوله صلى الله عليه و آله والأحبّة الماضين من أهل البيت عليهم السلام!؟ وهل فارقت الطمأنينة نفس مسلم عليه السلام لحظة ما!؟ وهذه سيرته في الكوفة تشهد له بثبات وطمأنينة مستيقن من أمره، لايفوقه في مستوى

ثباته إلّا الإمام المعصوم عليه السلام. وهل يعقل العارف المتأمّل أو يقبل أنّ الإمام الحسين عليه السلام يُرسل في هذه السفارة الخطيرة من يعتوره جبن أو يتطيّر من وجهته لعارضٍ من المألوف أن يصيب كثيراً من المسافرين في تلك الأيام!؟ ثمّ هل من الأدب الحسيني أنّ يخاطب الإمام عليه السلام ابن عمّه مسلماً عليه السلام بهذا النوع من الخطاب ويتهمه بالجبن!؟

يقول السيّد المقرّم قدس سره: ..... ص : 50

«فإنّ المتامّل في صك الولاية الذي كتبه سيد الشهداء لمسلم بن عقيل لايفوته الإذعان بما يحمله من الثبات والطمأنينية ورباطة الجأش، وأنه لايهاب الموت، وهل يعدو بآل أبي طالب إلّا القتل الذي لهم عادة وكرامتهم من اللَّه الشهادة؟ ولو كان مسلم هيّاباً في الحروب لما أقدم سيد الشهداء على تشريفه بالنيابة الخاصة عن التي يلزمها كلّ ذلك.

فتلك الجملة التي جاء بها الرواة، وسجلها ابن جرير للحطّ من مقام ابن عقيل الرفيع متفككة الأطراف واضحة الخلل، كيف وأهل البيت ومن استضاء بأنوار تعاليمهم لايعبأون بالطيرة ولا يقيمون لها وزناً.

وليس العجب من ابن جرير إذا سجّلها ليشوّه بها مقام شهيد الكوفة كما هي عادته في رجالات هذا البيت، ولكنّ العجب كيف خفيت على بعض أهل النظر والتدقيق حتى سجّلها في كتابه، مع أنه لم يزل يلهج بالطعن في أمثالها ويحكم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 51

بأنها من وضع آل الزبير ومن حذا حذوهم» «1».

ويظهر أنّ السيّد المقرّم يرى صحة أصل الحادثة وموت الدليلين وأنّ مسلم ابن عقيل عليه السلام بعث برسالة الى الإمام عليه السلام وأنّ الإمام عليه السلام قد بعث إليه بجواب، ولكن المضمون الذي ينسب فيه التطيّر والجبن الى مسلم بن عقيل عليه السلام هو من الموضوعات المختلقة التي لا صحة لها «2».

غير أنّ الشيخ باقر

شريف القرشي ينكر أصل الرسالة والجواب ويراهما من الموضوعات حيث يقول:

1- «إنّ مضيق الخبت الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام يقع مابين مكّة والمدينة حسب مانصّ عليه الحموي (معجم البلدان 2: 343) في حين أنّ الرواية تنصّ على أنّه استأجر الدليلين من يثرب، وخرجوا إلى العراق فضلّوا عن الطريق وماتا الدليلان، ومن الطبيعي أنّ هذه الحادثة وقعت مابين المدينة والعراق، ولم تقع مابين مكّة والمدينة.

2- إنّه لو كان هناك مكان يُدعى بهذا الإسم يقع مابين يثرب والعراق لم يذكره الحموي فإنّ السفر منه الى مكّة ذهاباً وإياباً يستوعب زماناً يزيد على عشرة أيّام، في حين أنّ سفر مسلم من مكّة الى العراق قد حدّده المؤرّخون فقالوا: إنّه سافر من مكّة في اليوم الخامس عشر من رمضان، وقدم إلى الكوفة في اليوم الخامس من شوّال، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً، وهي أسرع مدّة يقطعها المسافر

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 52

من مكّة الى المدينة (ثم الى الكوفة) «1» ... وإذا استثنينا من هذه المدّة سفر رسول مسلم من ذلك المكان ورجوعه إليه، فإنّ مدّة سفره من مكّة إلى الكوفة تكون أقلّ من عشرة أيّام، ويستحيل عادة قطع تلك المسافة بهذه الفترة من الزمن.

3- إنّ الإمام اتهم مسلماً- في رسالته- بالجبن، وهو يناقض توثيقه له من أنه ثقته وكبير أهل بيته، والمبرّز بالفضل عليهم، ومع اتصافه بهذه الصفات كيف يتّهمه بالجبن!؟

4- إنّ اتهام مسلم بالجبن يتناقض مع سيرته، فقد أبدى هذا البطل العظيم من البسالة والشجاعة النادرة ما يبهر العقول، فإنّه حينما انقلبت عليه جموع أهل الكوفة قابلها وحده من دون أن يعينه أو يقف إلى جنبه أيّ أحد، وقد أشاع في تلك الجيوش المكثفة القتل مما ملأ

قلوبهم ذعراً وخوفاً، ولمّا جي ء به أسيراً الى ابن زياد لم يظهر عليه أيّ ذلٍ أو انكسار، ويقول فيه البلاذري: إنه أشجع بني عقيل وأرجلهم (أنساب الأشراف 2: 836)، بل هو أشجع هاشمي عرفه التأريخ بعد أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

إنّ هذا الحديث من المفتريات الذي وضع للحطّ من قيمة هذا القائد العظيم الذي هو من مفاخر الأمّة العربية والإسلامية»»

.ولذا فنحن نرجّح رأي القرشي على رأي المقرّم في هذه المسألة، ونذهب للذي ذهب إليه في أنّ أصل الرسالة والجواب لا صحة لهما، والشك قويّ في أنّ الحادثة أيضاً لا صحة لها.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 53

مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة ..... ص : 53
اشارة

كان الإمام الحسين عليه السلام قد أوصى مسلم بن عقيل عليه السلام- كما مرَّ بنا- أن يكون نزوله في الكوفة عند أوثق أهلها «فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها» «1»

، ذلك لأن من الطبيعي أن تكون انطلاقة عمله السياسي الثوري في دعوة الناس الى طاعة الإمام عليه السلام وتعبئتهم للقيام معه، وتخذيلهم عن آل أبي سفيان، من منزل يكون صاحبه من أوثق أهل الكوفة في الولاء لأهل البيت عليهم السلام.

قال ابن كثير في تأريخه: «فلمّا دخل الكوفة نزل على رجل يُقال له مسلم بن عوسجة الأسدي «2».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 54

وقيل نزل فى دار المختار بن أبي عبيدالثقفي «1» ..» «2».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 56

وقال الشيخ المفيد قدس سره: ..... ص : 56

«... ثمّ أقبل مسلم حتى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة، وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيّب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام وهم يبكون، وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً. فكتب مسلم الى الحسين عليه السلام يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً، ويأمره بالقدوم ..» «1».

لكنّ مسلم بن عقيل عليه السلام بعد قدوم عبيداللَّه بن زياد الى الكوفة والياً عليها من قبل يزيد، وحصول التطورات السريعة المتلاحقة التي أدّت إلى ضرورة تحوّل عمل مسلم بن عقيل من حالة العلانية إلى السرّ، اضطرّ الى تغيير مقرّه فتحوّلَ الى دار هاني بن عروة «2» زعيم مراد وشيخها وهو شريف من أشراف الكوفة ومن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 60

وجوه الشيعة فيها.

رسالة الإمام عليه السلام الى محمد بن الحنفية ومن قِبله من بني هاشم ..... ص : 60
اشارة

روى ابن عساكر وابن كثير أنّ الإمام عليه السلام بعث الى المدينة (وهو في مكّة) يستقدم إليه من خفّ من بني هاشم، فخفَّ إليه جماعة منهم، وتبعهم إليه محمد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 61

ابن الحنفية، ولكنّ الرواية لم تحدّد من هم أفراد هذه الجماعة الهاشمية «1».

وقال الذهبي: «بعث الحسين عليه السلام الى المدينة، فقدم عليه من خفَّ معه من بني عبدالمطلب، وهم تسعة عشر رجلًا، ونساء ...» «2».

ومفاد ذلك أنّ هؤلاء لم يرافقوا الحسين عليه السلام حين خروجه من المدينة بل التحقوا به بعد الدعوة التي حملتها تلك الرسالة إلى المدينة.

لكنّ المصادر التأريخية الشيعية روت أنّ الإمام الحسين عليه السلام بعث من مكّة إلى أخيه محمد بن الحنفية ومن قبله من بني هاشم في المدينة رسالة موجزة العبارة عظيمة الدلالة هي من روائع رسائله عليه السلام.

ففي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ

الإمام الحسين عليه السلام كتب هذه الرسالة من مكّة ونصّها:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم.

أمّا بعدُ: فإنّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح والسلام.» «3»

كما رويت رواية هذه الرسالة بتفاوت يسير عن الإمام الصادق عليه السلام، وظاهرها

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 62

أنّ الإمام الحسين عليه السلام كتبها بعد خروجه من مكّة «1».

معنى محتوى الرسالة: ..... ص : 62

قال المجلسي قدس سره في تعليقة له على هذه الرسالة: «لم يبلغ الفتح أي لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدنيا والتمتّع بها، وظاهر هذا الجواب ذمّه، ويحتمل أن يكون المعنى أنه عليه السلام خيّرهم في ذلك فلا إثمَ على من تخلّف». «2»

فالمجلسي قدس سره فسّر الفتح بالمكاسب والفتوح الدنيوية والتمتّع بها، كما احتمل أن يكون المعنى أنّ الإمام عليه السلام خيّر بني هاشم في مسألة الإلتحاق به فلا إثم على من تخلّف عنه ولم يلتحق به!!

لكنّ القرشيّ فسّره بفتح من نوع آخر لم يكن ولا يكون لغير الإمام أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام مدى العصور وإلى قيام الساعة، فقال: «لقد أخبر الأسرة النبوية بأنّ من لحقه منهم سوف يظفر بالشهادة، ومن لم يلحق به فإنه لاينال الفتح، فأي فتح هذا الذي عناه الإمام؟

إنّه الفتح الذي لم يحرزه غيره من قادة العالم وأبطال التأريخ، فقد انتصرت مبادئه وانتصرت قيمه، وتألّقت الدنيا بتضحيته، وأصبح إسمه رمزاً للحق والعدل، وأصبحت شخصيته العظيمة ليست ملكاً لأمّة دون أمّة ولا لطائفة دون أخرى، وإنّما هي ملك للإنسانية الفذّة في كلّ زمان ومكان، فأي فتح أعظم من هذا الفتح، وأي نصرٍ أسمى من هذا النصر؟» «3».

وقد يفسّر هذا الفتح بتفسير آخر، وهو أنّ المراد

بهذا الفتح هو التحولات

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 63

والتغيرات الحاسمة لصالح الإسلام الناشئة عن شهادته عليه السلام في عصره وفي العصور المتعاقبة إلى قيام الطالب بدمه الإمام المهدي عليه السلام الذي يمثل قيامه الفصل الأخير من نهضة جدّه الحسين عليه السلام، والذي يمثّل ظهوره على كلّ الأرض ظهور الدين المحمديّ على الدين كلّه وذلك هو الثمرة الأخيرة لنهضة عاشوراء «1».

ولعلّ المرحوم السيّد المقرّم ذهب إلى بعض أبعاد هذا المعنى بقوله: «كان الحسين عليه السلام يعتقد في نهضته أنه فاتح منصور لما في شهادته من إحياء دين رسول اللَّه، وإماتة البدعة، وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الأمّة أنهم أحقّ بالخلافة من غيرهم، وإليه يشير في كتابه الى بني هاشم: من لحق بنا منكم استشهد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح.

فإنه لم يرد بالفتح إلّا ما يترتّب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإقامة أركان العدل والتوحيد، وأنّ الواجب على الأمّة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدين عليه السلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيداللَّه لمّا قال له حين رجوعه إلى المدينة: من الغالب!؟ فقال السجّاد عليه السلام:

إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب! «2»

فإنه يشير إلى تحقق الغاية التي ضحّى سيد الشهداء نفسه القدسية لأجلها، وفشل يزيد بما سعى له من إطفاء نور اللَّه، وما أراده أبوه من نقض مساعي الرسول صلى الله عليه و آله، وإماتة الشهادة له بالرسالة بعد أن كان الواجب على الأمّة في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 64

الأوقات الخمس الإعلان بالشهادة لنبيّ الإسلام ...» «1».

وقد راجعنا موارد كلمة الفتح في القرآن الكريم فوجدناها إثني عشر هي:

1- «فإن كان لكم فتح من اللَّه قالوا ألم نكن

معكم ...». «2»

2- «فعسى اللَّه أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده ...». «3»

3- «إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح). «4»

4- «ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين». «5»

5- «قل يوم الفتح لاينفع الذين كفروا إيمانهم». «6»

6- «إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً». «7»

7- «فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً».»

8- «فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً». «9»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 65

9- «فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين». «1»

10- «لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ...». «2»

11- «وأخرى تحبّونها نصر من اللَّه وفتح قريب». «3»

12- «إذا جاء نصر اللَّه والفتح». «4»

ومعنى الفتح في هذه الموارد: إمّا فتح مكّة، أو فتح بلاد المشركين، أو فتح اللَّه لمحمّد صلى الله عليه و آله على جميع خلقه، أو بمعنى نصر محمّد صلى الله عليه و آله، أو النصر بمحمد صلى الله عليه و آله، أو بمعنى القضاء والحكم، أو القضاء بعذاب المشركين في الدنيا، أو الحكم بالثواب والعقاب يوم القيامة «5».

وورد في تفسير القمي في (وأخرى تحبّونها نصر من اللَّه وفتح قريب): يعني في الدنيا بفتح القائم، وأيضاً قال: فتح مكّة «6».

وورد في كتاب تأويل الآيات عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: «قل يوم الفتح لاينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم يُنظرون» «7» أنه قال:

«يوم الفتح يوم تفتح الدنيا على القائم، لا ينفع أحداً تقرّب بالإيمان مالم يكن قبل ذلك مؤمناً وبهذا الفتح موقناً، فذلك الذي ينفعه إيمانه، ويعظم عند اللَّه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 66

قدره وشأنه، وتزخرف له يوم البعث جنانه، وتحجب عنه نيرانه، وهذا أجر الموالين لأمير المؤمنين وذرّيته الطيبين صلوات اللَّه عليهم أجمعين» «1».

والمتأمل يجد أنّ الفتح في رسالة

الإمام الحسين عليه السلام بأيّ معنىً كان من معانيه القرآنية لاينسجم مع ماذهب إليه العلامة المجلسي قدس سره في أنّ المراد به في هذه الرسالة هو ما يُتمنّى من فتوح الدنيا والتمتّع بها!.

رسالة أخرى من الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 66

روى صاحب الفتوح أنّ يزيد بن معاوية كتب من الشام كتاباً إلى أهل المدينة من قريش وبني هاشم، وأرفق مع كتابه أبياتاً من الشعر يخاطب فيها الإمام الحسين عليه السلام أساساً، ويفهم من سياق رواية ابن أعثم الكوفي أنّ الرسالة وصلت إلى المدينة والإمام عليه السلام في مكّة، كما يقوّي هذا الظن قول ابن أعثم بعد ذكره الأبيات الشعرية: «فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات ثم وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين ابن عليّ عليهما السلام».

والأبيات هي:

«ياأيها الراكب الغادي لطيّته على عذافرة في سيره «2»

قحمُ

أبلغ قريشاً على نأي المزار بها بيني وبين الحسين اللَّهُ والرحمُ

وموقف بفناء البيت ينشده عهد الإله وما توفي به الذممُ

غنيتم قومكم فخراً بأمِّكمُ أمٌّ لعمري حصان برّة كرمُ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 67

هي التي لايُداني فضلها أحدٌ بنت الرسول وخير الناس قد علموا

وفضلها لكم فضلٌ وغيركم من يومكم لهم في فضلها قسمُ

إني لأعلم حقاً غير ما كذبٍ والطرف يصدقُ أحياناً ويقتصمُ

أن سوف يُدرككم ما تدّعون بها قتلى تهاداكم العُقبان والرخمُ

ياقومنا لاتشبّوا الحرب إذ سكنتْ تمسّكوا بحبال الخير واعتصموا

قد غرّت الحرب من قد كان قبلكم من القرون وقد بادت بها الأممُ

فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً فرُبّ ذي بذخ زلّت به قدم» «1»

وتقول الرواية أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا نظر في الكتاب علم أنه كتاب يزيد ابن معاوية، فكتب عليه السلام الجواب:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم «وإنْ كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بري ء مما تعملون» «2».

والسّلام» «3».

ومن ظاهر هذه الرواية لايمكن القطع بأنّ الإمام كتب الجواب ليزيد أو أرسله إليه وإن كان المخاطَب فيها هو يزيد، إذ قد يكون الإمام عليه السلام بعث بالجواب إلى أهل المدينة الذين وجّهوا بالكتاب وبالأبيات إليه، ثم هم بعد ذلك يوصلونه أو ينقلون محتوى الجواب إلى يزيد.

ولم تذكر هذه الرواية من هم أهل المدينة من قريش وبني هاشم الذين أرسل إليهم يزيد الكتاب، لكن ابن عساكر قال: كتبه يزيد إلى عبداللَّه بن العباس، وذكر

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 68

الأبيات الشعرية بتفاوت «1».

والمتأمّل في أبيات يزيد وفي جواب الإمام عليه السلام يرى سنن اللَّه تكرر نفسها في المواجهات بين الربانيين والطواغيت، فهذا يزيد بمنطق الطاغوت في أبياته يهدّد الإمام عليه السلام بالإضطهاد والقتل في الدنيا! وذلك قصارى ما يستطيعه الطغاة.

أمّا الإمام عليه السلام فبمنطق الرَّبانيّين فيصرّح بانفصام الآصرة بين عمل المهتدين وعمل الضالين وبالبراءة بينهم، تصريحاً يستبطن التهديد بالجزاء الأخروي وبعذاب اللَّه الذي لافتور فيه ولا انقطاع.

وفي متن الجواب ازدراء كامل بيزيد إذ لم يذكر الإمام عليه السلام اسمه ولم يلقّبه بلقب، ولم يسلّم عليه، مما يُفهم منه أنّ يزيد لعنه اللَّه مصداق تام للمكذّب بالدين وبالرسل والأوصياء عليهم السلام.

إرساله عليه السلام قيس بن مسهّر إلى الكوفة مرّة ثانية ..... ص : 68
اشارة

يظهر من النصوص التأريخية أنّ الإمام الحسين عليه السلام بعث قيس بن مسهّر الصيداوي إلى الكوفة مرّتين، إذ كان قد بعثه في المرّة الأولى مع مسلم بن عقيل عليه السلام فدخل الكوفة «2»، ثم بعثه مسلم عليه السلام سفيراً عنه إلى الإمام الحسين عليه السلام، ثم بعثه الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة مرّة ثانية ليستعلم خبر مسلم بن عقيل عليه السلام، فاعتقل في الطريق وجرى عليه ماجرى.

ففي التذكرة: «ثم دعا مسلم بن عقيل فبعثه مع

قيس بن مسهّر الصيداوي ...» «3».

وفيها أيضاً: «كان الحسين عليه السلام قد بعث قيس بن مسهّر إلى مسلم بن عقيل ليستعلم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 69

خبره قبل أن يصل إليه، فأخذه ابن زياد وقال له: قم في الناس واشتم الكذّاب ابن الكذّاب، يعني الحسين عليه السلام!

فقام على المنبر وقال: أيّها الناس، إنّي تركت الحسين بالحاجز، وأنا رسوله إليكم لتنصروه، فلعن اللَّه الكذّاب بن الكذّاب ابن زياد.

فطرح من القصر فمات» «1».

من هو قيس بن مسهّر الصيداوي؟ ..... ص : 69

لم نعثر على ترجمة وافية لهذا البطل الفذّ رغم التتبع والإستقصاء! فجميع من ترجموا له اكتفوا بأنه حمل كتاباً من أهل الكوفة إلى الإمام الحسين عليه السلام، وأنه رجع مع مسلم إلى الكوفة، ثمّ إنّه حمل كتاباً من مسلم إلى الإمام عليهما السلام في الطريق إلى الكوفة، ثم إنه حمل كتاباً من الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة، وتعرّض أثناء الطريق إليها إلى الإعتقال في القادسية، ثمّ كان منه ذلك الموقف الصلب الذي عبّر عن شجاعته وولائه وعظمته.

إنّه: «قيس بن مُسَهَّر بن خالد بن جندب ... الأسديّ الصيداوي، وصيدا بطن من أسد. كان قيس رجلًا شريفاً في بني الصيدا شجاعاً مخلصاً في محبّة أهل البيت عليهم السلام.

قال أبو مخنف: اجتمعت الشيعة بعد موت معاوية في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فكتبوا للحسين بن على عليهما السلام كتباً يدعونه فيها للبيعة، وسرّحوها إليه مع عبداللَّه بن سبع وعبداللَّه بن وال، ثم لبثوا يومين فكتبوا إليه مع قيس بن مسهّر الصيداوي وعبدالرحمن بن عبداللَّه الأرحبي، ثم لبثوا يومين فكتبوا إليه مع سعيد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 70

بن عبداللَّه وهاني بن هاني ...

فدعا الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل وأرسله إلى الكوفة، وأرسل معه قيس بن مسهّر وعبدالرحمن الأرحبي، فلما

وصلوا إلى المضيق من بطن خبت كما قدّمنا جار دليلاهم فضلّوا وعطشوا، ثم سقطوا على الأرض، فبعث مسلم قيساً بكتاب إلى الحسين عليه السلام يخبره بما كان، فلمّا وصل قيس إلى الحسين بالكتاب أعاد الجواب لمسلم مع قيس وسار معه إلى الكوفة «1». قال: ولمّا رأى مسلم اجتماع الناس على البيعة في الكوفة للحسين كتب إلى الحسين عليه السلام بذلك، وسرّح الكتاب مع قيس وأصحبه عابس الشاكري وشوذباً مولاهم، فأتوه إلى مكّة ولازموه، ثمّ جاءوا معه.

قال أبو مخنف: ثمّ إنّ الحسين لما وصل إلى الحاجر من بطن الرمّة كتب كتاباً إلى مسلم وإلى الشيعة بالكوفة وبعثه مع قيس، فقبض عليه الحصين بن تميم، وكان ذلك بعد قتل مسلم، وكان عبيداللَّه نظّم الخيل ما بين خفّان إلى القادسيّة وإلى القطقطانة «2» والى لعلع «3» وجعل عليها الحصين، وكانت صورة الكتاب:

«من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم. فإني أحمد إليكم اللَّه الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعدُ: فإنّ كتاب مسلم جاءني يخبرني

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 71

فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت اللَّه أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أحسن الأجر، وقد شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم رسولي عليكم فانكمشوا في أمركم وجدّوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء اللَّه، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته».

قال: فلمّا قبض الحصين على قيس بعث به إلى عبيداللَّه، فسأله عبيداللَّه عن الكتاب، فقال: خرقته.

قال: ولمَ!؟

قال: لئلا تعلم مافيه.

قال: إلى من؟

قال: إلى قوم لا أعرف أسماءهم.

قال: إنْ لم تخبرني فاصعد المنبر وسبّ الكذّاب بن الكذّاب يعني به الحسين عليه السلام.

فصعد

المنبر فقال:

أيّها الناس، إنّ الحسين بن عليّ خير خلق اللَّه، وابن فاطمة بنت رسول اللَّه، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر، فأجيبوه.

ثمّ لعن عبيداللَّه بن زياد وأباه، وصلّى على أميرالمؤمنين، فأمر به ابن زياد، فأُصعد القصر، ورمي به من أعلاه، فتقطّع ومات.

وقال الطبري: لمّا بلغ الحسين عليه السلام إلى عذيب الهجانات في ممانعة الحرّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 72

جاءه أربعة نفر ومعهم دليلهم الطرمّاح «1» بن عديّ الطّائي، وهم يجنبون فرس نافع المرادي، فسألهم الحسين عليه السلام عن الناس وعن رسوله، فأجابوه عن الناس، وقالوا له: رسولك من هو؟

قال: قيس!

فقال مجمع العائذي:

أخذه الحصين فبعث به إلى ابن زياد، فأمره أن يلعنك وأباك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعانا إلى نصرتك، وأخبرنا بقدومك، فأمر به ابن زياد فأُلقي من طمار القصر، فمات رضي اللَّه عنه.

فترقرقت عينا الحسين عليه السلام وقال:

فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، اللّهمَّ اجعل لنا ولهم الجنّة منزلًا، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك ورغائب مذخور ثوابك» «2».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 73

فهو رضوان اللَّه تعالى عليه من شهداء الثورة الحسينيّة في الكوفة وليس من شهداء الطف، لكنّه شريكهم في الأجر والشرف، ولذا خُصَّ بالسلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة والرجبية «1».

وليس صحيحاً ما ورد في المناقب أنّه كان حاملًا رسالة الإمام الحسين عليه السلام من كربلاء إلى سليمان بن صرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وعبداللَّه بن وال وآخرين، وذلك لأنّ قيساً قتل قبل ورود الإمام عليه السلام كربلاء «2».

نعم، لقد كان قيس بن مسهّر رضوان اللَّه تعالى عليه رسولًا أساسياً بين مكّة والكوفة أو على وجه الدقّة بين الإمام الحسين ومسلم عليهما السلام، فقد بعثه الإمام عليه السلام

مع مسلم في النصف من شهر رمضان، وعلى فرض صحة أصل وقوع حادثة المضيق من بطن الخبت فقد أرسله مسلم إلى الإمام عليه السلام، ثم حمل جواب الإمام عليه السلام إلى مسلم. ثم «لمّا رأى مسلم اجتماع الناس على البيعة في الكوفة للحسين كتب إلى الحسين عليه السلام بذلك، وسرّح الكتاب مع قيس وأصحبه عابساً الشاكري وشوذباً مولاهم، فأتوه إلى مكّة ولازموه، ثمّ جاؤوا معه» «3»، ثم بعثه الإمام عليه السلام من بطن الرمّة في الثامن من ذي الحجّة أو بعده.

رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام عليه السلام ..... ص : 73

روى الطبري أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام كان قد كتب إلى الإمام عليه السلام من الكوفة قبل أن يُقتَل لسبع وعشرين ليلة:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 74

«أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله، إنّ جمعَ أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام عليك» «1».

وفي رواية ابن نما:

«أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وإنّ جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي، والسلام عليك ورحمة اللَّه وبركاتُه» «2».

وفي رواية الدينوري:

«... فأقدم، فإنّ جميع الناس معك، ولا رأي لهم في آل أبي سفيان» «3».

وتقول الرواية التأريخية أنّ قيس بن مسهّر الصيداوي حمل هذه الرسالة الى الإمام عليه السلام في مكّة، وأصحبه مسلم عابسَ الشاكري وشوذباً مولاه «4».

وقد كان الإمام الحسين عليه السلام قد علّق عزمه في التوجّه الى الكوفة على تقرير مسلم عن حال أهل الكوفة، وقد صرّح عليه السلام لأهل الكوفة في رسالته الأولى إليهم بذلك حيث قال:

«... فإن كتب إليَّ أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكاً إن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 75

شاء

اللَّه ...». «1»

وعلى ضوء رسالة مسلم عليه السلام عقد الإمام الحسين عليه السلام عزمه على التوجّه إلى الكوفة، وكتب رسالته الثانية إلى أهلها «2» في الحاجر من بطن الرمّة «3»، وحملها قيس ابن مسهّر إلى الكوفة، لكنه قبض عليه أثناء هذه السفارة في الطريق، فمزّق الرسالة كي لا تقع في أيدي الأعداء.

خُطَبُ الإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة ..... ص : 75
اشارة

من المؤسف أنّ التأريخ لم يسجّل لنا طيلة مكث الإمام عليه السلام في مكّة المكرمة إلا خطبته المشهورة التي ورد فيها قوله عليه السلام خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وهي الخطبة التي خطبها قبل خروجه من مكّة، وخطبة أخرى قصيرة تضمّنت باقة من قصار الحكم!!

ويصعب على المتأمل أن يقتنع بأنّ الإمام عليه السلام طيلة ما يقارب مائة وخمسة وعشرين يوماً في مكّة وفي أيّام موسم الحجّ آنذاك لم يخطب في محافل مكّة إلّا هاتين الخطبتين، مع ما حدّثنا به التأريخ أنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويلتفون حوله، ويأخذون عنه، ويضبطون ما يسمعونه منه!

فهل يُعقل أنّ الإمام عليه السلام لم يستثمر تلك الأجواء الدينية القدسية في بيت اللَّه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 76

الحرام للتبليغ بالحقّ والتعريف به وبنهضته المقدّسة!؟

إنها ثغرة من ثغرات التأريخ المبهمة، وعثرة من عثراته المؤلمة!

الخطبة الأولى ..... ص : 76
اشارة

قال المحقّق المتتبع الشيخ السماوي قدس سره: «ولمّا جاء كتاب مسلم الى الحسين عزم على الخروج، فجمع أصحابه في الليلة الثامنة من ذي الحجّة فخطبهم ..» «1».

غير أنّ السيد ابن طاووس قدس سره لم يذكر أنه خطبها في أصحابه، بل قال: «ورُوي أنه عليه السلام لمّا عزم على الخروج الى العراق قام خطيباً ...» «2».

وقال ابن نما قدس سره: «ثم قام خطيباً ...» «3».

وقد يستفاد من نص ابن طاووس وابن نما أنّ الإمام عليه السلام خطب هذه الخطبة في الناس في مكة لا في خصوص أصحابه.

والخطبة هي:

«الحمد للَّه، ما شاء اللَّه، ولا قوّة إلّا باللَّه، وصلى اللَّه على رسوله، خُطّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي

تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن منّي أكرُشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضى اللَّه رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين، لن تشذّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرُّبهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلًا فينا مهجته

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 77

وموطّناً على لقاء اللَّه نفسه فليرحل معنا فإنني راحل مصبحاً إن شاء اللَّه تعالى» «1».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 78

ملاحظات مستفادة من هذه الخطبة الشريفة: ..... ص : 78

1- شبّه الإمام عليه السلام حتمية عدم انفلات الإنسان من طوق قهرية الموت بعدم انفلات عنق الفتاة من طوق القلاد المحكم، وتشبيه الموت بالقلادة على جيد الفتاة وهي زينة لها إلفاتة رائعة إلى أنّ الموت خطوة تكاملية في مسار حركة الإنسان التكوينية، وهو زينة للمؤمن خاصة في مسار حركة المصير لكونه معبراً للمؤمن من دار العناء والتزاحم والإبتلاء والشدائد الى دار النعيم والجزاء الأوفى والسعادة الأبدية، ولاشك أنّ الشهادة وهي أفضل وأشرف الموت أحرى بحقيقة الزينة من مطلق الموت، ولا يؤتاها إلا ذو حظّ عظيم.

2- في قوله عليه السلام: «خِيرَ لي مصرع أنا لاقيه» إشارة إلى أنّ هذا المصرع اختيار إلهي لا على نحو القهر والجبر طبعاً، بل على نحو التشريف بكرامة التكليف في الظروف الصعبة الخاصة المؤدية إلى أنْ يتحرّك الإمام عليه السلام نحو هذا المصرع تعبّداً وامتثالًا لأمر اللَّه تعالى في آداء هذا التكليف في مثل تلك الظروف.

كما أنّ في قوله هذا إشارة إلى علمه بمصيره ومآل أمره.

3- في قوله عليه السلام: «لامحيص عن يوم خُطّ بالقلم» إشارة جليّة إلى حتمية وقوع هذا المصرع، وتحقّق ذلك المصير قضاء من اللَّه تعالى، لا على نحو القهر

والجبر كذلك، بل على نحو أنّ حركة الأحداث في علم اللَّه تبارك وتعالى ستؤول في النهاية بمشيئة اللَّه تعالى إلى تحقّق هذا المصرع وبالكيفية التي وقع بها.

4- في هذه الخطبة ركّز الإمام عليه السلام على أن مصيره في التوجه إلى العراق هو القتل، واشار إلى بشاعة القتلة بأنّ أوصاله تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 79

وكربلاء، ولعلّ في قوله عليه السلام بين النواويس وكربلاء إشارة إلى امتداد الجيش الأموي وكثافته الشديدة على امتداد مابين هاتين المنطقتين ..

وشرط على من يلتحق به أن يكون باذلًا في موالاة أهل البيت عليهم السلام مهجته، وموطّناً على لقاء اللَّه نفسه، أي لا مصير إلّا القتل والصبر على السيوف والأسنّة!

فماذا اراد الإمام عليه السلام من وراء ذلك .. ولماذا!؟

إنّ القائد الرباني في حركته نحو تحقيق أهدافه يسعى كغيره من القادة إلى تهيأة العدّة والعدد ويتوسّل الى ذلك بالأسباب الظاهرة المألوفة، ولكنه يختلف عن القادة الساعين الى تحقيق النصر الظاهري فقط في انّه لا يبتغي الأعوان كيفما كانوا، بل القائد الربّاني يبتغي أعواناً ربّانين من نوعه، هدفهم الأساس في كلّ ما هم ساعون إليه مرضاة الربّ تبارك وتعالى، أعواناً هادين مهديين، مصرّين على المضيّ في طريق ذات الشوكة مع علمهم بمصيرهم، ومن أولئك تتشكّل العدّة الحقيقية للقائد الربّاني التي يرسم بحسبها خطّة الفعل ونوع المواجهة، فهو لا يعتمد في رسم خطط ونوع المواجهة على كلّ من التحق به، وكثير منهم الطامعون وأهل الريبة والعصيان، فلابد من تمحيصهم، ولابدّ من تنقية الركب الحسينيّ من كلّ أولئك قبل الوصول الى ساحة المواجهة، ولذا كان لابدّ من أن يختبر حقيقة النيّات والعزائم بالإعلام والتأكيد على أنّ المصير هو القتل والصبر على السيوف

والأسنة، وأنّ ذلك لا يقوى عليه إلّا باذل في حقيقة الموالاة مهجته، موطّن على لقاء اللَّه نفسه!!

وهذا الإختبار من سنن منهج القيادة الربانيّة، وقد حدّثنا القرآن الحكيم عن هذه السنّة في اختبار النهر على يد طالوت عليه السلام:

«فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ اللَّه مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 80

مني، ومن لم يطعمه فإنه مني، إلّا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلّا قليلًا منهم، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنّون أنهم ملاقوا اللَّه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللَّه واللَّه مع الصابرين» «1».

يُضاف الى ذلك أنّ القائد الربّاني حينما يُطلع أنصاره على ما سوف يلقى ويلقونه من مصير وما سوف يواجهونه من شدائد ومكاره يكون بذلك قد فتح لهم باب علّو الدرجة وسمّو المنزلة والمثوبة العليا عند اللَّه تبارك وتعالى في حال إصرارهم على المضيّ على طريق الجهاد في سبيل اللَّه.

والمتأمل في تفاصيل حركة الإمام الحسين عليه السلام يرى أنّ الإمام عليه السلام كان قد دأب على الإخبار بمصرعه منذ أن كان في المدينة، وفي الطريق الى مكة، وفي مكّة، وفي منازل الطريق منها الى العراق، مغربلًا بذلك الركب الحسيني من جميع من أرادوا الدنيا من وراء الإلتحاق به، ولم يكتف بذلك بل عرّض حتى الصفوة الخالصة من أنصاره لهذا الاختبار، لتعلو بثباتهم درجاتهم الرفيعة عند اللَّه تبارك وتعالى، وهكذا كان، حتى رأوا منازلهم في الجنّة عياناً تلكم العشيّة، ثمّ في الغد الرهيب نراه عليه السلام قد رسم خطّته الحربية على أساس قوّته الحقيقية المؤلّفة من تلكم الصفوة القليلة الخالصة من كل شائبة!

5- في قوله عليه السلام:

«لن تشذّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لُحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده ...» إشارة إلى أنّ مسار أهل البيت عليهم السلام امتداد لمسار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهم معه في درجته ومنزلته، وتقرّ عين الرسول صلى الله عليه و آله بما

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 81

جعل اللَّه لهم وخصّهم به من كرامة الدنيا والآخرة «1». ولعل في قوله عليه السلام «وينجز بهم وعده» إشارة إلى أنّ الوعد الإلهي بإظهار دين اللَّه على الدين كلّه على كلّ الأرض سيتحقق في النهاية على يد رجل من أبناء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومن أبناء الحسين عليه السلام هو الإمام المهدي المنتظر عليه السلام «2».

الخطبة الثانية ..... ص : 81

إنّ التأمّل في محتوى الخطبة الثانية وعدم ارتباط مضامينها بمضامين الخطبة الأولى يقوّي الظنّ في أنّ مناسبة الخطبة الثانية بعيدة عن مناسبة الخطبة الأولى زماناً ومكاناً، غير أن الحائري صاحب كتاب معالي السبطين أورد الخطبة الأولى نقلًا عن اللهوف لابن طاووس، ثمّ قال بعدها: «وخطب بعدها هذه الخطبة ...» وأورد الخطبة الثانية، علماً بأنّ اللهوف لم يحتو لا على هذه الإشارة ولا على الخطبة الثانية نفسها! واللَّه العالم عن أيّ مصدر أخذ صاحب معالي السبطين هذه الخطبة وتلكم الإشارة.

ونحن نورد هذه الخطبة هنا بعد الخطبة الأولى، لأنّ هذا الفصل يختصّ بكلّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 82

ما يرتبط بحركة الإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة، ولأنّ من المحتمل أن يكون الإمام عليه السلام قد اشار عقيب الخطبة الأولى بالإشارات الأخلاقية التي تضمنتها مقاطع الحكم القصار التي احتوتها الخطبة الثانية.

والخطبة الثانية هي:

«إنّ الحلم زينة، والوفاء مروّة، والصلة نعمة، والإستكبار صلف، والعجلة

سفه، والسفه ضعف، والغلوّ ورطة، ومجالسة أهل الدناءة شرّ، ومجالسة أهل الفسق ريبة» «1».

يوم الخروج من مكّة المكرّمة ..... ص : 82

روى الشيخ المفيد قدس سره، وكذلك الطبري روى عن أبي مخنف أنّ يوم خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة متجهاً الى العراق كان يوم الثامن من ذي الحجّة: «ثمّ خرج منها لثمان مضين من ذي الحجّة، يوم الثلاثاء، يوم التروية، في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل» «2»، وهذا هو المشهور.

لكنّ المزّي وابن عساكر ذكرا أنّ خروجه عليه السلام من مكّة كان في يوم الإثنين في العاشر من ذي الحجّة سنة ستين: «فخرج متوجهاً إلى العراق في أهل بيته وستين شيخاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الإثنين في عشر من ذي الحجّة سنة ستين» «3».

لكنّ السيّد ابن طاووس قدس سره قال: «كان قد توجّه الحسين عليه السلام من مكّة يوم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 83

الثلاثاء لثلاث مضين من ذي الحجّة» «1».

وأمّا سبط ابن الجوزي فقد قال في تذكرة الخواص: «وأمّا الحسين عليه السلام فإنه خرج من مكّة سابع ذي الحجّة سنة ستين ...» «2».

ولا يخفى أنّ المشهور هو الصحيح والقول الفصل لأنه ورد عن لسان الإمام عليه السلام نفسه في رسالته الثانية إلى أهل الكوفة، حيث قال فيها:

«... وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ...» «3».

وروى ابن كثير في تاريخه عن الزبير بن بكّار عن محمد بن الضحاك أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا أراد الخروج من مكّة الى الكوفة مرّ بباب المسجد الحرام وقال:

لا ذعرتُ السوام في فلق الصبح مغيراً ولا دُعيت يزيدا

يوم أُعطي مخافة الموت ضيماً والمنايا يرصدنني أن أحيدا» «4»

لماذا أصرَّ الإمام عليه السلام على مغادرة مكّة أيّام الحج؟ ..... ص : 83
اشارة

في حركة أحداث النهضة الحسينية هناك مجموعة من الوقائع ملفتة للإنتباه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 85

ومثيرة للإستغراب وداعية إلى التساؤل عن العلّة من ورائها،

ومن أبرز هذه الوقائع خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة في يوم التروية، وللمؤرّخين والمحققين والفقهاء تعاليق وآراء في صدد هذه الواقعة نورد منها هنا ثلاثة أقوال، أحدها للعلّامة المجلسيّ (ره) والثاني للشيخ التستري (ره) والثالث للسيّد المرتضى (ره)، ولنا بينها رأي وإيضاح:

تعليقة العلّامة المجلسى قدس سره ..... ص : 85

قال العلامة المجلسى فى بحار الأنوار: «قد مضى في كتاب الإمامة وكتاب الفتن أخبار كثيرة دالّة على أنّ كلًاّ منهم عليهم السلام كان مأموراً بأمور خاصة مكتوبة فى الصحف السماوية النازلة على الرسول صلى الله عليه و آله فهم كانوا يعملون بها. ولاينبغي قياس الأحكام المتعلّقة بهم على أحكامنا، وبعد الاطّلاع على أحوال الانبياء عليهم السلام، وانّ كثيراً منهم كانوا يبعثون فرادى على ألوف من الكفرة، .....

ويدعونهم الى دينهم، ولايبالون بماينالهم من المكاره والضرب والحبس والقتل والإلقاء في النار وغير ذلك.

لاينبغي الاعتراض على أئمّة الدين فى أمثال ذلك، مع أنه مع ثبوت عصمتهم بالبراهين والنصوص المتواترة لا مجال للإعتراض عليهم، بل يجب التسليم لهم فى كلّ ما يصدر عنهم.

على أنّك لو تأملت حقّ التأمّل علمت أنه عليه السلام فدى نفسه المقدسّة دين جده، ولم يتزلزل أركان دولة بني أميّة إلّا بعد شهادته، ولم يظهر للناس كفرهم وضلالتهم إلّا عند فوزه بسعادته. ولوكان عليه السلام يسالمهم ويوادعهم كان يقوى سلطانهم، ويشتبه على الناس أمرهم، فتعود بعد حين أعلام الدين طامسة، وآثار الهداية مندرسة، مع أنه قد ظهر لك من الاخبار السابقة أنه عليه السلام هرب من المدينة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 86

خوفاً من القتل الى مكّة، وكذا خرج من مكّة بعدما غلب على ظنّة أنهم يريدون غيلته وقتله، حتّى لم يتيسّر له- فداه نفسي وأبي وأمي وولدي- أن يتمّ حجّه، «1» فتحلّل وخرج

منها خائفاً يترقّب، وقد كانوا لعنهم اللَّه ضيّقوا عليه جميع الأقطار، ولم يتركوا له موضعاً للفرار.

ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولّاه أمر الموسم، وأمّره على الحاجّ كلهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين عليه السلام سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة، ثمّ إنه دسَّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلًا من شياطين بني أميّة، وأمرهم بقتل الحسين عليه السلام على أي حال اتفق، فلمّا علم الحسين عليه السلام بذلك حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة. «2»

وقد روي بأسانيد أنّه لمّا منعه عليه السلام محمد بن الحنفية عن الخروج الى الكوفة قال:

واللَّه ياأخي لو كنت في حُجر هامة من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه حتى يقتلوني! «3»

بل الظاهر أنّه صلوات اللَّه عليه لو كان يسالمهم ويبايعهم لايتركونه لشدّة عداوتهم وكثرة وقاحتهم، بل كانوا يغتالونه بكلّ حيلة، ويدفعونه بكلّ وسيلة، وإنّما كانوا يعرضون البيعة عليه أوّلًا لعلمهم بأنّه لا يوافقهم في ذلك، ألا ترى إلى مروان لعنه اللَّه كيف كان يشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه، وكان عبيداللَّه بن زياد عليه لعائن اللَّه إلى يوم التنادِ يقول: إعرضوا عليه فلينزل على

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 87

أمرنا ثمّ نرى فيه رأينا، ألا ترى كيف أمّنوا مسلماً ثم قتلوه!!

فأمّا معاوية لعنه اللَّه فإنه مع شدّة عداوته وبغضه لأهل البيت عليهم السلام كان ذا دهاء ونكراء وحزم، وكان يعلم أنّ قتلهم علانية يوجب رجوع الناس عنه وذهاب ملكه وخروج الناس عليه، فكان يداريهم ظاهراً على أيّ حال، ولذا صالحه الحسن عليه السلام ولم يتعرّض له الحسين، ولذلك كان يوصي ولده اللعين بعدم التعرّض للحسين عليه

السلام لأنه كان يعلم أنّ ذلك يصير سبباً لذهاب دولته ...» «1».

تعليل الشيخ جعفر التستري قدس سره ..... ص : 87
اشارة

وللشيخ التستري كلام عميق في تفسير سرّ إصدار الإمام الحسين عليه السلام على مغادرة مكّة أيّام الحجّ والخروج الى العراق، يقول قدس سره:

«كان للحسين عليه السلام تكليفان واقعي وظاهري:

أمّا الواقعيّ ..... ص : 87

الذي دعاه للإقدام على الموت، وتعريض عياله للأسر وأطفاله للذبح مع علمه بذلك، فالوجه فيه أنّ عتاة بني أميّة قد اعتقدوا أنهم على الحق وأنّ علياً وأولاده وشيعتهم على الباطل «2» حتى جعلوا سبّه من أجزاء صلاة الجمعة، وبلغ الحال ببعضهم أنّه نسي اللعن في خطبة الجمعة فذكره وهو في السفر فقضاه! وبنوا مسجداً سمّوه «مسجد الذكر»، فلو بايع الحسين عليه السلام يزيد وسلّم الأمر إليه لم يبق من الحقّ أثر، فإنّ كثيراً من الناس يعتقد بأنّ المحالفة لبني أميّة دليل استصواب رأيهم وحسن سيرتهم، وأمّا بعد محاربة الحسين عليه السلام لهم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 88

وتعريض نفسه المقدّسة وعياله وأطفاله للفوادح التي جرت عليهم فقد تبين لأهل زمانه والأجيال المتعاقبة أحقيّته بالأمر وضلال من بغى عليه.

وأمّا التكليف الظاهري ..... ص : 88

فلأنه عليه السلام سعى في حفظ نفسه وعياله بكلّ وجه فلم يتيسّر له، وقد ضيّقوا عليه الأقطار حتى كتب يزيد إلى عامله على المدينة أن يقتله فيها، فخرج منها خائفاً يترقّب، فلاذ بحرم اللَّه الذي هو أمن الخائف وكهف المستجير، فجدّوا في إلقاء القبض عليه أو قتله غيلة ولو وجد متعلّقاً بأستار الكعبة، فالتزم بأن يجعل إحرامه عمرة مفردة وترك التمتع بالحجّ، فتوجّه إلى الكوفة لأنهم كاتبوه وبايعوه وأكّدوا المصير إليهم لإنقاذهم من شرور الأمويين، فألزمه التكليف بحسب الظاهر الى موافقتهم إتماماً للحجّة عليهم لئلا يعتذروا يوم الحساب بأنّهم لجأوا إليه واستغاثوا به من ظلم الجائرين فاتهمهم بالشقاق ولم يُغثهم، مع أنه لو لم يرجع إليهم فإلى أين يتوجّه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو معنى قوله لابن الحنفية: لو دخلتُ في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني!» «1».

تمام الحق في القول ... ..... ص : 88

وأقول: لاشك في دقّة جلّ المضامين التي طرحها الشيخ التستري أعلى اللَّه مقامه، خصوصاً في الإلفات إلى أنّ للإمام عليه السلام تكليفين أحدهما ظاهري وآخر واقعي هما في طول بعضهما ولا تنافي بينهما، وقد أجاد قدس سره في تفصيل هذه الإلتفاتة التي هي من جديد ما قدّمه الشيخ التستري في وقته، لكنّ لنا تحفّظاً على قوله قدس سره: «مع أنه لو لم يرجع إليهم- أي إلى أهل الكوفة- فإلى أين يتوجّه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت ...» ذلك لأنّ هناك أكثر من رواية تأريخية تفيد أنه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 89

كان بإمكانه عليه السلام أن يتوجّه إلى اليمن مثلًا ومناطق أخرى غيرها، فهذا محمّد بن الحنفيه يقول له:

«تخرج إلى مكة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن،

فإنهم أنصار جدّك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمأنت بك الدار وإلا بالرمال وشعوب الجبال، وجزت من بلد الى بلد، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم اللَّه بيننا وبين القوم الفاسقين» «1».

وهذا الطرمّاح يقول له:

«فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك اللَّه به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى (أجأ)، فأسير معك حتى أُنزلك (القُرَيّة)». «2»

وفي نصّ آخر:

«فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل (أجأ) فإنه جبل منيع، واللَّه ما نالنا فيه ذلٌ قطّ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم». «3»

إذن فالحقّ في هذه النقطة ليس كما ذهب إليه الشيخ التستري قدس سره في أنه عليه السلام لم يكن له ملجأ يتوجّه إليه من مكّة إلا الكوفة.

ولعلّ الصواب في هذه المسألة إضافة إلى ما تفضّل به العلامة المجلسي قدس سره

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 90

والشيخ التستري قدس سره هو: أنّ الإمام عليه السلام أراد أن (ينجو) من أن يُقتل في المدينة أو في مكّة خاصة، قتلة يُقضى بها على ثورته في مهدها، وتهتك بها حرمة البيت:

«ياأخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.» «1»

، حيث يتمكّن الأمويون في كلّ ذلك أن يدّعوا أنهم بريئون مما جرى على الإمام عليه السلام سواء في المدينة أو في مكّة أو في الطريق، فيحافظوا بذلك على الإطار الديني لحكمهم، أو أن تزداد المصيبة سوءً حين يطالبون هم بدم الإمام عليه السلام، فيقتلون من أمروه هم بقتله! أو يتّهمون بريئاً ليقتلوه! فيخدعون الناس بادعائهم أنهم أصحاب دمه الآخذون بثأره، فيزداد الناس انخداعاً بهم ومحبّة

لهم وتصديقاً بما يستظهرون من التدين والإلتزام، فتكون المصيبة على الإسلام والأمة الإسلامية أدهى وأمرّ!! ... فحيث إن لم يبايع يقتل، فقد سعى عليه السلام ألّا يقتل في ظروف زمانية ومكانية وبكيفية يختارها ويخطط لها ويعدّها العدوّ، وسعى عليه السلام بمنطق الشهيد الفاتح أن يتحقّق مصرعه الذي لابدّ منه على أرض يختارها هو، ولا يستطيع العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه، فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان الأمة ويحرّكها بالإتجاه الذي أراده الحسين عليه السلام، كما سعى عليه السلام أن تجري وقائع المأساة في وضح النار لا في ظلمة الليل ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلا يتمكّن العدوّ من أن يعتّم على هذه الوقائع الفجيعة ويغطّي عليها، ولعل هذا هو الهدف المنشود من وراء العامل الإعلامي والتبليغي في طلب الإمام عليه السلام عصر تاسوعاء أن يمهلوه إلى صبيحة عاشوراء!» «2». فتأمّل!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 91

قول السيد المرتضى قدس سره ..... ص : 91
اشارة

وللسيّد الشريف المرتضى أعلى اللَّه مقامه في سرّ إصرار الإمام عليه السلام على التوجّه الى الكوفة رأي غريب حيث قال قدس سره: «فإن قيل: ما العذر في خروجه صلوات اللَّه عليه من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة، والمستولي عليها أعداؤه، والمتأمرّ فيها من قبل يزيد اللعين، منبسط الأمر والنهي!؟ وقد رأى صنع أهل الكوفة بأبيه وأخيه صلوات اللَّه عليهما، وأنّهم غادرون خوّانون، وكيف خالف ظنّه ظنّ جميع نصحائه في الخروج، وابن عبّاس رحمه اللَّه يشير بالعدول عن الخروج! ويقطع على العطب فيه! وابن عمر لمّا ودّعه عليه السلام يقول له: «أستودعك اللَّه من قتيل» إلى غير ذلك ...

الجواب: ..... ص : 91

قلنا قد علمنا أنّ الإمام متى غلب على ظنه أنه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوِّض إليه بضرب من الفعل، وجب عليه ذلك وإن كان فيه ضرب من المشقّة يتحمّل مثلها، وسيّدنا أبوعبداللَّه عليه السلام لم يسرِ طالباً الكوفة إلا بعد توثّق من القوم، وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه عليه السلام طائعين غير مكرهين، ومبتدئين غير مجيبين، وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرّائها تقدّمت إليه في أيّام معاوية، وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسن عليه السلام فدفعهم وقال في الجواب ما وجب، ثمّ كاتبوه بعد وفاة الحسن عليه السلام ومعاوية باقٍ، فوعدهم ومنّاهم، وكانت أيّام معاوية صعبة لايطمع في مثلها، فلما مضى معاوية وأعادوا المكاتبة وبذلوا الطاعه وكرّروا الطلب والرغبة، ورأى عليه السلام من قوّتهم على ما كان يليهم في الحال من قبل يزيد، وتسلّطهم عليه، وضعفه عنهم ما قوي فيه ظنّه أنّ المسير هو الواجب، تعيّن عليه ما فعله من الإجتهاد والتسبّب، ولم يكن في حسبانه عليه السلام أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف

أهل الحقّ عن نصرته، ويتّفق ما اتفق من الأمور الغريبة، فإنّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 92

مسلم بن عقيل لمّا دخل الكوفة أخذ البيعة على أكثر أهلها! ...» «1».

وواضحٌ أنّ جواب السيد الشريف المرتضى قدس سره قائم على مبنى أهل التسنن في أنّ الإمام عليه السلام كغيره من الناس يعمل على أساس ما يؤدّي إليه الظن، وهو مأجور على اجتهاده أخطأ أم اصاب إلّا أنّ أجره على الصواب أجران! وأنّ الإمام لم يكن يعلم منذ البدء بمصيره! وأنّه إنّما قام بسبب رسائل أهل الكوفة!

ويبدو أن الشريف المرتضى قدس سره- وهو من أكابر متكلّمي الشيعة- قد اعتمد هذا اللون من الإجابة على تلك التساؤلات ليخاطب به العقل السنّي في بغداد آنذاك، والمتسننون آنئذٍ هم الأكثرية فيها ..

وإلّا فإنّ هذا الجواب مخالف لاعتقاداتنا بالإمامة وأنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون ما كان وما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة علماً موهبياً من اللَّه تبارك وتعالى، هذا فضلًا عن الروايات التأريخية الكثيرة التي مفادها أنّ الإمام عليه السلام كان يعلم بمصيره ومصرعه، وأنه كان يخبر عن ذلك حتى في أيّام طفولته.

ثمّ إنّ قيام الإمام الحسين عليه السلام ورفضه البيعة ليزيد لم يكن بسبب رسائل أهل الكوفة إليه بعد موت معاوية، ذلك لأنّ الثابت أنّ هذه الرسائل لم تصل إليه إلّا بعد رفضه البيعة وقيامه وخروجه من المدينة ووروده مكّة، وهي لم تصل إليه إلّا بعد حوالي أربعين يوماً من أيامه في مكّة!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 93

عمرة التمتع أم عمرة مفردة؟ ..... ص : 93
هل بدّل الإمام عليه السلام إحرامه من عمرة التمتّع إلى العمرة المفردة؟ ..... ص : 93

أم أنه عليه السلام ابتداءً دخل في إحرام العمرة المفردة لعلمه بأنّ الظالمين سوف يصدّونه عن إتمام حجّه!؟

إنّ الذي يظهر من بعض المتون التأريخية «1» ومن صريح أقوال بعض المحدّثين هو أنّ الإمام عليه

السلام قد بدّل إحرامه من الحجّ أو من عمرة التمتع إلى العمرة المفردة.

ولكنّ ظاهر بل صريح بعض النصوص- ومنها نصوص صحيحة- هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد دخل في إحرام العمرة المفردة ابتداءً ولم يكن ثمّة تبديل في الإحرام، وقد تبنّى هذا القول من الفقهاء السيّد محسن الحكيم قدس سره والسيّد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 94

الخوئي قدس سره والسيد السبزواري قدس سره، وأشار إليه بعض المؤرّخين «1».

لقد تعرّض الفقهاء لهذا البحث في مسألة حكم الخروج من مكّة لمن أتى بالعمرة المفردة فأقام الى هلال ذي الحجّة، فقد ذهب بعضهم الى القول بوجوب أداء الحجّ فيما لو أدرك يوم التروية، وهو رأي ابن البرّاج «2» وهو قول نادر. كما ذهب بعض آخر الى القول بالاستحباب خصوصاً إذا أقام إلى هلال ذي الحجّة ولاسيّما إذا أقام في مكّة الى يوم التروية وهو اليوم الثامن، وهو قول صاحب الجواهر «3».

وبعض الروايات التي مفادها حرمة الخروج حملت على الكراهة استناداً الى روايات أخرى منها خبر اليماني في أنّ الإمام الحسين عليه السلام خرج قبل يوم التروية بيوم وقد كان معتمراً.

وفيما يلي النصوص ثم كلمات الفقهاء:

1- الكليني: «علي بن ابراهيم، عن أبيه، ومحمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسى، عن ابراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنه سُئل عن رجل خرج في أشهر الحجّ معتمراً ثم رجع الى بلاده؟ قال: لابأس وإن حَجَّ في عامه ذلك وأفرد الحجّ، فليس عليه دم، فإنّ الحسين بن علي عليهما السلام خرج

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 95

قبل التروية بيوم الى العراق وقد كان دخل معتمراً» «1».

ومفاد هذا الخبر: أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يوم خروجه من

مكّة محرماً حتى بإحرام العمرة، بل كان قد أحرم للعمرة يوم وروده مكّة المكرّمة. فتأمل.

وقد عبّر المجلسي في المرآة عن هذا الحديث بالحسن كالصحيح «2».

ولقد روى الشيخ الطوسي هذا الحديث في التهذيب عن الكليني، غير أنّ فيه:

«إنّ الحسين خرج يوم التروية» «3».

وعبّر المجلسيُ عنه أيضاً في ملاذ الأخيار بالحسن الصحيح «4».

وقال صاحب الجواهر: «وفي التهذيب: خرج يوم التروية، ولعلّه الأصحّ لصحيح معاوية ...» «5».

2- الكليني: «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن اسماعيل بن مرّار، عن يونس، عن معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: من أين افترق المتمتّع والمعتمر؟

فقال: إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الحسين بن علي في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى، ولابأس بالعمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ.» «6».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 96

وعبّر عنها المجلسي في الملاذ: «مجهول» وقال: «قوله: وقد اعتمر: لعلّ المراد أنّ عمرة التمتع أيضاً إذا اضطر الإنسان يجوز أن يجعلها عمرة مفردة كما فعله الحسين عليه السلام، ويحتمل أن يكون عليه السلام لعلمه بعدم التمكّن من الحجّ نوى الإفراد ولعلّه من الخبر أظهر.» «1».

إذن فالمجلسي يرى في الحديث احتمالين:

الأوّل: التبديل من عمرة التمتع الى عمرة مفردة.

الثاني: أنّه عليه السلام منذ البدء قد نوى الإفراد، وليس ثمّ تبديل.

ويرى المجلسي أنّ الإحتمال الثاني أظهر من الخبر، لكنه في البحار يصرّح بالإحتمال الأوّل حيث يقول: «ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة ... حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة.» «2»

وقال في نفس الصفحة من كتابه قبل هذا: «وكذا خرج من مكّة بعدما غلب على ظنه أنهم يريدون غيلته وقتله، حتى لم يتيسّر له-

فداه نفسي وأبي وأمي وولدي- أن يتمّ حجّة، فتحلّل وخرج منها خائفاً يترقّب ...» «3».

كلمات بعض الفقهاء ..... ص : 96

1- قال السيد محسن الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: «... وأمّا مافي

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 97

بعض كتب المقاتل من أنّه عليه السلام جعل عمرته عمرة مفردة، ممّا يظهر منه أنها كانت عمرة تمتّع وعدل بها إلى الافراد، فليس مما يصحّ التعويل عليه في مقابل الأخبار المذكورة التي رواها أهل البيت عليهم السلام» «1».

2- ويقول السيد السبزواري قدس سره في مهذّب الأحكام: «... كما يسقط بهما- أي رواية اليماني ورواية معاوية بن عمار- مافي بعض المقاتل من أنّ الحسين عليه السلام بدّل حجّة التمتّع الى العمرة المفردة، لظهورهما في أنه عليه السلام لم يكن قاصداً للحجّ من أوّل الأمر، بل كان قاصداً للعمرة المفردة، فلا يبقى موضوع للتبديل حينئذ.» «2».

3- وقال السيّد الخوئي في معتمد العروة الوثقى: «لاريب في أنّ المستفاد من الخبرين أنّ خروج الحسين عليه السلام يوم التروية كان على طبق القاعدة لا لأجل الإضطرار «3»، ويجوز ذلك لكلّ أحد وإن لم يكن مضطرّاً، فيكون الخبران- أي خبر اليماني وخبر معاوية- قرينة على الإنقلاب الى المتعة قهراً والإحتباس بالحجّ إنّما هو فيما إذا أراد الحجّ، وأمّا إذا لم يرد الحجّ فلا يحتبس بها للحجّ ويجوز له الخروج حتى يوم التروية.» «4».

وممّا يضعّف القول بوقوع التبديل الى العمرة المفردة قول المشهور بعدم جواز التبديل الى العمرة المفردة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 98

قال الشيخ الوالد قدس سره: «المشهور بين الأصحاب رضوان اللَّه عليهم أنّ من دخل مكّة بعمرة التمتع في أشهر الحج لم يجز له أن يجعلها مفردة، ولا أن يخرج من مكّة حتّى يأتي بالحجّ لأنها مرتّبة (مرتبطة) بالحجّ، نعم عن

ابن إدريس القول بعدم الحرمة وأنه مكروه، وفيه أنه مردود بالأخبار.» «1».

كما يضعّف أيضاً القول بوقوع التبديل الى العمرة المفردة هو أنه لو كان لأجل الصدّ ومنع الظالم فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدي كما أشار إليه الشهيد الأوّل في الدروس «2» والشهيد الثاني في المسالك «3».

فلابدّ إذن من تأويل العبارات التي ظاهرها التبديل، والمهمّ المعوَّل عليه هو عبارة الشيخ المفيد قدس سره في الإرشاد: «لأنه لم يتمكّن من تمام الحج»، وأمّا القول الوارد في بعض الكتب من أنّه عليه السلام: «لم يتمكن من إتمام الحجّ» فهو مما ورد بعد زمان كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد قدس سره، ولعلّه وقع بسبب تصحيف غير مقصود، أو بسبب تصرّف مقصود قام على عدم التفريق بين «التمام» و «الإتمام»، واللَّه العالم.

هل خرج الإمام عليه السلام من مكّة سرّاً!؟ ..... ص : 98

قال المرحوم المحقّق الشيخ السماوي في كتاب (إبصار العين): «ولمّا جاء كتاب مسلم إلى الحسين عزم على الخروج، فجمع أصحابه في الليلة الثامنة من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 99

ذي الحجّة، فخطبهم فقال: ..» «1»، ثم أورد خطبته المعروفة بعبارتها الشهيرة «خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة» والتي ورد في آخرها قوله عليه السلام:

«فمن كان باذلًا فينا مهجته، موطّناً على لقاء اللَّه نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شاء اللَّه تعالى».

وقد يُستفاد من قول الشيخ السماوي قدس سره: «فجمع أصحابه ..» أنّ هذه الخطبة التي أعلن فيها الإمام عليه السلام عن موعد ارتحاله عن مكّة لم تكن أمام محضر عام، بل كانت في اجتماع خاص اقتصر على أصحابه عليه السلام فقط، فموعد السفر لم يعلم به إلّا أصحابه، ولم يخرج الموعد إذن عن كونه سراً من أسرار حركة الركب الحسيني من مكّة، أي أنّ الإمام

الحسين عليه السلام كان قد خرج بركبه من مكّة الى العراق سرّاً!

لكنّ الملفت للإنتباه أنّ الشيخ السماوي قدس سره لم يذكر المصدر الذي أخذ عنه قوله «فجمع أصحابه ..»، كما أننا لم نعثر على مصدر من المصادر التأريخية المعروفة والمعتبرة- والتي يحتمل أنّ الشيخ السماوي قدس سره قد أخذ عنها- كان قد ذكر هذه العبارة «فجمع أصحابه ..».

بل إنّ المصادر التي ذكرت هذه الخطبة بالذات لم تذكر تلكم العبارة، ففي اللهوف: «وروي أنّه عليه السلام لمّا عزم على الخروج الى العراق قام خطيباً فقال: ..» «2»، وفي مثير الأحزان: «ثم قام خطيباً فقال: ..» «3»، وفي كشف الغمة: «ومن كلامه عليه السلام لمّا عزم على الخروج الى العراق، قام خطيباً فقال: ..» «4».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 100

هذه هي المصادر الأساسية التي نعلم أنها ذكرت هذه الخطبة ..

ومع هذا، فإنّ خروج الإمام عليه السلام من مكّة لم يكن سرّاً حتى على فرض أنّ الإمام عليه السلام كان قد خطب هذه الخطبة في أصحابه فقط، ذلك لأنّ الذين كانوا ملتفّين حول الإمام عليه السلام وهو في مكّة كثيرون، وفيهم من يريد الدنيا وفيهم من يريد الآخرة، ولم يُغربل هذا الجمع الكبير إلّا في منازل الطريق إلى العراق منزلًا بعد منزل حتى لم يبق معه إلا الصفوة التي استشهدت بين يديه في الطف. فمن البعيد جداً أن تكون حركة الركب الحسيني من مكّة إلى العراق سرّاً، والمحيطون بالإمام عليه السلام في مكّة آنذاك خليط من أناس نواياهم شتّى، ثمّ هل يُتصوَّر أنّ حركة الركب الحسيني وهو كبير نسبياً في مكّة المكرّمة وهي آنذاك صغيرة نسبياً- بكلّ ما تستلزمه حركة مثل هذا الركب الكبير من مقدّمات واستعدادات- تخفى عن

أعين السلطة الذين كانوا يتحسسون الصغيرة والكبيرة من حركة الإمام عليه السلام!؟

يذهب بعض المحقّقين المتتبعين إلى عكس ما أورده الشيخ السماوي قدس سره حيث يقول: «ولمّا عزم الإمام عليه السلام على مغادرة الحجاز والتوجّه إلى العراق أمر بجمع الناس ليلقي عليهم خطابه التأريخي، وقد اجتمع إليه خلق كثير في المسجد الحرام من الحجّاج وأهالي مكّة، فقام فيهم خطيباً، فاستهلّ خطابه بقوله ..» «1»، ثم أورد تلكم الخطبة نفسها.

ومن الأدلّة على أنّ خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة لم يكن سرّاً أنّ والي مكة يومئذٍ عمرو بن سعيد بن العاص أمر صاحب شرطته باعتراض الركب الحسيني عند الخروج، يقول التأريخ: «ولمّا خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجند.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 101

فقال: إنّ الأمير يأمرك بالإنصراف فانصرف وإلا منعتك.

فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط.

وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شرطته يأمره بالإنصراف.» «1».

إذن فخروج الركب الحسينيّ من مكّة لم يكن سرّاً، وهذا لا ينافي الحقيقة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 102

التأريخية في أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد استبق الأحداث والزمان فخرج من مكّة مبادراً قبل أن يغتاله الحكم الأمويّ فيها أو يُقبَض عليه، لأن خروج الإمام عليه السلام من مكّة بالركب الحسيني الكبير نسبياً وقتذاك كان على امتناع وأهبة واستعداد لكلّ احتمال، في وقت لم يكن من مصلحة الحكم الأموي أن تواجه سلطته المحلّية في مكّة- على فرض امتلاكها القوّة العسكرية الكافية- «1» الإمام الحسين عليه السلام مواجهة حربية علنية في مكّة أو في أطرافها، لأنّ الأمويين يعلمون ما للإمام الحسين عليه السلام من مكانة سامية عزيزة وقدسية بالغة

في قلوب جموع الحجيج الذين لازالوا آنذاك في مكّة، فهم يخافون من انقلاب الأمر وتفاقمه عليهم، ولعلَّ رواية الدينوري السابقه تشعر بهذه الحقيقة حيث تقول: «.. وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شرطته يأمره بالإنصراف».

وعلى ضوء ما تقدّم تتأكّد صحة ماتقدّم في الجزء الأوّل «2» من هذا الكتاب (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة): أنّ خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة المكرّمة (وكذلك من المدينة) في السحر أو في أوائل الصبح في ستر الظلام من أجل ألّا تتصفح أنظار الناس في مكّة (وكذلك في المدينة) في وضح النهار حرائر

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 103

بيت العصمة والرسالة والنساء الأُخريات في الركب الحسيني، وهذا هو السبب الأقوى- إن لم يكن السبب الوحيد- في مجموعة الأسباب التي دفعت الإمام عليه السلام إلى الخروج في السحر أو في أوائل الصبح، وهذا ما يتناسب تماماً مع الغيرة الحسينية الهاشمية.

لماذا حمل الإمام عليه السلام النساء والأطفال معه!؟ ..... ص : 103

في السحر الذي أرتحل فيه الإمام الحسين عليه السلام خارجاً عن مكّة الى العراق كان أخوه محمد بن الحنفية (رض) قد هرع إليه، حتى إذا أتاه أخذ زمام ناقته التي ركبها «فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك!؟

قال عليه السلام: بلى!

قال: فما حداك على الخروج عاجلًا؟

فقال عليه السلام: أتاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعدما فارقتك فقال: يا حسين، أخرج فإنّ اللّه شاء أن يراك قتيلا!

فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال!؟

فقال له عليه السلام: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا!

وسلّم عليه ومضى». «1»

وفي إحدى محاوراته عليه السلام مع ابن عباس (رض):

مع الركب

الحسينى (ج 2)، ص: 104

قال له ابن عبّاس: «جُعلتُ فداك يا حسين، إن كان لابدّ من المسير إلى الكوفة فلا تَسِر بأهلك ونسائك، فوالله إنّي لخائف أن تُقتل ...

فقال عليه السلام: يا ابن العمّ، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله في منامي وقد أمرني بأمرٍ لا أقدر على خلافه، وإنه أمرني بأخذهم معي، إنهنّ ودائع رسول الله صلى الله عليه و آله، ولا آمن عليهنّ أحداً، وهنّ أيضاً لايفارقنني ...». «1»

وفي محاورته عليه السلام مع أمّ سلمة (رض) في المدينة:

كان عليه السلام قد قال لها: «يا أمّاه، قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولًا مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولامعيناً». «2»

لقد علّل الإمام عليه السلام حمله لأهله ونسائه معه- في محاوراته مع ثلاثة من أشدّ الناس إخلاصاً له- بأنّ ذلك تحقيق لمشيئة الله سبحانه، وامتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه و آله، وأنه عليه السلام يخاف أن تتعرض ودائع رسول الله صلى الله عليه و آله للأذى والمكروه من بعده إذا فارقنه و بقين في المدينة أو في مكّة! كما علّل ذلك بإصرارهن على الخروج معه! «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 105

فكيف نفهم ملامح الحكمة في هذه المشيئة الإلهية وهذا الأمر النبوي وفي مخافة الإمام عليه السلام على ودائع النبوّة وفي إصرارهن على الخروج معه!؟

ماذا سيجري على عقائل بيت الرسالة لو بقين خلاف الإمام عليه السلام في المدينة أو في مكّة مثلًا؟

يرى الشيخ المرحوم عبدالواحد المظفّر في كتابه: (توضيح الغامض من أسرار السنن والفرائض) أنّ: «الحسين عليه السلام لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السلطة الأموية

عليها الحجر، لا بل اعتقلتها علناً وزجّتها في ظلمات السجون، ولابدّ له حينئذٍ من أحد أمرين خطيرين، كلّ منهما يشلّ أعضاء نهضته المقدّسة!

إمّا الإستسلام لأعدائه وإعطاء صفقته لهم طائعاً ليستنقذ العائلة المصونة، وهذا خلاف الإصلاح الذي يُنشده وفرض على نفسه القيام به مهما كلّفه الأمر من الأخطار، أو يمضي في سبيل إحياء دعوته ويترك المخدّرات اللواتي ضرب عليهنّ الوحي ستراً من العظمة والإجلال، وهذا ما لاتطيق إحتماله نفس الحسين الغيور.

ولايردع أميّة رادع من الحياء، ولايزجرها زاجرٌ من الإسلام، إنّ أميّة لايهمّها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها وإدراك غاياتها، فتتوصل إلى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية والعقلية!

ألم يطرق سمعك سجن الأمويين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي، وزوجة عبيدالله بن الحرّ الجعفي، وأخيراً زوجة الكُميت الأسدي؟». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 106

وهذا الإحتمال الذي نظر إليه الشيخ المظفّر (ره) وارد بقوّة، لأنّ السلطة الأمويّة كانت تريد منع الإمام عليه السلام من القيام والخروج الى العراق بكلّ وسيلة، حتى وإن كانت هذه الوسيلة اعتقال الودائع النبوية من نساء وأطفال يعزُّ على الإمام الحسين عليه السلام تعرّضهم للأذى والإهانة والسجن، فيضطّر الى التحرّك لإنقاذهم، الأمر الذي يشلّ حركة النهضة أو يقضي عليها!

وإمكان إقدام السلطة الأموية على مثل هذه الفعلة لايحتاج إلى أدنى تأمّل، لقد كان ضغط السلطة الأموية على المناهضين لها وإحراجها إياهم من خلال إيذاء عوائلهم وإرهابها وسجنها سنّة من سنن الحكم الأموي، وإضافة الى الأمثلة التي قدّمها الشيخ المظفّر (ره)، فإنّ ما قامت به السلطة الأموية في واقعة الحرّة من انتهاك حرمات الأعراض واستباحتها، بل ما فعلته السلطة الأموية بالودائع النبوية نفسها في السبي بعد استشهاد الإمام عليه السلام دليل على سهولة مثل هذه الجسارة العظيمة عند

طغاة بني أميّة، وبهذا قد يتجلّى لنا هنا بعد من أبعاد الحكمة في الأمر النبوي بحملهن!

وهذا المحذور- حدث تعرّض الودائع النبوية للأذى والسجن- سواء وقع قبل خروج الإمام عليه السلام (من المدينة أو مكّة)، أو بعد خروجه (وقبل استشهاده)، سيكون حدثاً خارجاً عن مسار حركة أحداث النهضة وأجنبياً عنها، وذا أثر مضادّ لمتّجه آثارها، بخلاف ما إذا وقع هذا الحدث في إطار حركة أحداث هذه النهضة وفي مسارها المرسوم، إذ إنه يكون حينذاك امتداداً لها، وتبليغاً بحقائقها، وتحقيقاً لغاياتها.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 107

فكان لابدّ للإمام عليه السلام من حمل هذه الودائع العزيزة ونسائه معه كيلا يعوّق العدوّ من خلالها على مسار النهضة المقدّسة.

ومع تفويت الإمام عليه السلام الفرصة على أعدائه بذلك- والحمد لله الذي جعل أعداء أهل البيت عليه السلام من الحمقى- كان الإمام عليه السلام عالماً منذ البدء بضرورة حمل هذه الودائع النبوية معه تحقيقاً (لمسيرة التبليغ الكبرى)- بعد استشهاده- بدواعي النهضة الحسينية، وبأهدافها، وبمظلومية أهل البيت عليه السلام وأحقيتهم بالخلافة، وبحقيقة كفر آل أميّة ونفاقهم وعدائهم للإسلام الحقّ وأهله.

كان الإمام عليه السلام عالماً منذ البدء بضرورة هذه المسيرة الإعلامية التبليغية الكبرى من بعده، والتي ينهض بأعبائها بقيّة الله الإمام السجّاد عليه السلام وودائع النبوة في أيّام السبي والترحيل من بلد إلى بلد، إذ لولا هذه المسيرة الإعلاميّة التبليغية لما كان يمكن للثورة الحسينية أن تحقّق كامل أهدافها في عصرها وفي مابعده من العصور إلى قيام الساعة، ولعلّ هاهنا مكمن السرّ في «إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا»، وفي الأمر النبوي بحملهنّ.

إذن فحمل الإمام عليه السلام لودائع النبوّة معه ضرورة من ضرورات نجاح الثورة الحسينية، وكان لابدّ للإمام عليه السلام أن يقوم بذلك

حتى ولو لم يكن هناك احتمال لتعرّض هذه الودائع النبوية للأذى والسجن إذا بقين خلاف الإمام عليه السلام في المدينة أو مكّة! فما بالك واحتمال سجنهنّ وارد بقوّة؟

والمتأمل في تفاصيل ماجرى على بقيّة الركب الحسيني بعد استشهاد الإمام عليه السلام حتى عودتهم الى المدينة المنوّرة يشاهد بوضوح الأثر العظيم المترتب على العمل الإعلامي والتبليغي الكبير الذي قام بأعبائه أعلام بقية الركب الحسيني،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 108

ويؤمن أنّ الثورة الحسينية لم تكن لتصل إلى تمام غاياتها لولم تكن تلك الودائع النبوية في الركب الحسيني. «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 110

أمّا قوله عليه السلام: «وهنّ أيضاً لايفارقنني!» الحاكي عن إصرارهنّ على السفر معه وملازمته في رحلة الفتح بالشهادة، فيمكن أن يُفسّر بأنّ الودائع النبوية (خصوصاً بنات أمير المومنين عليه السلام وعلى رأسهن زينب الكبرى عليها السلام) كنّ قد أصررن على ملازمة الإمام عليه السلام في نهضته لأنهنّ- إضافة الى البُعد العاطفي والتعلّق الروحي بالإمام عليه السلام- كنّ يعلمن بأهمية الدور الإعلامي والتبليغي الذي بإمكانهن القيام به في مسار النهضة خصوصاً بعد استشهاد الإمام عليه السلام، إذ من المحتمل جدّاً أنّ «1» الإمام عليه السلام كان قد أطلعهنّ على تفاصيل ما يجري عليه وعلى من معه، وكشف لهنّ عن أهميّة الدور الذي يمكنهنّ أن يضطلعن بأعبائه من بعده، وإن كان من الثابت عندنا أنّ العقيلة زينب عليها السلام كانت تعلم كلّ ذلك بالعلم اللدنّي موهبة من الله تبارك وتعالى، فقد وصفها الإمام السجّاد عليه السلام ذات مرّة بأنها: «عالمة غير معلّمة وفهمة غير مفهّمة!»، «2» ولقد كشفت هي عليها السلام عن علمها حتى بما يجري

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 111

على جثمان أخيها عليه السلام الى قيام الساعة حينما رأت الإمام

السجّاد عليه السلام يجود بنفسه حزناً وهو ينظر الى مصارع شهداء الطفّ، فقالت: «مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ فوالله إنّ هذا لعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس لاتعرفهم فراعنة هذه الارض، وهم معروفون في أهل السموات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة، فيوارونها وينصبون بهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لايُدرس أثره ولايمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلّا علوّاً!». «1»

رضي الله عنه رضي الله عنه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 113

الفصل الثاني ..... ص : 113

اشارة

حركة السلطة الأموية في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية

سفيدصفحه 114

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 115

الفصل الثاني: حركة السلطة الأموية في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية ..... ص : 115
اشارة

وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة المكرّمة بعد أن استطاع عليه السلام النفاذ من حصار خطة (البيعة أو القتل) فى المدينة المنورة، تلك الخطّة التى أرادها يزيد، وتمنّاها وسعى إلى تنفيذها مروان بن الحكم، لكنّ الوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك تردّد فى تنفيذها وتمنى النجاة من تبعاتها.

وبذلك كان الإمام الحسين عليه السلام بدخوله مكّة المكرّمة قد اخترق المرحلة الأولى من الحصار العام الذي بادرت السلطة الأموية إلى فرضه عليه.

ولقد انتاب السلطة الأموية خوف شديد، واعتراها اضطراب لا تماسك معه، وقلق لا استقرار فيه، حينما علمت بدخول الإمام عليه السلام مكّة المكرّمة في الأيّام التي تتقاطر إليها جموع المعتمرين والحجّاج من جميع أقطار العالم الإسلامي آنذاك.

فهرعت هذه السلطة على جميع مستوياتها إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمواصلة فرض الحصار على حركة الإمام عليه السلام من جديد، ولمنع انفلات الأمور في الولايات المهمّة عامة وفي الكوفة منها خاصة.

فما إن رُفعت الى يزيد تقارير جواسيسه في الكوفة عن ضعف موقف واليها النعمان بن بشير في مواجهة التحوّلات الناشئة عن تواجد مسلم بن عقيل عليه السلام فيها، حتى اجتمع يزيد مع مستشار القصر الأمويّ سرجون النصراني ليتلقى منه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 116

تعليماته في كيفية معالجة مستجدّات الأمور قبل انفلاتها وفقدان السيطرة عليها.

وينتهي الإجتماع باتخاذ قرارات خطيرة شملت عزل بعض الولاة ونشر سلطة بعض آخر، وتوجيه رسائل إلى بعض وجهاء الأمة تدعوهم إلى التدخل وممارسة الضغط على الإمام عليه السلام وبذل قصارى سعيهم لإخراج السلطة الأمويّة من مأزقها الكبير، ورسائل أخرى أيضاً تضمّنت تهديداً وإنذاراً لأهل المدينة عامة وبني هاشم خاصة، تحذّرهم من مغبّة

الإلتحاق بالإمام عليه السلام والإنضمام الى حركته.

ومن قرارات هذا الإجتماع أيضاً أن خطّطت حركة النفاق الحاكمة أن تغتال الإمام عليه السلام في مكّة، وقد بعثت جمعاً من جلاوزتها بالفعل الى مكّة لتنفيذ هذه المهمّة، إذا لم تُوفّق هذه الزمرة الغادرة بمساعدة السلطة المحلّية في مكّة في محاولة لإلقاء القبض على الإمام عليه السلام وإرساله الى دمشق، هذا على صعيد قرارات السلطة المركزية في الشام.

ولم يقلّ حال السلطات المحلّية في المدينة ومكّة والكوفة والبصرة في خوفها وقلقها واضطرابها عن حال السلطة المركزية في الشام، ففي مكّة يجتهد واليها في متابعة الصغيرة والكبيرة من حركات الإمام عليه السلام، ويطلب منه البقاء في مكة ويبذل له الأمان والصلة ويتعهّد له بذلك، ثمّ حيث يُصرّ الإمام عليه السلام على الخروج نرى هذا الوالي يبعث بقوة عسكرية لمنع الإمام عليه السلام من ذلك، ثمّ يكفّ عن منع الإمام عليه السلام خشية من تفاقم الأمر وانقلابه عليهم.

وفي البصرة نرى ابن مرجانة يبادر الى تهديد أهلها ويحذّرهم من مغبّة التمرّد والإستجابة لنداء الإمام عليه السلام والإنضمام إلى حركته، كما يبادر ابن مرجانة قبيل تركه البصرة الى قتل سليمان بن رزين قدس سره رسول الإمام عليه السلام إلى أشراف البصرة ورؤساء الأخماس فيها، ثم يبادر مسرعاً لايثنيه شي ء في سفره الى الكوفة ليستبق الزمن والأحداث في الوصول إليها، وليدير دفّة الأمور هناك في أصعب

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 117

أيّامه والكوفة تكاد تسقط حينها في يد سفير الإمام عليه السلام مسلم بن عقيل رضوان اللَّه تعالى عليه.

نشر ابن مرجانة في الكوفة جوّاً رهيباً من الرعب والخوف وحبس الأنفاس من خلال أعمال منوّعة بادر إليها، منها خطب وبيانات التهديد والوعيد بالتعذيب والتنكيل، ومنها حملة واسعة من

ممارسات القمع والاعتقالات، ومنها محاولات اختراق صفوف الثوّار بواسطة جواسيس ذوي خبرة وفنّ من اجل الوصول الى مكان ومخبأ قيادة الثورة في الكوفة، ومنها سلسلة من الإعدامات كان من أبرز ضحاياها نخبة من سفراء النهضة الحسينية، مثل مسلم بن عقيل عليه السلام، وقيس بن مسهر الصيداوي (رض)، وعبداللَّه بن يقطر (رض)، ومن أبرز ضحاياها أيضاً الوجيه الكوفي الصحابي الشيعي المبرز هاني بن عروة المرادي (رض).

هذا استعراض مجمل لأهم معالم تحرّك السلطة الأموية في مواجهة حركة الأحداث الناشئة عن قيام الإمام الحسين عليه السلام في الأيام المكيّة من عمر نهضته المباركة.

وفي المتابعة التأريخية لتفاصيل حركة السلطة الأموية في مواجهة قيام الإمام الحسين عليه السلام يحسن بنا على ضوء التسلسل التأريخي أن نقرأ حركة الأحداث في إطار الترتيب التالي:

1- حركة السلطة الأموية المحلّية في الكوفة.

2- حركة السلطة الأموية المركزية في الشام.

3- حركة السلطة الأموية المحلّية في البصرة.

4- حركة السلطة الأمويّة المحلّية الجديدة في الكوفة.

5- حركة السلطة الأمويّة المحلّية في مكّة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 118

حركة السلطة الأمويّة المحلّية في الكوفة ..... ص : 118
اشارة

كان والي الكوفة حينما دخلها مسلم بن عقيل عليه السلام هو النعمان بن بشير، «1» فلمّا رأى النعمان استقبال أهل الكوفة الكبير لمسلم عليه السلام وحفاوتهم البالغة به وتجاوبهم الرهيب معه، خرج إلى المسجد وخطب في الناس يحذّرهم من إثارة الفتنة والفرقة وشقّ عصا الأمّة.

يقول الطبري: «.. عن أبي الودّاك قال: خرج إلينا النعمان بن بشير فصعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعدُ، فاتّقوا اللَّه عبادَ اللَّه، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيهما يهلك الرجال وتُسفك الدماء وتغصب الأموال- وكان حليماً ناسكاً يحبّ العافية!- قال: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لايثب عليَّ، ولا أُشاتمكم،

ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف «2» ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فواللَّه الذي لا إله غيره لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 119

ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل.

قال: فقام إليه عبداللَّه بن مسلم بن سعيد الحضرمي «1»- حليف بني أميّة- فقال:

إنّه لا يُصلح ما ترى إلا الغشم، إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!!

فقال: أن أكون من المستضعفين في طاعة اللَّه أحبّ إليَّ من أن أكون من الأعزّين في معصية اللَّه.

ثمّ نزل، ..

وخرج عبداللَّه بن مسلم، وكتب إلى يزيد بن معاوية:

أمّا بعدُ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن عليّ، فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلًا قوياً، ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيف أو هو يتضعّف!

فكان أوّل من كتب إليه، ثمّ كتب إليه عمارة بن عقبة «2» بنحو من كتابه، ثمّ كتب

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 120

إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص «1» بمثل ذلك». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 121

وفي رواية الدينوري أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام لمّا وافى الكوفة، نزل في دار المختار، فكانت الشيعة تختلف إليه وهو يقرأ عليهم كتاب الإمام الحسين عليه السلام، «ففشا أمره بالكوفة حتى بلغ ذلك النعمان بن بشير أميرها، فقال: «لا أقاتل إلا من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 122

قاتلني، ولا أثب إلّا على من وثب عليَّ، ولا آخذ بالقرفة والظنّة، فمن أبدى صفحته ونكث بيعته ضربته بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم أكن

إلّا وحدي». وكان يحب العافية ويغتنم السلامة.

فكتب مسلم بن سعيد الحضرمي وعُمارة بن عقبة- وكانا عيني يزيد بن معاوية- إلى يزيد يعلمانه قدوم مسلم بن عقيل الكوفة داعياً للحسين بن عليّ، وأنه قد أفسد قلوب أهلها عليه، فإنْ يكن لك في سلطانك حاجة فبادر إليه من يقوم بأمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإن النعمان رجل ضعيف أو متضاعف، والسلام». «1»

أمّا البلاذري فقد قال في روايته: «فكتب وجوه أهل الكوفة: عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري، ومحمّد بن الأشعث الكندي، «2» وغيرهما إلى يزيد بخبر مسلم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 124

وتقديم الحسين إيّاه إلى الكوفة أمامه، وبما ظهر من ضعف النعمان بن بشير وعجزه ووهن أمره». «1»

تأمّلٌ وملاحظات ..... ص : 124
1)- سكون ما قبل العاصفة في الكوفة ..... ص : 124

أحدث دخول مسلم بن عقيل عليه السلام مدينة الكوفة داعياً للإمام الحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 125

تحوّلًا كبيراً في ظاهر الحياة السياسية في تلك المدينة بعد أن «انثالت الشيعة على مسلم تبايعه للإمام الحسين عليه السلام، وكانت صيغة البيعة الدعوة الى كتاب اللَّه وسنّة رسوله، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، وقسمة الغنائم بين المسلمين بالسوية، وردّ المظالم إلى أهلها، ونصرة أهل البيت عليهم السلام، والمسالمة لمن سالموا، والمحاربة لمن حاربوا ..»، «1» حتى كان عدد من بايعه من أهلها على أقل التقادير ثمانية عشر ألفاً، وعلى أعلاها أربعين ألفاً.

وكأنّ الكوفة- على أساس هذا التحوّل الظاهري- كانت قد سقطت سياسياً وعسكرياً أو تكاد في يد سفير الإمام الحسين عليه السلام، ولم يبق دون أن يتحقّق ذلك فعلًا إلّا أن يأمر مسلم بن عقيل عليه السلام بهبوب عاصفة الثورة والتغيير، لكنّ التزام مسلم عليه السلام بحدود صلاحياته التي رسمها الإمام عليه السلام حال دون هبوب العاصفة التي

تنتزع الكوفة فعلًا من يد الحكم الأموي، فظلّت الكوفة تعيش أيّامها تلك في سكون يُنذر باحتمال هبوب العاصفة في أية لحظة إذا ما أخلّ بذلك السكون سبب غير محتسب.

2)- «الغشم» وسيلة خروج الأمويين من مأزقهم الكبير! ..... ص : 125

فزع الأمويّون وعملاؤهم وجواسيسهم من تجاوب الرأي العام في الكوفة مع مسلم بن عقيل عليه السلام، ورأوا أنّ زمام الأمور سيكون بيد الثوّار تماماً إن لم تبادر السلطة الأموية المحلّية في الكوفة إلى اتخاذ التدابير اللازمة الكفيلة بإعادة الوضع الكوفي إلى سابق عهده أو منع تدهوره إلى حدّ سقوط الكوفة فعلًا بيد الثوّار.

ولعلم الأمويين «بالحالة النفسية الكوفية» العامة آنذاك ولخبرتهم الطويلة في التعامل معها، كان رأيهم أنه لا وسيلة لهم للخروج من هذا المأزق الكبير إلّا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 126

«الغشم» وهو الظلم والغصب، وأنه لابدّ للكوفة من حاكم أمويّ «غشوم» وهو الظالم المبادر بالظلم، الآخذ بالقهر كلَّ ما قدر عليه.

وقد أرادوا من النعمان بن بشير ذي التأريخ الأسود في معاداة أهل البيت عليهم السلام أن يكون هو هذا الحاكم الغشوم المنشود، وطلبوا إليه- بعد أن أنكروا عليه تراخيه في مواجهة مستجدّات الأحداث- «1» أن يبادر إلى تهديد الكوفيين وإرهابهم وقمعهم.

لكنّ الأمويين وعملاءهم في الكوفة أحسّوا بالخيبة حينما خطب النعمان بأهل الكوفة خطبته التي كشف فيها عن ضعفه أو تضاعفه، وجرّأ الكوفيين على مواصلة التعبئة للثورة والتأهب لها، فبادروا- وهم على خوف من تسارع الأيام والأحداث- إلى رفع تقاريرهم الى السلطة المركزية في الشام، والتي طلبوا فيها من يزيد أن يسارع إلى إقالة النعمان بن بشير وتعيين حاكم آخر غشوم يأخذ أهل الكوفة بالإحتيال والقوّة والقهر.

3)- سرّ التراخي في موقف النعمان بن بشير ..... ص : 126

للنعمان بن بشير بن سعد الخزرجي ولأبيه بشير تأريخ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإنّ أباه بشير بن سعد الخزرجي لحسده سعد بن عبادة على موقعه المرموق في الخزرج خاصة والأنصار عامة، ولبغضه لأهل البيت عليهم السلام، كان أوَّل من

بادر إلى مبايعة أبي بكر في السقيفة، وظلّ موالياً لحزب السلطة ومعادياً لأهل بيت النبوّة عليهم السلام، وابنه النعمان «كان قد ولاه معاوية الكوفة بعد عبدالرحمن بن الحكم، «2» وكان عثمانيّ الهوى، يجاهر ببغض عليّ عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 127

ويسي ء القول فيه، وقد حاربه يوم الجمل وصفين، وسعى بإخلاص لتوطيد الحكم لمعاوية، وهو الذي قاد بعض الحملات الإرهابية على بعض المناطق العراقية، ويقول المحقّقون: إنّه كان ناقماً على يزيد، ويتمنّى زوال الملك عنه شريطة أن لا تعود الخلافة إلى آل عليّ عليهم السلام ..». «1»

ويُروى أنّ سبب نقمة النعمان على يزيد هو أنّ يزيد كان يبغض الأنصار بغضاً شديداً، ويُغري الشعراء بهجائهم، الأمر الذي أثار حفيظة النعمان بن بشير فطلب من معاوية قطع لسان الشاعر الأخطل النصراني الذي هجاهم، وأجابه معاوية إلى ذلك، لكنّ يزيد أجار الأخطل عند أبيه، فعفا معاوية عن الأخطل بدعوى أنه «لا سبيل إلى ذمّة أبي خالد- يعني يزيد»، وكُبت بذلك النعمان، فلم يزل ناقماً على يزيد. «2»

ويروي التأريخ أنّ عمرة بنت النعمان بن بشير كانت زوجة المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي نزل عنده مسلم بن عقيل عليه السلام، ويرى بعض المتتبعين أنّ هذه الصلة أيضاً كانت سبباً في تراخي موقف النعمان من الثوار، إضافة إلى السبب الأهم وهو نقمته على يزيد. «3»

ولعلّ بإمكاننا هنا أن نضيف سبباً آخر إلى أسباب تراخي موقف النعمان من الثوار، وهو أنّ النعمان وإن كان أنصارياً إلّا أنه كان أحد أفراد حركة النفاق، عُرف عنه أنه عثمانيّ الهوى، متفانٍ في حبّ بني أميّة، ومتبّنٍ لسياسة معاوية في قيادة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 128

حركة النفاق تبنياً تاماً، وكان من معالم هذه السياسة أنّ معاوية كان يتحاشى

المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام، وأنّ معاوية لو اضطرّ إلى مواجهة علنية أي إلى قتالٍ ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، وظفر بالإمام عليه السلام لعفا عنه، وليس ذلك حباً للإمام عليه السلام وإنّما لأنّ معاوية- وهو من دهاة السياسة النكراء والشيطنة- يعلم أنّ إراقة دم الإمام عليه السلام علناً وهو بتلك القدسية البالغة في قلوب الأمّة كفيل بأن يفصل الأمويّة عن الإسلام ويذهب بجهود حركة النفاق عامة والحزب الأموي خاصة أدراج الرياح، خصوصاً الجهود التي بذلها معاوية في مزج الأموية بالإسلام فى عقل الأمّة وعاطفتها مزجاً لم يعد أكثر هذه الأمّة بعدها يعرف إلا (الإسلام الأموي)، حتّى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأموية إلا إذا أريق ذلك الدم المقدّس- دم الإمام عليه السلام- على مذبح القيام ضد الحكم الأموي. «1»

ولقد صرّح معاوية بذلك حتى للإمام الحسين عليه السلام نفسه قائلًا: «.. ولكنني قد ظننتُ ياابن أخي أنّ في رأسك نزوة، وبودّي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك، ولكنني واللَّه أتخوّف أن تُبلى بمن لاينظرك فواق ناقة». «2»

وقال في وصيته لابنه يزيد بصدد الإمام الحسين عليه السلام: «.. ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه فإنّ له رحماً ماسّة وحقاً عظيماً وقرابة من محمّد». «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 129

وكان النعمان بن بشير مؤمناً بصحة نظر معاوية في هذا الصدد، وقد أراد أن يذكّر يزيد نفسه بذلك، حينما استدعاه يزيد الى القصر بعد مقتل الإمام عليه السلام وبعد نصب الرأس المقدّس بدمشق، فلمّا جاءه سأله يزيد قائلًا: كيف رأيت ما فعل عبيداللَّه بن زياد؟

قال النعمان: الحرب دُوَل.

فقال يزيد: الحمد للَّه الذي قتله!

قال

النعمان: قد كان أميرالمؤمنين- يعني به معاوية- يكره قتله. «1»

ولا شك أن معاوية- كما قلنا من قبل- يكره قتل الإمام عليه السلام في مواجهة علنية، أمّا في مواجهة سريّة فما أكثر من قتلهم معاوية بالسّم أو الاغتيال، ومنهم الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، فمعاوية لايتورّع قيد أنملة في المبادرة الى قتل الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة سرية بسمّ أو اغتيالًا مادعته الضرورة إلى ذلك.

من كلّ ما تقدّم نرجّح أنّ موقف النعمان بن بشير من الثوّار ومن بوادر الثورة إنّما اتسم ظاهراً باللين والتسامح لأنه كان يرى- إيماناً بنظرة معاوية- أنّ المواجهة العلنيّة مع الإمام الحسين عليه السلام ليست في صالح الحكم الأموي.

فلم يكن النعمان ضعيفاً، بل كان يتضعّف مكراً وحيلة، معوّلًا على الأسلوب السرّي والخدعة الخفية للقضاء على الثورة والتخلّص من مسلم بن عقيل عليه السلام، بل حتى من الإمام الحسين عليه السلام.

فالنعمان لم يكن «حليماً ناسكاً يحبّ العافية!» كما صوّرته رواية الطبري، أو «يحب العافية ويغتنم السلامة!» كما صوّرته رواية الدينوري، بل كان شيطاناً يحذو

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 130

حذو معاوية كبيرهم الذي علّمهم الشيطنة في رسم الخطط الماكرة، لكنّه أخطأ هذه المرّة في حساباته، تماماً كما صوّرت ذلك التقارير المرفوعة إلى يزيد من عملاء وجواسيس الحكم الأمويّ في الكوفة، لأنّ الزمن آنذاك كان يجري في صالح النهضة الحسينية، وكان لابدّ من المسارعة الى عزل النعمان والإتيان بوالٍ غشوم كعبيد اللَّه بن زياد، يبادر إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تقلب مسار حركة الأحداث في العاجل لصالح الحكم الأموي، وهكذا كان.

ونحن- مع هذا- لاننفي احتمال أن يكون لسخط النعمان على يزيد، ولوجود صلة المصاهرة بينه وبين المختار تأثير على موقفه من الثوار، لكننا نرجّح أنّ

السبب الذي بيّناه كان هو السبب الأهم.

حركة السلطة الأموية المركزية في الشام ..... ص : 130
اشارة

لنعد إلى متابعة حركة الأحداث حسب تسلسلها التأريخي، وننظر ماذا صنعت في دمشق التقارير التي رفعها إلى يزيد من الكوفة الأمويون فيها مثل عمارة بن عقبة، وعملاؤهم مثل عمر بن سعد بن أبي وقاص، وجواسيسهم مثل عبداللَّه بن مسلم بن سعيد الحضرمي!

يتابع الطبريّ رواية القصة قائلًا: «فلمّا اجتمعت الكتب عند يزيد، ليس بين كتبهم إلّا يومان، دعا يزيد بن معاوية سرجون «1» مولى معاوية.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 131

فقال: مارأيُك؟ فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ وقول سي ءٌ- وأقرأه كتبهم- فماترى؟ من أَستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عبيداللَّه بن زياد.

فقال سرجون: أرأيت معاوية لو نُشر لك أكنت آخذاً برأيه؟

قال: نعم.

فأخرج عهد عبيداللَّه على الكوفة ..

فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب.

فأخذ برأيه، وضمّ المصرين إلى عبيداللَّه، وبعث إليه بعهده على الكوفة» «1».

ثمّ يتابع الطبري رواية القصة قائلًا:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 132

«ثمّ دعا مسلم «1» بن عمرو الباهلي وكان عنده، فبعثه إلى عبيداللَّه بعهده إلى البصرة، وكتب إليه معه:

أمّا بعدُ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي! من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فَسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه.

والسلام.

فأقبل مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيداللَّه بالبصرة. فأمر عبيداللَّه بالجهاز والتهي ء والمسير الى الكوفة من الغد». «2»

هذا وقد نقل الموسوي الكركي في كتابه (تسلية المجالس) رسالة يزيد إلى ابن زياد بتفاوت مهم، ونصّها:

«سلام عليك. أمّا بعد: فإنّ الممدوح مسبوب يوماً، والمسبوب ممدوح يوماً، ولك ما لك،

وعليك ما عليك، وقد انتميت ونُميتَ إلى كلّ منصب كما قال الأوّل:

رُفِعتَ فجاوزتَ السحاب برفعةٍ فمالك إلّا مقعدُ الشمسِ مقعَدُ

وقد ابتلي زمانك بالحسين من بين الأزمان، وابتلي بلدك دون البلدان. وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيل في الكوفة يجمع الجموع ويشق عصا المسلمين وقد اجتمع إليه خلق كثير من شيعة أبي تراب، فإذا أتاك كتابي هذا فسر حين تقرأه حتى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد ضممتها إليك، وجعلتها زيادة في عملك فاطلب مسلم بن عقيل طلب الخرز، فإذا ظفرت به فخذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع واعلم أنه لا عذر لك عندي دون ما أمرتك، فالعجل العجل، الوحا الوحا، والسلام». «1»

وقد روى الوالد قدس سره في كتابه (مقتل الإمام الحسين عليه السلام) نقلًا عن كتاب ناسخ التواريخ أن يزيد في رسالته لابن زياد قال: «بلغني أنّ أهل الكوفة قد اجتمعوا على البيعة للحسين، وقد كتبت إليك كتاباً، فاعمل عليه، فإني لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرأ منك، فإذا قرأت كتابي هذا فارتحل من وقتك وساعتك، وإيّاك والإبطاء والتواني، واجتهد ولا تبق من نسل عليّ بن أبي طالب أحداً، واطلب مسلم بن عقيل وابعث إليَّ برأسه». «2»

تأمّل وملاحظات ..... ص : 132
1)- سرجون النصراني .. والإقتراح المتوقَّع! ..... ص : 132

في إطار حركة النفاق- بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- كان فصيل منافقي أهل الكتاب يرى أنّ غاية وجوده وعلّة تأسيسه هي دعم خطّ الإنحراف عن أهل البيت عليهم السلام، وتكفي نظرة عابرة على سيرة أمثال: كعب الأحبار، وتميم الداري،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 134

ووهب بن منبّه، ونافع بن سرجس مولى عبداللَّه بن عمر، وسرجون مستشار معاوية ويزيد، وأبي زبيد مستشار الوليد بن عقبة، دليلًا على منهج هذا الفصيل في نوع حركته

على أساس العداء لأهل البيت عليهم السلام.

فكان من المتوقّع بما يشبه اليقين- على ضوء التحليل التأريخي والنفسي- أن يبادر سرجون نفسه فيقترح على يزيد تعيين عبيداللَّه بن زياد والياً على الكوفة بدلًا من النعمان بن بشير لمواجهة المستجدّات الصعبة هناك، لما يعلمه سرجون من حقد عبيداللَّه على أهل البيت عليهم السلام وبغضه الشديد لهم، وهذا أهم مزايا عبيداللَّه في نظر سرجون، ولما يعلمه فيه من عدم التورع عن الغشم والظلم والقتل، وقدرة إدارية عمادها المكر والحيلة، فهو الرجل المناسب لإدارة الأمور في الكوفة في ذلك الظرف الإستثنائي المعقّد.

لكنّ سرجون يعلم أيضاً أنّ هذا الإقتراح قد لايقبله يزيد لأنّه كان يبغض عبيداللَّه بغضاً شديداً «1» أو كان عاتباً عليه، «2» فسعى سرجون إلى دعم هذا الإقتراح بكتاب معاوية- الذي أمر به قبيل وفاته- بتولية عبيداللَّه بن زياد على الكوفة، مؤكداً بذلك مطابقة رأي معاوية لرأيه في هذه المسألة أو العكس.

فسرجون وهو ممثل فصيل منافقي أهل الكتاب في البلاط الأمويّ لم يكن غير ذي رأي في المسألة، بل كان قد اقترح ما يراه هو- بطريقة غير مباشرة- في إطار رأي معاوية في نفس المسألة، وما يدرينا فلعلّه كان قد أشار على معاوية أيضاً بنفس هذا الرأي فتبنّاه معاوية، ثمّ أظهره سرجون ليزيد في الوقت المناسب على أنه رأي أبيه، واللَّه العالم.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 135

2)- ماذا يعني عهد معاوية- أواخر أيّامه- لعبيداللَّه على الكوفة!؟ ..... ص : 135

لقد أحسَّ معاوية بن أبي سفيان قبيل وفاته بإرهاصات تمرّد الكوفيين على الحكم الأموي، ذلك لأنّ عامة أهل العراق بنوع خاص نتيجة مالمسوه من فداحة الظلم الأموي صاروا يرون بغض بني أميّة وحبّ أهل البيت عليهم السلام ديناً لأنفسهم. «1»

فكان لابدَّ للكوفة خاصة من إدارة قويّة تمسك بأزمّة الأمور فيها، الأمر الذي

لم يوفّق فيه النعمان بن بشير واليها وقتذاك، فبادر معاوية إلى استباق الأحداث وعهد الى عبيداللَّه بن زياد بالولاية على الكوفة، ليضبط الأمور فيها، لكن الموت أدرك معاوية قبل التنفيذ العملي لهذا العهد، وبقي كتاب هذا العهد محفوظاً عند مستشاره سرجون النصراني، الذي ربّما كان هو الذي حرّك معاوية باتجاه اتخاذ مثل هذا القرار.

هذا، وهناك رأي آخر يقول: إنّ قرار معاوية- بمشورة سرجون- بتعيين عبيداللَّه بن زياد والياً على الكوفة يعتبر الخطوة العملية الأولى لقتل الإمام الحسين عليه السلام، ذلك لأنّ معاوية يعلم أنّ الإمام عليه السلام- بعد موت معاوية- لن يبايع ليزيد، ولابدّ له من القيام، ولابدّ لأهل الكوفة من تأييده ودعوته إليهم، فلابُدَّ إذن من المواجهة العلنية مع الإمام عليه السلام.

ومعاوية يعلم أنّ يزيد وعبيداللَّه بن زياد بما يحملانه من حقد شديد على أهل البيت عليهم السلام واعتساف في معالجة الأمور وقلّة في التدبّر والدهاء والصبر سوف يقدمان على قتل الإمام الحسين عليه السلام، بل كان معاوية قد أخبر الإمام عليه السلام بذلك في إحدى رسائله إليه. «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 136

إذن فمعاوية بهذا مشارك فعّال في جريمة قتل الإمام عليه السلام!

ونقول: إنّ هذا صحيح من حيث النظر الى النتيجة العملية، وقد أدرك معاوية هذه النتيجة في حياته، في إصراره على البيعة لإبنه يزيد ولياً للعهد من بعده- وتولية يزيد على كلّ البلاد أهمّ من تولية عبيداللَّه على الكوفة- وكان معاوية يعلم بأنّ يزيد سيرتكب تلك الجريمة- التي تحاشا معاوية أن يرتكبها هو في حياته- لأنه يعلم أنّ قتل الإمام عليه السلام في مواجهة علنية، سوف يقضي بالنتيجة على الحكم الأموي نفسه، وعلى كلّ جهود حركة النفاق منذ وفاة الرسول صلى الله عليه

و آله، إلى موت معاوية، ولذا كان معاوية إذا تأمّل في النتيجة العملية تأكلُ قلبه الحسرة إزاء ضعفه أمام عاطفته ليزيد وهواه فيه، فكان يقول: «ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي وعرفت قصدي ..». «1»

وقد حاول معاوية قبل موته أن يحتاط لهذا الأمر وأن يحول دون أن يرتكب يزيد من بعده حماقة قتل الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة علنية، فأوصاه بذلك، «2» ولعلّه أكّد عليه في هذه المسألة بأكثر من سبيل، ولات حين فائدة!!

3)- يزيد يستخدم أسلحة أبيه في الإرهاب الديني!! ..... ص : 136

من التضليل الديني الذي ابتدعه معاوية لتثبيت ملكه، ولاستخدامه في إرهاب الأمّة إرهاباً دينياً من أجل تحذيرها وتخديرها عن التفكير بالقيام ضده، الأحاديث الكثيرة التي وضعها له وافتراها على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عملاؤه من صحابة وتابعين معروفين بنفاقهم وتهالكهم على دنيا معاوية، كأبي هريرة، وعمرو بن العاص،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 137

وعبداللَّه بن عمر، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، وغيرهم من النفعيين، الذين تفنّنوا في وضع مفتريات تدعو الأمّة الى الصبر على ظلم الحاكم الجائر والخضوع له وعدم الخروج عليه، فمن مفتريات ابن عمر- على سبيل المثال لا الحصر- «ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمّة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً ما كان» و «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنّ من فارق الجماعة شبراً فمات إلا ميتة جاهلية!» و «أدّوا إليهم حقّهم- أي الحكام- واسألوا اللَّه حقّكم!» «1» وأمثال ذلك.

فأراد يزيد أن يعزف على نفس النغمة في رسالته الى عبيداللَّه بن زياد بقوله:

«فإنه كتب إليَّ شيعتي! من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ..»، وكأنّ يزيد أراد أن ينبّه ابن زياد ليقوم باستخدام تهمة

«شقّ عصا المسلمين» في مواجهة مسلم إعلامياً، ويعرّفه أن عقوبة هذه التهمة هي القتل، وما يجري على مسلم من التهم عند الأمويين يجري بالضرورة على سيّده الإمام الحسين عليه السلام، بل لقد وجّه الأمويون هذه التهمة إلى الإمام عليه السلام بشكل سافر لمّا أرادوا منعه عن الخروج من مكّة المكرّمة فأبى عليهم، حيث نادوه: «ياحسين، ألا تتقي اللَّه؟ تخرج من الجماعة، وتفرّق بين هذه الأمّة!!». «2»

ولقد أسرف ابن زياد في استخدام هذه التهمة إعلامياً ضدّ مسلم بن عقيل عليه السلام والثوّار في الكوفة لتنفير الناس عنهم، وخاطب مسلماً عليه السلام بهذه التهمة مباشرة بعد أن تمكّنوا منه وأحضروه في القصر قائلًا: «ياعاقّ، ياشاقّ، خرجت على إمامك، وشققت عصا المسلمين، وألقحت الفتنة!»، لكنّ البطل الشجاع مسلم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 138

بن عقيل عليه السلام ردّ عليه قائلًا: «كذبت ياابن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحها أنت وأبوك زياد ..». «1»

4)- من هو عبيداللَّه بن زياد!؟ ..... ص : 138

كان زياد بن أبيه قبل استلحاق معاوية إيّاه وادعّائه أنه أخوه من أبيه يرى نفسه من الموالي، لأنه ولد على فراش عبيد الرومي، «2» فكان زياد يحنو على الموالي ويدافع عنهم ويدرء عنهم الغوائل، كما فعل في ردّ عمر بن الخطاب عن خطّته في الفتك بالموالي والأعاجم التي كتب بها الى أبي موسى الأشعري. «3»

ولعلّ هذا العامل النفسي كان أقوى عوامل انتماء زياد بن أبيه إلى صفّ أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام والعمل تحت لوائه حينذاك.

وكان معاوية بدهائه وخبثه ومعرفته بنفسية زياد بن أبيه قد انتبه الى هذا العامل النفسي المؤثّر جدّاً في نوع انتماء زياد فكرياً وسياسياً، فبادر إلى القول بتلك الدعوى المختلقة، دعوى الإستلحاق، ليُطلق زياداً من عقدة انتمائه الى الموالي،

وينسبه إلى نسبه (إلى أبيه) أي إلى بيت معروف من بيوتات قريش، وبهذا ضمن معاوية- بماله من معرفة بزياد- تحوّله إلى صفّه وباطله.

وهكذا كان، فبعد أن تحوّل زياد إلى باطل معاوية متحرراً من عقدة الموالي بطش بالموالي أشدّ البطش، وكان جلّ الشيعة منهم، وساعده على ذلك معرفته السابقة بهم وبأشخاصهم ورموزهم وأمكنتهم.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 139

وفي الرسالة الإحتجاجية الشاملة التي بعثها الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية أشار عليه السلام إلى هذا البعد النفسي من وراء الإستلحاق إضافة إلى مخالفة هذا الإستلحاق للشريعة المقدّسة، تأمّل في قوله عليه السلام في هذه الرسالة:

«أولستَ المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف!؟ فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، وتركت سُنّة رسول اللَّه تعمّداً وتبعت هواك بغير هدى من اللَّه، ثُمَّ سلّطته على العراقين، يقطّع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمّل أعينهم، ويصلّبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك ..». «1»

ولقد نشأ عبيداللَّه بن زياد في ظلّ الإعتزاز بالنسب السفياني، وكان يفخر به، «2» وأجّج فيه وهم هذا الإنتساب نيران حقد شديد على أهل البيت عليهم السلام خاصة والشيعة عامة، فسجّل له التأريخ ملفاً أسود مليئاً بأبشع الجرائم التي يندى لها جبين التأريخ نفسه!

وروي أنّ عبيداللَّه ولد سنة 20 ه، «3» وكانت أمّه مرجانة مجوسية معروفة بالبغاء، فارقها زياد وتزوّج بها شيرويه (الأسواري)، «4» ودفع زياد إليها عبيداللَّه فنشأ في بيت شيرويه (ولم يكن مسلماً) وتربّى في بيته، فكانت فيه لكنة لايستطيع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 140

بسببها أداء بعض الحروف العربية كماهي، فكان يقول للحروري مثلًا: هروري، فيضحك سامعوه. «1»

وهلك أبوه زياد سنة 53 ه،

فوفد ابنه عبيداللَّه على معاوية فولاه خراسان سنة 54 ه، «2» ثمّ ولاه البصرة سنة 55 ه، فترك على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي ورجع إلى البصرة. «3» ولما مات معاوية كان عبيداللَّه لم يزل والياً عليها.

ومع أنّ حقد عبيداللَّه بن زياد على أهل البيت عليهم السلام كان كافياً في دفعه الى ارتكاب جريمة قتل الإمام الحسين عليه السلام، لكنّ خوفه من نقمة يزيد عليه وبغضه له، ورغبة عبيداللَّه فى ترضية يزيد والتودّد إليه، شكّلا دافعاً مضافاً في العزم على قتل الإمام عليه السلام وإظهار الإخلاص التام ليزيد. «4»

وكان يزيد قد استخدم مع عبيداللَّه نفس سلاح أبيه معاوية مع زياد في تهديده بسحب هوية النسب الأموي المكذوب منه فيعود كما هو عبداً لثقيف، حينما حثّه على امتثال أمره في قتل الإمام عليه السلام إذ كتب إليه: «إنه قد بلغني أنّ حسيناً سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك بين البلدان، وابتليت به من بين العمّال، وعنده تُعتق أو تعود عبداً، فقتله عبيداللَّه وبعث برأسه وثقله إلى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 141

يزيد». «1»

وكان عبيداللَّه قبيح السريرة، فاسقاً ظالماً غشوماً جباناً إذا ضعف، جبّاراً إذا تمكّن، قال الحسن البصري: «قدم علينا عبيداللَّه، أمّره معاوية غلاماً سفيهاً، سفك الدماء سفكاً شديداً .. وكان عبيداللَّه جباناً». «2»

«وكان الحسن البصري يسمّيه الشابّ المترف الفاسق، وقال فيه: مارأينا شراً من ابن زياد!». «3»

و «جي ء إليه بسيّد من سادات العراق، فأدناه منه ثمّ ضرب وجهه بقضيب كان في يده حتى كسر أنفه وشقّ حاجبيه، ونثر لحم وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه». «4»

«وغضب على رجل تمثّل بآية من القرآن، فأمر أن يُبنى عليه ركن من أركان قصره!». «5»

«وكان يقتل

النساء في مجلسه، ويتشفّى بمشاهدتهن يعذّبن وتقطّع أطرافهن!». «6»

«عاش مكروهاً عند أهل العراق» «7» و «مهيناً عند أهل الحجاز». «8»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 142

«لما مات يزيد أغرى بعضَ البصريين أن يبايعوه، ثم جبن عن مواجهة الناس فاستتر ثم هرب الى الشام .. وكان عبيداللَّه من الأكلة، كان يأكل جدّياً أو عناقاً يُتخيّر له في كلّ يوم فيأتي عليه! وأكل مرّة عشر بطّات وزبيلًا من عنب، ثمّ عاد فأكل عشر بطّات وزبيلًا من عنب وجدياً!!».»

«قال التنوخي: إنّ عبيداللَّه بن زياد لمّا بنى داره البيضاء بالبصرة بعد قتل الحسين صوّر على بابها رؤوساً مقطّعة، وصوّر في دهليزها أسداً وكبشاً وكلباً، وقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح.

فمرّ بالباب أعرابيّ فرأى ذلك فقال: أما إنّ صاحبها لا يسكنها إلّا ليلة واحدة لا تتم!

فرفع الخبر إلى ابن زياد، فأمر بالأعرابي فضُرب وحُبس، فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى قيس بن السكون ووجوه أهل البصرة في أخذ البيعة له، ودعا الناس الى طاعته فأجابوه، وراسل بعضهم بعضاً في الوثوب عليه في ليلتهم (أي على ابن زياد)، فأنذره قوم كانت له صنائع عندهم، فهرب من داره في ليلته تلك، واستجار بالأزد فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين بني تميم بسببه، حتى أخرجوه فألحقوه بالشام، وكُسِر الحبس فخرج الأعرابي، ولم يعد ابن زياد الى داره، وقتل في وقعة الخازر». «2»

ولما رأى ابن زياد- بعد فاجعة كربلاء- أنه لم يجنِ إلا غضب اللَّه وسخط الناس عليه «3» سعى إلى التنصّل من مسؤولية قتل الإمام عليه السلام، فكان يدّعي قائلًا: «أمّا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 143

قتلي الحسين فإنّه أشار إليّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترتُ قتله!». «1»

ولمّا جاء نعي يزيد هرب عبيداللَّه بعد

أن كاد يؤسر، واخترق البرية إلى الشام، وانضم إلى مروان وقاتل معه، فلمّا ظفر مروان ردّه إلى العراق، فلمّا دخل أرض العراق وجّه المختار إليه إبراهيم بن مالك الأشتر، فالتقوا بقرب الزاب، وقتل إبراهيم بن الأشتر عبيداللَّه بن زياد بضربة نجلاء قدَّه بها نصفين، وكان ذلك في يوم عاشوراء سنة 67 ه. «2»

«وأُنفذ رأس عبيداللَّه بن زياد الى المختار ومعه رؤوس قوّاده، فأُلقيت في القصر، فجاءت حيّة دقيقة فتخلّلت الرؤوس حتى دخلت في فم عبيداللَّه بن زياد ثم خرجت من منخره، ودخلت في منخره وخرجت من فيه، فعلت هذا مراراً، أخرج هذا الترمذيّ في جامعه». «3»

وكانت جثّته قد أحرقت بعد قطع رأسه. «4»

وهلك هذا الطاغية حين هلك ولم يكن له عقب. «5»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 144

ومع أننا نجد في كتاب اللَّه الحكيم أنّ اللَّه تعالى لعن المفسدين في الأرض القاطعين الرحم في قوله تعالى: «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم* أولئك الذين لعنهم اللَّه فأصمّهم وأعمى أبصارهم»، «1»

ولا نظن أنّ مسلماً عاقلًا عالماً يشك في أنّ يزيد وعبيداللَّه بن زياد وأضرابهم كانوا المصداق الأتمّ لمفهوم المفسد في الأرض والقاطع الرحم، كيف لا وقد قتلوا عامدين ريحانة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الإمام الحسين عليه السلام شرّ قتلة مع أنصاره من أهل بيته وأصحابه وسبوا حريم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أفجع حالة، يتصفّح وجوههنّ الأعداء والغرباء من كربلاء الى الشام!؟ وهل هناك عند اللَّه وعند المؤمنين رَحِم أعزّ وأولى بالصلة من رحم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله!؟ وهل هناك إفساد مُتصوَّر أكثر وأكبر وأنكر مما اجترحه يزيد وعبيداللَّه وأضرابهم!؟

مع كلّ هذا، يقول الذهبي في

شدّة ورع وتقوى!!: «الشيعي لايطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في اللَّه!، ونبرأ منهم ولا نلعنهم، وأمرهم إلى اللَّه!». «2» ونقول: شنشنة أعرفها من أخزمِ!! «3»

هل غيّرت السلطة الأموية المركزية والي مكّة؟ ..... ص : 144

يذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ معاوية مات حين مات: «وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكّة يحيى بن حكيم بن صفوان بن أميّة، «4» وعلى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 145

الكوفة النعمان بن بشير الأنصاريّ، وعلى البصرة عبيداللَّه بن زياد». «1»

وهذا يعني أنّ السلطة الأموية المركزية في دمشق قد عزلت يحيى بن حكيم عن ولاية مكّة، وأحلّت مكانه عمرو بن سعيد الأشدق، ضمن الإجراءات الجديدة التي اتخذتها على أثر وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى مكة المكرّمة.

غير أنّ مؤرّخين آخرين رووا أنّ عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق هو الذي كان والياً على مكّة حين مات معاوية، «2» ثم جمع له يزيد الولاية على مكّة والمدينة بعد عزله الوليد بن عتبة عن منصب الولاية في المدينة.

ومما يؤيد هذا ماروي أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا ورد مكّة قال له عمرو بن سعيد: ما إقدامك!؟ فقال عليه السلام: عائذاً باللَّه وبهذا البيت. «3»

فتأمّل.

عزل الوليد بن عتبة عن ولاية المدينة ..... ص : 145

كان الوليد بن عتبة «4» أمويّاً مخلصاً كلّ الإخلاص للحكم الأمويّ عن وعيٍ تام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 146

لانتمائه القبلي وحرص بالغ على تقديم بني أميّة على من سواهم، وكان في نفس الوقت يتمنّى أن لايصطدم مع بني هاشم عامة وأهل البيت خاصة، ويطلب العافية من ذلك ويرجوها.

وفي صدد الموقف من الإمام الحسين عليه السلام خاصة كان الوليد يتبنّى نظرة معاوية الذي كان يرى أنّه ليس من مصلحة الحكم الأموي أن يدخل في مواجهة علنية مع الإمام الحسين عليه السلام، مع ماروي أنّ الوليد كان يرى لأهل البيت عليهم السلام حرمة ومنزلة عند اللَّه تعالى!، ولذا فقد اتّسم موقفه من رفض الإمام الحسين عليه السلام بالتسامح واللّين، الأمر الذي أغضب السلطة الأموية المركزية

في دمشق وأسخطها على الوليد، فقام يزيد بعزل الوليد عن ولاية المدينة في شهر رمضان من نفس السنة، «1» وأضاف ولاية المدينة لعمرو بن سعيد الأشدق مع ولاية مكّة المكرّمة.

رسالة يزيد إلى عبداللَّه بن عبّاس ..... ص : 146

ومن الإجراءات التي بادرت إليها السلطة الأموية المركزية في الشام بعد وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة إرسال الكتب إلى من يحتمل أن يكون له تأثير على موقف الإمام الحسين عليه السلام من بني هاشم خاصة أو من وجهاء الأمّة الإسلامية عامة، «2» وقد سجّل لنا التأريخ في هذا الإطار قصة الرسالة التي بعث بها يزيد الى عبداللَّه بن عباس يطلب إليه فيها أن يردَّ الإمام عليه السلام عن الخروج على النظام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 147

الأموي، وأن يحذّره من مغبّة ذلك، ويمنّيه بالأمان والصلة البالغة والمنزلة الخاصة عند السلطان الأموي!

«قال الواقدي: ولمّا نزل الحسين مكّة كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس:

أمّا بعدُ: فإنّ ابن عمّك حسيناً وعدوّ اللَّه ابن الزبير التويا ببيعتي ولحقا بمكّة مرصدين للفتنة، معرّضين أنفسهما للهلكة، فأمّا ابن الزبير فإنه صريع الفناء وقتيل السيف غداً، وأمّا الحسين فقد أحببت الإعذار إليكم أهل البيت مما كان منه، وقد بلغني أنّ رجالًا من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ويمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمرة، وقد تعلمون مابيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتايج الأرحام، وقد قطع ذلك الحسين وبتّه، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد أهل بلادك، فالقه فاردده عن السعي في الفرقة، وردّ هذه الأمّة عن الفتنة، فإنْ قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة، وأجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه، وإنْ طلب الزيادة فاضمن له ما أراك اللَّه أنفذ ضمانك، وأقوم له بذلك وله عليَّ الأيمان المغلّظة والمواثيق

المؤكّدة بما تطمئن به نفسه ويعتمد في كلّ الأمور عليه.

عجّل بجواب كتابي وبكلّ حاجة لك إليَّ وقِبَلي، والسلام». «1»

وأضاف صاحب تذكرة الخواص قائلًا:

«قال هشام بن محمد: وكتب يزيد في أسفل الكتاب:

ياأيها الراكب الغادي لمطيته «2» على عذافرة في سيرها قحمُ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 148

أَبلغ قريشاً على نأي المزار بها بيني وبين الحسين اللَّهُ والرحمُ

وموقف بفناء البيت أنشده عهد الإله غداً يوفى به الذممُ

هنيتمُ قومكم فخراً بأمِّكمُ أُمٌّ لعمري حسانٌ «1» عفّة كرمُ

هي التي لايُداني فضلها أحدٌ بنت الرسول وخير الناس قد علموا

إنّي لأعلم أو ظنّاً لعالمه والظنّ يصدق أحياناً فينتظمُ

أنْ سوف يترككم ماتدّعون به قتلى تهاداكم العقبان والرخمُ

ياقومنا لاتشبّوا الحرب إذ سكنتْ وأمسكوا بحبال السلم واعتصموا

قد غرَّت الحرب من قد كان قبلكم من القرون وقد بادت بها الأممُ

فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً فَرُبَّ ذي بذخ زلّت به القدمُ» «2»

ملاحظات حول هذه الرسالة ..... ص : 148

1)- هناك مشتركات نفسية أساسية بين متن الرسالة وبين أبيات الشعر التي قال (هشام بن محمّد) إنّ يزيد أرفقها مع الرسالة، وأهم هذه المشتركات هو أنّ كليهما تضمّن الترغيب والترهيب معاً، ومخاطبة الإمام عليه السلام عن طريق ابن عبّاس الذي عبّر عنه يزيد ب (قريش) في الشعر، وهناك مشترك نفسي آخر فيهما وهو أنّ يزيد اجتهد في هذه الرسالة أن يمسك بزمام حنقه وغضبه، وهو الناصبيّ الفظّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 149

الغليظ الجلف الذي لايتناهى عن منكراته، «1» وهذا التماسك فرضته الضرورة السياسية على مزاج يزيد الذي تعوّد الإستهتار، ولا يبعد أن تكون هذه الموازنة في الترغيب والترهيب من تأثير وإملاء سرجون المستشار النصراني المعتّق صاحب الخبرة في الحرب النفسية ومعالجة الأزمات السياسية منذ عهد معاوية.

2)- ونقف في هذه الرسالة مرّة أخرى أيضاً أمام نفس النغمة التي يعزفها

الحكم الأمويُّ بوجه المعارضة، وهي التحذير من شقّ عصا الأمّة وتفريق كلمة المسلمين وإرجاعهم إلى الفتنة وما إلى ذلك.

هذا السلاح الذي ابتكره معاوية واستخدمه في وجه معارضيه بعد أن روّج له في الأمّة من خلال أحاديث مفتريات على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تدعو الأمّة الى الخنوع للحاكم الظالم والصبر على جوره، وتدعو إلى قتل كلّ من ينهض للخروج على الحكّام الجائرين بتهمة شقّ عصا الأمّة وتفريق كلمتها.

فليس من المستغرب أن يخاطب يزيد ابن عبّاس بذلك فيقول: «فالقه فاردده عن السعي في الفرقة، ورُدَّ هذه الأمّة عن الفتنة!»، وليس بمستغرب أن يخاطب ابن زياد مسلم بن عقيل قائلًا: «أتيتَ الناسَ وهم جميع فشققتَ بينهم وفرّقتَ كلمتهم وحملت بعضهم على بعض!»، «2» فمن قبل كان معاوية يدسُ تلك التهم إلى الإمام الحسين عليه السلام ويعزف نفس النغمة من خلال تحذيره بألّا يشقّ عصا هذه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 150

الأمّة وألّا يردّها في الفتنة، وكان الإمام أبو عبداللَّه الحسين عليه السلام يجيبه قائلًا: «.. فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي وولدي وأمّة جدّي أفضل من جهادك، فإن فعلته فهو قربة إلى اللَّه عزوجلّ، وإن تركته فاستغفر اللَّه لذنبي وأسأله توفيقي لإرشاد أموري ..». «1»

3)- سعى يزيد في هذه الرسالة الى اتهام الإمام عليه السلام بأنّ غاية خروجه طلب الملك والدنيا، ولذا فقد طلب في الرسالة الى ابن عبّاس أن يمنّي الإمام عليه السلام- في حال تخلّيه عن القيام- بالأمان والكرامة الواسعة! وإجراء ماكان معاوية يجريه على أخيه عليه السلام! وأنّ له ما يشاء من الزيادة على ذلك!

ويزيد يعلم تمام العلم أنّ الإمام عليه السلام لم يقم ولم يخرج أشراً ولا بطراً

ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرج لطلب الإصلاح في هذه الأمّة المنكوبة بكارثة الحكم الأموي الجاثم على صدرها سنين طويلة، لكنّها عادة الطغاة في مواجهة الثائرين وعادة الضلال في مواجهة الهدى، فمن قبل سعى أبو سفيان جدُّ يزيد وأعلام جاهلية قريش إلى إتهام النبي صلى الله عليه و آله بتهمة طلب الملك والدنيا، وشرطوا لأبي طالب عليه السلام أن يحققوا له صلى الله عليه و آله كلّ مايتمنّاه من ذلك فيهم إذا هو تخلّى عن دعوته، لكنّ النبي صلى الله عليه و آله ردّ على إغرائهم وتهمتهم بقاطعية يخلد ذكرها ما خلد الدهر:

«ياعم واللَّه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ماتركته حتى يُظهره اللَّه أو أهلك فيه ماتركته». «2»

4)- ومع ماقدّمناه من ملاحظات حول متن هذه الرسالة، ينبغي أن نلفت الإنتباه إلى أنّ الواقدي الذي رويت عنه قصة هذه الرسالة قد تأمّل علماء الرجال فيه أو رموه بالكذب، فقد قال الذهبي: «قال البخاري: سكتوا عنه، تركه أحمد وابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 151

نمير، وقال أسلم وغيره: متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الشافعي:

كُتُب الواقدي كذب. وقال ابن معين: ليس الواقدي بشي ء. وقال مرّة: لايُكتب حديثه. وقال أحمد بن حنبل: الواقديّ كذّاب. وقال إسحاق: هو عندي يضع الحديث. وقال النسائي: المعروفون بوضع الحديث على رسول اللَّه أربعة ..

والواقدي ببغداد. وقال أبوزرعة: ترك الناس حديث الواقدي. وروى عبداللَّه بن علي المديني، عن أبيه قال: عند الواقدي عشرون ألف حديث لم أسمع بها، ثمّ قال: لا يُروى عنه وضعّفه». «1»

هذا عند رجاليّيّ العامة، وأمّا عندنا فلم يتعرّضوا له بمدح أو ذم، «2» وإن حاول المامقاني جعله في سلك الحسان، «3» كما

تفرّد ابن النديم في نسبته إلى التشيّع.

هذا فضلًا عن أنّ الرواية مرسلة، لأنّ الواقدي وراوي الرسالة ولد بعد المائة والعشرين للهجرة، والرسالة- على الفرض التأريخي- تكون قد صدرت عام ستين للهجرة.

والظاهر أنّ أوّل من ذكر أنّ هذه الرسالة كانت موجّهة الى ابن عباس هو ابن عساكر المتوفّى سنة 571 ه، «4» وبعده سبط ابن الجوزي المتوفى 654 ه، ثمَّ المزّي المتوفى 742 ه، أمّا الكتب التأريخية التي هي أقدم من هذه الكتب كالفتوح وتأريخ الطبري فهي خالية من هذه الرسالة، والأبيات الشعرية التي أوردها سبط ابن الجوزي في ذيل الرسالة أو ردها صاحب الفتوح على أنّ المخاطب بها هم أهل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 152

المدينة- وسيأتي ذكرها- مما يثير الشبهة في أنّ هذا الكتاب- الرسالة- ربّما كان من مفتعلات مرتزقة التأريخ الساعين في خدمة الشجرة الملعونة، ظنّاً منهم أنّ ذكر مثل هذه الرسالة يشكّل تبريراً لموقف يزيد بأنّه قد بادر وكتب الى ابن عبّاس (بني هاشم) وخاطب الحسين عليه السلام من خلالهم، وأنّه قد أعذر من أنذر!

رسالة يزيد إلى (القرشيين) في المدينة ..... ص : 152

ويروي التأريخ أيضاً أنّ يزيد بعث برسالة الى أهل المدينة تتضمّن أبياتاً من الشعر- وهي التي مرّ ذكرها- تحتوي على تهديدهم وتحذيرهم من أي تحرك يتنافى ومصالح السلطة الأموية، فعن ابن أعثم الكوفي: «وإذا كتاب يزيد بن معاوية قد أقبل من الشام إلى أهل المدينة على البريد- من قريش وغيرهم من بني هاشم، وفيه هذه الأبيات ..

قال: فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات، ثمّ وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين ابن عليّ- رضي اللَّه عنهما- فلمّا نظر فيه علم أنّه كتاب يزيد بن معاوية، فكتب الحسين الجواب:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

«وإنْ كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل،

وأنا بري ء مما تعملون». «1» والسلام. «2»

ويظهر من قول المزّي أنّ يزيد كان قد كتب هذه الأبيات إلى ابن عبّاس وإلى من كان في مكّة والمدينة من قريش، حيث يقول: «كتب بهذه الأبيات إليه وإلى من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 153

بمكّة والمدينة من قريش». «1»

والملفت للإنتباه هنا أنّ جواب الإمام عليه السلام كاشف عن ازدرائه عليه السلام الكامل ليزيد إذ لم يذكر في الجواب إسمه، كما لم يلقّبه بلقب، ولم يسلّم عليه، مما يتبيّن منه أنّ يزيد لعنه اللَّه مصداق تام للمكذّب بالدين وبالرسل والأوصياء عليهم السلام، وقد فصّلنا القول في التعليق على هذه الرسالة في الفصل الأوّل فراجع.

التخطيط لإغتيال الإمام عليه السلام أو إعتقاله في مكّة ..... ص : 153

ومن الإجراءات السرية التي اتخذتها السلطة الأموية المركزية في الشام بعد فشل خطّتها الرامية الى اعتقال الإمام عليه السلام أو قتله في المدينة المنوّرة، «2» هو قيامها بالتدابير اللازمة لاغتيال الإمام عليه السلام أو اعتقاله في مكّة المكرّمة.

وخطّة السلطة الأموية لاغتيال الإمام عليه السلام في مكة المكرّمة أو اعتقاله من المسلّمات التأريخية التي يكاد يجمع على أصلها المؤرّخون، وكفى بتصريح الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمّد بن الحنفية:

«ياأخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت!» «3»

وقوله عليه السلام للفرزدق: «لو لم أعجل لأخذت». «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 154

ذكرت بعض المصادر التأريخية: «أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاج وولاه أمر الموسم وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد ..». «1»

ويقول مصدر آخر: «وبعث ثلاثين من بني أميّة مع جمع وأمرهم أن يقتلوا الحسين». «2»

ويقول آخر: «إنهم جدّوا في إلقاء القبض عليه وقتله غيلة ولو وجد متعلّقاً بأستار الكعبة». «3»

ومن الوثائق التأريخية الكاشفة عن هذه الحقيقة

رسالة ابن عباس الى يزيد والتي ورد فيها: «.. وما أنسَ من الأشياء، فلست بناسٍ اطّرادك الحسين بن علي من حرم رسول اللَّه الى حرم اللَّه، ودسّك عليه الرجال تغتاله .. فأكبر من ذلك مالم تكبر حيث دسست عليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ..». «4»

وفي هذا القدر من المتون التأريخية كفاية في الدلالة على خطة السلطة الأموية المركزية في الشام لإلقاء القبض على الإمام عليه السلام أو اغتياله في مكّة المكرّمة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 155

حركة السلطة الأموية المحليّة في البصرة ..... ص : 155

كان عبيداللَّه بن زياد مدّة ولايته على البصرة قد هيمن على ظاهر الحياة السياسية والإجتماعية فيها، لما عُرف عنه من قدرة على الغَشَم والظلم والجور، والتفريق بين القبائل، وخَلْقِ الكراهية بين الوجهاء والأشراف، وما إلى ذلك من فنون المكر في إدارة شؤون الأمّة التي تعرف فساد حكّامها وفسقهم، وتنطوي على كرههم.

لكنّ باطن الحياة السياسية والإجتماعية في البصرة آنذاك كان يشهد أمراً آخر وهو النشاط السرّي للمعارضة الشيعية بشكل أساسي، فقد كان للشيعة في الخفاء منتدياتهم الخاصة التي يتداولون فيها الأخبار ووقائع الأحداث ومستجدّات الأمور ويتشاورون بصددها فيما بينهم، وكان ابن زياد على علم إجمالي بمثل هذه الحركة الخفية، وكان يتوجّس منها، والدليل على ذلك لحن الخطاب الأخير الذي ألقاه في البصرة قبل سفره منها الى الكوفة.

تلقّى ابن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه مسلم بن عمرو الباهلي والتي ولّاه فيها على الكوفة إضافة إلى البصرة، ودعاه فيها الى المبادرة- حين قراءة الرسالة- الى التوجّه الى الكوفة ليطلب مسلم بن عقيل طلب الخرزة حتى يثقفه فيوثقه أو يقتله أو ينفيه.

وما إنْ قرأ ابن زياد الرسالة حتى أمر بالجهاز والتهي ء والمسير الى الكوفة من الغد، «1» لكنّ المفاجأة التي أذهلته قبيل

سفره إليها هي معرفته بأنّ الإمام عليه السلام قد ارسل رسولًا إلى البصرة إلى الأشراف ورؤساء الأخماس فيها يدعوهم فيها إلى تأييده والإنضمام إليه في قيامه (وإن كان المتيقّن أنّ عبيداللَّه بن زياد قد اطّلع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 156

بالفعل على نسخة رسالة الإمام عليه السلام الى المنذر بن الجارود فقط، لكنّ مما لاريب فيه أنّ خبرة ابن زياد الإدارية والسياسية تجعله على يقين بأنّ المنذر بن الجارود كان واحداً من الأشراف الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام ولم يكن الوحيد فيهم).

ولم يحدّثنا التأريخ- بل لم نقع على وثيقة تحدّثنا- أنّ ابن زياد قد سعى إلى معرفة الأشراف الآخرين الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام، أو سعى إلى مطاردتهم واضطهادهم مثلًا، ولعلّ ذلك بسبب ضيق الوقت والعجالة التي كان عليها في عزمه على السفر الى الكوفة وهي الساحة الأهمّ والمضطربة الأحداث آنذاك، أو لأنه كان مطمئناً لولاء أكثر هؤلاء الأشراف للحكم الأمويّ.

لنعد إلى مجرى حركة الأحداث في البصرة قبيل يوم واحد من سفر ابن زياد إلى الكوفة ..

وصلت نسخة من رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى اشراف البصرة بيد رسوله سليمان بن رزين إلى المنذر بن الجارود- الذي كانت ابنته بحرية زوجة لعبيداللَّه بن زياد- فلم يُخفِ أمر الرسالة كما فعل الآخرون ولم يحفظ الأمان للرسول، بل عزم على الخيانة التي تعوّدها من قبل، فأقبل بالرسالة وبالرسول الى عبيداللَّه بن زياد، زعماً منه «1» أنه خاف أن يكون الكتاب دسيسة من عبيداللَّه نفسه، فصلبه عبيداللَّه بن زياد، «2» أو قدّمه فضرب عنقه على رواية أخرى. «3»

ثمّ صعد عبيداللَّه منبر البصرة، وقلبه يرتعد خيفة من استجابة أهلها لنداء الإمام عليه السلام، ويعتصره القلق من انتفاضة المعارضة الخفية

وقيامها مع الإمام عليه السلام،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 157

فكان خطابه مليئاً بالتهديد والوعيد، كاشفاً بذلك عن قلقه وخوفه، وعن قوّة المعارضة التي يخشاها، فقد قال في خطابه بعد أن حمد اللَّه وأثنى عليه: «أمّا بعدُ، فواللَّه ما تُقَرنُ بي الصعبة، «1» ولا يُقعقع لي بالشّنان، «2» وإنّي لَنَكِلٌ «3» لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارة من راماها. «4»

يا أهل البصرة، إنَّ أميرالمؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، «5» وإيّاكم والخلاف والإرجاف،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 158

فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلافٌ لأقتلنّه وعريفه ووليّه، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي ولا يكون فيكم مخالفٌ ولا مشاق، أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطي ء الحصى ولم ينتزعني شَبهُ خالٍ ولا ابن عمّ». «1»

ويلاحظ المتأمّل هنا أيضاً أنّ عبيداللَّه بن مرجانة مع كلّ ما أظهره من استعداد للظلم والغشم والقتل الكاشف عن خوفه وتوجّسه من قدرة المعارضة الخفية على التحرّك لنصرة الإمام الحسين عليه السلام، كان قد افتخر بانتسابه الموهوم إلى أبي سفيان حيث قال: «وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان»، ومراده من هذا الإفتخار تحذير أهل البصرة وتخويفهم بتذكيرهم أنه وأخوه امتداد لعائلة معروفة بالحيلة والمكر والدهاء وبسابقة طويلة في الممارسة السياسية.

حركة السلطة الأموية المحلية الجديدة في الكوفة ..... ص : 158
السفر السريع إلى الكوفة ..... ص : 158

بعد أن تسلّم عبيداللَّه بن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه مسلم بن عمرو الباهلي، أمر بالجهاز من وقته والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد، «2» فلم يبق في البصرة بعدها إلّا يوماً قتل فيه سليمان بن رزين (رض) رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى أشراف البصرة، وألقى فيه خطاباً على منبر البصرة أعلن فيه لأهلها

عن استخلافه أخاه عثمان بن زياد عليها، وهدّد فيه أهل البصرة وحذّرهم من الخلاف والإرجاف! وتوعّدهم على ذلك، وفي غد ذلك اليوم خرج من البصرة إلى الكوفة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 159

تقول رواية تأريخية: «وأقبل الى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي، «1» وحشمه وأهل بيته حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثّم ..». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 160

وتقول رواية أخرى: «فتعجّل ابن زياد المسير إلى الكوفة مع مسلم بن عمرو الباهلي، والمنذرُ بن الجارود، وشريك الحارثي، وعبداللَّه بن الحارث بن نوفل، في خمسمائة رجل انتخبهم من أهل البصرة، فجدَّ في السير، وكان لا يلوي على أحد يسقط من أصحابه، حتى أنّ شريك بن الأعور سقط أثناء الطريق، وسقط عبداللَّه بن الحارث رجاء أن يتأخّر ابن زياد من أجلهم، فلم يلتفت ابن زياد إليهم مخافة أن يسبقه الحسين عليه السلام إلى الكوفة، ولمّا ورد القادسية سقط مولاه مهران.

فقال له ابن زياد: إنْ أمسكتَ على هذا الحال، فتنظر القصر فلك مائة ألف.

قال: واللَّه لا أستطيع.

فتركه عبيداللَّه، ولبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء وانحدر وحده، وكلّما مرّ (بالمحارس) ظنّوا أنّه الحسين عليه السلام فقالوا: مرحباً بابن رسول اللَّه. وهو ساكت، فدخل الكوفة مما يلي النجف». «1»

ونتابع القصة على رواية الطبري حيث يقول: «والناسُ قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا حين قدم عبيداللَّه أنّه الحسين، فأخذ لايمرّ على جماعة من الناس إلّا سلّموا عليه «2» وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول اللَّه! قدمت خير مقدم. فرأى من تباشيرهم بالحسين عليه السلام ماساءه، فقال مسلم بن عمرو لمّا أكثروا: تأخّروا، هذا الأمير عبيداللَّه بن زياد!

فأخذ- حين أقبل- على الظَهر، «3» وإنّما معه بضعة

عشر رجلًا. فلمّا دخل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 161

القصر وعلم الناس أنه عبيداللَّه بن زياد دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد، وغاظ عبيداللَّه ما سمع منهم، وقال: الا أرى هؤلاء كما أرى!». «1»

إنّ المتون التأريخية التي وصفت الطريقة التي دخل بها ابن مرجانة الكوفة تكشف لنا أنّ حالة التأهب (بل الغليان!) والتوتر التي كانت تعيشها الكوفة وهي تنتظر قدوم الإمام الحسين عليه السلام ما كانت تسمح لأي مبعوث أموي أن يدخلها علناً وبسهولة لأنّ الأمّة منتفضة على السلطة الأموية أو تكاد، فكان لابدّ لأي مبعوث أو مسؤول أموي من التخفّي والتنكّر ومخادعة الناس، فيأتي من طريق غير الطريق التي يأتي منها المسؤولون الرسميّون في العادة، ويتنكّر في زيّ آخر، ويشبّه على الناس أنه محبوبهم الذي ينتظرون قدومه بكلّ اشتياق، كي يستطيع العبور بسلام والوصول الى القصر، ليباشر منه التخطيط والقيام بالإجراءات اللازمة للقضاء على انتفاضة الأمة في الكوفة أوّلًا ثم القضاء على محبوب الأمة القادم إليها.

خدعة ابن زياد تنطلى حتى على النعمان بن بشير! ..... ص : 161

وتواصل الرواية التأريخية قصة خدعة ابن زياد فتقول: «وسار حتى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التقوا به لا يشكّون أنّه الحسين عليه السلام، فأغلق النعمان ابن بشير الباب عليه وعلى خاصته، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب، فاطّلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسين عليه السلام.

فقال: أُنشدك اللَّه إلّا تنحيت، واللَّه ما أنا بمسلّم إليك أمانتي، ومالي في قتالك من أرب.

فجعل لا يكلّمه، ثم إنّه دنى وتدلّى النعمان من شرف القصر فجعل يكلّمه ..

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 162

فقال: إفتح لا فتحت، فقد طال ليلك!

وسمعها إنسان خلفه فنكص إلى القوم الذين اتبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين عليه السلام، فقال: ياقوم، ابن مرجانة والذي لا إله غيره!

ففتح له النعمان فدخل

وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا». «1»

هذا النصّ كاشف تماماً عن درجة الضعف المذهل التي كان عليها ممثّلو النظام الأمويّ في الكوفة يومذاك، فابن بشير يلبد في القصر ويخشى الخروج منه لمقابلة القادم الذي ظنّ أنّه الحسين عليه السلام، وعبيداللَّه وهو بين مجموعة من أهل الكوفة يخشى حتى من إظهار صوته مخافة أن يُعرف .. فما أقوى دلالة هذا النصّ على حالة (الإنقلاب) التي كانت الكوفة تعيشها في رفضها النظام الأمويّ، وانتظارها لوصول القيادة الشرعية القادمة إليها.

الخطاب الإرهابيّ الأوّل ..... ص : 162
اشارة

ما إن دخل ابن مرجانة القصر وهدأت أنفاسه المضطربة من الخوف والتعب حتى أمر الناس بالإجتماع في المسجد ليعلن لهم عن وصوله وعن بداية قرارات الغشم الإرهابية، تقول الرواية التأريخية: «لمّا نزل القصر نودي: الصلاة جامعة، قال: فاجتمع الناس، فخرج إلينا، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّ أميرالمؤمنين أصلحه اللَّه ولّاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متّبع فيكم أمره، ومنفّذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البرّ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليُبقِ امرؤ على

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 163

نفسه. الصدق ينبي ء عنك لا الوعيد! ثمّ نزل». «1»

إشارة: ..... ص : 163

تلفت انتباه المتأمّل في هذه الخطبة دعوى ابن مرجانة بأنّ يزيد أمره فيما أمره به «بالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم!» فمع أنّ هذه الدعوى لم تصدّقها وثائق التأريخ وهي أكذوبة من أكاذيب ابن زياد الكثيرة، وهذا الإحسان- لو تحقّق- مشروط بالإنقياد التام والخنوع للسلطة الأموية، فإنّ موعدة الإحسان الكاذبة هذه جاءت متأخرة جداً بعد سنين متمادية تعمّد فيها طاغية الأمويين الأكبر معاوية أن يُذيق أهل الكوفة الضيم والجوع والحرمان، وأن يجعلهم وقود حروبه في الثغور وفي مواجهة الخوارج، عقوبة لولائهم لعلي عليه السلام، وكان معاوية لايعبأ بشكاية أهل الكوفة، بل يردّ على من يحمل إليه الشكوى منهم أسوأ الردّ ويعامله بالإستخفاف والقسوة.

هذه سودة بنت عمارة تأتيه من العراق وتشكو إليه جور ولاته الذين حكّمهم في رقاب وأموال أهل الكوفة، فتقول: «لا تزال تُقدم علينا من ينهض بعزّك ويبسط سلطانك فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قُدم بلادي، وقتل رجالي وأخذ مالي ..». «2»

فما كان جواب

الطاغية إلا أن قال لها: «هيهات، لمّظكم ابن أبي طالب الجرأة!». «3»

وقالت له عكرشة بنت الأطرش: «إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فتُرَدُّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 164

على فقرائنا، وإنّا قد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير ولا يُنعشُ لنا فقير. فإنْ كان ذلك عن رأيك فمثلك من انتبه عن الغفلة وراجع التوبة، وإنْ كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة!».»

فما كان جواب معاوية إلا أن قال لها: «هيهات ياأهل العراق، نبّهكم عليّ بن أبي طالب فلن تُطاقوا ..». «2»

فلم تكن الكوفة تنتظر من السلطة الأموية المركزية ولا من ولاتها إحساناً ورأفة ورفقاً طيلة سنين متمادية جرّعها فيها معاوية كأس الهوان والمذلّة والحرمان.

لكنّ بركان الكوفة لما فارت أعماقه بالحمم، ودوّت في فمه صرخة النُذُر بالتمرّد والقيام مع الحسين عليه السلام ضد الحكم الأموي، عزف الوالي الجديد ابن زياد نغمة الإحسان لتهدئة ثورة البركان المتأزّم بقذائف الحمم، بعد سنين طويلة، فلعلّ وعسى! ولكن أي إحسان هو!؟ إنه الإحسان الخاص للمنقادين السامعين الطائعين فقط.

الإجراء الإرهابي الأوّل ..... ص : 164
اشارة

ثمّ إنّ عبيداللَّه بن مرجانة أتبع خطابه الإرهابي الأوّل بعمل إرهابي كان الأوّل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 165

أيضاً في سلسلة أعماله القمعية: «فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً، فقال: اكتبوا إليّ الغرباء، ومن فيكم من طلبة «1» أميرالمؤمنين، ومن فيكم من الحرورية، «2» وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا فبري ء، ومن لم يكتب لنا أحداً فيضمن لنا مافي عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل برئت منه الذمّة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيُما عريف وُجدَ في عرافته من بُغية أميرالمؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلغيت تلك العرافة

من العطاء، وسُيّر إلى موضع بعُمان الزارة «3»». «4»

إشارة: ..... ص : 165

كانت العرافة من وظائف الدولة لمعرفة الرعيّة وتنظيم عطائهم من بيت المال، وقد كان في الكوفة مائة عريف، وكان العطاء يُدفع إلى أمراء أرباع الكوفة الأربعة فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه هؤلاء إلى أهله في دورهم، وكان يؤمر لهم بعطائهم في المحرّم من كلّ سنة، وبفيئهم عند طلوع الشعرى في كلّ سنة حيث إدراك الغلات. وكانت العرافة على عهد النبي صلى الله عليه و آله. «5»

«وكانت الدولة تعتمد على العرفاء، فكانوا يقومون بأمور القبائل ويوزّعون عليهم العطاء، كما كانوا يقومون بتنظيم السجلات العامة التي فيها أسماء الرجال

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 166

والنساء والأطفال، وتسجيل من يولد ليفرض له العطاء من الدولة، وحذف العطاء لمن يموت، كما كانوا مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا في أيّام الحرب يندبون الناس للقتال ويحثّونهم على الحرب، ويخبرون السلطة بأسماء الذين يتخلفون عن القتال، وإذا قصّر العرفاء أو أهملوا واجباتهم فإنّ الحكومة تعاقبهم أقسى العقوبات.

ومن أهمّ الأسباب في تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل هو قيام العرفاء بتخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الإرهاب بين الناس، كما كانوا السبب الفعّال في زجّ الناس لحرب الإمام الحسين عليه السلام». «1»

قتل عبداللَّه بن يقطر «2» الحميري (رض) ..... ص : 166
اشارة

إنّ المشهور عند أهل السير «3» هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام سرّح عبداللَّه بن يقطر (رض) إلى مسلم بن عقيل عليه السلام بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلم عليه السلام إلى الحسين عليه السلام يسأله القدوم ويخبره باجتماع الناس، فقبض عليه الحصين بن نمير «4» (أو بن تميم) «5» بالقادسية .. إلى آخر قصة استشهاده (رض).

ولذا فقصة استشهاده (رض) من مختصات تأريخ فترة وقائع الطريق بين مكّة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 167

وكربلاء، أي من مختصات (الجزء الثالث) من هذه الدراسة.

لكنّ

هناك روايتين تحدّثتا في قصة قتله (رض) مفادهما أنه قُتل في الفترة التي كان فيها الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، ولذا فنحن نتعرّض لهاتين الروايتين هنا في هذا الموقع.

الرواية الأولى: ..... ص : 167
اشارة

وهي رواية ابن شهرآشوب، وفيها أنّ عبيداللَّه بن زياد بعد أن زار شريك بن الأعور الحارثي في مرضه (في بيت هاني ء بن عروة)، وجرى ما جرى من حثّ شريك مسلماً عليه السلام على قتل عبيداللَّه من خلال رمز «ما الإنتظار بسلمى أن تحييها ..»، فأوجس عبيداللَّه منهم خيفة فخرج: «فلمّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبداللَّه بن يقطر، فإذا فيه:

«للحسين بن علي: أما بعدُ، فإني أُخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل، فإنّ الناس معك، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى» فأمر ابن زياد بقتله». «1»

أما الرواية الثانية: ..... ص : 167

وهي رواية محمّد بن أبي طالب في كتابه (تسلية المجالس) فتفصّل القصة هكذا: أنّه بينما كان عبيداللَّه يتكلّم مع أصحابه في شأن عيادة هاني: «إذ دخل عليه رجل من أصحابه يُقال له مالك بن يربوع التميمي، فقال: أصلح اللَّه الأمير، إني كنت خارج الكوفة أجول على فرسي، إذ نظرتُ إلى رجل خرج من الكوفة مسرعاً إلى البادية، فأنكرته، ثمّ إني لحقته، وسألته عن حاله فذكر أنه من أهل المدينة! ثمّ نزلت عن فرسي ففتشته فأصبت معه هذا الكتاب.

فأخذه ابن زياد ففضّه فإذا فيه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم: إلى الحسين بن علي: أمّا بعدُ: فإنّي أُخبرك أنّه بايعك من أهل الكوفة نيفاً على عشرين ألف رجل،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 168

فإذا أتاك كتابي فالعجل العجل، فإنّ الناس كلّهم معك، وليس لهم في يزيد هوى ..».

فقال ابن زياد: أين هذا الرجل الذي أصبت معه الكتاب؟

قال: هو بالباب.

فقال: إئتوني به.

فلمّا وقف بين يديه قال: ما اسمُك؟

قال: عبداللّه بن يقطين.

قال: من دفع إليك هذا الكتاب؟

قال: دفعته إليَّ امرأة لا أعرفها!

فضحك

ابن زياد وقال: إختر أحد اثنين، إمّا أن تخبرني من دفع إليك الكتاب أو القتل!

فقال: أمّا الكتاب فإنّي لا أخبرك، وأمّا القتل فإنّي لا أكرهه لأنّي لا أعلم قتيلًا عند الله أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك!

قال فأمر به فضربت عنقه». «1»

فهذا الشهيد (رض) في هاتين الروايتين- وخلافاً للمشهور- هو رسول من مسلم عليه السلام إلى الإمام الحسين عليه السلام، «2» وهو في رواية (تسلية المجالس) ابن يقطين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 169

وليس ابن يقطر أو بقطر.

وهنا قد ينقدح في الذهن احتمال أنّ عبدالله بن يقطر هو غير عبدالله بن يقطين هذا، بقرينة: اختلاف إسم الأب أوّلًا. وثانياً اختلاف اسم الرجل الذي ألقى القبض على ابن يقطر وهو حسب المشهور الحصين بن نمير (او ابن تميم) عن اسم الرجل الذي ألقى القبض على ابن يقطين هذا وهو مالك بن يربوع التميمى.

وثالثاً أنّ الأوّل أُلقيَ عليه القبض خارج الكوفة. ورابعاً أنّ الأوّل كما هو مشهور قُتل برميه من فوق القصر، بينما الثاني ضُربت عنقه.

ويمكن أن يُردّ على هذه المرتكزات التي يقوم عليها هذا الإحتمال:

أولًا: أنّ هناك ظنّاً قوياً في أن يكون اسم يقطين تصحيفاً لإسم يقطر خصوصاً في الكتب المخطوطة قديماً، ويقوّي هذا الظنّ أنّ اسم يقطين لم يرد إلّا في كتاب تسلية المجالس، كما أن إسم الأب في رواية ابن شهراشوب المشابهة لهذة الرواية هو يقطر «1» وليس يقطين، هذا فضلًا عن أنّ رواية كتاب تسلية المجالس نفسها تذكر أنّ عبدالله هذا رجل من أهل المدينة، والتأريخ لم يذكر لنا رجلًا من شهداء النهضة الحسينية من أهل المدينة بهذا الإسم (من غير بني هاشم) سوى عبدالله بن يقطر.

وثانياً: أنّه لايمنع من وحدة الشخص أنّ الأوّل ألقى القبض

عليه الحصين بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 170

نمير (أو تميم) وأنّ الثاني ألقى القبض عليه مالك بن يربوع التميمي، إذ قد يكون مالك بن يربوع أحد مأموري الحصين، فتصحّ عندئذٍ نسبة إلقاء القبض إلى كليهما.

وثالثاً: أنّ قول مالك بن يربوع كما في رواية تسلية المجالس: «كنت خارج الكوفة أجول على فرسي إذ نظرت الى رجل خرج من الكوفة مسرعاً يريد البادية ..» قد يعني أنه نظر الى رجل أقبل من ناحية الكوفة مسرعاً يريد البادية، ولاينافي ذلك أنه نظر إليه في القادسية أو قريباً منها (من ناحية الكوفة) حيث تنتشر قوّات الرصد الأموي على اتساع تلك المنطقة.

ورابعاً: أنه لا منافاة في الإخبار عن قتله بأنه ضُربت عنقه في حين أنّ ابن يقطر (رض) رُمى به من فوق القصر فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ثم ذبحه اللخمي كما هو مشهور، ذلك لأنّ هذا التفاوت في التعبير عن القتل غير مستغرب في الاستعمال العرفي، وهو ليس في مستوى دقّة التعبير الفقهي أو الرياضي كما نعلم، ثمّ إنّ رواية ابن شهرآشوب ذكرت فقط أنّ ابن زياد أمر بقتله، ولم تتعرّض لطريقة القتل.

من هو عبداللَّه بن يقطر الحميري؟ ..... ص : 170

«كانت أمّه حاضنة للحسين عليه السلام كأمّ قيس بن ذريح للحسن عليه السلام، ولم يكن رضع عندها، ولكنّه يُسمّى رضيعاً له لحضانة أمّه له. وأمّ الفضل بن العبّاس لبابة كانت مربية للحسين عليه السلام ولم ترضعه أيضاً، كما صحّ في الأخبار أنه لم يرضع من غير ثدي أمّه فاطمة صلوات اللَّه عليها وإبهام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تارة، وريقه تارة أخرى». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 171

وذكر ابن حجر في الإصابة أنّ عبداللَّه بن يقطر كان صحابياً لأنّه لِدَةٌ للحسين عليه السلام. «1»

وكان عبداللَّه بن

يقطر رضوان اللَّه تعالى عليه من أهل اليقين والشجاعة الفائقة، إذ لمّا أمره ابن مرجانة قائلًا: «إصعد القصر والعن الكذّاب بن الكذّاب، ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيي». «2» صعد هذا البطل القصر «فلمّا أشرف على الناس قال:

أيّها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إليكم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدعيّ بن الدعيّ!». «3»

والظاهر أنّ عبداللَّه بن يقطر رضوان اللَّه تعالى عليه قُتل قبل قيس بن مسهّر الصيداوي رضوان اللَّه تعالى عليه، الذي قتل بعد قتل مسلم عليه السلام، بدليل أنّ خبر مقتل عبداللَّه ورد إلى الإمام عليه السلام بزبالة في الطريق إلى العراق في نفس خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني رضوان اللَّه تعالى عليه، فنعاهم الإمام عليه السلام قائلًا: «أمّا بعدُ، فقد أتانا خبر فظيع، قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبداللَّه بن يقطر، وقد خذلنا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 172

شيعتنا ..». «1»

وبذلك يكون عبداللَّه بن يقطر رضوان اللَّه تعالى عليه ثاني رسل الإمام الحسين عليه السلام الذين استشهدوا أثناء أداء مهمة الرسالة، بعد شهيد النهضة الحسينية الأوّل سليمان بن رزين رضوان اللَّه تعالى عليه، رسول الإمام عليه السلام إلى أشراف البصرة، بل إنّ عبداللَّه بن يقطر هو الشهيد الثاني في النهضة الحسينية المباركة إذا ثبت تأريخياً أنه قُتل قبل قيام انتفاضة مسلم عليه السلام في الكوفة.

اضطهاد رجال المعارضة وحبسهم وقتلهم ..... ص : 172

«إنّ ابن زياد لمّا اطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسين عليه السلام حبس أربعة آلاف وخمسمائة رجل من التوابين من أصحاب أميرالمؤمنين وأبطاله الذين جاهدوا معه، منهم سليمان بن صرد وابراهيم بن مالك الأشتر و ... وفيهم ابطال وشجعان ولم يكن له سبيل الى نصر الحسين

عليه السلام لأنهم كانوا مقيّدين مغلولين وكانوا يوماً يطعمون ويوماً لا يُطعمون». «2»

وينقل المحقّق الشيخ باقر شريف القرشي عن كتاب (المختار مرآة العصر الأموي) أنّ عدد الذين اعتقلهم ابن زياد في الكوفة إثنا عشر ألفاً، كما ينقل عن كتاب (الدرّ المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء) أنّ من بين أولئك المعتقلين سليمان بن صرد الخزاعي، والمختار بن ابي عبيد الثقفي وأربعمائة من الوجوه والأعيان. «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 173

وذكر الطبري أنّ ابن زياد «أمر أن يُطلب المختار وعبداللَّه بن الحارث، «1» وجعل فيهما جعلًا، فأُتي بهما فحبسا». «2»

وقال البلاذري: «أمر ابن زياد بحبسهما- المختار وابن الحارث- بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين». «3»

«ثمّ إنّ الحصين «4»- صاحب شرطة ابن زياد- وضع الحرس على أفواه السكك، وتتبّع الأشراف الناهضين مع مسلم، فقبض على عبد الأعلى بن يزيد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 174

الكلبي، «1» وعمارة بن صلخب الأزدي «2» فحبسهما، ثمّ قتلهما، وحبس جماعة من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 175

الوجوه استيحاشاً منهم، وفيهم الأصبغ بن نباتة، «1» والحارث الأعور الهمداني «2»». «3»

حبس ميثم التمّار ..... ص : 175

يُستفاد من ظاهر بعض المتون التي تروي قصة مقتل الشهيد الفذّ ميثم التمّار (رض) أنّ قتله كان في أواخر شهر ذي الحجّة سنة ستين للهجرة، كقول الشيخ المفيد (ره): «وحجّ في السنة التي قُتل فيها»، «4» وتصرّح بعض المتون أنه (رض) قتل قبل وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق: «وكان مقتل ميثم قبل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 176

قدوم الحسين بن علي عليهما السلام إلى العراق بعشرة أيّام»، «1» بل تصرّح أخرى قائلة:

«وشهادته قبل يوم عاشوراء بعشرين يوماً أو عشرة أيام». «2»

وعلى أيٍ من هذه الأقوال، يكون ميثم التمار

(رض) قد قتل فيما بعد خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة، وفي أثناء أيّام الرحلة إلى العراق.

أمّا حبسه (رض) في سجن ابن زياد فهناك إشاره تأريخية يمكن الإستفادة منها أنه حُبس مع المختار في وقت معاً، كما في قول الشيخ المفيد (ره): «فحبسه وحبس معه المختار ..»، «3» أي قبل مقتل مسلم عليه السلام، وعلى هذا يكون حبسه (رض) في الفترة التي كان فيها الإمام عليه السلام بمكّة المكرّمة.

ميثم التمّار رضوان اللَّه تعالى عليه ..... ص : 176

يندُر أن ترى كتاباً يتناول تأريخ النهضة الحسينية وفاجعة عاشوراء يذكر ميثم التمّار (رض) في جملة شهداء فترة تأريخ تلك النهضة المقدّسة مع أنه (رض) من طليعة الأبرار وخواص الأولياء الذين استشهدوا في تلك الفترة لولائهم لأهل البيت عليهم السلام وعدائهم للحكم الأمويّ، ولشهادته نفسها خصوصية تجعلها في العلياء من روائع تأريخ وقائع الإستشهاد في سبيل اللَّه تعالى وفي القمة من نوادره.

هو ميثم بن يحيى- أو عبداللَّه- التمّار الأسديّ الكوفي، وهو من حواريّ أميرالمؤمنين والحسن والحسين صلوات اللَّه عليهم، والروايات في مدحه وجلالته وعظم شأنه وعلمه بالمغيّبات كثيرة لاتحتاج إلى البيان، ولو كان بين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 177

العصمة والعدالة مرتبة وواسطة لأطلقناها عليه. «1»

كان ميثم (رض) لمنزلته الخاصة عند اللَّه تبارك وتعالى وعند أهل البيت عليهم السلام قد رزق علم المنايا والبلايا، وقد شاعت عنه إخباراته بمغيّبات كثيرة، ومنها أنه أخبر حبيب بن مظاهر باستشهاده في نصرة الحسين عليه السلام وأنه يُجال برأسه في الكوفة كما أخبر المختار بأنه ينجو من سجن ابن زياد، ويخرج ثائراً مطالباً بدم الحسين عليه السلام فيقتل ابن زياد ويطأ بقدميه على وجنتيه، «2» بل أخبر ابن زياد نفسه بأنه يقتله وبالطريقة التي يقتله بها وأنّه أوّل من يُلجم في

الإسلام. «3»

روي «أنّ ميثم التمّار كان عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين عليه السلام منها فأعتقه، فقال له: ما اسمك؟

فقال: سالم.

فقال: أخبرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّ اسمك الذي سمّاك به أبواك في العجم ميثم.

قال: صدق اللّه ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين، والله إنه لأسمي!

قال: فارجع إلى اسمك الذى سمّاك به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ودع سالماً، فرجع إلى ميثم واكتنى بأبي سالم.

فقال له عليّ عليه السلام ذات يوم: إنك تُؤخذ بعدي فتُصلب وتُطعن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً يخضّب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، فتُصلب على باب

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 178

عمرو بن حُريث عاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهّرة، وامضِ حتى أريك النخلة التي تُصلب على جذعها.

فأراه إيّاها. وكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول: بوركتِ من نخلة، لك خُلِقتُ ولي غُذِيتِ، ولم يزل يتعاهدها حتى قُطعت، وحتى عرف الموضع الذي يُصلب عليها «1» بالكوفة.

قال: وكان يلقى عمرو بن حُريث فيقول له: إنّي مجاورك فأحسن جواري!

فيقول له عمرو: أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم؟

وهو لايعلم ما يريد.

وحجّ في السنة التى قُتل فيها، فدخل على أمّ سلمة رضي اللّه عنها.

فقالت: من أنت؟

قال: أنا ميثم.

قالت: واللّه لربّما سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يذكرك ويوصي بك عليّاً فى جوف الليل.

فسألها عن الحسين عليه السلام، فقالت: هو في حايط له.

قال: أخبريه أنّني قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء اللّه تعالى. «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 179

فدعت أمّ سلمة بطيب وطيّبت لحيته، وقالت له: أما إنّها ستُخضّب بدم!

فقدم الكوفة، فأخذه عبيد اللّه بن زياد لعنه الله،

فأُدخل عليه

فقيل له: هذا كان من آثر الناس عند عليّ!

قال: ويحكم، هذا الأعجميّ!

قيل له: نعم!

قال له عبيد اللّه: أين ربّك!؟

قال: لبالمرصاد لكلّ ظالم، وأنت أحد الظلمة!

قال: إنّك على عجمتك لتبلغ الذي تريد! ما أخبرك صاحبك أني فاعل بك؟

قال: أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة، أنا أقصرهم خشبة، وأقربهم إلى المطهّرة.

قال: لنخالفنّه.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 180

قال: كيف تخالفه!؟ فوالله ما أخبرني إلّا عن النبيّ صلى الله عليه و آله عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء!؟ ولقد عرفت الموضع الذي أُصلب عليه أين هو من الكوفة، وأنا أوّل خلق اللّه أُلجم في الإسلام!

فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة، قال له ميثم: إنّك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين عليه السلام فتقتل هذا الذي يقتلنا.

فلمّا دعا عبيد اللّه بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله يأمره بتخلية سبيله فخلّا عنه، «1» وأمر بميثم أن يصُلب، فأُخرج.

فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم!؟

فتبسّم وقال وهو يومي إلى النخلة: لها خُلقتُ، ولي غُذيتْ!

فلمّا رفع على الخشبة اجتمع النّاس حوله على باب عمرو بن حُريث، قال عمرو: قد كان واللّه يقول إنّي مجاورك! فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره، فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد:

قد فضحكم هذا العبد! فقال: ألجموه. وكان أوّل خلق الله أُلجم فى الإسلام، وكان قتل ميثم رحمة الله قبل قدوم الحسين بن علي عليه السلام بعشرة أيّام، فلمّا كان اليوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحربة، فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 181

التجسس لمعرفة مكان قيادة الثورة ..... ص : 181

لمّا علم مولانا مسلم بن عقيل عليه السلام بالإجراءات الإرهابية المتسارعة التي اتخذها عبيد

الله بن زياد «وما أخذ به العرفاء والناس، خرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هاني ء بن عروة فدخلها، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني ء على تستّر واستخفاء من عبيد اللّه، وتواصوا بالكتمان، فدعا ابن زياد مولى له يُقال له معقل، فقال: خذ ثلاثة آلاف درهم، واطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه، فإذا ظفرت بواحدٍ منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقل لهم:

استعينوا بها على حرب عدوّكم، وأعلمهم أنّك منهم، فإنّك لو قد أعطيتهم إيّاها لقد اطمأنّوا إليك ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئاً من أمورهم وأخبارهم، ثمّ اغدُ عليهم ورُحْ حتى تعرف مستقرّ مسلم بن عقيل وتدخل عليه.

ففعل ذلك، وجاء حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يصلّي، فسمع قوماً يقولون: هذا يبايع للحسين، فجاء وجلس إلى جنبه حتى فرغ من صلاته ثم قال: يا عبدالله، إنّي امرؤ من أهل الشام، أنعم الله عليَّ بحبّ أهل البيت وحبّ من أحبهم. وتباكى له، وقال: معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فكنت أريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلّني عليه، ولا أعرف مكانه، فإنّي لجالس في المسجد الآن إذ سمعت نفراً من المؤمنين يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت وإنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال، وتدخلني على صاحبك فإنّي أخ من إخوانك وثقة عليك، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه.

فقال له ابن عوسجة: أحمُد الله على لقائك إيّاي، فقد سرّني ذلك، لتنال الذي تحبّ، ولينصرنّ اللّه بك أهل بيت نبيّه عليه وعليهم السلام، ولقد ساءني معرفة الناس إيّاي بهذا الأمر

قبل أن يتمّ مخافة هذا الطاغية وسطوته.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 182

فقال له معقل: لايكون إلّا خيراً، خذ البيعة عليَّ!

فأخذ بيعته، وأخذ عليه المواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمن، فأعطاه من ذلك مارضي به، ثمّ قال له: إختلف إليَّ أيّاماً في منزلي فإنّي طالب لك الأذن على صاحبك. وأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الأذن فأُذِنَ له، وأخذ مسلم بن عقيل بيعته، وأمر أبا ثمامة الصّائدي بقبض المال منه، وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يعين به بعضهم بعضاً، ويشتري لهم به السلاح، وكان بصيراً وفارساً من فرسان العرب، ووجوه الشيعة، وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، فهو أوّل داخل وآخر خارج، وحتى فهم ما احتاج إليه ابن زياد من أمرهم، فكان يخبره به وقتاً فوقتاً». «1»

حبس هاني بن عروة المرادي ..... ص : 182

ولمّا كثر تردد الرجال من أهل الكوفة على مسلم بن عقيل عليه السلام في بيت هاني بن عروة، أو جس في نفسه المحذور «وخاف هاني بن عروة عبيد الله على نفسه، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض، فقال ابن زياد لجلسائه: مالي لا أرى هانياً!؟

فقالوا: هو شاكٍ. فقال: لو علمتُ بمرضه لعدته.

ودعى محمّد بن الأشعث، وأسماء بن خارجة، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي وكانت رويحة بنت عمرو تحت هاني بن عروة، وهي أمّ يحيى بن هاني.

فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا؟

فقالوا: ماندري، وقد قيل إنه يشتكي.

قال: قد بلغني أنه قد بري ء وهو يجلس على باب داره! فالقوه ومروه ألّا يدع ما عليه من حقّنا، فإنّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 183

فأتوه حتى وقفوا عليه عشيّة وهو جالس على بابه.

وقالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير فإنه قد ذكرك وقال لو أعلم أنه شاك لَعُدْتُه.

فقال

لهم: الشكوى تمنعني.

فقالوا له: قد بلغه إنك تجلس كلّ عشيّة على باب دارك، وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لايحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبت معنا.

فدعى بثيابه فلبسها، ثمّ دعى ببغلة فركبها، حتى إذا دنى من القصر كأنّ نفسه أحسّت ببعض الذى كان.

فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن الأخ، إني واللّه لهذا الرجل لخايف، فما ترى؟

فقال: يا عمّ، والله ما أتخوف عليك شيئاً ولم تجعل على نفسك سبيلا. ولم يكن حسّان يعلم في أيّ شي ء بعث إليه عبيد الله.

فجاء هاني حتى دخل على عبيد الله بن زياد وعنده القوم، فلما طلع قال عبيد الله: أتتك بخاينٍ «1» رجلاه!

فلمّا دنى من ابن زياد، وعنده شريح القاضي، «2» التفت نحوه فقال:

أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

وقد كان أوّل ما قدم مكرماً له ملطفاً

فقال له هاني: وما ذاك أيها الأمير؟

قال: إيه يا هاني بن عروة، ما هذه الأمور التي تربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ؟

قال: ما فعلت ذلك، وما مسلم عندي.

قال: بلى قد فعلت.

فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هاني إلّا مجاحدته ومناكرته، دعى ابن زياد معقلًا ذلك العين فجاء حتى وقف بين يديه

فقال: أتعرف هذا؟

قال: نعم!

وعلم هاني عند ذلك أنه كان عيناً عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم، فأُسقط في يده ساعة، ثمّ راجعته نفسه.

فقال: إسمع منّي وصدّق مقالتي، فوالله لا كذبت، والله مادعوته إلى منزلي، ولا علمت بشي ء من أمره حتّى جاءني يسألني النزول فاستحييتُ من ردّه، ودخلني من ذلك ذمام فضيّفته وآويته، وقد كان من أمره ما بلغك، فإن شئت أن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 187

أعطيك

الآن موثقاً مغلّظاً ألّا أبغيك سوءً ولاغائلة، ولآتينّك حتّى اضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرج من ذمامه وجواره!

فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني أبداً حتّى تأتينى به.

قال: لا والله، لا أجيئك به ابداً، أجيئك بضيفى تقتله!؟

قال: والله لتأتينّي به.

قال: لا والله لا آتيك به.

فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي- وليس بالكوفة شامي ولا بصريٌ غيره- فقال: أصلح اللَّه الأمير، خلّني وإيّاه حتى أكلّمه.

فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان.

فقال له مسلم: ياهاني، أُنشدك اللَّه أن تقتل نفسك، وأن تدخل البلاء في عشيرتك، فواللَّه إنّي لأنفس بك عن القتل، إنّ هذا الرجل إبن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليهم فإنّه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان!

فقال هاني: واللَّهِ إنّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح، أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، واللَّه لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه!

فأخذ يناشده وهو يقول: واللَّه لا أدفعه إليه أبداً!

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه مني.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 188

فأدنوه منه، فقال: واللَّه لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك.

فقال هاني: إذن لكثر البارقة حول دارك!

فقال ابن زياد: والهفاه عليك، أبالبارقة تخوّفني!؟- وهو يظنّ أنّ عشيرته سيمنعونه- ثمّ قال: أدنوه منّي.

فأُدني منه، فاعترض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدَّه حتى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته، ونثر لحم جبينه وخده على لحيته حتى كسر القضيب،

وضرب هاني يده إلى قائم سيف شرطيّ، وجاذبه الرجل ومنعه.

فقال عبيداللَّه: أحروريّ ساير اليوم!؟ قد حلّ لنا دمك، جرّوه! فجرّوه، فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه.

فقال: إجعلوا عليه حرساً. ففعل ذلك به». «1»

أعوان السلطة .. والخدعة المشتركة! ..... ص : 188

في قصة حبس هاني بن عروة (رض) هناك دور مريب لعمرو بن الحجّاج الزبيدي الذي تفانى في امتثال أوامر ابن زياد وابن سعد في كربلاء، مع أنّ هانياً كان صهراً له!

فالرواية التأريخية التي قصّت علينا واقعة حبس هاني ذكرت أنّ عمرو بن الحجّاج كان أحد الذين أتوا هانياً إلى باب منزله وألحّوا عليه بإتيان عبيداللَّه، فالظاهر أنّه شهد ما جرى على هاني في لقائه مع عبيداللَّه، لكنّ سياقها بعد ذلك يُلفتُ الإنتباه حيث تقول: «وبلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانياً قد قُتل، فأقبل في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 189

مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم، ثمّ نادى: أنا عمرو بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم قتل فأعظموا ذلك.

فقيل لعبيداللَّه بن زياد: هذه مذحج بالباب!

فقال لشريح القاضي: أدخل على صاحبهم فانظر إليه، ثمّ اخرج وأعلمهم أنه حيّ لم يُقتل!

فدخل شريح فنظر إليه، فقال هاني لمّا رأى شريحاً: يالله، ياللمسلمين! أهلكت عشيرتي؟ أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟- والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجّة على باب القصر- فقال: إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني!

فلمّا سمع كلامه شريح خرج إليهم فقال لهم: إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم وأعرّفكم أنّه حيّ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل!

فقال له عمرو بن الحجّاج وأصحابه: أمّا

إذا لم يُقتل فالحمد للَّه. ثمّ انصرفوا». «1»

فإذا كان المتأمّل في هذا النصّ لايشك في الدور الخياني الذي لعبه شريح القاضي في ممارسته التورية حيث أظهر لمذحج وكأنّ هاني بن عروة (رض) هو الذي أمره بلقاء مذحج وأن يعرّفهم بأنه حيّ لابأس عليه، فإنّ المتأمّل ليشك كثيراً في نزاهة الدور الذي لعبه عمرو بن الحجّاج الذي ربّما كان قد شهد ما فعله ابن زياد بهاني في القصر حسب ما يُستفاد من السياق الأوّل للرواية.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 190

متى خرج عمرو بن الحجاج من القصر؟ وكيف تصدّى لقيادة مذحج وأتى بجموعها في وقت قصير نسبياً؟ ولماذا اكتفى بقول شريح ولم يدخل- وهو من المقرّبين لابن زياد- ليرى بنفسه هانياً وحقيقة ماجرى عليه داخل القصر!؟

إنّ استمرار ولاء عمرو بن الحجّاج الزبيدي لابن زياد حتى بعد مقتل هاني بن عروة (رض)، ليقويّ الريب في أنّ هذا الرجل كان قد تعمّد التصدّي لجموع مذحج التي أقبلت الى القصر معترضة على حبس هاني، ليركب موجتها ثم ليخدعها وليصرفها عن إخراج هاني من القصر بقوّة السلاح، متواطئاً في ذلك مع عبيداللَّه بن زياد وشريح القاضي في تنفيذ الخدعة المشتركة لتضليل مذحج.

تسخير الأشراف لتخذيل الناس عن مسلم عليه السلام ..... ص : 190

لمّا علم مولانا مسلم بن عقيل عليه السلام باعتقال هاني قام في الكوفة على ابن زياد، وأعلن عن بدء الثورة، وحاصر القصر بجموع من اتبعه من أهل الكوفة، أغلق ابن زياد أبواب القصر عليه وعلى من كان معه في القصر من أشراف الناس ومن شرطته وأهل بيته ومواليه، وقبع فيه خائفاً يأكل قلبه الرعب وأبى من الجبن أن يخرج بمن معه لمواجهة قوات مسلم عليه السلام، يقول الطبري: «فلمّا اجتمع عند عبيداللَّه كثير بن شهاب ومحمد (أي ابن الأشعث) والقعقاع

فيمن أطاعهم من قومهم، فقال له كثير- وكانوا مناصحين لابن زياد- أصلح اللَّه الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس، ومن شُرطك، وأهل بيتك، ومواليك، فاخرج بنا إليهم. فأبى عبيداللَّه ..». «1»

لكنّ عبيداللَّه في ساعات خوفه لجأ إلى تسخير الأشراف الذين كانوا معه في القصر وأمرهم بتخذيل الناس عن مسلم، يقول التأريخ: «فبعث عبيداللَّه الى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 191

الأشراف فجمعهم إليه، ثمّ قال: أشرفوا على الناس، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود من الشام إليهم». «1»

يقول شاهد عيان كان مع الناس خارج القصر، وهو عبداللَّه بن حازم الكبري من الأزد من بني كبير: «أشرف علينا الأشراف، فتكلّم كثير بن شهاب أوّل الناس حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيها الناس، إلحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشرّ ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى اللَّه الأميرُ عهداً لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البري ء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرّت أيديها. وتكلّم الأشراف بنحو من كلام هذا، فلمّا سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرّقون وأخذوا ينصرفون». «2»

تفتيش دور الكوفة بحثاً عن مسلم عليه السلام ..... ص : 191

وبعد أن آل أمر مولانا مسلم بن عقيل عليه السلام إلى أن يبقى وحيداً متخفياً قد تفرّقت عنه جموع من كانوا معه من أهل الكوفة، وبعد أن اطمأنّ عبيداللَّه بن زياد إلى أنّ القوم قد تفرّقوا وأنّ المسجد قد خلا تماماً من أنصار مسلم عليه السلام، عمد «ففتح باب السدّة التي في المسجد، ثمّ خرج فصعد المنبر وخرج

أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا قبيل العتمة، وأمر عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمّة من رجل من الشُرَط والعرفاء والمناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلّا في المسجد. فلم يكن إلّا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 192

ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مناديه فأقام الصلاة، وأقام الحرس خلفه وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحدٌ يغتاله، وصلّى بالناس، ثمّ صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإن ابن عقيل .. قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمّة اللَّه من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته، إتّقوا اللَّه عباد اللَّه والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولاتجعلوا على أنفسكم سبيلًا.

ياحصين بن نمير، ثكلتك أمّك إن ضاع باب سكّة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصد على أهل السكك، وأصبح غداً فاستبرء الدور وجس خلالها، حتى تأتيني بهذا الرجل ..». «1»

تجميد الثغور وتوجيه عساكرها إلى حرب الحسين عليه السلام ..... ص : 192

ومن الإجراءات المهمّة والخطيرة التي اتخذها ابن زياد تجميده حركة عدد كبير من الجيوش المتوجهة نحو الحدود لترابط فيها، ليعبئها تحضيراً لحرب الإمام الحسين عليه السلام، يروي الطبري: «عن شهاب بن خراش، عن رجل من قومه: كنتُ في الجيش الذي بعثهم ابن زياد إلى حسين، وكانوا أربعة آلاف يريدون الديلم، فصرفهم عبيداللَّه إلى حسين». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 193

حركة السلطة الأمويّة المحلّية في مكة المكرمة ..... ص : 193
قلق الوالي من تواجد الإمام عليه السلام في مكّة ..... ص : 193

ذعر عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق) «1» والي مكة آنذاك من دخول الإمام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 194

الحسين عليه السلام مكّة المكرّمة ومن تواجده فيها، ومن تقاطر الوفود عليه والتفاف الناس حوله، فلم يُطق الوالي صبراً، ولم يجد بُدّاً من أن يسأل الإمام عليه السلام عن سرّ قدومه إلى مكّة، «فقال له عمرو بن سعيد: ما إقدامك!؟

فقال: عائذاً باللَّه وبهذا البيت!». «1»

وفي جواب الإمام عليه السلام دلالة قاطعة على أنّ السلطة الأموية كانت قد أرادت بالإمام عليه السلام سوءً في المدينة المنوّرة، كأن تفرض عليه الإقامة الجبرية مثلًا أو تغتاله أو تُلقي عليه القبض فتدفع به الى يزيد، ولذا فقد خرج منها خائفاً يترقب، وقد أشرنا من قبل إلى أنّ خوفه على نفسه وإن كان سبباً في خروجه منها إلا أنه يقع في طول السبب الأهم وهو خوفه على ثورته من أن تؤسر في حدود المدينة أو تخمد في مهدها قبل اندلاعها فلا تصلُ إشعاعاتها المباركة الى حيث أراد عليه السلام، هذا فضلًا عن حرصه عليه السلام ألا تهتك حرمة حرم الرسول صلى الله عليه و آله بقتله.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 195

سفر الأشدق الى المدينة المنوّرة وتهديده أهلها ..... ص : 195

تتحدث روايات تأريخية عديدة عن قدوم عمرو بن سعيد الأشدق الى المدينة المنورة في شهر رمضان سنة ستّين للهجرة، والظاهر أنّ سفر هذا الطاغية الى المدينة كان بعد عزل الوليد بن عتبة عن منصب الولاية عليها في شهر رمضان نفسه، والأظهر أنّ سفر هذا الطاغية الأمويّ الى المدينة كان من مكّة إليها لأنّ جلّ المؤرّخين ذكروا أنه كان والياً على مكّة عند موت معاوية وأضيفت إليه ولاية المدينة بعد عزل الوليد عنها.

و «قدم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق المدينة أميراً، فخرج إلى

منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقعد عليه وغمض عينيه، وعليه جُبّة خزّ قرمز، ومُطرَف خزّ قرمز، وعمامة خزّ قرمز، فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجاباً بها، ففتح عينيه فإذا الناس ينظرون إليه، فقال: مابالكم ياأهل المدينة ترفعون إليَّ أبصاركم، كأنّكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم! أغرّكم أنّكم فعلتم ما فعلتم فعفونا عنكم! أما إنّه لو أُثبتُم بالأولى ما كانت الثانية! أغرّكم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرنا منّا رفيقاً، قد فَني غضبه، وبَقي حلمُه! إغتنموا أنفسكم فقد واللَّه ملكناكم بالشباب المقتبل، البعيد الأمل، الطويل الأجل حين فرغ من الصغر، ودخل في الكبر، حليمٌ حديدٌ، ليّن شديد، رقيق كثيف، رفيق عنيفٌ، حين اشتدّ عَظْمهُ، واعتدل جسمه، ورقى الدهرَ ببصره، واستقبله بأسره، فهو إن عضَّ نهس، وإن سطا فرس لايقلقل له الحصى، ولا تُقرع له العصا، ولا يَمشي السُّمَهى. قال: فما بقيَ (أي يزيد) بعد ذلك إلا ثلاث سنين وثمانية أشهر حتى قصمه اللَّه!». «1»

«وعرض في خطابه لابن الزبير فقال: فواللَّه لنغزونّه، ثمّ لئن دخل الكعبة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 196

لنحرقنّها عليه، على رغم أنف من رغم ..

ورعف الطاغية على المنبر، فألقى إليه رجل عمامة فمسح بها دمَه، فقال رجل من خثعم: دم على المنبر في عمامة! فتنة عمّت وعلا ذكرها وربّ الكعبة!». «1»

وقد أُثر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنه قال: «ليرعفنّ على منبري جبّار من جبابرة بني أميّة فيسيل رعافه!».». «2»

وقال ابن عبد ربه الأندلسي: «قدم عمرو بن سعيد أميراً على المدينة والموسم، وعزل الوليد، فلمّا استوى على المنبر رعف، فقال أعرابي: مه! جاءنا بالدم!. فتلقّاه رجل بعمامته، فقال: مه! عمَّ الناسَ واللَّهِ! ثمّ قام فخطب فناولوه عصا لها شعبتان، فقال:

تشعّبَ واللَّهِ ..».»

والملفتُ للإنتباه هنا هو أنّ الأشدق في هذه الخطبة بعد تهديده أهل المدينة وإرعابهم، «4» وتذكيرهم بِتِرَةِ دم عثمان الذي قتله الصحابة، «5» وبعد مدحه يزيد وثنائه عليه وتحذير أهل المدينة من بأسه، نراه لا يتطرّق بشي ء إلى قضية الإمام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 197

الحسين عليه السلام بصورة مباشرة، وإن كان تهديده أهل المدينة كاشفاً عن خوفه من تأييده أهل المدينة للإمام عليه السلام خاصة ولكل معارض عامة، ولعلّ سبب عدم تعرّضه مباشرة لقضية الإمام عليه السلام هو معرفته بمكانة الإمام عليه السلام وقدسيته في قلوب الأمّة، فهو يخشى أن يهيج قلوب الناس على السلطة الأموية بما يدفع الناس عملياً نحو الإلتفاف حول الإمام عليه السلام، ثمّ نرى الأشدق يُعلن صراحة عن عزم السلطة على قتل ابن الزبير، ولعلّ علمه بأنّ ابن الزبير لايتمتع بمكانة ومنزلة خاصة في قلوب الناس هو الذي جرّأه على تلك الصراحة، لكننا نجد هذا الجبّار الأموي لايتورّع عن سحق مشاعر الأمّة في إجلالها لحرمة الكعبة حين يهدّد بإحراقها على رغم أنف من رغم! وفي هذا مؤشر واضح على الدرجة الخطيرة التي بلغها مرض الشلل النفسي والروحي في كيان الأمّة، حيث تسمع مثل هذا التحدّي لمشاعرها في مقدّساتها ولا تثور على مثل هذا الجبّار العنيد!

تنفيذ أمر يزيد باعتقال الإمام عليه السلام أو اغتياله في مكّة ..... ص : 197

قلنا فيما مضى- في متابعتنا لحركة السلطة الأموية المركزية في الشام- تحت عنوان (التخطيط لاغتيال الإمام عليه السلام أو اعتقاله في مكّة): إنّ هذه الخطة من المسلّمات التأريخية التي يكاد يجمع على أصلها المؤرّخون، وقدّمنا هناك مجموعة كافية من الدلائل التأريخية على وجود هذه الخطة التي كانت السبب الصريح لمبادرة الإمام عليه السلام الى الخروج من مكّة يوم التروية كما هو المشهور والصحيح، إضافة الى

الأسباب الأخرى الداعية الى مبادرة الخروج والتي تقع في طول ذلك السبب الصريح.

ويهمّنا هنا في متابعتنا لحركة السلطة الأموية المحلّية في مكّة المكرّمة أن نتعرّف على حدود مسؤولية هذه السلطة المحلية في تنفيذ خطة السلطة المركزية لاغتيال الإمام عليه السلام أو إلقاء القبض عليه في مكة المكرمة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 198

إنّ المتأمّل في النصوص الواردة عن الإمام عليه السلام نفسه في هذا الصدد يرى أنه عليه السلام يُلقي بمسؤولية هذه الخطّة على النظام الأموي ككل وينسب هذه المسؤولية صراحة الى يزيد، كما في قوله لأخيه محمد بن الحنفية (رض): «يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت»، «1»

وفي قوله عليه السلام للفرزدق «لو لم أعجل لأُخذتُ». «2»

وفي قوله عليه السلام لابن الزبير: «لأن أُقتل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ من أن أُقتل خارجاً منها بشبر، وأيمُ اللَّه، لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم!». «3»

لكنّ متوناً تأريخية أخرى تصرّح بأن المكلّف بتنفيذ هذه الخطة والإشراف عليها في مكّة هو واليها عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق)، يقول الطريحي في تعليله لعدم أداء الإمام عليه السلام مناسك الحج تلك السنة: «.. وذلك لأنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولّاه أمر الموسم، وأمّره على الحاج كلّه، وكان قد أوصاه بقبض الحسين سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة. ثمّ إنّه لعنه اللَّه دسّ مع الحجّاج في تلك السنة ثلاثين رجلًا من شياطين بني أميّة، وأمرهم بقتل الحسين على كلّ حال اتفق ..». «4»

ومن قبله كان السيّد ابن طاووس قدس سره قد أشار إلى ذلك قائلًا: «فلمّا كان

يوم التروية قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى مكّة في جند كثيف، قد أمره يزيد أن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 199

يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه، أو يقاتله إن قدر عليه، فخرج الحسين يوم التروية». «1»

ولاشك أنّ تصحيفاً وقع من سهو النسّاخ في بعض نسخ كتاب السيّد ابن طاووس قدس سره، حيث ورد فيه إسم (عمر بن سعد بن أبي وقّاص) بدلًا من (عمرو بن سعيد بن العاص)، ذلك لأنّ الثابت والمشهور تأريخياً أنّ عمر بن سعد كان في الكوفة في الأيام التي كان فيها الإمام عليه السلام في مكّة. «2»

ويذكر السيّد المقرّم (ره): «أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاج، وولّاه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد ..». «3»

مما مرّ يتضح أنّ والي مكّة آنذاك عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق) كان مأموراً بتنفيذ خطة اغتيال الإمام عليه السلام أو إلقاء القبض عليه في مكّة سرّاً أو في مواجهة عسكرية علنية.

لكنّ لنا تحفّظاً على هذه المتون في نقطتين هما:

1)- أنّ المستفاد من متون تأريخية أخرى هو أنّ عمرو الأشدق كان في مكّة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 200

منذ أوّل يوم دخل إليها الإمام الحسين عليه السلام، «1» وقد كان هذا الأشدق والياً على مكّة منذ أيّام معاوية، وعلى هذا جُلّ المؤرّخين. ولم نعثر على نصّ تأريخي يفيد أنّ الأشدق سافر الى الشام ثم عاد الى مكّة في المدّة التي كان الإمام عليه السلام فيها بمكّة.

ولذا فإنّ ماورد في نصّ الطريحي أنّ «يزيد أنفذ عمرو» يحمل على معنى أنّ يزيد أمر عمرو، وما ورد في نصّ ابن طاووس أنّ عمرو قدم الى مكّة يوم التروية قد يحمل على عودته

من المدينة إلى مكّة بعد أن سافر إليها لإرعاب أهلها، ومع هذا فإنّ من المستبعد جدّاً أن يعود الأشدق إلى مكّة يوم التروية ويتركها أياماً طويلة والإمام عليه السلام فيها ووفود الناس تقبل عليه وتلتفّ حوله!

2)- ورد في بعض هذه المتون أنّ يزيد أنفذ الأشدق في عسكر عظيم أو في جند كثيف، لكنّ المستفاد من دلائل تأريخية أخرى هو أن والي مكة الأشدق لم تكن لديه تلك القوّة العسكرية المبالغ فيها، بل كان لديه جماعة من الجند والشرطة قد تكفي لضبط الأمور الإدارية داخل مكّة ولتنظيم حركة الحجيج آنذاك وحراسة السلطان فقط، وسنأتي على ذكر بعض هذه الدلائل التأريخية لاحقاً في متابعتنا لمحاولة عمرو بن سعيد الأشدق منع الإمام عليه السلام من الخروج عن مكّة.

ويؤكّد صحة مانراه: أنّ الأشدق لم يحقّق ما أمر به من إلقاء القبض على الإمام عليه السلام داخل مكّة، أو الفتك به سرّاً، أو جهراً في مواجهة علنية!

ولعلّ قائلًا يقول: إنّ وجود الحماية الكافية التي كان الإمام عليه السلام يتمتّع بها حيثما حلّ في مكّة كان السبب في عجز الأشدق عن تنفيذ ما أُمر به!

ولا يخفى أنّ هذا القول اعتراف ضمني بعدم كفاية القوّة الأموية!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 201

أو يقول: إنّ عمرو بن سعيد الأشدق تحاشى الفتك بالإمام عليه السلام في مواجهة علنية لأنه يخشى من تفاقم الأمر على السلطة الأمويّة بسبب تواجد جموع الحجيج العامرة قلوبهم بحبّ الإمام عليه السلام وتقديسه!

ولا يخفى أنّ هذا القول صحيح لو لم تكن هناك أوامر صريحة وصارمة من قبل يزيد بضرورة تنفيذ المؤامرة، أو أنّ عمرو الأشدق لم يكن ذلك الطاغية الجبّار الأرعن الذي لم يتورّع أمام أهل المدينة عن إعلان استعداده لحرق الكعبة

إذا تحصّن بها ابن الزبير رغم أنف من رغم! غير مبالٍ بقداسة الكعبة وحرمتها ولا بمشاعر الأمّة!

ويؤيّد مانراه أيضاً ماورد في نفس نصّ ابن طاووس (ره) أنّ يزيد أمر الأشدق بمناجزة الحسين عليه السلام (إن هو ناجزه!) أو يقاتله (إن هو قدر عليه!)، وفي هذا إشعار كافٍ بخوف يزيد من عدم كفاية القوّة الأموية، فأين إذن ذلك العسكر العظيم والجند الكثيف.

وينبغي التأكيد هنا: أنّ كلّ ما قدّمناه لاينافي كون أنّ هذه الخطة والمؤامرة كانت السبب الصريح في مبادرة الإمام عليه السلام الى الخروج من مكّة يوم التروية (قبيل الشروع بمراسم الحج)، وذلك لأنّ أعوان السلطة وعملاءها قد يتمكنون من اغتيال الإمام عليه السلام أثناء الحجّ حيث يكون هو وأنصاره وجميع الحجيج عُزّلًا من السلاح.

محاولة عمرو الأشدق لمنع الإمام عليه السلام من الخروج عن مكّة ..... ص : 201

يحدّثنا التأريخ عن أسلوبين سلكتهما السلطة الأمويّة المحليّة في مكّة لمنع الإمام عليه السلام من الخروج عن مكّة، أحدهما كان أسلوباً سلميّاً عرض فيه عمرو بن سعيد الأشدق الأمان والبر والصلة للإمام عليه السلام في رسالة وجهها إليه، والآخر كان

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 202

أسلوباً قمعياً وعسكرياً حيث تصدّت جماعة من جند السلطة للركب الحسيني لمنع حركته في الخروج عن مكّة.

ويبدو أنّ الأسلوب الأوّل أي أسلوب بذل الأمان والصلة كان قبل الأسلوب القمعي، كما هي العادة في مثل هذه الوقائع.

تقول رواية تأريخية أنّ الأشدق لما بلغه عزم الحسين عليه السلام على مغادرة مكّة بعث إليه رسالة ورد فيها: «إنّي أسأل اللَّه أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يرديك، بلغني أنك قد عزمت على الشخوص إلى العراق! وإني أُعيذك باللَّه من الشقاق، فإنّك إن كنت خائفاً فأقبل إليَّ فلك عندي الأمان والبرّ والصلة!». «1»

قد يُستفاد من قوله: «بلغني أنك قد عزمت على الشخوص

..» أنّ هذه الرسالة كتبها الأشدق والإمام عليه السلام في مكّة قبل شخوصه إلى العراق، لكنّ قوله الآخر فيها:

«فإنك إن كنت خائفاً فأقبل إليّ» مشعر بأنّ الأشدق قد كتبها إلى الإمام عليه السلام وقد خرج بالفعل عن مكة.

لكنّ رواية الطبري تصرّح بأنّ الأشدق بعث بهذه الرسالة إلى الإمام عليه السلام بعد خروجه باقتراح من عبداللَّه بن جعفر، وأنّ الذي تولّى أمر كتابة هذه الرسالة بالفعل هو عبداللَّه بن جعفر ثمّ ختمها الأشدق بختمه، يقول الطبري:

«وقام عبداللَّه بن جعفر الى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه، وقال: أكتب إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئن إلى ذلك فيرجع. فقال عمرو بن سعيد: أكتب ماشئت وأتني به حتى أختمه. فكتب عبداللَّه بن جعفر الكتاب، «2» ثمّ أتى به عمرو بن سعيد،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 203

فقال له: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنّه أحرى أن تطمئن نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك. ففعل». «1»

ويتابع الطبري روايته قائلًا: «.. فلحقه يحيى وعبداللَّه بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له عليَّ كان أو لي! فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربي!

قال وكان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّ عليه السلام:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

«من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي: أمّا بعد، فإني أسأل اللَّه أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما

يرشدك، بلغني أنك قد توجّهت إلى العراق، وإني أُعيذك باللَّه من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبداللَّه بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك اللَّه عليّ بذلك شهيد وكفيل ومراعٍ ووكيل. والسلام عليك». «2»

ولا يخفى على ذي بصيرة مافي هذه الرسالة وأشباهها من رسائل السلطة الأموية الظالمة من مفردات متكررة مقصودة، فالخروج على النظام الظالم فيها من الموبقات، ومن الشقاق، وسعيٌ في تفريق كلمة الأمّة والجماعة، وما الى ذلك من أسلحة إعلامية لمواجهة كلّ قيام للحق والعدل والإصلاح!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 204

ويذكر الطبريّ أنّ الإمام عليه السلام كتب إليه:

«.. أمّا بعدُ: فإنه لم يشاقق اللَّه ورسوله من دعا إلى اللَّه عزّوجلّ وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، وقد دعوتَ الى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان اللَّه، ولن يؤمن اللَّه يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، فنسأل اللَّه مخافه في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبري فجُزيت خيراً في الدنيا والآخرة والسلام». «1»

ويبدو أنّ الأشدق لمّا آيس من أسلوب عرض الأمان «2» على الإمام عليه السلام لجأ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 205

إلى ما تعوّد عليه من الأساليب القمعية في المواجهة، فقد روى الطبري عن عقبة بن سمعان قال: «لمّا خرج الحسين من مكّة اعترضه رسلُ عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف، أين تذهب!؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط، ثمّ إنّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قويّاً، ومضى الحسين عليه السلام على وجهه، فنادوه: ياحسين، ألا تتقي اللَّه، تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمّة!؟ فتأوّل حسين قول

اللَّه عزّوجلّ (لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بري ء مما تعملون)». «1»

وتقول رواية الدينوري: «ولما خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد ابن العاص في جماعة من الجند، فقال: إنّ الأمير يأمرك بالإنصراف، فانصرف وإلّا منعتك!

فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط.

وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل الى صاحب شُرَطهِ يأمره بالإنصراف!». «2»

والمتأمّل في هذين النصّين يستشعر بوضوح أنّ القوّة العسكرية الأموية لم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 206

تكن كافية لمنع الإمام عليه السلام من الخروج، والمفروض في مثل هكذا مواجهة تقع خارج حدود المدينة مع الركب الحسيني الكبير نسبياً حتى ذلك الوقت) أن يستعمل الأشدق كلّ ما لديه من قوّة في مواجهة الإمام عليه السلام لمنعه من الخروج، غير أنّ الحال لم تعدُ أن تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط ثمّ خاف الأشدق من تفاقم الأمر! وأمر (رسله) أو (جماعة من جنده) بالإنصراف خائبين.

رضي الله عنه رضي الله عنه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 207

الفصل الثالث ..... ص : 207

اشارة

حركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية

الفصل الثالث: حركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية ..... ص : 207
اشارة

سجّل لنا التأريخ في المدّة التي قضاها الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة وقائع كثيرة وصوراً مهمة لحركة الأمّة أفراداً وجماعات على صعيد مواقفهم التي اتخذوها إزاء قيام الإمام الحسين عليه السلام- سلباً أو إيجاباً- في أهمّ مدن العالم الإسلامي التي يمكن آنذاك فيها لحركة المعارضة إذا اشتدّت شوكتها أن تؤثّر في تغيير مجرى حركة الأحداث أو ترسم للعالم الإسلامي مستقبلًا آخر.

وعدا دمشق ومدن الشام الأخرى التي كانت مغلقة سياسياً وإعلامياً- بشكل عام- لصالح الحكم الأمويّ، فإنّ أهمّ مدن قلب العالم الإسلامي التي يمكن أن تتحرك فيها المعارضة السياسية آنذاك بصورة خطيرة هي الكوفة والبصرة والمدينة ومكّة.

وفي متابعتنا هنا لحركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية نرى من الأفضل- رعاية لترتب بدء التحرك تأريخياً- أن نبدأ أوّلًا في قراءة حركة الأمّة في الحجاز (في أهمّ مدنه: مكة والمدينة)، ثمّ نتابع هذه الحركة في الكوفة، ثمّ في البصرة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 210

حركّة الأمّة في الحجاز ..... ص : 210
اشارة

سجّل لنا التأريخ على صعيد حركة الأمة في الحجاز مجموعة من حوادث ووقائع وصُوَر في أهمّ حاضرتين فيه آنذاك وهما مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، نقرأها هنا على النظم التالي:

إحتفاء الناس في مكّة المكرّمة بالإمام عليه السلام ..... ص : 210

استقبل الناس «1» في مكّة المكرّمة خبر قدوم الإمام الحسين عليه السلام استقبال البشرى، واحتفوا به حفاوة بالغة، فكانوا يفدون ويختلفون إليه ويحوطونه دون غيره، إذ كان عليه السلام يومذاك بقيّة الرسول صلى الله عليه و آله في هذه الأمّة، وسيّد العرب والحجاز خاصة وسيّد المسلمين والعالم الإسلاميّ عامة، فما كان ثَمَّ مَن ينازعه يومذاك من الناس سموّ مرتبته وعلوّ مقامه وشرف منزلته في قلوب المسلمين.

يقول ابن كثير: «فعكف الناس على الحسين يفدون إليه، ويقدمون عليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد، وأمّا ابن الزبير فإنّه لزم مصلّاه عند الكعبة، وجعل يتردّد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولايمكنه أن يتحرّك بشي ء مما في نفسه مع وجود الحسين لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه عليه .. بل الناس إنّما ميلهم إلى الحسين لأنّه السيّد الكبير وابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساميه ولايساويه ..». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 211

وقال الدينوري: «واختلف الناس إليه، فكانوا يجتمعون عنده حلقاً حلقاً، وتركوا عبدالله بن الزبير، وكانوا قبل ذلك يتحفّلون إليه، فساء ذلك ابن الزبير، وعلم أنّ الناس لايحفلون به والحسين مقيم بالبلد، فكان يختلف الى الحسين رضي الله عنه صباحاً ومساءً.». «1»

وجهاء الأُمّة .. مشورات ونصائح ..... ص : 211
اشارة

طيلة المدّة التي أقام الإمام عليه السلام فيها بمكّة المكرّمة كان عليه السلام، قد التقى مجموعة منوّعة المشارب والميول والأفكار من وجهاء مرموقين ومعروفين في أوساط الأمّة الإسلامية، وقد عرض هؤلاء على الإمام عليه السلام مشوراتهم ونصائحهم واعتراضاتهم، كلّ منهم على هدي مشربه وميله وطريقة تفكيره، ولئن اختلفت تلك المشورات والنصائح والإعتراضات في بعض تفاصيلها، فقد اشتركت جميعها في

منطلق التفكير والنظرة الى القضية، إذ إنّ جميعها كان يرى الفوز والنصر في تسلّم الحكم والسلامة والعافية والأمان الدنيوي، ويرى الخسارة والإنكسار في القتل والتشرّد والبلاء والتعرّض للإضطهاد، فمن هذا المنطق انبعثت جميع تلك الإعتراضات والمشورات والنصائح.

وكم هو الفرق كبير والبون شاسع بين هذا المنطق وبين منطق العمق الذي كان قد جعل أساس حساباته مصير الإسلام والأمة الإسلامية، ولم يغفل في نظرته إلى متّجه حركة الأحداث عن «أنّ معاوية بن أبي سفيان (الذي انتهت إليه قيادة حركة النفاق آنذاك) قد أضلّ جُلّ هذه الأمّة إضلالًا بعنوان الدين نفسه! حيث عتّم على ذكر أهل البيت عليهم السلام وعلى ذكر فضائلهم تعتيماً تاماً، وافتعل من خلال وُضّاع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 212

الأحاديث- افتراءً على النبيّ صلى الله عليه و آله- قداسة مكذوبة «1» له ولبعض مَن مضى مِن الصحابة الذين قادوا حركة النفاق أو ساروا في ركابها، وتآزروا على غصب أهل البيت عليهم السلام حقّهم الذي فرضه الله لهم، وخدّر معاوية بن أبي سفيان الأمّة المسلمة عن القيام والنهوض ضدّ الظلم من خلال تأسيس فرق دينية تقدّم للناس تفسيرات دينية تخدم سلطة الأمويين وتبرّر أعمالهم، كما في مذهب الجبر ومذهب الإرجاء، وأعانه على ذلك مابذله من جهدٍ كبير في تمزيق الأمّة قبلياً وطبقياً، وفي اضطهاد الشيعة اضطهاداً كبيراً.

ومع طول مدّة حكمه انخدع جُلّ هذه الأمّة بالتضليل الديني الأمويّ، واعتقدوا أنّ حكم معاوية حكم شرعي، وأنه امتداد للخلافة الإسلامية بعد رسول الله صلى الله عليه و آله، وأنّ معاوية إمام هذه الأمّة، وأنّ من ينوب عنه في مكانه إمام هذه الأمّة وامتداد لأئمتها الشرعيين!! ومن المؤسف حقّاً أنّ جُلّ هذه الأمّة خضع خضوعاً أعمى لهذا التظليل وانقاد له، فلم

يعد يبصر غيره، بل لم يعد يصدّق أنّ الحقيقة شي ء آخر غير هذا!! ... ولقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الإطار الديني هو أن يثور عليه رجلٌ ذو مركز دينيّ مسلّم به عند الأمّة الإسلامية، فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تمزّق الرداء الديني الذي يتظاهر به الحكّام الأمويون، وأن تكشف هذا الحكم على حقيقته، وجاهليته، وبُعده الكبير عن مفاهيم الإسلام، ولم يكن هذا الرجل الإّ الحسين عليه السلام، فقد كان له في قلوب الأكثرية القاطعة من المسلمين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 213

رصيد كبير من الحبّ والإجلال والتعظيم ... ولو لم تكن واقعة كربلاء لكان الأمويون قد واصلوا حكم الناس بإسم الدين، حتى يترسّخ في أذهان الناس بمرور الأيام والسنين أنه ليس هناك إسلام غير الإسلام الذي يتحدّث به الأمويون ويؤخذ عنهم!! وعلى الإسلام السلام!.

لو لم تكن واقعة عاشوراء لما كان بالإمكان فصل الإسلام والأموية عن بعضهما البعض، ممّا يعني أنّ زوال الأمويّة يوماً ما كان سيعني زوال الإسلام أيضاً! ولكانت جميع الإنتفاضات والثورات التي قامت على الظلم الأمويّ تقوم حين تقوم على الإسلام نفسه! لكنّ الفتح الحسيني في عاشوراء هو الذي جعل كلّ هذه الإنتفاضات والثورات التي قامت بعد عاشوراء إنّما تقوم باسم الإسلام على الأموية!.». «1»

اشارة: ..... ص : 213

ونلفت الإنتباه هنا إلى أنّ الإمام الحسين عليه السلام في الوقت الذي كان يتحرك بالفعل على أساس منطق العمق هذا- منطق الفتح بالشهادة- كان يتعاطى أيضاً بمنطق الحجج الظاهرة في تعامله مع منطق الظاهر، منطق تكلم المشورات والنصائح، كما أنه عليه السلام كان يراعي في ردوده وإجاباته في محاوراته مع أصحاب تلك المشورات والنصائح نوع المخاطَب من حيث قدر عقله ومستوى بصيرته ودرجة ولائه لأهل البيت عليهم السلام

ونوع اعتقاده بهم ومدى علاقته بأعدائهم.

فنراه عليه السلام مثلًا يردّ على أم سلمة (رض) ومحمد بن الحنفية (رض) وعبدالله بن عبّاس (رض) ردوداً تختلف عن ردوده على عبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن مطيع العدوي وأمثالهم.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 214

هذه الحقيقة لابدّ من استحضارها وعدم الغفلة عنها في قراءتنا لمحاوراته عليه السلام حتّى نفهم سرّ التفاوت الظاهري في إجاباته وردوده عليه السلام.

تحرّك عبدالله بن عبّاس ..... ص : 214
اشارة

سجّل لنا التأريخ أكثر من محاورة تمّت بين الإمام عليه السلام وبين عبدالله بن عبّاس، وقد كشفت هذه المحاورات في مجموعها عن أنّ ابن عبّاس (رض) كان قد تحرّك في حدود السعي لمنع الإمام عليه السلام من الخروج الى العراق- لا من القيام والثورة على الحكم الأمويّ-، وكانت حجّته في اعتراضه على خروج الإمام عليه السلام إلى الكوفة أنّ على أهل الكوفة- قبل أن يتوجّه إليهم الإمام عليه السلام- أن يتحرّكوا عملياً لتهيئة الأمور وتمهيدها للإمام عليه السلام، كأن يطردوا أميرهم الأمويّ أو يقتلوه، وينفوا جميع أعدائهم من الأمويين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة، ويضبطوا إدارة بلادهم، وآنئذٍ يكون من الرشاد والسداد أن يتوجّه إليهم الإمام عليه السلام، وإلّا فإنّ خروج الإمام عليه السلام إليهم- وهم لم يحرّكوا ساكناً بعدُ- مخاطرة لاتكون نتيجتها إلّا القتل والبلوى، ومما قاله ابن عبّاس للإمام عليه السلام في صدد هذه النقطة:

«أخبرني رحمك الله، أتسير الى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم!؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فَسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك الى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك!.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص:

215

وقال له ايضاً: «.. فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا- فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلّا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، وتبثّ دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.». «1»

هذه أهمّ نقطة أثارها عبد الله بن عبّاس في مجموع محاوراته مع الإمام عليه السلام، وهي كاشفة عن محورٍ أساس في تفكير ابن عبّاس يتلخّص في تأييده لقيام الإمام عليه السلام واعتراضه فقط على الخروج الى العراق قبل تحرّك أهله وقيامهم، وهذا فارق كبير من مجموع الفوارق بين موقف ابن عباس وموقف عبدالله بن عمر الذي كان يعترض على أصل القيام ضد الحاكم الأموي الجائر.

لكنّ هذه النقطة بالذات كاشفة أيضاً عن انتماء ابن عباس الى مجموعة الناصحين والمشفقين الذين نظروا الى القضية بمنظار النصر الظاهري الذي لم تكن متطلّباته لتخفى على الإمام عليه السلام لو كان قد تحرّك بالفعل للوصول الى ذلك النصر.

والآن فلنأتِ الى نصوص محاورات ابن عباس مع الإمام عليه السلام:

المحاورة الأولى: ..... ص : 215

وهي محاورة ثلاثية كان عبدالله بن عمر، الثالث فيها، ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت في الأيام الأولى من إقامة الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، وكان بها يومئذٍ ابن عباس وابن عمر (وقد عزما أن ينصرفا الى المدينة)، ونحن نركّز هنا على نصوص التحاور فيها بين الإمام عليه السلام وبين ابن عباس لأننا الآن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 216

بصدد تشخيص أبعاد موقفه وتحرّكه.

وقد ابتدأ ابن عمر القول في هذه المحاورة محذّراً الإمام عليه السلام من عداوة البيت الأموي وظلمهم وميل الناس الى الدنيا، وأظهر له خشيته عليه من أن يُقتل، وأنه سمع رسول الله صلى الله

عليه و آله يقول: «حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلهم الله إلى يوم القيامة»، «1» ثمّ أشار على الإمام عليه السلام أن يدخل في صلح ما دخل فيه الناس وأن يصبر كما صبر لمعاوية!! «2»

فقال له الحسين عليه السلام: «أبا عبدالرحمن! أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله فيه وفي أبيه ما قال!؟

فقال ابن عباس: صدقتَ أبا عبدالله، قال النبيّ صلى الله عليه و آله في حياته: مالي وليزيد، لا بارك الله في يزيد!، وإنّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه السلام، والذي نفسي بيده لايُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم!

ثم بكى ابن عباس، وبكى معه الحسين عليه السلام.

وقال: «يا ابن عباس، تعلمُ أنّي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله!

فقال ابن عباس: أللّهمّ نعم، نعلمُ ونعرف أنّ ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله غيرك، وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لايقدر أن يقبل أحدهما دون الأخرى!

قال الحسين عليه السلام: يا ابن عباس، فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله من داره وقراره ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره، ومولده،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 217

ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً لايستقرّ في قرار ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله!.

فقال ابن عباس: ما أقول فيهم إلّا «إنّهم كفروا بالله وبرسوله ولايأتون الصلاة إلّا وهم كُسالى»، «1» «يُراؤون الناس ولايذكرون الله

إلّا قليلًا، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يُظلل اللهُ فلن تجد له سبيلا»، «2»

وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأمّا أنت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله فإنك رأس الفخار برسول الله صلى الله عليه و آله وابن نظيرة البتول، فلا تظنّ يا ابن بنت رسول الله أنّ الله غافل عمّا يعمل الظالمون، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك، وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله فماله من خلاق.

فقال الحسين عليه السلام: أللّهمَّ اشهد.

فقال ابن عباس: جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك! والله الذي لا إله إلّا هو أن لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممن أوفّي من حقّك عشر العشر وها أنا بين يديك مرني بأمرك.

وهنا يتدخل ابن عمر ليغيّر مجرى الحوار- حين أحسَّ أنّ الكلام بلغ الدرجة الحرجة بقول الإمام عليه السلام «أللّهمّ اشهد» أنّ الحجّة قائمة على المخاطب، وصار الحديث على لسان ابن عباس الذي أدرك مغزى «أللّهمّ اشهد» في وجوب نصرة الإمام عليه السلام ووجوب الإنضمام إلى رايته في القيام ضد الحكم الأموي، الأمر الذي

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 218

يعني أنه (أي ابن عمر) مقصود أيضاً بالإمتثال لهذا الواجب- فقال لابن عباس:

مهلًا، ذرنا من هذا يا ابن عباس!!

ثمّ عطف يخاطب الإمام عليه السلام داعياً إيّاه الى الرجوع الى المدينة والتخلّي عمّا عزم عليه من القيام، وطالباً منه الدخول في صلح القوم، والصبر حتى يهلك يزيد!!، ويدّعي ابن عمر هنا أنّ الإمام عليه السلام متروك ولابأس عليه إن هو ترك القيام حتى وإنْ

لم يبايع!!

وهنا يُظهر الإمام عليه السلام تبّرمه من منطق ابن عمر، ثم يُلزمه بالتسليم لحقيقة أنّ ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله في طهره ورشده ومنزلته الخاصة ليس كيزيد بن معاوية، ويُعلمه أنّ الأمويين لايتركونه حتى يبايع أو يقتل، ثمّ يدعوه إلى نصرته، فإن لم ينصره فلا أقلّ من أن لايسارع بالبيعة!!

ثمّ أقبل الإمام الحسين عليه السلام على ابن عباس رحمه الله ..

فقال: يا ابن عباس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنت مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ الى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شي ءٌ من أخبارك، فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمتُ بالكلمة التي قالها إبراهيم الخليل عليه السلام يومَ أُلقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل) فكانت النار عليه برداً وسلاماً.

.. فبكى ابن عباس وابن عمر في ذلك الوقت بكاءً شديداً، والحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 219

يبكي معهما ساعة، ثمّ ودّعهما، وصار ابن عمر وابن عباس الى المدينة. «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 219

1)- أكّد ابن عباس (رض)- في أوّل ما نطق به خلال هذه المحاورة- أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان قد بلّغ الأمّة بأنّ يزيد قاتل الحسين عليه السلام، وأنّ على الأمّة أن تحمي الإمام عليه السلام وتنصره، وقد حذّر صلى الله عليه و آله الأمّة بأنّ الإمام عليه السلام لايُقتل بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم! وقد أكّد ابن عمر أيضاً على وقوع هذا التحذير والإنذار النبوي حيث قال إنه سمع الرسول صلى

الله عليه و آله يقول: «حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلهم الله الى يوم القيامة»، وهذا يعني أنّ الأمّة كان قد شاع في أوساطها خبر ملحمة مقتل الحسين عليه السلام وأنّ يزيد قاتله، وأنّ على الأمّة التحرك لحماية الإمام عليه السلام ونصرته!! لكنّ الأمّة بعد خمسين سنة من ارتحال الرسول صلى الله عليه و آله أعمتها أضاليل حركة النفاق عامة وفصيل الحزب الأموي منها خاصة، فتناءت عن وصايا رسول الله صلى الله عليه و آله وتحذيراته، الأمر الذي استشعر ابن عباس مرارته ونتائجه الخطيرة فبكى، وشاركه الإمام عليه السلام في البكاء!

2)- أكّد ابن عباس (رض) في هذه المحاورة على معرفته بمقام الحسين عليه السلام وضرورة موالاته ونصرته، بدليل قوله: «.. وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة ..»، وفي قوله: «.. لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 220

انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممّن أوفّي من حقّك عشر العشر ..».

3)- كما أكّد (رض) على معرفته بكفر الأمويين ونفاقهم، وأنّهم ومن أطاعهم في محاربة الإمام عليه السلام ممّن لانصيب لهم من الخير في الآخرة.

4)- قد يُستفاد من قوله (رض): «كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك ... الى قوله: وها أنا بين يديك مُرني بأمرك» أنّه وإن كان كبير السنّ يومذاك لكنّه كان صحيح القُوى سليم الجوارح وإلّا لما عرض استعداده للنصرة والجهاد، فلم يكن مكفوف البصر مثلًا- كما يُستفاد ذلك من رواية لقائه بأمّ سلمة (رض) بعد سماع صراخها تنعى الحسين عليه السلام «1»- نعم يمكن القول إنّ الإمام عليه السلام في جميع محاوراته مع ابن عباس لم يطلب منه الالتحاق به ونصرته، مما يقويّ القول

بأنه كان ضعيف البصر جداً أو مكفوفاً آنذاك، ومعذوراً عن الجهاد إلّا أنه (رض) عرض للإمام عليه السلام استعداده للجهاد والتضحية بين يديه استشعاراً منه لوجوب نصرة الإمام عليه السلام والذبِّ عنه وإنْ كان معذوراً.

5)- وقد يُستفاد أيضاً من أحد نصوص هذه المحاورة أنّ الإمام عليه السلام رخّص لابن عباس (رض) بالبقاء وعدم الالتحاق بركبه، حيث قال عليه السلام له: «فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شي ء من أخبارك».

6)- أخبر الإمام عليه السلام ابن عباس (رض)- في الأيام الأولى من إقامته في مكّة المكرّمة- أنّ الأمويين يريدون قتله وسفك دمه!، والإمام عليه السلام بهذا ربّما أراد أن يُخبر عن وجود خطة وضعتها السلطة الأموية المركزية بالفعل لقتله في المدينة أو في مكّة، أو أراد أن يُخبر عن حقيقة أنّة (ما لم يبايع يقتل)، مؤكّداً بذلك على عدم صحة دعوى بعض من يقول- كابن عمر مثلًا- إنه عليه السلام لابأس عليه ولاخطر إن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 221

ترك المعارضة وصبر حتى وإن لم يبايع!

7)- ومع علمه عليه السلام بأنّه مالم يبايع يقتل! ومع إصراره على أن لا يكون هو الذي تستباح بقتله حرمة البيت الحرام! يمكننا أن نفهم قوله عليه السلام لابن عباس (رض) في ختام هذه المحاورة: «فإنّي مستوطن هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيت أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم ..» أنه عليه السلام أراد أن يطمئن ابن عباس (والمحاورة في أوائل الأيّام المكيّة) أنه باقٍ أيّاماً غير قليلة في مكّة، وأنّ هنالك متسعاً من الوقت، وإلّا فإنّ الإمام عليه السلام قد جعل استيطانه الحرم مشروطاً بحبّ أهله إيّاه ونصرتهم له! وهو عليه السلام يعلم أنه ليس

في (المكيّين) إلا نزر قليل جداً ممّن يحبّ أهل البيت عليه السلام، «1» فليس له في مكّة قاعدة شعبية تحميه وتنصره في مواجهة السلطة الأموية.

المحاورة الثانية: ..... ص : 221

ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت بين ابن عباس (رض) وبين الإمام عليه السلام بعد رجوع ابن عباس من المدينة الى مكّة المكرّمة مرّة أخرى، إذ تقول الرواية التأريخية: «وقدم ابن عباس في تلك الأيّام الى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين عزم على المسير، فأتى إليه ودخل عليه مسلّماً.

ثم قال له: جُعلتُ فداك، إنه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّك سائر الى العراق! فبيّن لي ما أنت عليه؟ «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 222

فقال: نعم، قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي «1» هذه إن شاء الله، ولاحول ولاقوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

فقال ابن عباس: أُعيذك بالله من ذلك، فإنك إنْ سرت الى قوم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، واتقوا عدوّهم، «2» ففي مسيرك إليهم لعمري الرشاد والسداد، وإن سرت إلى قوم دعوك إليهم وأميرهم قاهر لهم، وعمّالهم يجبون بلادهم، «3» فإنّما دعوك الى الحرب والقتال! وأنت تعلمُ أنه بلدٌ قد قُتل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله (!) وعبيد الله في البلد يفرض ويُعطي، والناس اليوم عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن تُقتل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم، فإن كنت على حال لابدّ أن تشخص فَصِرْ إلى اليمن فإنَّ بها حصوناً لك، وشيعة لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.

فقال الحسين عليه السلام: لابُدَّ من العراق!

قال: فإن عصيتني فلا تُخرج أهلك ونساءَك فيُقال إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فوالله ما آمَنُ أن تُقتل ونساؤك ينظرن كما قُتل عثمان.

فقال الحسين عليه السلام: والله يا ابن عم، لئن

أُقتل بالعراق أحبّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 223

مايكون». «1»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 223

1)- يمكن تشخيص تأريخ هذه المحاورة من قرائن متون روايتها أنّها حصلت في الأيام الأخيرة من إقامة الإمام عليه السلام في مكّة، بدليل قوله عليه السلام «قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه ..»، أو أنها حصلت في اليوم الأخير أو اليوم الذي قبله، بدليل قوله عليه السلام كما في رواية الطبري: «قد أجمعتُ المسير في أحد يوميّ هذين ..».

2)- تؤكّد نصوص هذه المحاورة أنّ تصميم الإمام عليه السلام على التوجّه الى العراق قد شاع في الناس في مكّة وغيرها، خصوصاً في الأيّام الأواخر من إقامته فيها، وهذا لاينافي أن يبقى موعد السفر سرّياً لو أراد الإمام عليه السلام ذلك، مع أن نفس موعد سفر الركب الحسيني من مكّة لم يكن سرّياً إذ كان الإمام عليه السلام قد أعلن عنه في خطبته قبيل سفره حين قال فيها: «... من كان باذلًا فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى.». «2»

3)- في هذه المحاورة يتجلّى المحور الأساس في تفكير ابن عباس (رض) وموقفه من قيام الإمام عليه السلام فهو مع القيام، وضد الخروج الى العراق قبل أن يتحرّك أهله عملياً لترتيب وتهيئة الأوضاع وتمهيدها استقبالًا لمقدم الإمام عليه السلام إليهم، وهذه المقولة صحيحة في حدود منطق النصر الظاهري الذي كانت تنطلق منه مشورات ابن عباس (رض) ونصائحه، والمُلفت للإنتباه أنّ الإمام عليه السلام لم يُخطّي ء

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 224

مثل هذه المشورة والنصيحة في جميع المحاورات التي طُرحت فيها من قِبل ابن عباس وغيره، «1» بل

كان يعلّق عليها بما يُشعر بصحتها في حدود منطق الظاهر. «2»

4)- في ضوء منطق (الظاهر) يمكن للمتابع المتأمّل أن يفسّر قول الإمام عليه السلام «لابدّ من العراق» أنّ إصراره عليه السلام على التوجّه الى العراق كان بسبب رسائل أهل الكوفة إليه، إذ شكّلت هذه الرسائل حجّة على الإمام عليه السلام في وجوب الإستجابة لهم والتوجّه إليهم، خصوصاً بعد وصول رسالة مسلم بن عقيل عليه السلام إليه وقد أخبره فيها بأنّ عدد المبايعين له في الكوفة بلغ ثمانية عشر ألفاً (أو أكثر)، وطالبه فيها بالقدوم إليهم، ويؤيّد هذا ما روي عنه عليه السلام أنه قال لابن عباس في محاورة أخرى:

«.. وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم وقد وجب عليَّ إجابتهم وقام لهم العذر عليَّ عند الله سبحانه». «3»

أمّا في ضوء منطق «العمق» فإنّ قوله عليه السلام «لابدّ من العراق» مع علمه بأنّ أهل الكوفة سوف يقتلونه ومن معه من أنصاره- وتصريحات الإمام عليه السلام بأنه سوف يُقتل كثيرة متظافرة- لابدّ أن يفسّر بأنّ الإمام عليه السلام يعلم أيضاً أنّ العراق هو الأرض المختارة للمصرع المختار، وميدان الواقعة الحاسمة، واقعة «الفتح بالشهادة»، الواقعة التي تكون نتائجها جميعاً لصالح الإسلام المحمّدي الخالص وأهل البيت عليهم السلام إلى قيام الساعة، ذلك لأنّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 225

إقليم إسلامي آخر، ولأنّ العراق لم ينغلق إعلامياً ونفسيّاً لصالح الأمويين كما هو الشام، بل لعلّ العكس هو الصحيح، فالعراق آنذاك هو أرض المصرع المختار لما ينطوي عليه من استعدادات للتأثر بالحدث العظيم «واقعة عاشوراء» والتغيّر على هدي اشعاعاتها.

ويؤيّد هذا التفسير (في العمق) أنّ الإمام عليه السلام ظلّ مصرّاً على التوجّه الى الكوفة حتى بعد انتفاء حجّة أهل

الكوفة عليه عملياً حين بلغه خذلانهم لمسلم عليه السلام الذي أمسى وحيداً وجاهد وحيداً حتى قُتل!

5)- ورد في هذه المحاورة قول ابن عباس (رض) للإمام عليه السلام: «.. وأنت تعلمُ أنّه بلدٌ قد قُتِل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله! ...» ولاشك أنّ المراد ب (ابن عمّك) هو مسلم بن عقيل عليه السلام، ولذا فإنّ هذه العبارة شاذّة ومخالفة للمشهور الثابت، ذلك لأنّ خبر مقتل مسلم عليه السلام أتى الإمام الحسين عليه السلام بعد خروجه من مكّة في منزل من منازل الطريق (زرود)، ولعلّ هذه العبارة قد أُدخلت إدخالًا على أصل متن هذه المحاورة عمداً أو سهواً، والله العالم.

كذلك الأمر في قول ابن عباس (رض) للإمام عليه السلام: «.. فأتقِ الله والزم هذا الحرم ..»، ذلك لأنّ فيه من سوء الأدب في مخاطبة الإمام عليه السلام ما يبعد صدوره جدّاً عن ابن عباس (رض) العارف بمقام الإمام الحسين عليه السلام خاصة وبمقام أهل البيت عليهم السلام عامّة.

6)- يمكن حمل قول الإمام عليه السلام: «.. لئن أُقتل بالعراق أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة ..» على أصل إصرار الإمام عليه السلام ألّا يكون هو القتيل في مكّة الذي تُستحلّ به حرمة هذا البيت، ويمكن حمل هذا القول أيضاً على حقيقة علمه عليه السلام بأنّ العراق هو أفضل أرض للمصرع المختار كما قدّمنا قبل ذلك، ولأنّ الواقعة التي يُقتل عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 226

فيها على أرض العراق سوف تكون إعلامياً وتبليغياً (على الأقلّ) في صالح الإمام عليه السلام تماماً بحيث لايتمكّن العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان هذه

الأمّة ويحرّكها بالإتجاه الذي أراده الحسين عليه السلام، وهذا بخلاف مالو قُتِل الإمام عليه السلام بمكّة غيلة في خفاء أو علانية، قتلة يمكن للعدوّ أن يُغطّي عليها ويتنصّل من مسؤوليته عنها، بل يستفيد من نفس الحادثة لصالحه إعلامياً، إذ يقتل القاتل- الذي كان قد أمره هو بقتل الإمام عليه السلام- فيظهر للأمّة بمظهر المطالب بدم الإمام عليه السلام الثائر له، فتنطلي اللعبة على أكثر الناس، وتبقى مأساة الإسلام على ماهي عليه، بل تترسخ المصيبة وتشتدّ.

7)- في ختام هذه المحاورة نقف أمام قول الإمام عليه السلام: «وما قضى اللّه فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر مايكون.»، وقد تكرّر قوله عليه السلام «أستخير الله» في بعض محاوراته عليه السلام مع ابن الزبير وابن مطيع وفي ردّه على كتاب المسور بن مخرمة.

فهل عنى الإمام عليه السلام بالإستخارة طلب معرفة ما فيه الخيرة من الأمور!؟ وهل يعني هذا أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم تكن لديه خطّة على الأرض في مسار نهضته منذ البدء، ولم يكن لديه علم بما هو قادم عليه من مصير في مستقبل ايّامه وأنّ بوصلة الإستخارة هي التي كانت توجّه حركته!؟

وهل يوافق هذا: الإعتقاد الحقّ بالشرائط اللازمة للإمامة المطلقة المتجسّدة في شخصيات أئمّة أهل البيت عليه السلام بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، خصوصاً على صعيد (علم الإمام عليه السلام)!؟

وهل يصدّق هذا التراث الروائي الكبير المتظافر المأثور عن النبيّ صلى الله عليه و آله

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 227

وعنهم عليهم السلام في إخباراتهم عن (الملاحم والفتن) إلى قيام الساعة، وخصوصاً الإخبارات المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله وعن عليّ والحسن والحسين عليهما السلام بصدد (ملحمة عاشوراء)!؟

قبل الإجابة يحسن بنا أن نتعرّض

هنا الى معنى الإستخارة لغة واصطلاحاً.

معنى الإستخارة: ..... ص : 227

الإستخارة لغةً: طلب الخِيرَة في الشي ء، واستخار الله: طلب منه الخيرة، و:

أللّهمّ خِر لي: أي اختر لي أصلح الأمرين. «1»

وهي إصطلاحاً- كما ورد في الروايات- على معانٍ:

1- بمعنى طلب الخيرة من الله، بأن يسأل الله في دعائه أن يجعل له الخير ويوفّقه في الأمر الذي يريده.

2- بمعنى تيسّر ما فيه الخيرة. وهو قريب من الأوّل.

3- طلب العزم على ما فيه الخير، بمعنى أن يسأل الله تعالى أن يوجد فيه العزم على ما فيه الخير.

4- طلب معرفة ما فيه الخيرة، وهو المتداول في العرف. «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 228

لنرجع الى أصل المسألة ..

لاشك أنّ مراد الإمام عليه السلام من الإستخارة ليس معناها المتداول في يومنا هذا:

وهو طلب معرفة مافيه الخيرة، وأنّه عليه السلام كان يريد استكشاف الغيب بطريق الرجاء بلاجزم ويقين!!

إذ إنّ هذا ينافي الإعتقاد الحقَّ بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام عندهم علم ماكان وما هو كائن ومايكون الى قيام الساعة موهبة من الله تبارك وتعالى، كما ينافي هذا روايات أخبار (الملاحم والفتن) الكثيرة المأثورة عنهم عليهم السلام والكاشفة عن علمهم بمسار وتفاصيل حركة أحداث العالم الى قيام الساعة، وخصوصاً أخبار (ملحمة عاشوراء) المأثورة عن الخمسة أصحاب الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير صلوات الله عليهم أجمعين. «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 229

إذن فمعنى الإستخارة هنا من الممكن أن يكون هو الدعاء الى الله تبارك وتعالى في أن يجعل له عليه السلام الخير في مسعاه ويوفّقه في الأمر الذي يريده، أو أن ييسّر له ما فيه الخير بتذليل كلّ الصعوبات والعوائق لبلوغ ما يبتغيه عليه السلام في طريق نهضته المقدّسة، أو الدعاء الى الله تبارك وتعالى

في طلب المزيد من العزم والتصميم على ما فيه الخير وجزيل المثوبة.

ولاشك أن المتابع المتأمّل يُدرك أنّ الإمام عليه السلام في جميع محاوراته التي ذكر فيها أمر الإستخارة أراد بذلك أن يُسكت المخاطب عن الإلحاح في نهيه عمّا هو عازم عليه.

ولا ينافي ما قدّمنا إذا حدّثنا التأريخ أنّ الإمام عليه السلام لجأ لقطع إلحاح المحاور الى الإستفتاح بالقرآن- وهو يعلم نتيجة الإستفتاح مسبّقاً- كما فعل ذلك مع ابن عباس نفسه، فقد روي «أنّ ابن عباس ألحّ على الحسين عليه السلام في منعه من المسير الى الكوفة، فتفأل بالقرآن لإسكاته، فخرج الفأل قوله تعالى: «كلّ نفس ذائقة الموت، وإنّما توفون أجوركم يوم القيامة ...»، «1»

فقال عليه السلام: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صدق الله ورسوله. ثمّ قال: يا ابن عباس، فلا تُلحَّ عليَّ بعد هذا فإنه لا مردّ لقضاء الله عزّ وجلّ.». «2»

المحاورة الثالثة: ..... ص : 229

يقول التأريخ: «فلمّا كان من العشيّ أو من الغد أتى الحسين عبدالله بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 230

عباس ...

فقال: يا ابن عم، إني أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والإستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنّهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإنْ أبيت إلّا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتُرسل وتبثّ دُعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية!

فقال له الحسين عليه السلام: يا ابن عم، إنّي والله لأعلم أنّك ناصحٌ مشفق، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير!

فقال له ابن عباس:

فإن كنت سائراً فلا تَسِرْ بنسائك وصبيتك، فوالله إنّي لخائف أن تُقتلَ كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه!

ثم قال ابن عباس: لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لاينظر إليه أحدٌ معك، والله الذي لا إله إلّا هو، لو أعلم أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليَّ وعليك الناس أطعتني لفعلتُ ذلك!!

قال ثمّ خرج ابن عباس من عنده فمرَّ بعبدالله بن الزبير فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير! ثمّ قال:

يالك من قُنبُرَةٍ بمَعمْرِ خلا لك الجوُّ فَبيِضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري

هذا حسينٌ يخرج الى العراق! وعليك بالحجاز!.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 232

المحاورة الرابعة: ..... ص : 232
اشارة

روى الطبري (الإمامي) عن عبدالله بن عباس قال: لقيتُ الحسين بن علىّ وهو يخرج الى العراق ..

فقلت له: يا ابن رسول الله، لا تخرج!

قال فقال لي: يا ابن عباس، أما علمتَ أنَّ منيّتي من هناك وأنّ مصارع أصحابي هناك!؟

فقلتُ له: فأنّى لك ذلك؟

قال: بسِرٍّ سُّرَّ لي وعلمٍ أُعطيته!». «1»

إشارة: ..... ص : 232

لايخفى على المتأمّل في ما عثرنا عليه من متون محاورات عبدالله بن عباس (رض) مع الإمام الحسين عليه السلام ظهور حقيقة- ما قدّمناه من قبل- أنّ المحور الأساس في تفكير ابن عباس (رض) هو تأييده لقيام الإمام عليه السلام، ومعارضته لخروجه الى العراق قبل تحرّك أهله عملياً لنصرته.

ولم نعثر- حسب تتبعنا- على نصٍّ منسوب الى ابن عباس (رض) يفيد أنه كان معارضاً لقيام الإمام عليه السلام، أو أنه (رض) نهى عن القيام، إلّا ما ورد في كتاب (أسرار الشهادة) للدربندي (ره) نقلًا عن كتاب (الفوادح الحسينية)، «2» عن ابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 233

عباس (رض) أنه قال للامام الحسين عليه السلام في ختام واحدة من محاوراته بعد أن بكى بكاءً شديداً: «يعزُّ واللّهِ عليَّ فراقك يا ابن العم. (ثمّ أقبل على الحسين وأشار عليه بالرجوع الى مكّة والدخول في صلح بني أميّة!!).

فقال الحسين عليه السلام: هيهات هيهات يا ابن عباس، إنّ القوم لم يتركوني، وإنهم يطلبونني أين كنت حتى أبايعهم كرهاً ويقتلوني، والله لو كنتُ في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني، واللّه إنهم ليعتدُون عليَّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت، وإنّي ماضٍ في أمر رسول الله صلى الله عليه و آله حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.» «1»

ونقل صاحب كتاب «معالي السبطين» هذه المحاورة قائلًا: «وفي بعض الكتب: جاء عبدالله بن عباس

الى الحسين عليه السلام وتكلّم معه بما تكلّم الى أن أشار عليه بالدخول في طاعة يزيد وصلح بني أميّة!!»، وفي نقله إضافة الى نقل الدربندي أنّ ابن عباس قال للامام عليه السلام بعد ذلك: يا ابن العمّ، بلغني أنك تريد العراق، وإنهم أهل غدر، وإنما يدعونك للحرب فلا تعجل فأقم بمكّة!

فقال عليه السلام: لَانْ أقتل والله بمكان كذا أحبّ إليَّ من أن أُستحلّ بمكّة، وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم، وقد وجب عليَّ إجابتهم وقام لهم العذر عليَّ عند الله سبحانه!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 234

فبكى عبدالله حتى بُلَّت لحيته، وقال: واحسيناه، وا أسفاه على حسين.» «1»

والملاحظ المتأمّل يرى: ..... ص : 234

1)- أنّ ما ورد في هذين الكتابين من دعوى «أنّ ابن عباس (رض) أشار على الامام عليه السلام بالدخول في صلح بني أميّة وطاعة يزيد» شاذّ غريب مخالف للمشهور الوارد في الكتب المعتبرة.

2)- أنّ صاحب أسرار الشهادة ينسب هذه الدعوى الى كتاب الفوادح الحسينية (لانعرفه في الكتب المعتبرة)، وصاحب معالي السبطين ينسبها الى (بعض الكتب!)، ولايخفى أنها نسبة ظاهرة الضعف.

3)- أنّ عبارة الدعوى نفسها ليست قولًا نطق به ابن عباس فنقل عنه، بل هي من إنشاء صاحب أسرار الشهادة وصاحب معالي السبطين.

4)- وهناك أيضاً تعارضٌ بيّن بين عبارة صاحبي أسرار الشهادة ومعالي السبطين، ففي الأولى: (وأشار عليه بالرجوع الى مكّة)، أي أنّ المحاورة حصلت بعد خروج الامام عليه السلام من مكّة، وفي الثانية: (فلا تعجل فأقم بمكّة) أي أنّ المحاورة حصلت في مكّة.

كما لايخفى أنّ القول بأنّ المحاورة حصلت بعد خروج الامام عليه السلام من مكّة أشدّ شذوذاً من أصل الدعوى نفسها لأن المشهور الثابت أنّ ابن عباس (رض) لم يلتق الامام عليه السلام بعد خروجه من مكّة المكرّمة.

خلاصة القضية: ..... ص : 234

انّ هذه الدعوى الشاذّة لاتستند الى دليل معتبر يمكن الإطمئنان اليه، بل لا دليل عليها، ويبقى الأصل المستفاد من المتون المعتبرة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 235

صحيحاً في أنّ موقف ابن عباس (رض) يتلخّص في تأييده لقيام الامام عليه السلام، ومعارضته لخروجه الى العراق قبل تحرّك أهله عملياً لنصرته، نعم، هناك قول للسيّد ابن طاووس (ره) مبهم الدلالة وهو: وجاء عبدالله بن عباس رضوان الله عليه، وعبدالله بن الزبير فأشارا إليه بالإمساك، فقال لهما: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه. قال فخرج ابن عباس وهو يقول: واحسيناه!». «1»

ولا دلالة في

هذه العبارة الغامضة: (فأشارا عليه بالإمساك) على أنّ ابن عباس أشار على الامام عليه السلام بترك القيام، بل الأقوى دلالتها على ترك الخروج الى العراق بقرينة المتون التفصيلية الأخرى ذات المضمون نفسه التي أجاب فيها الامام عليه السلام ابن عباس (رض) بأنه ماضٍ الى العراق بأمر رسول الله صلى الله عليه و آله.

لماذا تخلّف ابن عباس (رض) عن الإمام عليه السلام!؟ ..... ص : 235

عبدالله بن العبّاس بن عبدالمطلّب بن هاشم رضي الله عنهم أجمعين، كان مؤمناً بإمامة أئمة أهل البيت الإثني عشر عليهم السلام من بعد رسول الله صلى الله عليه و آله، «2» عارفاً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 236

بحقّهم، موقناً بأنّ نصرهم والجهاد تحت رايتهم فرض كفرض الصلاة والزكاة، «1» وكانت سيرته مع الامام أمير المؤمنين والامام الحسن والامام الحسين عليهما السلام كاشفة عن هذا الإيمان وهذا اليقين وهذه المعرفة، «2» وكان (رض) لايتردد في إظهار

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 240

اعتزازه وافتخاره بما أنعم الله عليه به من موالاتهم وحبّهم والإنقياد لهم والإمتثال لأمرهم، ومن جميل ما يُروى في ذلك أنّ مُدرك بن زياد اعترض على ابن عباس حين رآه ذات يوم وقد أمسك للحسن والحسين عليهما السلام بالركاب وسوّى عليهما:

«قائلًا: أنت أسنُّ منهما تُمسك لهما بالركاب!؟

فقال: يالُكع، وتدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله صلى الله عليه و آله، أو ليس ممّا أنعم الله به عليَّ أن أمسك لهما وأسوّي عليهما!؟» «1».

وكان ابن عباس (رض) قد حفظ ما سمع من رسول الله صلى الله عليه و آله ومن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ما أخبرا به حول مقتل الإمام الحسين عليه السلام، والارض التي يُقتل فيها، وأسماء أصحابه، فها هو يروي قائلًا: «كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام في خرجته الى صفين، فلمّا نزل بنينوى

وهو بشطّ الفرات قال بأعلا صوته: يا ابن عباس، أتعرف هذا الموضع؟

قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين!

فقال عليه السلام: لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي!

قال: فبكى طويلًا حتّى اخضلّت لحيته، وسالت الدموع على صدره، وبكينا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 241

معاً وهو يقول: أوّه أوّه، مالى ولآل أبي سفيان!؟ مالى ولآل حرب، حزب الشيطان وأولياء الكفر!؟ صبراً يا أبا عبدالله، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم.». «1»

وكان ابن عباس (رض) يقول: «ماكُنا نشكُّ، وأهل البيت متوافرون، أنّ الحسين بن عليّ يُقتل بالطفّ!.». «2»

إذن لِمَ لم يلتحق ابن عباس (رض) بالركب الحسيني ليفوز بشرف نصرة سيد المظلومين عليه السلام وبشرف الشهادة بين يديه!؟

هل أثّاقل الى الارض وآثر الدنيا على الآخرة بعد عمر شريف عامر بالجهاد ونصرة الحق!؟

إنّ العارف بسيرة ابن عباس (رض) قد يرفض حتى التفكير في مثل هذا السؤال! أوليس ابن عباس هو القائل في محاورته الأولى مع الإمام الحسين عليه السلام في مكّة في شعبان سنة 60 للهجرة: «جُعلت فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنك تريدني إلى نفسك، وتريد مني أن أنصرك! والله الذي لا إله إلّا هو أنْ لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممن أوفّي من حقّك عشر العشر! وها أنا بين يديك مرني بأمرك.».

إذن هل كان تقادم العمر به قد أعجزه عن القدرة على النصرة!؟

إذا علمنا أنّ ابن عباس (رض) توفي سنة 68 للهجرة أو 69 وله من العمر سبعون عاماً أو واحد وسبعون، «3» أدركنا أنّ عمره سنة 60 للهجرة كان إثنين وستين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 242

عاماً أو ثلاثة وستين عاماً، فهو أكبر من الإمام الحسين عليه السلام بحوالي

خمسة أعوام، إذن فقد كان قادراً على الجهاد مع الإمام عليه السلام من حيث السلامة البدنية، خصوصاً وأنّه لم يُروَ أنّ ابن عباس كان مريضاً آنذاك كما روي بصدد محمّد بن الحنفية (رض) مثلًا.

فما هي علّة تخلّفه إذن!؟

لعلّ المتأمل في موضوع علّة عدم التحاق ابن عباس (رض) بالامام عليه السلام في نهضته المقدّسة يلاحظ- قبل الوصول الى الجواب- نقطتين مهمتين تساعدان على الإطمئنان أنه كان معذوراً، وهما:

1- في جميع ما روي من لقاءات ومحاورات ابن عباس مع الامام الحسين عليه السلام في مكة سنة ستين للهجرة، لا يجد المتتبّع أنّ الإمام عليه السلام قد دعا ابن عباس دعوة مباشرة الى نصرته كما صنع مثلًا مع ابن عمر، وحتى حينما قال الإمام عليه السلام في محاورته الأولى مع ابن عباس وابن عمر: «اللّهمّ اشهد» «1» أدرك ابن عباس مغزى قول الإمام عليه السلام، وبادر الى اظهار استعداده للنصرة والجهاد بين يدي الامام عليه السلام وعدا هذا لايجد المتتبع أية إشارة من قريب أو بعيد مؤدّاها أنّ الإمام عليه السلام قد دعا ابن عباس الى نصرته.

2- لم نعثر- حسب تتبعنا- على نصّ تأريخيّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يفيد أنّ ابن عباس كان مقصّراً وملوماً ومداناً على عدم إلتحاقه بالإمام الحسين عليه السلام، بل لم نعثر على نصّ تأريخي عام يشير الى إدانته «2» سوى هذا النصّ الذي نقله ابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 243

شهر آشوب مرسلًا: «وعُنِّفَ ابن عباس على تركه الحسين فقال: إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلًا ولم يزيدوا رجلًا، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم!» «1»، ويظهر من هذا النصّ أنّ ابن عباس لم يكن معذوراً في تركه الإمام عليه السلام، لكنّ إرسال هذا

الخبر، ومجهولية المُعنِّف، ومعلوميّة ولاء ابن عباس (رض) لأهل البيت عليهم السلام، كلّ ذلك يفرض عدم الإطمئنان الى صدر هذا الخبر، أي «وعُنِّف ابن عباس!».

بعد هذا، ينبغي أن نذكّر بأنّ ابن عباس قد كُفَّ بصرُه آخر عمره، وهذا متّفقٌ عليه عند المؤرّخين، وأنّ سعيد بن جبير كان يقوده بعد أن كُفَّ بصره «2»، وتعبير «كُفَّ بصره» مشعرٌ بأنّ الضعف كان قد دبّ الى بصره حتى استفحل عليه فكفّه عن رؤية الأشياء، ولعلَّ هذا الضعف كان قد دبّ الى بصره منذ أيّام معاوية (ويحتمل أنّ بصر ابن عباس قد كُفَّ أواخر سنين معاوية)، هذا ما يُشعر به قول ابن قتيبة في المعارف حيث يقول: «ثلاثة مكافيف في نسق: عبدالله بن عباس، وأبوه العباس بن عبدالمطلّب، وأبوه عبدالمطلب بن هاشم. قال: ولذلك قال

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 244

معاوية لابن عباس: أنتم يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس: وأنتم يا بني أميّة تُصابون في بصائركم!»، «1» فلولا أنّ بصر ابن عباس (رض) كان قد ضعف جداً أو قد كُفّ بصره آنذاك لما كان لقول معاوية مناسبة ولا داعٍ.

ويقول مسروق: «كنتُ إذا رأيت عبدالله بن عباس قلتُ: أجمل الناس، فإذا تكلّم قلتُ: أفصح الناس، فإذا تحدّث قلتُ: أعلم الناس، وكان عمر بن الخطّاب يقرّبه ويُدنيه ويشاوره مع جلّة الصحابة، وكُفَّ بصره في آخر عمره». «2»

فإذا علمنا أنّ مسروقاً هذا قد مات سنة 62 أو 63 للهجرة، «3» أمكن لنا أن نقول:

إنّ ابن عباس كان مكفوفاً قبل سنة 62 أو 63 على الأظهر، هذا على فرض أنّ عبارة (وكفّ بصره في آخر عمره) من قول مسروق أيضاً.

وهناك رواية يمكن أن يُستفاد من ظاهرها أنّ ابن عباس (رض) كان

ضعيف البصر جداً أو مكفوفاً أوائل سنة إحدى وستين للهجرة، في الأيّام التي لم يكن خبر مقتل الإمام الحسين عليه السلام قد وصل بعد الى أهل المدينة المنورة.

هذه الرواية يرويها الشيخ الطوسى (ره) في أماليه بسندٍ الى سعيد بن جبير (وهو الذي كان يقود ابن عباس بعد أن كُفَّ بصره)، عن عبدالله بن عباس قال:

«بينا أنا راقدٌ في منزلى، إذ سمعتُ صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه و آله، فخرجت يتوجّه بي قائدي الى منزلها!، وأقبل أهل المدينة اليها الرجال والنساء، فلمّا انتهيتُ إليها قلت: يا أمّ المؤمنين، ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني، وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت: يابنات عبدالمطلّب، أسعدنني

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 245

وابكين معي، فقد واللّهِ قُتل سيّدكُنّ وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد واللّه قُتل سبط رسول اللّه وريحانته الحسين.

فقيل: يا أُمَّ المؤمنين، ومن أين علمتِ ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله في المنام الساعة شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قُتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم.

قالت فقمتُ حتّى دخلتُ البيت وأنا لا أكاد أن أعقل! فنظرتُ فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال إذا صارت هذه التربة دماً فقد قُتل ابنك! وأعطانيها النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: إجعلي هذه التربة في زجاجة- أو قال في قارورة- ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين. فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور.

قال: وأخذت أمّ سلمة من ذلك الدم فلطّخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين عليه السلام، فجاءت الركبان بخبره، وأنّه قد قُتل في ذلك اليوم ...»

«1».

فقول ابن عباس (رض):» فخرجت يتوجّه بي قائدي الى منزلها» كاشف- على الأقوى- عن مكفوفية بصره آنذاك (أو عن ضعف شديد جداً في بصره)، لحاجته الى قائد يقوده هو، وليس الى قائد يقود دابّته- كما قد يُحتمل- وذلك لقرب المسافة، بدليل أنه سمع الصراخ بإذنيه وشخّص أنّ الصراخ كان ينبعث من بيت أم سلمة (رض).

مما مضى نكاد نطمئن الى أنّ ابن عباس (رض) كان يعاني من ضعف شديد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 246

في بصره أو كان مكفوفاً بصره أواخر سنة ستين للهجرة- وبالذات في الايام التي كان فيها الامام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة- الأمر الذي أعجزه عن القدرة على الإلتحاق بالامام عليه السلام والجهاد بين يديه، فكان (رض) معذوراً، ولعلّ هذا هو السرُّ في عدم دعوة الإمام عليه السلام إيّاه للإنضمام إليه، وترخيصه إيّاه في العودة الى المدينة ليرصد له أخبار السلطة الأموية والناس فيها حيث يقول عليه السلام: «يا ابن عباس، إنك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنتَ مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ الى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يخفَ عليَّ شي ءٌ من أخبارك ...». «1»

ولايقدح بما نطمئنّ إليه ما أورده المسعودي في مروج الذهب حيث يقول في ابن عباس (رض): «وكان قد ذهب بصره لبكائه على عليٍّ والحسن والحسين ..»، «2» إذ لايُستفاد من هذا النصّ بالضرورة أنه صار مكفوفاً بعد مقتل الحسين عليه السلام، بل الظاهر من هذا النصّ أنّ الذي سبّب ذهاب بصره هو كثرة بكائه المتواصل لفقد امير المؤمنين عليّ «3» والحسن والحسين عليهما السلام، ومؤدّى ذلك أنّ الضعف قد دبّ الى بصره لكثرة

بكائه منذ أيّام فقده لأمير المؤمنين عليه السلام ثمّ لفقده الحسن عليه السلام، «4» ثمّ الحسين عليه السلام، ولايخفى أنّ ابن عباس (رض) كان يبكي بكاءً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 247

شديداً للحسين عليه السلام وهو بعدُ لم يخرج ولم يُستشهد، لعلمه بما سيصيب الامام عليه السلام من شديد المحنة ولعلمه بمصيره، والدلائل التأريخية على ذلك كثيرة متوافرة.

رسائل ابن عباس (رض) إلى يزيد ..... ص : 247

تروي لنا بعض كتب التأريخ أنّ الامام الحسين عليه السلام لمّا نزل مكّة كتب يزيد بن معاوية الى ابن عباس رسالة «1» طلب اليه فيها أن يتوسّط في الأمر ليثني الامام الحسين عليه السلام عن عزمه على القيام والخروج على الحكم الأمويّ، وعرض فيها يزيد من الإغراءات الدنيوية ما يتناسب وضعف نفسيته هو!- أي يزيد-

وتقول هذه المصادر التأريخية: «فكتب إليه ابن عباس: أمّا بعدُ: فقد ورد كتابُك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة، فأمّا ابن الزبير فرجل منقطع عنّا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره، يوري علينا وري الزناد، لافك اللّه أسيرها، فآرأ في أمره ما أنت رائه.

وأمّا الحسين فإنه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألته عن مقدمه فأخبرني أنّ عُمّالك في المدينة أساؤا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل الى حرم الله مستجيراً به، وسألقاه فيما أشرت إليه، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويُطفي ء به النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأمّة، فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة، ولاترصده بمظلمة، ولاتحفر له مهواة، فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمّل أملًا لم يُؤتَ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 248

أمله، وخُذ بحظّك من تلاوة القرآن ونشر السُنّة! وعليك بالصيام والقيام لاتشغلك

عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها فإنّ كلَّ ما شُغلت به عن اللّه يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى، والسلام.». «1»

وقد روى المزّي جواب ابن عباس مختصراً هكذا: «فكتب إليه عبدالله بن عباس: إنّي لأرجو أن لايكون خروج الحسين لأمرٍ تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كلّ ما يجمع الله به الألفة ويُطفي ء به الثائرة.». «2»

ويبدو من نصّ هذه الرسالة- جواب ابن عباس- على فرض صحة الرواية أنّ هذه الرسالة كانت بعد لقاء ابن عباس مع الإمام الحسين عليه السلام في مكّة لقاءه الأوّل الذي عاد بعده الى المدينة (بعد الفراغ من العمرة)، كما يُستفاد من نصّها أنّ ابن عباس قَبِل القيام بدور الوساطة بين الإمام عليه السلام وبين يزيد! كما يظهر من نصّها أيضاً أنّ ابن عباس اعتمد أسلوب الملاينة دون التقريع حتى في نهيه عن ارتكاب الظلم واجتراح المآثم!

والعارف بعبد الله بن العباس (رض)، وبولائه لأئمّة أهل البيت عليهم السلام وبجرأته في الذَوْدِ عنهم، وبشدّته وقاطعيته في المحاماة عنهم في محاوراته مع رجال بني أميّة، لايستبعد أن يكون نصّ هذه الرسالة- جواب ابن عباس- من إنشاء الواقدي نفسه الذي يرويها «3» (ونقلها عنه سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص)،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 249

ذلك لأنّ نَفَس هذا الجواب مغايرٌ تماماً لنَفَس ابن عباس في مواقفه قبال بني أميّة.

هاهو ابن عباس (رض) في بلاط معاوية يُخرس محاوريه: معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، وعتبة بن أبي سفيان، وزياد بن سميّة، وعبدالرحمن بن أمّ الحكم، والمغيرة بن شعبة، بعد أن دحض إدّعاءاتهم وبهرهم بالحجّة الدامغة، ويقول ليزيد بن معاوية نفسه في قصر أبيه: «مهلًا يزيد، فواللّه ما صفت القلوب لكم منذ

تكدّرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبّة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم، لارضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمسِ من أفعالكم، وإن تَدُلِ الأيّام نستقض ما سُدَّ عنّا، ونسترجع ما ابتُزَّ منّا، كيلًا بكيل، ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليّاً لنا، ووكيلًا على المعتدين علينا.». «1»

وها هو ابن عباس (رض) يجيب يزيد «2» بقارعة أخرى من قوارعه في رسالة كتبها إليه قائلًا: «من عبدالله بن عباس الى يزيد بن معاوية. أمّا بعدُ: فقد بلغني كتابُك بذكر دعاء ابن الزبير إيّاي الى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 250

بيعته، فإنْ يك ذلك كما بلغك فلستُ حمَدك أردتُ ولاوُدَّكَ، ولكنّ الله بالذي أنوي عليم، وزعمتَ أنّك لستَ بناسٍ ودّي فلعمري ما تؤتينا ممّا في يديك من حقّنا إلّا القليل، وإنك لتحبس عنّا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحثّ الناسَ عليك وأخذّلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولاحبوراً، وأنت قتلت الحسين بن عليّ!، بفيك الكثكث، «1» ولك الأثلب، «2» إنّك إنْ تُمنّك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المهوّر.

لاتحسبني، لا أباً لك، نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبدالمطلّب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرّعين في صعيد، مرمّلين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لامكفَّنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتُنشي بهم عُرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنّوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يايزيد.

وما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ تسليطك عليهم الدعيَّ العاهر «3» ابن العاهر، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأمّاً، الذي في إدّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلّا العار والخزي والمذلّة في الأخرة والأولى، وفي الممات والمحيا، إنّ نبيّ الله

قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فألحقه بأبيه كما يُلحَقُ بالعفيف النقيّ ولدُه الرشيد! وقد أمات أبوك السُنّة جهلًا! وأحيا البدع والأحداث المظلّة عمداً!

وما أنسَ من الاشياء فلستُ بناسٍ اطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 251

الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله الى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبّوأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالًا، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله فأكبر من ذلك مالم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرّضه للعائر وأراقل العالم.

وأنت! لأنت المستحلّ فيما أظنّ، بل لاشك فيه أنّك للمُحرف العريف، فإنّك حلف نسوة، صاحب ملاهٍ، فلمّا رأى سوء رأيك شخص الى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

ثمّ إنّك الكاتب الى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته والإلحاح عليه، حتى يقتله ومن معه من بني عبدالمطلّب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا، فنحن أولئك، لسنا كآبائك الأجلاف الجُفاة الأكباد الحمير.

ثمّ طلب الحسين بن عليّ إليه الموادعة وسألهم الرجعة، «1» فاغتنمتم قلّة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنّما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر، فلا شي ء عندي أعجب من طلبك ودّي ونصري! وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أخذ ثأري، فإن يشأ لايُطلّ لديك دمي ولا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 252

تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قُتل النبيّون وآل النبيين، وكان الله الموعد، وكفى

به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبنّك أن ظفرت بنا اليوم فوالله لنظفرنّ بك يوماً.

فأمّا ماذكرت من وفائي، وما زعمت من حقّي، فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعتُ أباك «1»، وإنّي لأعلم أنّ ابني عمّي وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك، ولكنكم معاشر قريش كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقّنا، فبُعداً على من يجتري ء على ظلمنا، واستغوى السفهاء علينا، وتولّى الأمر دوننا، فبُعداً لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومكذّبو المرسلين.

ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهرُ العجيبَ، حملك بنات عبدالمطلّب، وغلمة صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا، وأنّك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمناً لجرح يدي، إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي فلا يستقرّ بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلّا قليلًا، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فَعِش لا أباً لك فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت، والسلام على من أطاع الله.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 253

تحرّك محمد بن الحنفية (رض) ..... ص : 253
اشارة

يشترك محمد بن الحنفية «1» مع عبدالله بن عبّاس رضي الله عنهما في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 254

الموقف من قيام الإمام الحسين عليه السلام بنفس المحورين الرئيسين اللذين هما:

1- تأييد قيام الإمام عليه السلام.

2- الإعتراض على خروج الإمام عليه السلام الى الكوفة، وترجيح اليمن كقاعدة لانطلاق الثورة الحسينية الى جميع البلاد الاسلامية.

كما يشتركان أيضاً في أنّ نظرتهما التي انبعثت منها اقتراحاتهما ومشوراتهما كانت ترتكز على حسابات النصر الظاهري وشرائطه ولوازمه، وتتجلّى هذه الحقيقة للمتأمّل إذا نظر في محاورات الإمام عليه السلام مع كلّ منهما.

وكان محمّد بن الحنفية (رض) قد قدّم رأيه

بين يدي الإمام عليه السلام في المدينة المنوّرة قائلًا: «يا أخي، أنت أحبّ الناس إليَّ، وأعزّهم عليَّ، ولستُ أدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق إلّا لك، وأنت أحقّ بها، تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك الى الناس فادعهم الى نفسك، فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لن يُنقص الله بذلك دينك ولاعقلك، ولا تذهب بذلك مروّتك ولافضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأمّة كلّها نفساً وأباً وأمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلًا!!». «1»

وقال له أيضاً: «إنزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد الى بلد، حتى تنظر الى مايصير أمر الناس اليه، فإنّك أصوب ماتكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالًا.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 255

وفي رواية الفتوح: «أُخرجْ إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فذاك الذي تحبّ وأُحبّ، وإن تكن الأخرى خرجت الى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً، وأوسع الناس بلاداً، وأرجحهم عقولًا، فإن اطمأنّت بك أرض اليمن وإلا لحقت بالرمال وشعوف الجبال، وصرت من بلد الى بلد، لتنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين.». «1»

ثم تحرّك محمد بن الحنفية (رض) من المدينة إلى مكّة للقاء الإمام الحسين عليه السلام قبل خروجه الى العراق، «2» ويحدّثنا التأريخ عن لقاء تمّ بينهما في مكّة في الليلة الأخيرة التي خرج الإمام عليه السلام في صبيحتها عن مكّة، يقول السيّد ابن طاووس (ره):

«رويتُ من كتاب أصلٍ لأحمد بن الحسين بن عمر بن بريدة الثقة، وعلى الأصل أنه كان لمحمّد بن داود القمّي، بالإسناد عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

سار محمّد بن الحنفية الى الحسين عليه السلام في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة من قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعزّ من في الحرم وأمنعه.

فقال عليه السلام: يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 256

الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فَسِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البّر، فإنّك أمنع الناس به ولايقدر عليك أحد!

فقال عليه السلام: أنظرُ فيما قلتَ.

ولمّا كان السحر ارتحل الحسين عليه السلام، فبلغ ذلك ابن الحنفية، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك!؟

قال عليه السلام: بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلًا!؟

فقال عليه السلام: أتاني رسول الله صلى الله عليه و آله بعد مافارقتك، فقال: ياحسين، أُخرج فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلا!

فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنا اليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال!؟

فقال عليه السلام له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا!

وسلّم عليه ومضى.». «1»

إشارة: ..... ص : 256

كنّا في آخر الفصل الأول تحت عنوان (لماذا حمل الإمام عليه السلام النساء والأطفال معه؟) قد تناولنا بعض ملامح الحكمة في قول الامام عليه السلام عن لسان النبيّ صلى الله عليه و آله: «فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلا!» و «إنّ الله

قد شاء أن يراهنّ سبايا!»،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 257

ونودُّ أن نشير هنا إلى:

1)- أنّ من أبعاد خشية الامام عليه السلام من اغتيال السلطة الأموية إيّاه في مكّة المكرّمة- إضافة الى جميع الأبعاد التي مرَّ ذكرها فيما مضى في ثنايا هذا الكتاب- هو أنّ هناك روايات مأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله تندّد بالمقتول القرشيّ في مكّة، الذي تُنتهك وتستباح به حرمة البيت الحرام، وأنّ ذنوب هذا الرجل لو وزنت بذنوب الثقلين لوزنتها، وأنّ عليه نصف عذاب العالم، «1» ومعلوم أنّ السلطة الأموية سوف تطبّق هذه الروايات على الإمام الحسين عليه السلام لتستفيد منها إعلامياً في تنفير الناس من الامام عليه السلام فيما لو تمكّنت من قتله في مكّة المكرّمة.

2)- لم يحدّد الإمام عليه السلام في قوله: «أتاني رسول الله صلى الله عليه و آله بعد مافارقتك» نوع هذا المجي ء، هل كان في يقظة أو في منام، وإنْ كانت النتيجة واحدة، لأنّ رؤية الامام عليه السلام النبيّ صلى الله عليه و آله في المنام كرؤيته في اليقظة، ومستوى التكليف الذي يوجّهه واحد سواء في يقظة أو في منام، ولاينحصر هذا في رؤية الإمام عليه السلام النبيّ صلى الله عليه و آله بل يشمل رؤية المؤمن النبي صلى الله عليه و آله أيضاً، إذ قد أُثر عنه صلى الله عليه و آله أنه قال: «من رآني في منامه فقد رآني، فإنّ الشيطان لايتمثّل في صورتي، ولافي صورة أحد من أوصيائي، ولافي صورة أحدٍ من شيعتهم، وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبّوة». «2»

فلا يبقى مجال إذن للتشكيك بأنّ الثورة الحسينية وخروج الامام عليه السلام كانا قد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 258

ارتكزا على رؤيا منام

لا اعتبار لها! كما تسطّر ذلك بعض الأقلام المأجورة والعقول الضعيفة. «1»

لماذا تخلّف محمّد بن الحنفية عن الإمام عليه السلام؟ ..... ص : 258
اشارة

لم نعثر- حسب تتبعنا- على مأثور عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام بصدد علّة تخلّف محمد بن الحنفية (رض) عن الإلتحاق بالإمام الحسين عليه السلام سوى هذه الرواية: التي يرويها ابن فروخ صاحب «بصائر الدرجات» بسندٍ عن حمزة بن حمران عن الإمام الصادق عليه السلام، يقول حمزة: «ذكرنا خروج الحسين وتخلّف ابن الحنفية عنه، قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: يا حمزة إنّي سأحدّثك في هذا الحديث ولاتسأل عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاس وكتب:

بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ الى بني هاشم: أمّا بعدُ، فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح. والسلام.». «2»

وقد علّق العلّامة المجلسي (ره) على هذه الرواية تعليقتين قائلًا:

في الأولى: ..... ص : 258

«قوله عليه السلام: لم يبلغ الفتح، أي لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدنيا والتمتع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 259

بها، وظاهر الجواب ذمّه، ويحتمل أن يكون المعنى أنه عليه السلام خيّرهم في ذلك، فلا إثم على من تخلّف!» «1».

وفي الثانية: ..... ص : 259

«ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح، اي لايتيسّر له فتح وفلاح في الدنيا أو في الآخرة، أو الأعمّ، وهذا إمّا تعليل بأنّ ابن الحنفية إنّما لم يلحق لأنه علم أنّة يُقتل إن ذهب بإخباره عليه السلام، أو بيان لحرمانه عن تلك السعادة، أو لأنّه لاعُذر له في ذلك لأنه أعلمه وأمثاله بذلك!» «2».

ونقول: إنّ نصّ هذه الرسالة الشريفة- بغضّ النظر عن حقيقة المراد بالفتح «3» فيها- يقرّر بلا شك أنّ من لم يلتحق بالامام عليه السلام محروم من مبلغ الفتح هذا، سواء كان معذوراً أو غير معذور، فلا دليل من نفس النصّ على أنّ كلّ من تخلّف غيرُ معذور ويُذمّ، كما هو المستفاد من ظاهر تعليقتي العلّامة المجلسيّ (ره) «4» من أنّ كلّ من بلغته هذه الرسالة ليس بمعذور لأنّ الإمام عليه السلام أعلمه فيها بالمصير! «5» هذا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 260

فضلًا عن المناقشة الموجودة في سند هذه الرواية. «1»

ولعلّ الإمام الصادق عليه السلام أراد أن يصرف اهتمام المتذاكرين في سبب تخلّف ابن الحنفية الى ما هو أهمّ من أن يكون المتخلّف معذوراً أو غير معذور، وهذا الأهمّ هو أصل الحرمان من بلوغ منزلة «أنصار الحسين عليه السلام» الذين لم يسبقهم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 261

سابق في سموّ مرتبتهم ولايلحق بهم لاحق كما قرّر ذلك أمير المؤمنين عليه السلام «1»، إذ المعذور وغير المعذور من المتخلّفين سواء- من حيث النتيجة العملية لامن حيث الحساب والجزاء- في حرمانهم من

ذلك الشرف الذي لايُضاهى والمجد الذي لايُدانى، وحَقَّ لكلّ مؤمن (غير أنصار الحسين عليه السلام) أن تذهب نفسه حسرات أسفاً على حرمانه من ذلك الفوز العظيم كلّما ردّد: ياليتني كنت معكم فأفوز واللّه فوزاً عظيماً!!.

مع هذا، فإنّ من علمائنا من روى ونقل أنّ سيّدنا محمد بن الحنفية (رض) كان مريضاً أيّام خروج الإمام الحسين عليه السلام، إلى درجة أنه كان لايقوى على حمل السيف! وفي طليعة هؤلاء الأعلام السيّد ابن طاووس (قدّس)، فقد أورد في كتابه:

عن أبي مخنف قوله: «وقد كان محمد بن الحنفية موكوعاً «2»، لأنّه أُهدي الى أخيه الحسين عليه السلام درع من نسج داود على نبيّنا وعليه السلام، فلبسه ففضل عنه ذراع وأربعة أصابع، فجمع محمّد بن الحنفية ما فضل منه وفركه بيده فقطعه، فأصابته نظرة، فصارت أنامله تجري دماً مدّة، ولهذا لم يخرج مع الحسين عليه السلام يوم كربلاء، لأنّه ما كان يقدر أن يقبض قائم سيف ولاكعب رمح.». «3»

ومن هؤلاء الأعلام أيضاً العلّامة الحلي (ره)، ففي إجابته عن سؤال:

«مايقول سيّدنا في محمّد بن الحنفية، هل كان يقول بإمامة أخويه وزين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 262

العابدين عليهما السلام أم لا؟ وهل ذكر أصحابنا له عذراً في تخلّفه عن الحسين عليه السلام وعدم نصرته له أم لا؟ وكيف يكون الحال إن كان تخلّفه عنه لغير عذر؟ وكذلك عبدالله بن جعفر وأمثاله؟» قال العلامة الحلي (ره): «قد ثبت في أصول الإمامة أنّ أركان الإيمان: التوحيد والعدل والنبّوة والإمامة، والسيّد محمّد بن الحنفية وعبدالله بن جعفر وأمثالهم أجلّ قدراً وأعظم شأناً من اعتقادهم خلاف الحق وخروجهم عن الإيمان الذي يحصل به اكتساب الثواب الدائم والخلاص من العقاب. وأمّا تخلّفه عن نصرة الحسين عليه السلام فقد

نُقل أنه كان مريضاً، ويحتمل في غيره عدم العلم بما وقع لمولانا الحسين عليه السلام من القتل وغيره، وبنوا على ما وصل من كتب الغَدَرَةِ إليه وتوهمّوا نصرتهم له!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 263

كما أورد الدربندي في (اسرار الشهادة) نقلًا عن أبي مخنف محاورة في المدينة بين الامام عليه السلام وبين أخيه محمّد، كان منها قول محمّد: «إنّي والله ليحزنني فراقك، وما أقعدني عن المسير معك إلّا لأجل ما أجده من المرض الشديد، فوالله يا أخي ما أقدر أن أقبض على قائم سيف ولاكعب رمح، فوالله لا فرحت بعدك أبداً. ثم بكى شديداً حتى غُشي عليه، فلمّا أفاق من غشيته قال: يا أخي استودعك الله من شهيد مظلوم!». «1»

كما تعرّض الشيخ حبيب الله الكاشاني لهذا وذكر أنّ أبن الحنفية كان مصاباً بألم، فلم يقدر على حمل السيف والجهاد، «2» بل ذكر أنّ المشهور هو أنّ ابن الحنفية كان مريضاً في المدينة. «3»

وجدير بالذكر: أنّ محمّد بن يزيد المبّرد في كتابه (الكامل) روى قصة محمد بن الحنفية مع الدرع قائلًا: «وكان عبدالله بن الزبير يُظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله! وكان يحسدُه على أيْدِهِ (أي قوّته)، ويُقال: إنّ عليّاً استطال درعاً فقال:

لينقص منها كذا وكذا حلْقة، فقبض محمّد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثمّ جذبه فقطعه من الموضع الذي حدَّه أبوه، فكان ابن الزبير إذا حُدِّث بهذا الحديث غضب واعتراه له أَفْكَلٌ (أي رعدة)!» «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 264

زيادة .. ربّما كانت أموية! ..... ص : 264

ادّعى ابن عساكر في تأريخه، ومن بعده المزّي، والذهبي، أنّ ابن الحنفية لمّا يأس في مكّة من تغيير عزم الامام الحسين عليه السلام ومنعه من الخروج الى العراق منع ولده من الإلتحاق

بالامام عليه السلام، حيث قالوا: «وبعث الحسين الى المدينة، فقدم عليه من خفّ معه من بني عبدالمطّلب، وهم تسعة عشر رجلًا، ونساء، وصبيان، من إخوانه وبناته ونسائهم. وتبعهم محمّد بن الحنفية فأدرك حسيناً بمكّة، وأعلمه أنّ الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل [رأيه]، فحبس محمّد بن علي وُلْده [عنه] فلم يبعث معه أحداً منهم، حتى وجد حسين في نفسه على محمّد وقال [له]: أترغب بولدك عن موضع أُصاب فيه!؟

فقال محمّد: وماحاجتي أن تُصاب ويصابون معك، وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم!». «1»

أقول: لم نعثر على هذا- أي حبس محمّد أولاده عن الإلتحاق بالامام عليه السلام- في كتبنا، بل في تواريخ غيرنا أيضاً سوى ما أورده ابن عساكر ثمّ المزيّ «2» ثمّ الذهبي، «3» وقد أورد الذهبي هذه الرواية مرسلة، وكذلك أوردها المزّي، ولعلهما أخذاها عن ابن عساكر الذي أوردها بسند، فيه أكثر من مجهول، وفيه من اتهمه ابن عساكر نفسه برقّة دينه كالبزاز! «4»، وفيه من هو ليس بالقوي في حديثه كابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 265

فهم. «1»

فضلًا عن هذا، فإنّ مثل هذا الأمر لوكان قد حصل فعلًا، لكان سُبّةً وسَوْءةً يُعيَّر بها ابن الحنفية وأبناؤه، ولكان لهذا الحدث آثار ممتدّة يُعرف من خلالها، كأن يُعاتب ابن الحنفية أو أبناؤه من قبل واحد من أهل البيت عليهم السلام أو أكثر مثلًا، أو من قبل أحد الهاشميين، أو من قبل بعض الناس، فيردّ محمّد- أو أبناؤه- مدافعاً عن موقفه في منع أولاده من الالتحاق بالامام عليه السلام، ولاشك أن جميع هذه الآثار أو بعضها سوف تنطبع على صفحة التأريخ فنقرأها في المطبوع منه أو في المخطوط.

لكننا لانجد شيئاً من هذا على صفحة التأريخ،

ولا في المأثور عن أهل البيت عليهم السلام بصدد نهضة الامام الحسين عليه السلام، أو بصدد محمد بن الحنفية نفسه، بل ولانجد له أثراً في المأثور عن ابن الحنفية نفسه وعن أبنائه.

من هنا، نرى أنّ مارواه ابن عساكر بهذا الصدد، زيادة مكذوبة، ولايبعد أن يكون أحد الرواة في سندها ذا ميل أمويّ «2»، فأراد أن يشوِّه وحدة الصفّ الهاشمي في الموقف من نهضة الامام الحسين عليه السلام، ويُسي ء بالخصوص الى محمد بن الحنفية (رض) الذي كان معتقداً بإمامة الحسنين عليهما السلام، وبإمامة زين العابدين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 266

أئمّة له في حياته بعد أمير المؤمنين عليه السلام.

تحرّك عبدالله بن جعفر (رض) ..... ص : 266
اشارة

لم يحدّثنا التأريخ عن شي ء من تحرّك عبدالله بن جعفر (رض) «1» طيلة أيّام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 267

النهضة الحسينية إلّا في ثلاث قضايا:

الأولى:- ..... ص : 267

كتابته الرسالة التي بعث بها من المدينة الى الامام عليه السلام في مكّة بعد انتشار الخبر في أهل المدينة بأنّ الامام الحسين عليه السلام يريد الخروج الى العراق (على ما في رواية الفتوح)، أو بعثها إليه من مكّة بعد خروجه عليه السلام منها (على ما في رواية الطبري).

والثانية:- ..... ص : 267

وساطته بين والي مكّة والمدينة يومئذٍ عمرو بن سعيد الأشدق وبين الامام عليه السلام بُعَيْدَ خروجه من مكّة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 268

والثالثة:- ..... ص : 268

إرساله ولديه محمّداً وعوناً لنصرة الامام عليه السلام.

أمّا في قضية الرسالة فتقول رواية الفتوح:

«.. واتصل الخبر بالمدينة، وبلغهم أنّ الحسين عزم على الخروج الى العراق، فكتب إليه عبدالله بن جعفر الطيّار:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن علي من عبدالله بن جعفر: أمّا بعدُ، فإنّي أُنشدك الله أن تخرج عن مكّة، فإنّي خائف عليك من هذا الأمر الذي قد أزمعت عليه أن يكون فيه هلاكك وأهل بيتك، فإنّك إنّ قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض وأنت روح الهدى، وأمير المؤمنين، فلا تعجل بالمسير الى العراق، فإنّي آخذٌ لك الأمان من يزيد وجميع بني أميّة، على نفسك ومالك وولدك وأهل بيتك، والسلام.». «1»

فكتب إليه الحسين عليه السلام:

«أمّا بعدُ، فإنّ كتابك ورد عليَّ فقرأته وفهمت ما ذكرت، وأعلمك أنّي قد رأيت جدّي رسول الله صلى الله عليه و آله في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أو عليَّ، والله يا ابن عميّ، لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني ويقتلوني! واللّه يا ابن عمّي ليعدينّ عليَّ كما عدت اليهود على السبت. والسلام.». «2»

أمّا الطبري فقد روى أنّ عبدالله بن جعفر (رض) كان قد بعث برسالته هذه الى الامام عليه السلام من مكّة بعد خروجه عليه السلام منها، وقد رواها عن علي بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 269

الحسين عليه السلام قال: «لمّا خرجنا من مكّة كتب عبدالله بن جعفر بن أبي طالب إلى الحسين بن عليّ مع ابنيه عون ومحمد: أمّا بعدُ، فإني أسألك باللّه لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفق عليك

من الوجه الذي توجّه له أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك، إنّ هلكت اليوم طُفي ء نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإنّي في أثر الكتاب، والسلام.». «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 269

1)- يستفاد من نصّ رواية الفتوح أنّ هذه الرسالة كتبها عبدالله بن جعفر (رض) من المدينة إلى الإمام عليه السلام بعد أن شاع في المدينة نفسها خبر عزم الامام عليه السلام على التوجّه الى العراق، أي في أواخر الأيام المكيّة من عمر النهضة الحسينية، بل المستفاد من رواية الطبري أنّ هذه الرسالة كتبت بعد خروج الامام عليه السلام من مكّة، أي بعد انتهاء الأيام المكيّة من عمر النهضة الحسينية.

وعلى كلا الإحتمالين قد يستشعر المتأمّل أنّ تحرّك عبدالله بن جعفر (رض) جاء متأخّراً كثيراً قياساً الى بداية حركة أحداث النهضة الحسينية، هذا على ضوء المتون التأريخية المتوفّرة، والله العالم.

أمّا ابن عساكر فقد أشار إلى هذه الرسالة فقط بقوله: «وكتب عبدالله بن جعفر بن أبي طالب إليه كتاباً يحذّره من أهل الكوفة ويناشده الله أن يشخص إليهم.»، «2» كما لم يَروِ من جواب الامام عليه السلام إلّا: «إنّي رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسول الله صلى الله عليه و آله

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 270

وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له، ولستُ بمخبرٍ بها أحداً حتى أُلاقي عملي.» «1»

2)- يظهر من نص رسالة ابن جعفر (رض) أنّه يشترك مع ابن عبّاس (رض) وابن الحنفيّة (رض) وغيرهم في النظرة الى قيام الامام عليه السلام من زاوية النصر أو الإنكسار الظاهريين، هذه النظرة التي كانت منطلق مشوراتهم ونصائحهم، وخوفهم أن يُقتل الإمام عليه السلام في الوجهة التي عزم عليها، ولذا فقد كان الامام عليه السلام يجيبهم بأنّ منطقه الذي يتحرّك على

أساسه غير هذا من خلال الرؤيا التي رأى فيها جدّه صلى الله عليه و آله، وأنه مأمور بهذا النوع من التحرك امتثالًا لأمر رسول الله صلى الله عليه و آله.

3)- كما يظهر من نصّ رسالة عبدالله بن جعفر (رض) أنه كان يعتقد أو يأمل- من خلال الوساطة- أن تتحقق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الإمام عليه السلام إذا انثنى عن القيام والخروج وإن لم يبايع!

ولذا فقد ردّ الامام عليه السلام على هذا الوهم بأنه ما لم يُبايع يُقتل لامحالة، ولأنه لايبايع يزيد أبداً فالنتيجة لا محالة هي: «لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الارض لاستخرجوني حتى يقتلوني! ..»، وفي هذا ردٌّ أيضاً على تصوّر عبدالله بن جعفر- على فرض صحة رواية الفتوح- بأنه يستطيع أخذ الأمان من الأمويين للإمام عليه السلام ولما له وأولاده وأهله!

ولايخفى على العارف أننا هنا إنّما نناقش معاني مستوحاة من نصّ الرسالتين، وإلّا فإنّ الامام عليه السلام لم يكن لينثني عن قيامه ونهضته حتّى لو أُعطي الأمان مع عدم المبايعة، ذلك لأنه لم يخرج لفقده الأمان بل لطلب الإصلاح في أمّة جده صلى الله عليه و آله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويسير بسيرة جدّه وأبيه صلوات الله عليهما وآلهما.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 271

أمّا قصة وساطته بين عمرو الأشدق وبين الامام عليه السلام ....

فالظاهر من رواية الطبري أنّ عبدالله بن جعفر (رض) لم يكتف بمراسلة الامام عليه السلام، بل ترك المدينة مسرعاً الى مكّة لتحقيق وعده بتحصيل الأمان الأموي للإمام عليه السلام!

ويستفاد من هذه الرواية أيضاً أنّ عبدالله بن جعفر (رض) حينما توسّط في الأمر كان الامام عليه السلام قد تحرك بالفعل خارجاً عن مكّة المكرّمة ..

تقول الرواية: «وقام عبدالله

بن جعفر الى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه وقال: أكتب الى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنيّه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئنّ إلى ذلك فيرجع.

فقال عمرو بن سعيد: أكتب ماشئت وأتني به حتّى أختمه.

فكتب عبدالله بن جعفر الكتاب، ثم أتى به عمرو بن سعيد، فقال له: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنه أحرى أن تطمئنّ نفسه اليه ويعلم أنه الجدّ منك.

ففعل ... فلحقه يحيى وعبدالله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان مما اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول الله صلى الله عليه و آله وأُمرت فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له عليَّ كان أو لي!

فقالا له: فما تلك الرؤيا؟

قال: ما حدّثت أحداً بها، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربي!

قال وكان كتاب عمرو بن سعيد الى الحسين بن عليّ:

بسم الله الرحمن الرحيم. من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّ:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 272

أمّا بعد، فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك، بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أُعيذك بالله من الشقاق، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبدالله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك الله عليَّ بذلك شهيدٌ وكفيلٌ ومُراعٍ ووكيل، والسلام عليك.». «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 272

1)- توحي هذه الرواية- كما أوحت ذلك من قبل أيضاً رسالة عبدالله بن جعفر الى الامام عليه السلام التي رواها صاحب الفتوح- بأنّ عبدالله بن جعفر كان يعتقد أنّ الامام عليه السلام إنّما خرج لفقده الأمان على حياته لا

لأمرٍ آخر وراء ذلك، فهو هنا يقول للأشدق: أكتب للحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة ...

لعلَّه يطمئن الى ذلك فيرجع!

كما توحي أيضاً بأنه كان يرى إمكان تحقق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الامام عليه السلام في حال عدم مبايعته ليزيد! الأمر الذي لم يكن يراه محمّد بن الحنفية وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما كما هو المستفاد من محاوراتهما مع الامام عليه السلام.

ونحن نستبعد جدّاً أن يكون عبدالله بن جعفر (رض) ذا اعتقاد كهذا! وهو ابن عمّ الإمام عليه السلام، القريب منه الحميم العلاقة به، والمعتقد بإمامته وعصمته، العارف بنظرته الى الأمور، البصير بمشربه.

ونعتقد أنّ قلّة الوثائق التأريخية المتعلّقة بأخبار وتفاصيل موقف ابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 273

جعفر (رض) من قيام الامام عليه السلام ساعدت كثيراً على مظلوميته!

والنزر القليل جدّاً من الروايات التأريخية المتوفّرة في هذا الصدد قد شوّه الصورة الناصعة لهذا الهاشمي العظيم الذي وردت روايات فيه أنه أشبه رسول الله صلى الله عليه و آله خلقاً وخُلقاً. «1»

2)- وتدّعي هذه الرواية أيضاً أنّ رسالة الأشدق الى الامام عليه السلام كان قد كتبها عبدالله بن جعفر (رض)، وهذا من مظلوميته التأريخية أيضاً، ذلك لأنّ المتأمّل في متن هذه الرسالة يرى فيها كثيراً من سوء الأدب في مخاطبة الامام عليه السلام، كمثل:

«أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك .. وإني أُعيذك بالله من الشقاق!»، وهذا مستبعد صدروه من رجل مؤمن بإمامة الامام الحسين عليه السلام، ويراه: «نور الأرض» و «أمير المؤمنين» و «روح الهدى». «2»

ومن الجدير بالذكر هنا: أنّ ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح «3» قد ذكر هذه الرسالة التي بعثها الأشدق الى الامام عليه السلام، ولكنّه ذكر

أن عمرو بن سعيد الأشدق هو الذي كتبها وليس عبدالله بن جعفر (رض)، كما ذكر أنّ حاملها الى الامام عليه السلام كان يحيى بن سعيد وحده، أي لم يكن عبدالله بن جعفر (رض) معه!

كما أنّ الشيخ المفيد (ره) روى نفس قصة هذه الرسالة- كما رواها الطبري- لكنّه لم يذكر أنّ عبدالله بن جعفر (رض) هو الذي كتبها «4»، بل قال: «فكتب إليه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 274

عمرو بن سعيد كتاباً ...»، «1» فتأمّل!

وأمّا قصة التحاق ابنيه عون ومحمّد «2» بالإمام عليه السلام ...

فإنّ ظاهر القرائن التأريخية يفيد أنهما كانا مع أبيهما، ثمّ التحقا بالإمام عليه السلام وانظمّا إلى الركب الحسيني بعد خروجه من مكّة بعلمٍ من أبيهما وبإذنه، يقول الشيخ المفيد (ره): «فلمّا أيس منه عبدالله بن جعفر (ره) أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد الى مكّة.». «3»

وقد كان إبناه محمد وعون حاملي رسالة أبيهما الى الامام عليه السلام قبل ذلك على ما في رواية الطبري والمفيد، «4» وإن كان سياق القصة على ما في رواية الفتوح أنه بعثهما برسالته من المدينة الى الامام عليه السلام في مكّة، «5» وهذا ما ذهب اليه ابن الصبّاغ أيضاً في الفصول المهمة حيث قال: «ثمّ إنّه وردت على الحسين عليه السلام كتب من أهل المدينة من عند عبدالله بن جعفر على يدي ابنيه عون ومحمّد، ومن سعيد بن العاص ومعه جماعة من أعيان المدينة ...». «6»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 275

وإرسال عبدالله بن جعفر (رض) ولديه عوناً ومحمّداً ليجاهدا دون الامام عليه السلام وليستشهدا بين يديه دليل تام على تأييده النهضة الحسينية، وهنا يلمح المتأمّل أنّ عبدالله بن جعفر يشترك مع ابن

الحنفية وابن عباس في أصل تأييد قيام الامام عليه السلام وفي أصل معارضة خروجه الى العراق ..

ومن الروايات الكاشفة عن تأييده (رض) لقيام الامام عليه السلام، ما رواه الشيخ المفيد (ره) قائلًا: «ودخل بعض موالي عبدالله بن جعفر بن أبي طالب عليهم السلام فنعى إليه ابنيه، فاسترجع، قال أبو السلاسل (أبو اللسلاس) «1» مولى عبدالله: هذا مالقينا من الحسين بن عليّ!

فحذفه عبدالله بن جعفر بنعله، ثم قال: يا ابن اللخناء، أللحسين عليه السلام تقول هذا!؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أُقتل معه! والله إنه لممّا يسخّي نفسي عنهما ويعزّي عن المصاب بهما أنهما أُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له، صابرين معه.

ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمدُ للّه، عزَّ عليَّ مصرع الحسين، إن لا أكن آسيت حسيناً بيدي فقد آساه ولداي.». «2»

وجدير بالذكر هنا أن نضيف أنّ أبا الفرج الأصبهاني روى أنّ لعبدالله بن جعفر (رض) ولداً آخر أسمه عبيدالله، وأمّه الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف، قُتل أيضاً في كربلاء بين يدي الامام الحسين عليه السلام، وهو أخو محمد بن عبدالله بن جعفر (رض) لأمّه وأبيه. «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 276

لماذا لم يلتحق عبد الله بن جعفر (رض) بالامام عليه السلام ..... ص : 276

لم نعثر- بحسب تتبعنا- على من تأمّل في جلالة عبدالله بن جعفر (رض)، لا في كتبنا ولا في كتب السنّة، فكأنّ جلالة قدر عبدالله بن جعفر (رض) أمرٌ متسالم ومتّفق عليه.

فالعلّامة الحلّي (ره)- على سبيل المثال لا الحصر- يقول فيه وفي محمّد بن الحنفية رضوان الله عليهما: «والسيّد محمّد بن الحنفية وعبدالله بن جعفر وأمثالهم أجل قدراً وأعظم شأناً من اعتقادهم خلاف الحقّ وخروجهم عن الإيمان ...». «1»

ويقول السيّد الخوئي (ره): «جلالة عبدالله بن جعفر الطيّار بن أبي طالب بمرتبة لا

حاجة معها إلى الإطراء ..». «2»

ويقول الذهبي: «عبدالله بن جعفر، السيّد العالم .. كان كبير الشأن، كريماً جواداً، يصلح للإمامة ..» «3».

ولا شك أنّ المتتبّع العارف بسيرة عبدالله بن جعفر (رض)، وبأخباره، وبمواقفه الجريئة في الدفاع عن الحق ودحض الباطل، وبانقطاعه الى عمّه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام والحسنين عليهما السلام من بعده، وبمعرفته بأئمته الذين فرض الله طاعتهم وولايتهم، «4» وبعلاقته الحميمة بالامام الحسين عليه السلام وبقربه منه، يقطع مطمئنّاً بأنّ هذا السيّد الهاشميّ الإماميّ الشجاع البصير المنقطع الى الامام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 277

الحسين عليه السلام كان عارفاً بفرض امتثال أمر إمامه عليه السلام، وبوجوب نصرته، فلابدّ أنّه كان معذوراً في عدم التحاقه بالركب الحسيني، وكيف يتخلّف بلا عذرٍ وقد خرجت زوجته وابنة عمّه المكرّمة زينب الكبرى بنت عليّ عليهما السلام، وخرج ولداه- أو أولاده- مع الامام عليه السلام في رحلة الفتح بالشهادة!؟

إنّ من يواسي الامام عليه السلام بأعزَّ ما عنده من أهل بيته لابدّ وأن يكون تخلّفه عن الإمام عليه السلام على كُرْهٍ منه بسبب عُذر قاهر!

يقول المامقاني (ره): «وقد واساه بولده عون ومحمّد وعبدالله، قُتلوا معه بالطفّ لما كان هو معذوراً في الخروج معه.». «1»

أمّا ما هو عذره في عدم الإلتحاق بالامام عليه السلام، فإننا لم نعثر- مع تتبع غير يسير على مصدر يشخّص نوع هذا العذر، إلّا ما وجدناه في كتاب (زينب الكبرى) للمحقّق الشيخ جعفر النقدي، حيث يقول: «أمّا عدم خروجه مع الحسين عليه السلام الى كربلاء فقد قيل إنه مكفوف البصر!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 278

عبدالله بن الزبير .. والنصائح المتناقضة! ..... ص : 278
اشارة

لم يستثقل عبدالله بن الزبير «1» وجود الإمام الحسين عليه السلام من قبلُ في أيّ مكان

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 279

- بعد موقعة الجمل-

كما أستثقله في مكّة المكرّمة أيّام تواجد الإمام عليه السلام فيها بعد رفضه البيعة ليزيد، ذلك لأنّ ابن الزبير كان قد نوى منذ البدء أن يتّخذ مكّة المكرّمة منطلقاً للتمرّد على السلطة الأموية ومركزاً لإدارة أمور البلدان الأخرى في حال نجاحه في مسعاه، ولذا فقد كان في حاجة ماسّة إلى أن يخلو له وجه مكّة من أي منافس، وتصفو له من كلّ مزاحم، فما بالك بمزاحمٍ ومنافسٍ لايرى الناس ابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 280

الزبير قباله شيئاً مذكوراً!؟ ولايعبأون بحضوره أو بغيابه إذا حضر ذلك الشخص المبجّل عندهم!؟.

فمع وجود الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة كانت الارض قد ضاقت على ابن الزبير بما رحبت، وضاقت عليه حرجاً أنفاسه كأنما يصّعدُ في السماء، لكنه كان يُداري حراجة تلك الأيّام باستظهار هدوءٍ مفتعل، وصبر مصطنع، ويتكتّم على حسده وغِلّه ونواياه بما هو فوق طاقته!

يقول التأريخ: «واشتدّ ذلك على ابن الزبير لأنه كان قد طمع أن يبايعه أهل مكّة، فلمّا قدم الحسين شقّ ذلك عليه، غير أنه لايُبدي ما في قلبه الى الحسين، لكنّه يختلف إليه ويصلّي بصلاته، ويقعد عنده ويسمع حديثه، وهو يعلم أنه لايبايعه أحدٌ من أهل مكّة والحسين بن عليّ بها، لأنّ الحسين عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير.». «1»

«وأمّا ابن الزبير فإنه لزم مصلّاه عند الكعبة، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولايمكنه أن يتحرّك بشي ء مما في نفسه مع وجود الحسين، لِما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه عليه ... بل الناس إنّما ميلهم الى الحسين لأنه السيّد الكبير، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحدٌ يساميه ولايساويه ...».

«2»

من هنا كان كلُّ همِّ عبدالله بن الزبير وأقصى أُمنيته أن يخرج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة لتخلو له، وكان ابن الزبير يظنّ أنّ مايضمره خافٍ على

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 281

الإمام عليه السلام وعلى الآخرين من وجهاء الأمّة وأعلامها، غير أنّ أمره كان أظهر من أن يخفى على ذي فطنة كابن عباس مثلًا، فما بالك بالإمام عليه السلام!؟

يروي الطبري أنّ ابن الزبير أتى الإمام الحسين عليه السلام- بعد خروج ابن عباس (رض) من عند الإمام عليه السلام!- فحدّثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم!؟ خبّرني ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين عليه السلام: واللّه لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليَّ شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله.

فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها! ثمّ خشي أن يتّهمه فقال: أما إنّك لو أقمت بالحجاز ثمّ أردتَ هذا الأمر ها هنا ماخولف عليك إن شاء الله!

ثم قام فخرج من عنده.

فقال الحسين عليه السلام: «ها إنّ هذا ليس شي ء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز الى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شي ء، وأنّ الناس لم يعدلوه بي فودَّ أنّي خرجت منها لتخلو له.». «1»

ويروي ابن عساكر عن معمر، عن رجل أنه سمع الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام يقول لابن الزبير: «أتتني بيعة أربعين ألفاً يحلفون لي بالطلاق والعتاق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 282

من أهل الكوفة- أوقال من أهل العراق-.

فقال له عبدالله بن الزبير: أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك!؟». «1»

ويروي الطبري أيضاً عن عبدالله بن سليم والمُذري بن المشمعّل الأسديين

أنهما رأيا- يوم التروية!- فيما بين الحجر وباب الكعبة كُلًّا من الإمام الحسين عليه السلام وعبدالله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى، وسمعا ابن الزبير يقول للإمام عليه السلام:

«إنْ شئت أن تقيم أقمتَ فَوُلِّيتَ هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك!

فقال له الحسين عليه السلام: إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها! فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش!

فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولاتُعصى!

فقال عليه السلام: وما أريد هذا أيضاً!». «2»

أمّا الدينوري فيروي قائلًا: «وبلغ عبدالله بن الزبير ما يهمُّ به الحسين، فأقبل حتى دخل عليه، فقال له: لو أقمت بهذا الحرم، وبثثت رسلك في البلدان، وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن يقدموا عليك، فإذا قوي أمرك نفيتُ عمّال يزيد عن هذا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 283

البلد، وعليَّ لك المكانفة والمؤازرة، وإن عملتَ بمشورتي طلبتَ هذا الأمر بالحرم، فإنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار، لم يعدمك بإذن الله إدراك ما تريد، ورجوتُ أن تناله!». «1»

وفي رواية أخرى عن أبي مخنف عن أبي سعيد عقيصا، «2» عن بعض أصحابه قال سمعت الحسين بن عليّ وهو بمكّة وهو واقف مع عبدالله بن الزبير فقال له ابن الزبير: إليَّ يا ابن فاطمة!

فأصغى إليه، فسارّه، ثمّ التفت إلينا الحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 284

فقال: أتدرون ما يقول ابن الزبير؟

فقلنا: لاندري، جعلنا فداك!

فقال: قال أَقِمْ في هذا المسجد أجمع لك الناس!

ثمّ قال الحسين عليه السلام: والله لئن أُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أن أُقتل داخلًا منها بشبر!، وأيمُ الله لو كنت في جُحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم!، والله ليعتدُنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت!». «1»

أمّا

ابن قولويه (ره) فيروي (بسندٍ) عن سعيد عقيصا قال:

سمعت الحسين بن عليّ عليهما السلام وخلا به عبدالله بن الزبير فناجاه طويلًا، ثمَّ أقبل الحسين عليه السلام بوجهه إليهم وقال: إنّ هذا يقول لي: كن حماماً من حمام الحرم، ولأن أقتل وبيني وبين الحرم باعٌ أحبّ إليَّ من أن أقتل وبيني وبينه شبر، ولأن أُقتل بالطفّ أحبّ إليَّ من أن أُقتل بالحرم». «2»

ويروي ابن قولويه (ره) أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«قال عبدالله بن الزبير للحسين عليه السلام: ولو جئت إلى مكّة فكنتَ بالحرم! «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 285

فقال الحسين عليه السلام: لا نَستحلّها، ولاتُستحلُّ بنا، ولأن أُقتل على تل أعفر «1» أحبّ إليَّ من أن أُقتل بها». «2»

ويروي ابن قولويه (ره) أيضاً عن الإمام أبي جعفر عليه السلام أنّ ابن الزبير شيّع الإمام الحسين عليه السلام: «فقال: يا أبا عبدالله، قد حضر الحجُّ وتدعه وتأتي العراق!؟

فقال: يا ابن الزبير، لأن أُدفن بشاطي ء الفرات أحبّ إليّ من أن أُدفن بفناء الكعبة!». «3»

وروى السيّد ابن طاووس (ره) أنّ عبدالله بن العبّاس (رض) وعبدالله بن الزبير جاءا الى الإمام عليه السلام فأشارا عليه بالإمساك، فقال لهما: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه!». «4»

ويبدو أنّ ابن الزبير- من جملة محاوراته مع الإمام عليه السلام ومن مجموع الإخبارات المتناقلة آنذاك عن مصرع الامام عليه السلام- كان يعلم أنّ الإمام عليه السلام سوف يُقتل في سفره هذا الى العراق لا محالة، وأنّ ذلك آخر العهد به عليه السلام، فحرص في اللحظات الأخيرة على الإستفادة من علم الإمام عليه السلام، فسأله قائلًا: «يا ابن رسول الله، لعلّنا لانلتقي بعد اليوم، فأخبرني متى

يرث المولود ويورث؟ وعن جوائز السلطان هل تحلّ أم لا؟».

فأجابه عليه السلام: «أمّا المولود فإذا استهلّ صارخاً .. وأمّا جوائز السلطان فحلال مالم يغصب الأموال.». «5»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 286

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 286

1)- في محاوراته مع الإمام عليه السلام كان ابن الزبير يناقض نفسه في نصائحه ومشوراته، فمرّة يستظهر خلاف ما يستبطن فيشير على الإمام عليه السلام بالبقاء في مكّة!، وأخرى يغفل عن تصنّعه فتظهر أمنيّة قلبه في فلتات لسانه فيحثّ الامام عليه السلام على الخروج الى العراق!، وقد يعارض نفسه في المحاورة الواحدة فيشير في أوّلها بالخروج ثم يستدرك فيشير بالبقاء خوفاً من أن يُتّهم بما يُكنُّ في نفسه! وقد ينسى نفسه وماحوله فيطلب من الإمام عليه السلام أن يوليّه الأمر!!

2)- ويلاحظ على ابن الزبير أيضاً أنّ «حبّ الرئاسة» قد طغى على قلبه وهيمن على تفكيره إلى درجة أنساه عندها حتى الفرق الهائل بين قعر الوهدة وذروة القمة حين تعامى عن الفرق الكبير بينه وبين الإمام عليه السلام! فعدَّ نفسه- كما الإمام عليه السلام!- من ولاة الأمر وأصحاب الحقّ بالخلافة حيث يقول: «ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم!»، بل يغلب حبّ الرئاسة على عقله الى درجة يفقد عندها توازنه فيعمى عن حقائق الأشياء وموازينها- فيما يمكن ومالا يمكن- فلا يرى مانعاً من أن يكون هو الخليفة حتّى مع وجود الإمام عليه السلام حيث يخاطبه قائلًا:

«فأَقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر ..!!».

3)- ويلاحظ المتأمّل في جميع هذه المحاورات الأدب الجمّ والخلق السامي الذي تعامل به الإمام عليه السلام مع عبدالله بن الزبير، مع معرفته التامّة بما انطوى عليه ابن الزبير من بغض لأهل البيت عليهم السلام، فكان صلوات الله عليه يسارّه كما يسارّ الودود المخلص في وداده،

ويحاوره كما يحاور الناصح الصادق في نصحه، ومع كلّ هذا الخلق العظيم فقد حرص الإمام عليه السلام في محاوراته مع ابن الزبير على أمرين هما:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 287

الأوّل: التأكيد على حرمة استحلال البيت وانتهاك حرمته «إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها! فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش!» و «والله لئن أُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أن أُقتل داخلًا منها بشبر!» و «لأَن أُقتل وبيني وبين الحرم باعٌ أحبُّ إليَّ من أن أُقتل وبيني وبينه شبر!» و «لانستحلّها ولاتُستحلّ بنا، ولأن أُقتل على تل أعفر أحبّ إليَّ من أن أُقتل بها!»، ولايخفى على المتأمّل أنّ الإمام عليه السلام أراد من خلال هذا التأكيد أيضاً نهي ابن الزبير ألّا يكون هو أيضاً ذلك الكبش القتيل إقامة للحجّة عليه، مع علمه عليه السلام بأنّ ابن الزبير هو ذلك المستحِلُّ لحرمة البيت الحرام!

الثاني: تأكيد الإمام عليه السلام على نفي أيّ ارتباط بينه وبين ابن الزبير، ويظهر حرص الإمام عليه السلام على ذلك كلّما أحسّ أنّ هناك من يراهما اثناء التحاور ويُنصت لهما، حيث يكشف الإمام عليه السلام لأولئك المراقبين عن ما يسرّه إليه ابن الزبير، كمثل قوله عليه السلام: «إنّ هذا يقول لي: كن حماماً من حمام الحرم ...» وقوله عليه السلام كاشفاً عن أمنية ابن الزبير:

«ها إنّ هذا ليس شي ء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أخرج الى العراق ...».

4)- ويلاحظ أيضاً أنّ الإمام عليه السلام أكّد لابن الزبير ولسامعيه الآخرين أنه لامحالة مقتول حيث قال عليه السلام: «وأيمُ الله لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم! والله ليعتدُنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت!»، كما

أشار عليه السلام تلميحاً إلى مكان مصرعه في قوله: «ولأن أُقتل بالطفّ أحبّ إليّ من أن أُقتل بالحرم!» و «يا ابن الزبير، لأَن أُدفن بشاطي ء الفرات أحبّ إليّ من أن أدفن بفناء الكعبة!»، ولعلّ الإمام عليه السلام أراد بذلك إلقاء الحجّة على ابن الزبير وعلى من كان يسمع تحاورهما بوجوب الخروج معه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 288

لنصرته والجهاد بين يديه.

5)- ممّا لايخفى- على من له أدنى اطّلاع على تأريخ النهضة الحسينية- أنّ مشورات ونصائح ابن الزبير المتعارضة- وإن استمع إليها الإمام عليه السلام بأدبه السامي العظيم- لم يكن لها أيّ تأثير على الإمام عليه السلام الذي كان عارفاً بحقيقة مايستبطنه ابن الزبير من عداوة وبغضاء لآل محمّد صلى الله عليه و آله، وبكذب مايستظهره من نصح ومودّة لهم، ولذلك فلم يكن لرأي ابن الزبير أيّ أثر على حركة أحداث النهضة الحسينية لا من قريب ولا من بعيد.

من هنا حقَّ للمتأمّل أن يعجب كثيراً من سخيف ما ذهب إليه ابن أبي الحديد من أنّ الإمام الحسين عليه السلام خرج الى العراق عملًا بنصيحة ابن الزبير له بذلك، فغشه!

يقول ابن أبي الحديد: «واستشار الحسين عليه السلام، عبدالله بن الزبير وهما بمكّة في الخروج عنها، وقصد العراق ظانّاً أنه ينصحه، فغشّه، وقال له: لاتقم بمكّة، فليس بها من يبايعك، ولكن دونك العراق، فإنّهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحداً، فخرج الى العراق حتى كان من أمره ما كان!». «1»

وأسخف من قول ابن أبي الحديد قول محمّد الغزالي في الدفاع عن ابن الزبير واستبعاده أن يكون ابن الزبير قد أشار على الإمام عليه السلام بالخروج الى العراق ليستريح منه، قائلًا: «فعبد الله بن الزبير أتقى للّه وأعرق في الإسلام من

أن يقترف مثل هذه الدنيّة!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 289

عبدالله بن عمر .. والمشورة المريبة! ..... ص : 289
اشارة

تميّز عبدالله بن عمر «1» عن جميع وجهاء الأمّة وأعلامها من الرجال الذين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 292

التقوا مع الامام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة وعرضوا عليه نصائحهم ومشوراتهم بموقفه الرافض لأصل القيام والنهضة! وبدعوته الإمام عليه السلام الى الدخول في ما دخل فيه الناس! وإلى مبايعة يزيد! والصبر عليه كما صبر لمعاوية من قبل!

وكان هذا النهي عن القيام والخروج، والدعوة الى مبايعة يزيد، والدخول في ما دخل فيه الناس، خطّاً ثابتاً لابن عمر في لقاءاته الثلاثة «1» مع الإمام الحسين عليه السلام منذ ابتداء قيامه المبارك.

ولم يسجّل لنا التأريخ في الأيام المكيّة من عمر النهضة الحسينية شيئاً عن موقف ابن عمر من قيام الإمام عليه السلام سوى آرائه ومشوراته التي أبداها في المحاورة الثلاثية بينه وبين الإمام عليه السلام وبين ابن عباس (رض).

وقد نقلنا هذه المحاورة في حديثنا عن تحرّك ابن عبّاس (رض) مركّزين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 293

على نصوص التحاور بين الامام عليه السلام وبين ابن عباس (رض)، وننقلها هنا مركزّين على نصوص التحاور بين الامام عليه السلام وبين عبدالله بن عمر ..

تقول الرواية التأريخية: «وأقام الحسين عليه السلام بمكّة باقي شهر شعبان ورمضان وشوّال وذي القعدة، وبمكّة يومئذٍ عبدالله بن عبّاس وعبدالله بن عمر بن الخطّاب، فأقبلا جميعاً حتى دخلا على الحسين عليه السلام وقد عزما على أن ينصرفا الى المدينة ...

فقال له ابن عمر: أبا عبدالله، رحمك الله إتّق الله الذي إليه معادك! فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت لكم وظلمهم إيّاكم، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية! ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلونك

ويهلك فيك بشرٌ كثير، فإني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وهو يقول: «حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله الى يوم القيامة»، وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين!

فقال له الحسين عليه السلام:

أبا عبدالرحمن! أنا أُبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله فيه وفي أبيه ما قال!؟

وهنا يتدخّل ابن عبّاس في الحوار ليصدّق قول الامام عليه السلام، ويروي عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: «مالي وليزيد! لابارك الله في يزيد! وإنه ليقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه السلام، والذي نفسي بيده لايُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم»، ثم يبكي ابن عبّاس، ويبكي معه الإمام عليه السلام ويسأله أليس يعلم أنّه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله؟ فيشهد ابن عبّاس بذلك ويؤكّد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 294

أنّ نصرة الامام عليه السلام فرض على هذه الأمّة كالصلاة والزكاة!

ثمّ يسأله الامام عليه السلام عن رأيه في الأمويين الذين أخرجوه عن حرم جدّه صلى الله عليه و آله وأرادوا سفك دمه بلا جُرم كان قد اجترحه، فيجيبه ابن عبّاس بأنّ هؤلاء قوم كفروا بالله ورسوله، وعلى مثلهم تنزل البطشة الكبرى، ثمّ يشهد ابن عبّاس أنّ من طمع في محاربة الامام عليه السلام والرسول صلى الله عليه و آله فماله من خلاق! وهنا يقول الامام عليه السلام «أللّهمّ اشهد!»، فيُدرك ابن عباس (رض) أنّ الامام عليه السلام قصده وابن عمر بطلب النصرة! فيبادر ابن عباس ويظهر استعداده

لنصرة الامام عليه السلام والجهاد بين يديه، ويقول انه لا يوفّي بذلك عشر العشر من حقّه عليه السلام!

وهنا يُحرج ابن عمر لأنّه مقصود أيضاً بالخطاب! فيتدخل ليحرف مسير الحوار عن الإتجاه الذي أراده الامام عليه السلام فيقول لابن عباس: مهلًا، ذرنا من هذا يا ابن عبّاس!

ثمّ أقبل ابن عمر على الحسين عليه السلام فقال: أبا عبدالله، مهلًا عمّا قد عزمت عليه، وارجع من هنا الى المدينة، وادخل في صلح القوم! ولاتغب عن وطنك وحرم جدّك رسول الله صلى الله عليه و آله، ولا تجعل لهؤلاء الذين لاخلاق لهم على نفسك حجّة وسبيلا، وإن أحببت أن لاتبايع فأنت متروك حتى ترى برأيك، فإنّ يزيد بن معاوية عسى أن لايعيش إلّا قليلًا فيكفيك اللّه أمره!

فقال الحسين عليه السلام:

أُفٍّ لهذا الكلام أبداً مادامت السموات والأرض!، أسألك بالله يا عبدالله! أنا عندك على خطأ من أمري هذا؟ فإن كنتُ عندك على خطأ فردّني فإني أخضع وأسمع وأطيع!

فقال ابن عمر: أللّهمّ لا، ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسوله على خطأ،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 295

وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول صلى الله عليه و آله على مثل يزيد بن معاوية باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأمّة ما لا تحب، فارجع معنا الى المدينة، وإن لم تحب أن تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزل!

فقال الحسين عليه السلام:

هيهات يا ابن عمر! إنّ القوم لايتركوني، إن أصابوني وإن لم يُصيبوني، فلا يزالون حتى أُبايع وأنا كاره، أو يقتلوني! أما تعلم يا عبدالله أنّ من هوان هذه الدنيا على الله تعالى أنه أُتي برأس يحيى بن زكريا عليه السلام الى بغيّة من

بغايا بني إسرائيل والرأس ينطق بالحجّة عليهم؟ أما تعلم أبا عبدالرحمن أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس سبعين نبيّاً ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كلهم كأنّهم لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر! إتّقِ الله أبا عبدالرحمن ولا تدعنّ نصرتي! واذكرني في صلاتك! يا ابن عمر، فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل فأنت في أوسع العذر، ولكن لا تتركنّ لي الدُعاء في دبر كلّ صلاة، واجلس عن القوم، ولاتعجل بالبيعة لهم حتى تعلم الى ماتؤول الأمور!

ثمّ أقبل الامام عليه السلام على ابن عبّاس (رض) فأثنى عليه، ورخّصه بالمضيّ الى المدينة وأوصاه بمواصلته بأخباره، وأظهر عليه السلام أنه مستوطن الحرم ما رأى أهله يحبّونه وينصرونه، وأنه يستعصم بالكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام يوم أُلقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل) فكانت النار عليه برداً وسلاماً.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 296

فبكى ابن عبّاس (رض) وابن عمر بكاءً شديداً، وشاركهما الامام عليه السلام بكاءهما ساعة ثمّ ودّعهما وصارا الى المدينة. «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 296

1)- سبق ان قلنا «2» أنّ ابن أعثم الكوفي كان قد تفرّد برواية نصّ هذه المحاورة المفصّلة في كتابه الفتوح، ونقلها عنه الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين عليه السلام، والملفت للإنتباه أنّ هذا النص قد احتوى على عبارات متعارضة، وأخرى لاتنسجم مع نظرة أهل البيت عليهم السلام الى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله سواء في حياته صلى الله عليه و آله أو بعد رحلته، ومثال على المتعارضات قوله عليه السلام لابن عمر «إتّق اللّه أبا عبدالرحمن ولاتدعنّ نصرتي» وقوله بعد ذلك «فإن كان الخروج معي ممّا يصعب

عليك ويثقل فأنت في أوسع العُذر!». ومثال على الاخرى قوله: «فوالذي بعث جدّي محمداً صلى الله عليه و آله بشيراً ونذيراً لو أنّ أباك!»، وقوله «واذكرني في صلاتك!» وقوله «ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دبر كُلّ صلاة!».

والظنّ قويٌّ أنّ العبارة التي ترخّص لابن عمر في عدم نصرة الامام عليه السلام وتجعله في أوسع العذر! والعبارة التي تثني على بعض الصحابة بمالم يفعله (والوثائق التأريخية تؤكد خلاف ذلك!)، والعبارة التي تدّعي عناية الامام عليه السلام بصلاة ابن عمر أو بدعائه- على فرض صحة رواية هذه المحاورة أصلًا- قد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 297

أُدخلت على أصل النصّ وأُقحمت عليه إقحاماً من قبل بعض الرواة أو النسّاخ من أجل تحسين صورة البعض على لسان الامام عليه السلام!!

2)- اعترف ابن عمر بأنّ نصرة الامام الحسين عليه السلام والإنضمام إليه واجب شرعيّ حين قال إنه سمع رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: «حسينٌ مقتول! ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله يوم القيامة!».

ويتأكد لابن عمر هذا الواجب الشرعيّ المقدّس حين يسمع من ابن عباس أيضاً أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و آله يقول:

«مالي وليزيد!؟ لابارك الله في يزيد! وإنه ليقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه السلام! والذي نفسي بيده لايُقتل ولدي بين ظهرانيّ قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم!».

ويُلقي الامام عليه السلام الحجّة صريحة بالغة تامة على ابن عمر حيث يقول له:

«إتّقِ الله أبا عبدالرحمن ولا تدعنّ نصرتي!».

ومع كلّ هذا نرى عبدالله بن عمر يقعد ويتخلّف عن نصرة الامام الحسين عليه السلام عامداً بلا عُذر! ولايكتفي بذلك بل يلحُّ بإصرار على الامام عليه السلام ليترك القيام، ويرجع الى المدينة، ويدخل في صلح القوم!،

ويصبر على يزيد!

3)- ونلاحظ ابن عمر أيضاً يحاول- وكأنّه ناطق رسميّ أمويّ!- أن يوهم الامام عليه السلام بأنّ المتاركة بينه وبين يزيد أمرٌ ممكن، وأنّه لابأس على الامام عليه السلام إنْ ترك القيام حتى وإن لم يبايع! فيقول له: «وإن أحببت أن لا تبايع فأنت متروك حتّى ترى برأيك!»، ويقول: «وإن لم تحب أن تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزل!».

تُرى هل كان ابن عمر مؤمناً حقّاً بإمكان هذه المتاركة!؟

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 298

كيف يكون مؤمناً بها وقد روى هو نفسه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و آله يقول:

«حسين مقتول! ...» ويسمع ابن عباس أيضاً يروي عنه صلى الله عليه و آله بأنّ يزيد قاتل الحسين عليه السلام!؟

وإذا لم يكن مؤمناً بإمكان هذه المتاركة! فلماذا كان يصرّ على دعوى إمكانها وكأنّه ينطق عن لسان الحكم الأمويّ!؟

هل كان ابن عمر يريد- بلسان المشورة والنصيحة- أن يوقع الامام عليه السلام في شِباك صيد يزيد بعد نزع فتيل الثورة قبل اندلاعها!؟

وهل يستبعد المتأمّل ان يصدر هذا من ابن عمر!؟

لعلّ التأمّل في أبعاد الملاحظة التالية يكشف لنا عن الجواب!

4)- أكّد ابن عمر في هذه المحاورة اعترافه بعداوة الأمويين لأهل البيت عليهم السلام وبظلمهم إيّاهم! وبأنّ الأمويين وعلى رأسهم يزيد هم «القوم الظالمون»! وأنهم «لاخلاق لهم» عند الله! وأكّد على خوفه من أن يميل الناس إليهم طمعاً في ما عندهم من الذهب والفضة «الصفراء والبيضاء»!

لكننا نجد أنّ ابن عمر هذا كان ممن تسلّم هذه الصفراء والبيضاء من معاوية رشوة أيّام تمهيده ليزيد بولاية العهد من بعده! حيث أرسل إليه معاوية مائة ألف درهم فقبلها! «1»

ونجد ابن عمر قد بادر الى بيعة يزيد! مع أنّ الإمام عليه السلام كان

قد طلب إليه في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 299

هذه المحاورة- على الأقلّ!- ألّا يعجل بالبيعة ليزيد حتّى يعلم ما تؤول إليه الأمور! هذا مع اعتراف ابن عمر بأنّ يزيد رجل ظالم ولاخلاق له عند الله! ثمّ نجد ابن عمر وقد انتفضت الأمّة في المدينة على يزيد وخلعته لفسقه وفجوره يصرُّ على التمسّك ببيعة يزيد مدّعياً أنها كانت بيعة للّه ولرسوله!! وينهى أهله عن التنكّر لهذه البيعة معلناً براءته ممّن تنكّر لها منهم!

يقول التأريخ: لمّا خلع أهل المدينة بيعة يزيد «جمع ابن عمر بنيه وأهله ثمَّ تشهد، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله! وإنّي سمعت رسول الله يقول: إنّ الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، يقال هذا غدر فلان، فإنّ من أعظم الغدر- إلّا أن يكون الشرك بالله- أن يبايع رجل رجلًا على بيعة الله ورسوله ثمّ ينكث بيعته! فلا يخلعنّ أحدٌ منكم يزيد! ولايسرفنّ أحد منكم في هذا الأمر فيكون الفيصل بيني وبينه- رواه مسلم، وقال الترمذي: صحيح.» «1»

فهل يُعقل أن تكون البيعة لرجل ظالم فاسق لاخلاق له عند الله تعالى بيعة لله ولرسوله!؟

أو ليسَ مما أجمعت الأمّة عليه أنّ العدالة من شروط الإمامة!؟ «2»

ومن هو الغادر الذي يُنصب له لواء يوم القيامة! الذي بايع الفاسق مع علمه بفسقه منذ البدء- كما فعل ابن عمر!- أم أهل المدينة الذين انتفضوا على يزيد بعد أن تيقّنوا من فسقه وخلعوا بيعته!؟

ثمّ لماذا لايرى ابن عمر كُلًّا من طلحة والزبير ومن معهما غادرين تُنصب لهم ألوية غدر يوم القيامة! حيث نكثوا بيعتهم لرمز العدالة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام!؟ أم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 300

يتوقّف ابن عمر في هذا الأمر فيبتدع مغالطة أخرى

من مغالطاته الكبيرة الكثيرة!؟

لقد كان عبدالله بن عمر لساناً من الألسنة التي خدمت الحكم الأمويّ، بل كان بوقاً أمويّاً حرص على عزف النغمة النشاز في أنشودة المعارضة! وسعى إلى تحطيم المعارضة من داخلها، ولا يُعبأ بما صوّره به بعض المؤرخين من أنه كان رمزاً من رموزها، لأنّ المتأمّل المتدبّر لا يجد لابن عمر هذا أيّ حضورٍ في أيّ موقف معارضٍ جادّ! بل يراه غائباً تماماً عن كلّ ساحة صدق في المعارضة!

وإذا تأمّل المحقق مليّاً وجد عبدالله بن عمر ينتمى انتماءً تاماً- عن إصرار وعناد- الى حركة النفاق التي قادها حزب السلطة، منذ البدء ثمّ لم يزل يخدم فيها حتى في الأيّام التي آلت قيادتها فيها الى الحزب الأموي بقيادة معاوية ثمّ يزيد! هذه هي حقيقة ابن عمر وإن تكلّف علاقات حسنة في الظاهر مع وجوه المعارضة عامّة ومع الإمام الحسين عليه السلام خاصة.

وحقيقة ابن عمر هذه يكشف عنها معاوية لابنه يزيد في وصيته إليه بلا رتوش نفاقية حيث يقول له: «.. فأمّا ابن عمر فهو معك! فالزمه ولاتدعه!» «1».

الأوزاعي .. والنهي عن المسير إلى العراق! ..... ص : 300

روى ابن رستم الطبري في كتابه (دلائل الإمامة) قائلًا:

«حدّثنا يزيد بن مسروق قال: حدّثنا عبدالله بن مكحول، عن الأوزاعي قال:

بلغني خروج الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام الى العراق، فقصدتُ مكّة فصادفته بها، فلمّا رآني رحّب بي وقال: مرحباً بك يا أوزاعي، جئت تنهاني عن المسير،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 301

وأبى اللّه عزّ وجلّ إلّا ذلك، إنّ من هاهنا الى يوم الاثنين منيّتي (مبعثي)!.

فسهدتُ في عدّ الأيّام، فكان كما قال!» «1».

تُرى من هو هذا الأوزاعيّ الذي أهمّه أمر الإمام الحسين عليه السلام حتى قصد مكّة لينهاه عن المسير الى العراق؟ وما هو دافعه في ذلك؟

وما معنى قول الإمام عليه السلام:

«إنّ من هاهنا الى يوم الإثنين منيّتي (مبعثي)!»؟

أمّا من هو هذا الأوزاعي؟ فانّ هناك جماعة من الرجال عُرفوا بهذا اللقب «2» لكنّ الاحتمال الأقوى هو أنّ المراد بهذا الأوزاعيّ: أبوأيّوب، مغيث بن سمّي

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 302

الأوزاعي: الذي يُقال إنه أدرك زهاء ألفٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله، «1» وقد روى عن ابن الزبير وابن عمر، وابن مسعود، وكعب الأحبار، وأبي هريرة، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وقد وثّقه ابن حبّان، وأبوداود، ويعقوب بن سفيان. «2» ولكن لم يرد له ذكر في كتبنا الرجالية على ما حقّقنا.

أمّا ما هو دافعه في التحرّك حتى قصد مكّة لينهى الامام عليه السلام عن المسير الى العراق، فذلك ممّا لا نستطيع أن نحدّده من متن الرواية- ومن عدم معرفتنا بتأريخ هذا الرجل وسيرته- إلّا أنّ ترحيب الامام عليه السلام به قد يكشف عن أنّ هذا الأوزاعي كان مشفقاً على الإمام عليه السلام من القتل في مسيره الى العراق، وإن كان ظاهر النصّ صريحاً في أنه كان ناهياً لا ناصحاً!

وأما ما هو المراد من قوله عليه السلام: «إنّ من هاهنا الى يوم الإثنين منيّتي (مبعثي)!»، فلا يخفى على المتأمّل أنّ فيه غموضاً وتشابهاً! فهل أراد الإمام عليه السلام أن يقول للأوزاعي إنّ لك أن تعدَّ مِن هذه الساعة الى يوم الاثنين الذي أُقتلُ فيه!؟ ولذا يقول الأوزاعي: فسهدتُ (اي سهرتُ) في عدّ الأيام فكان كما قال! وعلى هذا يكون الإمام عليه السلام قد قُتل في يوم الإثنين! وهذا مالا يتّفق مع المأثور أنّ يوم عاشوراء كان يوم الجمعة أو يوم السبت. «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 303

أم أنّ الإمام

عليه السلام اراد أن يقول للأوزاعي: إننّي باقٍ في مكّة الى يوم الإثنين، وبعده (أي يوم الثلاثاء) يكون مبعثي الى العراق، أي سفري إليه!؟

ونرى أنّ هذا هو الأقوى احتمالًا، لأنّ الإمام عليه السلام قد خرج من مكّة بالفعل يوم الثلاثاء بدليل قول الإمام عليه السلام نفسه في رسالته الأخيرة التي بعثها الى أهل الكوفة مع قيس بن مسهّر الصيداوي (رض) حيث يقول فيها: «.. وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ..». «1»

وعلى أساس هذا التقويم يكون يوم عاشوراء الجمعة إذا كان ذو الحجة تسعة وعشرين يوماً، أو السبت إذا كان ثلاثين يوماً، وهذا ما يتّفق مع المأثور بصدد يوم عاشوراء.

عمر بن عبدالرحمن المخزومي .. والنصيحة الصائبة! ..... ص : 303
اشارة

روى الطبري عن عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي أنه قال: «لمّا تهيأ الحسين عليه السلام للمسير الى العراق أتيته، فدخلت عليه، فحمدت الله وأثنيتُ عليه، ثمّ قلت: أمّا بعدُ، فإنّي أتيتك يا ابن عم لحاجة أريد ذكرها نصيحة، فإن كُنتَ ترى أنّك تستنصحني وإلّا كففتُ عمّا أريد أن أقول!

فقال الحسين عليه السلام:

قلْ، فوالله ما أظنّك بسيّ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل!

فقال: إنه قد بلغني أنّك تريد المسير الى العراق، وإني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 304

لهذا الدرهم والدينار! ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممن يقاتلك معه!!

فقال الحسين عليه السلام: جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد والله علمتُ أنك مشيتَ بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يُقضَ من أمرٍ يكنْ، أخذتُ برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح!». «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 304

1)- هذه المحاورة كاشفة عن منزلة حسنة جداً لعمر بن عبدالرحمن المخزومي عند الإمام عليه السلام حيث أثنى عليه ثناء رائعاً في قوله عليه السلام: «قُلْ، فو الله ما أظنّك بسي ء الرأي، ولا هو للقبيح من الأمروالفعل!»، وفي تعبير آخر: «ما أنت ممّن يُستغشّ ولايُتّهم، فقلْ»، «2» وفي تعبير آخر: «قُلْ، فوالله ما أستغشّك، وما أظنّك بشي ء من الهوى!»، «3» وقال له في ختام هذه المحاورة «فأنت عندي أحمدُ مشير وأنصح ناصح!»، وفي تعبير آخر: «ولم تنطق عن هوى!»، «4» وجميع ذلك كاشف عن متانة هذا المخزومي وصدقه وحبّه للإمام الحسين عليه السلام.

ولم يرد لعمر بن عبدالرحمن المخزومي هذا ذكر في كتبنا الرجالية، لكنّه معدود من رجال الصحاح الستّة، وأحد

الفقهاء السبعة بالمدينة، وحدّث عن عمّار بن ياسر، وأمّ سلمة، وعائشة، وأبي هريرة، ومروان ... وقد استصغر يوم الجمل فرُدَّ، وعن ابن سعد: أنه ولد في خلافة عمر، ومات سنة الفقهاء، وقيل سنة خمس

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 305

وتسعين، «1» وكان يُقال له راهب قريش لكثرة صلاته، وكان مكفوفاً، وهو من سادات قريش. «2»

2)- إنّ المشورة التي قدّمها عمر بن عبدالرحمن المخزومي تشبه تماماً في مبناها مشورة لابن عبّاس (رض) «3» وأخرى لعمرو بن لوذان في هذا الصدد، «4» ويتلخّص مبني هذا المشورات الثلاث في أنّ الصحيح أن يتحرّك أهل الكوفة عملياً قبل توجّه الإمام عليه السلام إليهم، فيثوروا على السلطة في الكوفة، وينفوا عمّال يزيد وأتباعه، ويسيطروا على الأوضاع فيها، وعندها يتوجّه الامام عليه السلام إليهم، وهذا هو الرأي الصواب عندهم! ولكن على أساس منطق الفتح القريب والنصر الظاهري وتسلّم الحكم، ومن هنا نجد الإمام عليه السلام لايُخطّي هذه المشورات، بل نراه يثني على أصحابها، ومع هذا يخالفها ولايعمل بها، لأنه كان يتحرّك على أساس منطق آخر هو منطق (الفتح بالشهادة)! الفتح المبين العميق الشامل الدائم الذي يحفظ الإسلام المحمديّ الخالص نقيّاً من كلّ الشوائب الى قيام الساعة.

3)- ربّما يُقال: إنّ ما ورد في متن هذا الخبر من قول المخزومي: «لمّا تهيّأ الحسين عليه السلام للمسير الى العراق ..» لايدلّ بالضرورة على أنّ هذا اللقاء قد تمَّ في مكّة، لأنّ هناك روايات لبعض اللقاءات مع الإمام عليه السلام حملت مثل هذه الإشارات مع أنَّ المؤكّد أنها تمّت في المدينة، كلقائه عليه السلام مع أم سلمة (رض)، فهل ثمّ دليل آخر على أنّ لقاءه عليه السلام مع المخزوميّ تمّ في مكّة؟

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 306

فنقول: لم

ينتشر خبر عزم الإمام عليه السلام على السفر الى العراق إلّا في أواخر أيّام مكثه في مكّة المكرمة، وحينما كان الإمام عليه السلام في المدينة المنوّرة لم يكن قد أطّلع أحدٌ على نيّته في التوجّه الى العراق سوى خاصة الخاصة كمثل محمّد بن الحنفية (رض) وأمّ سلمة (رض)، وأمّا غير هؤلاء الخواصّ فإنّ الإمام عليه السلام غالباً ما كان يشير إليهم أنه متوجّه الى مكّة في أيامه تلك ثمّ يستخير الله في أمره، وعليه فإنّ أمثال عمر المخزوميّ هذا لم يكونوا على علم بنيّة الامام عليه السلام في التوجّه الى العراق منذ البدء.

هذا فضلًا عن أنّ لهذا الخبر تتمة- في رواية الطبري- على لسان المخزومي أنه «قال: فانصرفت من عنده، فدخلت على الحارث بن خالد بن العاص «1»- والي مكّة- فسألني: هل لقيتَ حسيناً؟ فقلت له: نعم.

فقال: فما قال لك، وما قلت له؟ قال: فقلت له: قلتُ كذا وكذا، وقال كذا وكذا.

فقال: نصحته وربّ المروة الشهباء! أما وربّ البنيّة إنّ الرأي لما رأيته، قَبِلَه أو تركه ..»، «2» وفي هذا دلالة كافية على أنّ هذا اللقاء كان قد حصل في مكّة المكرّمة.

لقاء جابر بن عبدالله الأنصارى (رض) مع الإمام عليه السلام ..... ص : 306

روى ابن كثير خبراً مرسلًا أنّ جابر بن عبدالله الأنصاري (رض) «3» كان قد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 307

التقى الإمام عليه السلام وكلّمه ليردّه عن القيام والخروج على يزيد: «قال جابر بن عبدالله: كلّمتُ حسيناً، فقلت: إتّق الله، ولاتضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ماحمدتم ما صنعتم. فعصاني!».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 308

ولايخفى على ذي أدنى معرفة بجابر بن عبدالله الانصارى (رض) أنّ أصل اللقاء هذا إذا كان محتملًا، فلا سبيل إلى احتمال محتواه! لأنه بعيد كلّ البعد أن تصدر مثل هذه الجسارة على الامام عليه

السلام ومثل سوء الأدب هذا عن هذا الصحابي الجليل القدر العارف بحق أهل البيت عليهم السلام!

والظنّ قويّ جداً في أن يكون محتوى هذا الخبر من مفتعلات مرتزقة الإعلام الأموي من أجل الإساءة الى النهضة الحسينية وتخطئتها!

وممّا يؤيد كون هذا الخبر من الموضوعات أنّ ابن كثير أورده مرسلًا دون أن يذكر له طريقاً.

نعم، روى عماد الدين أبو جعفر محمد بن عليّ الطوسي «1» المعروف بابن حمزة في كتابه «الثاقب في المناقب» لقاءً لجابر الأنصاري (رض) مع الامام عليه السلام يفوح منه عطر حسن الأدب في مخاطبة الامام عليه السلام، والمعرفة بحقّ أهل البيت عليهم السلام، والصدق في موالاتهم ومحبّتهم والتشيّع لهم:

«عن جابر بن عبدالله (رض) قال: لمّا عزم الحسين بن عليّ عليهما السلام على الخروج الى العراق، أتيته فقلت له: أنت ولد رسول الله صلى الله عليه و آله، وأحد سبطيه، لا أرى إلّا أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن عليه السلام، فإنه كان موفّقاً راشداً.

فقال لي عليه السلام:

يا جابر، قد فعل أخي ذلك بأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله، وإنّي أيضاً أفعل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 309

بأمر الله تعالى ورسوله، أتريد أن أستشهد لك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعليّاً وأخي الحسن عليهما السلام بذلك الآن!

ثمّ نظرتُ، فاذا السماء قد انفتح بابها، واذا رسول الله صلى الله عليه و آله وعليّ والحسن عليهما السلام وحمزة وجعفر وزيد، «1» نازلين عنها حتّى استقرّوا على الأرض، فوثبت فزعاً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 310

مذعوراً!

فقال لي رسول الله صلى الله عليه و آله:

يا جابر، ألم اقل لك في أمر الحسن قبل الحسين، لاتكون مؤمناً حتّى تكون لأئمتّك مسلّماً ولاتكون معترضاً، أتريد أن ترى مقعد معاوية، ومقعد

الحسين ابني، ومقعد يزيد قاتله لعنه اللّه؟

قلت: بلى يا رسول الله!

فضرب برجله الأرض فانشقّت، وظهر بحر فانفلق، ثم ضرب فانشقّت هكذا حتى انشقّت سبع أرضين، وانفلقت سبعة أبحر، فرأيتُ من تحت ذلك كلّه النار فيها سلسلة قُرن فيها الوليد بن المغيرة وأبوجهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقُرن بهم مردة الشياطين، فهم أشدّ أهل النار عذاباً.

ثم قال صلى الله عليه و آله: إرفع رأسك!

فرفعتُ فإذا أبواب السماء مفتّحة، وإذا الجنّة أعلاها! ثم صعد رسول الله صلى الله عليه و آله ومن معه الى السماء، فلمّا صار في الهواء صاح بالحسين: يا بُنيّ إلحقني. فلحقه الحسين وصعدوا حتى رأيتهم دخلوا الجنّة من أعلاها!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 311

ثم نظر إليَّ من هناك رسول الله صلى الله عليه و آله، وقبض على يد الحسين عليه السلام وقال: يا جابر، هذا ولدي معي ها هنا، فسلّم له أمره ولاتشكّ لتكون مؤمناً.

قال جابر: فعميت عيناي إن لم أكن رأيتُ ما قُلت من رسول الله صلى الله عليه و آله.». «1»

لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء! ..... ص : 311
اشارة

روى ابن رستم الطبري (ره) قائلًا: «حدّثنا أبو محمّد سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن الأعمش، قال: قال لي أبو محمّد الواقدي وزرارة بن جلح:

لقينا الحسين بن عليّ عليهما السلام قبل أن يخرج الى العراق بثلاث ليالٍ، فأخبرناه بضعف الناس في الكوفة، وأنَّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه! فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبواب السماء، ونزل من الملائكة عدد لايحصيهم إلّا الله، وقال:

«لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولكن أعلمُ علماً أنّ من هناك مصعدي، وهناك مصارع أصحابي، لاينجو منهم إلّا ولدي عليٌّ!.». «2»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 311

1)- من هو هذا الواقدي في سند هذه الرواية؟ ومن هو زرارة هذا؟

أمّا الواقدي، فإن كان هو محمّد بن عمر بن واقد، أبو عبدالله الأسلمي المدني

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 312

الواقدي، فولادته سنة عشرين بعد المائة، فهو لم يدرك عصر الحسين عليه السلام! «1»

وإن كان هو واقد بن عبدالله التميمي الحنظلي، فقد توفي أيام عمر بن الخطاب، «2» فهو لم يدرك أيضاً أيّام النهضة الحسينية عام ستين للهجرة!

وأمّا زرارة، فهو مهمل سواء كان ابن خلج او حلح (كما في دلائل الإمامة) أو صالح!

وعن النمازي في مستدركات علم الرجال: أنّ ابن خلج من أصحاب الحسين عليه السلام ورأى معجزته وإخباره إيّاه بشهادته وشهادة أصحابه، وأمّا ابن صالح فقد تشرّف بلقاء الحسين عليه السلام قبل خروجه الى العراق بثلاثة أيام! «3»

لكنّ النمازي (ره) لم يأتِ بأكثر مما في رواية الطبري، ولم يخرج زرارة هذا عن الجهالة والإهمال!

وربما كان في السند حذف وإرسال، وكان اللذان التقيا بالإمام عليه السلام هما غير الواقدي وزرارة، وقد حُذف إسماهما، والله العالم.

2)- في متن هذه الرواية صورة من صور الإرادة والقدرة التكوينية التي يتمتع بها الإمام المعصوم عليه

السلام، وهذا من صلب اعتقاداتنا، فالإمام عليه السلام إذا أشار الى جبل لزال من مكانه، كما في الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام، «4» وأنّ الكون-

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 313

أعمّ من العالم العلويّ والسفلي- تحت تصرف الإمام عليه السلام تفضّلًا من الله تبارك وتعالى، والأئمّة عليهم السلام مختلف الملائكة، تتنزّل عليهم وتطوف بهم، وأمّا في نهضة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام فقد نزلت إليه أفواج من الملائكة في طريقه من المدينة الى مكّة وعرضت عليه استعدادها لنصرته والقتال بين يديه! «1»

أمّا ماهو مراده صلوات الله عليه في قوله: «لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر»؟ فلعلّ من مراده عليه السلام في «تقارب الأشياء»: أنه لو توسّل في تحقيق أهدافه بالخوارق والمعاجز دون الأسباب الطبيعية لتحقّق له ذلك عاجلًا وعلى أحسن وجه- والله غالب على أمره- لكنّ ذلك خلاف للإرادة الإلهية في امتحان الخلق وابتلائهم في مجاري الأسباب والإقتضاءات والعلل الطبيعية العادية، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيَّ عن بيّنة، ولتكون الحجّة البالغة للّه على خلقه، هذا فضلًا عن أنّ الأعمال والإنجازات العظيمة التي يمكن للناس جميعاً أن يتأسّوا بها هي الأعمال والبطولات التي تتمّ في إطار السنن الطبيعية والمجاري العادية المألوفة لا الخوارق والمعاجز- التي لا يُلجأُ إليها إلّا إذا دعت الضرورة إليها- ذلك لأنّ استخدام المعاجز وخوارق العادة ليس ميسوراً لجميع الناس، وامتحان الخلق- في إطار التأسيّ بالقادة الربانيين- إنّما يصح إذا كان الإختبار والتكليف بما يستطيعونه لا بما يعجزون عنه.

ويؤيد هذا قوله عليه السلام لمؤمني الجنّ الذين عرضوا عليه نصرتهم قائلين:

«يا مولانا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا بما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 314

لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك!». «1»

فجزاهّم

خيراً وقال لهم فيما قال:

«.. فإذا أقمتُ في مكاني فبمَ يُمتحن هذا الخلق المتعوس وبماذا يُختبرون!؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي؟ وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحا الأرض، وجعلها معقلًا لشيعتنا ومُحبّينا، تقبل أعمالهم وصلواتهم، ويجاب دعاؤهم، وتسكن شيعتنا فتكون لهم أماناً في الدنيا وفي الآخرة ..». «2»

أمّا مراده عليه السلام من «حبوط الأجر» فلا شكّ أنّ الأجر مرتبط بالنيّة ودرجة المشقّة ومستوى أثر العمل، ولا شكّ أن العمل الذي يتمّ بالخوارق والمعاجز ليس كالعمل المتحقق في إطار السنن الطبيعية من حيث درجة المشقّة فيه! كما أنّ الأثر والفتح المترتب على شهادته عليه السلام هو أعظم أثر وفتح متصوَّر من حيث النتائج والبركات المترتبة عليه بالنسبة الى الاسلام والإمة الإسلامية، والإنسان المسلم خاصة، والإنسانيّة عامة! ولعلّ هذا من أسرار قول الرسول صلى الله عليه و آله له عليه السلام: «يا حسين أُخرج! فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلًا!» «3»

و «وإنّ لك في الجنّة درجات لا تنالها إلّا بالشهادة!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 315

ولأبي سعيد الخدري مشورة أيضاً ..... ص : 315
اشارة

روى إبن كثير: أنّ أبا سعيد الخدري (ره) لقي الإمام الحسين عليه السلام وحذّره من أهل الكوفة، إذ قال: «جاءه أبوسعيد الخدري فقال: يا أبا عبدالله، إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك الى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم! فإني سمعتُ أباك يقول بالكوفة: والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملّوني وأبغضوني! وما يكون منهم وفاء قطّ! ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله مالهم نيّات ولا عزم على أمرٍ، ولا صبرٌ على السيف!.». «1»

وروى ابن كثير أيضاًنصّاً آخر عن لسان أبي سعيد الخدري (ره) أنه قال:

«غلبني الحسين على الخروج، وقلت له: إتّقِ

اللّه في نفسك! والزم بيتك ولاتخرج على إمامك!!». «2»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 315

1)- هذان النصّان لم يرد أيّ ذكر لهما في التواريخ الشيعية، فهما سنيّا المنبع، وإذا كان المتأمّل لايجد بأساً في قبول النصّ الأوّل مع ما فيه من بعض الهنات، فإنه يقف ذاهلًا متحيّراً في دهشته إزاء النصّ الثاني لأنه يشبه تماماً في محتواه- من حيث الجسارة وسوء الأدب في مخاطبة الإمام عليه السلام- خطابات قتلة الإمام عليه السلام الذين تالّبوا وتآزروا على قتله في كربلاء! أمثال شمر وعزرة بن قيس وغيرهم من مسوخ هذه الأمة! الذين اتهموا الإمام عليه السلام بالخروج على (إمامهم!) يزيد.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 316

ولذا فالمتأمّل المنصف العارف لايتردد في- بل يقطع- أنّ النصّ الثاني من مكذوبات مرتزقة الإعلام الأمويّ أعداء أهل البيت عليهم السلام ليزيّنوا للسذّج من هذه الأمّة أنّ جمعاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله ذوي المكانة المرموقة قد أنكروا على الإمام الحسين عليه السلام خروجه وقيامه، واتهموه بشقّ عصا الطاعة وتفريق كلمة الأمة! فهذا نصّ مفترى على أبي سعيد الخدري (ره)، ومرّ بنا من قبل هذا نصٌ مفترىً آخر على جابر بن عبدالله الأنصاري (ره)، والأمثلة كثيرة!

2)- ولكي يطمئنّ القاري ء تماماً إلى أنّ هذا النصّ مكذوب على أبي سعيد ومفترىً عليه، يحسن هنا أن نقدّم صورة مباركة موجزة عن هذا الصحابي الجليل العارف بحقّ أهل البيت عليهم السلام، المتأدّب في محضر من شهد منهم:

إنّه سعد بن مالك بن سنان الخزرجي، من مشاهير أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ونجباء الأنصار وعلمائهم، شهد مع رسول الله صلى الله عليه و آله إثنتي عشرة غزوة أوّلها الخندق، وتوفي عام 64 أو 74. «1»

وولاؤه لأمير المؤمنين عليّ

عليه السلام معروف، فهو من السابقين الذين رجعوا اليه، ورواياته في فضائل عليّ عليه السلام كثيرة، وكذلك رواياته عن النبيّ صلى الله عليه و آله في فضائل وأسماء الأئمة الاثني عشر عليهم السلام. «2»

كما ورد عن الامام الصادق عليه السلام في مدحه أنّه «رُزق هذا الأمر، وكان مستقيماً». «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 317

كما ذكره الإمام الرضا عليه السلام ضمن من لم يتغيّروا ولم يبدّلوا، «1» فهو من الذين تجب ولايتهم، والمستفاد من هذا وثاقته وجلالته.

هذا وقد مدحه علماء الرجال والتراجم:

فقد قال فيه الشيخ عبّاس القميّ (ره): «كان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين، وكان من اصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله، وكان مستقيماً.». «2»

وذكر السيّد الخوئي (ره) إطراء الرجاليين وثناءهم عليه ولم يذكر أي قدح فيه أو ذمّ له! «3»

وقد دافع التستري عنه حينما عدّه المسعودي فيمن تخلّف عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام قائلًا: «إلّا أنه بعد اتفاق أخبارنا على استقامته وقوله بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام وجب القول إمّا باستبصاره بعدُ، أو باشتباه المسعودي وأنه رأى تخلّف سعد بن مالك- أي سعد بن أبي وقّاص- فتوّهمه الخدري!- فكلٌّ منهما سعد بن مالك.». «4»

2)- قد ينقدح في ذهن المتأمّل سؤال حول سرّ عدم إلتحاق أبي سعيد بالإمام عليه السلام مع ماله من معرفة بحقّ أهل البيت عليهم السلام وولائه لهم؟

وهل يمكن القول: إنّ ذلك لايضرُّ بحسنه واستقامته!؟

قال النمازي: «ولانعلمُ علّة عدم حضوره لنصرة الحسين عليه السلام، فلا يضرُّ ذلك

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 318

في حسنه واستقامته». «1»

وقال المامقاني: «إنّ بعض الأواخر قد استشكل في حسن عاقبة الرجل بكونه لم يشهد مع الحسين عليه السلام طفّ كربلاء، مع أنّه ممن سمع رسول الله

صلى الله عليه و آله يقول:

الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة. وهذا إشكال واهٍ ضعيف، إذ لم يُحرز علمُه بخروجه عليه السلام الى كربلاء! ولا عُلِمَ عدم عذره لو كان عالماً، وليس كلّ متخلف عنه عليه السلام هالكاً، نعم لاينال تلك الدرجات الرفيعة المعدّة لأصحابه، وقد نبّهنا على ذلك في فوائد المقدّمة.». «2»

كلام المامقاني (ره) في الفائدة السادسة والعشرين: ..... ص : 318

ويحسن هنا أن نقرأ ماقاله المامقاني (ره)، في الفائدة السادسة والعشرين:

قال (ره): «إذا ثبت حسنُ حال الرجل أو عدالته وثقته، لم يمكن المناقشة في ذلك بحياته في زمان وقعة الطفّ وتركه الحضور لنصرة سيّد المظلومين عليه السلام، ضرورة أنّ عدم الحضور فعل مجمل لايحمل على الفاسد إلّا إذا احرز فيه جهة الفساد.

وسبب الحمل على الصحة في ذلك واضح لائح، ضرورة أنّ الرجل إن كان كوفياً فإنّ ابن زياد قد حبس أربعمائة وخمسين رجلًا من الشيعة والموالين حتى لايحضروا النصرة! فلعلّ الرجل كان فيهم.

وأيضاً فقد صدَّ على الطرق حتى لايصل أحدٌ الى كربلاء!

ومن حضر الطفّ: بين من كان معه، ومن خرج في عسكر ابن سعد ولمّا بلغ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 319

كربلاء انصرف الى الحسين عليه السلام.

ولعلّ من لم يحضر لم يلتفت إلى إمكان هذه المكيدة الحسنة: أعني الخروج بعنوان عسكر ابن سعد واللحوق في كربلاء بالحسين عليه السلام.

وإن كان الرجل من غير أهل الكوفة فلأنه مضافاً الى رصد الطرق، لم تطل المُدَّة ولم يمهل ابن زياد حتى يبلغهم الخبر، فإنّ أسباب وصول الخبر يومئذٍ من البريد والبرق لم يكن متهيئاً، ورصد الطرق أوجب تأخير وصول الخبر، ولذا لم يدر الأغلب بالوقعة إلّا بعد وقوعها، فعدم الحضور غير قادح في الرجل بعد إحراز وثاقته أو حسن حاله، إلّا إذا ثبت علمه بالحال وقدرته على

الحضور وتخلّفه عنه كما لايخفى.

وأمّا المتخلّفون عنه عند حركته من المدينة، فلأنّ الحسين عليه السلام حين حركته وإن كان يدري هو وجمع من المطّلعين على إخبار النبيّ الأمين بمقتضى خبره صلى الله عليه و آله أنه يستشهد بالعراق إلّا أنّه في ظاهر الحال لم يكن ليمضي الى الحرب حتى يجب على كلّ مكلّف متابعته، وإنّما كان يمضي للإمامة بمقتضى طلب أهل الكوفة، فالمتخلّف عنه غير مؤاخذ بشي ء! وإنّما يؤاخذ لترك نصرته من حضر الطفّ او كان قريباً منه على وجه يمكنه الوصول إليه ونصرته، ومع ذلك لم يفعل وقصّر في نصرته، فالمتخلّفون بالحجاز لم يكونوا مكلّفين بالحركة معه حتى يوجب تخلّفهم الفسق، ولذا فإنّ جملة من الأخيار الأبدال الذين لم يكتب الله تعالى لهم نيل هذا الشرف الدائم بقوا في الحجاز، ولم يتأمّل أحدٌ في عدالتهم كابن الحنفية وأضرابه!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 320

مناقشة كلام المامقاني (ره) ..... ص : 320

1)- إنّ الإخبارات الكثيرة التي أُثرت عن النبيّ صلى الله عليه و آله، وعن أمير المؤمنين عليه السلام، (ومنها قليلٌ عن الحسن عليه السلام)، وعن الحسين عليه السلام نفسه، كانت قد شخّصت زمان استشهاده عليه السلام، ومكان الوقعة التي يستشهد فيها، بل وشخّصت الحاكم الآمر بقتله عليه السلام وهو يزيد، وأمير جيشه عمر بن سعد، بل وشخّصت حتى صفة القاتل المباشر للذبح شمر بن ذي الجوشن، وكانت هذه الإخبارات على كثرتها ووفرة تفصيلاتها قد انتشرت في أوساط الصحابة خاصة وفي كثير من أوساط الأمّة عامة، فمن البعيد ألّا يكون المخلصون من الصحابة (فضلًا عن سواهم من الصحابة الذين كانوا يعملون في خطّ حركة النفاق) قد علموا- أو توقّعوا على الأقلّ- أنّ الإمام عليه السلام في خروجه من المدينة ثمّ في خروجه

من مكّة الى العراق ماضٍ إلى حرب وقتال! نعم، قد يُعذر المتخلّفون عنه عند خروجه من المدينة بأنهم ربّما لم يعلموا بخروجه لأنّ خروجه من المدينة تمّ بسرعة ولم يعلم به إلّا المقرّبون منه عليه السلام، أو لأنهم لم يكونوا آنذاك في المدينة، ولكن ما عذرهم في عدم الالتحاق به عليه السلام في مكّة وقد أقام فيها ما يقرب من مائة وخمسة وعشرين يوماً!؟ خصوصاً وأنه قد شاع في أواخر تلك الأيام بين الناس في الحجاز أنّ أهل الكوفة قد كاتبوه وأنه عليه السلام عازم على التوجّه الى العراق، بما يكفي لمن يُريد الإلتحاق به أن يلتحق به حتى وإن تحرّك إليه من المدينة.

2)- من هنا وجب أن نبحث عن عذر كلّ واحدٍ من هؤلاء المخلصين في تخلّفه عن الإلتحاق بالامام عليه السلام على حدة، فإن علمنا عذره في عدم إلتحاقه بالامام عليه السلام فبها ونعمت، وإن علمنا بأنه لا عذر له في تخلّفه وانّه قصّر عن نصرة الإمام عليه السلام وقعد عن الجهاد معه عمداً فلا يمكننا حينذاك أن نقول بحسنه وعدالته، وإن لم نعلم بعذره أو عدم عذره استصحبنا حسن حال الرجل أو عدالته

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 321

ووثاقته إذا ثبت ذلك من مجموع تأريخ سيرته، خصوصاً إذا أثنى عليه السلام الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام أو أحد ممن جاء من بعده من الأئمة عليهم السلام.

3)- لم ينجُ أحدٌ من أعلام الأمّة ممن بقي في الحجاز ولم يلتحق بالإمام عليه السلام من التأمّل في عدالته من خلال التساؤل عن سرّ عدم التحاقه، ولعلّ أكثر من تعرّضوا للتأمّل في عدالتهم المتخلّفين من بني هاشم، كابن عبّاس وابن جعفر وابن الحنفيّة، ولعلّ الأخير

أكثر المتعرضين لهذا التأمّل منذ أيّام الأئمة عليهم السلام «1» وإلى الآن، مع أنّ المأثور أنّ ابن الحنفيّة (رض) أقعده وأعجزه المرض عن الإلتحاق بالإمام عليه السلام، وورد أنّ ابن جعفر كان مكفوفاً، وتحقّق عندنا أنّ ابن عبّاس (رض) كان عذره في كونه مكفوفاً أو ضعيف البصر جدّاً آنذاك. «2»

فالأمر ليس كما ذهب إليه المامقاني (ره) بقوله: «.. ولم يتأمّل أحدٌ في عدالتهم كابن الحنفية وأضرابه!».

4)- أمّا فيما يتعلّق بأمر أبي سعيد الخدري (ره)، فقد وردت روايات عن الإمامين الصادق والرضا عليهما السلام تثني عليه وتمدحه، كقول الإمام الصادق عليه السلام فيه:

«رُزق هذا الأمر، وكان مستقيماً» «3»

، وعدّه الإمام الرضا عليه السلام فيمن لم يُغيّروا ولم يبدّلوا، وهذا يكفي في الإطمئنان الى حسن حاله ووثاقته وعدالته.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 322

رسالة المسْور بن مخرمة ..... ص : 322
اشارة

روى ابن عساكر أنّ المسور بن مخرمة كتب الى الإمام الحسين عليه السلام رسالة يقول فيها: «إيّاك أن تغترَّ بكتب أهل العراق، ويقول لك ابن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك! إيّاك أن تبرح الحرم، فإنّهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتّى يوافوك! فتخرج في قوّة وعدّة.». «1»

«فجزّاه الحسين خيراً وقال: أستخير الله في ذلك!». 2

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 322

1)- إنّ محتوى هذه الرسالة كاشف عن أنّ المسور بن مخرمة بعث بها إلى الامام عليه السلام في مكّة، بدليل قوله: «إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق! ويقول لك ابن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك!»، ذلك لأن كتب أهل الكوفة لم تصل إلى الامام عليه السلام إلّا في مكّة، كما أنّ ابن الزبير لم يُشر على الامام عليه السلام بالتوجّه الى العراق إلّا في مكة المكرّمة، هذا فضلًا عن الدليل الواضح في قوله: «إيّاك أن تبرح الحرم!».

2)- صاحب هذه الرسالة هو المسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري، وأمّه عاتكة أخت عبدالرحمن بن عوف وهي زهرية أيضاً، ولد بعد الهجرة بسنتين، وكان من صغار الصحابة، قدم دمشق بريداً من عثمان يستصرخ معاوية، وكان ممن يلزم عمر بن الخطّاب ويحفظ عنه، وقد انحاز الى مكّة مع ابن الزبير وسخط إمرة يزيد، وقد أصابه حجر منجنيق في الحصار فبقي ايّاماً ومات، وكانت

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 323

الخوارج تغشاه وتنتحله. «1»

وأمّا عندنا فهو مجهول، وذكر السيّد الخوئي (ره) أنّ الشيخ عدّه في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله تارة، وأخرى في أصحاب عليّ عليه السلام قائلًا: المسور بن مخرمة كان رسوله عليه السلام الى معاوية، «2» وقد روى الشيخ الطوسي رحمه الله في الأمالي رواية يُشَمُّ منها ضعف

المسور بن مخرمة، «3» ونقل القرشيّ عن كتاب الإصابة أنه كان من أهل الفضل والدين، «4» كما نقل الأميني (ره) عن كتاب أنساب الأشراف قائلًا:

«وكان مسور بن مخرمة الصحابيّ ممّن وفد الى يزيد، فلمّا قدم شهد عليه بالفسق وشرب الخمر، فكُتب الى يزيد بذلك، فكتب الى عامله يأمره أن يضرب مسوراً الحدَّ، فقال أبوحرّة:

أيشربُها صهباء كالمسكِ ريحها أبوخالد، والحدَّ يُضربُ مسورُ» «5»

3)- قد يُستفاد من بعض الأقوال التي أوردناها في النقطة الثانية أنّ المسور بن مخرمة كان عمريّ الميْل عثماني الهوى، كما قد يُستفاد من نقل الشيخ (ره) أنه كان رسول عليٍّ عليه السلام إلى معاوية، ومن رواية البلاذري أنه شهد على يزيد بالفسق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 324

وشرب الخمر، ومن قول الذهبي أنه سخط إمرة يزيد، أنّ المسور بن مخرمة ربّما كان ذا شي ء من التدين، وعلى هذا يحتمل أنه كتب رسالته الى الامام عليه السلام بدافع الشفقة والخوف عليه من غدر أهل الكوفة، ويساعد على هذا الإحتمال ما ورد في آخر رواية ابن عساكر أنّ الإمام عليه السلام جزّاه خيراً، هذا على فرض صحة الرواية أصلًا!!

كما يظهر من متن الرسالة أنّ المسور كان عارفاً بمكر ابن الزبير حيث يقول:

«ويقول لك ابن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك!» لكنّ العجيب أنّ الذهبي يذكر أنه انحاز بعد ذلك إلى مكّة مع ابن الزبير، وقتله حجر منجنيق أصابه في الحصار!

رسالة عمرة بنت عبدالرحمن ..... ص : 324
اشارة

وروى ابن عساكر أيضاً قائلًا: «وكتبت إليه عمرة بنت عبدالرحمّن، تعظّم عليه ما يريد أن يصنع [من إجابة أهل الكوفة]، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة! وتخبره أنّه إنّما يُساق الى مصرعه وتقول: اشهد لحدّثتني عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: يُقتل حسين بأرض بابل!.

فلمّا قرأ [الحسين عليه السلام] كتابها قال:

فلابُدَّ لي إذن من مصرعي! ومضى.». «1»

إشارة: ..... ص : 324

عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد الأنصارية المدنية، لم يرد لها ذكر في كتبنا الرجالية ولا التراجم، لكنّ كتب السنّة ترجمت لها بإطراء وثناء عليها! فها هو الذهبي يقول فيها: «الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها ... كانت عالمة، فقيهة، حجّة، كثيرة العلم، وحديثها كثير في دواوين الإسلام، توفيت عام ثمان وتسعين.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 325

ويُغنينا قول الذهبي فيها إنها تربية عائشة وتلميذتها عن كلّ تعليق!

ذلك لأنّ كراهية عائشة لأهل البيت عليهم السلام وحقدها عليهم أمر أوضح من الشمس في رابعة النهار، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: «وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء وظغن غلا في صدرها كمرجل القين!»، «1»

ولم تتورّع عائشة عن إعلان هذه الكراهية في مواقف كثيرة، وهل ينسى منعها دفن الإمام الحسن عليه السلام إلى جوار جدّه صلى الله عليه و آله وقولها: «تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبّ!» «2» وقولها: «نحّوا ابنكم عن بيتي!». «3»

فإذا كان هذا حال الأستاذة فما حال مريدتها وربيبتها!؟ وهل يُتوقَّع منها غير أن تأمر الإمام عليه السلام بإطاعة يزيد وعدم شقّ عصا الجماعة! والقعود عن أيّ قيام في وجه الطاغوت!

حركة الأمّة في الكوفة ..... ص : 325

كان الكوفيون يكاتبون الإمام الحسين عليه السلام- بعد استشهاد الامام الحسن عليه السلام- باذلين له الطاعة ويدعونه الى القيام والنهضة ضد معاوية، فقد روى البلاذري أنّه:

«لمّا توفي الحسن بن عليّ اجتمعت الشيعة، ومعهم بنو جعدة بن هبيرة بن أبي

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 326

وهب المخزومي، «1» وأمُّ جعدة أمّ هاني بنت أبي طالب، في دار سليمان بن صرد، وكتبوا إلى الحسين كتاباً بالتعزية، وقالوا في كتابهم: إنّ الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 327

المسرورة بسرورك، المنتظرة

لأمرك. وكتب إليه بنو جعدة يخبرونه بحسن رأي أهل الكوفة فيه، وحبّهم لقدومه، وتطلّعهم إليه، وأن قد لقوا من أنصاره وإخوانه من يُرضى هديه ويُطمأنّ إلى قوله، ويُعرف نجدته وبأسه، فأفضَوا إليهم ماهم عليه من شنآن ابن أبي سفيان والبراءة منه، ويسألونه الكتاب إليهم برأيه ...»، «1» وكذلك نقل الشيخ المفيد (ره) عن الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السير أنّهم قالوا: «لمّا مات الحسن عليه السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين عليه السلام في خلع معاوية، والبيعة له ...» «2» وكان الإمام الحسين عليه السلام في كلّ ذلك يمتنع عليهم، ويذكر لهم أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لايجوز له نقضه حتى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك.

لكنّ الثابت- من قرائن تأريخية عديدة- أنّ نبأ موت معاوية وصل الى أهل الكوفة بعد وصول الامام الحسين عليه السلام إلى مكّة المكرّمة أو وهو في الطريق إليها، ومعنى هذا: أنه لم تصل الى الامام عليه السلام وهو في المدينة- في غضون أيّام إعلانه رفض البيعة ليزيد إلى حين خروجه عنها- أيّة رسالة من أهل الكوفة تُنبي ء عن علمهم بموت معاوية، وعن دعوتهم الإمام عليه السلام إليهم، ولا من أهل مكّة أيضاً، ولا من سواهما. «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 328

أوّل اجتماع للشيعة في الكوفة بعد هلاك معاوية ..... ص : 328

روى الطبري قائلًا: «فلمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية أرجف أهل العراق بيزيد، وقالوا: قد امتنع حسينٌ وابن الزبير ولحقا بمكّة، فكتب أهل الكوفة الى حسين ...»، وروى ايضاً عن أبي مخنف، عن الحجّاج بن عليّ، عن محمّد بن بشر الهمداني «1» قال: «اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد، «2» فذكرنا هلاك

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 332

معاوية فحمدنا الله عليه.

فقال لنا سليمان بن صرد: إنّ

معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج الى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه!

قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه!

قال: فاكتبوا إليه.

فكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم.

لحسين بن عليّ، من سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة، «1» ورفاعة بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 333

شدّاد، «1» وحبيب بن مظاهر، «2» وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

سلام عليك. فإنّا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعدُ: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزّها وغصبها فيأها وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 334

شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود.

إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولانخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسلام ورحمة الله عليك.». «1»

رسل الكوفة إلى الإمام عليه السلام ..... ص : 334
اشارة

«ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبدالله بن مسمع الهمداني، «2» وعبدالله بن وال، «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 335

وأمروهما بالنجاء، فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين عليه السلام بمكّة لعشر مضين من شهر رمضان.». «1»

وقال ابن كثير: «فكان أوّل من قدم عليه عبدالله بن سبع الهمداني، وعبدالله إبن وال، ومعهما كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية ..». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 336

وروى ابن الجوزي عن الواقدي صيغة أخرى للرسالة الأولى التي بعث بها أهل الكوفة- ولعلّها رسالة أخرى- قائلًا: «ولمّا استقرّ الحسين بمكّة،

وعلم به أهل الكوفة كتبوا إليه يقولون: إنّا قد حبسنا أنفسنا عليك! ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فاقدم علينا فنحن في مائة ألف! وقد فشا فينا الجور، وعُمل فينا بغير كتاب اللّه وسنّة نبيّه، ونرجوا أن يجمعنا الله بك على الحقّ، وينفي عنّا بك الظلم، فأنت أحقّ بهذا الأمر من يزيد وأبيه الذي غصب الأمّة فيئها، وشرب الخمر ولعب بالقرود والطنابير، وتلاعب بالدين.

وكان ممّن كتب إليه سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 337

إشارة: ..... ص : 337

لايخفى على المتأمّل في محتوى الرسائل التي بعث بها أهل الكوفة إلى الإمام عليه السلام، وفي تعبير ابن كثير «ومعهما كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية» أنّ جوّاً نفسياً طافحاً بالإبتهاج والفرحة عمَّ الشيعة في الكوفة لموت معاوية، الذي كان قد أذاقهم الويلات في جميع جوانب حياتهم، وجثم على صدورهم سنين عجافٍ طويلة مريرة يخنق أنفاسهم ويحصيها عليهم، ويرصد الشاردة والواردة من حركاتهم، ويجرّعهم مرارة الفقر وعذاب مكابدة حروبه في الداخل والخارج، وكان يُضاعف في فظاعة هذا الكابوس، وفي شوقهم إلى يوم الخلاص منه، أنّهم كانوا كلّما كاتبوا الإمام عليه السلام يدعونه إلى القيام والنهضة ردّ عليهم يوصيهم- لحكمته البالغة- بالتزام الصبر ومواصلة الإنتظار مادام معاوية حيّاً، فلمّا مات معاوية شعر أهل الكوفة وكأنهم أُطلقوا من عقال، وأفاقوا وقد تحرّرت ألسنتهم وأيديهم بعد أن زال عنهم ذلك الكابوس المطبق، فتباشروا فرحاً وتبادلوا التهاني والسرور بموت الطاغية، وأعينهم كقلوبهم تنظر بلهفة إلى ماذا سيفعل الإمام عليه السلام منتظرة إشارته.

لكنّ الصادقين منهم قليل، إذ كان الشلل النفسي ومرض إزدواج الشخصية وحبّ الدنيا وكراهية الموت قد تفشى في حياة هذه الأمة، وكان بدء نشوئه في السقيفة وتعاظم فيما

بعدها، حتى نُكِسَ جُلُّ الناس على رؤوسهم، فصارت قلوبهم مع الإمام عليه السلام وسيوفهم عليه، فكان انقلابهم وتخاذلهم عن مواصلة النهضة مع مسلم بن عقيل عليه السلام، ذلك الإنقلاب الذي يحارفيه المتأمل المتدبّر ويذهل من سهولة وسرعة وقوعه! ثمَّ كانت نكسة هذه الأمّة الكبرى بقتلها الإمام عليه السلام في عاشوراء.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 338

دفعة أخرى من الرُسُل والرسائل! ..... ص : 338

قال الشيخ المفيد (ره): «ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مسهّر الصيداوي، وعبدالله وعبدالرحمن ابني شدّاد الأرحبي، وعمارة بن عبدالله السلولي، إلى الحسين عليه السلام، ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة، من الرجل، والإثنين، والأربعة ...». «1»

ثمّ دفعة أخرى! ..... ص : 338

قال الشيخ المفيد (ره) أيضاً: «ثمَّ لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي «2» وسعيد بن عبدالله الحنفي، «3» وكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليّ عليهما السلام من شيعته من المؤمنين والمسلمين: أمّا بعدُ، فحيَّ هلّا فإنّ الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل، والسلام.». «4»

ثمّ ما برحت الرسائل تترى على الإمام عليه السلام من أهل الكوفة «يسألونه القدوم عليهم، وهو مع ذلك يتأنّى ولايجيبهم، فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده منها في نُوَبٍ متفرّقة إثنى عشر ألف كتاب.». «5»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 340

ولقد روى السيّد ابن طاووس (ره) نفس الرسالة التي حملها الى الإمام عليه السلام هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبدالله الحنفي، ولكن بتفاوت وإضافة مفصّلة، ويرى السيّد (ره) أنّ هذه الرسالة كانت آخر ما ورد على الإمام عليه السلام من أهل الكوفة، ولعلَّ من الأفضل أن ننقل متن هذه الرسالة أيضاً كما رواها السيد ابن طاووس (ره)، وهي:

«بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام. أمّا بعد: فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل يا ابن رسول الله، فقد اخضّرت الجنّات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فاقدم علينا إذا شئت، فإنّما تقدم على جُند مجنّدة لك، والسلام عليك ورحمة الله وعلى أبيك

من قبلك.». «1»

دور المنافقين في موجة الرسائل: ..... ص : 340

ركب المنافقون والذين في قلوبهم مرض موجة الرسائل التي بعث بها أهل الكوفة إلى الإمام عليه السلام، فشاركوا فيها، أو كتبوا إليه مستقلّين عن غيرهم يدعونه أيضاً الى القدوم عليهم مدّعين الطاعة له والإستعداد لنصرته!

روى السيّد ابن طاووس (ره) أنّ الإمام عليه السلام بعد أن قرأ الكتاب الذي حمله إليه هاني بن هاني وسعيد الحنفي سألهما قائلًا:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 341

«خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب به إليّ معكما؟»

فقالا: يا ابن رسول الله، شبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجّاج، ومحمّد بن عمير بن عطارد!». «1»

لكنّ الشيخ المفيد (ره) ذكر أنّ هؤلاء- المنافقين- كتبوا إلى الإمام عليه السلام رسالة مستقلّة عن رسائل غيرهم، فقال: «ثمّ كتب شبث بن ربعي، «2» وحجّار بن أبجر، «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 342

ويزيد بن الحارث بن رويم، «1» وعروة بن قيس، «2» وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 344

ومحمّد بن عمرو التيمي «1»: أمّا بعدُ، فقد اخضّر الجناب، وأينعت الثمار، فإذا شئت فأقبل على جنُدٍ لك مجنّدة.». «2»

التعاطف الكبير مع سفير الحسين عليهما السلام ..... ص : 344

بعد أن عمّت الفرحة الكوفة وشاع أريجُ الإبتهاج فيها لموت معاوية بن أبي سفيان، كان همُّ أكثر أهل الكوفة- بعد أن علموا بامتناع الإمام الحسين عليه السلام عن مبايعة يزيد وارتحاله الى مكّة المكرّمة- استنهاض الإمام عليه السلام للقيام ودعوته الى التوجّه إليهم، فكانت رسائلهم الكثيرة إليه.

ولم تزل قلوبهم وأعينهم ترقب الأنباء القادمة إليهم من مكّة، إذ لعلّ طالعاً بالخير يحمل إليهم نبأ البشرى بقدوم الإمام عليه السلام، أو قدوم نائب عنه يسبقه إليهم، فلمّا أفاقوا ذات يوم على خبر مجي ء مسلم بن عقيل عليه السلام إليهم

ونزوله دار المختار بين ظهرانيهم سفيراً عن الحسين عليه السلام، هبّوا للقائه ولتقديم البيعة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 345

للإمام عليه السلام على يديه، وكان أقلّ عدد ذكره المؤرّخون لمن بايع مسلماً عليه السلام منهم اثني عشر الفاً.

قال ابن عساكر: «كان مسير الحسين بن علي من مكّة الى العراق بعد أن بايع له من أهل الكوفة إثنا عشر ألفاً على يدي مسلم بن عقيل، وكتبوا إليه في القدوم عليهم ..». «1»

وقال المحقّق المقرّم (ره): «وأقبلت الشيعة يبايعونه حتى أحصى ديوانه ثمانية عشر ألفاً، وقيل بلغ خمسة وعشرين ألفاً.». «2»

وعن ابن نما (ره): «إنّ أهل الكوفة كتبوا إليه: إنّا معك مائة ألف!، وعن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: بايع الحسين عليه السلام أربعون الفاً من أهل الكوفة على أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم.». «3»

ولاشكّ أنّ هذا العدد سواء في أقلّ تقدير له أو أعلى تقدير حاكٍ عن انتفاضة شعبية وتحرّك جماهيريّ واسع النطاق تأييداً للإمام عليه السلام ورفضاً للحكم الأمويّ، بل يُستفاد من رسالة مسلم بن عقيل عليه السلام إلى الإمام عليه السلام أنّ الكوفة كلّها كانت مع الإمام عليه السلام! فإنَّ نصّ الكتاب: «أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجِّل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا، فإنّ النّاس كلّهم معك! ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولاهوى، والسلام.». «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 346

الإجتماع الأوّل مع سفير الإمام عليه السلام ..... ص : 346
اشارة

روى الطبري يقول: «ثم أقبل مسلم حتّى دخل الكوفة، «1» فنزل دار المختار بن أبي عُبيد، وهي التي تُدعى اليوم دار مسلم بن المسيّب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب حسين، فأخذوا يبكون! فقام عابس بن أبي

شبيب الشاكري، «2» فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ فإنّي لا أُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم! واللّهِ، أحدّثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، واللّه لأُجيبنّكم إذا دعوتم، ولأُقاتلنَّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أريد بذلك إلّا ما عند اللّه!

فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي فقال: رحمك الله، قد قضيت ما في نفسك بواجزٍ من قولك! ثمّ قال: وأنا والله الذي لا إله إلّا هو على مثل ما هذا عليه!. ثم قال الحنفيّ مثل ذلك!». «3»

إشارة: ..... ص : 346

لهذه الرواية تتمة تتحدّث عن جوّ آخر غير الجوّ الحماسيّ الحسيني الذي تجلّى في مقالات ومواقف رجال مؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أمثال عابس بن أبي شبيب الشاكري، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وسعيد بن عبدالله الحنفي، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

جوّ آخر يُخفي نفسه- على استيحاء- في الأجواء الحماسية فلا يبين! وإن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 347

كان تأثيره هو التأثير الأقوى والفاعل في تحديد ورسم مواقف أكثر الناس من أهل الكوفة يومذاك، إنه جوّ الشلل النفسي الذي تفشّى في أكثر الناس آنذاك وطغى عليهم حتى تنكّروا لبصائرهم، فاستحبّوا العمى على الهدى، وخالفت أيديهم قلوبهم، فأطاعت سيوفهم من كرهوا! فقتلت أعزَّ من أحبّوا!، وماذاك إلّا للوهن الذي أصابهم حين كرهوا الموت وأحبّوا الحياة الدنيا، فصاروا من خوف الموت في ذلّ! فازدوجوا وتناقض الظاهر مع الباطن فيهم، وكذلك يستحوذ الشيطان على من يؤثر الدنيا على الآخرة!

يقول الحجّاج بن عليّ- الذي يروي عنه أبومخنف قصة هذا الإجتماع-:

فقلت لمحمّد بن بشر- الهمداني الذي كان حاضراً هذا الإجتماع وروى قصّته-:

فهل كان منك أنت قول؟

فقال: أني كنتُ لأُحبُّ أن يُعزّ الله أصحابي بالظفر، وما كنت

لأحبّ أن أُقتلَ، وكرهتُ أن أكذب!! «1»

الكوفة بانتظار الحسين عليه السلام ..... ص : 347

في غمرة التفافها حول مسلم بن عقيل عليه السلام، وعدم مبالاتها بواليها يومذاك النعمان بن بشير الذي ضعف قبال موجة انتفاضة الامّة أو كان يتضعّف!، كانت أعين أهالي الكوفة ترقب طريق القوافل القادمة من الحجاز، وقلوبهم بأيديهم بإنتظار لحظات القدوم المبارك، قدوم الإمام الحسين عليه السلام، ليفرشوا تلك القلوب زرابيَّ مبثوثة على تراب طريق مقدم ابن رسول الله صلى الله عليه و آله.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 348

وذات يوم أبصرت أعين أهل الكوفة رجلًا متلثّماً، معتمّاً بعمامة سوداء، وعليه ثياب يمانية، قادماً وحده، راجلًا ممسكاً بزمام بغلته! فظنّوا أنه الإمام الحسين عليه السلام!- ويالسذاجة هذا الظنّ!- «فقالت إمرأة: اللّه أكبر! ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وربِّ الكعبة! فتصايح الناس، وقالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً! وازدحموا عليه حتّى أخذوا بذنب دابّته، وظنّهم أنّه الحسين عليه السلام ..». «1»

فكان لا يمرّ على جماعة من الناس إلّا سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول اللّه! قدمتَ خير مقدم!، وجعل يمرّ بالمحارس، فكلّما نظروا إليه لم يشكّوا أنّه الإمام الحسين عليه السلام! فيقولون: مرحباً بك يا ابن رسول الله! وهو لايكلّمهم! وخرج إليه الناس من دورهم وبيوتهم! يسايرونه طريقه الى قصر الإمارة، وهو لايحييهم ولايكلّمهم!

وسمع النعمان بن البشير بالصخب القادم على الطريق، فأغلق عليه وعلى خاصته القصر! وهو لايشكّ أيضاً أنّ هذا القادم هو الحسين عليه السلام ومعه الخلق يضجّون! ملتفّين حوله، فلمّا انتهى إليه قال له النعمان: أُنشدك اللّه إلّا تنحيّت! فما أنا بمسلّم إليك آمانتي! ومالي في قتالك من أرب!.

والقادم لايكلّمه! حتى دنا وتدلّى النعمان بين شرفتين قريباً جدّاً منه، فقال هذا القادم: إفتح لا

فتحتَ! فقد طال ليلك! فسمعها إنسان كوفيّ خلفه، فانكفأ الى الناس وقد أخذته الدهشة وهو يقول: أي قوم! ابن مرجانة! والذي لا إله غيره! فاندهش الناس، وقالوا- وهم يتشبّثون بظنّهم الساذج-: ويحك إنّما هو الحسين! «2» وفي رواية ابن نما (ره): «.. فحسر اللثام وقال: أنا عبيدالله! فتساقط القوم، ووطي ء

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 349

بعضهم بعضاً، ودخل دار الإمارة ...». «1»

فالقادم إذن لم يكن الإمام عليه السلام، بل كان عبيد الله بن زياد وابن مرجانة لعنهم الله، الوالي الذي أرسلته السلطة الأموية المركزية في الشام بمشورة من سرجون النصرانيّ إلى الكوفة، للسيطرة على طوارى ء حركة الأمّة فيها، لماله من معرفة بخصائص النفسية الكوفية، وخبرة إدارية شيطانية، وقدرة على الظُلم والغشم.

أهل الكوفة .. والمبادرة المطلوبة ..... ص : 349

هناك مجموعة من العوامل والشرائط اللازمة لنجاح أيّ تحرك ثوري يهدف الى تغيير الاوضاع السياسية في بلدٍ ما من البلدان، ينبغي لقيادة هذا التحرّك الإنتباه إليها والعمل على تحقيقها لضمان نجاح هذا التحرّك في الوصول إلى أهدافه المنشودة.

والمتأمّل في تحرّك أهل الكوفة بعد موت معاوية- في رفضهم خلافة يزيد بن معاوية، ومكاتبتهم الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، باذلين له الطاعة، وطالبين منه القدوم إليهم- يرى أنّ هناك مجموعة من الشرائط اللازمة لنجاح هذا التحرّك كان ينبغي لوجهاء وأشراف أهل الكوفة الذين تصدّوا لهذا العمل أن يسعوا إلى تحقيقها وتوفيرها حتّى يُوفَّقَ هذا التحرك وهذه الإنتفاضة في بلوغ الأهداف المنشودة.

ومن أهمِّ واوّل الأمور التي كان ينبغي للعقل الكوفي المعارض أنْ يُعدِّ العدّة لتحقيقه ويستبق الأيّام للقيام به المبادرة إلى السيطرة على الأوضاع في الكوفة قبل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 350

مجي ء الإمام عليه السلام إليها، وذلك مثلًا باعتقال الوالي الأمويّ، وجميع معاونيه وأركان إدارته، ومن عُرف من عيونه

وجواسيسه، ومنع الخروج من الكوفة إلّا بإذن خاص، وذلك لحجب أخبار ما يجري فيها عن مسامع السلطة الأموية أطول مدّة ممكنة من أجل تأخير تحرّكها لمواجهة الإنتفاضة في الكوفة قبل وصول الإمام عليه السلام، حتّى يصل الإمام عليه السلام فيمسك بزمام الأمور ويقود الثورة إلى حيث كامل الأهداف.

والإهتداء الى ضرورة القيام بمثل هذ المبادرة ليس بدعاً من الأمر، أو من الأفكار التي لايهتدي إليها إلّا الأوحديّ من الناس، بل هو من إدراكات الأذهان العامة، ها هو عبدالله بن العبّاس (رض) يتحدّث عن ضرورة القيام بهذه المبادرة قائلًا للإمام عليه السلام: «فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ اقدم عليهم»، «1» وهذا عمر بن عبدالرحمن المخزومي يقول للإمام عليه السلام أيضاً: «إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحبّ إليه ممّن يُقاتلك معه»، «2» وهذا عمرو بن لوذان يخاطب الإمام عليه السلام قائلًا: «وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطّأوا لك الأشياء فقدمت عليهم، كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل!». «3»

والإمام عليه السلام لا يُخطَّي ء مقولات هؤلاء، بل يُقرّر عليه السلام أن ذلك من النصح والعقل والرأي! فهو يقول لابن عبّاس: «يا ابن عمّ، إنّي واللّه لأعلم أنك ناصح

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 351

مشفق!»، «1» ويقول للمخزومي: «فقد واللّه علمتُ أنك مشيت بنصحٍ وتكلّمت بعقل!»، «2» ويقول لعمرو بن لوذان: «يا عبدالله، ليس يخفى عليَّ الرأي!». «3»

ومن المُلفت للإنتباه أيضاً أنّه ليس في رسائل الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة ولا

في وصاياه لمسلم بن عقيل عليه السلام ما يمنع أهل الكوفة من القيام بهذه المبادرة التي أقرَّ الإمام عليه السلام أنها من العقل والرأي! بل لقد دعاهم عليه السلام الى القيام مع مسلم عليه السلام، حيث قال عليه السلام في رسالته الأولى إليهم- على رواية ابن أعثم-: «فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولاتخذلوه!». «4»

وفي رسالته الثانية التي بعثها إليهم بيد قيس بن مسهرّ الصيداوي (رض)- والتي لم تصل إليهم لأنّ ابن زياد كان قد قبض على الرسول- دعاهم الإمام عليه السلام إلى السرعة والعزم على الأمر والجدّ فيه، حيث قال عليه السلام فيها: «فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا!»، «5» إذ الكمْشُ في الأمر هو العزم عليه والسرعة فيه! «6»

إذن ما هي علّة عدم مبادرة الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها!؟ مع أنّ فيهم عدداً يُعتدُّ به من رجال ذوي خبرات عريقة في المجالات

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 352

العسكرية والسياسية والإجتماعية! ولاشكّ أنّ التفكير بمثل هذه المبادرة قد طرأ على أذهانهم أكثر من مرّة! فلماذا لم يبادروا!؟

لعلّ الإجابة على هذا السؤال من أصعب ما يواجه المتأمّل في حركة أحداث النهضة الحسينية المقدّسة، ومع هذا فإنَّ من الممكن هنا أن نتحدّث باختصار في أهمّ الأسباب التي أدّت الى عدم مبادرة الشيعة في الكوفة الى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجي ء الإمام عليه السلام إليها، وهي:

1)- لم يكن للشيعة في الكوفة- وهم من قبائل شتّى- خصوصاً في فترة ما بعد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عميدُ من شيعة أهل الكوفة، يرجعون إليه في أمورهم وملمّاتهم، ويصدرون فيها عن رأيه وقراره وأمره.

نعم، هناك وجهاء وأشراف متعدّدون من الشيعة في الكوفة، لكلٍّ منهم تأثيره في قبيلته،

لكنهم لاتصدر مواقفهم إزاء الأحداث الكبرى المستجدّة عن تنسيق بينهم وتنظيم يوّحد بين تلك المواقف، وينفي عنها التشتّت والتفاوت.

ولقد ترسّخت هذه الحالة في شيعة الكوفة خاصة نتيجة السياسات التي مارسها معاوية- بتركيز خاص على الكوفة خلال عشرين من السنوات العجاف الحالكة- في خلق الفرقة والتناحر بين القبائل، والإرهاب والقمع، والمراقبة الشديدة التي ترصد الأنفاس، والإضطهاد المرير والقتل الذي تعرّض له كثير من الشيعة ومن زعمائهم خاصة، الأمر الذي زرع بين الناس على مدى تلك السنين العشرين العجاف الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة السلطان، وضعف الثقة وقلّة الإطمئنان فيما بينهم، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار.

ويكفي دليلًا على كلّ ما أشرنا إليه من التعددية والتشتّت نفس المنحى الذي تمّت فيه مكاتبة أهل الكوفة الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، فلولا التعددية في مراكز

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 353

الوجاهة والزعامة لما تعددّت الرسائل والرسل منهم إلى الإمام عليه السلام.

فلوكان لهم زعيم واحد يصدرون عن رأيه وأمره لكفى الإمام عليه السلام منهم رسالة واحدة تأتي من زعيمهم، لا إثنا عشر ألف رسالة!، ولما احتاج الإمام عليه السلام إلى أن يسأل آخر الرسل: «خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب به إليَّ معكما؟». «1»

كما يكفي دليلًا على ضعف الثقة والإطمئنان، والفردية في إتخاذ الموقف والقرار، قول الشهيد الفذّ عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض) بين يدي مسلم بن عقيل عليه السلام: «أمّا بعدُ، فإنّي لا أُخبرك عن النّاس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرُّك منهم! واللّه أحدّثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، واللّه لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أريد بذلك إلّا ما عند اللّه». «2»

2)- هناك ظاهرة عمّت القبائل العربية

التي استوطنت الكوفة، وهي ظاهرة انقسام الولاء في أفرادها، ففي كلّ قبيلة إذا وجدتَ من يعارض الحكم الأمويّ أو يوالي أهل البيت عليهم السلام فإنّك تجد أيضاً قبالهم من يوالي الحكم الأمويّ ويخدم في أجهزته، ولعلّ الموالين للحكم الأموي في جلّ هذه القبائل أكثر من المعارضين له عامة والموالين لأهل البيت عليهم السلام خاصة.

وهذه المشكلة ربّما كانت هي المانع أمام زعماء من الشيعة كبار في قبائلهم الكبيرة من أن يُثَوِّروا قبائلهم ضد الحكم الأمويّ علانية، وينهضوا بهم للقيام بمثل تلك المبادرة المطلوبة، ذلك لأنّ افراداً كثيرين هناك في نفس القبيلة ممّن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 354

يخدمون في أجهزة الأمويين ويوالونهم سيسارعون إلى اخبار السلطة الأموية بما عزم عليه زعيم قبيلتهم الشيعيّ، فيقُضى على ذلك العمل قبل البدء فيه، كما يُقضى على الزعيم الشيعيّ وعلى أنصاره أيضاً، ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلًا، كما تجد زعيماً شيعياً رائداً مثل هاني بن عروة (رض) تجد إزاءه ايضاً زعيماً آخر- أو أكثر- مثل عمرو بن الحجّاج الزبيدي، يتفانى في خدمة الأمويين إلى درجةِ أَنْ يؤثر مصلحة الأمويين حتى على مصلحة مذحج نفسها، حينما قام بدوره المريب في ركوب موجة انتفاضة مذحج وقيامها لإطلاق سراح هاني (رض) فردّهم عن اقتحام القصر وصرفهم وفرّق جموعهم، بمكيدة منه ومن شريح وابن زياد.

وهذه الظاهرة تجدها في بني تميم، وبني أسد، وكندة، وهمدان، والأزد، وغيرها من قبائل أهل الكوفة.

إذن فقد كان من العسير عملياً على أيّ زعيم كوفي شيعي أن يقود جموع قبيلته في عملٍ ما ضدّ الحكم الأمويّ، وذلك لوجود زعماء آخرين من نفس القبيلة موالين للحكم الأمويّ، باستطاعتهم التخريب من داخل القبيلة نفسها على مساعي الزعيم الشيعي، أو من خارجها بالإستعانة

بالسلطة الأموية نفسها.

3)- يُضاف إلى السببين الأوّل والثاني- وهما أهمُّ الأسباب- سبب ثالث وهو تفشيّ مرض الشلل النفسي، وازدواج الشخصية، والوهن المتمثّل في حبّ الدنيا والسلامة وكراهية الموت، في جُلّ أهل الكوفة آنذاك خاصة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما عبّر به محمّد بن بشر الهمداني- الذي روى تفاصيل اجتماع الشيعة الأوّل مع مسلم بن عقيل عليه السلام في دار المختار، وروى مقالة عابس الشاكري ومقالة حبيب بن مظاهر ومقالة سعيد بن عبدالله الحنفي رضوان الله عليهم، في استعدادهم للتضحية والموت في نصرة الإمام عليه السلام- حينما سأله الحجّاج بن عليّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 355

قائلًا: فهل كان منك أنت قول؟

أجاب قائلًا: إنّي كُنت لأُحبُّ أنْ يُعزَّ اللّه أصحابي بالظفر، وما كنت لأحبَّ أنْ أُقتل، وكرهت أن أكذب! «1»

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أيضاً، قول عبيد الله بن الحرّ الجعفي مخاطباً الإمام عليه السلام: «واللّه إني لأعلمّ أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك ولم أخلّف لك بالكوفة ناصراً!؟ فأنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت!». «2»

وكان زعماء الشيعة الكوفيون قد أدركوا خطورة إنتشار هذا المرض، وتفطّنوا لأثره السَّي ء على كلّ نهضة وقيام، فكانوا يحسبون لخذلان الناس في أيّ مبادرة جهادية ألف حساب، نلاحظ ذلك مثلًا في قول سليمان بن صرد الخزاعي في اجتماع الشيعة الأوّل: «فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهل والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه!». «3»

ونلمح أيضاً هذا الإدراك والمعرفة بتفشّي هذا المرض في قول عابس الشاكري (رض) وهو يخاطب مسلماً عليه السلام: «فإنّي لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك

منهم! ...». «4»

وبعدُ: فلعلّ هذه الأسباب المهمة الثلاثة التي ذكرناها تشكلّ إجابة وافية عن علّة عدم مبادرة زعماء الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجي ء الإمام عليه السلام.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 356

حركة الأمّة في البصرة ..... ص : 356
اشارة

كان ظاهر الحياة السياسية والإجتماعية في البصرة سنة ستين للهجرة يوحي بأنّ عبيد الله بن زياد كان قد هيمن هيمنة سياسية وإدارية كاملة على مجاري أمورها وعلى حركة الأحداث فيها، لما اتصف به من قدرة على الغشم والظلم والجور، وبراعة شيطانية في التفريق بين القبائل، وخلق الكراهية بين الوجهاء والأشراف فيها، وما سوى ذلك من فنون المكر والخداع لمواصلة إخضاع وإذلال الأمّة التي عرفت فساد الطغاة الأمويين وولاتهم.

ويساعد على هذا الإيحاء في الظاهر أيضاً وجود مجموعة كبيرة من أشراف ووجهاء البصرة ورؤساء الأخماس «1» فيها ممن لهم علاقات ودّية حميمة مع الحكّام الأمويين عامة وعبيد الله بن زياد خاصة.

أمّا باطن الحياة السياسية والاجتماعية في البصرة آنذاك فكان يشهد أمراً آخر، إذ كان في البصرة أشراف ووجهاء ورؤساء أخماس آخرون- وإن كانوا قلّة- يعرفون حقائق الأمور ويحبّون الحقّ وأهله! كما كان في عمق الحياة البصرية نشاط سريّ لمعارضة شيعيّة، لها منتدياتها واجتماعاتها في الخفاء، تتداول فيها الأخبار ومستجدّات الأحداث، ولها نوع من الإرتباط والعلم بأنشطة المعارضة الشيعية في الحجاز وفي الكوفة، وكان عبيدالله بن زياد على علم إجمالي بوجود هذه المعارضة الشيعية في البصرة، وكان يتوجّس منها ويحذرها.

ويمكننا هنا أن نتابع حركة الأمة في البصرة من خلال:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 357

ردّ رؤوس الأخماس والأشراف على رسالة الإمام عليه السلام ..... ص : 357
1)- ردّ الأحنف بن قيس: ..... ص : 357

كتب الأحنف بن قيس ردّاً على النسخة التي وصلته من كتاب الإمام الحسين عليه السلام الى رؤساء الأخماس في البصرة وأشرافها قائلًا: «أمّا بعدُ: فاصبر إنّ وعد اللّه حقٌ ولايستخفنّك الذين لايوقنون»، «1» ولم يزد على الآية «2» شيئاً! فكأنَّ الأحنف قد رأى أنه أدّى واجبه وتكليفه إزاء دعوة الإمام عليه السلام للنهضة لإحياء سنّة رسول الله صلى الله عليه و آله، فهو يكتفي بأن

يوصي الإمام عليه السلام بالصبر! وأن لايستخفّه الذين لايوقنون!

ولايخفى على العارف بسيرة الأحنف بن قيس أنّ هذا الرجل كان من أوضح مصاديق (الذين لايوقنون)، فموقفه هذا في جوابه هذا كاشف عن تردّده عن نصرة الإمام عليه السلام مع علمه بأحقيّة الإمام عليه السلام بالخلافة وقيادة الأمّة، وموقفه الآخر من قبلُ في البصرة أيضاً في فتنة عبدالله بن عامر الحضرمي الذي دعا أهل البصرة- بعد صفين- الى نكث بيعة أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام مرّة أخرى، حيث قال الأحنف ردّاً على ما دعا إليه الحضرمي رسول معاوية: «أمّا أنا فلا ناقة لي في هذا ولاجمل!»، «3» بدلًا من أن يهبّ للدفاع عن أمير المؤمنين عليه السلام ويدعو أهل البصرة في المقابل إلى الثبات على البيعة والسمع والطاعة!، وله موقف آخر من قبل ذلك أيضاً نمَّ عن تردّده وضعف يقينه، إذ بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «إنّي مقيمٌ على طاعتك في قومي فإن شئتَ أتيتك في مائتين من أهل بيتي فعلتُ، وإن شئت حبست عنك أربعة آلاف سيف من بني سعد!. فبعث إليه أميرالمؤمنين عليه السلام: بل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 358

احبس وكُفَّ ..». «1»

2)- خيانة المنذر بن الجارود: ..... ص : 358

وكان هذا أيضاً من البصريين الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام، فلمّا أتاه رسول الإمام عليه السلام سليمان بن رزين (رض) بالكتاب قرأه، ثمّ أخذ الكتاب والرسول الى عبيد الله بن زياد، زاعماً «2» أنه خشي أن يكون الكتاب دسيسة من ابن زياد!، فقتل ابن زياد الرسول! ثمّ صعد المنبر فخطب وتوعّد أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف! «3»

كان عبيد الله بن زياد صهراً للمنذر بن الجارود، إذ كانت بحرية بنت المنذر (أو أخته) «4» زوجة له، وقد كافأ ابن زياد، المنذر

على جريمته النكراء هذه مكافئة كان يصبو إليها المنذر الذي كشف تماماً في هذه الواقعة عن سوء عنصره وحقارته، حيث ولّاه السند من بلاد الهند، لكنّه لم يهنأ طويلًا بجائزته على خيانته تلك، إذ هلك في السند سنة 62 ه. «5»

ودعوى ابن الجارود أنه خشي أن يكون الكتاب دسيسة من ابن زياد دعوى كاذبة، إذ لم يكن طريق معرفة حقيقة الأمر منحصراً بتسليم الرسول والكتاب الى ابن زياد!، لقد كان بإمكان المنذر بن الجارود- لو كان صادقاً- أن يعرف صدق الرسول بأبسط تحقيق معه، لابتسليمه ليُقتل!.

3)- يزيد بن مسعود النهشلي .. والموقف المحمود: ..... ص : 358

ما إنْ وصلت إلى يد يزيد بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 359

مسعود النهشليّ نسخته من رسالة الإمام الحسين عليه السلام فقرأها حتى جمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّا حضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي منكم وحسبي فيكم؟

فقالوا: بخٍّ بخٍّ! أنتَ والله فقرة الظهر، ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسطاً، وتقدّمتَ فيه فرطاً!

قال: فإني قد جمعتكم لأمرٍ أريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه.

فقالوا: واللّه إنّا نمنحك النصيحة، ونجهد لك الرأي، فقلْ نسمع.

فقال: إنّ معاوية قد مات، فأهون به واللّه هالكاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً وظنّ أنه قد أحكمه، وهيهات والذي أراد!، اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، وقد قام إبنه يزيد، شارب الخمور، ورأس الفجور، يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضىً منهم، مع قِصر حلم، وقلّة علم، لايعرف من الحقّ موطي ء قدمه.

فأُقسم باللّه قسماً مبروراً، لجهادُه على الدّين أفضل من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له

فضل لايوصف، وعلم لاينزف، وهو أولى بهذا الأمر، لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرم به راعي رعيّة وإمام قوم وجبت للّه به الحجّة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسكّعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلى الله عليه و آله ونصرته، واللّهِ لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلّا أورثه اللّه الذلّ في ولده، والقلّة في عشيرته، وها أنا قد لبست للحرب

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 360

لامتها، وأدّرعت لها بدرعها، من لم يُقتل يمتْ، ومن يهرب لم يفتْ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب.

فتكلّمت بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبل كنانتك، وفرسان عشيرتك، إن رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض واللّه غمرة إلّا خُضناها، ولاتلقى واللّه شدَّة إلّا لقيناها، ننصرك واللّهِ باسيافنا، ونقيك بأبداننا فانهض لما شئت.

وتكلّمت بنو سعد بن زيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك، وقد كان صخر بن قيس «1» أمرنا بترك القتال، فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا! فأمهلنا نراجع المشورة ونأتك برأينا.

وتكلّمت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا ابا خالد، نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لانرضى إن غضبتَ، ولا نقطن إن ظعنت، والأمر إليك، فادعنا نجبك، ومُرنا نطعك، والأمر إليك إذ شئت.

فقال: واللّه يا بني سعد لئن فعلتموها لايرفع اللّه السيف عنكم أبداً، ولايزال سيفكم فيكم!

ثمّ كتب إلى الحسين عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعدُ: فقد وصل إليَّ كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له، من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنَّ اللّه لايُخلي الأرض من عامل عليها

بخير، أو دليل على سبيل النجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه، ووديعته في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها وانتم فرعها، فاقدم سُعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 361

بني تميم، وتركتهم أشدّ تتابعاً لك من الإبل الظماء يوم خمسها لورود الماء، وقد ذللّت لك رقاب بني سعد، وغسلت لك درن صدورها بماء سحابة مُزنٍ حين استهلّ برقها فلمع.

فلمّا قرأ الحسين عليه السلام الكتاب قال:

«آمنك اللّه يوم الخوف، وأعزّك، وأرواك يوم العطش الأكبر.». «1»

وفي رواية ابن نما (ره) قال: «فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين صلوات الله وسلامه عليه بلغه قتله قبل أن يسير، فجزع لذلك جزعاً عظيماً لما فاته من نصرته.». «2»

ملاحظات وتأمّل: ..... ص : 361

1)- كان الإمام الحسين عليه السلام قد كتب نسخة واحدة إلى رؤساء الأخماس في البصرة وإلى الأشراف فيها، وذكر الطبري «3» أنّ الإمام عليه السلام كتب إلى مالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمرو بن عبيد الله بن معمر.

لكنّ التأريخ لم يسجّل أنّ أحداً من هؤلاء قد أجاب على رسالة الإمام عليه السلام أو ردَّ ردّاً حميداً، فالأحنف بن قيس ردّ على رسالة الإمام عليه السلام يوصيه بالصبر! وألّا يستخفّه الذين لايوقنون!، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم الرسالة والرسول إلى ابن زياد الذي قتل الرسول!، وأمّا مالك بن مسمع البكري فقد كان أمويّ الهوى، «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 362

ولم يسجّل التأريخ أنه أجاب على رسالة الإمام عليه السلام!، وأمّا قيس بن الهيثم فقد كان عثماني الهوى متباعداً عن أهل البيت عليهم السلام إلى آخر عمره، «1» ولم يذكر التأريخ أيضاً أنّ قيس بن الهيثم قد أجاب

على رسالة الإمام عليه السلام!، وأمّا عمر (أو عمرو) بن عبيد الله بن معمر فلم تذكر له كتب التواريخ والتراجم أيّة علاقة طيّبة مع أهل البيت عليهم السلام، بل عُرف عنه ولاؤه لابن الزبير أيّام سلطانه، وكان على ميمنة مصعب ابن الزبير في قتال المختار، ثمّ انقلب ولاؤه لعبد الملك بن مروان! فكان يأتمر بأمره، حتّى وفد عليه بدمشق، فمات عنده بالطاعون سنة 82 ه، «2» ولم يذكر التأريخ أيضاً أنّ هذا الرجل قد أجاب على رسالة الإمام الحسين عليه السلام!، وأمّا مسعود بن عمرو الأزدي فقد كان أيضاً مجانباً ومعادياً لأهل البيت عليهم السلام، وصديقاً حميماً وناصراً وحامياً لابن زياد حتى بعد مقتل الحسين عليه السلام، «3» ولم يذكر التأريخ أيضاً أنّ مسعود بن عمرو الأزدي هذا قد أجاب على رسالة الإمام الحسين عليه السلام! «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 363

فإذا كان جلُّ رؤساء الأخماس في البصرة وأشرافها بين متباعد عن أهل البيت عليهم السلام مجانب لهم، وبين متردّد متذبذب في حبّه إياهم وموقفه منهم، وبين متربّص خائن طامع في دنيا أعدائهم، فما هو السرّ في كتابة الإمام عليه السلام إلى مثل هؤلاء!؟

لعلّ مجموعة الأسباب التالية هي التي دعت الإمام عليه السلام إلى كتابة هذه الرسالة إلى رؤساء الأخماس والأشراف في البصرة:

أ- كانت مخاطبة القبائل في ذلك الوقت لاتتمُّ ولاتثمر إلّا من خلال رؤسائها وأشرافها ذلك لأنّ أفراد كلِّ قبيلة كانوا لايتجاوزون رؤساءهم وأشرافهم في إتخاذ أي موقف وقرار، والمتأمّل في خطبة يزيد بن مسعود النهشلي في بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، وردّهم عليه يرى هذه الحقيقة واضحة جليّة.

ب- إلقاء الحجّة على جميع أهل البصرة بما فيهم رؤساؤهم وأشراف

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 364

قبائلهم، خصوصاً

وأنّ البصرة برغم سيطرة ابن زياد عليها- ما يزيد على خمس سنين حتى ذلك الوقت- لم تكن قد انغلقت لصالح الأمويين كما هو حال مدن الشام، إذ كان فيها أشراف ورؤساء يعرفون حقّانية أهل البيت عليهم السلام، وأفئدتهم تهوي إليهم، كما كان في البصرة معارضة شيعية لها اجتماعاتها ومنتدياتها السريّة، إذن ففي مبادرة الإمام عليه السلام في الكتابة إلى كلّ هؤلاء إلقاء للحجّة عليهم وقطع العذر عليهم بالقول إنهم لم ينصروا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله لأنهم لم يعلموا بقيامه ونهضته.

ج- قد تُثمر رسالة الإمام عليه السلام صدّ المتردّد من الأشراف ورؤساء الأخماس عن الإنضمام إلى أيّ فعل مُضادّ لحركة الإمام عليه السلام، وقد يعتزل هو وكثير من أفراد قبيلته فلا ينصرون الحكم الأمويّ، وهذا على أيّة حال أفضل من اشتراكهم في القتال ضدّ الإمام عليه السلام.

د- من ثمرات هذه الرسالة إعلام البصريين الراغبين في نصرته عليه السلام بأمر نهضته، وتعبئتهم لذلك من خلال أشرافهم الموالين لأهل البيت عليهم السلام كمثل يزيد بن مسعود النهشلي وأمثاله.

2)- في قصة رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى رؤساء الأخماس في البصرة وإلى أشرافها، لم يوفّق أحدٌ منهم إلى الموقف المحمود إلّا يزيد بن مسعود النهشلي (ره)، الذي كشفت خطبته في بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، ورسالته الى الإمام عليه السلام، عن أنّه كان مؤمناً بمقام أهل البيت عليهم السلام عامة وبمقام الإمام الحسين عليه السلام خاصة، وكان عارفاً بحقّهم، ويكفيه مجداً وفخراً موقفه الرائع هذا، كما يكفيه سعادة دعاء الإمام عليه السلام له: «آمنك اللّه يوم الخوف، وأعزّك، وأرواك يوم العطش الأكبر!».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 365

لكنّ ممّا يؤسف له أننا لم نعثر في

كتب التواريخ والتراجم على ما يزيدنا معرفة بهذا الرجل الشريف الوجيه الماجد عدا ماورد في قصة هذه الرسالة، وعدا أنّه أرسل جوابه إلى الإمام عليه السلام مع الحجّاج بن بدر التميمي السعدي (رض)، الذي أوصل الرسالة إلى الإمام عليه السلام بمكّة، وبقي معه ورافقه إلى كربلاء واستشهد بين يديه يوم عاشوراء. «1»

3)- قال يزيد بن مسعود النهشلي (ره) في خطبته: «إنّ معاوية مات، فأهون به واللّه هالكاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم ...»، والظاهر من طبيعة هذه العبائر أنّ يزيد النهشلي (ره) كان يقرّر لجموع بني تميم حقيقة مسلّمة عندهم وعند جميع أهل البصرة، في أنّهم كانوا قد عانوا الأمرّينَ من ظلم وجور ومآثم معاوية وولاته عليهم.

إنّ الكوارث التي أصابت البصريين على يد ولاة الأمويين لم تكن اقلّ من تلك التي أصابت الكوفة طيلة حوالي عشرين من السنوات العجاف من بعد شهادة أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام.

هذا سمرة بن جندب مثلًا، «2» كان «في زمن ولايته البصرة يخرج من داره مع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 367

خاصته ركباناً بغارة، فلا يمرُّ بجيوان ولاطفل ولاعاجز ولاغافل إلّا سحقه هو واصحابه بخيلهم! وهكذا إذا رجع! ولايمرُّ عليه يوم يخرج به إلّا وغادر به قتيلًا أو أكثر!»، «1» و «قتل من أهل البصرة ثمانية آلاف رجل من الشيعة في ستّة أشهر، وهي ايّام إمارته على البصرة!». «2»

ويروي الذهبي، عن عامر بن أبي عامر قال: «كنّا في مجلس يونس بن عبيد، فقالوا: ما في الأرض بقعة نشفت من الدم ما نشفت هذه- يعنون دار الإمارة- قُتل بها سبعون ألفاً! فسألتُ يونس فقال: نعم، من بين قتيل وقطيع! قيل: من فعل ذلك!؟ قال: زياد وإبنه وسمرة

..». «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 368

وروى الطبري عن محمّد بن سليم قال: «سألتُ أنس بن سيرين: هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يُحصى من قتلهم سمرة!؟ إستخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة، وقد قتل ثمانية آلاف من الناس! فقال له زياد: هل تخاف أن تكون قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت مثلهم ما خشيت!». «1»

من هنا يمكننا أن نستفيد بُعداً آخر ودافعاً جديداً يُضاف الى مجموعة الدوافع التي كانت من وراء كتابة الإمام عليه السلام رسالته إلى أهل البصرة، وهو أنّ أهل البصرة- كما أهل الكوفة- أولى من غيرهم في مجال المبادرة الى النهوض مع الإمام عليه السلام والجهاد بين يديه لإزالة الظلم والجور وإحقاق الحقّ، لأنهم عانوا الأمرَّين من جور وظلم بني أميّة الذين قتلوا الآلاف منهم، ولعلّ يزيد بن مسعود النهشلي (ره) كان ايضاً قد اراد هذا المعنى في مخاطبته بني تميم حينما ابتدأ خطبته بتذكيرهم بهذه الحقيقة.

المؤتمر الشيعيّ السرّيُّ في البصرة ..... ص : 368
اشارة

روى الطبري عن أبي مخارق الراسبي قال: «اجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبدالقيس يقال لها مارية «2» ابنة سعد- أو- منقذ أيّاماً، وكانت

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 369

تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه!

وقد بلغ ابن زياد إقبال الحسين فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ الطريق!

قال: فأجمع يزيد بن نبيط «1» الخروج وهو من عبدالقيس الى الحسين، وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه إبنان له: عبدالله وعبيد الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعت على الخروج، وأنا خارج.

فقالوا له: إنّا نخاف عليك اصحاب ابن زياد. فقال: إنّي واللّه لو قد استوت اخفافهما بالجُدد لهان عليَّ طلب من طلبني!

قال: ثمّ خرج فقويَ في

الطريق حتّى انتهى الى حسين عليه السلام فدخل في رحله بالأبطح ...». «2»

إشارة: ..... ص : 369

شهدت البصرة في السرّ انعقاد هذا المؤتمر الشيعيّ فيها في الأيام التي كانت تشهد أيضاً في العلانية تحرّكات رؤساء الأخماس والأشراف على أثر وصول رسالة الإمام عليه السلام إليهم، وكان الفارق كبيراً جدّاً بين المشهدين!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 370

ذلك لأنها شهدت في تحرّكات الرؤساء والأشراف: تردّداً في نصرة الإمام عليه السلام، وشهدت إعراضاً عنه، وخيانة وغدراً! أللّهمّ إلّا ماشهدته في تحرّك يزيد بن مسعود النهشلي (ره) من تحريك وتوجيه المشاعر القبلية- من خلال مزجها بمشاعر دينية- باتجاه نصرة الامام عليه السلام.

لكنّ ما شهدته البصرة في السرّ كان شهوداً من نوع آخر!

إذ شهدت اجتماعاً استمرّ أيّاماً في السرّ، لم يقم على أساس الإنتماء القبلي، فالمجتمعون كانوا من قبائل شتّى، بل قام على أساس الولاء لأهل البيت عليهم السلام والبراءة من أعدائهم، وقد تذاكر فيه المجتمعون أمر الإمامة وما آل إليه الوضع الراهن يومذاك، «1» وتداولوا ما يجب عليهم القيام به أداءً للتكليف الديني «فأجمع رأي بعضٍ على الخروج فخرج، وكتب بعض بطلب القدوم»، «2» وبالفعل فقد نتج عن هذا المؤتمر المبارك أن انطلقت كوكبة كريمة من البصريين برغم أعين الرصد وحواجز الحصار، تتجّه مسرعة إلى مكّة المكرّمة لتلتحق بالركب الحسيني ولتفوز الفوز العظيم.

خمسمائة من البصريين في سفر ابن زياد الى الكوفة! ..... ص : 370
اشارة

روى الطبري عن عيسى بن يزيد الكناني قال: «لمّا جاء كتاب يزيد إلى عبيدالله بن زياد انتخب من أهل البصرة خمسمائة، فيهم عبدالله بن الحارث بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 371

نوفل، «1» وشريك بن الأعور، «2» وكان شيعة لعليّ، فكان أوّل من سقط بالناس شريك، فيقال إنه تساقط غمرة ومعه ناس، ثمَّ سقط عبدالله بن الحارث وسقط معه ناس، ورجوا أن يلوي عليهم عبيدالله ويسبقه الحسين الى الكوفة! فجعل لايلتفت إلى من سقط، ويمضي

حتّى ورد القادسية، وسقط مهران مولاه فقال: أيا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 372

مهران، على هذه الحال إن أمسكتَ عنك حتى تنظر الى القصر فلك مائة ألف! قال: لا واللّه ما استطيع. فنزل عبيد اللّه فأخرج ثياباً مقطّعة من مقطّعات اليمن، ثمّ اعتجر بمعجرة يمانية، فركب بغلته ثمّ انحدر راجلًا وحده ...». «1»

إشارة: ..... ص : 372

يبدو من ظاهر نصّ هذا الخبر أنّ عدد الشيعة الذين صحبوا ابن زياد الى الكوفة في هذا السفر لم يكن قليلًا- إن لم يكونوا هم الأكثر- فقد تساقط شريك الحارثي ومعه ناس! وكذلك تساقط عبداللّه يتأخّر إبن الحارث ومعه ناس! راجين أن يتأخّر ابن زياد لأجلهم فلا يسبقُ الإمام عليه السلام في الوصول الى الكوفة!

تُرى هل كان هذا التساقط أفضل الوسائل لتعويق ابن زياد ومنعه من دخول الكوفة قبل الإمام عليه السلام!؟

وإذا كان شريك ومن معه من الشيعة يعرفون الدور الخطير الذي سيقوم به ابن زياد لاستباق حركة الأحداث في الكوفة وإدارتها لصالح يزيد! أفلم يكن من الراجح أن يقتلوا ابن زياد بأيّة صورة، سرّاً أو علناً، وإن أدّى ذلك إلى قتل أحدهم أو جماعة منهم أو جميعهم بعد ذلك، ترجيحاً لمصلحة الإسلام العُليا!؟

أم أننا هنا ايضاً أمام صورة أخرى من صور الوهن والشلل النفسي الذي أصاب الأمّة وتفشّى فيها، فأصاب هؤلاء أيضاً، فرأوا أنّ أقصى ما يمكنهم المبادرة إلى هو التساقط في الطريق فقط! متمنّين للإمام عليه السلام أن ينصره الله على أن لاتتعرّض دنياهم لأيّ ضرر أو خطر!

إننا لانشكُّ في إخلاص شريك وأمثال شريك من شيعة عليّ عليه السلام، ولكننا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 373

نعجب من إقتصارهم على التفكير في التساقط فقط! وعدم تدبيرهم لخطّة يتخلّصون بها من ابن زياد ويخلّصون الأمّة منه

في ثنايا الطريق من البصرة إلى الكوفة! وربّما كان قتل ابن زياد بتدبير خفيّ غامض في ليلة ظلماء في هذه الرحلة أيسر بكثير- من حيث الإعتبارات العرفيّة والتبعات- من قتله في بيت هاني بن عروة على ضوء الخطّة التي أقترحها شريك نفسه يومذاك! نقول هذا كلّه بحسب الموازين والحسابات الظاهرية، ونعلم أنّ إرادة الله وتقديراته شي ء آخر!

الملتحقون بالركب الحسينيّ في مكّة المكرّمة ..... ص : 373
اشارة

إلتحق بالإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة مجموعة من أخيار هذه الأمّة وأبرارها، فانضمّوا إلى الركب الحسينيّ المتشكّل آنذاك ممن كان قد قُدم مع الإمام عليه السلام من المدينة المنوّرة، ومنهم من لازم الإمام عليه السلام حتّى استشهد معه في كربلاء يوم عاشوراء، ومنهم من أرسله الإمام عليه السلام فقُتل أو عاد إليه، ويمكننا أن نصنّفهم حسب الأمكنة التي انطلقوا منها للإلتحاق بالإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة الى:

1)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل المدينة

2)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة ولم تحدد التواريخ والتراجم أمكنة انطلاقهم.

3)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل الكوفة.

4)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل البصرة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 374

1)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل المدينة: ..... ص : 374

روى ابن عساكر قائلًا: «وبعث الحسين إلى المدينة فقدم عليه من خفَّ معه من بني عبدالمطلّب وهم تسعة عشر رجلًا، ونساء وصبيان من إخوانه وبناته ونسائهم ..». «1»

ولايخفى أنّ متن هذه الرواية لا يحدّد لنا أسماء هؤلاء الملتحقين من بني هاشم! كما أنّه «لم يرد في الكتب التاريخية ذكر تفصيليٌّ لأسماء الهاشميين في الركب الحسينيّ القاصد من المدينة الى مكّة المكرّمة، بل ورد في أغلب هذه الكتب ذكر إجمالي لمن خرج من الهاشميين مع الإمام عليه السلام من المدينة ..»، «2» ولذا فقد يعسر تماماً على المتتبّع أن يحدّد بدقّة كاملة أسماء جميع بني هاشم الذين خرجوا مع الإمام عليه السلام من المدينة، فيعرف على ضوء هذا أسماء من التحقوا به عليه السلام في مكّة. ولذا فالمسألة بهذا الصدد تبقى على إجمالها وإبهامها!

نعم، تشير مجموعة من الدلائل التأريخية «3» إلى أنّ الإمام عليه السلام كان قد خرج من المدينة المنوّرة بجميع أبنائه،

وجميع أبناء أخيه الإمام الحسن عليه السلام، وجميع بقيّة إخوته لأبيه عدا محمّد بن الحنفيّة (رض)، وعدا عمر الأطراف كما هو الظاهر من سيرته. «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 375

وتشير هذه الدلائل «1» أيضاً إلى أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام كان معه أيضاً في خروجه من المدينة. ومع هذا فإنّ ذلك لايُخرج القضية من الإجمال الى التفصيل التام، ذلك لأننا مثلًا لانستطيع القول- على ضوء ما عندنا من وثائق تأريخية- بالنسبة إلى آل عقيل الذين كانوا مع الإمام عليه السلام في مكّة: مَن منهم التحق به في مكّة، ومَن منهم جاء معه من المدينة.

نعم، تفيد بعض المصادر التاريخية أنّ ولدي عبدالله بن جعفر: عوناً ومحمّداً كانا مع أبيهما في القدوم الى مكّة للقاء الإمام عليه السلام، ثمّ التحقا بالركب الحسيني أوائل خروجه من مكّة المكرّمة، «2» وتفيد مصادر أخرى أنّ أباهما أرسلهما من المدينة الى مكّة بكتاب الى الامام عليه السلام، وفي مكّة إلتحقا بالإمام عليه السلام. «3»

هذا غاية ما اتّضح لنا حول من التحق بالإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة من بني هاشم، أمّا من غير بني هاشم فلا نعلم أنّ أحداً إلتحق بالإمام عليه السلام في مكّة قادماً إليه من المدينة المنوّرة سوى مانظنّه ظنّاً بالنسبة إلى جُنادة بن كعب بن الحرث الأنصاري الخزرجي (رض)، الذي التحق مع عائلته بالإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة، ذلك لأننا لم نعثر في التواريخ على أنّه كان من سكنة مكّة أو الكوفة أو البصرة أو حاضرة أخرى من حواضر العالم الإسلامي آنذاك، وربّما كان مع عائلته من المعتمرين، أو ممّن أراد الحجّ سنة ستين للهجرة، فالتحق بالإمام عليه السلام في مكّة وصحبه إلى كربلاء، وكذلك الأمر

بالنسبة إلى عبدالرحمن بن عبدربّ الأنصاري

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 376

الخزرجي (رض)، لكننا صنّفناهما مع عمّار بن حسّان الطائي (رض) تحت العنوان التالي، مع أننا نظنّ ظنّاً قوّياً أيضاً أنّ عمّار بن حسّان الطائي (رض) كان من سكنة الكوفة.

2)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة ولم تحدّد التواريخ والتراجم أمكنة إنطلاقهم ..... ص : 376
: جنادة بن كعب بن الحرث الأنصاريّ الخزرجي (رض): ..... ص : 376

قال المحقّق السماوي (ره): «كان جنادة ممّن صحب الحسين عليه السلام من مكّة، وجاء معه هو وأهله، فلمّا كان يوم الطفّ تقدّم الى القتال فقُتل في الحملة الأولى.». «1»

وذكرته بعض المصادر التأريخية بإسم (جنادة بن الحارث الأنصاري)، «2» كما ذكرت ابنه الذي استشهد بعده في الطفّ بإسم (عمرو بن جنادة)، أما السماويّ (ره) فقد ذكر ابنه بإسم (عمر بن جنادة). «3»

لكنّ السماوي (ره) لمّا ذكر أسماء أنصار الإمام عليه السلام الذين التحقوا بالإمام عليه السلام مع عوائلهم، ذكر جنادة هذا باسم (جنادة بن الحرث السلماني). «4»

ويرى النمازي إتحاد جنادة بن الحرث الأنصاري مع جنادة بن كعب بن الحارث الأنصاري، ويراه غير جنادة بن الحارث السلماني الأزدي الذي عدّه المامقاني، من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام، ولم يجد النمازي في زيارة الناحية المقدسة أو في الرجبية ذكراً لإسم جنادة- خلافاً لما قال المامقانيّ «5»-

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 377

بل وجد في الموضعين: السلام على حيّان بن الحارث السلماني الأزدي، «1» وهذا هو الوارد في متن الزيارتين بالفعل. «2»

وروي في بعض الكتب أنّ جُنادة (رض) قُتل بين يدي الإمام عليه السلام في الحملة الأولى، «3» كما روي في بعض كتب المقاتل هكذا: «ثُمّ خرج من بعده- أي بعد نافع بن هلال (رض)- جنادة بن الحرث الأنصاري وهو يقول:

أنا جنادة، أنا ابن الحارث لستُ بخوّار ولا بناكثِ

عن بيعتي حتى يقوم وارثي من فوق شلوٍ في الصعيد

ماكثِ

فحمل ولم يزل يُقاتل حتى قُتل.

ثمّ خرج من بعده عمرو بن جنادة وهو يُنشد ويقول:

أضق الخناق من ابن هند وارمه في عقره بفوارس الأنصار

ومهاجرين مخضّبين رماحهم تحت العجاجة من دم الكفّار

خضبت على عهد النبيّ محمّد فاليوم تُخضب من دم الفجّار

واليوم تُخضب من دماء معاشرٍ رفضوا القُران لنصرة الأشرار

طلبوا بثأرهم ببدرٍ وانثنوا بالمرهفات وبالقنا الخطّار

واللّه ربّي لا أزال مضارباً للفاسقين بمرهف بتّار

هذا عليَّ اليوم حقٌّ واجب في كلّ يوم تعانق وحوارِ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 378

ثُمَّ حمل فقاتل حتى قُتل.». «1»

وقال السيد المقرّم (ره): «وجاء عمرو بن جنادة الأنصاري بعد أن قُتل أبوه، وهو ابن إحدى عشرة سنة، يستأذن الحسين فأبى وقال: هذا غلامٌ قُتل ابوه في الحملة الأولى، ولعلّ أمّه تكره ذلك. قال الغلام: إنّ أمّي أمرتني!. فأذن له، فما اسرع أن قُتل ورمي برأسه إلى جهة الحسين عليه السلام، فأخذته أمّه ومسحت الدم عنه وضربت به رجلًا قريباً منها فمات! وعادت الى المخيّم فأخذت عموداً وقيل سيفاً وأنشأت:

أنا عجوز في النسا ضعيفه خاوية بالية نحيفه

أضربكم بضربة عنيفه دون بني فاطمة الشريفه

فردّها الحسين الى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين.». «2»

ولعلّ عمرو بن جنادة هو الشاب المقصود في الرواية التالية- لمشتركاتها الكثيرة مع الرواية السابقة- تقول هذه الرواية: «ثمّ خرج شاب قُتل أبوه في المعركة، وكانت أمّه معه، فقالت له أمّه: أخرج يا بُنيَّ وقاتل بين يدي ابن رسول الله! فخرج، فقال الحسين عليه السلام: هذا شابٌ قُتل أبوه ولعلَّ أمّه تكره خروجه. فقال الشاب: أمّي أمرتني بذلك!. فبرز وهو يقول:

أميري حسينٌ ونِعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير

عليٌّ وفاطمةٌ والداه فهل تعلمون له من نظير

له طلعةٌ مثل شمس الضحى له غرّة مثل بدرٍ منير

وقاتل حتّى قُتل،

وجُزَّ رأسه ورُمي به إلى عسكر الحسين عليه السلام، فحملت أمّه رأسه وقالت: أحسنتَ يا بُنيَّ يا سرور قلبي ويا قُرّة عيني. ثُمَّ رمت برأس ابنها

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 379

رجُلًا فقتلته، وأخذت عمود خيمة، وحملت عليهم وهي تقول:

أنا عجوزٌ سيّدي ضعيفه خاوية بالية نحيفه

أضربكم بضربة عنيفه دون بني فاطمة الشريفه

وضربت رجلين فقتلتهما! فأمر الحسين عليه السلام بصرفها، ودعا لها.». «1»

: عبدالرحمن بن عبد ربّ الأنصاري الخزرجي (رض): ..... ص : 379

قال المحقّق السماوي (ره): «كان صحابياً، له ترجمة ورواية، وكان من مخلصي أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام. قال ابن عقدة: حدّثنا محمد بن إسماعيل بن إسحق الراشدي، عن محمّد بن جعفر النميري، عن عليّ بن الحسن العبدي، عن الأصبغ بن نباتة قال: نشد عليٌّ عليه السلام الناس في الرحبة: من سمع النبيّ صلى الله عليه و آله قال يوم غدير خمٍّ ما قال إلّا قام ولايقوم إلّا من سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول. فقام بضعة عشر رجلًا فيهم أبوأيّوب الأنصاري، وأبو عمرة بن عمرو بن محصن، وأبو زينب، وسهل بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبدالله بن ثابت، وحبشي بن جنادة السلولي، وعبيد بن عازب، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وثابت بن وديعة الأنصاري، وأبو فضالة الأنصاري، وعبدالرحمن بن عبدربّ الأنصاري، فقالوا:

نشهد أنّا سمعنا رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: «ألا إنّ اللّه عزّ وجلّ ولييّ، وأنا وليّ المؤمنين، ألا فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، أللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه وابغض من أبغضه، وأعِنْ من أعانه». «2»

وقال صاحب الحدائق: وكان عليُّ بن أبي طالب عليه السلام هو الذي علّم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 380

عبدالرحمن هذا القرآن وربّاه. «1»

وكان عبدالرحمن جاء مع الإمام الحسين عليه السلام فيمن جاء

معه من مكّة، وقُتل بين يديه في الحملة الأولى. «2»

: عمّار بن حسّان الطائي (رض): ..... ص : 380

قال المامقاني (ره): «هو عمّار بن حسّان بن شريح، قال علماء السير إنّه كان من الشيعة المخلصين في الولاء، ومن الشجعان المعروفين، صحب الحسين عليه السلام من مكّة ولازمه حتى أتى كربلاء، فلمّا شبّ القيام بوم الطفّ تقدّم واستشهد بين يديه رضوان الله عليه، ومع شرف الشهادة نال شرف تخصيصه بالسلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة». «3»

وقال المحقّق السماويّ (ره): «كان عمّار من الشيعة المخلصين في الولاء، ومن الشجعان المعروفين، وكان أبوه حسّان ممن صحب أميرالمؤمنين عليه السلام وقاتل بين يديه في حرب الجمل، وصفين، فقُتل بها، وكان عمّار صحب الحسين عليه السلام من مكّة ولازمه حتى قُتل بين يديه. قال السروي: قُتل في الحملة الأولى. «4»

وورد السلام على عمّار في زيارة الناحية المقدّسة هكذا: «السلام على عمّار

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 381

بن حسّان بن شريح الطائي»، «1» وكذلك في الزيارة الرجبيّة وقد احتمل التستري «2» إتحاد عمار بن حسّان الطائي (رض) مع عمّار بن أبي سلامة الدالاني (رض)، لكنّ هذا الإحتمال غير وارد، لأنّ السلام قد ورد في زيارة الناحية المقدسة على كلٍّ منهما بإسمه. «3»

2)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل الكوفة: ..... ص : 381
: بُريرُ بن خُضير الهمداني المشرقي (رض): ..... ص : 381

كان برير شيخاً تابعياً ناسكاً، قارئاً للقرآن، من شيوخ القُرّاء، ومن أصحاب أمير المومنين عليه السلام، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين، وقال أهل السير: إنّه لمّا بلغه خبر الحسين عليه السلام سار من الكوفة إلى مكّة ليجتمع بالحسين عليه السلام، فجاء معه حتى استشهد.

وروى الطبريّ عن السرويّ أنّ الحرّ لمّا ضيّق على الإمام الحسين عليه السلام جمع الإمام عليه السلام أصحابه فخطبهم بخطبته التي قال فيها «أمّا بعدُ، فإنّ الدنيا قد تغيّرت ...»، فقام إليه جماعة من أنصاره فتكلموا وأظهروا استعدادهم وإصرارهم على الموت دونه، وكان برير

من هؤلاء المتكلّمين حيث قام فقال: «واللّه يا ابن رسول الله لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، تُقطّعُ فيك أعضاؤنا، حتى يكون جدّك يوم القيامة بين أيدينا شفيعاً لنا، فلا أفلح قوم ضيّعوا ابن بنت نبيّهم، وويل لهم ماذا يلقون به الله!؟ وأُفٍّ لهم يوم ينادون بالويل والثبور في نار جهنّم!

وقال أبو مخنف: أمر الحسين عليه السلام في اليوم التاسع من المحرّم بفسطاط فضُرب، ثمّ أمر بمسكٍ فميث في جفنة عظيمة، فأطلى بالنورة، وعبدالرحمن بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 382

عبد ربّه، وبرير على باب الفسطاط تختلف مناكبهما، فازدحما أيّهما يُطلي على أثر الحسين عليه السلام، فجعل بُرير يُهازل عبدالرحمن ويضاحكه.

فقال عبدالرحمن: دعنا، فواللّه ما هذه ساعة باطل!

فقال بُرير: والله، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شاباً ولاكهلًا، ولكنّي والله لمستبشرٌ بما نحن لاقون، واللّه إنَّ بيننا وبين الحور العين إلّا أن نحمل على هؤلاء فيميلون علينا بأسيافهم، ولوددتُ أن مالوا بها الساعة! «1»

: عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض): ..... ص : 382

وورد إسمه في زيارة الناحية المقدّسة والزيارة الرجبية هكذا: عابس بن شبيب الشاكريّ. «2»

«كان عابس من رجال الشيعة، رئيساً شجاعاً خطيباً ناسكاً متهجّداً، وكانت بنو شاكر من المخلصين بولاء أميرالمؤمنين عليه السلام، وفيهم يقول عليه السلام يوم صفين: لو تمّت عدّتهم ألفاً لعُبد اللّه حقّ عبادته! وكانوا من شجعان العرب وحماتهم، وكانوا يُلقّبون فتيان الصباح.». «3»

ولمّا كتب مسلمٌ عليه السلام إلى الإمام عليه السلام من الكوفة يطلب إليه التعجيل بالقدوم، أرسل كتابه مع عابس (رض) وصحبه شوذب مولاه (رض)، ثمّ بقيا مع الإمام عليه السلام في مكّة، وصحباه في مسيره الى كربلاء، واستشهدا بين يديه. وروى أبو مخنف أنه لما التحم القتال في يوم عاشوراء، وقُتل بعض أصحاب الحسين

عليه السلام جاء عابس الشاكري ومعه شوذب.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 383

فقال لشوذب: «يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع؟

قال: ما أصنع!؟ أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله حتّى أُقتل!

فقال: ذلك الظنّ بك، أمّا الآن فتقدّم بين يدي أبي عبداللّه حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتّى أحتسبك أنا، فإنّه لو كان معي الساعة أحدٌ أنا أولى به منّي بك لسرّني أن يتقدّم بين يدي حتى أحتسبه، فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكلّ ما نقدر عليه، فإنه لاعمل بعد اليوم، وإنّما هو الحساب!». «1»

ولمّا تقدّم عابس (رض) إلى الإمام عليه السلام يستأذنه في القتال قال: «يا أبا عبداللّه، أما واللّه ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولابعيد أعزّ عليَّ ولا أحبّ إليَّ منك، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشي ء أعزّ عليَّ من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبداللّه، أشهد أنيّ على هداك وهدى أبيك. ثمّ مشى بالسيف مصلتاً نحو القوم وبه ضربة على جبينه». «2»

وروى أبومخنف عن ربيع بن تميم الهمداني أنه قال: «لمّا رأيتُ عابساً مقبلًا عرفته، وكنت قد شاهدته في المغازي والحروب وكان أشجع النّاس فصحت: أيها الناس، هذا أسدُ الأُسود! هذا ابن أبي شبيب! لايخرجنّ إليه أحدٌ منكم!. فأخذ عابس ينادي: ألا رجلٌ لرجل!؟

فقال عمر بن سعد: إرضخوه بالحجارة!، قال: فرمي بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره! ثمّ شدَّ على الناس، فوالله لرأيته يكردُ «3» أكثر من مائتين من الناس! ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب فقُتل. قال: فرأيت رأسه في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 384

أيدي رجال ذوي عدّة! هذا يقول أنا قتلته،

وهذا يقول أنا قتلته! فأتوا عمر بن سعد فقال: لاتختصموا، هذا لم يقتله سنان واحد! ففرّق بينهم.». «1»

: شوذب بن عبداللّه الهمداني الشاكري (رض): ..... ص : 384

وهو مولى لشاكر، «2» «وكان شوذب من رجال الشيعة ووجوهها، ومن الفرسان المعدودين، وكان حافظاًللحديث حاملًا له عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال صاحب الحدائق الوردية:

وكان شوذب يجلس للشيعة فيأتونه للحديث وكان متقدّماً في الشيعة (وجهاً فيهم).». «3»

وقد صحب شوذب عابس بن أبي شبيب الشاكري مولاه من الكوفة إلى مكّة بعد قدوم مسلم الكوفة بكتاب لمسلم ووفادة على الحسين عليه السلام عن أهل الكوفة، وبقي معه حتى جاء إلى كربلاء، «4» ولمّا التحم القتال حارب أوّلًا، ثم دعاه عابس، فاستخبره عمّا في نفسه، فأجاب بحقيقتها- كما مرَّ- فتقدّم الى القتال، وقاتل قتال الأبطال، ثمّ قُتل رضوان الله تعالى عليه. «5»

: قيس بن مسهّر الصيداوي (رض): ..... ص : 384

هو قيس بن مُسَهَّر بن خالد بن جندب ...

بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، الأسدي الصيداوي، وصيدا بطنٌ من أسد، كان قيس رجلًا شريفاً في بني الصيدا شجاعاً مخلصاً في محبّة أهل البيت عليهم السلام،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 385

وكان رسول أهل الكوفة مع الأرحبي والسلولي الى الإمام عليه السلام في مكّة في الدفعة الثانية من رسائلهم إليه، وقد فصّلنا القول في قصته وترجمته في الفصل الأوّل. «1»

: عبدالرحمن بن عبدالله الأرحبي (رض): ..... ص : 385

هو عبدالرحمن بن عبدالله بن الكدن بن أرحب ... وبنو أرحب بطنٌ من همدان، كان عبدالرحمن وجهاً تابعياً شجاعاً مقداماً.

قال أهل السير: أوفده أهل الكوفة إلى الحسين عليه السلام في مكّة مع قيس بن مسهّر ومعهما كتب نحو من ثلاث وخمسين صحيفة .. وكانت وفادته ثانية الوفادات، فإنّ وفادة عبدالله بن سبع وعبدالله بن والٍ الأولى، ووفادة قيس وعبدالرحمن الثانية، ووفادة سعيد بن عبدالله الحنفي وهاني بن هاني السبعي الثالثة، وقال أبومخنف: ولمّا دعا الحسين مسلماً وسرّحه قبله إلى الكوفة سرّح معه قيساً وعبدالرحمن وعمارة بن عبيد السلولي، وكان من جملة الوفود، ثمَّ عاد عبدالرحمن إليه فكان من جملة أصحابه. «2»

وقال المامقاني: «وهو أحد النفر الذين وجههم الحسين عليه السلام مع مسلم، فلمّا خذلوا أهل الكوفة وقُتل مسلم ردَّ عبدالرحمن هذا إلى الحسين عليه السلام من الكوفة ولازمه حتى نال شرفي الشهادة وتسليم الإمام عليه السلام في زيارتي الناحية المقدّسة والرجبية رضوان الله عليه.». «3»

وعلى هذا يكون لعبدالرحمن الأرحبي (رض) إلتحاقان بالإمام عليه السلام، الأوّل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 386

في مكّة، والثاني بعد خروجه عليه السلام من مكّة، لأنّ مقتل مسلم عليه السلام كان عند أوائل خروج الإمام عليه السلام منها الى العراق.

«حتى إذا كان اليوم العاشر،

ورأى الحال، استأذن في القتال، فأذن له الحسين عليه السلام، فتقدّم يضرب بسيفه في القوم وهو يقول:

صبراً على الأسياف والأسنّه صبراً عليها لدخول الجنّه

ولم يزل يُقاتل حتى قُتل رضوان الله عليه.». «1»

وقد ورد في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على عبدالرحمن بن عبدالله بن الكدر الأرحبي.»، «2» أما في الزيارة الرجبية فقد ورد السلام هكذا: «السلام على عبدالرحمن بن عبدالله الأزدي.»، «3» والظاهر إتحادهما لأنه ليس في شهداء الطفّ إلّا رجل واحدٌ اسمه عبدالرحمن بن عبدالله. فتأمل.

هذا وقد تفرّد الشيخ المفيد (ره) في ذكر أنّ الذين بعثهم أهل الكوفة الى الإمام الحسين عليه السلام في ثاني وفادة هم: قيس بن مسهّر الصيداوي، وعبدالله وعبدالرحمن ابنا شدّاد الأرحبي، (بدلًا من عبدالرحمن بن عبدالله الأرحبي)، وعمارة بن عبدالله السلولي، كما قال الشيخ المفيد (ره) إنّ الإمام عليه السلام دعا مسلماً عليه السلام فسرّحه إلى الكوفه مع هؤلاء أيضاً. «4»

وهو خلاف ما ورد في سائر التواريخ وخلاف الوارد في زيارتي الناحية والرجبية.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 387

: الحجّاج بن مسروق الجعفي (رض): ..... ص : 387

وهو الحجّاج بن مسروق بن جعف بن سعد العشيرة المذحجي الجعفي، وكان الحجّاج من الشيعة، صحب أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة، ولمّا خرج الحسين عليه السلام الى مكّة خرج من الكوفة الى مكّة لملاقاته، فصحبه وكان مؤذّناً له في أوقات الصلوات، وهو الذي أرسله الإمام عليه السلام مع يزيد بن مغفل الجعفي في منطقة قصر بني مقاتل إلى عبيد الله بن الحرّ الجعفي يدعوانه إليه عليه السلام.

وقال ابن شهراشوب وغيره: لمّا كان اليوم العاشر من المحرّم، ووقع القتال تقدّم الحجّاج بن مسروق الجعفي الى الحسين عليه السلام واستأذنه في القتال، فأذن له، ثمّ عاد إليه وهو مخضّب بدمائه، فأنشده:

فدتك نفسي هادياً مهديّا

اليوم ألقى جدّك النبيّا

ثمّ أباك ذا الندى عليّا ذاك الذي نعرفه الوصيّا

فقال له الحسين عليه السلام: نعم، وأنا ألقاهما على أثرك.

فرجع يُقاتل حتّى قُتل رضي اللّه عنه. «1»

: يزيد بن مغفل الجعفي (رض): ..... ص : 387

وهو يزيد بن مغفل بن جعف بن سعد العشيرة المذحجي الجعفي، فهو ابن عمّ الحجّاج بن مسروق (رض)، ولقد كان يزيد بن مغفل أحد الشجعان من الشيعة، ومن الشعراء المجيدين، وكان من أصحاب عليّ عليه السلام، حارب معه في صفّين، وبعثه إلى حرب الخريّت من الخوارج، فكان على ميمنة معقل بن قيس عندما قتل الخريّت.

وروى عبدالقادر البغدادي صاحب كتاب خزانة الأدب: «2» أنّه كان مع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 388

الحسين عليه السلام في مجيئه من مكّة، وأرسله مع الحجّاج الجعفي الى عبيد الله بن الحرّ الجعفي عند قصر بني مقاتل.

وقال المرزباني في معجم الشعراء: كان من التابعين، وأبوه من الصحابة. «1»

لكنّ المامقاني ذكر «أنّه أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله، وشهد القادسية في عهد عمر، وكان من أصحاب أمير المؤمنين يوم صفين، ثمّ بعثه في وقعة الخوارج تحت إمارة معقل بن قيس.». «2»

وذكر أهل المقاتل والسير أنّه لمّا التحم القتال في اليوم العاشر إستأذن يزيد بن مغفل الحسين عليه السلام في البراز فأذن له، فتقدّم وهو يقول:

أنا يزيد وأنا ابن مغفلِ وفي يميني نصل سيف منجل

أعلو به الهامات وسط القسطل عن الحسين الماجد المفضّل

ثمّ قاتل حتى قُتل. «3»

إذن فمجموع الأبرار من هذه الأمّة من أهل الكوفة الذين التحقوا بالإمام عليه السلام في مكّة- على ضوء هذه المتابعة- سبعة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

وقد ذكر الشيخ باقر شريف القرشي أنّ الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي (رض)- وهو من سكنة الكوفة- قد لازم الحسين عليه السلام وصحبه من

مكّة. «4» ولعلّ الشيخ القرشي عثر على وثيقة تأريخية تقول بذلك، أو لعلَّ هذا من سهو قلمه الشريف، لأنّ الذي عليه أهل السير أنّ أنس بن الحارث الكاهلي قد إلتحق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 389

بالإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة (في العراق)، «1» أو عند نزوله كربلاء. «2»

3)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل البصرة: ..... ص : 389
اشارة

ومن أهل البصرة كوكبة تتألّف من تسعة من أبرار هذه الأمة، كانوا قد التحقوا بالإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، وهم:

: الحجّاج بن بدر التميمي السعدي (رض): ..... ص : 389

وهو من أهل البصرة، من بني سعد بن تميم، وكان قد حمل رسالة جوابية من يزيد بن مسعود النهشلي (ره) «3» إلى الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، فلمّا وصل إلى الإمام عليه السلام بقي معه حتّى قُتل بين يديه في كربلاء. «4»

قال صاحب الحدائق: «5» قُتل مبارزة بعد الظهر، وقال غيره: قتل في الحملة الأولى قبل الظهر. «6»

: قعنب بن عمر النمري (رض): ..... ص : 389

«كان قعنب رجلًا بصرياً، من الشيعة الذين بالبصرة، جاء مع الحجّاج السعدي إلى الحسين عليه السلام، وانضمّ إليه، وقاتل في الطف

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 390

بين يديه حتّى قُتل. ذكره صاحب الحدائق. «1» وله في القائميات ذكر وسلام «2».». «3»

: يزيد بن ثبيط العبدي وإبناه عبدالله وعبيدالله (رض): ..... ص : 390

كان يزيد من الشيعة، ومن أصحاب أبي الأسْود الدؤلي، وكان شريفاً في قومه، وكان ممّن حضر المؤتمر السرّي الشيعي في بيت المرأة المؤمنة مارية بنت منقذ العبدية، التي كانت دارها مألفاً ومنتدى للشيعة في البصرة يتحدّثون فيه ويتداولون أخبار حركة الأحداث آنذاك، وقد كان ابن زياد قد بلغه عزم الإمام الحسين عليه السلام على التوجّه الى العراق، ومكاتبة أهل الكوفة له، فأمر عمّاله أن يضعوا المراصد ويأخذوا الطريق.

وقد عزم يزيد بن ثبيط (رض) على الخروج الى الإمام عليه السلام، وكان له بنون عشرة، فدعاهم إلى الخروج معه.

وقال: أيّكم يخرج معي متقدّماً؟

فانتدب له إثنان هما: عبداللّه، وعبيد اللّه.

فقال لأصحابه في بيت مارية: إني قد أزمعت على الخروج، وأنا خارج، فمن يخرج معي؟

فقالوا له: إنّا نخاف أصحاب ابن زياد!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 391

فقال: إني واللّه أن لو قد استوت أخفافها بالجُدد «1» لهان عليَّ طلب من طلبني.

ثمّ خرج وإبناه، وصحبه عامر ومولاه، وسيف بن مالك، والأدهم بن أميّة، وقوي في الطريق حتى انتهى الى الحسين عليه السلام وهو بالأبطح من مكّة، فاستراح في رحله، ثم خرج الى الإمام الحسين عليه السلام الى منزله.

وبلغ الإمام عليه السلام مجيئه، فجعل يطلبه حتى جاء إلى رحله، فقيل له: قد خرج إلى منزلك. فجلس في رحله ينتظره!

وأقبل يزيد لمّا لم يجد الإمام الحسين عليه السلام في منزله، وسمع أنه ذهب إليه راجعاً على أثره، فلمّا رأى الإمام الحسين عليه السلام في رحله

قال: «قُل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا»، السلام عليك يا ابن رسول اللّه.

ثمّ سلّم عليه، وجلس إليه وأخبره بالذي جاء له، فدعا له الإمام الحسين عليه السلام بخير، ثمّ ضمّ رحله إلى رحله، وما زال معه حتّى قُتل بين يديه في الطفّ مبارزة، وقُتل إبناه في الحملة الأولى.

وفي رثائه ورثاء ولديه يقول ولده عامر بن يزيد:

يا فَرْو قومي فاندبي خير البريّة في القبور

وابكي الشهيد بعبرة من فيض دمعٍ ذي درور

وارثِ الحسين مع التفجّع، والتأوّه، والزفير قتلوا الحرام من الأئمّة في الحرام من الشهور.

وابكي يزيدَ مُجدَّلًا وابنَيْه في حرّ الهجير

متزمّلين، دماؤهم تجري على لُبَب النحورِ

يا لهف نفسي لم تفز معهم بجنّاتٍ وحورِ «1»

: الأدهم بن أميّة العبدي (رض): ..... ص : 391

كان الأدهم من الشيعة البصريين الذين يجتمعون في بيت مارية بنت منقذ العبدية (ره)، وكان قد عزم على الخروج إلى الإمام الحسين عليه السلام في مكّة مع يزيد بن ثبيط (رض)، فصحبه، وانضمّ إلى الركب الحسيني في مكّة، ثمّ استشهد بين يدي الإمام عليه السلام يوم عاشوراء، وقيل: قُتل في الحملة الأولى مع من قُتل من أصحاب الحسين عليه السلام. «2»

وذهب النمازيّ إلى أنّ الأدهم بن أميّة (رض) كان صحابياً. «3»

: سيف بن مالك العبدي (رض): ..... ص : 391

كان سيف من الشيعة البصريين الذين كانوا يجتمعون في دار مارية بنت منقذ العبدية (ره)، فخرج مع يزيد بن ثبيط (رض) فيمن خرج معه الى الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، وانضمّ إليه وما زال معه حتى قُتل بين يديه في كربلاء مبارزة بعد صلاة الظهر. «4»

: عامر بن مسلم العبديّ ومولاه سالم (رض): ..... ص : 391

كان عامر من الشيعة في البصرة، فخرج هو ومولاه سالم مع يزيد بن ثبيط (رض) فيمن خرج معه إلى الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، وانضمّا إلى الركب الحسيني في جملة كوكبة الأبرار الذين أتوا مع يزيد بن ثبيط (رض)، ولم يفارقا الإمام عليه السلام حتى استشهدا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 393

بين يديه في كربلاء يوم عاشوراء، وقيل: قُتلا في الحملة الأولى. «1»

رضي الله عنه رضي الله عنه

هذا والحمدلله على توفيقه لانجاز هذه السطور المتواضعة من كتاب (الأيام المكية من عُمر النهضة الحسينيّة)، وأنا العبد الخاطي ء، الراجي ربه، نجم الدين بن العلامة الفقيه الشيخ محمد رضا الطبسي النجفي، عفى الله عنه وعن والديه بحرمة السادة أصحاب الكساء.

الحمد لله

الجزء الثالث

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة (الجز الثالث)

مقدمة مركز الدراسات الإسلاميّة ..... ص : 3

التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

الحمدُ للّه الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ودليلًا على نعمه وآلائه، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد: فهذا الكتاب هو الجزء الثالث المختصّ بوقائع طريق الركب الحسينيّ من مكّة المكرّمة إلى كربلاء المقدّسة، وهو المقطع الثالث من مقاطع دراستنا التأريخية التفصيلية الموسّعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة).

ولاندّعي شططاً إذا قلنا إنّ هذا الجزء- كأخويه الأوّل والثاني- قد حوى من التحقيقات والنظرات والإشارات الجديدة ما يؤهله لسدّ ثغرات كثيرة في تأريخ النهضة الحسينية المقدّسة كانت قبل ذلك مبهمة غامضة لم تتوفر الإجابة الوافية عنها.

وهنا لابدّ من أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى مؤلّف هذا الكتاب سماحة الشيخ المحقّق محمّد جواد الطبسي لما بذله من جهد كبير في إعداد مادّة هذا المقطع وإنجاز هذا البحث القيّم.

كما نتقدّم بالشكر الجزيل إلى فضيلة الأستاذ المحقّق علي الشاوي الذي تولّى العناية بهذا البحث مراجعة ونقداً وتنظيماً وتكميلًا كعنايته من قبل بالجزء الثاني، داعين له بمزيد

من الموفقيّة في ميدان التحقيق ومؤازرة المحقّقين، وفي مواصلة عنايته البالغة في خدمة الأجزاء الباقية من هذه الدراسة القيّمة.

مركز الدراسات الإسلامية

التابع لمثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 4

مقدّمة الكتاب

«الإشارات المهمّة على الطريق بين مكّة وكربلاء»

على طريق الركب الحسينيّ من مكّة المكرّمة إلى كربلاء المقدّسة هناك إشارات مهمة، ليست من نوع الإشارات التي توضع على جانبي الطريق ليستدلّ بها السائرون على معرفة الطريق، أو صحّة السير، أو مدى القرب أو البعد من الغاية المنشودة، بل هي إشارات من نوع آخر! ترتسم في آفاق «المعاني السامية» لتتحدّث عن «هويّة القاصد» على هذا الطريق لا عن «هويّة الطريق».

وطريق الركب الحسينيّ إلى كربلاء مليى ء بهذه الإشارات .. فمنها مثلًا:

الإشارة: في خروج الركب الحسينيّ من مكّة يوم التروية (الثامن من ذي الحجة)! والإشارة: في قول الإمام عليه السلام للفرزدق «لو لم أعجلْ لأُخذتُ!» وفي قوله عليه السلام لأبي هرّة الأزدي: «وطلبوا دمي فهربت!». والإشارة: في تصديقه عليه السلام لقول الفرزدق ولقول بشر بن غالب الأسدي في أنّهما خلّفا الناس في الكوفة قلوبهم مع الإمام عليه السلام وسيوفهم عليه! والإشارة: في قوله عليه السلام لعمرو بن لوذان: «يا عبداللّه، إنّه ليس يخفى عليَّ الرأي ما رأيتَ، ولكنّ اللّه لايُغلب على أمره!». والإشارة: في احتجاجه المتواصل برسائل أهل الكوفة إليه، حتى بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل عليه السلام، وفي إصراره على التوجّه إلى الكوفة حتّى بعد منع الحرّ الرياحي (رض) الإمام عليه السلام من دخول الكوفة حُرّاً! والإشارة: في قوله عليه السلام بعد إصرار آل عقيل على الطلب بثأر مسلم عليه السلام: «لاخير في العيش بعد هؤلاء!». والإشارة: في قراءته عليه السلام في منزل زبالة بيانه الذي أعلن فيه

للركب عن مقتل مسلم وهاني وعبداللّه بن يقطر (رض) وترخيصه من معه في الركب بالإنصراف عنه بلاذمام!

والإشارة: في قوله عليه السلام: «.. وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم ..». والإشارة: في قوله عليه السلام: «ليرغب المؤمن في لقاء اللّه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 5

محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً!»، والإشارة: في قوله عليه السلام: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم اللّه ... فلم يغيّر عليه بفعل ولاقول كان حقّاً على اللّه أن يُدخله مدخله ..!». والإشارة: في قوله عليه السلام لابن الحرّ الجعفي: «.. فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا بشي ء من مالك، ولم أكن بالذي أتخذ المضلّين عضدا ...».

وللقاري، الكريم أن ينعم بالتعرّف على هذه الإشارات وأخرى غيرها كثيرة بين دفتي هذا الكتاب!

لكننّي أحببت فيما تبقّى من مساحة هذه المقدّمة التأكيد مرّة أخرى على أهمّ هذه الإشارات المهمة: وهي كثرة الإمتحانات المتوالية التي كان الإمام عليه السلام يمحّص بها أتباعه!

لقد شرع الإمام عليه السلام بذلك- فضلًا عن الإخبارات الكثيرة المأثورة عن الرسول صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام حول مصرعه عليه السلام في أرض كربلاء- حين خطب النّاس في مكّة قبيل رحيله منها خطبته المعروفة بقوله: «.. كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوت بين النواويس وكربلاء ..»، بل قبل ذلك أيضاً، ثمّ لم يزل عليه السلام يواصل امتحان أتباعه- وكان قد تبع الحسين خلق كثير من المياه التي يمرّ بها لأنّهم كانوا يظنّون استقامة الأمور له عليه السلام- فكان له في كلّ منزل من منازل الطريق امتحان من

خلال إشارة أو تصريح أو تصديق لخبر مخيّب للآمال يأتي به قادم من الكوفة، حتّى إذا بلغ عليه السلام زُبالة قرأ على الركب خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني (رض) وابن يقطر (رض) وقال: «.. وقد خذلتنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام!» فتفرّق الناس عنه يميناً وشمالًا، حتّى بقي في صفوة الأنصار الذين آثروا مواساته والقتل معه على التخلّي عنه!

وقيل: إنّه عليه السلام إنّما أراد ألّا يصحبه إنسان إلّا على بصيرة! وقيل: إنه عليه السلام كره أن يسيروا معه إلّاوهم يعلمون علام يقدمون! وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! وقيل: إنّ هذه الإمتحانات من ضرورات التخطيط

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 6

الحربي، لأنه عليه السلام أراد أن يميز قوّته الحقيقية التي سيواجه بها العدوّ ويرسم خطّته القتالية على أساسها، من قوّته الظاهرية المتألّف أكثرها من «أهل الطمع والإرتياب» الذين لايصمدون ساعة الحرب والنزال! وكلّ هذه الأقوال صحيحة في نفسها ...

لكننا نرى أنّ الإمام عليه السلام كان قد واصل هذه الإمتحانات حتّى بعد ذلك، وعرّض صفوة الأنصار لاختبارات متوالية حتّى ليلة عاشوراء!

فقد خطب فيهم بذي حسم قائلًا: «إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون! وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ...». وقال في عذيب الهجانات حين أتاه خبر مقتل قيس الصيداوي (رض): «.. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدّلوا تبديلا ..».

وقال حين سمع بإسم كربلاء: «.. هاهنا محطّ رحالنا، ومسفك دمائنا، وهنا محلّ قبورنا ..». ودعاهم ليلة عاشوراء إلى الانصراف عنه قائلًا: «.. فجزاكم اللّه عنّي جميعاً خيراً، .. ألا وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي ذمام،

هذا الليل غشيكم فاتخذوه جملًا ..». هذا فضلًا عن امتحاناته لبعض الأفراد كنافع بن هلال (رض) وبشر بن عمرو الحضرمي (رض)!

من هنا، نفهم أنّ هناك غاية علياً عند الإمام عليه السلام من وراء هذه التمحيصات- فوق الغايات الحربية- وهي الوصول بهذه الصفوة المقدّسة من الأنصار ذوي البصائر والعزائم الراسخة إلى أعلى منازل الآخرة، من خلال إرتقائهم في الدرجات بعد النجاح إثر كلّ امتحان، حتّى بلغ عليه السلام بهم منزلة «سادة الشهداء»، ودرجة «.. فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولاخيراً من أصحابي ..»، ورتبة «.. عشّاق شهداء لايسبقهم من كان قبلهم، ولايلحقهم من بعدهم ..». ثمّ نزل عليهم الفيض ليلة عاشوراء بالإستحقاقات، فكشف عليه السلام عن أعينهم الغطاء، وأراهم منازلهم ودرجاتهم في الجنّة!.

وما أروع السلام الذي شرَّفتهم به زيارة الناحية المقدّسة: «السلام عليكم يا خير أنصار! السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار! بوَّأكم اللّه مُبَوَّءَ الأبرار! أشهد لقد كشف اللّه لكم الغطاء! ومهَّد لكم الوِطاء! وأجزل لكم العطاء! وكنتم عن الحقِّ غير بِطاء! وأنتم لنا فرطاء! ونحن لكم خلطاء في دار البقاء! والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.».

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 7

الفصل الأول: الركب الحسينيّ في الطريق الى العراق ..... ص : 7

اشارة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 9

الفصل الأوّل: الركب الحسينيّ في الطريق الى العراق

بعد انقضاء ما يزيد على أربعة أشهر، «1» أي حوالي مائة وخمسة وعشرين يوماً، أقام الإمام الحسين عليه السلام خلالها في مكّة المكرّمة بعد رفضه المبايعة ليزيد ابن معاوية بعد موت أبيه، بادر الامام عليه السلام الى الخروج عن مكّة بعد أن أحلَّ من إحرام عمرته، مخافة أن يُقبض عليه أو أن يُغتال في مكّة- في ظروف وملابسات غامضة أثناء مراسم الحجّ- فتُنتهك بذلك حرمة البيت الحرام، وكان الركب الحسينيّ قد تحرّك قاصداً نحو العراق

سحراً أو أوائل الصبح من اليوم الثامن من ذي الحجّة الحرام سنة ستّين للهجرة.

سبعُ فوائد تحقيقية ..... ص : 9
اشارة

1)- اختلف المؤرّخون في يوم خروج الإمام عليه السلام من مكّة المكرّمة، فذكر بعضهم أنّ خروجه عليه السلام كان في اليوم الثالث من ذي الحجة، «2» وذكر آخر أنه كان في اليوم السابع منه، «3» وقال آخر إنّ ذلك كان في اليوم العاشر منه، «4» والصحيح هو أنّ خروجه عليه السلام من مكّة كان في اليوم الثامن من ذي الحجّة، بدليل قول الإمام الحسين عليه السلام نفسه في رسالته الثانيّة إلى أهل الكوفة، إذ ورد فيها: «... وقد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 10

شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية ..»، «1» وبدليل ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في أكثر من رواية «2» أنّ الإمام الحسين عليه السلام خرج من مكّة المكرّمة يوم التروية أي اليوم الثامن من ذي الحجّة الحرام.

2)- خرج الامام عليه السلام من مكّة بجميع الأعلام «3» الذين قدموا معه إليها من المدينة المنوّرة، والذين انضموا إليه في الطريق بين المدينة ومكّة، «4» عدا مسلم بن عقيل عليه السلام الذي أرسله الامام عليه السلام إلى الكوفة قبله، وعدا سليمان بن رزين (رض) الذي أرسله الإمام عليه السلام برسالته إلى رؤساء الأخماس في البصرة وأشرافها. كما خرج الإمام عليه السلام بجميع من انضمّ إليه في مكّة من الأعلام عدا قيس بن مسهّر الصيداوي (رض)، وعبدالرحمن بن عبداللّه الأرحبي (رض)، وعمارة بن عبيداللّه السلولي، الذين بعثهم الإمام عليه السلام مع مسلم بن عقيل عليه السلام إلى الكوفة، «5» وعدا سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض) وهاني بن هاني الذين بعثهما الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة

برسالته الأولى إليهم قبل إرساله مسلماً عليه السلام إليهم. «6»

3)- لايعني خروج الركب الحسينيّ من مكّة في السحر أو في أوائل الصبح أنّ خروجه كان سرّاً لم تعلم به السلطة الأموية ولم يعلم به الناس، ذلك لأنّ الإمام عليه السلام كان قد أعلن عن موعد حركة الركب الحسينيّ وساعة خروجه في خطبته المعروفة بعبارته الشهيرة «خطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 11

جيد الفتاة»، حيث قال عليه السلام في آخرها «فمن كان باذلًا فينا مهجته، موطّناً على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا، فإنني راحلٌ مصبحاً إن شاء اللّه تعالى»، «1»

وكان الإمام عليه السلام قد خطب هذه الخطبة في عموم الناس لا في أصحابه خاصة. «2»

4)- من المعلوم تحقيقاً و ان كان المواجهة العسكرية العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام داخل مكّة أو على مشارفها لم تكن في صالح السلطة الأمويّة، وكانت السلطة الأمويّة تعلم ذلك جيّداً، الّا انهم بأمر يزيد صمموا لكى يغتالوالامام الحسين عليه السلام و ان كان معلّقاً باستار الكعبة و مع رحيل الامام الحسين عليه السلام من مكه فشلت نقشتهم كما أنّ هذه الحقيقة لم تكن لتخفى على الإمام عليه السلام، وذلك لأنّ الأمويين يعلمون ماللإمام الحسين عليه السلام من منزلة سامية وقداسة في قلوب المسلمين، فاغتيا له خفيتاً كان اولى عندهم من المواجهه فالمواجهة العسكرية معه داخل مكّة أو عند مشارفها تعني بالضرورة تأليب قلوب جماهير الحجيج عليهم، وتأييدهم للإمام عليه السلام، وانتصارهم له وانضوائهم تحت رايته، وهذا هو (تفاقم الأمر) «3» الذي يخشاه الأمويون.

فضلًا عن أنّ الملتفّين حول الإمام عليه السلام- وهو لمّا يزل في مكّة- كانوا كثيرين، بدليل أنّ الركب الحسينيّ الخارج من مكّة كان كبيراً

نسبياً.

وفضلًا عن أنّ مكّة وهي مدينة دينية مقدّسة عند الجميع، لم تكن للسلطة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 12

الأموية فيها بالفعل إلّا قوّة محدودة تكفيها لتنفيذ وضبط الأمور الإدارية والقضائية، وتنظيم حركة الحجيج، وحراسة السلطان، وحفظ الأمن الداخلي فعليه فكان يمكن لهم ان ينجّزوا اعتيال الام ولاتكفيها لمواجهة تمرّد أو انقلاب تقوم به جماعة كبيرة ذات عدّة واستعداد ان كان الاغتيال ممكن وهذا أيضاً شأن المدينة المنوّرة يومذاك- والدليل على ذلك أنّ كلَّ الإنتفاضات الكبيرة التي حصلت في المدينة المنوّرة أو في مكّة كانت السلطة الأموية قد واجهتها بجيوش استقدمتها من خارجها، او عيون قدد سوّهم فى بين الناس كما فى قضية الامام الحسين لاغتياله (ع) و هذا تختلف عن انتفاضة أهل المدينة ووقعة الحرّة الأليمة، وكما في مواجهة الأمويين لعبداللّه بن الزبير في مكّة. «1»

5)- وما قدّمناه لاينافي حقيقة أنّ الامام عليه السلام خرج من مكّة مبادراً- قبل شروع أعمال الحجّ- خوفاً من أن تغتاله السلطة الأموية في مكّة، فتنتهك بذلك حرمة البيت الحرام، ذلك لأنّ الأمويين إنْ لم يكونوا قد تمكّنوا من اختطافه أو اغتياله طيلة مدّة بقائه- الطويلة نسبياً- في مكّة بسبب احتياطات الإمام عليه السلام وحذره، وحمايته من قبل أنصاره من الهاشميين وغيرهم، «2» فإنَّ فرصة الأمويين لتنفيذ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 13

خطّتهم ستكون مؤاتية بصورة أفضل عند شروع أعمال الحجّ، وستكون احتمالات نجاحها أكبر، ذلك لأنَّ الإمام عليه السلام- على فرض بقائه في مكّة- سيكون هو ومن معه وجموع الحجيج مشغولين في أعمال الحجّ وأجوائها العبادية، عُزّلًا من السلاح، وسيساعد وجود الإمام عليه السلام في زحام الحجيج كثيراً على تنفيذ ما أرادته السلطة الأموية به من سوءٍ وشرّ، ولذا بادر عليه السلام إلى الخروج من

مكّة يوم التروية. «1»

6)- فإذا علمنا من كلّ ما مضى أنّ خروج الإمام عليه السلام لم يكن سرّاً، ولم يكن خوفاً من مواجهة حربية علنية مع السلطة الأمويّة في مكّة، أدركنا أنَّ هناك لعله كان سبباً آخر رئيساً كان قد دفع الإمام عليه السلام الى اختيار السحر أو أوائل الصبح في ستر الظلام موعداً للخروج، وهذا السبب لعله هو الغيرة الحسينية الهاشمية التي تأبى أن تتصفّح أنظار الناس في مكّة حرائر بيت العصمة والرسالة، والنساء الأُخريات في الركب الحسينيّ، في حال خروج الإمام عليه السلام في وضح النهار حيث تغصّ مكّة بالناس.

إنّ هذا لعله هو السبب الأقوى في مجموعة الأسباب التي دفعت الإمام عليه السلام إلى الخروج في السحر، أو في أوائل الصبح.

7)- يُستفاد من بعض كتب السير والمقاتل انّ الإمام عليه السلام كان قد اعتمر عمرة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 14

التمتع ثم عدل عنها إلى العمرة المفردة لعلمه بأنّ الظالمين سوف يصدّونه عن إتمام حجّه. «1»

والصحيح تحقيقاً هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد دخل في إحرام العمرة المفردة ابتداءً، أي لم يكن أحرم لعمرة التمتع ثمّ عدل عنها الى العمرة المفردة.

وقد تبنّى هذا القول من الفقهاء السيّد محسن الحكيم قدس سره، والسيّد الخوئي قدس سره، والسيّد السبزواري قدس سره، وآخرون غيرهم. «2»

يقول السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: «.. وأمّا ما في بعض كتب المقاتل من أنّه عليه السلام جعل عمرته عمرة مفردة، ممّا يظهر منه أنها كانت عمرة تمتّع وعدل بها إلى الإفراد، فليس ممّا يصحّ التعويل عليه في مقابل الأخبار المذكورة التي رواها أهل البيت عليهم السلام». «3»

ويقول الشيخ محمد رضا الطبسي قدس سره: «المشهور بين الأصحاب رضوان اللّه عليهم أنّ

من دخل مكّة بعمرة التمتع في أشهر الحجّ لم يجز له أن يجعلها مفردة، ولا أن يخرج من مكّة حتى يأتي بالحجّ لأنها مرتّبة (مرتبطة) بالحجّ، نعم عن ابن إدريس القول بعدم الحرمة وأنّه مكروه، وفيه أنه مردود بالأخبار.». «4»

«كما يضعّف أيضاً القول بوقوع التبديل الى العمرة المفردة هو أنّه لو كان لأجل الصدّ ومنع الظالم فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدي، كما أشار

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 15

إليه الشهيد الأوّل في الدروس، «1» والشهيد الثاني في المسالك. «2»». «3»

ولم يَرد في خبر أو أثرٍ أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد أحلّ من إحرام عمرته بالهدي.

لماذا توجّه الإمام الحسين عليه السلام الى العراق؟ ..... ص : 15
اشارة

إنّ أفضل من يجيب عن هذا السؤال هو الإمام الحسين نفسه عليه السلام، ويمكننا هنا التعرّف على أبعاد هذا الجواب، وتحديد العوامل التي دفعت الإمام عليه السلام إلى اختيار العراق لاغيره من البلدان، من خلال تتبع واستقصاء جميع ما اثِر من تصريحات الإمام عليه السلام في هذا الصدد، منذ إعلانه عن قيامه المقدّس في رفض البيعة ليزيد بعد موت معاوية أمام الوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك، حتى أواخر ساعات حياته في كربلاء في احتجاجاته على أعدائه قُبيل نشوب القتال يوم عاشوراء.

وعلى ضوء تصنيف تصريحاته عليه السلام على أساس نوع الإشارة فيها يمكننا تحديد العوامل التي دفعت الإمام عليه السلام إلى هذا الأمر، وهذه العوامل هي:

1)- العراق مهد التشيّع ومركز معارضة الحكم الأموي ..... ص : 15

في إجابته عليه السلام عن سؤال عبداللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة «4» بالأبواء- بين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 16

المدينة ومكّة-: أين تريدُ يا ابن فاطمة؟

قال الإمام عليه السلام: العراق وشيعتي!. «1»

وفي محاورة بينه وبين عبداللّه بن عباس قال ابن عبّاس (رض): فإنْ كنت على حال لابدّ أن تشخص فَصِر إلى اليمن فإنَّ بها حصوناً لك، وشيعة لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس!

فقال الإمام عليه السلام: لابدّ من العراق!. «2»

هذان النصّان- ونظائرهما- يكشفان بوضوح عن أهميّة العراق بذاته عند الإمام عليه السلام بمعزلٍ عن أثر رسائل أهل الكوفة التي وصلت إلى الإمام عليه السلام في مكّة بعد موت معاوية، وأهميّة العراق بذاته عند الإمام عليه السلام من الحقائق التأريخية التي لاتحتاج لإثباتها إلى الإستشهاد عليها بنصّ.

فلقد كانت الكوفة «مهداً للشيعة، وموطناً من مواطن العلويين، وقد أعلنت إخلاصها لأهل البيت في كثير من المواقف ... و قد خاض الكوفيون حرب الجمل و صفين مع الامام، وكانوا يقولون له: «سِر بنا يا أميرالمؤمنين حيث

أحببت، فنحن حزبك وأنصارك، نُعادي من عاداك، ونشايع من أناب إليك وأطاعك»، «3» وكان الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يُثني عليهم ثناء عاطراً، فيرى أنّهم أنصاره وأعوانه المخلصون له، يقول لهم: «ياأهل الكوفة، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 17

الحقّ، ومجيبيَّ إلى جهاد المحلّين، بكم أضرب المدبر، وأرجو إتمام طاعة المُقبل»، «1» ويقول عليه السلام: «الكوفة كنز الإيمان، وجمجمة الإسلام، وسيف اللّه ورمحه، يضعه حيث يشاء. «2»».». «3»

وكانت الكوفة بعد أميرالمؤمنين عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام المقرّ الرئيسي لمعارضة الحكم الأموي، وكان الكوفيون يتمنّون زوال الحكم الأموي، «ومما زاد في نقمة الكوفيين على الأمويين أنّ معاوية ولّى عليهم شُذّاذ الآفاق كالمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، فأشاعوا فيها الظلم والجور، وأخرجوهم من الدعة والإستقرار، وبالغوا في حرمانهم الإقتصادي، واتبعّوا فيهم سياسة التجويع والحرمان ... وظلّت الكوفة مركزاً للمؤامرات على حكم الأمويين، ولم يُثنهم عن ذلك ما عانوه من التعذيب والقتل والبطش على أيدي الولاة.». «4»

وكان الشيعة في العراق- بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام- على اتصال بالإمام الحسين عليه السلام من خلال المكاتبات واللقاءات، ونكتفي للدلالة على ذلك بهذين النصّين:

أ)- نقل الشيخ المفيد (ره) عن الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السير أنهم قالوا: «لمّا مات الحسن عليه السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا الى الحسين عليه السلام في خلع معاوية، والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لايجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك.». «5»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 18

ب)- روى البلاذري عن العتبي أنّ الوليد بن عتبة حجب أهل العراق عن الإمام الحسين عليه السلام (أي منعهم من اللقاء به، وهذا يعني أنّهم كانوا يأتون لملاقاته في

المدينة المنوّرة، وبصورة ملفتة ومثيرة لانتباه السلطة)، فقال الحسين عليه السلام:

«يا ظالماً لنفسه، عاصياً لربّه، علام تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمّك!؟». «1»

2)- العراق أرض المصرع المختار!؟ ..... ص : 18

لمّا عزم الإمام عليه السلام على الخروج من المدينة أتته أمّ سلمة (رض) فقالت: يا بُني لاتحزنّي بخروجك الى العراق، فإني سمعت جدّك يقول: يُقتل ولدي الحسين عليه السلام بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلاء!

فقال لها: «يا أمّاه، وأنا واللّه أعلم ذلك، وأنّي مقتول لامحالة، وليس لي من هذا بدٌّ، وإنّي واللّه لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وإنّي أعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإنْ أردتِ يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي!». «2»

وفي رواية أخرى أنّه عليه السلام قال لها (رض):

«واللّه إني مقتول كذلك، وإنْ لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً ..».»

«وقد روي بأسانيد أنه لمّا منعه عليه السلام محمّد بن الحنفية عن الخروج إلى الكوفة قال: واللّه يا أخي، لو كنت في جُحر هامّة من هوامِّ الأرض، لاستخرجوني منه حتّى

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 19

يقتلوني.». «1»

وفي رواية أنه عليه السلام قال لابن الزبير: لئن أُدفن بشاطي ء الفرات أحبُّ إلىَّ من أن أُدفن بفناء الكعبة. «2»

أو قوله عليه السلام: ولئن أُقتل بالطفِّ أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بالحرم. «3»

هذه النصوص- ونظائرها- تكشف لنا أنّ الإمام عليه السلام منذ البدء كان قد اختار العراق أرضاً لمصرعه!

وسرُّ ذلك هو أنّ الإمام عليه السلام بعد أن اختار موقفه المبدئي برفض البيعة ليزيد وبالقيام كان يعلم منذ البدء أنه مقتول لامحالة، خرج الى العراق أولم يخرج، فكان «من الحكمة أن يختار الإمام عليه السلام لمصرعه أفضل الظروف الزمانية والمكانية والنفسية والإجتماعية المساعدة على

كشف مظلوميته وفضح أعدائه، ونشر أهدافه، وأن يتحرّك باتجاه تحقيق ذلك ما وسعته القدرة على التحرّك. وبما أنّ الإمام عليه السلام كان يعلم منذ البدء أيضاً أنّ أهل الكوفة لايفون له بشي ء من عهدهم وبيعتهم وأنهم سوف يقتلونه: «هذه كتب أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلّا قاتليَّ ...»، «4»

إذن فهو عليه السلام- بمنطق الشهيد الفاتح- كان يريد العراق، ويصرُّ على التوجّه إليه لأنه أفضل أرض للمصرع المختار، ذلك لما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثر بالحدث العظيم «واقعة عاشوراء» والتغير نتيجة لها، وذلك لأنّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ إقليم اسلامي آخر، ولأنّ العراق لم ينغلق إعلامياً ونفسياً لصالح الأمويين كما هو الشام، بل لعلّ العكس هو الصحيح. وهذه الحقيقة أكّدتها الوقائع التي تلت واقعة عاشوراء، وأثبتت أيضاً صحة هذا المنطلق، ولعلّ هذا هو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 20

السرّ المستودع في قوله عليه السلام لمّا سأله ابن عيّاش: اين تريد يا ابن فاطمة؟

حيث أجاب عليه السلام: العراق وشيعتي! «1»

وقوله عليه السلام لابن عبّاس: لابدّ من العراق! «2»

». «3»

3)- رسائل أهل الكوفة بعد موت معاوية ..... ص : 20
اشارة

ما إنْ علم أهل الكوفة بموت معاوية بن أبي سفيان، وبأنّ الإمام الحسين عليه السلام قد رفض البيعة ليزيد، وقد خرج من المدينة وأقام في مكّة، حتّى تقاطرت إليه رسلهم ورسائلهم، يدعونه إليهم، مظهرين استعدادهم لنصرته والقيام معه، حتى إنه اجتمع عنده في نُوَبٍ متفرّقة إثنا عشر ألف كتاب، «4» ووردت إليه قائمة فيها مائة وأربعون ألف إسم يُعربون عن نصرتهم له حال ما يصل إلى الكوفة، «5» وكان سفيره إليهم مسلم بن عقيل عليه السلام قد كتب الى الإمام عليه السلام- بعد وصوله الكوفة وأخذه البيعة له منهم- قائلًا: «أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله،

وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلّهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولاهوىً، والسلام.»، «6» وكان أهل الكوفة في آخر وفاداتهم إلى الإمام عليه السلام في مكّة قد كتبوا إليه يقولون: «أمّا بعدُ، فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل يا ابن رسول اللّه، فقد اخضرّت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 21

الجنّات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فاقدم علينا إذا شئت، فانّما تقدم على جند مجنّدة لك.»، «1» وكتبوا إليه: «إنّا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فاقدم إلينا فنحن في مائة ألف!». «2»

لقد شكّلت رسائل أهل الكوفة حجّة على الإمام عليه السلام في وجوب الإستجابة لهم، وقد كان الإمام عليه السلام قد علّق عزمه في التوجّه إلى الكوفة على التقرير الميداني لمسلم بن عقيل عليه السلام عن حال أهل الكوفة، وقد صرّح عليه السلام لأهل الكوفة في رسالته الأولى إليهم بذلك حيث قال:

«.. فإنْ كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأتُ في كتبكم، فإني اقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللّه ...». «3»

وعلى ضوء رسالة مسلم عليه السلام عقد الإمام الحسين عليه السلام عزمه على التوجّه الى الكوفة محتجّاً برسائلهم إليه، واحتجاجاته عليه السلام برسائل أهل الكوفة إليه كثيرة، نقلتها إلينا كتب التأريخ، منها- على سبيل المثال لا الحصر- جوابه عليه السلام لعبد اللّه بن مطيع وكان قد سأله عمّا أخرجه عن حرم اللّه وحرم جدّه صلى الله عليه و آله حيث قال عليه السلام:

«إنّ أهل الكوفة كتبوا إلىَّ يسألونني أن أقدم عليهم ...». «4»

وقوله عليه السلام لعبداللّه بن عمر-

وكان قد نهاه عن التوجّه الى أهل العراق- «هذه كتبهم وبيعتهم!». «5»

وقوله عليه السلام ليزيد بن الرشك الذي سأله في منزل من منازل الطريق قائلًا: ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 22

أنزلك هذه البلاد الفلاة التي ليس بها أحد؟! حيث أجاب عليه السلام:

«هذه كتبُ أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلّا قاتليَّ ..!». «1»

وقوله عليه السلام للطرمّاح وقد سأله أن يلجأ إلى جبل أَجَأ: «إنَّ بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفهم ..» «2»

وفي نصٍ آخر: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الإنصراف ..». «3»

إشارة: ..... ص : 22

لاشكّ أنّ حجّة أهل الكوفة على الإمام عليه السلام- برسائلهم إليه وببيعتهم- كانت قد انتفت عملياً وانتهت تماماً بعد انقلابهم على مسلم بن عقيل عليه السلام وخذلانهم إياه، فلماذا لم يُعرض الإمام عليه السلام عن التوجّه إلى العراق، بل أصرَّ على التوجّه إليهم، وواصل الإحتجاج عليهم برسائلهم وببيعتهم؟

وفي معرض الإجابة عن هذا التساؤل قد يُقال إنّ مسلم بن عقيل عليه السلام في مستوى تاثيره على أهل الكوفة ليس كالإمام عليه السلام في مستوى تأثيره لو دخل الكوفة وكان بين ظهراني أهلها، إذ إنّ المأمول والمتوقّع أنهم سيلتفّون حول الإمام عليه السلام ويسارعون الى نصرته، وهذا التصوّر كان قد أشار إليه بعض أصحاب الإمام عليه السلام حين قال له: «إنّك واللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع ..»، «4» ولذا واصل الإمام عليه السلام الإصرار على التوجّه إلى الكوفة حتى بعد مقتل مسلم عليه السلام!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 23

لكنّ التأريخ يثبت أنّ الإمام عليه السلام لم يعتمد هذا النظر ولم يتحرّك على أساسه لعلمه عليه السلام بما سيؤول إليه موقف أهل الكوفة من

قبل ذلك (لإعتقادنا الحقّ بأنّ الأئمة عليهم السلام يعلمون بما كان وبما سيكون الى قيام الساعة)، ودلائل تأريخية عديدة أيضاً تؤكّد أنه عليه السلام كان يعلم منذ البدء أنّ أهل الكوفة سوف يخذلونه ويقتلونه، «1» ولأنّ أنباء الكوفة بعد مقتل مسلم عليه السلام تدافعت إلى الإمام عليه السلام بسرعة مؤكّدة على أنّ أهل الكوفة- إلّا من رحم اللّه- قد أصبحوا إلباً على الإمام عليه السلام بعد أن عبّأهم ابن زياد لقتاله.

فلا يبقى إذن إلّا أن نقول: «إنّ الإمام عليه السلام واصل التزامه بالوفاء بهذا الموعد والقول، واصرَّ على التوجّه الى الكوفة لا لأنّ لأهل الكوفة حجّة باقية عليه في الواقع، بل لأنّه لم يشأ أن يدع أيّ مجال لإمكان القول بأنّه لم يفِ تماماً بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجّه الى الكوفة في بعض مراحل الطريق، حتّى بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها، ذلك لأنّ الإمام عليه السلام مع تمام حجّته البالغة على أهل الكوفة أراد في المقابل بلوغ تمام العذر وعلى أكمل وجه فيما قد يُتصوَّر أنّ لهم حجّة باقية عليه، بحيث لايبقى مجال للطعن في وفائه بالعهد.». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 24

4)- تنفيذ أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ..... ص : 24

وفي مجموعة نصوص تصريحات الإمام الحسين عليه السلام بصدد علّة اختياره التوجّه الى العراق لا إلى غيره هناك فئة من هذه النصوص يصرّح فيها الإمام عليه السلام بأنه إنما يخرج الى العراق بالذات امتثالًا لأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

وقد تلقّى الإمام الحسين عليه السلام أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن طريق (الرؤيا)، التي تكررّت غير مرّة، وهي رؤيا حقّة لأنَّ الرائي إمام معصوم عليه السلام، لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، ولأنَّ

المرئيَّ هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله، والثابت في الأثر أنّ من رآه في المنام فقد رآه. «1»

وكان بدء هذه الرؤيا الحقّة في المدينة المنوّرة بعدما أعلن الإمام عليه السلام رفضه مبايعة يزيد بعد موت معاوية أمام الوليد بن عتبة والي المدينة يومذاك، تقول الرواية:

«فلمّا كانت الليلة الثانية خرج الى القبر أيضاً، فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول:

«اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمد، وأنا ابن بنت محمّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، أللّهمَّ وإنّي أُحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه إلّا ما اخترت من أمري هذا ماهو لك رضى.

ثمّ جعل الحسين عليه السلام يبكي، حتى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة، فرأى النبيّ صلى الله عليه و آله قد أقبل في كبكبة من الملائكة عن يمينه وشماله ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى ضمَّ الحسين عليه السلام إلى صدره، وقبّل بين عينيه، وقال صلى الله عليه و آله:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 25

يا بنيّ يا حسين، كأنّك عن قريب أراك مقتولًا مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابة من أمّتي، وأنت في ذلك عطشان لاتُسقى وظمآن لاتُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي!، ما لهم لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة، فما لهم عند اللّه من خلاق.

حبيبي يا حسين، إنّ أباك وأمّك وأخاك قد قدموا عليَّ، وهم إليك مشتاقون، وإنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلّا بالشهادة!

فجعل الحسين عليه السلام ينظر في منامه الى جدّه صلى الله عليه و آله ويسمع كلامه، وهو يقول:

يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع الى الدنيا أبداً، فخذني إليك واجعلني معك إلى

منزلك!

فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله:

يا حسين، إنه لابدّ لك من الرجوع الى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما كتب اللّه لك فيها من الثواب العظيم، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنّة.». «1»

وقد أشار الإمام عليه السلام إلى هذا الأمر أيضاً في آخر لقاء له مع أخيه محمد بن الحنفية (رض) في مكّة المكرّمة في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، تقول الرواية: «سار محمّد بن الحنفية الى الحسين عليه السلام في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنَّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإنْ رأيت أن تقيم فإنّك أعزُّ من في الحرم وأمنعه!

فقال عليه السلام: يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 26

فقال له ابن الحنفيّة: فإن خفت فَسِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البرّ، فإنك أمنع الناس به ولايقدر عليك أحد.

فقال عليه السلام: أنظر فيما قُلتَ.

ولمّا كان السحر ارتحل الحسين عليه السلام، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخيّ، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟

قال عليه السلام: بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلًا!؟

فقال عليه السلام: أتاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعدما فارقتك، فقال: يا حسين، أخرج فإنّ اللّه قد شاء أن يراك قتيلا!.

فقال له ابن الحنفيّة: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟!

فقال له عليه السلام: قد قال لي: إنّ اللّه قد شاء

أن يراهنّ سبايا! وسلّم عليه ومضى.». «1»

كما أشار الإمام عليه السلام أيضاً الى أمر هذه الرؤيا بعد خروجه عن مكّة، في ردّه على عبداللّه بن جعفر (رض) ويحيى بن سعيد حينما ألحّا عليه بالرجوع وجهدا في ذلك، حيث قال عليه السلام لهما: «إنّي رأيتُ رؤيا فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، عليَّ كان أو لي!»، ولما سألاه: فما تلك الرؤيا؟

قال عليه السلام: «ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربّي!». «2»

ويستفاد من هذا الخبر أنّ هذه الرؤيا التي أخبر الإمام عليه السلام عنها عبداللّه بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 27

جعفر (رض) ويحيى بن سعيد هي غير الرؤيا التي رآها في المدينة وغير الرؤيا التي أخبر عنها أخاه محمّد بن الحنفيّة (رض)، بدليل أنه عليه السلام امتنع عن ذكر تفاصيلها، وذكر أنه لم يحدّث بها أحداً ولايحدّث بها.

ولايخفى أنّ الأخيرتين من هذه الرؤى الثلاث صريحتان في أنّ أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان متعلّقاً بالتوجّه إلى العراق لابأصل الخروج فقط، ذلك لأنّ الإمام عليه السلام ذكر أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله في ردّه على كلّ من محمّد بن الحنفيّة (رض) وعبداللّه بن جعفر (رض) ويحيى بن سعيد الذين نهوه عن التوجه الى العراق.

هلع السلطة الأموية من خبر خروج الإمام عليه السلام! ..... ص : 27

روى ابن قتيبة الدينوري أنّ عمرو بن سعيد بن العاص والي مكّة حينما بلغه خبر خروج الإمام الحسين عليه السلام عن مكّة المكرّمة قال: «إركبوا كُلَّ بعير بين السماء والأرض فاطلبوه!»، فكان الناس يعجبون من قوله هذا، فطلبوه فلم يُدركوه! «1»

ومع أنّ لنا تحفّظاً على هذا الخبر من جهة أنّ الثابت تأريخياً أنَّ الإمام عليه السلام لم يخرج

عن مكّة سرّاً وإنْ كان خروجه في السحر أو في أوائل الصباح، إذ كان الامام عليه السلام قد خطب الناس في مكّة ليلة الثامن من ذي الحجة خطبته الشهيرة التي قال فيها:

«من كان باذلًا فينا مهجته، وموطّناً على لقاء اللّه نفسه، فليرحل معنا، فإنني راحلٌ مصبحاً إن شاء اللّه تعالى». «2»

وعلى هذا فإنّ خبر موعد خروجه عليه السلام كان قد انتشر بين الناس في مكّة قبل خروجه، أي في ذات الليلة التي خرج في أواخرها أو في أوائل صباحها، ومن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 28

الطبيعي ان تكون السلطة الأموية في مكّة قد علمت بهذا الموعد كما علم الناس في مكّة على الأقل من خلال جواسيسها وعيونها.

ومن جهة أخرى فإنّ الركب الحسينيّ الخارج عن مكّة- وكان كبيراً نسبياً أوائل الخروج- لايمكن أن يبعد كثيراً عن مكة فيختفي بهذه السرعة وفي تلك الفاصلة الزمنيّة القصيرة عن الأنظار حتى يُطلب فلايُدرك!

هذا مع أنّ المشهور تأريخياً أنّ رُسل عمرو بن سعيد ورجال شرطته قد أدركوا الركب الحسينيّ في أوائل طريقه نحو العراق!

غير أنَّ الأمر المهمّ الذي يكشف عنه هذا الخبر هو الهلع الكبير والذعر البالغ اللذان انتابا السلطة الأموية لخروج الإمام عليه السلام بالفعل، حتى كأنَّ والي مكّة آنذاك أراد أن يُعبّي ء كلّ واسطة بين السماء والأرض ويسخّرها لمنع الإمام عليه السلام من الخروج عن مكّة!

لقد عظم خروج الإمام عليه السلام عن مكّة على السلطة الأموية لأنّ هذا الخروج كان معناه انفلات الثورة الحسينيّة من طوق الحصار الذي سعت السلطة الأموية إلى تطويقها به في المدينة المنوّرة ففشلت، ثمّ جهدت في سبيل ذلك في مكّة أيضاً، طمعاً في القضاء على هذه الثورة في مهدها قبل انفلاتها من ذلك الحصار، من خلال القضاء

على قائدها بإلقاء القبض عليه أو اغتياله أو قتله بالسمّ في ظروف مفتعلة غامضة تستطيع السلطة الأموية أن تِلقي فيها بالتهمة على غيرها، وتغطّي على جريمتها بألف ادّعاء، وقد تطالب هي بدمه بعد ذلك فتضللّ الأمّة وتظهر للناس بمظهر الآخذ بثأر الإمام عليه السلام، فتبقى مأساة الإسلام على ما هي عليه، بل تترسّخ المصيبة وتشتدّ!

إذن فخروج الإمام عليه السلام عن مكّة المكرّمة في ذلك التوقيت المدروس كما فوّت على السلطة الأموية الفرصة للتخلّص من الإمام عليه السلام بطريقة تختارها هي، وتتمكن من الإستفادة منها إعلامياً لتضليل الأمّة، كذلك فقد فوّت عليها فرصة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 29

تطويق الثورة ومحاصرتها وخنقها، إذ كان «خروجه عليه السلام من المدينة- وكذلك من مكة- في الأصل انفلاتاً بالثورة المقدّسة من طوق الحصار والتعتيم الأمويّ، إضافة الى خوفه عليه السلام من أن تُهتك حرمة أحد الحرمين الشريفين بقتله». «1»

إذن فقد حقَّ لبني أميّة أن يهلعوا لخروج الإمام عليه السلام، لأنّ هذا الخروج حرمهم من أن يرسموا هم فصول المواجهة مع الإمام عليه السلام، وأن يختاروا هم الظروف الزمانية والمكانية والإعلامية لهذه المواجهة، في وقت «كان الإمام عليه السلام حريصاً على أن يتحقّق مصرعه- الذي كان لابدّ منه ما لم يبايع- في ظروف زمانية ومكانية يختارها هو عليه السلام، لايتمكّن العدوّ فيها أنْ يعتّم على مصرعه، أو أنْ يستفيد من واقعة قتله لصالحه، فتختنق الأهداف المنشودة من وراء هذا المصرع الذي أراد منه عليه السلام أن تهتزّ أعماق وجدان الأمّة لتتحرك بالإتجاه الصحيح الذي أراده عليه السلام لها.». «2»

محاولة السلطة الأموية في مكّة لإرجاع الإمام عليه السلام ..... ص : 29
اشارة

لقد سلكت السلطة الأموية المحلّية في مكّة المكرّمة من أجل إرجاع الإمام عليه السلام إلى مكّة مرّة أخرى أسلوبين، كان أحدهما أسلوباً سلمياً عرض

فيه عمرو بن سعيد الأشدق الأمان والبرّ والصلة للإمام عليه السلام في رسالة وجّهها إليه، وكان الآخر اسلوباً قمعياً وعسكرياً حيث تصدّت جماعة من رجال الشرطة الأموية للركب الحسينيّ لمنع مواصلة حركته في الخروج عن مكّة، ولايخفى أنَّ الأسلوب الأوّل أي اسلوب بذل الأمان والصلة كان قبل الأسلوب القمعي، كما هي عادة الطغاة في مواجهة مثل هذه الوقائع.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 30

دور عبداللّه بن جعفر في المحاولة السلميّة! ..... ص : 30
اشارة

تقول رواية الطبري: «وقام عبداللّه بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه وقال: أكتب إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئنّ إلى ذلك فيرجع!.

فقال عمرو بن سعيد: أكتب ماشئت وأتني به حتى أختمه. فكتب عبداللّه بن جعفر الكتاب!، ثمّ أتى به عمرو بن سعيد، فقال له: اختمه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنّه أحرى أن تطمئنّ نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك. ففعل!».

ويتابع الطبري روايته فيقول: «.. فلحقه يحيى وعبداللّه بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أنّ أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: إنّي رأيتُ رؤيا فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأُمرت فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، عليَّ كان أو لي! فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربي!

قال وكان كتاب عمرو بن سعيد الى الحسين بن عليّ عليهما السلام:

«من عمرو بن سعيد الى الحسين بن عليّ: أمّا بعدُ، فإنّي أسأل اللّه أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك! بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أعيذك باللّه من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت

إليك عبداللّه بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك اللّه عليَّ بذلك شهيد وكفيل ومُراعٍ ووكيل، والسلام عليك.

وروى الطبري أنّ الإمام عليه السلام كتب إليه:

أمّا بعد، فإنّه لم يشاقق اللّه ورسوله من دعا إلى اللّه عز وجلّ وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين، وقد دعوتَ الى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان اللّه، ولن يؤمن اللّهُ يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، نسأل اللّه مخافة في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة فإن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 31

كنت نويت بالكتاب صلتي وبريّ فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة، والسلام.». «1»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 31

مضت في الجزء الثاني من هذه الدراسة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، ترجمة موسّعة لشخصية عبداللّه بن جعفر الطيّار (رض)، ودراسة مفصّلة لموقفه من النهضة الحسينيّة، وقد استوفت تلك الدراسة الإجابة عن جميع الأسئلة التي يمكن أن تُثار حول هذه الشخصية الهاشميّة.

ومع هذا، فإنّ دخول جزء من تحرّك عبداللّه بن جعفر (رض) في إطار متابعتنا هذه يلزمنا أن نذكّر هنا- على سبيل الإختصار- ببعض النقاط المهمّة المتعلّقة بتحرّك عبداللّه بن جعفر (رض):

1)- كان عبداللّه بن جعفر (رض)- بعد أن علم بعزم الإمام عليه السلام على التوجّه إلى العراق- قد كتب رسالة إليه يناشده فيها عدم التوجّه الى العراق، وقد روى ابن أعثم الكوفي «2» أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) قد كتب هذه الرسالة من المدينة إلى الإمام عليه السلام في مكّة، أمّا الطبري فإنه قد روى أنه بعث بها الى الإمام عليه السلام بعد خروجه عن مكّة، مع ولديه محمد وعون، ونصّ الرسالة على ما في رواية الطبري:

«أما بعدُ، فإنّي أسالك باللّه لما انصرفت حين

تنظر في كتابي، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّه له أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك، إنْ هلكت اليوم طُفي ء نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين،»

فلا تعجل بالسير

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 32

فإنّي في أثر الكتاب، والسلام». «1»

ويُلاحظ أنّ متن هذه الرسالة كاشف عن أمور، منها:

أ- الأدب الجمّ الذي يتمتع به عبداللّه بن جعفر (رض) في مخاطبة الإمام عليه السلام، الكاشف عن اعتقاده بإمامة الإمام عليه السلام، خصوصاً في قوله على ما في رواية الطبري: إنْ هلكت اليومَ طُفي ء نور الأرض، فإنّك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين. أو على ما في رواية الفتوح: فإنّك إنْ قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى، وأميرالمؤمنين.

ومن هنا، فإنّ الرسالة التي بعث بها والي مكّة عمرو بن سعيد الأشدق إلى الإمام عليه السلام بعد خروجه لايمكن أن تكون من إنشاء عبداللّه بن جعفر (رض)- كما روى الطبري!- ذلك لأن هذه الرسالة حوت شيئاً إدّاً من مضامين الجسارة والجهل بمقام الإمام عليه السلام، وسوء الأدب في مخاطبته عليه السلام، كما في قوله: «أسأل اللّه أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك ... وإنّي أُعيذك باللّه من الشقاق!»، وهذا مستبعد جدّاً صدوره من إنسان مؤمن بإمامة الإمام الحسين عليه السلام، ويراه «نور الأرض» و «أميرالمؤمنين» و «روح الهدى».

بل رسالة الأشدق من إنشائه هو، وذلك: أوّلًا لأنها انعكاس تام لنظرة هذا الطاغية الأمويّ المتجبّر، وحاكية عن لسان الإعلام الأمويّ ومفرداته الضالة المضلّة، فالخروج على النظام الظالم فيها من الموبقات! ومن الشقاق! وسعي في تفريق كلمة الأمّة والجماعة! وما إلى ذلك من أسلحة إعلاميّة لمواجهة كلّ قيام للحق والعدل والإصلاح.

ومن الجدير بالذكر هنا: أنّ ابن أعثم الكوفي ذكر أنّ عمرو

بن سعيد هو الذي كتب هذه الرسالة وليس عبداللّه بن جعفر (رض)، كما ذكر أنّ حاملها إلى

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 33

الإمام عليه السلام كان يحيى بن سعيد وحده، أي لم يكن عبداللّه بن جعفر (رض) معه! «1»

كما أنّ الشيخ المفيد (ره) روى نفس قصة هذه الرسالة- كما رواها الطبري- لكنّه لم يذكر أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) هو الذي كتبها، «2» بل قال: «فكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً ...»، «3» فتأمّل!

ب- ويستفاد أيضاً من محتوى رسالة عبداللّه بن جعفر (رض) إلى الإمام عليه السلام أنّه «يشترك مع ابن عبّاس (رض) وابن الحنفيّة (رض) وغيرهم في النظرة الى قيام الإمام عليه السلام من زاوية النصر أو الإنكسار الظاهريين، هذه النظرة التي كانت منطلق مشوراتهم ونصائحهم، وخوفهم أن يُقتل الإمام عليه السلام في الوجهة التي عزم عليها، ولذا فقد كان الإمام عليه السلام يجيبهم بأنّ منطقه الذي يتحرّك على أساسه غير هذا من خلال الرؤيا التي رأى فيها جدّه صلى الله عليه و آله، وأنه مأمور بهذا النوع من التحرّك امتثالًا لأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله.». «4»

وجدير بالذكر هنا أنّ الإمام عليه السلام كان قد كتب جواباً إلى عبداللّه بن جعفر (رض) قال فيه: «أمّا بعدُ، فإنّ كتابك ورد عليَّ فقرأتهُ وفهمت ما ذكرت، وأُعلمك أنّي قد رأيت جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أو عليَّ، واللّه يا ابن عمّي لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني ويقتلوني! واللّه ليعدينّ عليّ كما عدت اليهود على السبت، والسلام.». «5»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 34

2)- يظهر من أخبار تحرّك عبداللّه بن جعفر (رض) ومن رسالته

«1» التي بعث بها الى الإمام عليه السلام «أنه كان يعتقد أو يأمل- من خلال الوساطة- أن تتحقّق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الإمام عليه السلام إذا انثنى عن القيام والخروج وإنْ لم يبايع!

ولذا فقد ردَّ الإمام عليه السلام على هذا الوهم بأنه ما لمْ يُبايعْ يُقتلْ لا محالة! ولأنه لايبايع يزيد أبداً فالنتيجة لامحالة هي: «لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني! ..»، وفي هذا ردٌّ أيضاً على تصوّر عبداللّه بن جعفر- على فرض صحة رواية الفتوح- بأنّه يستطيع أخذ الأمان من الأمويين للإمام عليه السلام ولماله وأولاده وأهله!». «2»

إذن، يتضّح لنا ممّا مرَّ أنّ دور عبداللّه بن جعفر (رض) في المحاولة السلمية لم يكن انضواءً منه تحت الراية الأمويّة، أو أنّه (رض) كان موالياً للسلطة الأمويّة وممثلًا أو مندوباً عنها، بل كلُّ ما حصل هو أنّ سعيه لتحقيق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الإمام عليه السلام كان قد توافق مع رغبة السلطة الأموية في ثني الإمام عليه السلام عن مواصلة التوجّه الى العراق، وإرجاعه مرّة أخرى إلى مكّة المكرّمة، من خلال بذل الأمان والبرّ والصلة وحسن الجوار، فكان سعي عبداللّه بن جعفر (رض) وسعي السلطة الأموية في هذا الإطار في طول واحد لاشيئاً واحداً.

ولذا نجد أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) لمّا رأى إصرار الإمام عليه السلام على مواصلة القيام والتوجّه الى العراق، أنهى سعيه لتحقيق المتاركة، وأظهر ولاءه التام للإمام عليه السلام حين أمر ولديه محمّداً وعوناً بالإلتحاق به عليه السلام، إذ كان هو معذوراً

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 35

لإصابته بالعمى على ما في بعض الآثار. «1»

ويحسنُ هنا في ختام بحثنا الموجز عن دور عبداللّه بن جعفر (رض) أن نذكر هذه

الرواية التي رواها الشيخ المفيد (ره)، والكاشفة عن تأييده (رض) لقيام الإمام عليه السلام، تقول هذه الرواية: «ودخل بعض موالي عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب عليهم السلام فنعى إليه إبنيه، فاسترجع، فقال أبوالسلاسل مولى عبداللّه: هذا مالقينا من الحسين بن عليّ!.

فحذفه عبداللّه بن جعفر بنعله، ثمّ قال: يا ابن اللخناء! أللحسين عليه السلام تقول هذا!؟ واللّه لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتّى أُقتل معه! واللّه إنّه لممّا يسخّي نفسي عنهما ويعزّي عن المصاب بهما أنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له صابرين معه.

ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمدُللّه، عزّ عليَّ مصرع الحسين، إنْ لا أكن آسيتُ حسيناً بيدي فقد آساه ولداي.». «2»

المحاولة القمعيّة: ..... ص : 35
اشارة

ولمّا يأس الأشدق من فائدة أسلوب عرض الأمان والبرّ والصلة وحسن الجوار! لجأ إلى ما تعوّد عليه من الأساليب الإرهابية القمعيّة في معالجة المشكلات التي تواجهه- وتلك سُنّة الطغاة- ظنّاً منه أنّ الأسلوب القمعي لابدّ وأنْ يثمر النتيجة المنشودة من وراءه!

روى الطبري عن عقبة بن سمعان قال: «لمّا خرج الحسين من مكّة اعترضه رُسلُ عمرو بن سعيد بن العاص، عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف، أين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 36

تذهب!؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط، ثمّ إنَّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قويّاً، ومضى الحسين عليه السلام على وجهه، فنادوه: يا حسين، ألا تتّقي اللّه! تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمّة!؟ فتأوّل حسين قول اللّه عزّ وجلّ (لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بري ء ممّا تعملون).». «1»». «2»

وتقول رواية الدينوري: «ولمّا خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد ابن العاص في جماعة من الجند، فقال: الأمير يأمرك بالإنصراف، فانصرف وإلّا منعتك!

فامتنع

عليه الحسين، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط! وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شُرَطِه يأمره بالإنصراف!». «3»

إشارة: ..... ص : 36

إنّ التدبّر في هذين النصّين يكشف بوضوح عن أنّ القوّة العسكرية الأموية لم تكن كافية لمنع الإمام عليه السلام من الخروج، ذلك لأنّ المفروض أن يستعمل عمرو الأشدق كلّ ما لديه من إمكانيّة وقوّة في مثل هكذا مواجهة تقع خارج حدود مدينة مكّة لقهر الركب الحسينيّ الكبير نسبياً حتى ذلك الوقت وإرغامه على الرجوع إلى مكّة، غير أنّ واقع الحال لم يعدُ أن تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، وكان امتناع الركب الحسينيّ (امتناعاً قويّاً)، فخاف الأشدق من تفاقم الأمر! وأمر (رُسلَه) أو (جنده) بالإنصراف خائبين، ولاشك أنّ معنى تفاقم الأمر هنا هو خوف الأشدق من انقلاب السحر على الساحر إذا طال التدافع وامتدّت المناوشة بين الفريقين وانتهى الأمر بهما إلى مواجهة حربية صريحة- لم يكن الأشدق قد استعدَّ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 37

لها تماماً- فضلًا عن خوفه من انقلاب جماهير الحجيج الواردين الى مكّة من أقطار العالم الإسلامي على السلطة الأموية وانضمامهم الى راية الإمام عليه السلام إذا سمعوا بمثل هذه المواجهة بين السلطة وبين الإمام عليه السلام عند مشارف مكّة.

هل كانت هذه المحاولة إجراءً صورياً!؟ ..... ص : 37

ومن الغريب هنا أن يتبنّى سماحة الشيخ المحقّق باقر شريف القرشي ما ذهب إليه الدكتور عبدالمنعم ماجد في كتابه «التاريخ السياسي للدولة العربية»، من أنّ المواجهة بين جند الأشدق وبين الركب الحسينيّ كانت مواجهة صورية أُريد منها إبعاد الإمام عن مكّة! والتحجير عليه في الصحراء حتى يسهل القضاء عليه!

يقول الشيخ القرشي: «ولم يبعد الإمام كثيراً عن مكّة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكّة عمرو بن سعيد لصدّ الإمام عن السفر الى العراق، وجرت بينهما مناوشات، وقد عجزت الشرطة عن المقاومة، وكان ذلك الإجراء فيما نحسب صورياً!، فقد خرج الإمام في

وضح النهار من دون أية مقاومة تذكر ... لقد كان الغرض من إرسال هذه المفرزة العسكرية إبعاد الإمام عن مكّة، والتحجيرعليه في الصحراء حتى يسهل القضاء عليه بسهولة، وأكّد ذلك الدكتور عبدالمنعم ماجد بقوله: (ويبدو لنا أنّ عامل يزيد على الحجاز لم يبذل محاولة جدّية لمنع الحسين من الخروج من مكّة الى الكوفة بسبب وجود كثير من شيعته في عمله، بل لعلّه قدّر سهولة القضاء عليه في الصحراء بعيداً عن أنصاره، بحيث أنّ بني هاشم فيما بعدُ اتهموا يزيد بأنّه هو الذي دسّ إليه الرجال حتى يخرج.).». «1»

ولعلَّ مردّ الإشتباه في هذا النظر يعود إلى الأمور التالية:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 38

1)- أنّ الدكتور ماجد ومعه الشيخ القرشي قد تصوّرا أنّ الأشدق كان يملك قوّة عسكرية كبيرة في مكّة، ولكنّه لم يرسل منها لمنع الإمام عليه السلام من الخروج إلّا (مفرزة!) من الشرطة، وقد عجزت عن مقاومة الركب الحسينيّ وهو كبير نسبياً آنذاك، الأمر الذي يكشف عن أنّ محاولة الصدّ والمنع لم تكن جادة! فتصوّرا أنّ الغرض الحقيقي من وراء هذه المحاولة هو إبعاد الإمام عليه السلام عن مكّة والتحجير عليه في الصحراء ليُقضى عليه بسهولة!.

والحقيقة- كما قلنا من قبل- أنّ كُلًّا من مكّة والمدينة المنوّرة مدينتان دينيّتان كان الوالي لايحتاج في كلّ منهما لإجراء أمور ولايته إلّا إلى قوّة محدودة من الحرس والشرطة تكفي لتنفيذ الأمور الإدارية والقضائية وحفظ الأمن الداخلي، فهما ليستا من المدن التي تشكلت للأغراض الحربية أساساً كالكوفة مثلًا، حيث تغصُّ بالجند الكثيف وبالمسالح، ولذا نرى أنّ الإنتفاضات التي شهدتها كلٌّ من مكّة والمدينة كان يُقضى عليها بجيوش تأتيها من خارجها كما في وقعة الحرّة في المدينة، ووقعة القضاء على عبداللّه بن الزبير

في مكّة.

2)- كان الإمام عليه السلام ما لم يبايع يزيد بن معاوية يُقتل لامحالة، ولو كان في جحر هامّة من هوامّ الأرض، لكنّ قتله في ظروف زمانية ومكانية وملابسات غامضة تختارها السلطة الأموية ليس كقتله في مواجهة عسكرية علنية يختار ظروفها الزمانية والمكانية الإمام عليه السلام نفسه، ذلك لأنَّ السلطة الأموية في الحالة الأولى تستطيع التعتيم على قتل الإمام عليه السلام والتغطية عليه بألف ادّعاء وادّعاء، أمّا في الحالة الثانية فسيتحقق للإمام عليه السلام استثمار مصرعه لتحقيق جميع أهدافه المنشودة من وراء قيامه المقدّس. «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 39

من هنا كان الأمويون يحرصون أشدّ الحرص على قتل الإمام عليه السلام في مكّة لا خارجاً عنها، بواسطة الإغتيال في ظروف وملابسات غامضة، وهذا هو السرُّ في قول عمرو بن سعيد الأشدق لرجاله لمّا بلغه خروج الحسين عليه السلام من مكّة: «اركبوا كلَّ بعير بين السماء والأرض فاطلبوه!»، وفي محاولته إغراء الإمام عليه السلام ببذل (الأمان الأمويّ!) «1» والصلة والبرّ وحسن الجوار! لإرجاع الإمام عليه السلام إلى مكّة، ثمّ في المحاولة القمعيّة التي لم تعدُ الإضطراب بالسياط.

فهذه المحاولة القمعية كانت محاولة جادّة لإرجاع الإمام عليه السلام إلى مكّة بالفعل، لا كما ذهب إليه الشيخ القرشي والدكتور ماجد أنها كانت إجراءً صورياً أُريد منها إبعاد الإمام عليه السلام عن مكّة!

3)- قال الشيخ القرشي: «وكان ذلك الإجراء صورياً، فقد خرج الإمام في وضح النهار من دون أيّة مقاومة تُذكر ..»، ولانعلم مصدراً تأريخياً روى أنّ الإمام عليه السلام خرج عن مكّة في وضح النهار، «2» فجلُّ المصادر التأريخية المعتبرة التي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 40

تعرّضت لساعة خروجه ذكرت أنّ خروجه عليه السلام عن مكّة كان في السحر أو في أوائل الصباح، «1»

لا في وضح النهار.

ولو فرضنا أنّ الإمام عليه السلام كان قد خرج فعلًا عن مكّة في وضح النهار، لما تعرّضت له السلطة الأموية داخل مكّة لمنعه من الخروج، لا لأنّ السلطة الأموية كانت راغبة بخروج الإمام عليه السلام، بل لِما في المواجهة معه عليه السلام داخل مكّة من خطورة انتفاضة جموع الحجيج الكثيرة جدّاً ضدّها وقد كانت مكّة تغصُّ بهم آنذاك، وهو أمرٌ كانت تتحاشاه السلطة الأموية وتخشى عواقبه.

4)- في قول الدكتور عبدالمنعم ماجد فضلًا عن الإشتباه الأصل هناك اشتباهان آخران- وقد وافقه الشيخ القرشيّ على ذلك!- وهذان الإشتباهان هما:

أ قوله: «ويبدو لنا أنَّ عامل يزيد على الحجاز لم يبذل محاولة جدّية لمنع الحسين من الخروج من مكّة الى الكوفة بسبب وجود كثير من شيعته في عمله!».

وهذه دعوى غريبة! لم نعثر على متنٍ تأريخي معتبر- حسب تتبّعنا- يؤيّدها أو يمكن أن تُستفاد منه استنتاجاً، ولانعلم من أين جاء بها هذا الكاتب، بل هناك من الدلائل التأريخية ما يشير إلى عكس هذه الدعوى، كما في قول الإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليهما السلام: «ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا!»، «2»

وقول أبي جعفر الإسكافي في هذا الصدد: «أمّا أهل مكّة فكلّهم كانوا يبغضون عليّاً قاطبة، وكانت قريش كلّها على خلافه، وكان جمهور الخلق مع بني أميّة عليه!». «3»

ولعلّ منشأ هذا الإشتباه عائد إلى الخلط بين أهل مكّة وبين الوافدين إليها من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 41

المعتمرين والحجّاج الذين كانوا قد احتفوا بالإمام عليه السلام في مكّة حفاوة عظيمة وكانوا يأتونه ويسمعون كلامه ويأخذون عنه، لكنّ هذا أيضاً لايُستفاد منه أنّ للإمام عليه السلام شيعة كثيرين يعملون داخل الجهاز الأموي الحاكم في مكّة.

ب- قوله: «أنّ بني هاشم فيما بعدُ اتهموا

يزيد بأنّه هو الذي دسّ إليه الرجال حتّى يخرج!».

والإشتباه في هذا القول هو في عدم التفريق بين أن يكون يزيد قد دسَّ الرجال لإخراج الإمام عليه السلام، وبين أن يكون يزيد قد دسَّ الرجال لاغتيال الإمام عليه السلام أو لإلقاء القبض عليه في مكّة فاضطرّ الإمام عليه السلام الى الخروج، والتأريخ يؤكّد أنّ يزيد كان قد أراد اختطاف الإمام عليه السلام أو اغتياله في مكّة فاضطرَّ الإمام عليه السلام إلى الخروج، «1» لا كما توهّم الدكتور عبدالمنعم ماجد، ثمَّ إنّ بني هاشم في تقريعهم يزيد على ما فعله بالإمام عليه السلام أكّدوا على أنّ يزيد دسَّ الرجال لاغتيال الإمام عليه السلام لا لإخراجه، هذا ابن عباس (رض) مثلًا يقول في رسالة منه إلى يزيد: «وما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ إطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول اللّه إلى حرم اللّه، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فاشخصته من حرم اللّه الى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبّوأ بها مقاماً واستحلَّ بها قتالًا، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول اللّه، فأكبر من ذلك مالم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليُقاتل في الحرم ...». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 42

رسائل أموية إلى ابن زياد! ..... ص : 42

في كيان الحزب الأموي هناك تيّاران مختلفان في صدد نوع الموقف الذي يجب أن يتّخذه الأمويون في مواجهة الإمام الحسين عليه السلام، التيّار الأوّل يتزعّمه معاوية بن أبي سفيان، ويرى هذا التيّار أنّ المواجهة العلنيفة مع الإمام الحسين عليه السلام ليست في صالح الحكم الأموي، فلابدّ من تحاشي مثل هذه المواجهة معه عليه السلام، ويرى هذا التيّار أنّ

المتاركة بين الإمام عليه السلام وبين بني أميّة هي أفضل ما يوافق مصلحة الحكم الأموي، حتّى يأتي على الإمام عليه السلام ريب المنون فيخلو لبني أميّة وجه الساحة السياسية بعد موت ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ويرى هذا التيّار أنّه إذا كان لابدّ من مواجهة مع الامام عليه السلام فينبغي أن تكون مواجهة سريّة غير مكشوفة، يتمّ التخلّص فيها من وجود الإمام عليه السلام بنفس الطريقة التي تمّ التخلّص فيها من أخيه الإمام الحسن عليه السلام أو بما يماثلها، حتّى لايُستفزَّ الرأي العام في الأمّة- بموته عليه السلام- ضدّ الحكم الأموي.

ويتبنّى هذا الرأي دهاة الأمويين وحلماؤهم وذوو النظر البعيد منهم، ومن هؤلاء مثلًا الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. «1»

أما التيّار الآخر فيتزعمه يزيد بن معاوية، وينضمّ إليه جميع قصيرو النظر والتفكير وأهل الحمق والخرق من بني أميّة، أمثال مروان بن الحكم، «2» وعمرو بن سعيد الأشدق.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 43

ويرى هذا التيّار أنّه لابدّ من المبادرة إلى التخلص من الإمام الحسين عليه السلام إذا ما أعلن عن رفضه البيعة وعن قيامه ضد الحكم الأموي، سواء من خلال مواجهة سرّية أو علنية!

وكان معاوية يعلم بوجود هذا التيار الآخر داخل الحزب الأمويّ، ويعرف أشخاصه، وقد حذّر الإمام عليه السلام من بطش هذا التيّار وهدّده به في رسالته التي بعث بها إلى الإمام عليه السلام على أثر حادثة استيلاء الإمام عليه السلام على حمولة القافلة القادمة إلى معاوية من اليمن، فقد ورد في هذه الرسالة قوله: «.. ولكنّي قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوة! وبودّي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك! وأتجاوز عن ذلك! ولكنّي واللّه أتخوّف أن تُبتلى بمن

لاينظرك فواق ناقة!». «1»

فلمّا مات معاوية وسيطر التيّار الأرعن على دفّة الحكم الأموي، وبعد أن أصرَّ الإمام عليه السلام على رفض البيعة ليزيد، وخرج إلى العراق فعلًا- ولم يتمكّن الأمويون من خطفه أو اغتياله في المدينة أو في مكّة- اضطرب الأمويون عامة ودهاتهم خاصة اضطراباً شديداً خوفاً من نتائج المواجهة العلنية مع الإمام عليه السلام، ومن مصاديق هذا الإضطراب الرسالة التي بعثها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان إلى عبيداللّه بن زياد، والتي كان نصّها: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الوليد بن عتبة إلى عبيداللّه بن زياد: أمّا بعدُ، فإنّ الحسين بن عليّ قد توجّه نحو العراق، وهو ابن فاطمة، وفاطمة ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فاحذر يا ابن زياد أن تبعث إليه رسولًا فتفتح على نفسك ما لاتختار من الخاص والعام. والسلام». «2»

هذه الرسالة كاشفة تماماً عن طريقة التفكير التي يتبنّاها التيّار الأوّل داخل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 44

الحزب الأموي (طريقة تفكير معاوية)، فالوليد لايذكّر ابن زياد بجلالة منزلة الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليخوّفه من عذاب اللّه في الآخرة، بل يحذّره ويخوّفه من انقلاب الرأي العام والخاص ضدّ الحكم الأموي!! ولا شي ء عن عذاب الآخرة!!

وجدير بالذكر أنّ التيّار الأموي الآخر لايعبأ بطريقة تفكير تيّار معاوية والوليد بن عتبة! ولذا ورد في ذيل خبر هذه الرسالة: «قال: فلم يلتفت عبيداللّه بن زياد إلى الكتاب». «1»

وروى ابن عساكر أن مروان كتب إلى عبيداللّه بن زياد: «أمّا بعدُ: فإنّ الحسين بن عليّ قد توجّه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وباللّه ما أحدٌ يسلّمه اللّه أحبّ إلينا من الحسين! فإيّاك أن تهيج

على نفسك مالا يسدّه شي ء، ولاتنساه العامة ولاتدع ذكره، والسلام.». «2»

وقال الشيخ محمد باقر المحمودي في حاشية الصفحة التي فيها هذا الخبر:

«وكلّ من ألمَّ بشي ء من سيرة مروان يعلم يقيناً أنّ هذا الكلام والكتاب لايلائم نفسيّات مروان ونزعاته وماكان يجيش في قلبه من بغض أهل البيت، وتمنّيه استئصالهم واجتثاثهم عن وجه الأرض، فإن كان لهذا الكتاب أصل وواقعيّة فالمظنون أنّه للوليد بن عتبة بن أبي سفيان، كما نقله عنه الخوارزمي في أوّل الفصل 11 من مقتله: ج 2: ص 221، ونقله أيضاً ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 45

وكذلك روى ابن كثير في تأريخه «1» أنّ هذه الرسالة من مروان إلى ابن زياد، وقال الشيخ المحقّق باقر شريف القرشي معلّقاً على ذلك: «واشتبه ابن كثير فزعم أنّ مروان كتب لابن زياد ينصحه بعدم التعرّض للحسين، ويحذّره من مغبّة الأمر، ورسالته التي بعثها إليه تضارع رسالة الوليد السابقة مع بعض الزيادات عليها ... إنّ من المقطوع به أنّ هذه الرسالة ليست من مروان فإنّه لم يفكّر بأيّ خير يعود للأمّة، ولم يفعل في حياته أيّ مصلحة للمسلمين، يُضاف إلى ذلك مواقفه العدائية للعترة الطاهرة وبالأخص للإمام الحسين، فهو الذي أشار على حاكم المدينة بقتله، وحينما بلغه مقتل الإمام أظهر الفرح والسرور! فكيف يوصي ابن زياد برعايته والحفاظ عليه!؟». «2»

نعم، إنّ مروان بن الحكم وهو من أعلام التيّار الأموي الأرعن الذين تتلظّى قلوبهم حنقاً على أهل البيت وبغضاً لهم، لايمكن أن تصدر عنه مثل هذه الرسالة- وإن كانت هذه الرسالة لاتفيض إلّا بالخوف من هياج الرأى العام ضد الأمويين!- ذلك لأنّ أفراد التيّار الأموي الأرعن تشابهت قلوبهم وتماثلت أقلامهم فيما كتبوا به من تهديد

لابن زياد: في أنّه إنْ لم يقتل الإمام عليه السلام يعُدْ إلى أصله الحقيقي عبداً لبني ثقيف! فهذا عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق وهو من طغاة بني أميّة الرعناء يكتب الى ابن زياد- بعد خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة- قائلًا: «أمّا بعدُ: فقد توجّه إليك الحسين، وفي مثلها تعتق أو تكون عبداً تسترقّ كما تسترقّ العبيد!»،»

وكأنّه يستلّ ذات المعاني من قلب سيّده يزيد بن معاوية الذي كتب إلى ابن زياد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 46

قائلًا: «قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدك من بين البلدان، وأيّأمك من بين الأيّام، فإنْ قتلته وإلّا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، «1» فاحذر أن يفوتك!». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 47

الفصل الثاني: حركة أحداث الكوفة أيام مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 47

اشارة

الفصل الثاني: حركة أحداث الكوفة أيام مسلم بن عقيل عليه السلام

في البدء: ..... ص : 49

ينبغي التذكير بأنّ عمدة المتون التأريخية التي ذكرت يوم خروج وقيام مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة هي:

1)- «وكان خروج مسلم بن عقيل رحمة اللّه عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستين، وقتله يوم الأربعاء لتسع خلون منه، يوم عرفة.». «1»

2)- «وكان مخرج ابن عقيل بالكوفة لثمان ليالٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستين، وقيل لتسع مضين منه». «2»

3)- «وكان قتل مسلم لثمانٍ مضين من ذي الحجّة بعد رحيل الحسين من مكة بيوم، وقيل يوم رحيله ..». «3»

4)- «ويُقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة 60 من يوم عرفة بعد مخرج الحسين من مكّة مُقبلًا إلى الكوفة بيوم.». «4»

5)- «وكان قتل مسلم بن عقيل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من ذي الحجّة سنة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 50

ستّين، وهي السنة التي مات فيها معاوية، وخرج الحسين بن عليّ عليه السلام من مكّة في ذلك اليوم.». «1»

مناقشة هذه المتون: ..... ص : 50
اشارة

إنَّ المشهور وهو الصحيح «2» أنَّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد خرج من مكّة الى العراق يوم الثلاثاء، يوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستين، وعليه فإنّ القول الخامس الأخير وهو قول الدينوري في «الأخبار الطوال» لايُعتدُّ به، ولايستقيم إلّا إذا كانت ثمان بدلًا من ثلاث، أي أنَّ ثلاثاً وقعت تصحيفاً لثمانٍ، وهو أمرٌ ممكن الوقوع.

أمّا القول الرابع: «ويُقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة ستين من يوم عرفة بعد مخرج الحسين من مكّة مقبلًا الى الكوفة بيوم.» فهو فضلًا عن غموض دلالته، شاذٌ في نفسه على ظاهره، «3» ولايستقيم معناه إلّا إذا كانت (في) بدلًا مِن (من)، و (لتسعٍ) بدلًا من (لسبعٍ)، فيكون على النحو التالي: ويقال يوم الأربعاء لتسعٍ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 51

مضين سنة ستين في يوم

عرفة، بعد مخرج الحسين من مكّة مقبلًا إلى الكوفة بيوم.

ومثل هذا التصحيف ممكن وكثير الوقوع ..

أمّا القول الثالث فيؤاخذ على مبناه بأنّ خروج الإمام عليه السلام كان يوم السابع من ذي الحجّة، وهو خلاف المشهور الصحيح.

فلا يبقى من هذه الأقوال بعد هذا إلّا مالا يُعارض المشهور الصحيح وهو أنّ خروج الإمام عليه السلام من مكّة الى العراق كان في يوم التروية يوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستين للهجرة.

وعلى هذا يكون خروج مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة يوم الثلاثاء يوم التروية، يوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستين، ويكون يوم مقتله يوم الأربعاء لتسع مضين منه، أي يوم عرفة، وهو الأقوى.

أو كان خروجه يوم التاسع من ذي الحجّة بتلك السنة، «1» فيكون مقتله عليه السلام في اليوم العاشر منه، أي يوم عيد الأضحى، وهو الأضعف. «2»

إشارة: ..... ص : 51

بقي أن نشير هنا إلى مسألة مهمّة أخرى في هذا الصدد، وهي أنّ الطبري قد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 52

روى نصّاً صريحاً مفاده أنّ أهم وقائع حركة أحداث الكوفة أيّام تواجد مسلم بن عقيل عليه السلام فيها: من تفكير السلطة الأموية المركزية في الشام بعزل النعمان بن بشير عن ولاية الكوفة، وتعيين عبيد اللّه بن زياد بدلًا منه، ثمّ ما جرى بعد ذلك إلى يوم مقتل مسلم عليه السلام، كلّ تلك الأحداث كانت قد وقعت بعد خروج الإمام عليه السلام من مكّة، أي وهو في الطريق إلى العراق، يقول الطبري في قصّة استشارة يزيد سرجون النصراني فيمن يستعمل على الكوفة بدلًا من النعمان:

«دعا يزيد بن معاوية سرجون مولى معاوية، فقال: ما رأيك؟ فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ

وقولٌ سيّ ء- وأقرأه كتبهم- فما ترى؟ من أستعمل على الكوفة؟ ...». «1»

وهذا النصّ بعبارة «فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة» شاذٌ إذ لم ترد هذه العبارة في أيّ مصدرٍ تأريخيّ آخر تعرّض لقصة هذه الإستشارة بين يزيد وسرجون، «2» هذا فضلًا عن كون رواية الطبري هذه مرسلة عن عوانة بن الحكم الذي كان عثمانيَّ الهوى، وكان يضع الأخبار لبني أميّة كما يقرّر ذلك العسقلانيّ في لسان الميزان، «3» وفضلًا عن أنّ الطبري نفسه قد روى قصّة هذه الإستشارة أيضاً بسند عن عمّار الدهني عن أبي جعفر، وليس فيها هذه العبارة أو ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 53

بمفادها، «1» بل روى ما يعارض هذه العبارة كمثل قوله «كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليالٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستين ..» «2» أي في نفس اليوم الذي خرج فيه الإمام عليه السلام من مكّة، ومعنى هذا أنّ جُلّ وقايع أيّام مسلم عليه السلام في الكوفة قد وقعت والإمام عليه السلام في مكّة، ومنها واقعة عزل النعمان عن الكوفة وتنصيب ابن زياد على العراق.

إذن لايمكن التعويل على عبارة رواية الطبري الشاذة، المعارضة للمشهور الثابت وهو: أنّ عزل النعمان عن ولاية الكوفة وتعيين ابن زياد مكانه كان قد تمّ والإمام الحسين عليه السلام لم يزل في مكّة لم يرحل عنها.

وهناك أيضاً نصٌّ لابن عبد البرّ في كتابه العقد الفريد ربّما أوهم البعضَ كذلك أنَّ عزل النعمان عن ولاية الكوفة وتعيين ابن زياد بدلًا منه كان قد حصل والإمام عليه السلام في الطريق إلى العراق، يقول ابن عبدالبرّ: «فكتب يزيد إلى عبيد اللّه بن زياد وهو واليه على العراق أنه قد بلغني أنّ حسيناً سار الى الكوفة، وقد

ابتلي به زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان، وابتليت من بين العمّال، وعنده تُعتق أو تعود عبداً.». «3»

ومنشأ هذا الوهم من تصوّر أنّ هذا الكتاب هو الكتاب الأوّل الذي كتبه يزيد إلى ابن زياد، أي كتابه الذي أمره فيه بالتوجّه سريعاً من البصرة إلى الكوفة، والأمر ليس كذلك، إذ إنّ هذا الأخير هو كتاب آخر غير الأوّل، بدليل عبارة «وهو واليه على العراق»، أي كان يومذاك والياً على الكوفة والبصرة معاً قبل هذا الكتاب، لأنّ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 54

الولاية على العراق لاتُطلق على الولاية على البصرة فقط، وقد روى اليعقوبي أيضاً نفس نصّ نفس هذا الكتاب بعبارة واضحة كاشفة بصورة أفضل عن أنّ هذا الكتاب غير الكتاب الأوّل، يقول اليعقوبي: «وأقبل الحسين من مكّة يريد العراق، وكان يزيد قد ولّى عبيداللّه بن زياد العراق، وكتب إليه: قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدك من بين البلدان، وأيّامك من بين الأيّام، فإنْ قتلته وإلّا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، فاحذر أن يفوتك!»، «1» وواضح من هذا النصّ أنّ ابن زياد كان قد صار والياً على الكوفة والبصرة معاً قبل خروج الإمام عليه السلام من مكّة، وأنّ يزيد كتب إلى ابن زياد هذا الكتاب بعدما ولّاه الكوفة أيضاً، لا أنّ هذا الكتاب كان كتاب التولية، فتأمّل!.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 55

استعراض أهمّ وقايع أيّام الإعداد للثورة «1» ..... ص : 55
اشارة

خرج مسلم بن عقيل عليه السلام «2» من مكّة المكرّمة سفيراً للإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة في منتصف شهر رمضان سنة ستين للهجرة، ودخل الكوفة في اليوم الخامس من شهر شوّال من نفس السنة، «3» وكان الإمام عليه السلام قد

سرّح معه قيس بن مسّهر الصيداوي (رض)، وعمارة بن عبيد اللّه السلولي (ره)، وعبداللّه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 56

وعبدالرحمن ابنا شدّاد الأرحبي (رض). «1» وقيل: بعث معه أيضاً عبداللّه بن يقطر (رض). «2»

وقد أوصى الإمام عليه السلام مسلم بن عقيل عليه السلام أن ينزل عند أوثق أهل الكوفة قائلًا: «فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها»، «3» وقد روي أنّه نزل عند مسلم بن عوسجة (رض)، «4» كما روي أنه نزل عند هاني بن عروة (رض) ابتداءً، «5» لكنّ الأشهر هو أنّ مسلماً عليه السلام نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي (ره) ابتداءً ثمّ تحوّل منها بعد ذلك إلى دار هاني (رض). «6»

وكان الإمام الحسين عليه السلام قد جعل مبادرته وإسراعه في القدوم على أهل الكوفة منوطاً بما إذا كتب إليه مسلم عليه السلام بأنّ حقيقة حالهم على مثل ما قدمت به رسلهم وكتبهم، إذ كتب عليه السلام في رسالته الأولى إليهم: «... فإنْ كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأتُ في كتبكم فإنّي اقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللّه ...». «7»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 57

وفي رواية أخرى أنّ الإمام عليه السلام كتب إليهم في تلك الرسالة قائلًا: «فإنّ كنتم على ماقدمت به رسلكم وقرأتُ في كتبكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولاتخذلوه ...». «1»

ويُستفاد من هذا النصّ أنّ مهمّة مسلم عليه السلام في الكوفة لم تكن منحصرة في إطار إعداد وتعبئة أهل الكوفة حتّى يأتي إليهم الإمام عليه السلام فيقوموا معه ضد الحكم الأمويّ، وكتابة التقارير المتوالية إلى الإمام عليه السلام بحال أهل الكوفة والتحوّلات الجارية آنذاك، بل كان من صلاحية مسلم عليه السلام- في

ظرف استثنائي- أن يبادر هو إلى القيام بأهل الكوفة ضدّ السلطة الأموية هناك ما رأى ذلك مناسباً حتّى قبل مجي ء الإمام عليه السلام، وهذا ما حصل بالفعل حينما أضطُرَّ مسلم عليه السلام- نتيجة الظروف الإستثنائية الطارئة بعد اعتقال هاني بن عروة (رض)- إلى أن يبادر إلى القيام يومذاك بمن معه.

البشرى بدرجة الشهادة! ..... ص : 57

وكان الإمام عليه السلام قد أشعر مسلماً عليه السلام بأنّ ختام أمره في هذا الطريق هو الفوز بدرجة الشهادة، إذ روي أنّه عليه السلام قال له وهو يودّعه في مكّة: «إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي اللّه من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامضِ ببركة اللّه وعونه حتّى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها، وادع الناس إلى طاعتي، فإنْ رأيتهم مجتمعين على بيعتي فعجّل عليَّ بالخبر حتّى أعمل على حساب ذلك إن شاء اللّه تعالى»، ثمّ عانقه الحسين عليه السلام وودّعه وبكيا جميعاً. «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 58

كتمان الأمر ..... ص : 58

وكان الإمام عليه السلام قد أوصى مسلماً عليه السلام أيضاً: «بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإنْ رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك ...». «1»

ولعلّ الإمام عليه السلام قد عنى ب «كتمان الأمر» الذي أوصى مسلماً عليه السلام به هو كتمان أمر سفارته مادام في الطريق حتّى يصل إلى الكوفة ..، والأُسلوب السرّي في تعبئة أهل الكوفة للنهضة، وكتمان أمر مكانه وزمان تحرّكاته، ومواقع مخازن أسلحته، وأشخاص قياداته ومعتمديه، وكلمة السرّ في وثبته، وغيره ذلك ممّا يكون من مصاديق كتمان الأمر.

وامتثالًا لهذه الوصيّة كان مسلم عليه السلام قد اعتمد الستر والرفق في تعبئة أهل الكوفة حتى يستكمل العدد والعدّة الكافيين لتأهيل الكوفة للقيام معه أو مع الإمام عليه السلام- إذا جاء الكوفة- بوجه السلطة الأمويّة.

يقول القاضي نعمان: «وكان مسلم بن عقيل رحمة اللّه عليه قد بايع له جماعة من أهل الكوفة في استتارهم!».»

ويقول الدينوري: «ولم يزل مسلم بن عقيل يأخذ البيعة من أهل الكوفة حتّى بايعه ثمانية عشر ألف رجل في ستر ورفق!». «3»

ويقول الفتّال النيسابوري: «وجعلت الشيعة تختلف

إلى مسلم بن عقيل رضي اللّه عنه حتى عُلِمَ بمكانه، فبلغ ذلك النعمان بن بشير وكان والياً على الكوفة ...». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 59

اجتماع الشيعة الأوّل مع مسلم عليه السلام ..... ص : 59

يقول الطبري: «ثمّ أقبل مسلم حتى دخل الكوفة، فنزل دار المختار بن أبي عبيد، وهي التي تُدعى اليوم دار مسلم بن المسيّب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب حسين، فأخذوا يبكون ...». «1»

وفي هذا الإجتماع الأوّل برزت ظاهرة ثابتة من ظواهر المجتمع الكوفي، وهي ظاهرة وجود القلّة من المؤمنين الصادقين المتحرّرين من أسر «الشلل النفسي» ومرض «الإزدواجية» و «حبّ الدنيا وكراهية الموت»، فعلى كثرة من حضر هذا الإجتماع ممّن هو محسوب على التشيّع لم يقم إلّا ثلاثة (هم من أعاظم شهداء الطفّ (رض)، أظهروا لمسلم عليه السلام استعدادهم التّام لامتثال أمره والتضحية في هذا السبيل!

يواصل الطبري روايته قائلًا: «... فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّي لا أخبرك عن الناس! ولا أعلم ما في أنفسهم! وما أغرّك منهم!، واللّه أحدّثك عمّا أنا موطّنٌ نفسي عليه، واللّه لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربن بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أريد بذلك إلّا ما عند اللّه!. فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي فقال: رحمك اللّه، قد قضيت ما في نفسك بواجزٍ من قولك! ثم قال: وأنا واللّه الذي لا إله إلّا هو على مثل ما هذا عليه!. ثمّ قال الحنفي مثل ذلك!.». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 60

وفي هذا الإجتماع كانت هناك أيضاً ظاهرة أخرى، تواجدت في هذا الإجتماع متخفيّة على استحياء، وإن كانت هي أكبر وأوضح ظواهر المجتمع الكوفي، وهي ظاهرة وجود الكثرة الكاثرة التي تحبّ الحقّ وتكره أن تموت

من أجله! ظاهرة «الوهن» و «الشلل النفسي»، التي أدّت بالنتجة إلى أن استحوذ الشيطان على جُلّ أولئك القوم، فقتلوا ابن بنت نبيّهم عليه السلام!

يقول الحجّاج بن عليّ- الذي يروي عن محمّد بن بشر الهمداني، شاهد العيان الذي روى قصة هذا الإجتماع-: «فقلتُ لمحمّد بن بشر: هل كان منك أنت قول؟ فقال: إنّي كُنتُ لأحبُّ أنْ يُعزَّ اللّه أصحابي بالظفر، وما كنتُ أحبُّ أنْ أُقتل! وكرهتُ أنْ أكذب!». «1»

توالي اجتماعات الشيعة مع مسلم عليه السلام ..... ص : 60

وقد تتابعت اجتماعات جماهير الشيعة في الكوفة مع مسلم عليه السلام، وكان يقرأ عليهم كتاب الإمام عليه السلام إليهم، فيبكون ويقولون: «واللّه لنضربنَّ بين يديه بسيوفنا حتّى نموت جميعاً!». «2»

رسالة مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام ..... ص : 60

وأخذ عدد الذين يبايعون مسلماً عليه السلام من أهل الكوفة يتزايد يوما بعد يوم، فلمّا بلغ هذا العدد ثمانية عشر ألفاً «3» كتب مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام بذلك، وبعث

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 61

الكتاب مع قيس بن مسهّر الصيداوي، وأصحبه عابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذباً مولاه، وكان نصّ الرسالة:

«أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا، فإنّ الناس كلّهم معك! ليس لهم في آل معاوية رأي ولاهوى، والسلام.». «1»

النعمان بن بشير والٍ ضعيف أم يتضعّف!؟ ..... ص : 61
اشارة

ومع تزياد عدد المبايعين لمسلم عليه السلام والتفاف النّاس حوله، كان لابدّ للأمر أن يفشو بين الناس في الكوفة، ويصير موضوع مسلم عليه السلام وقضيّة انتظار الناس لمجي ء الإمام عليه السلام حديث الساعة يومذاك في المساجد والبيوت والأسواق والطرقات، فلمّا تعاظم الأمر واخترق حجب الستر، علم النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي «2» والي الكوفة آنذاك بالتحوّلات الجديدة وأحسّ بالخطر الداهم «..

فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فاتقوا اللّه عباد اللّه،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 62

ولاتسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيهما يهلك الرجال وتُسفك الدماء وتُغصبُ الأموال- وكان حليماً ناسكاً يحبّ العافية- قال: إنّي لم اقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لايثب عليَّ، ولا أُ شاتمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فواللّه الذي لا إله غيره لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إنّي أرجو أن يكون من يعرف الحقَّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل.». «1»

فلّما أتمّ خطبته اعترض عليه أحد حلفاء بني أميّة وعملائهم، وهو عبداللّه

بن مسلم بن سعيد الحضرمي، فقال: «إنّه لايُصلح ما ترى إلّا الغشم! إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!!

فقال: أن أكون من المستضعفين في طاعة اللّه أحبُّ إليَّ من أن أكون من الأعزّين في معصية اللّه. ثم نزل.». «2»

ومنذ ذلك اليوم توالت التقارير المرفوعة من قبل الأمويين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة «3» إلى يزيد في الشام تخبره بمستجدّات حركة الأحداث في الكوفة، وبموقف النعمان بن بشير منها، وقد أجمعت هذ التقارير المرفوعة إلى يزيد تقول: «فإنْ كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلًا قويّاً، يُنفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 63

يتضعّف!». «1»

إشارة: ..... ص : 63

لم يكن النعمان بن بشير محبّاً لأهل البيت عليه السلام ولاذاميلٍ إليهم، «2» لقد كان له ولأبيه تأريخ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله، تامّاً وكان النعمان عثمانيَّ الهوى، يجاهر ببغض عليّ عليه السلام، ويسي ء القول فيه، وقد حاربه يوم الجمل وصفّين، وكان يتبنّى سياسة معاوية في قيادة حركة النفاق تبنيّاً تامّاً، «وكان من معالم هذه السياسة أنّ معاوية كان يتحاشى المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام، وأنَّ معاوية لو اضطُرَّ إلى مواجهة علنية أي إلى قتال ضدّ الإمام الحسين عليه السلام وظفر بالإمام عليه السلام لعفا عنه، وليس ذلك حبّاً للإمام عليه السلام وإنّما لأنّ معاوية- وهو من دهاة السياسة النكراء والشيطنة- يعلمُ أنَّ إراقة دم الإمام عليه السلام علناً وهو بتلك القدسيّة البالغة في قلوب الأمّة كفيل بأن يفصل الأمويّة عن الإسلام، ويذهب بجهود حركة النفاق عامة والحزب الأمويّ خاصة أدراج الرياح، خصوصاً الجهود التي بذلها

معاوية في مزج الأمويّة بالإسلام في عقل الأمّة وعاطفتها مزجاً لم يعد أكثر هذه الأمّة بعدها يعرف إلّا (الإسلام الأموي)، حتى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأمويّة إلّا إذا أُريق ذلك الدم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 64

المقدّس- دم الإمام عليه السلام- على مذبح القيام ضدّ الحكم الأموي.». «1»

من هنا كان أسلوب النعمان بن بشير في معالجته لمستجدّات الأمور في الكوفة- بعد ورود مسلم عليه السلام- يتّسم باللين والتسامح، لأنّه كان يرى- إيماناً بنظرة معاوية- أنّ المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام ليست في صالح الحكم الأموي.

فلم يكن النعمان ضعيفاً، أو «حليماً ناسكاً يحبّ العافية» كما صوّرته رواية الطبري، «2» أو «يحبّ العافية ويغتنم السلامة» كما صوّرته رواية الدينوري، «3» بل كان يتضعّف مكراً وحيلة، معوّلًا على الأسلوب السريّ والخدعة الخفية للقضاء على الثورة والتخلص من مسلم بن عقيل عليه السلام، بل التخلّص حتّى من الإمام عليه السلام، فهو- أي النعمان بن بشير- شيطان يحذو حذو معاوية كبيرهم الذي علّمهم الشيطنة في رسم الخطط الماكرة.

لكنّ تسارع حركة الأحداث في الكوفة يومذاك، والتحوّلات الكبيرة في ظاهر حياتها السياسية، أفزعا الأمويين وعملاءهم وجواسيسهم من تجاوب الرأي العام في الكوفة مع مسلم بن عقيل عليه السلام، ورأوا أنّ زمام الأمور سيكون بيد الثوّار تماماً إن لم تبادر السلطة الأموية المحليّة في الكوفة إلى اتخاذ التدابير اللازمة الكفيلة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 65

بإعادة الوضع الكوفي إلى سابق استقراره النسبي، ورأوا أنّ سياسة اللين والتسامح التي كان يمارسها «بتضعّفه» النعمان بن بشير سوف تؤدي إلى سقوط الكوفة فعلًا بيد مسلم بن عقيل عليه السلام، وكان رأيهم أنْ لا خلاص من هذا المأزق إلّا بعزل النعمان ومجي ء والٍ جديد ظلوم غشوم،

وبهذا بادروا إلى كتابة تقاريرهم السرّية بهذا النظر ورفعوها إلى يزيد في الشام.

عبيداللّه بن زياد والي الكوفة الجديد ..... ص : 65

فلمّا تتابعت الكتب (التقارير) التي بعثها من الكوفة الى يزيد أمويون وعملاء وجواسيس بني أميّة، واجتمعت عنده، استدعى يزيد مستشاره ومستشار أبيه من قبل سرجون بن منصور النصراني- وهو من أعلام رجال فصيل منافقي أهل الكتاب العاملين في ظلّ فصائل حركة النفاق الأخرى، الذي كانوا مقرّبين من الحكّام ومستشارين وندماء لهم- وسأله عن رأيه في من يكون الوالي على الكوفة بدلًا من النعمان، فأشار عليه سرجون باستعمال عبيداللّه بن زياد «1» قائلًا بأنّ هذا هو رأي معاوية أيضاً، وأخرج له كتاباً كان معاوية قد كتبه بذلك قبل موته، «2» فأخذ يزيد بهذا الرأي وضم المصرين (الكوفة والبصرة) الى عبيداللّه بن زياد.

ودعا يزيد مسلم بن عمرو الباهلي، «3» فبعثه الى عبيد اللّه بن زياد في البصرة بعهده الجديد إليه (اي ضمّ الكوفة الى البصرة) تحت ولايته، وكتب إليه معه: «أمّا بعدُ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 66

الجموع لشقّ عصا المسلمين، فَسِر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه، أو تقتله، أو تنفيه، والسلام.». «1»

وفي رواية أخرى أنّ يزيد كتب فيما كتب الى عبيداللّه بن زياد قائلًا: «وقد ابتلي زمانك بالحسين من بين الأزمان، وابتلي بلدك دون البلدان ... فاطلب مسلم بن عقيل طلب الخرز، فإذا ظفرت به فخذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع، واعلم أنه لاعذر لك عندي دون ما أمرتك ...». «2»

وفي رواية أخرى: «.. فإنّي لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرأ منك، فإذا قرأت كتابي هذا فارتحل من وقتك وساعتك،

وإيّاك والإبطاء والتواني، واجتهد، ولاتُبق من نسل عليّ بن أبي طالب أحداً!! واطلب مسلم بن عقيل وابعث إليَّ برأسه.». «3»

القادم المتنكّر في الظلام! ..... ص : 66

وما إنْ تسلّم عبيداللّه بن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه الباهلي حتّى أمر بالجهاز من وقته والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد، «4» فلم يبق في البصرة بعدها إلّا يوماً واحداً قتل فيه سليمان بن رزين (رض) رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى أشراف البصرة ورؤساء أخماسها، وألقى فيه خطاباً هدّد فيه أهل البصرة وحذّرهم من الخلاف والإرجاف وتوعّدهم على ذلك.

«ثمّ خرج عبيداللّه من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 67

الأعور الحارثي، «1» وحشمه وأهل بيته، وكان شريك شيعياً، وقيل: كان معه خمسمائة، فتساقطوا عنه، فكان أوّل من سقط في الناس شريك، ورجوا أنْ يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فلم يقف على أحدٍ منهم ...» «2».

فلمّا أشرف عليها نزل حتّى أمسى ليلًا، فظنّ أهلها أنّه الحسين، «3» وكان معتمّاً بعمامة سوداء وهو متلثم، «والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليه السلام إليهم فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا حين رأوا عبيداللّه أنّه الحسين عليه السلام، فأخذ لايمرّ على جماعة من الناس إلّا سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول اللّه، قدمتَ خير مقدم، فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه ...». «4»

ولمّا صار في داخل المدينة في جنح الظلام توهّم الناس أنّه الإمام عليه السلام، «فقالت امرأة: أللّه أكبر! ابن رسول اللّه وربّ الكعبة! فتصايح الناس، قالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً. وازدحموا عليه حتّى أخذوا بذَنَبِ دابّته، وظنّهم أنّه الحسين ..». «5»

«وسار حتّى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التفّوا به لايشكون أنه الحسين عليه السلام، فأغلق النعمان بن بشير

الباب عليه وعلى خاصّته، فناداه بعض من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 68

كان معه ليفتح لهم الباب، فاطّلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسين عليه السلام، فقال:

أنشدك اللّه إلّا تنحيت، واللّه ما أنا بمسلّم إليك أمانتي، ومالي في قتالك من أرب!

فجعل لايكلّمه، ثمّ إنّه دنى وتدلّى النعمان من شُرف القصر، فجعل يكلّمه، فقال: إفتح لافتحتَ! فقد طال ليلك!

وسمعها إنسان خلفه فنكص إلى القوم الذين اتبّعوه من أهل الكوفة على أنّه الحسين عليه السلام، فقال: يا قوم! ابن مرجانة والذي لا إله غيره!

ففتح له النعمان فدخل، وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا!». «1»

وفي رواية المسعودي: «.. حتّى انتهى الى القصر وفيه النعمان بن بشير، فتحصّن فيه، ثمّ أشرف عليه، فقال: يا ابن رسول اللّه، مالي ولك؟ وما حملك على قصد بلدي من بين البلدان؟

فقال ابن زياد: لقد طال نومك يا نعيم. «2» وحسر اللثام عن فيه، فعرفه ففتح له، وتنادى النّاس: ابن مرجانة!

وحصبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر!».»

ممّا مرَّ- من هذه المتون التأريخية التي روت لنا كيف دخل ابن مرجانة الكوفة- تتضح لنا تماماً درجة الضعف المذهل التي كان عليها ممثلوا السلطة الأموية في الكوفة آنذاك، فالنعمان بن بشير يلبد في القصر ويخشى الخروج منه لمقابلة القادم المتنكّر في الظلام الذي ظنّ أنّه الحسين عليه السلام، وعبيداللّه بن زياد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 69

وهو بين مجموعة من أهل الكوفة يخشى حتّى من إظهار صوته مخافة أن يُعرف، ويحصبه الناس بالحجارة بعد أن عرفوه فلا يقوى على شي ء سوى الهروب الى داخل القصر! ومعنى هذا أنّ الكوفة يومذاك كانت تعيش بالفعل حالة (الإنقلاب) في رفضها النظام الأمويّ، وانتظارها لوصول القيادة الشرعية القادمة إليها من مكّة المكرّمة.

الإجراءات الإرهابية الغاشمة! ..... ص : 69

وما إنْ دخل ابن مرجانة القصر وهدأت أنفاسه

المضطربة من شدّة الخوف والتعب، واطّلع على حقيقة مجريات حركة الأحداث في الكوفة، حتى بدأت قرارات الغشم الإرهابية، وقد مهّد لقراراته وإجراءاته الظالمة بخطاب إرهابيّ توعّد أهل الكوفة فيه بالسوط، والسيف، ورغبّهم بالإنقياد إليه بادّعائه أنّ بزيد أمره بإنصاف المظلوم واعطاء المحروم وبالإحسان إلى السامع المطيع!، قال ابن زياد:

«أمّا بعدُ، فإنّ أميرالمؤمنين أصلحه اللّه ولّاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متّبع فيكم أمره، ومنفّذٌ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البرّ! وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليُبقِ امرؤ على نفسه! الصدق يُنبي ء عنك لا الوعيد!». «1»

ثمّ أتبع خطابه بإجراء قمعي رهيب «فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً، فقال:

اكتبوا إليَّ الغرباء، ومن فيكم من طلبة «2» أميرالمؤمنين، ومن فيكم من الحرورية، «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 70

وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق! فمن كتبهم لنا فبري ء، ومن لم يكتب لنا أحداً فيضمن لنا ما في عرافته ألّا يخالفنا منهم مخالف، ولايبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل برئت منه الذّمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أميرالمؤمنين أحدٌ لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلغيت تلك العرافة من العطاء، وسُيّر إلى موضع بعُمان الزارة. «1»». «2»

لقد كان لهذا القرار الجائر أكبر الأثر على مجرى حركة الأحداث في الكوفة، إذ كان العرفاء الواسطة بين السلطة والناس آنذاك، فهم المسؤولون عن أمور القبائل، يوزّعون عليهم العطاء، ويقومون بتنظيم السجلّات العامة، التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال، ويسجّل فيها من يولد ليفرض له العطاء، ويحذف منها الميّت ليحذف عطاؤه، وكانوا أيضاً مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا أيّام الحرب يقومون بأمور

تعبئة الناس لها، ويخبرون السلطة بأسماء المتخلّفين عنها، وتعاقب السلطة العرفاء أشدّ العقوبة إذا أهملوا واجباتهم أو قصّروا فيها، ولقد كان للعرفاء بعد هذا القرار دور كبير في تخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الخوف والرهبة بينهم، كما كان لهم بعد ذلك دور كبير في زجّ الناس لحرب الإمام الحسين عليه السلام.

تغيير مقرّ قيادة الثورة! ..... ص : 70

قال الشيخ المفيد (ره): «ولمّا سمع مسلم بن عقيل مجي ء عبيداللّه إلى الكوفة ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، خرج من دار المختار حتى انتهى الى دار هاني ء بن عروة فدخلها، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني على

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 71

تستّر واستخفاء من عبيداللّه، وتواصوا بالكتمان ..». «1»

ولعلّ سبب هذا التحوّل عن دار المختار إلى دار هاني ء هو ما يمكن أن يسببه بقاء مسلم في دار المختار من خطر قد يتعرض له مسلم عليه السلام نفسه والمختار (ره) أيضاً من قبل جلاوزة ابن زياد، خصوصاً وأنّ المختار (ره) ليس له من القوّة القبلية في الكوفة ما يجعله في منعة من اعتداء ابن زياد عليه، بعكس ما عليه هاني بن عروة المرادي (رض) من العزّة والقوّة القبلية في الكوفة، فقد كان فيما يقول المؤرّخون: إذا ركب يركب معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، فإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع، «2» ثمّ إنّ الحيطة والحذر- بعد التغيرات الجديدة- أوجبا على مسلم عليه السلام أن ينتقل إلى مقرّ آخر منيع وخفي بعد أن علمت السلطة الأموية المحلّية في الكوفة بمقرّه الأوّل حسب الظاهر.

خطّة اغتيال ابن زياد في بيت هاني ء! ..... ص : 71
اشارة

قال ابن الأثير: «ومرض هاني بن عروة ..، فأتاه عبيداللّه يعوده، فقال له عمارة بن عبدالسلولي: إنّما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية، وقد أمكنك اللّه فاقتله.

فقال هاني ء: ما أحبُّ أن يُقتل في داري!

وجاء ابن زياد فجلس عنده ثمّ خرج.

فما مكث إلّا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور، وكان قد نزل على هاني ء وكان كريماً على ابن زياد وغيره من الأمراء، وكان شديد التشيّع، وقد شهد، «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 72

صفّين مع عمّار، فأرسل إليه عبيداللّه: إني رائح

إليك العشيّة. فقال لمسلم: إنّ هذا الفاجر عائدي العشيّة، فإذا جلس أخرج إليه فاقتله، ثم اقعد في القصر، ليس أحدٌ يحول بينك وبينه، فإنْ برئت من وجعي سرتُ الى البصرة حتّى أكفيك أمرها.

فلمّا كان من العشيّ أتاه عبيداللّه، فقام مسلم ليدخل، فقال ل شريك:

لايفوتنّك إذا جلس! فقال هاني ء بن عروة: لا أُحبُّ أنْ يُقتل في داري!.

فجاء عبيداللّه فجلس وسأل شريكاً عن مرضه فأطال، فلمّا رأى شريكٌ أنّ مسلماً لايخرج خشي أن يفوته، فأخذ يقول:

ما تنظرون بسلمى لاتُحيّوها، اسقونيها وإنْ كانت بها نفسي! «1»

فقال ذلك مرتين أو ثلاثاً، فقال عبيداللّه: ما شأنه، ترونه يخلط!؟ فقال له هاني ء: نعم، ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتى ساعته هذه!

فانصرف، وقيل: إنّ شريكاً لمّا قال: اسقونيها، وخلط كلامه، فطن به مهران «2» فغمز عبيداللّه فوثب، فقال له شريك: أيّها الأمير، إنّي أريد أن أوصي إليك! فقال:

أعود إليك.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 73

فقال له مهران: إنّه أراد قتلك! فقال: وكيف مع إكرامي له!؟ وفي بيت هاني ء، ويدُ أبي عنده!؟ «1» فقال له مهران: هو ماقلت لك.

فلمّا قام ابن زياد خرج مسلم بن عقيل، فقال له شريك: ما منعك من قتله!؟

قال: خصلتان، أمّا إحداهما فكراهية هاني ء أن يُقتل في منزله، وأمّا الأخرى فحديث حدّثه عليٌّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن بمؤمن!

فقال له هاني ء: لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً!

ولبث شريك بعد ذلك ثلاثاً ثمّ مات، «2» فصلّى عليه عبيداللّه!.». «3»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 73

1)- هذا النصّ الذي أورده ابن الأثير يفيد أنّ خطّة اغتيال عبيداللّه كانت من وضع شريك وعلى كراهية من هاني ء، لكنّ مصادر أخرى ذكرت أنّ هانئاً هو الذي كان مريضاً، وهو صاحب خطّة

اغتيال عبيداللّه بن زياد، قال اليعقوبي: «وقدم عبيداللّه بن زياد الكوفة، وبها مسلم بن عقيل قد نزل على هاني ء بن عروة، وهاني ء شديد العلّة، وكان صديقاً لابن زياد، فلمّا قدم ابن زياد الكوفة أُخبر بعلّة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 74

هاني ء، فأتاه ليعوده، فقال هاني ء لمسلم بن عقيل وأصحابه وهم جماعة: إذا جلس ابن زياد عندي وتمكّن، فإنّي سأقول اسقوني، فاخرجوا فاقتلوه ...». «1»

ويُرجّح أنّ خطّة اغتيال عبيداللّه بن زياد كانت من وضع شريك الحارثي لأنه كان من قبلُ في الطريق من البصرة الى الكوفة قد بادر إلى التساقط هو وجماعة ممن معه ليقف عليهم ابن زياد فيتأخّر عن الوصول إلى الكوفة ويسبقه الإمام عليه السلام إليها، كما أنّ شريكاً كان يحرّض هانئاً على مساعدة مسلم عليه السلام والقيام بأمره، وقد روى الدينوري: أنّ شريكاً قال لمسلم عليه السلام: «إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك اللّه منه، هو صائرٌ إليَّ ليعودني، فقُم فادخل الخزانة، حتّى إذا اطمأنَّ عندي، فاخرج إليه فقاتله، ثم صِرْ إلى قصر الإمارة، فاجلس فيه فإنّه لاينازعك فيه أحدٌ من الناس، وإنْ رزقني اللّه العافية صِرتُ الى البصرة فكفيتك أمرها وبايع لك أهلها. فقال هاني ء بن عروة: ما أحبّ أن يُقتل في داري ابن زياد! فقال له شريك: ولِمَ؟ فواللّه إنّ قتله لقربان إلى اللّه!». «2»

2)- كانت كراهية هاني ء لقتل ابن زياد في بيته لاتختص بابن زياد، بل هي كراهية قتل أي رجل في بيته، «3» وذلك تمسكاً بالأعراف والعادات العربية التي لاتبيح قتل الضيف والقاصد إليها في بيوتها لما في ذلك من سُبَّة ومعابة تبقى على الألسن مدى الأيام، وهذا لايعني أنَّ هانئاً (رض) كان لايتمنى قتل ابن زياد، فقد قال

لمسلم عليه السلام على ما في رواية الطبري: «أما واللّه، لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 75

كافراً غادراً، ولكن كرهتُ أن يُقتل في داري!». «1»

3)- أساءت بعض المصادر التأريخيّة إلى شخصيّة مسلم بن عقيل عليه السلام، إساءة منكرة إذ نسبت إليه الجبن والفشل حيث لم يقدم على قتل ابن زياد، فقد قال الدينوري في أخباره الطوال: «ثمّ قام عبيداللّه وخرج، فخرج مسلم بن عقيل من الخزانة، فقال شريك: ما الذي منعك منه إلّا الجبن والفشل!؟»، «2» ومع اعتراف ابن قتيبة وهو دينوري آخر بأنَّ مسلماً عليه السلام كان من أشجع الناس إلّا أنّه ادّعى أنّ كبوة قد أخذت مسلماً عليه السلام حين لم يقدم على قتل ابن زياد، يقول هذا الدينوري:

«فخرج عبيداللّه، ولم يصنع الآخر شيئاً، وكان من أشجع الناس ولكنه أخذته كبوة ..». «3»

وهذا غير صحيح، فلم يعرف مسلم عليه السلام الجبن، ولم تأخذه كبوة، وقد ذكرت مصادر تأريخية أنّ كراهية هاني ء لقتل ابن زياد بل لقتل أي رجل في بيته، كانت واحداً من الأسباب التي منعت مسلماً عليه السلام من تنفيذ خطة شريك، «4» كما ذكرت بعض مصادرنا المعتبرة أنّ أمرأة في بيت هاني ء كانت قد تعلّقت بمسلم عليه السلام وتوسّلت إليه وهي تبكي ألّا يقتل ابن زياد في دارهم، قال ابن نما (ره): «فخرج مسلم والسيف في كفّه، وقال له شريك: يا هذا، ما منعك من الأمر!؟ قال مسلم: لمّا هممتُ بالخروج فتعلّقت بي امرأة قالت: ناشدتك اللّه إن قتلت ابن زياد في دارنا! وبكت في وجهي! فرميت السيف وجلستُ.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 76

قال هاني ء: يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها، والذي فررتُ منه وقعتُ فيه!». «1»

وهناك سببٌ آخر وهو أنّ مسلماً عليه

السلام ذكر أنّ السبب الذي منعه من قتل ابن زياد- إضافة إلى كراهية هاني ء (رض) لذلك- هو حديث سمعه عن عليّ عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّ الإيمان قيد الفتك، لايفتك مؤمن»، «2» والفتكُ لغة هو: «أن يأتي الرجلُ صاحبه وهو غارٌّ غافلٌ حتّى يشدَّ عليه فيقتله، وإنْ لم يكنْ أعطاه أماناً قبل ذلك.». «3»

وقد علّق هبة اللّه الشهرستاني (ره) على تعليل مسلم عليه السلام إحجامه عن قتل ابن زياد بهذا الحديث قائلًا: «كلمة كبيرة المغزى، بعيدة المدى، فإنَّ آل عليّ من قوّة تمسكهم بالحقّ والصدق نبذوا الغدر والمكر حتّى لدى الضرورة، واختاروا النصر الآجل بقوّة الحقّ على النصر العاجل بالخديعة، شنشنة فيهم معروفة عن أسلافهم، وموروثة في أخلاقهم، كأنهم مخلوقون لإقامة حكم العدل والفضيلة في قلوب العرفاء الأصفياء، وقد حفظ التأريخ لهم الكراسي في القلوب». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 77

ومن الملفت للإنتباه أنّ هناك إضافة مريبة في نقل ابن الأثير لمتن هذا الحديث، وهي «فلايفتك مؤمن بمؤمن!» بدلًا من «فلا يفتك مؤمن»، وكأنَّ ابن الأثير أراد أنّ يطبّق الإيمان على عبيداللّه بن زياد، وأنّ مسلماً عليه السلام إنّما امتنع عن قتله لأنّه مؤمن!!

ابن زياد يستبق الأحداث فيقتل وجوه الشيعة ..... ص : 77

ومن جملة مبادرات ابن زياد للسيطرة على زمام الأمور والقضاء على حركة مسلم بن عقيل عليه السلام، إسراعه في تقصّي رجال الشيعة في الكوفة وإلقاء القبض عليهم وقتلهم، وكان ضحيّة هذه المبادرة الإرهابية القمعية عدد كبير من رجالات الشيعة ممن كان يُعوَّلُ عليهم في مهمّات الأمور.

حبس ميثم التمّار (رض) وقتله ..... ص : 77

كان ميثم التمّار (رض) «1» قد عاد من العمرة «2» الى الكوفة «فأخذه عبيداللّه بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 78

زياد، فأدخل عليه، فقيل له: هذا كان من آثر الناس عند عليّ!

قال: ويحكم، هذا الأعجمي!؟

قيل له: نعم.

قال له عبيداللّه: أين ربُّك؟

قال: بالمرصاد لكل ظالم، وأنت أحد الظلمة.

قال: إنّك على عجمتك لتبلغ الذي تريد! ما أخبرك صاحبك أنّي فاعل بك!؟

قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة، «1» أنا أقصرهم خشبة وأقربهم إلى المطهّرة!

قال: لنخالفنّه!

قال: كيف تخالفه!؟ فواللّه ما أخبرني إلّا عن النبيّ، عن جبرئيل، عن اللّه تعالى، فكيف تخالف هؤلاء!؟ ولقد عرفت الموضع الذي اصلبُ عليه أين هو من الكوفة، وأنا أوّل خلق اللّه أُلجمُ في الإسلام!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 79

فحبسه، وحبس معه المختار بن أبي عبيد. «1»

قال له ميثم: إنّك تفلت، وتخرج ثائراً بدم الحسين فتقتل هذا الذي يقتلنا!

فلمّا دعا عبيداللّه بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد اللّه يأمره بتخلية سبيله فخلّاه، «2» فأمر بميثم أن يُصلب فأُخرج، فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا!؟

فتبّسم وقال- وهو يومي ء إلى النخلة- لها خُلقتُ ولي غُذيتْ! فلمّا رفُع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حُريث، قال عمرو: كان واللّه يقول: إنّي مجاورك!

فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره.

فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد!

فقال: إلجموه! فكان أوّل خلق اللّه أُلجم في

الإسلام.

وكان قتل ميثم رحمه اللّه قبل قدوم الحسين عليه السلام إلى العراق بعشرة أيّام، فلمّا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 80

كان في اليوم الثالث من صلبه طُعن بالحربة فكبّر! ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً.». «1»

وروي أنه اجتمع سبعة من التمّارين فاتعدوا بدفن ميثم، فجاؤا إليه ليلًا والحرس يحرسونه وقد أوقدوا النار، فحالت النار بينهم وبين الحرس فاحتملوه بخشبته حتى انتهوا به إلى فيض من ماء في مراد، فدفنوه فيه ورموا الخشبة في مراد في الخراب، فلمّا أصبحوا بعث الخيل فلم تجد شيئاً. «2»

وروي عن ميثم قال: دعاني أميرالمؤمنين عليه السلام، وقال: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعيّ بني أميّة [ابن دعيّها] عبيداللّه بن زياد إلى البراءة منّي؟

فقلت: يا أميرالمؤمنين، واللّه لا أبرأ منك!

قال: إذن واللّه يقتلك ويصلبك.

قلت: أصبر، فذاك في اللّه قليل.

فقال: يا ميثم، إذن تكون معي في درجتي. «3»

قتل رشيد الهجري (رض) ..... ص : 80

وممّن قُتل من رجالات الشيعة وأعلامها في تلك الأيّام رُشيد الهَجَري (رض) «4»، فقد روى الكشّي بسندٍ عن أبي حيّان البجلي، عن قنوا بنت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 84

رشيد الهجري (رض): قال أبوحيّان: «قلتُ لها: أخبريني ما سمعت من أبيك.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 85

قالت: سمعتُ أبي يقول: أخبرني أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه، فقال: يا رشيد، كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أميّة فقطع يديك ورجليك ولسانك؟

قلت: يا أميرالمؤمنين، آخر ذلك إلى الجنّة؟

فقال: يا رشيد، أنت معي في الدنيا والآخرة!

قالت: فواللّه ما ذهبت الأيّام حتّى أرسل إليه عبيداللّه بن زياد الدعيّ، فدعاه إلى البراءة من أميرالمؤمنين عليه السلام، فأبى أن يبرأ منه!

فقال له الدعيّ: فبأيّ ميتة قال لك تموت!؟

فقال له: أخبرني خليلي أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أبرأ منه، فتقدّمني فتقطع يديّ ورجليَّ ولساني!

فقال: واللّه لأكذبنّ

قوله فيك.

قالت: فقدّموه فقطعوا يديه ورجليه وتركوا لسانه، فحملتُ أطراف يديه ورجليه، فقلت: يا أبتِ، هل تجد ألماً لما أصابك!؟ «1»

فقال: لا يا بُنيّة إلّا كالزحام بين الناس!

فلمّا احتملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله.

فقال: إئتوني بصحيفة ودواة أكتبْ لكم ما يكون إلى قيام الساعة! فأُرسل إليه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 86

الحجّام حتى يقطع لسانه، فمات رحمة اللّه عليه في ليلته.». «1»

وروى الكشّي أيضاً بسند عن فضيل بن الزبير قال: «خرج أميرالمؤمنين عليه السلام يوماً إلى بستان البرني، ومعه أصحابه، فجلس تحت نخلة، ثمّ أمر بنخلة فلُقطت فأُنزل منها رطب فوضع بين ايديهم، قالوا: فقال رشيد الهجري: يا أميرالمؤمنين، ما أطيب هذا الرطب!

فقال: يا رشيد، أما إنّك تُصلب على جذعها!

فقال رشيد فكنتُ أختلف إليها طرفي النهار أسقيها!

ومضى أميرالمؤمنين عليه السلام، قال فجئتها يوماً وقد قُطع سعفها، قلتُ اقترب أجلي، ثمّ جئت يوماً فجاء العريف فقال: أجب الأمير.

فأتيته، فلمّا دخلت القصر فإذا الخشب مُلقى، ثمّ جئت يوماً آخر فإذا النصف الإخر قد جُعل زرنوقاً «2» يُستقى عليه الماء، فقلت ما كذبني خليلي! فأتاني العريف فقال: أجب الأمير. فأتيته، فلمّا دخلت القصر إذا الخشب مُلقى، فإذا فيه الزرنوق! فجئت حتى ضربت الزرنوق برجلي ثمّ قلتُ: لك غُذيتُ ولي أنبتَّ! ثمّ أُدخلت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 87

على عبيداللّه بن زياد.

فقال: هات من كذب صاحبك!

فقلت: واللّه ما أنا بكذّاب ولاهو، ولقد أخبرني أنك تقطع يدي ورجلي ولساني.

قال: إذاً واللّه نكذّبه، إقطعوا يده ورجله، وأخرجوه!

فلمّا حُمل إلى أهله أقبل يحدّث الناس بالعظائم، وهو يقول: أيها الناس، سلوني فإنّ للقوم عندي طلبة لم يقضوها. فدخل رجل على ابن زياد فقال له: ما صنعتَ؟ قطعتَ يده ورجله وهو يحدّث الناس بالعظايم!

قال: ردّوه. وقد انتهى إلى بابه،

فردّوه فأمر بقطع يديه ورجليه ولسانه، وأمر بصلبه.». «1»

إضطهاد مجاميع من رجال المعارضة وحبسهم ..... ص : 87

قال المامقاني (ره): «إنّ ابن زياد لمّا أطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسين عليه السلام حبس أربعة آلاف وخمسمائة رجل من التّوابين من أصحاب أميرالمؤمنين وأبطاله الذين جاهدوا معه، منهم سليمان بن صُرد وإبراهيم بن مالك الأشتر و ... فيهم أبطال وشجعان.». «2»

ونقل القرشي أنّ عدد الذين اعتقلهم ابن زياد في الكوفة إثنا عشر ألفاً، «3» وأنّ من بين أولئك المعتقلين سليمان بن صُرد الخزاعي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 88

واربعمائة من الوجوه والأعيان. «1»

و «حبس جماعة من الوجوه استيحاشاً منهم، وفيهم الأصبغ بن نباتة، والحارث الأعور الهمداني». «2»

وذكر الطبري أنّ ابن زياد: «أمر أن يُطلب المختار وعبداللّه بن الحارث وجعل فيهما جعلًا، فأُتي بهما فحُبسا». «3»

قتل عبداللّه بن يقطر (رض) «4» ..... ص : 88
اشارة

إنّ المشهور عند أهل السير «5» هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام سرّح عبداللّه بن يقطر (رض) إلى مسلم بن عقيل عليه السلام بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلم إلى الإمام عليهما السلام الذي أخبره فيه باجتماع الناس وسأله فيه القدوم إلى الكوفة، فقبض عليه الحصين بن نمير «6» (أو بن تميم) «7» بالقادسية، لكنّ هناك روايتين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 89

تفيدان أنه (رض) كان رسولًا من مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام، وقبض عليه مالك بن يربوع التميمي أحد مأموري الحصين بن نمير خارج الكوفة.

وتفصيل القصة ..... ص : 89

- على أساس رواية كتاب تسلية المجالس- هكذا: أنه بينما كان عبيداللّه بن زياد يتكلّم مع أصحابه في شأن عيادة هاني ء: «1» «إذ دخل عليه رجل من أصحابه يُقال له مالك بن يربوع التميمي، فقال: أصلح اللّه الأمير، إني كنت خارج الكوفة أجول على فرسي، إذ نظرتُ إلى رجل خرج من الكوفة مسرعاً إلى البادية، فأنكرته، ثمّ إني لحقته، وسألته عن حاله فذكر أنه من أهل المدينة! ثمّ نزلت عن فرسي ففتّشته فأصبت معه هذا الكتاب. فأخذه ابن زياد ففضّه فإذا فيه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم: إلى الحسين بن علي: أمّا بعدُ: فإني أخبرك أنه بايعك من أهل الكوفة نيفاً على عشرين ألف رجل، فإذا أتاك كتابي فالعجل العجل، فإنّ الناس كلّهم معك، وليس لهم في يزيد هوى ...

فقال ابن زياد: أين هذا الرجل الذي أصبت معه الكتاب؟

قال: هو بالباب.

فقال: إئتوني به.

فلمّا وقف بين يديه، قال: ما اسمك؟

قال: عبداللّه بن يقطين. «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 90

قال: من دفع إليك هذا الكتاب؟

قال: دفعته إليَّ أمرأة لا أعرفها!

فضحك ابن زياد وقال: إختر أحد إثنين، إمّا أن تخبرني من دفع إليك الكتاب أو

القتل!

فقال: أمّا الكتاب فإنّي لا أُخبرك، وأمّا القتل فإني لا أكرهه لأنّي لا أعلم قتيلًا عند اللّه أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك!

قال: فأمر به فضربت عنقه «1».». «2»

وقال المحقّق الشيخ محمّد السماوي (ره): «وقال ابن قتيبة وابن مسكويه: إنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مسهّر ... وإنَّ عبداللّه بن يقطر بعثه الحسين عليه السلام مع مسلم، فلمّا أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمّ عليه ماتمّ بعث عبداللّه إلى الحسين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 91

يخبره بالأمر الذي انتهى، فقبض عليه الحصين وصار ما صار عليه من الأمر الذي ذكرناه.». «1»

وهذا يؤيّد انّ عبداللّه بن يقطر (رض) كان رسولًا من مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام، ولكنّة يخالف ما في رواية المناقب ورواية تسلية المجالس في أنه (رض) كان قد حمل إلى الإمام عليه السلام خبر الخذلان لاخبر البشرى بالعدد الكبير من المبايعين!

والظاهر أنّ عبداللّه بن يقطر (رض)- على المشهور- قُتل بنفس الطريقة التي قُتل بها قيس بن مسهّر الصيداوي (رض)، حيث أُلقي كلُّ منهما من فوق القصر، لكنّ الأوّل قُتل قبل الثاني رضوان اللّه تعالى عليهما، بدليل أنّ خبر مقتل ابن يقطر (رض) ورد إلى الإمام عليه السلام بزبالة في الطريق إلى العراق في نفس خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني ء (رض)، فنعاهم الإمام عليه السلام قائلًا: «أمّا بعدُ، فقد أتانا خبرٌ فظيع، قُتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة وعبداللّه بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا ...»، «2»

وبذلك يكون عبداللّه بن يقطر (رض) ثاني رسل النهضة الحسينية الذين استشهدوا أثناء أداء مهمّة الرسالة، بعد شهيد النهضة الحسينية الأول سليمان بن رزين (رض) رسول الإمام عليه السلام إلى البصرة.

البحث لمعرفة مكان مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 91
اشارة

كان الهمُّ الأكبر لعبيداللّه بن زياد منذ بدء

وصوله الكوفة هو معرفة مكان مسلم بن عقيل عليه السلام، فهو طلبته الكبرى ومبتغاه الأساس تنفيذاً لرسالة يزيد التي طلب منه فيها أن يطلب مسلماً عليه السلام طلب الخرزة.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 92

وكان مسلم عليه السلام نتيجة الإجراءات الإرهابية المتسارعة التي اتخذها ابن زياد وما أخذ به العرفاء والناس قد خرج من دار المختار حتى انتهى الى دار هاني ء (رض) فاتخذها مقرّاً له، وأخذت الشيعة تختلف إليه فيها على تستر واستخفاء وتواصٍ بالكتمان.

قال الدينوري: «وخفي على عبيداللّه بن زياد موضع مسلم بن عقيل، فقال لمولى له من أهل الشام يسمّى معقلًا- وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس «1»- وقال:

خذ هذا المال وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتَّ له بغاية التأتّي!

فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، وجعل لايدري كيف يتأتّى الأمر، ثمّ إنّه نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فقال في نفسه:

إنّ هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة! وأحسب هذا منهم! فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته قام، فدنا منه، وجلس فقال: جُعلت فداك، إني رجل من أهل الشام، مولى لذي الكلاع، وقد أنعم اللّه عليّ بحبّ أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وحبّ من أحبّهم، ومعي هذه الثلاثة آلاف درهم، أحبّ إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن عليّ عليه السلام، فهل تدلّني عليه لأوصل هذا المال إليه، ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحبَّ من شيعته؟

قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممّن هو في المسجد!؟

قال: لأنّي رأيت عليك سيما الخير، فرجوت أن تكون ممّن يتولّى أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 93

قال له الرجل: ويحك،

قد وقعتَ عليّ بعينك، أنا رجل من إخوانك وإسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُررتُ بك، وساءني ما كان من حسّي قِبلك، فإنّي رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمّة اللّه وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس.

فأعطاه من ذلك ما أراد!

فقال له مسلم بن عوسجة: إنصرف يومك هذا، فإنْ كان غدٌ فائتني في منزلي حتى انطلق معك إلى صاحبنا- يعني مسلم بن عقيل- فأوصلك إليه.

فمضى الشاميُّ، فبات ليلته، فلمّا أصبح غدا إلى مسلم بن عوسجة في منزله، فانطلق به حتّى أدخله إلى مسلم بن عقيل، فأخبره بأمره، ودفع إليه الشاميّ ذلك المال، وبايعه!

فكان الشاميّ يغدو إلى مسلم بن عقيل، فلا يحجبُ عنه، فيكون نهاره كلّه عنده، فيتعرّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيداللّه ابن زياد فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وفعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم في دار هاني ء بن عروة.». «1»

إشارة: ..... ص : 93

قد يأسف المتتبّع بادي ء ذي بدء للسهولة التي تمّت بها عملية اختراق حركة مسلم بن عقيل عليه السلام من داخلها على يد الجاسوس معقل مولى عبيداللّه بن زياد،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 94

من طريق مسلم بن عوسجة الأسديّ (رض)، وهو علم من أعلام الشيعة في الكوفة، وأحد شهداء الطفّ، وهو الشريف السَرِيُّ في قومه، «1» والفارس الشجاع الذي له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية، وقد شهد له الأعداء بشجاعته وخبرته وبصيرته وإقدامه. «2»

وفي ظنّ المتتبع أنّ على مسلم بن عوسجة (رض) أن يحذر أكثر ويحتاط حتّى يطمئنّ تماماً إلى حقيقة هويّة معقل الجاسوس قبل أن يدلّه على مكان مسلم بن عقيل عليه السلام أو يستأذن له في الدخول عليه! ليخترق بذلك الحركة من داخلها!

لكنّ

ما وقع فعلًا هو أنّ ابن عوسجة (رض) لم يكن قد قصّر في حذره وحيطته، غير أنّ معقلًا كان فعلًا «ماهراً في صناعته وخبيراً فيما انتُدب إليه» «3» لاختراق حركة مسلم عليه السلام من داخلها.

أمّا سهولة تعرّفه على ابن عوسجة (رض) فلا تحتاج الى كثير جهد ومشقّة إذا كان (رض) وجهاً شيعياً معروفاً في الكوفة، وقد كشف له معقل عن سرّ سهولة تعرّفه عليه حين قال له: «سمعت نفراً يقولون: هذا رجلٌ له علم بأهل هذا البيت، فأتيتك لتقبض هذا المال وتدلّني على صاحبك فأبايعه، وإنْ شئتَ أخذتَ البيعة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 95

له قبل لقائه!»، «1» ولقد عبّر له ابن عوسجة (رض) عن استيائه لسرعة تعرّفه عليه بقوله: «.. ولقد سائتني معرفتك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته ..». «2»

ثمّ إن ابن عوسجة (رض) أخّر معقلًا أيّاماً قبل أن يطلب الأذن له، وكان يجتمع معه في منزله هو تلك الأيّام «إختلفْ إليَّ أيّاماً في منزلي فإني طالب لك الأذن على صاحبك ..»، «3» ثمّ لم يدخله على مسلم بن عقيل عليه السلام حتى طلب له الأذن فأُذن له، ولاشك أنّ أخذ الأُذن يتمّ بعد شرح ظاهر الحال الذي تظاهر به معقل، ومن الدلائل على مهارة ابن زياد ومعقل في فنّ التجسس أنّ ابن زياد أوصى معقلًا أن يتظاهر بأنّه رجل من أهل الشام ومن أهل حمص بالذات، «4» ذلك حتّى لايكون بإمكان مسلم بن عوسجة أن يسأل ويستفسر عن حقيقة حاله في قبائل الكوفة، كما أنّ أهل حمص آنذاك على ما يبدو قد عُرف عنهم حبّهم لأهل البيت عليهم السلام، أو عُرف أنّ فيهم من يحبّ أهل البيت عليه السلام، فيكون

ذلك مدعاة لاطمئنان من يتخذه معقل منفذاً لاختراق حركة مسلم عليه السلام من داخلها، كما أنّ معقلًا قد ادّعى أمام ابن عوسجة (رض) أنه مولىً لذي الكلاع الحميري هناك في الشام، والمعروف عن جلّ الموالي حبّهم لأهل البيت عليهم السلام!

الخلاصة أنّ معقلًا كان قد أحكم خطّته واتقن تمثيل دوره المرسوم وبرع في

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 96

ذلك، لكنّ في حضوره يومياً عند مسلم بن عقيل عليه السلام، ودخوله عليه في أوّل الناس، وخروجه عنه آخرهم، فيكون نهاره كلّه عنده، ما يدعو إلى الريبة والشك فيه، فلماذا لم يرتب ولم يشكّ فيه مسلم عليه السلام وأصحابه!؟ إنّ في هذا ما يدعو إلى الإستغراب والحيرة فعلًا!

لكننا حيث لانملك معرفة تفاصيل جريان حركة أحداث تلك الأيّام بشكلٍ كافٍ، وحيث لم يأتنا التأريخ إلّا بنزرٍ قليل منها لاينفعنا إلّا في رسم صورة عامة عن مجرى حركة تلك الأحداث، وحيث نعلم أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام ومسلم بن عوسجة (رض) وأصحابهما هم من أهل الخبرة الإجتماعية والسياسية والعسكرية، فلا يسعنا أن نتعرض باللوم عليهم أو أن نتهمهم بالسذاجة! بل علينا أن نتأدّب بين يدي تلك الشخصيات الإسلامية الفذّة، وأن ننزّه ساحاتهم المقدّسة عن كلّ مالايليق بها، وأن نقف عند حدود معرفتنا التأريخية القاصرة لانتعدّاها إلى استنتاجات واتهامات غير صائبة ولا لائقة، خصوصاً إذا تذكّرنا حقيقة أنَّ عمليات الإختراق من الداخل من خلال دسّ الجواسيس المتظاهرين بغير حقيقتهم كانت أمراً مألوفاً منذ قديم الأيام ولم تزل حتّى يومنا الحاضر وتبقى إلى ما شاء اللّه، وشذّ وندر أن يجد الإنسان حركة سياسية تغييرية تعمل لقلب الأوضاع سلمت من الإختراق من داخلها من قبل أعدائها، بل قد لايجد الإنسان حركة سياسية تغييرية غير مخترقة،

وهذ لايعني أنّ قيادتها ساذجة ولاتتمتع بالحكمة!

اعتقال هاني ء بن عروة (رض) ..... ص : 96
اشارة

كان هاني ء بن عروة المرادي (رض) بفطنته السياسية والإجتماعية يتوقع مايحذره من عبيداللّه بن زياد برغم التستر والخفاء الذي كانت تتمّ في ظلّهما اجتماعات مسلم عليه السلام مع مريديه وأتباعه في بيته، وبرغم التواصي بالكتمان، ذلك لأنّ هانئاً (رض) كان يعلم أنّ الهمّ الأكبر لابن زياد هو معرفة مكان ومقرّ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 97

مسلم عليه السلام، فلابدّ له من أن يتجسس ويحتال الحيلة لمعرفة ذلك، وكان هاني ء (رض) يعرف مكر ابن زياد وغدره، فانقطع عن زيارة القصر خشية أن يمشي الى المحذور برجليه فيواجه الخطر بمعزلٍ عن قوّة قبيلته التي يحُسب لها ألف حساب في مجتمع الكوفة، تقول الرواية التأريخية «وخاف هاني ء بن عروة على نفسه، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض.

فقال ابن زياد لجلسائه: مالي لا أرى هانياً!؟

فقالوا: هو شاكٍ.

فقال: لو علمتُ بمرضه لعدتُه!!

ودعى محمّد بن الأشعث، «1» وأسماء بن خارجة، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي- وكانت رويحة بنت عمرو تحت هاني ء بن عروة، وهي أمّ يحيى بن هاني ء-

فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا!؟

فقالوا: ما ندري، وقد قيل إنه يشتكي.

قال: قد بلغني أنه قد بري ء، وهو يجلس على باب داره!، فالقوه ومروه ألّا يدع ما عليه من حقّنا، فإنّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب!

فأتوه حتّى وقفوا عليه عشيّة وهو جالس على بابه.

وقالوا له: مايمنعك من لقاء الأمير!؟ فإنّه قد ذكرك وقال لو أعلم أنّه شاكٍ لَعدتُه.

فقال لهم: الشكوى تمنعني!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 98

فقالوا له: قد بلغه أنّك تجلس كلّ عشية على باب دارك! وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لايحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبتَ معنا!

فدعى بثيابه فلبسها، ثمّ دعى ببغلة فركبها، حتّى إذا دنى من

القصر كأنّ نفسه أحسّت ببعض الذي كان، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن الأخ، إنّي واللّه لهذا الرجل لخايف! فما ترى؟

فقال: يا عمّ، واللّه ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلًا.

ولم يكن حسّان يعلمُ في أيّ شي ء بعث إليه عبيداللّه.

فجاء هاني ء حتى دخل على عبيداللّه بن زياد وعنده القوم، فلمّا طلع قال عبيداللّه: أتتك بخاين رجلاه! «1»

فلمّا دنى من ابن زياد، وعنده شريح القاضي، «2» إلتفت نحوه فقال:

أُريدُ حياته ويُريد قتلي عذيرك من خليلك من مُراد

وقد كان أوّل ما قدم مكرماً له ملطفاً ...

فقال له هاني: وما ذاك أيّها الأمير!؟

قال: إيه يا هاني بن عروة، ما هذه الأمور التي تربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنَّ ذلك يخفى عليَّ!؟

قال: ما فعلتُ ذلك، وما مسلم عندي.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 99

قال: بلى، قد فعلتَ!

فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هاني إلّا مجاحدته ومناكرته، دعى ابن زياد معقلًا ذلك العين، فجاء حتى وقف بين يديه.

فقال: أتعرف هذا؟

قال: نعم!

وعلم هاني عند ذلك أنّه كان عيناً عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم، فأُسقط في يده ساعة، ثُمَّ راجعته نفسه.

فقال: إسمع منّي وصدّق مقالتي، فواللّه لاكذبت، واللّه ما دعوته إلى منزلي، ولاعلمت بشي ء من أمره حتى جاءني يسألني النزول فاستحييتُ من ردّه، ودخلني من ذلك ذمام فضيّفته وآويته، وقد كان من أمره ما بلغك، فإنْ شئت أن أعطيك الآن موثقاً مغلّظاً ألّا أبغيك سوءً ولاغائلة، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتّى آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرجُ من ذمامه

وجواره.

فقال له ابن زياد: واللّه لاتفارقني أبداً حتى تأتيني به!

قال: لاواللّه، لاأجيئك به أبداً، أجيئك بضيفي تقتله!؟

قال: واللّه لتأتينّي به.

قال: لا واللّه لاآتيك به.

«فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي- وليس بالكوفة شاميٌّ ولابصريٌّ غيره- فقال: أصلح اللّه الأمير، خلّني وإيّاه حتّى أكلمه.

فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 100

سمع ما يقولان.

فقال له مسلم: يا هاني، أُنشدك اللّه أن تقتل نفسك، وأن تدخل البلاء في عشيرتك، فواللّه إنّي لأنفس بك عن القتل، إنّ هذا الرجل إبن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولاضائريه، فادفعه إليهم فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولامنقصة، إنما تدفعه إلى السلطان!

فقال هاني: واللّه إنّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، واللّه لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه!

فأخذ يناشده وهو يقول: واللّه لا أدفعه إليه أبداً!

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه منّي.

فأدنوه منه، فقال: واللّه لتأتينيّ به أو لأضربنّ عنقك.

فقال هاني: إذن لكثر البارقة حول دارك!

فقال ابن زياد: والهفاه عليك، أبالبارقة تخوّفني!؟- وهو يظنّ أنَّ عشيرته سيمنعونه- ثمّ قال: أدنوه منّي!

فأُدني منه، فاعترض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته حتى كُسر القضيب!

وضرب هاني يده إلى قائم سيف شرطيّ، وجاذبه الرجل ومنعه! فقال عبيداللّه: أحروريٌّ «1» ساير اليوم!؟ قد حلّ لنا دمك! جرّوه.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 101

فجرّوه، فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه!

فقال: إجعلوا عليه حرساً. ففُعل ذلك به. «1»

فقام إليه حسّان بن أسماء فقال: أَرُسُلُ

غدرٍ ساير اليوم!؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتّى إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيّلت دماءه على لحيته، وزعمت أنّك تقتله!؟

فقال له عبيداللّه: وإنّك لهاهنا!؟ «2» فأَمر به فَلُهِزَ وتُعْتِعَ وأجلسَ في ناحية، فقال محمّد بن الأشعث: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا، إنّما الأمير مؤدِّب!». «3»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 101

1)- قد يتساءل المتأمّل عجباً من أمر هاني بن عروة (رض) الذي كان يعرف مكر ابن زياد وغدره، وكانت خبرته السياسية والإجتماعية وتجارب العمر الطويل تفرض عليه أن يحتمل احتمالًا قويّاً أن تكون حركة النهضة قد اخترقت من قبل جواسيس ابن زياد: كيف مضى برجله إلى مواجهة المحذور من إهانة أو حبس أو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 102

قتل دون أن يأخذ الأهبة والإحتياط الكافيين لكلّ احتمالات لقائه بابن زياد، كأن يأخذ معه من رجالات قبيلته (مذحج) مجموعة لايقوى معها ابن زياد على إهانته أو حبسه أو قتله، أو يوقف عند باب القصر كتيبة من قبيلته تقتحم القصر إذا استبطأته وقتاً محدّداً بينه وبينها!؟

وهذا تساؤل في محلّه تماماً! ومن البعيد جدّاً ألّا يكون هاني (رض) قد فكّر بتلكم الإحتياطات لمواجهة محذورات لقائه بابن زياد في القصر لو كان رسل ابن زياد إليه من الجلاوزة أو ممّن يرتاب فيهم هاني (رض)، لكنّ الرسل الذين انتقاهم ابن زياد- على علمٍ ومكر هم ممّن لايرتاب هاني (رض) فيهم أو في بعضهم على الأقلّ، فمنهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي الذي كانت ابنته رويحة زوجة لهاني، وأسماء بن خارجة، أو ابنه حسّان، «1» وهو زعيم قبيلة فزارة، «2» ومحمّد بن الأشعث زعيم قبيلة كندة، «3» فهؤلاء من كُبّار وجهاء الكوفة وأشرافها، ومن البعيد جدّاً- في ظنّ هاني (رض)- أن يكونوا رُسُلَ غدر أو

أهلَ خيانة!

والظاهر أنّ هذا هو الذي جعلَ هانئاً (رض) يستبعد الإحتمال السي ء، فلم يعدّ العدّة ولم يأخذ الأهبة والإحتياط لمحذورات هذا اللقاء، فانطلت حيلة ابن زياد عليه، وصدّق الرُسُل في مانقلوه إليه من أنّ ابن زياد تفقّده لإنقطاعه عنه، وقال إنّه لم يعلم بمرضه ولو علم به لقام بزيارته! فاستظهر هاني ء (رض) أنّ ابن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 103

زياد حتى تلك الساعة لم يكن له علم بمكان مسلم عليه السلام، فدعا بثيابه فلبسها، وببغلة فركبها، ومضى معهم!

ومع استبعاد الإحتمال السي ء واستظهار أنّ ابن زياد لم يكن حتى تلك اللحظة قد علم بمكان مسلم عليه السلام، لايكون من الحكمة الإمتناع عن لقائه، أو أخذ الأهبة والعدّة للمحذور منه، أوطلب الأمان شرطاً للقائه، لأنّ كلَّ ذلك سيكشف عن المستور، ويؤكّد التهمة، ويؤديّ إلى تعجيل ضار في توقيت قيادة حركة النهضة لموعد قيامها ضد ابن زياد، ولعلَّ كلّ هذه الأمور قد خطرت على بال هاني بن عروة، فآثر المجازفة بنفسه دفعاً لكلّ تلك الأضرار والمساوي ء.

من هنا، يُستبعد ما أورده صاحب كتاب تجارب الأمم حيث قال: «ودعا عُبيد اللّه هاني ء بن عروة، فأبى أن يُجيبه إلّا بأمان! فقال: ماله وللأمان، هل أحدث حدثاً!؟ فجاءه بنوعمّه ورؤساء العشائر فقالوا: لاتجعل على نفسك سبيلًا وأنت بري ء. وأُتيَ به ...»، «1» أو ما رواه الطبري أنّ ابن زياد قال لأسماء بن خارجة ومحمّد بن الأشعث: «إئتياني بهاني ء. فقالا: إنّه لايأتي إلّا بأمان! قال: وماله وللأمان، وهل أحدث حدثاً!؟ إنطلقا فإنْ لم يأتِ إلّا بأمانٍ فآمناه! ..». «2»

2)- يبدو أنّ حيلة ابن زياد كانت قد انطلت حتى على بعض رُسُلِه إلى هاني ء بن عروة (رض)، إذ إنّ سياق القصة يكشف عن أنّ أسماء بن خارجة

«3» أو حسّاناً إبنه قد فوجي ء بغدر ابن زياد بهم وبهاني ء (رض)، فانتفض معترضاً بعدما رأى ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 104

صُنع بهاني ء (رض) وقال لابن زياد: أَرُسُلُ غدرٍ ساير اليوم!؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتّى إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيّلت دماءه على لحيته، وزعمت أنّك تقتله!؟ فقال له ابن زياد: وإنّك لهاهنا!؟ فَلُهِزَ وتُعتع وأُجلس ناحية، وفي رواية الفتوح: «فضرب حتى وقع لجنبه .. فحبس في ناحية من القصر وهو يقول: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، إلى نفسي أنعاك يا هاني ء!». «1»

أمّا محمد بن الأشعث فقد روى الطبري قائلًا «وزعموا أنّ أسماء لم يعلم في أي شي ء بعث إليه عبيداللّه، فأمّا محمّد فقد علم به! ..»، «2» وسواء أكان عالماً بخطّة ابن زياد أم لم يكن يعلم، نراه- وقد أدركه عِرق النفاق الضارب في أعماق عائلته- يقول متملقاً لابن زياد: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا، إنّما الأمير مؤدِّب!

أمّا عمرو بن الحجّاج الزبيدي- وهو أحد هؤلاء الرسل الذين جاؤا بهاني (رض) إلى ابن زياد- فقد غاب فجأة ولم يشهد ما جرى في هذا اللقاء، مع أنّ المفروض عرفاً وهو أحد الرسل الثلاثة أن يبقى كوسيط لإزالة السخيمة بين هاني (رض) وابن زياد، أو ليحامي عن هاني ء (رض) إذا تجاوز ابن زياد حدّه واعتدى عليه- كما حصل فعلًا- خصوصاً وأنّ هاني بن عروة زوج ابنته!

إذن فغيابه المتعمّد فجأة عن مسرح الحدث يكشف عن علمه المسبّق بخطة ابن زياد للإيقاع بهاني ء (رض)، وعن تواطئه معه لحبسه وقتله! ولقد أراد من وراء هذا الغياب الفاجي ء المتعمّد أمرين: الأوّل هو أن يصرف عن نفسه حرج عدم دفاعه عن هاني ء (رض) في حال حضوره، كما يدفع

بذلك عن نفسه أيضاً شبهة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 105

تواطئه مع ابن زياد لقتل هاني ء (رض)، لقد كان عمرو بن الحجاج الزبيدي حقاً رسول غدر! أمّا الأمر الثاني: فهو أنَّ هذا الخائن أراد أن يستبق الوقت ليمتطي موجة غضب قبيلة مذحج التي كانت ستثور حتماً لما أصاب هاني ء (رض)، فيقود جموعها الزاحفة بسيوفها نحو القصر لإنقاذه، وهناك ليفرّق هذه الجموع الغاضبة، ويصرفها عن القصر بخدعة مشتركة- كما سيأتي- بينه وبين شريح القاضي وابن زياد! إنّ هذا الدور الخياني نفسه دليل آخر قاطع على علم الزبيدي المسبّق بخطة ابن زياد.

3)- أظهرت هذه الرواية وكأنّ هاني ء بن عروة (رض) إنّما امتنع عن تسليم مسلم عليه السلام لإبن زياد لسبب أخلاقي عربي وإسلامي وهو حماية الضيّف والذبُّ عن الجوار «واللّه إنَّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح، أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، واللّه لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه!»، وفي هذا الموقف- وبهذا الحدّ الأخلاقي- شرف ومفخرة لهاني ء (رض) وأيُّ مفخرة!

لكنّ هناك نصوصاً تأريخية أخرى تؤكّد أنّ الدافع الذي منع هانئاً (رض) من تسليم مسلم عليه السلام كان دافعاً أسمى وأعلى من الدافع الأخلاقي! وهو الدافع الايمانيّ الطافح بالولاء لأهل البيت عليهم السلام، فقد روى ابن نما (ره) أنّ هاني ء بن عروة (رض) قال: «واللّه إنّ عليَّ في ذلك العار أن أدفع ضيفي ورسول ابن رسول اللّه، وأنا صحيح الساعدين كثير الأعوان ..»، «1» وفي رواية ابن أعثم: «بلى واللّه، عليَّ في ذلك من أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي، وهو رسول ابن بنت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 106

رسول اللّه صلى الله عليه و آله ...»،

«1» وفي رواية المسعودي أنّ هانئاً (رض) قال لابن زياد: «إنَّ لزياد أبيك عندي بلاءً حسناً، «2» وأنا أُحبّ مكافأته به، فهل لك في خير؟ قال ابن زياد: وما هو؟ قال: تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حقُّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك ..». «3»

4)- من مجموع النصوص التأريخية التي روت لنا قصة هذا اللقاء بين هاني ء (رض) وبين ابن زياد، أو جوانب من هذا اللقاء، يتضح جليّاً أنَّ هاني ء بن عروة (رض) كان يتمتع- وهو في التسعين من العمر- برباطة جأش، وثقة بالنفس، وشجاعة ملفتة للإنتباه، كما كان في غاية الإطمئنان والثقة بأنَّ مذحج لن تسلمه إذا تعرّض لمكروه، وأنَّ الكوفة يومذاك بالفعل كانت ساقطة بيد المعارضة وماهي إلّا إشارة تصدر عن مسلم عليه السلام حتّى يتحقق ذلك الأمر فعلًا وعلناً، فقوله لابن زياد لمّا هدّده بالقتل: «إذن لكثر البارقة حول دارك!» كاشف عن ثقته بردّ الفعل المناسب الذي كان لابد سيصدر عن مذحج خاصة وعن قيادة الثورة عامة، ومدُّه يده الشريفة إلى قائم سيف الشرطي ليقتل به ابن زياد كاشف عن شجاعته الفائقة، وقوله لابن زياد: «.. تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حقّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك»، أو قوله: «أيها الأمير، قد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 107

كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عندي، فأنت آمن وأهلك! فَسِرْ حيث شئت!» «1» كاشف عن ثقته التامة بأنَّ الكوفة فعلًا بيد قيادة الثورة، وأنّ ابن زياد ليس إلّا أميراً رمزياً يومذاك! ولايخفى على ذي دراية أنّ قوله لابن زياد: «.. فإن شئت أعطيك الآن موثقاً مغلّظاً الّا أبغيك سوءً ولاغائلة،

ولآتينّك حتّى أضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتّى آتيك، وأنطلقُ إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرجُ من ذمامه وجواره!» كان قولًا صادقاً وفيه من العمق السياسي الشي ء الكثير، إذ لو خرج من القصر لأخرج مسلم بن عقيل عليه السلام من داره فعلًا ولكن إلى قيادة الثورة بالفعل، ولأعلنها حرباً على ابن زياد يؤلّب لها الآلاف الكثيرة من المبايعين من مذحج وكندة وبقية القبائل الأخرى، فليس بعد يومه ذاك مايدعو الى الصبر والإنتظار- بعدَ أن اخترق ابن زياد حركة المعارضة من داخلها وعلم بكلّ شي ء!- وهذا لاينافي أنّ هانئاً (رض) كان صادقاً بقوله لابن زياد: «ألّا أبغيك سوءً ولاغائلة، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك!»، لأنّه قد يشفع لابن زياد- بعد انتصار الثورة بالفعل وسيطرتها على الكوفة وعلى القصر- ويأتيه كما وعده ويضع يده في يده ليسرّحه مع أهله إلى الشام، ولهاني ء بن عروة (رض) من المنزلة الرفيعة عند مسلم عليه السلام وعند أهل الكوفة ما يُستبعد عندها ردُّ شفاعته، أللّهمَّ إلّا إذا اعتُرضَ عليه بالدماء الزاكيات التي سفحها ابن زياد ظُلماً وجورا.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 108

الخدعة المشتركة! ..... ص : 108

في قصة حبس هاني ء بن عروة (رض) هناك دور خيانيٌّ لاريب فيه، تقمّصه عمرو بن الحجّاج الزبيدي المتفاني في امتثال أوامر أعداء أهل البيت عليهم السلام مع أنّ هانئاً (رض) كان صهراً له! ودور خيانيُّ صريح آخر تقمّصه شريح القاضي العُمريّ الأمويّ الميل والهوى، «1» بتنسيق وتخطيط من ابن زياد لعنه اللّه.

تقول الرواية التأريخية: «وبلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانياً قد قُتل! فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم، ثم نادى: أنا عمر بن الحجّاج، وهذه

فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم قُتل فأعظموا ذلك!

فقيل لعبيداللّه بن زياد: هذه مذحج بالباب!

فقال لشريح القاضي: أُدخلْ على صاحبهم فانظر إليه، ثم أخرج وأعلمهم أنّه حميٌّ لم يُقتل!

فدخل شريح فنظر إليه، فقال هاني لمّا رأى شريحاً: «2» ياللّه! ياللمسلمين!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 109

أهلكت عشيرتي!؟ أين أهل الدين!؟ أين أهل المصر!؟- والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجّة على باب القصر- فقال: إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إنْ دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني!

فلمّا سمع كلامه شريح خرج إليهم، فقال لهم: إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم وأعرّفكم أنّه حيٌّ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل!

فقال له عمرو بن الحجّاج وأصحابه: أمّا إذا لم يُقتل فالحمد للّه! ثمّ انصرفوا!». «1»

وفي رواية الدينوري: «فقال لهم سيّدهم عمرو بن الحجّاج: أما إذ كان صاحبكم حيّاً فما يعجلكم الفتنة!؟ انصرفوا!. فانصرفوا». «2»

لقد تجسّد دور شريح القاضي الخياني- وما أكثر أدواره الخيانيّة- في ممارسته التورية في عبارته الأخيرة: «فأمرني أن القاكم وأعرّفكم أنّه حيّ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل!» لأنه أتى بهذه العبارة بعد قوله لهم: «فأتيته فنظرت إليه»، فكأن الذي أمره هو هاني (رض) نفسه لا ابن زياد، ليشيع في نفوسهم الطمأنينة، وليوحي لهم أنّ هائناً يقول: إنّ الذي أثاركم وألّبكم خبرٌ باطل، ولا داعي لهذه الإثارة وهذه الفتنة!

وهنا يواصل عمرو بن الحجّاج دوره الخياني الطويل، فلا يردٌّ على شريح

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 110

القاضي فيقول مثلًا: لنرَ سيّدنا هانئاً ولنكلّمه أو لنخرجنّه من القصر عنوة! أو مايشبه هذا القول، أو لايكتفي بقول شريح فيدخل القصر- وهو من المقرّبين لابن

زياد- ليرى بنفسه هانئاً وحقيقة ما جرى عليه داخل القصر!!

بل نراه يؤكد صحة مقالة شريح ويخاطب جموع مذحج الثائرة قائلًا: «صدق، ليس على صاحبكم يأس فتفرّقوا!». «1»، «أمّا إذا كان صاحبكم حيّاً فما يُعجلكم الفتنة!؟ انصرفوا» فتنصرف هذه الجموع فاشلة وقد ذهبت ريحها، وأكثرهم يحبُّ العافية لتفشّي (الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت) في قلوبهم، ولو انبعث في تلك اللحظات الحاسمة رجال من مذحج فأنكروا على الزبيدي الخائن «2» رأيه وموقفه، وحرّضوا جموع مذحج على اقتحام القصر وإطلاق سراح هاني (رض) ثمَّ واصلوا تطهير الكوفة من كلّ رجس أمويّ، لكان قد كُتب لمذحج دور رياديّ في تغيير مجرى تأريخ حياة المسلمين، يُذكر فيشكُر إلى قيام الساعة، لكنّهم آثروا طاعة ابن الحجاج الزبيدي حرصاً على احترام عرف قَبَليّ- وحُبّاً للعافية!- وإن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 111

كان ذلك خلافاً لما هو أحقٌّ وأهمّ!، فكُتب لهم دور في الخذلان والخيبة، ماتلاه التأريخ على مسامع الأجيال إلّا وبعث في العقول والقلوب استنكاراً وريبة ونفورا!!

قيام مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 111
اشارة

إنّ أصعب مقاطع النهضة الحسينية المباركة من ناحية التحليل التأريخي هو مقطع حركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيل عليه السلام بعامة وحركة أحداث قيامه وانكساره السريع بخاصة، ففي هذا المقطع من كثرة الحلقات المفقودة، ومن تشابك العوامل وتداخلها وتنوّعها، ومن اضطراب النقل التأريخي لبعض مهمّ من وقائع هذا المقطع، ومن خفاء علل بعض مهمّ آخر، ما يجعل المتتبّع المتأمّل في حركة هذه الأحداث في حيرة غامرة.

وكثيرون ممّن كتبوا في أحداث هذا المقطع- والأقدمون منهم خاصة- مرّوا به مروراً مرتبكاً كما ارتبكت رواياته التأريخية، فجاء ما نقلوه أقرب إلى السطحية منه إلى التعمق، خالياً من الربط المطلوب بين حلقات أحداثه، فاقداً لما ينبغي أن يكون فيه من التحليل

والتعليل.

والمحققّون الذين بذلوا جهداً كبيراً في تحليل وقائع هذا المقطع وفي الربط بينها، وإنْ جاؤا بتحليلات وتفاسير جديدة وصحيحة غير قليلة- شكر اللّه سعيهم- إلّا أنهم وجدوا أنفسهم مضطّرين إلى إعتماد بعض الإفتراضات التي لاتسندها رواية أو حتى إشارة تاريخية، وما ذلك إلّا لكثرة الثغرات التأريخية في هذا المقطع، التي ألجأت المتتبع المحقّق إلى مثل هذه الإفتراضات التي ربّما كانت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 112

صحيحة وفي محلّها تماماً. «1»

ونحن هنا، لاندّعى أنا سنقدّم التفسير والتحليل الجامع المانع لجريان حركة أحداث هذا المقطع، بل نقول: إننا في هذه السطور سنحاول ردم بعض الثغرات، وسنسلّط الضوء الكافي على قضايا مهمّة لم تنل من قبل من الإهتمام والإيضاح ما يكفي لإبراز دورها الكبير في ما وصلت إليه أحداث الكوفة من نتائج مؤسفة، ويُظهر أهميتها الكبرى في تفسير جريان تلك الأحداث.

وفي البدء يكون من اللازم أن نقدّم الإجابة عن هذا السؤال:

المبادرة التي كان ينبغي أن تتحقّق! ..... ص : 112

في حسابات التحرّك نحو الأهداف المنشودة هناك مبادرات ضرورية ينبغي القيام بها والسبق إليها لضمان نجاح الحركة السياسية الإجتماعية التغييرية في الوصول الى أهدافها، بل ولضمان صدق المنتمين إلى هذه الحركة فيما بايعوا قائدهم وعاهدوه عليه، بل ولاختبار قدرتهم بالفعل على تنفيذ الأوامر الملقاة من قبل القيادة إليهم، وصبرهم الميداني على تحمّل تبعات تلك الأوامر المفترضة الإطاعة.

وإدراك ضرورة القيام بمثل هذه المبادرات ليس من مختصات العقول المتفوّقة في الوعي والذكاء، بل إنّ إدراك هذه الضرورة في متناول العقل العادي، هذا عمرو بن لوذان يخاطب الإمام الحسين عليه السلام قائلًا: «وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لوكانوا كفوك مؤنة القتال، ووطأوا لك الأشياء، فقدمت عليهم، كان ذلك رأياً،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 113

فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل!».

«1»

وهذا عمر بن عبدالرحمن المخزومي يقول للإمام عليه السلام أيضاً: «إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراوه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره! ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه!». «2»

ويقول له ابن عبّاس (رض): «فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ اقدم عليهم». «3»

والإمام عليه السلام لايُخطّي ء هذا الإدراك، بل يقرّر عليه السلام أنّ هذا الإدراك من النصح والعقل والرأي! فهو يقول لابن عبّاس: «يا ابن عمّ، إني واللّه لأعلم أنك ناصح مشفق!»، «4»

ويقول للمخزومي: «فقد واللّه علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل!»، «5»

ويقول لعمرو بن لوذان: «يا عبداللّه، ليس يخفى عليَّ الرأي!». «6»

إذن فقد كان ينبغي للقوّة المعارضة للحكم الأموي في الكوفة أنْ تُعدَّ العدّة وتستبق الأيام للقيام، وتبادر إلى السيطرة على الأوضاع في الكوفة قبل مجي ء الإمام عليه السلام إليها، «وذلك مثلًا باعتقال الوالي الأمويّ وجميع معاونيه وأركان إدارته، ومن عُرف من عيونه وجواسيسه، ومنع الخروج من الكوفة إلّا بإذن خاص، وذلك

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 114

لحجب أخبار مايجري فيها عن مسامع السلطة الأموية أطول مدّة ممكنة من أجل تأخير تحرّكها لمواجهة الإنتفاضة في الكوفة قبل وصول الإمام عليه السلام، حتى يصل الإمام عليه السلام فيمسك بزمام الأمور ويقود الثورة إلى حيث كامل الأهداف.

وليس في رسائل الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة ولافي وصاياه إلى مسلم بن عقيل عليه السلام مايمنع أهل الكوفة من القيام بهذه المبادرة التي أقرّ الإمام عليه السلام أنها من العقل والرأي! بل لقد دعاهم عليه السلام إلى القيام مع مسلم عليه السلام، حيث قال عليه السلام في رسالته الأولى إليهم- على رواية ابن أعثم-:

«فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولاتخذلوه!».

وفي رسالته الثانية التي بعثها إليهم بيد قيس بن مسهّر الصيداوي (رض)- والتي لم تصل إليهم لأنّ ابن زياد كان قد قبض على الرسول- دعاهم الإمام عليه السلام إلى السرعة والعزم على الأمر والجدّ فيه، حيث قال عليه السلام فيها: «فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا!»، إذ الكمش في الأمر هو العزم عليه والسرعة فيه!». «1»

لكنّ هذه المبادرة لم تصدر عن الشيعة في الكوفة، مع أنّ فيهم من ذوي الخبرات العريقة في المجالات الإجتماعية والسياسية والعسكرية عدداً يُعتدُّ به، ومن البعيد جداً أنّ التفكير بمثل هذه المبادرة لم يكن قد طرأ على أذهانهم أكثر من مرّة! فلماذا لم يبادروا!؟

لعلّ أهمّ الأسباب التي أدّت إلى عدم مبادرة الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجي ء الإمام عليه السلام إليها هي:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 115

1)- لم يكن للشيعة في الكوفة- وهم من قبائل شتّى- خصوصاً في فترة ما بعد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عميدٌ من شيعة أهل الكوفة، يرجعون إليه في أمورهم وملمّاتهم، ويصدرون فيها عن رأيه وقراره وأمره.

نعم، هناك وجهاء وأشراف متعددّون من الشيعة في الكوفة، لكلّ منهم تاثيره في قبيلته، لكنهم لاتصدر مواقفهم إزاء الأحداث الكبرى المستجدّة عن تنسيق بينهم وتنظيم يوحّد بين تلك المواقف، وينفي عنها التشتّت والتفاوت.

ولقد ترسّخت هذه الحالة في شيعة الكوفة خاصة نتيجة السياسات التي مارسها معاوية- بتركيز خاص على الكوفة خلال عشرين من السنوات العجاف الحالكة- في خلق الفرقة والتناحر بين القبائل، والإرهاب والقمع، والمراقبة الشديدة التي ترصد الأنفاس، والإضطهاد المرير والقتل الذي تعرّض له كثير من الشيعة ومن زعمائهم خاصة، الأمر الذي زرع بين الناس على مدى تلك السنين العشرين

العجاف الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة السلطان، وضعف الثقة وقلّة الإطمئنان فيما بينهم، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار.

ويكفي دليلًا على كلّ ما أشرنا إليه من التعددّية والتشتّت نفس المنحى الذي تمّت فيه مكاتبة أهل الكوفة الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، فلولا التعددية في مراكز الوجاهة والزعامة لما تعدّدت الرسائل والرسل منهم إلى الإمام عليه السلام.

فلو كان لهم زعيم واحد يصدرون عن رأيه وأمره لكفى الإمام عليه السلام منهم رسالة واحدة تأتي من زعيمهم، لا إثنا عشر ألف رسالة! ولما احتاج الإمام عليه السلام إلى أن يسأل آخر الرسل: «خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب به إليَّ معكما؟». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 116

كما يكفي دليلًا على ضعف الثقة والإطمئنان، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار، قول الشهيد الفذّ عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض) بين يدي مسلم بن عقيل عليه السلام: «أمّا بعدُ، فإنّي لا أُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم! واللّهِ أحدّثك عمّا أنا موطنٌّ نفسي عليه، واللّه لأجيبنّكم إذا دعوتم ولأقاتلنّ معكم عدوّكم ولأضربن بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أريد بذلك إلّا ماعند اللّه». «1»

2)- هناك ظاهرة عمّت القبائل العربية التي استوطنت الكوفة، وهي ظاهرة إنقسام الولاء في أفرادها، ففي كلّ قبيلة إذا وجدتَ من يعارض الحكم الأمويّ أو يوالي أهل البيت عليهم السلام، فإنّك تجد أيضاً قبالهم من يوالي الحكم الأمويّ ويخدم في أجهزته، ولعلّ الموالين للحكم الأمويّ في بعض هذه القبائل أكثر من المعارضين له عامة والموالين لأهل البيت عليهم السلام خاصة.

وهذه المشكلة ربّما كانت هي المانع أمام زعماء من الشيعة كبار في قبائلهم الكبيرة من أن يُثوّروا قبائلهم ضد الحكم الأموي علانية، وينهضوا

بهم للقيام بمثل تلك المبادرة المطلوبة، ذلك لأنّ أفراداً كثيرين هناك في نفس القبيلة ممّن يخدمون في أجهزة الأمويين ويوالونهم سيسارعون إلى إخبار السلطة الأموية بما عزم عليه زعيم قبيلتهم الشيعيّ، فيُقضى على ذلك العمل قبل البدء فيه، كما يُقضى على الزعيم الشيعيّ وعلى أنصاره أيضاً، ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلًا، كما تجد زعيماً شيعياً رائداً مثل هاني ء بن عروة (رض) تجد إزاءه أيضاً زعيماً آخر- أو أكثر- مثل عمرو بن الحجاج الزبيدي، «2» يتفانى في خدمة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 117

الأمويين إلى درجة أنْ يؤثر مصلحة الأمويين حتى على مصلحة مذحج نفسها، حينما قام بدوره المريب «1» في ركوب موجة انتفاضة مذحج وقيامها لإطلاق سراح هاني (رض) فردّهم عن اقتحام القصر وصرفهم وفرّق جموعهم بمكيدة منه ومن شريح وابن زياد.

وهذه الظاهرة تجدها في بني تميم، وبني أسد، وكندة، وهمدان، والأزد، وغيرها من قبائل أهل الكوفة.

إذن فقد كان من العسير عملياً على أيّ زعيم كوفي شيعيّ أن يقود جموع قبيلته في عملٍ ما ضدّ الحكم الأمويّ، وذلك لوجود زعماء آخرين من نفس القبيلة موالين للحكم الأمويّ، باستطاعتهم التخريب من داخل القبيلة نفسها على مساعي الزعيم الشيعي، أو من خارجها بالإستعانة بالسلطة الأموية نفسها.

3)- يُضاف إلى السببين الأوّل والثاني- وهما أهمّ الأسباب- سبب ثالث وهو تفشّي مرض الشلل النفسي، وازدواج الشخصية، والوهن المتمثل في حبّ الدنيا والسلامة وكراهية الموت، في جُلّ أهل الكوفة آنذاك خاصة.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما عبّر به محمد بن بشر الهمداني- الذي روى تفاصيل اجتماع الشيعة الأوّل مع مسلم بن عقيل عليه السلام في دار المختار (ره)، وروى مقالة عابس الشاكري ومقالة حبيب بن مظاهر ومقالة سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض)،

في استعدادهم للتضحية والموت في نصرة الإمام عليه السلام- حينما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 118

سأله الحجّاج بن عليّ قائلًا: فهل كان منك أنت قول؟

أجاب قائلًا: إنّي كُنت لأحبّ أن يُعزّ اللّه أصحابي بالظفر، وما كنت لأِحبَّ أنّ أنْ أُقتل، وكرهتُ أن أكذب! «1»

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أيضاً: قول عبيداللّه بن الحرّ الجعفي مخاطباً الإمام عليه السلام: «واللّه إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً!؟ فأنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت!». «2»

وكان زعماء الشيعة الكوفيون قد أدركوا خطورة انتشار هذا المرض، وتفطّنوا لأثره السي ء على كلّ نهضة وقيام، فكانوا يحسبون لخذلان الناس في أيّ مبادرة جهادية الف حساب، نلاحظ ذلك مثلًا في قول سليمان بن صرد الخزاعي في اجتماع الشيعة الأوّل: «فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهل والفشل فلاتغرّوا الرجل من نفسه!». «3»

وبعدُ، فلعلّ هذه الأسباب المهمة الثلاثة التي ذكرناها تشكّل إجابة وافية عن علّة عدم مبادرة زعماء الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجي ء الإمام عليه السلام.». «4»

حدود مهمّة مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 118

من هنا كانت مهمّة مسلم عليه السلام هي تعبئة وتنظيم وإعداد القوّة الموالية لأهل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 119

البيت عليهم السلام والمعارضة للحكم الأمويّ في الكوفة، والوصول بها إلى المستوى الكافي للقيام بكلّ ما تقتضيه متطلبّات ومسؤوليات النهضة مع الإمام الحسين عليه السلام.

ولاشكّ أنّ الوصول بهذه الحركة والقوّة إلى ذلك المستوى المنشود يحتاج إلى وقت كافٍ تُسدُّ فيه كلّ الثغرات وتستكمل فيه كل النواقص الروحية والعملية، لأنّ الغاية لم تكن إسقاط الحكومة المحليّة في الكوفة فحسب، بل الغاية في الأصل هو

إعداد الكوفة روحياً وعملياً- من جديد- كمركز لمواجهة ميدانية فاصلة مع جيش الشام.

وكان الأصل في مهمّة مسلم بن عقيل عليه السلام هو مواصلة تعبئة وتنظيم وإعداد الحركة الثورية حتى يأتي الإمام الحسين عليه السلام الى الكوفة، فيواصل من موقعه الذي لايرقى إليه موقع في القلوب قيادة النهضة على طريق تحقيق كامل أهدافها، والمتأمّل في ما كتبه مسلم بن عقيل عليه السلام من الكوفة إلى الإمام عليه السلام، وفي أسلوبه وطريقته في التعامل مع الأحداث سواء في أيام النعمان أو ابن زياد يلحظ هذا الأصل واضحاً جليّاً لاريب فيه.

لقد كان مسلم عليه السلام يتحاشى المواجهة الميدانية الفاصلة مع الحكومة الأموية المحليّة في الكوفة ما كان ذلك باختياره، حتى يستكمل الإعداد والتحضير من كلّ جهة لمهمّته التي أرسله من أجلها الإمام عليه السلام الى الكوفة، وكانت الحكومة المحليّة في الكوفة من جهتها أيضاً تتحاشى المواجهة الميدانية الفاصلة مع التكتل الثوري لأنها لم تكن تملك القدرة على ذلك إلّا إذا جاءتها النجدة من الشام.

والمتأمّل في أسلوب وطريقة تعامل عبيداللّه بن زياد مع حركة الأحداث في الكوفة يلحظ بوضوح أنّ هذا الطاغية- على ضوء معرفته ومعرفة أبيه العريقة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 120

بالوضع السياسي والإجتماعي والنفسي في الكوفة، وبرجالها وقبائلها- كان يسعى بدهائه وخبثه وغدره إلى أن يخرج من أزمتها برغم صعوبتها منتصراً دون الحاجة إلى الإستنجاد بجيش الشام، طمعاً في تقوية موقعه الإداري ومركزه القيادي عند يزيد بن معاوية.

وهكذا كان، فقد لجأ إلى حيلة اختراق الحركة من داخلها بواسطة أحد جواسيسه المحترفين المهرة، ثمَّ تواطأ مع عمرو بن الحجاج الزبيدي وغيره من الوجهاء الخونة «1» لاعتقال هاني (رض) ثمّ لامتطاء موجة غضب مذحج الزاحفة نحو القصر، ثمّ لصرفها عنه وتفريق

جموعها، ثمّ للوصول بعد ذلك الى المطلوب الأساس وهو اعتقال مسلم عليه السلام.

الإضطرار .. والقرار الإستثنائي ..... ص : 120

إذا كان اعتقال هاني (رض) في حسابات ابن زياد يعتبر الخطوة الناجحة الثانية- بعد نجاح خطوته الأولى في اختراق الحركة الثورية من داخلها- على طريق سعيه لإنهاء الأزمة الكوفية يومذاك، فإنّ اعتقال هاني (رض) في حسابات مسلم بن عقيل عليه السلام كان قد مثّل منعطفاً حرجاً خطيراً اضطرّه إلى الخروج عن خطّ السير المرسوم في الأصل، وألجأه إلى قرار استثنائي من أجل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 121

معالجة الوضع الطاري ء الجديد الذي فرضه ابن زياد على الحركة باعتقاله هانياً (رض)، إذ لم يعد أمام مسلم عليه السلام عندها إلّا أحد اختيارين:

الأوّل: هو البقاء على أصل خطّ السير المرسوم في مواصلة التعبئة والإعداد والتحضير، لكنّ هذه المواصلة لم تعد ممكنة بعد اعتقال هاني (رض) وذلك: لأنّ هاني بن عروة (رض) هو أقوى وأمنع شخصية كوفية من الناحية القبلية- فضلًا عن وجاهته الإجتماعية والدينية وموقعه البارز في حركة الثورة- فإذا تمكّن ابن زياد من اعتقاله ولم يواجه بانتفاضة كبرى جادة مستميتة من قبيلته خاصة ومن حركة الثورة عامة، فإنّ الكوفة بعدها لن تنتفض لإنقاذ أيّ رجل آخر من قبضة ابن زياد، وعندها فما هي فائدة مواصلة التعبئة والإعداد والتحضير!؟ ثمّ إنّ ابن زياد بعدها سيعتقل من يشاء من أشراف ووجهاء الكوفة بلا أدنى محذور، ومعنى هذا أنّ مسلماً عليه السلام لم يعد آمناً في الكوفة، ولاشك أنّه الرجل الثاني الذي سيُعتقل مباشرة بعد هاني (رض) الذي كان أقوى وأمنع حصن يمكن أن يحميه.

الثاني: هو التخلّي عن مواصلة الإعداد والتحضير، والتحرك قبل استكمال شرائط التحرك- تحت قهر الضرورة والإضطرار- لمواجهة حاسمة مع السلطة الأموية المحلّية في الكوفة، وهو الإختيار الوحيد

الذي لابُدّ من النهوض للقيام به فوراً.

وهكذا كان ... ..... ص : 121

يحدّثنا عبداللّه بن حازم البكري «1» فيقول: «أنا واللّه رسول ابن عقيل إلى القصر في أثر هاني ء لأنظر ما صار إليه أمره، فدخلت، فأخبرته الخبر، فأمرني أن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 122

أُنادي في أصحابي وقد ملأ الدور منهم حواليه، فقال: نادِ: يا منصور أَمِتْ! «1» فخرجت فناديتُ، وتبادر أهل الكوفة فاجتمعوا إليه، فعقد لعبدالرحمن بن عزيز الكندي على ربيعة، وقال له: سِرْ أمامي. وقدّمه في الخيل، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج وأسد، وقال له: إنزل فأنت على الرجّالة. وعقد لأبي ثمامة الصائدي على تميم وهمدان، وعقد للعبّاس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة، ثمّ أقبل نحو القصر.». «2»

وفي رواية الإرشاد عن لسان عبداللّه بن حازم قال: «أنا واللّه رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هاني ء فلمّا ضُرب وحُبس ركبتُ فرسي فكنت أوّل الداخلين الدار على مسلم بن عقيل بالخبر، فإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يا عبرتاه! ياثكلاه! فدخلتُ على مسلم فأخبرته الخبر، فأمرني أن أُنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله، فكانوا فيها أربعة آلاف رجل ... فناديت: يا منصور أمت! فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا عليه، فعقد مسلم رحمه اللّه لرؤوس الأرباع على القبائل كندة ومذحج وتميم وأسد ومضر وهمدان، وتداعى الناس واجتمعوا، فما لبثنا إلّا قليلًا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوق، ومازالوا يثوبون حتّى المساء ...». «3»

ويُدهشنا في خبر يرويه الطبري- عن عبّاس الجدلي أحد قيادي جيش مسلم عليه السلام- أنّ عدد أصحاب مسلم عليه السلام كان قد تناقص في تحرّكهم من الدور إلى القصر!! غير أنّ الناس قد تداعوا إلى مسلم عليه السلام من جديد واجتمعوا إليه بعد أن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 123

أقبل في

المراديين وأحاط بالقصر: «.. عن عباس الجدلي قال: خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلثمائة!! وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر، ثُمَّ إنّ الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فواللّه ما لبثنا إلّا قليلًا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، ومازالوا يتوبثّون حتى المساء ...». «1»

وكان عبيداللّه بن زياد بعد أن ضرب هانياً (رض) وحبسه، وبعد أن نجح في مؤامرته مع شريح القاضي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي في صرف قبيلة مذحج عن القصر وتفريق جموعها، قد بادر الى المسجد- «خشية أن يثب الناس به» «2»- فصعد المنبر، ومعه أشراف الناس وشُرَطُه وحشمه، «فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعدُ أيها الناس، فاعتصموا بطاعة اللّه وطاعة أئمتكم، ولاتختلفوا ولاتفرّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتُقتلوا وتُجفَوا وتُحرموا، إنّ أخاك من صدقك، وقد أعذر من أنذر.». «3»

وتواصل الرواية التأريخية الخبر فتقول:

«ثمّ ذهب لينزل، فما نزل عن المنبر حتّى دخلت النظّارة المسجد من قِبَل التمّارين يشتّدون ويقولون: قد جاء ابن عقيل! قد جاء ابن عقيل!

فدخل عبيد اللّه القصر مسرعاً، وأغلق أبوابه». «4»

وفي رواية ابن أعثم: «فما أتمّ عبيداللّه بن زياد تلك الخطبة حتّى سمع الصيحة، فقال: ما هذا؟ فقيل له: أيها الأمير، الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من بايعه!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 124

فنزل عبيد اللّه عن المنبر مسرعاً، وبادر فدخل القصر وأغلق الأبواب». «1»

وفي رواية أخرى: «فلمّا بلغ عبيداللّه إقباله تحرّز في القصر، وغلّق الأبواب، وأقبل مسلم حتى أحاط بالقصر، فواللّه ما لبثنا إلّا قليلًا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوقة، ومازالوا يتوثّبون حتّى المساء، فضاق بعبيداللّه أمره.». «2»

«وأقبل مسلم بن عقيل رحمه اللّه في وقته ذلك عليه، وبين

يديه ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون، وبين يديه الأعلام وشاكو السلاح، وهم في ذلك يشتمون عبيداللّه بن زياد ويلعنون أباه.». «3»

«وأقام النّاس مع ابن عقيل يكبّرون ويتوثّبون حتى المساء وأمرهم شديد.». «4»

«فضاق بعبيداللّه ذرعه، وكان كبر أمره أن يتمسّك بباب القصر، وليس معه إلّا ثلاثون رجلًا من الشُرط، وعشرون رجلًا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه.». «5»

ماذا صنع الأشراف الموالون لابن زياد!؟ ..... ص : 124

فلمّا سمع وجهاء الكوفة وأشرافها الموالون لابن زياد- الطامعون في دنياه والخائفون من بطشته!- بما يجري عند القصر وحواليه بادروا الى التسلل والإلتحاق بابن زياد في القصر ليثبتوا لأنفسهم حضوراً عنده، تقول الرواية التأريخية: «وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 125

الروميين». «1»

وفي البدء كانت الحجارة والشتائم! ..... ص : 125

ولم يكن باستطاعة من كان في القصر مع ابن زياد من أشراف الكوفة الموالين له ومن الشُرَطِ والحشم والخدم أن يصنعوا شيئاً إلّا أن يُشرفوا على الناس من أعلى القصر لينظروا إليهم، ولم يكن جواب الجماهير الثائرة إلّا الحجارة والشتائم وسبّ ابن زياد وأبيه «وجعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم، فيتّقون أن يرموهم بالحجارة وأن يشتموهم، وهم لايفترون على عبيداللّه وعلى أبيه.». «2»

ثمّ كان المَدَرِ والنُشّاب! ..... ص : 125

يقول الدينوري: «وتحصّن عبيداللّه بن زياد في القصر مع من حضر مجلسه في ذلك اليوم من أشراف أهل الكوفة والأعوان والشُّرَط، وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمَدرِ «3» والنُشّاب، ويمنعونهم من الدنوّ من القصر، فلم يزالوا بذلك حتّى أمسوا!». «4»

ثمّ بدأت حملات التخذيل ورايات الأمان الكاذب! ..... ص : 125

تقول رواية الطبري: «ودعا عبيداللّه كثير بن شهاب ابن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج! فيسير بالكوفة ويخذّل الناس عن ابن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 126

عقيل ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبث بن ربعي التميمي، وحجّار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشاً إليهم لقلّة عدد من معه من الناس.». «1»

إعتقال المجاهدَين عبدالأعلى بن يزيد وعمارة بن صلخب! ..... ص : 126

ويواصل الطبري روايته قائلًا: «وخرج كثير بن شهاب «2» يخذّل النّاس عن ابن عقيل، قال أبومخنف: فحدّثني ابن جناب الكلبي: أنّ كثيراً ألفى رجلًا من كلب يُقال له عبدالأعلى بن يزيد، قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان، «3» فأخذه حتّى أدخله على ابن زياد، فأخبره خبره.

فقال لابن زياد: إنّما أردتك!

قال: وكنت وعدتني ذلك من نفسك!؟ فأمر به فحبُس.

وخرج محمّد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، وجاء عمارة بن صلخب الأزدي، وهو يريد ابن عقيل، عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد، فحبسه.». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 127

مسلم عليه السلام يبعث بقوّة عسكرية تدحر ابن الأشعث! ..... ص : 127

ويبدو أنّ مسلماً عليه السلام علم أنّ مجموعات ابن زياد التي أخذت تخذّل الناس عنه، بقيادة كثير بن شهاب، ومحمّد بن الأشعث، والقعقاع، وشمر، وشبث، وحجّار، أخذت تقطع عليه المدد من المجاهدين المقبلين إليه من ضواحي الكوفة وتعتقلهم، فبعث بقوّة عسكرية من المسجد بقيادة المجاهد عبدالرحمن بن شريح الشبامي ليدحر ابن الأشعث ويردّه الى القصر، تقول رواية الطبري:

«فبعث ابن عقيل إلى محمّد بن الأشعث من المسجد عبدالرحمن بن شريح الشبامي، فمّا رأى محمّد بن الأشعث كثرة من أتاه أخذ يتنحّى- وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمّد بن الأشعث: قد حُلْتُ على ابن عقيل من العرار- فتأخّر عن موقفه فأقبل حتى دخل على ابن زياد من قِبل دار الروميين». «1»

والظاهر أنّ قوات مسلم عليه السلام لم تدحر مجموعة محمد بن الأشعث فحسب بل دحرت كلّ المجاميع التي أخرجها ابن زياد لرفع رايات الأمان ولتخذيل الناس واعتقال من يمكن اعتقاله من الثوّار، والدليل على هذا أنّ قادة هذه المجاميع مع مجاميعهم عادوا الى القصر مرّة أخرى، والأظهر أنهم عادوا منهزمين مقهورين، وعبيداللّه بن زياد

أكثر منهم انكساراً وخوفاً، تقول رواية الطبري: «فلمّا اجتمع عند عبيداللّه كثير بن شهاب، ومحمّد، والقعقاع، فيمن اطاعهم من قومهم، فقال له كثير- وكانوا مناصحين لابن زياد- أصلح اللّه الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شُرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إليهم! فأبى عبيداللّه، وعقد لشبث بن ربعي لواءً فأخرجه!». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 128

فكان قتال وقتال! ..... ص : 128

ثُمَّ لايذكر التأريخ ماذا صنع لواء شبث بن ربعي! لكنّ بعض المتون التأريخية تشير إلى وقوع قتال شديد، فرواية ابن أعثم الكوفي تقول: «وركب أصحاب عبيداللّه، واختلط القوم، فقاتلوا قتالًا شديداً، وعبيداللّه بن زياد وجماعة من أهل الكوفة قد أشرفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة النّاس!». «1»

وأمّا ابن نما (ره) فيروي خبراً خاصاً في محتواه، حيث ذكر أنّ أكثر الأشراف الذين كانوا قد بايعوا مسلماً عليه السلام قد نقضوا البيعة وتخلّوا عنه قبل أن يتوجّه إلى محاربة عبيداللّه بن زياد، ويُستفاد من روايته أنّ القتال الشديد بين الطرفين قد استمرّ إلى الليل!، يقول (ره): «ولمّا بلغ مسلم بن عقيل خبره «2» خرج بجماعة ممّن بايعه إلى حرب عبيداللّه بعد أن رأى أكثر من بايعه من الأشراف نقضوا البيعة، وهم مع عبيداللّه، فتحصّن بدار الإمارة، واقتتلوا قتالًا شديداً إلى أن جاء الليل.». «3»

لماذا لم يقتحم الثوّار القصر!؟ ..... ص : 128

لعلّ هذا التساول قد انقدح في ذهن كلّ من فكّر وتأمّل في قصة حركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيل عليه السلام، وهو سؤالٌ وجيه، يبقى السائل عنده في حيرة واستغراب مالم يُلمَّ بكل المتون التأريخية الواردة في قصة تلكم الأيّام، ويُحيط بشوارد الدلالات الظاهرة والخفيّة فيها، أو يتلقّى الإجابة المقنعة عن ذي علم قد أحاط بها.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 129

ومن مجموع تلكم المتون يمكننا أن نذكّر بمجموعة من الملاحظات التي تتضح وتتحدّد بمعرفتها واستذكارها الإجابة عن هذا التساؤل:

1)- ذكرنا من قبلُ أن قرار المواجهة مع الحكومة المحليّة في الكوفة كان قراراً إستثنائياً فرضته الضرورة التي اضطرّت مسلماً عليه السلام إلى الخروج عن أصل خط السير في إتمام إعداد وتحضير جموع المبايعين روحياً وعملياً لتحمّل أعباء النهضة مع الإمام عليه السلام، والمدّة التي

قضاها مسلم عليه السلام منذ دخوله الكوفة حتى محاصرته القصر وهي حوالي شهرين تعتبر قصيرة إزاء المدّة المطلوبة لإتمام الإعداد والتحضير.

إذن فقد حاصر مسلم عليه السلام القصر بجموع أكثريتها لم تستكمل الإعداد الكافي، فهي من حيث الناحية الروحيّة لم يزل الشلل النفسي والوهن الروحي يحبّب لهم الدنيّا والعافية والسلامة وكراهية الموت- إنهم يتمنّون لو انتصر مسلم أو الإمام عليهما السلام ولكن بلا مؤنة على أنفسهم في ذلك!-، ولم يزل إسم (جيش الشام) يثير فيهم أقصى درجات الرعب والإحساس بالهوان والمذلّة!، ومن الناحية العملية فإنّ ارتباطهم القبلي لم يزل- عند الأكثرية منهم- أقوى من الإرتباط الديني، وهذا أخطر ما يمكن أن يضرَّ بالحركة الدينية الثورية آنذاك، وربّما إلى اليوم في بعض بلدان العالم الإسلامي! هذا فضلًا عن عدم استكمال تحضير العدّة الكافية من أسلحة وأموال، وتدريب ووسائل وأساليب الإرتباط والإمداد وما إلى ذلك!

يرى المتتبع ماقلناه في هذه النقطة واضحاً جليّاً في دلالات بعض المتون التأريخية، فهذا عبّاس بن جعدة الجدلي وهو أحد قادة الألويّة في جيش مسلم عليه السلام يقول: «خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلّا ونحن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 130

ثلثمائة!»، «1» وهذا ابن نما (ره) يروي أنّ مسلماً عليه السلام أحسَّ بالخذلان قبل مهاجمته القصر حيث «رأى أكثر من بايعه من الأشراف نقضوا البيعة وهم مع عبيداللّه!»، «2» وخذ مثلًا على تفضيل الإنتماء القبلي على الرابطة الدينية رواية الطبري أنّ ابن زياد دعا كثير بن شهاب «فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت ..»، «3» وفي هذا النصّ بالذات

إشعار كافٍ أيضاً بالحالة المعنوية المتدنيّة عند الناس يومذاك، والتي كان ابن زياد لعنه اللّه يعرفها جيداً فيهم وفي وجهائهم!

2)- كان لتفرّق قبيلة مذحج وإنصرافها عن القصر، وبقاء هاني (رض) رهن الإعتقال وخطر القتل- بعد أن اجتمعت مذحج قاطبة بكلّ فروعها لاستنقاذه أو للثأر له- أثرٌ سي ء كبير فيما بعد على المواجهة التي قام بها مسلم عليه السلام لاستنقاذ هاني (رض)، إذ ألقت هذه النهاية الخائبة في روع النّاس- وهذا ما كان يهدف إليه أيضاً ابن زياد وعمرو بن الحجّاج وأمثالهم- أنّه إذا كانت مذحج قبيلة هاني (رض) نفسه وهي أكبر وأقوى قبيلة في الكوفة لم تستطع إنقاذه، أو رضيت ببقائه معتقلًا عند ابن زياد، فما بال مسلم عليه السلام يصرُّ على إطلاق سراحه!؟ وهل يقوى بمن معه من هذا الخليط المنوّع من قبائل شتّى أن يحقّق مالم تحققه مذحج نفسها!؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 131

لقد كان هذا سبباً من اسباب انبعاث الشك في قلوب ضعاف الإيمان من أهل الكوفة- وما أكثرهم!- حول قدرة مسلم عليه السلام على تحقيق مايريد، ممّا أدّى إلى تراخي الهمّة والعزم فيهم وتفرّقهم عنه.

وإذا تذكّرنا أنّ حادثة اجتماع مذحج وإحاطتها بالقصر ثمّ تفرّقها وإنصرافها عنه قد تزامنت مع قيام مسلم عليه السلام وإقباله بمن معه لمحاصرة القصر- مع تفاوت زمني قليل جدّاً- علمنا أنه لم يكن هناك متسع من الوقت أمام قيادة الثورة لمعالجة هذا الأثر النفسي السي ء الذي سببته النهاية الخائبة لاجتماع مذحج ثمَّ انصرافها.

ولعلّ هذا الأثر النفسيّ السّي ء هو الذي يفسّر لنا تناقص عدد جيش مسلم عليه السلام في بداية الأمر كما حدّثنا بذلك القائد عبّاس الجدلي: «خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلثمائة!».

3)- الظاهر

مما توحيه بعض المتون التأرخية أنّ مسلماً عليه السلام حاصر القصر بعدد من مبايعيه (أربعة آلاف) يشكّل أقل من ثلث العدد الشهير لمجموع مبايعيه (ثمانية عشر ألفاً)، ويبدو أنّ بقيّة هذا المجموع- الذين لم يشتركوا في بدء محاصرة القصر- كانوا مبثوثين في داخل مدينة الكوفة وفي أطرافها وضواحيها، والظاهر أنّ مسلماً عليه السلام قد أرسل إليهم من يخبرهم بقراره الإستثنائي ويستنفرهم للإلتحاق به، ويبدو أنّ من كان منهم في داخل الكوفة قد استطاع الإلتحاق بمسلم عليه السلام قبل المساء، بدليل قول القائد عبّاس الجدلي أيضاً: «.. ثمّ إنّ الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فواللّه ما لبثنا إلّا قليلًا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوق ومازالوا يثوبون حتّى المساء ..»، «1» كما أرسل مسلم عليه السلام إلى قواته الموجودة في أطراف الكوفة، لكنها في الظاهر لم تستطع الوصول الى داخل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 132

الكوفة إلّا بعد تفرّق النّاس وانتهاء الحصار وانقلاب الوضع، مثل اللواء الذي جاء به المختار، واللواء الذي جاء به عبداللّه بن الحارث بن نوفل، حيث وصلا إلى داخل الكوفة بعد فوات الأمر، فاضطّر المختار إلى أن يدّعي أنه جاء لحماية عمرو بن حُريث! بعد أن وضح لهما قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، ففي رواية تأريخية:

«وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تُدعى (خطوانيّة) فجاء بمواليه يحمل راية خضراء، ويحمل عبداللّه بن الحارث راية حمراء، وركز المختار رايته على باب عمرو بن حريث وقال: أردتُ أن أمنع عمراً! ووضح لهما قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، وأشير عليهما بالدخول تحت راية الأمان عند عمرو بن حُريث ففعلا، وشهد لهما ابن حريث باجتنابهما ابن عقيل، فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه

بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين عليه السلام.». «1»

من هنا، يُفهم أنّ مسلماً عليه السلام بقي مدّة طويلة من ذلك النهار يستجمع قوّاته وينتظر وصول مالم يصل منها للقيام بعمل عسكري حاسم يؤدي إلى فتح القصر أمام الثّوار والسيطرة عليه وعلى من فيه.

4)- لايشكُ المتأمّل العارف بأخلاقية أهل البيت عليهم السلام السامية وأخلاقية من تربّى في أحضانهم وكنفهم، والمُدرك للضرورات السياسية والإجتماعيّة، أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام كان يحرص كلّ الحرص على سلامة هاني بن عروة (رض)

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 133

وعلى انقاذه وإطلاق سراحه محفوظ العزّة والجاه والكرامة، وبرغم أنف ابن زياد ومن شايعه من وجهاء وأشراف الكوفة.

وذلك: لإيمان هاني (رض) ومظلوميّته وأهميّته، فنصرته واستنقاذه وإعزازه أمرٌ واجب مع القدرة على ذلك، وتتجلّى أهميّة هاني (رض)- فضلًا عن كونه قياديّاً بارزاً جداً في التكتل الثوري- في كونه القطب الذي يمكن أن تجتمع عند كلمته قبيلة مذحج قاطبة، ففي إطلاق سراحه عزيزاً منتصراً على يد قوّات الثورة- برغم ابن زياد- تعزيز وتقوية لموقعه الرفيع في أهل الكوفة عامة، وفي قبيلة مذحج خاصة التي قد تستشعر فضل الثورة عليها بإطلاق سراح زعيمها معزّزاً مُكرّماً، الأمر الذي قد يدفع جميع مذحج بعد ذلك إلى إطاعة هاني (رض) في مناصرة الثورة والإنضمام إليها إلى آخر الأمر، ولايخفى ما في جميع ذلك من إذلالٍ للسلطة الأمويّة وكسر لشوكتها وإضعافها، هذا على فرض أنّ المواجهة بين الثوّار والسلطة كانت ستنتهي عند إطلاق سراح هاني (رض).

من هنا، يمكن للمتأمّل المتتبع أن يجزم بأنّ الثوّار كانوا قد عزموا على اقتحام القصر، ووضعوا لذلك الخطّة التي تضمن سلامة هاني (رض) أيضاً.

5)- هناك إشارات تأريخية تفيد أنّ عبيداللّه كانت قد تزايدت قواته

القتالية طيلة نهار ذلك اليوم- يوم حصار القصر- حتّى صار بإمكانها أن تؤخّر عملية اقتحام الثوار للقصر حتّى المساء.

نعم، لعلّ من الصحيح ما ورد أنه لم يكن معه في البدء لمّا أقبلت قوات مسلم عليه السلام نحو القصر غير ثلاثين رجلًا من الشُرَط وعشرين رجلًا من اشراف الناس وأهل بيته ومواليه، «1» لكنّ الأشراف والوجهاء الذين كان ميلهم مع ابن زياد أو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 134

كانوا يخشون أن تصيبهم دائرته تسللّوا إلى داخل القصر مع مواليهم ومن أطاعهم من قبائلهم بخفاء وتدريج: «وأقبل أشراف النّاس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين ..»، «1» حتى بلغ عددهم على مافي رواية الدينوري: «وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر والنشّاب، ويمنعونهم من الدنّو من القصر، فلم يزالوا بذلك حتّى أمسوا»، «2» ثمّ ازداد عددهم حتّى عبّر عنه كثير بن شهاب ب (الكثير) حين قال لابن زياد: «أصلح اللّه الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف النّاس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك فاخرج بنا إليهم!». «3»

إذن فإنّ قوّة ابن زياد الحربية تزايدت حتّى صار بمقدورها مقاومة الثوّار ومنعهم من الدنوّ من القصر وتأخير اقتحامه حتّى حلول المساء.

هذا فضلًا عن أنّ «من المعلوم أنّ إخضاع القصر بمن فيه لايتمّ خلال ساعة من الحصار، كما أنّ وقت النهار يكاد ينتهي، والهجوم على القصر الضخم البناء الذي أوصد ابن زياد أبوابه الكبيرة بشكل محكم لايسفر عن نتيجة نافعة، إنّه كالهجوم على الصخر- كان القصر مشيّداً بمتانة بالغة، تحكي ذلك أنقاضه الموجودة لحدّ الآن، رغم مرور ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً على تشييده، ويكفي أن نتصوّر كون جدار القصر من القوة والسعة بحيث تتمكن الشاحنات من السير فوقه-

فلابُدَّ إذن والحالة هذه من المحاصرة المستمرة التي قد تطول أيّاماً

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 135

حتّى يستسلم من فيه مثلًا، أو يسلّموا هاني ء على أقلّ تقدير.». «1»

6)- لايتردد المتأمّل في المتون التاريخية التي تتحدّث عن نشوب القتال بين الطرفين في القطع بأنّ الثوّار بقيادة مسلم عليه السلام كانوا قد نفّذوا خطّتهم لاقتحام القصر، وأنّهم قاتلوا قتالًا شديداً لتحقيق النصر، كما أنّ قوّات ابن زياد قد دافعت عن القصر دفاعاً مستميتاً حتّى المساء، ومن هذه المتون التي تشير إلى ذلك قول ابن أعثم الكوفي: «وركب أصحاب عبيداللّه، واختلط القوم، فقاتلوا قتالًا شديداً ..»، «2» وقول ابن طاووس (ره): «وأقتتل أصحابه وأصحاب مسلم»، «3» وقول ابن نما (ره): «واقتتلوا قتالًا شديداً إلى أن جاء الليل.». «4»

وأقبل المساء يحمل النهاية الموسفة! ..... ص : 135

يقول الطبري: «.. وأقام النّاس مع ابن عقيل يُكبّرون ويثوبون حتّى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عبيداللّه إلى الأشراف فجمعهم إليه ثمّ قال: أشرفوا على النّاس، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوِّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، واعلموهم فصول الجنود من الشأم إليهم»، «5» وفي رواية الدينوري:

«لِيُشرفْ كلُّ رجل منكم في ناحية من السور فخوِّفوا القوم! فأشرف كثير بن شهاب، ومحمّد بن الأشعث، والقعقاع بن شور، وشبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن، فتنادوا: يا أهل الكوفة! اتقوا اللّه ولاتستعجلوا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 136

الفتنة! ولاتشقّوا عصا هذه الأمّة! ولاتوردوا على أنفسكم خيول الشام! فقد ذقتموهم، وجرّبتم شوكتهم!.

فلمّا سمع أصحاب مسلم مقالتهم فتروا بعض الفتور!!». «1»

ويواصل الطبري رواية النهاية المؤسفة عن لسان عبداللّه بن حازم: «قال:

أشرف علينا الأشراف، فتكلّم كثير بن شهاب أوّل الناس حتّى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيّها النّاس، إلحقوا بأهاليكم ولاتعجلوا الشرّ، ولاتعرضوا أنفسكم للقتل، فإنّ هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد

قد أقبلت! وقد أعطى اللّه الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البري ء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتّى لايبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جرّت أيديها!

وتكلّم الأشراف بنحوٍ من كلام هذا!

فلمّا سمع مقالتهم النّاس أخذوا يتفرّقون، وأخذوا ينصرفون!». «2»

ثمّ كان الإنهيار من الداخل! ..... ص : 136

يقول الدينوري: «وكان الرجل من أهل الكوفة يأتي إبنه وأخاه وابن عمّه فيقول: انصرف فإنّ الناس يكفونك! وتجي ء المرأة الى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلّق به حتّى يرجع!». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 137

ويروي الطبري: «أنّ المرأة كانت تأتي إبنها وأخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك! ويجي ء الرجل إلى إبنه أو أخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر!؟ إنصرف! فيذهب به، فما زالوا يتفرقون ويتصدّعون ..». «1»

وقال ابن أعثم: «فلمّا سمع النّاس ذلك تفرّقوا وتحادوا عن مسلم بن عقيل رحمه اللّه، ويقول بعضهم لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة، وغداً تأتينا جموع أهل الشام!؟، ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا، وندع هؤلاء القوم حتّى يُصلح اللّه ذات بينهم ... ثمّ جعل القوم يتسلّلون والنهار يمضي ..». «2»

علّة الإنهيار المذهل والتداعي السريع! ..... ص : 137

هذا الإنهيار والتداعي السريع الذي هدم كيان التكتل الكبير الذي كان قد التفّ حول مسلم بن عقيل عليه السلام كاشف تماماً عن أنّ جماهير هذا التكتل لم تستكمل الإعداد الروحي لمثل هذه المواجهة ولما بعدها من مسؤوليات وتبعات، الإعداد الروحي الذي يستنقذها من مرض الوهن: وهو حبّ الدنيا وكراهية الموت! وحبّ السلامة والعافية! والرضا بالذلّة، والشلل النفسي الذي يتجلّى في السكوت عن الباطل! بل وفي إطاعة الباطل مع المعرفة بأنه باطل ومقارعة الحقّ مع المعرفة بأنه الحقّ!

هذان المرضان اللذان تسرّبا إلى شخصية الإنسان المسلم بعد السقيفة واشتدّا في حياة الأمّة المسلمة بعد كلّ منعطف إنحرافي تلا السقيفة، واشتدّ هذان المرضان بدرجة كبيرة في الشخصية الكوفية خاصة واستحكما فيها في فترة ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 138

بعد صفّين، وخصوصاً في الأيام التي صار فيها معاوية بلامنازع ينازعه، «1» حتّى صار لكلمة (خيل الشام) أو (جند الشام) أو (جيش الشام) يومذاك أثر رهيب في

روع جُلِّ أهل الكوفة خاصة، لما ذاقوه من ويلات ومرارات على يد ذلك الجيش، ولما عانوه في عهد معاوية من سياسات تعمّدت قهرهم خاصة وإذلالهم في جميع جوانب حياتهم، وكانت المواجهة مع (جيش الشام) في أذهان وقلوب جلّ الكوفيين تعني يومذاك المواجهة مع عدوّ لايرقب فيهم إلّا ولاذمّة، ولايتورّع عن انتهاك أعراضهم وحرماتهم وقتل العزّل والأبرياء منهم، وقطع أرزاقهم ومنع العطاء عنهم.

وهذا لايعني أنّ الكوفة قد عُدمت الأخيار الأبرار من أهاليها، بل إنّ في الكوفة، من رجالات المبدأ والعقيدة والجهاد جماعة مثّلوا المستوى الرفيع في الشخصية الإسلامية التي جسّدت النهج القرآنيّ في سيرتها وسلوكها.

لكنّ هؤلاء كانوا القلّة العزيزة النادرة في مجموع أهل الكوفة، ويكفي دليلًا على ذلك قياس مجموع من نصر الإمام الحسين عليه السلام منهم إلى مجموع من نكل عنه ونقض بيعته وأطاع أعداءه في قتاله وقتله!

فلو كان التكتل الكبير الذي بايع مسلماً عليه السلام قد نال حظّاً وافراً من الإعداد التربوي والإصلاح الروحي لما تفرّق هذا التفرّق السريع المذهل عن مسلم عليه السلام، ولكان فيه بقيّة وافية كافية لإنجاح خطّة مسلم عليه السلام وقهر ابن زياد، من الرجال القرآنيين الذين لم يُضعف عزائمهم الوهن، ولم يعتورهم الشلل النفسي، الذين أحبّوا الموت والقتل في اللّه من أجل لقاء اللّه، وكرهوا الدنيا بلا عزّة وما أثّاقلوا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 139

إلى الأرض، فكان هيهات منهم الذلّة: «الذين قال لهم النّاس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضل عظيم.». «1»

وأطبق الليل مرّة أخرى على الكوفة .. ومسلم عليه السلام وحده! ..... ص : 139
اشارة

يقول ابن أعثم الكوفي: «فما غابت الشمس حتى بقي مسلم بن عقيل في عشرة أفراس من أصحابه، لا

أقلّ ولا أكثر! واختلط الظلام، فدخل مسلم بن عقيل المسجد الأعظم ليصيلّي المغرب، وتفرّق عنه العشرة!

فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه، ومضى في أزقّة الكوفة، وقد أُثخن بالجراحات، حتى صار إلى دار امرأة يُقال لها طوعة ..». «2»

وقال المفيد (ره): «.. أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب ومامعه إلّا ثلاثون نفساً في المسجد، فلمّا رأى أنه قد أمسى ومامعه إلّا أولئك النفر خرج متوجّهاً نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب إلّا معه منهم عشرة، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدلّه!، فالتفت فإذا هو لايحسُّ أحداً يدلّه على الطريق! ولايدلّه على منزله! ولايواسيه بنفسه إنْ عرض له عدوٌّ! فمضى على وجهه متلدداً في أزقّة الكوفة لايدري أين يذهب! حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها طوعة ..». «3»

وقال الدينوري: «فصلّى مسلم العشاء في المسجد، ومامعه إلّا زهاء ثلاثين رجلًا، فلمّا رأى ذلك مضى منصرفاً ماشياً، ومشوا معه، فأخذ نحو كندة، فلمّا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 140

مضى قليلًا التفت فلم يرَ منهم أحداً، ولم يُصب إنساناً يدلُّه على الطريق، فمضى هائماً على وجهه في ظلمة الليل حتى دخل على كندة، فإذا امرأة قائمة على باب دارها تنتظر ابنها، وكانت ممّن خفَّ مع مسلم! ..». «1»

إشارة وتأمّل ..... ص : 140

هذه أهمّ المتون التأريخية التي روت لنا كيف أمسى مسلم بن عقيل ومامعه إلّا قليل ممّن كان معه- عشرة فرسان على رواية الفتوح، وثلاثون رجلًا ثمّ قلّوا إلى عشرة على رواية المفيد والطبري- ثمّ كيف مضى وحده حتّى وقف على باب المرأة الصالحة طوعة.

وقد أشارت رواية الفتوح إلى أنّ مسلماً عليه السلام كان قد أُثخن بالجراحات، الأمر الذي يدلُّ على أنه عليه السلام

خاض المعارك التي دارت حول القصر بنفسه، ولم يكن قائداً موجِّهاً مرشداً فحسب، وهذا فضلًا عن كونه دليلًا على شجاعته عليه السلام، فهو دليل أيضاً على نشوب القتال حول القصر، وعلى أنّ الثوّار كانوا قد حاولوا اقتحامه بالفعل!

لكنَّ الذي يُثير التأمّل في هذه المتون هو طريقتها في عرض كيفية تفرّق هؤلاء الرجال القلّة الذين كانوا آخر الناس معه! ففي نصّ الفتوح: «وتفرّق عنه العشرة، فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه ومضى ..»، وفي نصّ المفيد والطبري:

«فما بلغ الأبواب إلّا معه منهم عشرة، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدلّه، فالتفت فإذا هو لايُحسّ أحداً ..».

هذه الطريقة في عرض الحدث تُلقي في روع المطالع أنّ هؤلاء ليس بينهم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 141

وبين جموع الناس الذين انفضّوا بسرعة عن مسلم عليه السلام إلّا فرق واحد وهو الفارق الزمني في الإنفضاض عنه ليس إلّا! بل تُشعر هذه الطريقة بأنّ هؤلاء القلّة أسوأ بكثير من أولئك الذين انفضّوا عنه بسرعة، وذلك لأنّ هؤلاء تفرّقوا في الختام عنه وهو أحوج ما يكون إليهم، كما تفرّقوا عنه خفية في غفلة منه! هذا ما يُشعر به التعبير «فالتفت فإذا هو لايحسُّ أحداً ...».

وهذا مالايقبل به اللبيب المتدبّر، كما أنه لايوافق طبيعة الأشياء وواقعها، إذ لنا أن نتساءل: ما الذي أبقى هؤلاء إلى الأخير مع مسلم عليه السلام!؟ أهو الطمع؟ وبماذا يطمع هؤلاء مع قائد قد انفضّ عنه أنصاره وبقي وحيداً غريباً لايدري أين يذهب وإلى أين يأوي!؟

أم هو الخوف من عار الإنصراف عنه بعد مبايعته، لاشجاعة منهم ولاثباتاً!؟

أفلا يعني هذا- في مثل هذا الحدّ الأدنى- أنّ هؤلاء ممن يرعى القيم والأخلاق، ويتجافى عن كلّ ما يعود عليه بالذّم!؟ وهل يُحتمل من

مثل هؤلاء مع مثل هذا الحفاظ والأخلاقيّة أن يتفرّقوا في بلدهم خفية وفي لحظة غفلة من صاحبهم الوحيد الغريب في أرضهم!؟

أم أنّ الذي أبقى هؤلاء القلّة مع مسلم عليه السلام إلى آخر الأمر هو الشجاعة والإيمان والثبات على البيعة؟ وأنّهم كانوا من صفوة المجاهدين في حركة الثّوار تحت راية مسلم عليه السلام، ومن صناديد أهل الكوفة؟

وهذا هو الحقّ! إذ لايشكُّ ذو دراية وتأمّل أنّ قادة الألوية الأربعة: مسلم بن عوسجة (رض) وأبا ثمامة الصائدي (رض) وعبداللّه بن عزيز الكندي (ره) وعباس بن جعدة الجدلي (ره)، وأمثالهم من مثل عبداللّه بن حازم البكري (ره) ونظرائه كانوا من القلّة التي بقيت مع مسلم عليه السلام إلى آخر الأمر، ذلك لأنّ من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 142

الممتنع على اخلاقية أمثال ابن عوسجة (رض) والصائدي (رض) وإخوانهم أن يتخلّوا عن مسلم عليه السلام خصوصاً في ساعة العسرة!

إنّ هؤلاء الصفوة من المجاهدين كانوا ممن اشتهر بالإيمان والإخلاص والشجاعة والثبات، وقد وفّقوا للشهادة في سبيل اللّه، فهذا مسلم بن عوسجة (رض)، وهذا أبو ثمامة الصائدي (رض) قد وفّقا للفوز بالشهادة بين يدي الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وهذا العبّاس بن جعدة الجدلي (ره) قتله ابن زياد بعد سجن، وهذا عبداللّه- أو عبيداللّه بن عمرو بن عزيز الكندي (ره)- قتله ابن زياد بعد سجن، وهذا عبداللّه بن حازم البكري (ره) المنادي بكلمة السرّ:

يامنصور أمت! ممّن شارك بثورة التوابين وقُتل فيها مما يوحي أنه اختفى أو سجن في أعقاب أحداث الكوفة أيام مسلم عليه السلام، وقِسْ على ذلك نظراءهم من صفوة المجاهدين في حركة الثوّار تحت راية مسلم بن عقيل عليه السلام.

أفهل يُعقلُ أن يتخلّى أمثال هؤلاء عن مسلم عليه السلام ساعة العسرة ويتفرّقوا

عنه في لحظة غفلة منه ويتركوه في الطريق وحيداً غريباً!؟

لاشكّ أنّ التأريخ حينما نقل لنا حادثة تفرّقهم عن مسلم عليه السلام كان قد نقلها بظاهرها فقط، أي بطريقة «صورة بلاصوت» كما يعبّر عنها في أيّامنا هذه! وذلك لأنه لم يكن بمقدور التأريخ وهو يشاهد حركة الحدث من بُعد أن ينقل إلينا ما دار من حوار بين مسلم عليه السلام ومن بقي معه إلى آخر الأمر!

إنّ التأريخ لايسجّل الهمس والسرار! وإنّ ما يطمئنّ إليه المتتبع والمتأمّل هو أن مسلماً عليه السلام اتّفق مع هذه الصفوة على التفرّق فرادى والإختفاء تربّصاً بسنوح الفرصة للإلتحاق بركب الإمام الحسين عليه السلام القادم إلى العراق لمواصلة الجهاد بين يديه، فلم يكن تفرّقهم عن مسلم عليه السلام إلّا بأمره وإذنه وعن امتثال لأمره! هذا ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 143

يفرضه التصوّر السليم والتحليل الصحيح على أساس منطق الواقع وطبيعة الأشياء.

القائد المجاهد في ضيافة المرأة الصالحة طوعة ..... ص : 143

لنعد إلى مواصلة معرفة ما جرى على القائد المُفرد الغريب في قلب الكوفة ...

قال الطبري: «طوعة أمُّ ولد كانت للأشعث بن قيس فاعتقها، فتزوّجها أُسيد الحضرمي، فولدت له بلالًا، «1» وكان بلالٌ قد خرج مع النّاس، وأمّه قائمة تنتظره، فسلّم عليها ابن عقيل فردّت عليه.

فقال لها: يا أمةَ اللّه، إسقيني ماءً!

فدخلت، فسقته، فجلس، وأدخلت الإناء ثمّ خرجت.

فقالت: يا عبداللّه، ألم تشرب!؟

قال: بلى.

قالت: فاذهب إلى أهلك.

فسكت! ثم عادت فقالت مثل ذلك، فسكت!

ثمّ قالت له: فى ء للّه! سبحان اللّه! يا عبداللّه، فمُرَّ إلى أهلك عافاك اللّه، فإنّه لايصلح لك الجلوس على بابي ولا أُحلّه لك!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 144

فقام فقال: يا أمة اللّه، مالي في هذا المصر منزل ولاعشيرة، فهل لك إلى أجرٍ ومعروف؟ ولعليّ مكافئك به بعد اليوم!

فقالت: يا عبداللّه، وماذاك؟

قال: أنا مسلم بن عقيل،

كذبني هؤلاء القوم وغرّوني!

قالت: أنت مسلم؟

قال: نعم.

قالت: أُدخل.

فأدخلته بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشَّ.

ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه فقال: واللّه إنه ليريبني كثرةُ دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه! إنّ لك لشأناً!

قالت: يا بُنيَّ الْهُ عن هذا.

قال لها: واللّه لتخبرنّي!

قالت: أقْبِلْ على شأنك ولاتسألني عن شي ء.

فألحَّ عليها، فقالت: يا بُنيّ لاتُحدّثنَّ أحداً من النّاس بما أُخبرك به!

وأخذت عليه الأَيْمانَ فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت! وزعموا أنّه قد كان شريداً «1» من الناس، وقال بعضهم كان يشرب مع أصحاب له ...». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 145

ابن زياد .. والمفاجأه السارّة عند المساء ...! ..... ص : 145

قال الشيخ المفيد (ره): «ولمّا تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل طال على ابن زياد، وجعل لايسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً كما كان يسمع قبل ذلك، قال لأصحابه: أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحداً؟

فأشرفوا فلم يروا أحداً!

قال: فانظروهم، لعلّهم تحت الظلال قد كمنوا لكم!

فنزعوا تخائج المسجد، وجعلوا يخفضون بشعل النار في أيديهم وينظرون فكانت أحياناً تُضي ء لهم، وأحياناً لاتُضي ء كما يريدون، فدلّوا القناديل، وأطناب القصب تُشدُّ بالحبال فيها النيران، ثمّ تُدلّى حتى تنتهي إلى الأرض، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها، حتّى فُعل ذلك بالظلّة التي فيها المنبر، فلمّا لم يروا شيئاً أعلموا ابن زياد بتفرّق القوم. «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 146

ففتح باب السدّة التي في المسجد، ثمّ خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا قبيل العتمة، وأمر عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمّة من رجل من الشُرط والعرفاء والمناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلّا في المسجد.

فلم يكن إلّا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مناديه فأقام الصلاة،

وأقام الحرس خلفه «1» وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحدٌ يغتاله! وصلّى بالنّاس، ثمّ صعد المنبر: فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال:

أمّا بعدُ: فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق! فبرئت ذمّة اللّه من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته، إتقوا اللّه عباد اللّه، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولاتجعلوا على أنفسكم سبيلًا. يا حصين بن نمير «2» ثكلتك أمّك إنّ ضاع باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصد على أهل السكك، وأصبح غداً فاستبرء الدور وَجِسْ خلالها، حتّى تأتيني بهذا الرجل- وكان الحصين بن نمير على شرطته وهو من بني تميم- ثم دخل ابن زياد القصر، وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمّره على الناس ..». «3»

وفي رواية الفتوح: «ثمّ نزل عن المنبر، ودعا الحصين بن نمير السكّوني فقال:

ثكلتك أمّك إن فاتتك سكّة من سكك الكوفة لم تُطبق على أهلها أو يأتوك بمسلم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 147

ابن عقيل! فواللّه لئن خرج من الكوفة سالماً لنريقنّ أنفسنا في طلبه! فانطلق الآن فقد سلّطتك على دور الكوفة وسككها، فانصب المراصد وجُدَّ الطلب حتّى تأتيني بهذا الرجل.». «1»

وفي ذلك الصباح الأسود! ..... ص : 147

ويواصل الشيخ المفيد (ره) سرد بقية القصة قائلًا: «فلمّا أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل محمّد بن الأشعث، فقال: مرحباً بمن لايُستغشّ ولايُتَّهم! ثمّ أقعده الى جنبه.

وأصبح ابن تلك العجوز، فغدا إلى عبدالرحمن بن محمّد بن الأشعث، فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند أمّه! فأقبل عبدالرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارّه، فعرف ابن زياد سراره، فقال له ابن زياد بالقضيب في جنبه: قم فأتني

به الساعة. فقام، وبعث معه قومه، لأنّه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أن يُصاب فيهم مسلم بن عقيل، وبعث معه عبيداللّه بن عبّاس السلمي في سبعين رجلًا من قيس، حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل.». «2»

وفي رواية الفتوح: «.. واقبل ابن تلك المرأة التي مسلم بن عقيل في دارها إلى عبدالرحمن بن محمّد بن الأشعث فخبّره بمكان مسلم بن عقيل عند أمّه، فقال له عبدالرحمن: أُسكت الآن ولاتُعلم بهذا أحداً من النّاس! «3» قال: ثمّ أقبل عبدالرحمن بن محمّد إلى أبيه فسارّه في أذنه وقال: إنّ مسلماً في دار طوعة! ثمّ تنحّى عنه.

فقال عبيداللّه بن زياد: ما الذي قال لك عبدالرحمن؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 148

فقال: أصلح اللّه الأمير، البشارة العظمى!

فقال: وماذاك؟ ومثلك من بشّر بخير!

فقال: إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة، عند مولاة لنا.

قال: فَسُرَّ بذلك، ثمّ قال: قُم فأت به، ولك ما بذلتُ من الجائزة والحظّ الأوفى!

قال: ثمّ أمر عبيداللّه بن زياد خليفته عمرو بن حريث المخزومي أن يبعث مع محمّد بن الأشعث ثلاثمائة رجل من صناديد أصحابه!

قال: فركب محمد بن الأشعث حتى وافى الدار التي فيها مسلم بن عقيل ..». «1»

وفي رواية الدينوري أنّ عبيداللّه بن زياد أمر ابن حُريث أن يبعث معه مائة رجل من قريش، وكره أن يبعث إليه غير قريش خوفاً من العصبية أن تقع! «2»

وفي رواية الطبري أنه أمره أن يبعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلّهم من قيس، وإنما كره أن يبعث معه قومه لأنه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أن يُصادف فيهم مثل ابن عقيل! «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 149

المعركة الأخيرة .. حرب الشوارع! ..... ص : 149

كان سيّدنا مسلم بن عقيل عليه السلام قد

أبى أن يأكل شيئاً في ليلته الأخيرة، وحرص على أن يُحييها بالعبادة والذكر والتلاوة فلم يزل قائماً وراكعاً وساجداً يصلّي ويدعو ربّه إلى أن انفجر عمود الصبح، لكنّه لشدّة الإعياء من أثر القتال في النهار كان قد أخذته سِنُةٌ من النوم، فرأى في عالم الرؤيا عمّه أميرالمؤمنين عليّاً عليه السلام، وبشّره بسرعة التحاقه بمن مضى منهم عليهم السلام في أعلى عليين.

ففي كتاب نفس المهموم عن كتاب المنتخب للطريحي أنه: «لمّا أن طلع الفجر جاءت طوعة إلى مسلم بماءٍ ليتوضّأ.

قالت: يا مولاي، ما رأيتك رقدت في هذه الليلة!؟

فقال لها: إعلمي أنّي رقدت رقدة فرأيت في منامي عمّي أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يقول: الوحاء الوحاء، العجل العجل! وما أظنّ إلّا أنه آخر أيّامي من الدنيا!». «1»

يقول الطبري: «فلمّا سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنّه قد أُتي، فخرج إليهم بسيفه، واقتحموا عليه الدار، فشدَّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار! ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، فاختلف هو وبُكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بُكير فمَ مسلم فقطع شفته العُليا واشرع السيف في السفلى ونصلت له ثنّيتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه مُنكرة وثنّى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه!، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة ويُلهبون النار في أطناب القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت!، فلمّا رأى ذلك خرج عليهم مُصلتاً بسيفه في السكّة فقاتلهم!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 150

فأقبل عليه محمّد بن الأشعث فقال: يا فتى! لك الأمان، لاتقتل نفسك! «1» فأقبل يقاتلهم وهو يقول:

أقسمتُ لا أُقتلُ إلّا حُرّا وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا

كُلُّ امري ء يوماً مُلاقٍ شرّا ويُخلط البارد سُخناً مُرّا

رُدَّ شعاع الشمس فاستقّرا أخافُ

أنْ أُكذَبَ أو أُغَرّا «2»

فقال له محمّد بن الأشعث: إنّك لاتُكذَب ولاتُخدَع ولاتُغرّ! إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولاضاربيك!

وقد أُثخن بالحجارة وعجز عن القتال، وانبهر فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فدنا محمّد بن الأشعث فقال: لك الأمان!

فقال: آمنٌ أنا؟

قال: نعم! وقال القوم: أنت آمن!

غير عمرو بن عبيداللّه بن العبّاس السلمي فإنه قال: لاناقة لي في هذا ولاجمل وتنحّى.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 151

وقال ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني ما وضعتُ يدي في أيديكم! وأُتي ببغلة فحُمل عليها، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه من عنقه! فكأنّه عند ذلك آيس من نفسه، فدمعت عيناه، ثم قال: هذا أوّل الغدر!

قال محمّد بن الأشعث: أرجو ألّا يكون عليك بأس!

قال: ما هو إلّا الرجاء!؟ أين أمانكم!؟ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون! وبكى، فقال له عمرو بن عبيداللّه بن عبّاس: إنّ من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك!

قال: إني واللّه ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المُقبلين إليَّ! أبكي لحسين وآل حسين!

ثُمَّ أقبل على محمّد بن الأشعث فقال: يا عبداللّه، إنّي أراك واللّه ستعجز عن أماني! فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلًا على لساني يُبلغ حسيناً، فإنّي لا اراه إلّا قد خرج إليكم اليوم مقبلًا أو هو خرج غداً، هو وأهل بيته، وإنَّ ما ترى من جزعي لذلك! فيقول إنّ ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير! لايرى أن تمشي حتّى تُقتل! وهو يقول إرجع بأهل بيتك ولايغرّك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل! إنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني،

وليس لمكذوب رأي.

فقال ابن الأشعث: واللّه لأفعلنَّ، ولأُعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك! «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 152

... وأقبل محمّد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر فاستأذن فأُذِن له، فأخبر عبيداللّه خبر ابن عقيل وضرب بُكير إياه، فقال: بُعداً له! فأخبره محمّد بن الأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إيّاه، فقال عبيداللّه: ما أنت والأمان!؟ كأنّا أرسلناك تؤمنه!؟ إنّما أرسلناك تأتينا به. فسكت!

وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر ناسٌ جلوس يتنظرون الإذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حُريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب .. فإذا قُلّة باردة موضوعة على الباب.

فقال ابن عقيل: أسقوني من هذا الماء.

فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها! لا واللّه لاتذوق منها قطرة أبداً حتّى تذوق الحميم في نار جهنم!

قال له ابن عقيل: ويحك! من أنت؟

قال: أنا ابن من عرف الحقَّ إذ أنكرتَه! ونصح لإمامه إذ غششته! وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت! أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال ابن عقيل: لإمّك الثُكل، ما أجفاك وما أفظّك وأقسى قلبك وأغلظك!؟

أنت يا ابن باهلة أولى بالجحيم والخلود في نار جهنّم مني. ثم جلس متسانداً إلى حائط ...

وروى الطبري أيضاً: أنّ عمرو بن حُريث بعث غلاماً له يُدعى سليمان فجاءَه بماءٍ في قُلّة فسقاه ...

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 153

وروى أيضاً: أن عُمارة بن عقبة بعث غُلاماً له يُدعى قيساً فجاءه بقُلَّة عليها منديل، ومعه قدح، فصبّ فيه ماءً ثمّ سقاه، فأخذ كُلّما شرب امتلأ القدح دماً! فلمّا ملأ القدح المرّة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيّتاه فيه! فقال: الحمد للّه، لو كان من الرزق المقسوم شربته!». «1»

ورواية أخرى أشدُّ صدقاً وحرارة ..! ..... ص : 153

روى ابن أعثم الكوفي: «قال: وسمع مسلم

بن عقيل وقع حوافر الخيل وزعقات الرجال فعلم أنّه قد أُتي في طلبه، فبادر رحمه اللّه الى فرسه فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه، وأعتجر بعمامة، وتقلّد بسيفه، والقوم يرمون الدار الحجارة، ويهلبون النّار في نواحي القصب.

قال: فتبسّم مسلم رحمه اللّه! ثم قال: يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس منه محيص ولاعنه محيد! ثم قال للمرأة: أي رحمك اللّه وجزاك عنّي خيراً، إعلمي أنّما أُوتيت من قبل ابنك! ولكن افتحي الباب.

قال: ففتحت الباب، وخرج مسلم في وجوه القوم كأنّه أسدٌ مُغضَب!، فجعل يضاربهم بسيفه حتّى قتل منهم جماعة! «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 154

وبلغ ذلك عبيداللّه بن زياد، فأرسل الى محمّد بن الأشعث وقال: سبحان اللّه يا عبداللّه! بعثناك الى رجل واحد تأتينا به فأثلم (بأصحابك هذه الثلمة العظيمة! فكتب) إليه محمد بن الأشعث: أيّها الأمير! أما تعلم أنّك بعثتني إلى أسدٍ ضرغام، وسيف حسام، في كفّ بطل همام من آل خير الأنام!؟

قال: فأرسل إليه عبيداللّه بن زياد: أن أعطه الأمان، فإنك لن تقدر عليه إلّا بالأمان. «1»

فجعل محمّد بن الأشعث يقول: ويحك يا ابن عقيل! لاتقتل نفسك، لك الأمان! ومسلم بن عقيل يقول: لاحاجة إلى أمان الغَدَرَة! ثمّ جعل يقاتلهم وهو يقول:

أقسمت لا أُقتَلُ إلّا حُرّا ولو وجدت الموت كأساً مُرّا

أكره أنْ أُخدعَ أو أُغَرّا كلّ امري ء يوماً يُلاقي شرّا

أضربكم ولا أخاف ضُرّا

قال: فناداه محمّد بن الأشعث وقال: ويحك يا ابن عقيل! إنّك لاتُكذب ولاتُغَرّ! القوم ليسوا بقاتليك فلاتقتل نفسك!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 155

قال: فلم يلتفت مسلم بن عقيل رحمه اللّه إلى كلام ابن الأشعث، وجعل يقاتل حتّى أُثخن بالجراح وضعف عن القتال، وتكاثروا عليه فجعلوا يرمونه بالنبل والحجارة!

فقال مسلم: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى

الكفّار!؟ وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار! ويلكم، أما ترعون حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وذرّيته!؟

قال: ثُمَّ حمل عليهم على ضعفه فكسرهم! وفرّقهم في الدروب! ثمّ رجع وأسند ظهره إلى باب دار هناك، فرجع القوم إليه، فصاح بهم محمّد بن الأشعث:

ذروه حتّى أكلّمه بما يُريد.

قال: ثمّ دنا منه ابن الأشعث حتّى وقف قبالته وقال: ويلك يا ابن عقيل! لاتقتل نفسك، أنت آمن ودمك في عنقي!

فقال له مسلم: أتظنّ يا ابن الأشعث أنّي أُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال!؟ لا واللّه لاكان ذلك أبداً!

ثمّ حمل عليه حتّى ألحقه بأصحابه، ثمّ رجع إلى موضعه فوقف وقال: أللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي! فلم يجسر أحد أن يسقيه الماء ولاقَرُبَ منه!

فأقبل ابن الأشعث على أصحابه وقال: ويلكم! إنّ هذا لهو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! إحملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة!

قال: فحملوا عليه وحمل عليهم، فقصده من أهل الكوفة رجل يُقال له بُكير بن حمران الأحمري، فاختلفا بضربتين فضربه بُكير ضربة على شفته العليا،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 156

وضربه مسلم بن عقيل ضربة فسقط الى الأرض قتيلًا «1»

قال: فطُعن من ورائه طعنة فسقط إلى الأرض، فأُخذ أسيراً، ثمّ أُخذ فرسه وسلاحه، وتقدّم رجل من بني سليمان يُقال له عبيداللّه بن العبّاس فأخذ عمامته!». «2»

ونُقل «أنّهم ا حتالوا عليه وحفروا له حفرة عميقة في وسط الطريق، وأخفوا رأسها بالدغل والتراب، ثم انطردوا بين يديه، فوقع بتلك الحفرة، وأحاطوا به، فضربه ابن الأشعث على محاسن وجهه، فلعب السيف في عرنين أنفه ومحاجر عينيه حتى بقيت أضراسه تلعب في فمه! فأوثقوه وأخذوه أسيراً الى ابن زياد ..». «3»

محمد بن الأشعث يسلب مسلماً عليه السلام سلاحه! ..... ص : 156

روى المسعودي قائلًا: «وقد سلبه ابن الأشعث حين أعطاه

الأمان سيفه وسلاحه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء في كلمة يهجو فيها ابن الأشعث:

وتركتَ عمّك «4»

أن تقاتل دونه فشلًا، ولولا أنت كان منيعا

وقتلتَ وافد آلِ بيت محمّدوسلبتَ أسيافاً له ودروعا». «5»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 157

كلمة الحقّ الجريئة تزلزل قصر الخبال والضلال! ..... ص : 157

روى ابن أعثم الكوفي: «قال: فأُدخل مسلم بن عقيل على عبيداللّه بن زياد فقال له الحرسي: سلّم على الأمير!

فقال له مسلم: أُسكت لا أُمَّ لك! مالك وللكلام!؟ واللّه ليس هو لي بأميرٍ فأسلّم عليه! «1» وأخرى فيما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي!؟ فإن استبقاني فسيكثر عليه سلامي! «2»

فقال له عبيداللّه بن زياد: لاعليك! سلّمتَ أم لم تسلّم، فإنك مقتول!

فقال مسلم بن عقيل: إن قتلتني فقد قتل شرٌّ منك من كان خيراً منّي!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 158

فقال له ابن زياد: يا شاقّ! يا عاقّ! خرجتَ على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحتَ الفتنة!

فقال مسلم: كذبتَ يا ابن زياد! واللّه ما كان معاوية خليفة بإجماع الأمّة، بل تغلّب على وصيّ النبيّ بالحيلة، وأخذ عنه الخلافة بالغصب، وكذلك ابنه يزيد! وأمّا الفتنة فإنك ألقحتها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف! وأنا أرجو أن يرزقني اللّه الشهادة على يدي شرّ بريّته! فواللّه ما خالفت ولاكفرتُ ولابدّلتُ! وإنّما أنا في طاعة أميرالمؤمنين الحسين بن علي، بن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد!

فقال له ابن زياد: يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر في المدينة!؟ «1»

فقال مسلم بن عقيل: أحقُّ واللّهِ بشرب الخمر منّي من يقتل النفس الحرام (ويقتل على الغضب والعداوة والظنّ) وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئاً!

فقال له ابن زياد: يا فاسق! منّتك نفسك أمراً أحالك اللّه دونه وجعله لأهله!

مع الركب الحسينى(ج 3)،

ص: 159

فقال مسلم بن عقيل: ومن أهله يا ابن مرجانة!؟ «1»

فقال: أهله يزيد ومعاوية!

فقال مسلم بن عقيل: الحمدُ للّه، كفى باللّه حكماً بيننا وبينكم!

فقال ابن زياد لعنه اللّه: أتظنّ أنّ لك من الأمر شيئاً!؟

فقال مسلم بن عقيل: لا واللّه ماهو الظنّ ولكنه اليقين!

فقال ابن زياد: قتلني اللّه إن لم أقتلك!

فقال مسلم: إنّك لاتدع سوء القتلة وقبح المُثلة وخبث السريرة! «2» واللّه لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم، وقدرتُ على شربة من ماءٍ لطال عليك أن تراني في هذا القصر! ولكنْ إن عزمت على قتلي ولابدّ لك من ذلك فأقم إليَّ رجلًا من قريش أوصي إليه بما أُريد.

فوثب «3» إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقال: أوصِ إليَّ بما تريد يا ابن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 160

عقيل! ( «1» فقال له مسلم: أوصيك بتقوى اللّه، فإنّ التقوى درك كلّ خير، ولي إليك حاجة!

فقال عمر: قل ما أحببت.

فقال: حاجتي إليك أن تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه، وتقضي عني سبعمائة درهم استدنتها في مصركم هذا، وأن تستوهب جثّتي إن قتلني هذا الفاسق!، فتواريني في التراب، وأن تكتب للحسين: أن لايقدم فينزل به ما نزل بي!

فقال عمر بن سعد: أيّها الأمير! إنّه يقول كذا وكذا! «2»

فقال ابن زياد: يا ابن عقيل! أمّا ما ذكرتَ من دَينك فإنّما هو مالك تقضي به دينك، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأمّا جسدك فإنّا إذا قتلناك فالخيار لنا، ولسنا نبالي ما صنع اللّه بجثّتك! «3» وأمّا الحسين فإنه إن لم يُردنا لم نرده، وإن ارادنا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 161

لم نكفّ عنه!)، ولكنّي أريد أن تخبرني يا ابن عقيل، بماذا أتيت الى هذا البلد!؟

شتّت أمرهم، وفرّقت كلمتهم، ورميت بعضهم على بعض!

فقال

مسلم بن عقيل: ليس لذلك أتيت هذا البلد، ولكنّكم أظهرتم المنكر، ودفنتم المعروف، وتأمّرتم على الناس من غير رضا، وحملتموهم على غير ما أمركم اللّه به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسُنَّة، وكنّا أهل ذلك، ولم تزل الخلافة لنا منذ قُتل أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب، ولاتزال الخلافة لنا، فإنّا قُهرنا عليها، لأنكم أوّل من خرج على إمام هدىً، وشقّ عصا المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصباً، ونازع أهله بالظلم والعدوان! ولانعلم لنا ولكم مثلًا إلّا قول اللّه تبارك وتعالى: «وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون» «1»

.. فجعل ابن زياد يشتمُ عليّاً والحسن والحسين رضي اللّه عنهم!

فقال له مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة منهم! فاقض ما أنت قاض! فنحن أهل بيت موكول بنا البلاء!

فقال عبيداللّه بن زياد: إلحقوا به إلى أعلى القصر فاضربوا عنقه، وألحقوا رأسه جسده! «2»

فقال مسلم رحمه اللّه: أما واللّه يا ابن زياد! لو كُنتَ من قريش أو كان بيني

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 162

وبينك رحم أو قرابة لما قتلتني، ولكنّك ابن أبيك!

قال: فأدخله ابن زياد القصر، ثُمّ دعا رجلًا من أهل الشام قد كان مسلم بن عقيل ضربه على رأسه ضربة منكرة، فقال له: خُذ مسلماً واصعد به إلى أعلى القصر، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك!». «1»

أوّل شهداء النهضة الحسينية من بني هاشم ..... ص : 162

«فأُصعد مسلم بن عقيل رحمه اللّه إلى أعلى القصر، وهو في ذلك يسبّح اللّه تعالى ويستغفره، وهو يقول: أللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا.

فلم يزل كذلك حتى أُتي به الى أعلى القصر، وتقدّم ذلك الشاميّ فضرب عنقه!». «2»

وفي رواية الطبري: «.. ثمّ قال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابنُ عقيل رأسه بالسيف

وعاتقه. فدُعي، فقال: إصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه! فصُعد به وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على ملائكة اللّه ورسله، وهو يقول: أللّهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وأذلّونا. وأُشرف به على موضع الجزّارين «3» اليوم فضربت عنقه، وأُتبع جسده رأسه!». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 163

وفخراً عند الموت! ..... ص : 163

«.. نزل الأحمريُّ بُكير بن حمران «1» الذي قتل مسلماً، فقال له ابن زياد: قتلته؟

قال: نعم.

قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟

قال: كان يكبّر ويسبّح ويستغفر! فلمّا أدنيته لأقتله قال: أللّهم أحكم بيننا وبين قوم كذّبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا! فقلتُ له: أُدنُ منّي، الحمد للّه الذي أقادني منك! فضربته ضربة لم تُغنِ شيئاً! فقال: أما ترى في خَدْش تُخدشنيه وفاءً من دمك أيها العبد!؟

فقال ابن زياد: وفخراً عن الموت؟؟

قال: ثمّ ضربته الثانية فقتلته.». «2»

وكم من آية للّه أعرض عنها ابن زياد!! ..... ص : 163

قال ابن أعثم الكوفي: «ثُمَّ نزل الشاميّ إلى عبيداللّه بن زياد وهو مدهوش!

فقال له ابن زياد: ما شأنُك!؟ أقتلته؟

قال: نعم، أصلح اللّه الأمير! إلّا أنّه عرض لي عارض، فأناله فزعٌ مرهوب!

فقال: ما الذي عرض لك!؟

قال: رأيتُ ساعة قتلتُه رجلًا حذاي، أسود كثير السواد، كريه المنظر، وهو عاضٌّ على إصبعيه- أو قال: شفتيه- ففزعتُ منه فزعاً لم أفزع قطّ مثله!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 164

فتبسّم ابن زياد وقال له: لعلّك دُهشت!؟ وهذه عادة لم تعتدها قبل ذلك!!». «1»

مقتل هاني بن عروة (رض) ..... ص : 164

«قال: ثمّ أمر عبيداللّه بن زياد بهاني ء بن عروة أن يُخرج فيُلحق بمسلم بن عقيل، فقال محمّد بن الأشعث: أصلح اللّه الأمير، إنك قد عرفت شرفه في عشيرته، وقد عرف قومه أنّي وأسماء بن خارجة جئنا به إليك فأُنشدك اللّه أيها الأمير (إلّا) وهبته لي، فإني أخاف عداوة أهل بيته! فإنّهم سادات أهل الكوفة وأكثرهم عدداً!

قال: فزبره ابن زياد! ثمّ أمر بهاني ء بن عروة فأُخرج إلى السوق إلى موضع يُباع فيه الغنم، وهو مكتوف.

قال: وعلم أنه مقتول فجعل يقول: وامذحجاه! واعشيرتاه!

ثمّ أخرج يده من الكتاف وقال: أما من شي ء فأدفع به عن نفسي!؟ «2»

قال: فصكّوه، ثمّ اوثقوه كتافاً، فقالوا: أُمددْ عنقك!

فقال: لا واللّه، ما كنتُ الذي أعينكم على نفسي. «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 165

فتقدّم إليه غلام لعبيداللّه بن زياد يُقال له رشيد، «1» فضربه بالسيف فلم يصنع شيئاً!

فقال هاني ء: إلى اللّه المعاد، أللّهم إلى رحمتك ورضوانك، أللهم اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي! فإنّي إنما تعصّبت لابن بنت نبيّك صلى الله عليه و آله.

فتقدّم رشيد وضربه ضربة أخرى فقتله رحمه اللّه.». «2»

سحل الشهيدَيْن في الشوارع والسوق! ..... ص : 165

ثمّ قام جلاوزة ابن زياد لعنهم اللّه بسحل الجثتين الزكيتين في الشوارع وفي السوق، فقد روى الطبري أنّ عبداللّه بن سليم، والمذري بن المشمل، الأسديين أخبرا الإمام الحسين عليه السلام في منطقة زرود عن لسان الأسديّ الذي كان يحمل خبر مقتل مسلم عليه السلام أنّه «لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة، وحتّى رآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما ..». «3»

صلبُ الشهدَينْ منكّسَين! ..... ص : 165

«ثمّ أمر عبيداللّه بن زياد بمسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة رحمهما اللّه فصُلبا جميعاً منكّسَيْن، وعزم أن يوجّه برأسيهما إلى يزيد بن معاوية.». «4»

«ولمّا صُلب مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، قال فيهما عبداللّه بن الزبير

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 166

الأسدي:

إذا كُنتِ لاتدرينَ ما الموت فانظري إلى هاني ءٍ بالسوق وابن عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشّم السيف وجهه وآخر يهوي من طمارِ قتيلِ

ترَيْ جسداً قد غيّر الموتُ لونه ونضحُ دمٍ قد سال كُلَّ مسيلِ

فتىً كان أحيى من فتاة حييّةٍ وأقطع من ذي شفرتين صقيلِ

وأشجع من ليثٍ بخفّان مُصحرٍ وأجرأَ من ضارِ بغابةِ غيلِ

أصابهما أمر الأمير فأصبحا أحاديثَ من يسري بكُلّ سبيلِ

أيركبُ أسماء «1»

الهماليج آمناً وقد طلبته مذحجٌ بذُخولِ

تطوف حواليه مُرادٌ وكُلُّهم على رِقبَة من سائل ومسولِ

فإن أنتمُ لم تثأروا لأخيكمُ فكونوا بغايا أُرضيت بقليلِ». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 167

انتقام ابن زياد من بقيّة الثّوار! ..... ص : 167
الثائر عبدالأعلى بن يزيد الكلبي ..... ص : 167

«ثمّ إنّ عبيداللّه بن زياد لمّا قتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة دعا بعبدالأعلى الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان، فأُتيَ به، فقال له:

أخبرني بأمرك!

فقال: أصلحك اللّه خرجت لأنظر ما يصنع الناس، فأخذني كثير بن شهاب!

فقال له: فعليك وعليك من الأيمان المغلّظة إن كان أخرجك إلّا ما زعمت!؟

فأبى أن يحلف! فقال عبيداللّه: انطلقوا بهذا إلى جبّانة السبع فاضربوا عنقه بها! .. فانطُلِقَ به فضُربَت عنقه.

الثائر عمارة ابن صلخب الأزدي ..... ص : 167

وأُخرج عمارة ابن صلخب الأزدي، وكان ممّن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره، فأُتي به أيضاً عبيداللّه، فقال له: ممّن أنت!؟

قال: من الأزد.

قال: إنطلقوا به إلى قومه! فضُربت عنقه فيهم!». «1»

الثائر القائد عبيداللّه بن عمرو بن عزيز الكندي «2» ..... ص : 167

«فارس شجاع من الشيعة في الكوفة، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 168

وشهد مشاهده، وبايع لمسلم وكان يأخذ البيعة له، وأمر ابن زياد بقتله». «1»

وهو أحد القادة الأربعة الذين عقد لكلّ منهم مسلم عليه السلام راية، وعقد له مسلم عليه السلام على ربع كندة وربيعة وقال: سِرْ أمامي في الخيل. «2»

الثائر القائد العبّاس بن جعدة الجدلي ..... ص : 168

«كان من الشيعة المخلصين في الولاء، وبايع مسلماً، وكان يأخذ البيعة للحسين عليه السلام، ولمّا تخاذل الناس عن مسلم أمر ابن زياد بالقبض عليه وحبسه، ثمّ بعد شهادة مسلم قُتل شهيداً.». «3»

وهو الذي عقد له مسلم عليه السلام على ربع المدينة. «4»

الثائران القائدان المختار وعبداللّه بن الحارث ..... ص : 168

كان المختار (ره) وعبداللّه بن الحارث بن نوفل قد خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عبداللّه براية حمراء وعليه ثياب حمر. «5»

ولكنّهما دخلا الكوفة بعد فوات الأمر وانتهاء الحصار وبعد قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، «6» فلمّا عرفا ذلك، ركز المختار رايته على باب عمرو بن حُريث وقال: أردتُ أن أمنع عمراً! وأشير عليهما بالدخول تحت راية الأمان عند عمرو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 169

بن حُريث ففعلا، وشهد لهما ابن حريث باجتنابهما ابن عقيل! فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه (فذهبت عينه)، «1» وبقيا في السجن إلى أن قُتل الحسين عليه السلام!. «2»

تقرير ابن زياد الأمنّي إلى يزيد! ..... ص : 169

«ثمّ إنّ عبيداللّه بن زياد لمّا قتل مسلماً وهانئاً بعث برؤوسهما مع هاني بن أبي حيّة الوادعي، والزبير بن الأروح التميمي، إلى يزيد بن معاوية وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهاني ء، فكتب إليه كتاباً أطال فيه- وكان أوّل من أطال في الكتب- فلمّا نظر فيه عبيداللّه بن زياد كرهه وقال ما هذا التطويل وهذه الفضول!؟ أُكتب:

أمّا بعدُ، فالحمدُ للّه الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤنة عدوّة، أُخبرُ أميرالمؤمنين أكرمه اللّه أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هاني ء بن عروة المُرادي، وإني جعلتُ عليهما العيون، ودسستُ إليهما الرجال، وكِدْتُهما حتّى استخرجتهما! وأمكن اللّه منهما فقدّمتهما فضربتُ أعناقهما، وقد بعثتُ إليك برؤوسهما مع هاني بن أبي حيّة الهمداني، والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة! فليسألهما أميرالمؤمنين عمّا أحبّ من أمرٍ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً وورعاً! والسلام.». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 170

«فكتب إليه يزيد: أمّا بعدُ، فإنّك لم تعدُ أن كُنتَ

كما أحبُّ! عملتَ عمل الحازم، وصُلتَ صولة الشجاع الرابط الجأش! فقد أغنيتَ وكفيت، وصدّقتَ ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليْك فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرتَ! فاستوصِ بهما خيراً، وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن عليّ قد توجّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس على الظنّ! وخذ على التهمة! غير ألّا تقتل إلّا من قاتلك! واكتب إليَّ في كلّ ما يحدث من الخبر، والسلام عليك ورحمة اللّه.». «1»

وذكر ابن شهرآشوب أنّ يزيد لعنه اللّه نصب الرأسين الشريفين في درب من دمشق. «2»

وروى اليعقوبي أنّ يزيد كان قد كتب الى ابن زياد يأمره بقتل الإمام الحسين عليه السلام، قال اليعقوبي: «وأقبل الحسين من مكّة يريد العراق، وكان يزيد قد ولّى عبيداللّه بن زياد العراق، وكتب إليه: قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدك من بين البلدان، وأيّامك من بين الأيّام، فإن قتلته وإلّا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد! فاحذر أن يفوتك!». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 171

إغلاق ورصد المناطق والمنافذ الحدودية الكوفية! ..... ص : 171

قال الشيخ المفيد (ره): «ولمّا بلغ عبيداللّه إقبال الحسين من مكّة إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شُرطه حتّى نزل القادسية، ونظّم ما بين القادسية إلى خفّان، وما بين القادسية إلى القطقطانيّة، وقال للنّاس هذا الحسين يُريد العراق!»، «1» «وكان عبيداللّه بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة! فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج!». «2»

وقال الدينوري: «ثُمَّ إنّ ابن زياد وجَّه الحصين بن نُمير- وكان على شُرطه- في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة!، وأمره أن يُقيم بالقادسيّة إلى القطقطانة، فيمنع من أراد

النفوذ من ناحية الكوفة الى الحجاز، إلّا من كان حاجّاً أو معتمراً، ومن لايُتّهمُ بممالاة الحسين!». «3»

وفي أنساب الأشراف: «حتى نزل القادسية ونظّم الخيل بينها وبين خفّان، وبينها وبين القطقطانة إلى لعلع». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 172

تعبئة الكوفة، وتجميد الثغور، استعداداً لقتال الإمام عليه السلام ..... ص : 172

ثمَّ إنّ ابن زياد بالغ في إشاعة الرعب والخوف في أوساط أهل الكوفة، من خلال إجراءات إرهابية عديدة، تمهيداً لتعبئتهم وتوجيههم إلى قتال الإمام الحسين عليه السلام، لعلمه بأنّ جُلّ أهل الكوفة يكرهون «1» التوجّه لقتاله عليه السلام، «فقد كان يحكم بالموت على كلّ من يتخلّف أو يرتدع عن الخوض في المعركة». «2»

كما جمَّد الثغور ووجّه عساكرها الى قتال الإمام الحسين عليه السلام، فقد روى ابن عساكر «عن شهاب بن خراش، عن رجل من قومه: كنتُ في الجيش الذي بعثهم ابن زياد إلى حسين، وكانوا أربعة آلاف يريدون الديلم، فصرفهم عبيداللّه الى حسين ..». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 173

الفصل الثالث: وقايع منازل الطريق بين مكّة وكربلاء ..... ص : 173

اشارة

فشلت محاولة والي مكّة آنذاك عمرو بن سعيد الأشدق لإرجاع الامام الحسين عليه السلام إلى مكّة بالقوّة، حيث أبى الإمام عليه السلام الرجوع وتدافع الفريقان (رجال الركب الحسيني وجند الأشدق) واضطربوا بالسياط، فتراجع الأشدق عن قرار المنع بعد أن خشي من تفاقم الأمر عليه!

وجدَّ الركب الحسيني في المسير نحو العراق، وكان قد مرَّ في طريقه من مكّة حتّى وصوله الى كربلاء بمواقع ومنازل عديدة، بقي الإمام الحسين عليه السلام في بعضها يوماً وليلة، ولبث في بعضها الآخر يوماً، ولم يبق في بعض آخر إلّا ساعات قليلة، وتوقف في بعض آخر لأداء الصلاة فقط، ومرّ على بعضها مرور الكرام بلاتوقف، وأهمُّ هذه المواقع والمنازل على الترتيب هي:

1)- بستان بني عامر (أو ابن عامر) «1» ..... ص : 173

روي أنّ الشاعر الفرزدق «2» كان قد لقي الإمام الحسين عليه السلام قبل خروج الركب

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 176

الحسيني من الحرم إلى أرض الحلّ، فقد ورد عن لسان الفرزدق أنه قال:

«حججتُ بأمّي في سنة ستين، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيتُ الحسين بن عليّ عليهما السلام خارجاً من مكّة مع أسيافه وأتراسه فقلتُ: لمن هذا القطار؟

فقيل: للحسين بن عليّ عليهما السلام.

فأتيته فسلّمت عليه وقلت له: أعطاك اللّه سؤلك، وأمّلك فيما تحبُّ، بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول اللّه، ما أعجلك عن الحجّ!؟

فقال: لولم أعجل لأُخذتُ! «1»

ثم قال لي: من أنت؟

قلتُ: امرؤ من العرب!

فلا واللّه ما فتّشني عن أكثر من ذلك ..

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 177

ثم قال لي: أخبرني عن الناس خلفك؟

فقلتُ: الخبيرَ سألتَ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك «1» والقضاء ينزل من السماء، واللّه يفعل ما يشاء!

فقال: صدقت، للّه الأمر، وكلّ يوم هو في شأن! إن ينزل القضاء بما نحبّ ونرضى فنحمد اللّه على نعمائه وهو المستعان على

أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته.

فقلت له: أجل، بلّغك اللّه ما تحبّ، وكفاك ماتحذر.

وسألته عن أشياء من نذور ومناسك، فأخبرني بها، وحرّك راحلته، وقال:

السلام عليك. ثمّ افترقنا!». «2»

ويبدو أنّ مكان هذا اللقاء هو بستان بني عامر الذي ذكره سبط ابن الجوزي في نقله خبر لقاء الفرزدق مع الإمام عليه السلام حيث قال: «فلمّا وصل بستان بني عامر

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 178

لقي الفرزدق الشاعر، وكان يوم التروية، فقال له: إلى أين يا ابن رسول اللّه، ما أعجلك عن الموسم!؟

قال: لولم أعجل لأُخذتُ أخذاً! فأخبرني يا فرزدق عمّا ورائك؟

فقال: تركتُ الناس بالعراق قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أميّة، فاتّقِ اللّه في نفسك وارجع! «1»

فقال له: يا فرزدق، إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة دين اللّه وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله لتكون كلمة اللّه هي العليا.

فأعرض عنه الفرزدق وسار! «2»». «3»

ف «بستان ابن عامر هو أوّل منزل مرَّ به الحسين عليه السلام». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 179

2)- التنعيم ..... ص : 179
اشارة

وهو موضع في حلّ مكّة، على فرسخين من مكّة (12 كم)، وقيل على أربعة، وسمّي بذلك لأن جبلًا عن يمينه يُقال له نعيم، وآخر عن شماله يُقال له ناعم، والوادي نعمان، ومن موضع التنعيم يُحرم المكيّون بالعمرة. «1»

قال البلاذري: «ولقي الحسين بالتنعيم عيراً قد أُقبل بها من اليمن، بعث بها بجير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية، وكان عامله على اليمن، وعلى العير وِرسٌ وحُلل، ورسله فيها ينطلقون إلى يزيد، فأخذها الحسين فانطلق بها معه، وقال لأصحاب الإبل: لا أُكرهكم، من أحبَّ

أن يمضي معنا الى العراق وفيناه كِراه وأحسنّا صحبته، ومن أحبَّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ماقطع من الأرض. فأوفى من فارقه حقّه بالتنعيم، وأعطى من مضى معه وكساهم ..». «2»

لكنّ الشيخ المفيد (ره) روى قصة هذه العير هكذا: «وسار حتّى أتى التنعيم، فلقي عيراً قد أقبلت من اليمن، فاستأجر من أهلها جمالًا لرحله وأصحابه، وقال لأصحابها: من أحبَّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كرائه وأحسنّا صحبته، ومن أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراه على قدر ما قطع من الطريق. فمضى معه قوم وامتنع آخرون.». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 180

هل صادر الإمام عليه السلام الوِرسَ والحُلَل فعلًا؟ ..... ص : 180

قال المحقّق القرشي: «وقد أنقذ الإمام عليه السلام هذه الأموال من أن تُنفق على موائد الخمور، وتدعيم الظُلم، والإساءة إلى الناس، وقد تقدّم أنّ الإمام عليه السلام قام بنفس هذه العملية أيّام معاوية. «1» وقد ذهب آية اللّه المغفور له السيّد مهدي آل بحر العلوم الى عدم صحة ذلك، فإنّ مقام الإمام عليه السلام أسمى وأرفع من الإقدام على مثل هذه الأمور، «2» والذي نراه أنّه لامانع من ذلك إطلاقاً، فإنّ الإمام كان يرى الحكم القائم في أيّام معاوية ويزيد غير شرعي، ويرى أنّ أموال المسلمين تُنفق على فساد الأخلاق ونشر العبث والمجون، فكان من الضروري إنقاذها لتنفق على الفقراء والمحتاجين، وأيّ مانع شرعي أو اجتماعي من ذلك؟». «3»

ولقد علّق السيد ابن طاووس (ره) في ضمن خبر قصة هذه العير قائلًا: «فأخذَ الهديّة لأنّ حُكم أمور المسلمين إليه.». «4»

ويقوّي القول بأنّ الإمام عليه السلام قد استولى على هذه الهدايا الموجّهة إلى يزيد، أنّ هناك روايات عديدة تتحدث عن ورس قد انتُهب من مخيم الإمام الحسين عليه السلام بعد

مقتله. «5»

هل التقى الإمام الحسين ابن عمر في التنعيم؟ ..... ص : 180

نقل لنا التأريخ خبر آخر لقاءٍ لعبداللّه بن عمر مع الإمام الحسين عليه السلام بعد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 181

خروجه من مكّة، «1» ففي أمالي الشيخ الصدوق (ره): «وسمع عبداللّه بن عمر بخروجه، فقدّم راحلته وخرج خلفه مسرعاً، فأدركه في بعض المنازل.

فقال: أين تُريدُ يا ابن رسول اللّه!؟

قال: العراق!

قال: مهلًا، إرجع إلى حرم جدّك!

فأبى الحسين عليه السلام عليه، فلمّا رأى ابن عمر إباءه، قال: يا أبا عبداللّه، إكشف لي عن الموضع الذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقبّله منك!

فكشف الحسين عليه السلام عن سرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى وقال: أستودعك اللّه يا أبا عبداللّه، فإنك مقتول في وجهك هذا!». «2»

وفي بعض المصادر: أنّه أدركه على ميلين من مكّة، «3» وفي أخرى: أنّه أدركه على مسير ليلتين أو ثلاث من المدينة، «4» «فقال: أين تريد؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 182

قال: العراق!- وكان معه طوامير وكتب-

فقال له: لاتأتهم!

فقال: هذه كتبهم وبيعتهم!

فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ خيّر نبيّه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يُرد الدنيا، وإنّكم بضعة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله، واللّه لا يليها أحدٌ منكم أبداً! وما صرفها اللّه عز وجلّ عنكم إلّا للذي هو خيرٌ لكم، فارجعوا!

فأبى وقال: هذه كتبهم وبيعتهم!

قال فاعتنقه ابن عمر وقال: استودعك اللّه من قتيل!». «1»

ولم نعثر في مصدر من المصادر التأريخية- حسب متابعتنا- على تشخيص دقيق لمكان هذا اللقاء وتحديده، فقد كان هذا اللقاء في (بعض المنازل!) على رواية أمالي الصدوق، وكانت الإشارة إليه في مصادر أخرى تتحدث عن: ميلين من مكّة! أو مسير ليلتين أو ثلاث من المدينة!

نعم: صرح المحقّق السماوي (ره) ضمن استعراضه لمسير الإمام عليه السلام من مكّة الى العراق بأنّ

هذا اللقاء كان في (التنعيم) حيث قال (ره): «ثمّ أصبح فسار، فمانعه ابن عبّاس وابن الزبير فلم يمتنع، ومرَّ بالتنعيم فمانعه ابن عمر، وكان على ماءٍ له فلم يمتنع ...». «2»

غير أنّ السماوي (ره) لم يُشر إلى المصدر الذي أخذ عنه هذا التحديد والتشخيص، ولعلّه (ره) كان قد استنتج- أنّ هذا اللقاء كان في التنعيم- استنتاجاً

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 183

من أكثر من إشارة ودلالة تأريخية، أو لعلّه (ره) كان قد أراد عبداللّه بن مطيع العدوي بدلًا من عبداللّه بن عمر، لكنّ قلمه الشريف كتب ابن عمر بدلًا من ابن مطيع سهواً وعفواً، ذلك لأنّ ابن مطيع في لقائه الأخير مع الامام عليه السلام كان على ماءٍ له وليس ابن عمر! واللّه العالم.

منطق ابن عمر! ..... ص : 183

«لقد كان عبداللّه بن عمر لساناً من الألسنة التي خدمت الحكم الأموي، بل كان بوقاً أمويّاً حرص على عزف النغمة النشاز في أُنشودة المعارضة! وسعى إلى تحطيم المعارضة من داخلها، ولايُعبأُ بما صوّره به بعض المؤرّخين من أنّه كان رمزاً من رموزها، لأنّ المتأمّل المتدبر لايجد لابن عمرٍ هذا أيَّ حضور في أيّ موقف معارضٍ جادّ! بل يراه غائباً تماماً عن كل ساحة صدق في المعارضة! وإذا تأمّل المحقّق مليّاً وجد عبداللّه بن عمر ينتمي انتماءً تاماً- عن إصرار وعناد- إلى حركة النفاق التي قادها حزب السلطة منذ البدء، ثمّ لم يزل يخدم فيها حتّى في الأيّام التي آلت قيادتها فيها إلى الحزب الأموي بقيادة معاوية، ثمّ يزيد! هذه هي حقيقة ابن عمر، وإنْ تكلّف علاقات حسنة في الظاهر مع وجوه المعارضة عامّة ومع الإمام الحسين عليه السلام خاصة، وحقيقة ابن عمر هذه يكشف عنها معاوية لإبنه يزيد في وصيّته إليه بلا رتوش نفاقية

حيث يقول له: «فأمّا ابن عمر فهو معك! فالزمه ولاتدعه!». «1»». «2»

وهنا في هذا اللقاء أيضاً نجد ابن عمر يتحدّث عن لسان الأمويين بصورة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 184

غير مباشرة، فمعاوية الذي أشاع في النّاس الفكر الجبري بأنّ حكمه ومايفعله بالأمّة من قضاء اللّه الذي لايُبدّل! وليس للأمّة إلّا التسليم أمام الإرادة الإلهية في ذلك! أذاع في النّاس أيضاً من خلال كثير من وعّاظ السلاطين- أمثال عبداللّه بن عمر- أنّ اللّه اختار لآل النبيّ صلى الله عليه و آله الآخرة ولم يُرد لهم الدنيا بمعنى أنَّ هؤلاء المصطفين لم يُرد اللّه لهم أن يكونوا حكّاماً!! ولذا فقد صرفها عنهم لما هو خيرٌ لهم!!

والأعجب أنّ ابن عمر في ذروة اندفاعه- امتثالًا لأمر الأمويين- لمنع الإمام عليه السلام من مواصلة سفره إلى العراق، ينسى نفسه ويذهل عن أنّه يخاطب أحد أفراد العترة المطهّرة- الذين هم مع القرآن والقرآن معهم لايفارقهم، والذين هم أعلم الخلق بإرادة اللّه في التشريع والتكوين- فيقول له: واللّه لايليها أحدٌ منكم أبداً!! مخالفاً بذلك لصريح الحقائق القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المتواترة، لا أقلَّ في ما أجمعت عليه الأمّة عن نبيّها صلى الله عليه و آله في أنّ المهديَّ عليه السلام وهو من ولد فاطمة عليها السلام، ومن ولد الحسين عليه السلام، هو الذي سوف يملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت ظلماً وجورا!

لقد كان منتهى ما يتمنّاه ابن عمر- الأمويّ الهوى- هو أنّ يمنع الإمام عليه السلام من أصل القيام والنهضة، لا من السفر إلى العراق فحسب، ولذا نراه يعبّر بعد فشله في مسعاه عن هذه الأمنية الخائبة فيقول: «غلبنا الحسين بن عليّ بالخروج! ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم

ما كان ينبغي أن لايتحرّك ما عاش!! وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس!! فإنّ الجماعة خير ..». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 185

لقد كان أفضل ردٍّ على منطق ابن عمر هو ردُّ الإمام الحسين عليه السلام نفسه حيث قال له في محاورته إيّاه في مكّة: «أُفٍّ لهذا الكلام أبداً مادامت السماوات والأرض!». «1»

3)- الصفاح ..... ص : 185
اشارة

«وهو موضع بين حُنينْ وأنصاب الحرم، على يسرة الداخل الى مكّة من مُشاش، وهناك لقي الفرزدق الحسين بن علي رضي اللّه عنه لمّا عزم على قصد العراق، قال:

لقيتُ الحسين بأرض الصفاح عليه اليلامقُ والدرقُ». «2»

وروى البلاذري أيضاً قائلًا: «ولمّا صار الحسين إلى الصفاح لقيه الفرزدق ابن غالب الشاعر، فسأله عن أمر الناس وراءه، فقال له الفرزدق: الخبير سألتَ، إنّ قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السماء، واللّه يفعل مايشاء. فقال الحسين: صدقت.». «3»

وكذلك روى الدينوري أنّ الفرزدق لقي الإمام عليه السلام في الصفاح «4» وكذلك روى ابن الأثير، «5» والطبري، «6» وابن مسكويه «7».

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 186

أين لقي الفرزدق الإمام عليه السلام بالضبط؟ ..... ص : 186

من الوقائع التي تفاوتت الروايات التأريخية تفاوتاً غير يسير فيها واقعة لقاء الفرزدق الشاعر مع الإمام الحسين عليه السلام، خصوصاً في تحديد مكان هذا اللقاء.

نجد مِنَ المؤرّخين من لايذكر المنزل لامن قريب ولابعيد، كالإربلي (ره) حيث يقول: «وقال الفرزدق لقيني الحسين في منصرفي من الكوفة ..»، «1» ومنهم من يذكر أنّ هذا اللقاء كان في أرض الحرم وخارج مكّة، كما مرّ في رواية الشيخ المفيد (ره) والطبري، «2» ومنهم من يشخّص مكانه في أرض الحرم كسبط ابن الجوزي حيث قال: «فلمّا وصل بستان بني عامر لقي الفرزدق الشاعر ..»، «3» ومنهم من روى أنهما التقيا في ذات عرق، كابن عساكر، والبلاذري، «4» ومنهم من قال في الشقوق، كابن شهر آشوب، والأربلي في قول ثانٍ، «5» ومنهم من قال في الصفاح، كالبلاذري، وابن الأثير، والطبري، وابن مسكويه، والحموي، والدينوري، «6» ومنهم من قال إنهما التقيا بعد خروج الإمام عليه السلام من منطقة زُبالة، كالسيّد ابن طاووس (ره) حيث قال: «ثمّ إنّ الحسين عليه السلام سار

من زُبالة قاصداً لما دعاه اللّه إليه فلقيه الفرزدق الشاعر ..». «7»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 187

وقول السيّد ابن طاووس (ره)- على فرض أنّ الفرزدق كان في طريقه إلى مكّة- هو أبعد الأقوال، بل لايمكن أن يُؤخذ به! لأنّ الفرزدق لايمكن أن يُدرك الحجّ اذا كان قد التقى الإمام عليه السلام- الذي خرج من مكّة يوم التروية- قبل زبالة من جهة الكوفة، وذلك لبُعد المسافة التي تستغرق أيّاماً بين زبالة ومكّة المكرّمة، فعلى هذا تكون أيّام الحجّ قد انتهت والفرزدق عند زُبالة لم يصل بعدُ إلى مكّة!

أمّا أقرب الأقوال وأقواها هو ما رواه الشيخ المفيد والطبري وسبط ابن الجوزي من أنّ هذا اللقاء كان في أرض الحرم أطراف مدينة مكة، وفي بستان بني عامر على حدّ نقل سبط ابن الجوزي، وذلك لأنّ هذا اللقاء كان في يوم التروية، فلابدّ أن يكون مكان اللقاء على هذا القرب- قريباً جدّاً- من مكّة حتّى يستطيع الفرزدق مع أمّه إدراك أعمال الحجّ في وقتها.

نعم، يمكن أن نحتمل إمكان أن الفرزدق لقي الإمام عليه السلام ما بعد زُبالة- على قول السيد ابن طاووس (ره)- فقط على فرض أنّ هذا اللقاء كان اللقاء الثاني بينهما- بعد عودة الفرزدق من مكّة بعد أدائه الحجّ- وهو احتمال بعيد، لبعد المسافة بين مكّة وزبالة التي هي قريب من القادسية! نعم، يمكن أن يُقال بإمكان ذلك إذا كان الفرزدق قد ترك مكّة مباشرة بعد انتهاء أعمال الحجّ، وجدَّ في السير على أثر الإمام عليه السلام فلم يَلوِ على شي ء حتّى أدرك الإمام عليه السلام فيما بعد زُبالة، ولكن لم نعثر على إشارة تأريخية تفيد أنّ الفرزدق قد قام بهذا فعلًا!

وإذا صحَّ أنّ هذا اللقاء- على رواية السيّد

ابن طاووس (ره)- كان اللقاء الثاني بينهما، بعد عودة الفرزدق من الحجّ، فلايُستبعد عندئذٍ ما رواه السيّد (ره) من أنّ الفرزدق بعد أن سلّم على الإمام عليه السلام قال: «يا ابن رسول اللّه كيف تركن إلى أهل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 188

الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته!؟»، «1» ذلك لأنّ خبر مقتل مسلم عليه السلام آنئذٍ كان قد شاع في الديار، أو أنّ الفرزدق على الأقلّ كان قد علم خبره من أوساط الركب الحسيني نفسه قبل سلامه على الإمام عليه السلام وقد استدلّ بعض المحقّقين «2» على أنّ الصحيح هو أنّ لقاء الفرزدق مع الإمام عليه السلام كان في الصفاح لأنّ الفرزدق نظم في ذلك شعراً، وهو استدلال ساذج لإمكان أن ينظم هذا الشعر غير الفرزدق ثمّ ينسبه إليه!

وفي ختام البحث حول لقاء الفرزدق مع الإمام عليه السلام، يحسن هنا أن ننقل نصّ المحاورة بينهما- على رواية الإربلي (ره)- عن لسان الفرزدق أنه قال: «لقيني الحسين عليه السلام في منصرفي من الكوفة، فقال: ما وراءك يا أبافراس؟

قلت: أُصْدِقُك؟

قال: الصدقُ أُريد!

قلت: أمّا القلوب فمعك، وأمّا السيوف مع بني أميّة! والنصر من عند اللّه.

قال: ما أراك إلّا صدقتَ! الناس عبيدالمال! والدّين لغو (لعق) على ألسنتهم، يحوطونه مادرّت به معايشهم! فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون!». «3»

4)- ذات عرق ..... ص : 188
اشارة

«ذات عرق مَهَلُّ أهل العراق، وهو الحدُّ بين نجد وتُهامة، وقيل: عرق جبل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 189

بطريق مكّة، ومنه ذات عرق ...». «1»

«ويعتبر السُنّة ذات عرق ميقات العراقيين وأهل الشرق، بينما يحتاط فقهاء الإمامية بالإحرام من المسلخ وهو أبعدُ عن مكّة، وتبعد ذات عرق مرحلتين عن مكّة (أي حوالي 92 كم).». «2»

لقاء بشر بن غالب الأسدي «3» مع الإمام عليه السلام! ..... ص : 189
اشارة

قال السيد ابن طاووس (ره): «ثُمّ سار حتّى بلغ ذات عرق فلقي بشر بن غالب وارداً من العراق، فسأله عن أهلها، فقال: خلّفت القلوب معك، والسيوف مع بني اميّة! فقال عليه السلام: صدق أخو بني أسد، إنّ اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 190

إشارة: ..... ص : 190

في لقاء الإمام عليه السلام مع كلّ من الفرزدق وبشر بن غالب، نلاحظ أنّ كُلًّا من الرجلين كان قد أخبر الإمام عليه السلام أنّ القلوب في الكوفة معه وأنّ السيوف مع بني أُميّة! وكان هذا قبل مجي ء خبر مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام! ونلاحظ أيضاً أنّ الإمام عليه السلام قد صدّق كُلًّا من الرجلين! فهذا التصديق من أوثق الدلائل التأريخية على علم الإمام عليه السلام منذ البدء بأنّ أهل الكوفة سوف يخذلونه ويقتلونه، وكان عالماً منذ البدء بأنّ مصيره الشهادة.

تأمّل:

أين مضى بشر بن غالب بعد لقائه بالإمام عليه السلام!؟ ولماذا لم يلتحق به وينضمّ إلى ركبه!؟ وهو الذي روى عنه عليه السلام خاصة من الدعاء، وفي ثمرة حبّ أهل البيت عليهم السلام، وفي الإمامة، وفي أخبار القائم عليه السلام، وفي غير ذلك، مايكشف عن معرفته واعتقاده بأهل البيت عليهم السلام وحبّه لهم!؟

هل كان معذوراً في مفارقته الإمام عليه السلام وفي عدم نصرته!؟ هذا مالا نعلم عنه شيئاً حسب متابعتنا القاصرة، وهو ممّا سكت عنه المؤرّخون والرجاليون!

والفرزدق .. مرّة أخرى!؟ ..... ص : 190

روى البلاذري عن الزبير بن الخرّيت قال: «سمعت الفرزدق قال: لقيتُ الحسين بذات عرق وهو يريد الكوفة، فقال لي: ما ترى أهل الكوفة صانعين، فإنَّ معي جُملًا من كتبهم؟ قلت: يخذلونك فلاتذهب، فإنّك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك! فلم يُطعني!». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 191

وقد مرَّ بنا في الإجابة عن هذا السؤال: أين لقي الفرزدق الإمام عليه السلام بالضبط؟

أنّ أقرب الأقوال وأقواها هو أنّ الفرزدق لقي الإمام عليه السلام في بستان بني عامر على مشارف مكّة وأوائل الأرض الحرام، لأنّ هذا اللقاء ينبغي أن يكون يوم التروية- يوم خروج الإمام عليه السلام من مكّة- وينبغي أن يكون قريباً

جدّاً من مكّة، حتّى يستطيع الفرزدق إدراك أعمال الحجّ في وقتها.

هل لقي الإمام عليه السلام بذات عرق عون بن عبداللّه بن جعدة؟ ..... ص : 191

وروى البلاذري أيضاً فقال: «قالوا: ولحق الحسين عون بن عبداللّه بن جعدة بن هبيرة بذات عرق بكتاب من أبيه يسأله فيه الرجوع، وذكر ما يخاف عليه من مسيره! فلم يُعجبه!». «1»

يُستفاد من نصّ هذه الرواية أنّ عوناً هذا كان في مكّة وسار حتى أدرك الإمام عليه السلام بذات عرق، بدليل كلمة «ولحق»، وأنّ أباه عبداللّه موجود في مكّة المكرّمة، بدليل عبارة «يسأله فيه الرجوع».

فالظاهر أنّ الراوي قد اشتبه فذكر إسم عون بن عبداللّه بن جعدة بدلًا من إسم عون بن عبداللّه بن جعفر!

يؤيّد هذا: أوّلًا: أنّ التأريخ حدّثنا عن التحاق عون ومحمّد ولدي عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب بالإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة.

وثانياً: أنّ التأريخ حدّثنا أيضاً أنّ بني جعدة بن هبيرة المخزومي كانوا في الكوفة، وقد كان بنوجعدة ممّن اجتمع من الشيعة في دار سليمان بن صرد الخزاعي بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام، وكتبوا إلى الإمام عليه السلام يعزّونه، ويخبرونه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 192

بحسن رأي أهل الكوفة فيه، وحبّهم لقدومه، وتطلّعهم إليه ... «1»

فضلًا عن كلّ هذا، فإنّ هذا الخبر مما تفرّد به البلاذري، ولم نعثر عليه عند مؤرّخ آخر، ليساعدنا على كشف غموضه ورفع اضطرابه.

5)- الحاجر من بطن الرمّة ..... ص : 192
اشارة

«بضمّ الراء، وتشديد الميم .. وهو وادٍ معروف بعالية نجد، وقال ابن دريد:

الرُمَّةُ قاع عظيم بنجد، تنصبّ إليه أودية.» «2» و «الحاجرُ: بالجيم والراء، وفي لغة العرب: مايمسكُ الماء من شفة الوادي ..» «3» و «بطن الرمّة: منزل لأهل البصرة إذا أرادوا المدينة، وفيه يجتمع أهل الكوفة والبصرة، ويقع شمال نجد ..». «4»

روى الطبري قائلًا: «ولمّا بلغ عبيداللّه إقبال الحسين من مكّة الى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شُرطه حتى نزل القادسية، ونظّم الخيل

ما بين القادسية إلى خفّان، ومابين القادسية إلى القطقطانة، وإلى لعلع، وقال للناس: هذا الحسين يُريد العراق!». «5»

ثُمَّ إنّ الحسين عليه السلام: «أقبل حتّى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمّة، بعث قيس بن مسهّر الصيداوي إلى أهل الكوفة، «6» وكتب معه إليهم:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 193

(بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعدُ:

فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألتُ اللّه أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء اللّه، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.)، ..

وأقبل قيس بن مسهّر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين، حتى إذا انتهى الى القادسية أخذه الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيداللّه بن زياد، فقال له عبيداللّه: إصعد إلى القصر، فسُبَّ الكذّاب ابن الكذّاب!

فصعد، ثمّ قال: أيها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق اللّه، ابن فاطمة بنت رسول اللّه، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر، فأجيبوه. ثم لعن عبيداللّه بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب.

قال: فأمر به عبيداللّه بن زياد أن يُرمى به من فوق القصر، فرُمي به فتقطّع فمات.». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 194

وقال السيد ابن طاووس (ره): «قال الراوي وكتب الحسين عليه السلام كتاباً إلى سليمان بن صُرَد الخزاعي، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وجماعة من الشيعة بالكوفة، وبعث به مع قيس بن مسهّر الصيداوي، فلمّا قارب

دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير صاحب عبيداللّه بن زياد لعنه اللّه ليفتّشه فأخرج قيس الكتاب ومزّقه، فحمله الحصين بن نمير إلى عبيداللّه بن زياد، فلمّا مثل بين يديه قال له: من أنت؟

قال: أنا رجل من شيعة أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وابنه!

قال: فلماذا خرقتَ الكتاب!؟

قال: لئلّا تعلم ما فيه!

قال: وممّن الكتاب وإلى من!؟

قال: من الحسين عليه السلام إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم!

فغضب ابن زياد وقال: واللّه لاتفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم، أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن عليّ وأباه وأخاه! وإلّا قطّعتك إرباً إرباً!

فقال قيس: أمّا القوم فلا أُخبرك بأسمائهم! وأمّا لعن الحسين عليه السلام وأبيه وأخيه فأفعل!

فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ صلى الله عليه و آله، وأكثر من الترحّم على عليّ والحسن والحسين صلوات اللّه عليهم، ثمّ لعن عبيداللّه بن زياد وأباه، ولعن عُتاة بني أميّة عن آخرهم! ثمّ قال: أيها النّاس، أنا رسول الحسين عليه السلام إليكم، وقد خلّفته بموضع كذا فأجيبوه. فأُخبر ابن زياد بذلك، فأمر بإلقائه من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 195

أعالي القصر، فأُلقي من هناك فمات، فبلغ الحسين عليه السلام موته فاستعبر بالبكاء ثمّ قال:

أللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلًا كريماً واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك إنّك على كلّ شي ء قدير.

وروي أنّ هذ الكتاب كتبه الحسين عليه السلام من الحاجر، وقيل غير ذلك.». «1»

قيس بن مُسهَّر (رض) أم عبداللّه بن يقطر (رض)؟ ..... ص : 195

هناك قضية لم تزل غامضة مبهمة على أكثر المتتبعين لحركة أحداث النهضة الحسينية- والقضايا الغامضة في إطار هذه النهضة المقدّسة كثيرة!- وهي:

هل أن الرسول الذي بعثه الإمام عليه السلام أثناء الطريق بعد الخروج من مكّة الى العراق، فأُلقي القبض عليه في القادسية، ثمّ أمر به ابن

زياد فأُلقي مكتوفاً من أعلى القصر فقضى نحبه، هو قيس بن مُسهّر (رض) أم عبداللّه بن يقطر (رض)!؟

ولقد عبّر الشيخ المفيد (ره) عن هذا الغموض والإبهام أفضل تعبير بقوله:

«ويُقال بل بعث أخاه من الرضاعة عبداللّه بن يقطر إلى الكوفة ..». «2»

أم أنّ كلًّا منهما كان رسولًا للإمام أثناء الطريق إلى الكوفة، وكُلًّا منهما أُلقي عليه القبض في القادسية، وكُلًّا منهما أمر به ابن زياد فأُلقي من أعلى القصر فمضى شهيداً!؟

أم أن هناك تفاوتاً بين قصتي هذين الشهيدين العظيمين؟

من أجل استكشاف الحقيقة وإزالة الإبهام والغموض في هذا الصدد نضع

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 196

الملاحظات التالية بين يدي القارى ء الكريم:

1)- تؤكّد مصادر تأريخية على أنّ كُلًّا من هذين الشهيدين كان رسولًا للإمام عليه السلام إلى الكوفة، لكنها تحدّد المكان الذي أرسل الإمام عليه السلام منه قيس بن مسهّر (رض) إلى الكوفة وهو الحاجر من بطن الرمّة، ولاتحدد المكان الذي أرسل الإمام عليه السلام منه ابن يقطر (رض) الى الكوفة ولازمان ذلك، فمثلًا: يقول مؤرّخون: «ثمّ إنّ الحسين لمّا وصل الى الحاجر من بطن الرمّة كتب كتاباً الى مسلم وإلى الشيعة بالكوفة وبعثه مع قيس ..» «1» لكنهم بصدد ابن يقطر يقولون: «وكان قد سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لايدري أنه أصيب». «2»

نعم، هناك ملاحظة مهمة صرّح بها الشيخ السماوي (ره) قائلًا: «وقال ابن قتيبة وابن مسكويه: إنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مسهّر .. وإنَّ عبداللّه بن يقطر بعثه الحسين عليه السلام مع مسلم، فلمّا أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمَّ عليه ماتمّ بعث عبداللّه إلى الحسين يخبره بالأمر ..»، «3» فإذا صحّ هذا يكون رسول الإمام عليه السلام الى الكوفة أثناء الطريق هو قيس

بن مسهّر لاسواه.

2)- على فرض أنّ عبداللّه بن يقطر (رض) كان أيضاً رسولًا من قبل الإمام عليه السلام الى الكوفة بعد خروجه من مكّة، فإنّ إرساله الى الكوفة كان قبل إرسال قيس بن مسهّر (رض) زمانياً، وقبل منطقة الحاجر من بطن الرمّة مكانياً، ذلك لأنه- على الأقلّ- كان قد وصل الى القادسية وأُخذ وقُتل بإلقائه من أعلى القصر قبل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 197

فترة من وصول قيس بن مسهّر (رض) الذي قتل بعد مقتل مسلم عليه السلام، بدليل أنّ خبر مقتل عبداللّه بن يقطر (رض) كان قد وصل الى الامام الحسين عليه السلام- بزبالة- بعد خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني بن عروة (رض) بقليل، فنعاهم الإمام عليه السلام قائلًا:

«أمّا بعدُ، فقد أتانا خبرٌ فظيع! قُتل مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، وعبداللّه بن يقطر ..»، «1» وأمّا خبر مقتل قيس (رض) فقد بلغ الإمام عليه السلام- بعد ذلك بفترة- في عذيب الهجانات. «2»

إذن لامانع من أن يكون كلّ منهما رسولًا للإمام عليه السلام إلى الكوفة بعد خروجه عليه السلام من مكّة، لكنّ إرسال ابن يقطر (رض) كان قبل إرسال ابن مسهّر (رض)، وقد قُتلا بنفس القتلة بالإلقاء من أعلى القصر، لكنّ ابن يقطر (رض) قُتل قبل ابن مسهّر (رض) بفترة.

3)- هناك مصادر تأريخية تقول إنّ عبداللّه بن يقطر (رض) كان رسولًا من قبل مسلم عليه السلام، فقُبض عليه بعد خروجه من الكوفة عند أطرافها قريباً من القادسية، وكان مقتله قبل مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام، فقد ورد في رواية ابن شهرآشوب أنّ عبيداللّه بن زياد بعد أن زار شريك بن الأعور الحارثي في مرضه (في بيت هاني ء بن عروة)، وجرى ما جرى من حثّ شريك

مسلماً عليه السلام على قتل عبيداللّه من خلال رمز «ما الإنتظار بسلمى أن تحييها ..»، فأوجس عبيدالله منهم خيفة فخرج: «فلمّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبداللّه بن يقطر، فإذا فيه: للحسين بن عليّ، أما بعدُ: فإنّي أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل، فإنّ النّاس معك،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 198

وليس لهم في يزيد رأي ولاهوى. فأمر ابن زياد بقتله.»، «1» وكذلك روى السيّد محمد بن أبي طالب في كتابه تسلية المجالس، «2» فإذا أضفنا إلى هاتين الروايتين ماذكره الشيخ السماوي (ره) عن ابن قتيبة وابن مسكويه من أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد أرسل عبداللّه بن يقطر (رض) مع مسلم عليه السلام، فلمّا أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمّ عليه ماتمّ بعث عبداللّه إلى الحسين يخبره بالأمر .. «3»

يتحقّق إذن على أساس ذلك تفاوت بيّن بين قصتي هذين الشهيدين (رض)، إذ يكون عبداللّه بن يقطر (رض) مبعوثاً مع مسلم عليه السلام إلى الكوفة من مكّة- أو رسولًا من قبل الإمام عليه السلام إلى الكوفة بعد خروجه من مكّة- وحين أُلقي القبض عليه كان حاملًا كتاباً من مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام، لا كحال قيس بن مسهّر (رض) الذي أُلقي عليه القبض وهو رسول من الإمام عليه السلام يحمل كتاباً منه إلى الكوفة، إلى مسلم عليه السلام أو إلى بعض وجوه الشيعة فيها.

والمسألة لاتزال بحاجة الى مزيد من البحث والتنقيب والتحقيق، وباب المعرفة لازال مفتوحاً على مصراعيه، فكم ترك الأول للآخر!

اللقاء الثاني لعبداللّه بن مطيع «4» مع الامام عليه السلام ..... ص : 198
اشارة

قال الشيخ المفيد (ره): «ثمّ أقبل الحسين عليه السلام من الحاجر يسير نحو الكوفة، فانتهى إلى ماء من

مياه العرب، فإذا عليه عبداللّه بن مطيع العدوي وهو نازل به، فلمّا رأى الحسين عليه السلام قام إليه فقال: بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول اللّه، ما أقدمك!؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 199

واحتمله فأنزله فقال له الحسين عليه السلام:

كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إليَّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم.

فقال له عبداللّه بن مطيع: أذكرّك اللّه يا ابن رسول اللّه وحرمةَ الإسلام أن تُنتهك! أُنشدك اللّه في حرمة قريش! أنشدك اللّه في حرمة العرب! فواللّه لئن طلبت ما في أيدي بني أميّة ليقتلُنَّك، ولئن قتلوك لايهابون بعدك أحداً أبداً، واللّه إنها لحرمة الإسلام تُنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب! فلاتفعل ولاتأت الكوفة، ولاتعرّض نفسك لبني أميّة.

فأبى الحسين عليه السلام إلّا أن يمضي!». «1»

إشارة: ..... ص : 199

كان هذا هو اللقاء الثاني لعبداللّه بن مطيع العدويّ مع الإمام عليه السلام، إذ كان اللقاء الأوّل بينهما بين المدينة ومكّة، عند بئر لهذا العدوي كان يحفره آنذاك، «2» وهذا العدوي: «رجل من قريش، همّه العافية والمنفعة الذاتية، وحرصه على مكانة قريش والعرب أكبر من حرصه على الإسلام، وهو ليس من طلّاب الحقّ ولامن أهل نصرته والدفاع عنه، وكاذب في دعوى مودّة أهل البيت عليهم السلام مع معرفته

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 200

بمنزلتهم الخاصة عنداللّه تبارك وتعالى ... ونرى ابن مطيع هذا يكشف عن كذبه في دعوى حبّه للإمام عليه السلام، حين انضمّ الى ابن الزبير وصار عاملًا له على الكوفة «فجعل يطلب الشيعة ويخيفهم»، «1» وقاتلهم في مواجهته لحركة المختار! واستعان عليهم بقتلة الإمام الحسين عليه السلام أنفسهم، أمثال شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وغيرهم! وفي أوّل خطبة له في الكوفة أعلن عن عزمه على تنفيذ أمر ابن الزبير في السير بأهل

الكوفة بسيرة عمر بن الخطّاب وسيرة عثمان بن عفان! لكنّه فوجي ء بحنين أهل الكوفة إلى سيرة عليّ عليه السلام ورفضهم للسير الأخرى ..». «2»

ولقد كان الإمام الحسين عليه السلام يعرفه تمام المعرفة! ويعرف حقيقة دعاواه! وكان يعامله بأدبه الإسلاميّ السامي، فلا يكذّب له دعواه في المودّة وفي حرصه على ألّا يُقتل، لكنه عليه السلام لم يُطلعه على شي ء من أمر نهضته إلّا بقدر ما يناسبه، ففي لقائه الأوّل معه لم يكشف له إلّا عن مقصده المرحلي (مكّة)، ولم يكشف له عن شي ء مما بعدها إلّا «فإذا صرت إليها استخرتُ اللّه تعالى في أمري بعد ذلك!» «3»

أو «يقضيّ اللّه ما أَحبَّ!»، «4» أمّا في لقائه الثاني فكان لابدّ- وقد رآه في الطريق إلى العراق- أن يكشف له عن ظاهر علّة سفره إلى العراق، أي رسائل أهل الكوفة إليه عليه السلام، ويُلاحظ بوضوح أنّ الإمام عليه السلام في كلا اللقائين لم يكن يعبأ بمعارضة العدويّ هذا وإصراره وتوسّلاته، بل كان عليه السلام يمرّ به مرور الكرام!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 201

6)- الخُزَيْميَّةُ ..... ص : 201

«بضم أوّله وفتح ثانيه، تصغير خزيمة، منسوبة إلى خزيمة بن خازم فيما أحسب، وهو منزل من منازل الحجّ بعد الثعلبية من الكوفة وقبل الأجفر، وقال قوم: بينه وبين الثعلبية إثنان وثلاثون ميلًا، وقيل: إنه الحزيمية بالحاء المهملة.». «1»

وقيل: «الخزيميّة: نسبة الى خزيمة بن حازم، وهي قبل زرود» «2».

قال ابن أعثم الكوفي: «وسار الحسين حتى نزل الخزيميّة، وأقام بها يوماً وليلة، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب بنت عليّ فقالت: يا أخي ألا أُخبرك بشي ء سمعته البارحة!؟

فقال الحسين عليه السلام: وما ذاك؟

فقالت: خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً بهتف وهو يقول:

أَلا ياعَيْنُ فاحتفلي بجهدِ ومن يبكي على

الشهداء بعدي

على قومٍ تسوقهمُ المنايا بمقدارٍ إلى إنجاز وعدِ

فقال لها الحسين عليه السلام: يا أُختاه! المقضيُّ هو كائن!». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 202

7)- زَرُود ..... ص : 202
اشارة

«الزَرْدُ: البَلْعُ، ولعلّها سُميّت بذلك لابتلاعها المياه التي تمطرها السحائب، لأنها رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة .. وتسمّى زرود العتيقة، وهي دون الخزيميّة بميل، وفي زرود بركة وقصر وحوض!». «1»

إنضمام زهير بن القين (رض) إلى الركب الحسيني! ..... ص : 202

قال الدينوري: «ثُمَّ سار حتّى انتهى إلى زَرود، فنظر إلى فسطاط مضروب، فسأل عنه، فقيل له: هو لزهير بن القين. وكان حاجّاً أقبل من مكّة يريد الكوفة، فأرسل إليه الحسين: أَنْ الْقَني أُكَلِّمْكَ.

فأبى أن يلقاهُ! وكانت مع زهير زوجته، فقالت له: سبحان اللّه! يبعث إليك ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلا تجيبه!؟

فقام يمشي إلى الحسين عليه السلام، فلم يلبثْ أن انصرف وقد أشرق وجهه! فأمر بفسطاطه فقُلِعَ، وضُرب إلى لزِق فسطاط الحسين!

ثُمّ قال لامرأته: أنتِ طالق! فتقدّمي مع أخيكِ حتّى تصلي إلى منزلك، فإنّي قد وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام!

ثم قال لمن كان معه من أصحابه: من أحبَّ منكم الشهادة فَلْيُقِمْ، ومن كرهها فليتقدّم.

فلم يُقم معه منهم أحد! وخرجوا مع المرأة وأخيها حتّى لحقوا بالكوفة». «2»

وروى الطبري في تأريخه عن رجل من بني فزارة قال: «كُنّا مع زهير بن القين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 203

البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين! فلم يكن شي ء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل! فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير! حتّى نزلنا يومئذٍ في منزل لم نجد بُدّاً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذا أقبل رسول الحسين حتّى سلّم ثُمَّ دخل، فقال: يا زهير بن القين، إنّ أبا عبداللّه الحسين بن عليّ بعثني إليك لتأتيه.

قال فطرح كلُّ إنسان ما في يده حتّى

كأننا على رؤوسنا الطير!». «1»

ثم يواصل الطبري قصة هذا الحدث قائلًا: «قال أبومخنف: فحدّثتني دلهم بنت عمرو إمرأة زهير بن القين قالت: فقلت له: أيبعث إليك ابن رسول اللّه ثمّ لاتأتيه!؟ سبحان اللّه، لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفتَ!

قالت: فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه! قالت:

فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقُدِّم وحُمل الى الحسين! ثُمّ قال لامرأته: أنت طالقٌ، إلحقي بأهلك فإنّي لا أُحبُّ أن يُصيبك من سببي إلّا خير!

ثمّ قال لأصحابه: من أحبَّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنّه آخر العهد!

إنّي سأحدّثكم حديثاً: غزونا بَلَنْجَر «2» ففتح اللّه علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهليّ: «3» أفرحتم بما فتح اللّه عليكم وأصبتم من المغانم؟

فقلنا: نعم.

فقال لنا: إذا أدركتم شباب «4» آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم بما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 204

أصبتم من الغنائم. فأمّا أنا فإنّي استودعكم اللّه! ..». «1»

وفي رواية السيّد ابن طاووس (ره) أنّ زهير بن القين (رض) كان قد قال لزوجه فيما قال لها: «وقد عزمتُ على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بنفسي، وأقيه بروحي. ثمّ أعطاها مالها، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت: كان اللّه عوناً ومعيناً، خار اللّه لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين عليه السلام! ...». «2»

زهير بن القين (رض)

هو زهير بن القين بن قيس الأنماري البجلي، كان رجلًا شريفاً في قومه، نازلًا فيهم بالكوفة، شجاعاً، له في المغازي مواقف مشهورة ومواطن مشهودة .. حجّ سنة ستين في أهله، ثمّ عاد فوافق الحسين عليه السلام في الطريق .. «3» فلحق به ولازمه حتّى استشهد بين يديه في كربلاء.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 205

وقد ورد السلام

عليه في زيارة الناحية: «السلام على زهير بن القين البجلي القائل للحسين عليه السلام وقد أذن له في الإنصراف: لا واللّه، لا يكون ذلك أبداً! أأترك ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أسيراً في يد الأعداء وأنجو أنا!؟ لا أراني اللّه ذلك اليوم.». «1»

وكانت لزهير (رض) مواقف جليلة فذّة مع الإمام عليه السلام منذ أن انضمّ إلى ركبه حتى استشهد بين يديه، يذكرها التأريخ وتقرأها الأجيال فتخشع إكباراً وتعظيماً لهذه الشخصية الإسلامية السامية، ومن هذه المواقف:

لمّا بلغ الركب الحسينيّ (ذا حسم) خطب الإمام عليه السلام أصحابه خطبته التي يقول فيها: «أمّا بعدُ، فإنّه نزل بنا من الأمر ما قد ترون ..» إلخ، قام زهير وقال لأصحابه: أتتكلّمون أم أتكلّم؟

قالوا: بل تكلّم.

فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: قد سمعنا هداك اللّه يا ابن رسول اللّه مقالتك، واللّه لو كانت الدنيا لنا باقية، وكُنّا فيها مخلّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها! فدعا له الحسين وقال له خيراً.». «2»

وروى أبومخنف: عن الضحّاك بن عبداللّه المشرقي قال: لمّا كانت الليلة العاشرة خطب الحسين أصحابه وأهل بيته فقال في كلامه: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا، وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فإنّ القوم إنّما يطلبوني»، فأجابه العبّاس عليه السلام وبقيّة أهله .. ثمّ أجابه مسلم بن عوسجة .. وأجابه سعيد .. ثم قام زهير فقال: واللّه لوددتُ أنّي قُتلت ثُمَّ نُشرتُ، ثمَّ قتلتُ حتّى أُقتل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 206

كذا ألف قتلة! وأنّ اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك! «1»

وروى أبو مخنف عن عليّ بن حنظلة بن أسعد الشبامي، عن كثير بن

عبداللّه الشعبي البجلي قال: لمّا زحفنا قِبَل الحسين عليه السلام خرج إلينا زهير بن القين على فرسٍ له ذَنوب، وهو شاك في السلاح فقال: يا أهل الكوفة، نذارِ لكم من عذاب اللّه نذارِ! إنَّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة وعلى دين واحدٍ وملّة واحدة مالم يقع بيننا وبينكم السيف! فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أمّة وكنتم أمّة! إنّ اللّه قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّد صلى الله عليه و آله لينظر ما نحن وأنتم عاملون! إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيداللّه بن زياد، فإنّكم لاتُدركون منهما إلّا السوء عُمَر سلطانهما كلّه، إنهما يسمّلان أعينكم، ويقطّعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل! ويقتّلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حُجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه!

قال: فسبّوه وأثنوا على عبيداللّه وأبيه! وقالوا: واللّه لانبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه! أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير!

فقال لهم زهير: عبادَ اللّه! إنّ ولد فاطمة عليها السلام أحقُّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإنْ لم تنصروهم فأُعيذكم باللّه أنْ تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد، فلعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليه السلام!

قال فرماه شمر بسهم وقال له: أُسكتْ أَسَكتَ اللّه نامتك! فقد أبرمتنا بكثرة كلامك!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 207

فقال زهير: يا ابن البوّال على عقبيه! ما إيّاك أُخاطب، إنّما أنت بهيمة، واللّه ما أظنّك تُحكم من كتاب اللّه آيتين! فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال له شمر: إنّ اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة!

قال زهير: أفبالموت تخوّفني!؟ واللّه للموت معه أحبّ إليَّ من الخُلد معكم! قال: ثمّ أقبل على الناس رافعاً صوته، وصاح بهم: عبادَ اللّه! لايُغرنّكم عن دينكم هذا

الجلف الجافي وأشباهه، فواللّه لا تنال شفاعة محمّد صلى الله عليه و آله قوماً هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته! وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم!

قال فناداه رجل من خلفه: يا زهير، إنّ أبا عبداللّه يقول لك:

أَقْبِلْ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لونفع النصح والإبلاغ! «1»

وبعد عدّة حملات وصولات له (رض) في يوم عاشوراء، رجع فوقف أمام الإمام الحسين عليه السلام وأنشد مودّعاً إيّاه:

فدتك نفسي هادياً مهديّاً أليوم ألقى جدّك النبيّا

وحسناً والمرتضى عليّا وذا الجناحين الشهيد الحيّا «2»

هل كان زهير بن القين عثمانياً!؟ ..... ص : 207
اشارة

الشائع في سيرة زهير بن القين (رض) أنه كان عثمانياً قبل التحاقه بالإمام الحسين عليه السلام، والعثماني أو عثمانيُّ الميل والهوى يومذاك مصطلح سياسي يعني- على الأقل- التأييد الكامل لبني أميّة في دعوى مظلومية عثمان بن عفان، ومعاداة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 208

عليّ عليه السلام بسبب ذلك، ويعني- على الأكثر- الإشتراك في حرب أو أكثر ضدّ عليّ عليه السلام تحت راية المطالبة بالثأر لدم عثمان كما في الجمل وصفّين.

والظاهر أنّ أقدم مصدر تأريخي وردت فيه الإشارة بصراحة إلى عثمانية زهير بن القين (رض) هو تأريخ الطبري وأنساب الأشراف للبلاذري، فقد روى الطبري عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبداللّه بن شريك العامري، بعض وقائع عصر تاسوعاء: كيف جاء شمر بأمانٍ من عبيداللّه بن زياد لأبي الفضل العباس وأخوته من أمّه عليهم السلام، وكيف رفض العباس وإخوته عليهم السلام هذا الأمان ولعنوا شمراً، ثم كيف أمر عمر بن سعد جيوشه بالزحف نحو معسكر أبي عبداللّه عليه السلام بعد صلاة العصر ذلك اليوم، ثمّ كيف أمر الإمام الحسين عليه السلام أخاه العبّاس عليه السلام أن يأتي القوم فيسألهم عمّا جاء

بهم، «فأتاهم العبّاس فاستقبلهم في نحوٍ من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين، وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العبّاس: ما بدا لكم وما تريدون!؟

قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم!

قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبداللّه فأعرض عليه ماذكرتم.

قال فوقفوا، ثمّ قالوا: إلْقَهْ فأَعلِمْهُ ذلك ثمّ الْقَنا بما يقول.

فانصرف العبّاس راجعاً يركض الى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم، فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كلّم القومَ إنْ شئتَ، وإنْ شئت كلّمتهم. فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكُنْ أنت تكلّمهم.

فقال له حبيب بن مظاهر: أما واللّه لبئس القوم عند اللّه غداً قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيّه عليه السلام وعترته وأهل بيته صلى الله عليه و آله وعباد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين اللّه كثيراً!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 209

فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتُزكّي نفسك ما استطعت!

فقال له زهير: يا عزرة، إنّ اللّه قد زكّاها وهداها، فاتّقِ اللّه يا عزرة، فإنّي لك من الناصحين، أُنشدك اللّه يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضُلّالَ على قتل النفوس الزكيّة!

قال: يا زهير، ماكنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كُنتَ عثمانياً!

قال: أفلستَ تستدلُّ بموقفي هذا أنّي منهم؟ أما واللّه ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلتُ إليه رسولًا قطّ، ولاوعدته نصرتي قطّ، «1» ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومكانه منه، وعرفتُ مايقدم عليه من عدّوه وحزبكم، فرأيت أنْ أنصره وأنْ أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيعتم من حقّ اللّه وحقّ رسوله عليه السلام ...». «2»

وأما البلاذري فقد قال: «قالوا:

وكان زهير بن القين البجلي بمكّة، وكان عثمانياً، فانصرف من مكّة متعجّلًا، فضمّه الطريق وحسيناً فكان يسايره ولاينازله، ينزل الحسين في ناحية وزهير في ناحية، فأرسل الحسين إليه في إتيانه، فأمرته إمرأته ديلم بنت عمرو أن يأتيه فأبى! فقالت: سبحان اللّه! أيبعث إليك ابن بنت رسول اللّه فلاتأتيه؟ فلمّا صار إليه ثمّ انصرف إلى رحله قال لامرأته: أنت طالق! فالحقي بأهلك فإنّي لا أحبّ أن يُصيبك بسببي إلّا خيراً. ثمّ قال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتّبعني وإلّا فإنه آخر العهد! وصار مع الحسين.». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 210

كما أنّ الطبري أيضاً حدّثنا كذلك عن كراهيّة زهير (رض) أن ينزل مع الإمام عليه السلام نفس منازله في الطريق، فيما رواه عن أبي مخنف، عن السدّي، عن رجل من بني فزارة: «كنّا مع زهير بن القين البجليّ حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين! فلم يكن شي ء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير، حتّى نزلنا يومئذٍ في منزل لم نجد بُدّاً من أن ننازله فيه ...». «1»

وساعد على ذلك أيضاً ما في رواية الدينوري أنّ زهيراً أبى أن يذهب إلى لقاء الإمام عليه السلام حين استدعاه في زرود: «فأبى أن يلقاه». «2»

ولنا في كلّ هذا كلام: ..... ص : 210

1)- رواية منازل الطريق التي رواها الطبري عن (رجل من بني فزارة!) فضلًا عن ضعف سندها- بمجهولية الفزاري- لايستقيم محتوى متنها مع الحقيقة التأريخية والجغرافية، ذلك لأنّ زهير بن القين (رض) كان عائداً من مكّة إلى الكوفة بعد الإنتهاء من أداء الحجّ، فلو فرضنا أنّه قد خرج من مكّة بعد انتهاء مراسم الحجّ مباشرة فإنه يكون قد خرج منها في اليوم الثالث عشر

من ذي الحجّة على الأقوى، وبهذا يكون الفرق الزمني بين يوم خروجه ويوم خروج الإمام عليه السلام منها خمسة أيّام على الأقلّ، وإذا كان هذا فكيف يصحّ ما في متن الرواية: «كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين! ...» «3» الدّال- حسب

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 211

الظاهر- أنّهم سايروا الإمام عليه السلام من مكّة!؟

أمّا رواية البلاذري فيكفي في عدم الإعتماد عليها أنها مأخوذة عن وكالة أنباء (قالوا)!

ولو أننّا افترضنا أنّ زهير بن القين (رض) بادر بعد الفراغ من أداء مناسك الحجّ «فانصرف من مكّة متعجّلًا»- على ما في رواية البلاذري- وجدَّ السير لايلوي على شي ء، فإنّ الفارق الزمني في أثره على الفارق المكاني قد لايتغيّر، ويبقى كما هو على الأقوى، لأنّ الإمام عليه السلام- حسب متون تأريخية عديدة- كان قد خرج من مكّة يجدّ السير أيضاً نحو العراق ولايلوي على شي ء!

من هنا، فإننا نحتمل احتمالًا قويّاً أنّ أوّل المنازل التي اشترك فيها الإمام عليه السلام مع زهير (رض) هو منزل زرود نفسه، لابسبب أنّ زهيراً كان يتحاشى الإشتراك مع الإمام عليه السلام في المنازل قبل زرود، بل لأنّ هذا المنزل هو المنزل الأوّل الذي يمكن أن يكونا فيه معاً! يعني أوّل المنازل التي يمكن لزهير (رض)- بسبب تعجّله!- أن يُدرك الإمام عليه السلام عنده.

2)- من المؤرّخين من روى قصة لقاء الإمام عليه السلام مع زهير (رض) دون أن يرد في روايته أي ذكر لامتناع زهير (رض) من الذهاب إليه عليه السلام كما ذكر الدينوري: «فأبى أن يلقاه!» والبلاذري: «فأمرته إمرأته ديلم بنت عمرو أن يأتيه فأبى!»، هذا الإمتناع المُفسَّر على أساس عثمانية زهير (رض)!

فهاهو ابن أعثم الكوفيّ- المعاصر لكلّ من الطبري والدينوري

والبلاذري- يروي قصة هذا اللقاء- بدون أي ذكر للعثمانية أو للإمتناع- قائلًا: «ثُمَّ مضى الحسين فلقيه زهير بن القين، فدعاه الحسين إلى نصرته فأجابه لذلك، وحمل إليه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 212

فسطاطه، وطلّق امرأته، وصرفها إلى أهلها، وقال لأصحابه: إنّي كنتُ غزوتُ بلنجر مع سلمان الفارسي، فلمّا فتح علينا اشتدّ سرورنا بالفتح، فقال لنا سلمان: لقد فرحتم بما أفاء اللّه عليكم! قلنا: نعم.

قال: فإذا أدركتم شباب آل محمّد صلى الله عليه و آله فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالكم معه منكم بما أصبتم اليوم. فأنا أستودعكم اللّه تعالى! ثمّ مازال مع الحسين حتّى قُتِلَ.». «1»

3)- لم يحدّثنا التأريخ في إطار سيرة زهير بن القين (رض) عن أيّ واقعة أو حدث أو محاورة أو تصريح من زهير نفسه تتجلّى فيه هذه العثمانية التي أُلْصقت فيه! مع أنّ الآخرين ممّن عُرفوا بعثمانيتهم كانوا قد عُرفوا بها من خلال آرائهم ومواقفهم واشتراكهم في حرب أو أكثر ضدّ عليّ عليه السلام!

4)- وإذا تأمّلنا جيّداً في ماقاله عزرة بن قيس لزهير (رض) وما ردّ به زهير (رض)- على ما في رواية الطبري- يتجلّى لنا أنّ زهير بن القين (رض) لم يكن عثمانيّاً في يوم من الأيّام! ذلك لأنّ زهير (رض) أجاب عزرة الذي اتهمه بالعثمانية فيما مضى قائلًا: «أفلستَ تستدلُّ بموقفي هذا أنّي منهم!؟» أي من أهل هذا البيت عليهم السلام رأياً وميلًا وانتماءً.

ولم يقل له مثلًا: نعم كنتُ عثمانياً كما تقول، ثمّ هداني اللّه فصرت من أتباع أهل هذا البيت عليهم السلام وأنصارهم، أو ما يشبه ذلك.

بل كان في قوله: «أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم» نفيٌ ضمنيٌّ لعثمانيته مطلقاً في الماضي والحاضر، ثمّ إنّ سكوت عزرة بعد ذلك عن الردّ كاشف عن

تراجعه عن تهمة العثمانيّة، فتأمّل.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 213

5)- إنّ التأمّل يسيراً في أقوال زهير بن القين (رض) وفي قول زوجه وموقفها، يكشف عن أنّ زهيراً (رض) وزوجه كانا يعرفان حقّ أهل البيت عليهم السلام وتعمر قلبيهما مودّتهم، تأمّلْ في قوله لزوجه- على ما في رواية السيّد ابن طاووس-: «وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي»، وفي قولها له: «كان اللّه عوناً ومعينا، خار اللّه لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام!»، أو قوله لها- على ما في رواية الدينوري-: «فإنّي قد وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام»، وقوله لأصحابه: «من أحبّ منكم الشهادة فَلْيُقِمْ ..»، وإخباره إيّاهم بحديث سلمان الفارسي (رض)- على ما في رواية الإرشاد-: «اذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ..»!

وتأمّل بتعمق أكثر في قوله: «وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام، وقوله: «من أحبّ منكم الشهادة فليقم ..»، وقوله زوجه: «أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام، وقوله لأصحابه: «من أحبّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنه آخر العهد!»، تجد أنّ هذه العائلة الكريمة كانت على علمٍ بأنّ الإمام عليه السلام سيستشهد في سفره هذا مع أنصاره من أهل بيته وأصحابه، وذلك قبل أن تظهر في الأفق معالم الإنكسار الظاهري، وخذلان أهل الكوفة، وقبل أن يصل إلى الإمام عليه السلام نبأ مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وهاني بن عروة (رض) وعبداللّه بن يقطر (رض)، وهذا كاشف عن أنّ زهيراً (رض) كان ذا عناية واهتمام بأخبار الإمام الحسين عليه السلام ومتابعاً لأنباء مستقبل حركته وقيامه، حتى لو فرضنا أنَّ زهيراً كغيره من الناس كان

قد سمع بأخبار الملاحم المتعلقة بنهضة الحسين عليه السلام واستشهاده، أو سمع من نفس الإمام عليه السلام بعض خطبه في مكّة التي كان قد أشار فيها عليه السلام إلى استشهاده.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 214

أضف الى ذلك: أنّ صاحب كتاب (أسرار الشهادة) نقل هذه الواقعة قائلًا:

«قيل: أتى زهير إلى عبداللّه بن جعفر بن عقيل قبل أن يُقتل فقال له: يا أخي ناولني الراية!

فقال له عبداللّه: أَوَ فيَّ قصورٌ عن حملها!؟

قال: لا، ولكن لي بها حاجة!

قال فدفعها إليه وأخذها زهير، وأتى تجاه العبّاس بن أميرالمؤمنين عليهما السلام.

وقال: يا ابن أميرالمؤمنين، أُريد أن أحدّثك بحديث وعيته!

فقال: حدّث فقد حلا وقت الحديث! حدّث ولاحرج عليك فإنّما تروي لنا متواتر الإسناد!

فقال له: إعلم يا أبا الفضل أنّ أباك أميرالمؤمنين عليه السلام لمّا أراد أن يتزوّج بأُمّك أمّ البنين بعث إلى أخيه عقيل، وكان عارفاً بأنساب العرب، فقال له: يا أخي، أُريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنّسب والشجاعة لكي أُصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا- وأشار اإلى الحسين عليه السلام- ليواسيه في طفّ كربلاء! وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلاتقصّر عن حلائل أخيك وعن أخواتك ...». «1»

فإذا صحّت هذه الرواية، فإنّ هذا الحديث الذي (وعاه) زهير (رض) ورواه للعبّاس عليه السلام، كاشف عن أنّ زهيراً (رض) على اطّلاع منذ سنين بأخبار ووقائع البيت العلوي، وقد وعى أنباءَهم وعياً! وأنّه (رض) كان على قرب من أهل هذا البيت المقدّس غير متباعد عنهم!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 215

أفيمكن أن يكون مثل هذا الرجل عثمانياً!؟

إننا نستبعد ذلك بقوّة! وهذا مبلغ علمنا الآن! ولعلّ مِن أهل البحث والتحقيق مَن يأتي بعدنا، ويتتبّع الإشارات التي قدّمناها بتوسع أكبر وتعمّق أكثر،

ويصل الى مصادر لم نصل إليها، وينتبه إلى مالم ننتبه إليه، فيجلّي أبعاد هذه القضيّة التأريخية بوضوح أتم، فيزيد من كمال الصورة، وكم ترك الأوّل للآخر!

وسلام على زهير بن القين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً.

8)- الثَّعلبية ..... ص : 215
اشارة

«من منازل طريق مكّة من الكوفة، بعد الشقوق وقبل الخزيمية، وهي ثُلُثا الطريق ..». «1»

روى الطبري، عن أبي مخنف، عن أبي جناب الكلبي، عن عديّ بن حرملة الأسدي، عن عبداللّه بن سليم، والمُذري بن المشمعلّ الأسديين: «قالا: لمّا قضينا حجّنا لم يكن لنا همّة إلّا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه!، فأقبلنا تُرقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقناه بزرود، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين.

قالا: فوقف الحسين كأنّه يريده، ثمّ تركه ومضى، ومضينا نحوه، فقال أحدنا لصاحبه: إذهب بنا إلى هذا فلنسأله، فإن كان عنده خبر بالكوفة علمناه. فمضينا حتّى انتهينا إليه، فقلنا: السلام عليك.

قال: وعليكم السلام ورحمة اللّه. ثمّ قلنا: فَمَن الرجل؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 216

قال: أسديٌّ.

فقلنا: نحن أسديّان، فمن أنت؟

قال: أنا بكير بن المثعبة. «1»

فانتسبنا له، ثمّ قلنا: أخبرنا عن النّاس وراءك! قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، فرأيتهما يجرّان بأرجلهما في السوق!

قالا: فأقبلنا حتّى لحقنا بالحسين فسايرناه حتّى نزل الثعلبية ممسياً، فجئناه فسلّمنا عليه فردّ علينا.

فقلنا له: يرحمك اللّه، إنّ عندنا خبراً، فإنْ شئت حدّثنا علانية وإنْ شئت سرّاً.

قال فنظر إلى أصحابه وقال: مادون هؤلاء سرّ!

فقلنا له: أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمسِ؟

قال: نعم، وقد أردتُ مسألته!

فقلنا: قد استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو ابن امرى ء من أسدٍ منّا، ذو رأي وصدق وفضل وعقل،

وإنّه حدّثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة، وحتّى رآهما يجرّان في السوق بأرجلهما!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 217

فقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، رحمة اللّه عليهما. فردّد ذلك مراراً!

فقلنا: ننشدك اللّه في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفت من مكانك هذا، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولاشيعة! بل نتخوف أن تكون عليك!

فوثب عندذلك بنوعقيل بن أبي طالب!». «1»

وروى الطبري، عن أبي مخنف، عن عمر بن خالد، عن زيد بن عليّ بن الحسين، وعن داود بن عليّ بن عبداللّه بن عبّاس: «أنّ بني عقيل قالوا: لاواللّه، لانبرح حتّى نُدرك ثأرنا أو نذوق ماذاق أخونا!». «2»

ثمّ يعود إلى رواية الأسديين، «قالا: فنظر إلينا الحسين فقال: لاخير في العيش بعد هؤلاء! قالا: فعلمنا أنّه قد عزم له رأيه على المسير، قالا: فقلنا: خار اللّه لك! فقال: رحمكما اللّه.

قالا: فقال له بعض أصحابه: إنّك واللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.

قال الأسديان: ثمّ انتظر حتّى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء! فاستقوا وأكثروا، ثمّ ارتحلوا وساروا حتّى انتهوا إلى زُبالة.». «3»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 217

1)- الملفتُ للإنتباه والمثير للعجب في متن هذه الرواية- رواية الطبري- هو أنّ هذين الرجلين الأسديين مع حسن أدبهما مع الإمام عليه السلام وعاطفتهما نحوه لم يكونا ممّن عزم على نصرة الإمام عليه السلام والإلتحاق بركبه! كلُّ مافي أمرهما هو أنّ الفضول دفعهما إلى معرفة مايكون من أمر الإمام عليه السلام فقط!- هذا باعترافهما كما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 218

في الرواية- وقد تخلّيا عنه أخيراً بالفعل وفارقاه!.

2)- والمتأمّل في نصوص محاورات الإمام الحسين عليه السلام منذ أن أعلن عن قيامه المقدّس يجد أنّ الإمام كان

لايخاطب هذا النوع من الرجال- نوع هذين الأسديين- بمُرِّ الحقّ وصريح القضية، بل كان يسلك إلى عقولهم في الحديث عن مراميه سُبلًا غير مباشرة، يعرض فيها سبباً أو أكثر من الأسباب التي تقع في طول السبب الرئيس بما يُناسب المقام والحال!

فقوله عليه السلام صدق وحقّ: «لاخير في العيش بعد هؤلاء» أي بني عقيل، بعد أن وثبوا- لنبأ مقتل مسلم عليه السلام- وقالوا: واللّه لانرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ماذاق!، لكنّ هذا لايعني أنّ مواساة بني عقيل كانت هي السبب الرئيس في إصرار الإمام على التوجّه إلى الكوفة، فالإمام عليه السلام لم يعلّل في أي موقع أو نصّ إصراره على التوجّه إلى الكوفة بطلب الثأر لمسلم عليه السلام، بل كان يعلّل ذلك في أكثر من موقع ونصّ بحجّة رسائل أهل الكوفة وببيعتهم، بل حتّى رسائل أهل الكوفة كانت سبباً في مجموعة أسباب وقعت في طول السبب الرئيس لقيامه عليه السلام وهو إنقاذ الإسلام المحمّديّ الخالص من يد النفاق الأموية وتحريفاتها!

ها هو الإمام عليه السلام يوجّه مسلم بن عقيل الى الكوفة ويبشّره بالشهادة! فيقول:

«إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وهذه كتبهم إليَّ، وسيقضي اللّه من أمرك مايحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء! ...». «1»

ويقول عليه السلام للفرزدق: «رحمَ اللّه مسلماً، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ...». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 219

إذن فالقضية عند الإمام عليه السلام هي قضية نجاة الإسلام التي هي أكبر من دم مسلم عليه السلام ومن كلّ دم! وهذه القضيّة هي السبب الرئيس في إصرار الإمام عليه السلام على مواصلة السير نحو الكوفة، لاطلب الثأر لمقتل مسلم عليه

السلام! ولا لأنّه لاخير عنده في العيش بعد شباب بني عقيل وإن كان ذلك حقّاً!

3)- ولايُعبأ بما روي أنّ الإمام عليه السلام كان قد همّ بالرجوع بعد أن علم بمقتل مسلم عليه السلام وهاني (رض) وعلم بعدم وجود من ينصره في الكوفة!، ذلك ما ذكره ابن قتيبة في «الإمامة والسياسة» حيث قال: «وذكروا أنّ عبيداللّه بن زياد بعث جيشاً عليهم عمرو بن سعيد، وقد جاء الحسين الخبر فهمَّ أن يرجع! ومعه خمسة من بني عقيل فقالوا له: أترجع وقد قُتل أخونا، وقد جاءك من الكتب ما نثق به!؟

فقال لبعض أصحابه: واللّه مالي عن هؤلاء من صبر! ...»، «1»

وذكره ابن عبدربّه في «العقد الفريد» حيث قال: «فبعث معه- أي مع عمر بن سعد- جيشاً وقد جاء حسيناً الخبرُ وهم بشراف، «2» فهمَّ بأن يرجع! ومعه خمسة من بني عقيل ...». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 220

أمّا الطبري فله رواية أيضاً بهذا الصدد، هي: «فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أريد هذا المصر! قال له: إرجع فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه!، فهمَّ أن يرجع! وكان معه إخوة مسلم بن عقيل، فقالوا:

واللّه لانرجع حتى نصيب بثأرنا أو نُقتل! فقال: لاخير في الحياة بعدكم، فسار فلقيته أوائل خيل عبيداللّه، فلمّا رأى ذلك عدل إلى كربلاء ..». «1»

وهذه الرواية معارضة لرواية الطبري نفسه- الموافقة لماهو مشهور- من أنّ الحرّ (رض) التقى الإمام عليه السلام ما بعد شراف في ألف فارس، مأموراً من قبل ابن زياد ألّا يفارق الإمام عليه السلام حتى يُقدمه الكوفة! وقد قال للإمام عليه السلام

في (ذي حسم) وهو يسايره: ياحسين إنّي أذكّرك اللّه في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتَلَنّ، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى! فقال له الحسين:

أفبالموت تخوّفني!؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني!؟ ما أدري ما أقول لك؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه، ولقيه وهو يريد نصرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال له: اين تذهب، فإنّك مقتول!؟ فقال:

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا مانوى حقّاً وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً يغشّ ويرغما.». «2»

هذه هي الهمّة الحسينية العالية القاطعة! «3» فأين هي من «فهمَّ أن يرجع»!؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 221

نعم، ربّما استفاد بعضُ المؤرّخين أنّ الإمام عليه السلام «همَّ بالرجوع» من أنّه عليه السلام- على بعض الروايات- نظر إلى بني عقيل فقال لهم: «ماترون، فقد قُتل مسلم؟ فبادر بنو عقيل وقالوا: واللّه لانرجع، أَيُقتل صاحبنا وننصرف!؟ لا واللّه، لانرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ماذاق صاحبنا ...». «1»

والأرجح أنّ الإمام عليه السلام أراد أن يختبر عزم وتصميم بني عقيل على مواصلة المسير معه- بعد نبأ مقتل مسلم عليه السلام- فسألهم «ماترون ..؟»، فكانوا عند حسن معرفته بهم.

إغفاءةٌ .. ورؤيا حقّة! ..... ص : 221

قال السيّد ابن طاووس (ره): «.. ثمّ سار حتى نزل الثعلبيّة وقت الظهيرة، فوضع رأسه فرقد، ثم استيقظ فقال:

قد رأيت هاتفاً يقول: أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة!

فقال له ابنه عليٌّ: يا أبه! فلسنا على الحق!؟

فقال: بلى يا بنيّ واللّه الذي إليه مرجع العباد!

فقال: يا أبه! إذن لانُبالي بالموت!

فقال الحسين عليه السلام: جزاك اللّه يا بُنيّ خير ما جزى ولداً عن والده.». «2» ونقلها الخوارزمي في المقتل عن ابن أعثم الكوفي بتفاوت. «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 222

وقد ذكر الشيخ الصدوق (ره) هذه الرؤيا

في عذيب الهجانات، «1» وذكرها الذهبي في قصر بني مقاتل»

.. ولابأس بذلك على فرض احتمال تعدّد الرؤيا.

وذكرها ابن شهرآشوب أيضاً دون أن يذكر أنّها كانت رؤيا منام، بل قال: «فلمّا وصل الثعلبية جعل يقول: باتوا نياماً والمنايا تسري! فقال عليّ بن الحسين الأكبر:

ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: إذن واللّه لانبالي!». «3»

مع أبي هرّة الأزدي ..... ص : 222
اشارة

قال ابن أعثم الكوفي: «فلمّا أصبح الحسين وإذا برجلٍ من الكوفة يُكنّى أباهرّة الأزدي، أتا فسلّم عليه، ثمّ قال: يا ابن بنت رسول اللّه، ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدّك محمّد صلى الله عليه و آله؟

فقال الحسين عليه السلام: يا أباهرّة، إنّ بني أميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت! وأيمُ اللّه يا أباهرّة، لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسهم اللّه ذُلًّا شاملًا وسيفاً قاطعاً، وليسلطّن اللّه عليهم من يُذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم!». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 223

إشارة: ..... ص : 223

إنّ ظاهر جواب الإمام عليه السلام لأبي هرّة الأزدي هنا، وكذلك جوابه عليه السلام للفرزدق حينما سأله: «ما أعجلك عن الحجّ؟» حيث قال عليه السلام: «لو لم أعجل لأُخذتُ!» يوحي بأنّ الإمام عليه السلام كان همّه الأكبر النجاة بنفسه!! فقد صبر على أخذ ماله وشتم عرضه- على ما في جوابه عليه السلام لأبي هرّة الأزدي- وحين أرادوا قتله هرب لينجو بنفسه! هذه هي حدود مظلوميته لا أكثر! وكأنّه ليس هناك رفض بيعة ليزيد! ولا طلب إصلاح في أمّة جده صلى الله عليه و آله! ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر! ولاقيام ونهضة!

إنّ الإقتصار على مثل هذه النصوص يؤدّي إلى هذا الإستنتاج الخاطي ء الذي وقع فيه بعض من كتب في تأريخ النهضة الحسينية، وهو: أنّ علّة خروج الإمام عليه السلام من المدينة المنوّرة ومن مكّة المكرّمة هو خوفه على نفسه من الإختطاف أو القتل، وأنّ هذا هو سرّ أسرار النهضة الحسينية!!

كذلك الحال إذا اقتصر نظر الباحث مثلًا على النصوص المتعلّقة برسائل أهل الكوفة إلى الإمام عليه السلام، خصوصاً النصوص الواردة عنه عليه السلام في

ذلك، لأنّ نتيجة مثل هذا النظر ستكون اعتبار رسائل أهل الكوفة هي سبب قيام الإمام عليه السلام! وهذا من أشهر الإشتباهات الحاصلة في مجرى النظر إلى قيام الإمام الحسين عليه السلام.

وكذلك الحال إذا اقتصر نظر الباحث على النصوص التي تحدّث فيها الإمام عليه السلام عن «الإستخارة»، «1» ذلك لأنّ ظاهر هذه النصوص يوحي بأنّ الإمام عليه السلام لم تكن لديه خطّة على الأرض في مسار النهضة منذ البدء! ولاعلم له بما هو قادم عليه في مستقبل أيّامه من مصير! بل كانت توجّه حركته بوصلة الإستخارة! الأمر الذي يعارض وينافي كثيراً من النصوص الأخرى الورادة عنه عليه السلام، فضلًا عن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 224

منافاته للإعتقاد الصحيح بعلم الإمام عليه السلام!

وهكذا الحال، إذا اقتصر نظر الباحث على النصوص المتعلّقة بالرؤيا التي رأى فيها الإمام عليه السلام جدّه صلى الله عليه و آله، أو النصوص التي توحي بأنّه عليه السلام كان يأمل النصر والنجاح وتسلّم زمام الأمور ...

كلّ تلك النتائج القاصرة أو الخاطئة إنّما تنشأ نتيجة الأخذ الجزئي المفكّك، أمّا أخذ جميع النصوص المتعلّقة بهذه النهضة المقدّسة كمجموعة واحدة أخذاً كليّاً موحّداً فهو أحد عناصر عصمة الإستنتاج من القصور والخطأ، كذلك فإنّ معرفة نوع المخاطَب الذي يكلّمه الإمام عليه السلام، وردّ متشابه قوله عليه السلام إلى محكمه، هما العنصران الآخران لهذه العصمة في التدبر الإستنتاج.

وبشر بن غالب الأسدي .. مرّة أخرى ..... ص : 224

كُنّا في «ذات عرق» قد تعرّضنا للقاء الإمام عليه السلام مع بشر بن غالب الأسدي، وعلّقنا على هذا اللقاء، وعرضنا ترجمة موجزة لهذا الرجل.

لكنّ الشيخ الصدوق (ره) في الأمالي روى أنّ هذا اللقاء كان في الثعلبية، قال (ره): «فسار الحسين عليه السلام وأصحابه، فلمّا نزلوا ثعلبية ورد عليه رجل يُقال له بشر بن غالب،

فقال: يا ابن رسول اللّه، أخبرني عن قول اللّه عز وجلّ (يوم ندعوا كُلَّ أُناسٍ بإمامهم)؟ «1»

قال: إمامٌ دعا إلى هدىً فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة، وهؤلاء في النّار، وهو قوله عزّ وجلّ (فريقٌ في الجنّة وفريق في السعير) «2»

.». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 225

ولعلّ الإمام عليه السلام أراد- من خلال هذه الإجابة الحقّة- تنبيه بشر بن غالب الأسدي إلى وجوب إجابته في قيامه والإلتحاق به!

ولعلّ هذا اللقاء كان لقاء ثانياً لبشر بن غالب مع الإمام عليه السلام بعد لقاء (ذات عرق)، إذا كان بشر قد عاد باتجاه الكوفة مرّة أخرى وبسرعة!

ومع زهير الأسدي من أهل الثعلبية ..... ص : 225

روى ابن عساكر بسند إلى سفيان قال: «حدّثني رجل من بني أسد يُقال له:

بحير- بعد الخمسين والمائة- وكان من أهل الثعلبية، ولم يكن في الطريق رجل أكبر منه، فقلت له: مثلُ مَنْ كنتَ حين مرَّ بكم حسين بن عليّ؟ قال: غلامٌ قد يفعتُ، قال: فقام إليه أخٌ لي أكبر منّي يُقال له زهير وقال: أي ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّي أراك في قلّة من الناس!

فأشار الحسين عليه السلام بسوط في يده هكذا، فضرب حقيبة وراءه فقال: ها إنّ هذه مملوءة كُتباً! ...». «1»

ومع آخر من أهل الكوفة ..... ص : 225

روى صاحب بصائر الدرجات (ره) بسند عن الحكم بن عتيبة قال: «لقي رجلٌ الحسين بن عليّ عليهما السلام بالثعلبية وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلّم عليه، فقال له الحسين عليه السلام: من أي البلدان أنت؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 226

فقال: من أهل الكوفة.

قال: يا أخا أهل الكوفة، أما واللّه لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا ونزوله على جدّي بالوحي! يا أخا أهل الكوفة، مُستقى العلم من عندنا، أفعلموا وجهلنا!؟ هذا ما لايكون!». «1»

لقاء ربّما كان في الثعلبية أيضاً! «2» ..... ص : 226

وروى ابن عساكر بسند عن يزيد الرّشك قال: «حدّثني من شافه الحسين قال:

رأيتُ أبنية مضروبة بفلاة من الإرض، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه لحسين.

قال: فأتيته، فإذا شيخ يقرأ القرآن- قال- والدموع تسيل على خدّيه ولحيته! قال: قلتُ: بأبي وأمّي يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟

فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليَّ، ولا أراهم إلّا قاتليّ! فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا للّه حرمة إلّا انتهكوها، فيسلّط اللّه عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأمة. «3»

». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 227

9)- الشقوق ..... ص : 227
اشارة

«جمع: شَقّ او شِقّ، وهو الناحية، منزل بطريق مكّة بعد واقصة من الكوفة، وبعدها تلقاء مكّة بطان ..». «1»

والفرزدق .. في الشقوق أيضاً!! ..... ص : 227
اشارة

روى ابن أعثم الكوفي قائلًا: «وسار الحسين حتى نزل الشقوق، فإذا هو بالفرزدق بن غالب الشاعر قد أقبل عليه، فسلّم ثمّ دنى منه فقبّل يده، فقال الحسين: مِن أين أقبلت يا أبافراس؟

فقال: من الكوفة يا ابن بنت رسول اللّه!

فقال: كيف خلّفت أهل الكوفة؟

فقال: خلّفت النّاس معك وسيوفهم مع بني أميّة، واللّه يفعل في خلقه ما يشاء.

فقال: صدقت وبررت، إنّ الأمر للّه يفعل ما يشاء، وربّنا تعالى كلّ يوم هو في شان،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 228

فإن نزل القضاء بما نحبّ فالحمد للّه على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإنْ حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحقّ نيّته.

فقال الفرزدق: يا ابن بنت رسول اللّه! كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم قد قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته!؟

قال: فاستعبر الحسين بالبكاء، ثم قال:

رحم اللّه مسلماً! فلقد صار إلى رَوْح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا.

قال: ثمّ أنشأ الحسين يقول:

فإنْ تكن الدنيا تُعدُّ نفيسة فدار ثواب اللّه أعلى وأنبلُ

وإنْ تكن الأبدان للموت أُنشئت فقتل امرى ءٍ بالسيف في اللّه أفضلُ

وإنْ تكن الأرزاق قِسماً مقدّراً فقلّة حرص المرء في الكسب أجملُ

وإنْ تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخلُ

قال: ثمّ ودّعه الفرزدق في نفر من أصحابه، ومضى يريد مكّة، فأقبل عليه ابن عمّ له من بني مجاشع فقال: أبا فراس، هذا الحسين بن عليّ!

فقال الفرزدق: هذا الحسين بن فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه و آله، هذا واللّه (خيرة اللّه) ابن خيرة اللّه، وأفضل من مشى على وجه الأرض

بعد محمد (من خلق اللّه)، وقد كُنت قلتُ فيه أبياتاً قبل اليوم، فلا عليك أن تسمعها.

فقال له ابن عمّه: ما أكره ذلك يا أبا فراس! فإنْ رأيت أن تنشدني ما قلتَ فيه!

فقال الفرزدق: نعم، أنا القائل فيه وفي أبيه وأخيه وجدّه صلوات اللّه عليهم هذه الأبيات:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحِلُّ والحرمُ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 229

هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلمُ

هذا حسين رسول اللّه والده أمست بنور هُداه تهتدي الأُمم

إلى آخر قصيدته العصماء المشهورة ...

قال: ثمّ أقبل الفرزدق على ابن عمّه فقال: واللّه، لقد قلت فيه هذه الأبيات غير متعرّض إلى معروفه، غير أنّي أردتُ اللّه والدار الآخرة.». «1»

إشارتان ..... ص : 229

1)- في متن هذه الرواية تصريح بأنّ الفرزدق كان على علم بمقتل مسلم عليه السلام (وقد قُتل في الثامن أو التاسع من ذي الحجّة) وهو في الشقوق، ومعنى هذا أنّ الفرزدق كان- على أقل تقدير- في الشقوق في ما بعد الثامن أو التاسع من ذي الحجّة، وعلى هذا فهو لن يُدرك الوصول إلى مكّة أيّام الحجّ قطعاً لبعد المسافة كثيراً عن مكّة، من هنا لابدّ من عدم القبول بمكان وزمان هذه الرواية وهي تصرح بهذا، وبأنّ الفرزدق ودّع الإمام عليه السلام ومضى يريد مكّة! لإداء الحج!

2)- المشهور أنّ هذه القصيدة ارتجلها الفرزدق في مدح الإمام السجّاد عليّ ابن الحسين عليهما السلام في مكّة متحدياً بذلك الطاغوت هشام بن عبدالملك، ولامانع من أن يكون الفرزدق قد نظمها من قبل في الحسين عليه السلام كما صرّح هو في هذه الرواية- وأبياتها تصلح لمدح جميع أئمة أهل البيت عليه السلام- فلما أراد أن يمدح الإمام السجّاد عليه السلام بنفس هذه الأبيات أمام هشام

أضاف إليها بيت المناسبة مخاطباً هشام بن عبدالملك:

وليس قولك من هذا بضائره العربُ تعرف من أنكرتَ والعجمُ

واللّه العالم بحقيقة الحال.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 230

10)- زُبالة ..... ص : 230
اشارة

«منزل معروف بطريق مكّة من الكوفة، وهي قرية عامرة بها أسواق، بين واقصة والثعلبية، وقال أبوعبيدة السكوني: زبالة بعد القاع من الكوفة قبل الشقوق فيها حصن وجامع لبني غاضرة من بني أسد، قالوا: سمّيت زُبالة بزبلها الماء أي بضبطها له وأخذها منه ..». «1»

وقد سجّل التأريخ لنا وقائع مهمة في هذا المنزل، منها:

قال الدينوري: «فلمّا وافى زُبالة وافاه بها رسول محمّد بن الأشعث وعمر بن سعد، بما كان سأله مسلم أن يكتب به إليه في أمره، وخذلان أهل الكوفة إيّاه بعد أن بايعوه، وقد كان مسلم سأل محمّد بن الأشعث ذلك.

فلمّا قرأ الكتاب استيقن بصحة الخبر، وأفظعه قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، ثمّ أخبره الرسول بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي رسوله الذي وجّهه من بطن الرمّة.

وقد كان صحبه قوم من منازل الطريق، فلمّا سمعوا خبر مسلم، وقد كانوا ظنّوا أنه يقدم على أنصار وعضُد تفرّقوا عنه، ولم يبق معه إلّا خاصّته.». «2»

وقال السيّد ابن طاووس (ره): «ثمّ سار الحسين عليه السلام حتّى بلغ زُبالة فأتاه فيها خبر مسلم بن عقيل، فعرف بذلك جماعة ممّن تبعه، فتفرّق عنه أهل الأطماع والإرتياب، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب.

قال الراوي: وارتجّ الموضع بالبكاء والعويل لقتل مسلم بن عقيل، وسالت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 231

الدموع كلّ مسيل!». «1»

وكان الطبري قد روى قصة مبعوث محمّد بن الأشعث إلى الإمام عليه السلام هكذا:

«دعا محمّد بن الأشعث إياسَ بن العثل الطائي من بني مالك بن عمرو بن ثمامة، وكان شاعراً وكان لمحمّد زوّاراً، فقال له: إلْقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب،

وكتب فيه الذي أمره ابن عقيل، وقال له: هذا زادك وجهازك ومُتعة لعيالك. فقال: مِن أينَ لي براحلة؟ فإنّ راحلتي قد أنضيتها! قال: هذه راحلة فاركبها برحلها.

ثمّ خرج فاستقبله بزُبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر وبلّغه الرسالة، فقال له حسين: كُلُّ ما حُمَّ نازل، وعند اللّه نحتسب أنفسنا وفساد أمّتنا!». «2»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 231

1)- لم يبعث عمر بن سعد لعنه اللّه إلى الإمام صلى الله عليه و آله أحداً كما أوصاه مسلم عليه السلام، وماتفرّد به الدينوري في أنّ هذا المبعوث كان من قِبل محمّد بن الأشعث وعمر ابن سعد تعارضه رواية الطبري حيث ذكر أنّ إياسَ بن العثل الطائي كان مبعوثاً من قبل ابن الأشعث ولم يذكر عمر بن سعد معه، كما أنّ مسلماً عليه السلام أوصى ابن الأشعث بإرسال من يخبر الإمام عليه السلام بمعزل عن ابن سعد وقبل أن يطلب من هذا الأخير ذلك أيضاً، ثمّ إنّ عمر بن سعد كان قد خان الوصيّة في نفس مجلس ابن زياد وتنكّر لها، فقد مضى في رواية أخرى للطبري- وهو المشهور أيضاً- أنّ مسلماً عليه السلام قبل أن يُقتل حين سارّ عمر بن سعد بوصاياه، والتي كانت الأخيرة منها: «وابعث إلى حسين من يردّه فإنّي قد كتبت إليه أُعلمه أنّ النّاس معه، ولا أراه إلّا مقبلًا! فقال عمر لابن زياد أتدري ما قال لي!؟ إنّه ذكر كذا وكذا! قال له ابن زياد:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 232

إنّه لايخونك الأمين ولكنْ قد يؤتمن الخائن!!». «1»

2)- مرَّ بنا قبل هذا أنّ خبر مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وهاني بن عروة (رض) قد بلغ الإمام عليه السلام في الثعلبية، ولامانع أن يتكرر ورود هذا الخبر المفجع على الإمام عليه السلام في

أكثر من منزل، وبواسطة أكثر من مُخبر، فيتجدّد اتقاد حزن الإمام عليه السلام ومن معه على هؤلاء الشهداء الأبرار كلّما حدّثه قادمٌ عليه بخبرهم! فيرتجّ الموضع بالإسترجاع وبالبكاء والعويل، وتسيل الدموع لأجلهم كلَّ مسيل، كما هو الوصف في رواية السيد ابن طاووس (ره)

3)- خبر مقتل عبداللّه بن يقطر (رض): أمّا قول الدينوري: ثمّ أخبره الرسول بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي رسوله الذي وجّهه من بطن الرمّة، فهو مخالف للمشهور الذي عليه جلُّ علماء السِير من أنّ الذي وصل إلى الإمام عليه السلام في زُبالة هو خبر مقتل عبداللّه بن يقطر أخيه من الرضاعة، يقول الطبري: «كان الحسين لا يمرُّ بأهل ماءٍ إلّا اتبعوه! حتّى انتهى إلى زُبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة، مقتل عبداللّه بن يقطر، «2» وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لايدري أنّه قد أصيب، فتلقّاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية، فسرّح به إلى عبيداللّه بن زياد، فقال: إصعد فوق القصر فالعن الكذّاب ابن الكذّاب ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيي! قال: فصعد، فلمّا أشرف على النّاس قال: أيها النّاس، إنّي رسول الحسين بن فاطمة، بن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة، ابن سميّة الدعيّ! فأمر به عبيداللّه فأُلقي من فوق القصر إلى الأرض، فكُسرت عظامه وبقي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 233

به رمق، فأتاه رجل يُقال له: عبدالملك بن عمير اللخمي فذبحه! فلمّا عيب ذلك عليه قال: إنّما أردتُ أن أُريحه!- قال هشام: حدّثنا أبوبكر بن عيّاش عمّن أخبره قال: واللّه ماهو عبدالملك بن عمير الذي قام إليه فذبحه، ولكنه قام إليه رجل جَعْدٌ طُوال يشبه عبدالملك بن عمير- قال: فأتى ذلك الخبر حسيناً

وهو بزُبالة، فأخرج للناس كتاباً فقرأه عليهم:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ فإنّه قد أتانا خبرٌ فظيع! قُتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة وعبداللّه بن يقطر! وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام!

قال: فتفرّق الناس عنه تفرّقاً فأخذوا يميناً وشمالًا! حتّى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة! «1» وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ أنّما اتبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله! فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علامَ يقدمون! وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! ..». «2»

4)- تؤكّد مجموعة من المتون التأريخية على أنّ أهل الأطماع والإرتياب تفرّقوا عن الإمام عليه السلام في زُبالة، بعدما شاع فيهم خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني بن عروة (رض) وعبداللّه بن يقطر (رض)، وبعدما خطب فيهم الإمام عليه السلام- أو قرأ كتاباً عليهم- فأعلمهم بانقلاب الأمر وخذلان الشيعة في الكوفة، ثمَّ إذن لهم بالإنصراف بلاذمام!- كما مرَّ بنا في رواية الطبري- أو كما نقل الخوارزميّ في المقتل حيث قال: «وكان قد تبع الحسين خلقٌ كثير من المياه التي يمرُّ بها لأنهم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 234

كانوا يظنّون استقامة الأمور له عليه السلام، فلمّا صار بزُبالة قام فيهم خطيباً فقال:

ألا إنّ أهل الكوفة وثبوا على مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، فقتلوهما وقتلوا أخي من الرضاعة، فمن أحبّ منكم أن ينصرف فلينصرف من غير حرج، وليس عليه منّا ذمام!

فتفرّق الناس وأخذوا يميناً وشمالًا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكّة، وإنّما أراد أن لايصحبه إنسان إلّا على بصيرة!»، «1» أو «فكَرِهَ أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون

علامَ يقدمون! وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! ..». «2»

ونقول: تلك هي سُنّة القادة الربانييّن في قيامهم، إنهم يريدون العدّة وكثرة الأنصار، ولكنْ ليس أيّ ناصر وكيفما كان!، بل الناصر «الرِبيُّ»: «3» الشديد التمسّك بإطاعة الأمر الإلهي، الذي يُقدم على تنفيذ الأمر الإلهي ناظراً إلى التكليف لا إلى النتيجة!، قد نزع قلبه من كلّ عوالق الدنيا وما فيها وأخلصه لطاعة اللّه تبارك وتعالى، فكانت مرضاة «الربّ» عزّ وجلَّ هي الهمُّ الشاغل قلبه لاسواها.

هذه العدّة من «الربيّين» «4» هي العدّة التي يطلبها ويسعى إلى تكثيرها القائد الربّانيّ في قيامه ونهضته!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 235

ومن سُنّة القادة الربّانيين أيضاً أنهم يستثمرون كُلَّ مناسبة لامتحان (المجموع) الذي يصحبهم، وذلك لتخليص عدّتهم الربّانية من كلّ ما يعلق بها من أهل الطمع والإرتياب، حتّى تصفو هذه العدّة من الإضافات الكاذبة! فتبقى الصفوة الخالصة (القوة الحقيقية) التي يخطّط القائد الربانيّ على أساسها نوع المواجهة وأسلوب القتال يوم الملحمة!

وهذه مسألة مهمّة وأساسية في التخطيط الحربي، بل حتّى في التخطيط لكل مواجهة سياسية، ذلك لأنّ التخطيط في كلّ مواجهة على أساس (القوة الظاهرية) لا على أساس (القوّة الحقيقية) سيضع القوّة العسكرية أو الحركة السياسية أمام حدث هو أكبر من حجمها الحقيقي، فإذا تعرّضت هذه القوّة أو الحركة لضربة قاصمة أو إنكسار كبير مثلًا فإنّ هذه الضربة أو هذا الإنكسار سيقعان على رأس (القوّة الحقيقة) فقط! لأنّ الإضافات غير الحقيقية التي أحاطت بالقوّة الحقيقية وشكّلت معها القوّة الظاهرية ستتفرّق وتتلاشى عنها ساعة الشدّة كما هي عادة وطبيعة الأشياء، تاركة القوّة الحقيقية وحدها عرضة لضربة أو انكسار هما أكبر من استطاعتها وتحمّلها!! ولذا قد تتحطّم القوّة الحقيقية أو

تزول تماماً قبل تحقيق الهدف المنشود من وراء وجودها!

هذا في إطار الأثر على الأرض! أمّا في إطار الأثر في السماء، فإنّ اختبار العدّة الظاهرية بالإمتحان بعد الإمتحان، وتمحيصها حتّى لايبقى منها إلّا أهل البصائر والعزائم الراسخة، سوف يزيد من علوّ درجاتهم ومنازلهم الأخروية عند اللّه تبارك وتعالى، لأنّ لهم أجراً وفوزاً وارتقاءً لنجاحهم بعد كلّ امتحان وتمحيص! واللّه يختص برحمته من يشاء، واللّه واسع عليم!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 236

11)- بطن العقبة ..... ص : 236
اشارة

«العَقَبة: منزل في طريق مكّة بعد واقصة وقبل القاع لمن يريد مكّة، وهو ماء لبني عكرمة من بكر بن وائل.». «1»

لقاء الإمام عليه السلام مع عمرو بن لوذان ..... ص : 236
اشارة

قال الطبري: «.. ثمَّ سار حتّى مرّ ببطن العقبة فنزل بها، قال أبومخنف: فحدّثني لوذان أحد بني عكرمة أنّ أحد عمومته سأل الحسين عليه السلام: أين تريد؟ فحدّثه، فقال له: إنّي أُنشدك اللّه لما انصرفتَ، فواللّه لاتقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف! فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لوكانوا كفوك مؤنة القتال ووطّأوا لك الأشياء فقدمّتَ عليهم كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فإنّي لا أرى لك أن تفعل!

قال: فقال له:

يا عبداللّه، إنّه ليس يخفى عليَّ الرأيُ ما رأيتَ! ولكنّ اللّه لايُغلب على أمره!

ثمّ ارتحل منها.». «2»

وفي رواية الإرشاد أنّ هذا الشيخ من بني عكرمة يقال له: عمرو بن لوذان، وفيها أيضاً أنّ الإمام عليه السلام قال له: يا عبداللّه، ليس يخفى عليَّ الرأي! وإنّ اللّه لايُغلب على أمره!

ثم قال عليه السلام: واللّه لايدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي! فإذا فعلوا سلّط اللّه عليهم من يُذلّهم حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم! «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 237

أمّا الدينوري فروى هذا اللقاء هكذا: «فسار حتّى انتهى إلى بطن العقيق، «1» فلقيه رجل من بني عكرمة، فسلّم عليه وأخبره بتوطيد ابن زياد الخيل ما بين القادسية إلى العُذَيْب «2» رصداً له! ثمّ قال له: إنصرف بنفسي أنت! فواللّه ماتسير إلّا الى الأسنّة والسيوف! ولاتتكلنّ على الذين كتبوا إليك، فإنّ أولئك أوّل الناس مبادرة إلى حربك!

فقال له الحسين: قد ناصحت وبالغت، فجُزيت خيراً!

ثمّ سلّم عليه ومضى ..». «3»

إشارة: ..... ص : 237

إنّ المشورة أو الرأي الذي عرضه عمرو بن لوذان للإمام عليه السلام هنا شبيه بالرأي الذي كان قد عرضه كلُّ من عبداللّه بن عبّاس (رض)»

وعمر بن عبدالرحمن المخزومي في مكّة، «5» ولاحظنا أنّ الإمام عليه السلام لم يُخطّي ء هذه

الآراء والمشورات والإقتراحات، بل أجاب أصحابها بما يؤكّد صحتها وصوابها وأنها كانت من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 238

النصح والعقل والرأي.

لكنّ الإمام عليه السلام مع إقراره بصحة وصواب تكلم النصائح والمشورات كان يؤكّد لكلّ من أصحابها بطريقة تتناسب ونوع المخاطَب أنّه لابدّ له من عدم الأخذ بتلكم النصائح والإقتراحات! وذلك لأنّ منطق هؤلاء وان كان صحيحاً بمقياس حدود الظواهر إلّا أنه لايتعدّى التفكير بالسلامة والمنفعة الذاتية والنصر الظاهري، في حين كان الإسلام آنئذٍ يمرُّ بمنعطف حاسم النتيجة في أن يبقى أولايبقى، وقد عبّر الإمام عليه السلام عن حال الإسلام الحرجة هذه أمام مروان بن الحكم بقوله:

«وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد!». «1»

كان الإسلام المحمّدي الخالص قد اشتبهت حقيقته على أكثر هذه الامة حين اختلط عليهم- بفعل جهود حركة النفاق عامة والحزب الأموي خاصة- اختلاطاً عجيباً مع أباطيل وتحريفات كثيرة وكبيرة افتريت عليه ودُسَّت فيه، حتى صار من غير الممكن فصل الإسلام المحمّدي الخالص عن (الإسلام الأموي!) إلّا إذا ارتكب الأمويون الجريمة الكبرى، جريمة سفك الدّم المقدّس، دم ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وإلّا لاستمرّت عملية التحريف والمزج، حتى تصل الأمّة إلى حدٍّ لا تعرف عنده إلّا الإسلام الأمويّ! فلا يبقى من الإسلام المحمّدي إلّا إسمه!

إذن فحال الإسلام يومذاك كحال المريض الذي لاينفع في علاجه إلّا الكيّ، وقديماً قيل في المثل (آخر الدواء الكيّ!) لما يترتّب عليه من علاج حاسم!

حال الإسلام يومذاك لم يكن ينفع في علاجها منطق السياسة والمعاملة السياسية والدهاء السياسي، ورعاية المصالح الذاتية، والتفكير بالسلامة،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 239

وحسابات الإستفادة والمنفعة والربح والخسارة الشخصيّة، وضوابط التخطيط للسيطرة على الحكم! حال الإسلام يومذاك ماكانت لتصل إلى علاجها الحاسم وتبلغ درجة الشفاء

التّام إلّا بمنطق الشهادة! ولم يكن لها مرهمٌ إلّا الدّم الأقدس، دم ابن رسول اللّه الذي هو دم رسول اللّه صلى الله عليه و آله نفسه!! دم الحسين عليه السلام، الشهيد الفاتح الذي جاء من قلب (المدينة) يسعى، يحدو به الشوق إلى المصرع المختار «وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف!»، «1»

في ركب من عُشّاق الشهادة لاتثنيهم عن مصارع العشق عقلائية عقلاء الظاهر ولانصائحهم ولاملامة المحجوب عن المحبوب!

رأيتُ كلاباً تنهشني أشدُّها عليَّ كلبٌ أبقع! ..... ص : 239
اشارة

روى الشيخ أبوالقاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمّي (ره) بسندٍ عن شهاب بن عبدربّه، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «لمّا صعد الحسين بن عليّ عليهما السلام عقبة البطن قال لأصحابه: ما أراني إلّا مقتولًا!

قالوا: وما ذاك يا أباعبداللّه؟

قال: رؤيا رأيتها في المنام!

قالوا: وما هي؟

قال: رأيت كلاباً تنهشني أشدّها عليّ كلبٌ أبقع!». «2»

إشارة: ..... ص : 239

حدّثتنا المتون التأريخية أنّ أهل الطمع والإرتياب كانوا قد تفرّقوا عن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 240

الإمام عليه السلام ذات اليمين وذات الشمال في منطقة زبالة- بعد أن علموا بمقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وهاني بن عروة (رض) وعبداللّه بن يقطر (رض)، وبعد أن خطبهم الإمام عليه السلام خطبته التي أعلمهم فيها بمقتل هؤلاء الشهداء الأبرار (رض)، ورخّصهم في الإنصراف عنه- فما بقي معه إلّا الصفوة من أصحابه الذين لازموه حتّى استشهدوا بين يديه.

لكننّا هنا نلاحظ أنّ الإمام عليه السلام ما برح يواصل إختبار وامتحان تصميم الباقين معه على الشهادة حتّى بعد منطقة زُبالة، من خلال إخبارهم بما رأى من الحقّ في عالم المنام، وما ذاك إلّا لتنقية الركب الحسينيّ تماماً من كلّ متردد مرتاب أو ذي طمع في دنيا أو عافية وسلامة ربّما كان لم يزل حتّى تلك الساعة عالقاً بالركب الحسينيّ، وكذلك ليزداد أهل البصائر والنيّات الصادقة يقيناً على يقينهم وتصميماً على المضيّ إلى القتل فوق تصميمهم، ليزدادوا بذلك عند اللّه مثوبة ويرقون إلى منازل أعلى في علييّن! ولعلّ الإمام عليه السلام أراد أيضاً- في ضمن ذلك- أن يكشف لهم عن وحشيّة الأعداء وإصرارهم على قتله، وأشدّهم نهشاً ووحشيّة وإصراراً على قتله ذلك الرجل الأبقع فيهم، وهو شمر بن ذي الجوشن العامري لعنه اللّه!

12)- شراف ..... ص : 240

«شراف بين واقصة والقرعاء على ثمانية أميال من الأحساء التي لبني وهب، ومن شراف إلى واقصة ميلان (4 كم تقريباً)، وهناك بركة تُعرف باللوزة، وفي شراف ثلاث آبار كبار، رشاؤها أقلّ من عشرين قامة، وماؤها عذب كثير، وبها قُلُبٌ كثيرة طيّبة الماء يدخلها ماء المطر ..». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 241

قال الشيخ المفيد (ره): «ثمّ سار عليه السلام في بطن العقبة حتى

نزل شراف فلمّا كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ..». «1»

هذا ما حدّثنا التأريخ به عمّا حصل في منطقة شراف لاغير، وإنّ لأمره عليه السلام فتيانه بالإستقاء من الماء والإكثار منه أثراً كاشفاً عن علمه عليه السلام بالوقائع قبل حصولها، وقد تجلّى هذا الأثر عند لقائهم لأوّل مرّة مع الحرّ بن يزيد الرياحي (رض) في قوّة قتالية مؤلّفة من ألف فارس! بعد قليل من شراف.

نعم، ذكر مؤرّخون «2» أنّ الإمام عليه السلام أمر بالإستقاء من الماء والإكثار منه قبل ذلك في أكثر من موضع، بل ربّما كان ذلك من عادة السير والسفر قبيل التحرك من كلّ منزل من المنازل، لكنّ الظاهر أنّ الإستقاء من الماء والإكثار منه في شراف كان أكثر من كلّ مرّة بحيث يزيد هذه المرّة عن حاجة الركب الحسينيّ كثيراً.

13) ذو حُسَم: ..... ص : 241
اشارة

وهو جبل يقع بين شراف وبين منزل البيضة، كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة يصطاد فيه. «3»

روى الطبري عن الرجلين الأسديين (عبداللّه بن سُلَيم والمذريّ بن المشمعل) قالا: «ثمَّ ساروا منها- أي شراف- فرسموا صدر يومهم حتى انتصف النهار، ثم إنّ رجلًا قال: اللّه اكبر!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 242

فقال الحسين: اللّه أكبر! ما كبّرت؟

قال: رأيت النخل!

فقال له الأسديان: إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ!

قالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رأى؟

قلنا: نراه رأى هوادي الخيل!

فقال: وأنا واللّه أرى ذلك! .. أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟

فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإنْ سبقت القوم إليه فهو كما تريد.

قال فأخذ إليه ذات اليسار، قال ومِلْنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبينّاها وعدلنا،

فلمّا رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأنَّ أسنّتهم اليعاسيب! وكأنّ راياتهم أجنحة الطير!

قال فاستبقنا إلى ذي حُسم فسبقناهم إليه، فنزل الحسين فأمر بأبنيته فضُربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم!

فقال الحسين لفتيانه: إسقوا القوم وارووهم من الماء! ورشّفوا الخيلَ ترشيفاً!

فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم! وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطّساس من الماء ثمّ يُدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلّها.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 243

قال هشام: حدّثني لقيط، عن عليّ بن الطّعان المحاربي: كنت مع الحرّ بن يزيد، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلمّأ رأى الحسين مابي وبفرسي من العطش قال: أنِخْ الراوية- والراوية عندي السقاء- ثمّ قال: يا ابن أخي، أنخ الجمل! فأنخته، فقال: إشرب. فجعلتُ كلّما شربتُ سال الماء من السقاء، فقال الحسين:

أخنث السقاء- أي إعطفه قال جعلت لا أدري كيف أفعل! قال فقام الحسين فخنثه، فشربت وسقيتُ فرسي.

قال: وكان مجي ء الحرّ بن يزيد ومسيره إلى الحسين من القادسية، وذلك أنّ عبيداللّه بن زياد لمّا بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن نمير التميمي وكان على شُرطه، فأمره أن ينزل القادسية وأن يضع المسالح، فينظّم ما بين القطقطانة إلى خفّان! وقدّم الحرّ بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية فيستقبل حُسيناً!

قال فلم يزل موافقاً حُسيناً حتى حضرت الصلاة صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجّاجَ بن مسروق الجعفي أن يؤذّن فأذّن، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين في إزارٍ ورداءٍ ونعلين، فحمد اللّه وأثنى عليه،

ثم قال:

أيها النّاس، إنّها معذرة إلى اللّه عزّ وجل وإليكم! إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم: أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام. لعلّ اللّه يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم!

قال فسكتوا عنه، وقالوا للمؤذّن: أقم. فأقام الصلاة.

فقال الحسين عليه السلام للحرّ: أتريد أنْ تصلّي بأصحابك؟

قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 244

قال فصلّى بهم الحسين، ثمّ إنّه دخل واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان به، فدخل خيمة قد ضُربت له، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه، وعاد أصحابه إلى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته وجلس في ظلّها.

فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيؤا للرحيل، ثمّ إنّه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، فاستقدم الحسين فصلّى بالقوم ثمّ سلّم وانصرف الى القوم بوجهه، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعدُ أيها النّاس، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحقَّ لأهله يكنْ أرضى للّه، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجَوْر والعدوان! وإنْ أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم!

فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا واللّه ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر!

فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجَيْن اللذين فيهما كتبهم إليَّ! فأخرج خرجَيْن مملوئين صحفاً، فنشرها بين أيديهم!

فقال الحرُّ: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك

حتّى نقدمك على عبيداللّه بن زياد!

فقال له الحسين: الموتُ أدنى إليك من ذلك!

ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا. فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا بنا. فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الإنصراف، فقال الحسين للحرّ: ثكلتك أمّك! ما تُريد!؟

قال: أما واللّه لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 245

عليها ما تركت ذكر أُمِّه بالثكل أن أقوله، كائناًمن كان، ولكن واللّه مالي إلى ذكر أُمِّك من سبيل إلّا بأحسن ما يُقدر عليه!

فقال له الحسين: فما تُريد!؟

قال الحرّ: أُريد واللّه أن أنطلق بك إلى عبيداللّه بن زياد!

قال له الحسين: إذن واللّه لا أتّبعك!

فقال له الحرّ: إذن واللّه لا أَدَعُك!

فترادّا القول ثلاث مرّات، ولمّا كثر الكلام بينهما:

قال له الحرّ: إنّي لم أؤمر بقتالك وإنّما أُمرت أن لا أُفارقك حتّى أُقدمك الكوفة! فإذا أبيتَ فُخُذْ طريقاً لا تُدخلك الكوفة ولاتردّك إلى المدينة، لتكون بيني وبينك نصفاً، حتّى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيداللّه بن زياد إن شئت، فلعلّ اللّه إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أُبتلى بشي ء من أمرك. قال: فخُذ هاهنا فتياسَرْ عن طريق العُذيب والقادسيّة. (وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلًا).

ثُمَّ إنَّ الحسين سار في أصحابه، والحرُّ يسايره ...». «1»

تأمُّلٌ وملاحظات: ..... ص : 245
1)- تعاملَ الإمام عليه السلام- القائد الربّانيّ- مع الظالين والمُغرَّر بهم والمشلولين نفسياً من أبناء هذه الأمة ..... ص : 245

معاملة الأب الرؤوف الحاني- مالم يقع بينه وبينهم السيف- وذلك لأنّ غاية الإمام عليه السلام أساساً هي دعوتهم الى الحقّ والهدى، وقد تجسّدت هذه الروح الأبوية الحانية في سقاية هؤلاء القادمين بأمر ابن زياد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 246

للجعجعة به عليه السلام، وإروائهم في ساعة هم أشدّ ما يكونون فيها حاجة إلى الماء، وكأنّه

عليه السلام كان قد أحياهم بعد احتضارٍ من شدّة العطش!- بل لقد تجلّت رأفته وحنّوه عليه السلام كخليفة للّه على كلّ خلقه أيضاً في إرواء الخيل والدوابّ الأخرى وترشيفها- ولاشكّ أنّ هذه الأخلاقية الربّانية حجّة بالغة على أولئك القوم، تهزّ ضمائرهم هزّاً عنيفاً وتدفعها دفعاً قويّاً إلى التأمّل والتفكير وتستنطق الفطرة فيهم للإجابة عن هذا السؤال: أيُّ الرجلين أحقّ بالإتباع والإطاعة: الإمام عليه السلام أم ابن زياد الجلف الجافي!؟

فلعلَّ ضالًّا- بعد هذه الهزّة في الضمير- يستبصر فيهتدي إلى الحقّ ويتّبعه، ومُغرَّراً به تنكشف له حقيقة الأمر فيعرف أهل الحقّ وقادته، ومشلولًا في نفسه يتحرر فينطلق بقوّة وعزم للإنضمام إلى أهل الحقّ وقد كان ولم يزل يعرفهم!!

2)- كان الإمام عليه السلام يريد أن يدخل الكوفة حُرّاً وبالطريقة التي يختارها هو!، وكان الحرُّ يريد أن يأخذه إليها أسيراً! ..... ص : 246

بأمر ابن زياد! كان هذا أصل الأخذ والردّ بينهما، لكنّ ما يُلفت الإنتباه في هذه النقطة هو أنّ الإمام عليه السلام ظلّ مصرّاً على التوجّه نحو الكوفة حتّى بعد الإختيار الموسّع الذي عرضه عليه الحرّ بن يزيد (رض) في أن يتّخذ طريقاً لاتُدخله الكوفة ولاتردّه الى المدينة، فيذهب حيث يشاء بين ذلك! بل كان الإختيار أوسع- على رواية ابن أعثم الكوفيّ- حيث شمل حتّى الرجوع الى المدينة إذا شاء! حين قال له الحرُّ (رض): «أبا عبداللّه، إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنّما أُمرت أن لا أفارقك أو أقدم بك على ابن زياد! وأنا واللّه كارهٌ إنْ سلبني اللّه بشي ء من أمرك! غير أنّي قد أخذتُ ببيعة القوم وخرجت اليك! وأنا أعلم أنه لايوافي القيامة أحد من هذه الأمّة إلّا وهو يرجو شفاعة جدّك محمّد صلى الله عليه و آله! وأنا خائف إن قاتلتك أن أخسر الدنيا والآخرة! ولكن خذ عنّي هذا الطريق وامضِ حيث شئت! حتى أكتب إلى ابن زياد

أنّ هذا خالفني في الطريق

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 247

فلم أقدر عليه! ..». «1»

إنّ إصرار الإمام عليه السلام على التوجّه نحو الكوفة حتّى بعد انتفاء حجّة رسائل أهل الكوفة عمليّاً- بعد وصول خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني (رض) وعبداللّه بن يقطر (رض) إلى الإمام عليه السلام- كاشف عن أنّ رسائل أهل الكوفة إليه لم تكن السبب الرئيس في توجّهه نحو العراق! وإنْ كان صحيحاً القول إنّه عليه السلام «لم يشأ أن يدع أيّ مجال لإمكان القول بأنّه عليه السلام لم يفِ تماماً بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجّه إلى الكوفة في بعض مراحل الطريق، حتّى بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها! ذلك لأنّ الإمام عليه السلام مع تمام حجّته البالغة على أهل الكوفة أراد في المقابل بلوغ تمام العذر وعلى أكمل الوجه فيما قد يُتصوَّر أنّ لهم حجّة باقية عليه، بحيث لايبقى ثمّة مجال للطعن في وفائه بالعهد!». «2»

نعم، هذا سببٌ من جملة الأسباب التي تقع في طول السبب الرئيس في توجّهه عليه السلام نحو العراق: وهو أنّ الإمام عليه السلام- مع علمه بأنّه مالم يبايع يُقتل- كان قد أصرَّ على العراق لأنّه أفضل أرض للمصرع الذي لابُدَّ منه، لما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثر بواقعة المصرع والتغيّر نتيجة لها! وقد فصّلنا القول في هذا تحت عنوان (لماذا اختار الإمام الحسين عليه السلام العراق) في الفصل الأوّل، فراجع.

3)- لم يقصد الإمام عليه السلام التخلّي عن نهضته بقوله في خطبته بعد صلاة الظهر: ..... ص : 247

«.. وإنْ لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم!» أو قوله في خطبته بعد صلاة العصر: «وإنْ كرهتمونا وجهلتم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 248

حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم!».

بل كلُّ ما عناه الإمام

عليه السلام في هذين القولين- وفي نظائرهما- هو التخلّي عن التوجّه إلى الكوفة- مادام لايمكنه أن يدخلها إلّا أسيراً!- وهذا لايعني تخلّيه عن مواصلة القيام والنهضة، بل يعني تغيير مسار حركة الركب الحسينيّ إلى جهة أخرى غير الكوفة، سواء بالعودة الى مكّة المكرّمة أو المدينة المنوّرة أو الذهاب إلى اليمن أو أي مكان آخر! هذه حدود المعنى المفهوم في قوله عليه السلام: انصرفت عنكم.

4) من هو الحرُّ بن يزيد الرياحي؟ ..... ص : 248
اشارة

هو الحرُّ بن يزيد بن ناجية بن قَعنَب بن عتّاب [الردف] بن هرميّ بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم، فهو التميميّ اليربوعيّ الرياحيّ.

كان الحرّ شريفاً في قومه جاهلية وإسلاماً، فإنّ جدّه عتّاباً كان رديف النعمان، وولد عتّاب قيساً وقعنباً ومات، فردف قيس للنعمان ونازعه الشيبانيون، فقامت بسبب ذلك حرب يوم الطخفة.

والحرّ هو إبن عمّ الأخوص الصحابيّ الشاعر: زيد بن عمرو بن قيس بن عتّاب. وكان الحرّ في الكوفة رئيساً، ندبه ابن زياد لمعارضة الحسين عليه السلام فخرج في ألف فارس! «1»

والظاهر من متون قصة لقاء الإمام عليه السلام مع الحرّ (رض) على رأس ألف فارس

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 249

قادماً من القادسية لمعارضة الإمام عليه السلام في مسيره: أنّ الحرّ (رض) كان يومذاك عارفاً ومؤمناً بمقام ومنزلة أهل البيت عليهم السلام عند اللّه تبارك وتعالى، وكارهاً لمأمورية خروجه لمعارضة الإمام عليه السلام!

فها هو يجيب الإمام عليه السلام حينما قال له: ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قائلًا: أما واللّه لو غيرك من العرب يقولها لي، وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل أن أقوله، كائناً من كان! ولكن واللّه مالي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يُقدر عليه!

ويقول للإمام عليه

السلام أيضاً: وأنا أعلمُ أنّه لايوافي القيامة أحدٌ من هذه الأمّة إلّا وهو يرجو شفاعة جدّك محمّد صلى الله عليه و آله! وأنا خائف إنْ قاتلتك أن أخسر الدنيا والآخرة! ...

وروى الشيخ ابن نما (ره) بإسناده أنّ الحرّ (رض)- بعد أن هداه اللّه ووفّقه للإنضمام إلى الإمام عليه السلام- «قال للحسين عليه السلام: لمّا وجّهني عبيداللّه إليك خرجت من القصر فنوديتُ مِن خلفي: أبشر يا حُرّ بخير! فالتفتُّ فلم أر أحداً! فقلتُ: واللّه ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسين عليه السلام!! وما أُحدّثُ نفسي باتباعك!

فقال عليه السلام: لقد أصبت أجراً وخيراً.». «1»

لكنّ الظاهر من مجموع سياق قصة خروجه إلى الإمام عليه السلام وجعجعته به هو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 250

أنّ الحرّ (رض) لم يكن يتوقّع أنّ القوم سوف ينتهي بهم الأمر إلى مقاتلة الإمام عليه السلام، ولذا نراه حينما رأى في كربلاء جدّية الموقف والحال، وأنَّ كلَّ ما حوله يؤكّد أنَّ فتيل الحرب على وشك الإشتعال، توجّه إلى عمر بن سعد يسائله مستغرباً قائلًا: أي عمر! أمقاتلٌ أنتَ هذا الرجل!؟

فقال عمر لعنه اللّه: إي واللّه قتالًا شديداً، أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي! فردّ عليه الحرّ (رض): أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى؟!

قال عمر: أما واللّه، لو كان الأمر إليَّ لفعلتُ، ولكنّ أميرك أبى!

فأقبل الحرّ حتّى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجل من قومه يُقال له قُرَّة بن قيس، فقال له: يا قُرَّة! هل سقيت فرسك اليوم؟

قال: لا!

قال: فما تُريد أن تسقيه؟

قال قرّة: فظننتُ واللّه أنه يُريد أن يتنحّى ولايشهد القتال، فكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لم أسقه، وأنا منطلق فأسقيه.

فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه، فواللّه لو أنّه أطلعني على الذي يُريد لخرجت

معه إلى الحسين! فأخذ يدنو من الحسين قليلًا قليلا، فقال له مهاجر بن أوس: ما تريدُ يا ابن يزيد!؟ أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه، فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة! فقال له المهاجر: إنّ أمرك لمريب! واللّه ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا! ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك!؟

فقال له الحرّ: إنّي واللّه أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فواللّه لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعتُ وأحرقتُ!!

ثمّ ضرب فرسه فلحق الحسين عليه السلام فقال له: جُعلت فداك يا ابن رسول اللّه!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 251

أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان! وما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم! ولايبلغون منك هذه المنزلة! واللّه لو علمتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبتُ مثل الذي ركبت! وأنا تائب إلى اللّه ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلك توبة؟

فقال له الحسين عليه السلام: نعم، يتوب اللّه عليك، فانزل.

فقال: أنا لك فارساً خير منّي راجلًا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري!

فقال له الحسين عليه السلام: فاصنع يرحمك اللّه ما بدا لك. «1»

وبهذا يتجلّى أنّ الحرّ (رض) لمّا رأى من القوم مالم يكن يتوقعه منهم ناقش نفسه نقاشاً جادّاً حاسماً- في ظرف زمنّي صعب وعسير وقصير!- ليتّخذ الموقف الصحيح بين صفّ الحقّ وصفّ الباطل، وما هي إلّا لحظة مصيرية حاسمة تحرّر فيها الحرُّ من كلّ شلل نفسي وازدواج في داخله، فانطلق إلى الحقّ وانضمّ إليه متبرئاً من كلّ عوالق الباطل، منيباً إلى اللّه تائباً إليه، في لحظة تأريخية فريدة، وموقف رياديّ لامثيل له، جعل من إسم الحرّ الرياحيّ

(رض) رمزاً لكلّ عشّاق الحقيقة الأحرار على مرّ الدهور وتتابع الأجيال.

وكان الحرّ (رض)- كما وصفه المهاجر بن أوس- من أشجع أهل الكوفة، وقد روي «أن الحرّ لمّا لحق بالحسين عليه السلام قال رجل من تميم يُقال له يزيد بن سفيان: أما واللّه لو لحقته لأتبعته السِنان!

فبينما هو يقاتل، وإنّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبيه وإنّ الدماء لتسيل، إذ قال الحصين: يا يزيد هذا الحرّ الذي كنت تتمنّاه! قال: نعم.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 252

فخرج إليه، فما لبث الحرُّ أن قتله، «1» وقتل أربعين فارساً وراجلًا، فلم يزل يقاتل حتّى عُرْقِبَ فرسه، وبقي راجلًا وهو يقول:

إنّي أنا الحرُّ ونجلُ الحرّ أشجع من ذي لبدٍ هِزَبْرِ

ولستُ بالجبان عند الكرّ لكنّني الوقّاف عند الفَرِّ

كما روي أنّه (رض) قال للإمام عليه السلام: «يا ابن رسول اللّه، كنتُ أوّل خارج عليك، فائذن لي لأكون أوّل قتيل بين يديك، وأوّل من يصافح جدّك غداً!- وإنّما قال الحرّ: لأكون أوّل قتيل بين يديك، والمعنى يكون أوّل قتيل من المبارزين، وإلّا فإنّ جماعة كانوا قد قُتلوا في الحملة الأولى كما ذُكر- فكان أوّل من تقدّم إلى براز القوم، وجعل ينشد ويقول:

إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيف أضرب في أعناقكم بالسيف

عن خير من حلَّ بأرض الخَيفْ أضربكم ولا أرى من حَيْفِ «2»

وروي أنه (رض) لمّا قُتل احتمله أصحاب الحسين عليه السلام حتّى وضعوه بين يدي الحسين عليه السلام وبه رمق، «فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول: أنتَ الحرّ كما سمّتك أُمّك! وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة!

ورثاه رجل من أصحاب الحسين عليه السلام، وقيل: بل رثاه عليّ بن الحسين عليهما السلام:

لنِعمَ الحرُ حرُّ بني رياحِ صبورٌ عند مختلف الرماحِ

ونعم الحرُّ إذ فادى حسيناً وجاد بنفسه عند

الصباحِ

فيا ربّي أضفه في جنانٍ وزوّجه مع الحور الملاحِ «3»

وله (رض) خطبة في القوم يوم عاشوراء قال فيها:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 253

«يا أهل الكوفة! لأمّكم الهبل والعبر! أدعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا جاءكم أسلمتموه! وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه! وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه في بلاد اللّه العريضة، فصار كالأسير في أيديكم! لايملك لنفسه نفعاً ولايدفع عنها ضرّاً! وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري! يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم! فها هم قد صرعهم العطش! بئسما خلفتم محمّداً في ذريّته، لاسقاكم اللّه يوم الضمأ.». «1»

فسلام على رمز التحوّل الواعي السريع الجري ء من ظلمات الباطل إلى نور الحقّ، سلام على الحرّ الرياحيّ يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً!

إنّي لا أرى الموت إلّا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما!

وروى الطبري عن عقبة بن أبي العيزار قال: «قام حسين عليه السلام بذي حسم، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون! وإنَّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت جذاءً فلم يبق منها إلّا صُبابة كصُبابة الإناء! وخسيس عيش كالمرعى الوبيل! ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به وأنّ الباطل لايُتناهى عنه!؟

ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما. «2»

قال: فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه: أتتكلّمون أم أتكلّم؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 254

قالوا: لا، بل تكلّم.

فحمد اللّه فأثنى عليه، ثمّ قال: قد سمعنا هداك اللّه يا ابن رسول اللّه مقالتك، واللّه لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنّا فيها مخلّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك

لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها!!

قال: فدعا له الحسين، ثمّ قال له خيرا ...». «1»

لكنّ السيّد ابن طاووس (ره) ذكر أنّ الإمام عليه السلام خطب هذه الخطبة في أصحابه، ثم ذكرها، وذكر مقالة زهير (رض)، ثمّ أضاف قائلًا: «وقال الراوي: وقام هلال بن نافع البجلي «2» فقال: واللّه ما كرهنا لقاء ربّنا! وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

قال: وقام بُرير بن خضير فقال: واللّه يا ابن رسول اللّه لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتُقطّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدُّك شفيعنا يوم القيامة!.». «3»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 254
1) يُلاحظ المتأمّل في هذه الخطبة القصيرة البليغة الوافية التي خطب الإمام عليه السلام أصحابه بها: ..... ص : 254

أنّ الإمام عليه السلام ما فتأ يواصل امتحان عزائم أنصاره من خلال تذكيرهم هذه المرّة بتغيّر الأمور وتنكّر الدنيا وإدبار معروفها! وأنّ ما يستقبلهم من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 255

مجرى حركة الأحداث لايحمل لهم إلّا المكاره!

لكنّ المُلفتَ للإنتباه هنا هو أنّ الإمام عليه السلام في هذه الخطبة أيضاً كان يحثّ أصحابه ويحرّضهم على التمسّك بنصرته! فهاهو يذكّرهم بأنّ مابقي من الدنيا ليس إلّا كماءٍ ضئيل في قعر إناء صغير! والأيّام الباقية من هذا العمر في ظلّ حكومة الطاغوت أيّام لاعزّة فيها، عيشها خسيس كالمرعى الوبيل! في عالم لايُعمل فيه بالحقّ، ولايُتناهى فيه عن الباطل! فالأولى للمؤمن أن يرفض هذا العيش الذليل النكد، راغباً في لقاء اللّه تحت راية قائم بالحقّ، فإنّ أفضل الموت القتل في سبيل اللّه، وهو الشهادة والسعادة! وإنّ أسوأ حياةٍ حياةٌ بذُلٍّ تحت قهر الظالمين، إنها التعاسة والبرم!

وهنا كان أنصاره عليه السلام قد أدركوا مراده من هذه المقالة، وعلموا أنّه محزون لقلّة ناصريه! وأنّه أراد أن يختبر نيّاتهم وعزائمهم في المضيّ معه حتى الشهادة! فبادر زهير بن القين (رض) عن لسان جميع الأنصار-

ثمّ تصدّى بالقول نافع بن هلال (رض) وبُرير بن خضير (رض) كما في رواية ابن طاووس (ره)- لتطمين الإمام عليه السلام بأنّهم ثابتون على نيّاتهم وبصائرهم، وعلى عهدهم في موالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وأنهم موقنون بأنّ اللّه قد منّ عليهم بالإمام عليه السلام إذ فتح لهم باب الجهاد بين يديه ليفوزوا بالشهادة وهي أقصى أمنيّة المؤمنين الصادقين!

والإنسانية لم تزل إلى اليوم- وتبقى إلى قيام الساعة- تقرأ قصة هذا المشهد الرائع من مشاهد مسيرة الركب الحسيني، فتقف إجلالًا وإكباراً لمقالة كلّ من نافع وبرير رضوان اللّه تعالى عليهما، وتتأمل بخشوع وإعجاب لاينقضي في المعاني السامية لأُنشودة الفداء والمواساة التي تضمّنتها مقالة زهير بن القين رضوان اللّه تعالى عليه: «واللّه، لو كانت الدنيا لنا باقية، وكُنّا فيها مخلّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها!!».

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 256

2) ويستفاد أيضاً من قوله عليه السلام: ..... ص : 256

«ألا ترون أنّ الحقّ لايعمل به، وأنّ الباطل لايُناهى عنه!؟ ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً! فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما» أنّ المؤمنين جميعاً- في كلّ عصر- في مثل هذه الحال أمام تكليف عام بالقيام للّه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على تغيير واقع حياة الامة الإسلامية على أساس ما أمر اللّه تعالى به.

3) من هو نافع بن هلال الجملي؟ ..... ص : 256

«هو نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مذحج، المذحجي الجملي، كان نافع سيّداً شريفاً سريّاً شجاعاً، وكان قارئاً، كاتباً، من حملة الحديث، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، وحضر معه حروبه الثلاث في العراق.

وخرج إلى الحسين عليه السلام فلقيه في الطريق، وكان ذلك قبل مقتل مسلم، وكان أوصى أن يُتبع بفرسه المسمى بالكامل، فأُتبع مع عمرو بن خالد وأصحابه الذين ذكرناهم (مجمع بن عبداللّه العائذي (رض) وابنه عائذ (رض)، وسعد (رض) مولى عمرو، وواضح التركي (رض) مولى الحرث السلماني).». «1»

لقد كان نافع (رض) من ذوي البصائر، هاهي مقالته بين يدي الإمام عليه السلام في ذي حُسم تشهد له بذلك: «واللّه ماكرهنا لقاء ربّنا! وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك!»، «2» ولمّا بلغ الإمام الحسين عليه السلام قتل قيس بن مسهّر الصيداوي (رض) استعبر باكياً، ثمّ قال: «اللّهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلًا كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك، إنك على كلّ شي ء قدير.

قال: فوثب إلى الحسين عليه السلام رجل من شيعته يقال له هلال بن نافع البجلي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 257

(والصحيح هو: نافع بن هلال الجملي كما قدّمنا) فقال: يا ابن رسول اللّه! أنت تعلم أنّ جدّك رسول اللّه لم يقدر أن يُشرب النّاس

محبّته، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ! وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ويضمرون له الغدر! يلقونه بأحلى من العسل، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل! حتّى قبضه اللّه إليه.

وإنّ أباك عليّاً رحمة اللّه عليه قد كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة اللّه ورضوانه.

وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة! فمن نكث عهده وخلع بيعته فلن يضرّ إلّا نفسه، واللّه مُغنٍ عنه! فَسِرْ بنا راشداً معافاً، مشرّقاً إن شئت، وإنْ شئت مُغرّباً، فواللّه ما أشفقنا من قدر اللّه، ولاكرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك!». «1»

وكان نافع (رض) على مرتبة عالية من الأدب والوفاء ومعرفة حقّ الإمام الحسين عليه السلام عليه وعلى جميع المسلمين، روى الطبري أنه لمّا اشتدَّ على الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه العطش في كربلاء- قبل يوم عاشوراء- «دعا العباس بن عليّ بن أبي طالب أخاه، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلًا، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ليلًا، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي: من الرجل؟ فجي ء، ما جاء بك؟

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه!

قال: فاشرب هنيئاً!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 258

قال: لا واللّه، لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه! فطلعوا عليه، فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنّما وُضِعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء!

فلمّا دنا منه أصحابه قال لرجاله: إملؤا قِرَبَكم. فشدَّ الرجّالة فملؤا قربهم. وثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، فحمل عليهم العباس بن عليّ ونافع بن هلال فكفّوهم ثمّ انصرفوا إلى رحالهم ..». «1»

وخرج الإمام عليه

السلام ليلة عاشوراء في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عليه السلام عمّا أخرجه؟

قال: يا ابن رسول اللّه، أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي!

فقال الحسين عليه السلام: إنّي خرجتُ أتفقّد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمناً لهجوم

الخيل يوم تحملون ويحملون.

ثمّ رجع عليه السلام وهو قابضٌ على يد نافع ويقول: هي هي! واللّه وعدٌ لاخُلفَ فيه! ثمّ قال له: ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟ فوقع نافع على قدميه يقبّلهما ويقول: ثكلتني أمّي! إنّ سيفي بألف، وفرسي مثله! فواللّه الذي منّ بك عليَّ لافارقتك حتّى يملَّا عن فَرْيٍ وجَرْيٍ!». «2»

وقد جسّد نافع (رض) صوراً رائعة من صور الشجاعة يوم عاشوراء، منها: لمّا استشهد عمرو بن قرظة الأنصاري (رض)، خرج أخوه عليُّ بن قرظة وكان مع عمر بن سعد، فهتف بالإمام الحسين هتافاً سيئاً ثُمَّ حمل على الإمام عليه السلام فاعترضه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 259

نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه، فحمله أصحابه فاستنقذوه .. «1»

وكان نافع (رض) يقاتل يومئذٍ وهو يقول: أنا الجَملي أنا على دين عليّ، فخرج إليه رجل يُقال له مزاحم بن حُريث فقال: أنا على دين عثمان!

فقال له: أنتَ على دين الشيطان! ثمّ حمل عليه فقتله، فقال عمرو بن الحجّاج بالنّاس: يا حمقى! أتدرون من تقاتلون!؟ فرسانَ المِصر! قوماً مستميتين! لايبرزنّ لهم منكم أحد، فإنّهم قليلٌ، وقلّ ما يبقون! واللّه لولم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم!

فقال عمر بن سعد: صدقتَ، الرأي ما رأيت. وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألّا يبارز رجلٌ منكم رجلًا منهم! «2»

وكان نافع (رض) قد كتب إسمه على أفواق نبله! فجعل يرمي بها مسمومةً! وهو يقول: أنا الجملي أنا

على دين علي.

فقتل إثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح! فضُرب حتى كُسِرت عضداه، وأُخذ أسيراً، أخذه شمر بن ذي الجوشن لعنه اللّه ومعه أصحاب له يسوقون نافعاً (رض) حتى أُوتي به عمر بن سعد، فقال له عمر بن سعد: ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك!؟ قال: إنّ ربّي يعلمُ ما أردتُ! والدماء تسيل على لحيته وهو يقول: واللّه لقد قتلتُ منكم إثني عشر سوى من جرحتُ، وما ألوم نفسي على الجُهد! ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني!

فقال شمر لعمر: أُقتلْه أصلحك اللّه!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 260

قال عمر: أنت جئت به، فإنْ شئت فاقتله!

فانتضى شمر سيفه، فقال له نافع: أما واللّه، لو كنتَ من المسلمين لعظم عليك أن تلقى اللّهَ بدمائنا، فالحمدُ للّه الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. فقلته!. «1»

فسلام على نافع بن هلال يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً!

4)- أمّا بُرَيْرُ بن خُضَير الهمدانيُّ المشرقيّ (رض) .. ..... ص : 260

فقد كان شيخاً تابعياً ناسكاً، قارئاً للقرآن، وكان من شيوخ القرّاء في الكوفة، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين.

ونُقل: أنّه لمّا بلغه خبر الحسين عليه السلام سار من الكوفة إلى مكّة ليجتمع بالحسين عليه السلام، فجاء معه حتّى استُشهد. «2»

ومن مقالاته مع الإمام عليه السلام الكاشفة عن قوة بصيرته قوله (رض): «واللّه يا ابن رسول اللّه، لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتُقطّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدُك شفيعنا يوم القيامة!».»

ومن المواقف الكاشفة عن قوّة يقينه (رض) ما رواه الطبري أنّ الإمام الحسين عليه السلام أمر بفسطاطٍ فضُرب، ثمّ أمر بمسكٍ فميثَ في جفنة عظيمة أو صحفة ثمّ دخل الإمام عليه السلام ذلك الفسطاط فتطلّى بالنورة،

وعبدالرحمن بن عبد ربّه وبرير بن خضير الهمداني على باب الفسطاط تحتكُّ مناكبهما! فازدحما أيّهما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 261

يطلي على أثره! «فجعل برير يُهازل عبدالرحمن! فقال له عبدالرحمن: دعنا فواللّه ماهذه بساعة باطل! فقال له بُرير: واللّه لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّاً ولاكهلًا، ولكن واللّه إني لمستبشرٌ بما نحن لاقون! واللّه إنْ بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم! ولَوددتُ أنّهم قد مالوا علينا بأسيافهم! ..». «1»

ونُقل أنّه «لمّا بلغ من الحسين عليه السلام العطش ما شاء اللّه أن يبلغ، استأذن برير الحسين عليه السلام في أن يُكلِّم القوم فأذن له، فوقف قريباً منهم ونادى: يا معشر النّاس، إنّ اللّه بعث بالحقّ محمّداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها! وقد حيل بينه وبين ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، أفجزاء محمّد هذا!؟

فقالوا: يا بُرير، قد أكثرت الكلام فاكففْ! فواللّه ليعطشنّ الحسين كما عطش من كان قبله! فقال الحسين عليه السلام: أكففْ يا بُرير.». «2»

وروى الطبري عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس، وكان قد شهد مقتل الحسين عليه السلام قال: «خرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة ...

فقال: يا برير بن خضير، كيف ترى اللّه صنع بك!؟

قال: صنع اللّهُ واللّهِ بي خيراً، وصنع اللّه بك شرّاً!

قال: كذبتَ، وقبل اليوم ما كنتَ كذّاباً! هل تذكر وأنا أُماشيك في بني لوذان، «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 262

وأنت تقول: إنّ عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفاً، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالٌّ مُضلّ، وإنّ إمام الهدى والحقّ عليّ بن أبي طالب!؟

فقال له برير: أشهدُ أنّ هذا رأي وقولي.

فقال له يزيد

بن معقل: فإنّي أشهد أنّك من الضالين!

فقال له برير بن خضير: هل لك أنْ أُباهلك؟ ولندعُ اللّه أنْ يلعن الكاذب، وأن يقتل المُبطل، ثم اخرج فلأبارزك!

قال فخرجا فرفعا أيديهما إلى اللّه يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحقُّ المُبطلَ، ثمّ برز كلّ واحدٍ منهما لصاحبه فاختلفا ضربتين، فضرب بُرير بن خضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً! وضربه برير بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ! فخرَّ كأنّما هوى من حالق! وإنَّ سيف ابن خضير لثابتٌ في رأسه، فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه!

وحمل عليه رضيُّ بن منقذ العبدي فاعتنق بريراً، فاعتركا ساعة، ثمّ إنّ بريراً قعد على صدره! فقال رضيّ: أين أهل المصاع والدفاع!؟

قال فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه، فقلتُ: إنّ هذا برير إبن خضير القارى ء الذي كان يُقرئنا القرآن في المسجد!

فحمل عليه بالرمح حتّى وضعه في ظهره، فلمّا وجد مسَّ الرمح برك عليه فعضّ بوجهه وقطع طرف أنفه! فطعنه كعب بن جابر حتّى ألقاه عنه، وقد غيّب السِنانَ في ظهره، ثمّ أقبل عليه يضربه بسيفه حتّى قتله ..». «1»

فسلام على برير بن خضير يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 263

14)- البيضة: ..... ص : 263
اشارة

«بكسر الباء، ماء بين واقصة إلى العذيب، متصلة بالحَزَن، لبني يربوع». «1»

وروى الطبري: عن أبي مخنف، عن عقبة بن أبي العيزار قال: «إنَّ الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحرّ بالبيضة، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:

أيّها الناس، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلًّا لحُرَم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسُنَّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولاقول كان حقّاً

على اللّه أن يُدخله مدخله! ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفي ء، وأحلّوا حرام اللّه، وحرّموا حلاله! وأنا أحقّ من غيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسُلكم ببيعتكم: أنّكم لاتسلموني ولاتخذلوني، فإنْ تممّتم على بيعتكم تُصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليٍّ وابن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه على وآله وسلّم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيَّ أُسوة، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ماهي لكم بِنُكر! لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، والمغرور من أغترّ بكم! فحظَّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم! ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني اللّه عنكم! والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاتُه.». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 264

إشارة: ..... ص : 264

هذه الخطبة من أشهر وأقوى خطب الإمام الحسين عليه السلام في منازل الطريق بين مكّة وكربلاء، وقد تضمّنت أقوى الأدلّة على أنّ المسلمين جميعاً أمام تكليف عام بوجوب النهوض لمواجهة السلطان الجائر المستحلّ لحرم اللّه، الناكث لعهد اللّه، المخالف لسنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، العامل في عباد اللّه بالإثم والعدوان! فالإمام عليه السلام يروي عن جدّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من رأى»: أيّ كلُّ من رأى، فلا تختصّ الحال بواحدٍ دون آخر ...

ثمّ ما أعجب قوله صلى الله عليه و آله: «فلم يغيّر عليه بفعل ولاقول كان حقّاً على اللّه أن يُدخله مدخله!»، فالإنكار القلبي فقط هنا لايُنجي صاحبه- كما هو ظاهر المتن- من الدخول في نفس مصير السلطان الجائر!

ونشاهد في هذه الخطبة أيضاً أنّ الإمام عليه السلام قد أشار إلى مسؤولية موقعه الخاص في الأمة، فهو ابن رسول اللّه صلى الله عليه و

آله، وإمام منصوصٌ عليه، منصوب من قِبَل اللّه تعالى، مفترض الطاعة، فهو «أحقّ من غَيَّرَ» على السلطان الجائر بالقيام ضده والنهضة لإسقاطه، إنّه عليه السلام القائم بالحقّ في وقته.

وهو الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول اللّه صلوات اللّه عليهم أجمعين، فلجميع المسلمين فيه أُسوة حسنة «فلكم فيَّ أُسوة»، فعليهم عامة وعلى من سمع نداءه خاصة أن يقوموا معه وينصروه لإسقاط الطاغوت فيصيبوا بهذا رشدهم وخير دنياهم وآخرتهم.

فإنْ لم يفعلوا ونقضوا العهد وخلعوا البيعة فما ذلك بجديد مستغرب منهم! ولابجديد على الإمام عليه السلام، فقد عرف ذلك منهم فيما مضى بما صنعوه بأبيه وأخيه ثمّ بابن عمّه مسلم صلوات اللّه عليهم .. وهم بذلك يُخطئون حظّهم ويضيّعون

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 265

نصيبهم من الفرصة السانحة التي منّ اللّه بها عليهم في الجهاد بين يدي إمام مفترض الطاعة لإسقاط الطاغوت! .. والإمام عليه السلام على كلّ حال في غنىً عن الناكثين .. إنه الشهيد الفاتح الذي سيتحقق الفتح بدمه أساساً لابدم سواه! لو كانوا يعلمون!.

15)- عُذَيْب الهجانات ..... ص : 265
اشارة

«العُذَيب: تصغير العذب: وهو الماء الطيّب، وهو ماء بين القادسية والمغيثة، بينه وبين القادسية أربعة أميال، وإلى المغيثة إثنان وثلاثون ميلًا. وقيل هو وادٍ لبني تميم، وهو من منازل حاجّ الكوفة ..». «1»

يواصل الطبري روايته عن عقبة بن أبي العيزار التي حدّثنا فيها عن خطبة الإمام عليه السلام بأصحابه في ذي حُسم، وحدّثنا فيها أيضاً عن جواب زهير بن القين (رض) عن لسان جميع الأنصار (رض)، فيقول الطبري:

«.. وأقبل الحرّ يسايره، وهو يقول له: ياحسين، إنّي أذكّرك اللّه في نفسك! فإنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتَلنَّ، ولئن قوتلتَ لتهلكنّ فيما أرى!

فقال له الحسين عليه السلام: أبالموت تخوّفني!؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني!؟ ما

أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ولقيه وهو يريد نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقال له: أين تذهب فإنك مقتول!؟ فقال:

سأمضي ومابالموت عارٌ على الفتى إذا مانوى حقّاً وجاهد مُسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً يغشّ ويرغما «2»

قال: فلمّا سمع ذلك منه الحرُّ تنحّى عنه وكان يسير بأصحابه في ناحية، وحسين في ناحية أُخرى، حتّى انتهوا إلى عذيب الهجانات- وكان بها هجائن النعمان ترعى هنالك- فإذا هم بأربعة نفرٍ قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون «1» فرساً لنافع بن هلال، يُقال له الكامل، ومعهم دليلهم الطرمّاح بن عدي على فرسه وهو يقول:

يا ناقتي لاتذعري من زجْري وشمّري قبل طلوع الفجر

بخير رُكبانٍ وخير سفرِ حتّى تحلّي بكريم النَّجْرِ «2»

الماجد الحُّرِ رحيب الصدرأتى به اللّه لخير أمرِ

ثُمّتَ أبقاء بقاء الدّهرِ «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 267

قال: فلمّا انتهوا إلى الحسين أنشدوه هذه الأبيات فقال: أما واللّه إنّي لأرجو أن يكون خيراً ما أراد اللّه بنا، قُتلنا أم ظفرنا!

وأقبل إليهم الحرُّ بن يزيد فقال: إنّ هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادّهم!

فقال له الحسين عليه السلام: لأمنعنّهم ممّا أمنعُ منه نفسي! إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني، وقد كنت أعطيتني ألّا تعرض لي بشي ء حتّى يأتيك كتاب من ابن زياد!

فقال: أجل، لكن لم يأتوا معك!

قال عليه السلام: هم أصحابي، وهم بمنزلة من جاء معي، فإنْ تممّتَ على ما كان بيني وبينك وإلّا ناجزتُك!

فقال فكفّ عنهم الحُرّ.

خبر مقتل قيس بن مُسهّر الصيداوي (رض) ..... ص : 267

قال: ثمّ قال لهم الحسين: أخبروني خبر النّاس وراءكم!؟

فقال له مجمع بن عبداللّه العائذي- وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه-:

أمّا أشراف النّاس فقد أُعظمت رشوتهم ومُلئت غرائرهم! يُستمال ودّهم ويُستخلص

به نصيحتهم! فهم أَلْبٌ واحد عليك! وأما سائر الناس بعدُ فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك!

قال: أخبرني فهل لكم علمٌ برسولي إليكم؟

قالوا: من هو؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 268

قال: قيس بن مسهر الصيداوي!

فقالوا: نعم، أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا إلى نصرتك! وأخبرهم قدومك! فأمر به ابن زياد فأُلقي من طمار القصر!

فترقرقت عينا الحسين عليه السلام ولم يملك دمعه، ثمّ قال:

منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا. أللّهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة نُزُلًا وأجمع بيننا وبينهم في مستقرٍ من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك!». «1»

مجموعة المجاهدين الذين التحقوا بالإمام عليه السلام في عُذيب الهجانات ..... ص : 268

إنّ النفر الذين التحقوا بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات لم يكونوا أربعة كما ذكرت رواية الطبري، بل كانوا ستة، هم: عمرو بن خالد الأسدي الصيداوي (رض)، ومولاه سعد (رض)، ومجمع بن عبداللّه العائذي (رض)، وابنه عائذ (رض)، وجنادة بن الحرث السلماني (رض)، وواضح التركي (رض) مولى الحرث السلماني، «2» وكان معهم أيضاً غلام لنافع بن هلال أتبعهم بفرسه المدعوّ الكامل، «3» وكان الطرمّاح بن عدي معهم كما هو ظاهر من رواية الطبري.

عمرو بن خالد الأسدي الصيداوي (رض) ..... ص : 268

كان عمرو- أبوخالد- (رض) شريفاً في الكوفة، مخلص الولاء لأهل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 269

البيت عليهم السلام، قام مع مسلم عليه السلام، حتّى إذا خانته أهل الكوفة لم يسعه إلّا الإختفاء!، فلمّا سمع بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي (رض) وأنّه أخبر أنّ الحسين عليه السلام صار بالحاجر خرج إليه (مع بقية المجموعة التي ذكرناها)، وأخذوا دليلًا لهم الطرمّاح بن عدي الطائي، وكان جاء الى الكوفة يمتار لأهله طعاماً، فخرج بهم على طريق متنكَّبة، وسار سيراً عنيفاً من الخوف لأنهم علموا أنّ الطريق مرصود. «1»

وقد مرّ بنا- في رواية الطبري الماضية- تفصيل قصة لقائهم بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات، وما جرى بين الإمام عليه السلام وبين الحرّ الرياحي (رض) بسببهم، وكيف ساءلهم الإمام عليه السلام عن قيس بن مسهر الصيداوي (رض)، وكيف أخبروه بمقتله ...

وروي أنه: لمّا التحم القتال يوم عاشوراء، شدَّ هؤلاء مقدمين بأسيافهم في أوّل القتال على الأعداء، فلمّا وغلوا فيهم عطف عليهم الأعداء فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم، فلمّا نظر الحسين عليه السلام إلى ذلك ندب إليهم أخاه العباس عليه السلام! فنهد إليهم وحمل على القوم وحده يضرب فيهم بسيفه قدماً! حتّى خلص إليهم واستنقذهم، فجاؤا معه وقد جُرحوا، فلمّا كانوا

في أثناء الطريق رأوا أنّ القوم تدانوا إليهم ليقطعوا عليهم الطريق، فانسلّوا من العبّاس، وشدّوا على القوم بأسيافهم شدّة واحدة على مابهم من الجراحات! وقاتلوا حتّى قُتلوا في مكان واحد، فتركهم العبّاس ورجع إلى الحسين عليه السلام فأخبره بذلك فترحّم عليهم الإمام عليه السلام وجعل يكرّر ذلك. «2»

فسلام على عمرو بن خالد الصيداوي يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعثُ حيّا!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 270

سعد (رض) مولى عمرو بن خالد الصيداوي (رض) ..... ص : 270

كان هذا المولى سيّداً شريف النفس والهمّة، تبع مولاه عمراً في المسير الى الإمام الحسين عليه السلام والقتال بين يديه حتّى قُتل شهيداً، وقد ذكرنا خبره مع مولاه، وكيف جاء معه، وكيف قتلوا في كربلاء. «1»

فسلام على سعد يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا!

مجمع بن عبداللّه العائذي (رض) وابنه عائذ (رض) ..... ص : 270

هو مجمع بن عبداللّه بن مجمع بن مالك بن أياس بن عبدمناة بن عبيداللّه بن سعد العشيرة، المذحجي العائذي.

كان عبداللّه بن مجمع العائذي صحابياً، وكان ولده مجمع (رض) تابعياً من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، ذكرهما أهل الأنساب والطبقات.

وكان مجمع (رض) مع ابنه عائذ (رض) قد التحقا بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات كما مرَّ، واستشهدا مع عمرو بن خالد الصيداوي (رض) وجنادة بن الحرث السلماني (رض) في مكان واحد- كما مرّ بنا في ترجمة عمرو بن خالد- لكنّ صاحب الحدائق الوردية ذكر أنّ ابنه عائذاً استشهد في الحملة الأولى. «2»

فسلام على مجمع بن عبداللّه العائذي يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً! وسلام على ابنه عائذٍ يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا!

جنادة بن الحرث السلماني (رض) ..... ص : 270

هو جنادة بن الحرث المذحجيّ المرادي السلماني الكوفي، كان من مشاهير

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 271

الشيعة، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، وكان خرج مع مسلم عليه السلام أوّلًا، فلما رأى الخذلان خرج إلى الحسين عليه السلام مع عمرو بن خالد الصيداوي (رض) وجماعته، «1» وكان من قصة إلتحاقهم بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات، ثمّ استشهادهم في مكان واحد ما قد مرَّ بنا قبل ذلك.

فسلام على جنادة بن الحرث السلماني يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا!

واضح التركي (رض) مولى الحرث المذحجي السلماني ..... ص : 271

كان واضح غلاماً تركيّاً شجاعاً قارئاً، وكان للحرث السلماني، فجاء مع جنادة بن الحرث، «2» والتحق بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات كما مرَّ.

قال الشيخ السماوي (ره): «والذي أظنُّ أنّ واضحاً هذا هو الذي ذكر أهل المقاتل أنّه برز يوم العاشر إلى الأعداء فجعل يقاتلهم راجلًا بسيفه وهو يقول:

البحر من ضربي وطعني يصطلي والجوُّ من عثير نقعي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي ينشقّ قلبُ الحاسد المبجّل

قالوا: ولمّا قُتل استغاث، فانقضّ عليه الحسين عليه السلام واعتنقه وهو يجود بنفسه، فقال: من مثلي وابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله واضع خدّه على خدّي! ثمّ فاضت نفسه رضي اللّه عنه». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 272

فسلام على واضح التركي يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا!

إقتراح الطرماح وجواب الإمام عليه السلام ..... ص : 272
اشارة

روى الطبري، عن أبي مخنف قال: حدّثني جميل بن مرشد من بني معن، عن الطرماح بن عديّ: «أنّه دنا من الحسين فقال له: واللّه إنّي لأنظر فما أرى معك أحداً!، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيومٍ ظهرَ الكوفة وفيه من الناس مالم ترَ عيناي في صعيد واحدٍ جمعاً أكثر منه! فسألت عنهم فقيل: اجتمعوا ليُعرَضوا، ثمّ يُسرّحون إلى الحسين!

فأُنشدك اللّهَ إنْ قدرت على ألّا تقدم عليهم شبراً إلّا فعلتَ! فإنْ أردتَ أن تنزل بلداً يمنعك اللّه به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانعٌ فَسِرْ حتّى أُنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى (أجأ).

امتنعنا واللّه به من ملوك غسّان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، واللّه إنْ دخل علينا ذُلٌّ قطُّ!!

فأسير معك حتّى أُنزلك القُرَيَّة، «1» ثمّ نبعث إلى الرجال ممّن بأَجَأ وسَلْمى «2» من طي ء، فواللّه

لايأتي عليك عشرة أيّأم حتّى يأتيك طي ء رجالًا وركباناً! ثمّ اقِمْ فينا ما بدا لك، فإنْ هاجك هَيْجٌ فأنازعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 273

بأسيافهم! واللّه لايوصَل إليك أبداً ومنهم عينٌ تطرف!

فقال له عليه السلام:

جزاك اللّه وقومك خيراً، إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الإنصراف! ولاندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبه! «1»

قال الطرماح بن عدي: فودّعته، وقلت له: دفع اللّه عنك شرَّ الجنّ والإنس، إنّي قد امترتُ لأهلي من الكوفة ميرة، ومعي نفقة لهم، فآتيهم فأضع ذلك فيهم، ثمّ أُقبل إليك إن شاء اللّه، فإنْ أَلحقك فواللّه لأكوننّ من أنصارك!

قال: فإنْ كنت فاعلًا فعجّلْ رحمك اللّه!

قال فعلمتُ أنّه مستوحشٌ إلى الرجال حتّى يسألني التعجيل! قال فلمّا بلغتُ أهلي وضعتُ عندهم ما يُصلحهم وأوصيتُ! فأخذ أهلي يقولون: إنك لتصنع مرَّتَكَ هذه شيئاً ماكنت تصنعه قبل اليوم!؟ فأخبرتهم بما أُريد، وأقبلتُ في طريق بني ثُعَل حتّى إذا دنوتُ من عُذيب الهجانات استقبلني سماعة بن بدر فنعاه إليَّ! فرجعت.». «2»

إشارة ..... ص : 273

في عُذيب الهجانات كان مجمع بن عبداللّه العائذي (رض) قد أخبر الإمام عليه السلام عن حال أهل الكوفة- عن لسانه ولسان من معه- قائلًا: «أما أشراف الناس فقد أُعظمتْ رشوتهم ومُلئت غرائرهم، يُستمال ودّهم ويستخلص به

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 274

نصيحتهم، فهم ألبٌ واحد عليك! وأمّا سائر النّاس بعدُ فإنَّ أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غداً مشهورة عليك!.».

ومن قبل هذا كان الفرزدق وبشر بن غالب وغيرهم قد أخبروا الإمام عليه السلام بذلك! ثمّ ها هو الطرماح يقول له: «وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيومٍ ظهرَ الكوفة وفيه من الناس مالم تَرَ عيناي في صعيد واحدٍ جمعاً أكثر

منه! فسألتُ عنهم فقيل: اجتمعوا ليُعرضوا ثمَّ يُسرَّحون إلى الحسين!» فالأنباء تتابعت على الإمام عليه السلام بذلك، وفي عذيب الهجانات لم يعد ثمّة شكّ في أنّ الكوفة قد انقلبت على عهدها مع الإمام عليه السلام رأساً على عقب، بل وقد عبّأها ابن زياد عن بكرة أبيها واستعرض عساكرها ليسرّح بهم الى الحسين عليه السلام!

لكننا نجد الإمام عليه السلام يُصرُّ على التوجّه إلى أهل الكوفة قائلًا: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الإنصراف! ..»، وعلى رواية ابن نما (ره):

«إنّ بيني وبين القوم موعداً أكره أنْ أُخلفهم، فإنْ يدفع اللّه عنّا فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإنْ يكن ما لابدّ منه ففوز وشهادة إنْ شاء اللّه!». «1»

هنا نعود لنكرّر القول ونؤكد على هذه الحقيقة مرّة أخرى: وهي أنّ من الصحيح القول إنّ الإمام عليه السلام لم يشأ أن يدع لأهل الكوفة أيّة مؤاخذة عليه يمكن أن يتذّرعوا بها لو أنّه كان قد انصرف عن التوجّه إليهم أثناء الطريق، لأنّهم يمكن أنّ يدّعوا أنّ الأخبار التي بلغت الإمام عليه السلام عن حال الكوفة لم تكن صحيحة أو دقيقة! وأنّ أنصاراً له كثيرين فيها كانوا ينتظرونه في خفاء عن رصد السلطة! ولذا كان عليه السلام قد قال للطرّماح: «بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الإنصراف!». أو «إنّ بيني وبين القوم موعداً أكره أخلفهم!».

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 275

لكنّ أصحَّ القول: هو أنّ الإمام عليه السلام كان يعلم بما لابدّ من وقوعه «وإنْ يكن ما لابدَّ منه ففوز وشهادة إنْ شاء اللّه!»، لقد كان عليه السلام يعلمُ منذ البدء أنه سوف يُقتل حتى لوكان في جُحر هامة من هوامّ الأرض، وكان عليه السلام

يعلم أنّ أهل الكوفة قاتلوه «هذه رسائل أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلّا قاتليّ!»، إذن فإصراره عليه السلام على العراق دون غيره هو إصرار على الأرض المختارة للمصرع المحتوم! الأرض التي ستهبُّ منها- بعد مقتله- عواصف التغيير والتحولات الكبرى التي لاتهدأ حتى تسقط دولة الأمويين! الأرض التي ستمتدّ منها وتتسع جميع آفاق الفتح الحسيني!

16)- قصر بني مقاتل ..... ص : 275
اشارة

«قال السكّوني: هو قرب القطقطانة وسُلام ثمّ القُرَيّات. وهو منسوب إلى مقاتل بن حسّان بن ثعلبة التميمي». «1»

روى ابن أعثم الكوفي قائلًا: «وسار الحسين عليه السلام حتّى نزل في قصر بني مقاتل، فإذا هو بفسطاط مضروب، ورمح منصوب، وسيف معلّق، وفرس واقف على مذودهِ! فقال الحسين عليه السلام: لمن هذا الفسطاط؟

فقيل: لرجل يُقال له عبيداللّه بن الحرّ الجعفي.

قال فأرسل الحسين برجل من أصحابه يُقال له الحجّاج بن مسروق الجعفي فأقبل حتّى دخل عليه في فسطاطه فسلّم عليه فردّ عليه السلام ثم قال: ماوراءك؟

فقال الحجّاج: واللّه، ورائي يا ابن الحرّ، واللّهِ قد أهدى اللّه إليك كرامة إنْ قبلتها!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 276

قال: وماذاك؟

فقال: هذا الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهما يدعوك إلى نصرته! فإنْ قاتلت بين يديه أُجرتَ، وإنْ متَّ فإنك استشهدتَ!

فقال له عبيداللّه: واللّه ما خرجت من الكوفة إلّا مخافة أن يدخلها الحسين بن عليّ وأنا فيها فلا أنصره، لأنّه ليس له في الكوفة شيعة ولا أنصار إلّا وقد مالوا إلى الدنيا إلّا من عصم اللّه منهم! فارجع إليه وخبّره بذاك.

فأقبل الحجّاج إلى الحسين فخبّره بذلك، فقام الحسين ثمّ صار إليه في جماعة من إخوانه، فلمّا دخل وسلّم وثب عبيداللّه بن الحرّ من صدر المجلس، وجلس الحسين فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال:

أمّا بعد يا ابن الحرّ، فإنّ مصركم هذه كتبوا إليَّ

وخبّروني أنّهم مجتمعون على نصرتي، وأن يقوموا دوني ويقاتلوا عدوّي، وإنهم سألوني القدوم عليهم فقدمتُ، ولست أدري القوم على مازعموا؟ فإنّهم قد أعانوا على قتل ابن عمّي مسلم بن عقيل رحمه اللّه وشيعته! وأجمعوا على ابن مرجانة عبيداللّه بن زياد مبايعين ليزيد بن معاوية!

وأنت يا ابن الحرّ فاعلم أنّ اللّه عزّ وجلّ مؤاخذك بما كسبتَ وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية، «1» وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبة تغسل بها ما عليك من الذنوب، أدعوك الى نصرتنا أهل البيت، فإن أُعطينا حقّنا حمدنا اللّه على ذلك وقبلناه، وإن منعنا حقّنا ورُكبنا بالظلم كنت من أعواني على طلب الحقّ.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 277

فقال عبيداللّه بن الحرّ: واللّه يا ابن بنت رسول اللّه، لو كان لك بالكوفة أعوان يقاتلون معك لكنتُ أشدّهم على عدوّك! ولكنّي رأيتُ شيعتك بالكوفة وقد لزموا منازلهم خوفاً من بني أميّة ومن سيوفهم! فأنشدك اللّه أن تطلب منّي هذه المنزلة! وأنا أواسيك بكلّ ما أقدر عليه، وهذه فرسي ملجمة، واللّه ما طلبت عليها شيئاً إلّا أذقته حياض الموت، ولا طُلبتُ وأنا عليها فلُحقت، وخذ سيفي هذا فواللّه ما ضربت به إلّا قطعتُ!

فقال له الحسين رضي اللّه عنه:

يا ابن الحرُّ ما جئناك لفرسك وسيفك! إنّما أتيناك لنسألك النصرة، فإنْ كنت قد بخلت علينا بنفسك فلاحاجة لنا في شي ء من مالك! ولم أكن بالذي اتخذ المضلّين عضداً لأني قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وهو يقول: من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقّهم إلّا أكبّه اللّه على وجهه في النار!

ثمّ سار الحسين رضي اللّه عنه من عنده، ورجع إلى رحله، فلمّا كان من الغد رحل الحسين ..». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص:

278

وفي رواية الدينوري: «.. فأتاه الرسول، فقال: هذا الحسين بن عليّ يسألك أن تصير إليه! فقال عبيداللّه: واللّه ما خرجت من الكوفة إلّا لكثرة من رأيته خرج لمحاربته، وخذلان شيعته، فعلمتُ أنه مقتول ولا أقدر على نصره! فلستُ أحبّ أن يراني ولا أراه!

فانتعل الحسين حتّى مشى، ودخل عليه قبّته، ودعاه إلى نصرته!

فقال عبيداللّه: واللّه إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة! ولكن ما عسى أن أُغني عنك!؟ ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً! فأنُشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت! ولكن فرسي هذه المُلحقة، واللّه ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلّا لحقته! ولاطلبني وأنا عليها أحدٌ إلّا سبقته! فخذها فهي لك.

قال الحسين عليه السلام: أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا فلاحاجة لنا إلى فرسك!». «1»

إشارة ..... ص : 278

في لقاء الإمام عليه السلام مع عبيداللّه بن الحرّ الجعفي تتجلى بشكل مفجع آثار مرض الوهن (حبّ الدنيا وكراهية الموت!) والشلل النفسي الذي تفشّى بدرجة واسعة وعميقة وخطيرة في هذه الأمّة، بعد ارتحال رسول اللّه صلى الله عليه و آله نتيجة المنعطفات الإنحرافية التي مرّت بها الامّة، بفعل حركة النفاق طيلة خمسين سنة! ها هو ابن الحرّ الجعفي يعترف قائلًا: «واللّه إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 279

في الآخرة!»، وهو يعلم- بحكم العقل والشرع- أنّ درجة وجوب نصرة الإمام عليه السلام على كلّ مسلمٍ تشتدّ كلّما اشتدّت حاجة الإمام عليه السلام إلى من ينصره! لكنّه يجيب الإمام عليه السلام بمنطق الوهن المتمثل بحبّ الدنيا وكراهية الموت والتثاقل إلى الأرض قائلًا: «ولكن ما عسى أن أُغني عنك!؟ ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً! فأُنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطة! فإنّ نفسي لم

تسمح بالموت! ..».

ونرى الإمام عليه السلام الذي دعاه إلى التوبة وإلى الإلتحاق بركب الربّانيين يردُّ عليه- بعد أن أظهر الجعفي تثاقله الى الأرض وتشبّثه بالحياة الدنيا- قائلًا:

«أمّا إذا رغبتَ بنفسك عنّا فلاحاجة لنا إلى فرسك!» أو «يا ابن الحرّ! ما جئناك لفرسك وسيفك، إنّما أتيناك لنسألك النصرة! فإنْ كنت بخلت علينا بنفسك فلاحاجة لنا في شي ء من مالك، ولم أكن بالذي اتخذ المضلّين عضداً!».

نعم، فالقائد الربّاني ليست حاجته الأساس إلى وسائل وأسلحة وأموال، وإن كان ذلك من العدّة، بل حاجته الأساس إلى الإنسان الربّاني، المشتاق إلى لقاء ربّه، المبادر إلى طاعته، المخفّ إلى مرضاته، المسارع إلى نصرة أوليائه، المؤثر آخرته على دنياه .. ذلك لأنّ أفضل العدّة وأقوى الأسلحة على مرّ الزمان هو الإنسان الربّاني الذي يُجري اللّه على يديه الإنتصارات المعنوية الكبيرة والفتوحات الإلهية المبينة!

ونرى أيضاً خليفة اللّه في عصره، ووليّه الأعظم، الإمام الحسين عليه السلام يعامل هذا الواهن المشلول روحياً عبيداللّه بن الحرّ الجعفي- الذي خرج من الكوفة حتى لاينصر الحسين عليه السلام ولايكون ضدّه!- برحمته العامة ورأفته! فيحذّره من أن يكون ممّن يسمع واعية أهل البيت فلاينصرهم فيكبّه اللّه على وجهه في النار!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 280

ما أخسرَ صفقة الجعفي هذا! وما أحراه بالحسرة العظمى! «1» على ما فرّط في حظّ نفسه، وفي الفرصة النادرة التي كانت قد أُتيحت له للإلتحاق بركب الربانييّن العشاق الشهداء الذين لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق!

هل التحق الصحابيُّ أنسُ الكاهليّ بالإمام عليه السلام في قصر بني مقاتل؟ ..... ص : 280

قال البلاذري: «وكان أنس بن الحارث الكاهلي سمع مقالة الحسين لابن الحرّ، وكان قدم من الكوفة بمثل ما قدم له ابن الحرّ، فلمّا خرج «2» من عند ابن الحرّ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 281

سلّم على الحسين وقال له: واللّه ما أخرجني من

الكوفة إلّا ما أخرج هذا من كراهة قتالك أو القتال معك! ولكنّ اللّه قذف في قلبي نصرتك! وشجّعني على المسير معك!

فقال له الحسين: فاخرج معنا راشداً محفوظاً.». «1»

ونقول: إنّ هذا التردّد الذي اعترى قلب هذا الصحابيّ الجليل القدر (رض)- كما تصف رواية البلاذري- لايتلائم مع ما رواه جماعة من أهل السير عن هذا الصحابيّ الكبير (رض) أنه قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:

إنّ ابني هذا- يعني الحسين- يُقتل بأرض يُقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره!

قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقُتل مع الحسين!». «2»

كما لايتلائم ما ذكره البلاذري من أنّ مكان لقائه بالإمام عليه السلام في قصر بني مقاتل مع ما يوحيه ظاهر رواية ابن عساكر، وما ذكره ابن حجر العسقلاني «3» من أنه خرج إلى كربلاء فقُتل مع الحسين!

وفي إبصار العين أنه «كان جاء الى الحسين عليه السلام عند نزوله كربلاء، والتقى معه ليلًا فيمن أدركته السعادة!». «4»

وهذا الصحابي الجليل هو: «أنس بن الحرث بن نبيه بن كاهل بن عمرو بن صعب بن أسد بن خزيمة، الأسدي الكاهلي، كان صحابياً كبيراً ممّن رأى

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 282

النبيّ صلى الله عليه و آله وسمع حديثه ... روى أهل السير: أنّه لمّا جاءت نوبته استأذن الحسين عليه السلام في القتال فأذن له- وكان شيخاً كبيراً- فبرز وهو يقول:

قد علمتْ كاهلها ودودان والخندفيون وقيس عيلان

بأنّ قومي آفة للأقران». «1»

وقد ذكر الشيخ باقر شريف القرشي أن الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي (رض) قد لازم الإمام الحسين عليه السلام وصحبه من مكّة. «2» ولعل الشيخ القرشي عثر على وثيقة تأريخية تقول بذلك- أو لعل هذا من سهو قلمه الشريف- لأن الذي عليه أهل

السير أن أنس بن الحارث الكاهلي (رض) قد التحق بالإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة (في العراق) «3» أو عند نزوله كربلاء.

لقاء الإمام عليه السلام مع الرجلين المَشرقيين ..... ص : 282
اشارة

روى الشيخ الصدوق (ره) بسنده عن عمرو بن قيس المشرقيّ قال: «دخلت على الحسين عليه السلام أنا وابن عمٍّ لي، وهو في قصر بني مقاتل، فسلّمنا عليه، فقال له ابن عمّي: يا أباعبداللّه، هذا الذي أرى خضابٌ أو شَعرُك؟

فقال: خضاب! والشيب إلينا بني هاشم يعجل!

ثمّ أقبل علينا فقال: جئتما لنصرتي؟

فقلت: إنّي رجل كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس، ولا أدري ما يكون، وأكره أنْ أُضيع أمانتي!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 283

وقال له ابن عمّي مثل ذلك!

قال لنا: فانطلقا فلاتسمعا لي واعية ولاتريا لي سواداً! فإنّه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يُغثنا كان حقّاً على اللّه عزّ وجلّ أن يُكبّه على منخريه في النار!». «1»

إشارة: ..... ص : 283

لو كان هذان المشرقيّان صادقين فيما اعتذرا به! أو كانا صادقين في رغبتهما في الإلتحاق بالإمام عليه السلام! لكان بإمكانهما على الأقلّ- وهما إبنا عمّ- أن يختارا أحدهما للإلتحاق بالإمام عليه السلام لنصرته، والآخر منهما للبقاء وأداء الأمانات إلى أهلها!

لكنّه الوهن (حبّ الدنيا وكراهية الموت) والشلل النفسي المتفشّي في هذه الأمّة، له ذرائع ومعاذير لاتنتهي!

إنّ سؤالهما عن الخضاب! كاشف عن انحطاط اهتمامهما، فبدلًا من أنْ يسألا الإمام عليه السلام عن نهضته ومسارها ومصيرها وكلّ ما يرتبط بها! كان سؤال أحدهما:

«يا أبا عبداللّه، هذا خضابٌ أم شعرك؟»!

ثم ها هو الإمام عليه السلام يشملهما برحمته ورأفته الغامرة، فيحذّرهما من أن يكونا ممن يستمع واعيته فلايجيبه، ويرى له سواداً فلا يُغيثه وينصره! فيكون حقّاً على اللّه أن يُكبّه على منخريه في النار!

ما أعظمك وأرحمك يا مولانا يا أباعبداللّه الحسين!!

رؤيا المنايا أيضاً .. بين قصر بني مقاتل ونينوى! ..... ص : 283

روى الطبري، عن أبي مخنف، عن عبدالرحمن بن جندب، عن عقبة بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 284

سمعان قال: «لمّا كان في آخر الليل أمر الحسين بالإستقاء من الماء، ثمّ أمرنا بالرحيل ففعلنا .. فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين برأسه خفقة، ثمّ انتبه وهو يقول: إنّا للّه وإنا إليه راجعون، والحمد للّه ربّ العالمين .. ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً! .. فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين على فرس له فقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، والحمدُ للّه ربّ العالمين! يا أبتِ، جُعلت فداك، مِمَّ حمدت اللّه واسترجعت؟

قال: يا بُنيَّ إنّي خفقتِ برأسي خفقة، فعنَّ لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم! فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيت إلينا!

قال له: يا أبتِ لا أراك اللّه سوءاً، ألسنا على الحقّ؟

قال: بلى والذي إليه مرجع العباد!

قال: يا أبتِ،

إذاً لانبالي نموتُ محقّين!

فقال له: جزاك اللّه من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده.». «1»

17)- نينوى: ..... ص : 284

«وبسواد الكوفة ناحية يُقال لها نينوى، منها كربلاء التي قُتل بها الحسين رضي اللّه عنه» «2» و «نينوى: تقع شرق كربلاء .. وهي الموضع المعروف بباب طويريج شرقي كربلاء ..». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 285

كان الإمام الحسين عليه السلام قد ارتحل بالركب الحسيني من منطقة قصر بني مقاتل آخر الليل، «فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة، ثمّ عجّل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يُريد أن يفرّقهم! فيأتيه الحرُّ بن يزيد فيردّهم فيردّه! فجعل إذا ردّهم إلى الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه فارتفعوا! فلم يزالوا يتسايرون حتّى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين.

قال فإذا راكبٌ على نجيب له وعليه السلاح متنكّب قوساً مُقبلٌ من الكوفة! فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ بن يزيد وأصحابه، ولم يُسلّم على الحسين عليه السلام وأصحابه! فدفع إلى الحرّ كتاباً من عبيداللّه بن زياد فإذا فيه: أمّا بعدُ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تُنزله إلّا بالعراء! في غير حصنٍ وعلى غير ماء! وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولايفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.

قال فلمّا قرأ الكتاب قال لهم الحرّ: هذا كتاب الأمير عبيداللّه بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وهذا رسوله وقد أمره أن لايفارقني حتّى أُنفذ رأيه وأمره!

فنظر إلى رسول عبيداللّه يزيدُ بن زياد بن المهاصر- أبوالشعثاء الكندي ثمّ النهدي «1»- فعنَّ له، فقال: أمالك بن النسر البَدّي!؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 286

قال: نعم. وكان أحدُ كندة.

فقال له يزيد بن زياد: ثكلتك أمُّك، ماذا جئت فيه!؟

قال: وما جئتُ فيه!؟ أطعتُ إمامي ووفيت ببيعتي!

فقال

له أبوالشعثاء: عصيتَ ربّك وأطعتَ إمامك في هلاك نفسك! كسبت العار والنار! قال اللّه عزّ وجلّ «وجعلنا منهم أئمّة يدعون إلى النار ويوم القيامة لاينصرون» «1»

فهو إمامك!

قال وأخذ الحرُّ بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولافي قرية! فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية يعنون نينوى، أو هذه القرية يعنون الغاضرية، «2» أو هذه الأخرى يعنون الشفيّة! «3»

فقال: لا واللّه ما استطيع ذلك! هذا رجلٌ قد بُعث إليَّ عيناً!

فقال له زهير بن القين: يا ابن رسول اللّه! إنّ قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا مِن بعد من ترى مالا قِبَل لنا به!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 287

فقال له الحسين عليه السلام: ما كنت لأبدأهم بالقتال.

فقال له زهير بن القين: سِرْ بنا إلى هذه القرية حتّى تنزلها فإنها حصينة، وهي على شاطي ء الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال مَن يجي ء من بعدهم!

فقال له الحسين: وأيّة قرية هي؟

قال: هي العَقْر! «1»

فقال الحسين: أللّهمّ إنّي أعوذ بك من العقر!

ثُمَّ نزل، وذلك يوم الخميس وهو اليوم الثاني من المحرم سنة 61». «2»

وفي رواية الدينوري: «.. فقال له زهير: فها هنا قرية بالقرب منّا على شطّ الفرات، وهي في عاقول «3» حصينة، الفرات يحدق بها إلّا من وجه واحد!

قال الحسين: وما اسم تلك القرية؟

قال: العقر

قال الحسين: نعوذ باللّه من العقر!

فقال الحسين للحرّ: سِرْ بنا قليلًا، ثمّ ننزل!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 288

فسار معه حتّى أتوا كربلاء! فوقف الحرّ وأصحابه أمام الحسين ومنعوهم من المسير، وقال: إنزل بهذا المكان، فالفرات منك قريب!

قال الحسين: وما اسم هذا المكان؟

قالوا له: كربلاء!

قال عليه السلام: ذات كرب وبلاء! ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا

معه، فوقف فسأل عنه، فأُخبر باسمه، فقال: هاهنا محطّ ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم! فَسُئل عن ذلك، فقال: ثقل لآل بيت محمّد، ينزلون هاهنا!

ثمّ أمر الحسين بأثقاله، فحُطَّت بذلك المكان يوم الأربعاء، غُرّة المحرّم من سنة إحدى وستين.». «1»

وفي رواية السيّد ابن طاووس (ره): «ثُمَّ إنّ الحسين عليه السلام قام وركب وسار، وكلّما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى، حتى بلغ كربلاء، وكان ذلك في اليوم الثاني، من المحرّم، فلمّا وصلها قال: ما اسم هذه الأرض؟ فقيل: كربلا.

فقال عليه السلام: أللّهم إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء! ثم قال: هذا موضع كرب وبلاء! إنزلوا، هاهنا محطّ رحالنا، ومسفك دمائنا، وهنا محلّ قبورنا! بهذا حدّثني جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله! فنزلوا جميعا.». «2»

وفي تذكرة الخواص: «فلمّا قيل للحسين: هذه أرض كربلا. شمّها وقال: هذه واللّه هي الأرض التي أخبر بها جبرائيل رسول اللّه وأنني أُقتلُ فيها!». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 289

وفي المقتل المنسوب إلى أبي مخنف: «وساروا جميعاً إلى أن أتوا أرض كربلاء وذلك يوم الأربعاء، فوقف فرس الحسين عليه السلام، فنزل عنها وركب أخرى فلم تنبعث خطوة واحدة! ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتّى ركب سبعة أفراس وهنّ على هذه الحال! فلمّا رأى ذلك قال: يا قوم ما اسم هذه الأرض؟

قالوا: أرض الغاضرية.

قال: فهل لها إسم غير هذا؟

قالوا: تُسمّى نينوى.

قال: أَهَلْ لها إسم غير هذا؟

قالوا: شاطى ء الفرات.

قال: أَهلْ لها إسم غير هذا؟

قالوا: تسمّى كربلاء.

فعند ذلك تنفّس الصعداء! وقال: أرض كربٍ وبلاء! ثمّ قال:

إنزلوا، هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تُسفك دماؤنا، هاهنا واللّه تُهتك حريمنا، هاهنا واللّه تُقتل رجالنا، هاهنا واللّه تذبح أطفالنا، هاهنا واللّه تُزار قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدّي رسول اللّه صلى

الله عليه و آله ولاخلف لقوله. ثمّ نزل عن فرسه ...». «1»

أسماء بقيّة الأنصار الملتحقين بالإمام عليه السلام أثناء الطريق ..... ص : 289
اشارة

كُنّا قد تعرّضنا خلال البحث إلى ذكر مجموعة من أنصار الإمام الحسين عليه السلام الذين مرَّ لهم ذكر في بعض وقائع الطريق من مكّة إلى كربلاء، وترجمنا لكلّ منهم في موقعه المناسب من سياق البحث، كزهير بن القين (رض)، وبرير بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 290

خضير (رض)، ونافع بن هلال الجملي (رض)، وعمرو بن خالد الصيداوي (رض)، ومجمع بن عبداللّه العائذي (رض) وآخرين غيرهم.

غير أنّ هناك عدداً آخر من أنصاره عليه السلام كانوا قد التحقوا به أيضاً أثناء الطريق، منهم من لم نأتِ على ذكره في موقع إلتحاقه لأنّه لم يكن له شأن يُذكر في جريان سياق أحداث الطريق، ومنهم من لم تحدّد كتب التواريخ أو التراجم مكان إلتحاقه، وقد آثرنا أن نجمع أسماء هؤلاء الأبرار رضوان اللّه تعالى عليهم في قائمة واحدة، نبدأها بالذين حُددّت مواقع التحاقهم، ثُمَّ نتبعهم الآخرين (رض):

سلمان بن مضارب البجلي (رض) ..... ص : 290

ذكره المحقّق السماوي (ره) قائلًا: «كان سلمان ابن عمّ زهير لحاً، فإن القين أخو مضارب، وأبوهما قيس، وكان سلمان حجّ مع ابن عمّه سنة ستين، ولمّا مال في الطريق مع الحسين عليه السلام وحمل ثقله إليه مال معه في مضربه.

قال صاحب الحدائق: إنّ سلمان قُتل فيمن قتل بعد صلاة الظهر، فكأنّه قُتل قبل زهير.». «1»

وقال السيّد الخوئي (ره): «سلمان بن مضارب: ابن قيس، ابن عمّ زهير بن القين، عدّه بعضهم من المستشهدين مع زهير بن القين يوم الطفّ.». «2»

وقال النمازي (ره): «سلمان بن مضارب بن قيس، ابن عمّ زهير بن القين، من أصحاب مولانا الحسين صلوات اللّه عليه المستشهدين بالطفّ، كان مع زهير، فلمّا عدل زهير إلى الحسين عليه السلام عدل معه، وقُتل يوم عاشوراء رضوان اللّه تعالى

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 291

عليه، كما ذكره العلّامة المامقاني

في رجاله، وكذا ذكره في عطيّة الذرّة.». «1»

وبهذا يتضح عدم صحة قول الدينوري «2» أنّه لم يعدل مع زهير أحد من أصحابه أو لم يُقم معه.

وهب بن وهب (ابن الحبّاب الكلبي) ..... ص : 291

روى الشيخ الصدوق (ره) في أماليه يصف وقائع حرب يوم عاشوراء وتتابع أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في الخروج إلى البراز قائلًا: «وبرز من بعده «3» وهب بن وهب، وكان نصرانيّاً أسلم على يد الحسين عليه السلام هو وأمّه، فاتّبعوه إلى كربلاء، فركب فرساً وتناول بيده عود الفسطاط (عمود الفسطاط)، فقاتل وقتل من القوم سبعة أو ثمانية، ثم استوسر فأُتي به عمر بن سعد لعنه اللّه، فأمر بضرب عنقه، ورمى به إلى عسكر الحسين عليه السلام، وأخذت أمّه سيفه وبرزت! فقال لها الحسين عليه السلام: يا أمّ وهب، إجلسي فقد وضع اللّه الجهاد عن النساء، إنّك وابنك مع جدّي محمّد صلى الله عليه و آله في الجنّة.». «4»

ويبدو أنّ العلّامة المجلسي (ره) يرى أنّ وهب هذا هو نفسه: وهب بن عبداللّه بن حباب الكلبي، لنقرأ هذه الفقرة من مقتل البحار:

«ثُمّ برز من بعده «5» وهب بن عبداللّه بن حباب الكلبي، وقد كانت معه أمّه يومئذ.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 292

فقالت: قم يا بُنيّ فانصر ابن بنت رسول اللّه!

فقال: أفعل يا أُمّاه ولا أقصّر!

فبرز وهو يقول:

إنْ تنكروني فأنا ابن الكلب سوف تروني وترون ضربي

وحملتي وصولتي في الحرب أدرك ثأري بعد ثأر صحبي

وأدفع الكرب أمام الكربِ ليس جهادي في الوغى باللعبِ

ثمّ حمل فلم يزل يقاتل حتّى قتل منهم جماعة، فرجع إلى أمّه وأمرأته، فوقف عليهما فقال: يا أمّاه أرضيتِ؟

فقالت: ما رضيتُ أو تقتل بين يدي الحسين عليه السلام!

فقالت إمرأته: باللّه لاتفجعني في نفسك!

فقالت أمّه: يا بُنيّ لاتقبل قولها، وارجع فقاتل بين يدي ابن

رسول اللّه فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي اللّه.

فرجع قائلًا:

إنّي زعيمٌ لك أُمَّ وَهْبِ بالطعن فيهم تارة والضربِ

ضرب غلام مؤمنٍ بالربّ حتّى يُذيق القوم مُرَّ الحربِ

إنّي امرؤٌ ذو مرَّة وعصبِ ولستُ بالخوّار عند النكب

حسبي إلهي من عليم حسبي

فلم يزل يقاتل حتّى قتل تسعة عشر فارساً وإثني عشر راجلًا! ثمّ قُطعت يداه، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمّي! قاتل دون الطيّبين حرم رسول اللّه. فأقبل كي يردّها إلى النساء فأخذت بجانب ثوبه وقالت:

لن أعود أو أموت معك! فقال الحسين عليه السلام: جزيتم من أهل بيت خيراً! إرجعي إلى النساء رحمك اللّه.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 293

فانصرفت، وجعل يُقاتل حتّى قُتل رضوان اللّه عليه، قال فذهبت امرأته تمسح الدّم عن وجهه، فبصر بها شمر، فأمر غلاماً له فضربها بعمودٍ كان معه، فشدخها وقتلها، وهي أوّل امرأة قتلت في عسكر الحسين.

ورأيت حديثاً أنّ وهب هذا كان نصرانيّاً، فأسلم هو وأمّه على يدي الحسين، فقتل في المبارزة أربعة وعشرين راجلًا وإثني عشر فارسااً، ثمّ أُخذ أسيراً، فأُتي به عمر بن سعد فقال: ما أشدّ صولتك!؟ ثمّ أمر فضربت عنقه، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين عليه السلام، فأخذت أمّه الرأس فقبّلته، ثمّ رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد، فأصابت به رجلًا فقتلته! ثمّ شدّت بعمود الفسطاط، فقتلت رجلين! فقال لها الحسين عليه السلام: إرجعي يا أمّ وهب، أنت وابنك مع رسول اللّه فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء. فرجعت وهي تقول: إلهي لاتقطع رجائي! فقال لها الحسين عليه السلام: لايقطع اللّه رجاكِ يا أمّ وهب.». «1»

ونقل السيّد إبراهيم الزنجاني يقول: «وقيل إنّ وهب كان عمره خمساً وعشرين سنة، وإسم زوجته هانية، وكان لها سبعة عشر يوماً منذ

عرسه، وله عشرة أيّام منذ دخل في دين الإسلام على يدي الحسين عليه السلام من المنزل الثامن: الثعلبية في طريق كربلاء ..». «2»

نعيم بن العجلان الأنصاري الخزرجي (رض) ..... ص : 293

قال المحقّق السماوي (ره): «كان النضر والنعمان ونعيم إخوة، من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، ولهم في صفّين»

مواقف فيها ذكر وسمعة، وكانوا شجعاء

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 294

شعراء، مات النضر والنعمان، وبقي نعيم في الكوفة، فلمّا ورد الحسين عليه السلام إلى العراق خرج إليه وصار معه، فلمّا كان اليوم العاشر تقدّم إلى القتال، فقُتل في الحملة الأولى.». «1»

وقد ورد عليه السلام في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على نعيم بن عجلان الأنصاري». «2»

زاهر بن عمر الأسلمي الكندي- صاحب عمرو بن الحمق (رض): ..... ص : 294

قال النمازي (ره): «قال العلّامة المامقاني: هو زاهر بن عمر الأسلمي الكندي، من أصحاب الشجرة، وروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله، وشهد الحديبية وخيبر، وكان من أصحاب عمرو بن الحمق الخزاعي، كما نصّ على ذلك أهل السير، وقالوا: إنه كان بطلًا مجرّباً، شجاعاً، مشهوراً، محبّاً لأهل البيت، معروفاً، وحجّ سنة ستين، فالتقى مع الحسين عليه السلام فصحبه، وكان ملازماً له حتّى حضر معه كربلاء، واستشهد بين يديه ..». «3»

لكنّ المحقّق السماوي (ره) لم يذكر أنّ له صحبة، بل قال: «زاهر بن عمرو الكندي: كان زاهر بطلًا مجرّباً وشجاعاً مشهوراً، ومحبّاً لأهل البيت معروفاً، قال أهل السير: إنّ عمرو بن الحمق لمّا قام على زياد قام زاهر معه، وكان صاحبه في القول والفعل، ولمّا طلب معاوية عمرواً طلب معه زاهراً، فقتل عمرواً وأفلت زاهر، فحجّ سنة ستين، فالتقى مع الحسين عليه السلام فصحبه وحضر معه كربلاء. وقال السروي: قُتل في الحملة الأولى.». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 295

وقد ورد عليه السلام في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي». «1»

نقول: إذا كان مفاد عبارة «وحجّ سنة ستين» أنّه أتمّ الحجّ فإنّ زاهراً يكون قد التحق بالإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة في

منزل من منازل الطريق، وإذا كان مفادها أنه أتى إلى مكّة قاصداً الحجَّ، فالتقى مع الإمام عليه السلام في مكّة وصحبه ولازمه، فإنَّ زاهراً يكون- على هذا- ممّن انضمّ إلى الإمام عليه السلام في مكّة، وخرج معه منها، ولم يتمّ حجّه.

أبوثمامة عمرو بن عبداللّه الهمداني الصائدي (رض) ..... ص : 295

قال المحقّق السماوي (ره): «كان أبوثمامة تابعياً، وكان من فرسان العرب ووجوه الشيعة، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام الذين شهدوا معه مشاهده، ثم صحب الحسن عليه السلام بعده، وبقي في الكوفة، فلمّا توفي معاوية كاتبَ الحسين عليه السلام، ولمّا جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة قام معه، وصار يقبض الأموال من الشيعة بأمر مسلم فيشتري بها السلاح، وكان بصيراً بذلك، ولمّا دخل عبيد اللّه الكوفة وثار الشيعة بوجهه، وجهّه مسلم فيمن وجهّه، وعقد له على ربع تميم وهمدان .. ولمّا تفرّق عن مسلم الناس بالتخذيل اختفى أبوثمامة، فاشتدّ طلب ابن زياد له، فخرج إلى الحسين عليه السلام، ومعه نافع بن هلال الجملي، فلقياه في الطريق وأتيا معه.

وروى أبومخنف: أنّ أبا ثمامة لمّا رأى الشمس يوم عاشوراء زالت، وأنّ الحرب قائمة، قال للحسين عليه السلام: يا أبا عبداللّه، نفسي لنفسك الفداء! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا واللّه لاتُقتل حتّى أُقتل دونك إن شاء اللّه، وأحبّ أن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 296

ألقى اللّه ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها، فرفع الحسين رأسه ثمّ قال:

ذكرت الصلاة! جعلك اللّه من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أوّل وقتها ..

قال: ثُمَّ إنّ أباثمامة قال للحسين وقد صلّى: يا أبا عبداللّه، إنّي قد هممتُ أن ألحق بأصحابي، وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيداً من أهلك قتيلًا. فقال له الحسين عليه السلام: تقدّم، فإنّا لاحقون بك عن ساعة! فتقدّم فقاتل حتّى أُثخن

بالجراحات، فقتله قيس بن عبداللّه الصائدي ابن عمّ له كان له عدوّاً، وكان ذلك بعد قتل الحرّ.». «1»

وقد ورد عليه السلام في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على أبي ثمامة الصائدي عمر بن عبداللّه الصائدي.». «2»

الحبّاب بن عامر بن كعب بن تميم اللّاة بن ثعلبة، التميمي (رض) ..... ص : 296

قال المحقّق السماوي (ره): «كان الحبّاب في الكوفة من الشيعة، وممّن بايع مسلماً، وخرج إلى الحسين عليه السلام بعد التخاذل عن مسلم فصادفه في الطريق، فلزمه حتّى قُتل بين يديه. قال السروي: قتل في الحملة الأولى.». «3»

جندب بن حجير الكندي الخولاني (رض): ..... ص : 296

قال المحقّق السماوي (رض): «كان جندب من وجوه الشيعة، وكان من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، خرج إلى الحسين عليه السلام فوافقه في الطريق قبل اتصال الحرّ به، فجاء معه إلى كربلا.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 297

قال أهل السير: إنّه قاتل فقُتل في أوّل القتال.

وقال صاحب الحدائق: إنّه قُتل هو وولده حجير بن جندب في أوّل القتال. «1»

ولم يصحّ لي أنّ ولده قُتل معه، كما أنّه ليس في القائميات ذكر لولده، فلهذا لم أُترجمه معه.». «2»

وقد ورد عليه السلام في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على جندب بن حجر الخولاني.». «3»

سويد بن عمرو بن أبي المطاع الأنماري الخثعمي (رض) ..... ص : 297

لم نعثر في كتب التواريخ والتراجم- حسب متابعتنا- على مكان إلتحاق هذا الشهيد بركب الإمام الحسين عليه السلام، إذ لم يُذكر فيمن التحق بالإمام عليه السلام في مكّة، كما لم يُذكر فيمن التحق به عليه السلام في كربلاء، فالظنّ أنّه ممّن التحق بالإمام عليه السلام في الطريق بين مكّة وكربلاء، ولذا فقد أوردنا ذكره هنا احتياطاً.

قال المحقّق السماوي (ره): «كان سويد شيخاً شريفاً عابداً كثير الصلاة، كان شجاعاً مجرّباً في الحروب، كما ذكره الطبري والداودي ...». «4»

ولقد كان آخر من بقي من أنصار أبي عبداللّه الحسين عليه السلام (من غير الهاشميين) بشر بن عمرو الحضرمي وسويد بن عمرو بن أبي المطاع «وقال أهل السير: إنّ بشراً الحضرمي قُتل، فتقدّم سويد، وقاتل حتّى أُثخن بالجراح وسقط على وجهه، فظُنَّ بأنه قُتل، فلمّا قُتل الحسين عليه السلام وسمعهم يقولون: قُتل الحسين،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 298

وجد به إفاقة، وكان معه سكّين خبّأها، وكان قد أُخذ سيفه منه، فقاتلهم بسكّينه ساعة، ثمّ إنّهم عطفوا عليه، فقتله عروة بن بكّار التغلبي، وزيد بن ورقاء الجهني.». «1»

سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض) ..... ص : 298

ولم نعثر في كتب التواريخ والتراجم- حسب متابعتنا أيضاً- على مكان إلتحاق هذا الشهيد بالإمام عليه السلام إلّا ما ذكره المحقّق السماوي (ره) بقوله: «ثمَّ بعثه مسلم بكتاب إلى الحسين، فبقي مع الحسين حتّى قُتل معه»، «2» ولايُعلم من هذه العبارة متى بعثه مسلم عليه السلام، أكان ذلك قبل بعثه عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض) أم بعده بقليل أو كثير؟ ولذا فالأقوى أنّه التحق بالإمام عليه السلام في مكّة، لكنّ الإحتمال باقٍ في أنّ إلتحاقه بالإمام عليه السلام ربّما كان في الطريق بعد خروج الإمام عليه السلام من مكّة.

وهذا الشهيد (رض) من أفاضل شهداء

الطفّ، وقد مرّت بنا ترجمته في الجزء الثاني من هذه الدراسة. «3»

ويكفيه فضلًا وشرفاً- فضلًا عن شرف الشهادة- ما ورد في حقّه من سلام مفصّل وثناء عاطر في زيارة الناحية المقدّسة:

«السلام على سعد بن عبداللّه الحنفي القائل للحسين وقد أذن له في الإنصراف: لا واللّه، لا نخلّيك حتى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيك، واللّه لو أعلم أنّي أُقتل ثمَّ أُحيى ثمّ أُحرقُ ثمّ أُذرى، ويفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى أَلقى حمامي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 299

دونك! وكيف أفعل ذلك وإنّما هي موتة أو هي قتلة واحدة!؟ ثمّ بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!

فقد لقيت حمامك وواسيت إمامك، ولقيت من اللّه الكرامة في دار المقامة، حشرنا اللّه معكم في المستشهدين! ورزقنا مرافقتكم في أعلى عليين.». «1»

الحمد لله

الجزء الرابع

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة (الجز الرابع)

الفصل الأول: كربلاء ..... ص : 13

إسم «كربلاء» .. الأصل والإشتقاق ..... ص : 13
اشارة

اختلف اللّغويون والمؤرّخون والجغرافيون في أصل كلمة كربلاء وفي اشتقاقها وفي معناها، فذهب بعضهم إلى أنّ أصل هذه الكلمة عربيٌّ محض، وذهب آخرون إلى أنَّ أصلها غير عربيّ، وقال آخرون إنها متداخلة الأصل من العربية وغيرها ...

1)- نظرية الأصل العربي لإسم كربلاء ..... ص : 13

قال ياقوت الحموي: «كربلاءُ، بالمدِّ: وهو الموضع الذي قُتل فيه الحسين بن عليّ رضي اللّه عنه، في طرف البريّة عند الكوفة، فأمّا اشتقاقه فالكربلة رخاوة في القدمين، يقال: جاء يمشي مُكَرْبِلًا، فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة فسميّت بذلك.

ويُقال: كَرْبَلْتُ الحنطة، إذا هذّبتها ونقيّتها، ويُنشدُ في صفة الحنطة:

يحملنَ حمراء رسوباً للثقل قد غُربلتْ وكُربلت من القصل

فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض منقّاة من الحصى والدّغل فسميّت بذلك.

والكربل: إسم نبت الحُمّاض، وقال أبووجزة السعدي يصف عهون الهودج:

وثامرُ كربلٍ وعميم دُفلى عليها والندى سبط يمورُ

فيجوز أن يكون هذا الصنف من النبت يكثر نبته هناك فَسُمِّي به.». «1»

2)- نظرية الأصل غير العربي (الأصل الديني) ..... ص : 13

وقال الدكتور مصطفى جواد في موضوع كتبه تحت عنوان (كربلاء قديماً) في موسوعة العتبات المقدّسة:

«.. وذكر السيّد العلّامة هبة الدين الشهرستاني أنّ «كربلاء» منحوتة من كلمتي «كور بابل» بمعنى مجموعة قُرى بابلية. «2»

وقال الأب اللغوي أنستاس الكرملي: «والذي نتذكره فيما قرأناه في بعض كتب الباحثين أنّ كربلاء منحوتة من كلمتين: من (كربل) و (إل) أي حرم اللّه أو مقدس اللّه. «3»

قلنا: إنّ رجع الأعلام الأعجمية إلى أصول عربية كان ديدناً لعلماء اللغة العربية منذ القديم، فقلّما اعترفوا بأنّ علماً من الأعلام أصله أعجمي، دون أسماء الجنس فإنهم اعترفوا بعجمتها وسمّوها «المعرّبات»، لأنّ الذين يعرفون اللغة الفارسية كثير، ولأنهم يدرون أصول المعرّبات على التحقيق والتأكيد.

وكان الذي يسهّل عليهم اجتيال الأعلام وغيرها إلى اللغة العربية كونها مشابهة وموازنة لكلمات عربية، كما مرَّ في «كربلا» والكربلة، والكربل، فهم قالوا بعروبة تلك الأعلام الأعجمية ثمّ حاروا في تخريجها اللغوي فبعثهم ذلك على التكلّف! كما فعلوا في كربلاء وغيرها من الأعلام الأعجمية.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 15

وأنا أرى محاولة ياقوت الحموي ردّ

«كربلاء» إلى الأصول العربية غير مجدية ولايصحّ الإعتماد عليها! لأنها من بابة الظنّ والتخمين، والرغبة الجامحة العارمة في إرادة جعل العربية مصدراً لسائر أسماء الأمكنة والبقاع! مع أنّ موقع كربلاء خارج عن جزيرة العرب، وأنّ في العراق كثيراً من البلدان ليست أسماؤها عربية كبغداد وصرورا، وجوخا، وبابل، وكوش، وبعقوبا، وأنّ التأريخ لم ينصّ على عروبة إسم «كربلاء» فقد كانت معروفة قبل الفتح العربي للعراق، وقبل سكنى العرب هناك، وقد ذكرها بعض العرب الذين رافقوا خالد بن الوليد القائد العربي المشهور في غزوته لغربيّ العراق سنة 12 هجرية/ 634 م. قال ياقوت الحموي:

«ونزل خالد عند فتحه الحيرة كربلاء، فشكا إليه عبداللّه بن وشيمة النصري «1» الذبّان، فقال رجل من أشجع في ذلك:

لقد حُبسَتْ في كربلاء مطيّتي وفي العين «2»

حتى عادغثّاً سمينا

إذا رحلتْ من منزل رجعتْ له لعمري وأيْها إنّني لأُهينها ويمنعها من ماء كلّ شريعةرفاقٌ من الذُّبانِ زُرقٌ عيونها

ومن أقدم الشعر الذي ذكرت فيه كربلاء قول معن بن أَوْس المزني من مخضرمي الجاهلية والإسلام، وعمَّرَ حتىْ أدرك عصر عبداللّه بن الزبير وصار مصاحباً له! وقد كُفَّ بصره في آخر عمره. وذكر ياقوت الحموي هذا الشعر في

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 16

«النوائح» من معجمه للبلدان .. وذكره قبله أبوالفرج الأصبهاني في ترجمة معن من الأغاني (12: 63/ دار الكتاب) وقال وهي قصيدة طويلة:

إذا هي حلّت كربلاءَ فلعلعاً فجوز العذيب دونها فالنوائحا

وقال الطبري في حوادث سنة 12: «وخرج خالد بن الوليد «1» في عمل عياض ابن غنم ليقضي ما بينه وبينه ولإغاثته فسلك الفلّوجة حتى نزل بكربلاء وعلى مسلحتها عاصم بن عمرو ... وأقام خالد على كربلاء أيّاماً، وشكا إليه عبداللّه بن وثيمة الذباب، فقال له خالد: إصبر فإنّي إنّما

أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فنُسكنها العرب فتأمن جنود المسلمين أن يُؤتَوا من خلفهم وتجيئنا العرب آمنة غير متعتعة، وبذلك أمرنا الخليفة ورأيه يعدل نجدة الأمّة. وقال رجل من أشجع فيما شكا ابن وثيمة:

لقد حُبست في كربلاء مطيّتي ..». «2» الأبيات

وقال ياقوت الحموي في كلامه على الكوفة: «.. ثمّ توجّه سعد نحو المدائن إلى يزدجرد، وقدَّم خالد بن عرفطة «3» حليف بني زهرة بن كلاب، فلم يقدر عليه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 17

سعد حتّى فتح خالد ساباط المدائن، ثم توجّه إلى المدائن فلم يجد معابر فدلّوه على مخاضة عند قرية الصيّادين أسفل المدائن فأخاضوها الخيل حتى عبروا، وهرب يزدجرد إلى اصطخر، فأخذ خالد كربلاء عنوة وسبى أهلها، فقسّمها سعد بين أصحابه ...». «1»

ولقائلٍ أن يقول: إنّ العرب أوطنوا تلك البقاع قبل الفتح العربي، فدولة المناذرة بالحيرة ونواحيها كانت معاصرة للدولة الساسانية الفارسية وفي حمايتها وخدمتها. والجواب: أنّ المؤرّخين لم يذكروا لهم إنشاء قرية سمّيت بهذا الإسم- أعني كربلاء، غير أنَّ وزن كربلاء أُلحق بالأوزان العربية، ونُقل «فَعْلَلا» إلى «فَعْلَلاء» في الشعر حَسْبُ ... «2»

أمّا قول الأب اللغوي أنستاس ما معناه أنّ كربلا منحوتة من (كرب) و (إل) فهو داخل في الإمكان، لأنّ هذه البقاع قد سكنها الساميّون، وإذا فسّرنا (كرب) بالعربية أيضاً دلّ على معنى «القُرب» فقد قالت العرب: «كرب يكرب كروباً: أي دنا» وقالت: «كرب فلان يفعل، وكرب أن يفعل: أي كاد يفعل، وكاد تفيد القرب، قال ابن مقبل يصف ناقته:

فبعثتها تَقِصُ المقاصر بعدما كربت حياةُ النار للمتنوّر «3»

وقال أبوزيد الأسلمي:

سقاها ذوو الأرحام سجلًا على الظما وقد كربت أعناقها أن تقطّعا «1»

وإذا فسّرنا «إل» كان معناه «إلاله» عند الساميين أيضاً، ودخول تفسير

التسمية في الإمكان لايعني أنها التسميّة الحقيقية لاغيرها، لأنّ اللّغة والتأريخ متعاونان دائماً فهي تؤيّده عند احتياجه إليها، وهو يؤيّدها عند احتياجها إليه، فهل ورد في التأريخ أنّ موضع كربلاء كان «حرم إله» قوم من الأقوام الذين سكنوا العراق؟ «2» أو مَقْدَسَ إلهٍ لهم؟ لايُجيبنا التأريخ عن ذلك! ومن الأسماء المضافة الى «إل» بابل وأربل وبابلي.

ومن العجيب أنّ لفظ «كرب» تطوّر معناه في اللغة العبريّة! قال بعض الأدباء الأمريكيين: «ممّا يصوّر لنا فكرة عن سوء أُسلوب الحياة أن نجد الكلمة العبرية (كَرَبَ Karab)- ومعناها يقترب- تعني في الوقت نفسه (يُقاتل ويحارب) ومن هنا كانت كلمة (كِراب Kerab) بمعنى معركة. «3»

لذلك يمكن القول بتطوّر الإسم «كربلاء» من الحقيقة الى المجاز، وبذلك لايجب الإلتزام بأصل معناه بل يجوز، وممّا قدّمنا يُفهم أن «كربلا» مقصور في

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 19

الأصل، وأنّ الهمزة أُدخلت عليها لضرورة الشعر ...

وعلى حسبان «كربلا» من الأسماء الساميّة الآرامية أو البابلية، تكون القرية من القُرى القديمة الزمان كبابل وأربيل، وكيف لا وهي من ناحية نينوى الجنوبية .. «1» ونينوى من الأسماء الآشورية ...». «2»

وقال الشيخ محمّد باقر المدرّس في كتابه (مدينة الحسين عليه السلام): «إنّ كربلاء تلخّصت من كلمتين في لغة الآراميين، وهما (كرب) بمعنى معبد أو الحرم، و (إيلا) بمعنى آلهة، فالمعنى: حرم الآلهة!». «3» ثم يقول الشيخ المدرّس: «لو أننا رجعنا إلى تأريخ هذه المدينة إلى عهد البابليين لوجدنا لها إسماً وأثراً! لأنّه بناءً على ما قاله المستشرق الفرنسي ماسينسيون- في كتابه: خطط الكوفة/ ترجمة تقي المصعبي- إنّ كربلاء كانت معبد الكلدانيين الذين كانوا يقطنون في مدينة نينوى والعقر البابلي، وكلاهما كان بقرب كور كربلاء». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 20

نُبذة مختصرة من تأريخ كربلاء وجغرافيتها إلى سنة ستين للهجرة ..... ص : 20

«كربلاء» بلدة

عُرفت بهذا الإسم قبل الإسلام بزمن بعيد، بل لعلّ الظاهر من بعض الروايات أنّ إسم كربلاء موغل في القِدم إلى زمن آدم أبي البشر عليه السلام، «1» بل هي معروفة في السماء ب (أرض كرب وبلاء) كما في رواية عن أميرالمؤمنين عليه السلام. «2»

«وعلى حسبان «كربلا من الأسماء الساميّة الآراميّة أو البابليّة تكون القرية من القُرى القديمة الزمان كبابل وأربيل، وكيف لا وهي من ناحية نينوى الجنوبية ..

ونينوى من الأسماء الآشورية ..». «3»

ويوحي إحتمال كون إسمها منحوتاً من كلمتي «كور بابل» أي مجموعة قُرى بابلية أنها كانت آنذاك أُمَّ القُرى لقرى عديدة، منها نينوى، والعقر البابلي، والنواويس، والحَيْر، والعين: عين التمر، وغيرها من القرى العديدة التي كانت تقع بين البادية وشاطي ء الفرات.

ولعلّ «كربلاء» كانت قد أسست منذ عهد البابليين والآشوريين وورثها عنهم التنوخيون واللخميّون، أمراء المناذرة وسكّان الحيرة تحت حماية الأكاسرة في إيران الذين كانت سيطرتهم يومذاك قد امتدّت على مساحة واسعة جدّاً من آسيا.

كانت كربلاء عامرة ومتقدّمة من الناحية الزراعية آنذاك، لخصوبة أرضها وقربها من الفرات وملائمة مناخها لكثير من الزراعات، وكانت تموّن المنطقة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 21

والقوافل السيّارة المارة بها بالمنتوجات من حبوب وتمور وأثمار، وقد ازدهرت حتّى في العصر الكلداني، وكان يسكنها قومٌ من النصارى والدهاقين، وكانت تُسمّى آنذاك ب «كور بابل»، وقد أُقيم على أرضها معبد تقام فيه الصلاة، وحولها معابد أخرى، وقد عُثر في قرى مجاورة لها على جثث أموات في أوانٍ خزفية يعود تأريخها إلى ماقبل ميلاد المسيح عليه السلام.

وقد اشتهرت في عهد اللخميين الذين كانت الحيرة عاصمتهم، وقد كانت «عين التمر» يومئذٍ من البلاد التي تستورد منها أنواع التمور وتُنيخ فيها القوافل السيارة مُناخ ركابها للإستراحة فيها، وقد

اكتسبت كربلاء أهميتها التجارية يومذاك من موقعها المشرف آنذاك على الطرق المؤدّية إلى الحيرة والأنبار والشام والحجاز، كلّ ذلك كان قبل الفتح الإسلامي لتلك المنطقة ولأرض السواد من العراق.

ويرى الشيخ محمّد باقر المدرّس في كتابه (مدينة الحسين عليه السلام) أنّ الفرس في عصر الملك سابور ذي الأكتاف الذي بويع سنة 310 م في إيران- وهو من الملوك الفرس الساسانيين- كانوا قد قسّموا أرض العراق بعد فتحها إلى عشرة ألوية، وكلّ لواء إلى طسوج، وكلّ طسج إلى رساتيق، وكانت الأرض الواقعة بين عين التمر والفرات تُعَدُّ اللواء العاشر، وكانت كربلاء أحد طسوج هذا اللواء. «1»

ولقد فُتحت كربلاء في جملة أراضي العراق التي فتحت عنوة على يد المسلمين في زمن أبي بكر (سنة 12 ه. ق)، وكان الذي أخذها عنوة خالد بن عرفطة- وكان قد بعثه سعد بن أبي وقّاص مقدّمة له- ولقد اتخذها مقرّاً ومعسكراً لجنده فترة من الزمن، وبعد أن استنفد منها غاياته الحربية تركها وانتقل إلى الكوفة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 22

لوخامة المناخ والرطوبة في كربلاء.

ثمّ لم تزل كربلاء- بعد ازدهار الكوفة وتعاظم أهميتها- قرية من قراها الكثيرة المبثوثة حولها، لا يأتي على ذكرها ذاكرٌ إلّا في مناسبة من نوادر المناسبات، كما في مرور أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام عليها في جيشه الزاحف نحو الشام، أو جرت على لسان متحدّث يروي خبراً من أخبار الملاحم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو أميرالمؤمنين عليه السلام بصدد مقتل سيد الشهداء أبي عبداللّه الحسين عليه السلام وأرض مصرعه!

«وتقع كربلاء غرب نهر الفرات على حافة البادية، وسط المنطقة الرسوبية المعروفة بأرض السواد، وعلى شمالها الغربي مدينة الأنبار، وعلى شرقها مدينة بابل الأثرية، وفي الغرب منها الصحراء الغربية،

وفي الجنوب الغربي منها مدينة الحيرة عاصمة المناذرة ... وتقع كربلاء على حدود البادية، يقصدها البدو من بلاد الحجاز والشام للميرة والتموين، وإلى عهد قريب كان هذا شأنها، وهي على مسافة قريبة من العين، وهي واحة وارفة الأشجار وفيرة المياه، وقد كانت مدينة العين من المدن المهمة في منطقة البادية ...». «1»

«وكان للحائر وهدة فسيحة محدودة بسلسلة تلال ممدودة وربوات متصلة في الجهات الشمالية والغربية والجنوبية منه، تشكّل للناظرين نصف دائرة مدخلها الجهة الشرقية حيث يتوجه منها الزائر إلى مثوى سيدنا العبّاس بن علي عليهما السلام.». «2»

ويقول السيّد هبة الدين الشهرستاني إنّ المنقبين وجدوا في أعماق البيوت

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 23

المحدقة بقبر الحسين عليه السلام آثاراً تدلّ على ارتفاعها القديم في أراضي جهات الشمال والغرب، ولايجدون في الجهه، الشرقيّة سوى تربة رخوة واطئة، الأمر الذي يُرشدنا إلى وضعيّة هذه البقعة، وأنها كانت في عصرها الأوّل واطئة من جهة الشرق، ورابية من جهتي الشمال والغرب على شكل هلالي، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ابن الزهراء البتول الطاهرة. «1»

الأسماء الأُخرى لكربلاء ..... ص : 23
اشارة

هنالك أسماء أخرى تُطلق على أرض مصرع الإمام الحسين عليه السلام، هي إمّا أسماء عامّة للمنطقة التي منها كربلاء، فاطلقت من باب إطلاق الكلّ على الجزء كإطلاق الطفّ على كربلاء، أو هي أسماء لقُرىً مجاورة لكربلاء، فأطلقت أسماؤها على كربلاء أيضاً، ربّما من باب المجاز أو لعلاقة القرب والجوار كإطلاق نينوى أو الغاضرية على كربلاء، أو هي أسماء كانت تُطلق على أرض كربلاء في غابر الأزمان، فوردت أيضاً في لسان الروايات، كما في إطلاق عمورا على كربلاء، وأهمّ هذه الأسماء:

1)- الطفّ أو الطفوف: ..... ص : 23

من المواضع التي عرفها العرب قديماً قرب كربلاء «الطفّ»، قال ياقوت الحموي: «وهو في اللغة ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق، قال الأصمعي: وإنّما سُمّي طفّاً لأنه دانٍ من الريف .. وقال أبوسعيد: سُمّي الطفّ لأنه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 24

مشرف على العراق، مِنْ أطفَّ على الشي ء بمعنى أطلّ، والطفّ: طفّ الفرات أي الشاطي ء، والطفّ: أرض من ضاحية الكوفة في طريق البريّة فيها كان مقتل الحسين بن علي رضي اللّه عنه، وهي أرض بادية قريبة من الريف فيها عدّة عيون ماء جارية، منها: الصيد، والقطقطانة، والرُّهَيمة، وعين جمل، وذواتها، وهي عيون كانت للموكّلين بالمسالح التي كانت وراء خندق سابور الذي حفره بينه وبين العرب وغيرهم .. فلمّا كان يوم ذي قار ونصر اللّه العرب بنبيّه صلى الله عليه و آله، غلبت العرب على طائفة من تلك العيون وبقي بعضها في أيدي الأعاجم، ثمّ لمّا قدم المسلمون الحيرة وهربت الأعاجم بعدما طمّت عامّة ما كان في أيديها منها! وبقي ما في أيدي العرب .. ولما انقضى أمر القادسيّة والمدائن وقع ماجلا عنه الأعاجم من أرض تلك العيون إلى المسلمين ...

قال أبودهبل الجُمحي «1» يرثي الحسين

بن عليّ رضي اللّه عنه، ومن قتل معه بالطفّ:

مررتُ على أبيات آل محمّدٍ فلم أرها أمثالها يوم حُلَّتِ

فلا يُبعد اللّهُ الديارَ وأهلها وإنْ أصبحتْ منهم برغمي تخلَّتِ

ألا إنّ قتلى الطفّ من آل هاشمٍ أذلّتْ رقاب المسلمين فذلّتِ ...

وقال أيضاً:

تبيتُ سكارى من أُميّة نُوَّماً وبالطفّ قتلى ما ينام حميمُها

وما أفسد الإسلام إلّا عصابة تأمّر نَوْكاها فدام نعيمها

فصارت قناة الدين في كفّ ظالمٍ إذا اعوجّ منها جانبٌ لايُقيمها.». «2»

2)- نينوى: ..... ص : 24

قال ياقوت الحموي: «.. وبسواد الكوفة ناحية يُقال لها نينوى منها كربلاء التي قُتل بها الحسين رضي اللّه عنه ...». «1»

وقال الأُستاذ الدكتور مصطفى جواد: «وزعم الأُستاذ فيردهوفر Ferd Hofer أنّ أسترابون Strabon الجغرافي اليوناني المولود في أواسط القرن الأوّل قبل الميلاد ذكر في كتابه «مابين النهرين: آشورية وبابل وكلدية» ذكر نينوى ثانية غير نينوى الشمالية، فإنّ صحّ زعمه كانت نينوى الجنوبية هي المقصود ذكرها ..

وكانت على نهر العلقمي.». «2»

وقال الطبري يصف رحلة الركب الحسيني من منزل قصر بني مقاتل إلى نينوى- ويعني بها كربلاء-: «فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة، ثمّ عجّل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يُريد أن يفرّقهم! فيأتيه الحرّ بن يزيد فيردّهم فيردّه! فجعل إذا ردّهم إلى الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه فارتفعوا! فلم يزالوا يتسايرون حتّى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين.». «3»

3)- النواويس: ..... ص : 24

الناووس والقبر واحد، «4» والناووس: مقابر النصارى، «5» والنواويس كانت مقابر للنصارى الذين سكنوا «كربلاء» قبل الإسلام، وتقع هذه المقابر شمال غرب

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 26

«كربلاء» في الأيام الحاضرة. «1»

وقد ذكرها الإمام الحسين عليه السلام في خطبته بمكّة حيث قال: «.. كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ..». «2»

4)- الغاضرية: ..... ص : 26

قال ياقوت الحموي: «الغاضريّة .. منسوبة إلى غاضرة من بني أسد، وهي قرية من نواحي الكوفة قريبة من كربلاء.»، «3» وهذا الوصف يدلّ على أنّ الغاضرية أُنشئت بعد انتقال قبيلة بني أسد إلى العراق في صدر الإسلام، فليست الغاضرية قديمة التأريخ جاهلية. «4» وهي في شمال كربلاء إلى شمالها الشرقي، وتبعد عنها أقلّ من نصف كيلومتر. «5»

وكان الإمام الحسين عليه السلام بعد نزوله كربلاء في أوائل العشرة الأولى من المحرّم سنة 61 ه قد اشترى من أهل الغاضريّة ونينوى مساحة كبيرة من الأراضي الواقعة أطراف مرقده المقدّس، كانت تبلغ مساحتها من حيث المجموع أربعة أميال في أربعة أميال، بستين ألف درهم، ثمّ تصدّق عليهم بتلك الأراضي الواسعة بشرط أن يقوم أهلها بإرشاد الزائرين إلى قبره الشريف وأن يقوموا بضيافتهم ثلاثة أيّام، غير أنهم لم يفوا بهذا الشرط فسقط حقّهم فيها، وبقيت تلك الأراضي المشتراة منهم ملكاً للإمام عليه السلام ولولده من بعده كما كان الحال قبل التصدق عليهم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 27

بذلك الشرط. «1»

وقد ورد ذكر الغاضرية في أدب الطفّ كثيراً، من ذلك هذه الأبيات:

يا كوكب العرش الذي من نوره الكرسيّ والسبعُ العُلى تتشعشعُ

كيف اتخذت الغاضريّة مضجعاً والعرش ودَّ بأنه لك مضجعُ

5)- عمورا: ..... ص : 27

روى قطب الدين الراوندي (ره) بسند، عن جابر، عن الإمام الباقر عليه السلام قال:

قال الحسين بن عليّ عليهما السلام لأصحابه قبل أن يُقتل:

«إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: يا بُنيَّ، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبييّن، وهي أرض تُدعى «عمورا»، وإنّك تُستشهد بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك، لايجدون أَلَم مسَّ الحديد، وتلا: «قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم»، تكون الحرب عليك

وعليهم برداً وسلاماً، فأبشروا ...» إلى آخر تفاصيل الرواية الشريفة. «2»

6)- أرض بابل: ..... ص : 27

روى ابن عساكر أنّ عمرة بنت عبدالرحمن كتبت إلى الإمام عليه السلام تعظّم عليه ما يريد أن يصنع من إجابة أهل الكوفة، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة! وتخبره أنّه إنّما يُساق إلى مصرعه، وتقول: أشهد لحدّثتني عائشة أنها سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: يُقتل حسينٌ بأرض بابل ... «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 28

8)- شطّ الفرات: ..... ص : 28

أخرج ابن أبي شيبة بسند، عن عبداللّه بن يحيى الحضرمي، عن أبيه، أنه سافر مع عليّ عليه السلام،- وكان صاحب مطهرته- حتّى حاذى «نينوى» وهو منطلق إلى «صفّين»، فنادى: صبراً أباعبداللّه! صبراً أبا عبداللّه!

فقلت: ماذا أباعبداللّه!؟

فقال: دخلت على النبيّ صلى الله عليه و آله وعيناه تفيضان، قال: قلت: يارسول اللّه صلى الله عليه و آله مالعينيك تفيضان، أغضبك أحدٌ!؟

قال: قام من عندي جبرئيل فأخبرني أنّ الحسين عليه السلام يُقتل ب «شطّ الفرات» فلم أملك عينيَّ أن فاضتا! «1»

9)- أرض العراق: ..... ص : 28

أخرج أبونعيم الأصبهاني في دلائل النبوّة بسنده، عن سحيم، عن أنس بن الحارث (رض) قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّ إبني هذا يُقتل بأرض العراق، فمن أدركه فلينصره». «2»

10)- ظهر الكوفة ..... ص : 28

أخرج ابن قولويه (ره) بإسناده، عن سعيد بن عمر الجلّاب، عن الحارث الأعور (ره) قال: قال عليٌّ عليه السلام: «بأبي وأمّي الحسين المقتول بظهر الكوفة، واللّه كأنّي

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 29

أنظر إلى الوحوش مادّة أعناقها على قبره من أنواع الوحوش يبكونه ويرثونه ليلًا حتّى الصباح! فإذا كان ذلك فإيّاكم والجفاء!». «1»

11)- الحائر والحَيْر ..... ص : 29

قال ياقوت الحموي: «الحاير: بعد الألف ياء مكسورة وراء، وهو في الأصل حوض يصبّ إليه مسيل الماء من الأمطار، سُمّي بذلك لأنّ الماء يتحير فيه يرجع من أقصاه إلى أدناه .. وأكثر الناس يُسمّون الحائر: الحَيْر، والحائر: قبر الحسين بن عليّ رضي اللّه عنه ... قال أبوالقاسم: هو الحائر إلّا أنّه لاجمع له لأنّه إسم لموضع قبر الحسين بن عليّ رضي اللّه عنه، فأمّا الحِيران فجمع حائر، وهو مستنقع ماءٍ يتحير فيه فيجي ء ويذهب .. يقولون الحَيْر بلا إضافة إذا عنوا كربلاء ..». «2»

وقال ابن منظور: «.. وحار الماء فهو حائر، وتحيّر: تردّد، وتحيّر الماء: اجتمع ودار، والحائر: مجتمع الماء ... والحائر: كربلاء، سُمّيت بأحد هذه الأشياء ..». «3»

وقد حار الماء عن قبر الإمام الحسين عليه السلام لمّا أجراه (الديزج) الذي بعثه المتوكل ليطمس آثار معالم القبر المقدّس ويعفي أثره سنة 236 ه. «4»

وقال الدكتور مصطفى جواد: «وقد ذكرنا أن الحائر إسم عربيّ وأنّ العرب سكنوا هذه البلاد منذ عصور الجاهلية، فلابدّ من أن يكون معروفاً قبل استشهاد الحسين عليه السلام، لأنّ هذه التسمية هي والحَيْر والحيرة من أصل واحد ..». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 30

لكنّ الدكتور عبدالجواد الكليدار زعم أنه: «لم يرد في التأريخ أو الحديث ذكر لكربلاء بإسم الحائر أو الحَيْر قبل وقعة الطفّ أو أثناء هذه الوقعة أو بعدها بزمن يسير،

إذ إنّ الأحاديث النبوية المنبئة بقتل الحسين عليه السلام بأرض العراق تضمّنت كُلَّ الأسماء عدا إسم الحائر ..». «1»

غير أنّ الطبري في تأريخه عن القاسم بن يحيى قال: «بعث الرشيد إلى إبن أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بن عليّ في الحَيْر، قال فأُتي بهم، فنظر إليه الحسن بن راشد وقال: مالك!؟ قال: بعث إليَّ هذا الرجل يعني الرشيد فأحضرني ولست آمنُه على نفسي. قال له: فإذا دخلتَ عليه فسألك فقل له الحسن بن راشد وضعني في ذلك الموضع. فلمّا دخل عليه قال هذا القول، قال: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن، أحضِروه!، قال فلمّا حضر قال ما حملك على أن صيّرتَ هذا الرجل في الحَيْر!؟ قال: رحم اللّه من صيّره في الحَير! أمرتني أمّ موسى أن أصيّره فيه وأن أُجري عليه في كلّ شهر ثلاثين درهماً. فقال: ردّوه إلى الحَيْر، وأجروا عليه ما أجرته أمّ موسى. وأمّ موسى هي أمّ المهدي ..». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 31

ولعلّ أوائل ماورد إسم «الحائر» في النصوص الدينية، ماجاء في بعض الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام التي علّم بعض الأصحاب فيها بعض طرق زيارة سيّد الشهداء عليه السلام، كما في رواية يوسف بن الكناسيّ عن أبي عبداللّه عليه السلام: «قال:

إذا أتيت قبر الحسين فائتِ الفرات واغتسل بحيال قبره وتوجّه إليه، وعليك السكينة والوقار حتى تدخل الحائر من جانبه الشرقيَّ، وقل حين تدخله ...». «1»

وكما في رواية عن الحسن بن عطيّة، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «قال: إذا دخلت الحائر فقل ...»، «2» وغيرها أيضاً مما روي عن الصادق عليه السلام. «3»

وكان المراد بالحائر في تلك الأيام ماحواه سور المشهد الحسيني على مشرّفه السلام، «4» وهذا

القول تؤيّده اللغة والقرائن والروايات معاً، لأنّ الحائر لغة هو فناء الدار أو ما يحيط بها من كل جانب» وقالوا: لهذه الدار حائر واسع ..». «5» ثم توسّع الإستعمال حتّى صار المراد بالحائر كربلاء نفسها.

ويمكن أن يُقال إنَّ كربلاء كانت من مساكن العرب منذ الجاهلية، وكانت تُسمّى «الحَيْر» بلا إضافة- كما ذكر ياقوت الحموي- لكنّ هذا الإسم ضعف

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 32

استعماله وندر إطلاقه بعدما غلب إسم «الحائر» على كربلاء مكانه، خصوصاً بعدما احيط به إسم «الحائر» من حرمة وتقديس وأنيط به من أعمال وأحكام في الرواية والفقه. «1»

فضل كربلاء وقداسة تربتها ..... ص : 32

أعطيت أرض كربلاء- حسب النصوص الواردة- من الشرف ما لاتُعطَ أيّ بقعة من بقاع الأرض حتّى مكّة المعظّمة منذ أن خلق اللّه الارض.

ففي حديث- على سبيل المثال لا الحصر- عن الإمام السجاد عليه السلام أنه قال:

«اتخذ اللّه أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام. وإنه إذا زلزل اللّه تبارك وتعالى الأرض وسيّرها، رُفعت كما هي بتربتها نورانيّة صافية فجُعلت في افضل روضة من رياض الجنّة، وأفضل مسكن في الجنّة، لايسكنها إلّا النبيّون والمرسلون- أو قال: أولوا العزم من الرسل- وإنّها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب لأهل الأرض، يُغشي نورها أبصار أهل الجنّة وهي تنادي «أنا أرض اللّه المقدسة، الطيبة، المباركة التي تضمنت سيّد الشهداء وسيد شباب أهل الجنّة». «2»

وهي التي في تربتها الشفاء كما قال الصادق عليه السلام: «في طين قبر الحسين عليه السلام الشفاء من كلّ داء، وهو الدواء الاكبر». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 33

والأحاديث في فضلها لم تنحصر فيما روى الشيعة عن أئمّة الهدى عليهم السلام بل هي متوفرة أيضاً في كتب بقية

الفرق الإسلامية. فقد روى السيوطي ما يناهز على عشرين حديثاً عن أكابر ثقاة أبناء العامة، كالحاكم والبيهقي وأبي نعيم وأمثالهم. «1»

وناهيك عن أنَّ قداسة بعض البقاع أو التُرَب لم تكن منحصرة فيما رواه العلماء سلفاً عن سلف عند الفريقين، بل إنّ السيرة العملية المستمرة بين المسلمين منذ الصدر الأول وحتى في زمن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله تحكي أنهم كانوا يقدّسون بعض البقاع والترب ويتبركون ويستشفون بترابها.

قال البرزنجي: «ويجب على من أخرج شيئاً من المدينة ردّه إلى محلّه، ولايزول عصيانه إلّا بذلك، نعم إستُثني من ذلك ما دعت الحاجة إليه من تراب الحرم للتداوي به منه! كترابب مصرع حمزة سيد الشهداء وتربة صهيب لإطباق السلف والخلف على ذلك. «2»

وهكذا استمرت هذه السيرة بعد زمن النبيّ صلى الله عليه و آله أيضاً، فقد قال العلّامة السمهمودي في كتاب وفاء الوفاء: «لمّا توفّي النبيّ صلى الله عليه و آله صاروا يأخذون من تربته الشريفة فأمرت عائشة بجدار فضُرب عليهم، وكانت في الجدار كوّة فكانوا يأخذون منها فأمرت بالكوّة فسُدَّت. «3»

ولم يقتصروا على الإستشفاء بالتراب- بل كانوا يقدّسون مواضع أقدام بعض أولياء اللّه وغير ذلك. واذا كان كذلك فكيف لاتُقدّس تربة ابن الرسول الأعظم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 34

وريحانته وقلذة كبده وبضعته، وهي أطيب تربة وأزكاها!؟

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إنّ فاطمة عليها السلام بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله كانت سبحتها من خيط صوف مفتّل معقود عليه عدد التكبيرات، وكانت تديرها بيدها تكبّر وتسبّح حتى قتل حمزة بن عبدالمطلب، فاستعملت تربته، وعملت التسابيح، فاستعملها الناس، فلما قُتل الحسين صلوات اللّه عليه عدل بالأمر اليه، فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزيّة. «1»

وقال

العلامة كاشف الغطاء: «... حمزة دفن في أُحد وكان يسمّى سيّد الشهداء ويسجدون على تراب قبره ... ولما قتل الحسين عليه السلام صار هو سيد الشهداء وصاروا يسجدون على تربته. «2»

واستمرت سيرة شيعة أئمة أهل البيت خصوصاً الى زمن الصادق عليه السلام حيث كانوا يحملون معهم «حمزة»، وهي كانت عبارة عن مقدار من التراب في صرّة أعدّوها للسجود عليها، وقد تطوّرت إلى قطعة من تراب قبر الحسين عليه السلام بصورة ألواح تسهيلًا للمصلين- ولما كان تعفير الجبين والسجود على الأرض فريضة لكونه أبلغ في التواضع فلماذا لايكون السجود على أتقى وأزكى وأجود وأطيب وأقدس تربة في الأرض- وهي تربة الحسين عليه السلام التي نطقت الأحاديث بفضلها. «3»

وأئمة الهدى عليهم السلام هم الذين أسسوا ذلك. فنرى أول من صلى على تربة الحسين عليه السلام واتخذها مسجداً الإمام زين العابدين عليه السلام. إذ بعد أن دفن جثمان أبيه عليه السلام أخذ قبضة من التربة التي وضع عليها الجسد الشريف وعمل منها سجادة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 35

وسبحة وكان عليه السلام يديرها حين دخوله على يزيد لعنه اللّه، وبعد ما رجع من الشام، وصار يتبرك بتلك التربة ويسجد عليها ويعالج بعض مرضى عائلته بها- فشاع عند العلويين وأتباعهم واشياعهم. «1»

ومن بعد الإمام زين العابدين عليه السلام تبعه في ذلك ابنه الإمام الباقر عليه السلام، ومن بعده الامام الصادق عليه السلام وهكذا.

ولعل من أسرار السجود على تربة الحسين عليه السلام أنَّ السجود على تربة الحسين عليه السلام يجعل المصلّي على ذكرٍ دائم لما جرى من المصائب والفجائع العظيمة على الإمام الحسين عليه السلام الذي حفظ بقيامه ضدّ الحكم الأمويّ الطاغوتي وبشهادته: الإسلام المحمديّ الخالص، والصلاة المحمّدية، من عبث وتحريفات الفئة

الباغية والشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن، «أشهد أنّك قد أقمتَ الصلاة ..»، فلولا قيام الحسين عليه السلام لما بقيت الصلاة، ولا كانت الزكاة، ولأُفرغ من معناه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل لما بقي الإسلام، وصحَّ تماماً ذلك القول الرائع:

«الإسلام محمّدي الوجود حسينيّ البقاء!».

والذي ينبغي أن نشير إليه أنَّ تقديس تربةٍ ما لاينحصر بالإستشفاء بها، بل حتّى بالسجود للّه عليها- فهي بما أنها أرض طاهرة زاكية- ويجب السجود على الأرض، كان الأولى والأفضل السجود على تراب أقدس وأزكى وأطهر بقعة منها.

وما افتروه على الشيعة في قضية السجود على التربة الطاهرة الحسينية بأنَّ السجود على تربة الحسين عليه السلام ضرب من عبادة الأصنام والأوثان التي حاربها الإسلام. فهي مردودة للفرق بين السجود للشي ء والسجود على الشي ء، فالشيعة تسجد للّه على تربة الحسين لا لتربة الحسين عليه السلام.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 36

كربلاء في تأريخ بعض أنبياء اللّه عليهم السلام ..... ص : 36

1) عن سعد بن عبداللّه القمّي (ره) في جملة الأسئلة التي سأل الإمام القائم عليه السلام عنها: «قلت: فأخبرني يا ابن رسول اللّه عن تأويل «كهيعص».

قال: هذه الحروف من أنباء الغيب أطلع اللّه عليها عبده زكريّا، ثمّ قصّها على محمد صلى الله عليه و آله، وذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها، فكان زكريّا إذا ذكر محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن سُرِّيَ عنه همّه، وانجلى كربه، وإذا ذُكر إسم الحسين خنقته العبرة! ووقعت عليه البُهرة! فقال ذات يوم: إلهي، ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟

فأنبأه اللّه تبارك وتعالى عن قصّته وقال: «كهيعص»، «فالكاف»: إسم كربلاء، و «الهاء» هلاك العترة الطاهرة، و «الياء» يزيد وهو ظالم الحسين، و «العين»

عطشه، و «الصاد» صبره ... إلى آخر الخبر». «1»

2) قال العلامة المجلسي (ره): «وروي مرسلًا أنّ آدم لمّا هبط إلى الأرض لم يَرَ حوّا، فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرَّ بكربلاء فاغتمَّ وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الذي قُتل فيه الحسين حتّى سال الدمّ من رجله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي هل حدث منّي ذنبٌ آخر فعاقبتني به؟ فإنّي طفتُ جميع الأرض، وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض!

فأوحى اللّه إليه: يا آدم، ماحدث منك ذنب، ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظُلماً فسال دمُك موافقة لدمه.

فقال آدم: يا ربّ أيكون الحسين نبيّاً؟

قال: لا، ولكنّه سبط النبيّ محمّد.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 37

فقال: ومن القاتل له؟

قال: قاتله يزيد لعين أهل السموات والأرض!

فقال آدم: فأيّ شي ء أصنع يا جبرئيل؟

فقال: إلعنه يا آدم.

فلعنه أربع مرّات، ومشى خطوات إلى جبل عرفات فوجد حوّا هناك. «1»

3) وقال العلّامة المجلسي (ره): «وروي أنّ نوحاً لمّا ركب السفينة طافت به جميع الدنيا، فلمّا مرّت بكربلا أخذته الأرض، وخاف نوح الغرق فدعا ربّه وقال:

إلهي، طفت جميع الدنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض!

فنزل جبرئيل وقال: يا نوح في هذا الموضع يُقتل الحسين سبط محمّد خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء!

فقال: ومن القاتل له يا جبرئيل؟

قال: قاتله لعين أهل سبع سموات وسبع أرضين!

فلعنه نوح أربع مرّات، فسارت السفينة حتّى بلغت الجوديّ واستقرّت عليه.». «2»

4) وقال (ره) أيضاً: «وروي أنّ إبراهيم عليه السلام مرَّ في أرض كربلا وهو راكب فرساً، فعثرت به وسقط إبراهيم وشُجَّ رأسه وسال دمه، فأخذ في الإستغفار وقال:

إلهي، أيّ شي ء حدث منّي؟

فنزل إليه جبرئيل وقال: يا إبراهيم، ما حدث منك ذنب، ولكن

هنا يُقتل سبط خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء، فسال دمك موافقة لدمه.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 38

قال: يا جبرئيل، ومن يكون قاتله؟

قال: لعين أهل السموات والأرضين، والقلم جرى على اللوح بلعنه بغير إذن ربّه، فأوحى اللّه تعالى إلى القلم: إنك استحققت الثناء بهذا اللعن.

فرفع إبراهيم عليه السلام يديه ولعن يزيد لعناً كثيراً، وأمّن فرسه بلسان فصيح! فقال إبراهيم لفرسه: أيّ شي ء عرفتَ حتى تؤمّن على دعائي؟

فقال: يا إبراهيم، أنا أفتخر بركوبك عليَّ، فلمّا عثرتُ وسقطتَ عن ظهري عظمت خجلتي، وكان سبب ذلك من يزيد لعنه اللّه تعالى.». «1»

5) وقال (ره) أيضاً: «وروي أنّ إسماعيل كانت أغنامه ترعى بشطّ الفرات، فأخبره الراعي أنها لاتشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يوماً! فسأل ربّه عن سبب ذلك، فنزل جبرئيل وقال: يا إسماعيل، سلْ غنمك فإنّها تجيبك عن سبب ذلك!

فقال لها: لِمَ لاتشربين من هذا الماء!؟

فقالت بلسان فصيح: قد بلغنا أنّ ولدك الحسين عليه السلام سبط محمّد يُقتل هنا عطشاناً، فنحن لانشرب من هذه المشرعة حُزناً عليه!

فسألها عن قاتله، فقالت: يقتله لعين السموات والأرضين والخلائق أجمعين.

فقال إسماعيل: أللّهم العن قاتل الحسين عليه السلام.». «2»

6) وقال (ره) أيضاً: «وروي أنّ موسى كان ذات يوم سائراً ومعه يوشع بن نون، فلمّا جاء إلى أرض كربلاء انخرق نعله، وانقطع شراكه، ودخل الحسك في رجليه، وسال دمه، فقال: إلهي، أيّ شي ء حدث منّي؟

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 39

فأُوحي إليه أنّ هنا يُقتل الحسين عليه السلام، وهنا يُسفك دمه، فسال دمك موافقة لدمه.

فقال: ربِّ! ومن يكون الحسين؟

فقيل له: هو سبط محمّد المصطفى وابن عليٍّ المرتضى.

فقال: ومن يكون قاتله!؟

فقيل: هو لعين السمك في البحار، والوحوش في القفار، والطير في الهواء!

فرفع موسى يديه ولعن يزيد ودعا عليه،

وأمّن يوشع بن نون على دعائه، ومضى لشأنه.». «1»

7) وقال (ره) أيضاً: «وروي أنّ سليمان كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء، فمرَّ ذات يوم وهو سائر في أرض كربلا، فأدارت الريح بساطه ثلاث دورات حتّى خاف السقوط، فسكنت الريح، ونزل البساط في أرض كربلا.

فقال سليمان للريح: لِمَ سكنتي؟

فقالت: إنّ هاهنا يُقتل الحسين عليه السلام.

فقال: ومن يكون الحسين؟

فقالت: هو سبط محمّد المختار، وابن عليّ الكرّار.

فقال: ومن قاتله!؟

قالت: لعين أهل السموات والأرض يزيد.

فرفع سليمان يديه ولعنه ودعا عليه، وأمّن على دعائه الإنس والجنّ، فهبّت الريح وسار البساط.». «2»

8) وقال (ره) أيضاً: «وروي أنّ عيسى كان سائحاً في البراري ومعه الحواريّون، فمرّوا بكربلا فرأوا أسداً كاسراً قد أخذ الطريق فتقدّم عيسى إلى

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 40

الأسد فقال له: لِمَ جلست في هذا الطريق؟ وقال: لاتدعنا نمرّ فيه؟

فقال الأسد بلسان فصيح: إنّي لن أدع لكم الطريق حتّى تلعنوا يزيد قاتل الحسين عليه السلام!

فقال عيسى عليه السلام: ومن يكون الحسين؟

قال: هو سبط محمّد النبيّ الأُميّ، وابن عليّ الوليّ.

قال: ومن قاتله!؟

قال: قاتله لعين الوحوش والذّباب والسباع أجمع، خصوصاً أيّام عاشورا!

فرفع عيسى يديه ولعن يزيد ودعا عليه، وأمّن الحواريّون على دعائه، فتنحّى الأسد عن طريقهم، ومضوا لشأنهم.». «1»

9) وروى الشيخ الصدوق (ره) في أماليه وفي كمال الدين بإسنادين مختلفين إلى ابن عبّاس، عن أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام في حديث طويل (جرى أثناء مروره عليه السلام بكربلاء حين خروجه إلى صفين)، قال ابن عبّاس: «... ثمّ قال: يا ابن عبّاس، اطلب لي حولها بعر الظباء، فواللّه ماكذبتُ ولاكُذّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران. قال ابن عبّاس فطلبتها فوجدتها مجتمعة! فناديته: يا أميرالمؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي! فقال عليٌّ عليه

السلام: صدق اللّه ورسوله. ثمّ قام عليه السلام يهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال: هي هي بعينها، أتعلم يا ابن عبّاس ما هذه الأبعار؟

هذه قد شمّها عيسى بن مريم عليه السلام، وذلك أنّه مرَّ بها ومعه الحواريّون، فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي، فجلس عيسى عليه السلام وجلس الحواريون معه، فبكى وبكى الحواريون وهم لايدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى، فقالوا: يا روح اللّه وكلمته، ما يبكيك؟ قال: أتعلمون أيّ أرض هذه؟ قالوا: لا! قال: هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد، وفرخ الحرّة الطاهرة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 41

البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول إنها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض. ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها، أللّهمّ فأبقها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة ...». «1»

ومصاب الحسين عليه السلام في حياة أنبياء اللّه عليهم السلام وأممهم ..... ص : 41

1) ونقل العلامة المجلسي (ره) عن كتاب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالى: «فتلقّى آدم من ربّه كلمات ..» «2»

أنّه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمّة عليهم السلام فلقّنه جبرئيل: قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ عليّ، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان. فلمّا ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟

قال جبرئيل: ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب!

فقال: يا أخي، وما هي؟

قال: يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً، ليس له ناصرٌ ولا معين! ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه! واقلّة ناصراه! حتى يحول العطش

بينه وبين السماء كالدخان! فلم يُجبه أحدٌ إلّا بالسيوف وشرب الحتوف! فيُذبح ذبح الشاة من قفاه! وينهب رحله أعداؤه! وتُشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ومعهم النسوان! كذلك سبق في علم الواحد

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 42

المنّان. فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى.». «1»

2) روى الشيخ الصدوق (ره) بسند، عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: لمّا أمر اللّه تبارك وتعالى إبراهيم عليه السلام أن يذبح مكان إبنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح إبنه إسماعيل عليه السلام بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، من أحبّ خلقي إليك؟

فقال: يا ربّ ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليَّ من حبيبك محمّد صلى الله عليه و آله.

فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟

قال: بل هو أحبُّ إليَّ من نفسي.

قال: فولده أحبّ إليك أو ولدك؟

قال: بل ولده.

قال: فذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟

قال: يا ربّ بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنها من أمّة محمّد صلى الله عليه و آله ستقتل الحسين عليه السلام إبنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيم عليه السلام لذلك وتوجّع قلبه، وأقبل يبكي!

فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، قد فديت جزعك على إبنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين عليه السلام وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 43

فذلك

قول اللّه عزّ وجلّ: «وفديناه بذبح عظيم»، ولاحول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.». «1»

3) ونقل الشيخ قطب الدين الراوندي عن تأريخ محمّد النجّار شيخ المحدّثين بالمدرسة المستنصرية بإسناد مرفوع إلى أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنه قال: «لمّا أراد اللّه أن يهلك قوم نوح أوحى إليه أن شُقَّ ألواح الساج، فلمّا شقّها لم يدر ما يصنع بها، فهبط جبرئيل فأراه هيئة السفينة ومعه تابوت بها مائة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار، فسمّر بالمسامير كلّها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمار فأشرق بيده وأضاء كما يُضي ء الكوكب في أُفق السماء فتحيّر نوح، فأنطق اللّه المسمار بلسان طلق ذلق: أنا على إسم خير الأنبياء محمّد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله.

فهبط جبرئيل، فقال له: يا جبرئيل، ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله؟

فقال: هذا بإسم سيّد الأنبياء محمّد بن عبداللّه، أَسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيمن.

ثمّ ضرب بيده على مسمار ثانٍ فأشرق وأنار!

فقال نوح: وما هذا المسمار؟

فقال: هذا مسمار أخيه وابن عمّه سيّد الأوصياء عليّ بن أبي طالب فأَسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيسر في أوّلها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرق وأنار!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 44

فقال جبرئيل: هذا مسمار فاطمة فأسمره إلى جانب مسمار أبيها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسن فأسمره إلى جانب مسمار أبيه. ثم ضرب إلى مسمار خامس فزهر وأنار وأظهر النداوة!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسين فأسمره إلى جانب مسمار أبيه.

فقال نوح: يا جبرئيل، ماهذه النداوة؟

فقال: هذا الدّم!

فذكر قصّة الحسين عليه السلام وماتعمل الأمّة به، فلعن اللّه قاتله وظالمه وخاذله.». «1»

4) وروى الشيخ الصدوق (ره) بإسنادٍ إلى

الإمام الرضا عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنَّ موسى بن عمران سأل ربّه عزّ وجلّ فقال: يا ربّ، إنّ أخي هارون مات فاغفر له. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا موسى، لو سألتني في الأوّلين والآخرين لأجبتك ما خلا قاتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فإنّي أنتقم له من قاتله.». «2»

5) وروى الشيخ الصدوق (ره) في علل الشرائع بسندٍ إلى الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إنّ إسماعيل الذي قال اللّه عزّ وجلّ في كتابه: واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولًا نبياً، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه اللّه عزّ وجلّ إلى قومه فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملك فقال:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 45

إنّ اللّه جلّ جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت. فقال: لي أُسوة بما يُصنع بالحسين عليه السلام.». «1»

ورواه الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بتفاوت وبسند آخر إلى الإمام الصادق عليه السلام. «2»

وروى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن بُرير بن معاوية العجليِّ: «قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: يا ابن رسول اللّه، أخبرني عن إسماعيل الذي ذكره اللّه في كتابه حيث يقول: «واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولًا نبيّاً» أكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام؟ فإنَّ الناس يزعمون أنّه إسماعيل بن إبراهيم!

فقال عليه السلام: إنّ إسماعيل مات قبل إبراهيم، وإنَّ إبراهيم كان حجّة للّه قائماً، صاحب شريعة، فإلى من أُرسل إسماعيل إذن؟

قلت: فمن كان جُعلتُ فداك؟

قال عليه السلام: ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ، بعثه اللّه إلى قومه فكذّبوه وقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب اللّه له عليهم، فوجّه إليه سطاطائيل ملك العذاب، فقال له:

يا إسماعيل أنا سطاطائيل ملك العذاب، وجّهني إليك ربّ العزّة لأُعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئتَ.

فقال له إسماعيل: لاحاجة لي في ذلك! فأوحى اللّه إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال: يا ربّ إنّك أخذتَ الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّد بالنبوّة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرتَ خير خلقك بما تفعل أمّته بالحسين بن عليّ عليهما السلام من بعد نبيّها، وإنّك وعدت الحسين عليه السلام أنْ تُكِرَّه إلى الدنيا حتّى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربّ أن تكرّني إلى الدنيا

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 46

حتى أنتقم ممّن فعل ذلك بي، كما تُكرُّ الحسين عليه السلام، فوعد اللّه إسماعيل بن حزقيل ذلك فهو يكرّ مع الحسين عليه السلام.». «1»

6) وروى الشيخ الصدوق في أماليه بسندٍ إلى سالم بن أبي جعدة قال:

سمعت كعب الأحبار يقول: إنّ في كتابنا أنّ رجلًا من ولد محمّد رسول اللّه يُقتل ولايجفّ عرَق دوابّ أصحابه حتّى يدخلوا الجنّة فيعانقوا الحور العين.

فمرَّ بنا الحسن عليه السلام، فقلنا: هو هذا؟

قال: لا

فمرَّ بنا الحسين عليه السلام فقلنا: هو هذا؟

قال: نعم.». «2»

7) وروى الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بسندٍ إلى يحيى بن يمان، عن إمامٍ لبني سليم، عن أشياخ لهم: قالوا: غزونا بلاد الروم فدخلنا كنيسة من كنائسهم فوجدنا فيها مكتوباً:

أيرجو معشر قتلوا حسيناً شفاعة جدّه يوم الحساب

قالوا: فسألنا: منذ كم هذا في كنيستكم؟

فقالوا: قبل أن يُبعث نبيّكم بثلاثمائة عام!». «3»

وقال الشيخ ابن نما (ره): «وحدّث عبدالرحمن بن مسلم، عن أبيه أنّه قال:

غزونا بلاد الروم فأتينا كنيسة من كنائسهم قريبة من قسطنطينية وعليها شي ء

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 47

مكتوب، فسألنا أُناساً من أهل الشام يقرأون بالرومية، فإذا هو مكتوب هذا البيت [الشعر].

وذكر أبوعمرو الزاهد في كتاب الياقوت قال: قال عبداللّه

بن الصفّار صاحب أبي حمزة الصوفي: غزونا غزاة وسبينا سبياً، وكان فيهم شيخ من عقلاء النصارى، فأكرمناه وأحسنّا إليه، فقال لنا: أخبرني أبي، عن آبائه أنهم حضروا في بلاد الروم حضراً قبل أن يُبعث النبيّ العربي بثلاثمائة سنة، فأصابوا حجراً عليه مكتوب بالمسند هذا البيت من الشعر:

أترجو عصبة قتلت حسيناً شفاعة جدّه يوم الحساب

والمسند كلام أولاد شيث.». «1»

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ومصاب الحسين عليه السلام ..... ص : 47

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله كلّما ذكر ما يجري على الإمام الحسين عليه السلام من المصائب الفادحة حزن واغتمّ وبكى وأبكى من حوله، منذ أن بشّرته الملائكة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 48

بالحسين عليه السلام، ثمّ منذ اليوم الأوّل من حياة الإمام الحسين عليه السلام إلى آخر أيّامه صلى الله عليه و آله، والمأثور المرويّ في هذا الصدد كثير متنوّع انتقينا منه نماذج على سبيل المثال تبرّكاً، وهي:

1) روى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن الإمام أبي عبداللّه الصادق عليه السلام أنه قال:

«أتى جبرئيل رسول اللّه فقال له: السلام عليك يا محمّد، ألا أُبشرّك بغلام تقتله أمّتك من بعدك؟

فقال: لاحاجة لي فيه.

قال: فانتهض إلى السماء، ثمّ عاد إليه الثانية فقال له مثل ذلك.

فقال: لاحاجة لي فيه.

فانعرج إلى السماء، ثمّ انقضّ إليه الثالثة فقال له مثل ذلك.

فقال: لاحاجة لي فيه.

فقال: إنّ ربّك جاعل الوصيّة في عقبه.

فقال: نعم.

ثمّ قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله فدخل على فاطمة فقال لها: إنّ جبرئيل أتاني فبشّرني بغلام تقتله أمّتي من بعدي!

فقالت: لاحاجة لي فيه.

فقال لها: إنّ ربّي جاعل الوصيّة في عقبه.

فقالت: نعم إذن.

قال فأنزل اللّه تعالى عند ذلك هذه الآية: «حملته أمّه كُرهاً ووضعته كُرهاً» لموضع إعلام جبرئيل إيّاها بقتله، «فحملته كرهاً» بأنّه مقتول، و «ووضعته كرهاً» لأنّه مقتول.». «1»

مع الركب

الحسينى (ج 4)، ص: 49

2) وروى ابن قولويه (ره) أيضاً بسندٍ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لمّا حملت فاطمة بالحسين عليه السلام جاء جبرئيل إلى رسول اللّه فقال: إنّ فاطمة ستلد ولداً تقتله أمّتك من بعدك. فلمّا حملت فاطمة الحسين كرهت حمله، وحين وضعته كرهت وضعه.

ثمّ قال أبوعبداللّه عليه السلام: هل رأيتم في الدنيا أُمّاً تلد غُلاماً فتكرهه!؟ ولكنها كرهته لأنها علمت أنّه سيُقتل.

قال: وفيه نزلت هذه الآية: «ووصّينا الإنسان بوالديه حُسناً، حملته أُمُّه كُرهاً ووضعته كُرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً «1»

.». «2»

3) قال الشيخ ابن نما (ره): «وقد روي عن زوجة العبّاس بن عبدالمطّلب وهي أمُّ الفضل «لبابة بنت الحارث» قالت: رأيت في النوم قبل مولده كأنّ قطعة من لحم رسول اللّه صلى الله عليه و آله قُطعت ووضعت في حجري، فقصصت الرؤيا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: إن صدقت رؤياك فإنّ فاطمة ستلد غلاماً وأدفعه إليك لترضعيه. «3»

فجرى الأمر على ذلك، فجئت به يوماً فوضعته في حجره فبال، فقطرت منه قطرة على ثوبه صلى الله عليه و آله، فقرصته فبكى.

فقال كالمغضَب: مهلًا يا أمّ الفضل، فهذا ثوبي يُغسل، وقد أوجعتِ إبني! قالت فتركته ومضيت لآتيه بماء، فجئت فوجدته صلى الله عليه و آله يبكي، فقلت: ممّ بكاؤك يا رسول اللّه؟ فقال: إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ أمّتي تقتل ولدي هذا!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 50

4) وأخرج الشيخ الطوسي (ره) بسند عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام قال:

«حدثتني أسماء بنت عميس الخثعمية قالت: قبلتُ جدّتك فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالحسن والحسين عليهما السلام. قالت: فلمّا ولدت الحسن عليه السلام جاء النبيّ صلى الله

عليه و آله فقال: يا أسماء هاتي ابني. قالت: فدفعته إليه في خرقة صفراء، فرمى بها وقال: ألم أعهد إليكنّ ألّا تلفّوا المولود في خرقة صفراء!؟

ودعا بخرقة بيضاء فلفّه فيها، ثمّ أذنّ في أُذنه اليمنى، وأقام في أُذنه اليسرى، وقال لعليّ عليه السلام: بمَ سمّيتَ إبنك هذا؟ قال: ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول اللّه. قال: وأنا ما كنت لأسبق ربّي عزّ وجلّ.

قال فهبط جبرئيل فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمّد، عليٌّ منك بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لانبيّ بعدك، فسمِّ إبنك باسم ابن هارون. قال النبيّ صلى الله عليه و آله: يا جبرئيل، وما اسم ابن هارون؟ قال: جبرئيل: شُبّر. قال: وما شُبّر؟ قال:

الحسن. قالت أسماء: فسمّاه الحسن.

قالت أسماء: فلمّا ولدت فاطمة الحسين عليهما السلام نفّستها به، فجاءني النبيّ صلى الله عليه و آله قال:

هلمّي إبني يا أسماء. فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسن عليه السلام، قالت:

وبكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ثمّ قال: إنّه سيكون لك حديث! أللّهمّ العن قاتله، لاتُعلمي فاطمة بذلك.

قالت: فلمّا كان يومه سابعه جاءني النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: هلمّي إبني.

فأتيته به، ففعل به كما فعل بالحسن عليه السلام، وعقّ عنه كما عقّ عن الحسن كبشاً أملح، وأعطى القابلة رِجلًا، وحلق رأسه، وتصدّق بوزن الشعر وَرِقاً، «1» وخلّق رأسه بالخَلُوق، «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 51

وقال: إنّ الدّم من فعل الجاهليّة. قالت: ثمّ وضعه في حجره، ثمّ قال: يا أباعبداللّه، عزيزٌ عليَّ! ثمّ بكى. فقلت: بأبي أنت وأمّي، فعلت في هذا اليوم وفي اليوم الأوّل، فما هو؟ فقال:

أبكي على إبني هذا، تقتله فئة باغية كافرة

من بني أميّة، لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامه، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر باللّه العظيم. ثمّ قال: أللّهمّ إنّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم في ذريّته، أللّهمّ أَحبهما، وأحبَّ من يُحبّهما، والعن من يبغضهما مل ء السماء والأرض.». «1»

5) وروى فرات الكوفي (ره) عن جعفر بن محمّد الفزاري معنعناً، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «كان الحسين مع أُمّه تحمله، فأخذه النبيّ صلى الله عليه و آله وقال: لعن اللّه قاتلك، ولعن اللّه سالبك، وأهلك اللّه المتوازرين عليك، وحكم اللّه بيني وبين من أعان عليك.

قالت فاطمة الزهراء: يا أبتِ! أيّ شي ء تقول؟

قال: يا بنتاه، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي، وهو يومئذٍ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم، وإلى موضع رحالهم وتربتهم!

قالت: يا أبه! وأين هذا الموضع الذي تصف؟

قال: موضع يقال له كربلاء، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمة (الأئمة) يخرج عليهم شرار أمّتي، لو أنّ أحدهم شفع له من في السموات والأرضين ما شفّعوا فيه، وهم المخلّدون في النار!

قالت: يا أبه! فيُقتلُ!؟

قال: نعم يا بنتاه! وما قُتل قتلته أحدٌ كان قبله، ويبكيه السموات والأرضون،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 52

والملائكة، والوحش، والنباتات، والبحار، والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفّس، ويأتيه قوم من محبّينا ليس في الأرض أعلم باللّه ولا أقوم بحقّنا منهم، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً، أعرفهم إذا وردوا عليَّ بسيماهم، وكلُّ أهل دين يطلبون أئمّتهم، وهم يطلبوننا لايطلبون غيرنا، وهم قُّوام الأرض، وبهم ينزل الغيث.

فقالت فاطمة الزهراء عليها السلام: يا أبه! إنّا للّه! وبكت.

فقال لها: يا

بنتاه! إنّ أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا، بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقّاً، فما عند اللّه خير من الدنيا وما فيها، قتلة أهون من ميتة، ومن كُتب عليه القتل خرج إلى مضجعه، ومن لم يُقتل فسوف يموت.

يا فاطمة بنت محمّد! أما تحبّين أن تأمرين غداً بأمر فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون إبنك من حملة العرش؟ أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة؟

أما ترضين أن يكون بعلُك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟ أما ترضين أن يكون بعلُك قسيم النار! يأمر النار فتطيعه! يُخرج منها من يشاء ويترك من يشاء!

أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وإلى ما تأمرين به، وينظرون إلى بعلك قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند اللّه، فما ترين اللّه صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعلك إذا أفلجت حجّته على الخلائق وأُمرت النار أن تطيعه؟

أما ترضين أن يكون الملائكة تبكي لابنك، ويأسف عليه كلّ شي ء؟ أما ترضين أن يكون من أتاه زائراً في ضمان اللّه، ويكون من أتاه بمنزلة من حجّ إلى بيت اللّه واعتمر، ولم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 53

يخل من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً، وإنْ بقي لم تزل الحفظة تدعوا له ما بقي، ولم يزل في حفظ اللّه وأمنه حتى يفارق الدنيا؟

قالت: يا أبه، سلّمتُ، ورضيتُ، وتوكّلت على اللّه.

فمسح على قلبها ومسح عينيها، وقال: إنّي وبعلك وأنت وإبنيك في مكان تقرّ عيناك ويفرح قلبك.». «1»

6) وروى الشيخ ابن نما (ره) قائلًا: «وعن عبداللّه بن يحيى قال: دخلنا مع عليّ عليه السلام إلى

صفّين، فلمّا حاذى نينوى نادى: صبراً أبا عبداللّه، فقال: دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعيناه تفيضان!

فقلت: بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه، مالعينيك تفيضان؟ أغضبك أحد؟

قال: لا، بل كان عندي جبرئيل فأخبرني أنّ الحسين يُقتل بشاطي ء الفرات، فقال: هل لك أن أشمّك من تربته؟ قلت: نعم. فمدَّ يده فأخذ قبضة من تراب وأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا، وإسم الأرض كربلاء.

فلمّا أتت عليه سنتان خرج النبيّ صلى الله عليه و آله (مع سفر) إلى سفر فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه! فسئل عن ذلك.

فقال: هذا جبرئيل يخبرني عن أرض بشطّ الفرات يُقال لها كربلاء يُقتل فيها ولدي الحسين.

فقيل: ومن يقتله!؟

قال: رجل يقال له يزيد، كأنّي أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكأنّي أنظر على أقتاب المطايا وقد أُهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد لعنه اللّه، فواللّه ما ينظر أحد إلى

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 54

رأس الحسين ويفرح إلّا خالف اللّه بين قلبه ولسانه، وعذّبه اللّه عذاباً أليما.

ثمّ رجع النبيّ من سفره مغموماً مهموماً كئيباً حزيناً، فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين، وخطب ووعظ الناس، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين، ورفع رأسه إلى السماء وقال:

أللّهمّ إنّ محمّداً عبدك ورسولك ونبيّك، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيتي وأرومتي، ومن أخلّفهما في أمّتي، وقد أخبرني جبرئيل أنّ ولدي هذا مقتول بالسم، والآخر شهيد مضرّج بالدم، أَللّهمّ فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشهداء، أللّهمّ ولاتبارك في قاتله وخاذله، وأصلِهِ حرَّ نارك واحشره في أسفل درك الجحيم.

قال فضجّ الناس بالبكاء والعويل!

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: أأتبكون ولاتنصرونه!؟ أَللّهمّ فكن أنت له وليّاً وناصراً.

ثم

قال: ياقوم، إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي وأرومتي ومزاج مائي، وثمرة فؤادي، ومهجتي، لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، ألا وإنّي لا أسألكم في ذلك إلّا ما أمرني ربّي أن أسألكم عنه، أسألكم عن المودّة في القربى، واحذروا أن تلقوني غداً على الحوض وقد آذيتم عترتي وقتلتم أهل بيتي وظلمتموهم.

ألا إنّه سيرد عليَّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمّة:

الأولى: راية سوداء مظلمة قد فزعت منها الملائكة، فتقف عليَّ فأقول لهم: من أنتم؟

فينسون ذكري! ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب. فأقول لهم: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم. فيقولون: نحن من أمّتك. فأقول: كيف خلفتموني من بعدي في أهل بيتي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فضيّعناه! وأمّا العترة فحرصنا أن نبيدهم عن جديد الأرض. فلمّا أسمع ذلك منهم أعرض عنهم وجهي، فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية أخرى أشدّ سواداً من الأولى، فأقول لهم: كيف خلفتموني من بعدي في

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 55

الثقلين كتاب اللّه وعترتي؟

فيقولون: أمّا الأكبر فخالفناه! وأمّا الأصغر فمزّقناهم كل ممزّق! فأقول: إليكم عني.

فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية تلمع وجوههم نوراً فأقول لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى من أمّة محمّد المصطفى، ونحن بقيّة أهل الحق، حملنا كتاب ربّنا، وحلّلنا حلاله، وحرّمنا حرامه، وأحببنا ذريّة نبيّنا محمّد، ونصرناهم من كلّ ما نصرنا به أنفسنا، وقاتلنا معهم من ناواهم. فأقول لهم: أبشروا، فأنا نبيّكم محمّد، ولقد كنتم في الدنيا كما قلتم، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مروييّن مستبشرين، ثم يدخلون الجنّة خالدين فيها أبد الآبدين.». «1»

7) روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن ابن عباس قال: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان جالساً

ذات يوم إذ أقبل الحسن عليه السلام، فلّما رآه بكى! ثمّ قال: إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليمنى.

ثمّ أقبل الحسين عليه السلام، فلمّا رآه بكى! ثم قال: إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يُدينه حتى أجلسه على فخذه اليسرى.

ثمَّ أقبلت فاطمة عليها السلام، فلمّا رآها بكى! ثمّ قال: إليَّ إليَّ يا بُنيّة. فأجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام، فلمّا رآه بكى! ثمّ قال: إليَّ يا أخي. فما زال يُدنيه حتّى أجلسه إلى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه: يا رسول اللّه، ما ترى واحداً من هؤلاء إلّا بكيت! أَوَ ما فيهم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 56

مَن تُسَرُّ برؤيته!؟

فقال صلى الله عليه و آله: والذي بعثني بالنبوّة واصطفاني على جميع البريّة، إني وإيّاهم لأكرم الخلق على اللّه عزّ وجلّ، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليَّ منهم، أمّا عليّ بن أبي طالب عليه السلام ...

وأمّا الحسين فإنّه منّي، وهو ابني وولدي وخير الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين، ومولى المؤمنين، وخليفة ربّ العالمين، وغياث المستغيثين، وكهف المستجيرين، وحجّة اللّه على خلقه أجمعين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وباب نجاة الأمّة، أمره أمري، وطاعته طاعتي، من تبعه فإنّه مني، ومن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا رأيته تذكّرت ما يُصنع به بعدي، كأنّي به وقد استجار بحرمي وقربي فلايُجار! فأضمّه في منامه إلى صدري، وآمره بالرحلة عن دار هجرتي، وأبشّره بالشهادة فيرتحل عنها إلى أرض مقتله وموضع مصرعه أرض كرب وبلاء، وقتل وفناء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك من سادة شهداء أمّتي يوم القيامة، كأنّي أنظر إليه وقد رُمي بسهمٍ فخرّ عن فرسه صريعاً، ثمّ يُذبح كما يُذبح الكبش مظلوماً.

ثم بكى رسول

اللّه صلى الله عليه و آله، وبكى من حوله، وارتفعت أصواتهم بالضجيج! ثمّ قام صلى الله عليه و آله وهو يقول: أللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي! ثمّ دخل منزله.». «1»

8) «وروي عن عبداللّه بن عبّاس (رض) أنه قال: لمّا اشتدّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله مرضه الذي مات فيه، وقد ضمَّ الحسين عليه السلام إلى صدره، يسيل من عرقه عليه، وهو يجود بنفسه ويقول: مالي وليزيد!؟ لابارك اللّه فيه، أَللّهمَّ العن يزيد.

ثمّ غشي عليه طويلًا، وأفاق وجعل يقبّل الحسين وعيناه تذرفان، ويقول: أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي اللّه عزّ وجلّ.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 57

أميرالمؤمنين عليٌّ عليه السلام ومصاب الحسين عليه السلام ..... ص : 57

وكما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعيش مأتماً متواصلًا ويكابد حزناً شديداً وجزعاً عظيماً ويبكي بكاءً مُرّاً ويُبكي من حوله لما سوف يُصيب الإمام الحسين عليه السلام من عظيم البلاء، كذلك كان أميرالمؤمنين عليه السلام، وإنَّ المأثور عنه عليه السلام في ذلك لكثير، لكننا لايسعنا هنا أيضاً إلّا أن ننتقي منه نماذج على سبيل المثال تبركاً:

1) روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن الأصبغ بن نُباتة (ره) قال: «خرج علينا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم ويده في يد إبنه الحسن عليه السلام وهو يقول: خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذات يوم ويدي في يده هكذا وهو يقول: خير الخلق بعدي وسيّدهم أخي هذا، وهو إمام كلّ مسلم، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي.

ألّا وإنّي أقول: خير الخلق بعدي، وسيّدهم إبني هذا، وهو إمام كلّ مؤمن، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي، ألا وإنه سيُظلم بعدي كما ظُلمتُ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و

آله، وخير الخلق وسيّدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه، المقتول في أرض كربلاء، إما إنّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة ...». «1»

2) وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسند عن جبلة المكيّة قالت: سمعت ميثم التمّار يقول: «واللّه لتقتلن هذه الأمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشر مضين منه، وليتخذنّ أعداء اللّه ذلك اليوم يوم بركة، وإنّ ذلك لكائن قد سبق في علم اللّه تعالى ذكره، أعلم ذلك بعهد عهده إليَّ مولاى أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه، ولقد أخبرني أنه يبكي عليه كلّ شي ء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار، والطير في جوّ السماء، وتبكي عليه الشمس، والقمر، والنجوم، والسماء، والأرض،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 58

ومؤمنو الإنس والجنّ، وجميع ملائكة السموات ورضوان ومالك، وحملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً، ثمّ قال: وجبت لعنة اللّه على قتلة الحسين عليه السلام كما وجبت على المشركين الذين يجعلون مع اللّه إلهاً آخر، وكما وجبت على اليهود والنصارى والمجوس.

قالت جبلة: فقلت: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناس ذلك اليوم الذي يُقتل فيه الحسين بن عليّ عليهما السلام يوم بركة!؟

فبكى ميثم، ثم قال: سيزعمون بحديث يضعونه أنه اليوم الذي تاب اللّه فيه على آدم عليه السلام، وإنّما تاب اللّه على آدم عليه السلام في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي قبل اللّه فيه توبة داود، وإنّما قبل اللّه توبته في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي أخرج اللّه فيه يونس من بطن الحوت، وإنّما أخرجه اللّه من بطن الحوت في ذي القعدة، ويزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجوديّ، وإنّما استوت على الجوديّ يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي فلق اللّه

فيه البحر لبني إسرائيل، وإنما كان ذلك في شهر ربيع الأوّل.

ثم قال ميثم: يا جبلة: إعلمي أنّ الحسين بن عليّ سيّد الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة، يا جبلة إذا نظرتِ إلى الشمس حمراء كأنها دم عبيط فاعلمي أنّ سيّدك الحسين قد قُتل!

قالت جبلة: فخرجت ذات يوم فرأيت الشمس على الحيطان كأنها الملاحف المعصفرة! فصحت حينئذٍ وبكيتُ، وقلت قد واللّه قُتل سيّدنا الحسين بن عليّ عليه السلام.». «1»

3) وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسندٍ عن ابن عبّاس قال:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 59

«كنت مع أميرالمؤمنين عليه السلام في خروجه (في خرجته) إلى صفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو شطّ الفرات قال بأعلى صوته: يا ابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟ قلت له: ما أعرفه يا أميرالمؤمنين. فقال عليه السلام: لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي.

قال فبكى طويلًا حتّى اخضلّت لحيته وسالت الدموع على صدره! وبكينا معاً، وهو يقول: أوه أوه! مالي ولآل أبي سفيان!؟ مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر!؟ صبراً يا أبا عبداللّه! فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم!

ثمّ دعا بماءٍ فتوضّأ وضوءه للصلاة، فصلّى ما شاء اللّه أن يصلّي، ثمّ ذكر نحو كلامه الأوّل، إلّا أنّه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة، ثمّ انتبه، فقال: يا ابن عبّاس! فقلت: ها أنا ذا؟

فقال: ألا أحدّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي؟

فقلت: نامت عيناك ورأيتَ خيراً يا أميرالمؤمنين!

قالت: رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء، معهم أعلام بيض، قد تقلّدوا سيوفهم وهى بيض تلمع، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة، ثمّ رأيت كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدمٍ عبيط، وكأنّي بالحسين سُخيلي وفرخي ومضنّتي ومخّي

قد غرق فيه يستغيث فلا يُغاث، وكأنّ الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون:

صبراً آلَ الرسول! فإنّكم تقتلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنّة يا أبا عبدالله إليك مشتاقة! ثمّ يعزّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشر فقد أقرّ اللّه به عينك يوم القيامة يوم يقوم النّاس لربّ العالمين. ثمّ انتبهتُ!

وهكذا والذي نفس عليّ بيده، لقد حدّثني الصادق المصدّق أبوالقاسم صلى الله عليه و آله أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء، يُدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلًا من ولدي وولد فاطمة، وإنها لفي السموات معروفة تذكر أرض كرب وبلاء، كما تُذكر بقعة الحرمين، وبقعة بيت المقدس.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 60

ثمّ قال: يا ابن عبّاس، أطلب لي حولها بعر الظباء، فواللّه ما كذبت ولاكُذبت، وهي مصفّرة لونها لون الزعفران!

قال ابن عباس فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته: يا أميرالمؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي!

فقال عليُّ عليه السلام: صدق اللّه ورسوله. ثمّ قام عليه السلام يهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال: هي هي بعينها! أتعلُم يا ابن عبّاس ما هذا الأبعار؟

هذه قد شمّها عيسى بن مريم عليه السلام! وذلك أنّه مرّ بها ومعه الحواريّون فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي، فجلس عيسى عليه السلام وجلس الحواريّون معه فبكى وبكى الحواريّون وهم لايدرون لمَ جلس ولَمَ بكى!

فقالوا: يا روح اللّه وكلمته، ما يبكيك!؟

قال: أتعلمون أيّ أرض هذه؟

قالوا: لا!

قال: هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد، وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول إنها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك!

وزعمت أنّها آمنة

في هذه الأرض! ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها! أَلّلهمَّ فأبقها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة.

قال: فبقيت إلى يوم الناس هذا! وقد اصفرّت لطول زمنها، وهذه أرض كرب وبلاء.

ثمّ قال بأعلى صوته: يا ربّ عيسى بن مريم، لاتبارك في قَتَلَتِه، والمعين عليه، والخاذل له.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 61

ثمّ بكى بكاءً طويلًا وبكينا معه، حتّى سقط لوجهه وغشي عليه طويلًا! ثمّ أفاق فأخذ البعر فصرَّهُ في ردائه، وأمرني أن أصرّها كذلك، ثم قال: يا ابن عبّاس، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً ويسيل منها دم عبيط فاعلم أنّ أبا عبداللّه قد قُتل بها ودُفن.

قال ابن عبّاس: فواللّه لقد كنت أحفظها أشدّ من حفظي لبعض ما افترض اللّه عزّ وجلّ عليَّ وأنا لا أحلّها من طرف كُمّي، فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهتُ فإذا هي تسيل دماً عبيطاً، وكان كُمّي قد امتلأ دماً عبيطاً، فجلست وأنا باكٍ وقلت: قد قُتل واللّه الحسين! واللّه ماكذبني عليٌّ قطّ في حديث حدّثني، ولاأخبرني بشي ء قطّ أنّه يكون إلّا كان كذلك، لأنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يخبره بأشياء لايخبر بها غيره.

ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر، فرأيتُ واللّه المدينة كأنّها ضبابٌ لايستبين منها أثر عين، ثمّ طلعت الشمس فرأيت كأنها منكسفة، ورأيت كأنّ حيطان المدينة عليها دم عبيط! فجلست وأنا باكٍ فقلت: قد قتل واللّه الحسين! وسمعت صوتاً من ناحية البيت وهو يقول:

إصبروا آلَ الرسول قُتل الفرخ النحول

نزل الروح الأمين ببكاء وعويل

ثمّ بكى بأعلى صوته وبكيتُ، فأثبتُّ عندي تلك الساعة، وكان شهر المحرّم يوم عاشوراء لعشر مضين منه، فوجدته قُتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه

كذلك، فحدّثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه، فقالوا: واللّه لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ولاندري ماهو فكنّا نرى أنّه الخضر عليه السلام.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 62

3) وأخرج أبونعيم الأصبهاني عن الأصبغ بن نُباتة قال: «أتينا مع عليّ عليه السلام موضع قبر الحسين عليه السلام فقال: «هاهنا مناخ ركابهم وموضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمّد صلى الله عليه و آله يُقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السماء والأرض.». «1»

4) وأخرج الراوندي في الخرائج عن أبي سعيد عقيصا قال: «خرجنا مع عليّ عليه السلام نريد صفّين، فمررنا بكربلاء فقال: هذا موضع قبر الحسين عليه السلام وأصحابه.». «2»

5) وقال عليٌّ عليه السلام للبراء بن عازب: «يابراء! يُقتل ابني الحسين وأنت حيٌّ لاتنصره.». فلمّا قُتل الحسين عليه السلام كان البراء بن عازب يقول: صدق واللّه عليّ بن أبي طالب، قُتل الحسين ولم أنصره. ثمّ أظهر على ذلك الحسرة والندم.». «3»

6) وروى الشيخ ابن قولويه (ره) بسند عن أبي عبداللّه الجدلي قال:

«دخلت على أميرالمؤمنين عليه السلام والحسين إلى جنبه، فضرب بيده على كتف الحسين، ثمّ قال: إنّ هذا يُقتل ولاينصره أحدٌ!

قال: قلت: يا أميرالمؤمنين، واللّه إنّ تلك لحياة سوء!

قال: إنّ ذلك لكائن.». «4»

7) «وروي عن أبي جعفر، عن أبيه عليهما السلام قال: مرَّ عليٌّ بكربلاء فقال لمّا مرَّ

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 63

به أصحابه وقد أغرورقت عيناه يبكي ويقول: هذا مناخ ركابهم، وهذا مُلقى رحالهم، هاهنا مُراق دمائهم، طوبى لك من تربة عليها تُراق دماء الأحبّة!

وقال الباقر عليه السلام: خرج عليٌّ يسير بالنّاس حتّى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل تقدّم بين أيديهم حتى طاف بمكان يُقال له المقذفان، فقال: قُتل فيها مائتا نبيّ

ومائتا سبط كلّهم شهداء، ومناخ ركاب ومصارع عشّاق شهداء لايسبقهم من كان قبلهم ولايلحقهم من بعدهم.». «1»

إخبارات الإمام الحسين عليه السلام بمقتله قبل قيامه ..... ص : 63

إنّ إخبارات الإمام الحسين عليه السلام بمصرعه ومصرع أصحابه، وزمان ومكان هذا المصرع بعد أن أعلن عن قيامه ورفضه لبيعة يزيد أمام والي المدينة آنذاك الوليد بن عتبة كثيرة مبثوثة في لقاءاته ومحاوراته، خصوصاً في المدّة الممتدّة من قبيل رحيله عن مكة إلى ساعة استشهاده عليه السلام.

لكنّ الإمام الحسين عليه السلام كان قبل قيامه قد تحدّث وأخبر عن مصرعه وعن قاتله، منذ أن كان طفلًا صغيراً، ولم يزل يواصل الإخبار عن استشهاده إلى أواخر أيّام ما قبل الإعلان عن قيامه، ومن هذه الأخبار:

1) عن حذيفة بن اليمان قال: «سمعتُ الحسين بن عليّ يقول: واللّه ليجتمعنّ على قتلي طغاة بني أميّة، ويقدمهم عمر بن سعد. وذلك في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله! فقلتُ: أنبّأك بهذا رسول اللّه؟ قال: لا.

فأتيتُ النبيّ فأخبرته فقال: علمي علمه، وعلمه علمي، وإنّا لنعلم بالكائن قبل كينونته.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 64

2) وروي أنّ عمر بن سعد قال للحسين عليه السلام: «يا أبا عبداللّه، إنّ قِبَلَنا ناساً سفهاء يزعمون أَنّي أقتلك!

فقال له الحسين عليه السلام: إنّهم ليسوا بسفهاء، ولكنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عيني أن لاتأكل من برّ العراق بعدي إلّا قليلًا.». «1»

3) وروى الشيخ ابن قولويه (ره) بسند عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبيه عليه السلام، عن جدّه عليه السلام، عن الإمام الحسين عليه السلام أنه قال: «والذي نفس حسين بيده لايهنّي ء بني أميّة ملكهم حتى يقتلوني، وهم قاتليّ، فلو قد قتلوني لم يصلّوا جميعاً أبداً، ولم يأخذوا عطاءً في سبيل اللّه جميعاً أبداً، إنّ أوّل قتيل هذه الأمّة أنا وأهل

بيتي، والذي نفس حسين بيده لاتقوم الساعة وعلى الأرض هاشميٌّ يطرف.». «2»

4) وروى (ره) أيضاً بسند عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً قال: «قال الحسين بن عليّ عليهما السلام: أنا قتيل العبرة، لايذكرني مؤمنٌ إلّا استعبر.». «3»

لماذا كان الإخبار بمقتله عليه السلام؟ ..... ص : 64

«إنَّ أخبار الملاحم والفتن المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام عامة وعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله خاصة فضلًا عن أنّها تؤكّد على أنّ علم هؤلاء المصطفين الأخيار عليهم السلام علمٌ لدنيٌّ ربّانيٌّ كاشف عن مكانتهم الإلهية الخاصة المنصوص عليها من قبل اللّه تعالى، تؤكّد أيضاً على مدى حرصهم الكبير على رعاية هذه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 65

الأمّة وإنقاذها من هلكات مدلهمّات الفتن التي أحاطت بها منذ بداية التيه في يوم السقيفة.

لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعلم مدى الإنحراف الذي سيصيب الأمّة من بعده ويلقي بها في متاهات تنعدم فيها القدرة على الرؤية السديدة إلّا على قلّة من ذوي البصائر، ويصعب فيها تشخيص الحقّ من الباطل إلّا على من تمسّك بعروة الثقلين، وكان صلى الله عليه و آله يعلم خطورة حالة الشلل النفسي والإزدواجية في الشخصية التي ستتعاظم في الأمة من بعده حتى لايكاد ينجو منها إلّا أقلّ القليل.

لذا لم يألُ صلى الله عليه و آله جهداً في تبيان سبل الوقاية والنجاة من تلك الهلكات، ومن جملة تلك السبل سبيل إخبار الأمّة بملاحمها وبالفتن التي ستتعرّض لها إلى قيام الساعة، فكشف لها صلى الله عليه و آله عن كلّ الملاحم والفتن، وأوضح لها مزالق وعثرات الطريق إلى أن تنقضي الدنيا، يقول حذيفة بن اليمان (ره): واللّه ما ترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا

بلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلّا قد سمّاه لنا بإسمه وإسم أبيه وإسم قبيلته! «1»

وذلك لكي لاتلتبس على الأمّة الأمور، ولاتقع في خطأ الرؤية أو انقلابها فترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً! «2» إضافة إلى ما يتضمّنه بيان الملاحم للأمّة من دعوة إلى نصرة صفّ الحق وخذلان صفّ الباطل بعد تشخيص كلٍّ من الصفَّين.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 66

وقد اختُصَّ قتل الحسين عليه السلام بنصيب وتركيز أكبر في الإخبارات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه و آله وعن أميرالمؤمنين عليه السلام، وذلك لعظيم حرمة الإمام الحسين عليه السلام، ولنوع مصرعه المفجع ومصارع أنصاره، ولشدّة مصابهما بتلك الوقعة الفظيعة والرزيّة العظيمة، «1» ولأهميّة واقعة عاشوراء بلحاظ مايترتّب عليها من حفظ الإسلام وبقائه، ولأهميّة المثوبة العظيمة والمنزلة الرفيعة المترتّبة على نصرة الحسين عليه السلام، واللعنة الدائمة والعقوبة الكبيرة التي تلحق من يقاتله ويخذله.

ولعلّ قرب عاشوراء الزمني من عهد النبيّ صلى الله عليه و آله وعليّ عليه السلام عامل أيضاً من عوامل هذا التركيز، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله ووصيّه عليه السلام يعلمان أنَّ جماعة غير قليلة من الصحابة والتابعين سوف يدركون يوم عاشوراء، فالتركيز على الإخبار بمقتله عليه السلام ومخاطبة هؤلاء مخاطبة مباشرة بذلك يؤثّران التأثير البالغ في الدعوة إلى نصرته عليه السلام، والتحذير من الإنتماء إلى صف أعدائه، مع ما في ذلك من إتمام الحجّة على هؤلاء الناس آنئذٍ، ولذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يخاطب الباكين معه لبكائه على الحسين عليه السلام خطاباً مباشراً فيقول لهم: «أيها الناس، أتبكونه ولاتنصرونه!؟»، «2»

ويخاطب عليٌّ عليه السلام البراء بن عازب قائلًا: «يا براء، يُقتل ابني الحسين وأنت حيٌّ لاتنصره». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 67

وفي المقابل

فقد انتفع بهذا الإخبار جمع من أهل الصدق والإخلاص من الصحابة والتابعين، فقد روى الصحابيّ الجليل أنس بن الحارث رضوان اللّه تعالى عليه عن النبيّ عليه السلام أنه قال: «إنّ ابني هذا- وأشار إلى الحسين- يُقتل بأرض يُقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره.»، ولمّا خرج الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء خرج معه الصحابي الجليل أنس بن الحارث رضوان اللّه تعالى عليه، واستشهد بين يدي الحسين عليه السلام. «1»

ولعلّ سرّ التحوّل في موقف زهير بن القين رضوان اللّه تعالى عليه ما كان يحفظه من قول سلمان الفارسيّ رضوان اللّه تعالى عليه وإخباره عن بشرى نصرة الإمام الحسين عليه السلام، يقول زهير: «سأحدّثكم حديثاً، إنّا غزونا البحر ففتح اللّه علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسي رحمه اللّه: أفرحتم بما فتح اللّه عليكم وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد صلى الله عليه و آله فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم». «2»

و «قال العريان بن الهيثم: كان أبي يتبدّى، «3» فينزل قريباً من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين، فكنّا لانبدوا إلّا وجدنا رجلًا من بني أسدٍ هناك.

فقال له أبي: أراك ملازماً هذا المكان؟؟

قال: بلغني أنّ حسيناً يُقتل هاهنا، فأنا أخرج إلى هذا المكان لعلّي أُصادفه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 68

فأُقتل معه!! قال ابن الهيثم: فلمّا قُتل الحسين قال أبي: انطلقوا بنا ننظر هل الأسديُّ فيمن قُتل مع الحسين؟ فأتينا المعركة وطوّفنا فإذا الأسديّ مقتول!». «1»». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 71

الفصل الثاني: الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء ..... ص : 71

من اليوم الثاني من المحرّم سنة 61 ه ق حتّى فجر اليوم العاشر ..... ص : 71
اشارة

نزل الركب الحسينيّ أرض كربلاء في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين للهجرة، وكان ذلك في يوم الخميس، على ماهو المشهور القويّ. «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)،

ص: 72

وروي أنّ فرس الإمام الحسين عليه السلام عند وصوله أرض كربلاء وقفت ممتنعة عن الحركة فلم تنبعث خطوة واحدة، «فنزل عنها وركب أخرى فلم تنبعث خطوة واحدة! ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتى ركب سبعة أفراس وهنّ على هذه الحال! فلمّا رأى ذلك قال: يا قوم، ما اسم هذه الأرض؟

قالوا: أرض الغاضرية.

قال: فهل لها إسم غير هذا؟

قالوا: تُسمّى نينوى.

قال: أَهَلْ لها إسم غير هذا؟

قالوا: شاطى ء الفرات.

قال: أَهَلْ لها إسم غير هذا؟

قالوا: تسمّى كربلاء!

فعند ذلك تنفّس الصعداء! وقال: أرض كرب وبلاء! ثمّ قال: إنزلوا، هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تُسفك دماؤنا، هاهنا واللّه تُهتك حريمنا، هاهنا واللّه تُقتل رجالنا، هاهنا واللّه تُذبح أطفالنا، هاهنا واللّه تُزار قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ولاخُلف لقوله. ثمّ نزل عن فرسه!». «1»

وفي رواية: «ثمّ قال الحسين: ما يُقال لهذه الأرض؟

فقالوا: كربلاء ويُقال لها أرض نينوى قرية بها.

فبكى وقال: كرب وبلاء! أخبرتني أمّ سلمة قالت: كان جبرئيل عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 73

وأنت معي، فبكيتَ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: دعي ابني. فتركتك، فأخذك ووضعك في حجره، فقال جبرئيل: أتحبّه؟ قال: نعم. قال: فإنّ أُمّتك ستقتله! قال: وإنْ شئتَ أنْ أُريك تربة أرضه التي يُقتل فيها. قال: نعم. قالت: فبسط جبرئيل جناحه على أرض كربلاء فأراه إيّاها.». «1»

«فلمّا قيل للحسين هذه أرض كربلا شمّها (وفي رواية: قبض منها قبضة فشمّها) وقال: هذه واللّه هي الأرض التي أخبربها جبرئيل رسول اللّه، وأنّني أُقتل فيها!». «2»

وفي رواية ابن أعثم الكوفي أنّ الإمام عليه السلام لمّا نزل كربلاء «أقبل إلى أصحابه فقال لهم: أهذه كربلاء؟

قالوا: نعم.

فقال الحسين

لأصحابه: إنزلوا، هذا موضع كرب وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، وسفك دمائنا!

قال فنزل القوم، وحطّوا الأثقال ناحية من الفرات، وضُربت خيمة الحسين لأهله وبنيه، وضرب عشيرته خيامهم من حول خيمته.». «3»

وفي رواية السيّد ابن طاووس (ره): «فلمّا وصلها قال: ما اسم هذه الأرض؟

فقيل: كربلاء.

فقال عليه السلام: أللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء! ثمّ قال: هذا موضع كرب وبلاء إنزلوا، هاهنا محطّ رحالنا ومسفك دمائنا، وهنا محلّ قبورنا! بهذا حدّثني جدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله! فنزلوا جميعاً.». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 74

وأقبل الحرُّ بن يزيد حتّى نزل حذاء الحسين عليه السلام في ألف فارس ثمّ كتب إلى عبيداللّه بن زياد يخبره أنّ الحسين عليه السلام نزل بأرض كربلاء. «1»

إشارة رقم 1: ..... ص : 74

قال المرحوم السيّد المقرّم (ره): «لاتذهب على القارى ء النكتة في سؤال الحسين عليه السلام عن اسم الأرض- وكلّ قضايا سيّد الشهداء غامضة الأسرار!- والإمام عندنا معاشر الإمامية عالم بما يجري في الكون من حوادث وملاحم، عارف بما أودع اللّه تعالى في الكائنات من المزايا، إقداراً له من مبدع السموات والأرضين تعالى شأنه ... وكان السرّ في سؤاله عليه السلام عن إسم الأرض التي مُنعوا من اجتيازها، أو أنّ اللّه تعالى أوقف الجواد كما أوقف ناقة النبيّ صلى الله عليه و آله عند الحديبية، أن يعرّف أصحابه بتلك الأرض التي هي محلّ التضحية الموعودين بها بإخبار النبيّ أو الوصيّ صلّى عليهما لتطمئنّ القلوب، وتمتاز الرجال، وتثبت العزائم، وتصدق المفاداة، فتزداد بصيرتهم في الأمر والتأهب للغاية المتوخاة لهم، حتّى لايبقى لأحد المجال للتشكيك في موضع كربلا التي هي محل تربته! ولاجزاف في هذا النحو من الأسئلة بعد أن صدر مثله من النبيّ صلى الله

عليه و آله، فقد سأل عن إسم الرجلين اللذين قاما لحلب الناقة، وعن اسم الجبلين اللذين في طريقه إلى «بدر»، ألم يكن النبيّ صلى الله عليه و آله عالماً بذلك؟ بلى، كان عالماً، ولكنّ المصالح الخفية علينا دعته إلى السؤال ... وهذا باب من الأسئلة يُعرف عند علماء البلاغة «بتجاهل العارف»، وإذا كان فاطر الأشياء الذي لايغادر علمه صغيراً ولاكبيراً يقول لموسى عليه السلام: «وما تلك بيمينك يا موسى»، ويقول لعيسى عليه السلام: «أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين ..» لضرب من المصلحة، وقال سبحانه للخليل عليه السلام: «أَوَلم تؤمن» مع أنه عالم بإيمانه،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 75

فالإمام المنصوب من قبله أميناً على شرعه لاتخفى عليه المصالح.

كما أنّ سيّد الشهداء عليه السلام لم يكن في تعوّذه من الكرب والبلاء عندما سمع بإسم كربلاء متطيّراً، فإنّ المتطيّر لايعلم ما يرد عليه وإنّما يستكشف ذلك من الأشياء المعروفة عند العرب أنها سبب للشرّ، والحسين عليه السلام على يقين مما ينزل به في أرض الطفّ من قضاء اللّه، فهو عالم بالكرب الذي يحلّ به وبأهل بيته وصحبه كما أنبأ عنه غير مرّة.». «1»

إشارة رقم 2: ..... ص : 75

قال ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح: «ونزل الحسين في موضعه ذلك ونزل الحرّ بن يزيد حذاءه في ألف فارس، ودعا الحسين بدواة وبياض، وكتب إلى أشراف الكوفة ممّن كان يظنّ أنه على رأيه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وعبداللّه بن وال، وجماعة المؤمنين. أمّا بعدُ: فقد علمتم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً مستحلًّا لحرم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنّة رسول

اللّه، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، ثمّ لم يُغيّر عليه بقول ولافعل كان حقّاً على اللّه أن يُدخله مدخله، وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا في

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 76

الأرض الفساد، وعطّلوا الحدود والأحكام، واستأثروا بالفي ء، وأحلّوا حرام اللّه، وحرّموا حلاله، وإنّي أحقّ من غيري بهذا الأمر لقرابتي من رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسلكم بيعتكم أنكم لاتسلموني ولاتخذلوني، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حضّكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم، فلكم فيَّ أُسوة، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ومواثيقكم، وخلعتم بيعتكم، فلعمري ما هي منكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي، هل المغرور إلّا من اغترّ بكم، فإنما حضّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه وسيُغني اللّه عنكم.

والسلام.

قال: ثمّ طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي، وأمره أن يسير إلى الكوفة.

قال: فمضى قيس إلى الكوفة، وعبيداللّه بن زياد قد وضع المراصد والمسالح على الطرق، فليس أحدٌ يقدر أن يجوز إلّا فُتّش، فلمّا تقارب من الكوفة قيس بن مسهّر لقيه عدوّ اللّه، يقال له الحصين بن نمير السكوني، فلمّا نظر إليه قيس كأنّه اتّقى على نفسه، فأخرج الكتاب سريعاً فمزّقه عن آخره!

قال: وأمر الحصين أصحابه فأخذوا قيساً وأخذوا الكتاب ممزّقاً حتّى أتوا به إلى عبيداللّه بن زياد.

فقال له عبيداللّه بن زياد: من أنت!؟

قال: أنا رجل من شيعة أميرالمؤمنين الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهما!

قال: فَلِمَ خرقت الكتاب الذي كان معك!؟

قال: خوفاً حتّى لاتعلم ما فيه!

قال: وممّن كان هذا الكتاب وإلى من كان!؟

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 77

فقال: كان من الحسين

إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم!

قال فغضب ابن زياد غضباً عظيماً، ثمّ قال: واللّه لاتفارقني أبداً أو تدلّني على هؤلاء القوم الذين كتب إليهم هذا الكتاب! أو تصعد المنبر فتسبّ الحسين وأباه وأخاه فتنجو من يدي أو لأقطّعنك!

فقال قيس: أمّا هؤلاء القوم فلا أعرفهم، وأمّا لعنة الحسين وأبيه وأخيه فإنّي أفعل!

قال فأمر به فأُدخل المسجد الأعظم، ثمّ صعد المنبر، وجُمع له النّاس ليجتمعوا ويسمعوا اللعنة! فلمّا علم قيس أنّ النّاس قد اجتمعوا وثب قائماً، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ صلّى على محمّد وآله، وأكثر الترحم على عليّ وولده، ثمّ لعن عبيداللّه بن زياد ولعن أباه ولعن عُتاة بني أميّة عن آخرهم، ثمّ دعا النّاس إلى نصرة الحسين بن عليّ.

فأُخبر بذلك عبيداللّه بن زياد، فأُصعد على أعلى القصر، ثم رُمي به على رأسه فمات رحمه اللّه، وبلغ ذلك الحسين فاستعبر باكياً ثم قال: أللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلًا كريماً عندك واجمع بيننا وإيّاهم في مستقرّ رحمتك إنّك على كلّ شي ء قدير.

قال فوثب إلى الحسين رجلٌ من شيعته يُقال له هلال «1» فقال: يا ابن بنت رسول اللّه! تعلم أنّ جدّك رسول اللّه لم يقدر أن يُشرب الخلائق محبّته، ولا أن يرجعوا من أمرهم إلى ما يُحبّ، وقد كان منهم منافقون يعدونه النصر ويضمرون له الغدر! يلقونه بأحلى من العسل ويلحقونه بأمرّ من الحنظل! حتّى توفّاه اللّه عزّ وجلّ، وأنّ أباك عليّاً قد كان في مثل ذلك، فقوم أجمعوا على نصره وقاتلوا معه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 78

المنافقين والفاسقين والمارقين والقاسطين حتّى أتاه أجله، وأنتم اليوم عندنا في مثل ذلك الحال، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه، واللّه يُغني عنه، فسِرْ بنا راشداً مشرّقاً إنْ شئت

أو مغرّباً، فواللّه ما أشفقنا من قدر اللّه، ولاكرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا ونصرتنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

قال فخرج الحسين وولده وإخوته وأهل بيته رحمة اللّه عليهم بين يديه، فنظر إليهم ساعة وبكى وقال: أللّهم إنّا عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله، وقد أُخرجنا وطردنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أميّة علينا، فخذ بحقّنا وانصرنا على القوم الكافرين. قال ثمّ صاح الحسين في عشيرته ورحل من موضعه ذلك حتى نزل كربلاء في يوم الأربعاء أو يوم الخميس، وذلك في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين ...». «1»

ونقول:

1) إنّ المشهور تأريخياً هو أنّ الإمام عليه السلام خطب أصحابه وأصحاب الحرّ في منزل البيضة خطبته الشهيرة التي جاء فيها: «أيها النّاس، إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلًّا لحُرم اللّه ...»، «2» ولعلّ ابن أعثم قد تفرّد برواية نصّ تلكم الخطبة على أنها متن رسالة بعث بها الإمام عليه السلام إلى مجموعة من وجهاء الشيعة وجماعة المؤمنين في الكوفة. «3»

2) وقد تُوهِم رواية ابن أعثم هذه- كما اختلط الأمر بالفعل على بعض المؤرّخين المتأخرين- أنّ الإمام عليه السلام كتب هذه الرسالة (نصّ خطبة البيضة) بعد

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 79

نزوله كربلاء! لكنّ التأمّل في جميع متن رواية ابن أعثم- بالرغم من اضطراب سياق الرواية اضطراباً بيّناً- يكشف عن أنّ الإمام عليه السلام كان قد كتبها في موضع من المواضع القريبة من كربلاء قبل نزوله كربلاء، بل قبل اشتداد محاصرة جيش الحرّ للركب الحسيني، بدليل قول نافع بن هلال مخاطباً الإمام عليه السلام: «فَسِرْ بنا راشداً مشرّقاً إن شئت أو مغرّباً!»، إذ لو كان هذا القول في

كربلاء أو بعد اشتداد المحاصرة لكان قولًا بلا معنى، لأنّ الإمام عليه السلام- بعد ذلك- كان قد جُعجع به وحوصر، وما كان يملك الإختيار في الحركة لاشرقاً ولاغرباً.

هذا أوّلًا، أمّا ثانياً، فلأنّ آخر متن رواية ابن أعثم يصرّح هكذا، «ثمّ صاح الحسين في عشيرته، ورحل من موضعه ذلك حتّى نزل كربلاء ..»، وفي هذا دلالة لاريب فيها على أنّ الواقعة التي رواها ابن أعثم حصلت قبل كربلاء وليس فيها.

3) المشهور تأريخياً أنّ الإمام عليه السلام كان قد أرسل قيس بن مسهر الصيداوي (رض) برسالته الثانية إلى أهل الكوفة من منطقة الحاجر من بطن الرمّة، «1» فجرى عليه ما جرى حتّى استشهاده (رض)، وكان خبر مقتله قد وصل إلى الإمام عليه السلام في منطقة عذيب الهجانات، «2» لاكما تصف رواية ابن أعثم الكوفي.

المخيّم الحسينيّ ..... ص : 79

ونُصبت خيام الركب الحسينيّ بأمر الإمام عليه السلام في البقعة الطاهرة التي لاتزال

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 80

آثارها باقية إلى اليوم، وأقام الإمام عليه السلام في بقعة بعيدة عن الماء تحيط بها سلسلة ممدودة من تلال وربوات تبدأ من الشمال الشرقي متصلّة بموضع باب السدرة في الشمال، وهكذا إلى موضع الباب الزينبي إلى جهة الغرب، ثمّ تنزل إلى موضع الباب القِبْلي من جهة الجنوب، وكانت هذه التلال المتقاربة تشكّل للناظرين نصف دائرة، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله. «1»

وضُربت خيمة الحسين لأهله وبنيه، وضرب عشيرته خيامهم من حول خيمته، «2» ثمّ خيام بقية الأنصار ..

وقد نفى السيد محمّد حسن الكليدار أن يكون الموضع المعروف بمخيم الحسين عليه السلام هو الموضع الذي حطّ فيه الإمام عليه السلام أثقاله، وذهب إلى أنّ المخيّم إنّما يقع بمكان ناءٍ بالقرب من

(المستشفى الحسينيّ)، مستنداً في ذلك إلى أنّ التخطيط العسكريّ المتّبع في تلك العصور يقضي بالفصل بين القوى المتحاربة بما يقرب من ميلين، وذلك لما تحتاجه العمليات الحربية من جولان الخيل وغيرها من مسافة، كما أنّ نصب الخيام لابدّ أن يكون بعيداً عن رمي السهام، والنبال المتبادلة بين المحاربين، وأستند أيضاً إلى بعض الشواهد التأريخية التي تؤيّد ماذهب إليه. «3»

وردّ الشيخ باقر شريف القرشي على ذلك قائلًا: «وأكبر الظنّ أنّ المخيّم إنّما هو في موضعه الحالي، أو يبعد عنه بقليل، وذلك لأنّ الجيش الأموي المكثّف الذي زحف لحرب الإمام لم يكن قباله إلّا معسكر صغير عبّر عنه الحسين

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 81

بالأُسرة، فلم تكن القوى العسكرية متكافئة في العدد حتى يفصل بينهما بميلين أو أكثر.

لقد أحاط الجيش الأمويّ بمعسكر الإمام حتّى أنّه لمّا أطلق ابن سعد السهم الذي أنذر به بداية القتال وأطلق الرماة من جيشه سهامهم لم يبق أحدٌ من معسكر الإمام إلّا أصابه سهم، حتّى اخترقت السهام بعض أُزر النساء، ولو كانت المسافة بعيدة لما أُصيبت نساء أهل البيت بسهامهم. وممّا يدعم ماذكرناه أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا خطب في الجيش الأمويّ سمعت نساؤه خطابه، فارتفعت أصواتهم بالبكاء، ولو كانت المسافة بعيدة لما انتهى خطابه إليهنّ، وهناك كثير من البوادر التي تدلّ على أنّ المخيم في وضعه الحالي.». «1»

اليوم الثالث من المحرّم سنة 61 ه ..... ص : 81
اشارة

قال الشيخ المفيد (ره): «فلمّا كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص «2» من الكوفة في أربعة آلاف فارس فنزل بنينوى». «3»

أما الطبري فقال: «فأقبل في أربعة آلاف حتّى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الحسين نينوى.»، «4» وهناك انضمَّ إليه الحرّ بن يزيد الرياحي في ألف فارس، فصار

في خمسة آلاف فارس.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 82

حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة! ..... ص : 82

وقال الطبري: «وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسين عليه السلام أنّ عبيداللّه بن زياد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دستبى، «1» وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، فكتب إليه ابن زياد عهده على الريّ وأمره بالخروج فخرج معسكراً بالناس بحمّام أعين، فلمّا كان من أمر الحسين ما كان وأقبل إلى الكوفة، دعا ابن زياد عمر بن سعد فقال: سِرْ إلى الحسين، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سِرتَ إلى عملك.

فقال له عمر بن سعد: إنْ رأيتَ رحمك اللّه أن تعفيني فافعل!

فقال عبيداللّه: نعم، على أن تردَّ لنا عهدنا!

قال فلمّا قال له ذلك، قال عمر بن سعد: أمهلني اليوم حتّى أنظر. «2»

قال فانصرف عمر يستشير نصحاءه! فلم يكن يستشير أحداً إلّا نهاه! قال

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 83

وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة، «1» وهو ابن أُخته، فقال: أُنشدك اللّه يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربّك وتقطع رحمك، فواللّه لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها- لو كان لك- خير لك من أن تلقى اللّه بدم الحسين!

فقال له عمر بن سعد: فإنّي أفعل إن شاء اللّه!

قال هشام: حدّثني عوانة بن الحكم، عن عمّار بن عبداللّه بن يسار الجُهني، عن أبيه، قال: دخلت على عمر بن سعد وقد أُمر بالمسير إلى الحسين!

فقال لي: إنّ الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين، فأبيتُ ذلك عليه!

فقلت له: أصاب اللّه بك! أرشدك اللّه! أَحِلْ فلا تفعل ولاتسِرْ إليه! قال فخرجت من عنده، فأتاني آتٍ وقال: هذا عمر بن سعد يندب الناس إلى الحسين!

قال فأتيته فإذا هو جالس، فلمّا رآني أعرض بوجهه! فعرفت أنه قد عزم على

المسير إليه، فخرجت من عنده!

قال فأقبل عمر بن سعد إلى ابن زياد، فقال: أصلحك اللّه، إنّك ولّيتني هذا العمل وكتبت لي العهد، وسمع به النّاس، فإنْ رأيت أن تُنفذ لي ذلك فافعل، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة مَن لستُ بأغنى ولاأجزأ عنك في الحرب منه. فسمّى له أُناساً.

فقال له ابن زياد: لا تعلّمني بأشراف أهل الكوفة، ولستُ أستأمرك فيمن أريد أن أبعث! إنْ سِرْتَ بجندنا وإلّا فابعث إلينا بعهدنا.

فلمّا رآه قد لجَّ، قال: إنّي سائر! ...». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 84

هكذا أعمى طغيان حبّ الدنيا بصيرة عمر بن سعد لعنه اللّه، وشلّه روحياً حتّى أفقده القدرة والعزم على اتخاذ القرار الصائب الذي ينجيه من شديد عقاب اللّه تعالى، برغم كلّ النواهي والتحذيرات التي سبق أن بلغت مسامعه الصمّاء، فقد «روي عن محمّد بن سيرين، عن بعض أصحابه قال: قال عليٌّ لعمر بن سعد: كيف أنتَ إذا قُمتَ مقاماً تُخيّر فيه بين الجنّة والنار فتختار النار!؟». «1»

«وروى سالم بن أبي حفصة قال: قال عمر بن سعد للحسين: يا أبا عبداللّه، إنّ قِبلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك!

فقال له الحسين عليه السلام: إنّهم ليسوا بسفهاء ولكنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عيني أن لاتأكل من برّ العراق بعدي إلّا قليلا!». «2»

«وروى عبداللّه بن شريك العامري قال: كنت أسمع أصحاب عليّ عليه السلام إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين بن عليّ عليهما السلام وذلك قبل أن يُقتل بزمان!». «3»

ولم يكن عمر بن سعد لعنه اللّه عبدالدنيا فحسب! بل كان ذا ميل وهوى أموي، فقد كان ممّن يتقرّب إلى سلطانهم، وكان من جملة الذين كتبوا إلى يزيد بن معاوية في

ضعف والي الكوفة النعمان بن بشير أو تضعّفه في مواجهة مسلم بن عقيل عليه السلام! «4»

وكان قد نفّذ تعاليم ابن زياد تماماً في قتل الإمام الحسين عليه السلام وفي أن يوطي ء

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 85

الخيل صدره وظهره! «1»

وقد أكلت قلبه الحسرة- بعد أن غلبت عليه شقوته ونفّذ أبشع جريمة في تأريخ البشريّة- وندم على ما فرّط في أمر دنياه وآخرته، ولات ساعة مندم!

يروي لنا التأريخ أنّ عمر بن سعد لعنه اللّه لمّا لم ينل- بعد عاشوراء- من ابن زياد لعنه اللّه ما كان يأمله من ولاية الريّ والزلفى من السلطان، خرج من مجلس ابن زياد «يريد منزله إلى أهله وهو يقول في طريقه: ما رجع أحدٌ مثل مارجعت! أطعتُ الفاسق ابن زياد، الظالم ابن الفاجر! وعصيت الحاكم العدل! وقطعت القرابة الشريفة!

وهجره الناس، وكلّما مرَّ على ملأ من النّاس أعرضوا عنه، وكلّما دخل المسجد خرج النّاس منه، وكلّ من رآه قد سبّه! فلزم بيته إلى أن قُتل.». «2»

رُسُل عمر بن سعد إلى الإمام عليه السلام

قال الطبري: «فبعث عمر بن سعد إلى الحسين عليه السلام عزرة بن قيس الأحمسي، «3» فقال: إئتهِ فَسَلْهُ ما الذي جاء به، وماذا يريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين، فاستحيا منه أن يأتيه!

قال فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلّهم أبى وكرهه!

قال وقام إليه كثير بن عبداللّه الشعبيّ، وكان فارساً شجاعاً ليس يردّ وجهه شي ء، فقال: أنا أذهب إليه، واللّه لئن شئتَ لأفتكنَّ به!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 86

فقال له عمر بن سعد: ما أريد أن يُفتك به! ولكن ائته فسله ما الذي جاء به؟

قال فأقبل إليه، فلمّا رآه أبوثمامة الصائدي «1» قال للحسين: أصلحك اللّه أبا عبداللّه، قد جاءك شرّ أهل

الأرض، وأجرأه على دم، وأفتكه! فقام إليه فقال: ضَعْ سيفك!

قال: لا واللّه ولاكرامة، انّما أنا رسول، فإنْ سمعتم منّي أبلغتكم ما أُرسلت به إليكم، وانْ أبيتم انصرفت عنكم.

فقال له: فإنّي آخذٌ بقائم سيفك، ثم تكلّمْ بحاجتك.

قال: لا واللّه لاتمسّه!

فقال له: أخبرني ما جئت به وأنا أبلّغه عنك، ولا أدعك تدنو منه فإنّك فاجر!

فاستبّا، ثمّ انصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر، فدعا عمر قُرّةَ بن قيس الحنظلي، فقال له: ويحك يا قُرّة! إلقَ حسيناً فسله ما جاء به وماذا يريد؟

قال فأتاه قُرّة بن قيس، فلمّا رآه الحسين مقبلًا قال: أتعرفون هذا؟

فقال حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجل من حنظلة تميميٌّ، وهو ابن أختنا ولقد كنتُ أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد!

قال فجاء حتّى سلّم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه له.

فقال الحسين عليه السلام: كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن اقدم، فأمّا إذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم.

قال ثمَّ قال له حبيب بن مظاهر: ويحك يا قُرّة بن قيس! أَنّى ترجع إلى القوم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 87

الظالمين!؟ أنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيّدك اللّه بالكرامة وإيّانا معك!

فقال له قُرَّة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته، وأرى رأيى! «1»

قال فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر، فقال له عمر بن سعد: إنّي لأرجو أن يعافيني اللّه من حربه وقتاله!!.». «2»

تبادل الرسائل بين عمر بن سعد وابن زياد ..... ص : 87

ثمّ كتب عمر بن سعد إلى عبيداللّه بن زياد لعنهما اللّه كتاباً، كان نصه- على رواية الطبري-: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ: فإنّي حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عمّا أقدمه، وماذا يطلب ويسأل؟ فقال: كتب إليَّ أهل هذه البلاد، وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأمّا إذ كرهوني فبدا لهم غيرُ

مع الركب

الحسينى (ج 4)، ص: 88

ما أتتني به رسلهم فإنّي منصرف عنهم.». «1»

ويواصل الطبري: روايته قائلًا: «فلمّا قُري ء الكتاب على ابن زياد قال:

ألآن إذ علِقتْ مخالبنا به يرجو النجاة ولات حين مناصِ

قال وكتب إلى عمر بن سعد: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ: فقد بلغني كتابك، وفهمتُ ماذكرتَ، فأعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية، هو وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأَينا رأينا، والسلام.».». «2»

وفي رواية الدينوري: «فلمّا وصل كتابه إلى ابن زياد كتب إليه في جوابه: «قد فهمت كتابك، فاعرض على الحسين البيعة ليزيد، فإذا بايع في جميع من معه، فأعلمني ذلك ليأتيك رأيي!»، فلمّا انتهى كتابه إلى عمر بن سعد قال: ما أحسبُ ابن زياد يريدُ العافية!

فأرسل عمر بن سعد بكتاب ابن زياد إلى الحسين!

فقال الحسين للرسول: لا أُجيب ابن زياد إلى ذلك أبداً، فهل هو إلّا الموت؟ فمرحباً به!

فكتب عمر بن سعد إلى زياد بذلك، فغضب، فخرج بجميع أصحابه إلى النخيلة «3» ..». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 89

الإمام عليه السلام يشتري ستّة عشر ميلًا مربعاً من أرض كربلاء ..... ص : 89

روى محمّد بن أحمد بن داود القمّي في كتاب الزيارات، وحكاه عنه السيّد رضيّ الدين عليّ بن طاووس (ره) في كتابه مصباح الزائر، ونقله عنه أيضاً الشيخ بهاء الدين محمّد العاملي (ره) في كتاب الكشكول «1» بما نصه: «روي أنّ الحسين عليه السلام اشترى النواحي التي فيها قبره من أهل نينوى والغاضريّة بستّين ألف درهم، وتصدّق عليهم وشرط أن يُرشدوا إلى قبره، ويُضيّفوا من زاره ثلاثة أيّام»، «2» ثمّ بيّن في ذيل الخبر مقدار مساحة تلك الأراضي، وأنّها هي حرم الحسين عليه السلام بقوله: «قال الصادق عليه السلام: حرم الحسين عليه السلام الذي اشتراه أربعة أميال في أربعة أميال، فهو حلال لولده ومواليه، حرام على

غيرهم ممّن خالفهم، وفيه البركة.». «3»

«وذكر السيّد الجليل رضيّ الدين عليّ بن طاووس رحمه اللّه، أنّها إنّما صارت حلالًا بعد الصدقة لأنّهم لم يفوا بالشرط. قال: وقد روى محمد بن داود عدم وفائهم بالشرط في باب نوادر الزمان.». «4»

ابن زياد يُعبّي ء الكوفة لقتال الحسين عليه السلام ..... ص : 89

كان الحر بن يزيد الرياحي قد كتب إلى ابن زياد- بعد نزول الإمام عليه السلام في كربلاء- يخبره بذلك، ويروي بعض المؤرّخين أنّ ابن زياد عندئذٍ كتب إلى الإمام الحسين عليه السلام: «أمّا بعدُ ياحسين، فقد بلغني نزولك بكربلاء، وقد كتب إليَ

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 90

أميرالمؤمنين يزيد بن معاوية أن لا أتوسّد الوثير ولا أشبع من الخمير، أو أُلحقك باللطيف الخبير! أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية.

فلمّا ورد الكتاب قرأه الحسين ثمّ رمى به، ثمّ قال: لا أفلح قومٌ آثروا مرضاة أنفسهم على مرضاة الخالق! فقال له الرسول: أبا عبداللّه! جواب الكتاب؟

قال: ماله عندي جواب، لأنّه قد حقّت عليه كلمة العذاب!

فقال الرسول لابن زياد ذلك، فغضب من ذلك أشدّ الغضب ...». «1»

ثمّ إنّ ابن زياد- كما مرَّ بنا- أمر عمر بن سعد بتولّي قيادة الجيوش لقتال الإمام عليه السلام، فخرج بعد- تردد!؟- في أربعة آلاف حتى نزل كربلاء في الثالث من المحرّم، وانضمّ إليه الحرّ مع ألف فارس هناك، فصار في خمسة آلاف فارس.

وقال ابن أعثم الكوفي: «ثمّ جمع عبيداللّه بن زياد النّاس الى مسجد الكوفة، ثمّ خرج فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: أيها النّاس! إنّكم قد بلوتم آل سفيان فوجدتموهم على ما تحبّون! وهذا يزيد قد عرفتموه أنّه حسن السيرة! محمود الطريقة! محسن إلى الرعيّة! متعاهد الثغور! يعطي العطاء في حقّه، حتّى أنّه كان أبوه كذلك!، وقد زاد أميرالمؤمنين في

إكرامكم، وكتب إليَّ يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار ومائتي ألف درهم «2» أفرّقها عليكم وأخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين بن عليّ! فاسمعوا وأطيعوا. والسلام.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 91

قال: ثمّ نزل عن المنبر، ووضع لأهل الشام «1» العطاء فأعطاهم ونادى فيهم بالخروج إلى عمر بن سعد ليكونوا أعواناً له على قتال الحسين.

قال فأوَّل من خرج إلى عمر بن سعد الشمر بن ذي الجوشن «2» السلولي لعنه اللّه في أربعة آلاف فارس، فصار عمر بن سعد في تسعة آلاف، ثمّ اتبعه زيد (يزيد) بن ركاب الكلبي في ألفين، والحصين بن نمير السكوني «3» في أربعة آلاف، والمصاب الماري «4» في ثلاثة آلاف، ونصر بن حربة في ألفين، فتمّ له عشرون ألفاً،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 92

ثمّ بعث ابن زياد إلى شبث بن ربعي الرياحي .. «1» فاعتلّ بمرض، فقال له ابن زياد:

أتتمارض؟ إن كنتَ في طاعتنا فاخرج إلى قتال عدوّنا، فخرج إلى عمر بن سعد في ألف فارس بعد أن أكرمه ابن زياد وأعطاه وحباه، وأتبعه بحجّار بن أبجر «2» في ألف فارس، فصار عمر بن سعد في إثنين وعشرين ألفاً ما بين فارس وراجل.». «3»

ويصف البلاذري التعبئة العامة التي قام بها ابن زياد لإخراج أهل الكوفة إلى قتال الإمام الحسين عليه السلام قائلًا: «ولمّا سرّح ابن زياد عمر بن سعد من (حمام أعين)، «4» أمر الناس فعسكروا بالنخيلة، وأمر ألّا يتخلّف أحدٌ منهم، وصعد المنبر فقرّظ معاوية وذكر إحسانه وإدراره الأعطيات، وعنايته بأمور الثغور، وذكر اجتماع الالفة به وعلى يده! وقال: إنّ يزيد إبنه المتقيّل «5» له، السالك لمناهجه المحتذي لمثاله، وقد زادكم مائة مائة في أعطياتكم، فلا يبقين رجل من العرفاء والمناكب

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص:

93

والتجّار والسكّان إلّا خرج فعسكر معي! فأيّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلّفاً عن العسكر برئت منه الذمّة!

ثمّ خرج ابن زياد فعسكر، وبعث إلى الحصين بن تميم وكان بالقادسية في أربعة آلاف، فقدم النخيلة في جميع من معه، ثمّ دعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي، ومحمّد بن الأشعث بن قيس، والقعقاع بن سويد بن عبدالرحمن المنقري، وأسماء بن خارجة الفزاري، وقال: طوفوا في الناس فمروهم بالطاعة والإستقامة، وخوّفوهم عواقب الأمور والفتنة والمعصية! وحثّوهم على العسكرة!

فخرجوا فعذروا وداروا بالكوفة، ثمّ لحقوا به، غير كثير بن شهاب فإنّه كان مبالغاً يدور بالكوفة يأمر النّاس بالجماعة ويحذّرهم الفتنة والفرقة، ويخذّل عن الحسين!

وسرّح ابن زياد أيضاً حصين بن تميم في الأربعة آلاف الذين كانوا معه إلى الحسين بعد شخوص عمر بن سعد بيوم أو يومين، ووجّه أيضاً إلى الحسين حجّار بن أبجر العجلي في ألف، وتمارض شبث بن ربعي، فبعث إليه فدعاه وعزم عليه أن يشخص إلى الحسين في ألف ففعل. «1»

وكان الرجل يُبعث في ألف فلا يصل إلّا في ثلاثمائة أو أربعمائة وأقلّ من

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 94

ذلك كراهة منهم لهذا الوجه! «1»

ووجّه أيضاً يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم «2» في ألف أو أقلّ، ثمّ إنّ ابن زياد استخلف على الكوفة عمرو بن حريث، «3» وأمر القعقاع بن سويد بن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 95

عبدالرحمن بن بجير المنقري بالتطواف بالكوفة في خيل، فوجد رجلًا من همدان قد قدم يطلب ميراثاً له بالكوفة، «1» فأتى به ابن زياد فقتله! فلم يبق بالكوفة محتلم إلّا خرج إلى العسكر بالنخيلة.

ثمّ جعل ابن زياد يُرسل العشرين والثلاثين والخمسين إلى المائة، غدوة وضحوة ونصف النهار وعشيّة، من النخيلة يمدُّ بهم عمر

بن سعد- وكان يكره أن يكون هلاك الحسين على يده! فلم يكن شي ء أحبّ إليه من أن يقع الصلح!- ووضع ابن زياد المناظر على الكوفة لئلّا يجوز أحدٌ من العسكر مخافة لأن يلحق الحسين مغيثاً له! ورتّب المسالح حولها، وجعل على حرس الكوفة والعسكر زحر بن قيس الجعفي، «2» ورتّب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلًا مضمرة مقدحة! فكان خبر ما قِبَله يأتيه في كلّ وقت.».»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 96

إكتمال تعبئة الكوفة لقتال الإمام عليه السلام في السادس من المحرّم ..... ص : 96

وفي رواية السيّد محمّد بن أبي طالب: «فما زال يُرسل إليه بالعساكر حتّى تكامل عنده ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل.». «1»

وروى الشيخ الصدوق (ره) بسندٍ عن المفضّل بن عمر، عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه عليه السلام، عن جدّه عليه السلام: «أنّ الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام دخل يوماً إلى الحسن عليه السلام، فلمّا نظر إليه بكى.

فقال له: ما يبكيك يا أبا عبداللّه!؟

قال: أبكي لما يُصنع بك!

فقال له الحسن عليه السلام: إنَّ الذي يؤتى إليَّ سمٌّ يُدسُّ إليَّ فأُقتل به، ولكن لايوم كيومك يا أباعبداللّه! يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّد صلى الله عليه و آله، وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني أميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شي ء حتّى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار!». «2»

كما روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن ثابت بن أبي صفيّة قال: «نظر سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام إلى عبيداللّه بن عبّاس بن عليّ بن أبي طالب فاستعبر ثمّ قال: ما من يوم أشدّ على رسول اللّه صلى الله عليه و

آله من يوم أُحد، قُتل فيه عمّه حمزة بن عبدالمطّلب أسد اللّه وأسد رسوله، وبعده يوم مؤته، قُتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 97

ثم قال عليه السلام: ولايوم كيوم الحسين عليه السلام ازدلف عليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنّهم من هذه الأمّة، كلّ يتقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ بدمه! وهو باللّه يذكّرهم فلا يتّعظون حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً ...». «1»

فالصحيح إذن في عدد جيش عمر بن سعد لعنه اللّه هو الثلاثون ألفاً- كما يقّره الإمام الحسن المجتبى عليه السلام والإمام السجّاد عليه السلام- وينبغي الإنتباه إلى أنهما عليهما السلام ربما عنيا- فقط- الذين يزدلفون يوم عاشوراء لقتال الإمام الحسين عليه السلام، وهذا يعني ضمناً أنّ في جيش ابن سعد من هو كاره لايزدلف لقتال الإمام عليه السلام، وهذا يعني أن سواد الجيش الأموي الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء يبلغ أكثر من ثلاثين ألف رجل.

وتقول رواية ابن أعثم الكوفي: «ثمّ كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: إنّي لم أجعل لك علّة في قتال الحسين من كثرة الخيل والرجال، فانظر أن لاتبدأ أمراً حتى تشاورني غدوّاً وعشيّاً مع كلّ غادٍ ورائح- والسلام.

قال: وكان عبيداللّه بن زياد في كلّ وقت يبعث إلى عمر بن سعد، ويستعجله في قتال الحسين!

قال: والتأمت العساكر إلى عمر بن سعد لست مضين من المحرّم.». «2»

أحد أنصار الإمام عليه السلام يحاول اغتيال ابن زياد! ..... ص : 97

روى البلاذري قائلًا: «وهمَّ عمّار بن أبي سلامة الدالاني أن يفتك بعبيد اللّه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 98

بن زياد في عسكره بالنخيلة، فلم يمكنه ذلك، فلطف حتى لحق بالحسين فقُتل معه!». «1»

غير أنّ هذا اللطف والتخفّي لم ينفع هذا الشهيد البطل (رض) عند كلّ المفارز والمسالح التي ترصد حركة

كلّ عابر باتجاه كربلاء، فاضطرّ إلى الإصطدام مع إحدى المسالح الكبيرة الموجودة على جسر الصراة التي كان على رأسها اللعين زجر بن قيس الجعفي، فقد نقل المحقّق المرحوم السيّد المقرّم في مقتله يقول: «وجعل عبيداللّه بن زياد زجر بن قيس الجعفي على مسلحة في خمسمائة فارس! وأمره أن يُقيم بجسر الصراة، «2» يمنع من يخرج من الكوفة يريد الحسين عليه السلام، فمرَّ به عامر «3» بن أبي سلامة بن عبداللّه بن عرار الدالاني، فقال له زجر: قد عرفت حيث تريد فارجع! فحمل عليه وعلى أصحابه فهزمهم ومضى! وليس أحدٌ منهم يطمع في الدنوّ منه! فوصل كربلاء ولحق بالحسين عليه السلام حتّى قُتل معه، وكان قد شهد المشاهد مع أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.». «4»

رسالة الإمام عليه السلام إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ..... ص : 98
اشارة

روى الشيخ ابن قولويه (ره) بسند عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «كتب الحسين

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 99

بن عليّ عليهما السلام إلى محمّد بن عليّ من كربلاء:

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومن قِبَلهُ من بني هاشم:

أمّا بعدُ، فكأنّ الدنيا لم تكن! وكأنّ الآخرة لم تزل! والسلام.». «1»

تأمّل: ..... ص : 99

إنّ غير المعصوم في أخذه وتلقّيه عن النبيّ الأكرم محمّد وآله الطيبين الطاهرين صلى الله عليه و آله- كما في أخذه عن القرآن الكريم- إنّما يأخذ على قدر وعائه وأداته، ولايمكنه- مع قصوره- أن يدّعي أنّ ما فهمه من القرآن أو من المعصوم عليه السلام هو كلّ ما أراد المعصوم عليه السلام أو هو كلّ المراد القرآنيّ.

وهذه الرسالة التي كتبها الإمام الحسين عليه السلام من كربلاء الى أخيه محمّد بن الحنفيّة (رض)، وهي آخر ما كتبه الإمام عليه السلام من الرسائل، ولعلّها أقصر رسائله عليه السلام متناً، مثيرة للعجب وداعية إلى التأمّل!

ما هو المعنى الذي أراد الإمام الشهيد الفاتح عليه السلام أن يوصله خلال هذه الرسالة من أرض المصرع المختار إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة (رض) وإلى بني هاشم، وإلى الأجيال كافّة؟

لكلّ مغترف أن يغترف على قدر وعائه! ونحن على قدر وعائنا نقول: ربّما أراد الإمام عليه السلام في قوله: «فكأن الدنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزل» نفس المعنى الذي أراده عليه السلام في قوله لأنصاره ليلة عاشوراء: «واعلموا أنّ الدنيا حلُوها ومُرّها حُلُم!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 100

والإنتباه في الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقيّ من شقي فيها! ..»، «1» ذلك لأنّ الإنسان ابن الأيّام الثلاثة: يوم ولدته أمّه، ويوم يخرج من هذه الدنيا، ويوم يقوم للحساب! وهذه الأيّام الثلاثة الكبرى

هي التي ورد السلام فيها من اللّه تبارك وتعالى على يحيى عليه السلام، في قوله تعالى: «وسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يُبعث حيّا»، «2»

وفي قوله تعالى عن لسان عيسى عليه السلام: «والسلام عليَّ يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أُبعث حيّا». «3»

وإذا تأمّل كلّ إنسان في الماضي من عمره طويلًا كان أم قصيراً، فكأنّما يتأمّل في رؤيا منام رآها البارحة! والآتي من العمر- بعد مروره- كما الماضيّ، حلمٌ أيضاً!

فالدنيا وهي عمر الإنسان بكلّ تفصيلاته الحلوة والمرّة حلُمٌ في الختام! فكأنّ الدنيا لم تكن!

فالعاقل السعيد من أخذ من هذه الدنيا كما يأخذ المارّ من ممّره لمقرّه، والعاقل السعيد من لم يتعلّق قلبه بهذه الدار الزائلة، ولم يقع في شباكها، وكان من المخفّين فيها، ليكون فراقها عليه سهلًا يسيراً هيّناً، فعن الإمام الصادق عليه السلام: «من كثر إشتباكه بالدنيا كان أشدَّ لحسرته عند فراقها». «4»

وإذا كانت هذه هي حقيقة الدنيا! وكان لابدّ من فراقها، فليكن الختام أفضل الختام! ولتكن النهاية أشرف نهاية، وأفضل الموت القتل في سبيل اللّه! فليكن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 101

الختام إذن قتلًا في سبيل اللّه! وهذا هو البِرُّ الذي ليس فوقه بِرٌّ! وفي ذلك فليتنافس المتنافسون! ولهذا فليعمل العاملون!

وأقوى الظنّ أنّ هذا المعنى الذي أراد أن يوصله الإمام عليه السلام في رسالته هذه التي كتبها من كربلاء أرض المصرع المختار وبقعة الفتح إلى محمد بن الحنفية وبقية بني هاشم في المدينة المنوّرة- وإلى كافّة الأجيال إلى قيام الساعة- متمّم ومكمّل لمعنى رسالته القصيرة الأولى التي بعثها عليه السلام إليهم من مكّة المكرّمة والتي جاء فيها: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومن قِبَله من بني هاشم: أمّا

بعدُ، فإنّ من لحق بي استُشهد! ومن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح! والسلام.». «1»

فتأمّل!

خطبة للإمام عليه السلام في أصحابه ..... ص : 101
اشارة

روى ابن عساكر يقول: «لمّا نزل عمر بن سعد بحسين، وأيقن أنّهم قاتلوه قام في أصحابه خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: «قد نزل بنا ما ترون من الأمر، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت حتّى لم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء! وإلّا خسيس عيش كالمرعى الوبيل!، ألا ترون أنّ الحقّ لايُعمل به! وأنّ الباطل لايُتناهى عنه! ليرغب المؤمن في لقاء اللّه، وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة! والحياة مع الظالمين إلّا برما.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 102

إشارة: ..... ص : 102

مرَّ بنا قبل ذلك- في وقائع وأحداث منازل الطريق بين مكّة وكربلاء- كما في رواية الطبري «1» أنّ الإمام عليه السلام خطب هذه الخطبة في منطقة ذي حُسَم، وكان قد تمَّ التعليق على هذه الخطبة- هناك- بعدّة ملاحظات، فراجعها «2» وقد أوردناها أيضاً هنا لاحتمال وقوعها أصلًا في كربلاء، أو لاحتمال أنَّ الإمام عليه السلام كان قد كرّر مخاطبة أصحابه بهذا الكلام في الموضعين.

حبيب بن مظاهر (رض) «3» يستنفر حيّاً من بني أسد لنصرة الإمام عليه السلام ..... ص : 102
اشارة

في المقتل للخوارزمي: «قال: والتأمت العساكر عند عمر لستّة أيّام مضين من محرّم، فلمّا رأى ذلك حبيب بن مظاهر الأسدي جاء إلى الحسين فقال له: يا ابن رسول اللّه! إنّ هاهنا حيّاً من بني أسد قريباً منّا، أفتأذن لي بالمصير إليهم الليلة أدعوهم إلى نصرتك، فعسى اللّه أن يدفع بهم عنك بعض ماتكره؟

فقال له الحسين: قد أذنت لك!

فخرج إليهم حبيب من معسكر الحسين في جوف الليل متنكّراً، حتى صار إليهم فحيّاهم وحيّوه وعرفوه.

فقالوا له: ما حاجتك يا ابن عمّ؟

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 103

قال: حاجتي إليكم أني قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم قط! أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيّكم، فإنّه في عصابة من المؤمنين، الرجل منهم خيرٌ من ألف رجل! لن يخذلوه ولن يُسلموه وفيهم عين تطرف! وهذا عمر بن سعد قد أحاط به في إثنين وعشرين ألفاً! وأنتم قومي وعشيرتي وقد أتيتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم تنالوا شرف الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فإنّي أُقسم باللّه لايُقتل منكم رجل مع ابن بنت رسول اللّه صابراً محتسباً إلّا كان رفيق محمّد صلى الله عليه و آله في أعلى علّيين.

فقام رجلٌ من بني أسد يُقال له عبداللّه بن بشر فقال: أنا أوّل من يجيب إلى هذه الدعوة، ثمّ جعل

يرتجز ويقول:

قد علِمَ القوم اذا تناكلوا وأحجم الفرسان إذ تناضلوا

أنّي الشجاع البطل المقاتل كأنني ليثُ عرينٍ باسلُ

ثمّ بادر رجال الحيّ إلى حبيب، وأجابوه فالتأم منهم تسعون رجلًا وجاءوا مع حبيب يريدون الحسين، فخرج رجل من الحيّ، يُقال: فلان بن عمرو حتّى صار إلى عمر بن سعد في جوف الليل، فأخبره بذلك، فدعا عمر برجلٍ من أصحابه يقال له «الأزرق بن الحرث الصدائي» فضمّ إليه أربعمائة فارس، ووجّه به إلى حيّ بني أسد مع ذلك الذي جاء بالخبر، فبينا أولئك القوم من بني أسد قد أقبلوا في جوف الليل مع حبيب يريدون عسكر الحسين اذ استقبلتهم خيل ابن سعد على شاطي ء الفرات، وكان بينهم وبين معسكر الحسين اليسير، فتناوش الفريقان واقتتلوا، فصاح حبيب بالأزرق بن الحرث: مالك ولنا!؟ إنصرف عنّا! يا ويلك دعنا واشقَ بغيرنا!

فأبى الأزرق، وعلمت بنو أسد أن لاطاقة لهم بخيل ابن سعد فانهزموا راجعين إلى حيّهم! ثمَّ تحمّلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يكبسهم،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 104

ورجع حبيب إلى الحسين فأخبره، فقال: لاحول ولاقوّة إلّا باللّه العليّ العظيم!». «1»

من غرائب ما تفرّد به البلاذري! ..... ص : 104

وكان البلاذري ممّن روى قصة استنفار حبيب بن مظاهر (رض) حيّاً من بني أسد لنصرة الإمام الحسين عليه السلام- وقد أوردنا روايته في الحاشية- لكنّ البلاذري قال في ذيل روايته لهذه القصة:

«وكان فراس بن جعدة بن هبيرة المخزومي مع الحسين، وهو يرى أنّه لايُخالَف! فلمّا رأى الأمر وصعوبته هاله ذلك! فأذن له الحسين في الإنصراف، فانصرف ليلًا!». «2»

ونقول:

أولًا: لم يُعرف في كتب التواريخ وكتب الرجال أنَّ لجعدة بن هبيرة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 105

المخزومي ولداً إسمه فراس (كما ذكر البلاذري)، بل إنّ له ولدين معروفين أحدهما يحيى، وله رواية عن الإمام

الحسين عليه السلام، وهو من رواة الغدير، وعبداللّه (وهو الذي فتح القهندر وكثيراً من خراسان)، وقيل إنّ له ولداً آخر إسمه عمر. «1»

ولو فرضنا- جدلًا- أنّ لجعدة بن هبيرة المخزومي ولداً إسمه فراس كما زعم البلاذري، فإنَّ ما نسبه البلاذري لهذا الولد من تخلّيه عن الإمام الحسين عليه السلام في الشدّة أمرٌ مستبعدٌ جدّاً! ذلك لأنّ جعدة بن هبيرة هو ابن أمّ هاني بنت أبي طالب عليه السلام فجعدة ابن عمّة الإمام عليه السلام، ففراس (المزعوم) هذا وهو ابن جعدة يكون ذا قرابة قريبة من الإمام عليه السلام، هذا فضلًا عن أنّ التأريخ- بل البلاذري نفسه- حدّثنا عن أنّ بني جعدة كانوا من أهل المعرفة بأهل البيت عليهم السلام ومن شيعتهم، «2» وهذا- أيضاً- فضلًا عن أنّ جعدة وأبناءه قد عُرفوا بالشجاعة والبأس والشدّة في الحرب والكريهة، ولم يُعرف لهم موقف متخاذل، أو أخزاهم خوف من الأعداء! هذا جعدة وقد عُرفت عنه الشدّة في الحرب، يقول له عتبة بن أبي سفيان: إنّما لك هذه الشدّة في الحرب من قِبَل خالك- يعني عليّاً عليه السلام! فيقول له جعدة: لو كان لك خال مثل خالي لنسيت أباك! «3»

فهل يُتصور أنَّ ولداً من أولاد جعدة الشجاع هذا يعرّض نفسه وشرفه لعار الجبن على صفحة التأريخ إلى قيام الساعة فيتخلّى ساعة الشدّة عن رجل محتاج

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 106

إليه وذي رحم ماسة به كانت الأعداء قد أحاطت به من كلّ جانب!؟ فما بالك إذا كان هذا المحتاج إليه ابن رسول اللّه وابن خال أبيه وهو الحسين عليه السلام!؟

هذا مالو تأمّل البلاذريّ نفسه فيه لما تجرّأ على الإتيان به!

وممّا يؤسف له أن بعض المتتبّعين أخذ هذا عن البلاذري أخذ المسلّمات،

ولم يكلّف نفسه مناقشة تلك الدعوى. «1»

وقايع اليوم السابع من المحرّم! ..... ص : 106

بعد أن روى الخوارزمي في مقتله قصة المواجهة بين جماعة بني أسد الذين استجابوا لدعوة حبيب بن مظاهر (رض) وبين خيل عمر بن سعد (أربعمائة فارس) بقيادة الأزرق بن الحرث الصدائي، وكيف انهزمت مجموعة بني أسد بعد قتال شديد، ورجوعهم إلى حيّهم، ثمّ ارتحالهم عنه في جوف الليل خوفاً من بأس جيش ابن سعد، وعودة حبيب (رض) إلى معسكر الإمام عليه السلام!

يتابع الخوارزمي سرد بقيّة قصة كربلاء فيقول: «ورجعت تلك الخيل حتّى نزلت على الفرات، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فأضرّ العطش بالحسين وبمن معه، فأخذ الحسين عليه السلام فأساً، وجاء إلى وراء خيمة النساء، فخطا على الأرض تسع عشرة خطوة نحو القبلة، ثمّ احتفر هنالك فنبعت له هناك عين من الماء العذب! فشرب الحسين وشرب النّاس بأجمعهم! وملاؤا أسقيتهم، ثمّ غارت العين فلم يُرَ لها أثر!

وبلغ ذلك إلى عبيداللّه فكتب إلى عمر بن سعد: بلغني أنَّ الحسين يحفر

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 107

الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه، فانظر إذا ورد عليك كتابي هذا فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت، وضيّق عليهم ولاتدعهم أن يذوقوا من الماء قطرة! وافعل بهم كما فعلوا بالزكيِّ عثمان! والسلام.». «1»

«فلمّا ورد على عمر بن سعد ذلك أمر عمرو بن الحجّاج أن يسير في خمسمائة راكب، فينيخ على الشريعة، ويحولوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وذلك قبل مقتله بثلاثة ايّام، فمكث أصحاب الحسين عطاشى». «2»

«وناداه عبداللّه بن أبي حصين الأزدي (عبداللّه بن حصن الأزدي) «3» فقال: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء! واللّه لاتذوق منه قطرة حتّى تموت عطشاً! فقال حسين: أللّهمّ اقتله عطشاً ولاتغفر له أبداً. قال حميد

بن مسلم: «4» واللّه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 108

لعُدْتُه بعد ذلك في مرضه، فواللّه الذي لا إله إلّا هو لقد رأيته يشرب حتى يبغر! «1» ثم يقي ء ثم يعود فيشرب حتّى يبغر فما يروى! فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ غُصَّته يعنى نفسه!». «2»

ويواصل الطبري قصة منع الماء يوم السابع من المحرّم قائلًا: «ولمّا اشتدّ على الحسين وأصحابه العطش دعا العبّاس بن عليّ بن أبي طالب أخاه، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلًا، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ليلًا، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي: من الرجل!؟ فَجِي ءْ! ما جاء بك!؟

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه!

قال: فاشرب هنيئاً!

قال: لا واللّه، لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه! فطلعوا عليه، فقال: لاسبيل إلى سقي هؤلاء! إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء!

فلمّا دنا منه- أي نافع- أصحابه قال لرجاله: إملؤا قربكم!

فشدَّ الرجّالة فملؤا قربهم، وثار إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه، فحمل عليهم العبّاس ابن عليّ ونافع بن هلال فكفّوهم! ثمّ انصرفوا إلى رحالهم فقالوا:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 109

إمضوا! ووقفوا دونهم، فعطف عليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، واطّردوا قليلًا، ثمّ إنّ رجلًا من صُدَاء طُعِن، من أصحاب عمرو بن الحجّاج، طعنه نافع بن هلال، فظنّ أنها ليست بشي ء، ثمّ إنّها انتقضت بعد ذلك فمات منها! وجاء أصحاب حسين بالقرب فأدخلوها عليه.». «1»

وفي رواية ابن أعثم الكوفي: «... فاقتتلوا على الماء قتالًا عظيماً! فكان قوم يقتتلون وقوم يملؤون القرب حتّى ملؤها، فقُتل من أصحاب عمرو جماعة ولم يُقتل من أصحاب الحسين أحد! ثُمَّ رجع القوم إلى معسكرهم وشرب الحسين من القرب ومن كان معه.».

«2»

وفي رواية البلاذري: «ويُقال إنهم حالوا بينهم وبين ملئها، فانصرفوا بشي ء يسير من الماء، ونادى المهاجر بن أوس التميمي: يا حسين ألا ترى إلى الماء يلوح كأنّه بطون الحيَّات، واللّه لاتذوقه أو تموت! فقال: إنّي لأرجو أن يوردنيه اللّه ويحلأكم عنه.

ويُقال: إنّ عمرو بن الحجّاج قال: يا حسين! إنّ هذا الفرات تلغ فيه الكلاب وتشرب منه الحمير والخنازير، واللّه لاتذوق منه جرعة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم!!». «3»

أمّا الدينوري يصف واقعة الشريعة يوم السابع وصفاً مختصراً ودقيقاً حيث يقول: «فمضى العبّاس نحو الماء، وأمامهم نافع بن هلال، حتّى دنوا من الشريعة، فمنعهم عمرو بن الحجّاج، فجالدهم العبّاس على الشريعة بمن معه حتّى أزالوهم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 110

عنها! واقتحم رجّالة الحسين الماء فملأوا قِرَبَهم، ووقف العبّاس في أصحابه يذبّون عنهم حتّى أوصلوا الماء إلى عسكر الحسين!». «1»

من هو أبوالفضل العبّاس بن أميرالمؤمنين عليهما السلام؟ ..... ص : 110

مولانا أبوالفضل العبّاس بن أميرالمؤمنين عليّ عليهما السلام، وأمّه أم البنين فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابيّ صلوات اللّه عليها، وهو أكبر أولادها، ولدته في الرابع من شعبان سنة ستّ وعشرين من الهجرة، وكان عمره الشريف عند شهادته أربعاً وثلاثين سنة. «2»

والحديث حول هذه الشخصيّة الإسلاميّة المقدّسة الفذّة يستدعي بالضرورة أنْ يُفرد له كتاب مستقل، «3» وحيث لايسعنا ذلك في إطار هذه الدراسة (مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة)، فإننّا هنا- لكي لانُحرم من توفيق أداء بعض حقّه العظيم علينا- نقدّم تبرّكاً باقة من النصوص الواردة في حقّه عليه السلام، الكاشفة عن عظمته وسموّ منزلته:

قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام:

«رحم اللّه العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قُطعت يداه، فأبدله اللّه عزّ وجلّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما

جعل

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 111

لجعفر بن أبي طالب! وإنّ للعباس عند اللّه تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة.». «1»

وعن الإمام الصادق عليه السلام: «كان عمّنا العبّاس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبداللّه عليه السلام، وأبلى بلاء حسناً ومضى شهيداً ..». «2»

وفي زيارته الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام من العبائر العجيبة الكاشفة عن جلالة رتبة مولانا أبي الفضل عليه السلام وعظمة منزلته ما يحيّر الألباب! فلنقرأ معاً: «قال الصادق عليه السلام: إذا أردت زيارة قبر العبّاس بن عليّ، وهو على شطّ الفرات بحذاء الحائر، فقف على باب السقيفة وقل:

سلامُ اللّه، وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين، والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح، عليك يا ابن أميرالمؤمنين.

أشهدُ لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيّ صلى الله عليه و آله المُرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصيّ المبلّغ، والمظلوم المهتضم، فجزاك اللّه عن رسوله، وعن أميرالمؤمنين، وعن الحسن والحسين صلوات اللّه عليهم، أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت وأعنت، فنعم عقبى الدّار، لعن اللّه من قتلك، ولعن اللّه من جهل حقّك واستخفّ بحرمتك، ولعن اللّه من حال بينك وبين ماء الفُرات، أَشهدُ أنك قُتلت مظلوماً، وأنّ اللّه منجزٌ لكم ما وعدكم.

جئتك يا ابن أميرالمؤمنين وافداً إليكم، وقلبي مُسلّم لكم، وأنا لكم تابع، ونصرتي لكم مُعدَّة حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين، فمعكم معكم لامع عدوّكم، إنّي بكم وبإيابكم من

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 112

المؤمنين، وبمن خالفكم وقتلكم من الكافرين، قتل اللّه أمّة قتلتكم بالأيدي والألسن.

ثمَّ ادخل وانكبّ على القبر وقُلْ:

السّلام عليك ايها العبدُ الصالح، المطيع للّه، ولرسوله، ولأميرالمؤمنين، والحسن، والحسين عليهم السّلام، السّلام عليك ورحمة اللّه وبركاته ورضوانه، وعلى روحك وبدنك، وأُشهدُ

اللّه أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريّون، المجاهدون في سبيل اللّه، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذّابون عن أحبّائه، فجزاك اللّه أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفى جزاء أحد ممّن وفى ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة أمره، أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود، فبعثك اللّه في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح الشهداء (السعداء)، «1» وأعطاك من جنانه أفسحها منزلًا، وأفضلها غرفاً، ورفع ذكرك في عليّين، وحشرك مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، أَشهدُ أنّك لم تَهِنْ ولم تنكُل، وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتّبعاً للنبيين، فجمع اللّه بيننا وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين، فإنّه أرحم الراحيمن.». «2»

وورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السّلام على أبي الفضل العبّاس بن أميرالمؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن اللّه قاتله يزيد «3» بن الرُقّاد الجُهَنيّ، وحكيم بن الطُّفيل الطّائي.». «4»

وكان مولانا أبوالفضل عليه السلام قد قدّم إخوته لأمّه وأبيه وهم: عبداللّه، وجعفر،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 113

وعثمان إلى القتال يوم عاشوراء ليستشهدوا قبله فيحتسبهم عند اللّه تعالى، فقد قال لأوّلهم: «تقدّم بين يدي حتى أراك واحتسبك فإنّه لا ولد لك!». «1»

«وكان العبّاس رجلًا وسيما جميلًا، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض، وكان يُقال له: قمر بني هاشم!، وكان لواء الحسين بن علي عليه السلام معه يوم قُتل.». «2»

وفي اليوم العاشر «لمّا نشبت الحرب بين الفريقين تقدّم عمرو بن خالد الصيداوي، ومولاه سعد، ومجمع بن عبداللّه، وجنادة بن الحرث، فشدّوا مقدمين بأسيافهم على الناس، فلمّا وغلوا فيهم عطف عليهم الناس فأخذوا

يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم، فندب الحسين عليه السلام لهم أخاه العبّاس، فحمل على القوم وحده! فضرب فيهم بسيفه حتّى فرّقهم عن أصحابه وخلص إليهم فسلّموا عليه، فأتى بهم، ولكنّهم كانوا جرحى فأبوا عليه أن يستنقذهم سالمين، فعاودوا القتال وهو يدفع عنهم حتّى قُتلوا في مكان واحد فعاد العباس إلى أخيه وأخبره خبرهم.». «3»

وكان صلوات اللّه عليه يُلقّب بالسقّاء، «4» وهو حامل لواء الحسين عليه السلام. «5»

وكان الإمام الحسين عليه السلام يحبّ أخاه العبّاس حبّاً خاصاً فائقاً، حتّى كان عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 114

يفدّي أبا الفضل عليه السلام بنفسه القدسيّة!

روى الطبري أنّ عمر بن سعد لعنه اللّه لمّا زحف يوم الخميس التاسع من المحرّم بعد صلاة العصر بجيوشه نحو معسكر الإمام الحسين عليه السلام، قال الإمام عليه السلام لأخيه أبي الفضل عليه السلام: «يا عبّاس! إركب- بنفسي أنتَ يا أخي!- حتّى تلقاهم فتقول لهم مالكم وما بدالكم، وتسألهم عمّا جاء بهم!؟». «1»

ولقد نجح أبوالفضل العبّاس عليه السلام في جميع الإختبارات الإلهية الصعبة التي تعرّض لها حتّى استُشهد صلوات اللّه عليه، لكنّ أسمى وأروع تلك الإختبارات في مراقي الكمال والفداء والإيثار كان يوم العاشر بعد أن قُتل أنصار الإمام عليه السلام من أهل بيته وصحبه الكرام، وضاق صدر أبي الفضل عليه السلام بالبقاء في دار الفناء وسئم الحياة، فجاء إلى الإمام الحسين يستأذنه في قتال القوم، فقال له الحسين عليه السلام: إنْ عزمت فاستقِ لنا ماءً! «2» فأخذ قربته وحمل على آلاف الأعداء حتّى كشفهم عن الشريعة، ثمَّ ملأ القربة، واغترف من الماء غرفة ليشرب وقلبه كما الجمر من العطش! لكنّه ذكر عطش الحسين عليه السلام ومن معه فرمى بالماء من يده وقال:

يا نفسىُ مِنْ بعدِ

الحسين هوني وبعده لا كُنتِ أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون وتشربين بارد المعين!؟

تا اللّه ما هذا فعال ديني «3»

ولمّا صُرع أبوالفضل وخرّ إلى الأرض- بلا يدين!- نادى بأعلى صوته: أدركني يا أخي! فانقضّ عليه أبوعبداللّه كالصقر! فرآه مقطوع اليمين واليسار، مرضوخ

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 115

الجبين، مشكوك العين بسهم، مرتثّاً بالجراحة، فوقف عليه منحنياً! وجلس عند رأسه يبكي حتى فاضت نفسه المقدّسة، ثمّ حمل الإمام عليه السلام على القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالًا، فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدَّ فيها الذئب! وهو يقول: أين تفرّون وقد قتلتم أخي!؟ أين تفرّون وقد فتتم عضدي!؟ ثم عاد إلى موقفه منفرداً! «1»

«ولمّا قُتل العباس قال الحسين عليه السلام: الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي!». «2»

ولقد تركه الإمام الحسين عليه السلام في المكان الذي صُرع فيه، ولم يحمله إلى خيمة الشهداء كما فعل بمن سبقه منهم!

ولقد أجاد المحقّق المرحوم السيّد المقرّم حيث قال: «وتركه في مكانه لسرٍّ مكنون أظهرته الأيّام، وهو أن يُدفن في موضعه منحازاً عن الشهداء، ليكون له مشهدٌ يُقصد بالحوائج والزيارات! وبقعة يزدلف إليها النّاس، وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبّته التي ضاهت السماء رفعة وسناءً، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الأمّة مكانته السامية، ومنزلته عند اللّه تعالى، فتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكد والزيارات المتواصلة، ويكون عليه السلام حلقة الوصل فيما بينهم وبين اللّه تعالى، فشاء حجّة الوقت أبوعبداللّه عليه السلام كما شاء المهيمن سبحانه أن تكون منزلة «أبي الفضل» الظاهرية شبيهة بالمنزلة المعنوية الأُخروية، فكان كما شاءا وأَحبّا». «3»

والسلام على مولانا أبي الفضل العباس مادام الليل والنهار!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 116

المحاورة بين الإمام عليه السلام وبين عمر بن سعد لعنه اللّه ..... ص : 116
اشارة

قال ابن أعثم الكوفي: «ثمَّ أرسل «1» الحسين رحمه اللّه

إلى عمر بن سعد: إنّي أُريد أنْ أكلّمك، فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك.

قال فخرج إليه عمر بن سعد في عشرين فارساً، وأقبل الحسين في مثل ذلك، فلمّا التقيا أمر الحسين أصحابه فتنحّوا عنه، وبقي معه أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبر رضي اللّه عنهم، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحّوا، وبقي معه حفص ابنه وغلام له يُقال له لاحق.

فقال له الحسين رضي اللّه عنه:

ويحك يا ابن سعد! أما تتّقي اللّه الذي إليه معادك أن تقاتلني، وأنا ابن من علمتَ يا هذا مِن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم!؟ فاترك هؤلاء وكنْ معي، فإنّي أقرّبك إلى اللّه عزّ وجلّ.

فقال له عمر بن سعد: أبا عبداللّه! أخاف أن تُهدم داري!

فقال له الحسين رضي اللّه عنه: أنا أبنيها لك.

فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي!

فقال الحسين: أنا أُخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.

فقال: لي عيال أخاف عليهم!

فقال: أنا أضمن سلامتهم.». «2»

قال فلم يُجب عمر إلى شي ء من ذلك! فانصرف عنه الحسين رضي اللّه عنه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 117

وهو يقول: مالك!؟ ذبحك اللّه (من) «1» على فراشك سريعاً عاجلًا! ولاغفر اللّه لك يوم حشرك ونشرك! فواللّه إنّي لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلّا يسيراً.». «2»

«فقال له عمر: يا أبا عبداللّه! في الشعير عوض عن البرّ!! ثمّ رجع عمر الى معسكره.». «3»

ولقد روى الطبري هذا اللقاء بين الإمام عليه السلام وبين عمر بن سعد من طريق أحد مجرمي جيش ابن سعد وهو (هاني ء بن ثبيت الحضرميّ)، وفي روايته: «...

فلمّا التقوا أمر حسين أصحابه أن يتنحّوا عنه، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك. قال: فانكشفنا عنهما بحيث لانسمع أصواتهما ولاكلامهما، فتكلّما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيعٌ، ثمّ انصرف

كلّ واحد منهما إلى عسكره بأصحابه ..». «4»

وهنا يُقحم الظنّ الآثم ليختلط بالحق!! ..... ص : 117

يقول الطبري بعد هذا: «وتحدّث النّاس فيما بينهما ظنّاً يظنونه أنّ حسيناً قال لعمر بن سعد: أُخرج معي إلى يزيد بن معاوية! وندع العسكرين! قال عمر: إذن تُهدم داري! قال: أنا أبنيها لك! قال: إذن تؤخذ ضياعي! قال: إذن أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز. قال فتكرّه ذلك عمر، قال فتحدّث الناس بذلك وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئاً ولاعلموه!». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 118

ثُمَّ يزيد الطبري الطين بِلَّة! ..... ص : 118

حيث يقول بعد ذلك: «وأمّا ما حدّثنا به الماجد بن سعيد، والصقعب بن زهير الأزدي وغيرهما من المحدّثين فهو ما عليه جماعة المحدّثين! قالوا: إنه قال:

اختاروا مني خصالًا ثلاثاً، إمّا أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، وإمّا أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه!، وإمّا أن تسيّروني إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم، فأكون رجلًا من أهله، لي مالهم وعليَّ ما عليهم.». «1»

لكنَّ شاهد عيان يروي الحقيقة فيقول: ..... ص : 118

وممّا يخفّف الغمَّ والهمَّ عن قلب طالب الحقيقة التأريخية أنّ الطبري مع روايته لتلك المظنونات الكاذبة الآثمة روى أيضاً حقيقة القضيّة عن لسان عقبة بن سمعان (رض) مولى الرباب زوج الإمام الحسين عليه السلام، وكان ممّن صحب الإمام عليه السلام من المدينة إلى كربلاء، وكان في خدمة الإمام عليه السلام فلم يغب عن شي ء ممّا خاطب الإمام عليه السلام به الناس!

قال الطبري: «قال أبو مخنف: فأمّا عبدالرحمن بن جندب فحدّثني عن عقبة بن سمعان «2» قال: صحبتُ حسيناً، فخرجت معه من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، ولم أفارقه حتّى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولابمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلّا وقد سمعتها، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر النّاس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية! ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين! ولكنّة قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر النّاس.». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 119

أُكذوبة عمر بن سعد التي افتراها على الإمام عليه السلام ..... ص : 119
اشارة

ويروي الطبري أنّ عمر بن سعد بعد لقائه مع الإمام عليه السلام كان قد كتب إلى ابن زياد كتاباً نصّه: «أمّا بعدُ، فإنَّ اللّه قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة! هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيّره إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلًا من المسلمين، له مالهم وعليه ما عليه، أو أن يأتي يزيد أميرالمؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضىً وللأمّة صلاح!». «1»

إشارة: ..... ص : 119

يلفت انتباه المتتبع أنّ رواية هذا الكتاب والرواية التي ذكرت المطالب الثلاثة المفتراة على الإمام عليه السلام قد رواهما الطبري عن أبي مخنف، عن مجالد بن سعيد «2» الهمداني، والصقعب بن زهير، «3» فإن كان خبر هذه الرسالة صادقاً، وقد علم هذان الراويان بمحتواها، فالظنّ قويّ بأنّ خبر المطالب الثلاثة المفتراة على الإمام عليه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 120

قد نُسِجَ عن محتوى هذه الرسالة! وإنْ لم يكن حتّى خبر هذه الرسالة صادقاً! فإنَّ الخبر الأوّل والثاني كليهما قد صدرا عن منبع واحد كاذب!

وعلى فرض صحة خبر هذه الرسالة! فما هو الداعي الذي دفع عمر بن سعد إلى أن يفتري على الإمام عليه السلام هذه الفرية!؟

لاشكَّ أنّ عمر بن سعد- كغيره من مجرمي جيش ابن زياد- كان يعلم علماً يقيناً بأحقيّة الإمام عليه السلام بهذا الأمر! كما كان يعلم بما لايرتاب فيه بالعار العظيم وبالسقوط الفظيع الذي سيلحقه مدى الدهر إذا ما قتل الإمام عليه السلام في هذه المواجهة التي صار هو فيها على رأس الجيش الأموي! ولكنّه كان في باطنه أيضاً أسير رغبته الجامحة في ولاية الريّ ونعمائها! من هنا فقد سعى إلى

أن يجد المخرج من هذه الورطة فيُعافى من ارتكاب جريمة قتل الإمام عليه السلام، ولايخسر أمنيته في ولاية الري!

وفي صفوف جيش ابن زياد أفراد كثيرون من نوع عمر بن سعد يتمنّون بقاء مواقعهم ومنافعهم الدنيوية مع العافية من الإشتراك في جريمة قتل الإمام عليه السلام! كشبث بن ربعي وغيره كثير، لكنّ هؤلاء قد غلبت عليهم شقوتهم- إذ سلبهم الشلل النفسي والروحي كلّ قدرة على اتخاذ الموقف الصحيح- فاستحوذ عليهم الشيطان، فدفعهم إلى ارتكاب أفحش وأفجع الجرائم وهم يتوهمون نوال ما يتمنّونه من هذه الدنيا الفانية! أو بقاء ما في أيديهم- الخالية- منها!

شمر بن ذي الجوشن يُحبط خطّة عمر بن سعد! ..... ص : 120

ويواصل الطبري رواية مجرى هذا الحدث فيقول: «فلمّا قرأ عبيداللّه الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه! نعم قد قبلتُ!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 121

قال فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك إلى جنبك!؟ واللّه لئن رحل من بلدك ولم يضع يده في يدك ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّ! ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز! فلا تعطه هذه المنزلة فإنّها من الوهن، ولكنْ لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإنْ عاقبتَ فأنت وليُّ العقوبة! وإنْ غفرت كان ذلك لك! واللّه لقد بلغني أنّ حسيناً وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدّثان عامّة الليل!

فقال له ابن زياد: نعم ما رأيتَ، الرأي رأيك!!». «1»

ويواصل الطبري رواية ذلك الحدث، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: «ثمّ إنّ عبيداللّه بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن، فقال له: أخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي! فإنْ فعلوا فليبعث بهم إليَّ سلماً! وإنْ هم أبوا فليقاتلهم! فإنْ فعل فاسمع له

وأطع! وإنْ هو أبى فقاتلهم فأنت أميرالنّاس! وَثِبْ عليه فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه!». «2»

وكان كتاب ابن زياد لعمر بن سعد: «أمّا بعدُ، فإنّي لم أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولالتقعد له عندي شافعاً! أُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليَّ سلماً! وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنّهم لذلك مستحقّون! فإنْ قُتل حسينٌ فأَوْطِى ء الخيلَ صدره وظهره! فإنّه عاقٌ مشاقّ قاطع ظلوم!! ولستُ أرى في هذا أن يضرَّ بعد الموت شيئاً، ولكنْ عليَّ قول لو قد قتلته فعلتُ هذا به! فإنْ أنت مضيت

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 122

لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإنْ أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخَلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنّا قد أمرناه بأمرنا! والسلام.». «1»

إبن زياد يكتب أماناً لأبي الفضل العباس وإخوته عليهم السلام! ..... ص : 122

يروي الطبري، عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبداللّه بن شريك العامري قال: «لمّا قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب، قام هو وعبداللّه بن أبي المحل، وكانت عمّته أمّ البنين ابنة حزام عند عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فولدت له العبّاس، وعبداللّه، وجعفراً وعثمان، فقال عبداللّه بن أبي المحلّ بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب: أصلح اللّه الأمير! إنّ بني أختنا مع الحسين، فإنْ رأيتَ أنْ تكتب لهم أماناً فعلت. قال: نعم، ونعمة عين! فأمر

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 123

كاتبه فكتب لهم أماناً، فبعث به عبداللّه بن أبي المحل مع مولى له يُقال له: كُزمان، فلمّا قدم عليهم دعاهم فقال: هذا أمانٌ بعث به خالكم!

فقال له الفتية: أَقرى ء خالنا السلام، وقل له أنْ لاحاجة لنا في أمانكم! أمان اللّه خيرٌ من

أمان ابن سميّة!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 124

وقائع اليوم التاسع من المحرّم الحرام ..... ص : 124

ويواصل الطبري رواية قصة كربلاء قائلًا: «فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيداللّه بن زياد إلى عمر بن سعد، فلمّا قدم به عليه فقرأه قال له عمر:

ما لك!؟ ويلك، لاقرّب اللّه دارك! وقبّح اللّه ما قدمتَ به عليَّ! واللّه إنّي لأظنّك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبتُ به إليه! أفسدت علينا أمراً كُنّا رجونا أن يصلح! لايستسلمُ واللّهِ حسينٌ، إنّ نفساً أبيّة لبَيْنَ جنبيه!

فقال له شمر: أخبرني ما أنت صانع!؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوّه!؟ وإلّا فخلِّ بيني وبين الجند والعسكر!

قال: لا! ولا كرامة لك! وأنا أتولّى ذلك!! فدونك «1» فكن أنت على الرجّالة.». «2»

شمر بن ذي الجوشن يبذل الأمان للعبّاس وإخوته عليهم السلام! ..... ص : 124

«وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين عليه السلام فقال: أين بنو أُختنا!؟

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 125

فخرج إليه العبّاس وجعفر وعبداللّه وعثمان بنو عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقالوا له:

ما تريد!؟

فقال: أنتم يا بني أُختي آمنون!

فقال له الفتية: لعنك اللّه ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول اللّه لا أمان له!؟». «1»

جيش الضلال يزحف على معسكر الحقّ والهدى! ..... ص : 125
اشارة

ثمّ إنّ عمر بن سعد لعنه اللّه- وقد آثر العمى على الهدى، والدنيا الفانية على الآخرة، وانقاد مستسلماً لهواه فيها- نفر بجيشه لقتال الإمام عليه السلام «فنهض إليه عشيّة «2» الخميس لتسع مضين من المحرّم». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 126

ويقول المؤرخون أيضاً: «ثمّ إنّ عمر بن سعد نادى: يا خيل اللّه اركبي وأبشري! فركب في النّاس، ثمّ زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتباً بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه!

وسمعت أُخته زينب الصيحة، فدنت من أخيها فقالت: يا أخي! أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟

قال: فرفع الحسين رأسه فقال: إني رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في المنام فقال لي: إنّك تروح إلينا! «1»

قال فلطمت أخته وجهها وقالت: يا ويلتا!

فقال: ليس لك الويل يا أخيتي! اسكني رحمكِ الرحمن. «2»

وقال العبّاس بن عليّ: يا أخي! أتاك القوم!

قال فنهض ثمّ قال: يا عبّاس، إركب بنفسي أنت يا أخي! حتّى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم، وما بدا لكم، وتسألهم عمّا جاء بهم!؟

فأتاهم العبّاس، فاستقبلهم في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العبّاس: ما بدا لكم وما تريدون!؟

قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 127

قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبداللّه فأعرض عليه ما ذكرتم.

قال فوقفوا، ثمّ

قالوا: إلْقَهْ فأعلمه ذلك ثم الْقَنا بما يقول.

قال فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم!

فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كَلِّم القومَ إنْ شئتَ، وإنْ شئتَ كلَّمتهم.

فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكنْ أنت الذي تلكلّمهم.

فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما واللّه لبئس القوم عند اللّه غداً قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيّه عليه السلام وعترته وأهل بيته عليهم السلام، وعُبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين اللّه كثيراً!

فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت!

فقال له زهير: يا عزرة، انّ اللّه قد زكّاها وهداها، فاتّقِ اللّه يا عزرة فإنّي لك من الناصحين، أُنشدك اللّه يا عزرة أن تكون ممّن يُعين الضُلّالَ على قتل النفوس الزكيّة!

قال: يا زهير! ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنت عثمانياً!؟ «1»

قال: أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم!؟ أما واللّه ماكتبت إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلت إليه رسولًا قطّ، ولاوعدته نصرتي قطّ، ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم! فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 128

لما ضيّعتم من حقّ اللّه وحقّ رسول عليه السلام!

قال وأقبل العبّاس بن عليّ يركض حتّى انتهى إليهم.

فقال: يا هؤلاء! إنّ أبا عبداللّه يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر، فإنّ هذا أمرٌ لم يحر بينكم وبينه فيه منطقٌ فإذا أصبحنا إلتقينا إنْ شاء اللّه، فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه! أو كرهنا فرددناه.

وإنّما أراد بذلك أن يردَّهم عنه تلك العشيّة حتّىْ

يأمر بأمره ويوصي أهله! «1»

فلمّا أتاهم العبّاس بن عليّ بذلك قال عمر بن سعد: ما ترى ياشمر!؟

قال: ما ترى أنت!؟ أنت الأمير والرأي رأيك!

قال: قد أردتُ ألّا أكون!! «2»

ثمّ أقبل على الناس فقال: ماذا ترون؟

فقال عمرو بن الحجّاج بن سلمة الزبيدي: سبحان اللّه! واللّه لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها! «3»

وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبُحنّك بالقتال غدوة!

فقال: واللّه لو أعلم أن يفعلوا ما أخّرتهم العشيّة!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 129

قال وكان العبّاس بن عليّ حين أتى حسيناً بما عرض عليه عمر بن سعد قال:

إرجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والإستغفار.». «1»

ويروي الطبري، عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبداللّه بن شريك العامري، عن الإمام السجّاد عليه السلام قال: «أتانا رسول من قِبَل عمر بن سعد، فقام مثل حيث يُسمع الصوت فقال: إنّا قد أجلّناكم إلى غدِ، فإنْ استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيداللّه بن زياد، وإنْ أبيتم فلسنا بتاركيكم.». «2»

أمّا ابن أعثم الكوفي فيروي قائلًا: «... فقال عمر بن سعد: إنّا قد أجّلناهم في يومنا هذا. قال فنادى رجل من أصحاب عمر: يا شيعة الحسين بن عليّ! قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد، فإنْ استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجّهنا بكم إليه، وإنْ أبيتم ناجزناكم.

قال فانصرف الفريقان بعضهم من بعض.». «3»

إشارة: ماذا لو حصلت فاجعة عاشوراء في الليل!؟ ..... ص : 129

مرَّ بنا قول الراوي- في رواية الطبري- في تعليله لطلب الإمام عليه السلام من عمر

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 130

بن سعد أن يؤجّلهم إلى صباح يوم العاشر: «وإنّما

أراد بذلك أن يردَّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصي أهله.». «1»

كما مرَّ بنا أيضاً قول الإمام الحسين عليه السلام نفسه لأخيه أبي الفضل العبّاس عليه السلام:

«إرجع إليهم، فإنْ استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والإستغفار.».

ولعلّ ماظنّه الراوي- في رواية الطبري- كان صحيحاً، في أنه عليه السلام أراد المهلة إلى الصباح حتّى يأمر- من ينجو من أهله- بأوامره ويوصيهم بوصاياه، وهذا لاينافي ما ورد في الأثر أنه عليه السلام ترك وصاياه وأماناته عند أمّ سلمة (رض) «2» حتّى تسلّمها إلى الإمام السجّاد عليه السلام بعد عودته، كما لاينافي كون الإمام السجّاد عليه السلام والعقيلة زينب عليه السلام وسواهما من أهله كانوا معه منذ بدء رحلة الركب من المدينة حتّى كربلاء.

لكنّ هذا سببٌ من جملة أسباب متعددة كانت الدافع لطلب الإمام عليه السلام المهلة حتّى الصباح، ولم يكن السبب الوحيد الذي انحصرت به القضيّة كما عبّر الراوي عن ذلك بأداة الحصر (إنّما)!

وصحيح تماماً أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يحبّ أن يقضي الليلة الأخيرة من عمره الشريف- خصوصاً وأنها ليلة جمعة- في صلاة وكثرة دعاء واستغفار وتلاوة القرآن.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 131

نعم، لكنّ هذا أيضاً- مع أهميّته البالغة- كان من جملة الأسباب!

«إنّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد تعامل في العمق مع كلّ قضيّة في مسار النهضة المقدّسة بمنطق (الشهيد الفاتح)، وخاطبها بلغة الشهادة التي هي عين الفتح! وإنْ كان في نفس الوقت قد تعاطى مع ظواهر القضايا بمنطق الحج الظاهرة، ولامنافاة بين المنطقين بل هما في طول بعضهما البعض ...

فحيث إنْ لم يبايع عليه

السلام يُقتل! فقد سعى عليه السلام ألّا يُقتل في ظروف زمانية ومكانية وبكيفيّة يختارها ويخطّط لها ويُعدّها العدوّ، وسعى عليه السلام بمنطق (الشهيد الفاتح) أن يتحقّق مصرعه الذي لابدّ منه على أرض يختارها هو، «1» لايتمكّن العدوّ فيها أن يعتمّ على مصرعه فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان الأمّة ويحرّكها بالإتجاه الذي أراد الحسين عليه السلام، كما سعى عليه السلام أن تجري وقائع المأساة في وضح النهار لا في ظلمة الليل، ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلا يتمكّن العدوّ من أن يعتمّ على هذه الوقائع الفجيعة ويغطّي عليها، وهذا هو الهدف المنشود من وراء العامل الإعلامي والتبليغي في طلب الإمام عليه السلام عصر تاسوعاء أن يمهلوه إلى صبيحة عاشوراء!». «2»

نعم، فهذا السبب- وإن كان من جملة حسابات التخطيط الحربي خصوصاً بالنسبة إلى قوّة محاصرة في بقعة محدودة ضيّقة- إلّا أنّه سبب أوّل وأساس في حسابات التخطيط الإعلامي والتبليغي، خصوصاً بالنسبة إلى إمام مفترض الطاعة مظلوم مع مجموعة من الأنصار الربانيين، يريد أن يكشف للأمّة- وللعالم أجمع- عن حقّانيته وأحقيته ومظلوميته، وعن وحشيّة أعدائه وعدم مراعاتهم لأيّ معنى والتزام أخلاقي ودينيّ!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 132

فكان لابدّ من النهار، «وأنْ يُحشرَ الناس ضحى»، «1» حتّى يشهد النّاس التفاصيل الكبيرة والصغيرة من الفاجعة والمأساة، ويسمعوا كلّ البلاغات والنداءات والإحتجاجات الإلهية عن لسان الإمام عليه السلام وأنصاره الكرام! ثمّ لينظروا كيف لاتستجيب الوهدة لنداء الذروة! ويروا في واضحة النهار كيف تفترس أسنّة الرذيلة النواهش وسيوفها البواتر هيكل الفضيلة الطاهر!، وكيف تهشّم حوافر خيولها العمياء أضلاع الصدر القدسيّ الذي في طيّه سرُّ الإله مصون!، وكيف تُباد عصبة الأبرار، وتُحزُّ الرؤوس، ويُقتل الصغار،

وكيف تنحرُ سهام الضلالة الحاقدة حتى الطفل الرضيع! وكيف تُحرقُ الخيام! وتُسلبُ النساء! وينتهب الرحل! .. الى ما سوى ذلك من تفاصيل مأساوية فجيعة، شوهدت في رابعة النهار، فرواها المشاهدون، وتناقلها الناس والتأريخ.

لقد كان النهار عاملًا مهمّاً من عوامل نجاح حفظ حقيقة فاجعة الطفّ كما هي وبكلّ تفاصيلها، إذ لو كانت قد حصلت الواقعة في ليل لغطّت ظلمته على جلّ تفاصيلها المفجعة وبطولاتها المشرقة، ولما رأى من حضرها إلّا نزراً قليلًا من وقائعها، ثمّ لما بلغنا منها إلّا حكاية مبهمة وجيزة لاتحمل في طيّاتها من الفعل والتأثير إلّا شيئاً يسيرا!

وقايع ليلة عاشوراء! ..... ص : 132

يروي الطبري، عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبداللّه بن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 133

شريك العامري، عن الإمام السجّاد عليه السلام قال: «جمع الحسين أصحابه بعدما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: أُثني على اللّه تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، أللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعدُ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولاخيراً من أصحابي! ولا أهل بيتٍ أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي! فجزاكم اللّه عنّي جميعاً خيراً، ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد أذنت لكم! فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي ذمام! هذا الليل غشيكم فاتخذوه جَملًا!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 134

وفي رواية بعدها للطبري أيضاً أنه عليه السلام قال: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا، ثمّ ليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج اللّه، فإنّ القوم

إنّما يطلبونني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.

فقال له إخوته، وأبناؤه، وبنوأخيه، وإبنا عبداللّه بن جعفر: لِمَ نفعل!؟ لنبقى بعدك!؟ لا أرانا اللّه ذلك أبداً!

بدأهم بهذا القول العبّأس بن عليّ، ثمّ إنّهم تكلّموا بهذا ونحوه!

فقال الحسين عليه السلام: يا بني عقيل! حسبكم من القتل بمسلم، إذهبوا قد أذنت لكم!

قالوا: فما يقول النّاس!؟ يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف! ولاندري ماصنعوا!؟ لا واللّه لانفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حتّى نرد موردك! فقبّح اللّه العيش بعدك!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 135

«قال فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسديّ فقال: أنحنُ نخلّي عنك ولمّا نعذر إلى اللّه في أداء حقّك!؟ أما واللّه حتّى أكسر في صدورهم رمحي! وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي! ولا أفارقك! ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك!

وقال سعد بن عبداللّه الحنفي: «1» واللّه لانخلّيك حتّى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيك، واللّه لو علمت أنّي أُقتل ثم أحيا ثمّ أُحرق حيّاً ثمّ أُذَرُّ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثمَّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!؟

وقال زهير بن القين: واللّه لوددت أنّي قُتلتُ ثمّ نُشرتُ ثمّ قُتلتُ حتّى أُقتل كذا ألف قتلة وأنّ اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!

قال وتكلّم جماعة بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد فقالوا: واللّه لانفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء! نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا!

فإذا نحنُ قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا!». «2»

وفي مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: «ثُمّ تكلّم بُرير بن خضير الهمداني، وكان من الزهّاد الذين يصومون النهار ويقومون الليل، فقال: يا ابن رسول اللّه!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 136

إئذن لي أن آتي هذا الفاسق عمر بن سعد فأعظه لعلّه يتّعظ ويرتدع عمّا هو عليه!

فقال الحسين: ذاك إليك يا بُرير.

فذهب إليه حتّى دخل على خيمته، فجلس ولم يسلّم! فغضب عمر وقال: يا أخا همدان مامنع من السلام عليَّ!؟ ألستُ مسلماً أعرف اللّه ورسوله! وأشهد بشهادة الحقّ!؟

فقال له برير: لو كنت عرفت اللّه ورسوله كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول اللّه تريد قتلهم! وبعدُ فهذا الفرات يلوح بصفائه، ويلج كأنّه بطون الحيّات، تشرب منه كلاب السواد وخنازيرها، وهذا الحسين بن عليّ وإخوته ونساؤه وأهل بيته يموتون عطشاً! وقد حِلْتَ بينهم وبين ماء الفرات أن يشربوه! وتزعم أنّك تعرف اللّه ورسوله!؟

فأطرق عمر بن سعد ساعة إلى الأرض، ثمّ رفع رأسه وقال: واللّه يا بُرير إنّي لأعلم يقيناً أنَّ كُلَّ من قاتلهم وغصبهم حقّهم هو في النار لامحالة، ولكن يا بُرير! أفتشير عليَّ أن أترك ولاية الريّ فتكون لغيري!؟ فواللّه ما أجد نفسي تجيبني لذلك، ثمّ قال:

دعاني عبيداللّه من دون قومه إلى خطّة فيها خرجتُ لِحَيني

فواللّه ما أدري وإنّي لحائر أفكّر في أمري على خطرينِ

أأترك مُلك الريّ والريّ منيتي أم ارجع مأثوماً بقتل حسينِ؟

وفي قتله النّار التي ليس دونها حجابٌ، ومُلك الريّ قرّة عينيِ «1»

فرجع برير إلى الحسين وقال: يا ابن رسول اللّه! إنّ عمر بن سعد قد رضي لقتلك بملك الريّ!». «1»

وفي رواية أخرى عن الإمام السجّاد عليه السلام! ..... ص : 136

روى السيّد هاشم البحراني مرسلًا عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعتُ عليَّ بن الحسين زين العابدين عليهما

السلام يقول: «لمّا كان اليوم الذي استشهد فيه أبي، جمع أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم.

فقال لهم: يا أهلي وشيعتي اتّخذوا هذا الليل جملًا لكم، وانجوا بأنفسكم، فليس المطلوب غيري، ولو قتلوني ما فكّروا فيكم، فانجوا رحمكم اللّه، وأنتم في حِلّ وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني.

فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد: واللّه يا سيّدنا يا أباعبداللّه، لاخذلناك أبداً، واللّه لا قال النّاس: تركوا إمامهم وكبيرهم وسيّدهم وحده حتّى قُتل! ونبلوا بيننا وبين اللّه عُذراً ولانخليّك أو نُقتل دونك!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 138

فقال عليه السلام لهم: يا قوم إنّي غداً أُقتل وتُقتلون كلّكم معي، ولايبقى منكم واحد!

فقالوا: الحمد للّه الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك! أو لاترضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول اللّه؟

فقال عليه السلام: جزاكم اللّه خيراً. ودعا لهم بخير، فأصبح وقُتل وقتلوا معه أجمعون! «1»

فقال له القاسم بن الحسن عليهما السلام: وأنا فيمن يُقتل؟

فأشفق عليه فقال له: يا بُنيّ كيف الموت عندك؟

قال: يا عمّ، أحلى من العسل!

فقال عليه السلام: إي واللّه، فداك عمّك! إنّك لأحد من يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاءٍ عظيم! وإبني عبداللّه!

فقال: يا عمّ! ويصلون إلى النساء حتّى يُقتل عبداللّه وهو رضيع!؟

فقال عليه السلام: فداك عمّك! يُقتل عبداللّه إذ جفّت روحي عطشاً، وصرتُ إلى خِيَمنا فطلبت ماءً ولبناً فلا أجد قطّ! فأقول: ناولوني إبني لأشرب مِن فيه! فيأتوني به فيضعونه على يدي، فأحمله لأُدنيه مِن فِيَّ فيرميه فاسق بسهم فينحره وهو يُناغي! فيفيض دمه في كفّي! فأرفعه إلى السماء وأقول: أللّهمَّ صبراً واحتساباً فيك! فتعجلني الأسنّة فيهم والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم، فأكرّ عليهم في أمرِّ أوقات في الدنيا! فيكون ما يريد اللّه!

مع الركب

الحسينى (ج 4)، ص: 139

فبكى وبكينا، وارتفع البكاء والصراخ من ذراري رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الخيم.

ويسأل زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عنّي، فيقولون: يا سيّدنا! فسيّدنا عليّ- فيشيرون إليَّ- ماذا يكون حاله؟

فيقول مستعبراً: ما كان اللّه ليقطع نسلي من الدنيا! فكيف يصلون وهو أبوثمانية أئمّة!؟». «1»

وفي رواية أخرى ... ..... ص : 139

جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام: «ولمّا امتُحن الحسين عليه السلام ومن معه بالعسكر الذين قتلوه وحملوا رأسه، قال لعسكره: أنتم في حِلّ من بيعتي فالحقوا بعشائركم ومواليكم. وقال لأهل بيته: قد جعلتكم في حِلّ من مفارقتي، فانّكم لاتطيقونهم لتضاعف أعدادهم وقواهم، وما المقصود غيري، فدعوني والقوم، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يعينني ولايخلّيني من حسن نظره كعادته في أسلافنا الطيّبين.

فأمّا عسكره ففارقوه، «2» وأمّا أهله الأدنون من أقربائه فأبوا وقالوا: لانفارقك

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 140

ويحزننا ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وإنّا أقرب ما نكون إلى اللّه إذا كُنّا معك!

فقال لهم: فإن كنتم قد وطّنتم أنفسكم على ما وطّنت نفسي عليه فاعلموا أنّ اللّه يهب المنازل الشريفة لعباده باحتمال المكاره، وأنّ اللّه وإنْ كان خصّني مع من مضى من أهلي الذين أنا آخرهم بقاءً في الدنيا من الكرامات بما يسهل عليَّ معها احتمال المكروهات، فإنّ لكم شطر ذلك من كرامات اللّه تعالى، وأعلموا أنّ الدنيا حلّوها ومُرّها حلم! والإنتباه في الآخرة! والفائز من فاز فيها، والشقيّ من شقي فيها ...». «1»

الحضرمي: أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك! ..... ص : 140

وروى السيّد ابن طاووس (ره) أنّه: «وقيل لمحمّد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد أُسِرَ ابنك بثغر الريّ! قال: عند اللّه أحتسبه ونفسي، ما كنتُ أُحبُّ أن يؤسر وأن أبقى بعده!

فسمع الحسين عليه السلام قوله: فقال: رحمك اللّه! أنت في حِلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك!

فقال: أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك!!

قال: فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه! فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 141

إشارة

في زيارة الناحية المقدّسة ورد السلام على بشر بن عمر الحضرميّ والثناء عليه بما قاله للإمام الحسين عليه

السلام هكذا: «السلام على بِشر بن عمر الحضرمي، شكر اللّه لك قولك للحسين وقد أذن لك في الإنصراف: أكلتني إذن السباع حيّاً إنْ فارقتك! وأسأل عنك الركبان!؟ وأخذلك مع قلّة الأعوان!؟ لايكون هذا أبداً!». «1»

وقال المحقّق السماويّ (ره): «بشر بن عمرو بن الأُحدوث الحضرمي الكندي: كان بشر من حضرموت، وعداده في كندة، وكان تابعياً، وله أولاد معروفون بالمغازي، وكان بشر ممّن جاء إلى الحسين عليه السلام أيّام المهادنة. وقال السيّد الداودي: لمّا كان اليوم العاشر من المحرّم ووقع القتال، قيل لبشر وهو في تلك الحال: إنّ إبنك عمراً قد أُسر في ثغر الريِّ! فقال: عند اللّه أحتسبه ونفسي! ما كُنت أحبّ أن يؤسر وأن أبقى بعده! فسمع الحسين عليه السلام مقالته، فقال له: رحمك اللّه! أنت في حلّ من بيعتي، فاذهب واعمل في فكاك إبنك!

فقال له: أكلتني السباع حيّاً إنْ أنا فارقتك يا أبا عبداللّه!

فقال له: فأعطِ إبنك محمّداً- وكان معه- هذه الأثواب البرود يستعين بها في فكاك أخيه. وأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار!». «2»

فالمستفاد ممّا أورده المحقّق السماوي (ره): أنّ هذا الشهيد (رض) إسمه بشر، وإسم إبنه الذي كان معه محمّد، وإسم ابنه الأسير في ثغر الريّ عمرو.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 142

إذن فإسم هذا الشهيد (رض)- وهو الموافق لما ورد في زيارة الناحية المقدّسة- بشر بن عمرو (أوعمر) الحضرمي، وليس اسمه محمّد بن بشير الحضرمي كما ورد في تاريخ ابن عساكر واللهوف! هذا أوّلًا.

أمّا ثانياً: فإنْ ما أورده المحقق السماوي (ره) صريح في أنّ هذه الواقعة كانت يوم العاشر وليس ليلة العاشر كما يُشعر به سياق كتاب اللهوف!

ويؤيّد أنّ هذه الواقعة كانت يوم العاشر ما ذكره أبوالفرج الأصبهاني في كتابه مقاتل الطالبيين مشيراً

إلى هذه قصة، حيث يقول: «وجاء رجل حتى دخل عسكر الحسين، فجاء إلى رجل من أصحابه فقال له: إنّ خبر إبنك فلان وافى أنّ الديلم أسروه! فتنصرف معي حتّى نسعى في فدائه؟

فقال: حتّى أصنع ماذا!؟ عند اللّه أحتسبه ونفسي!

فقال له الحسين عليه السلام: انصرف، وأنت في حلّ من بيعتي، وأنا أعطيك فداء إبنك!

فقال: هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك! لايكن واللّه هذا أبداً ولا أُفارقك!

ثمّ حمل على القوم فقاتل حتّى قُتل رحمة اللّه عليه ورضوانه.». «1»

ولاندري .. فلعلّ العبارة الأخيرة في خبر أبي الفرج الأصبهاني كانت هي مستند القول فيما بعد أنّ هذه الواقعة كانت يوم العاشر وليس ليلة العاشر، كما قال به الشيخ السماويّ (ره) نقلًا عن السيّد رضيّ الدين الداودي، واللّه العالم.

الإمام عليه السلام يُري أنصاره منازلهم في الجنّة! ..... ص : 142

روى القطب الراوندي (ره) عن أبي حمزة الثمالي (ره) قال: قال عليّ بن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 143

الحسين عليهما السلام: «كُنت مع أبي الليلة التي قُتل صبيحتها، فقال لأصحابه: هذا الليل فاتخذوه جملًا، فإنّ القوم إنّما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم، وأنتم في حلّ وسعة!

فقالوا: لا واللّه! لايكون ذلك أبداً!

قال: إنّكم تُقتلون غداً كذلك لايفلت منكم رجل! «1»

قالوا: الحمد للّه الذي شرّفنا بالقتل معك!

ثمّ دعا، وقال لهم: إرفعوا رؤوسكم وانظروا!

فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة! وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان! وهذا قصرك يا فلان! وهذه درجتك يا فلان!

فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزله من الجنّة!». «2»

وروى الشيخ الصدوق (ره) في العلل بسند عن محمّد بن عمارة أنه سأل الإمام الصادق عليه السلام: «قال: قلتُ له: أخبرني عن أصحاب الحسين عليه السلام وإقدامهم على الموت؟

فقال: إنهم كُشف لهم الغطاء حتّى رأوا منازلهم من

الجنّة! فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها! وإلى مكانه من الجنّة!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 144

حبيب بن مظاهر وسرُّ المزاح ليلة عاشوراء! ..... ص : 144
اشارة

نقل الكشّي (ره) عن كتاب (مفاخر الكوفة والبصرة) قائلًا:

«ولقد مزح حبيب بن مظاهر الأسدي، فقال له يزيد بن خضير الهمداني، وكان يُقال له سيّد القرّاء: يا أخي! ليس هذه بساعة ضحك!

قال: فأيُّ موضع أحقّ من هذا بالسرور!! واللّه ماهو إلّا أن تميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين!». «1»

إشارة ..... ص : 144

ليس في أنصار الإمام الحسين عليه السلام الذين استشهدوا بين يديه في كربلاء رجل من آل همدان إسمه يزيد بن خضير الهمداني، بل إنّ هذا الرجل هو برير بن خضير الهمداني، ويؤكّد صحة هذا ماوصفه الخبر بأنّه كان سيّد القراء، لأنّ بريراً كان معروفاً بشيخ القرّاء أو سيّد القرّاء في الكوفة، إذن فيزيد تصيحف البرير.

ونقل السيّد المقرّم (ره) في المقتل «2» هذه الواقعة عن رجال الكشّي أيضاً قائلًا:

«وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك! ...».

وقد ورد في زيارة الناحية المقدّسة أيضاً: «السلام على يزيد بن حصين الهمدانيّ المشرقيّ القاري». «3»

قال المحقّق السماوي (ره): «برير: في ضبط هذا الإسم وضبط إسم أبيه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 145

خلاف، فقد كُتب في الرجال: يزيد بن حصين ...». «1»

وقال المحقّق التستري: «هذا، وقد قلنا في عنوان بُرير بن حصين: إنّ يزيد بن حصين في نسخة الكشّي محرّف «برير بن خضير» هذا. «2»

أصحاب الإمام الحسين عليه السلام لايجدون أَلَمَ مسَّ الحديد! ..... ص : 145

روى القطب الراوندي (ره) بسندٍ عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «قال الحسين بن عليّ عليهما السلام لأصحابه قبل أن يُقتل: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: يا بُنيّ، إنك ستُساق إلى العراق، وهي أرض التقى بها النبيّون وأوصياء النبيين، وهي أرض تُدعى (عمورا)، وإنك تستشهدُ بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك، لايجدون ألم مسّ الحديد، وتلا: «قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم»، تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً! فأبشروا! فواللّه لئن قتلونا فإنّا نرد على نبيّنا ...». «3»

وفي حديث عن الإمام الباقر عليه السلام أن الإمام الحسين عليه السلام قال لأصحابه:

«أبشروا بالجنّة! فواللّه إنّا نمكث ما شاء اللّه بعدما يجري علينا، ثم يخرجنا

اللّه وايّاكم حتّى يظهر قائمنا فينتقم من الظالمين! وأنا وأنتم نشاهدهم في السلاسل والأغلال وأنواع العذاب! فقيل له: من قائمكم يا ابن رسول اللّه؟

قال: السابع من ولد إبني محمّد بن عليّ الباقر: وهو الحجّة ابن الحسن بن عليّ

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 146

بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ إبني، وهو الذي يغيب مدّة طويلة ثمّ يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً.». «1»

الإمام عليه السلام يأمر بحفر خندق حول معسكره ..... ص : 146

«ثمّ إنّ الحسين عليه السلام أمر بحفيرة فحفرت حول عسكره شبه الخندق، وأمر فحُشيت حطباً، وأرسل عليّاً إبنه عليه السلام في ثلاثين فارساً وعشرين راجلًا ليستقوا الماء، وهم على وجل شديد! «2» وأنشأ الحسين عليه السلام يقولُ:

يا دهرُ أُفٍّ لك من خليل كم لك في الإشراق والأصيلِ

من طالب وصاحب قتيلِ والدهر لايقنع بالبديلِ

وإنّما الأمر إلى الجليل وكلُّ حيٍّ سالك سبيلي

ثمّ قال لأصحابه: قوموا فاشربوا من الماء يكن آخر زادكم وتوضأوا واغتسلوا واغسلوا ثيابكم لتكون أكفانكم! ...». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 147

أما الخوارزمي فقد نقل قضيّة حفر الخندق عن ابن أعثم الكوفي هكذا: «فلمّا أيس الحسين من القوم، وعلِمَ أنّهم مقاتلوه، قال لأصحابه: قوموا فاحفروا لنا حفيرة شبه الخندق حول معسكرنا، وأججّوا فيها ناراً حتّى يكون قتال هؤلاء القوم من وجه واحد، فإنّهم لو قاتلونا وشُغلنا بحربهم لضاعت الحرم.

فقاموا من كلّ ناحية فتعاونوا واحتفروا الحفيرة، ثمَّ جمعوا الشوك والحطب فألقوه في الحفيرة وأججّوا فيها النّار.». «1»

يا دهرُ أُفٍّ لك من خليل! ..... ص : 147

قال الشيخ المفيد (ره): «قال عليّ بن الحسين عليه السلام: إنّي جالسٌ في تلك العشيّة التي قُتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرّضني، إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جوين مولى أبي ذرّ الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:

يا دهرُ أُفٍّ لك من خليلِ كم لك بالإشراق والأصيلِ

من صاحبٍ أو طالبِ قتيلِ والدهر لايقنع بالبديلِ

وإنّما الأمر إلى الجليلِ وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

فأعادها مرتين أو ثلاثاً، حتّى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها، ولزمتُ السكوت، وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل، وأمّا عمّتي فإنها سمعتْ ما سمعتُ، وهي امرأة ومن شأن النساء الرقّة والجزع، فلم تملك نفسها إذ وثبت تجرُّ ثوبها وإنّها لحاسرة حتّى انتهت إليه.

فقالت: واثكلاه! ليت

الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت أمّي فاطمة، وأبي عليّ، وأخي

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 148

الحسن عليهم السلام! يا خليفة الماضين وثمال «1» الباقين!

فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال لها: يا أُخيّة لايُذهبنّ حلمَك الشيطان! وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو تُرك القطا لنام!

فقالت: يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذاك أقرح لقلبي وأشدُّ على نفسي!

ثمّ لطمت وجهها! وهوت إلى جيبها فشقّته! وخرّت مغشيّاً عليها!

فقام إليها الحسين عليه السلام، فصبّ على وجهها الماء، وقال لها: إيهاً يا أُختاه! إتّقي اللّه وتعزّي بعزاء اللّه، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لايبقون، وأنّ كلّ شي ء هالك إلّا وجه اللّه الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعيدهم، وهو فردٌ وحده، جدّي خيرٌ منّي، وأبي خيرٌ منّي، وأمّي خيرٌ منّي، وأخي خيرٌ منّي، ولي ولكلّ مسلم برسول اللّه صلى الله عليه و آله أُسوة!

فعزّاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أُخيّة، إنّي أقسمتُ عليك فأبرّي قسمي، لاتشقّي عليَّ جيباً، ولاتخمشي عليَّ وجهاً، ولاتدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكتُ!

ثمَّ جاء بها حتّى أجلسها عنده، ثمّ خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّب بعضهم بيوتهم من بعض، وأن يُدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا بين البيوت، فيستقبلون القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، قد حفّت بهم إلّا الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم، ورجع عليه السلام إلى مكانه، فقام الليل كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع! وقام أصحابه كذلك يُصلّون ويدعون ويستغفرون.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 150

الإمام الحسين عليه السلام يتفقّد التلاع والروابي! ..... ص : 150

«وخرج عليه السلام في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عمّا أخرجه.

قال: يا ابن رسول اللّه! أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي!

فقال الحسين عليه

السلام: إنّي خرجت أتفقّد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون!

ثمّ رجع عليه السلام وهو قابض على يد نافع ويقول: هي هي واللّه! وعدٌ لاخُلف فيه!

ثمّ قال له: ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟

فوقع نافع على قدميه يُقبّلها ويقول: ثكلتني أمّيّ! إنّ سيفي بألف وفرسي مثله، فواللّه الذي منَّ بك عليَّ لافارقتك حتّى يكلّا عن فري وجري!

ثمّ دخل الحسين خيمة زينب، ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره، فسمع زينب تقول له: هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أن يُسلموك عند الوثبة!

فقال لها: واللّه لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلّا الأشوس الأقعس «1» يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب أمّه.

قال نافع: فلمّا سمعت هذا منه بكيت، وأتيتُ حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن أخته زينب.

قال حبيب: واللّه، لولا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة!

قلت: إنّي خلّفته عند أُخته، وأظنُّ النساء أفقن وشاركنها في الحسرة! فهل لك

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 151

أن تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهن!

فقام حبيب ونادى: يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة!

فتطالعوا من مضاربهم كالأُسود الضارية! فقال لبني هاشم: إرجعوا إلى مقرّكم لاسهرت عيونكم! ثمّ التفت إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع.

فقالوا بأجمعهم: واللّه الذي منَّ علينا بهذا الموقف، لولا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا الساعة! فطب نفساً وقُرَّ عيناً!

فجزّاهم خيراً، وقال: هلمّوا معي لنواجه النسوة ونطيّب خاطرهن.

فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح: يا معشر حرائر رسول اللّه! هذه صوارم فتيانكم آلوا ألّا يغمدوها إلّا في رقاب من يريد السوء فيكم! وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا ألّا يركزوها إلّا في صدور من يفرّق ناديكم!

فخرجن النساء إليهم ببكاء وعويل وقلن: أيّها الطيّبون! حاموا عن بنات رسول

اللّه وحرائر أميرالمؤمنين!

فضجّ القوم بالبكاء حتّى كأنّ الأرض تميد بهم.». «1»

قُلْ: لايستوي الخبيث والطيّب «2» ..... ص : 151

وفي رواية للطبري عن الضحّاك ابن عبداللّه المشرقي قال: «فلمّا أمسى حسينٌ وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرن ويدعون ويتضرّعون، قال

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 152

فتمرُّ بنا خيلٌ لهم تحرسنا، وإنّ حسيناً ليقرأ: «ولا يحسبنّ الذين كفروا أنّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم، إنّما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين، ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتّى يميز الخبيث من الطيّب»، «1» فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا، فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون! مُيّزنا منكم!

قال فعرفته، فقلت لبرير بن خضير: تدري من هذا!؟ قال: لا!

قلتُ: هذا أبوحرب السبيعي، عبداللّه بن شهر. وكان مضحاكاً بطّالًا! وكان شريفاً شجاعاً فاتكاً! وكان سعيد بن قيس ربّما حبسه في جناية.

فقال له برير بن خضير: يا فاسق! أنت يجعلك اللّه في الطيبين!؟

فقال له: من أنت!؟

قال: أنا برير بن خضير!

قال: إنّا للّه! عزّ عليَّ! هلكتَ واللّه هلكتَ واللّه يا بُرير!

قال: يا أبا حرب! هل لك أن تتوب إلى اللّه من ذنوبك العظام؟ فواللّه إنّا لنحن الطيّبون ولكنّكم لأنتم الخبيثون.

قال: وأنا على ذلك من الشاهدين!!

قلتُ: ويحك! أفلا ينفعك معرفتك!؟

قال: جُعلتُ فداك! فمن يُنادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل!؟ قال:

هاهو ذا معي!

قال: قبّح اللّه رأيك! على كلّ حالٍ أنت سفيه!

قال ثمّ انصرف عنا! وكان الذي يحرسنا بالليل في الخيل عزرة بن قيس الأحمسي وكان على الخيل.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 153

أنصارٌ جددٌ ..... ص : 153

«وبات الحسين عليه السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دويٌّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد إثنان وثلاثون رجلًا! «1» وكذا كانت سجيّة الحسين عليه السلام في كثرة صلاته وكمال صفاته!». «2»

رؤيا حقّة! ساعة السحر ..... ص : 153

«فلمّا كان وقت السحر خفق الحسين برأسه خفقة، ثم استيقظ فقال: أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة؟

قالوا: فما رأيت يا ابن رسول اللّه؟

قال: رأيت كلاباً قد شدّت عليَّ (تناشبني) لتنهشني! وفيها كلب أبقع رأيته كأشدّها عليَّ! وأظنّ الذي يتولّى قتلي رجلًا أبرص من بين هؤلاء القوم. ثمّ إنّي رأيت بعد ذلك جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ومعه جماعة من أصحابه، وهو يقول لي: يا بُنيَّ! أنت شهيد آل محمّد، وقد استبشر بك أهل السموات وأهل الصفيح الأعلى! فليكن إفطارك عندي الليلة! عجّل يا بُني ولاتتأخّر! فهذا ملك نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء! فهذا ما رأيت، وقد أزف الأمر، واقترب الرحيل من هذه الدنيا.». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 154

الأنصار الملتحقون به عليه السلام في كربلاء حتّى ليلة العاشر! ..... ص : 154
1)- أنس بن الحارث الكاهلي- الصحابي- (رض) ..... ص : 154

مرّت بنا ترجمته في وقايع الطريق بين مكّة وكربلاء، في وقايع منزل (قصر بني مقاتل) فراجع ترجمته هناك. «1»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على أنس بن كاهل الأسدي». «2»

وقد قال المحقّق الشيخ السماوي (ره) في إبصار العين أنّه: «كان جاء إلى الحسين عليه السلام عند نزوله كربلاء، والتقى معه ليلًا فيمن أدركته السعادة!». «3»

2)- جوين بن مالك بن قيس بن ثعلبة التميمي (رض) ..... ص : 154

«كان جوين نازلًا في بني تيم، فخرج معهم إلى حرب الحسين عليه السلام، وكان من الشيعة، فلمّا رُدَّت الشروط على الحسين عليه السلام مال معه فيمن مال، ورحلوا إلى الحسين عليه السلام ليلًا، وقُتل بين يديه، قال السروي: وقتل في الحملة الأولى». «4»

وقال الزنجاني: «قال المحقّق الأسترآبادي في رجاله: جوين بن مالك التميمي .. وقال ابن عساكر في تأريخه: هو جوين بن مالك بن قيس بن ثعلبة التميمي له ذكر في المغازي والحروب.». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 155

وورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على جوين بن مالك الضبعي». «1»

3)- حبيب بن مظاهر (مُظَهّر) الأسدي الفقعسي- الصحابي- (رض) ..... ص : 155

«هو حبيب بن مُظهَّر بن رئاب بن الأشتر بن جخوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قيس بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد.

أبوالقاسم الأسديّ الفقعسي، كان صحابياً رأى النبيّ صلى الله عليه و آله، ذكره ابن الكلبي، «2» وكان ابن عمّ ربيعة بن حوط بن رئاب المكنّى أباثور الشاعر الفارس.

قال أهل السير: إنّ حبيباً نزل الكوفة، وصحب عليّاً عليه السلام في حروبه كلّها وكان من خاصّته وحملة علومه.

وروى الكشّي عن فضيل بن الزبير قال: مرّ ميثم التمّار على فرس له، فاستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد، فتحادثا حتى اختلف عنقا فرسيهما، ثمّ قال حبيب: لكأنّي بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطّيخ عند دار الرزق، قد صُلب في حبّ أهل بيت نبيّه، فتبقر بطنه على الخشبة!

فقال ميثم: وإنّي أعرف رجلًا أحمر له ضفيرتان، يخرج لنصرة ابن بنت نبيّه، فيُقتل ويُجال برأسه في الكوفة!

ثمّ افترقا، فقال أهل المجلس: ما رأينا أكذب من هذين!؟

قال فلم يفترق المجلس حتّى أقبل رشيد الهجري فطلبهما، فقالوا: افترقا، وسمعناهما يقولان كذا وكذا! فقال رشيد: رحم

اللّه ميثماً! نسي ويُزاد في عطاء

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 156

الذي يجي ء بالرأس مائة درهم.

ثمّ أدبر، فقال القوم: هذا واللّه أكذبهم!

قال فما ذهبت الأيّام والليالي حتّى رأينا ميثماً مصلوباً على باب عمرو بن حريث!

وجي ء برأس حبيب قد قُتل مع الحسين عليه السلام! ورأينا كلّما قالوا. «1»

وذكر أهل السير: أنّ حبيباً كان ممّن كاتب الحسين عليه السلام. «2»

قالوا: ولمّا ورد مسلم بن عقيل إلى الكوفة ونزل دار المختار، وأخذت الشيعة تختلف إليه، قام فيهم جماعة من الخطباء، تقدّمهم عابس الشاكري، وثنّاه حبيب فقام وقال لعابس بعد خطبته: رحمك اللّه، لقد قضيت ما في نفسك بواجز من القول، وأنا واللّه الذي لا إله إلّا هو لعلى مثل ما أنت عليه! «3»

قالوا: وجعل حبيب ومسلم (ابن عوسجة) يأخذان البيعة للحسين عليه السلام في الكوفة، حتّى إذا دخل عبيداللّه بن زياد الكوفة، وخذّل أهلها عن مسلم، وفرَّ أنصاره، حبسهما عشائرهما وأخفياهما، فلّما ورد الحسين كربلا خرجا إليه مختفيين يسيران الليل ويكمنان النهار حتى وصلا إليه!.

وروى ابن أبي طالب: أنّ حبيباً لمّا وصل إلى الحسين عليه السلام ورأى قلّة أنصاره وكثرة محاربيه قال للحسين: إنّ هاهنا حيّاً من بني أسد، فلو أذنت لي لسرتُ إليهم ودعوتهم إلى نصرتك، لعلّ اللّه أن يهديهم ويدفع بهم عنك!

فأذن له الحسين عليه السلام، فسار إليهم حتى وافاهم فجلس في ناديهم ووعظهم،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 157

وقال في كلامه: يا بني أسد! قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه، هذا الحسين بن عليّ أميرالمؤمنين، وابن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين، وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه! فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول اللّه صلى الله عليه

و آله فيه، فواللّه لئن نصرتموه ليعطينّكم اللّه شرف الدنيا والآخرة! وقد خصصتكم بهذه المكرمة لأنّكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس مني رحماً! فقام عبداللّه بن بشير الأسدي وقال: شكر اللّه سعيك يا أبا القاسم، فواللّه لجئتنا بمكرمة يستأثر بها المرء الأحبّ فالأحبّ! أمّا أنا فأوّل من أجاب، وأجاب جماعة بنحو جوابه فنهدوا مع حبيب، وانسلّ منهم رجل فأخبر ابن سعد! فأرسل الأزرق في خمسمائة فارس فعارضهم ليلًا، ومانعهم فلم يمتنعوا فقاتلهم، فلمّا علموا أن لاطاقة لهم بهم تراجعوا في ظلام الليل، وتحمّلوا عن منازلهم، وعاد حبيب إلى الحسين عليه السلام فأخبره بما كان، فقال عليه السلام: وما تشاؤون إلّا أن يشاء اللّه، ولاحول ولاقوّة إلّا باللّه.». «1»

ومن متابعة هذه الواقعة (دعوة حبيب حىّ بني أسد لنصرة الإمام عليه السلام) في المصادر التأريخية التي تعرّضت لذكرها يُستفاد أنّ حبيب (رض) كان قد التحق بالإمام عليه السلام في كربلاء قبل اليوم السادس من المحرّم، ويتضح هذا جليّاً في قول الخوارزمي: «والتأمت العساكر عند عمر لستّة أيّام مضين من محرّم، فلمّا رأى ذلك حبيب بن مظاهر الأسدي جاء الى الحسين فقال له: يا ابن رسول اللّه، إنّ هاهنا حيّاً من بني أسد قريباً منّا ...». «2»

ولمّا جاء قُرّة بن قيس الحنظلي إلى الإمام عليه السلام رسولًا من ابن سعد، وأبلغه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 158

رسالة عمر، ثمّ أجابه الإمام عليه السلام، قال له حبيب: ويحك يا قُرَّة بن قيس أنّى ترجع إلى القوم الظالمين!؟ أنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيّدك اللّه بالكرامة وإيّانا معك! فقال له قُرّة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي! «1»

وكلّم حبيب القوم عصر يوم تاسوعاء قائلًا: «أما واللّه لبئس القوم عند اللّه غداً

قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيّه عليه السلام وعترته وأهل بيته صلى الله عليه و آله، وعُبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين اللّه كثيراً!». «2»

ولمّا ردّ شمر بن ذي الجوشن على إحدى مواعظ الإمام عليه السلام قائلًا: «هو يعبداللّه على حرف إنْ كان يدري ما تقول! فقال له حبيب بن مظاهر: واللّه إنّي لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفاً! وأنا أشهد انّك صادق ما تدري ما يقول! قد طبع اللّه على قلبك!». «3»

وذكر الطبري وغيره أنّ حبيباً كان على ميسرة الحسين عليه السلام، وزهيراً على الميمنة، «4» وأنّه كان خفيف الإجابة لدعوة المبارز. «5»

«قالوا: ولمّا صُرع مسلم بن عوسجة مشى إليه الحسين عليه السلام ومعه حبيب، فقال حبيب: عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم، أَبشر بالجنّة!

فقال له مسلم قولًا ضعيفاً: بشّرك اللّه بخير.

فقال حبيب: لولا أنّي أعلمُ أنّي في إثرك لاحقٌ بك من ساعتي هذه لأحببتُ

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 159

أن توصي إليَّ بكلّ ما أهمّك حتّى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت له أهل من الدين والقرابة.

فقال له: بلى، أوصيك بهذا رحمك اللّه!- وأومأ بيديه إلى الحسين عليه السلام- أنْ تموت دونه!

فقال حبيب: أفعل وربّ الكعبة!». «1»

«قالوا: ولمّا استأذن الحسين عليه السلام لصلاة الظهر وطلب منهم المهلة لأداء الصلاة قال له الحصين بن تميم: إنها لاتُقبل منك!

فقال له حبيب: زعمت لاتُقبل الصلاة من آل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وتُقبل منك يا حمار!

فحمل الحصين وحمل عليه حبيب، فضرب حبيب وجه فرس الحصين بالسيف، فشبَّ به الفرس ووقع عنه، فحمله أصحابه واستنقذوه، وجعل حبيب يحمل فيهم ليختطفه منهم وهو يقول:

أُقسمُ لو كُنّا لكم أعدادا أو شطركم ولّيتمُ أكتادا «2»

يا شرَّ قوم حسباً وآدا

ثمّ

قاتل القوم، فأخذ يحمل فيهم ويضرب بسيفه وهو يقول:

أنا حبيبٌ وأبي مُظهَّر فارس هيجاء وحرب تسعر

أنتم أعدُ عدّة وأكثر ونحن أوفى منكم وأصبر

ونحن أعلى حُجَّة وأظهر حقّاً وأتقى منكم وأعذر

ولم يزل يقولها حتّى قتل من القوم مقتلة عظيمة!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 160

وروي أنَّ القاسم بن حبيب- وهو يومئذٍ قد راهق- بصر بقاتل أبيه قد علّق رأس أبيه حبيب في لبان فرسه، «فأقبل مع الفارس لايفارقه، كلّما دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به فقال: مالك يا بُنيَّ تتبّعني!؟ قال:

لاشي ء! قال: بلى با بُنييَّ فأخبرني!؟ قال: إنّ هذا رأس أبي! أفتعطنيه حتّى أدفنه؟

قال: يا بُنيَّ لايرضى الأمير أن يُدفن! وأنا أريد أن يُثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً! فقال القاسم: لكنّ اللّه لايثيبك على ذلك إلّا أسوأ الثواب! أمَ واللّه لقد قتلته خيراً منك، وبكى ثمّ فارقه، ومكث القاسم حتّى إذا أدرك لم تكن له همّة إلّا اتّباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه، فلمّا كان زمان مصعب ابن الزبير وغزا مصعب باجميرا، «1» دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه! فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرّته، فدخل عليه وهو قائل «2» نصف النهار فضربه بسيفه حتّى برد.». «3»

«وقيل: بل قتله رجلٌ يُقال له: بديل بن صُريم، وأخذ رأسه فعلّقه في عنق فرسه، فلما دخل الكوفة رآه ابن حبيب بن مظاهر- وهو غلام غير مراهق- فوثب عليه وقتله، وأخذ رأسه.». «4»

ولمّا قُتل حبيب (رض) هدَّ ذلك الحسين عليه السلام وقال: «عند اللّه أحتسب نفسي وحماة أصحابي.». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 161

وفي بعض المقاتل أنه عليه السلام قال: «للّه درّك يا حبيب! لقد كنت فاضلًا تختم القرآن في ليلة واحدة!».

«1»

وورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على حبيب بن مظاهر الأسدي». «2»

4)- مسلم بن عوسجة الأسدي- الصحابي- (رض) ..... ص : 161

«هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. أبو حجَل الأسدي السعدي، كان رجلًا شريفاً سريّاً عابداً متنسّكاً.

قال ابن سعد في طبقاته: «3» وكان صحابياً ممّن رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وروى عنه الشعبي، وكان فارساً شجاعاً، له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية.

وقال أهل السير: إنّه ممّن كاتب الحسين عليه السلام من الكوفة ووفى له، وممّن أخذ البيعة له عند مجي ء مسلم بن عقيل إلى الكوفة.». «4»

وكان مسلم بن عوسجة (رض) أحد القادة الأربعة الذين عقد لهم مسلم بن عقيل عليه السلام على الأرباع في الكوفة أثناء هجومه على قصر الإمارة، فعقد لابن عوسجة (رض) على ربع مذحج وأسد. «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 162

وقد احتال عبيداللّه بن زياد لمعرفة مكان مسلم بن عقيل عليه السلام بحيلة اختراق حركة الثوّار من داخلها، «فبعث معقلًا مولاه وأعطاه ثلاثة آلاف درهم، وأمره أن يستدلّ بها على مسلم، فدخل الجامع وأتى إلى مسلم بن عوسجة فرآه يصلّي إلى زاوية، فانتظره حتى انفتل من صلاته، فسلّم عليه ثمّ قال: يا عبداللّه، إني امرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع، وقد منّ اللّه عليَّ بحبّ هذا البيت وحبّ من أحبّهم! فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنّه قدم الكوفة يبايع لابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلم يدلّني أحد عليه، فإنّي لجالس آنفاً في المسجد إذ سمعت نفراً يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت! فأتيتك لتقبض هذا المال، وتدلّني على صاحبك فأبايعه! وإنْ شئت أخذت البيعة له قبل لقائه! فقال

له مسلم بن عوسجة:

أحمد اللّه على لقائك إيايّ فقد سرّني ذلك لتنال ما تحبّ، ولينصر اللّه بك أهل بيت نبيّه صلى الله عليه و آله، ولقد ساءتني معرفتك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته. ثمّ إنّه أخذ بيعته قبل أن يبرح وحلّفه بالأيمان المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ، فأعطاه ما رضي، ثمّ قال له: إختلف إليَّ أيّاماً حتّى أطلب لك الإذن، فاختلف إليه ثمّ اذن له فدخل، ودلّ عبيداللّه على موضعه ..». «1»

«قالوا: ثمّ إنّ مسلم بن عوسجة بعد أن قُبض على مسلم وهاني وقُتلا اختفى مدّة، ثمّ فرّ بأهله إلى الحسين فوافاه بكربلا، وفداه بنفسه.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 163

وكان مسلم بن عوسجة (رض) قد قاتل يوم عاشوراء قتالا شديداً لم يُسمع بمثله، فكان يحمل على القوم وسيفه مصلت بيمينه فيقول:

إنْ تسألوا عنّي فإني ذو لبد وإنّ بيتي في ذُرىْ بني أسد

فمن بغاني حائدٌ عن الرشد وكافرٌ بدين جبّار صمد «1»

ولما صُرع (رض) مشى إليه الحسين عليه السلام فإذا به رمق، فقال له الحسين عليه السلام:

«رحمك اللّه يا مسلم! فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا»، ثمّ دنا منه، فقال له حبيب بن مظاهر (رض)- ما ذكرناه في ترجمته- فقال له مسلم (رض):

«بلى، أوصيك بهذا رحمك اللّه- وأومأ بيديه إلى الحسين عليه السلام- أن تموت دونه!». «2»

ولمّا فاضت روحه الطاهرة صاحت جارية له: «واسيّداه! يا ابن عوسجتاه! فتباشر أصحاب عمر بذلك، فقال لهم شبث بن ربعي: ثكلتكم أمهاتكم! إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذلّون أنفسكم لغيركم! أتفرحون أن يُقتل مثل مسلم بن عوسجة!؟ أما والذي أسلمتُ له! لَرُبَّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم سَلَق

آذربايجان قتل ستّة من المشركين قبل أن تتامّ خيول المسلمين! أفيُقتل منكم مثله وتفرحون!؟». «3»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة مع ثناء عاطر: «السلام على مسلم بن عوسجة الأسديّ، القائل للحسين وقد أذن له في الإنصراف: أنحن نُخلّي عنك!؟

وبمَ نعتذر عنداللّه من أداء حقّك؟ لا واللّه حتّى أكسر في صدورهم رُمحي هذا، وأضربهم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 164

بسيفي ما ثبت قائمة في يدي، ولا أُفارقك! ولو لم يكن معي سلاحٌ أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، ولم أفارقك حتّى أموت معك!

وكُنت أوّل من شرى نفسه! وأوّل شهيد شهد للّه وقضى نحبه! ففزت وربّ الكعبة، شكر اللّه استقدامك ومواساتك إمامك، إذ مشى إليك وأنت صريع، فقال: يرحمك اللّه يا مسلم ابن عوسجة، وقرأ: فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا.

لعن اللّه المشتركين في قتلك: عبداللّه الضبابي، وعبداللّه بن خُشكارة البجلي، ومسلم بن عبداللّه الضبابي.». «1»

5)- مسلم أو أسلم بن كثير الأعرج الأزدي- الصحابي- (رض) ..... ص : 164

قال المحقّق السماوي (ره): «مسلم بن كثير الأعرج الأزدي- أزد شنؤة- الكوفي: كان تابعياً كوفياً صحب أميرالمؤمنين عليه السلام، وأصيبت رجله في بعض حروبه.

قال أهل السير: إنّه خرج إلى الحسين عليه السلام من الكوفة، فوافاه لدن نزوله في كربلاء. وقال السروي: إنّه قُتل في الحملة الأولى.». «2»

وقال النمازي: «مسلم بن كثير الأعرج: من أصحاب الرسول وأميرالمؤمنين صلوات اللّه عليهما، وتشرّف بشهادة الطفّ في الحملة الأولى». «3»

وقال الزنجاني: «وقال العسقلاني في (الإصابة): هو أسلم بن كثير بن قليب الصدفي الأزدي الكوفي، له إدراك مع النبيّ صلى الله عليه و آله، وذكره ابن يونس، وقال: شهد فتح مصر في زمان عمر بن الخطّاب». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 165

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على أسلم بن كثير الأزدي

الأعرج». «1»

6)- رافع بن عبداللّه مولى مسلم بن كثير (رض) ..... ص : 165

قال المحقق السماوي (ره): «كان رافع خرج إلى الحسين عليه السلام مع مولاه مسلم المذكور قبله، وحضر القتال فقُتل». «2»

وقال الزنجاني: «رافع بن عبداللّه الأزدي الكوفي: وهو مولى مسلم بن كثير الذي قُتل في الحملة الأولى بعد أن قتل من عساكر ابن سعد، وقُتل رافع مبارزة بعد صلاة الظهر في حومة الحرب بعدما قتل من القوم جماعة كثيرة وجرح آخرين، ثمّ اشتركا في قتله كثير بن شهاب التميمي، ومخضر بن أوس الضبيبي على قول الذخيرة. «3»». «4»

7)- القاسم بن حبيب بن أبي بشر الأزدي (رض) ..... ص : 165

قال المحقق السماوي (ره): «كان القاسم فارساً من الشيعة الكوفيين، خرج مع ابن سعد، فلمّا صار في كربلا مال إلى الحسين عليه السلام أيّام المهادنة، وما زال معه حتّى قُتل بين يديه في الحملة الأولى.». «5»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على قاسم بن حبيب الأزديّ». «6»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 166

8)- زهير بن سليم الأزدي (رض) ..... ص : 166

قال المحقق السماوي (ره): «كان زهير ممّن جاء إلى الحسين عليه السلام في الليلة العاشرة عندما رأى تصميم القوم على قتاله، فانضمّ إلى أصحابه، وقُتل في الحملة الأولى.». «1»

وقال الزنجاني: «قال العسقلاني في الإصابة: هو زهير بن سليم بن عمرو الأزدي، وقال صاحب الحدائق: كان زهير بن سليم من الذين جاءوا إلى الحسين في الليلة العاشرة عندما رأى تصميم القوم على قتاله، فانضمّ إلى أصحابه الأزديين الذين كانوا مع الحسين. وقال أبومخنف: فلمّا شبّ القتال وحمل أهل الكوفة على عسكر الحسين عليه السلام تقدّم زهير بن سليم أمام الحسين وقاتل قتال المشتاقين حتّى قُتل في الحملة الأولى.». «2»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على زهير بن سليم الأزدي». «3»

9)- النعمان بن عمرو الأزدي الراسبي (رض) ..... ص : 166
10)- الحُلاس بن عمرو الأزدي الراسبي (رض) ..... ص : 166

قال المحقق السماوي (ره): «كان النعمان والحُلاس إبنا عمرو الراسبيان من أهل الكوفة، وكانا من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، وكان الحُلاس على شرطته بالكوفة.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 167

قال صاحب الحدائق: خرجا مع عمر بن سعد، فلمّا ردّ ابن سعد الشروط جاءا إلى الحسين ليلًا فيمن جاء، وما زالا معه حتّى قُتلا بين يديه.

وقال السروي: قُتلا في الحملة الأولى.». «1»

ونقل الزنجاني في (وسيلة الدارين) أنهما انضمّا إلى الإمام عليه السلام ليلة الثامن من المحرّم، ومازالا معه إلى يوم العاشر، فلمّا شبّ القتال تقدّم الحُلاس أمام الحسين عليه السلام إلى الجهاد فقُتل في الحملة الأولى مع من قُتل من أصحاب الحسين، وقُتل أخوه النعمان أيضاً مبارزة فيما بين الحملة الأولى والظهر في حومة الحرب بعدما عقروا فرسه». «2»

11)- جابر بن الحجّاج مولى عامر بن نهشل التيمي (رض) ..... ص : 167

قال المحقّق السماوي (رض): «كان جابر فارساً شجاعاً، قال صاحب الحدائق: حضر مع الحسين عليه السلام في كربلا وقُتل بين يديه، وكان قتله قبل الظهر في الحملة الأولى». «3»

ونقل الزنجانيّ يقول: «قال المامقاني في رجاله إنّه من قبيلة تيم، وكان شجاعاً وذا فكر، قال الذهبي في التجريد: هو جابر بن الحجّاج بن عبداللّه بن رئاب ابن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدي، مولى عامر بن نهشل التيمي، من بني تيم اللّه بن ثعلبة. وقال صاحب الحدائق: كان جابر فارساً شجاعاً كوفياً ممّن تابع مسلماً، فلمّا تخاذل النّاس عن مسلم بن عقيل وقُبض عليه اختفى جابر عند قومه، فلمّا سمع بمجي ء الحسين إلى كربلاء خرج من الكوفة مع عمر بن سعد، حتّى إذا كان

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 168

له فرصة أيّام المهادنة جاء إلى الحسين وسلّم عليه، فبقي عنده إلى يوم الطف، فلمّا شبّ القتال تقدّم بين يدي الحسين وقاتل

حتى قُتل رضوان اللّه عليه.». «1»

12)- مسعود بن الحجّاج التيمي- تيم اللّه بن ثعلبة- (رض) ..... ص : 168
13)- عبدالرحمن بن مسعود بن الحجّاج التيمي (رض) ..... ص : 168

قال المحقّق السماوي (ره): «كان مسعود وابنه من الشيعة المعروفين، ولمسعود ذكر في المغازي والحروب، وكانا شجاعين مشهورين، خرجا مع ابن سعد حتّى إذا كانت لهما فرصة أيّام المهادنة جاءا إلى الحسين عليه السلام يسلّمان عليه فبقيا عنده، وقُتلا في الحملة الأولى كما ذكره السروي.». «2»

وقد ورد السلام عليهما في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على مسعود بن الحجّاج وإبنه». «3»

14)- عمر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الضبعي التميمي- الصحابي- (رض) ..... ص : 168

نقل الزنجاني يقول: «قال المحقّق الأسترآبادي في رجاله: عمرو بن ضبعة الضبعي من أصحب الحسين عليه السلام قُتل معه بالطف، وقال العسقلاني في الإصابة:

هو عمرو بن ضبعة بن قيس بن ثعلبة الضبعي التميمي، له ذكر في المغازي والحروب، وكان فارساً شجاعاً له إدراك. قال أبومخنف: حدّثني فضيل بن خديج الكندي أنّ عمرو بن ضبعة بن قيس كان ممّن خرج مع عمر بن سعد إلى حرب الحسين، فلمّا ردّوا الشروط على الحسين عليه السلام مال إليه، ثمّ دخل في أنصار

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 169

الحسين عليه السلام فيمن دخل، وقاتل بين يديه حتّى قُتل في الحملة الأولى مع من قُتل رضوان اللّه عليه.». «1»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على عمرو بن ضبيعة الضبعي». «2»

15)- أُميّة بن سعد الطائي (رض) ..... ص : 169

قال المحقّق السماوي (ره): «كان أميّة من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام تابعياً نازلًا في الكوفة، سمع بقدوم الحسين عليه السلام إلى كربلاء فخرج إليه أيّام المهادنة، وقتل بين يديه. قال صاحب الحدائق: قُتل في أوّل الحرب، يعني في الحملة الأولى.». «3»

ونقل الزنجاني يقول: «قال العسقلاني في الإصابة: هو أميّة بن سعد بن زيد الطائي. قال علماء السير والتراجم: كان أميّة بن سعد فارساً شجاعاً تابعيّاً من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام نازلًا في الكوفة، له ذكر في المغازي والحروب، خصوصاً يوم صفّين، فلمّا سمع بقدوم الحسين إلى كربلاء خرج من الكوفة مع من خرج أيّام المهادنة حتّى جاء إلى الحسين عليه السلام ليلة الثامن من المحرّم ...». «4»

16)- الضرغامة بن مالك التغلبي (رض) ..... ص : 169

قال المحقّق السماوي (ره): «كان كإسمه ضرغاماً، وكان من الشيعة، وممّن بايع مسلماً، فلمّا خُذل خرج فيمن خرج مع ابن سعد، ومال إلى الحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 170

فقاتل معه، وقتل بين يديه مبارزة بعد صلاة الظهر، رضي اللّه عنه.». «1»

«وقال أبومخنف: ثمّ برز ضرغامة بن مالك وهو يرتجز ويقول:

إليكم من مالك ضرغام ضرب فتىً يحمي عن الكرام

يرجو ثواب اللّه بالتمام سبحانه من مالك علّام

ثمّ حمل على القوم فقاتل قتال الرجل الباسل، وصبر على الخطب الهائل، حتّى قتل ستين فارساً سوى من جرح، ثمّ قُتل رضوان اللّه عليه.». «2»

وورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على ضرغامة بن مالك.». «3»

17)- كنانة بن عتيق التغلبي- الصحابي- (رض) ..... ص : 170

نقل الزنجانيّ يقول: «قال أبوعلي في رجاله: كنانة بن عتيق التغلبي من أصحاب الحسين عليه السلام قُتل معه بكربلاء. وقال العسقلاني في الإصابة: هو كنانة بن عتيق بن معاوية بن الصامت بن قيس التغلبي، الكوفي شهد أُحداً هو وأبوه عتيق- بالتاء المثنّاة ثم القاف- فارس رسول اللّه عليه السلام، وقد ذكره ابن مندة في تاريخه.

وقال العلّامة في الخلاصة: كنانة بن عتيق بن معاوية بن الصامت، فارس رسول اللّه صلى الله عليه و آله. وقال علماء السير وأرباب المقاتل: كان كنانة بن عتيق بطلًا من أبطال الكوفة، وعابداً من عُبّادها، وقارئاً من قُرّائها، جاء إلى الحسين عليه السلام من الطفّ أيام المهادنة، وجاهد بين يديه حتّى قُتل. وقال صاحب الحدائق عن أحمد بن محمد

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 171

السروي قال: وقُتل كنانة بن عتيق في الحملة الأولى مع من قُتل. وقال غيره: قُتل مبارزة فيما بين الحملة الأولى والظهر ...». «1»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على كنانة بن عتيق». «2»

18)- قاسط بن زهير بن الحرث التغلبي (رض) ..... ص : 171
19)- كردوس بن زهير بن الحرث التغلبي (رض) ..... ص : 171
20)- مقسط بن زهير بن الحرث التغلبي (رض) ..... ص : 171

قال المحقّق السماوي (ره): «كان هؤلاء الثلاثة من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام ومن المجاهدين بين يديه في حروبه، صحبوه أوّلًا، ثمّ صحبوا الحسن عليه السلام، ثمّ بقوا في الكوفة، ولهم ذكر في الحروب، ولاسيّما صفين، ولمّا ورد الحسين عليه السلام كربلا خرجوا إليه، فجاؤه ليلًا، وقتلوا بين يديه ..». «3»

ونقل الزنجاني يقول: «قال أبوعليّ في رجاله: قاسط بن عبداللّه بن زهير بن الحارث التغلبي من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام. وقال نصر بن مزاحم المنقري الكوفي في كتاب صفّين إنّ عليّاً عليه السلام لمّا عقد الألوية للقبائل فأعطاها قوماً بأعيانهم جعلهم رؤساءهم وأمراءهم، وجعل على قريش وأسد وكنانة عبداللّه بن عبّاس بن عبدالمطلّب، وعلى

كندة حُجر بن عديّ الكندي، وعلى بكر البصرة حصين بن المنذر، وعلى تميم البصرة الأحنف بن قيس وقاسط بن عبداللّه بن زهير بن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 172

الحرث التغلبي، وعلى حنظلة البصرة أَعيَن بن ضبيع وكردوس بن عبداللّه بن زهير التغلبي «1» ...». «2»

وقد ورد السلام في زيارة الناحية المقدّسة على قاسط وأخيه كردوس فقط ولم يُذكر مقسط فيها: «السلام على قاسط وكردوس إبني زهير التغلبيين». «3»

21)- رجل من بني أسد (رض)! ..... ص : 172

روى ابن عساكر، عن العريان بن الهيثم قال: «كان أبي يتبدّى فينزل قريباً من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين، فكنّا لانبدو إلّا وجدنا رجُلًا من بني أسد هناك.

فقال له أبي: أراك ملازماً هذا المكان!؟

قال: بلغني أنّ حسيناً يُقتل ها هنا! فأنا أخرج إلى هذا المكان لعليّ أُصادفه فأُقتل معه!!

قال ابن الهيثم: فلمّا قُتل الحسين قال أبي: إنطلقوا بنا ننظر هل الأسديُّ فيمن قُتل مع الحسين؟

فأتينا المعركة وطوّفنا فإذا الأسديُّ مقتول!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 173

22)- حنظلة بن أسعد الشبامي (رض) ..... ص : 173

قال المحقّق السماوي (ره): «هو حنظلة بن أسعد بن شبام بن عبداللّه «1» بن أسعد بن حاشد بن همدان، الهمداني الشبامي، وبنو شبام بطن من همدان.

كان حنظلة بن أسعد الشبامي وجهاً من وجوه الشيعة، ذا لسان وفصاحة، شجاعاً قارئاً، وكان له ولد يُدعى عليّاً، له ذِكر في التأريخ.

قال أبومخنف: جاء حنظلة إلى الحسين عليه السلام عندما ورد الطفّ، وكان الحسين عليه السلام يُرسله إلى عمر بن سعد بالمكاتبة أيّام الهدنة، فلمّا كان اليوم العاشر جاء إلى الحسين عليه السلام يطلب منه الإذن، فتقدّم بين يديه وأخذ يُنادي:

«يا قومِ إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما اللّه يريد ظلماً للعباد، ويا قومِ إنّي أخاف عليكم يوم التنادِ يوم تولّون مدبرين مالكم من اللّه من عاصم، ومن يُضلل اللّهُ فماله من هاد»، «2»

يا قوم لاتقتلوا حسيناً «فيسحتكم اللّه بعذاب وقد خاب من أفترى» «3».

فقال الحسين عليه السلام: يا ابن أسعد! إنّهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 174

إليه من الحقّ، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك!! فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين!؟

قال: صدقت، جعلتُ فداك! أفلا نروح إلى

ربّنا ونلحق بإخواننا؟

قال: رُحْ إلى خيرٍ من الدنيا وما فيها، إلى ملك لايبلى!

فقال حنظلة: السلام عليك يا أبا عبداللّه، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك، وعرّف بينك وبيننا في جنّته!

فقال الحسين عليه السلام: آمين آمين!

ثمّ تقدّم إلى القوم مصلتاً سيفه يضرب فيهم قُدُماً! حتّى تعطّفوا عليه فقلتوه في حومة الحرب رضوان اللّه عليه.». «1»

ونقل الزنجاني يقول: «وقال أبومخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: جاء حنظلة بن أسعد الشبامي إلى الحسين عند نزوله كربلاء، وكان الحسين يُرسله إلى عمر بن سعد للمكالمة أيّام المهادنة، فلمّا صار يوم العاشر ورأى أصحاب الحسين قد أُصيبوا كلّهم، ولم يبق معه غير سويد بن عمرو بن المطاع الخثعمي، وبشر بن عمرو الحضرمي، جاء حنظلة فوقف بين يدي الحسين يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره، ويطلب منه الإذن، وأخذ ينادي ...». «2»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على حنظلة بن أسعد الشبامي.». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 175

23)- سيف بن الحرث بن سريع بن جابر الهمداني الجابري (رض) ..... ص : 175
24)- مالك بن عبداللّه بن سريع بن جابر الهمداني الجابري (رض) ..... ص : 175

قال المحقّق السماوي (ره): «وبنو جابر بطن من همدان، كان سيف ومالك الجابريّان إبني عمّ وأخوين لأمّ، جاءا إلى الحسين عليه السلام ومعهما شبيب مولاهما فدخلا في عسكره وانضمّا إليه.

قالوا: فلمّا رأيا الحسين عليه السلام في اليوم العاشر بتلك الحال، جاءا إليه وهما يبكيان، فقال لهما الحسين عليه السلام: أي ابني أخويَّ ما يبكيكما؟ فواللّه إنّي لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين!

فقالا: جعلنا اللّه فداك! لا واللّه ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك! نراك قد أُحيط بك ولانقدر على أن نمنعك بأكثر من أنفسنا!

فقال الحسين عليه السلام: جزاكما اللّه يا ابني أخويَّ عن وجدكما من ذلك ومواساتكما إيّاي أحسن جزاء المتقين!

قال أبومخنف: فهما في

ذلك إذ تقدّم حنظلة بن أسعد يعظ القوم، فوعظ وقاتل فقُتل- كما تقدّم- فاستقدما يتسابقان إلى القوم ويلتفتان إلى الحسين عليه السلام فيقولان: السلام عليك يا ابن رسول اللّه!

ويقول الحسين عليه السلام: وعليكما السلام ورحمة اللّه وبركاته!

ثمّ جعلا يقاتلان جميعاً، وإنّ أحدهما ليحمي ظهر صاحبه «1» حتّى قُتلا.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 176

وقد ورد السلام عليهما في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على شبيب بن الحارث بن سريع، السلام على مالك بن عبداللّه بن سريع». «1»

25)- شبيب مولى الحرث بن سريع الهمداني الجابري (رض) ..... ص : 176

قال المحقّق السماوي: «كان شبيب بطلًا شجاعاً جاء مع سيف ومالك إبني سريع. قال ابن شهرآشوب: قُتل في الحملة الأولى التي قُتل فيها جملة من أصحاب الحسين، وذلك قبل الظهر في اليوم العاشر.». «2»

ونقل الزنجاني تحت عنوان (شبيب بن عبداللّه مولى الحرث بن سريع الكوفي) يقول: «... قال العسقلاني في الإصابة هو شبيب بن عبداللّه بن مشكل بن حي بن جديه (بفتح الجيم وسكون الدال بعدها ياء تحتانية)، مولى الحرث بن سريع الهمداني الجابري، وبنو جابر بطن من همدان، وقال ابن الكلبي: «3» شبيب بن عبداللّه كان صحابياً أدرك صحبة رسول اللّه وشهد مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام مشاهده كلّها وعداده من الكوفيين، وكان شبيب هذا بطلًا شجاعاً جاء مع سيف بن الحارث ومالك بن عبداللّه بن سريع ...». «4»

وقد ورد السلام في زيارة الناحية المقدّسة على من إسمه شبيب في موضعين: الأول: «السلام على شبيب بن عبداللّه النهشلي»، «5» وهذا من شهداء الطفّ

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 177

أيضاً ولكنه غير المقصود. والثاني: «السلام على شبيب بن الحارث بن سريع»، والظاهر أنّ شبيب هنا تصحيف لسيف. «1»

26)- عمّار بن أبي سلامة الدالاني- الصحابي- (رض) ..... ص : 177

قال المحقق السماوي (ره): «هو عمّار بن أبي سلامة بن عبداللّه بن عمران بن راس بن دالان، أبوسلامة الدالاني، وبنو دالان بطن من همدان.

كان أبوسلامة عمّار صحابياً له رؤية كما ذكره الكلبي وابن حجر «2» وقال أبوجعفر الطبري: وكان من أصحاب عليّ عليه السلام ومن المجاهدين بين يديه في حروبه الثلاث، وهو الذي سأل أميرالمؤمنين عليه السلام عندما سار من ذي قار إلى البصرة فقال: يا أميرالمؤمنين إذا قدمتَ عليهم فماذا تصنع؟

فقال: أدعوهم إلى اللّه وطاعته، فإنْ أبوا قاتلتهم.

فقال أبوسلامة: إذن لن يغلبوا داعي اللّه- في كلام

له-

وقال ابن حجر في الإصابة: إنّه أتى إلى الحسين عليه السلام في الطفّ وقُتل معه، «3» وذكر صاحب الحدائق، والسروي: أنّه قُتل في الحملة الأولى حيث قُتل جملة من أصحاب الحسين عليه السلام.». «4»

وروى البلاذري قائلًا: «وهمّ عمّار بن أبي سلامة الدالاني أن يفتك بعبيد اللّه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 178

بن زياد في عسكره بالنخيلة، فلم يمكنه ذلك، فلطف حتّى لحق بالحسين فقُتل معه.». «1»

وفي طريقه إلى كربلاء كان عمّار (رض) قد أصطدم بمسلحة كبيرة من مسالح ابن زياد التي حاصرت الطريق الى كربلاء، ينقل المحقّق السيّد المقرّم (ره) عن كتاب الإكليل للهمداني قائلًا: «وجعل عبيداللّه بن زياد زجر بن قيس الجعفي على مسلحة في خمسمائة فارس! وأمره أن يُقيم بجسر الصراة، يمنع من يخرج من الكوفة يريد الحسين عليه السلام، فمرَّ به عامر بن أبي سلامة بن عبداللّه بن عرار الدالاني، فقال له زجر: قد عرفت حيث تريد، فارجع!

فحمل عليه وعلى أصحابه فهزمهم ومضى، وليس أحد منهم يطمع في الدنوّ منه! فوصل كربلاء، ولحق بالحسين عليه السلام حتّى قُتل معه، وكان قد شهد المشاهد مع أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.». «2»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على عمّار بن أبي سلامة الهمداني». «3»

27)- حبشي بن قيس النهمي (رض) ..... ص : 178

قال المحقّق السماوي (ره): «هو حبشي بن قيس بن سلمة بن طريف بن أبان بن سلمة بن حارثة، الهمدانيّ النهمي، وبنو نهم بطن من همدان.

كان سلمة صحابياً ذكره جماعة من أهل الطبقات، وإبنه قيس له إدراك ورؤية،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 179

وابن قيس حبشيٌّ ممّن حضر الطفّ وجاء الى الحسين فيمن جاء أيّام الهدنة. قال ابن حجر: وقتل مع الحسين عليه السلام. «1»». «2»

28)- زياد بن عريب الهمداني الصائدي، أبوعمرة (رض) ..... ص : 179

قال المحقّق السماوي (ره): «هو زياد بن عريب بن حنظلة بن دارم بن عبداللّه بن كعب الصائد بن شرحبيل بن ... بن همدان، أبوعمرة الهمداني، كان عريب صحابياً ذكره جملة من أهل الطبقات، وأبو عمرة ولده هذا له إدراك، وكان شجاعاً ناسكاً معروفاً بالعبادة، قال صاحب الإصابة: إنه حضر وقُتل مع الحسين عليه السلام.

وروى الشيخ (ابن نما) عن مهران الكاهلي مولى لهم- أي مولى لبني كاهل-، قال: شهدتُ كربلا مع الحسين عليه السلام فرأيت رجلًا يُقاتل قتالًا شديداً، لايحمل على قوم إلّا كشفهم! ثمّ يرجع إلى الحسين عليه السلام فيقول له:

أَبشرْ هُديتَ الرشد يا ابن أحمدا في جنّة الفردوس تعلو صعّدا

فقلت: من هذا؟ قالوا: أبوعمرة الحنظلي.

فاعترضه عامر بن نهشل أحد بني اللّات بن ثعلبة فقتله واحتزَّ رأسه. قال وكان متهجّداً.». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 180

29)- سوار بن منعم بن حابس بن أبي عمير بن نهم الهمداني النهمي (رض) ..... ص : 180

قال المحقّق السماوي (ره): «كان سوار ممّن أتى إلى الحسين عليه السلام أيّام الهدنة، وقاتل في الحملة الأولى فجُرح وصُرع. قال في الحدائق الوردية: قاتل سوار حتّى إذا صُرع أُتي به أسيراً إلى عمر بن سعد فأراد قتله، فشفع فيه قومه، وبقي عندهم جريحاً حتّى توفّي على رأس ستّة أشهر.

وقال بعض المؤرّخين: إنّه بقي أسيراً حتّى توفي، وإنّما كانت شفاعة قومه للدفع عن قتله، ويشهد له ما ذكر في القائميات من قوله عليه السلام: «السلام على الجريح المأسور سوار بن أبي عمير النهمي»، «1» على أنه يمكن حمل العبارة على أسره في أوّل الأمر.». «2»

30)- عمرو بن عبداللّه الجندعي (رض) ..... ص : 180

قال المحقّق السماوي (ره): «وبنو جندع بطن من همدان، كان عمرو الجندعي ممّن أتى الى الحسين عليه السلام أيّام المهادنة في الطفّ، وبقي معه.

قال في الحدائق: إنّه قاتل مع الحسين عليه السلام فوقع صريعاً مرتثّاً بالجراحات، قد وقعت ضربة على رأسه بلغت منه، فاحتمله قومه، وبقي مريضاً من الضربة صريع فراش سنة كاملة، ثمّ توفّي على رأس السنة، رضي اللّه عنه، ويشهد له ما ذكر في

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 181

القائميات من قوله عليه السلام: «السلام على الجريح المرتثّ عمرو الجندعي «1»

.». «2»

31)- عمرو بن قرظة الأنصاري (رض) ..... ص : 181

قال المحقّق السماوي (ره): «هو عمرو بن قرظة بن كعب بن عمرو بن عائذ ابن زيد مناة بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، الأنصاري الخزرجي الكوفي.

كان قرظة من الصحابة الرواة، وكان من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام نزل الكوفة، وحارب مع أميرالمؤمنين عليه السلام في حروبه، وولّاه فارس، وتوفي سنة إحدى وخمسين، وهو أوّل من نيح عليه بالكوفة، وخلّف أولاداً أشهرهم عمرو، وعليّ.

أمّا عمرو فجاء إلى أبي عبداللّه الحسين عليه السلام أيّام المهادنة في نزوله بكربلا قبل الممانعة، وكان الحسين عليه السلام يُرسله إلى عمر بن سعد في المكالمة التي دارت بينهما قبل إرسال شمر بن ذي الجوشن فيأتيه بالجواب، حتّى كان القطع بينهما بوصول شمر.

فلمّا كان اليوم العاشر من المحرّم استأذن الحسين عليه السلام في القتال، ثمّ برز وهو يقول:

قد علمت كتائبُ الأنصار إنّي سأحمي حوزة الذمار

فعل غلام غير نكسٍ، شار دون حسين مهجتي وداري

قال الشيخ ابن نما: عرّض بقوله (دون حسين مهجتي وداري) بعمر بن سعد فإنّه لمّا قال له الحسين عليه السلام: صِر معي! قال: أخاف على داري!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 182

فقال الحسين عليه السلام له: أنا أعوّضك عنها. قال: أخاف

على مالي!

فقال له: أنا أعوّضك عنه من مالي بالحجاز. فتكرّه! إنتهى كلامه. «1»

ثُمّ إنّه قاتل ساعة ورجع للحسين عليه السلام فوقف دونه ليقيه من العدوّ! قال الشيخ ابن نما: فجعل يتلقّى السهام بجبهته وصدره فلم يصل إلى الحسين عليه السلام سوء حتّى أُثخن بالجراح! فالتفت إلى الحسين عليه السلام فقال: أوفيتُ يا ابن رسول اللّه؟ قال: نعم! أنت أمامي في الجنّة! فأقرأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله السلام وأعلمه أنّي في الأثر!

فخرَّ قتيلًا رضوان اللّه عليه. «2»

وأمّا عليٌّ فخرج مع عمر بن سعد! فلمّا قُتل أخوه عمرو برز من الصفّ ونادى: يا حسين يا كذّاب أغررت أخي وقتلته؟ فقال له الحسين عليه السلام: إنّي لم أغرَّ أخاك ولكن هداه اللّه وأضلّك! فقال عليٌّ: قتلني اللّه إنْ لم أقتلك أو أموت دونك! ثمّ حمل على الحسين عليه السلام، فاعترضه نافع بن هلال فطعنه حتّى صرعه، فحمل أصحابه عليه واستنقذوه، فَدُوِيَ بعد فبري ء. ولعليٍّ هذا دون أخيه الشهيد ترجمة في كتب القوم ورواية عنه ومدح فيه!.». «3»

وقد ورد السلام على عمرو بن قرظة في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على عمرو بن قرظة الأنصاري.». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 183

32)- عبداللّه بن بشر الخثعمي (رض) ..... ص : 183

قال المحقّق السماوي (ره): «هو عبداللّه بن بشر بن ربيعة بن عمرو بن منارة بن قُمَيْر بن عامر بن رائسة بن مالك بن واهب بن جليحة بن كلب بن ربيعة بن عفرس بن خلف بن أقبل بن أنمار، الأنماريّ الخثعمي.

كان عبداللّه بن بشر الخثعمي من مشاهير الكماة، الحماة للحقائق، وله ولأبيه ذكر في المغازي والحروب.

قال ابن الكلبي: بشر بن ربيعة الخثعمي هو صاحب الخطّة بالكوفة التي يُقال لها: جبانة بشر. وهو القائل يوم القادسية:

أنختُ بباب القادسية ناقتي

وسعد بن وقّاص عليَّ أمير

وكان ولده عبداللّه ممن خرج مع عسكر ابن سعد، ثمّ صار إلى الحسين عليه السلام فيمن صار إليه أيّام المهادنة. قال صاحب الحدائق وغيره: إنّ عبداللّه بن بشر قُتل في الحملة الأولى قبل الظهر.». «1»

33)- الحارث بن امرء القيس الكندي (رض) ..... ص : 183

نقل الزنجاني يقول: «قال في الإصابة: هو حارث بن امرء القيس بن عابس بن المنذر بن امرء القيس بن عمرو بن معاوية الأكرمين الكندي ... قال صاحب الحدائق: كان الحرث ممّن خرج مع عسكر عمر بن سعد حتّى أتى كربلاء، فلمّا ردوّا الشروط على الحسين مال إلى الحسين، وجاء إليه فسلّم وانضمّ إلى أصحابه الكنديين- وهم أربعة أشخاص كما ذكرنا بعضهم- وما زال مع الحسين عليه السلام، فلمّا شبّ القتال تقدّم أمام الحسين مع من تقدّم، وقُتل في الحملة الأولى رضوان اللّه عليه.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 184

«كان الحارث من الشجعان العُبّاد، وله ذكر في المغازي ..». «1»

34)- بشر بن عمرو بن الأُحدوث الحضرمي الكندي (رض) ..... ص : 184

مرّت بنا ترجمته (رض) في وقائع ليلة عاشوراء، فراجعها هناك تحت عنوان (الحضرمي: أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك!) مع الإشارة المرتبطة بهذا العنوان.

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على بشر بن عمر الحضرمي، شكر اللّه لك قولك للحسين وقد أذن لك في الإنصراف: أكلتني إذن السباع حيّاً إذا فارقتك! وأسأل عنك الركبان!؟ وأخذلك مع قلّة الأعوان!؟ لايكون هذا أبداً!». «2»

35)- عبداللّه بن عروة بن حرّاق الغفاري (رض) ..... ص : 184
36)- عبدالرحمن بن عروة بن حرّاق الغفاري (رض) ..... ص : 184

قال المحقّق السماوي (ره): «كان عبداللّه وعبدالرحمن الغفاريان من أشراف الكوفة ومن شجعانهم وذوي الموالاة منهم، وكان جدّهما حرّاق من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام وممّن حارب معه في حروبه الثلاث.

وجاء عبداللّه وعبدالرحمن إلى الحسين عليه السلام بالطفّ.

وقال أبومخنف: لمّا رأى أصحاب الحسين أنّهم قد كُثروا، وأنّهم لايقدورن على أن يمنعوا الحسين ولا أنفسهم، تنافسوا في أن يُقتلوا بين يديه، فجاءه عبداللّه وعبدالرحمن إبنا عروة الغفاريّان فقالا: يا أبا عبداللّه السلام عليك! حازنا العدوّ إليك فأحببنا أنْ نُقتل بين يديك، نمنعك وندفع عنك! فقال: مرحباً بكما! أدنوا منّي.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 185

فدنوا منه، فجعلا يقاتلان قريباً منه، وإنّ أحدهما ليرتجز ويتمّ له الآخر، فيقولان:

قد علمتْ حقّاً بنوغفار وخندف بعد بني نِزار

لنضربنّ معشر الفجّار بكلّ عضب صارم بتّار

يا قوم ذودوا عن بني الأطهار بالمشرفيّ والقنا الخطّار

فلم يزالا يُقاتلان حتّى قُتلا.

وقال السرويّ: إنّ عبداللّه قُتل في الحملة الأولى، وعبدالرحمن قُتل مبارزة.

وقال غيره: إنّهما قُتلا مبارزة. وهو الظاهر من المراجعة.». «1»

وقد ورد السلام عليهما في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على عبداللّه وعبدالرحمن إبني عروة بن حرّاق الغفاريين». «2»

37)- عبداللّه بن عمير الكلبي (رض) ..... ص : 185

قال المحقّق السماوي (ره): «هو عبداللّه بن عمير بن عبّاس بن عبدقيس بن عُلَيْم بن جناب، الكلبي العُلَيمي، أبووهب.

كان عبداللّه بن عمير بطلًا شجاعاً شريفاً، نزل الكوفة واتّخذ عند بئر الجعد من همدان داراً، فنزلها ومعه زوجته أمُّ وهب بنت عبد من بني النمر بن قاسط.

قال أبومخنف: فرأى القوم بالنخيلة يُعرضون ليسرّحوا إلى الحسين عليه السلام، فسأل عنهم، فقيل له: يُسرّحون إلى الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه!

فقال: واللّه، لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصاً، وإنّي لأرجو ألّا يكون

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 186

جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر

ثواباً عند اللّه من ثوابه إيّاي في جهاد المشركين!

فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع، وأعلمها بما يُريد، فقالت له: أصبتَ أصاب اللّه بك أرشد أمورك، إفعل وأخرجني معك!

قال: فخرج بها ليلًا حتّى أتى حُسيناً فأقام معه.

فلمّا دنا عمر بن سعد ورمى بسهم فارتمى الناس، خرج يسار مولى زياد، وسالم مولى عبيداللّه، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم!

فوثب حبيب وبرير، فقال لهما الحسين: أجلسا!

فقام عبداللّه بن عمير فقال: أباعبداللّه! رحمك اللّه إئذن لي لأخرج إليهما! فرأى الحسين رجلًا آدم، طوالًا، شديد الساعدين، بعيد ما بين المنكبين!

فقال الحسين: إنّي لأحسبه للأقران قتّالًا! أُخرجْ إنْ شئت.

فخرج إليهما، فقالا له: من أنت!؟ فانتسب لهما فقالا: لانعرفك، ليخرج إلينا زهيرٌ أوحبيب أو برير!

ويسارُ مستنتل أمام سالم، فقال له عبداللّه: يا ابن الزانية! وبك رغبة عن مبارزة أحدٍ من الناس!؟ أَوَ يخرج إليك أحدٌ من الناس إلّا وهو خير منك!

ثمَّ شدّ عليه فضربه بسيفه حتّى برد، فإنه لمشتغل يضربه بسيفه إذ شدّ عليه سالم، فصاح به أصحابه: قد رهقك العبد. فلم يأبه له حتّى غشيه فبدره بضربة فاتّقاها عبداللّه بيده اليسرى فأطار أصابع كفّه اليسرى، ثمَّ مال عليه فضربه حتّى قتله، وأقبل إلى الحسين عليه السلام يرتجز أمامه وقد قتلهما جميعاً فيقول:

إنْ تُنكروني فأنا ابن كلب حسبي ببيتي في عُلَيْمٍ حسبي

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 187

إنّي امرؤٌ ذو مِرّة وعصبِ ولستُ بالخوّار عند النكب

إنّي زعيمٌ لكِ أمَّ وهبِ بالطعن فيهم مقدماً والضرب

قال: فأخذت أمُّ وهب إمرأته عموداً، ثمَّ أقبلت نحو زوجها تقول: فداك أبي وأمّي! قاتل دون الطيبين ذريّة محمّد صلى الله عليه و آله. فأقبل إليها يردّها نحو النساء، فأخذت تجاذب ثوبه وتقول: إني لن أدعك دون أن أموت معك. (وإنّ

يمينه سدكت على السيف ويساره مقطوعة أصابعها فلايستطيع ردّ امرأته)، فجاء إليها الحسين عليه السلام وقال: جُزيتم من أهل بيتٍ خيراً! إرجعي رحمك اللّه إلى النساء فاجلسي معهنّ فإنّه ليس على النساء قتال. فانصرفت إليهنّ .. وقاتل الكلبي وكان في الميسرة قتال ذي لبدٍ! وقتل من القوم رجالًا، فحمل عليه هاني بن ثُبيت الحضرمي، وبكير بن حيّ التيمي- من تيم اللّه بن ثعلبة- فقتلاه ... وانجلت الغبرة فخرجت إمرأة الكلبي تمشي إلى زوجها حتّى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول: هنيئاً لك الجنّة! أسأل اللّه الذي رزقك الجنّة أن يصحبني معك!

فقال شمر لغلامه رستم: إضرب رأسها بالعمود!

فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها.». «1»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على عبداللّه بن عمير الكلبي». «2»

38)- سالم بن عمرو مولى بني المدينة الكلبي (رض) ..... ص : 187

قال المحقّق السماوي (ره): «كان سالم مولى لبني المدينة، وهم بطن من

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 188

كلب، كوفيّاً من الشيعة، خرج إلى الحسين عليه السلام أيّام المهادنة، فانضمّ إلى أصحابه.

قال في الحدائق: ومازال معه حتّى قُتل.

وقال السرويّ: قُتل في أوّل حملة مع من قُتل من أصحاب الحسين عليه السلام وله في القائميات ذكر وسلام.». «1»

ونقل الزنجاني قائلًا: «وقال في الذخيرة ص 242: وقال أهل السير: كان سالم فارساً شجاعاً خرج مع مسلم بن عقيل أوّلًا، ولمّا تخاذل النّاس عن مسلم قبض عليه كثير بن شهاب التميمي مع جماعة من الشيعة، فأراد تسليمه إلى عبيداللّه بن زياد مع أصحابه الذين كانوا معه، فأفلت واختفى عند قومه، فلمّا سمع نزول الحسين بن علي إلى كربلاء خرج إليه أيّام المهادنة فانضمّ إلى أصحابه الذين كانوا مع الحسين من الكلبيين ...». «2»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على سالم مولى

بني المدينة الكلبي.». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 191

الفصل الثالث: كربلاء يوم العاشر من المحرّم سنة 61 ه ق ..... ص : 191

أنصار الامام الحسين عليه السلام ..... ص : 191

قبل الحديث حول أنصار الإمام الحسين عليه السلام، في عددهم، وأسمائهم، وأنسابهم، وكلّ ما يتعلّق بهم، لابدّ من الحديث- ولو على نحو الإشارة- في علوّ منزلتهم، وسموّ مقامهم، وخصوصية تلك المنزلة وذلك المقام.

وحيث يعجز البيان، وتقصر قدرة العارف البليغ عن بلوغ الغاية في وصف هذه النخبة المصطفاة التي اختارها اللّه تبارك وتعالى لتكون رمز الإنسانية (لنصرة الحقّ) على مرّ الدهور وإلى قيام الساعة، كان لابدَّ من الرجوع في وصف هؤلاء الأنصار الكرام إلى سادة البيان ومعدن العلم والحكمة، أهل البيت عليهم السلام، إذ هم خير وأقدر من يستطيع القيام بمهمّة تعريف البشرية بهذه الكوكبة الفذّة الفريدة من أنصار الحقّ، ولعلّ أوّل وأولى وصف لهم بلغ الغاية في تعريفهم، هو ما وصفهم به الإمام الحسين عليه السلام نفسه، حين جمع أصحابه عند قرب مساء ليلة عاشوراء ليلقي إليهم بإحدى كلماته الخالدة- يقول الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام في نقله تفاصيل هذه الواقعة-:

«فدنوت لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذْ ذاك مريض، فسمعتُ أبي يقول لأصحابه:

أُثني على اللّه أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، أَللهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 192

أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين.

أمّا بعدُ: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولاخيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم اللّه عنّي خيراً ...». «1»

وهذا القول على إطلاقه «لا أعلم أصحاباً أوفى ولاخيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي» صادر عن الإمام المعصوم الذي وهبه اللّه علم ما كان ومايكون إلى قيام الساعة، «2» فمفاد هذا

النصّ الشريف إذن هو أنّ أنصار الإمام الحسين عليه السلام من أهل بيته وصحبه الكرام على مرتبة من الشرف والسموّ ورفعة المقام بحيث لم يسبقهم إليها سابق ولايلحق بهم لاحق.

ويؤكّد هذا المفاد ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام فيما رواه عن أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام، حيث قال:

«خرج عليّ يسير بالنّاس، حتّى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل تقدّم بين أيديهم حتّى طاف بمكان يُقال لها المقذفان، فقال: قُتل فيها مائتا نبيّ ومائتا سبط كلّهم شهداء، ومناخ ركاب ومصارع عشّاق شهداء، لايسبقهم من

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 193

كان قبلهم، ولايلحقهم من بعدهم.». «1»

فشهداء الطفّ إذن أعلى مقاماً وأشرف رتبة حتّى من شهداء بدر. «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 194

ولسمّو منزلتهم كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد حفر لهم قبورهم! فقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه شيخ الطائفة بسنده عن غياث بن إبراهيم، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«أصبحت يوماً أمّ سلمة تبكي، فقيل لها: ممّ بكاؤك؟ قالت: لقد قُتل ابني الحسين الليلة، «1» وذلك أنّني ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله منذ مضى إلا الليلة، فرأيته شاحباً كئيباً، فقالت: قلت: مالي أراك يا رسول اللّه شاحباً كئيباً؟

قال: مازلت الليلة أحفر القبور للحسين وأصحابه عليه السلام». «2»

و من خصائص شهداء الطفّ عليهم السلام أنّهم كُشف لهم الغطاء فرأوا جزاء ثباتهم وشجاعتهم وإصرارهم على التضحية مع ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، حيث رأوا منازلهم في الجنّة- وذلك بعد سلسلة الإمتحانات التي امتحنهم الإمام عليه السلام بها- فكانوا أهلًا لهذا الكشف المبين وأحقَّ به، فقد روي عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن أبي عبداللّه عليه

السلام، قال: قلت له: أخبرني عن أصحاب الحسين عليه السلام وإقدامهم على الموت! فقال عليه السلام:

«إنّهم كُشف لهم الغطاء حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها وإلى مكانه من الجنّة!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 196

ولقد أشير إلى ذلك في زيارة الناحية المقدّسة: «اشهد لقد كشف اللّه لكم الغطاء، ومهّد لكم الوطاء، وأجزل لكم العطاء ..». «1»

وقد اعترف الأعداء أنفسهم بشجاعة وعجيب ثبات أنصار الإمام عليه السلام، فهذا عمرو بن الحجّاج الزبيدي لعنه اللّه، وهو من قادة الجيش الأمويّ في كربلاء يوم عاشوراء، يخاطب جيش الضلالة قائلًا: «يا حمقى! أتدرون من تقاتلون!؟ إنّما تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر، وقوماً مستقتلين مستميتين، فلا يبرزنّ لهم منكم أحد ...». «2»

ويستغيث عروة (عزرة) بن قيس وهو قائد خيل جيش الضلال بأميره عمر بن سعد قائلًا: «أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة ...». «3»

«وقيل لرجل شهد يوم الطفّ مع عمر بن سعد: ويحك! أقتلتم ذرّية رسول اللّه صلى الله عليه و آله!؟ فقال: عضضت بالجندل! «4» إنك لوشهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا! ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها، كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالًا، وتُلقي أنفسها على الموت، لاتقبل الأمان! ولاترغب في المال!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 197

ولايحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة أو الإستيلاء على الملك! فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها! فما كنّا فاعلين لا أُمَّ لك!؟». «1»

عدد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يوم الطف ..... ص : 197

في البدء لابدّ أن نذكّر بالفرق بين قولنا: أنصار الإمام الحسين عليه السلام (عامّة) وبين قولنا: أنصار الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، وكذلك بين قولنا: (شهداء النهضة الحسينية) وبين قولنا:

(شهداء الطفّ)، ذلك لأنّ أنصار الإمام الحسين عليه السلام (عامّة) أوسع مراداً من أنصاره يوم عاشوراء، إذ في عامّة أنصاره من قتل في البصرة أو في الكوفة، أو سجن في محابس ابن زياد لعنه اللّه وأباه، وفيهم من لم يُدرك نصرة الإمام عليه السلام كالطرماح مثلًا.

وكذلك فإنّ (شهداء النهضة الحسينية) أوسع مراداً أيضاً من (شهداء الطفّ)، لأنّ في العنوان الأوّل من استشهد في البصرة كسليمان بن رزين (رض) رسول الإمام عليه السلام إلى أشرافها، ومنهم من استشهد في الكوفة كمسلم بن عقيل عليه السلام، وعبداللّه بن يقطر (رض)، وقيس بن مسهّر الصيداوي (رض)، وهاني بن عروة (رض)، وعمارة بن صلخب الأزدي (رض)، وعبدالأعلى بن يزيد الكلبي (رض)، وغيرهم.

كذلك يحسن التذكير هنا أيضاً بأنّ (أنصار الإمام عليه السلام يوم الطفّ) أوسع مراداً من (شهداء الطفّ)، ذلك لأنّ بعضاً من أنصاره عليه السلام الذين جاهدوا بين يديه يوم عاشوراء لم يستشهدوا يوم الطفّ كالحسن المثنى (رض) وغيره.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 198

أمّا عدد أنصار الإمام عليه السلام يوم الطفّ فقد اختلف فيه المؤرّخون اختلافاً شديداً، ووقع في حساب هذا العدد المبارك خلط بين عدد الأنصار وعدد القتلى منهم، ذلك لأنّ بعضاً من المؤرّخين استنتج عدد الأنصار من مجموع عدد الرؤوس الشريفة التي حملتها القبائل الى ابن زياد مثلًا.

وهنا نعرض بعض هذه الأرقام المتفاوتة مشيرين إلى مصادرها في الحاشية:

(70) شخصاً، «1» (72) شخصاً، «2» (82) شخصاً، «3» (87) شخصاً، «4» (100) شخص، «5» (145) شخصاً، «6» (500) فارس و (100) راجل، «7» وورد في بعض المصادر أنّ عددهم كان (60)، «8» أو (61)، «9» غير أنّ أشهر عدد لأنصار الإمام عليه السلام يوم الطف هو إثنان وسبعون.

الهاشميون من أنصار الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء ..... ص : 198

اختلفت المصادر

التأريخية اختلافاً شديداً في عدد رجال «10» بني هاشم الذين

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 199

حضروا كربلاء مع الإمام الحسين عليه السلام، والظاهر أنّ منشأ هذا الإختلاف هو اختلاف هذه المصادر في عدد مَن قُتل مِن بني هاشم مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

بل لقد اختلفت هذه المصادر في عدد الناجين منهم من القتل وفي أسماء بعضهم. «1»

ولذا فمن الصعب الوصول بدقّة تامّة وعلى نحو اليقين إلى عدد من حضر من بني هاشم في كربلاء مع الإمام الحسين عليه السلام، لكنّ إضافة عدد الناجين منهم إلى عدد من قُتل منهم- عدا الإمام عليه السلام- يوصلنا الى عدد تقريبيّ ظنّيّ لهؤلاء الأنصار

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 200

الهاشميين عليه السلام، يختلف باختلاف عدد الناجين الذي يكون الحساب على أساسه، ويتفاوت أيضاً بتفاوت عدد القتلى المعتمد والمضاف إليه.

إنّ أقلّ عدد لشهداء الطفّ من الأنصار الهاشميين ذكرته المصادر التأريخية هو أحد عشر. «1» أللّهمّ إلّا ما ذكره ابن أبي حاتم في كتابه السيرة النبوية أنّ شهداء بني هاشم كانوا تسعة أشخاص!. «2»

وإنّ أشهر عدد لمن قُتل منهم هو سبعة عشر، «3» وإن أكبر الأعداد المذكورة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 201

لهم عليهم السلام هو سبعة وعشرون شهيداً، «1» وبين الأقلّ والأكثر كانت بعض المصادر قد ذكرت أعداداً أخرى متفاوتة. «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 202

فإذا أخذنا عدد الناجين منهم من القتل- في ضوء رواية ابن سعد في الطبقات- وهو خمسة، فإنّ أقلّ عدد لأنصار الإمام عليه السلام من بني هاشم في كربلاء يكون ستّة عشر، ويكون أكبر عدد لهم إثنين وثلاثين، هذا على وجه التقريب، ويكون أقوى وأشهر عدد لهم إثنين وعشرين.

عدد الصحابة في جيش الإمام الحسين عليه السلام يوم الطف ..... ص : 202
اشارة

لقد كان في جيش الإمام عليه السلام- عدا الإمام الحسين عليه السلام-

جملة من صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، سواء ممّن صحبه وروى عنه، أو ممّن أدركه ورآه. «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 203

وفي هذه الجملة من أصحابه من لم يُناقش مورّخ أو رجاليٌّ في صحبته (فهو متّفق عليه)، وفيهم من نوقش في أنّه كان صحابياً أم لا، وفيهم من شُكّ في كونه هو ذلك الصحابيّ المقصود لتشابه الإسم بينه وبين آخر معروف بالصحبة، وعند عرضنا لأسمائهم المباركة سنشير إلى المختلف فيهم وإلى سبب الاختلاف، وهذه المجموعة المباركة من الصحابة الكرام والأنصار العظام هي:

1 أنس بن الحارث الكاهلي الأسدي (رض): ..... ص : 203

وهو ممّن روى عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله حديثه: «إنّ إبني هذا- يعني الحسين- يُقتل بأرض يُقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره». «1»

2 عبدالرحمن بن عبد ربّ الأنصاري الخزرجي (رض): ..... ص : 203

وهو ممن شهد حينما استشهد الامام عليّ عليه السلام الناس في الرحبة أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول:

«ألا إنّ اللّه عزّ وجلّ ولييّ، وأنا وليُّ المؤمنين، ألا فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، أللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وأَعِنْ من أعانه». «2»

3 حبيب بن مظاهر (مظهّر) الأسدي (رض): ..... ص : 203

كان صحابياً رأى النبي صلى الله عليه و آله. «3»

4 عبداللّه بن يقطر الحميري (رض): ..... ص : 203

كان صحابياً، لأنه كان لدة الحسين عليه السلام (في

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 204

مثل عمره)، وكان ابن حاضنة الحسين عليه السلام، فهو قد أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله ورآه. «1»

5 مسلم بن عوسجة الأسدي (رض): ..... ص : 204

كان صحابياً رأى النبيّ صلى الله عليه و آله «2».

6 كنانة بن عتيق التغلبي (رض): ..... ص : 204

شهد موقعة أُحدٍ مع أبيه عتيق، وكان فارس رسول اللّه صلى الله عليه و آله. «3»

7 عمّار بن أبي سلامة الدالاني الهمداني (رض): ..... ص : 204

كان صحابياً له رؤية أي أنّه (رض) قد أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله ورآه. «4»

8 الحرث بن نبهان (رض) مولى حمزة عليه السلام: ..... ص : 204

كان والده نبهان (ره) عبداً لحمزة بن عبدالمطلب، وقد مات والده بعد شهادة حمزة بسنتين، وهذا يعني أنّ الحرث قد أدرك زمان النبيّ صلى الله عليه و آله، وبما أنّ الحرث قد ترعرع ونشأ في كنف أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام فلابدّ أن يكون قد رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن قرب مراراً كثيرة. «5»

وهناك إثنان من الأنصار عليهم السلام ..... ص : 204
اشارة

ذُكر أنّهما أدركا زمن النبي صلى الله عليه و آله، ولم يُعلم أنّهما هل لقياه فرأياه أم لا؟ وهما:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 205

1 زياد بن عريب الهمداني الصائدي (رض): ..... ص : 205

وهو أبوعمرة، كان أبوه عريب صحابياً ذكره جملة من أهل الطبقات، وأبوعمرة ولده هذا له إدراك. «1»

2 عمرو بن ضبعة الضبعي التميمي (رض): ..... ص : 205

نقل الزنجاني قائلًا: «وقال العسقلاني في الإصابة: هو عمرو بن ضبعة بن قيس بن ثعلبة الضبعي التميمي، له ذكر في المغازي والحروب، وكان فارساً شجاعاً له إدراك.». «2»

أمّا من وقع الإختلاف ..... ص : 205
اشارة

في صحبتهم من الأنصار عليهم السلام، فهم:

1 أسلم (مسلم) بن كثير الأعرج الأزدي (رض): ..... ص : 205

فقد ذكر المحقّق السماوي (ره) أنه كان تابعياً، «3» لكنّ النمازي في المستدركات ذكر أنّ له صحبة، «4» وذكر الزنجاني نقلًا عن العسقلاني في الإصابة أنّه أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله. «5»

2 زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي (رض): ..... ص : 205

هكذا ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة، «6» وذكر بعض الرجاليين: زاهر صاحب عمرو بن الحمق، «7» وذكره المحقّق السماوي (ره): زاهر بن عمرو الكندي، «8» وكذلك ذكره الزنجاني في ترجمته، «9» ونقل النمازي (ره) عن المامقاني (ره) أنّه: هو زاهر بن عمر الأسلمي

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 206

الكندي من أصحاب الشجرة وروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله وشهد الحديبية وخيبر، «1» لكنّ السماوي (ره) لم يذكر له صحبة، «2» أمّا السيّد الخوئي (ره) فقد فصل بين زاهر صاحب عمرو بن الحمق وبين زاهر الأسلمي (الذي هو والد مجزأة- أو محذأة- من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله) ولم ير إتحادهما. «3»

وقد نقل الزنجاني أيضاً في ترجمته لزاهر (رض) عن العسقلاني في الإصابة قوله: «هو زاهر بن عمرو بن الأسود بن حجّاج بن قيس الأسلمي الكندي من أصحاب الشجرة وتحتها بايعوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وسكن الكوفة، وروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله وشهد الحديبية وخيبر». «4»

لكنّ الشيخ التستري (ره) ذهب- كما السيّد الخوئي (ره)- إلى أنّ زاهر صاحب عمرو بن الحمق (رض) ليس زاهر الأسلمي الكندي، لأنّ هذا الثاني وهو عربيّ لايكون مولىً لعمرو بن الحمق (رض)، كما ذهب إلى أنّ قولهم (زاهر بن عمرو) تخليط، بل هو زاهر مولى عمرو. «5»

3 سعد بن الحرث (رض) مولى عليّ بن أبي طالب عليهما السلام: ..... ص : 206

لم يذكر له المحقّق السماوي (ره) صحبة أو إدراكاً، بل قال: «كان سعد مولىً لعليّ عليه السلام فانضمّ بعده إلى الحسن عليه السلام ثم إلى الحسين عليه السلام، فلمّا خرج من المدينة خرج معه إلى مكّة ثمّ إلى

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 207

كربلاء فقُتل بها في الحملة الأولى ...». «1»

لكنّ الزنجاني نقل عن العسقلاني

في الإصابة أنه «هو سعد بن الحرث بن سارية بن مرّة ... بن كنجب الخزاعي، مولى علي بن أبي طالب، له إدراك مع النبيّ وكان على شرطة عليّ عليه السلام بالكوفة ...». «2»

وقال النمازي اعتماداً على المامقاني: «سعد بن الحارث الخزاعي مولى أميرالمؤمنين عليه السلام، ومن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ومن شرطة الخميس مع أميرالمؤمنين عليه السلام، وكان والياً من قِبَله على آذربيجان ...». «3»

لكن التستري (ره) ردّ قول المامقاني (ره) قائلًا: «اقول: لم يذكر مستنداً له، وكيف يجتمع كونه خزاعياً ومولاه عليه السلام؟ ولوكان صحابياً، كيف لم تعنونه الكتب الصحابية!؟ ..». «4»

4 يزيد بن مغفل الجعفي (رض): ..... ص : 207

نقل المحقّق السماوي (ره) عن المرزباني في معجم الشعراء أنه: «كان من التابعين، وأبوه من الصحابة». «5»

لكن المامقاني (ره) ذكر أنه «أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله، وشهد القادسية في عهد عمر ...». «6»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 208

ونقل الزنجاني عن العسقلاني في الإصابة أنه: «هو يزيد بن مغفل بن عوف بن عمير بن كلب بن ذهل ... بن جعف بن سعد العشيرة المذحجي الجعفي له إدراك مع النبيّ، وشهد حرب القادسية هو وأخوه زهير بن مغفل في عهد ابن الخطّاب.». «1»

5 شبيب بن عبداللّه مولى الحرث بن سريع الكوفي (رض): ..... ص : 208

لم يذكر له المحقّق السماوي (ره) صحبة أو إدراكاً، «2» لكنّ الزنجاني نقل عن ابن الكلبي قوله: «شبيب بن عبدالله كان صحابياً أدرك صحبة رسول اللّه، وشهد مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام مشاهده كلّها ..»، «3» غير أنّه لادليل على أنّ هذا هو شبيب بن عبداللّه مولى الحرث، كما أنّ الزنجاني ذكر نسبه نقلًا عن العسقلاني في الإصابة- نقلًا غير دقيق «4»- إذ قد وجدنا ما ذكره العسقلاني هكذا: «شبيب بن عبداللّه بن شكل بن حي بن جدية ...

المذحجي- له إدراك وشهد مع عليّ مشاهده، ذكر ذلك ابن الكلبي.»، «5» ولادليل أيضاً على أنّ هذا هو شبيب بن عبداللّه مولى الحرث، خصوصاً وأنّ من ذكره العسقلاني عربي (مذحجي) فكيف يكون مولى للحرث بن سريع الكوفي؟

ولانعلم الدليل الذي استند إليه المامقاني (ره)، «6» والنمازي (ره)، «7» حيث ذكرا أنه (أي شبيب بن عبداللّه مولى حارث بن سريع): من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله؟

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 209

وقد ردّ التستري (ره) على قول المامقاني (ره) قائلًا: «قال: صرّح أهل السير:

أنّه أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله، وشهد مشاهد عليّ

عليه السلام، وحضر الطفّ واستشهد، ووقع التسليم عليه في الناحية.

أقول: لم يعيّن من كان من أهل السير ذكر ماقال! ولو كان صحابياً كيف لم تعنونه الكتب الصحابية؟ وقد عنونوا المختلف فيه! وليس في الناحية، وإنّما في نسختها «شبيب بن الحارث بن سريع» وهو محرّف «سيف بن الحارث بن سريع» المتقدّم، وبالجملة: العنوان لم يُعلم أصله، فضلًا عن فرعه». «1»

6 جنادة بن الحرث السلماني الأزدي الكوفي (رض): ..... ص : 209

قال الزنجاني: «.. وقال علي بن الحسين بن عساكر في تاريخه: هو جنادة بن الحرث بن عوف بن أميّة بن قلع بن عبادة بن حذيق بن عدي بن زيد بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن الحرث، المذحجي المرادي السلماني الكوفي، له إدراك وصحبة مع النبيّ.». «2» كذلك ذكر المامقانى عن أهل السير أنه كان من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله، «3» لكنّ الشيخ السماوي (ره) لم يذكر له إدراكاً وصحبة، بل قال: «كان جنادة بن الحرث من مشاهير الشيعة، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام ...». «4»

7 جندب بن حجير الخولاني الكوفي (رض): ..... ص : 209

قال الزنجاني: «قال ابن عساكر في تاريخه: هو جندب بن حجير بن جندب بن زهير بن الحارث بن كثير بن جشم بن حجير الكندي الخولاني الكوفي، يُقال له صحبة مع رسول اللّه، وهو من أهل

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 210

الكوفة وشهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام حرب صفين، وكان أميراً على كندة والأزد ..»، «1» وقال المامقاني أيضاً: «ذكر أهل السير أنّ له صحبة»، «2» لكنّ الشيخ السماوي لم يذكر له صحبة، بل قال: «كان جندب من وجوه الشيعة، وكان من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام ...». «3»

أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام من أنصار الإمام الحسين عليه السلام في الطّف ..... ص : 210

شكّل أصحاب أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام عدداً كبيراً من أنصار الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، فهم عدا من مرَّ ذكره من صحابة الرسول صلى الله عليه و آله، وعدا الهاشميين منهم، وعدا من لم يصرّح المؤرّخون بصحبته لعليّ عليه السلام، «4» وعدا من ظلم التأريخ سيرته، «5» قد بلغ عددهم على أقلّ التقادير وعلى حدّ اليقين عشرين رجلًا، وهم:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 211

1 سعد بن الحرث (رض) مولى عليّ عليه السلام.

2 نصر بن أبي نيزر (رض) مولى عليّ عليه السلام.

3 أبوثمامة الصائدي (رض).

4 برير بن خضير (رض).

5 شوذب بن عبداللّه (رض). 6 جنادة بن الحرث السلماني المذحجي (رض).

7 مجمع بن عبدالله العائذي (رض).

8 نافع بن هلال الجملي (رض).

9 الحجّاج بن مسروق الجعفي (رض).

10 يزيد بن مغفل الجعفي (رض).

11 نعيم بن العجلان الأنصاريّ الخزرجي (رض).

12 جُندب بن حجير الكندي الخولاني (رض).

13 جون بن حوي مولى أبي ذرّ الغفاري (رض).

14 أسلم (مسلم) بن كثير الأعرج الأزدي (رض).

15 النعمان بن عمرو الأزدي الراسبي (رض).

16 الحُلاس بن عمرو الأزدي الراسبي (رض).

17 أُميّة بن سعد الطائي (رض).

18 قاسط بن زهير بن

الحرث التغلبي (رض).

19 كردوس بن زهير بن الحرث التغلبي (رض).

20 مقسط بن زهير بن الحرث التغلبي (رض).

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 212

جيش الإمام الحسين عليه السلام ... حجازيّون وكوفيّون وبصريون ..... ص : 212

تكوّن جيش الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء من ثلاثة بلدان من بلاد العالم الإسلامي، هي الحجاز (المدينة المنّورة بالأساس ومياه جهينة)، والكوفة، والبصرة.

وتتألف مجموعة الحجازيين- في ضوء ماحقّقه المرحوم الشيخ السماوي (ره)، وعلى هذا عمدة التحقيقات الأخرى أيضاً «1»- من بني هاشم عليهم السلام ومواليهم، والصحابي عبدالرحمن بن عبدربّ الأنصاري الخزرجي، وجنادة بن كعب بن الحرث الأنصاري، وابنه عمرو بن جنادة، وجون مولى أبي ذرّ الغفاري رضوان اللّه عليهم، وثلاثة التحقوا بالإمام عليه السلام من مياه جهينة ولازموه حتى استشهدوا بين يديه في كربلاء، وهم: مجمع بن زياد الجهني، وعبّاد بن المهاجر الجهني، وعقبة بن الصلت الجهني رضوان الله عليهم.

أمّا الكوفيّون من أنصار الإمام عليه السلام في كربلاء فقد بلغ عددهم- في ضوء تحقيق الشيخ السماوي (ره)- ثمانية وستين مع مواليهم، وقد شكّل هؤلاء الكوفيّون رضوان اللّه تعالى عليهم الأكثرية في جيش الإمام عليه السلام.

أمّا البصريون فقد بلغ عددهم تسعة مع مواليهم «2» في جيش الإمام عليه السلام وهم:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 213

يزيد ثبيط العبدي (عبدقيس) البصري، وإبناه: عبداللّه، وعبيداللّه، وعامر بن مسلم العبدي البصري، ومولاه سالم، وسيف بن مالك العبدي البصري، والأدهم بن أُميّة العبدي البصري، والحجّاج بن بدر التميمي البصري، وقعنب بن عمر النمري البصري، رضوان اللّه تعالى عليهم.

الموالي من أنصار الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء ..... ص : 213

بلغ عدد الموالي- المقطوع به على وجه اليقين- من أنصار الإمام الحسين عليه السلام الذين حضروا معه كربلاء- في ضوء ماصرّح به المحقّق السماوي (ره)- ستة عشر رجلًا، وهذا العدد هو على الأقلّ كما لايخفى، لأنّ هناك من الموالي من لم يذكرهم التأريخ، ومنهم من لم يعرف مصيره كمولى نافع بن هلال الجملي (رض) «1» وهم:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 214

1 نصر بن أبي

نيزر (رض) مولى عليّ عليه السلام. 2 سعد بن الحرث (رض) مولى عليّ عليه السلام.

3 أسلم بن عمرو (رض) مولى الحسين عليه السلام.

4 قارب بن عبداللّه الدئلي (رض) مولى الحسين عليه السلام.

5 منجح بن سهم (رض) مولى الحسين عليه السلام.

6 الحرث بن نبهان (رض) مولى حمزة عليه السلام.

7 سعد (رض) مولى عمرو بن خالد الصيداوي (رض).

8 شوذب (رض) مولى شاكر.

9 شبيب (رض) مولى الحرث بن سريع الهمداني الجابري.

10 واضح التركي (رض) مولى الحرث المذحجي السلماني.

11 زاهر (رض) مولى عمرو بن الحمق الخزاعي. «1»

12 جون بن حوي (رض) مولى أبي ذرّ (رض).

13 سالم بن عمرو (رض) مولى بني المدينة.

14 رافع بن عبداللّه (رض) مولى أسلم (مسلم) بن كثير (رض).

15 سالم (رض) مولى عامر بن مسلم العبدي (رض).

16 عقبة بن سمعان (رض) مولى الرباب (رض). «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 215

17 غلام تركي (رض) مولىً للحرّ بن يزيد الرياحي (رض). «1»

من ألقاب الجيش الحسينيّ ..... ص : 215

هناك ألقاب كثيرة كريمة سامية في المتون الروائية والتأريخيّة كانت قد أُطلقت على الجيش الحسينيّ في كربلاء، نورد هنا ما تيسّر منها:

عباد الله الصالحون. «2»

عشّاق شهداء. «3»

العُبّاد النُسّاك. «4»

الطيّبون. «5»

الذاكرون اللّه. «6»

أهل البصائر. «7»

حملة الحديث. «8»

الأتقياء الأبرار. «9»

المجتهدون بالأسحار. «10»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 216

شيوخ القُرّاء، قُرّاء القرآن. «1»

أُسُدُ الأُسود. «2»

فرسان المصر. «3»

القوم المستميتون. «4»

قتلة المشركين. «5»

فقرة الظهر ورأس الفخر. «6»

عُمر الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء سنة 61 ه ..... ص : 216

اختلفت الروايات والأقوال في عمر الإمام عليه السلام يوم استشهاده، ويمكن تصنيف هذه الأقوال من الأقلّ إلى الأكثر كما يلي:

1- أربع وخمسون سنة وستّة أشهر: ذهب إلى ذلك قتادة، «7» وذكر ذلك أيضاً الخوارزمي في المقتل. «8»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 217

2- خمس وخمسون سنة: ذهب إلى ذلك الواقدي، «1» والمسعودي. «2» 3- ستٌّ وخمسون سنة: ذهب إلى ذلك اليعقوبي في تأريخه، «3» وابن عبد ربّه الأندلسي، «4» وأبوالفرج الإصبهاني، «5» وسعد بن عبداللّه القمي، «6» وابن سعد في طبقاته. «7»

4- سبع وخمسون سنة: ذهب إلى ذلك الشيخ الصدوق (ره) في أماليه، «8» والكليني في الكافي، «9» وابن الدارع، «10» والزرندي في نظم درر السمطين. «11»

وهذا القول هو الأشهر والأقوى، وأمّا ما قاله الشيخ المفيد (ره): «ومضى الحسين عليه السلام في يوم السبت العاشر من المحرّم سنة إحدى وستين من الهجرة بعد

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 218

صلاة الظهر منه، قتيلًا مظلوماً ظمآنَ صابراً محتسباً، على ماشرحناه، وسنّه يومئذٍ ثمان وخمسون سنة، أقام منها مع جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله سبع سنين، ومع أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام ثلاثين سنة، ومع أخيه الحسن عليه السلام عشر سنين، وكانت مدّة خلافته بعد أخيه إحدى عشرة سنة ...». «1»

ففيه اشتباه ظاهر، وذلك لأنّ الشيخ المفيد نفسه يذكر أنه

عليه السلام ولد في الخامس من شعبان سنة أربع من الهجرة، «2» فبطرح أربع من إحدى وستين يكون الباقي سبعاً وخمسين، «3» هذا مع العلم أنه عليه السلام لم يعش من سنة إحدى وستين إلّا عشرة أيّام، ولهذا أيضاً تكون مدّة خلافته عليه السلام «4» بعد أخيه الحسن عليه السلام عشر سنين لا إحدى عشرة سنة، فتأمّل.

5- ثمان وخمسون سنة: وذهب إلى ذلك ابن العديم، «5» وابن قتيبة، «6» وابن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 219

حبّان، «1» والبخاري، «2» والمزيّ، «3» وروي ذلك عن أحمد بن حنبل، «4» وابن أبي شيبة، «5» وروى الخطيب «6» ذلك عن ابن عيينة عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام ورواه ابن سعد في طبقاته أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام. «7»

6- تسع وخمسون سنة: ذكر ذلك المسعودي في مروجه أيضاً. «8»

الجيش الأموي: الألقاب والأوصاف ..... ص : 219

لقد وُصِف الجيش الأمويّ الذي ارتكب بقيادة عمر بن سعد لعنه اللّه أبشع جريمة في تأريخ الأرض بأوصاف سيئة وألقاب ذميمة كثيرة، على لسان الإمام الحسين عليه السلام ولسان أصحابه رضوان اللّه تعالى عليهم، نورد هنا بعضاً من هذه الأوصاف- وجُلّها عن لسان الإمام عليه السلام- للتعريف بهويّة هذا الجيش الآثم:

شيعة آل أبي سفيان. «9»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 220

العتاة. «1»

الطغاة. «2» الجُهّال. «3»

شيعة الشيطان. «4»

الفُسّاق. «5»

المليئة بطونهم من الحرام. «6»

الممسوخون. «7»

عبيدالأمة. «8»

شُذّاذ الأحزاب. «9»

شرار الأحزاب. «10»

نَبَذَة الكتاب، محرّفو الكلم، عصبة الإثم، نفثة الشيطان، مطفئو السنن. «11»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 221

الظالمون. «1»

السفهاء. «2» المطبوع على قلوبهم. «3»

أمّة السوء. «4»

شاربو الخمر. «5»

مؤذو المؤمنين، صراخ أئمة المستهزئين، أكلة الغاصب، قتلة أولاد الأنبياء، مبيرو عترة الأوصياء، ملحقو العهار بالنسب. «6»

عظماء الجبّارين. «7»

قتلة أولاد البدريين، قتلة عترة خير المرسلين، قتلة المؤمنين. «8»

الخبيثون. «9»

أولاد

الزنا. «10»

الطُغام. «11»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 222

مُظهرو الفساد في الأرض، مبطلو الحدود، المستأثرون في أموال الفقراء والمساكين. «1»

عدد الجيش الأموي ..... ص : 222
اشارة

تفاوتت الروايات والمتون التأريخيّة في عدد الجيش الأمويّ الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء، وهذه الأعداد على الترتيب من الأقلّ إلى الأكثر هي:

1- ألف مقاتل. «2»

2- أربعة آلاف. «3»

3- ستّة آلاف. «4»

4- ثمانية آلاف. «5»

5- إثنا عشر ألفاً. «6»

6- ستّة عشر ألفاً. «7»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 223

7- عشرون ألفاً. «1»

8- إثنان وعشرون ألفاً. «2» 9- ثلاثون ألفاً. «3»

10- خمسة وثلاثون ألفاً. «4»

11- أربعون ألفاً. «5»

12- خمسون ألفاً. «6»

13- مائة ألف. «7»

إشارة ..... ص : 223

لقد أُنشئت مدينة الكوفة لغرض عسكري بالأساس، وكانت تتمتع بقدرات تعبوية كبيرة من حيث العدد والعدّة، وفي الروايات والمتون التأريخية دلائل كثيرة على هذه الحقيقة، فقد روي مثلًا أنّ سليمان بن صُرَد الخزاعي كان قد خاطب الإمام الحسن عليه السلام- وقد أنكر عليه أمر الصلح- قائلًا: «لاينقضي تعجبي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق.»، «8» وورد في بعض رسائل أهل

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 224

الكوفة إلى الإمام الحسين عليه السلام: «إنّ لك هاهنا مائة ألف سيف فلاتتأخر.»، «1» ولاشكّ أنّ قدرة الكوفة التعبوية عسكرياً أكبر من ذلك بكثير لأنّ هذه المائة ألف المشار إليها في هذين النصّين إنّما تُعبّأ لطرف من طرفي النزاع الداخلي على الحكم، لا لمواجهة أمر خارجي يستدعي تعبئة كلّ الأمّة حيث يكون العدد أكبر وأكبر.

وإذا كان الحديث عن العدّة كاشفاً عن العدد، فإنّ عدّة السلاح والإمداد في جيش ابن زياد وضخامتها دليل على أنّ جيش ابن زياد كان كبيراً جدّاً، يقول الشيخ القرشي: «وتسلّح جيش ابن زياد بجميع أدوات الحرب السائدة في تلك العصور، فقد كان إستعداده لحرب الإمام إستعداداً هائلًا، ويحدّثنا المؤرّخون عن ضخامة ذلك الإستعداد، فقالوا: إنّ الحدّادين وصانعي أدوات الحرب

في الكوفة كانوا يعملون ليلًا ونهاراً في بري ء النبال وصقل السيوف في مدّة كانت تربو على عشرة ايّام ... لقد دفع ابن زياد لحرب الحسين بقوّة عسكرية مدجّجة بالسلاح بحيث كانت لها القدرة على فتح قطر من الأقطار.». «2»

ويذهب بعض المتتبّعين إلى أنّ الأقرب الأقوى أنّ عدد الجيش الأموي الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء هو ثلاثون ألفاً، لأنّ هناك رواية عن الإمام الحسن عليه السلام أنّه خاطب الإمام الحسين عليه السلام قائلًا:

«ولكن لايوم كيومك يا أبا عبداللّه! يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّد صلى الله عليه و آله وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 225

ثقلك ...». «1»

ورواية أخرى عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال:

«ولايوم كيوم الحسين عليه السلام ازدلف عليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنّهم من هذه الأمّة! كلٌّ يتقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ بدمه!! وهو باللّه يذكّرهم فلايتّعظون حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً ...». «2»

لكنَّ التأمّل مليّاً في هذين النصّين الشريفين يكشف أنّ هؤلاء الثلاثين ألفاً هم فقط الذين يزدلفون إليه عليه السلام متقرّبين الى اللّه تعالى بقتله! ومن الثابت تأريخياً أنّ جُلَّ أهل الكوفة كانت قلوبهم مع الحسين عليه السلام ويكرهون قتاله، وقد أُحضروا إلى كربلاء مُكرهين مرغمين، «3» ومثل هؤلاء وهم كثرة لايزدلفون إليه عليه السلام لقتله

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 226

طائعين، وإذا ازدلفوا إليه مرغمين فهم ليسوا ممّن يتقرّب إلى اللّه تعالى بقتله!

إذن فإذا أضفنا عدد هؤلاء المرغمين على الحضور في كربلاء الكارهين لقتل الإمام عليه السلام وقتاله إلى الثلاثين ألفاً المزدلفين إليه المتقرّبين إلى الله تعالى بقتله فإنّ عدد الجيش الأموي

بلاشك يزيد على الثلاثين ألفاً بكثير، ولكننا لايمكن لنا أن نقطع بالرقم اليقين لعدد هذا الجيش، لأننا لانملك وثائق تأريخية تمكّننا من هذا القطع، والى هنا مبلغ علمنا، واللّه العالم.

أبرز القادة العسكريين في جيش ابن زياد ..... ص : 226

ذكرت بعض كتب التأريخ أسماء أبرز القادة العسكريين في جيش ابن زياد، والمهمّات الحربية التي أُنيطتْ بهم، والمناصب العسكرية التي كانت لهم، وهم:

1- عمر بن سعد بن أبي وقّاص: وهو القائد الميداني العام لهذا الجيش، وكان ابن زياد قد سرّحه على أربعة آلاف أيّام تعبئة الجيش. «1»

2- شمر بن ذي الجوشن: ويأتي من حيث الرتبة والأهميّة بعد عمر بن سعد، وكان على أربعة آلاف في تعبئة الجيش، كما كان قائد الميسرة في جيش ابن سعد

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 227

يوم عاشوراء. «1»

3- الحصين بن نمير (بن تميم): «2» وكان على أربعة آلاف في تعبئة الجيش، كما كان قائد قوّات محاصرة حدود الكوفة قبل ذلك. «3»

4- شبث بن ربعي: وكان على ألف فارس في تعبئة الجيش، وكان أميرالرجّالة في جيش ابن سعد يوم عاشوراء. «4»

5- الحرّ بن يزيد الرياحي: وكان على ألف فارس لمحاصرة الركب الحسيني، كما كان على ربع تميم وهمدان في كربلاء يوم عاشوراء. «5»

6- عبداللّه بن زهير بن سليم الأزدي: وكان على ربع أهل المدينة في كربلاء يوم عاشوراء. «6»

7- قيس بن الأشعث: وكان على ربع ربيعة وكندة في كربلاء يوم عاشوراء. «7»

8- عبدالرحمن بن أبي سبرة الحنفي: وكان على ربع مذحج وأسد في كربلاء

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 228

يوم عاشوراء. «1»

9- مضاير بن رهينة المازني: وكان على ثلاثة آلاف في تعبئة الجيش. «2»

10- كعب بن طلحة: وكان على ثلاثة آلاف في تعبئة الجيش. «3» 11- عزرة بن قيس الأحمسي: وكان أميرالخيل في جيش ابن سعد

يوم عاشوراء. «4»

12- نصر بن حرشة: وكان على ألفين في تعبئة الجيش. «5»

13- يزيد بن ركاب الكلبي: وكان على ألفين في تعبئة الجيش. «6»

14- يزيد بن الحرث بن رويم: وكان على ألف في تعبئة الجيش. «7»

15- عمرو بن الحجّاج الزبيدي: وكان أميراً على قوّات منع الماء منذ اليوم السابع من المحرّم، وكان أمير ميمنة جيش ابن سعد يوم عاشوراء. «8»

16- حجّار بن أبجر: وكان على ألف في تعبئة الجيش. «9»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 229

17- الأزرق بن الحرث الصُدائي: وكان أميراً على أربعمائة فارس قاتلوا جماعة بني أسد الذين أرادوا الإلتحاق بمعسكر الإمام الحسين عليه السلام. «1»

18- زجر بن قيس الجعفي: وكان على خمسمائة فارس في مسلحة عند جسر الصراة لمنع من يخرج من الكوفة ملتحقاً بالإمام عليه السلام. «2»

وهناك قادة آخرون كانوا قد حضروا كربلاء يوم عاشوراء، غير أنّ المصادر التأريخية- حسب متابعتنا- لم تشخّص مهمّاتهم ومناصبهم العسكرية، منهم:

محمّد بن الأشعث، وكثير بن شهاب الحارثي، والقعقاع بن سويد بن عبدالرحمن المنقري، وأسماء بن خارجة الفزاري ... «3»

عناصر الجيش الأموي ..... ص : 229
اشارة

يمكن تصنيف الجيش الأموي الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء من حيث نوع العناصر التي تألّف منها إلى الأصناف التالية:

1- المزدلفون إلى الإمام عليه السلام لقتله: ..... ص : 229

متقرّبين إلى اللّه بذلك، وبانتهاك حرمته، وسبي ذراريه ونسائه، وانتهاب ثقله، مجتمعين على هذا الرأي، وهم مع هذا يدّعون ويزعمون أنهم من أمّة محمّد صلى الله عليه و آله! وهم ثلاثون ألفاً على ما حدّده الإمام الحسن المجتبى عليه السلام والإمام زين العابدين عليه السلام فيما أُثر عنهما، «4» وهذا الصنف

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 230

الضالّ ربّما شكّل من حيث العدد الأكثرية الساحقة في جيش ابن زياد، ولاشك أنّ هؤلاء ممّن أضلّهم الإعلام الأموي وطمس على أبصارهم وبصائرهم، فكانوا يرون الإمامة والخلافة الشرعيّة ليزيد بن معاوية!! ويرون الإمام الحقّ عليه السلام خارجاً عن طاعة الإمام!! شاقّاً لعصا هذه الأمّة ومفرّقاً لكلمتها، ولو لم يكن هذا ما يعتقدونه لما تقرّبوا إلى اللّه بقتل الإمام الحسين عليه السلام على حدّ قول الإمام السجّاد عليه السلام.

2- أهل الأهواء والأطماع: ..... ص : 230
اشارة

ويمكن تقسيم هؤلاء أيضاً إلى:

أ- الإنتهازيّون: ..... ص : 230

وهم الساعون وراء مصالحهم الدنيوية مهما فرضت عليهم هذه المصالح والمطامع من تقلّبات في الإنتماء بين الرايات المتعارضة، ولايعني هذا أنّ الإنتهازيّ لايعرف أين الحقّ ومن هم أهله! لكنّ حبّه للدنيا وللرئاسة والمقام يضطرّه إلى التنكّر لأهل الحقّ، كما قد يضطّره إلى قتلهم ومل ءُ قلبه حسرة عليهم ودموعه تجري أسىً لما أصابهم، ومن أوضح الأمثلة على هؤلاء: عمر بن سعد لعنه اللّه، وشبث بن ربعي وحجّار بن أبجر، وغيرهم كثير. «1»

ب- المرتزقة: ..... ص : 230

وهم الذين يخدمون من يعطي أكثر من غيره، ولايعبأون بما إذا كان مبطلًا أو محقّاً! ولاترقّ قلوب هؤلاء لمظلوميّة مظلوم ولاتأخذهم شفقة لبشاعة مقتله! ومن أوضح الأمثلة على هؤلاء:

سنان بن أنس، وشمر بن ذي الجوشن، وحرملة بن كاهل، ومسروق بن وائل وحكيم بن طفيل، ومنهم أولئك الذين سلبوا جميع ملابس الحسين عليه السلام حتّى

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 231

تركوه عرياناً لعنهم اللّه جميعاً.

وهؤلاء- كما هو شأنهم في القديم والحاضر- ممسوخون روحيّاً ونفسياً، قد امتلأت صدورهم بالحقد والكراهية لجميع الناس عامة ولأهل الفضل منهم خاصة، فهم يندفعون بسهولة إلى ارتكاب المذابح الطائشة والجرائم الفجيعة بقساوة فظيعة كما الوحوش الكواسر. «1»

ج- الفسقة والبطّالون: ..... ص : 231

وهم الذين لايهمهم من دنياهم إلّا قضاء أوطارهم من المفاسد التي ألفوها وتعوَّدوا عليها، ومن العادة وطبيعة الأمور أن يتواجد هؤلاء في صفّ أهل الباطل عند مواجهتهم لأهل الحقّ، وهؤلاء يشهدون على أنفسهم بأنّهم أهل فساد وباطل، ويتذرّعون لأنفسهم بأسخف العلل لعدم انتمائهم لصف الحقّ مع معرفتهم به، ومن أوضح الأمثلة على هؤلاء في جيش عمر بن سعد: أبو

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 232

حريث عبداللّه بن شهر السبيعي ويزيد بن عذرة العنزي. «1»

3- الخوارج: ..... ص : 232

المشهور بين المؤرّخين أنّ الخوارج كانوا من جملة المشتركين في جيش ابن زياد الذي عبّأه لقتال الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وورد في أكثر كتب المقاتل والتراجم أنّ سعد بن الحرث الأنصاري العجلاني وأخاه أبا الحتوف كانا من الخوارج (المحكّمة) وخرجا مع ابن سعد إلى قتال الحسين عليه السلام، ولمّا قُتل أصحاب الحسين عليه السلام، وجعل يقول: «ألا ناصرٌ فينصرنا؟» وسمعته النساء والأطفال فتصارخن، وسمع سعد وأخوه أبوالحتوف النداء من الحسين عليه السلام والصراخ من العيال، فمالا مع الحسين عليه السلام على أعدائه حتّى استشهدا بين يديه. «2»

فإذا افترضنا أنّ الخوارج كانوا قد خرجوا مع ابن زياد لقتال الإمام الحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 233

راغبين كما ذهب إلى ذلك الشيخ القرشي حيث يقول: «ومن بين العناصر التي اشتركت في حرب الإمام عليهما السلام الخوارج، وهم من أحقد الناس على آل النبي عليهم السلام لإنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام قد وترهم في واقعة النهروان، فتسابقوا إلى قتل العترة الطاهرة للتشفّي منها»، «1» إذن فهم بلا شك من المزدلفين إلى قتل الإمام عليه السلام المتقرّبين إلى اللّه تعالى بذلك، فهم إذن من الصنف الأوّل.

لكنّنا إذا أخذنا رأي المحقّق التستري (ره) في ردّه على

الشيخ المامقاني (ره)، بصدد كون الأخوين سعد بن الحارث العجلاني (رض) وأخيه أبي الحتوف (رض) من الخوارج، حيث يقول التستري (ره): «... ثمّ خروج الخارجيّ مع ابن سعد غير معقول، فكانت الخوارج لايعاونون الجبابرة في قتال الكفّار، فكيف في حربه عليه السلام؟ ثمّ كيف ينصر الحسين من يقول: لاحكم الّا للّه ويعلم أنّ الحسين عليه السلام مثل أبيه يجوّز التحكيم بكتاب اللّه؟»، «2» أمكن لنا القول بأنّ حضور الخوارج في جيش ابن زياد لقتال الإمام الحسين عليه السلام ربّما كان على كُرهٍ منهم، فهم من حيث التصنيف من المكرهين الآتي ذكرهم.

4- المُكرهون: ..... ص : 233

ومنهم الخوارج- على احتمال- كما قدّمنا، ومنهم مخلص في حب الإمام عليه السلام وطاعته، لكنّه لم يستطع اللحوق به بسبب الحصار وشدّة المراقبة، حتّى إذا حضر كربلاء في جيش ابن زياد، تحيّن الفرصة ليلة العاشر أو قبلها فالتحق بالإمام عليه السلام، وهؤلاء في حساب العدد أفراد قليلون، ورد ذكرهم في تراجم أنصار الحسين عليه السلام، وربّما أمكن القول إنّ من هؤلاء أيضاً من خرج في جيش ابن سعد وهو لايتوقّع نشوب الحرب بل يتوقّع الصلح، حتّى إذا رُدَّت على الإمام عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 234

شروطه وصارت الحرب حتماً مقضيّاً انحاز إلى الإمام عليه السلام وجاهد بين يديه حتى استشهد، وهؤلاء أيضاً أفراد قليلون.

غير أنّ القسم الأعظم من صنف المكرهين أولئك الذين خرجوا في جيش ابن سعد مرغمين خوفاً من بطش ابن زياد إبّان التعبئة الشاملة القاهرة التي فرضها على أهل الكوفة، وهم الذين غلب الشلل النفسي على وجودهم، وطغى مرض الإزدواجية على شخصيتهم، فكانت قلوبهم مع الإمام عليه السلام وسيوفهم عليه مع سيوف أعدائه، فكانوا حطب نار الفاجعة، ومادّة ارتكاب الجريمة، وعدد هؤلاء

كبير جداً نسبة إلى مجموع جيش ابن سعد في كربلاء.

هل اشترك أهل الشام في واقعة الطفّ؟ ..... ص : 234

ذهب المسعودي إلى أنّ واقعة الطفّ لم يحضرها شاميٌّ، حيث قال: «وكان جميع من حضر مقتل الحسين من العساكر وحاربه وتولّى قتله من أهل الكوفة خاصة، لم يحضرهم شاميٌّ ...»، «1» لكنّ هناك متوناً تأريخية قد يُستفاد منها أنّ أهل الشام قد حضروا كربلاء يوم عاشوراء، منها:

ما رواه ابن سعد في طبقاته قائلًا: «ودعا رجل من أهل الشام عليَّ بن حسين الأكبر- وأمّه آمنة بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي، وأمّها بنت أبي سفيان ابن حرب- فقال: إنَّ لك بأمير المؤمنين قرابة ورحماً، فإنْ شئت آمنّاك وامضِ حيث ما أحببت فقال: أما واللّه لقرابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله كانت أولى أن تُرعى من قرابة أبي سفيان، ثمّ كرّ عليه ...». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 235

وما رواه ابن عبد ربّه قائلًا: «ورأى رجل من أهل الشام عبداللّه بن حسن بن عليّ- وكان من أجمل النّاس- فقال: لأقتلنّ هذا الفتى ...». «1»

وما رواه ابن قتيبة قائلًا: «قال الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: فممّا فهمته وعقلته يومئذٍ مع علّتي وشدّتها أنّه أُتي بي إلى عمر بن سعد، فلمّا رأى ما بي أعرض عنّي فبقيت مطروحاً لما بي، فأتاني رجل من أهل الشام فاحتملني فمضى بي وهو يبكي ...». «2»

وما رواه ابن أعثم الكوفي قائلًا: «ثمّ حمل رضي اللّه عنه- أي عليّ الأكبر عليه السلام- فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ أهل الشام من يده ومن كثرة من قتل منهم ...». «3»

وورد في كتاب مناقب آل أبي طالب عليه السلام: «عندما صاح القاسم بن الحسن:

ياعمّاه. حمل الحسين على قاتله عمر بن سعيد الأزدي فقطع

يده، وسلبه أهل الشام من يد الحسين ..»، «4» وفيه أيضاً: «وبعث ابن زياد شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف من أهل الشام ...». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 236

وممّا رواه الشيخ الصدوق (ره): «.. وأقبل عدوّ اللّه سنان بن أنس الأيادي وشمر بن ذي الجوشن العامري في رجال من أهل الشام حتّى وقفوا على رأس الحسين عليه السلام، فقال بعضهم لبعض: ما تنظرون!؟ أريحوا الرجل ...». «1»

ومّما رواه الشيخ الكليني (ره) عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «.. تاسوعاء يومٌ حوصر فيه الحسين عليه السلام وأصحابه رضي اللّه عنهم بكربلا، واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه ...». «2» وممّا يُلاحظ على هذه المتون أنّ مصطلح «أهل الشام» فيها ربما كان المراد منه- وهذا هو الأظهر والأقوى-: هوية إنتماء هذا الجيش سياسياً «الهويّة السياسية» لا أنَّ هذا الجيش متكوّن من أفراد هم من سكّان الشام، وممّا يؤكّد هذا:

ما ورد في رواية الكليني (ره): «واجتمع عليه خيل الشام ...»، وما ورد في رواية ابن أعثم الكوفي «حتّى ضجَّ أهل الشام من يده ومن كثرة من قتل منهم ..»، وما ورد في رواية المناقب «وسلبه أهل الشام من يد الحسين»، فإنّ المراد في كلّ هذه المتون الثلاثة هو جيش ابن زياد المتألّف جُلّه من أهل الكوفة وقبائلها، ومن الأدلّة على ذلك أنّ ما ورد في هذه المتون الثلاثة ذكرته مصادر أخرى بدون مصطلح «أهل الشام» بل أشارت إلى أنّ أولئك هم أهل الكوفة.

نعم، قد يكون أظهر هذه المتون دلالة- على حضور أهل الشام- ما ورد في كتاب مناقب آل أبي طالب عليهم السلام: «وبعث ابن زياد شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف من أهل

الشام»، غير أنّ ابن شهرآشوب قد تفرّد بهذه الإضافة «من أهل الشام» إذ إنّ جميع المصادر التأريخية التي ذكرت أنّ ابن زياد سرّح شمر بن ذي

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 237

الجوشن في أربعة آلاف- أيّام التعبئة- لم تذكر أنّ هؤلاء كانوا من أهل الشام، «1» ويضاف إلى هذا أنّ المصادر التأريخية أيضاً لم تذكر أنَّ واحداً أو أكثر من القادة العسكريين الشاميين قد حضروا كربلاء يوم عاشوراء، ولو أنّ بعض القطعات العسكرية الشاميّة كانت قد حضرت كربلاء، لكان التأريخ قد ذكر القادة العسكريين الذين كانوا أمراء عليها، وهذا مالم نعثر عليه- حسب متابعتنا- في المصادر التأريخيّة المبذولة.

من هنا نقول: إننا لانقطع- كما يقطع المسعوديّ- أنَّ جيش ابن زياد لم يحضر فيه حتى شاميٌّ واحد بل نقول: من الممكن العادي أن يحضر في جيش ابن زياد أفراد متفرّقون كثيرون من الشام، بل لعلَّ من غير الممكن أنّ لايتحقق هذا، ذلك لأنّه لابدّ للسلطة المركزية في الشام من مراسلين وجواسيس شاميين يعتمدهم يزيد بن معاوية، يواصلونه بكلّ جديد عن حركة الأحداث في العراق عامّة والكوفة خاصة.

لكننا نقطع: بأنّ الشام لم يبعث الى ابن زياد بأيّة قطعات عسكرية شاميّة للمساعدة في مواجهة الإمام الحسين عليه السلام، وذلك لخلوّ التأريخ من أية إشارة معتبرة تفيد ذلك، بل التأريخ يشير من خلال دلائل كثيرة إلى أنّ ابن زياد أراد أن يثبت ليزيد قدرته الإدارية الفائقة من خلال الإكتفاء بتعبئة الكوفة فقط للقضاء على الإمام عليه السلام وأصحابه رضوان اللّه تعالى عليهم.

وإنّ من يتابع هذا المعنى- الذي قدّمناه- في المصادر التأريخية يجده واضحاً بيّناً.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 238

من الأعراف الحربية في ذلك العصر ..... ص : 238

يقول المرحوم القزويني: «ثمّ اعلم أنّ قانون المحاربة في ذلك الوقت- على ما استفدناه

من الحروب المعظّمة كحرب صفين وغيرها- أنّ من تهيأ ميمنة وميسرة وقلباً وجناحاً وساقية، ومكاناً للرامية، وموضعاً لأصحاب الأحجار، ويكون لأصحاب الميمنة عدّة مخصوصة من النبالة والحجارة، وكذا لأصحاب الميسرة ولأصحاب القلب عدّة مخصوصة لايتجاوزون عن مقرّهم وعن وظيفتهم، وأصحاب القلب لايبرحون عن مكانهم، ولايحملون مادام أصحاب الميمنة والميسرة باقين. نعم، لاتتفّق المبارزة بين أصحاب القلب مع من يحذوهم من أصحاب القلب، وأوّل من يحمل أو يبارز أصحاب الميمنة على الميسرة، ثمّ أصحاب الميسرة على أصحاب الميمنة. فما في جُلّ المقاتل أنّه حمل ميمنة ابن زياد على ميمنة الحسين عليه السلام لعلّه اشتباه ناشي ء عن عدم التأمّل وعدم العلم بقانون الحرب، إذ مقتضى الطبيعة في التعبئة أنّ الميمنة إزاء الميسرة، ولايمكن أن يحمل الميمنة على الميمنة إلّا بعد التجاوز عن الميسرة، إلّا أن يكون البعد بين الفريقين كثيراً بحيث يمكن حمل الميمنة على الميمنة، ثمَّ لامنافاة بين حمل الميمنة على الميسرة ومبارزة الميسرة مع أصحاب الميمنة، فتكون بين الميمنة والميسرة حملة وحملة، وبين الميسرة والميمنة مبارزة يبارز رجل بعد رجل، فيقاتلان، والقلب ثابت على مكانه لايحمل.

نعم، بعد مغلوبية الميمنة والميسرة- بحيث لايبقى ميمنة ولاميسرة- يكون الجند كلّه بمنزلة القلب، والقلب يحمل عليه، حتّى إذا لم يبق من طرف إلّا واحداً أو اثنين يحملون عليه بأجمعهم أو يتبارزون.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 239

الفصل الرابع: ملحمة كربلاء- يوم عاشوراء من المحرّم سنة 61 ه ق ..... ص : 239

اشارة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 241

الفصل الرابع: ملحمة كربلاء يوم عاشوراء من المحرّم سنة 61 ه

روى الطبري قائلًا: «وعبّأ الحسين عليه السلام أصحابه، وصلّى بهم صلاة الغداة، وكان معه إثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلًا، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العبّاس بن عليّ أخاه،»

وجعلوا البيوت

في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت تحرق بالنّار مخافة أن يأتوهم من ورائهم. قال: وكان الحسين عليه السلام أتى بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنّه ساقية فحفروه في ساعة من الليل فجعلوه كالخندق، ثمّ ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب، وقالوا إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا وقاتلونا القوم من وجه واحد، ففعلوا وكان ذلك لهم نافعاً.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 242

كما روى الطبري أيضاً قائلًا: «فلمّا صلّى عمر بن سعد الغداة يوم السبت، وقد بلغنا أيضاً أنّه كان يوم الجمعة، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، خرج فيمن معه من الناس» وقال أيضاً: «لمّا خرج عمر بن سعد بالناس كان على ربع أهل المدينة يومئذٍ عبداللّه بن زهير بن سُليم الأزدي، وعلى ربع مذحج وأسد عبدالرحمن بن أبي سبرة الحنفي، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع تميم وهمدان الحرّ بن يزيد الرياحي- فشهد هؤلاء كلّهم مقتل الحسين إلّا الحرّ ابن يزيد فإنّه عدل إلى الحسين وقُتل معه- وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجّاج الزبيدي على ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شرحبيل بن الأعور بن عمر بن معاوية وهو الضِّباب بن كلاب، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسيّ،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 243

وعلى الرجال شبث بن ربعي اليربوعي، وأعطى الراية ذويداً مولاه.». «1»

دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء ..... ص : 243

وروي عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام أنه قال: «لمّا صبّحتِ الخيلُ الحسينَ رفع يديه وقال:

ألّلهمَّ أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقةٌ وعُدّة، كم من همٍّ يضعُف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذلُ فيه

الصديق، ويشمتُ فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، وأنت وليُّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 244

إشعال النار في الخندق خلف المخيّم ..... ص : 244

وأمر الإمام الحسين عليه السلام صبيحة يوم عاشوراء بحطب وقصب كانوا قد جمعوه خلف الخيّم- فوضع في المكان المنخفض خلف المخيّم كأنّه ساقية، بعد أن حفروه ليلة العاشر فجعلوه كالخندق- فأُشعلت فيه النار، حتّى لايتمكّن العدو أن يقاتلهم إلّا من وجه واحد. «1»

ردّة فعل العدوّ على إشعال النار ..... ص : 244
اشارة

أدرك أعداء الإمام الحسين عليه السلام أنّ مكيدة إشعال النار في الخندق خلف مخيم الإمام عليه السلام قد ضيّقت عليهم سعة ميدان الحرب، وجعلت المواجهة من وجه واحد، فاستفزّ ذلك أعصابهم، وصدرت من بعض وجهائهم ردود فعل هستيرية، فقد روى الطبري بسنده عن الضحّاك المشرقيّ أنّه قال: «لمّا أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنّا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلّا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة، فلم يكلّمنا حتّى مرَّ على أبياتنا، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لايرى إلّا حطباً تلتهب النّار فيه، فرجع فنادى بأعلى صوته: يا حسين! استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة!؟

فقال الحسين: من هذا، كأنّه شمر بن ذي الجوشن؟

فقالوا: نعم أصلحك اللّه، هو هو!

فقال: يا ابن راعية المعزى، أنت أولى بها صِليّا!

فقال له مسلم بن عوسجة: يا ابن رسول اللّه، جُعلت فداك، ألا أرميه فإنّه قد

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 245

أمكنني، وليس يسقط سهم، فالفاسق من أعظم الجبّارين.

فقال له الحسين: لا ترمِه، فإنّي أكره أن أبدأهم!». «1»

وروى البلاذري يقول: «وقال رجل من بني تميم يقال له: عبداللّه ابن حوزة، وجاء حتى وقف بحيال الحسين عليه السلام فقال: أبشر يا حسين بالنار!

فقال: كلّا، إنّي أقدم على ربّ رحيم وشفيع مطاع. ثمّ قال: من هذا!؟

قالوا: ابن حوزة.

قال: حازه اللّه إلى النّار.

فاضطربت به فرسه في جدول، فعلقت رجله بالركاب،

ووقع رأسه في الأرض، ونفر في الفرس فجعل يمرّ برأسه على كلّ حجر وأصل شجرة حتّى مات، ويقال: بقيت رجله اليسرى في الركاب فشدَّ عليه مسلم بن عوسجة الأسدي فضرب رجله اليمنى فطارت، ونفر به فرسه يضرب به كلّ شي ء حتّى مات.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 246

وروى البلاذري أيضاً أنّ محمّد بن الأشعث جاء «فقال: أين حسين؟

قال: ها أنذا.

قال: أبشر بالنّار تردها الساعة!

قال: بل أبشر بربٍّ رحيم وشفيع مطاع، فمن أنت؟

قال: محمّد بن الأشعث.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 247

وقال البلاذري: «ثمّ جاء رجل آخر فقال أين الحسين؟ قال: ها أنذا. قال: أبشر بالنّار تردها الساعة! قال: بل أبشر بربّ رحيم وشفيع مطاع، فمن أنت؟

قال: شمر بن ذي الجوشن.

فقال الحسين: أللّه أكبر! قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّي رأيت كلباً أبقع يلغ في دماء أهل بيتي!». «1»

إشارة: ..... ص : 247

قد يُلفت انتباه المتابع في رواية البلاذري الأولى هنا قول الإمام عليه السلام لمسلم بن عوسجة (رض): «لاترمه فإنّي أكره أن أبدأهم»، وقوله عليه السلام لزهير بن القين (رض)- إبّان تضييق الحرّ عليهم-: «... ولكن ما كنتُ لأبدأهم بالقتال حتّى يبدأوني»، «2»

ردّاً على قول زهير: «... ذرنا نقاتل هؤلاء القوم، فإنّ قتالنا إيّاهم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا معهم بعد هذا». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 248

إن إصرار الإمام عليه السلام على عدم البدء بالقتال من سنن الدعاة إلى الحقّ في مواجهة المنحرفين عن الهدى ودعوتهم الى الصراط المستقيم- ومِن قبله كان أبوه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قد امتنع عن البدء في القتال في الجمل وصفّين «1» ذلك لأنّ الداعي إلى الحقّ الواثق من قوّة حجّته وصحّة دليله على موقفه لايرى إلى القتال حاجة

مادام طريق مخاطبة العقول والقلوب بنور الحقيقة مفتوحاً لم يوصد بعدُ، إذ الأصل في الغاية عند هذا الداعي هو الهداية إلى الحقّ لا الحرب، فلو بدأهم بقتال لأوصد- هو بنفسه- على حجّته طريق النفوذ إلى القلوب والعقول التي يريد هدايتها، ولمنع حجّته من بلوغ تمامها، بل وجعل الحجّة عليه بيد خصومه فيكون بذلك قد نقض حجّته، ذلك لأنّ لهم أن يقولوا عند ذاك إذا كنت تريد لنا الهداية بالحقّ فلماذا ابتدأتنا بالقتال!؟

وهذا مالايصدر عن الساحة المقدّسة لأهل بيت العصمة والطهارة عليه السلام أبداً، بل قد لايصدر عمّن يقتدي بهديهم وسنّتهم.

إحتجاجات الإمام عليه السلام في ساحة المعركة ..... ص : 248

حرص الإمام الحسين عليه السلام على مواصلة احتجاجاته على أعدائه- وهو يعلم أنّ القوم قاتلوه- ليتمّ الحجّة عليهم أمام اللّه تبارك وتعالى، وليستنقذ من يمكن أن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 249

ينتفع بمعرفة الحقّ والحقيقة، وليكشف للأمّة عامة ولأجيالها الآتية فيما بعد عصره خاصة- من خلال بياناته الاحتجاجيّة- عن حقّانيّة قيامه، وعن أحقيته بالأمر، وعن أبعاد مظلوميّته عليه السلام.

قال اليعقوبي في تأريخه: «فلمّا كان من الغد خرج فكلّم القوم، وعظّم عليهم حقّه، وذكّرهم اللّه عزّ وجلّ ورسوله، وسألهم أن يخلّوا بينه وبين الرجوع، فأبوا إلّا قتاله أو أخذه حتّى يأتوا به عبيد اللّه بن زياد، فجعل يكلّم القوم بعد القوم، والرجل بعد الرجل، فيقولون ماندري ما تقول!». «1»

خطابه عليه السلام قبل بدء القتال ..... ص : 249
اشارة

روى الشيخ المفيد (ره) في الإرشاد يقول: «ثمّ دعا الحسين براحلته فركبها، ونادى بأعلى صوته: «يا أهل العراق»- وجُلّهم يسمعون- فقال:

«أيّها النّاس إسمعوا قولي ولاتعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليَّ، وحتّى أُعذِر إليكم، فإنْ أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد، وإنْ لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثمّ لايكنْ أمركم عليكم غُمّة ثمَّ اقضوا إليَّ ولاتنظرون، إنَّ ولييَّ اللّه الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين».

ثمّ حمد اللّه وأثنى عليه وذكر اللّه بما هو أهله، وصلّى على النبيّ صلى الله عليه و آله وعلى ملائكته اللّه وأنبيائه، فلم يُسمع متكلِّمٌ قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه، ثمّ قال:

«أمّا بعد: فانسبوني فانظروا من أنا، ثمّ أرجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلحُ لكم قتلي وانتهاك حرمتي!؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم، وابن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 250

وصيّه وابن عمِّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول اللّه بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟ أوليس جعفر الطيّار في

الجنّة بجناحين عمِّي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول اللّه لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟

فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، واللّه ما تعمّدت كذباً منذ علمتُ أنّ اللّه يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبداللّه الأنصاريّ، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعديّ، وزيد ابن أرقم، وأنس بن مالك، يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله لي ولأخيّ، أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي!؟».

فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبدُ اللّه على حرف إنّ كان يدري ما تقول! «1» فقال له حبيب بن مظاهر: واللّه إنّي لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفاً! وأنا أشهد أنّك صادقٌ ما تدري ما يقول، قد طبع اللّه على قلبك.

ثمّ قال لهم الحسين عليه السلام:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 251

«فإنْ كنتم في شكّ من هذا! أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم!؟ فواللّه ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته!؟ أو مالٍ لكم استهلكته!؟ أو بقصاص جراحة!؟».

فأخذوا لايكلِّمونه! فنادى:

«يا شبث بن ربعي، يا حجّار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألمْ تكتبوا إليَّ أن قد أينعت الثمار واخضّر الجناب، وإنّما تقدم على جُندٍ لك مُجنَّد!؟».

فقال له قيس بن الأشعث: ماندري ما تقول! ولكن انزل على حكم بني عمّك، فإنّهم لن يُروك إلّا ما تحبّ!

فقال له الحسين:

«لا واللّهِ، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»، ثمّ نادى:

«يا عباد اللّه، إنّي عُذت بربّي وربّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لايؤمن بيوم الحساب.».

ثمّ إنّه أناخ راحلته، وأمر

عُقبة بن سمعان فعقلها». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 252

أمّا الخوارزمي فقد روى تفاصيل هذا الخطاب على نحو آخر يتفاوت كثيراً مع رواية الشيخ المفيد (ره) والطبري وابن الأثير، قال الخوارزمي: «وأصبح الحسين فصلّى بأصحابه، ثمّ قرّب إليه فرسه، فاستوى عليه وتقدم نحو القوم في نفر من أصحابه، وبين يديه برير بن خضير الهمداني، فقال له الحسين: كلِّم القوم يا برير وانصحهم. فتقدّم برير حتى وقف قريباً من القوم، والقوم قد زحفوا إليه عن بكرة أبيهم، فقال لهم برير: يا هؤلاء! اتّقوا اللّه فإنّ ثقل محمّد قد أصبح بين

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 253

أظهركم، هؤلاء ذرّيته وعترته وبناته وحرمه! فهاتوا ما عندكم؟ وما الذي تريدون أن تصنعوا بهم!؟

فقالوا: نريد أن نمكّن منهم الأمير عبيداللّه بن زياد فيرى رأيه فيهم!

فقال برير: أفلا ترضون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي أقبلوا منه!؟ ويلكم يا أهل الكوفة! أنسيتم كتبكم إليه وعهودكم التي أعطيتموها من أنفسكم وأشهدتم اللّه عليها، وكفى باللّه شهيداً!؟ ويلكم، دعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم من دونهم، حتّى إذا أتوكم أسلمتوهم لعبيد اللّه! وحلأتموهم عن ماء الفرات الجاري، وهو مبذول يشرب منه اليهود والنصارى والمجوس! وترده الكلاب والخنازير! بئسما خلفتم محمّداً في ذرّيته! مالكم!؟ لاسقاكم اللّه يوم القيامة! فبئس القوم أنتم!

فقال له نفر منهم: يا هذا ما ندري ما تقول؟

فقال برير: الحمدُ للّه الذي زادني فيكم بصيرة، أللهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم! أللهمّ ألقِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان!

فجعل القوم يرمونه بالسهام، فرجع برير إلى ورائه.

فتقدّم الحسين عليه السلام حتّى وقف قبالة القوم، وجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّها السيل! ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة، فقال:

الحمدُ للّه الذي

خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالًا بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشقيّ من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيّب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتم اللّه فيه عليكم! فأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته! فنِعم الربّ ربّنا، وبئس العبيد أنتم! أقررتم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 254

بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته تريدون قتلهم! لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر اللّه العظيم! فتبّاً لكم وما تريدون، إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم قد كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين!

فقال عمر بن سعد: ويلكم! كلِّموه فإنّه ابن أبيه! فواللّه لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما قطع ولما حصر! فكلِّموه.

فتقدّم إليه شمرٍ بن ذي الجوشن فقال: يا حسين! ما هذا الذي تقول؟ أفهمنا حتى نفهم!

فقال عليه السلام:

أقول لكم أتّقوا اللّه ربّكم ولا تقتلون، فإنّه لايحلّ لكم قتلي ولاانتهاك حرمتي، فإنّي ابن بنت نبيّكم، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم، ولعلّه قد بلغكم قول نبيّكم محمّد صلى الله عليه و آله: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ما خلا النبييّن والمرسلين، فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، فواللّه ماتعمّدت كذباً منذ علمتُ أنّ اللّه يمقت عليه أهله، وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم من الصحابة مثل جابر بن عبداللّه، وسهل بن سعد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، فاسألوهم عن هذا، فإنّهم يخبرونكم أنّهم سمعوه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فإنّ كنتم في شكّ من أمري أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم!؟ فواللّه ما بين المشرقين والمغربين ابن بنت نبيّ غيري! ويلكم! أتطلبوني بدم أحد منكم قتلته أو بمالٍ استملكته،

أو بقصاص من جراحات استهلكته!؟

فسكتوا عنه لايجيبونه! ثمّ قال عليه السلام:

واللّه لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد، عباد اللّه! إنّي

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 255

عذت بربّي وربّكم أن ترجمونِ، وأعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لايؤمن بيوم الحساب!

فقال له شمر بن ذي الجوشن: يا حسين بن علي! أنا أعبداللّه على حرف إنْ كنتُ أدري ما تقول!

فسكت الحسين عليه السلام، فقال حبيب بن مظاهر للشمر: يا عدوَّ اللّه وعدوَّ رسول اللّه، إنّي لأظنّك تعبد اللّه على سبعين حرفاً! وأنا أشهد أنّك لاتدري ما يقول، فإنّ اللّه تبارك وتعالى قد طبع على قلبك!

فقال له الحسين عليه السلام:

«حسبك يا أخا بني أسد! فقد قُضي القضاء، وجفّ القلم، واللّه بالغ أمره، واللّه إنّي لأشوق إلى جدّي وأبي وأمّي وأخي وأسلافي من يعقوب إلى يوسف وأخيه! ولي مصرعٌ أنا لاقيه.». «1»

وأمّا السيّد ابن طاووس (ره) فقد روى تفاصيل هذا الخطاب على نحو آخر أيضاً، قال: «قال الراوي: وركب أصحاب عمر بن سعد لعنهم اللّه، فبعث الحسين عليه السلام برير بن خضير، فوعظهم فلم يستمعوا، وذكّرهم فلم ينتفعوا، فركب الحسين عليه السلام ناقته- وقيل فرسه- فاستنصتهم فأنصتوا، «2» فحمد اللّه وأثنى عليه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 256

وذكره بما هو أهله، وصلّى على محمّد صلى الله عليه و آله وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأبلغ في المقال، ثمّ قال:

تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً! حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين! سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم! وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم! فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم! فهلّا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف!؟ ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدُبى «1»،

وتداعيتم إليها كتهافت الفراش! فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشُذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحّرفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون!؟ أجل والله، غدر فيكم قديم! وشجت عليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم! فكنتم أخبث ثمر، شجىَ للناظر وأكلة للغاصب! ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأُنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة مع قلّة العدد وخذلة الناصر!

ثمّ أوصل كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي:

فإنْ نُهزم فهزّامون قِدماً وإنْ نُغلب فغير مُغلَّبينا

وما إنْ طبّنا جُبنٌ ولكنْ منايانا ودولة آخرينا

إذا ما الموت رفّع عن أُناسٍ كلاكله أناخ بآخرينا

فأفنى ذلكم سروات قومي كما أفنى القرون الأوّلينا

فلو خلُد الملوك إذاً خلُدنا ولو بقي الملوك إذاً بقينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا

ثُمَّ أَيمُ اللّه، لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس! حتّى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور! عهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدّي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمَّ لايكن أمركم عليكم غمَّة ثمَّ اقضوا إليَّ ولا تنظرونِ، إنّي توكّلت على اللّه ربّي وربّكم، ما من دابّة إلّا هو آخذٌ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم. أللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيِّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبَّرة، «1» فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.

ثمّ نزل عليه السلام ودعا بفرس رسول اللّه صلى الله عليه و آله المرتجز فركبه وعبّأ أصحابه للقتال». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 258

إشارات ..... ص : 258

1 المستفاد من ظاهر متون الأصول التأريخية

التي روت نصّ خطاب الإمام عليه السلام قبل بدء القتال- على ما هي عليه من الإختلاف فيما بينها- هو أنّ كُلّا من هذه النصوص يشكّل وحده متن هذا الخطاب، ومع فرض صحة صدور هذه النصوص جميعاً عن الإمام عليه السلام، فلا محيص من أن تكون هذه النصوص خطباً متعددة خطبها عليه السلام قبل بدء القتال، أو أن تكون أجزاء و مقاطع متعددة من خطاب واحد، فصلت بينها فواصل قطعت اتصالها ووحدة سياقها. وبحسب طبيعة تدرّج الأمور والأشياء فلابدَّ أن يكون عليه السلام قد بدأهم بتعريفهم بنفسه الشريفة وبنصيحتهم ودعوتهم الى الحقّ، وتذكيرهم بكتبهم وعهودهم، ثمّ حيث لم يجد منهم الإستجابة والتسليم، بل الإصرار والعناد، فإنّ لهجة خطابه اشتدّت تبعاً لذلك.

من هنا فإنّ الأرجح أن يكون النصّ الذي رواه الطبري والمفيد (ره) والذي كانت بدايته «أيّها النّاس إسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ ... أمّا بعد فانسبوني فانظروا من أنا، ثمَّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ...». هو المقطع الأوّل من خطابه عليه السلام، ثمَّ يأتي بعده- مقطعاً ثانياً- ما رواه الخوارزمي:

«الحمدُ للّه «1» الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالًا بعد حال ...»، ثمّ حيث لم تنفع بهم المواعظ والإحتجاجات فإنّ لهجة خطابه اشتدّت فقرّعهم عليه السلام ووبّخهم فقال: «تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً ...» فكان هذا المقطع هو

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 259

الجزء الأخير من خطابه عليه السلام.

2 وربّما يستظهر المتأمّل أنّ خطاب برير (رض) كان فاصلًا بين المقطع الأوّل والمقطع الثاني من خطابه عليه السلام، ولربّما كانت خطبة زهير ابن القين (رض)- وتأتي فيما بعد- فاصلًا بين مقطعين من مقاطع خطابه عليه السلام، أي أنّ خطابه قبل بدء

القتال تخللّته فواصل بسبب خطابي برير وزهير رضوان اللّه عليهما.

3 ذهب المحققّ الشيخ السماوي (ره) إلى أنّ كلامه عليه السلام الأوّل هو خطبته الأولى، وهي تنتهي بنزوله عليه السلام عن راحلته التي عقلها عقبة بن سمعان، وأنّ خطبته الثانية هي التي تبدأ بقوله: «تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً ...». «1»

4 وذهب المحققّ السيّد المقرّم (ره) إلى أنّ كلامه عليه السلام الأوّل هو خطبته الأولى. «2»

وأنّ وقائع: حادثة عبداللّه بن حوزة التميمي، «3» وحادثة محمّد بن الأشعث، «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 260

وما حصل لمسروق بن وائل الحضرمي، «1» وخطبة زهير بن القين (رض)، وخطبة برير (رض)، جميعها تأتي بعد خطبته عليه السلام الأولى، ثمّ تأتي بعد هذه الوقائع خطبته عليه السلام الثانية، حيث يقول السيّد المقرّم (ره): «ثمّ إنّ الحسين عليه السلام ركب فرسه، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم، وقال: يا قومِ، إنّ بيني وبينكم كتاب اللّه وسُنّة جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله. ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النبيّ صلى الله عليه و آله ولامته وعمامته، فأجابوه بالتصديق، فسألهم عمّا أقدمهم على قتله!؟ قالوا: طاعة للأمير عبيداللّه بن زياد! فقال عليه السلام: تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً ..». «2»

5 أمّا المحقّق الشيخ القرشي فقد ذهب إلى ما ذهبنا إليه في أنّ الإمام عليه السلام كان قد خطب خطبة واحدة، متألّفة من مقاطع فصلت بينها فواصل، لكنّه ذكر أنّ خطبة زهير (رض) ثمّ خطبة برير (رض) فصلتا بين مقطعي خطبته عليه السلام، إذ إنَّ الشيخ القرشي- كما السيّد المقرّم- أدرج المقطع الذي رواه الخوارزمي: «الحمد للّه الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ...» «3» في المقطع

الأوّل، وذكره بعد إسكات النساء عن الصراخ والبكاء، ولانعلم أيضاً المستند التأريخي أو التحليلي للسياق الذي اعتمده؟ ولعلّه اعتمد على ما ذهب إليه السيّد المقرّم رحمة اللّه عليه.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 261

خطاب زهير بن القين (رض) ..... ص : 261

لم تحدّد المصادر التأريخية الأساسية التي روت خطاب زهير بن القين (رض) قبل بدء القتال موقع هذا الخطاب بدقة، أي هل كان قبل خطاب الإمام عليه السلام أم بعده، أم كان في أثنائه، وهل كان قبل خطاب برير (رض) أم بعده؟

يروي الطبري عن كثير بن عبداللّه الشعبي أنه قال: «لمّا زحفنا قِبَل الحسين خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب، شاك في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة! نذارِ لكم من عذاب اللّه نذار! إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملّة واحدة، مالم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهلٌ فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا أمّة وأنتم أمّة. إنّ اللّه قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّد صلى الله عليه و آله لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيداللّه بن زياد، فإنّكم لاتُدركون منهما إلّا بسوءٍ عُمُرَ سلطانهما كلّه! ليسمّلان أعينكم ويقطّعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقُرّاءكم، أمثال حُجر بن عدي وأصحابه، وهاني ء بن عروة وأشباهه!

قال: فسبّوه وأثنوا على عبيداللّه بن زياد ودعوا له! وقالوا: واللّه لانبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيداللّه سِلماً!

فقال لهم: عبادَ اللّه! إنّ وُلْدَ فاطمة رضوان اللّه عليها أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإنْ لم تنصروهم فأعيذكم باللّه أن تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية،

فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين!

قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: أُسكتْ، أَسكتَ اللّه نامتك!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 262

أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال له زهير: يا ابن البوّال على عقبيه! ما إيّاك أُخاطب إنّما أنت بهيمة! واللّه ما أظنّك تُحكم من كتاب اللّه آيتين! فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال له شمر: إنّ اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة!

قال: أفبالموت تخوّفني!؟ فواللّه للموت معه أحبّ إليَّ من الخلد معكم!

قال: ثمّ أقبل على النّاس رافعاً صوته فقال: عبادَ اللّه! لايغرّنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه! فواللّه لاتنال شفاعة محمّد صلى الله عليه و آله قوماً أهرقوا دماء ذرّيته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذبَّ عن حريمهم.

قال: فناداه رجل فقال له: إنّ أبا عبداللّه يقول لك: أقبل: فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ!». «1»

الحرُّ بن يزيد الرياحي .. والموقف الخالد ..... ص : 262

قال الشيخ المفيد (ره): «فلمّا رأى الحرّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين عليه السلام قال لعمر بن سعد: أَيْ عُمر! أمقاتلٌ أنت هذا الرجل!؟

قال: إي واللّه، قتالًا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي!!

قال: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى!؟

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 263

قال عمر: أما لو كان الأمرُ إليَّ لفعلت! ولكنّ أميرك قد أبى.

فأقبل الحرُّ حتى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجل من قومه يُقال له قُرّة بن قيس، فقال: يا قُرّة هل سقيت فرسك اليوم؟

قال: لا!

قال: فما تريد أن تسقيه؟

قال قُرّة فظننتُ واللّه أنّه يُريد أن يتنحّى فلايشهد القتال، ويكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لمْ أسقِه، وأنا منطلق فأسقيه.

فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه، فواللّه لو أنّه أطلعني على الذي

يُريد لخرجت معه إلى الحسين بن عليّ عليه السلام. «1»

فأخذ يدنو من الحسين قليلًا قليلًا، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد، أتريد أن تحمل؟

فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل- وهي الرعدة- فقال له المهاجر: إنّ أمرك لمريب!! واللّه ما رأيت منك في موقف قطُّ مثلَ هذا، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة؟ ماعدوتك! فما هذا الذي أرى منك!؟

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 264

فقال له الحر: إنّي واللّه أُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار! فواللّه لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعتُ وحُرّقت!

ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام فقال له: جُعلت فداك يا ابن رسول اللّه! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعتُ بك في هذا المكان، وما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم! ولايبلغون منك هذه المنزلة! واللّه لو علمتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ماركبت منك الذي ركبت، وإنّي تائب إلى اللّه مما صنعتُ! فترى لي من ذلك توبة؟ «1»

فقال له الحسين عليه السلام: نعم، يتوب اللّه عليك، فانزل. «2»

قال: أنا لك فارساً خير منّي راجلًا، أُقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري.

فقال له الحسين عليه السلام: فاصنع يرحمك اللّه ما بدالك.

فاستقدم أمام الحسين عليه السلام «3» ثم قال:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 265

يا أهل الكوفة، لأُمِّكم الهَبَلُ والعَبَرُ! أدعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا أتاكم أسلمتموه!؟ وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه!؟ أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه في بلاد اللّه العريضة! «1» فصار كالأسير في أيديكم لايملك لنفسه نفعاً ولايدفع عنها ضرّاً! وحلأتموه ونساءَه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهود والنصارى

والمجوس! وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه! وهاهم قد صرعهم العطش! بئس ما خلفتم محمّداً في ذرّيته، لاسقاكم اللّه يوم الظمأ الأكبر. «2»

فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل! فأقبل حتّى وقف أمام الحسين عليه السلام». «3»

هل التحق ثلاثون رجلًا بالإمام عليه السلام يوم عاشوراء؟ ..... ص : 265
اشارة

يقول ابن عبدربّه الأندلسي: «وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلًا من أهل الكوفة فقالوا: يعرض عليكم ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ثلاث خصال فلاتقبلون منها شيئاً!؟ فتحوّلوا مع الحسين فقاتلوا معه». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 266

إشارة: ..... ص : 266

إنّ المتأمّل في متون المصادر التأريخية «1» التي ذكرت قضيّة تحوّل والتحاق ثلاثين رجلًا من جيش ابن سعد بالإمام عليه السلام يجد أنّ هذه المتون لا تشخّص ساعة وزمان إلتحاقهم بالتحديد، لكنّ ظاهر هذه المتون يوحي بأنّ هذا الإلتحاق كان قد حصل يوم عاشوراء، ولذا فإنّ بعض المؤرّخين المتأخرين- أخذاً بهذا الظاهر- ذكر قضيّة هذا الإلتحاق بعد ذكره إلتحاق الحرّ (رض) بالإمام عليه السلام، «2» بل ذهب آخر إلى القول: «ولاشكّ في أنّ موقف الحرّ بن يزيد كان له أعمق الأثر في نفوس الكثيرين من جيش ابن زياد ... ولذلك لم يلبث أن انحاز إلى الحرّ بن يزيد في انتصاره للحسين جماعة من أعيان الكوفة وفرسانها يُقدّر عددهم بثلاثين فارساً!»، «3» فهذا الكاتب يصرّح بأنّ التحاق هؤلاء الثلاثين كان نتيجة التأثّر بالتحاق الحرّ (رض) بالإمام عليه السلام صبيحة عاشوراء.

ولنا هنا ملاحظات في هذا الصدد:

1- ليس هناك دليل تأريخي يفيد أنّ التحاق هؤلاء الثلاثين (رض) كان بعد التحاق الحرّ (رض) أو كان نتيجة له!

2 هناك مصادر تأريخية أخرى تروي أنّ عملية التحوّل والإلتحاق

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 267

بالإمام عليه السلام من قبل مجموعة من جيش ابن سعد كانت قد تمّت ليلة العاشر، فهذا السيّد ابن طاووس (ره) يروي قائلًا: «وبات الحسين عليه السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد

إثنان وثلاثون رجلًا ..». «1»

3 إنّ هذه الخصال أو الشروط التي تتحدّث مصادر تأريخية أنّ الإمام عليه السلام عرضها على ابن سعد ورُدَّت عليه «2»- على فرض أنها عُرضت يوم عاشوراء أيضاً- كانت قد عُرضت أيضاً قبل يوم عاشوراء وبالتحديد بعد إحكام الحصار على معسكر الإمام عليه السلام، أي في اليوم السابع أو الثامن، وقد وردت هذه الخصال المزعومة في رسالة ابن سعد إلى ابن زياد، «3» ولاشكّ أنّ أمر هذه الرسالة ومحتواها- على فرض صحّة خبرها- كان قد انتشر في صفوف جيش ابن سعد لأهميتها البالغة.

4 تذكر كتب التراجم والتواريخ أسماء مجموعة من الأنصار قد تحوّلوا إلى معسكر الامام عليه السلام في سواد ليلة عاشوراء- بعد ردّ الجيش الأموي ما عرضه الامام عليه السلام- ومن هؤلاء الأنصار (رض) على سبيل المثال لا الحصر: جوين بن مالك بن قيس بن ثعلبة التميمي (رض)، وزهير بن سليم الأزدي (رض)، والنعمان بن عمرو الأزدي الراسبي (رض)، وأخوه الحُلاس (رض). «4»

بل تذكر كتب التراجم والتأريخ أنّ بعض هؤلاء الأنصار (رض) كان قد تحوّل

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 268

إلى معسكر الإمام عليه السلام- بعد ردّ ما عرضه الإمام عليه السلام- دون أن تشخّص أنّ هذا التحوّل كان ليلة عاشوراء، ممّا يفيد أنّ هذا الإلتحاق ربّما كان قبل ليلة عاشوراء، ومن هؤلاء على سبيل المثال: عمرو بن ضبيعة الضبعي (رض)، «1» والحارث بن امرء القيس الكندي (رض). «2»

إذن فالصحيح أنّ تحوّل والتحاق مجموعة من رجال جيش ابن سعد إلى معسكر الإمام عليه السلام قد بدأ ليلة العاشر- أو قبل ذلك على احتمال- ثمّ استمرت عمليّة التحوّل هذه حتى يوم عاشوراء، إلى أن تمّ في يوم عاشوراء عدد الرجال الذين تحوّلوا إلى

معسكر الإمام الحسين عليه السلام ثلاثين أو يزيدون، وهذا ما ذهب إليه أيضاً المحقّق السماوي (ره) في تلخيصه لمجريات وقائع نهضة الإمام عليه السلام، حيث يقول: «.. فقطع- أي عمر بن سعد- المراسلات بينه وبين الحسين، وضيّق عليه ومنع عليه ورود الماء، وطلب منه إحدى الحالتين النزول أوالمنازلة، فجعل يتسلل إلى الحسين من أصحاب عمر بن سعد في ظلام الليل الواحد أو الإثنان حتى بلغوا في اليوم العاشر زهاء ثلاثين ممّن هداهم اللّه إلى السعادة ووفّقهم إلى الشهادة.». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 269

بداية الحرب- الحملة الأولى ..... ص : 269
عمر بن سعد: إشهدوا أنّي أوّلُ من رمى!! ..... ص : 269

قال الشيخ المفيد (ره): «ونادى عمر بن سعد: يا ذويد، «1» أَدْنِ رايتك. فأدناها، ثمّ وضع سهمه في كبد قوسه، ثم رمى، وقال: إشهدوا أنّي أوّل من رمى!! ثمّ ارتمى النّاس وتبارزوا ...». «2»

وروى الخوارزمي قائلًا: «وزحف عمر بن سعد، فنادى غلامه دريداً: قدِّمْ رايتك يا دريد! ثمَّ وضع سهمه في كبد قوسه، ثمّ رمى به وقال: إشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى! فرمى أصحابه كلّهم بأجمعهم في أثره رشقة احدة!! فما بقي من أصحاب الحسين أحدٌ إلّا أصابه من رميتهم سهم!». «3»

الإمام عليه السلام يأذن لأنصاره (رض) بالقتال ..... ص : 269

وقال السيد ابن طاووس (ره): «فتقدّم عمر بن سعد فرمى نحو عسكر الحسين عليه السلام بسهم، وقال: إشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى! وأقبلت السهام من القوم كأنّها القطر! فقال عليه السلام لأصحابه: قوموا رحمكم اللّه إلى الموت الذي لابدّ منه! فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم! فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة، حتّى قُتل من أصحاب الحسين عليه السلام جماعة!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 270

قال: فعندها ضرب الحسين عليه السلام بيده إلى لحيته، وجعل يقول:

«اشتدّ غضب اللّه تعالى على اليهود إذ جعلوا له ولداً! واشتدّ غضب اللّه تعالى على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة! واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه! واشتدّ غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم! أما واللّه لا أجيبهم إلى شي ء ممّا يريدون حتّى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضّب بدمي!». «1»

وقال الخوارزمي: «قال أبومخنف: فلمّا رموهم هذه الرمية قلّ أصحاب الحسين عليه السلام، فبقي في هؤلاء القوم الذين يُذكرون في المبارزة، وقد قُتل منهم ما يُنيف على خمسين رجلًا ...». «2»

النصر يرفرف على رأس الحسين عليه السلام ..... ص : 270

روى الشيخ الكليني (ره) عن الامام الباقر عليه السلام قال: «أنزل اللّه تعالى النصر على الحسين عليه السلام حتى كان ما بين السماء والأرض، ثم خُيِّر: النصر أو لقاء اللّه، فاختار

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 271

لقاء اللّه!». «1»

وينقلها السيّد ابن طاووس (ره) عن معالم الدين للنرسي هكذا: «لمّا التقى الحسين عليه السلام وعمر بن سعد لعنه اللّه وقامت الحرب، أُنزل النصر حتّى رفرف على رأس الحسين عليه السلام، ثمَّ خُيِّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء اللّه تعالى، فاختار لقاء اللّه تعالى.». «2»

المبارزة التي وقعت قبل الحملة الأولى ..... ص : 271
عبداللّه بن عمير الكلبي (رض) ... والموقف البطولي! ..... ص : 271

لمّا أدنى عمر بن سعد رايته ورمى بالسهم معلناً بداية الحرب ارتمى الناس «فلمّا ارتموا خرج يسار مولى زياد بن أبي سفيان!!، وسالم مولى عبيداللّه بن زياد، فقالا: من يُبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم!

قال فوثب حبيب بن مظاهر، وبرير بن خضير، فقال لهما الحسين: أجلسا.

فقام عبداللّه بن عمير الكلبي فقال: أبا عبداللّه! رحمك اللّه، إئذن لي فلأَخرج إليهما!

فرأى حسين رجلًا آدم طويلًا، شديد الساعدين، بعيد ما بين المنكبين، فقال حسين: إنيّ لأحسبه للأقران قتّالًا! أخرج إنْ شئت.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 272

قال فخرج إليهما، فقالا له: من أنت!؟

فانتسب لهما، فقالا: لانعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين، أو حبيب بن مظاهر، أو برير بن خضير!

ويسار مستنتل أمام سالم، فقال له الكلبي: يا ابن الزانية! وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس!؟ ويخرج إليك أحد من الناس إلّا وهو خيرٌ منك!؟ ثمّ شدَّ عليه فضربه بسيفه حتى برد! فإنّه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شدَّ عليه سالم، فصاح به أصحابه: قد رهقك العبد! فلم يأبه له حتى غشيه فبدره الضربة، فاتّقاه الكلبي بيده اليسرى، فأطار أصابع كفّه اليسرى! ثمّ مال عليه الكلبيّ فضربه حتّى قتله! وأقبل الكلبيّ

مرتجزاً وهو يقول وقد قتلهما جميعاً:

إنْ تُنكروني فأنا ابن كلب حسبي ببيتي في عُلَيْمٍ حسبي

إنّي امرؤٌ ذو مِرَّةٍ وعصبِ ولستُ بالخوّار عند النّكبِ

إنّي زعيمٌ لكِ أُمَّ وهبِ بالطعن فيهم مُقدماً والضربِ

ضرب غُلامٍ مؤمنِ بالربِ

فأخذت أمّ وهب امرأته عموداً ثمَّ أقبلت نحو زوجها تقول له: فداك أبي وأمّي! قاتل دون الطيبين ذرّية محمّد.

فأقبل اليها يردّها نحو النساء، فأخذت تجاذب ثوبه! «1» ثمّ قالت: إنّي لن أدعك دون أن أموت معك! فناداها حسينٌ فقال:

«جُزيتم من أهل بيت خيراً! إرجعي رحمك اللّه إلى النساء فاجلسي معهنّ، فإنّه ليس على النساء قتال. فانصرفت إليهنّ.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 273

بعض تفاصيل الحملة الأولى ..... ص : 273

يظهر من المتون التأريخية أنّ الحملة الأولى كان قد شنّها جيش عمر بن سعد على جيش الإمام عليه السلام عقيب المبارزة التي قتل فيها عبداللّه بن عمير الكلبي (رض) كُلًّا من يسار مولى زياد بن أبيه، وسالم مولى عبيداللّه بن زياد، يروي الطبري بداية الحملة الأولى فيقول: «وحمل عمرو بن الحجّاج «1» وهو على ميمنة الناس في الميمنة، «2» فلمّا أن دنا من حسين جثوا على الرُكَبِ وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالًا وجرحوا منهم آخرين ..». «3»

وروى الطبري عمّن سمع عمرو بن الحجّاج حين دنا من أصحاب الحسين عليه السلام أنّه كان يقول: «يا أهل الكوفة! الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرَقَ من الدين وخالف الإمام!!

فقال له الحسين: يا عمرو بن الحجّاج! أعليَّ تِحرّض الناس!؟ أنحن مرقنا

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 274

وأنتم ثبتم عليه!؟ أما واللّه لتعلمُنَّ لو قد قُبضت أرواحكم ومِتُّمُ على أعمالكم أيّنا مرق من الدين، ومن هو أولى بصلي النّار!؟ ...».

ثُمَّ إنَّ عمرو بن

الحجّاج حمل على الحسين في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات فاضطربوا ساعة، فصُرع مسلم بن عوسجة الأسدي، أوّل أصحاب الحسين، ثمّ انصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه، وارتفعت الغبرة فإذا هم به صريع، فمشى إليه الحسين فإذا به رمق، فقال: رحمك ربّك يا مسلم بن عوسجة! منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا!

ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال: عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم! أبشر بالجنّة!

فقال له مسلم قولًا ضعيفاً: بشّرك اللّه بخير.

فقال له حبيب: لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك لاحقٌ بك من ساعتي هذه لأحببتُ أن توصيني بكلّ ما أهمَّك، حتى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين.

قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللّه- وأهوى بيده إلى الحسين- أن تموت دونه!

قال: أفعلُ وربّ الكعبة!

قال فما كان بأسرع من أن مات بأيديهم!

وصاحت جارية له فقالت: يا ابن عوسجتاه يا سيّداه!

فتنادى أصحاب عمرو بن الحجّاج: قتلنا مسلم بن عوسجة!

فقال شبث لبعض مَن حوله مِن أصحابه: ثكلتكم أمّهاتكم! إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللّون أنفسكم لغيركم! تفرحون أن يُقتل مثل مسلم بن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 275

عوسجة!؟ أما والذي أسلمتُ له، لرُبَّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم سَلق آذربيجان قتل ستّة من المشركين قبل أن تتامّ خيول المسلمين! أفيُقتل منكم مثله وتفرحون!؟

قال وكان الذي قتل مسلم بن عوسجة: مسلم بن عبداللّه الضبّابي، وعبدالرحمن بن أبي خُشكارة البجلي ...». «1»

زيارة الناحية المقدّسة تؤيّد أنّ مسلم بن عوسجة (رض) أوّل شهداء الحملة الأولى، أي أوّل شهداء الطفّ رضوان اللّه تعالى عليهم، فقد ورد فيها السلام على مسلم ابن عوسجة هكذا:

«السلام على مسلم بن عوسجة الأسديّ، القائل للحسين وقد

أذن له في الإنصراف: أنحن نخلّي عنك!؟ وبمَ نعتذر عند اللّه من أداء حقّك؟ لا واللّه حتى أكسر في صدورهم رمحي هذا! وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي! ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة! ولم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 276

أفارقك حتى أموت معك! وكُنت أوّل من شرى نفسه، وأوّل شهيد شهد للّه وقضى نحبه، ففزتَ وربّ الكعبة، شكر اللّه استقدامك ومواساتك إمامك، إذ مشى إليك وأنت صريع فقال: يرحمك اللّه يا مسلم بن عوسجة. وقرأ:

«فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا»، لعن اللّه المشتركين في قتلك: عبداللّه الضبّابي، وعبداللّه بن خُشكارةَ البجلي، ومسلم بن عبداللّه الضبّابي.». «1»

شمر بن ذي الجوشن .. يواصل الحملة في الميسرة! ..... ص : 276

ونعود إلى رواية الطبري- التي ذكرت مصرع مسلم بن عوسجة (رض) في حملة عمرو بن الحجّاج في ميمنة جيش ابن سعد- فنقرأ فيها أيضاً: «وحمل شمر ابن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة، فثبتوا له فطاعنوه وأصحابه ..». «2»

ثم صارت الحملة من كل جانب! ..... ص : 276

وتقول نفس رواية الطبري: «وحُمِلَ على حسين وأصحابه من كلّ جانب!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 277

فقُتل الشهيد الثاني عبدالله بن عمير الكلبي (رض) ..... ص : 277

وتتابع رواية الطبري وصف تفاصيل هذه الحملة فتقول: «فقُتِل الكلبيّ وقد قَتَل رجلين بعد الرجلين الأوْلَيْن، وقاتل قتالًا شديداً، فحمل عليه هاني ء بن ثُبَيت الحضرمي، وبُكَير بن حيّ التيمي من تيم اللّه بن ثعلبة فقتلاه، وكان القتيل الثاني من أصحاب الحسين.». «1»

خيل الإمام عليه السلام تحمل على الأعداء!! ..... ص : 277

تواصل رواية الطبري وصف تفاصيل الحملة الأولى فتقول: «وقاتلهم أصحاب الحسين قتالًا شديداً، وأخذت خيلهم تحمل- وإنّما هم إثنان وثلاثون فارساً- وأخذت لاتحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلّا كشفته!، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس وهو على خيل أهل الكوفة- أنّ خيله تنكشف من كلّ جانب!- بعث إلى عمر بن سعد عبدالرحمن بن حصن، فقال: أما ترى ما تلقى خيلي مذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة!؟ إبعث إليهم الرجال والرماة ...». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 278

مشهد كريم من مشاهد بطولة الحرّ (رض) ..... ص : 278

روى الطبري، عن أبي مخنف، عن النضر بن صالح العبسي: أنّ الحرّ بن يزيد الرياحي (رض) لمّا لحق بالإمام الحسين عليه السلام: «قال رجل من بني تميم من بني شقرة، وهم بنو الحارث بن تميم، يُقال له يزيد بن سفيان: أما واللّه لو أنّي رأيتُ الحرّ بن يزيد حين خرج لأتبعته السِنان!

... فبينا النّاس يتجاولون ويقتتلون، والحرّ بن يزيد يحمل على القوم مقدماً ويتمثّل قول عنترة:

ما زِلتُ أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتّى تسربل بالدّمِ

.. وإنّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبه، وإنّ دماءه لتسيل .. فقال الحصين ابن تميم «1»- وكان على شرطة عبيداللّه، فبعثه إلى الحسين، وكان مع عمر بن سعد، فولّاه عمر مع الشرطة المجفّفة «2»- ليزيد بن سفيان: هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنّى!! قال: نعم. فخرج إليه، فقال له: هل لك يا حرّ بن يزيد في المبارزة؟ قال:

نعم قد شئتُ! فبرز له.

قال (الراوي): فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: واللّه لبرز له، فكأنّما كانت نفسه في يده! فما لبث الحرّ حين خرج إليه أن قتله!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 279

مقتل مجموعة عمرو بن خالد الصيداوي (رض) ..... ص : 279

قال الطبري: «فأمّا الصيداوي عمرو بن خالد، وجابر «1» بن الحارث السلماني، وسعد مولى عمرو بن خالد، ومجمّع بن عبداللّه العائذي، «2» فإنّهم قاتلوا في أوّل القتال، فشدّوا مقدمين بأسيافهم على الناس، فلمّا وغلوا عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ فاستنقذهم، فجاؤا قد جُرّحوا، فلمّا دنا منهم عدوّهم شدّوا بأسيافهم فقاتلوا في أول الأمر حتّى قُتلوا في مكان واحد.». «3»

رُماة ابن سعد يعقرون خيل الإمام عليه السلام ..... ص : 279

وتواصل رواية الطبري خبر هذه الحملة فتقول: «ودعا عمر بن سعد الحصين ابن تميم، فبعث معه المجفّفة «4» وخمسمائة من المرامية، فأقبلوا حتّى إذا دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، وصاروا رجَّالة كلّهم!». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 280

ويروي الطبري أيضاً أنّ أيّوب بن مشرح الخيواني كان يقول: «أنا واللّه عقرتُ بالحرّ بن يزيد فرسه، حشأته سهماً فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا، فوثب عنه الحرّ كأنّه ليث! والسيف في يده وهو يقول:

إن تعقِروا بي فأنا ابن الحُرّ أشجع من ذي لَبَدٍ هِزَبْرِ

فما رأيتُ أحداً قطُّ يفري فريه!.». «1»

اشتداد القتال حتّى منتصف النهار! ..... ص : 280

ويروي الطبري أيضاً فيقول: «وقاتلوهم حتى انتصف النهار أشدّ قتالٍ خلقه اللّه! وأخذوا لايقدورن على أن يأتوهم إلّا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض. قال: فلمّا رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالًا يقوّضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم.

قال فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلّلون البيوت فيشدّون على الرجل وهو يقوِّض وينتهب فيقتلونه ويرمونه من قريب ويعقرونه، فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال إحرقوها بالنّار ولاتدخلوا بيتاً ولا تقوّضوه! فجاءوا بالنار فأخذوا يحرّقون!

فقال حسينٌ:

دعوهم فليحرّقوها، فإنّهم لو قد حرّقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها.

وكان ذلك كذلك وأخذوا لايقاتلونهم إلّا من وجه واحد.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 281

أمُّ وهب (رض) تستشهد عند مصرع زوجها (رض)! ..... ص : 281

ويسجّل لنا تأريخ وقائع يوم عاشوراء أنّ أمّ وهب (رض) زوجة عبداللّه بن عمير الكلبي (رض) كانت من شهداء الحملة الأولى، وهي أوّل شهيدة من النساء يوم عاشوراء، تقول رواية الطبري: «وخرجت إمرأة الكلبي تمشي إلى زوجها حتّى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئاً لك الجنّة!

فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يُسمّى رستم: إضرب رأسها بالعمود! فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها.». «1»

زهير في عشرة من الأنصار يكشف جند الشمر عن الخيام ..... ص : 281

ويواصل الطبري رواية وقائع الحملة الأولى فيقول: «وحمل شمر بن ذي الجوشن حتّى طعن فسطاط الحسين برمحه، ونادى عليَّ بالنار حتّى أُحرق هذا البيت على أهله! .. فصاح النساء وخرجن من ا لفسطاط .. وصاح به الحسين: يا ابن ذي الجوشن! أنت تدعو بالنّار لتحرق بيتي على أهلي!؟ حرّقك اللّه بالنار ... وحمل عليه زهير بن القين في رجال من أصحابه عشرة، فشدّ على شمر بن ذي الجوشن وأصحابه فكشفهم عن البيوت حتّى ارتفعوا عنها، فصرعوا أبا عزّة الضّبابي وكان من أصحاب شمر ..». «2»

وحين زالت الشمس وحضر وقت الصلاة! ..... ص : 281

تجمع المصادر التأريخية «3» أنّ جيش عمر بن سعد في حملته الأولى على

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 282

جيش الإمام عليه السلام كان قد أحاط بأصحاب الإمام عليه السلام وبمعسكره من كل جانب، ثمّ تعطّف عليهم من كلّ جهة وبجميع الأسلحة، فكان إذا قُتل الرجل والرجلان من أصحاب الإمام عليه السلام يبين ذلك فيهم لقلّتهم، ولا يبين القتل في جيش ابن سعد مع كثرة من يُقتل منهم لكثرتهم، وكان قد قُتل من أنصار الإمام ما يناهز الخمسين نفساً زكيّة طاهرة مقدّسة، والحرب لم تزل حتّى تلك الساعة على استعارها واشتدادها، والشمس في أوّل زوالها، «فلمّا رأى ذلك أبوثمامة عمرو بن عبداللّه الصائدي، قال للحسين: يا أبا عبداللّه! نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك! ولا واللّه لاتُقتل حتّى أُقتل دونك إن شاء اللّه، وأُحبّ أنْ ألقى ربّي وقد صلّيتُ هذه الصلاة التي قد دنا وقتها! فرفع الحسين رأسه، ثمّ قال: ذكرت الصلاة! جعلك اللّه من المصلّين الذاكرين، نعم، هذا أوّل وقتها.

ثمّ قال: سلوهم أن يكفّوا عنا حتّى نصلّي.». «1»

أسماء شهداء الحملة الأولى ..... ص : 282

يُستفاد من جملة من كتب التراجم والتواريخ أنّ شهداء الحملة الأولى هم:

1 مسلم بن عوسجة الأسدي (رض).

2 عبداللّه بن عمير الكلبي (رض).

3 نعيم بن عجلان (رض).

4 عمران بن كعب بن حارث الأشجعي (رض). «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 283

5 حنظلة بن عمرو الشيباني (رض). «1»

6 قاسط بن زهير التغلبي (رض).

7 مقسط بن زهير التغلبي (رض).

8 كنانة بن عتيق التغلبي (رض). «2»

9 عمرو بن ضبعة الضبعي (رض). «3»

10 ضرغامة بن مالك التغلبي (رض). «4»

11 عامر بن مسلم العبدي البصري (رض).

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 284

12 سالم مولى عامر بن مسلم (رض).

13 سيف بن مالك العبدي البصري (رض). «1»

14 عبدالرحمن

بن عبداللّه الأرجبي (رض). «2»

15 الحبّاب بن عامر التميمي (رض). «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 285

1 عمرو الجندعي (رض). «1»

17 الحُلاس بن عمرو الراسبي الأزدي (رض).

18 النعمان بن عمرو الراسبي الأزدي (رض).

19 سوار بن أبي عمير النهمي (رض). «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 286

20 عمّار الدالاني (رض).

21 زاهر بن عمرو الكندي (رض) صاحب عمرو بن الحمق (رض).

22 جبلّة بن علي الشيباني (رض). «1»

23 مسعود بن الحجّاج التيمي (رض).

24 عبدالرحمن بن مسعود بن الحجّاج (رض). «2»

25 زهير بن بشر الخثعمي (رض). «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 287

26 مسلم بن كثير الأزدي (رض).

27 زهير بن سليم الأزدي (رض).

28 عمّار بن حسّان الطائي (رض).

29 عبيد اللّه بن يزيد العبدي البصري (رض).

30 عبداللّه بن يزيد العبدي البصري (رض).

31 الأدهم بن أميّة العبدي البصري (رض).

32 جندب بن حجير الكندي (رض).

33 حجير بن جندب بن حجير الكندي (رض). «1»

34 جنادة بن كعب بن الحرث الأنصاري (رض).

35 عبدالرحمن بن عبد ربّ الأنصاري (رض). «2»

36 عبدالله بن عروة الغفاري (رض). «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 288

37 عائذ بن مجمع بن عبدالله العائذي (رض).

38 مجمع بن عبدالله العائذي (رض).

39 أمّ وهب (رض) زوج عبدالله بن عمير الكلبي (رض).

40 أميّة بن سعد الطائي (رض).

41 القاسم بن حبيب بن أبي بشر الأزدي (رض).

42 جوين بن مالك التيمي (رض). «1»

43 عبداللّه بن بشر الخثعمي (رض). «2»

44 بشر بن عمرو بن الأحدوث الحضرمي الكندي (رض). «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 289

45 الحجّاج بن بدر التميمي السعدي (رض). «1»

46 قارب بن عبداللّه الدئلي (رض).

47 عمرو بن خالد الأسدي الصيداوي (رض). «2»

48 جنادة بن الحرث المذحجي السلماني (رض).

49 سعد (رض) مولى عمرو بن خالد الصيداوي (رض).

50 منجح بن سهم (رض) مولى الحسن عليه السلام. «3»

مع الركب

الحسينى (ج 4)، ص: 290

51 أسلم بن عمرو التركي مولى الحسين عليه السلام. «1»

52 سعد بن الحرث (رض) مولى عليّ عليه السلام. «2» 53 نصر بن أبي نيزر (رض) مولى علي عليه السلام. «3»

54 الحرث بن نبهان (رض) مولى حمزة عليه السلام.

55 جون بن حويّ (رض) مولى أبي ذرّ (رض). «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 291

56 جابر بن الحجّاج (رض) مولى عامر بن نهشل التيمي. «1»

57 الحارث بن امرء القيس الكندي (رض). «2»

58 شبيب (رض) مولى الحرث بن سريع الهمداني الجابري. «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 292

59 شبيب بن عبداللّه النهشلي (رض). «1»

مقتل حبيب بن مظاهر (رض) «2» قبيل الصلاة! ..... ص : 292

مرَّ بنا أنّه لمّا رأى أبوثمامة الصائدي (رض) قلّة من بقي من الأنصار مع الإمام عليه السلام نتيجة الحملة العامة طلب إلى الإمام عليه السلام قائلًا: «يا أبا عبداللّه نفسي لك الفداء! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا واللّه لا تُقتل حتّى أُقتل دونك إنْ شاء

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 293

اللّه، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها»، «1» فرفع الحسين عليه السلام رأسه ثمّ قال: «ذكرت الصلاة! جعلك اللّه من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أوّل وقتها»، «2»

ثم قال: «سلوهم أن يكفوا عنّا حتّى نصلّي»، «3»

ففعلوا. «4»

«فقال لهم الحصين بن تميم: إنّها لاتقبل!

فقال له حبيب بن مظاهر: لاتُقبل!! زعمتَ الصلاة من آل الرسول صلى الله عليه و آله لاتُقبلُ، وتُقبلُ منك يا حمار!؟

.. فحمل عليهم حصين بن تميم، وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسّيف، فشبَّ ووقع عنه، وحمله أصحابه فاستنقذوه، وأخذ حبيب يقول:

أُقسمُ لو كُنّا لكم أعدادا أو شطركم ولّيتمُ أكتادا

ياشرَّ قومٍ حَسَباً وَآدا

.. وجعل يقول يومئذٍ:

أنا حبيبٌ وأبي مُظاهرُ فارسُ هيجاءَ وحربٍ تُسعرُ

أنتم أعدُّ عدّةً وأكثرُ

ونحن أوفى منكم وأصبرُ

ونحن أعلى حُجَّةً وأظهرُ حقّاً وأتقى منكمُ وأعذرُ

وقاتل قتالًا شديداً، «5» فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 294

رأسه فقتله، «1» وكان يُقال له بديل بن صُريم من بني عقفان، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع، ونزل إليه التميميّ فاحتزَّ رأسه، فقال له الحصين: إنّي لشريكك في قتله.

فقال الآخر: واللّه ماقتله غيري. فقال الحصين: أعطنيه أعلّقه في عنق فرسي، كيما يرى النّاس ويعلموا أنّي شركت في قتله، ثمّ خذه أنت بعدُ فامضِ به إلى عبيداللّه ابن زياد فلاحاجة لي فيما تُعطاه على قتلك إيّاه! .. فأبى عليه فأصلح قومه فيما بينهما على هذا، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر قد علّقه في عُنق فرسه! ثمّ دفعه بعد ذلك إليه، فلمّا رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب ثمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر ...». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 295

ولقد ذكر ابن شهرآشوب أنّ حبيب بن مظاهر (رض) كان قد قتل إثنين وستين رجلًا، وأنّ الذي قتله الحصين بن نمير وعلّق رأسه في عنق فرسه. «1»

وروي أنّه لمّا قُتل حبيب بن مظاهر (رض) هدَّ ذلك الحسين عليه السلام وقال عند ذلك: «عند اللّه أحتسب نفسي وحماة أصحابي!». «2»

«وفي بعض المقاتل: قال عليه السلام: للّه درّك يا حبيب! لقد كنت فاضلًا تختم القرآن في ليلة واحدة!». «3»

مقتل الحرّ بن يزيد الرياحي (رض) ..... ص : 295

يروي الطبري- ويتابعه في ذلك جمع من المؤرّخين- أنه لمّا قُتل حبيب بن مظاهر الأسدي (رض)، وهدَّ ذلك الإمام الحسين عليه السلام وقال: «عند اللّه أحتسب نفسي وحُماة أصحابي!»، أخذ الحرّ (رض) يقاتل- راجلًا-

«4» فحمل على القوم وهو يرتجز ويقول:

آليتُ لا أُقتلُ حتّى أَقْتُلا ولن أُصاب اليومَ إلّا مُقبلا

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 296

أضربهم بالسيف ضرباً مفصلا لا ناكلًا عنهم ولا مُهَلَّلا

وأخذ يقول أيضاً:

أضرب في أعراضهم بالسَيْف عن خير من حَلَّ مِنىً والخيف «1»

فقاتل هو وزهير بن القين قتالًا شديداً، فكان إذا شدّ أحدهما فإنْ استُلحم شدَّ الآخر حتّى يخلّصه، ففعلا ذلك ساعة، ثمّ إنَّ رجّالة شدَّت على الحرّ بن يزيد فقُتل.»، «2» فكان مقتله (رض) بعد مقتل حبيب (رض) وقبل صلاة الظهر أيضاً. «3»

وقال الشيخ المفيد (ره): «وتكاثروا عليه، فاشترك في قتله أيّوب بن مُسَرِّح، ورجل آخر من فرسان أهل الكوفة.». «4»

غير أنّ مصادر تأريخيّة أخرى «5» تذكر أنّ التحاق الحرّ (رض) بالإمام الحسين عليه السلام بعد أن قُتل من أصحابه عليه السلام ما يربو على الخمسين في الحملة العامة، حيث سمع الحرّ (رض) الإمام عليه السلام يقول على أثرها: «أما من مغيث يُغيثنا لوجه اللّه؟

أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول اللّه؟»، فأقبل الحرّ (رض) إلى عمر بن سعد فقال:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 297

أمقاتل أنت هذا الرجل!؟ إلى آخر محاورته مع ابن سعد التي مرّت بنا في قصة تحوّله والتحاقه بالإمام عليه السلام!

والمتأمّل في سياق كلّ من اللهوف ومقتل الخوارزمي يلحظ تعارضاً بيّناً في سردهما لقصة إلتحاق الحرّ (رض)، حيث يجد أنّ الحرّ بعد مقتل خمسين رجلًا أو أكثر من أنصار الإمام عليه السلام يسأل عمر بن سعد: أمقاتلٌ أنت هذا الرجل؟!! الأمر الذي يُضعف من الوثوق بسياق قصّة الحرّ (رض) في هذين الكتابين!

وتقول مصادر تأريخية أنّ الحرّ (رض) كان أوّل من تقدّم إلى قتال القوم، وأنّه كان قد قال للإمام عليه السلام: يا ابن رسول اللّه،

كنت أوّل خارج عليك فائذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك، فلعلّي أن أكون أوّل من يصافح جدّك محمّداً غداً في القيامة!». «1»

يقول صاحب تسلية المجالس في معنى ذلك: «وإنّما قال الحرُّ لأكون أوّل قتيل من المبارزين وإلّا فإنَّ جماعة كانوا قد قُتِلوا في الحملة الأولى كما ذُكر: فكان أوّل من تقدّم إلى براز القوم ...». «2»

وقال الشيخ الصدوق في شأن الحرّ (رض): «فقتل منهم ثمانية عشر رجلًا». «3» وقال الخوارزمي: «وقتل أربعين فارساً وراجلًا». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 298

وقال ابن شهرآشوب: «فقتل نيفاً وأربعين رجلًا». «1» وقال السيّد ابن طاووس:

«حتّى قتل جماعة من شجعان وأبطال». «2»

وروي أنه لمّا استشهد الحرّ (رض) احتمله أصحاب الحسين عليه السلام حتّى وضعوه بين يدي الحسين عليه السلام وبه رمق، فجعل الحسين عليه السلام يمسح وجهه ويقول:

أنت الحرُّ كما سمّتك أمُّك! وأنت الحرّ في الدنيا وأنت الحرّ في الآخرة!. «3»

وقيل: «ثُمَّ أنشأ الحسين يقول:

لَنِعمَ الحرُّ بني رياح ونِعمَ الحرُّ عند مختلف الرماحِ

ونعم الحرُّ إذ نادى «4»

حسيناً فجاد بنفسه عند الصباحِ». «5»

وقيل رثاه بهذه الأبيات بعض أصحاب الحسين عليه السلام. «6»

وذكر الخوارزمي عن الحاكم الجشمي أنه قال: بل رثاه عليّ بن الحسين عليه السلام «7».

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 299

كيف كانت صلاة الإمام عليه السلام ظهر عاشوراء؟ ..... ص : 299

ذكر أكثر المؤرّخين أنّ الإمام عليه السلام صلّى بأصحابه صلاة الخوف، «1» وقال الشيخ ابن نما (ره): «وقيل: صلّى الحسين عليه السلام وأصحابه فرادى بالإيماء!». «2»

وقال المرحوم المحقّق السيّد المقرّم: «والذي أراه أنّ صلاة الحسين عليه السلام كانت قصراً، لأنّه نزل كربلاء في الثاني من المحرّم، ومن أخبار جدّه الرسول صلى الله عليه و آله مضافاً إلى علمه بأنّه يُقتل يوم عاشوراء لم يستطع أن ينوي الإقامة إذا لم تكمل

له عشرة أيّام، وتخيّل من لامعرفة له بذلك أنّه صلّى صلاة الخوف!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 300

مقتل سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض) أثناء صلاة الإمام عليه السلام ..... ص : 300

ذكر الطبري وتابعه على ذلك ابن الأثير أنّ سعيد بن عبداللّه (رض) قُتل بعد الصلاة، حيث يقول: «ثمَّ اقتتلوا بعد الظهر فاشتدّ قتالهم، وَوُصِلَ إلى الحسين، فاستقدم الحنفيُّ أمامه، فاستُهدِف لهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالًا قائماً بين يديه، فما زال يُرمى حتّى سقط!». «1»

لكنّ المؤرّخين الآخرين رووا أنّ سعيد بن عبداللّه (رض) قُتل أثناء صلاة الإمام عليه السلام، فقد روى الخوارزمي في المقتل يقول: «فقال الحسين لزهير بن القين وسعيد بن عبداللّه: تقدَّما أمامي. فتقدّما أمامه في نحوٍ من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف. وروي أنَّ سعيد بن عبداللّه تقدّم أمام الحسين عليه السلام، فاستهدف له يرمونه بالنبل، فما أخذ الحسين عليه السلام يميناً وشمالًا إلّا قام بين يديه!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 301

فما زال يُرمى حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: أللّهمَّ العنهم لعن عادٍ وثمود، أللّهمّ أبلغ نبيّك عنّي السلام، وأبلغه مالقيتُ من ألم الجراح، فإنّي أردت بذلك نصرة نبيّك، ثمّ مات، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح!»، «1» ثمّ التفت إلى الحسين عليه السلام فقال: أوفيت يا ابن رسول اللّه؟

فقال عليه السلام: نعم، أنت أمامي في الجنّة! ثمّ فاضت نفسه النفيسة. «2»

وينبغي التذكير هنا بأنّ السلام على سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض) الوارد في زيارة الناحية المقدّسة كاشف عن مكانة سامية خاصة له عند أهل البيت عليهم السلام، فقد ورد السلام عليه فيها هكذا:

«السلام على سعد «3» بن عبداللّه الحنفيّ، القائل للحسين وقد أذن له في الإنصراف: لا واللّه لا نخلّيك حتّى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا

غيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيك، واللّه لو أعلم أنّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ثمّ أُذرى ويُفعل ذلك بي سبعين مرَّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك! وكيف أفعل ذلك وإنّما هي موتة أو قتلة واحدة!؟ ثمّ هي بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!!

فقد لقيتَ حِمامك، وواسيت إمامك، ولقيت من اللّه الكرامة في دار المقامة، حشرنا اللّه معكم في المستشهدين، ورزقنا مرافقتكم في أعلى علّييّن!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 302

مقتل أنس بن الحارث الكاهلي (رض) «1» ..... ص : 302

واستأذن الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي (رض) الإمام الحسين عليه السلام لمبارزة الأعداء فأذن له، «وبرز شادّاً وسطه بالعمامة، رافعاً حاجبيه بالعصابة، ولمّا نظر اليه الحسين عليه السلام بهذه الهيئة بكى وقال: شكر اللّه لك يا شيخ. فقتل على كبره ثمانية عشر رجلًا، وقُتل». «2»

وكان في قتاله يرتجز قائلًا:

قد علمتْ كاهلها ودودان والخندفيّون وقيس عيلان

بأنّ قومي آفة للأقران». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 303

مقتل يزيد بن زياد بن مهاصر الكندي (رض) ..... ص : 303

روى الطبري، عن أبي مخنف، عن فضيل بن خديج الكندي: «أنّ يزيد بن زياد، «1» وهو أبوالشعثاء الكندي- من بني بهدلة- جثى على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها إلّا خمسة أسهم، وكان رامياً، فكان كلّما رمى قال:

أنا ابن بهدله فرسان العرجله

ويقول حسين: ألّلهمّ سدّد رميته، واجعل ثوابه الجنة.

فلمّا رمى بها قام فقال: ما سقط منها إلّا خمسة أسهم، ولقد تبيّن لي أنّي قد قتلتُ خمسة نفر. وكان في أوّل من قُتل ..». «2»

«ثمَّ حمل على القوم بسيفه وقال:

أنا يزيدٌ وأبي مُهاصرُ كأنّني ليثٌ بِغيلٍ خادرُ

يا ربّ إنّي للحسين ناصرُ ولابن سعدِ تاركٌ وهاجرُ

فلم يزل يُقاتل حتّى قُتل رضوان اللّه عليه.». «3»

وروى الصدوق (ره) أنّ أبا الشعثاء (رض) قتل تسعة من الأعداء، وذكر

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 304

مبارزته بعد مبارزة الكاهلي (رض). «1»

أما ابن شهرآشوب فذكر مبارزته بعد مبارزة أنيس بن معقل الأصبحي. «2»

وهذا بخلاف ما ذكر الطبري في روايتة أنه «كان في أوّل من قتل» وماذكره ابن الأثير «وكان أوّل من قُتل بين يدي الحسين». «3»

وقد ورد السلام عليه من الناحية المقدّسة: «السلام على يزيد بن زياد بن مُهاصر الكندي». «4»

مقتل وهب بن وهب (رض) ..... ص : 304

روى الشيخ الصدوق (ره) «5» في أماليه يصف جملة من وقائع فاجعة عاشوراء

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 305

وتتابع أصحاب الإمام عليه السلام في التقدّم إلى القتال والمبارزة قائلًا: «وبرز من بعده- أي

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 306

من بعد يزيد بن زياد بن المهاصر، أبي الشعثاء الكندي (رض)- وهب بن وهب، وكان نصرانياً أسلم على يد الحسين عليه السلام هو وأمّه، فاتّبعوه إلى كربلاء، فركب فرساً وتناول بيده عود الفسطاط (عمود الفسطاط)، فقاتل وقتل من القوم سبعة أو ثمانية، ثمّ أستؤسر فأُتي به

عمر بن سعد لعنه الله، فأمر بضرب عنقه، ورمى به إلى عسكر الحسين عليه السلام، وأخذت أمّه سيفه وبرزت، فقال لها الحسين عليه السلام:

يا أُمَّ وهب! إجلسي فقد وضع اللّه الجهاد عن النساء، إنّك وابنك مع جدّي محمّد صلى الله عليه و آله في الجنّة.». «1»

مقتل الحجّاج بن مسروق المذحجي الجعفي (رض) ..... ص : 306

وهو (رض) مؤذّن الإمام الحسين عليه السلام في أوقات الصلاة، وكان قد خرج من الكوفة إلى الإمام عليه السلام والتحق به في مكّة المكرّمة، ولما كان يوم العاشر وبرز بقية أصحاب الإمام عليه السلام بعد الحملة الأولى إلى مقاتلة الأعداء تباعاً، برز الحجّاج بن مسروق الجعفي (رض) بعد أبي الشعثاء الكندي يزيد بن زياد (رض)- على رواية الخوارزمي وابن شهرآشوب- وهو يقول:

أقدم حسين هادياً مهديّا اليوم نلقى جدّك النبيّا

ثمَّ أباك ذا العُلا عليّا والحسن الخير الرضا الوليّا

وذا الجناحين الفتى الكميّا وأسد اللّه الشهيد الحيّا «2»

ثمّ حمل فقاتل حتى قُتل، «3» وكان قد قتل خمسة وعشرين رجلًا. «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 307

وقد ذكر كلٌّ من المحقّق السماوي (ره)، والمحقّق المقرّم (ره)، أنّ مسروق بن الحجّاج (رض) بعد أن استأذن الإمام عليه السلام قاتل قتالًا شديداً ثمّ عاد إليه وأنشده:

فدتك نفسي هادياً مهديّا اليوم ألقى جدّك النبيّا

ثمّ أباك ذا الندى عليّا ذاك الذي نعرفه الوصيّا

فقال له الحسين عليه السلام: نعم، وأنا ألقاهما على أثرك. فرجع يُقاتل حتى قتل رضي الله عنه. «1»

مقتل زهير بن القين (رض) ..... ص : 307

قال الطبري بعد ذكره مقتل سعيد بن عبداللّه (رض): «وقاتل زهير بن القين قتالًا شديداً، وأخذ يقول:

أنا زهير وأنا ابن القَيْنِ أذودهم بالسيّف عن حسينِ

.. وأخذ يضرب على منكب حسين «2» ويقول:

أَقَدمْ هُديتَ «3»

هادياً مهديّا فاليوم نلقى جدَّك النبيّا

وحسناً والمرتضى عليّاوذا الجناحينِ الفتى الكميّا

وأسدَ اللّهِ الشهيدَ الحيّا

... فشدَّ عليه كثير بن عبداللّه الشعبي، ومهاجر بن أوس، فقتلاه.». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 308

وقال الخوارزمي في مقتله: «فقال الحسين حين صُرع زهير: لايبعدنّك اللّه يا زهير! ولعن اللّه قاتلك لعن الذين مسخهم قردة وخنازير.». «1»

وذكر الشيخ الصدوق (ره) أنّ زهيراً (رض) قتل من الأعداء تسعة عشر رجلًا.

«2»

وذكر ابن شهرآشوب (ره)، والسيّد محمّد بن أبي طالب (ره)، أنّ زهيراً قتل مائة وعشرين رجلًا. «3»

إنّ السلام الوارد في زيارة الناحية المقدّسة على زهير بن القين كاشف عن منزلة خاصة له (رض) عند أهل البيت عليهم السلام، إذ ورد فيها:

«السلام على زهير بن القين البجلي، القائل للحسين وقد أذن له في الإنصراف: لا واللّه لايكون ذلك أبداً! أترك ابن رسول اللّه أسيراً في يد الأعداء وأنجو!؟ لا أراني اللّه ذلك اليوم!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 309

مقتل سلمان بن مضارب البجلي (رض) ..... ص : 309

كان سلمان (رض) مع ابن عمّه زهير (رض) في سفر الحجّ سنة ستين للهجرة، ولمّا مال زهير (رض) في الطريق إلى الإمام عليه السلام وانضم إليه، مال معه ابن عمّه سلمان هذا (رض) وانضمّ إلى الإمام عليه السلام أيضاً.

ونقل المحقق السماوي رحمه اللّه عن صاحب الحدائق الوردية قوله: إنّ سلمان قُتل فيمن قُتل بعد صلاة الظهر، «1» فكأنّه قُتل قبل زهير. «2»

مقتل أبي ثمامة الصائدي (رض) ..... ص : 309

قال ابن شهرآشوب: «ثمّ برز أبوثمامة الصائدي وقال:

عزاءً لآل المصطفى وبناته على حبس خير الناس سبط محمّد

عزاءً لزهراء النبيّ وزوجها خزانة علم اللّه من بعد أحمد

عزاءً لأهل الشرق والغرب كلّهم وحزناً على حبس الحسين المسدَّد

فمنْ مبلغٌ عنّي النبيَّ وبنته بأنّ ابنكم في مجهد أيّ مجهد». «3»

ويُفهم من سياق الطبري- ويتابعه على ذلك ابن الأثير- بأنّ أبا ثمامة الصائدي (رض) كان قد قتلَ ابنَ عمِّ له في فترة ما قبل إقامة صلاة الظهر، إذ يقول الطبري: «.. ثمّ إنّ رجّالة شدَّت على الحرّ بن يزيد فقُتل، وقتل أبوثمامة الصائدي ابن عمّ له كان عدوّاً له، ثمّ صلّوا الظهر ...». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 310

أمّا كيف قُتل أبوثمامة (رض) ومن قتله؟ فلم نعثر- حسب متابعتنا- على مصدر من المصادر التأريخية القديمة كان قد ذكر ذلك! إلّا أنّ المحقّق السماوي (ره) ذكر قائلًا: «قال: ثُمَّ إنّ أبا ثمامة قال للحسين، وقد صلّى: يا أبا عبداللّه، إنّي قد هممت أن ألحق بأصحابي، وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيداً من أهلك قتيلًا. فقال له الحسين عليه السلام: تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة.

فتقدّم فقاتل حتّى أُثخن بالجراحات، فقتله قيس بن عبداللّه الصائدي ابن عمّ له، كان له عدوّاً! وكان ذلك بعد قتل الحرّ.». «1»

ويبدو أنّ المحقّق المقرّم (ره) قد

أخذ ذلك عن الشيخ السماوي (ره)، إذ يقول: «وخرج أبوثمامة الصائدي فقاتل حتّى أُثخن بالجراح، وكان مع عمر بن سعد ابن عمّ له يُقال له قيس بن عبداللّه، بينهما عداوة، فشدَّ عليه وقتله.». «2»

وإلى هنا لابدّ أنّ نقول: ربّما كان المحقّق السماوي (ره) والمحقّق المقرّم (ره) قد أخذا ذلك عن مصدر لم نوفّق للإطّلاع عليه، خصوصاً وأنّهما قد ذكرا إسم قاتله: قيس بن عبداللّه الصائدي! أمّا إذا كان أخذهما عن الطبري أو ابن الأثير، فإنّ هذين قد ذكرا أنّ ابا ثمامة هو قاتل ابن عمّه لا العكس!

مقتل برير بن خضير الهمداني (رض) ..... ص : 310

يروي الطبري عن أبي مخنف بسنده إلى عفيف بن زهير بن أبي الأخنس، وكان قد شهد مقتل الحسين عليه السلام «قال: وخرج يزيد بن معقل- من بني عميرة بن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 311

ربيعة، وهو حليف لبني سليمة من عبدالقيس- فقال: يا برير بن خضير، كيف ترى اللّه صنع بك!؟ قال: صنع اللّهُ واللّهِ بي خيراً، وصنع اللّه بك شرّاً!

قال: كذبتَ، وقبل اليوم ما كنت كذّاباً! هل تذكر وأنا أُماشيك في بني لوذان، وأنت تقول: إنَّ عثمان بن عفّان كان على نفسه مسرفاً، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالٌّ مُضِلٌّ، وإنّ إمام الهدى والحقّ عليّ بن أبي طالب؟

فقال له برير: أشهد أنّ هذا رأيى وقولي.

فقال له يزيد بن معقل: فإني أشهد أنّك من الضالين!

فقال له برير بن خضير: هل لك فلأباهلك، ولندع اللّه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المبطل! ثمّ اخرج فلأبارزك!

قال فخرجا فرفعا أيديهما إلى اللّه يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحقُّ المبطلَ، ثمّ برز كلّ واحدٍ منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد ابن معقل برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً! وضربه برير بن خضير

ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ! فخرَّ كأنما هوى من حالق، وإنّ سيف ابن خضير لثابت في رأسه، فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه، وحمل عليه رضيُّ بن منقذ العبدي فاعتنق بريراً، فاعتركا ساعة، ثمّ إنّ بريراً قعد على صدره، فقال رضيٌّ:

أين أهل المصاع «1» والدفاع!؟

قال فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه، فقلت: إنّ هذا برير ابن خضير القاري ء الذي كان يُقرؤنا القرآن في المسجد! فحمل عليه بالرمح حتّى وضعه في ظهره، فلمّا وجد مسّ الرمح برك عليه فعضّ بوجهه وقطع طرف أنفه!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 312

فطعنه كعب بن جابر حتّى ألقاه عنه وقد غيّب السنان في ظهره، ثمَّ أقبل عليه يضربه بسيفه حتّى قتله!». «1»

وذكر ابن شهرآشوب أنّ بريراً (رض) برز بعد الحرّ (رض)، وهو يقول:

أنا بُرير وأبي خُضَيْر ليث يروع الأُسَد عند الزئر

يعرف فينا الخير أهل الخير أضربكم ولا أرى من ضير

كذاك فعل الخير في بُرير

وأنّ الذي قتله بُحير بن أوس الضبّي. «2»

أمّا الشيخ الصدوق فقد روى أنّ بُريراً (رض) برز من بعد عبداللّه بن أبي عروة الغفاري (رض)، «3» الذي برز من بعد حبيب بن مظاهر (رض)، وكان

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 313

برير يقول:

أنا بُريرٌ وأبي خُضَيْر لاخير فيمن ليس فيه خير

وأنّه قتل من الأعداء ثلاثين رجلًا ثُمَّ قُتل. «1»

وفي كتاب تسلية المجالس أنّ بريراً (رض) كان يحمل على القوم وهو يقول:

«إقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين، إقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريين، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول رب العالمين وذريّته الباقين.». «2»

مقتل عمرو بن قرضة الأنصاري (رض) ..... ص : 313

وروى الطبري يقول: «وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري يقاتل دون حسين وهو يقول:

قد علمتْ كتيبة الأنصارِ أنّي سأحمي حوزة الذّمار

ضرب غلام غيرِ نكسٍ شارِ دون حسين مهجتي وداري».

«3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 314

ويتابع الطبري فيقول: «قال أبومخنف، عن ثابت بن هبيرة: فقُتل عمرو بن قرظة بن كعب وكان مع الحسين، وكان عليٌّ أخوه مع عمر بن سعد! فنادى عليٌّ بن قرظة: يا حسين «1» ... أضللتَ أخي وغررته حتّى قتلته!؟ قال: إنّ اللّه لم يُضلَّ أخاك ولكنه هدى أخاك وأضلّك! قال: قتلني اللّه إنْ لم أقتلك أو أموت دونك! فحمل عليه، فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه، فحمله أصحابه فاستنقذوه فدوويَ بعدُ فبرأ.». «2»

مقتل نافع بن هلال الجملي (رض) ..... ص : 314

كان لنافع بن هلال الجملي (رض) مواقف بطولية عديدة في عرصة الطفّ، وكان من تلك المواقف مارواه الطبري عن يحيى بن هاني بن عروة «أنّ نافع بن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 315

هلال كان يُقاتل يومئذٌ وهو يقول:

أنا الهِزبرُ الجملي أنا على دين علي «1»

فخرج إليه رجلٌ يُقال له مُزاحم بن حُريث فقال: أنا على دين عثمان!

فقال له: أنت على دين شيطان! ثمّ حمل عليه فقتله، فصاح عمرو بن الحجّاج بالناس: يا حمقى أتدورن من تقاتلون!؟ فرسانَ المِصر، قوماً مستميتين! لايبرزنّ لهم منكم أحد، فإنّهم قليل وقلَّ ما يبقون، واللّه لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم. فقال عمر بن سعد: صدقتَ، الرأيُ ما رأيت. وأرسلَ إلى الناس يعزم عليهم ألّا يبارزُ رجلٌ منكم رجلًا منهم!». «2»

وكان نافع بن هلال الجملي (رض) قد كتب إسمه على أفواق نبله، فجعل يرمي بها مسمومةً وهو يقول:

أرمي بها معلمة أفواقها مسمومة تجري بها أخفاقها

ليملأنَّ أرضها رشاقها والنفس لاينفعها إشفاقها

فقتل إثني عشر رجلًا من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح! حتّى إذا فنيت نباله جرَّد فيهم سيفه فحمل عليهم وهو يقول:

أنا الهزبرُ الجملي أنا على دين علي

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 316

فتواثبوا عليه وأطافوا به

يضاربونه بالحجارة والنصال حتى كسروا عضديه، فأخذوه أسيراً، فأمسكه شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه يسوقونه حتّى أتى به عمر بن سعد، فقال له عمر: ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك!؟

قال: إنّ ربّي يعلمُ ما أردتُ. فقال له رجل وقد نظر الدماء تسيل على لحيته: أما ترى ما بك!؟ قال: واللّه لقد قتلتُ منكم إثني عشر رجلًا سوى من جرحتُ، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني!

فقال شمر لابن سعد: أقتله أصلحك اللّه! قال: أنت جئت به، فإن شئت فاقتله! فانتضى شمر سيفه، فقال له نافع: أما واللهِ لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى اللّه بدمائنا، فالحمد للّه الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. ثمّ قتله شمر لعنه اللّه. «1»

وقد روى الخوارزمي أنّ مقتل نافع بن هلال (رض) كان بعد مقتل سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض) حيث قال: «ثمّ خرج من بعده نافع بن هلال الجملي، وقيل:

هلال بن نافع، وجعل يرميهم بالسهام فلا يُخطي ء، وكان خاضباً يده ...». «2»

ويرى المحقّق السماوي (ره) أنّ مقتل نافع (رض) بعد مقتل عمرو بن قرظة (رض)، بعد أن قتل نافع (رض) عليّاً أخا عمرو بن قرظة، حيث يقول السماوي (ره): «وحدّث هاني بن عروة المرادي أنّه لمّا جالت الخيل بعد ضرب نافع عليّاً، حمل عليها نافع بن هلال، فجعل يضرب بها قدماً وهو يقول:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 317

إن تُنكروني فأنا ابن الجملي ديني على دين حسين بن علي». «1»

ولعلّ الشيخ السماوي (ره) قد استفاد ذلك من سياق نصوص الطبري.

أمّا الشيخ الصدوق (ره) فقد روى مقتل نافع (رض) بعد مقتل وهب بن وهب (رض)، وذكره بإسم (هلال بن حجّاج)،

«2» حيث قال (ره): «ثمّ برز بعده هلال بن حجّاج وهو يقول:

أرمي بها معلمة أفواقها (أفواهها) والنفس لاينفعها إشفاقها

فقتل منهم ثلاثة عشر رجلًا ثمّ قُتل.». «3»

أمّا ابن شهرآشوب (ره) فقد ذكر مقتله (رض) بعد مقتل زهير بن القين (رض) حيث قال: «ثمّ برز نافع بن هلال البجلي «4» قائلًا:

أنا الغلام اليمنيُّ البجلي ديني على دين حسين بن علي

أضربكم ضرب غلام بطلِ ويختم اللّه بخيرٍ عملي «5»

فقتل إثني عشر رجلًا، وروي سبعين رجلًا.». «1»

مقتل يزيد بن مغفل الجعفي (رض) «2» ..... ص : 317

قال المحقّق السماوي (ره): «وذكر أهل المقاتل والسير أنّه لمّا التحم القتال في اليوم العاشر استأذن يزيد بن مغفل الحسين عليه السلام في البراز فأذن له، فتقدّم وهو يقول:

أنا يزيدُ وأنا ابن مغفل وفي يميني نصل سيف منجل

أعلو به الهامات وسط القسطل «3»

عن الحسين الماجد المفضّل

ثُمّ قاتل حتّى قُتل.». «4»

لكنّ الخوارزمي «5» وابن شهرآشوب «6» ذكرا مثل هذه الأبيات في الرجز لإسم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 319

آخر هو (أنيس بن معقل الأصبحي)، ولعلّه هو يزيد بن مغفل الجعفي (رض)، والله العالم.

مصرع الموقَّع «1» بن ثمامة الأسدي الصيداوي (رض) ..... ص : 319

قال المحقّق السماوي (ره): «كان الموقّع ممّن جاء إلى الحسين في الطفّ، وخلص إليه ليلًا مع من خلص. قال أبومخنف: «2» إنّ الموقَّع صُرع فاستنقذوه قومه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 320

وأتوا به إلى الكوفة فأخفوه، وبلغ ابن زياد خبره فأرسل إليه ليقتله، فشفع فيه جماعة من بني أسد، فلم يقتله ولكن كبّله بالحديد ونفاه إلى الزارة، «1» وكان مريضاً من الجراحات التي به، فبقي في الزارة مريضاً مكبّلًا حتّى مات بعد سنة، وفيه يقول الكُميت الأسدي: وإنّ أباموسى أسيرٌ مُكبَّلُ- يعني به الموقَّع.». «2»

مقتل عمر «3» (عمرو) بن جنادة الأنصاري الخزرجي (رض) ..... ص : 320

كان جنادة بن كعب بن الحرث الأنصاري الخزرجي (رض) ممّن قتل في الحملة الأولى من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، وكان قد قتل من الأعداء ستّة عشر رجلًا، «4» وكان جنادة قد صحب الإمام عليه السلام من مكّة وجاء معه هو وأهله، وكان ابنه عمرو وهو ابن إحدى عشرة سنة «5» قد تقدّم- بعد مقتل أبيه (رض)- إلى الإمام عليه السلام يستأذنه في القتال، فأبى عليه السلام «وقال: هذا غلام قُتل أبوه في الحملة الأولى «6» ولعلّ أمّه تكره ذلك. قال: إنّ أمّي أمرتني! فأذن له فما أسرع أن قُتل ورُمي برأسه إلى جهة الحسين، فأخذته أمُّه ومسحت الدم عنه وضربت به رجلًا قريباً منها فمات! وعادت إلى المخيّم فأخذت عموداً، وقيل سيفاً، وأنشأت:

إنّي عجوز في النسا ضعيفه خاوية بالية نحيفه

أضربكم بضربة عنيفه دون بني فاطمة الشريفه

فردّها الحسين إلى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين». «1»

لكنّ الخوارزمي في المقتل ذكر مصرع جنادة ثم مصرع ابنه عمرو هكذا: «ثمّ خرج من بعده «2» جناده بن الحرث الأنصاري، «3» وهو يقول:

أنا جنادة أنا ابن الحارث لستُ بخوّارٍ ولا بناكثِ

عن بيعتي حتّى يقوم وارثي من

فوق شلوٍ في الصعيد ماكثِ

فحمل، ولم يزل يُقاتل حتّى قُتل.

ثمّ خرج من بعده عمرو بن جنادة، وهو ينشد ويقول:

أَضِق الخِناقَ من ابن هندٍ وارمِه في عِقره بفوارس الأنصارِ

ومهاجرين مخضّبين رماحهم تحت العجاجة من دم الكفّار

خضبت على عهد النبيّ محمّد فاليوم تُخضب من دمِ الفجّار

واليوم تُخضب من دماء معاشرٍ رفضوا القران لنصرة الأشرار

طلبوا بثأرهم ببدرٍ وانثنوا بالمرهفات وبالقنا الخطّار

واللّهِ ربي لا أزال مضارباً للفاسقين بمرهف بتّارِ

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 322

هذا عليَّ اليومَ حقٌّ واجبٌ في كلّ يوم تعانقٍ وحوار

ثمّ حمل، فقاتل حتّى قُتل». «1»

ثمّ يروي الخوارزمي الواقعة- التي ذكرها كلُّ من المحقّق السماوي (ره)، والمحقّق المقرّم (ره)- لشاب آخر، قائلًا: «ثُمَّ خرج من بعده شابٌ قُتل أبوه في المعركة، وكانت أمّه عنده، فقالت: يا بُنيّ اخرج فقاتل بين يدي ابن رسول اللّه حتى تُقتل! فقال: أَفعلُ. فخرج، فقال الحسين: هذا شابٌ قُتل أبوه، ولعلَّ أُمَّه تكره خروجه. فقال الشاب: أمّي أمرتني يا ابن رسول اللّه! فخرج وهو يقول:

أميري حسينٌ ونِعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير

عليٌّ وفاطمةٌ والداه فهل تعلمون له من نظير

ثُمّ قاتل فقُتل، وحُزَّ رأسه ورمي به إلى عسكر الحسين، فأخذت أمُّه رأسه وقالت له: أحسنتَ يا بُنيَّ! ياقُرَّة عيني وسرورَ قلبي!

ثمّ رمت برأس ابنها رجلًا فقتلته، وأخذت عمود خيمة وحملت على القوم وهي تقول:

أنا عجوزٌ في النسا ضعيفه بالية خاوية نحيفه

أضربكم بضربة عنيفه دون بني فاطمة الشريفه

فضربت رجلين فقتلتهما، فأمر الحسين عليه السلام بصرفها ودعا لها». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 323

مقتل الأخوين الغفاريين (رض) ..... ص : 323

يروي الطبري قائلًا: «فلمّا رأى أصحاب الحسين أنّهم قد كُثروا، وأنّهم لايقدرون على أن يمنعوا حسيناً ولا أنفسهم تنافسوا في أن يُقتلوا بين يديه، فجاءه عبداللّه وعبدالرحمن إبنا عزرة (عروة) «1» الغفاريّان، فقالا: يا

أبا عبداللّه، عليك السلام! حازنا العدوّ إليك فأحببنا أن نُقتل بين يديك، نمنعك وندفع عنك!

قال: مرحباً بكما أُدنوا منّي!

فدنوا منه، فجعلا يقاتلان قريباً منه، وأحدهما يقول:

قد علمتْ حقّاً بنو غِفارِ وخِندَفٌ بعد بني نزار

لنضربنَّ معشرَ الفُجّار بكلّ عضبٍ صارمٍ بتّار

يا قوم ذودوا عن بني الأحرار «2»

بالمشرفيّ والقنا الخطّار». «3»

أمّا الخوارزمي فقد ذكر أنَّ (قُرّة بن أبي قُرّة الغفاري) خرج بعد خروج (يحيى بن سليم المازني) وهو يقول:

قد علمتْ حقّاً بنو غفار وخندفٌ بعد بني نزارِ «1»

ثمَّ حمل فقاتل حتّى قُتِل. «2»

والظاهر أنّ هذا هو نفسه (عبداللّه بن عروة الغفاري)، ذلك لأنّ الخوارزمي يذكر أنّ أخاه (عبدالرحمن بن عروة) كان قد خرج بعد خروج عمرو بن قرظة، وأنّه كان يقول أيضاً:

قد علمتْ حقّاً بنو غفار وخندف بعد بني نزارِ

ثمّ قاتل حتّى قُتل. «3»

والجدير بالذكر أنّ ابن شهرآشوب كان قد ذكر أنّ عبداللّه قد قُتل في الحملة الأولى، «4» كما أنَّ ما ذكره المحقّق السماوي (ره) أنّ عبداللّه وأخاه عبدالرحمن كانا قد دنوا من الإمام عليه السلام، وجعلا يقاتلان قريباً منه، وإنّ أحدهما ليرتجز ويُتمّ له الآخر .. فلم يزالا يقاتلان حتّى قُتلا، «5» لايبعد أن يكون قتالهما هذا ومقتلهما أثناء

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 325

الحملة الأولى.

وقد ورد السلام عليهما من الناحية المقدّسة هكذا: «السلام على عبداللّه وعبدالرحمن ابني عروة بن حراق الغفاريين». «1»

مقتل حنظلة بن أسعد الشبامي والأخوين الجابريين سيف ومالك (رض) ..... ص : 325

روى الطبري قائلًا: «وجاء الفتيان الجابريّان سيف بن الحارث بن سريع، ومالك بن عبد «2» بن سريع، وهما إبنا عمّ وأخوان لأُمّ، فأتيا حسيناً فدنوا منه وهما يبكيان، فقال: أي ابنَيْ أخي! ما يُبكيكما؟ فواللّه إنّي لأرجو أن تكونا عن ساعة قريريْ عين.

قالا: جعلنا اللّه فداك! لا واللّه ما على أنفسنا نبكي، ولكنّا نبكي

عليك! نراك قد أُحيط بك ولانقدر على أن نمنعك!

فقال: جزاكما اللّه يا ابنيْ أخي بوُجْدكما من ذلك ومواساتكما إيّايَ بأنفسكما أحسن جزاء المتّقين.

وجاء حنظلة بن أسعد الشباميّ فقام بين يدي حسين، فأخذ يُنادي: يا قومِ! إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وما اللّه يريد ظلماً للعباد، ويا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التنادِ يومَ تُولّون مدبرين مالكم من اللّه من عاصم، ومن يُظللِ اللّهُ فماله من هادٍ، يا قومِ لا تقتلوا

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 326

حسيناً فيسحتكم اللّه بعذاب وقد خاب من أفترى.

فقال له حسين: يا ابن أسعد رحمك اللّه، إنّهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحقّ ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك! فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصادقين!؟

قال: صدقت جُعلت فداك! أنت أفقه منّي وأحقّ بذلك، أفلا نروح إلى الآخرة ونلحق بإخواننا؟

قال: رُحْ إلى خيرٍ من الدنيا وما فيها! وإلى مُلكٍ لايبلى!

فقال: السلام عليك أبا عبداللّه، صلّى اللّه عليك وعلى أهل بيتك، وعرّف بيننا وبينك في جنّته!

فقال: آمين آمين!

فاستقدم فقاتل حتّى قُتل.

ثُمّ استقدم الفتيان الجابريان يلتفتان إلى حسين ويقولان: السلام عليك يا ابن رسول اللّه!

فقال: وعليكما السلام ورحمة اللّه!

فقاتلا حتّى قُتلا». «1»

وقد ورد السلام على حنظلة من الناحية المقدّسة هكذا: «السلام على حنظلة بن أسعد الشِّباميّ». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 327

وعلى الجابريّن: «السلام على شبيب «1» بن الحارث بن سريع، السلام على مالك بن عبداللّه بن سريع». «2»

مقتل شوذب بن عبداللّه (رض) «3» ..... ص : 327

وروى الطبري أيضاً يقول: «وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر، فقال: يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع؟

قال: ما أصنع!؟ أُقاتل معك دون ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه

و آله حتّى أُقتل!

قال: ذلك الظنّ بك! أمّا الآن فتقدّم بين يدي أبي عبداللّه حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتّى أحتسبك أنا، فإنّه لوكان معيَ الساعة أحدٌ أنا أولى به منّي بك لسرّني أن يتقدّم بين يديَّ حتى أحتسبه، فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكلّ ما قدرنا عليه، فإنّه لاعمل بعد اليوم وإنّما هو الحساب!

.. فتقدّم فسلمّ على الحسين، ثمّ مضى فقاتل حتّى قُتل!». «4»

وقال الشيخ المفيد (ره): «وتقدّم بعده «5» شوذب مولى شاكر فقال: السلام عليك يا أبا عبداللّه ورحمة اللّه وبركاتُه، أستودعك اللّه وأسترعيك. ثمّ قاتل حتّى

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 328

قُتل رحمه اللّه.». «1»

مقتل عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض) ..... ص : 328

ثمَّ لمّا قُتل شوذب (رض) تقدّم عابس (رض) الى الإمام عليه السلام «ثمّ قال: يا أبا عبداللّه! أما واللّه ما أمسى على ظهر الأرض قريبٌ ولابعيدٌ أَعزّ عليَّ ولا أحبّ إليَّ منك! ولو قدرتُ على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشي ء أعزّ عليَّ من نفسي ودمي لفعلتُه! السلام عليك يا أبا عبداللّه، أُشهدُ اللّه أنّي على هديك وهَدْيِ أبيك.

ثمّ مشى بالسيف مصلتاً نحوهم وبه ضربةٌ على جبينه!». «2»

ويقول رجل همداني- يُقال له ربيع بن تميم- شهد ذلك اليوم: «لمّا رأيته مُقبلًا عرفته، وقد شاهدته في المغازي وكان أشجع الناس، فقلت: أيّها النّاس هذا أسدُ الأُسود! هذا ابن أبي شبيب! لايخرجنّ إليه أحدٌ منكم. فأخذ يُنادي: ألا رجلٌ لرجل!؟ فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة!

قال: فرمي بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك ألقى دِرعه ومِغْفَره، ثمّ شدَّ على الناس، فواللّه لرأيته يكرد «3» أكثر من مائتين من النّاس، ثمّ إنهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب فقُتل.

قال: فرأيتُ رأسه في أيدي رجالٍ ذوي عدَّة،

هذا يقول: أنا قتلته! وهذا يقول:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 329

أنا قتلته! فأتوا عمر بن سعد فقال: لا تختصموا، هذا لم يقتله سنان «1» واحد! ففرّق بينهم بهذا القول». «2»

مقتل الأخوين الأنصاريين (رض) ..... ص : 329

وهما سعد بن الحرث الأنصاري العجلانيّ (رض) وأخوه أبوالحتوف بن الحرث الأنصاري العجلاني (رض)، وكانا قد التحقا بالإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، يقول المحقّق السماوي (ره): «كانا من أهل الكوفة ومن المحكّمة، «3» فخرجا مع عمر بن سعد إلى قتال الحسين عليه السلام. قال صاحب الحدائق: فلمّا كان اليوم العاشر، وقُتل أصحاب الحسين فجعل الحسين يُنادي: ألا ناصرٌ فينصرنا.

فسمعته النساء والأطفال، فتصارخن، وسمع سعدٌ وأخوه أبوالحتوف النداء من الحسين عليه السلام والصراخ من عياله، فمالا بسيفيهما مع الحسين على أعدائه، فجعلا يُقاتلان حتّى قتلا جماعة وجرحا آخرين، ثمّ قُتلا معاً». «4»

وذكر صاحب الحدائق أنّهما (رض) قد قتلا من الأعداء ثلاثة نفر. «5»

وفي ضوء هذا الخبر: إذا كان المراد من «وقتل أصحاب الحسين» قتل أصحابه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 330

بعد الحملة العامة الأولى، فإنّ هذين الأنصاريين (رض) يكونان- حسب الظاهر- قد قتلا أواخر الحملة الأولى أو بعدها مباشرة، وإذا كان المراد من «وقتل أصحاب الحسين» قتل أصحابه جميعاً، فإنّ هذين الأنصاريين (رض) يكونان آخر من قُتل معه عليه السلام، والنصوص المتوفّرة في مقتلهما لاتساعد بأكثر من هذا على تشخيص ساعة مقتلهما في الملحمة.

مقتل الأنصار الجهنيين الثلاثة (رض) ..... ص : 330

وهم مجمع بن زياد بن عمرو الجهني (رض)، «1» وعبّاد بن المهاجر بن أبي المهاجر الجهني (رض)، «2» وعقبة بن الصلت الجهني (رض)، «3» وكان هؤلاء الأبرار

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 331

قد التحقوا بالإمام عليه السلام من مياه جهينة (منازل جهينة) وهو في طريقه من المدينة إلى مكّة، وثبتوا معه ولازموه، فلم ينفضّوا عنه حين انفض كثير من الأعراب عنه عليه السلام في زُبالة، فلما كان يوم العاشر قاتلوا بين يديه حتّى قتلوا رضوان اللّه عليهم.

مقتل يزيد بن ثبيط العبدي البصري (رض) ..... ص : 331
اشارة

كان ولداه عبداللّه وعبيداللّه رضي اللّه عنهما قد قُتلا في الحملة الأولى، «1» أمّا هو رضوان اللّه تعالى عليه فقد قُتل مبارزة، «2» وقد مرّت بنا ترجمته وقصة ارتحاله إلى الإمام عليه السلام من البصرة مع مجموعة من المجاهدين البصريين والتحاقهم بالإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة، وملازمتهم الإمام عليه السلام حتى فوزهم بالشهادة بين يديه. «3»

مقتل رافع بن عبداللّه (رض) مولى مسلم الأزدي (رض) ..... ص : 331

كان رافع بن عبداللّه (رض) قد خرج إلى الإمام الحسين عليه السلام مع مولاه مسلم بن كثير الأعرج الأزدي (رض) من الكوفة، وانضمّا إلى الإمام عليه السلام في كربلاء، ولمّا كان اليوم العاشر ونشب القتال قُتل مسلم بن كثير (رض) في الحملة الأولى، أمّا مولاه عبداللّه فتقدّم بعد صلاة الظهر مبارزاً للأعداء بين يدي الإمام الحسين عليه السلام،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 332

فقاتل ثمّ نال شرف الشهادة. «1»

مقتل حبشي بن قيس النهمي (رض) «2» ..... ص : 332

ومن أنصاره عليه السلام الذين قُتلوا معه في كربلاء حبشي (حبشة) «3» بن قيس النهمي (رض)، ولم نعثر في المصادر الأخرى على تفصيل مصرعه ومقتله.

مقتل زياد بن عريب الهمداني الصائدي (رض) «4» ..... ص : 332

وكنيته أبوعمرة «5» وهو ممن أدرك زمان النبيّ صلى الله عليه و آله، وقد روى الشيخ (ابن نما) عن مهران الكاهلي- أي مولى لبني كاهل- قال: شهدت كربلاء مع الحسين عليه السلام فرأيت رجلًا يُقاتل قتالًا شديداً، لايحمل على قوم إلّا كشفهم! ثمّ يرجع إلى الحسين عليه السلام ويرتجز ويقول:

أَبشر هُديتَ الرُشد يا ابن أحمدا في جنّة الفردوس تعلوا صعّدا

فقلت: من هذا؟ قالوا: أبوعمر النهشلي. «1» وقيل: الخثعمي فاعترضه عامر بن نهشل أحد بني اللات بن ثعلبة فقتله واحتزّ رأسه.

قال: وكان أبوعمرو هذا متهجّداً كثير الصلاة.». «2»

مقتل قعنب بن عمر النمري (رض) ..... ص : 332

ومن أنصاره عليه السلام الذين استشهدوا بين يديه في كربلاء قعنب بن عمر النمري البصري (رض)، الذي كان قد جاء إلى الإمام عليه السلام مع الحجّاج بن بدر السعدي (رض) من البصرة، والتحقا به في مكّة، ولم يزل ملازماً له، حتى نشب القتال يوم عاشوراء، فقاتل في الطفّ بين يدي الإمام عليه السلام حتّى قُتل رضوان اللّه عليه، «3» ولم تذكر المصادر التأريخية تفصيلًا لمصرعه إلّا أنّ الزنجاني نقل عن صاحب الذخيرة أنه قتل في الحملة الأولى، «4» وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة هكذا: «السلام على قعنب بن عمرو النمري». «5»

مقتل بكر بن حي التيمي (رض) ..... ص : 332

قال المحقّق السماوي (ره): «كان بكر ممّن خرج مع ابن سعد إلى حرب الحسين عليه السلام، حتّى إذا قامت الحرب على ساق، مال مع الحسين على ابن سعد، فقُتل بين يدي الحسين عليه السلام بعد الحملة الأولى، ذكره صاحب الحدائق «6» وغيره.». «7»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 334

ولم نعثر على تفصيل لمصرعه (رض) في مصادر أخرى.

مقتل سالم بن عمرو (رض) مولى بني المدينة ..... ص : 334

وقال المحقّق السماوي (ره) أيضاً: «كان سالم مولى لبني المدينة، وهم بطن من كلب، كوفيّاً من الشيعة، خرج إلى الحسين عليه السلام أيّام المهادنة، فانضمّ إلى أصحابه. قال في الحدائق: ومازال معه حتّى قُتل. «1»

وقال السروي: قُتل في أوّل حملة مع من قُتل من أصحاب الحسين عليه السلام. «2» وله في القائميات ذكر وسلام. «3»». «4»

مقتل الغلام التركي (رض) ..... ص : 334

قال الخوارزمي: «ثمّ خرج غلام تركيّ مبارز، قاري ء للقرآن، عارف بالعربية، وهو من موالي الحسين، فجعل يقاتل ويقول:

البحر من طعني وضربي يصطلي والجوُّ من سهمي ونبلي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي ينشقُّ قلب الحاسد المبجّل

فقتل جماعة، فتحاوشوه فصرعوه، فجاءه الحسين وبكي ووضع خدَّه على خدّه، ففتح عينيه ورآه فتبسّم، ثمّ صار إلى ربّه.». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 335

لكنّ ابن شهرآشوب ذكر هذه الأبيات لغلامٍ تركيّ للحرّ، قائلًا «وروي أنّه برز غلام تركيّ للحرّ، وجعل يقول ...»، كما ذكر أنه قتل سبعين رجلًا. «1»

أما المحقّق السماوي (ره) فقد قال في ترجمة (أسلم بن عمرو مولى الحسين بن علي عليه السلام): «كان أسلم من موالي الحسين، وكان أبوه تركيّاً، وكان ولده أسلم كاتباً. قال بعض أهل السير والمقاتل: إنّه خرج إلى القتال وهو يقول:

أميري حسينٌ ونِعمَ الأمير سرور فؤاد البشير النذير

فقاتل حتّى قُتل، فلمّا صُرع مشى إليه الحسين عليه السلام، فرآه وبه رمقٌ يومي إلى الحسين عليه السلام فاعتنقه الحسين ووضع خدّه على خدّه، فتبسّم وقال: من مثلي وابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله واضعٌ خدّه على خدّي، ثُمّ فاضت نفسه رضوان اللّه عليه». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 336

وقال صاحب ذخيرة الدارين: «ومشى الحسين عليه السلام إلى أسلم مولاه واعتنقه، وكان به رمق فتبسّم وافتخر بذلك.». «1»

مقتل بشر «2» بن عمرو بن الأُحدوث الحضرمي (رض) ..... ص : 336

ذكرنا فيما مضى في قائمة أسماء شهداء الحملة الأولى إسم «بشر بن عمرو الحضرمي» في جملة أولئك الشهداء رضوان اللّه عليهم، وقلنا في حاشية إسمه إنّ المحقّق السماوي (ره) ذكر أنّه قُتل في الحملة الأولى نقلًا عن قول ابن شهرآشوب السرويّ في المناقب. «3»

وقلنا: إننا بعد مراجعة كتاب المناقب وجدنا أنّ ابن شهرآشوب لم يذكره في أسماء شهداء

الحملة الأولى، «4» لكنّ الزنجاني في وسيلة الدارين ذكره في أسماء شهداء الحملة الأولى «5» وقال في ترجمته: «قال أهل السير: فلمّا ثبت القتال بين الفريقين تقدّم بشر بن عمرو الحضرمي إلى الحرب، وقاتل حتّى قُتل في الحملة الأولى مع من قُتل في أصحاب الحسين عليه السلام»، «6» ولانعلم من هم أهل السير الذين

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 337

عناهم الزنجاني!؟

لكنّ الطبري في تاريخه «1» روى أنّ آخر من بقي مع الإمام عليه السلام من أصحابه سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي (رض)، وبشير بن عمرو الحضرمي (رض).

و من الغريب أنَّ المحقّق السماوي (ره) «2» في موضع آخر من كتابه ذكر أيضاً أنّ بشراً الحضرمي (رض) قُتل في آخر أصحاب الإمام عليه السلام قبل سويد بن عمرو (رض)!.

وروى البلاذري يقول: «وقاتل بشير بن عمرو الحضرمي وهو يقول:

اليومَ يا نفسُ أُلاقي الرحمن واليومَ تُجزَين بكلّ إحسان

لاتجزعي فكلُّ شي ءٍ فان والصبر أحظى لكِ عند الديّان». «3»

وقد ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة هكذا: «السلام على بشر بن عمر الحضرمي، شكر اللّه لك قولك للحسين وقد أذن لك في الإنصراف: أكلتني اذن السباعُ حيّاً إن فارقتك! وأسأل عنك الركبان!؟ وأخذلك مع قلّة الأعوان!؟ لايكون هذا أبداً!». «4»

مقتل سويد بن عمرو بن أبي المطاع (رض) ..... ص : 337

روى الطبري أنّ سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي (رض) كان آخر من

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 338

بقي مع الحسين عليه السلام من أصحابه، «1» وقال المحقّق السماوي (ره) في ترجمته: «كان سويد شيخاً شريفاً عابداً كثير الصلاة، وكان شجاعاً مجرّباً في الحروب، كما ذكره الطبري والداوودي». «2»

وقال السيّد ابن طاووس (ره): «وتقدّم سويد بن عمرو بن أبي المطاع، وكان شريفاً كثير الصلاة، فقاتل قتال الأسد الباسل، وبالغ في الصبر على

البلاء النازل حتّى سقط بين القتلى وقد أُثخن بالجراح، ولم يزل كذلك وليس به حراك، حتّى سمعهم يقولون: قُتل الحسين. فتحامل وأخرج من خفّه سكيناً، وجعل يقاتلهم بها حتّى قتل رضوان اللّه عليه.». «3»

وقال المحقّق السماوي (ره): «وقال أهل السير: إنّ بشراً الحضرمي قُتل، فتقدّم سويد وقاتل حتّى أُثخن بالجراح، وسقط على وجهه فظُنَّ بأنّه قُتل، فلمّا قُتل الحسين عليه السلام وسمعهم يقولون: قُتل الحسين. وجد به إفاقة، وكانت معه سكّين خبّأها، وكان قد أُخذ سيفه منه، فقاتلهم بسكينه ساعة، ثمّ إنّهم عطفوا عليه، فقتله عروة بن بكّار التغلبي، وزيد بن ورقاء الجهني. «4»». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 339

قصّة الضحّاك بن عبداللّه المشرقي! ..... ص : 339

قال الطبري: «قال أبومخنف، حدّثنا عبداللّه بن عاصم الفائشيّ- بطن من همدان- عن الضحّاك بن عبداللّه المشرقي قال: قدمتُ ومالك بن النضر الأرحبي على الحسين، فسلّمنا عليه ثمّ جلسنا إليه، فردّ علينا ورحّب بنا، وسألنا عمّا جئنا له، فقلنا جئنا لنسلّم عليك وندعوا اللّه لك بالعافية، ونُحدث بك عهداً، ونخبرك خبر النّاس، وإنّا نحدّثك أنهم قد جمعوا على حربك! فَرِ رأيك.

فقال الحسين عليه السلام: حسبي اللّه ونعم الوكيل.

قال: فتذممّنا وسلّمنا عليه ودعونا اللّه له!

قال: فما يمنعكما من نصرتي!؟

فقال مالك بن النضر: عليَّ دَين، ولي عيال!!

فقلت: إنّ عليَّ دَيناً، وإنّ لي لعيالًا، ولكنّك إنْ جعلتني في حِلّ من الإنصراف إذا لم أجد مقاتلًا، قاتلتُ عنك ما كان لك نافعاً وعنك دافعاً!

قال: قال: فأنتَ في حِلّ! فأقمتُ معه.». «1»

ويستفاد من هذا المتن أنّ هذا اللقاء كان في الطريق إلى كربلاء، «2» أو في كربلاء قبل الحصار، ذلك لأنّ مالك بن النضر كان قد ترك الإمام عليه السلام، ولايكون ذلك بمقدوره إلّا قبل الحصار.

ثمّ نجد الطبري يروي بنفس السند

عن الضحّاك هذا تفاصيل عن وقائع مهمّة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 340

في ليلة عاشوراء، وفي يوم عاشوراء، منها احتجاج الإمام عليه السلام على أعدائه قبل نشوب الحرب.

ثمّ يروي الطبري بنفس السند عن الضحّاك المشرقي كيف استأذن الإمام عليه السلام بالتخلّي عنه آخر الأمر، وكيف فرّ من الميدان، وكيف نجا من القتل!!

قال الضحّاك: «لمّا رأيتُ أصحاب الحسين قد أُصيبوا، وقد خَلُص إليه وإلى أهل بيته، ولم يبق معه غيرُ سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي، وبشير بن عمرو الحضرمي، قلت له: يا ابن رسول اللّه! قد علمتَ ما كان بيني وبينك، قلتُ لك: أقاتلُ عنك ما رأيت مقاتلًا، فإذا لم أرَ مقاتلًا فأنا في حلّ من الإنصراف.

فقلتَ: نعم.

قال: صدقتَ! وكيف لك بالنجاء؟ إنْ قدرتَ على ذلك فأنتَ في حِلّ! قال فأقبلتُ إلى فرسي وقد كُنت حيث رأيتُ خيل أصحابنا تُعقَر أقبلت بها حتّى أدخلتها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت، وأقبلتُ أقاتل معهم راجلًا، فقتلتُ يومئذٍ بين يدي الحسين رجلين، وقطعتُ يدَ آخر، وقال لي الحسين يومئذٍ مراراً لاتُشلل! لايقطع اللّه يدك! جزاك اللّه خيراً عن أهل بيت نبيّك صلى الله عليه و آله.

فلمّا أذن لي استخرجتُ الفرس من الفسطاط، ثمّ استويتُ على متنها ثمّ ضربتها، حتّى إذا قامت على السنابك رميتُ بها عرض القوم فأفرجوا لي، واتبعني منهم خمسة عشر رجلًا، حتّى انتهيتُ إلى شُفيّة قرية قريبة من شاطي ء الفرات، فلمّا لحقوني عطفتُ عليهم، فعرفني كثير بن عبداللّه الشعبي، وأيوب بن مشرح الخيوانيّ، وقيس بن عبداللّه الصائدي، فقالوا: هذا الضحّاك بن عبداللّه المشرقي، هذا ابن عمّنا! ننشدكم اللّه لما كففتم عنه! فقال ثلاثة نفر من بني تميم كانوا معهم:

بلى والله، لنجيبنّ إخواننا وأهلَ دعوتنا إلى ما أحبّوا

من الكفّ عن صاحبهم. قال:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 341

فلمّا تابع التميميون أصحابي كفّ الآخرون، قال: فنجّاني اللّه!». «1»

أسماء أخرى وملاحظات: ..... ص : 341

1- مالك بن دودان:

قال ابن شهرآشوب السروي: «ثمّ برز مالك بن دودان وأنشأ يقول:

إليكم من مالك الضرغام ضرب فتىً يحمي عن الكرام

يرجو ثواب اللّه ذي الإنعام». «2»

2- أنيس بن معقل الأصبحي:

وقال أيضاً: «ثمّ برز أنيس بن معقل الأصبحي وهو يقول:

أنا أنيس وأنا ابن معقل وفي يميني نصل سيف مصقل

أعلو بها الهامات وسط القسطل عن الحسين الماجد المفضّل

ابن رسول اللّه خير مُرسل».

فقتل نيفاً وعشرين رجلًا.». «3»

3- ربيعة بن خوط:

قال الحائري في ذخيرة الدارين: «نزل الكوفة، وكان بها إلى أن جاء

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 342

الحسين عليه السلام من مكّة إلى العراق حتّى نزل بكربلاء، ثمّ خرج ربيعة بن خوط من الكوفة وجاء إلى الحسين عليه السلام مع ابن عمّه حبيب، وكان حبيب معه إلى أن قُتل بين يديه في الحملة الأولى مع من قُتل من أصحاب الحسين عليه السلام». «1»

4- زيد بن معقل:

عدّه الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، «2» وذكره ابن شهرآشوب السروي في المناقب، «3» وقد ورد عليه السلام في زيارة الناحية المقدّسة. «4»

5- هلال بن الحجّاج:

ذكره الشيخ الصدوق قائلًا: «ثمّ برز من بعده- أي من بعد وهب بن وهب النصراني (رض)- هلال بن الحجّاج وهو يقول:

أرمي بها معلمة أفواقها (أفواهها) والنفس لاينفعها إشفاقها

فقتل منهم ثلاثة عشر رجلًا ثمّ قُتل.». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 343

6- بدر بن رقيط وإبنيه

ورد في الزيارة الرجبية والشعبانية التي رواها السيّد ابن طاووس (ره) هكذا:

«السلام على بدر بن رقيط وإبنيه عبداللّه وعبيداللّه». «1»

أمّا في زيارة الناحية المقدّسة فقد ورد السلام هكذا: «السلام على زيد بن ثبيت القيسي، السلام على عبداللّه

وعبيداللّه ابني يزيد بن ثبيت القيسي». «2»

ومن الواضح أنّ هذا ناشي ء عن تصحيف النُسّاخ، إذ لم يُعرف أحدٌ من أنصار الإمام عليه السلام من شهداء الطفّ مع إبنين له بهذين الإسمين: عبداللّه وعبيداللّه غير يزيد بن ثبيط العبدي (القيسي) البصري (رض) كما ضبط إسمه المحقّق السماوي (ره).

7- خالد بن عمرو بن خالد الأزدي:

وقد ذكره ابن شهرآشوب السروي قائلًا: «ثمّ برز إبنه خالد- أي ابن عمرو بن خالد الأزدي- وهو يقول:

صبراً على الموت بني قحطان كيما تكونوا في رضى الرحمن

ذي المجد والعزّة والبرهان وذو العُلى والطول والإحسان

يا أبتا قد صرت في الجنان في قصر درٍّ حسن البنيان». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 344

وعمرو بن خالد وهو من شهداء الطفّ ويُكنّى بأبي خالد، «1» ليس من الأزد، بل هو أسدي صيداوي، ولم يذكر المؤرّخون والرجاليون الذين ترجموا له بأنّ خالداً إبنه كان معه في شهداء الطفّ.

8- جابر بن عروة الغفاري:

قال النمازي: «لم يذكروه، وهو من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله شهد بدراً وغيرها، وكان شيخاً كبيراً تعصّب بعصابة ترفع حاجبيه عن عينيه، فلمّا رأى غربة مولانا الحسين صلوات اللّه عليه، إستأذن، فقال له الحسين: شكر اللّه سعيك يا شيخ. فقاتل وقتل جمعاً حتّى استشهد بين يديه. نقل ذلك كلّه في الناسخ عن أبي مخنف، وكذا في فرسان الهيجا، وعطيّة الذرّة». «2»

ولايخفى على المتتبّع أنّ هذه الترجمة منسوبة في المصادر الأخرى إلى الصحابي الجليل أنس بن الحارث الأسدي الكاهلي (رض). «3»

9- عمرو بن جندب الحضرمي:

قال النمازي: «من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، وشهد في الجمل وصفين معه، ووفّق للشهادة يوم الطفّ، وتشرّف بسلام الناحية المقدّسة». «4»

10- شبيب بن جراد الكلابي الوحيدي:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 345

قال النمازي: «من

أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، من شجعان الشيعة في الكوفة، وله ذكر في المغازي والحروب سيّما في صفّين، وبايع مسلماً، وكان يأخذ البيعة له حتّى إذا رأى الخذلان انحرف وخرج مع عمر بن سعد إلى كربلاء، فلمّا جاء الشمر بكتاب ابن زياد وايقن بالحرب لحق بالحسين عليه السلام ليلة عاشوراء، وانضمّ إلى أبي الفضل العبّاس لكونه من قبيلته، «1» واستشهد يوم عاشوراء بين يدي الحسين عليه السلام».

11- جعبة بن قيس بن مسلمة:

قال ابن حجر في الإصابة: «جعبة بن قيس بن مسلمة بن طريف، قُتل مع الحسين بن علي، قاله الكلبي.». «2»

12- أبوالهياج:

وقال ابن حجر أيضاً: «أبوالهياج قُتل مع الحسين. قال: ذكر الواقدي في مقتل الحسين إنّ أبا الهياج قُتل معه.». «3»

13- يزيد بن حُصين الهمداني المشرقيّ:

يرد ذكره في بعض كتب التأريخ والتراجم، «4» وينسب إليه كلّ ما تنسبه كتب التأريخ والتراجم الأخرى لبرير بن خضير الهمداني المشرقيّ (رض)، وهو تصحيف ظاهر لبرير بن خضير، وهذا ممّا لايخفى على المتأمّل بدقّة، وذهب إلى

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 346

ماقلناه أيضاً الشيخ التستري (ره) في قاموس الرجال. «1»

14- عمرو بن مطاع الجعفي «2»

قال ابن شهرآشوب السروي: «ثمّ برز عمرو بن مطاع الجعفي وقال:

اليومَ قد طاب لنا الفراع دون حسينِ الضرب والسطاع «3»

ترجو بذاك الفوزُ والدفاع من حرِّ نارٍ حين لا امتناع». «4»

وقال الخوارزمي: «ثمّ خرج من بعده- أي من بعد الكاهلي (رض)- عمر بن مطاع الجعفي، وهو يقول:

أنا ابن جعفي وأبي مطاع وفي يميني مرهفٌ قطّاع

وأسمرٌ سنانه لمّاعُ يُرى له من ضوئه شعاعُ

قد طاب لي في يومي القراع دون حسينٍ وله الدفاع

ثمّ حمل فقاتل حتى قُتل». «5»

15- عبدالرحمن بن عبداللّه اليزني:

قال ابن شهرآشوب السرويّ: «ثمّ برز عبدالرحمن بن عبداللّه اليزني قائلًا:

أنا

ابن عبداللّه من آل يزن ديني على دين حسين وحسن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 347

أضربكم ضرب فتىً من اليمن أرجو بذاك الفوز عند المؤتمن». «1»

وذكره محمد بن أبي طالب أيضاً، وأتمّ قائلًا: «ثمّ حمل فقاتل حتى قُتل». «2»

16- يحيى بن سليم المازني

ثم قال ابن شهرآشوب: «ثم برز يحيى بن سليم المازني وهو يقول:

لأضربنّ القوم ضرباً فيصلا ضرباً شديداً في العدى معجّلا

لاعاجزاً فيها ولا مولولا ولا أخاف اليوم موتاً مقبلا». «3»

وذكره الخوارزمي أيضاً بتفاوت في الشعر. «4»

17- جبلّة بن عبداللّه

وقد ورد السلام عليه في الزيارة الرجبية والشعبانية التي رواها السيّد ابن طاووس، «5» والظاهر أنّ هذا الإسم تصحيف ل «جبلّة بن عليّ الشيباني» الذي ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة. «6»

18- سعد بن حنظلة التميمي:

قال الخوارزمي: «ثم خرج من بعده- أي من بعد خالد بن عمرو بن خالد الأزدي (وقد مرَّ ذكره)- سعد بن حنظلة التميمي، وهو يقول:

صبراً على الأسياف والأسنّه صبراً عليها لدخول الجنّه

وحور عين ناعمات هنّه لمن يريد الفوز لابالظنّه

يا نفس للراحة فاطرحنّه وفي طلاب الخير فاطلبنّه

ثمّ حمل وقاتل قتالًا شديداً فقُتل». «1»

وذكره أيضاً ابن شهرآشوب السروي بتفاوت يسير في الشعر. «2»

ويُلاحظ أنّ مصادر تأريخية أخرى «3» ذكرت نصيراً آخر غير هذا وهو «حنظلة بن أسعد الشبامي» الذي ورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة، «4» كما أنّ مصادر تأريخية أخرى ذكرت هذا الشعر لنصير آخر هو عبدالرحمن الأرحبي (رض). «5»

19- عمير بن عبداللّه المذحجي:

ثم قال الخوارزمي: «ثمّ خرج من بعده عمير بن عبداللّه المذحجي وهو يقول:

قد علمتْ سعدُ وحيّ مذحجِ أنّيَ ليث الغاب لم أهجهجِ

أعلو بسيفي هامة المدجَّجِ وأترك القرن لدى التعرّج

فريسة الضبع الأزلّ الأعرجِ فمن تراه واقفاً بمنهجي

ولم يزل يقاتل قتالًا شديداً،

حتّى قتله مسلم الضبابي، وعبداللّه البجلي،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 349

اشتركا في قتله». «1»

وذكره أيضاً ابن شهرآشوب السرويّ بتفاوت يسير في الشعر. «2»

20- إبراهيم بن الحصين الأسدي:

قال ابن شهرآشوب السروي: «ثمّ برز إبراهيم بن الحصين الأسدي يرتجز:

أضرب منكم مفصلًا وساقا ليُهرقَ اليوم دمي إهراقا

ويُرزق الموت أبو إسحاقا أعني بني الفاجرة الفسّاقا

فقتل منهم أربعة وثمانين رجلًا!». «3»

21- دارم بن عبداللّه الصائدي:

ذكره أبومحمّد علي بن أحمد الأندلسي «4» وقال: «قُتل مع الحسين»، وذكره أبوعبيد «5» وقال أيضاً: «قُتل مع الحسين»، وذكره الشيخ الطوسي أيضاً في رجاله. «6»

22- يحيى بن هاني بن عروة

كان يحيى بن هاني من وجوه العرب، والمعروفين بينهم، وأبوه هاني بن عروة قُتل بالكوفة، قال المزي: يحيى بن هاني بن عروة بن قعاص، «7» أبوداود

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 350

الكوفي، وكان من أشراف العرب، وكان أبوه ممّن قتله عبيداللّه بن زياد في شأن الحسين بن عليّ بن أبي طالب. وعن شعبة: كان سيّد أهل الكوفة. وعن أبي حاتم:

صالح من سادات أهل الكوفة. «1»

وقال المامقاني: «يحيى بن هاني بن عروة المرادي العطيفي، نسبة إلى بني عطيف بطن من مراد، وقد ذكر أهل السير: أنه لمّا قُتل هاني مع مسلم بن عقيل، فرَّ إبنه يحيى واختفى عند قومه خوفاً من ابن زياد، فلمّا سمع بنزول الحسين بكربلا جاء وانضمّ إليه ولزمه إلى أن شبّ القتال يوم الطفّ، فتقدّم وقتل من القوم رجالًا كثيرة ثمّ نال شرف الشهادة رضوان اللّه عليه»، «2» ولكننا لم نعثر- حسب متابعتنا- على أحد من أهل السير الأقدمين حكى ذلك!

ويلاحظ أيضاً أنّ الطبري في تأريخه يروي عن هشام بن محمّد، عن أبي مخنف، عن يحيى بن هاني ء بن عروة، أنّ نافع بن هلال كان يقاتل

يومئذٍ وهو يقول: أنا الجملي، أنا على دين عليّ ... إلى آخر قصة قتله مزاحم بن حريث. «3»

وهذا كاشف عن أن يحيى بن هاني لم يكن من شهداء الطفّ يوم عاشوراء، فتأمّل!

23- الهفهاف بن المهنّد الراسبي «4» البصري

قال الزنجاني: «ذكر في ذخيرة الدارين ص 257: الهفهاف بن المهنّد الراسبي البصري الذي قُتل يوم الطفّ بعد شهادة الحسين على ما رواه حميد بن أحمد في

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 351

كتاب الحدائق، قال: كان الهفهاف هذا فارساً شجاعاً بصرياً، من الشيعة ومن المخلصين في الولاء، له ذكر في المغازي والحروب، وكان من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، وحضر معه مشاهده كلّها، ولمّا عقد الألوية أميرالمؤمنين عليه السلام يوم صفين ضمّ تميم البصرة إلى الأحنف بن قيس، وأمّر على حنظلة البصرة أَعيَن بن ضبعة، وعلى أزد البصرة الهفهاف بن المهنّد الراسبي الأزدي ... وكان ملازماً لعليّ عليه السلام إلى أن قُتل، فانضمّ بعده إلى إبنه الحسن عليه السلام، ثمّ إلى الحسين عليه السلام بعد صلاة العصر، «1» سأل: أين الحسين؟ فدخل على عمر بن سعد فسأل القوم: ما الخبر أين الحسين بن علي؟ فقالوا له: من أنت؟

فقال: أنا الهفهاف الراسبي البصري جئت لنصرة الحسين عليه السلام حين سمعت خروجه من مكّة إلى العراق.

فقالوا له: وقد قتلنا الحسين وأصحابه وأنصاره وكلّ من لحق به وانضمّ إليه، ولم يبق غير النساء والأطفال وابنه العليل علي بن الحسين، أما ترى هجوم القوم على المخيّم وسلبهم بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فلمّا سمع الهفهاف بقتل الحسين عليه السلام وهجوم الناس انتضى سيفه وهو يرتجز ويقول:

يا أيّها الجندَ المجنّدأنا الهفهاف بن المهنّدأحمي عيالات محمّد

ثمّ شدّ عليهم كليث العرين يضربهم بسيفه، فلم يزل

يقتل كلَّ من دنا منه من عيون الرجال حتّى قتل من القوم جماعة كثيرة سوى من جرح، وقد كانت الرجال

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 352

تشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب، وهو في ذلك يرتجز بالشعر المتقدّم وقد أُثخن بالجراح، فصاح عمر بن سعد بقومه:

الويل لكم! إحملوا عليه من كلّ جانب. ثمّ قال علي بن الحسين عليه السلام في ذلك اليوم:

قلّما رأى الناس منذ بعث اللّه محمداً فارساً بعد علي بن أبي طالب قتل ما قتل بعده كهذا الرجل. فتداعوا عليه فأقبل خمسة عشر نفراً «1» فاحتوشوه حتّى قتلوه في حومة الحرب بعدما عقروا فرسه رضوان اللّه عليه». «2»

24- سليمان بن سليمان الأزدي

ورد السلام عليه في زمرة الشهداء في الزيارة الرجبية والشعبانية التي رواها السيّد ابن طاووس رحمه اللّه، وكذلك ورد السلام فيها في زمرة الشهداء على كلّ من الأسماء التالية:

25- عامر بن مالك.

26- منيع بن زياد.

27- عامر بن جليدة.

28- حمّاد بن حمّاد الخزاعي.

29- رميث بن عمرو. «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 353

30- منذر بن المفضّل الجعفي.

31- حيّان بن الحارث. «1»

32- عمر بن أبي كعب. 33- سليمان بن عون الحضرمي.

34- عثمان بن فروة الغفاري.

35- غيلان بن عبدالرحمن.

36- قيس بن عبدالله الهمداني.

37- عمر بن كنّاد.

38- زائدة بن مهاجر. «2»

39- سليمان بن كثير.

40- سويد مولى شاكر. «3»

وقد أعرضنا عن ذكر أسماء أخرى لأنها برأينا تصحيفات ظاهرة لأسماء أنصار معروفين في كتب التواريخ والتراجم. «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 354

مقاتل ومصارع بني هاشم ..... ص : 354

اشارة

وبعد ما استشهدت الصفوة العظيمة من أصحاب الامام عليه السلام هبّ أبناء الأسرة النبوية شباباً وأطفالًا للتضحية والفداء، وهم بالرغم من صغر أسنانهم كانوا كالليوث لم يرهبهم الموت ولم تفزعهم الأهوال، وتسابقوا بشوق إلى ميادين الجهاد،

وقد ظنَّ الإمام عليه السلام على بعضهم بالموت، فلم يسمح لهم بالجهاد إلّا أنهم أخذوا يتضرّعون إليه ويقبّلون يديه ورجليه ليأذن لهم في الدفاع عنه. والمنظر الرهيب الذي يذيب القلوب، ويذهل كل كائن حي هو أنّ أولئك الفتية جعل يودّع بعضهم بعضاً الوداع الأخير فكان كلّ واحد منهم يوسع أخاه وابن عمه تقبيلًا، وهم غارقون بالدموع حزناً وأسى على ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله حيث يرونه وحيداً غريباً قد أحاطت به جيوش الأعداء، ويرون عقائل النبوة ومخدّرات الوحي وقد تعالت أصواتهن بالبكاء والعويل .. وساعد اللّه الامام عليه السلام على تحمّل هذه الكوارث التي تقصم الأصلاب، وتذهل الألباب، ولايطيقها أيّ إنسان إلّا من إمتحن الله قلبه للايمان، «1» بل لايطيقها إلّا من عصمه اللّه بعصمة الإمامة.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 355

مقتل عليّ الأكبر عليه السلام ..... ص : 355
اشارة

أمّا أوّل الهاشميين «1» الذين تقدّموا إلى الشهادة بين يدي الإمام أبي عبداللّه الحسين عليه السلام فهو إبنه عليٌّ الأكبر عليه السلام. «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 357

وقد لايسع الواصف الساعي إلى وصفه بما يكشف عن عِظم شأنه وعلّو منزلته وسموّ مقامه إلّا أن يتمسّك بالوصف الجامع المانع الذي وصفه به أبوه الحسين عليه السلام حين قال: «غلامٌ أشبه الناس برسول اللّه صلى الله عليه و آله خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً!!».

وكان عمره الشريف يومئذٍ- على أعلى الأقوال- سبعاً وعشرين سنة، «1» وعلى- أقلّها- ثماني عشرة سنة. «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 358

قال الخوارزمي يصف خروج علي الأكبر عليه السلام إلى قتال القوم: «فتقدّم عليّ بن الحسين، وأمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود ا لثقفي، «1» وهو يومئذ ابن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 359

ثماني عشرة سنة، فلمّا رآه الحسين رفع شيبته نحو السماء، وقال:

أللّهمَّ

اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً برسولك محمّد صلى الله عليه و آله، كنّا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه! أللّهمّ فامنعهم بركات الأرض، وإنْ منعتهم ففرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا، ثمّ عدوا علينا يقاتلونا ويقتلونا!.

ثم صاح الحسين بعمر بن سعد: مالك! قطع اللّه رحمك، ولابارك اللّه في أمرك، وسلّط عليك من يذبحك على فراشك، كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي، من رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ثمّ رفع صوته وقرأ: «إنّ اللّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّية بعضها من بعض والله سميع عليم».

ثمّ حمل عليّ بن الحسين وهو يقول:

أنا عليُّ بن الحسين بن علي نحن وبيت اللّه أولى بالنبي

واللّه لايحكم فينا ابن الدعي أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

أضربكم بالسيف حتّى يلتوي ضرب غلام هاشميّ علوي

فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ أهل الكوفة لكثرة من قتل منهم، حتّى أنه روي: أنه على عطشه قتل مائة وعشرين رجلًا! ثمّ رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة، فقال: يا أبة! العطش قد قتلني! وثقل الحديد قد أجهدني! فهل إلى شربة من ماءٍ سبيل؟ أتقوّى بها على الأعداء!

فبكى الحسين وقال: يا بُنيّ! عزّ على محمّد، وعلى عليّ، وعلى أبيك، أن تدعوهم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 360

فلايجيبونك، وتستغيث بهم فلايُغيثونك، يا بُنيّ هاتِ لسانك.

فأخذ لسانه فمصّه! ودفع إليه خاتمه وقال: خُذ هذا الخاتم في فيك، وارجع إلى قتال عدوّك، فإني أرجو أن لاتمسي حتّى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربة لاتظمأ بعدها أبداً!

فرجع عليّ بن الحسين إلى القتال، وحمل وهو يقول:

الحربُ قد بانت لها حقائق وظهرت من

بعدها مصادق

واللّه ربِّ العرش، لانفارق جموعكم أو تُغمد البوارقُ

وجعل يُقاتل حتّى قتل تمام المائتين! ثمّ ضربه منقذ بن مُرّة العبدي «1» على مفرق رأسه ضربة صرعه فيها، «2» وضربه الناس بأسيافهم، فاعتنق الفرس، فحمله

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 361

الفرس إلى عسكر عدوّه! فقطّعوه بأسيافهم إرباً إرباً! فلمّا بلغت روحه التراقي نادى بأعلى صوته: يا أبتاه! هذا جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً! وهو يقول لك: العجَل! فإنّ لك كأساً مذخورة!

فصاح الحسين: قتل اللّه قوماً قتلوك يا بُنيّ! ما أجرأهم على اللّه وعلى انتهاك حرمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله! على الدنيا بعدك العفا.

قال حميد بن مسلم: لكأنّي أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس طالعة، تنادي بالويل والثبور، تصيح: واحبيباه! واثمرة فؤاداه! وانور عيناه! فسألت عنها فقيل: هذه زينب بنت علي! «1» ثمّ جاءت حتّى انكبّت عليه، فجاء إليها الحسين حتّى أخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط، ثمّ أقبل مع فتيانه إلى ابنه فقال: إحملوا أخاكم.

فحملوه من مصرعه حتّى وضعوه عند الفسطاط الذي يقاتلون أمامه».»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 362

ويقول السيّد المقرّم في كتابه المقتل: «1» «فأتاه الحسين عليه السلام وانكبّ عليه واضعاً خدّه على خدّه! «2» وهو يقول:

على الدنيا بعدك العفا! ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول!؟ «3» يعزُّ على جدّك وأبيك أن تدعوهم فلايجيبونك، وتستغيث بهم فلا يغيثونك!

ثمّ أخذ بكفّه من دمه الطاهر ورمى به نحو السماء، فلم يسقط منه قطرة! وفي هذا جاءت زيارته:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 363

«بأبي أنت وأميّ من مذبوح ومقتول من غير جرم، بأبي أنت وأمّي، دمك المرتقى به إلى حبيب اللّه، بأبي أنت وأمّي من مقدّم

بين يدي أبيك يحتسبك، ويبكي عليك محترقاً عليك قلبه، يرفع دمك الى عنان السماء لايرجع منه قطرة، ولاتسكن عليك من أبيك زفرة.». «1»

ولعليٍّ الأكبر عليه السلام سلام في زيارة الناحية المقدّسة كاشف عن منزلته السامية ومقامه الشامخ، فقد ورد السلام عليه فيها هكذا:

«السلام عليك يا أوّل قتيل من نسل خير سليل، من سلالة إبراهيم الخليل، صلّى اللّه عليك وعلى أبيك، إذ قال فيك: قتل اللّه قوماً قتلوك يا بُنيَّ! ما أجرأهم على الرحمن، وعلى انتهاك حرمة الرسول!؟ على الدنيا بعدك العفا! كأنّي بك بين يديه ماثلًا، وللكافرين قاتلًا قائلًا:

أنا عليُّ بن الحسين بن علي نحن وبيتِ اللّه أولى بالنبي

أطعنكم بالرمح حتّى ينثني أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

ضرب غلام هاشميّ عربي واللّهِ لايحكم فينا ابن الدعي

حتى قضيت نحبك، ولقيت ربّك، أشهد أنك أولى باللّه وبرسوله، وأنّك ابن رسوله، وحجّته وأمينه، وابن حجّته وأمينه، حكم اللّه على قاتلك مُرّة بن منقذ بن النعمان العبدي، لعنه اللّه وأخزاه ومن شركه في قتلك، وكانوا عليك ظهيراً، أصلاهم اللّه جهنم وساءت مصيراً، وجعلنا اللّه من ملاقيك، ومرافقي جدّك وأبيك وعمّك وأخيك، وأمّك المظلومة، وأبرء إلى اللّه من أعدائك أولي الجحود، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 364

هل كان لعليّ الأكبر ذريّة؟ ..... ص : 364

صرّح المرحوم العلوي بأنّ علي الاكبر عليه السلام لم يخلف عقباً وقال: روى ذلك غير واحد من شيوخنا، «1» وذكر حسام الدين في الحدائق الوردية «2» بأنه كان له عقب.

ونحن بدورنا نعتقد بهذا القول الثاني، ويشهد لذلك ما ورد في زيارته عليه السلام المرويّة عن أبي حمزة الثمالي أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال له:

«ضع خدّك على القبر وقل: صلى اللّه عليك يا أبا الحسن».

وكما يحتمل أن تكون الكنية للتفأل

بالولد الحسن، فإنه يحتمل أيضاً أنّها صدرت على الحقيقة وأنه كان له ولد إسمه الحسن.

ورواية أحمد بن أبي نصر البزنطي تشهد بأنه كان متزوجاً من جارية له ولد منها، فإنه قال للإمام الرضا عليه السلام: الرجل يتزوج المرأة وأمَّ ولد أبيها؟

قال عليه السلام: لا بأس. فقال أحمد: بلغنا أنّ عليّ بن الحسين السجّاد تزوّج بنت الحسن بن علي عليهما السلام وأمّ ولد أبيها؟ فقال عليه السلام:

ليس هكذا إنّما تزوج ابنة الحسن عليه السلام وأُمَّ ولد لعليّ بن الحسين المقتول عندكم.

ومن المعلوم أنّ الجارية لايقال لها أمُّ ولد إلّا إذا ولدت من سيّدها، فهذا الحديث شاهد صريح على أنّ عليّ الأكبر كانت عنده جارية قد أولدها.

على أنَّ الإستضاءة بقول الإمام الصادق عليه السلام في تلك الزيارة التي رواها

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 365

أبوحمزة الثمالي تكشف لنا عن حقيقة ناصعة أضاعتها الحقب وهي أنّ للأكبر الشهيد أهلًا وولداً، وإن كان عقبه منقطعاً هو الآخر، فإنّ الامام عليه السلام يقول فيها:

«صلّى اللّه عليك وعلى عترتك وأهل بيتك وآبائك وابنائك وأمهاتك الأخيار الأبرار الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».

ولفظ الأبناء جمع يدل على أكثر من اثنين، وكما يحتمل إرادة الصلبيين خاصّة يحتمل أيضاً أن يراد ما يعمّهم وأبناءهم لكنّ الإحتمال الثاني مدفوع بظاهر إطلاق اللفظ عند العرف، فإنه يختص بالصلبيين.

كما أنّ قوله عليه السلام «وعلى عترتك» دالٌّ عليه فإنّ عترة الرجل ذرّيته فلولم يكن له ذرّية لما صحّ استعمال هذا اللفظ وورود هذه الجملة في لسان الإمام العارف بخواص البلاغة ومقتضيات الأحوال أقوى برهان. «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 366

مقاتل آل عقيل عليهم السلام «1» في يوم عاشوراء ..... ص : 366
اشارة

إنّ أنصار الإمام الحسين عليه السلام من آل عقيل عليهم السلام الذين اشتهر عند المؤرّخين وأهل التراجم أنهم استشهدوا مع

الإمام عليه السلام يوم عاشوراء، هم:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 367

عبداللّه «1» بن مسلم بن عقيل عليهم السلام ..... ص : 367

يرى ابن أعثم الكوفي، وكذلك الخوارزمي، أنّ أوّل من خرج من الطالبيين عليهم السلام إلى قتال الأعداء هو عبداللّه بن مسلم عليهما السلام، وكان يقول:

أليومَ ألقى مُسلماً وهو أبي وفتية بادوا على دين النبي

ليسوا كقومٍ عُرفوا بالكذب لكنْ خيارٌ وكرامُ النسبِ

من هاشم السادات أهل الحسبِ

ثمّ حمل فقاتل حتى قتل منهم جماعة وقُتل. «2»

وقال ابن شهرآشوب: «فقاتل حتى قتل ثمانية وتسعين رجلًا بثلاث حملات، ثم قتله عمرو بن صبيح الصيداوي، «3» وأسد بن مالك». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 368

وقال البلاذري: «ورمى عمرو بن صبيح الصيداوي عبداللّه بن مسلم بن عقيل، واعتوره الناس فقتلوه، ويقال: إن رقاد الجنبي كان يقول: رميت فتى من آل الحسين ويده على جبهته فأثبتها فيها، وجعلت أنضنض «1» سهمي حتى نزعته من جبهته وبقي النصل فيها». «2»

وقال المحقّق السماوي (ره): وكانت قتلته بعد عليّ بن الحسين فيما ذكره أبومخنف والمدايني وأبوالفرج دون غيرهم». «3»

وقال الطبري: «ثم إنّ عمرو بن صُبيح الصّدائي رمى عبداللّه بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفّه على جبهته، فأخذ لايستطيع أن يحرك كفّيه، ثم انتهى له بسهم آخر ففلق قلبه، فاعَتَورهم الناس من كل جانب». «4»

محمد بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام ..... ص : 368

وبرز إلى ميدان الحرب محمد بن مسلم بن عقيل وأُمّه أم ولد، فشدّ عليه أبو مرهم الأزدي ولقيط بن إياس الجهني». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 369

قال المحقّق السماوي (ره): «حمل بنو أبي طالب بعد قتل عبداللّه حملة واحدة، فصاح بهم الحسين عليه السلام: صبراً على الموت يا بني عمومتي! فوقع فيهم محمّد بن مسلم، قتله أبو مرهم الأزدي ولقيط بن إياس الجهني». «1»

جعفر بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام ..... ص : 369

وبرز الى ميدان الحرب جعفر «2» بن عقيل بن أبي طالب وهو يرتجز ويقول:

أنا الغلام الأبطحي الطالبي من معشر في هاشم وغالب

ونحن حقّاً سادة الذوائب هذا حسين سيد الأطائب

قال أبوالفرج: قتله عروة بن عبداللّه الخثعمي فيما رويناه عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، وعن حميد بن مسلم. «3»

وقال السروي: «فقتل رجلين وفي قول خمسة عشر فارسا»، «4» وقال لمحقّق السماوي (ره): «فقتل خمسة عشر رجلًا، ثم قتله بشر بن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 370

حوط قاتل أخيه عبدالرحمن». «1»

عبد الرحمن بن عقيل عليه السلام ..... ص : 370

وأُمّه أُم ولد، «2» وانبرى إلى ساحة القتال وهو يرتجز ويقول:

أبي عقيل فأعرفوا مكاني من هاشم وهاشم إخواني

كهول صدق سادة القرآن هذا حسين شامخ البنيان». «3»

وقال الطبري: «وشدّ عثمان بن خالد بن أسير الجهني، وبشر بن سوط الهمداني ثم القابضي على عبدالرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه». «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 371

محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام ..... ص : 371

محمد بن أبي سعيد أُمّه أم ولد، وبرز الى ساحة الحرب. وقتله لقيط بن ياسر الجهني، وفي كتاب تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام: قتله ابن زهير الأزدي، ولقيط بن ياسر الجهني، اشتركا فيه. «1» وعن ابن سعد: قتله لقيط الجهني ورجل من آل أبي لهب لم يُسمّ لنا. «2»

قال المحقّق السماوي (ره): «قال أهل السير نقلًا عن حميد بن مسلم الأزدي أنه قال: لمّا صرع الحسين خرج غلام مذعوراً يلتفت يميناً وشمالًا، فشدَّ عليه فارس فضربه! فسألت عن الغلام؟ فقيل: محمّد بن أبي سعيد. وعن الفارس؟

فقيل: لقيط بن أياس الجهني.

وقال هشام الكلبي: حدّث هاني بن ثبيت الحضرمي قال: كنت ممّن شهد قتل الحسين عليه السلام، فواللّه إنّي لواقف عاشر عشرة ليس منّا إلّا رجل على فرس، وقد جالت الخيل وتضعضعت إذ خرج غلامٌ من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية عليه إزار وقميص، وهو مذعور يتلفّت يميناً وشمالًا، فكأنّي أنظر إلى درّتين في أذنيه يتذبذبان كلّما التفت، إذ أقبل رجل يركض حتّى إذا دنا منه مال عن فرسه، ثمّ اقتصد الغلام فقطعه بالسيف!

قال هشام الكلبي: هاني بن ثبيت الحضرمي هو صاحب- أي قاتل- الغلام، وكنّى عن نفسه استحياءً أو خوفاً.».»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 372

وأمّا الآخرون من آل عقيل عليهم السلام ..... ص : 372
اشارة

الذين ذكرهم بعض المؤرّخين فهم:

عبداللّه بن عقيل الأكبر: ..... ص : 372

وانبرى إلى ساحة القتال عبداللّه بن عقيل «1» وقاتل قتال الأبطال وقُتل. وقتله عثمان بن خالد بن أشيم الجهني ورجل من همدان. «2» وقال ابن فندق: قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. «3»

وعن سبط ابن الجوزي: ان قاتل عبداللّه بن عقيل: عمر بن صبيح. «4» ولم يذكره بعض المحققّين مثل السماوي (ره) في كتاب إبصار العين.

عبيداللّه بن عقيل: ..... ص : 372

قد ذكر ابن قتيبة أنَّ عبيداللّه بن عقيل أحد أولاد مسلم بن عقيل. وقيل: أُمّه الحوصا بنت حفصة، قتل مع الحسين عليه السلام. «5»

محمد بن عقيل: ..... ص : 372

وهو صهر الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام «6» وذكره السروي في عداد شهداء أولاد آل

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 373

عقيل. «1» وقال الدينوري: ثُمَّ قُتل محمد بن عقيل، رماه هو لقيط بن ناشر الجهني بسهم فقتله. «2»

عون بن عقيل: ..... ص : 373

ذكره السروي والنمازي في عداد شهداء الطف. «3»

علي بن عقيل: ..... ص : 373

ذكر الحائري والنمازي أنّ من جملة شهداء آل عقيل: علي بن عقيل. «4»

موسى بن عقيل: ..... ص : 373

وذكر صاحب ذخيرة الدارين أنّ موسى بن عقيل أحد شهداء الطف. «5»

أحمد بن محمد بن عقيل: ..... ص : 373

قال المامقاني (ره): «أحمد بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب عليهم السلام، وأمّه أمّ ولد، برز يوم الطفّ وهو يرتجز ويقول:

اليوم أتلو حسبي وديني بصارمٍ تحمله يميني

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 374

وقتل من القوم جمعاً كثيراً وجرح آخرين، ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب فقتلوه في حومة الحرب بعدما عقروا فرسه رضوان اللّه عليه.». «1»

مقاتل آل جعفر بن أبي طالب عليهم السلام ..... ص : 374
مقتل عون بن عبداللّه بن جعفر عليه السلام ..... ص : 374

وأُمّه العقيلة «2» زينب بنت الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام. وقد برز يوم عاشوراء الى حومة الحرب لنصرة سيد شباب أهل الجنّة وهو يرتجز ويقول:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 375

إن تنكروني فأنا ابن جعفر شهيد صدق في الجنان أزهر

يطير فيها بجناح أخضر كفى بهذا شرفاً في المحشر

فقتل ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلًا. قتله عبداللّه بن قطنة الطائي. «1»

مقتل محمد بن عبداللّه بن جعفر عليه السلام ..... ص : 375

محمد بن عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب، وأُمّه الخوصاء بنت حفصة بنت ثقيف بن ربيعة بن عائذ بن الحارث بن تيم اللّه بن ثعلبة بن بكر بن وائل. «2» برز الى ميدان المعركة وهو يرتجز:

نشكو إلى اللّه من العدوان فعالِ قوم في الردى عميان

قد بدّلوا معالم القرآن ومحكم التنزيل والتبيان

وأظهروا الكفر مع الطغيان». «3»

فقاتل، وقتله عامر بن نهشل التيمي. «4»

وقد رثاه سليمان بن قتة:

وسميّ النبيّ غودر فيهم قد علوه بصارم مصقول

فإذا ما بكيت عيني فجودي بدموع تسيل كلّ مسيل». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 376

وقال الحائري: ثم قاتل حتى قتل عشرة أنفس، ثم قتله عامر بن نهشل التميمي. «1»

مقتل القاسم بن محمّد بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام ..... ص : 376

قال المامقاني (ره): «.. وأمّه أمّ ولد، كان ملازماً لابن عمّه الحسين عليه السلام ولم يفارقه ابداً، وقد زوّجه عليه السلام بنت عمّه عبداللّه بن جعفر التي خطبها معاوية لإبنه يزيد- وله قصّة مذكورة في محلّها- وأمّها زينب بنت أميرالمؤمنين عليه السلام، وإسمها أمّ كلثوم الصغرى، وقد انتقل القاسم مع زوجته مع الحسين عليه السلام الى كربلاء، وخرج بعد عون بن عبداللّه بن جعفر، وقاتل فقتل منهم جمعاً كثيراً عدَّ بعضهم فارسهم بثمانين، وراجلهم إثني عشر، وأُثخن بالجراح، فتعطّفوا عليه من كلّ جانب، فقتلوه في حومة الحرب رضوان اللّه عليه». «2»

مقتل عبيداللّه بن عبداللّه بن جعفر عليه السلام ..... ص : 376

قال أبوالفرج الأصبهاني: و «وأمّه الخوصاء بنت حفصة، ذكر يحيى بن الحسن العلوي فيما حدّثني به أحمد بن سعيد عنه: أنه قُتل مع الحسين بالطفّ، رضوان اللّه عليه وصلواته على الحسين وآله». «3»

مقتل عبداللّه بن عبداللّه بن جعفر عليهما السلام ..... ص : 376

ذكره السروي ابن شهرآشوب فيمن قُتل من أهل بيت الحسين عليهما السلام، «4» ولعلّه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 377

هو عبيداللّه الذي ذكره أبوالفرج الأصبهاني على احتمال قويّ لكثرة ما يقع في التصحيف من سهو النُسّاخ بين عبيداللّه وعبداللّه، واللّه العالم.

أبناء الامام الحسن بن علي عليهم السلام ..... ص : 377
اشارة

لقد لازم أبناء الإمام الحسن عليه السلام عمّهم الحسين عليه السلام في نهضته منذ البدء حتى يوم العاشر من المحرم في كربلاء، ومثّلوا أباهم خير تمثيل يوم عاشوراء، حتّى كأنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قد حضر كربلاء بكلّ ما عنده ليفدي أخاه الإمام الحسين عليه السلام.

مقتل القاسم «1» بن الحسن عليهما السلام ..... ص : 377

كان مولانا القاسم عليه السلام يقول: «لايُقتل عمّي وأنا أحمل السيف». «2» ولمّا رأى وحدة عمّه استأذنه في القتال فلم يأذن له لصغره، فما زال به حتّى أذن له، «3» روى

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 378

الشيخ المفيد (ره) قائلًا: «قال حميد بن مسلم: فإنّا لكذلك إذْ خرج علينا غلام كأنّ وجهه شِقَّهُ قمر في يده سيف، وعليه قميص وإزار، ونعلان قد انقطع شسعُ إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزدي: واللّه لأشدنّ عليه. فقلت:

سبحان اللّه، وما تريد بذلك؟! دَعه يكفيكه هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم! فقال: والله لأشدّنَّ عليه. فشدَّ عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف ففلقه، ووقع الغلام لوجهه فقال: يا عمّاه! فجلّى الحسين عليه السلام كما يُجلّي الصّقر، ثم شدَّ شدة ليث أُغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسيف فاتّقاها بالساعد، فأطّنها من لدُنِ المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسين عليه السلام، وحملت خيلُ الكوفة لتستنقذه فتوطّأته بأرجلها حتى مات.

وانجلت الغبرةُ فرأيت الحسين عليه السلام قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله والحسين عليه السلام يقول: بعداً لقومٍ قتلوك، ومن خصُمُهم يوم القيامة فيك جدّك. ثم قال: عزّ- واللّه- على عمُّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوت- واللّه- كثر واتروه وقلّ ناصروه!!

ثم حمله على صدره، فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض. فجاء

به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين عليه السلام والقتلى من أهل بيته، فسالتُ عنه فقيل لي:

القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 379

وفي المقتل للخوارزمي:

«عزّ واللّه على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا يعينك أو يعينك فلا يغني عنك، بعداً لقوم قتلوك، الويل لقاتلك.

ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض، وقد وضع صدره إلى صدره. فقلت في نفسي: ماذا يصنع به؟ فجاء به حتّى ألقاه مع القتلى من أهل بيته، ثم رفع صراخه إلى السماء وقال:

أللّهمّ أحصهم عدداً، ولاتغادر منهم أحداً، ولاتغفر لهم أبداً، صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي لا رأيتم هواناًبعد هذا اليوم أبداً». «1»

وفي المناقب لابن شهرآشوب: «برز أخوه القاسم- يعني أخا عبدالله بن الحسن- وعليه ثوب وإزار، ونعلان فقط، وكأنه فلقه قمر وأنشأ يقول:

إني أنا القاسم من نسل علي نحن وبيت الله أولى بالنبي

من شمر ذي الجوشن او ابن الدعي

فقتله عمر بن سعيد الأزدي فخرّ وصاح: يا عمّاه. فحمل عليه الحسين فقطع يده، وسلبه أهل الشام من يد الحسين». «2»

وقال البلاذري: «وقتل عمرو بن سعيد بن نفيل الأزدي القاسم بن الحسن فصاح: يا عماه. فوثب الحسين وثبة ليث فضرب عمراً فأطّن يده، وجاء أصحابه ليستنقذوه فسقط بين حوافر الخيل فتوطّأته حتى مات!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 380

مقتل عبداللّه «1» بن الحسن عليه السلام ..... ص : 380

كان عبداللّه غلاماً له من العمر إحدى عشرة سنة، «2» ولمّا رأى وحدة عمّه عليه السلام بين أعدائه الذين قد أحاطوا به بعد مقتل أنصاره، وكان نزف رأسه قد اشتدّ به من ضربة مالك بن النسر الكندي «3» لعنه اللّه، خرج إليه عبداللّه بن الحسن «- وهو غلام لم

يراهق- من عند النساء حتى وقف الى جنب الحسين، فلحقته زينب بنت عليّ عليهما السلام لتحبسه، فقال لها الحسين عليه السلام: «إحبسيه يا أختي» فأبى وامتنع عليها امتناعاً شديداً وقال: والله لا أُفارق عمِّي! وأهوى أبجر بن كعب «4» إلى الحسين عليه السلام بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمي!؟ فضربه أبجر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده، فأطّنها إلى الجلدة فإذايده معلّقة، ونادى الغلام: يا أُمتّاه! فأخذه الحسين عليه السلام فضمّه إليه وقال:

يا ابن أخي إصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإنَّ الله يُلحقك بآبائك الصالحين».

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 381

ثم رفع الحسين عليه السلام يده وقال:

«اللّهمّ إن متّعتهم إلى حين ففرقّهم فِرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولاتُرض الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا فقتلونا!». «1»

لكنّ الخوارزمي قال: «ثمّ خرج عبداللّه بن الحسن الذي ذكرناه أوّلًا- في رواية- والأصحّ أنه برز بعد القاسم في الرواية الثانية، وهو يقول:

إنْ تنكروني فأنا ابن حيدره ضرغام آجام وليث قسوره

على الأعادي مثل ريح صرصره أكيلكم بالسيف كيل السندره

وقاتل حتّى قُتل». «2»

وفي المناقب لابن شهرآشوب: «ثم برز عبداللّه بن الحسن بن علي عليه السلام وهو يقول:

إن تنكروني فأنا فرع الحسن سبط النبيّ المصطفى والمؤتمن

هذا الحسين كالأسير المرتهن بين أُناس لاسقوا صوب المزن

فقتل أربعة عشر رجلا، قتله هاني بن شبيب الحضرمي فاسوَّد وجه.». «3» وفي مقاتل الطالبيين: أن حرملة بن كاهل الأسدي قتله. «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 382

وقال السيد ابن طاووس: فرماه حرملة بن الكاهل لعنه اللّه بسهم فذبحه وهو في حجر عمه الحسين عليه السلام. «1»

مقتل أحمد بن الحسن عليهما السلام ..... ص : 382

قال المامقاني: «أحمد بن الحسن بن أميرالمؤمنين عليه السلام، وأمّه أمّ بشر بنت أبي مسعود الأنصاري، خرج مع

عمّه الحسين عليه السلام هو وأمّه وأخوه القاسم وأختاه أمّ الحسن وأمّ الخير إلى مكّة، ثمّ إلى كربلاء، وله من العمر ستّ عشرة سنة، وحمل على القوم عند اشتداد القتال بعد صلاة الظهر وهو يرتجز، وقتل من القوم على ما قيل ثمانين فارساً، وأُثخن بالجراح، فتعطّفوا عليه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 383

جماعة كثيرة فقتلوه في حومة الحرب». «1»

مقتل أبي بكر بن الحسن عليه السلام ..... ص : 383

قال البلاذري: «ورمى عبداللّه بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسن بن علي بسهم فقتله. ففي ذلك يقول ابن أبي عقب:

وعند غَنّي قطرة من دمائنا وفي أسد أخرى تعدُّ وتذكر». «2»

وفي مقاتل الطالبيين: وفي حديث عمرو بن شمر، عن جابر عن أبي جعفر: أن عقبة الغنوي قتله. «3»

وصرّح الطبرسي بأن عبداللّه الغنوي هو قاتل أبي بكر بن الحسن. «4»

مصرع الحسن بن الحسن عليهما السلام ..... ص : 383

قال السيّد ابن طاووس (ره): «وروى مصنف كتاب المصابيح أن الحسن بن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 384

الحسن المثنّى قتل بين يدي عمّه الحسين عليه السلام في ذلك اليوم سبعة عشر نفساً، وأصابته ثماني عشرة جراحة، فوقع فأخذه خاله أسماء بن خارجة فحمله إلى الكوفة وداواه حتى برى ء وحمله إلى المدينة. «1»

وأصابت الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن عليه السلام ثماني عشرة جراحة وقطعت يده اليمنى ولم يستشهد. «2»

مقتل عمر بن الحسن عليه السلام ..... ص : 384

قيل إنّه من شهداء الطف، «3» ولكنّ ابن الجوزي قال: «واستصغروا أيضاً عمر

ابن الحسن بن علي عليهما السلام فلم يقتلوه وتركوه». «4»

مقاتل إخوان الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 384
اشارة

هناك اختلاف بين المؤرّخين حول عدد أولاد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذين قتلوا مع ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله في واقعة الطف، فعن المفيد والطبري أنهم كانوا خمسة، وعن آخرين أنهم كانوا تسعة أشخاص، ونحن نذكر هنا المشهورين منهم أوّلًا:

مقتل عبدالله بن علي عليه السلام ..... ص : 384

قال الشيخ المفيد: «فلما رأى العبّاس بن علي رحمة اللّه عليه كثرة القتلى في

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 385

أهله، قال لإخوته من أُمّه- وهم عبداللّه وجعفر وعثمان «1»- يا بني أُمي، تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم للّه ولرسوله، فإنّه لا ولد لكم. «2» فتقدّم عبداللّه فقاتل قتالًا شديداً، فاختلف هو وهاني بن ثبيت الحضرمي «3» ضربتني فقتله هاني لعنه اللّه». «4»

قال ابن شهرآشوب: «ثمّ برز أخوه عبداللّه- أي من بعد أخيه جعفر- قائلًا:

أنا ابن ذي النجدة والإفضال ذاك عليُّ الخير ذو الفعال

سيف رسول الله ذو النكال في كل يوم ظاهر الأهوال

قتله هاني بن شبيب الحضرمي.». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 386

مقتل جعفر بن علي بن أبي طالب عليه السلام ..... ص : 386

قال الشيخ المفيد: «وتقدم بعده (أي بعد عبداللّه) جعفر «1» بن علي رحمه اللّه فقتله أيضاً هاني ء». «2»

وقال ابن شهرآشوب: «ثم برز أخوه جعفر- يعني أخا عثمان- منشئاً:

إنّي أنا جعفر ذو المعالي ابن عليّ الخير ذو النوال

ذاك الوصيّ ذو السنا والوالي حسبي بعمّي جعفرٍ والخالِ

أحمى حسينا ذا الندى المفضال

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 387

رماه خولي الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينه». «1»

وقال الطبري: «ثمَّ شدَّ (أي هاني بن ثُبيت) على جعفر بن عليّ فقتله وجاء برأسه». «2»

وقال أبوالفرج: «قال نصر بن مزاحم: حدثني عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر محمد بن علي: أنّ خولّي بن يزيد الأصبحي- لعنه اللّه- قتل جعفر بن علي». «3»

وقال أبوالفرج الأصبهاني ايضاً: قال يحيى بن الحسن، عن علي بن ابراهيم، بالإسناد الذي قدّمته في خبر عبداللّه: قُتل جعفر بن علي بن أبي طالب، وهو ابن تسع عشرة سنة». «4»

مقتل عثمان بن علي عليه السلام ..... ص : 387

وقال الشيخ المفيد: «وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحي «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 388

عثمان «1» بن علي رضي اللّه عنه وقد قام مقام إخوته، فرماه بسهم فصرعه، وشدّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه». «2»

وقال السرويّ: «ثم برز أخوه عثمان- أي بعد أخيه عمر- وهو ينشد:

إني أنا عثمان ذو المفاخر شيخى علي ذو الفعال الطاهر

هذا حسين سيد الأخاير وسيد الصغار والأكابر

بعد النبي والوصيّ الناصر

رماه خولي بن يزيد على جنبه فسقط عن فرسه، وحزّ رأسه رجل من بني أبان بن حازم.». «3»

وقال أبوالفرج: «قتل عثمان بن علي، وهو ابن إحدى وعشرين سنة». «4»

مقتل أبي بكر بن عليّ عليه السلام ..... ص : 388

قال ابن شهرآشوب: «ثمّ برز أبوبكر بن علي عليهما السلام قائلًا:

شيخي عليٌّ ذو الفخار الأطولِ من هاشم الخير الكريم المُفضل

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 389

هذا حسين ابن النبيّ المرسل عنه نحامي بالحسام المصقل

تفديه نفسي من أخٍ مبجَّلِ

فلم يزل يقاتل حتّى قتله زجر بن بدر الجحفي، «1» ويُقال: عقبة الغنوي». «2»

وقال أبوالفرج الأصبهاني: «وأبوبكر بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لم يُعرف إسمه، وأمّه ليلى بنت مسعود بن خالد ... بن تميم ... ذكر أبوجعفر محمّد بن عليّ بن الحسين وفي الإسناد الذي تقدّم: أنّ رجلًا من همدان قتله. وذكر المدائني: أنه وُجد في ساقية مقتولًا لايُدرى من قتله». «3»

مقتل محمّد الأصغر بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ..... ص : 389

قال الطبري: «ورمى رجل من بني أبان بن دارم محمّد بن عليّ بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه»، «4» وقال أبوالفرج الأصبهاني: «ومحمّد الأصغر بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، وأمّه أمّ ولد، حدّثني أحمد بن عيسى قال: حدّثنا الحسين بن نصر، عن أبيه، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر، وحدّثني أحمد بن شيبة، عن أحمد بن الحرث، عن المدائني: أنّ رجلًا من تميم من بني ابان بن دارم قتله-

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 390

رضوان اللّه عليه- ولعن قاتله». «1»

وقال ابن شهرآشوب بعد أن ذكر إسمه في قتلى بني هاشم: «ويقال لم يُقتل محمّد الأصغر بن عليّ بن أبي طالب لمرضه». «2»

وقال المحقّق السماوي (ره) في ترجمة أبي بكر بن علي بن أبي طالب عليه السلام:

«إسمه محمّد الأصغر أو عبداللّه»، لكنّه ذكر أنّ إسم أمّ أبي بكر «ليلى بنت مسعود الثقفية». «3»

كذلك ذهب الشيخ المفيد (ره) «4» من قبله إلى أنّ محمّداً الأصغر هو المكنّى بأبي بكر، وتابعه على ذلك الشيخ الطبرسي (ره)

في تاج المواليد، «5» وأخذ بذلك المرحوم الأربلي نقلًا عن المفيد. «6»

من هنا فيحتمل قوياً أنّ محمّداً الأصغر هو أبوبكر بن علي، والمسألة لم تزل بحاجة إلى تحقيق أعمق وأدقّ، واللّه العالم.

مقتل عمر بن علي عليه السلام ..... ص : 390

وقال ابن شهرآشوب السروي: «ثم برز أخوه عمر- أي من بعد أبي بكر- وهو يرتجز:

خلّوا عداة اللّه خلّوا عن عمر خلّوا عن الليث الهصور المكفهر

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 391

يضربكم بسيفه ولايفر يازجر يازجرتدانَ من عمر

وقتل زجراً قاتل أخيه ثم دخل حومة الحرب». «1»

وفي تسلية المجالس: «ثم برز عمر بن علي، وهو يقول:

أضربكم ولا أرى فيكم زحَر ذاك الشقيّ بالنبيّ قد كفر

يا زجر يا زجر تدان من عمر لعلّك اليوم تبوء من سقر

شرّ مكانٍ في حريق وسعر لأنّك الجاحد يا شرّ البشر

ثم حمل على زجر قاتل أخيه فقتله، واستقبل القوم وجعل يضرب بسيفه ضرباً منكراً .. فلم يزل يقاتل حتى قتل». «2»

هل قُتل عمر في واقعة الطفّ؟ ..... ص : 391

قال الداودي: «وتخلّف عمر عن أخيه الحسين عليه السلام ولم يسر معه إلى الكوفة، ولايصح رواية من روى أن عمر حضر كربلاء، ومات عمر بينبع «3» وهو ابن سبع وسبعين سنة، وقيل خمس وسبعين سنة». «4»

وقال ابن سعد في الطبقات: «عمر الأكبر ... وأُمّه الصهباء بنت ربيعة ... بن تغلب بن وائل، وكانت سبيّة أصابها خالد بن الوليد حيث أغار على بني تغلب بناحية عين التمر ...». «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 392

وقال خليفة بن خياط في حوادث سنة سبع وستين: «وفيها وقعة المذار وفيها قتل عمر بن عليّ بن أبي طالب». «1»

وفي مقابل هذه التصريحات بعدم قتله مع الحسين عليه السلام يوجد تصريح ابن شهرآشوب حيث أورده في عداد أولاد الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام المقتولين بكربلاء، ولم نعثر على نصوص مهمّة وقديمة تصرّح بقتله في كربلاء. ولايخفى على المتتبع الخبير أنَّ المناقب لا يخلو من أخطاء تاريخية ورجالية.

يقول المرحوم الشيخ القمي: «المشهور بين أهل التواريخ والسير أنّ عمر لم يشهد مع أخيه الحسين عليه

السلام بالطف». «2»

ويرى النمازي أنّ لأمير المؤمنين عليه السلام إبنين بإسم عمر، عمر الأصغر وأمّه الصهباء وهو من شهداء الطفّ، أمّا عمر الأكبر فعاش خمساً وثمانين سنة!». «3»

وعمر الأصغر الذي عناه النمازي هو عمر الأطرف وهو ابن الصهباء وشقيق رقيّة وتوأمها، وقد تخلّف عن نصرة الحسين عليه السلام بلا عذر معروف، وعاش سبعاً وسبعين سنة. «4»

مقتل إبراهيم بن علي بن أبي طالب عليه السلام ..... ص : 392

لقد اختلفت كلمات المؤرخين حول مقتل ابراهيم في وقعة الطّف. ولعلّ أقدم نص شكّك في ذلك أبوالفرج حيث قال: «وقد ذكر محمد بن علي بن حمزة أنه قتل يومئذ إبراهيم بن علي بن أبي طالب. وأمّه أمّ ولد. وما سمعت بهذا من غيره،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 393

ولا رأيت لإبراهيم في شي ء من كتب الأنساب ذكراً». «1»

وفي مقابل ذلك توجد تصريحات بأنه قد قتل أيضاً في كربلاء، فقد ذكر ابن عبد ربّه الأندلسي، «2» وابن شهرآشوب «3» والمرحوم النمازي، «4» والخوارزمي «5» بأنّ إبراهيم هذا قتل بين يدي ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

وقال المرحوم المظفّر: يستفاد من مجموع الأقوال أنّ الشهداء من ولد أميرالمؤمنين عليه السلام يوم كربلاء أحد عشر رجلًا سيّدهم وسيّد الناس جميعاً الحسين بن علي عليه السلام ... وإبراهيم على قول مشهور. «6»

مقتل عتيق بن علي بن أبي طالب عليه السلام ..... ص : 393

وذكر ابن قتيبة أنّ أمّه أمّ ولد «7» وعدَّه الذهبي واليافعي والديار بكري في عداد شهداء كربلاء. «8»

مقتل عون بن علي عليه السلام ..... ص : 393

ذكر كلٌّ من السيد جعفر الأعرجي (ره)، والذهبي، أنَّ عون بن علي من جملة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 394

أولاد الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام المقتولين ظلماً بين يدي سيد شباب أهل الجنة. «1»

مقتل يحيى بن علي عليه السلام ..... ص : 394

ذكر السيّد الأعرجي (ره) في مناهل الضرب أنَّ يحيى بن علي عليه السلام من شهداء الطف «2» وذكر النمازي (ره) في مستدركات علم رجال الحديث: أنّ أمّه أسماء بنت عميس. «3»

لكنّ أبا الفرج ذكر أنّ يحيى توفي في حياة أميرالمؤمنين عليه السلام.»

مقتل عبيداللّه بن علي بن أبي طالب عليه السلام ..... ص : 394

لعلّ أقدم من صرّح بأنه قتل بكربلاء هو الشيخ المفيد أعلى اللّه مقامه الشريف في الإرشاد حيث أورده في باب ذكر أولاد الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام وقال:

ومحمد الأصغر المكنّى ابابكر، وعبيداللّه، الشهيدان مع أخيهما الحسين عليه السلام بالطف، أُمّهما ليلى بنت مسعود الدارمية». «5»

كذلك قال المرحوم الشيخ الطبرسي في ذكر أولاد الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام:

«ومحمد الأصغر المكنى بأبي بكر، وعبيداللّه، الشهيدان مع أخيهم الحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 395

بالطفّ، أمّهما ليلى بنت مسعود الدارمية». «1»

وتابعهما على ذلك الإربلي في كشف الغمة ناقلًا عن المرحوم المفيد. «2» وصرّح المرحوم المظفّر بأنّه من شهداء الطف. «3»

كذلك قال بذلك القلقشندي «4» وقال المزي في ذكر أولاد الامام أميرالمؤمنين عليه السلام: «وعبيداللّه يكنّى أبا علي، يقال إنه قتل بكربلا». «5»

وورد في تاريخ خليفة أنه قتل مع الحسين عليه السلام، وأمّه الرباب بنت امرى القيس. «6»

وورد في الزيارة الرجبية: «السلام على عبيداللّه بن أميرالمؤمنين عليه السلام». «7»

لكنّ اباالفرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيين قال: «وذكر يحيى بن الحسن، فيما حدثني به أحمد بن سعيد أنّ أبا بكر بن عبيداللّه الطلحي حدّثه عن أبيه أنّ عبيداللّه بن علي قتل مع الحسين، وهذا خطأ، وإنما قتل عبيداللّه يوم المدار، «8» قتله أصحاب المختار بن أبي عبيدة، وقد رأيته بالمدار». «9»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 396

وقال ابن ادريس: «وقد ذهب شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد إلى أنّ عبيداللّه بن النهشلية قتل بكربلاء

مع أخيه الحسين عليه السلام، وهذا خطأ، محض بلا مراء، لأنّ عبيداللّه بن النهشلية كان في جيش مصعب بن الزبير، ومن جملة أصحابه، قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد بالمذار «1» وقبره هناك ظاهر.

الخبر بذلك متواتر وقد ذكره شيخنا أبوجعفر في الحائريات لمّا سأله السائل عما ذكر المفيد في الإرشاد فأجاب بأنَّ عبيداللّه بن النهشلية قتله أصحاب المختار

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 397

بالمذار، وقبره هناك معروف عند أهل تلك البلاد». «1»

يستفاد من مجموع ما ذكرنا أنّ النصوص التي تشير الى أنّ عبيداللّه بن علي عليه السلام قتل في واقعة الطف لايمكن الاعتماد عليها بسهولة، وكلّها ترجع الى كلام المرحوم المفيد (ره)، وفي مقابل هذا القول تتوافر الأقوال الكثيرة التي تصرّح بأنه لم يقتل بكربلاء، ولايمكن الإغماض عنها خصوصاً وأنّ في أصحابها من له الخبرة التامة في علم الأنساب، نظير مصعب الزبيري في نسب قريش أو ابن فندق في كتابه لباب الأنساب، أو الأندلسي في جمهرة أنساب العرب، وغيرهم.

و من الغريب جدّاً كلام البعض «2» حيث صرّح بأنّه اتفقت كلمة المورّخين على قتله يوم عاشوراء!!.

من هو «العبّاس الأصغر»، وابن من هو؟ ..... ص : 397

قال الشيخ القرشي: «وهو أخو الإمام لأبيه، وأمّه لبابة بنت عبيداللّه بن العبّاس، استشهد يوم الطفّ». «3» وقال خليفة بن خيّاط: «وقتل مع الحسين عليه السلام العبّاس الأصغر، أمّه لبابة بنت عبيداللّه بن العبّاس». «4»

وممّا يؤيّد ذلك ما رواه سبط ابن الجوزي، عن هشام بن محمد، عن القاسم ابن الأصبغ المجاشعي قال: «لمّا أُتي بالرؤوس إلى الكوفة إذا بفارس أحسن الناس وجهاً! قد علق في لبب فرسه رأس غلام أمرد كأنه القمر ليلة تمامه!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 398

والفرس يمرح فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض، فقلت له: رأس من هذا؟

فقال: هذا رأس العبّاس بن

علي. قلت: ومن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي.

قال: فلبثت أيّاماً وإذا بحرملة وجهه أشدُّ سواداً من القار! فقلت له: لقد رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك! وما أرى اليوم لا أقبح ولا أسود وجهاً منك!؟ فبكى وقال: واللّه منذ حملت الرأس وإلى اليوم ما تمرّ عليَّ ليلة إلّا وإثنان يأخذان بضبعي ثمّ ينتهيان بي إلى نار تأجّج، فيدفعاني فيها، وأنا أنكص فتسفعني كما ترى، ثمّ مات على أقبح حال». «1»

فالعبّاس هذا على أساس هذه الرواية هو ابن أميرالمؤمنين عليه السلام، وهو في هذه الرواية غلام أمرد!

ويقول الشيخ القرشي تعقيباً: «وهذا ممّا يؤكّد وجود العبّاس الأصغر لأنّ العبّاس الأكبر كان عمره يوم قُتل إثنين وثلاثين سنة، وليس غلاماً أمرداً». «2»

لكنّ النمازيّ (ره) يقول في ترجمة (لبابة بنت عبيداللّه بن عبّاس بن عبدالمطّلب): «تزوّجها أبوالفضل العبّاس بن أميرالمؤمنين عليه السلام، فولد له منها عبيداللّه وفضل، وكانت جميلة عاقلة، وبعد شهادة العبّاس عليه السلام تزوّجها زيد بن الحسن المجتبى عليه السلام، فولد له منها نفيسة والحسن، ثمّ بعده تزوّجها وليد بن عبدالملك، وعن المجدي تزوّجها وليد بن عتبة بن أبي سفيان، فولد له منها

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 399

القاسم». «1»

من هنا نقول: إذا كان العبّاس الأصغر- على فرض وجوده حقّاً- ابن لبابة بنت عبيداللّه بن العبّاس، زوجة مولانا أبي الفضل عليه السلام، فهو إذن ابن العبّاس وليس أخاه كما في رواية سبط ابن الجوزي وكما استنتج الشيخ القرشي، ذلك لأن لبابة لا يمكن أن تكون زوجة لأميرالمؤمنين عليه السلام، ثمّ زوجة لابنه أبي الفضل عليه السلام.

هذا مبلغ علمنا في قضية «العبّاس الأصغر»، والمسألة بحاجة إلى مزيد من الوثائق التأريخية الكاشفة عن حقيقة الأمر، وإلى

مزيد من التعمّق والمتابعة والتحقيق، وكم ترك الأوّل للآخر!

مقتل مولانا أبي الفضل العبّاس عليه السلام ..... ص : 399

كان مولانا أبوالفضل العباس بن أميرالمؤمنين عليهما السلام أكبر أولاد عليّ عليه السلام من أمّهم أمّ البنين فاطمة بنت حزام الكلابية (رض)، وقد ولد في الرابع من شعبان سنة ست وعشرين للهجرة، وكان عمره الشريف عند استشهاده أربعاً وثلاثين سنة. «2»

وكان صلوات اللّه عليه عماد وركيزة الجيش الحسيني في كربلاء، وقد أعطاه الإمام الحسين عليه السلام رايته يوم عاشوراء: «لأنه وجد قمر الهاشميين أكفأ ممّن معه لحملها، وأحفظهم لذمامه، وأرأفهم به، وأدعاهم إلى مبدئه، وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره، وأثبتهم للطعان، واربطهم جأشاً، واشدّهم مراساً». «3»

قال الدينوري: «بقي العبّاس بن عليّ قائماً أمام الحسين يقاتل دونه، ويميل

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 400

معه حيث مال». «1» قال الشيخ المفيد (ره): «وحملتِ الجماعة على الحسين عليه السلام فغلبوه على عسكره، واشتدّ به العطش، فركب المُسنَّاة يريد الفرات، وبين يديه العبّاس أخوه، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم:

ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولاتمكّنوه من الماء! فقال الحسين عليه السلام: أللّهمّ أظمئه. فغضب الدارميّ ورماه بسهم فأثبته في حَنَكِه، فانتزع الحسين عليه السلام السهم، وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدّم! فرمى به ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيّك! ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدّ به العطش، وأحاط القوم بالعبّاس فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل- رضوان اللّه عليه- وكان المتولّي لقتله زيد بن ورقاء الحنفيّ، «2» وحكيم بن الطُفَيل السنبسي، «3» بعد أن أُثخن بالجراح فلم يستطع حراكاً!». «4»

أمّا الخوارزمي فقد قال: «ثمّ خرج من بعده العبّاس بن عليّ- أيّ من بعد أخيه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 401

عبداللّه- وأمّه أمّ البنين

أيضاً، وهو «السقّاء» فحمل وهو يقول:

أقسمتُ باللّه الأعزّ الأعظم وبالحجون صادقاً وزمزم

وبالحطيم والفنا المحرَّم ليخضبنَّ اليوم جسمي بدمي

دون الحسين ذي الفخار الأقدم إمام أهل الفضل والتكرّم

فلم يزل يقاتل حتّى قتل جماعةً من القوم، ثُمّ قُتل، فقال الحسين: ألآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي!». «1»

أمّا ابن شهرآشوب السروي فقال: «وكان عبّاس السقّاء قمر بني هاشم، صاحب لواء الحسين، وهو أكبر الإخوان، مضى يطلب الماء، «2» فحملوا عليه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 402

وحمل هو عليهم وجعل يقول:

لا أرهب الموتَ إذا الموت رقى «1»

حتى أُوارى في المصاليت لقا «2»

نفسي لنفسى المصطفى الطهر وقاإني أنا العبّاس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى

ففرّقهم، فكمن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة، وعاونه حكيم بن طفيل السنبسي فضربه على يمينه «3» فأخذ السيف بشماله، وحمل عليهم وهو يرتجز:

واللّهِ إنْ قطعتُم يميني إنّي أُحامي أبداً عن دينى

وعن إمام صادق اليقينِ نجل النبيّ الطاهر الأمينِ

فقاتل حتّى ضعف، فكمن له الحكيم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة فضربه على شماله «4» فقال:

يا نفسُ لاتخشي من الكفّار وأبشري برحمة الجبّارِ

مع النبيّ السيّد المختار قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربّ حرَّ النّارِ

فقتله الملعون بعمود من حديد». «1»

ومن الجميل في ساحة عزاء أبي الفضل عليه السلام أن نورد هذه الفقرة الحزينة الرائعة التي جادت بها روح المرحوم المحقّق السيّد المقرّم، الطافحة بالولاء لأهل البيت عليهم السلام، قال رحمه اللّه:

«وسقط على الارض ينادي: عليك منّي السلام أبا عبداللّه! فأتاه الحسين عليه السلام، وليتني علمتُ بماذا أتاه؟ أبحياة مستطارة منه بهذا الفادح الجلل؟ أم بجاذب من الأخوّة إلى مصرع صنوه المحبوب؟

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 404

نعم، حصل الحسين عليه السلام عنده، وهو يبصر قربان القداسة فوق الصعيد قد غشيته الدماء وجللّته

النبال! «1» فلا يمين تبطش، ولامنطق يرتجز، ولاصولة تُرهب، ولاعين تبصر، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدَّد!!

أصحيحٌ أنّ الحسين عليه السلام ينظر إلى هذه الفجائع ومعه حياة ينهض بها؟

لم يبق الحسين بعد أبي الفضل إلّا هيكلًا شاخصاً مُعرّى عن لوازم الحياة، وقد أعرب سلام اللّه عليه عن هذا الحال بقوله: ألآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي!

وبان الإنكسار في جبينه فاندكّت الجبال من حنينه

وكيف لا؟ وهو مجال بهجته وفي محيّاه سرور مهجته

كافل أهله وساقي صبيته وحامل اللوا بعالي همّته «2»

ورجع الحسين إلى المخيّم منكسراً حزيناً باكياً، يكفكف دموعه بكمّه، وقد تدافعت الرجال على مخيمه فنادى: أما من مغيث يُغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حقّ ينصرنا؟ أما من خائف من النّار فيذبّ عنّا؟ «3»

فأتته سكينة وسألته عن عمّها، فأخبرها بقتله! وسمعته زينب فصاحت: وا أخاه وا عبّاساه، وا ضيعتنا بعدك! وبكين النسوة وبكى الحسين معهن وقال: واضيعتنا بعدك!!». «4»

الإمام الحسين عليه السلام وحيداً فريداً في الميدان ..... ص : 404
اشارة

«ولمّا قُتل العباس عليه السلام إلتفت الحسين عليه السلام فلم ير أحداً ينصره! ونظر إلى أهله

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 405

وصحبه مجزّرين كالأضاحي، وهو إذْ ذاك يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال، صاح بأعلى صوته: هل من ذابٍّ عن حُرم رسول اللّه؟ هل من موحّدٍ يخاف اللّه فينا؟ هل من مغيث يرجو اللّه في إغاثتنا؟ فارتفعت أصوات النساء بالبكاء!!». «1»

خروج الإمام زين العابدين عليه السلام!! ..... ص : 405

«فخرج علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، وكان مريضاً لايقدر أن يقلّ سيفه، وأمّ كلثوم «2» تنادي خلفه: يا بنيَّ ارجع! فقال: يا عمتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول اللّه! وقال الحسين عليه السلام: يا أمَّ كلثوم! خذيه لئلّا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد صلى الله عليه و آله». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 406

مقتل الرضيع عبداللّه بن الحسين عليه السلام

النصوص الورادة في مقتل ابنه الرضيع عليه السلام يوم الطف مختلفة جدّاً، وهي على أقسام:

1- النصوص التي تصرّح باسمه وهو عبداللّه.

2- النصوص التي لاتصريح فيها بأسمه.

3- النصوص التي تقول بأنَّ الطفل إسمه عليّ الأصغر.

4- النصوص التي تصرّح بمقدار سنّه فقط.

أمّا الطائفة الأولى: فقد روى الشيخ المفيد قائلًا: «ثمَّ جلس الحسين عليه السلام أمام الفسطاط فأُتي بابنه عبداللّه بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى الحسين عليه السلام دمه فلمّا ملأ كفّه صبّه في الأرض ثم قال: «ربّ إن تكن حبست عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين». ثم حمله حتى وضعه مع قتلى أهله». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 407

وفي ضمن رواية عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام السجّاد عليه السلام يصف فيها كيف جمع الإمام الحسين عليه السلام أصحابه

ليلة عاشوراء، وردت هذه المحاورة بين الإمام عليه السلام وبين ابن أخيه القاسم عليه السلام هكذا: «فقال له القاسم بن الحسن عليه السلام: وأنا فيمن يُقتل؟ فأشفق عليه فقال له: يا بُنيّ كيف الموت عندك؟

قال: يا عمّ، أحلى من العسل!

فقال عليه السلام: إي واللّه، فداك عمّك! إنّك لأحد من يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم! وإبني عبداللّه!

فقال: يا عمّ! ويصلون إلى النساء حتّى يُقتل عبداللّه وهو رضيع!؟

فقال عليه السلام: فداك عمّك! يُقتل عبداللّه إذا جفّت روحي عطشاً، وصرتُ الى خيمنا فطلبتُ ماءً ولبناً فلا أجد قطّ! فأقول: ناولوني إبني لأشرب مِن فيه! فيأتوني به فيضعونه على يدي، فأحمله لأُدنيه مِن فيَّ، فيرميه فاسقٌ بسهم فينحره وهو يناغي! فيفيض دمه في كفّي! فأرفعه إلى السماء وأقول: أللّهمّ صبراً

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 408

واحتساباً فيك! ...». «1»

و من الملفت للإنتباه والمثير للعجب والحزن والمصاب في هذه الرواية هو أنّ الإمام عليه السلام لجفاف روحه من العطش الشديد أراد أن يروي ظمأه من نداوة ورطوبة فم الطفل عبداللّه الرضيع! لا أنّ الإمام عليه السلام كان قد أخذ الطفل الرضيع العطشان ليعرضه على القوم لعلّهم يسقونه ماء كما هو المشهور!!

وجاء في تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام: «وعبيداللّه بن الحسين عليه السلام، وأُمّه الرباب بنت إمرى ء القيس ..، قتله حرملة بن الكاهل الأسدي الوالبي، وكان ولد للحسين عليه السلام في الحرب فأتي به وهو قاعد، وأخذه في حجره ولبّاه بريقه وسمّاه عبداللّه، فبينما هو كذلك إذ رماه حرملة بن الكاهل بسهم فنحره، فأخذ الحسين عليه السلام دمه فجمعه ورمى به نحو السماء فما وقعت منه قطرة الى الأرض!

قال فضيل: وحدثني أبوالورد: أنه سمع أباجعفر يقول: لو وقعت منه

الى الأرض قطرة لنزل العذاب. وهو الذي يقول الشاعر فيه:

وعند غنّي قطرة من دمائنا وفي أسد أخرى تُعُد وتذكر «2»

أمّا الطائفة الثانية من النصوص فمنها ما رواه الدينوري قائلًا: فدعا بصبي له صغير فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد، وهو في حجر الحسين عليه السلام بمشقص، فقتله. «3»

ومنها ما رواه سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمد، قال: «فالتفت الحسين

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 409

فإذا بطفل له يبكي عطشاً، فأخذه على يده وقال: يا قوم إنْ لم ترحموني فأرحموا هذا الطفل. فرماه رجل منهم بسهم فذبحه. فجعل الحسين يبكي ويقول: أللّهمّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا. فنودي من الهواء: دعه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة». «1»

وأمّا النصوص المصرّحة أنّ الطفل القتيل إسمه عليّ الأصغر، فمنها ما رواه ابن أعثم الكوفي قائلًا: «وله ابن آخر يقال له عليّ في الرضاع، فتقدم الى باب الخيمة فقال:

ناولوني ذلك الطفل حتى أودّعه، فناولوه الصبي فجعل يقبله وهو يقول: يا بني ويل لهؤلاء القوم إذا كان غداً خصمهم جدّك محمّد!، قال: وإذا بسهم قد أقبل حتى وقع في لبّة الصبي فقتله.

فنزل الحسين عن فرسه وحفر له بطرف السيف ورمّله «2» بدمه وصلّى عليه ودفنه». «3»

وقال ابن الطقطقى: «وعلي الأصغر أصابه سهم بكربلاء فمات». «4»

وأمّا النصوص التي تصرّح بمقدار عمره الشريف، فما ورد عن الذهبي قوله:

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 410

«فوقعت نبلة في ولد له ابن ثلاث سنين». «1»

أمّا اليعقوبي فقد قال: «ثم تقدّموا رجلًا رجلًا حتّى بقي وحده ما معه أحد من أهله ولا ولده ولا أقاربه، فإنّه لواقف على فرسه إذ أُتي بمولود قد ولد في تلك الساعة فأذَّن في أُذنه وجعل يحنّكه إذ أتاه

سهم فوقع في حلق الصبي فذبحه، فنزع الحسين السهم من حلقه وجعل يلطّخه بدمه ويقول: «واللّهِ لأنتَ أكرم على اللّه من الناقة، ولمحمّد أكرم على اللّه من صالح. ثم أتى فوضعه مع ولده وبني أخيه». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 411

ومن الشعر الذي أنشده الإمام عليه السلام في مواجهته القوم وحيداً- بعد مقتل عبداللّه الرضيع- على ما روي:

كفر القوم وقِدماً رغبوا عن ثواب اللّه ربّ الثقلين

قتل القوم عليّاً وابنه حسن الخير كريم الأبوين

حنقاً منهم وقالوا أجمعوا واحشروا الناس إلى حرب الحسين

ثم ساروا وتواصوا كلّهم باجتياحي لرضاء الملحدين

لم يخافوا اللّه في سفكِ دمي لعبيداللّه نسل الكافرين

وابن سعد قد رماني عنوة بجنود كوكوف الهاطلين

لا لشي ءٍ كان منّي قبل ذا غير فخري بضياءالنيّرين

بعليّ الخير من بعد النبيّ والنبيّ القرشيّ الوالدين

خيرة اللّه من الخلق أبي ثم أمّي فأنا ابن الخيرتين

فضّة قد خلصت من ذهب فأنا الفضّة وابن الذهبين

من له جدّ كجدّي في الورى أو كشيخي فأنا ابن العلَمَين

فاطم الزهراء أمّي وأبي قاصم الكفر ببدر وحنين

عبدالله غلاما يافعاً وقريش يعبدون الوثنَينْ

يعبدون اللّات والعزّى معاً وعليّ كان صلّى القبلتين

وأبي شمس وأُمي قمر فأنا الكوكب وابن القمرَيْن

وله في يوم أُحدٍ وقعةٌ شفت الغلّ بفضّ العسكرين

ثمّ في الأحزاب والفتح معاً كان فيها حتف أهل الفيلقين

في سبيل اللّه، ماذا صنَعت أُمّة السوء معاً بالعترتين

عترة البرّ النبيّ المصطفى وعليّ القَرمِ يوم الجحفلين

ثم وقف صلوات الله عليه قبالة القوم وسيفه مُصلت في يده آيساً من الحياة

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 412

عازماً على الموت، وهو يقول:

أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشم كفاني بهذا مفخراً حين أفخر

وجدّي رسول اللّه أكرم من مضى ونحن سراج اللّه في الأرض نزهر

وفاطم أُمي من سلالة أحمد وعمّيَ يدعي ذو الجناحين جعفر

وفينا كتاب اللّه أُنزل

صادقاً وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر

ونحن أمان اللّه للناس كلّهم نسرّ بهذا في الأنام ونجهر

ونحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا بكأس رسول اللّه ماليس ينكر

وشيعتنا في الناس أكرم شيعة ومبغضنا يوم القيامة يخسر

وذكر أبوعلي السلامي في تاريخه أنّ هذه الأبيات للحسين عليه السلام من إنشائه وقال: وليس لأحد مثلها:

وإنْ تكن الدنيا تعدّ نفيسة فإنّ ثواب الله أعلى وأنبلُ

وان تكن الأبدان للموت أنشئت فقتل امرى ء بالسيف في الله أفضل

وان تكن الأرزاق قسماً مقدّراً فقلّة سعي المرء في الكسب أجملُ

وإن تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرءُ يبخلُ

سأمضي وما بالقتل عار على الفتى إذا في سبيل اللّه يمضي ويقتل

ثم إنه عليه السلام دعا الناس الى البراز، فلم يزل يقتل كلّ من دنا منه من عيون الرجال، حتى قتل منهم مقتلة عظيمة. «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 413

ثم حمل على الميمنة وقال:

الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار

ثم حمل على الميسرة وقال:

أنا الحسين بن علي أحمي عيالات أبي

آليت أن لا أنثني أمضي على دين النبي

وجعل يقاتل حتى قتل ألفاً وتسعمائة وخمسين سوى المجروحين. «1»

الامام الحسين عليه السلام يطلب ثوباً لايُرغبُ فيه! ..... ص : 413

روى الطبري يقول: «ولمّا بقي الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة، دعا بسراويل «2» محققة يلمع «3» فيها البصر، يمانيّ محقَّق، ففزره «4» ونكثه لكيلا يسلبه، فقال له بعض أصحابه: لو لبست تحته تُبّاناً «5» قال: ذلك ثوب مذّلة، ولاينبغي لي أن ألبسه.». «6»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 414

وروى الطبراني عن ابن أبي ليلى قال: «قال حسين بن علي عليه السلام حين أحسّ بالقتل: إئتوني ثوباً لايرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي ...». «1»

وذكر ابن شهرآشوب أنه عليه السلام قال: «ائتوني بثوب لايرغب فيه ألبسه غير ثيابي لا أجرّد فإني مقتول مسلوب،

فأتوه بتبّان فأبى أن يلبسه، وقال: هذا لباس أهل الذمّة، ثم أتوه بشي ء أوسع منه دون السراويل وفوق التبّان فلبسه». «2»

وقال الطريحي: «لمّا قُتل أصحاب الحسين كلّهم وتفانوا وأبيدوا ولم يبق أحد، بقي عليه السلام يستغيث فلايغاث وأيقن بالموت أتى إلى نحو الخيمة وقال لأخته:

إئتيني بثوب عتيق لايرغب فيه أحد من القوم، أجعله تحت ثيابي لئلّا أُجرّد منه بعد قتلي. قال: فأرتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، ثم أوتي بثوب فخرقه ومزّقه من أطرافه وجعله تحت ثيابه، وكانت له سراويل جديدة فخرقها أيضاً لئلّا تُسلب منه». «3»

ثبات الإمام الحسين عليه السلام ورباطة جأشه! ..... ص : 414

يروي الطبري عن عبداللّه بن عمّار بن عبد يغوث البارقيّ قوله في وصف شجاعة الإمام عليه السلام: «فواللّه ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جاشاً، ولا أمضى جناناً منه، ولا أجرأ مقدماً! واللّه ما رأيت قبله ولابعده مثله! إنْ كانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه وشماله إنكشاف المعزى إذا شدّ فيها

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 415

الذئب ...». «1»

وفي عيون الأخبار عن هذا البارقيّ «2» أيضاً: «مارأيتُ قطّ أربط جأشاً من الحسين! قُتل ولده وجميع أصحابه حوله، وأحاطت به الكتائب، فواللّه لكان يشدّ عليهم فينكشفوا عنه إنكشاف المعزى شدّ عليهم الأسد! فمكث مليّاً والناس يدافعونه ويكرهون الإقدام عليه». «3»

ويقول السيّد ابن طاووس (ره) فيما يرويه: «.. ولقد كان يحمل فيهم، ولقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً فيُهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر!! ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول: لا حول ولا قوّة إلّا باللّه!». «4»

ويقول ابن شهرآشوب: «وجعل يُقاتل حتّى قتل ألفاً وتسعمائة وخمسين سوى المجروحين، فقال عمر بن سعد لقومه: ويلكم أتدرون من تبارزون!؟ هذا ابن الأنزع البطين! هذا ابن قتّال العرب! فاحملوا عليه من كلّ جانب!

فحملوا بالطعن مائة وثمانين! وأربعة آلاف بالسهام! ...». «5»

الإمام عليه السلام يستولي على شريعة الفرات! ..... ص : 415

قال ابن شهرآشوب: «وروى أبومخنف عن الجلودي أنّ الحسين حمل على

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 416

الأعور السلمي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة، وأقحم الفرس على الفرات! فلمّا أولغ الفرس برأسه ليشرب قال عليه السلام:

أنت عطشان: وأنا عطشان، واللّه لا أذوق الماء حتّى تشرب! فلمّا سمع الفرس كلام الحسين شال راسه ولم يشرب كأنّه فهم الكلام! فقال الحسين: إشرب فأنا أشرب. فمدَّ الحسين يده فغرف من الماء، فقال فارس: يا أباعبداللّه! تتلذذ بشرب الماء وقد هُتكت حرمتك!؟ فنفض الماء من يده، وحمل على القوم فكشفهم فإذا الخيمة سالمة!». «1»

الوداع الأخير ..... ص : 416

قال العلّامة المجلسي (ره) في كتابه (جلاء العيون): «ثمّ ودّع ثانياً أهل بيته،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 417

وأمرهم بالصبر، ووعدهم بالثواب والأجر، وأمرهم بلبس أُزرهم، وقال لهم:

استعدّوا للبلاء، وأعلموا أنّ اللّه تعالى حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء، ويعوّضكم اللّه عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا، ولاتقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم!». «1»

وقال المحققّ السيّد المقرّم (ره): «حقاً لو قيل بأن هذا الموقف من أعظم ما لاقاه سيد الشهداء عليه السلام في هذا اليوم، فإنّ عقائل النبوة تشاهد عماد أخبيتها، وسياج صونها، وحمى عزّها، ومعقد شرفها مؤذناً بفراق لارجوع بعده فلايدرين بمن يعتصمن من عادية الأعداء، وبمن العزاء بعد فقده، فلا غرو إذا اجتمعن عليه وأحطن به وتعلّقن بأطرافه بين صبيٍّ يئنُّ، ووالهةٍ أذهلها المصاب، وطفلة تطلب الأمن، وأخرى تنشد الماء!

إذاً فما حال سيد الغيارى ومثال الحنان وهو ينظر بعلمه الواسع إلى ودائع الرسالة وحرائر بيت العصمة وهنّ لايعرفن إلّا سجف العزّ وحجب الجلال، كيف يتراكضن في هذه البيداء المقفرة بعولة مشجية،

وهتاف يفطر الصخر الأصم، وزفرات متصاعدة من أفئدة حرّى! فإنْ فررن فعن السلب، وإن تباعدن فمن الضرب، ولامحام لهنّ غير الإمام الذي أنهتكه العلّة!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 418

الإمام عليه السلام وابنته سكينة عليها السلام ..... ص : 418

والتفت الحسين إلى ابنته سكينة التي يصفها للحسن المثنّى بأنّ الإستغراق مع اللّه غالب عليها! فرأها منحازة عن النساء باكية نادبة فوقف عليها مصبّراً، ومسلّياً ولسان حاله يقول:

هذا الوداع عزيزتي والملتقى يوم القيامة عند حوض الكوثر

فدعي البكاء وللأسار تهيأي واستشعري الصبر الجميل وبادري

وإذا رأيتيني على وجه الثرى دامي الوريد مبضَّعاً فتصبّري «1»

فقال عمر بن سعد: ويحكم اهجموا عليه مادام مشغولًا بنفسه وحرمه، واللّه إن فرغ لكم لاتمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم، فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب المخيّم، وشكّ سهم بعض أزر النساء فدهشن وأرعبن وصحن ودخلن الخيمة ينظرن إلى الحسين كيف يصنع، فحمل عليهم كالليث الغضبان فلا يلحق أحداً إلّا بعجه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كل ناحية وهو يتقيها بصدره ونحره.». «2»

وقال ابن شهرآشوب: «ثم ودّع النساء وكانت سكينة تصيح فضمّها إلى صدره وقال:

سيطول بعدي يا سكينة فأعلمي منك البكاء إذا الحِمام دهاني

لاتحرقي قلبي بدمعك حسرة مادام منّي الروح في جثماني

فإذا قُتلتُ فأنتِ أولى بالذي تأتينه يا خيرة النسوان». «3»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 419

وصايا الإمام عليه السلام ..... ص : 419

من جملة الأعمال المهمّة التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء قبل مقتله دفع الوصايا إلى إبنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام حيث كان مريضاً ولم يستطع الجهاد بين يدي أبيه الحسين عليه السلام.

قال المسعودي: «ثم أحضر علي بن الحسين عليه السلام- وكان عليلًا- فأوصى إليه بالإسم الأعظم ومواريث الأنبياء عليهم السلام، وعرّفه أنّ قد دفع العلوم والصحف والمصاحف والسلاح إلى أمّ سلمة رضي اللّه عنها وأمرها أن تدفع جميع ذلك إليه». «1»

وفي دعوات الراوندي الراوندي: عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال:

ضمّني والدي عليه السلام إلى صدره حين قتل والدماء تغلي،

وهو يقول: يا بني احفظ عنّي دعاءً علمتنيه فاطمه صلوات اللّه عليها، وعلّمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، وعلّمه جبرئيل في الحاجة، والهمّ والغمّ، والنازلة إذا نزلت، والأمر العظيم الفادح.

قال: أُدع: «بحق يس والقرآن الحكيم، وبحقّ طه والقرآن العظيم، يا من يقدر على حوائج السائلين، يا من يعلم ما في الضمير، يا منفّس عن المكروبين، يا مفرّج عن

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 420

المغمومين، يا راحم الشيخ الكبير، يارازق الطفل الصغير، يا من لايحتاج إلى التفسير، صلّ على محمد وآل محمد وافعل بي كذا وكذا». «1»

وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: انّ الحسين عليه السلام لمّا حضره الذي حضره دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين عليه السلام «2» فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة، وكان علي بن الحسين عليهما السلام مبطوناً معهم لايرون إلا أنّه لما به، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين عليهما السلام ثم صار ذلك إلينا.». «3»

الهجوم على رحل الإمام عليه السلام وعياله ..... ص : 420

روى الطبري عن أبي مخنف: «ثم إنّ شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر من عشرة من رجّالة أهل الكوفة قِبَل منزل الحسين الذي فيه ثقله وعياله، فمشى نحوه، فحالوا بينه وبين رحله، فقال الحسين:

ويلكم إن لم يكن لكم دين، وكنتم لاتخافون يوم المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً ذوي أحساب، إمنعوا رحلي وأهلي من طغامكم «4» وجهالكم.

فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يابن فاطمة. «5»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 421

وفي اللهوف أنه عليه السلام قال لهم:

«يا شيعة آل أبي سفيان إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون». «1»

وعن ابن صبّاغ المالكي أنّه: «حمل عليهم حملة منكرة قتل فيها كثيراً

من الرجال والأبطال، ورجع سالماً إلى موقفه عند الحريم، ثم حمل حملة أخرى وأراد الكرَّ راجعاً إلى موقفه، فحال الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله بينه وبين الحريم والمرجع إليهم في جماعة من أبطالهم وشجعانهم، وأحدقوا به، ثم إنّ جماعة منهم تبادروا إلى الحريم والأطفال يريدون سلبهم فصاح الحسين:

ويحكم يا شيعة الشيطان كفّوا سفهاءكم عن التعرض للنساء والأطفال فإنهم لم يقاتلوا.

فقال الشمر لعنه اللّه: كفّوا عنهم واقصدوا الرجل بنفسه». «2»

وعن المدائني: وحمل شمر- لعنه اللّه- على عسكر الحسين، فجاء الى فسطاطه لينهبهُ، فقال له الحسين عليه السلام: ويلكم إنْ لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في الدنيا، فرحلي لكم عن ساعة مباح، قال: فاستحيا ورجع». «3»

العطش يشتدّ بالإمام عليه السلام في حملته الأخيرة! ..... ص : 421

قال الخوارزمي: «فقصده القوم بالحرب من كلّ جانب، فجعل يحمل عليهم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 422

ويحملون عليه، وهو في ذلك يطلب الماء ليشرب منه شربة! «1» فكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه حتّى أجلوه عنه، ثمّ رماه رجل يُقال له أبو الحتوف الجعفي بسهم فوقع السهم في جبهته، فنزع الحسين السهم ورمى به، فسال الدم

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 423

على وجهه ولحيته، «1» فقال:

أللّهمّ قد ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العُصاة العتاة! أللّهمّ فاحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولاتذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولاتغفر لهم أبداً!

ثمّ حمل عليهم كالليث المغضب، فجعل لايلحق أحداً إلّا بعجه بسيفه وألحقه بالحضيض، والسهام تأخذه من كلّ ناحية، وهو يتلقّاها بنحره وصدره، ويقول:

يا أُمّة السوء! بئسما خلفتم محمّداً صلى الله عليه و آله في عترته! أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد اللّه الصالحين فتهابوا قتله، بل يهون عليكم عند قتلكم إيّاي، وايمُ اللّه إنّي لأرجو أن يُكرمني ربّي بهوانكم، ثمّ ينتقم

منكم من حيث لاتشعرون!

فصاح به الحصين بن مالك السكوني: يا ابن فاطمة! بماذا ينتقم لك منّا؟

فقال:

يُلقي بأسكم بينكم، ويسفك دماءكم، ثم يصبّ عليك العذاب الأليم.

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 424

ثمّ جعل يُقاتل حتّى أصابته إثنتان وسبعون جراحة. «1»». «2»

أمّا الطبري فيروي هذه اللحظات المأساوية عن لسان حميد بن مسلم قال:

«كانت عليه جُبّة من خزّ، وكان معتمّاً وكان مخضوباً بالوسمة، وسمعته يقول قبل أن يُقتل، وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع، يتّقي الرميّة، ويفترص العورة، ويشدّ على الخيل، وهو يقول:

أعلى قتلي تحاثون!؟ أما واللّه لاتقتلون بعدي عبداً من عباد اللهِ اللّهُ أسخط عليكم لقتله منّي، وأيمُ اللّه إنّي لأرجو أنْ يُكرمني اللّه بهوانكم، ثمّ ينتقم لي

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 425

منكم من حيث لاتشعرون، أمّا واللّه أنْ لو قتلتموني لقد ألقى اللّه بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثمّ لايرضى لكم حتّى يضاعف لكم العذاب الأليم.

قال: ولقد مكث طويلًا من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنّهم كان يتّقي بعضهم ببعض، ويحبّ هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء!

قال: فنادى شمر في الناس: ويحكم! ماذا تنتظرون بالرجل!؟ اقتلوه ثكلتكم أمّهاتكم!

قال: فحُملَ عليه من كلّ جانب فضُربت كفّه اليسرى ضربة، ضربها زرعة بن شريك التميمي، وضُرب على عاتقه، ثمّ انصرفوا وهو ينوء ويكبو!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 426

السهم المحدّد المسموم القاتل! ..... ص : 426

أمّا الخوارزمي فيواصل تفاصيل المقتل- بعد أن ذكر كيف أنّ الإمام عليه السلام حمل على القوم حملة الليث المغضب، فجعل لايلحق أحداً إلّا بعجه بسيفه وألحقه بالحضيض، والسهام تأخذه من كلّ ناحية، وهو يتلقاها بنحره وصدره، حتّى أصابته إثنتان وسبعون جراحة- فيقول: «فوقف يستريح وقد ضعف عن القتال، فبينا هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته، فسالت الدماء من جبهته، فأخذ الثوب ليمسح

عن جبهته فأتاه سهم محدّد، مسموم، له ثلاث شُعب، فوقع في قلبه، فقال الحسين عليه السلام: بسم اللّه وباللّه وعلى ملّة رسول اللّه- ورفع رأسه إلى السماء- وقال: إلهي، إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلًا ليس عى وجه الأرض ابن نبيّ غيره!

ثمّ أخذ السهم وأخرجه من وراء ظهره فانبعث الدّم كالميزاب! فوضع يده على الجرح، فلّما امتلأت دماً رمى بها إلى السماء، فما رجع من ذلك قطرة! وما عُرفت الحمرة في السماء حتّى رمى الحسين بدمه إلى السماء! ثمّ وضع يده على الجرح ثانياً، فلمّا امتلأت لطّخ بها رأسه ولحيته! وقال:

هكذا واللّهِ أكون حتّى ألقى جدّي محمّداً صلى الله عليه و آله وأنا مخضوب بدمي، وأقول: يا رسول اللّه! قتلني فلان وفلان!

ثمّ ضعف عن القتال، فوقف مكانه، فكلّما أتاه رجل من الناس وانتهى إليه انصرف عنه، وكره أن يلقى اللّه بدمه! حتّى جاءه رجلٌ من كندة يقال له مالك بن نسر، فضربه بالسيف على رأسه، وكان عليه برنس، فقطع البرنس وامتلأ دماً، فقال له الحسين: لا أكلتَ بيمينك ولاشربت بها، وحشرك اللّه مع الظالمين. «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 427

ثمّ ألقى البرنس ولبس قلنسوة واعتمّ عليها، وقد أعيى وتبلَّد، وجاء الكندي فأخذ البرنس «1»- وكان من خزّ- فلّما قُدم به بعد ذلك على امرأته أم عبداللّه ليغسله من الدّم، قالت له امرأتُه: أتسلب ابن بنت رسول اللّه برنسه وتدخل بيتي!؟ أُخرجْ عنّي حشا اللّهُ قبرك ناراً. وذكر أصحابه أنّه يبست يداه، ولم يزل فقيراً بأسوء حال إلى أن مات.

ثمّ نادى شمر: ما تنتظرون بالرجل؟ فقد أثخنته السهام، فأخذت به الرماح والسيوف، فضربه رجل يُقال له: زرعة بن شريك التميمي ضربة منكرة، ورماه سنان بن أنس بسهم في

نحره، وطعنه صالح بن وهب المرّي على خاصرته طعنة منكرة، فسقط الحسين عن فرسه «2» إلى الأرض على خدّه الأيمن، ثم استوى جالساً

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 428

ونزع السهم من نحره، «1» ثم دنا عمر بن سعد من الحسين ليراه!

قال حميد بن مسلم: وخرجت زينب بنت عليّ وقرطاها يجولان في أُذنيها «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 429

وهي تقول: ليت السماء أطبقت على الأرض! يا ابن سعد! أيُقتل أبوعبداللّه وأنت تنظر إليه!؟ فجعلت دموعه تسيل على خدّيه ولحيته، فصرف وجهه عنها، والحسين جالسٌ وعليه جُبّة خز، وقد تحاماه الناس، فصاح شمر: ويحكم ما تنتظرون!؟ اقتلوه ثكلتكم أمّهاتكم! فضربه زرعة بن شريك فأبان كفّه اليسرى، ثمّ ضربه على عاتقه فجعل عليه السلام يكبو مرّة ويقوم أخرى، فحمل عليه سنان ابن أنس في تلك الحال فطعنه بالرمح فصرعه، «1» وقال لخولّي بن يزيد: احتزّ رأسه. فضعف وارتعدت يداه، فقال له سنان: فتّ اللّه عضدك وأبان يدك. «2» فنزل إليه نصر بن خرشة الضبابي، وقيل: بل شمر بن ذي الجوشن، «3» وكان أبرص، فضربه برجله، وألقاه على قفاه، ثمّ أخذ بلحيته! فقال له الحسين عليه السلام: أنت الكلبُ الأبقع الذي رأيته في منامي!!

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 430

فقال شمر: أتشبّهني بالكلاب يا ابن فاطمة؟ ثمّ جعل يضرب بسيفه مذبح الحسين عليه السلام ويقول:

أقتلك اليوم ونفسي تعلمُ علماً يقيناً ليس فيه مزعم

ولا مجالٌ لا ولاتكتّم أنّ أباك خير من يُكلَّم

وروي أنّه جاء إليه شمر بن ذي الجوشن، وسنان بن أنس، والحسين عليه السلام بآخر رمق يلوك لسانه من العطش! فرفسه شمر برجله وقال: يا ابن أبي تراب! ألستَ تزعم أنّ اباك على حوض النبيّ يسقي من أحبّه!؟ فاصبر حتّى تأخذ الماء من يده.

ثم

قال لسنان بن أنس: احتزّ رأسه من قفاه! فقال: لا واللّه، لا أفعل ذلك فيكون جدُّه محمّد خصمي!! فغضب شمر منه، وجلس على صدر الحسين عليه السلام، وقبض على لحيته وهمَّ بقتله، فضحك الحسين وقال له: أتقتلني!؟ أولا تعلم من أنا!؟

قال: أعرفك حقَّ المعرفة، أمُّك فاطمة الزهراء، وابوك عليٌّ المرتضى، وجدّك محمّد المصطفى، وخصيمك اللّه العليّ الأعلى، وأقتلك ولا أُبالي! وضربه بسيفه إثنتي عشرة ضربة، ثمّ حزَّ رأسه». «1»

«وروى هلال بن نافع قال: إنّي لواقفٌ مع أصحاب عمر بن سعد، إذ صرخ صارخ: أبشر أيها الأمير، فهذا شمر قتل الحسين! قال: فخرجت بين الصفّين،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 431

فوقفت عليه، فإنّه ليجود بنفسه، فواللّه ما رأيت قتيلًا مضمّخاً بدمه أحسنَ منه ولا أنور وجهاً! ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكر في قتله! فاستسقى في تلك الحال ماءً، فسمعت رجلًا يقول له: واللّه لاتذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها! فقال له الحسين عليه السلام:

بل أرد على جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله واسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشرب من ماءٍ غير آسن، واشكو إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي!

قال: فغضبوا بأجمعهم حتّى كأنّ اللّه لم يجعل في قلب أحدٍ منهم من الرحمة شيئاً! فاحتزّوا رأسه وإنّه ليكلّمهم! فعجبت من قلّة رحمتهم، وقلت واللّهِ لا أُجامعكم على أمرٍ أبداً». «1»

وروى الشيخ الصدوق (ره) والشيخ الكليني (ره) أيضاً، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه: «لمّا ضُرب الحسين بن عليّ عليهما السلام بالسيف، ثمّ ابتُدر ليُقطع رأسه، نادى منادٍ من قبل ربّ العزّة تبارك وتعالى من بطنان العرش فقال: ألا أيتها الأمّة المتحيّرة الظالمة بعد نبيها، لا وفّقكم اللّه

لأضحى ولافطر.

قال: ثمّ قال أبوعبداللّه عليه السلام: لا جرم واللّه، ما وفّقوا ولايوفّقون أبداً حتّى يقوم ثائر الحسين عليه السلام». «2»

وقال الخوارزمي: «وارتفعت في السماء في ذلك الوقت غبرة شديدة مظلمة، فيها ريحٌ حمراء، لايُرى فيها عين ولا أثر، حتّى ظنّ القوم أنّ العذاب قد جاءهم،

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 432

فلبثوا بذلك ساعة، ثمّ انجلت عنهم». «1»

وروى ابن المغازلي بسندٍ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنه قال:

«إنّ قاتل الحسين عليه السلام في تابوت من نارٍ، عليه نصف عذاب أهل النّار، وقد شُدَّ يداه ورجلاه بسلاسل من نار، مُنَكَّسٌ في النار حتى يقع في قعر جهنّم، وله ريح يتعوَّذ أهل النار إلى ربّهم عزّ وجل من شدَّة ريح نتنه، وهو فيها خالدٌ ذائق العذاب العظيم، كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها، حتّى يذوقوا العذاب الأليم، لايُفتَّر عنهم ساعة، وسقوا من حميم جهنّم، الويل لهم من عذاب اللّه عزّ وجلّ». «2»

سلب الإمام عليه السلام بعد قتله! ..... ص : 432

قال السيّد ابن طاووس (ره): «ثمّ أقبلوا على سلب الحسين، فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي، فلبسه فصار أبرص وامتعط شعره! .. وأخذ سراويله بحر بن كعب التيمي لعنه اللّه تعالى، فروي أنّه صار زمناً مقعداً من رجليه! وأخذ عمامته أخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي، وقيل: جابر بن يزيد الأودي لعنهما اللّه، فاعتمّ بها فصار معتوهاً! وأخذ نعليه الأسود بن خالد لعنه اللّه، وأخذ خاتمه

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 433

بجدل بن سليم الكلبي وقطع إصبعه عليه السلام مع الخاتم، وهذا أخذه المختار فقطع يديه ورجليه وتركه يتشحّط في دمه حتّى هلك، وأخذ قطيفة له عليه السلام كانت من خزّ قيس بن الأشعث «1»، وأخذ درعه البتراء عمر بن سعد. فلمّا قُتل عمر وهبها المختار

لأبي عمرة قاتله، وأخذ سيفه جُميع بن الخلق الأودي، وقيل: رجل من بني تميم يُقال له أسود بن حنظلة، وفي رواية ابن أبي سعد أنه أخذ سيفه الفلافس النهشلي، وزاد محمد بن زكريا: أنه وقع بعد ذلك إلى بنت حبيب بن بُديل، وهذا السيف المنهوب المشهور ليس بذي الفقار، فإنّ ذلك كان مذخوراً ومصوناً مع أمثاله من ذخائر النبوّة والإمامة، وقد نقل الرواة تصديق ما قلناه وصورة ما حكيناه». «2»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 434

رضّ جسد الإمام عليه السلام بحوافر الخيل ..... ص : 434

قال السيد ابن طاووس (ره): «قال الراوي: ثمّ نادى عمر بن سعد في أصحابه:

من ينتدب للحسين فيواطي ء الخيل ظهره وصدره! فانتدب منهم عشرة، وهم:

إسحاق بن حويّة الذي سلب الحسين عليه السلام قميصه، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن طفيل السنبسي، وعمر بن صبيح الصيداوي، ورجاء بن منقذ العبدي، وسالم بن خثيمة الجعفي، وواحظ بن ناعم، وصالح بن وهب الجعفي، وهاني بن ثبيت الحضرمي، واسيد بن مالك، لعنهم اللّه تعالى فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم حتّى رضّوا صدره وظهره». «1»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 435

وكان ابن زياد قد أمر ابن سعد بذلك! ..... ص : 435

كان آخر ما كتبه عبيداللّه بن زياد- وأرسله بيد شمر- إلى عمر بن سعد: «إنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعتذر له، ولا لتكون له عندي شافعاً، أنظر فإنْ نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليَّ سِلماً، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثِّل بهم! فإنّهم لذلك مستحقّون! وإن قُتل الحسين فأوطى ء الخيل صدره وظهره! فإنّه عاتٍ ظلوم!! وليس أرى أنّ هذا يضرُّ بعد الموت شيئاً، ولكنْ عليَّ قولٌ قد قلته: لو قتلته لفعلتُ هذا به.

فإن أنتَ مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإنْ أبيتَ فاعتزل عملنا وجُندنا، وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام.». «1»

وأكثر المصادر التأريخية تؤكّد على أنّ عمر بن سعد كان قد امتثل أمر ابن زياد في تنفيذ هذه الجريمة بعد قتل الإمام عليه السلام، «2» لكنّ العلامة المجلسي (ره) بعدما

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 436

ذكر في كتابه بحار الأنوار كلام السيّد ابن طاووس (ره) في هذه القضية، قال:

المعتمد عندي ما سيأتي في رواية الكافي أنه لم يتيسّر لهم ذلك!. «1»

وأمّا رواية الكليني (ره) ..... ص : 436

التي اعتمد عليها العلّامة المجلسي (ره) فهي:

«الحسين بن أحمد قال: حدثني أبوكريب، وأبوسعيد الأشجّ قال، حدّثنا عبداللّه بن إدريس، عن أبيه إدريس بن عبداللّه الأودي قال: لمّا قُتل الحسين عليه السلام أراد القوم أن يوطّئوه الخيل فقالت فضّة لزينب: يا سيدتي إنَّ سفينة «2» كُسر به في البحر، فخرج إلى جزيرة فإذا هو بأسد، فقال: يا أبا الحارث أنا مولى رسول اللّه صلى الله عليه و آله! فهمهم بين يديه حتى وقفه على الطريق، والأسد رابض في ناحية فدعيني أمضي إليه فأعلمه ماهم صانعون

غداً! فمضت إليه فقالت: يا أبا الحارث.

فرفع رأسه- ثم قالت: أتدري ما يريدون أن يعملوا غداً بأبي عبداللّه عليه السلام؟ يريدون أن يوطّئوا الخيل ظهره! قال: فمشى حتّى وضع يديه على جسد الحسين عليه السلام! فأقبلت الخيل فلمّا نظروا إليه قال لهم: عمر بن سعد- لعنه اللّه- فتنة لاتثيروها، فانصرفوا». «3»

ومن الغريب جدّاً اعتماد العلامة المجلسي (ره) في قوله (لم يتيسّر لهم ذلك) على هذه الرواية فقط التي حكم هو بجهالتها في مرآة العقول، حيث قال: الحديث مجهول. «4»

مع الركب الحسينى (ج 4)، ص: 437

التحقيق في رجال السند: ..... ص : 437

أمّا الحسين بن محمّد فغايته ما قيل في حقّه إنّ طريق الشيخ الطوسي في المشيخة صحيح إليه، «1» وأمّا أبوكريب وأبوسعيد الأشجّ فلم يرد في حقّهما مدح ولا ذم، «2» وأمّا إدريس بن عبداللّه الأزدي أو الأودي فعدّه المرحوم المامقاني في عداد المجاهيل، «3» وأمّا إدريس بن عبداللّه فلم يرد أيضاً فيه مدح ولاذم. «4»

فتكون الرواية ضعيفة السند بلا إشكال. ومع غضّ النظر عن مسألة السند فإن هذه الرواية لاتنتهي إلى كلام المعصوم الذي يعدّ حجّة لنا بل تنتهي إلى إدريس بن عبداللّه الأودي وهو ضعيف.

كلام البرغاني: ..... ص : 437

قال الفاضل البرغاني: «وكأنهم- لعنهم اللّه- أرادوا أن يوطّئوا الخيل بحيث لايبقى من جسده الشريف أثر. فمنعم الأسد من ذلك، وإلّا فالعشرة المتقدّمة لعنهم اللّه قد رضّوا صدره وظهره على حسب ما أمر عبيداللّه بن زياد أوّلًا، وجاءهم أمرٌ آخر بأن لايبقوا من جسده الشريف أثراً! فحال بينهم وبينه الأسد.

وحكي عن السيّد المرتضى ذلك.». «5»

الجزء الخامس

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة (الجزء الخامس)

مقدمة مركز الدراسات الإسلاميّة ..... ص : 5

التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

الحمدُ للّه الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ودليلًا على نعمه وآلائه. والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعدُ:

فهذا الكتاب: (وقائع الطريق من كربلاء إلى الشام) هو الجزء الخامس من دارستنا التأريخيّة التفصيليّة الموسعة، الموسومة ب (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة)، نقدّمه إلى القرّاء الكرام والمحقّقين الأفاضل لينضمَّ إلى مجموعة الأجزاء الصادرة من هذه الموسوعة من قبله، وهي:

1- الإمام الحسين عليه السلام في المدينة المنوّرة.

2- الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة.

3- وقائع الطريق من مكّة إلى كربلاء.

4- الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

وكتابنا هذا (الجزء الخامس) يواصل متابعة حركة أحداث النهضة الحسينية ما بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، وقراءة ما جرى على بقية أهل البيت عليهم السلام- في حركة الركب الحسيني من كربلاء إلى الكوفة، ثمّ منها إلى الشام- قراءة تحليلية نقدية تتلمس الاستفسار والإجابة الصحيحة عن كلّ مُشكل مهمّ في مسار هذه المتابعة.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 6

ولاندّعي شططاً

إذا قلنا- كما قلنا بحقّ الأجزاء السابقة- إنّ هذا الكتاب قد حوى من التحقيقات والنظرات والإشارات الجديدة ما وفّقه لسدّ جملة من ثغرات كثيرة في تأريخ النهضة الحسينية المقدّسة كانت قبل ذلك مبهمة غامضة، لم تنل قسطها اللازم من التحقيق، ولم تتوفر الإجابة الوافية بشأنها.

وهنا لابدّ من أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى مؤلّف هذا الجزء سماحة الشيخ المحقّق محمّد جعفر الطبسي لما بذله من جهد كبير في إعداد مادّة هذا البحث القيّم.

ويحسن هنا أيضاً أن ننوّه أن سماحة المؤلّف قد تكفّل من قبل ببحث حركة أحداث «المقتل» وإعداد مادة بحثه ضمن الجزء الرابع، كما حقّق كتاب (إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام) للمرحوم الشيخ المحقّق محمّد السماوي، والذي صدر- هو الآخر- عن مركزنا هذا، ولشيخنا المؤلف مؤلّفات أخرى أيضاً. «1»

كما ينبغي هنا أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى فضيلة الأستاذ المحقّق علي الشاوي الذي تولّى العناية بهذا البحث مراجعة ونقداً وتنظيماً وتكميلًا، كعنايته من قبل بالأجزاء الثاني، والثالث، والرابع- فضلًا عن تأليفه الجزء الأوّل من هذه الموسوعة- داعين له بمزيد من الموفقيّة في ميدان التحقيق ومؤازرة المحققين.

مركز الدراسات الإسلامية

التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 7

مقدّمة المؤلّف: «الدور التبليغي المتمم للنهضة المقدّسة» ..... ص : 7

اشارة

الحمدُ للَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد صلى الله عليه و آله، وعلى أهل بيته الطاهرين، سيّما سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليه السلام.

لاشك ولاريب في أنّ الدور التبليغي الذي قمن به النساء عامّة قبل وحين وبعد واقعة الطف، وعقائل الوحي خاصة، كان له أكبر الأثر والدور في توعية الناس وتعريفهم بحقيقة الأمور.

وبدأ هذا الدور من الكوفة عند ورود سفير الحسين عليه السلام وخذلان أهلها إياه، إلّا المرأة التي كانت

تسمّى (طوعة) رضي اللّه عنها، حيث سمحت لنفسها أن تُدخل مسلماً دارها وتضيّفه بأحسن وجه.

ثمّ تلك المرأة التي تأمر ولدها أن ينصر الإمام عليه السلام وتقول له:

أُخرج فقاتل بين يدي ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله. حتى تقتل: فقال: أفعل. فخرج.

وقال له الحسين عليه السلام: هذا شابٌ قُتل أبوه ولعلّ أمّه تكره خروجه.

فقال الشاب: إنّ أمّي أمرتني يابن رسول اللّه. «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 8

وفي هذا الإطار- إطار الفداء والتضحية- يذكر تأريخ كربلاء أنّ أمّ وهب بن عبداللّه بن حبّاب الكلبي كانت في كربلاء، وكانت تخاطب ولدها: قمْ يا بني فانصر ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله. فلم يزل يقاتل ...، ثمّ قُطعت يداه، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمّي! قاتل دون الطيبين حرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ... وبعد أن قتل ذهبت إليه تمسح الدم عن وجهه، فبصر بها شمر، فأمر غلاماً له فضربها بعمود كان معه فشدخها وقتلها .. وهي أوّل امرأة قُتلت في عسكر الحسين عليه السلام. «1»

ولم تزل المرأة الحسينية الغيورة تُبدي وفاءها لسيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام، ففي يوم عاشوراء، وبعدما قُتل ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأخذ العدوّ يهجم على بنات العترة ويسلب النساء، وقفت امرأة من بكر بن وائل وصرخت في وجوه آل بكر وهي تقول: أتُسلبُ بنات رسول اللّه!؟ لاحكم إلّا للّه! يا لثارات المصطفى. «2»

إنّ شعار (يالثارات المصطفى) الذي رفعته هذه المرأة من قبيلة بكر بن وائل شعارٌ مهم جداً تأريخياً وسياسياً، ذلك لأنّ هذه المرأة الغيورة أدركت أنّ حقيقة المواجهة هي بين الأموية المنافقة وبين الإسلام الذي جاء به

المصطفى صلى الله عليه و آله.

وهذا أوّل خيوط الفتح الحسيني: وهو فصل الأموية عن الإسلام.

وعندما سلب مالك بن نسر (بشير) الكندي برنس الإمام عليه السلام، وأتى به إلى أهله، لتغسله قالت له زوجه- أمّ عبداللّه بنت الحارث-: أتسلب ابن بنت رسول

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 9

الله برنسه و تدخل بيتي؟ أخرج عنّي حشا اللّه قبرك ناراً!. «1»

هذا البحث له مصاديق مليئة في واقعة الطفّ، لسنا بصدد استيعابها.

دور نسوة بني هاشم ..... ص : 9

وأما دور نساء بني هاشم- أعمّ من العقيلة زينب وفاطمة بنت الحسين عليه السلام وأم كلثوم- فلهنّ كلّ الدور في تبليغ الرسالة الخالدة التي كنّ يستشعرن مسؤوليتهن في وجوب الدفاع عنها.

إنَّ الشي ء المهمّ الذي كان بنو أميّة يهتمّون به هو أن يعرّفوا للنّاس الإمام الحسين عليه السلام أنّه رجل خارجي، خرج على يزيد في العراق، وسعى ليشقّ عصا الطاعة، وليفرّق كلمة الأمّة .. كان الأمويون يسعون لترسيخ هذه الفكرة في النفوس الضعيفة بعد واقعة كربلاء.

وكان يزيد و عبيداللّه بن زياد يصرّان عامدين على وصف الإمام عليه السلام بأنّه كذاب .. فهذا عبيداللّه بن زياد يخاطب الأسرى من بني هاشم في قصره ويقول بأنّ اللّه نصر يزيد وقتل الكذّاب. فتقوم زينب عليها السلام وتقول ردّاً على أراجيفه:

الحمدُ للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله، وطهّرنا من الرّجس تطهيرا، وإنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد للّه. «2»

من ثم ننتقل لهاتين الفكرتين: فكرة بني أميّة بأنّ الحسين عليه السلام كاذب في دعواه! وفكرة العقيلة زينب عليهما السلام: بأنّ الإمام عليه السلام من شجرة أهل بيت طهّرهم اللَّه تطهيرا.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 10

فنرى أنّ زينب سلام اللّه عليها بعد واقعة الطفّ قامت بكل وجودها أمام الطغاة من بني

أميّة لتكشف النقاب عن تلك الوجوه الممسوخة، ولتثبت للناس بأنّ الحسين ابن بنت رسول الإسلام عليهما السلام، وليس كما يزعم الناس بأنه خارجي خرج على يزيد.

والجدير بالذكر أنّ عمّال بني أميّة حينما حملوا رؤوس شهداء الطفّ مع السبايا الى الشام كانوا كثيراً ما يقولون للنّاس بأنّ الحسين عليه السلام خارجَى خرج على يزيد «1». وبهذا أرادوا قلب الحقائق للناس، وقد حقّقوا بالفعل تلك النتيجة ولكن لفترة قصيرة جدّاً.

مواصلة الرسالة التبليغية في دمشق ..... ص : 10

كانت دمشق تعدّ مركزاً أساسياً لبني أميّة إذ كان يزيد قد اتخذها عاصمة له، وكان قد أمر بجمع الناس، وأدخلوا سبايا الحسين عليه السلام بوضع فجيع، وكان يزيد يريد أن يستثمر تلكم الحال ضدّ أهل البيت عليهم السلام، لكنّ زينب عليها السلام أدّت رسالتها الخالدة فقامت في نفس المجلس، وهوت إلى جيبها فشقّته!! ثمّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب: يا حسيناه! يا حبيب المصطفى! يا ابن فاطمة الزهراء!

يقول الراوي: فأبكت واللّه كلّ من كان حاضراً في المجلس! ويزيد ساكت! «2»

وفي الشام أيضاً .. يروي الشيخ الصدوق (ره) عن فاطمة بنت عليّ عليها السلام «3» أنها قالت: «لمّا أُجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية رقّ لنا أوّل شي ء وألطفنا، ثمّ إنّ رجلًا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 11

من أهل الشام أحمر قام إليه فقال: يا أميرالمؤمنين! هب لي هذه الجارية تعينني- وكنت جارية وضيئة- فأرعبت وفرقت وظننت أنه يفعل ذلك!

فأخذت بثياب أختي وهي أكبر منّي وأعقل، فقالت: كذبت واللّه ولُعنت ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد فقال: بل كذبت! واللّه لو شئت لفعلته.

قالت: لا واللّه ما جعل الله ذلك لك إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا.

فغضب يزيد، ثم قال: إياي تستقبلين بهذا!؟ إنّما خرج من الدين أبوك

وأخوك.

فقالت: بدين اللّه ودين أبي وأخي وجدّي اهتديت أنت وجدّك وأبوك.

قال: كذبتِ يا عدوّة اللّه.

قالت: أميرٌ يشتم ظالماً ويقهر بسلطانه.

قالت فكأنّه لعنه اللّه استحيى فسكت ...». «1»

فزينب حقّاً من أبرز مصاديق «الذين يبلّغون رسالات اللّه ويخشونه ولا يخشون أحداً إلّا اللّه»، «2»

فهي لم تخف من أحدٍ في مجالس الحكّام الطغاة، وكان هدفها إيصال الرسالة المجيدة بأحسن وجه وصورة، ولقد استطاعت أن تبلّغ رسالات الله إلى أعداء اللّه من بني أميّة، فهذا الصراخ والعويل استطاع أن يغيّر كلّ شي ء! وما استطاع العدوّ أن يصل إلى أهدافه الشرّيرة!

إذن لنا أن نقول: لولا وجود زينب، وأمّ كلثوم، وفاطمة بنت الحسين، «3» ولولا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 12

خُطبهنّ الساخنة في الكوفة والشام لأخمد بنو أميّة صوت العدالة الإنسانيّة التي رفعها الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء، بحيث لم يبق شي ء إسمه كربلاء ولا حسين عليه السلام إلى يومنا هذا!

الامام السجّاد ودوره في كربلاء ..... ص : 12

لاشك في أنّ عليَّ بن الحسين عليه السلام كان مريضاً في كربلاء، وذلك لمصالح أشرنا إلى بعضها في هذا الكتاب، ولكنّ ما تجدر الإشارة إليه هو الدور الإعلامي والتبليغي الذي قام به الإمام السجّاد عليه السلام بعد قتل أبيه الإمام الحسين عليه السلام للتعريف بالنهضة الحسينية خلال خطاباته في الكوفة والشام.

فقد كان عليه السلام في الكوفة جنباً إلى جنب مع عمّته العقيلة زينب عليه السلام في الدفاع عن كيان النهضة الحسينية ومواجهة الإعلام الأموي الكاذب الذي كان منتشراً في آفاق العالم ضدّ أهل البيت عليهم السلام.

فحينما دخل الكوفة مع الأسرى، ورأى أهلها يضجّون ويبكون، خاطبهم قائلًا: «أتنوحون وتبكون من أجلنا!؟ فمن قتلنا!؟». «1»

ويقف عليه السلام أمام الحشود الكثيرة في الكوفة ليؤدّي رسالته الخالدة، فيقول: «أيها الناس! من عرفني فقد

عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي: أنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات! أنا ابن من انتُهك حريمه، وسُلب نعيمه، وانتُهب ماله، وسُبي عياله! أنا ابن من قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً ...

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 13

فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم وسَوْءاً لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمّتي!». «1»

كانت هذه الكلمات تصدر عنه عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام كان ما يزال مطروحاً في أرض المعركة! .. لقد أراد الإمام السجّاد عليه السلام أن يوجّه أنظار الكوفيين إلى عظم الجرم الذي ارتكبه بنو أميّة، وليقف بكلّ وجوده أمام دعوى أنّ الحسين عليه السلام خارجي خرج على يزيد، ويعرّف أباه الإمام الحسين عليه السلام بأنه ليس كما يزعم بنو أميّة، بل هو من أهل بيت النبّوة ومعدن الرسالة.

الامام السجّاد في مجلس الطاغية ابن زياد ..... ص : 13

لمّا أُدخل الإمام عليه السلام مع أسرى أهل بيت النبّوة على عبيداللّه بن زياد في الكوفة، وكان عليه السلام مغلولًا بالحبل، «2» وأراد الملعون قتله، ودارت المشاجرة بين زينب وابن زياد، قال عليه السلام لعمّته زينب عليها السلام:

«أسكتي ياعمّة حتّى أكلّمه. ثم أقبل إليه فقال: أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد!؟

أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا من اللّه الشهادة؟». «3»

بهذا المنطق وقف عليه السلام أمام تفرعن ابن زياد وتجبّره وطغيانه ...

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 14

الامام السجاد في الشام ..... ص : 14

دعا يزيد بن معاوية خاطبه وأمره أن يصعد المنبر، فصعد الخاطب، فذمَّ الإمام الحسين عليه السلام، وبالغ في ذمّ أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام، فقام إليه الإمام السجّاد عليه السلام وقال له: «ويلك أيها الخاطب! اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوَّأ مقعدك من النار!». «1»

أمّا في مجلس يزيد فيقول الخوارزمي: «فتقدّم عليّ بن الحسين حتّى وقف بين يدي يزيد وقال:

لا تطمعوا أنْ تهينونا ونكرمكم وأنْ نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

فاللّه يعلمُ أنّا لا نحبّكم ولا نلومكم إنْ لم تحبّونا

فقال يزيد: صدقتَ! ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين، فالحمد للّه الذي قتلهما وسفك دماءهما! ثم قال: يا عليّ! إنّ أباك قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعني في سلطاني، فصنع اللّه به ما قد رأيت! «2»

وفي تفسير علي بن ابراهيم القمي: قال الصادق عليه السلام: لما أدخل رأس الحسين عليه السلام على يزيد لعنه اللَّه، وأدخل عليه علي بن الحسين عليه السلام وبنات أمير المؤمنين عليه السلام وكان علي بن الحسين مقيداً مغلولًا، فقال يزيد: يا علي بن الحسين عليه السلام الحمد لله الذي قتل أباك.

فقال علي بن الحسين عليه السلام: لعن اللّه من قتل أبي. قال فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه عليه السلام.

فقال علي بن الحسين عليه السلام: فاذا قتلتني فبنات رسول الله صلى الله عليه و آله من يردهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟ فقال: أنت تردهم إلى منازلهم. ثم دعا بمبرد، فأقبل يبرد الجامعة من عنقه ليده. ثم قال له: يا علي بن الحسين أتدري ما الذي أريد

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 15

بذلك؟ قال: بلى تريد أن لا يكون لأحد عليّ منّة غيرك. فقال يزيد: هذا واللَّه ما أردت فعله. ثم قال يزيد: يا علي بن الحسين عليه السلام «ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم». فقال علي بن الحسين عليه السلام: كلا، ما هذا فينا نزلت، إنما نزلت فينا: «ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا في أنفسكم إلّا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على اللَّه يسير.

لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم» فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا. «1»

قال الخوارزمي: فقال علي بن الحسين عليه السلام:

يا ابن معاوية وهند وصخر! لم تزل النبّوة والإمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد، ولقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب في يوم بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار.

ثمَّ جعل عليّ بن الحسين عليه السلام يقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي منهم أسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم

ثم قال عليّ بن الحسين عليه السلام:

«ويلك يا يزيد! إنّك لو تدري ماذا صنعت، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي، إذن لهربت إلى الجبال، وافترشت الرمال، ودعوت بالويل والثبور، أيكون رأس أبي الحسين بن عليّ وفاطمة منصوباً على

باب مدينتكم وهو وديعة رسول اللّه فيكم!؟ فأبشر يا يزيد بالخزي والندامة إذا جُمع الناس غداً ليوم القيامة!.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 16

تلك المواقف البطولية هي التي استطاعت أن تقف أمام التيّارات الهدّامة، فبنو أميّة أرادوا مسخ الإسلام الأصيل، وتوهّموا أنهم بلغوا ذلك الهدف بقتل سيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام! ولكنّ مواقف السيّدة زينب، وأمّ كلثوم وفاطمة بنت الحسين سلام اللّه عليه وعليهنّ، وعلى رأسهم سيّد الساجدين عليه السلام منعت العدوّ من أن يصل إلى هدفه الشيطاني.

وهذا الكتاب ... ..... ص : 16

يتناول الوقائع المؤلمة بعد مقتل سيد الشهداء عليه السلام حتى ورود الركب الحسيني أرض الشام. والبحث فى مقصدين.

المقصد الأوّل: ويشتمل على استدراك ما فات في المجلد الرابع غير ما ذكرناه هناك، وهو يكون على فصلين:

الفصل الأول: ويشتمل على آيات و تجلّيات الغضب الإلهي في السماء والأرض لمقتل سيد الشهداء عليه السلام.

الفصل الثاني: ويشتمل على الوقائع المتأخرة عن قتله عليه السلام.

المقصد الثاني: ويشتمل على وقائع الطريق حتى ورود الركب الحسيني أرض الشام، وهو يكون على فصلين:

الفصل الأول: ويشتمل على وقائع حركة الركب الحسيني من كربلاء إلى الكوفة والأحداث التي جرت على أهل البيت في الكوفة نفسها.

الفصل الثاني: ويشتمل على وقايع حركة الركب الحسيني من الكوفة إلى الشام.

نسأل الله أن يوفق الجميع لخدمة الدين الحنيف، إنه سميع الدعاء.

محمّد جعفر الطبسي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 17

المقصد الأول ..... ص : 17

اشارة

وهو يشتمل على استدراك ما فات في المجلد الرابع غير ما ذكرناه هناك. ويشتمل على فصلين:

الفصل الأول: تجليّات الغضب الإلهي لمقتل سيّد الشهداء عليه السلام ..... ص : 17
اشارة

«السلام عليك يا حجّة اللّه وابن حجّته، السلام عليك يا قتيل اللّه وابن قتيله، السلام عليك يا ثار اللّه وابن ثاره، السلام عليك يا وتر اللّه الموتور في السموات والأرض، أشهد أنّ دمك سكن في الخلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السموات السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، ومن يتقلّب في الجنّة والنار من خلق ربّنا، وما يرى وما لايُرى ...». «1»

لقد انعكس الغضب الإلهي لمقتل سيّد الشهداء أبي عبداللّه عليه السلام في مرايا عوالم الكائنات في صور منوّعة عديدة، ولقد رؤيت آيات هذا الغضب الإلهي في عالم الشهادة في السماء وفي الأرض، وفي النبات وفي الحيوان، وفي البحر وفي البرّ، وعرف بعض الناس علّة هذه الآيات في أقطار، وجهلها آخرون في أقطار أُخرى.

ويمكننا أن نتابع- من خلال الآثار الروائية- آيات هذا الغضب الإلهي على

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 20

النحو التالي:

الآيات السماوية ..... ص : 20
اشارة

ورد ذكر الآيات السماوية الكاشفة عن غضب اللّه تعالى لمقتل الإمام الحسين عليه السلام في المصادر السنيّة والشيعيّة الحديثية والتأريخية على حدّ سواء، ولم يتعرّض لإنكارها إلّا شرذمة قليلون من عديمي الإيمان والمعرفة، «1» ومن الآثار الروائية والتأريخية في هذا الصدد:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 21

1- صرخة جبرئيل عليه السلام ..... ص : 21

روى ابن قولويه بسنده، عن الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«إنّ الحسين لمّا قُتل أتاهم آتٍ وهم في العسكر، فصرخ فزبر، فقال لهم: وكيف لا أصرخ ورسول اللّه صلى الله عليه و آله قائم ينظر إلى الأرض مرّة وإلى حزبكم مرّة، وأنا أخاف أن يدعو اللّه على أهل الأرض فأهلك فيهم، فقال بعض لبعض:

هذا إنسان مجنون! فقال التوّابون: تا اللّه! ما صنعنا لأنفسنا!؟ قتلنا لابن سميّة سيّد شباب أهل الجنّة!! فخرجوا على عبيد اللّه بن زياد، فكان من أمرهم ما كان.

قال: فقلت له: جُعلت فداك! من هذا الصارخ؟

قال: ما نراه إلّا جبرئيل عليه السلام، أما إنّه لو أُذن له فيهم لصاح بهم صيحة يخطف به أرواحهم من أبدانهم إلى النار، ولكن أمهل لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب أليم ...». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 22

2- كسوف الشمس ..... ص : 22

روى الحافظ الطبراني في معجمه الكبير، قال: «حدّثنا قيس بن أبي قيس البخاري، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة، عن أبي قبيل «1» قال: لمّا قُتل الحسين بن عليّ رضي اللّه عنه انكسفت الشمس كسفة حتى بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننّا أنها هي!». «2»

ورواه ابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام بسنده عن أبي قبيل أيضاً. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 23

3- إسوداد السماء ..... ص : 23

روى ابن عساكر بسند عن خلف بن خليفة، «1» عن أبيه «2» قال: «لمّا قُتل الحسين اسودّت السماء، وظهرت الكواكب نهاراً حتّى رأيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر!». «3»

وروى ابن أعثم الكوفي في وصف ساعة مقتل الامام الحسين عليه السلام وسلبه يقول: «وارتفعت في ذلك الوقت غبرة شديدة سوداء مظلمة، فيها ريح أحمر، لايُرى فيها أثر عين ولاقدم، حتى ظنّ القوم أنه قد نزل بهم العذاب، فبقوا كذلك ساعة، ثمّ انجلت عنهم.». «4»

4- إحمرار السماء ..... ص : 23

روى الشيخ المفيد (ره)، عن سعد الأسكاف «5» قال: قال أبوجعفر عليه السلام: «كان

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 24

قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا، وقاتل الحسين بن علي عليه السلام ولد زنا، ولم تحمّر السماء إلّا لهما!». «1»

وروى ابن سعد في طبقاته، عن عليّ بن مدرك، عن جدّه الأسود بن قيس قال: «إحمرّت آفاق السماء بعد قتل الحسين ستّة أشهر، يُرى ذلك في آفاق السماء كأنّها الدّم! قال: فحدّثت بذلك شريكاً، فقال لي: ما أنت من الأسود؟ قلت: هو جدّي أبو أمّي. قال: أما واللّه إنّ كان لصدوق الحديث عظيم الأمانة مكرماً للضيف.». «2»

وروى ابن سعد أيضاً، عن محمّد بن سيرين قال: «لم تكن تُرى هذه الحمرة في السماء عند طلوع الشمس وعند غروبها حتى قُتل الحسين رضي اللّه عنه!». «3»

وروى أيضاً، عن عمرو بن عاصم الكلابي «4» قال: «حدّثنا خلّاد- صاحب السمسم، وكان ينزل بني جحدر- قال: حدّثتني أمّي قالت: كنّا زماناً بعد قتل الحسين وإنَّ الشمس تطلع محمّرة على الحيطان والجدران بالغداة والعشي. قالت:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 25

وكانوا لايرفعون حجراً إلّا وجدوا تحته دماً!». «1»

وروى ابن عساكر بأسناد عن عليّ بن مسهر قال: «حدّثتني جدّتي قالت: كنت أيّام الحسين جارية

شابّة، فكانت السماء أيّاماً علقة!»، (2)

وروى الشيخ الصدوق (ره) بسنده عن جبلّة المكيّة قالت: «سمعت ميثم التمّار يقول: واللّه لتقتلنّ هذة الأمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشر مضين منه .. يا جبلّة! إذا نظرتِ إلى الشمس حمراء كأنها دم عبيط فاعلمي انّ سيّدك الحسين قد قُتل! قالت جبلّة: فخرجت ذات يوم فرأيت الشمس على الحيطان كأنها الملاحف المعصفرة! فصحت حينئذٍ وبكيت وقلتُ: قد واللّه قُتل سيّدنا الحسين بن عليّ عليه السلام!». «2»

وروى ابن شهرآشوب، عن حمّاد بن زيد، عن هشام، عن محمّد قال: «تعلُم هذه الحمرة في الأفق ممَ هي؟ ثم قال: من يوم قُتل الحسين!». (4)

وعن الأسود بن قيس: «لمّا قُتل الحسين ارتفعت حمرة من قبل المشرق، وحمرة من قبل المغرب، فكادتا تلتقيان في كبد السماء ستة أشهر!». «3»

5- بكاء السماء ..... ص : 25
اشارة

روى ابن قولويه (ره) بسنده عن كليب بن معاوية، عن الإمام أبي عبداللّه

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 26

الصادق عليه السلام أنه قال: «كان قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا، وكان قاتل الحسين عليه السلام ولد زنا، ولم تبك السماء إلّا عليهما!». «1»

وروى أيضاً بسنده عن الحسين بن ثوير، ويونس بن ظبيان، وأبي سلمة السرّاج، والمفضّل بن عمر، كلّهم قالوا: «سمعنا أبا عبداللّه يقول:

إنّ أبا عبداللّه الحسين بن عليّ عليهما السلام لمّا مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، ومافيهنّ وما بينهنّ، ومن ينقلب عليهنّ، والجنّة والنّار، وما خلق ربّنا، وما يُرى وما لايُرى». «2»

وروى أيضاً بسنده عن زرارة قال: «قال أبوعبداللّه عليه السلام:

يا زرارة، إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم، وإنّ الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإنّ الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإنّ الجبال تقطّعت وانتثرت، وإنّ البحار تفجّرت ...».»

معنى بكاء السماء ..... ص : 26

قال ابن حجر: «وأخرج الثعلبي أنّ السماء بكت وبكاؤها حمرتها!». «4»

وروى ابن قولويه (ره) بسنده عن عبداللّه بن هلال قال: «سمعت- أبا عبداللّه عليه السلام يقول: «إنّ السماء بكت على الحسين بن عليّ، ويحيى بن زكريا، ولم تبك على

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 27

أحدٍ غيرهما». قلت: وما بكاؤها؟ قال: مكثت أربعين يوماً تطلع الشمس بحمرة وتغرب بحمرة! قلت: فذاك بكاؤها؟ قال: نعم.». «1»

وينقل ابن البطريق عن صحيح مسلم في ذيل قوله تعالى: «فما بكت عليهم السماء والأرض»، «2»

عن السدّي أنه قال: «لمّا قُتل الحسين بن علي عليهما السلام بكت السماء، وبكاؤها حمرتها». «3»

إشارة ..... ص : 27

تحدّثت روايات كثيرة عن بعض المشتركات بين شخصيّة الإمام الحسين عليه السلام وما جرى عليه، وشخصية يحيى بن زكريا عليهما السلام وما جرى عليه، منها على سبيل المثال:

- ما روي عن ابن عبّاس أنه قال: «أوحى اللّه إلى محمد صلى الله عليه و آله: إنّي قتلتُ بيحيى ابن زكريا سبعين ألفاً، وإني قاتل بابن فاطمة سبعين الفاً.». «4»

- أنّ رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل، كما أشار إلى ذلك مراراً الإمام الحسين عليه السلام نفسه حيث قال: «ومن هوان الدنيا على اللّه أنّ رأس يحيى بن زكريا عليه السلام أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل!». «5»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 28

وكذلك فقد حُمل رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى ابن مرجانة وإلى يزيد. «1»

- روى ابن قولويه (ره) بسنده عن زرارة، عن عبدالخالق بن عبدربّه قال:

«سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: «لم نجعل له من قبلُ سميّا» الحسين بن عليّ عليهما السلام لم يكن له من قبلُ سميّاً، ويحيى بن زكريا عليهما السلام لم يكن له

من قبل سميّاً ...». «2»

- وروي أنّ مدّة حمل زوج زكريا بيحيى كانت ستة أشهر، وكذلك كانت مدّة حمل مولاتنا فاطمة عليهما السلام بالإمام الحسين عليه السلام. «3»

- وأنّ قاتل يحيى عليه السلام كان ولد زنا، وكذلك كان قاتل الإمام الحسين عليه السلام. «4»

- وأنّ السماء لم تبك إلّا عليهما. «5»

- وأنّ رأس يحيى عليه السلام صُلب على باب جيرون في الشام، وكذلك صُلب رأس الإمام الحسين عليه السلام في الشام في نفس المكان. «6»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 29

6- إمطار السماء دما ..... ص : 29

كانت السماء بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام قد مطرت الناس دماً، وكانت هذه الآية السماوية الكاشفة عن غضب اللّه تعالى قد شاهدها الناس، وكانت من البيّنات الإلهية التي لايمكن إنكارها، حتّى احتجّت بها مولاتنا زينب الكبرى عليها السلام على أهل الكوفة في خطبتها حين قالت: «أفعجبتم أن تمطر السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لاتنصرون.». «1»

والروايات التي تخبر عن هذه الآية السماوية مستفيضة، منها على سبيل المثال:

ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن عمّار بن أبي عمّار قال: «أمطرت السماء يوم قتل الحسين عليه السلام دماً عبيطاً». «2»

وروى ابن سعد في طبقاته، عن أمّ شوق العبدية قالت: حدثتني نضرة الأزدية قالت: «لمّا قُتل الحسين بن عليّ مطرت السماء دماً، فأصبحت خيامنا وكلّ شي ء منّا ملي ء دماً!». «3»

وروى البيهقي هذا أيضاً عن نضرة الأزدية. «4»

وروى ابن سعد، عن سليم القاص قال: «مُطرنا دماً يوم قتل الحسين». «5»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 30

وروى ابن طلحة بسنده المتصل إلى هلال بن ذكوان قال: «لمّا قُتل الحسين مكثنا شهرين أو ثلاثة كأنّما لطخت الحيطان بالدم من صلاة الفجر الى غروب الشمس. قال: وخرجنا في سفر فمطرنا مطراً بقي أثره في ثيابنا

مثل الدم!». «1»

وروى البلاذري بسنده عن أبي حصين قال: «لمّا قُتل الحسين مكثوا شهرين أو ثلاثة وكأنّما تُلطّخ الحيطان بالدم من حين صلاة الغداة الى طلوع الشمس!»، «2» وروى أيضاً بسنده عن سالم القاص قال: «مُطرنا أيّام قتل الحسين دماً!». «3»

وروى القاضي نعمان المصري عن أمّ سالم قالت: «لمّا قُتل الحسين بن عليّ عليه السلام مطرت السماء مطراً كالدم، إحمرّت منه البيوت والحيطان، فبلغ ذلك البصرة والكوفة والشام وخراسان، حتى كنّا لانشك أنّه سينزل العذاب!». «4»

7- وأمطرت السماء رماداً أيضاً! ..... ص : 30

في رواية الشيخ الصدوق (ره) بسند عن المفضّل بن عمر، عن الإمام الصادق، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام

«أنّ الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام دخل يوماً إلى الحسن عليه السلام، فلمّا نظر اليه بكى، فقال له: ما يبكيك يا أبا عبداللّه؟

قال: أبكي لما يُصنع بك! فقال له الحسن عليه السلام: إنّ الذي يؤتى إليَّ سمٌّ يُدسُّ إليَّ فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا ابا عبداللّه! يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 31

يدّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّد صلى الله عليه و آله، وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ... فعندها تحلُّ ببني أميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلُّ شي ء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار.». «1»

وروي عن عليّ بن عاصم، عن حصين قال: «جاءنا قتل الحسين بن عليّ فمكثنا ثلاثاً كأنّ وجوهنا طُليت رماداً! قلت: مثل مَن أنت يومئذٍ؟ قال: رجل متأهل.». «2»

8- بكاء الملائكة وصلاتهم على الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 31

روى ابن قولويه (ره) بسنده الى أبان بن تغلب «قال: قال أبوعبداللّه عليه السلام:

إنّ أربعة آلاف ملك هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن عليّ عليهما السلام، لم يؤذن لهم في القتال فرجعوا في الإستيذان، فهبطوا وقد قُتل الحسين عليه السلام، فهم عند قبره شعثٌ غُبرٌ يبكونه الى يوم القيامة، رئيسهم ملك يُقال له: منصور.». «3»

وروى ايضاً بسند الى أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السلام:

«قال: وكّل اللّه تعالى بالحسين عليه السلام سبعين ألف ملك، يصلّون عليه كلّ يوم، شعثاً غُبراً منذ يوم قُتل الى ما شاء اللّه- يعني بذلك قيام القائم عليه السلام.». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 32

9- عجيج السموات والأرض والملائكة لمقتله عليه السلام ..... ص : 32

وروى الكليني (ره) بسنده عن كرّام قال: «حلفت فيما بيني وبين نفسي أن لا آكل طعاماً بنهارٍ أبداً حتّى يقوم قائم آل محمّد صلى الله عليه و آله، فدخلتُ على أبي عبداللّه عليه السلام، قال: فقلت له: رجل من شيعتكم جعل للّه عليه أن لايأكل طعاماً بنهار أبداً حتّى يقوم قائم آل محمّد! قال:

فصُم إذن يا كرام، ولاتصم العيدين، ولا ثلاثة ايام التشريق، ولا إذا كنت مسافراً، ولامريضاً، فإنّ الحسين عليه السلام لمّا قُتل عجّت السماوات والأرض ومن عليهما، والملائكة، فقالوا: يا ربّنا إئذن لنا في هلاك الخلق حتى نجدّهم عن جديد الأرض بما استحلّوا حرمتك، وقتلوا صفوتك!

فأوحى اللّه إليهم: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي، أسكنوا، ثمّ كشف حجاباً من الحجب، فإذا خلفه محمّد صلى الله عليه و آله وإثنا عشر وصيّاً له عليهم السلام، وأخذ بيد فلان القائم من بينهم، فقال: يا ملائكتي، ويا سماواتي، ويا أرضي، بهذا انتصر لهذا. قالها ثلاث مرّات.». «1»

الآيات الأرضية ..... ص : 32
اشارة

فضلًا عمّا تقدّم من بكاء الأرض مع السماء لمقتل سيد الشهداء عليه السلام، وأنهما لم تبكيا إلّا له وليحيى بن زكريا عليه السلام، وكذلك عجيج الأرض مع السماء والملائكة لتلك الفاجعة، تحدّثنا مجموعة مستفيضة من الروايات أنه ما رفع حجر إلّا ووجد تحته دم عبيط، وبعض هذه الروايات يذكر مطلق الأرض، وبعضها يذكر أرض

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 33

الشام، وبعض آخر يذكر أرض بيت المقدس.

روى ابن سعد عن محمد بن عمر قال: حدّثني عمر بن محمّد بن عمر بن عليّ، عن أبيه، قال: أرسل عبدالملك الى ابن رأس الجالوت، فقال: هل كان في قتل الحسين علامة؟ قال ابن رأس الجالوت: ما كُشف يومئذٍ حجر إلّا وُجد تحته دم عبيط!.». «1»

وروى أيضاً

عن محمّد بن عمر قال: حدّثني نجيح، عن رجل من آل سعيد يقول: سمعت الزهري يقول: سألني عبدالملك بن مروان فقال: ما كان علامة مقتل الحسين؟

قال: لم تكشف يومئذ حجراً إلّا وجدت تحته دماً عبيطاً! فقال عبدالملك: أنا وأنت في هذا غريبان.». «2»

أمّا الروايات التي اختصّت بأرض بيت المقدس ...

فقد روى ابن عساكر بسنده عن أمّ حيّان أنها قالت: «ولم يُقلب حجرٌ ببيت المقدس إلّا أصبح تحته دمٌ عبيط!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 34

وروى الخوارزمي عن حمّاد بن زيد «1» قال: «أوّل ما عُرف الزهري أن تكلّم في مجلس الوليد بن عبدالملك، قال الوليد: أيّكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قُتل الحسين؟ فقال الزهري: بلغني أنّه لم يُقلب حجرٌ إلّا وجد تحته دم عبيط!». «2»

وروى الشيخ الصدوق بسنده عن فاطمة بنت عليّ عليهما السلام أنها قالت: «ثمّ إنّ يزيد

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 35

لعنه اللّه أمر بنساء الحسين عليه السلام فحبسن مع عليّ بن الحسين عليه السلام في محبس لايكنّهم من حَرّ ولاقُرّ، حتّى تقشّرت وجوههم، ولم يُرفع ببيت المقدس حجر عن وجه الأرض إلّا وجد تحته دم عبيط! وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنها الملاحف المعصفرة! إلى أن خرج عليّ بن الحسين عليه السلام بالنسوة وردّ رأس الحسين إلى كربلاء.». «1»

أمّا الروايات التي تذكر أرض الشام، فقد روى الطبراني بسند عن ابن شهاب قال: «ما رُفع بالشام حجر يوم قُتل الحسين بن عليّ إلّا عن دم!! رضي اللّه عنه.». «2»

إشارة ..... ص : 35

روى ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده عن الحسين بن ثوير، ويونس بن ظبيان، وأبي سلمة السّراج، والمفضّل بن عمر، «قالوا: سمعنا أبا عبداللّه عليه السلام يقول:

لمّا مضى الحسين بن عليّ عليهما السلام

بكى عليه جميع ما خلق اللّه إلّا ثلاثة أشياء: البصرة، ودمشق، وآل عثمان!»، «3» وفي بعض الروايات: «وبنو أميّة!». «4»

أمّا استثناء بني أميّة من البكاء على الإمام الحسين عليه السلام فلعِلّة واضحة، وهي أنّهم أعداء اللّه ورسوله وأهل البيت عليهم السلام وأعداء الإسلام، وهم الذين سفكوا دم الإمام عليه السلام، ولقد اشتفوا بقتله، هذا ابن زياد يخاطب زينب عليهما السلام قائلًا:

«لقد شفى اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!». «5»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 36

وهذا يزيد يصرّح بكفره وتشفيه بمقتل الإمام الحسين عليه السلام حيث أنشد متمثّلًا بأبيات ابن الزبعرى:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسلْ

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تُشلْ

قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌّ نزلْ

لستُ من خندف إنْ لمْ أنتقمْ من بني أحمد ما كان فعل «1»

ويقول:

لمّا بدتْ تلك الحمول واشرقتْ تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلتُ قلْ أولا تقل فقد اقتضيتُ من الرسول ديوني «2»

فهذا وذاك وغيرهما كثير ممّا يكشف عن مدى حقد هذه الشجرة الملعونة على أهل البيت عليهم السلام وفرحتهم بمقاتلهم.

وأمّا دمشق فلولائها لبني أميّة، إذ كفى أهلها عاراً وشناراً أنّهم أوقفوا بقيّة الركب الحسينيّ عند باب الساعات، وقد خرجوا إليهم بالدفوف والمزامير والبوقات، في حال من الفرح والسرور والإبتهاج بمقتل ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته وأصحابه.

وأمّا البصرة آنذاك فإنّ أغلب أهلها عثمانيو الرأي والهوى، فلا عجب أن تستثنى البصرة آنذاك من بقية بقاع الأرض التي بكت على الإمام الحسين عليه السلام. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 37

نوح الجن ..... ص : 37

هناك مجموعة من الروايات التي تحدّث عن نوح الجنّ لمقتل سيّد الشهداء

عليه السلام نذكر منها على سبيل المثال:

روى الشيخ ابن قولويه (ره) بسندٍ عن أمّ سلمة (رض) زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله أنها قالت: «ما سمعت نوح الجنّ منذ قبض اللّه نبيَّه إلّا الليلة، ولا اراني إلّا وقد أصبت بابني الحسين. قالت: وجاءت الجنيّة منهم وهي تقول:

أيا عيناي فانهملا بجهدِ فمن يبكي على الشهداء بعدي

على رهطٍ تقودهم المنايا إلى متجبّرٍ من نسلِ عبدِ» «1»

وروى (ره) أيضاً بسندٍ عن عبداللّه بن حسّان الكناني قال:

«بكت الجنّ على الحسين بن عليّ عليهما السلام فقالت:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الأُممِ

بأهل بيتي وإخواني ومكرمتي من بين أسرى وقتلى ضُرِّجوا بدمِ» «2»

وروى (ره) أيضاً بسندٍ عن داود الرقّي قال: «حدّثتني جدّتي أنّ الجنّ لمّا قُتل الحسين عليه السلام بكت عليه بهذه الأبيات:

يا عينُ جودي بالعِبَرْ وابكي فقد حقّ الخبرْ

إبكي ابن فاطمة الذي ورد الفرات فما صدرْ

الجنُّ تبكي شجوها لمّا أُتي منه الخبرْ

قُتل الحسينُ ورهطه تعساً لذلك من خبر

فلأبكينّك حرقة عند العشاء وبالسحرْ

ولأبكينّك ما جرى عِرقٌ وما حمل الشجرْ». «1»

الطيور: ..... ص : 37

روى الخوارزمي بسند متصل إلى المفضّل بن عمر الجعفي قال: «سمعتُ جعفر بن محمّد عليهما السلام يقول:

حدّثني أبي محمد بن عليّ عليهما السلام، حدّثني أبي عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: لمّا قُتل الحسين جاء غراب فوقع في دمه، ثمّ تمرّغ، ثمّ طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين وهي الصغرى، فرفعت رأسها إليه فنظرته فبكت ...». «2»

وينقل العلّامة المجلسيّ (ره) عن (بعض مؤلّفات أصحابنا) أنه روي من طريق أهل البيت عليهما السلام أنه:

«لمّا استشهد الحسين عليه السلام بقي في كربلاء صريعاً، ودمه على الأرض مسفوحاً، وإذا بطائرٍ أبيض قد أتى وتمسّح بدمه، وجاء والدم

يقطر منه، فرأى طيوراً تحت الظلال على الغصون والأشجار، وكلٌّ منهم يذكر الحبّ والعلف والماء،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 39

فقال لهم ذلك الطير المتلطّخ بالدّم: يا ويلكم أتشتغلون بالملاهي وذكر الدنيا والمناهي، والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ ملقىً على الرمضاء ظامي ء مذبوح ودمه مسفوح، فعادت الطيور كلٌّ منهم قاصداً كربلا، فرأوا سيّدنا الحسين ملقىً في الأرض جثّة بلا رأس، ولا غسل ولا كفن، قد سفت عليه السوافي وبدنه مرضوض قد هشمته الخيل بحوافرها، زوّاره وحوش القفار، وندبته جنّ السهول والأوعار، قد أضاء التراب من أنواره، وأزهر الجوّ من إزهاره.

فلمّا رأته الطيور تصايحن وأعلن بالبكاء والثبور، وتواقعن على دمه يتمرّغن فيه، وطار كلّ واحدٍ منهم إلى ناحية يُعلم أهلها عن قتل أبي عبداللّه الحسين عليه السلام ...». «1»

وروى الخوارزمي بسنده عن المشطاح الورّاق قال: « «سمعتُ الفتح بن سحرف «2» العابد يقول: كنتُ أفتُّ الحَبَّ للعصافير كلّ يوم فكانت تأكل، فلمّا كان يوم عاشوراء فتتتُ لها فلم تأكل، فعلمتُ أنّها امتنعتْ لقتل الحسين بن عليّ عليهما السلام!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 40

تحوّل الورس رماداً! وامتلاء اللحم ناراً ومرارة! ..... ص : 40

روى ابن شهرآشوب عن أحاديث ابن الحاشر قال: «كان عندنا رجل فخرج على الحسين، ثمّ جاء بجمل وزعفران، فكلّما دقّوا الزعفران صار ناراً، فلطخت إمرأته على يديها فصارت برصاء. وقال: ونحر البعير فكلّما جزّوا بالسكّين صار مكانها ناراً! قال: فقطعوه فخرج منه النار! قال: فطبخوه ففارت القدر ناراً!». «1»

وروى ابن عساكر بسنده عن أبي حميد الطحّان قال: «كنت في خزاعة فجاؤا بشي ء من تركة الحسين، فقيل لهم: ننحر أو نبيع فنقسّم؟

قالوا: انحروا. قال: فنحر، فجعل على جفنة، فلمّا وضعت فارت ناراً!». «2»

وعنه أيضاً، بإسناده عن حمّاد بن زيد: حدّثني جميل بن مُرّة قال:

أصابوا إبلًا في عسكر الحسين يوم قُتل، فطبخوا منها، فصارت كالعلقم!». «3»

ونقل الذهبي، عن يحيى بن معين: حدّثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد «4» قال:

قُتل الحسين ولي أربع عشرة سنة، وصار الورس الذي كان في عسكرهم رماداً! واحمرّت آفاق السماء! ونحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 41

النيران!». «1»

وروى سبط ابن الجوزي بسند إلى مروان بن الوصين قال: «نُحرت الإبل التي حُمل عليها رأس الحسين وأصحابه، فلم يستطيعوا أكل لحومها، كانت أمرَّ من الصبر!». «2»

وروى الطبراني بسنده عن ذويد الجعفي، عن أبيه قال: «لمّا قُتل الحسين انتهب جزور من عسكره، فلمّا طُبخت إذا هي دم! فأكفوها». «3»

وقال ابن حجر: «وأخرج أبوالشيخ أنّ الورس الذي كان في عسكرهم تحوّل رماداً، وكان في قافلة من اليمن تريد العراق فوافتهم حين قتله!». «4»

آثار الحزن في العوسجة المباركة! ..... ص : 41

روى الزمخشري، عن هند بنت الجون أنه: نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله خيمة خالتي أمّ معبد، «5» فقام من رقدته ودعا بماء فغسل يديه ثمّ تمضمض ومجّ في عوسجة إلى جانب الخيمة، فأصبحنا وهي كأعظم دوحة! وجاءت بثمر كأعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد! ما أكل منها جائع إلّا شبع، ولا ظمآن إلّا روى، ولاسقيم إلّا بري ء! ولا أكل من ورقها بعير إلّا سمن، ولا شاة إلّا درّ لبنها،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 42

فكنّا نسميّها المباركة!

وينتابنا من البوادي، من يستشفي بها ويتزوّد بها، حتّى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها واصفّر ورقها! ففزعنا فما راعنا إلّا نعي رسول اللّه، ثمّ إنها بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك من أسفلها إلى أعلاها، وتساقط ثمرها وذهبت نضرتها! فما شعرنا إلّا بمقتل أميرالمؤمنين عليّ، فما أثمرت بعد

ذلك، فكنّا ننتفع بورقها، ثمّ أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط! وقد ذبل ورقها! فبينا نحن فزعين إذ أتانا خبر مقتل الحسين، ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 43

المقصد الأول

الفصل الثاني: الوقائع المتأخّرة عن قتل الامام الحسين عليه السلام ..... ص : 43
صُوَرٌ من عواقب قتلته وأعدائه عليه السلام ..... ص : 43
اشارة

لاشكّ في أنّ كلّ من اشترك في قتل سيّد شباب أهل الجنّة وسلبه ونهبه ابتُلي ببلية في دار الدنيا قبل الآخرة.

روى الخوارزمي في المقتل، عن مينا أنّه قال: «ما بقي من قتلة الحسين أحدٌ لم يُقتل إلّا رُمي ببلاء في جسده قبل أن يموت». «1»

ونقل سبط ابن الجوزي عن الزهري أنه قال: «مابقي منهم أحدٌ إلّا وعوقب في الدنيا، إمّا بالقتل، أو العمى، أو سواد الوجه، أو زوال الملك في مدّة يسيرة». «2»

مصير عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه ..... ص : 43

قُتل عبيداللَّه بن زياد (ل) على يد إبراهيم بن مالك الأشتر (ره) في وقعة الخازر حيث التقاه في ميدان المعركة فضربه ضربة بالسيف شرّقت منها يداه، وغرّبت رجلاه، وكان ذلك في الليل، فلمّا تأكّدوا منه وجدوا أنه عبيداللّه بن زياد نفسه،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 46

فاجتزّوا رأسه، وقال إبراهيم بن مالك: الحمدُ للّه الذي أجرى قتله على يدي. «1»

وبعث إبراهيم بن مالك (ره) برأس عبيداللّه بن زياد لعنه اللّه، ورؤوس الرؤساء من أهل الشام وفي آذانهم رقاع أسمائهم، فقدموا على المختار وهو يتغدّى، فحمد اللّه تعالى على الظفر، فلمّا فرغ من الغداء قام فوطأ وجه ابن زياد بنعله، ثمّ رمى بها إلى غلامه وقال: أغسلها فإنّي وضعتها على وجه نجس كافر. «2»

وروى الخوارزمي بسنده عن عمارة بن عمير قال: «لمّا جيى ء برأس عبيداللّه ابن زياد إلى المختار مع رؤوس أصحابه، نضّدت في المسجد في الرحبة، فانتهيت إلى الناس وهم يقولون: قد جاءت! قد جاءت! فلم أدر؟ فإذا حيّة قد جاءت فتخلّلت الرؤوس حتّى دخلت في منخر عبيداللّه بن زياد! فمكثت هنيئة، ثمّ خرجت فذهبت حتّى تغيّبت، ثمّ قالوا: قد جاءت! قد جاءت! ففعلتْ ذلك أمامي مرتين أو ثلاثاً!

قال أبوعيسى الترمذي: هذا حديث صحيح.».

«3»

«قال أبوعمر البزّاز: كنتُ مع إبراهيم بن مالك الأشتر لمّا لقي عبيداللّه بن زياد- لعنه اللّه- بالخازر، فعددنا القتلى بالقصب لكثرتهم، قيل: كانوا سبعين ألفاً، وصلب إبراهيمُ ابنَ زياد منكّساً، فكأنّي أنظر إلى خصييه كأنّهما جعلان!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 47

مصير عمر بن سعد لعنه اللّه ..... ص : 47

كانت الندامة والحسرة قد أكلت قلب عمر بن سعد لعنه اللّه، لأنّه لم ينل من ابن زياد ما كان يؤمّله من مناصب الدنيا وأطماعها، وخرج من مجلس ابن زياد يريد منزله إلى أهله «وهو يقول في طريقه: ما رجع أحدٌ مثل ما رجعت! أطعتُ الفاسق ابن زياد الظالم ابن الفاجر! وعصيتُ الحاكم العدل! وقطعتُ القرابة الشريفة! وهجره الناس، وكان كلّما مرَّ على ملأ من الناس أعرضوا عنه، وكلّما دخل المسجد خرج النّاس منه، وكلّ من رآه قد سبّه! فلزم بيته إلى أن قُتل!». «1»

وكان المختار (ره) قد أعطى عمر بن سعد الأمان بشرط ألّا يُحدث حدثاً، «2» ولمّا علم عمر بقول المختار فيه عزم على الخروج من الكوفة، فأحضر رجلًا إسمه مالك بن دومة وكان شجاعاً، وأعطاه أربعمائة دينار نفقة لحوائجهما، وخرجا من الكوفة، فلمّا كانا عند حمّام عمر أو نهر عبدالرحمن أطلع عمر صاحبه على نيّته في الهرب خوفاً من المختار، لكنّ صاحبه أقنعه بأنّ المختار أعجز من أن ينال عمر بسوء، وأوحى إليه أنّه أعزّ العرب! فاغترّ بكلامه فرجعا إلى الكوفة، ولمّا علم المختار بخروجه من الكوفة قال: أللّه أكبر! وفينا له وغدر! وفي عنقه سلسلة لو جهد أن ينطلق لما استطاع!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 48

وأرسل عمر إبنه إلى المختار فقال له: أين أبوك؟ قال: في المنزل- ولم يكونا يجتمعان عند المختار، وإذا حضر أحدهما غاب الآخر خوفاً أن يجتمعا فيقتلهما- فقال

حفص: أبي يقول: أتفي لنا بالأمان؟

قال: أجلس! وطلب المختار أباعمرة- وهو كيسان التمّار- فأسرَّ إليه أن اقتل عمر بن سعد، وإذا دخلت عليه وسمعته يقول: يا غُلام! عليَّ بطيلساني، فاعلم أنه يريد السيف، فبادره واقتله!

فلم يلبث أن جاء ومعه رأسه!

فقال حفص: إنّا للّه وإنا إليه راجعون. فقال له: أتعرف هذا الرأس؟ قال: نعم، ولاخير في العيش بعده! فقال: إنّك لاتعيش بعده! وأمر بقتله.

وقال المختار: عمر بالحسين عليه السلام، وحفص بعليّ بن الحسين عليه السلام، ولاسواء، واللّه لاقتلنّ سبعين ألفاً كما قُتل بيحيى بن زكريا عليهم السلام.

وقيل: إنّه قال: لو قتلت ثلاثة أرباع قريش لما وفوا بأنملة من أنامل الحسين عليه السلام. «1»

مصير شمر بن ذي الجوشن لعنه اللّه ..... ص : 48

قال مسلم بن عبداللّه الضبّابي: «كنتُ مع شمر حين هَزَمَنا المختار، فدنا منّا العبد، «2» فقال شمر: أركضوا وتباعدوا لعلّ العبدَ يطمعُ فيّ! فأمعنّا في التباعد عنه،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 49

حتى لحقه العبد فحمل عليه شمر فقتله، ومشى فنزل في جانب قرية إسمها الكلتانيّة «1» علئ شاطى ء نهر إلى جانب تلّ، ثمّ أخذ من القرية علجاً فضربه، ودفع إليه كتاباً، وقال: عجّل به إلى مصعب بن الزبير .. فمشى العلج حتّى دخل قرية فيها أبوعمرة بعثه المختار إليها في أمرٍ ومعه خمسمائة فارس، فأقرأ الكتاب رجلًا من أصحابه، وقرأ عنوانه، فسأل عن شمر وأين هو؟ فأخبره أنّ بينهم وبينه ثلاثة فراسخ .. قال مسلم بن عبداللّه: قلت لشمر: لو ارتحلت من هذا المكان فإنّا نتخوّف عليك! قال: ويلكم أكُلُّ هذا الجزع من الكذّاب!؟- واللّه- لابرحت فيه ثلاثة أيّام! فبينما نحن في أوّل النوم إذ أشرفت علينا الخيل من التلّ وأحاطوا بنا، وهو عريان مُتّزرٌ بمنديل، فانهزمنا وتركناه!

فأخذ سيفه ودنا منهم .. فلم يكُ

بأسرع أن سمعنا: قُتل الخبيث! قتله أبوعمرة، وقتل أصحابه.

ثم جيي ء بالرؤوس إلى المختار، فخرّ ساجداً، ونُصبت الرؤوس في رحبة الحذّائين، حذاء الجامع.». «2»

مصير سنان بن أنس لعنه اللّه ..... ص : 49

«وهرب سنان بن أنس لعنه اللّه إلى البصرة فهدم داره، ثمّ خرج من البصرة نحو القادسيّة، وكان عليه عيون، فأخبروا المختار، فأخذه بين العُذيب والقادسيّة، فقطّع أنامله ثمّ يديه ورجليه، وأغلى زيتاً في قدر وألقاه فيه». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 50

مصير خولي بن يزيد الأصبحي لعنه اللّه ..... ص : 50

«ثمّ بعث أباعمرة، فأحاط بدار خولّي بن يزيد الأصبحي، وهو حامل رأس الحسين عليه السلام إلى عبيداللّه بن زياد، فخرجت امرأته إليهم وهي النوّار ابنة مالك- كما ذكر الطبري في تأريخه- وقيل: إسمها العيّوف، وكانت محبّة لأهل البيت عليهم السلام، قالت: لا أدري أين هو!؟ وأشارت بيدها إلى بيت الخلاء! فوجدوه وعلى رأسه قوصرة، «1» فأخذوه وقتلوه، ثمّ أمر بحرقه.». «2»

مصير حكيم بن الطفيل السنبسي لعنه اللّه ..... ص : 50

«ثمّ بعث عبداللّه بن كامل إلى حكيم بن الطفيل السنبسي، وكان قد أخذ سلب العبّاس ورماه بسهم، فأخذوه قبل وصوله إلى المختار، ونصبوه هدفاً، ورموه بالسهام.». «3»

مصير حرملة بن كاهل لعنه اللّه ..... ص : 50

«حدّث المنهال بن عمرو قال: دخلت على زين العابدين عليه السلام أودّعه وأنا أريد الإنصراف من مكّة، فقال: يا منهال! ما فعل حرملة بن كاهل!؟ وكان معي بشر بن غالب، فقلت: هو حيٌّ بالكوفة!

فرفع يديه وقال: أللّهمّ أذقه حَرَّ الحديد، أللهمّ أذقه حَرَّ الحديد، أللهمّ أذقه حرَّ النار!

قال المنهال: وقدمت إلى الكوفة والمختار بها فركبت إليه، فلقيته خارجاً من داره، فقال: يا منهال! ألمْ تشركنا في ولايتنا هذه؟ فعرّفته أنّي كنت بمكّة، فمشى حتّى أتى الكناس، ووقف كأنه ينتظر شيئاً! فلم يلبث أن جاء قوم فقالوا: أبشر أيها

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 51

الأمير فقد أُخذ حرملة! فجي ء به فقال: لعنك اللّه، الحمدُ للّه الذي أمكنني منك! الجزّار، الجزّار! فأُتي بجزّار فأمره بقطع يديه ورجليه، ثمّ قال: النّار النّار!، فأُتي بنار وقصب فأُحرق ..». «1»

مصير بجدل بن سليم لعنه اللّه ..... ص : 51

وكان ممّن سلبوا الإمام عليه السلام، وكانوا قد أتوا المختار به «وعرّفوه أنه أخذ خاتمه وقطع إصبعه! فأمر بقطع يديه ورجليه، فلم يزل ينزف حتّى مات». «2»

مصير الذين وطأوا جسد الإمام عليه السلام بالخيل ..... ص : 51

«قال موسى بن عامر: فأوّل من بدأبه «3» الذين وطأوا الحسين عليه السلام بخيلهم، وأنامهم على ظهورهم، وضرب سكك الحديد في أيديهم وأرجلهم، وأجرى الخيل عليهم حتّى قطّعتهم، وحرّقهم بالنار، ثمّ أخذ رجلين أشتركا في دم عبدالرحمن بن عقيل بن أبي طالب وفي سلبه، كانا في الجبّانة، فضرب أعناقهما، ثمّ أحرقهما بالنار، ثمّ أحضر مالك بن بشير «4» فقتله في السوق.». «5»

مصير عمرو بن صبيح الصيداوي لعنه اللّه ..... ص : 51

«وطلب عمرو بن صبيح الصيداوي «6» فأتوه وهو على سطحه بعدما هدأت

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 52

العيون، وسيفه تحت رأسه، فأخذوه وسيفه، فقال: قبّحك اللّه من سيف! ما أبعدك على قربك! فجي ء به الى المختار، فلمّا كان من الغداة طعنوه بالرماح حتّى مات.». «1»

مصير زيد بن رقاد الجهني لعنه اللّه ..... ص : 52

«وأحضر زيد بن رُقاد فرماه بالنبل والحجارة وأحرقه». «2»

مصير أبجر بن كعب لعنه اللّه ..... ص : 52

قال الخوارزمي: «وقال عبيداللّه بن عمّار: رأيت على الحسين سراويل تلمع ساعة قُتل، فجاء أبجر بن كعب فسلبه وتركه مجرّداً! وذكر محمّد بن عبدالرحمن:

أنّ يدي أبجر بن كعب كانتا تنضحان الدم في الشتاء وتيبسان في الصيف كأنهما عود!». «3»

ويروي الخوارزمي أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «وجد فيه «4» ثلاث وثلاثون طعنة، واربع وثلاثون ضربة، وأخذ سراويله بحير بن عمرو الجرمي فصار

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 53

زمناً مقعداً من رجليه، وأخذ عمامته جابر بن يزيد الأزدي فاعتمّ بها فصار مجذوماً، وأخذ مالك بن نسر الكندي درعه فصار معتوهاً ..». «1»

مصير أحد سالبي الإمام عليه السلام ..... ص : 53

«ورُئي رجل بلا يدين ولارجلين وهو أعمى، يقول: ربّ نجّني من النّار! فقيل له: لم تبق عليك عقوبة وأنت تسأل النجاة من النار؟ قال: إني كنت في من قاتل الحسين بن عليّ في كربلاء، فلمّا قُتل رأيتُ عليه سراويل وتكّة حسنة، وذلك بعدما سلبه الناس، فأردت أن أنتزع التكّة، فرفع يده اليمنى ووضعها على التكّة، فلم أقدر على دفعها فقطعت يمينه! ثمّ أردت انتزاع التكّة، فرفع شماله ووضعها على التكّة، فلم أقدر على دفعها فقطعت شماله، ثمّ هممتُ بنزع السراويل! فسمعت زلزلة فخفت وتركته، فألقى اللّه عليَّ النوم، فنمت بين القتلى، فرأيتُ كأنّ النبيّ محمّداً صلى الله عليه و آله أقبل ومعه عليّ وفاطمة والحسن عليهم السلام، فأخذوا رأس الحسين، فقبّلته فاطمة وقالت: يا بنيّ قتلوك! قتلهم اللّه. وكأنّه يقول: ذبحني شمر، وقطع يدي هذا النائم! وأشار إليَّ.

فقالت فاطمة: قطع اللّه يديك ورجليك وأعمى بصرك وأدخلك النار، فانتبهت وأنا لا أُبصر شيئاً، ثمّ سقطت يداي ورجلاي مني! فلم يبق من دعائها إلّا النار!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 54

وروى الخوارزمي عن أبي عبداللّه غلام الخليل

قال: «حدّثنا يعقوب بن سليمان قال: كنتُ في ضيعتي فصلّينا العتمة، وجعلنا نتذاكر قتل الحسين عليه السلام، فقال رجل من القوم: ما أعان أحدٌ عليه إلّا أصابه بلاءٌ قبل أن يموت. فقال شيخ كبير من القوم: أنا ممّن شهدها، وما أصابني أمرٌ كرهته إلى ساعتي هذه!

وخبا السراج، فقام ليصلحه فأخذته النار! وخرج مبادراً إلى الفرات وألقى نفسه فيه، واشتعل وصار فحمة!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 55

نهب المخيّم الحسيني ..... ص : 55

لم يكتف جلاوزة بني أميّة، أعداء اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله، بعد قتل الإمام عليه السلام بسلبه ورضّ جسده الطاهر بحوافر الخيل، بل جاوزوا المدى فعدوا على المخيم لنهب ما فيه، ولهتك ستر حُرَم رسول اللّه صلى الله عليه و آله بسلب ما عليهن من حليّ وحجاب بصورة فجيعة يندى لها جبين كلّ أبيّ غيور! وما أحسن ما قال اليافعي: «لمّا قُتل السادة الأخيار مال الفجرة الأشرار إلى خيام الحريم المصونة وهتكوا الأستار!». «1»

وقال الدينوري: «ثمّ مال الناس على ذلك الورس الذي كان أخذه من العير، وإلى ما في المضارب فانتهبوه!». «2»

وروى الطبري عن أبي مخنف قائلًا «ومال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه، فإنْ كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تُغلب عليه فيُذهب به منها!.». «3»

ويقول السيّد ابن طاووس (ره): «وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول وقرّة عين الزهراء البتول، حتّى جعلوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها، وخرجن بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله وحريمه يتساعدن على البكاء ويندبن لفراق الحماة والأحباء.». «4»

وكان نهب المخيّم بأمرٍ مباشر من عمر بن سعد! قال الاسفراييني: «قال (أي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 56

عمر بن سعد): دونكم الخيام انهبوها! فدخلوا وجعلوا يسلبون ما على الحريم والأطفال من

اللباس! ثمّ قطعوا الخيام بالسيوف، فخرجت أمّ كلثوم وقالت:

يا ابن سعد! اللّه يحكم بيننا وبينك، ويحرمك شفاعة جدّنا ولايسقيك من حوضه كما فعلت بنا وأمرتَ بقتال سبط الرسول، ولم ترحم صبيانه، ولم تشفق على نسائه! فلم يلتفت إليها.». «1»

وكان المبادر لتنفيذ هذا العمل المخزي شمر بن ذي الجوشن! يقول حسام الدين في الحدائق الوردية: «وأقبل شمر بن ذي الجوشن إلى الخيام وأمر بسلب كلّ ما مع النساء، فأخذوا كلّ ما في الخيمة، حتّى أخذوا قرطاً في أذن أمّ كلثوم وخرموا أذنها، وفرغ القوم من القسمة، وضربوا فيها النار!». «2»

وروى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن عبداللّه بن الحسن عليهما السلام، عن أمّه فاطمة «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 57

بنت الحسين عليهما السلام قالت: «دخلت الغاغة علينا الفسطاط وأنا جارية صغيرة، وفي رجليّ خلخالان من ذهب، فجعل رجلٌ يفضّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي! فقلت: ما يبكيك يا عدوّ اللّه!؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب إبنة رسول اللّه!

فقلت: لا تسلبني. قال: أخاف أن يجيي ء غيري فيأخذه!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 58

قالت: وانتهبوا ما في الأبنية حتّى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا!». «1»

وقال ابن نما (ره): «ثمّ اشتغلوا بنهب عيال الحسين ونسائه، حتّى تُسلب المرأة مقنعتها من رأسها، أو خاتمها من أصبعها، أو قرطها من أذنها، وحجلها من رجلها، وجاء رجل من سنبس «2» إلى ابنة الحسين عليه السلام وانتزع ملحفتها من رأسها، وبقين عرايا تراوحهنّ رياح النوائب وتعبث بهنّ أكف، قد غشيهنّ القدر النازل، وساورهنّ الخطب الهائل ...». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 59

روى ابن شهرآشوب عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال:

«إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون القتال فيه، فاستُحلّت فيه دماؤنا! وهُتك فيه حُرمتنا! وسبي فيه

ذرارينا ونساؤنا! وأضرمت النيران في مضاربنا! وانتهب ما فيها من ثقلنا!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 60

محاولة قتل الإمام زين العابدين عليه السلام! ..... ص : 60

لاشكّ في أنّ الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليّ بن الحسين عليهما السلام كان حاضراً في كربلاء مع أبيه عليه السلام وكان مريضاً، وهذا ممّا تسالم عليه التاريخ، وكان شمر بن ذي الجوشن قد سعى بعد قتل الإمام الحسين عليه السلام الى قتل البقيّة الباقية من ذريّة الحسين عليه السلام متمثّلة بابنه الإمام زين العابدين عليه السلام، وكان ذلك بأمر صادر عن ابن زياد لعنه اللّه كما صرّح شمر نفسه بهذا. «1»

قال الشيخ المفيد (ره) في كتابه الإرشاد: «قال حميد بن مسلم: فواللّه لقد كنتُ أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها حتّى تُغَلب عليه فيُذهب به منها، ثمّ انتهينا إلى عليّ بن الحسين عليه السلام وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض، ومع شمر جماعة من الرجّالة فقالوا له: ألا نقتل هذا العليل؟ فقلت:

سبحان اللّه! أيُقتل الصبيان؟ إنّما هو صبيّ وإنّه لما به! فلم أزل حتّى رددتهم عنه.

وجاء عُمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين، فقال لأصحابه: لا يدخل أحدٌ منكم بيوت هؤلاء النسوة، ولاتعرّضوا لهذا الغلام المريض.

وسألته النسوة ليسترجع ما أُخذ منهنّ ليتستّرن به فقال: من أخذ من متاعهنّ شيئاً فليردّه عليهن!

فواللّه ما ردّ أحدٌ منهم شيئاً، فوكّل بالفسطاط وبيوت النساء، وعليّ بن الحسين، جماعة ممّن كانوا معه وقال: إحفظوهم لئلّا يخرج منهم أحد، ولاتُسيئُنّ إليهم!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 61

وروى ابن سعد في طبقاته قائلًا: «وكان عليّ بن الحسين الأصغر مريضاً نائماً على فراش، فقال شمر بن ذي الجوشن الملعون: أقتلوا هذا! فقال له رجل من أصحابه: سبحان اللّه! أتقتل فتىً حدثاً

مريضاً لم يقاتل!؟

وجاء عمر بن سعد فقال: لا تعرضوا لهؤلاء النسوة ولا لهذا المريض!». «1»

وذكر القرماني في كتابه أخبار الدول قائلًا: «وهمّ شمر الملعون- عليه ما يستحقّ من اللّه- بقتل عليّ الأصغر ابن الحسين وهو مريض، فخرجت إليه زينب بنت عليّ وقالت: واللّه لايُقتل حتى أُقتل!». «2»

وفي روضة الصفا: «فلمّا وصل شمر- لعنه اللّه- إلى الخيمة التي كان عليّ بن الحسين عليهما السلام فيها مُتّكئاً سلّ سيفه ليقتله، قال حميد بن مسلم: سبحان اللّه! أيُقتل هذا المريض!؟ لاتقتله!

وقال بعضهم: إنّ عمر بن سعد أخذ بيديه وقال: أما تستحيي من اللّه تريد أن تقتل هذا الغلام المريض!؟ قال شمر: قد صدر أمر الأمير عبيد اللّه أن أقتل جميع أولاد الحسين. فبالغ عمر في منعه حتّى كفّ عنه، فأمر بإحراق خيام أهل بيت المصطفى!». «3»

وفي تذكرة الخواص، عن الواقدي قال: «وإنّما استبقوا عليّ بن الحسين لأنّه لمّا قُتل أبوه كان مريضاً، فمرّ به شمر فقال: اقتلوه! ثمّ جاء عمر بن سعد فلمّا رآه قال: لاتتعرّضوا لهذا الغلام! ثمّ قال لشمر: ويحك من للحرم؟». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 62

إشارة ..... ص : 62

تؤكّد جميع الروايات التي تتناول الحديث في حالة الإمام زين العابدين عليه السلام في كربلاء على أنّه كان مريضاً، ولم يرد في المصادر التاريخية إلى أي فترة استمرّ به هذا المرض، لكنّ المستفاد من بعض الإشارات التاريخية أنه عليه السلام كان لم يزل مريضاً ناحلًا ضعيفاً حتّى في الشام.

وقد ذهب بعضهم إلى أنّه قد أصيب بعين فمرض، كما ذهب إلى ذلك أحمد ابن حنبل حيث زعم- على ما ذكره ابن شهرآشوب- أنّه عليه السلام كان أُلبس درعاً ففضل عنه، فأخذ الفضلة بيده ومزّقه فصار سبباً لمرضه! «1»

واستبعد ذلك آخرون،

وقالوا إنّ الأمر أهمّ وأعظم ممّا ذهب إليه ابن حنبل، إذ إنَّ إرادة الباري تعالى تعلّقت بضرورة بقائه عليه السلام بعد أبيه عليه السلام لأنّه من مصاديق «بقيّة اللّه»، وحلقة من حلقات سلسلة الإمامة المباركة، فشاء اللّه تعالى أنّ يكون مريضاً تلك الأيام حتّى يسقط عنه الجهاد بين يدي أبيه، ليحفظ بذلك، ولتحفظ به سلسلة الإمامة الكبرى. «2»

ولامنافاة بين أن يكون لمنشأ مرضه سببُ في الخارج، وبين أن تكون الغاية من مرضه حفظ سلسلة الإمامة، فالأمور بأسبابها.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 63

ونريد هنا أن ننبّه إلى أنّ مرضه عليه السلام وإن كان سبباً مساعداً في انصراف الأعداء عن قتله لأنهم كانوا يرونه قاب قوسين من أجله لما به من شدّة المرض! لكنّ مرضه عليه السلام لم يكن السبب الرئيس في انصرافهم عن قتله، بل كان السبب الرئيس في حفظه من القتل ذلك الموقف الفدائي العظيم الذي قامت به عمّته زينب عليها السلام، حيث تعلّقت به وقالت مخاطبة شمراً: «حسبك من دمائنا! واللّه لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه!». «1»

وقد تكرّر منها عليها السلام هذا الموقف الفدائي العظيم في الكوفة في قصر عبيداللّه ابن زياد لعنه اللّه، حيث طرحت نفسها على ابن أخيها عليهما السلام وقالت: «لايُقتل حتّى تقتلوني! ...». «2»

وهنا ينبغي أيضاً أن ننبّه إلى أننا نشكُّ شكّاً قويّاً في الدور الإيجابي الذي صوَّره حميد بن مسلم لنفسه في الذود عن حياة الإمام زين العابدين عليه السلام وفي صرف شمر بن ذي الجوشن عن قتله- بل يمتدّ شكّنا إلى جميع الأدوار الإيجابيّة الأخرى التي رسمها حُميد بن مسلم لنفسه- على ما ورد في روايات ابن جرير الطبري في تأريخه، وفي تواريخ الذين أخذوا عنه بلا تدبّر!

ذلك

لأنّ حميد بن مسلم الأزدي هذا كان منتمياً انتماءً صريحاً إلى معسكر عمر بن سعد يوم عاشوراء! ويتضح من مجموع رواياته أنّه كان وجيهاً من وجهاء هذا المعسكر معروفاً عند قادته وقريباً منهم! ويكفي في الدلالة على هذا أنّه وخولّي بن يزيد الأصبحي حملا رأس الإمام عليه السلام إلى ابن زياد «3» بتكليف من عمر

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 64

بن سعد! ثمّ إنّ جميع الأدوار الإيجابيّة- إذا صحّ هذا الإطلاق- التي ظاهرها أنه تأثر لأهل البيت عليهم السلام أو دفع عنهم شرّاً، إنّما رويت من طريقه هو وهذا ما يدعو- على الأقلّ- إلى التحفظّ عن تصديقها، وإلى التأمّل فيها.

ثم أُحرقت الخيام! ..... ص : 64

قال السيّد ابن طاووس (ره): «ثمّ أخرجوا النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النّار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة ...». «1»

وقال ابن نما (ره): «وخرج بنات سيّد الأنبياء وقرّة عين الزهراء حاسرات مبديات للنياحة والعويل، يندبن على الشباب والكهول، وأُضرمت النار في الفسطاط فخرجن هاربات، وهنّ كما قال الشاعر:

فترى اليتامى صارخين بعولة تحثوا التراب لفقد خير إمام

وبقين ربّات الخدور حواسراً يمسحن عرض ذوائب الأيتام

وترى النساء أراملًا وثواكلًا يبكين كُلَّ مهذّب وهُمام.». «2»

ولايخفى أن جميع الخيام قد أُضرمت فيها النار، بدليل قول الإمام الرضا عليه السلام «وأُضرمت في مضاربنا النّار»، «3»

لكنّ الظاهر أنّ هذا الفسطاط الذي كنّ النسوة والأطفال فيه جميعاً مع الإمام زين العابدين عليه السلام هو آخر الخيام التي أُحرقت بعد إخراجهم منه.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 65

جائزة سنان بن أنس ..... ص : 65

ذكر الطبري أنّ الناس قالوا لسنان بن أنس: «1» قتلت حسين بن عليّ، وابن فاطمة ابنة رسول اللّه! قتلتَ أعظم العرب خطراً! جاء إلى هؤلاء يريد أن يزيلهم عن ملكهم! فأتِ أمراءك فاطلب ثوابك منهم، لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلًا!

فأقبل على فرسه، وكان شجاعاً شاعراً، وكانت به لوثة، فأقبل حتّى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد، ثمّ نادى بأعلى صوته:

أَوْقِر ركابي فضّة أوذهبا أنا قتلت الملك المحجّبا

قتلتُ خير الناس أُمّاً وأبا وخيرهم إذ يُنسبون نسبا

فقال عمر بن سعد: أشهد إنك لمجنون ما صححت قطّ! أدخلوه عليَّ.

فلمّا أُدخل حذفه بالقضيب، ثمّ قال: يا مجنون! أتتكلّم بهذا الكلام!؟ أما واللّه لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك!. «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 66

رؤوس الشهداء ..... ص : 66

إنّ واقعة حمل رأس سبط رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسائر الرؤوس الطاهرة جريمة أخرى من الجرائم الفظيعة التي شهدتها كربلاء، هذه الجريمة التي كشفت نقاباً آخر عن خبث سريرة النظام الأموي!

فقد ذكرت نصوص تاريخية معتمدة أنّ أعداء اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله بعدما قتلوا الإمام الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم، بعثوا برأسه إلى عبيداللّه بن زياد من ساعته، فقد ذكر الدينوري أنّ عمر بن سعد بعث برأس الحسين من ساعته إلى عبيداللّه بن زياد مع خولّي بن يزيد الأصبحي. «1»

قال الشيخ المفيد (ره): «وسرّح عمر بن سعد من يومه ذلك- وهو يوم عاشوراء- برأس الحسين عليه السلام مع خولّي بن يزيد، وحميد بن مسلم الأزدي، إلى عبيد اللّه بن زياد، وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فنظّفت، وكانت إثنين وسبعين رأساً، وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو

بن الحجّاج، فأقبلوا حتّى قدموا بها على ابن زياد». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 67

وخبر المفيد والطبري مشعرٌ بأنّ رؤوس بقية الشهداء عليهم السلام- بعد رأس الإمام عليه السلام- كانت أيضاً قد سبقت الركب الحسيني إلى الكوفة.

لكن بعض النصوص التأريخية الأخرى تفيد أنّ رؤوس بقيّة الشهداء عليهم السلام قد رافقت الركب الحسيني الى الكوفة، يقول الدينوري: «وأقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين عليه السلام يومين، ثمّ أذّن في الناس بالرحيل، وحُملت الرؤوس على اطراف الرماح!». «1»

الأجساد الطاهرة ..... ص : 67

بقي جسد الإمام الحسين عليه السلام مع أجساد الشهداء الآخرين من أهل بيته وأصحابه عليه السلام في العراء لا تُوارى، تصهرها حرارة الشمس، وتسفّ عليها الرياح السوافي، وكان اللعين عمر بن سعد قد دفن القتلى من جيشه وصلّى عليهم، وترك جسد الإمام عليه السلام وأجساد أنصاره صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ويظهر من بعض المتون التأريخية أنّ النساء في الركب الحسيني قد مررن على الجثث الطواهر بعد إحراق المخيم، يقول: السيّد ابن طاووس: «ثُمَّ أخرجوا النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة، وقلن: بحقّ اللّه إلّا ما مررتم بنا على مصرع الحسين! فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن، قال: فواللّه لا أنسى زينب إبنة عليّ وهي تندب الحسين عليه السلام وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 68

وامحمّداه صلّى عليك مليك السماء، هذا حسينٌ بالعراء! مرمَّلٌ بالدماء! مقطّع الأعظاء! واثكلاه! وبناتك سبايا! إلى اللّه المشتكى وإلى محمّدٍ المصطفى وإلى عليٍّ المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيّد الشهداء!

وامحمّداه! وهذا حسينٌ بالعراء! تسفي عليه ريح الصبا! قتيل أولاد البغايا!

واحزناه! واكرباه عليك يا أبا عبداللّه! اليوم مات جدّي رسول اللّه!

يا أصحاب محمّد! هؤلاء ذريّة المصطفى يساقون سوق السبايا!!

وفي بعض الروايات:

وامحمّداه! بناتك سبايا! وذرّيتك مقتّلة تسفي عليهم ريح الصبا! وهذا حسينٌ محزوز الرأس من القفا! مسلوب العمامة والرداء! بأبي من أضحى عسكره في يوم الإثنين نهبا! بأبي من فسطاطه مقطّع العرى! بأبي من لاغائب فيرتجى، ولاجريح فيداوى! بأبي من نفسي له الفداء! بأبي المهموم حتّى قضى! بأبي العطشان حتّى مضى! بأبي من يقطر شيبه بالدماء! يابن علي المرتضى، يابن خديجة الكبرى، يابن فاطمة الزهراء سيدة النساء، ...

بأبي من جدّه رسول إله السماء! بأبي من هو سبط نبيّ الهدى! بأبي محمّد المصطفى! بأبي من رُدَّت عليه الشمس حتّى صلّى!

قال الراوي: فأبكت واللّه كلَّ عدوٍّ وصديق. «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 69

ثمّ إنّ سكينة اعتنقت جسد الحسين! فاجتمع عدّة من الأعراب حتّى جرّوها عنه!» «1»

ويقول قُرّة بن قيس التميمي: «2» «نظرتُ إلى النسوة لمّا مررن بالحسين، صحن ولطمن خدودهنّ، فاعترضتهن على فرس! فما رأيت منظراً من نسوة أحسن منهنّ!!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 70

الساعات الأخيرة من يوم عاشوراء ..... ص : 70

قال السيّد الأجلّ ابن طاووس (ره): «إعلم أنّ أواخر النهار يوم عاشوراء كان اجتماع حرم الحسين عليه السلام وبناته وأطفاله في أسر الأعداء، مشغولين بالحزن والهموم والبكاء، وانقضى عليهم آخر ذلك النهار وهم فيما لايحيط به قلبي من الذلّ والإنكسار، وباتوا تلك الليلة فاقدين لحماتهم ورجالهم، وغرباء في إقامتهم وترحالهم، والأعداء يبالغون في البراءة منهم والإعراض عنهم وإذلالهم، ليتقرّبوا بذلك إلى المارق عمر بن سعد مؤتم أطفال محمّد صلى الله عليه و آله ومُقرح الأكباد، وإلى الزنديق عبيداللّه بن زياد، وإلى الكافر يزيد بن معاوية رأس الإلحاد والعناد.». «1»

الليلة الحادية عشرة ..... ص : 70

يقول الأديب المؤرّخ المحقّق المرحوم السيّد عبدالرزاق المقرّم:

«يالها من ليلة مرّت على بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعد ذلك العزّ الشامخ الذي لم يفارقهن منذ أوجد اللّه كيانهن! فلقد كنّ بالأمسِ في سرادق العظمة وأخبية الجلالة، يشع نهارها بشمس النبوّة، ويضي ء ليلها بكواكب الخلافة ومصابيح أنوار القداسة! وبقين في هذه الليلة في حلك دامسٍ من فقد تلك الأنوار الساطعة بين رحل منتهب، وخباء محترق، وفَرَقٍ سائد، وحماة صرعى، ولامحام لهنّ ولا كفيل!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 71

لايدرين من يدفع عنهنّ إذا دهمهنّ داهم!؟ ومن الذي يردّ عادية المرجفين!؟

ومن يسكّن فورة الفاقدات ويخفّف من وجدهن!؟

نعم! كان بينهن صراخ الصبية، وأنين الفتيات، ونشيج الوالهات، فأُمُّ طفل فطمته السهام! وشقيق مستشهد! وفاقدة ولد! وباكية على حميم! وإلى جنبهنّ أشلاء مبضّعة! وأعضاء مقطّعة! ونحور دامية! وهنّ في فلاة من الأرض جرداء ...

وعلى مطلع الأكمة جحفل الغدر تهزّهم نشوة الفتح وطيش الظفر ولؤم الغلبة!

وعلى هذا كلّه لايدرين بماذا يندلع لسان الصباح؟ وبماذا ترتفع عقيرة المنادي؟ أبالقتل أم بالأسر!؟ ولامن يدفع عنهنّ غير الإمام (العليل) الذي لايملك لنفسه نفعاً ولايدفع

ضرّاً، وهو على خطر من القتل!!

لقد عمَّ الإستياء في هذه الليلة عالم الملك والملكوت! وللحور في غُرف الجنان صراخ وعويل! وللملائكة بين أطباق السماوات نشيج ونحيب! وندبته الجنّ في مكانها.». «1»

هاتفٌ من الجنّ ينعى الإمام عليه السلام ليلة الحادي عشر ..... ص : 71

روى الشيخ المفيد (ره) في أماليه عن المحفوظ بن المنذر قال: حدّثني شيخ من بني تميم كان يسكن الرابية قال: سمعت أبي يقول: ما شعرنا بقتل الحسين عليه السلام حتّى كان مساء ليلة عاشوراء! «2» فإني لجالسٌ بالرابية ومعي رجل من الحيّ فسمعنا هاتفاً يقول:

واللّهِ ما جئتكم حتّى بصرتُ به بالطفّ منعفر الخدّينِ منحورا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 72

وحوله فتيةٌ تدمى نحورهمُ مثل المصابيح يعلون الدُجى نورا

وقد حثثتُ قلوصي كي أصادفهم من قبل أنْ يُلاقوا الخُرَّدَ الحورا

فعاقني قدرٌ واللّه بالغُهُ وكان أمراً قضاه اللّه مقدورا

كان الحسين سراجاً يُستضاء به اللّه يعلمُ أنّي لم أقل زورا

صلّى إلاله على جسمٍ تضمّنه قبر الحسين حليف الخير مقبورا

مجاوراً لرسول اللّه في غُرفٍ وللوصيّ وللطيّار مسرورا

فقلنا له: من أنت يرحمك اللّه؟

قال: أنا وأبي من جنّ نصيبين، «1» أردنا مؤازرة الحسين ومواساته بأنفسنا فانصرفنا من الحجّ فأصبناه قتيلًا!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 73

اليوم الحادي عشر من المحرّم ..... ص : 73

إتفق المؤرخون على أنّ عمر بن سعد لم يخرج عن كربلاء في اليوم العاشر من المحرّم، بل بقي حتّى اليوم الحادي عشر إلى الزوال، فجمع قتلاه وصلّى عليهم، وترك قرّة عين الزهراء البتول عليها السلام مطروحاً على أرض كربلاء مع بقية الشهداء من أهل بيته وصحبه الكرام عليهم السلام بلاغسل ولاكفن!

كيف حمل ابن سعد بقيّة الركب الحسينيّ إلى الكوفة!؟ ..... ص : 73

يقول السيد ابن طاووس (ره): «وأقام ابن سعد بقيّة يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ثمّ ارتحل بمن تخلّف من عيال الحسين عليه السلام، وحمل نساءه على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء! مكشّفات الوجوه بين الأعداء وهنّ ودائع خير الأنبياء! وساقوهنّ كما يُساق سبي الترك والروم في أسر المصائب والهموم». «1»

وقال ابن أعثم الكوفي: «وساق القوم حُرَم رسول اللّه من كربلاء كما تُساق

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 74

الأسارى!». «1»

أمّا الطبري فقال: «وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثمّ أمر حميد بن بكير الأحمري، فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان، وعليّ بن الحسين مريض.». «2»

لكنّ الدينوري في هذا الصدد كان قد ذكر أمراً شاذّاً غريباً خلافاً للمشهور حين ذكر أنّ ابن سعد كان قد حمل نساء الحسين عليه السلام وحشمه في المحامل المستورة على الإبل!، يقول الدينوري: «وأقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين يومين، ثمّ أذّن في الناس بالرحيل، وحُملت الرؤوس على أطراف الرماح! .. وأمر عمر بن سعد بحمل نساء الحسين وأخواته وبناته وجواريه وحشمه في المحامل المستورة على الإبل! وكانت بين وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبين قتل الحسين خمسون عاماً.». «3»

مرور الركب الحسينيّ على مصارع الشهداء عليه السلام ..... ص : 74

قال السيّد محمّد بن أبي طالب (ره): «ثمّ أذّن ابن سعد بالرحيل إلى الكوفة، وحمل بنات الحسين وأخواته وعليَّ بن الحسين وذراريهم، فأُخرجوا حافيات حاسرات مسلّبات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة!

فقلن: بحقّ اللّه! ما نروح معكم ولو قتلتمونا إلّا ما مررتم بنا على مصرع الحسين!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 75

فأمر ابن سعد لعنه اللّه ليمرّوا بهم من المقتل حتّى رأين إخوانهن وأبناءهنّ وودّعنهم.

فذهبوا بهنّ إلى

المعركة، فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن ..». «1»

وقال ابن الأثير: «... فاجتازوا بهنّ على الحسين وأصحابه صرعى، فصاح النساء ولطمن خدودهنّ وصاحت زينب أخته:

يا محمّداه! صلّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء! مزّمل بالدماء! مقطّع الأعضاء! وبناتك سبايا! وذريّتك مقتّلة تسفي عليها الصبا! فأبكت كلّ عدوّ وصديق.». «2»

وقال الإسفرائيني: «فأمر ابن سعد أن تؤخذ النساء عن جسد الحسين بالرغم عنهن! فحملوا على أقتاب الجمال بغير غطاء ولاوطاء! مكشوفات الوجوه بين الأعداء! وساقوهم كما تُساق سبايا الروم في شرّ المصائب والهموم ...». «3»

لكنّ بعض المتون تصرّح بأنهم جاءوا بالنساء على مصارع الشهداء عليهم السلام ومرّوا بهنّ عليهم قسراً وعناداً لابطلب وإصرار منهنّ!

فقد «روي عن عبداللّه بن إدريس، عن أبيه: أنّهم قد جاءوا بالنساء عناداً وعبروهنّ على مصارع آل الرسول صلى الله عليه و آله، فلمّا نظرت أُم كلثوم أخاها الحسين تسفي عليه الرياح! وهو مكبوب! وقعت من أعلى البعير إلى الأرض وحضنت أخاها وهي تقول ببكاء وعويل:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 76

يا رسول اللّه! أنظر إلى جسد ولدك ملقى على الأرض بغير دفن! كفنه الرمل السافي عليه! وغسله الدّم الجاري من وريديه! وهؤلاء أهل بيته يُساقون أُسارى في أسر الذلّ! ليس لهم من يمانع عنهم! ورؤوس أولاده مع رأسه الشريف «1» على الرماح كالأقمار!

يا محمّد المصطفى هذه بناتك سبايا وذرّيتك مقتّلة!

فما زالت تقول هذا القول ونحو هذا، فأبكت كلّ صديق وعدوّ! حتّى رأينا دموع الخيل تتقاطر على حوافرها! وساروا بها وهي باكية حزينة لاترقأ لها دمعة ولاتبطل لها حسرة!». «2»

القبائل تتنافس على حمل الرؤوس إلى ابن زياد ..... ص : 76

قال السيّد محمّد بن أبي طالب: «روي أنَّ رؤوس أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً، واقتسمتها القبائل ليتقرّبوا بذلك إلى

عبيداللّه بن زياد ويزيد». «3»

وروى البلاذري عن أبي مخنف أنه: «لما قُتل الحسين جي ء برؤوس من قُتل معه من أهل بيته وأصحابه إلى ابن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً، وصاحبهم قيس بن الأشعث، «4» وجاءت هوازن بعشرين رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 77

الجوشن، وجاءت بنوتميم بسبعة عشر رأساً، وجاءت بنوأسد بستة عشر رأساً،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 78

وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر قيس بتسعة أرؤس.». «1»

وقال الدينوري: «وحُملت الرؤوس على أطراف الرماح! وكانت إثنين وسبعين رأساً، جاءت هوازن منها بإثنين وعشرين رأساً، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً مع الحصين بن نمير، «2» وجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً مع قيس بن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 79

الأشعث، وجاءت بنو أسد بستّة رؤوس مع هلال الأعور، وجاءت الأزد بخمسة رؤوس مع عهيمة بن زهير، وجاءت ثقيف بإثني عشر رأساً مع الوليد بن عمرو.». «1»

لكنّ الطبري ذكر قصة الرؤوس المقدّسة قائلًا: «وقطف رؤوس الباقين فسرّح بإثنين وسبعين رأساً مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجّاج، وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتّى قدموا بها على عبيداللّه بن زياد». «2»

إشارة ..... ص : 79

من هنا يُلاحظ المتتبّع أنّ هناك أختلافاً بين المصادر التأريخية في صدد متى أُخذت بقيّة رؤوس الشهداء عليهم السلام إلى عبيداللّه بن زياد في الكوفة، فمنها من يصرّح أُخذت إلى الكوفة بعد رأس الإمام عليه السلام وقبل بقيّة الركب الحسيني، برفقة شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجّاج، وعزرة بن قيس، وهؤلاء

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 80

أيضاً من قبائل مختلفة!.

ومنها من يصرّح بأنّ هذه الرؤوس المقدّسة أُخذت إلى الكوفة برفقة بقيّة الركب الحسيني، وكانت القبائل قد تنافست على السهم الأعظم منها!

كما أنّ المصادر

التأريخية قد اختلفت أيضاً في مجموع عدد هذه الرؤوس الشريفة، فمنها من صرّح بأنها ثمانية وسبعون رأساً كما مرَّ، ومنها من صرّح بأنها إثنان وتسعون رأساً، «1» أو سبعون رأساً، «2» ولايبعد هذا القول إذا عُلِمَ أنّ عشيرة الحرّ ابن يزيد الرياحي (رض) منعت من قطع رأسه، كذلك رأس الطفل الرضيع عبداللّه عليه السلام لأنّ الإمام عليه السلام- على رواية- قد دفنه.

لكنّ أشهر هذه الأقوال هو أنّ عدد هذه الرؤوس المقدّسة إثنان وسبعون. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 81

المقصد الثاني ..... ص : 81

اشارة

وهو يشتمل على وقائع الطريق حتى ورود الركب الحسيني أرض الشام. ويكون على فصلين:

الفصل الأول: الركب الحسينيّ في الكوفة ..... ص : 81
الرأس المقدّس يسبق الركب إلى الكوفة ..... ص : 81

مرَّ بنا أنّ الطبري من المؤرّخين الذين رووا أنّ عمر بن سعد أرسل برأس الإمام عليه السلام- بعد قتله مباشرة- مع خولّي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيداللّه ابن زياد، لكنّه حينما يواصل روايته «1» يقول: «فأقبل به خولّي فأراد القصر فوجد باب القصر مغلقاً، فأتى منزله «2» فوضعه تحت أجانة في منزله، وله امرأتان، إمرأة من بني أسد، والأخرى من الحضرميين يُقال لها النوَّار إبنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرميّة.

قال هشام: فحدّثني أبي، عن النوّار بنت مالك قالت: أقبل خوّلي برأس الحسين فوضعه تحت أجانة في الدار، ثمّ دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقلت له:

ما الخبر عندك؟ قال: جئتك بغنى الدهر! هذا رأس الحسين معك في الدار! قالت:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 84

فقلت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضّة وجئت برأس ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله! لا واللّه لايجمع رأسي ورأسك بيتٌ أبداً!

قالت: فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إليه، وجلستُ انظر، قالت: فواللّه ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الأجانة! ورأيتُ طيراً بيضاً ترفرف حولها!

قال: فلمّا أصبح غدا بالرأس إلى عبيداللّه بن زياد ..». «1»

أمّا السيّد هاشم البحراني فيقول: «إنّ عبيداللّه بن زياد لعنه اللّه بعدما عرض عليه رأس الحسين عليه السلام، دعا ب خولّي بن يزيد الأصبحي وقال له: خذ هذا الرأس حتّى أسألك عنه. فقال: سمعاً وطاعة. فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله، وكان له امرأتان، إحداهما ثعلبى ة، والأخرى مضرية، فدخل على المضريّة فقالت: ما هذا؟! فقال: هذا رأس الحسين بن عليّ وفيه ملك

الدنيا!

فقالت له: أبشر! فإنّ خصمك غداً جدّه محمّد المصطفى!

ثم قالت: واللّه لاكنت لي ببعل، ولا أنا لك بأهل! ثمّ أخذت عموداً من حديد وأوجعت به دماغه!

فانصرف من عندها وأتى به إلى الثعلبية فقالت: ما هذا الرأس الذي معك؟

قال: هذا رأس خارجيّ خرج على عبيداللّه بن زياد. فقالت: وما اسمه؟ فأبى أن يخبرها ما اسمه، ثمّ تركه على التراب وجعل عليه أجانة.

قال فخرجت امرأته في الليل فرأت نوراً ساطعاً من الرأس إلى عنان السماء! فجاءت إلى الأُجانة فسمعت أنيناً وهو يقرأ! إلى طلوع الفجر! وكان آخر ما قرأ:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 85

«وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون» وسمعت حول الرأس دويّاً كدويّ الرعد! فعلمت أنه تسبيح الملائكة!

فجاءت إلى بعلها وقالت: رأيت كذا وكذا، فأيّ شي ء تحت الأجانة؟

فقال: رأس خارجي، فقتله الأميرعبيداللّه بن زياد، وأريد أن أذهب به إلى يزيد بن معاوية ليعطيني عليه مالًا كثيراً!

قالت: ومن هو؟!

قال: الحسين بن عليّ!

فصاحت وخرّت مغشيّة عليها! فلمّا أفاقت قالت: يا ويلك يا شرَّ المجوس! لقد آذيت محمّداً في عترته! أما خفت من إله الأرض والسماء حيث تطلب الجائزة على رأس ابن سيّدة نساء العالمين!؟

ثمّ خرجت من عنده باكية، فلمّا قامت رفعت الرأس وقبّلته ووضعته في حجرها وجعلت تقبّله وتقول: لعن الله قاتلك، وخصمه جدُّك المصطفى! فلمّا جنّ الليل غلب عليها النوم، فرأت كأنّ البيت قد انشقّ بنصفين وغشيه نور! فجاءت سحابة بيضاء، فخرج منها امرأتان، فأخذتا الرأس من حجرها وبكتا!

قالت: فقلت لهما: باللّه من أنتما؟

قالت إحداهما: أنا خديجة بنت خويلد! وهذه ابنتي فاطمة الزهراء! ولقد شكرناك، وشكر اللّه لك عملك، وأنت رفيقتنا في درجة القدس في الجنّة!

قال فانتبهت من النوم والرأس في حجرها، فلمّا أصبح الصبح جاء بعلها لأخذ

الرأس، فلم تدفعه إليه وقالت: ويلك! طلّقني، فواللّه لا جمعني وإيّاك بيت!

فقال: إدفعي لي الرأس وافعلي ماشئت!

فقالت: لا واللّه لا أدفعه إليك!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 86

فقتلها وأخذ الرأس، فعجّل اللّه بروحها إلى الجنّة في جوار سيّدة النساء.». «1»

منازل الطريق من كربلاء إلى الكوفة «2» ..... ص : 86

لم نجد في المصادر التأريخيّة- في ضوء متابعتنا- ذكراً وتفصيلًا لما جرى على الركب الحسيني في الطريق بين كربلاء والكوفة، غير أنّ هناك خبراً كاشفاً عن أنّ (الحنّانة) كانت أحد هذه المنازل، يقول الشهيد الأوّل (ره): «فإذا نزلت الثويّة، وهي الآن تلٌّ بقرب الحنّانة عن يسار الطريق لمن يقصد من الكوفة إلى المشهد، فصلّ عندها ركعتين، كما روي أنّ جماعة من خواصّ أميرالمؤمنين عليه السلام دُفنوا هناك، وقل ما تقوله عند رؤية القبّة الشريفة، فإذا بلغتَ العَلَمَ وهي الحنّانة فصلّ ركعتين، فقد روى محمّد بن أبي عمير، عن المفضّل قال: جاز الصادق عليه السلام بالقائم المائل في طريق الغريّ فصلّى ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 87

فقال: هذا موضع رأس جدّي الحسين بن عليّ عليهما السلام، وضعوه هاهنا لمّا توجّهوا من كربلاء، ثمّ حملوه إلى عبيداللّه بن زياد لعنة اللّه عليه ...». «1»

وقال الشيخ محمّد مهدي الحائري: «وقال المرحوم وحيد عصره شيخنا النوري نوَّر اللّه مضجعه: إنّه كان قريباً من النجف الأشرف ميل من الجص والآجر، ويقال له القائم ويسمّونه بالعَلَم، فلمّا قُبض أميرالمؤمنين عليه السلام وجاءوا إلى النجف الأشرف، فلمّا وصلوا إلى العلم والقائم انحنى تعظيماً لأمير المؤمنين كالراكع فسمّوه بالحنّانة، وزيد في شرفه انّه لمّا جي ء برأس الحسين عليه السلام الى الكوفة ووصل هناك وقد مضى من الليل شطره، فوضع اللعين الحامل الرأس المبارك في ذلك المقام، وهذا أوّل منزل نزل به

رأس الحسين عليه السلام في طريق الكوفة، بقي غريباً وحيداً في ذلك المقام، ثمّ بنوا مسجداً في ذلك المكان وسمّي بمسجد الحنّانة، ويستحب فيه الدعاء والزيارة ... وقيل سمّي بالحنانة لأنه لمّا وضع رأس الحسين عليه السلام في ذلك الموضع سُمع من الرأس الشريف حنين وأنين إلى الصباح، واللّه العالم.». «2»

بقيّة الركب الحسينيّ ..... ص : 87

تفاوتت المصادر التأريخية في عدد الباقين من الركب الحسينيّ، وفي أسماء الأسرى منهم حينما أُخذوا من كربلاء إلى الكوفة، فقد قال ابن سعد في طبقاته:

«ولم يفلت من أهل بيت الحسين بن عليّ الذين معه إلّا خمسة نفر، عليّ بن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 88

الحسين الأصغر، وهو أبوبقيّة ولد الحسين بن عليّ اليوم، وكان مريضاً فكان مع النساء، وحسن بن حسن بن عليّ، «1» وله بقيّة، وعمرو بن حسن بن عليّ ولابقيّة له، والقاسم بن عبداللّه بن جعفر، ومحمّد بن عقيل الأصغر، فإنّ هؤلاء استضعفوا فقدم بهم وبنساء الحسين بن عليّ وهنّ: زينب وفاطمة ابنتا عليّ بن أبي طالب، وفاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن علي، والرباب بنت أنيف «2» الكلبية امرأة الحسين ابن علي، وهي أمّ سكينة وعبداللّه المقتول إبني الحسين بن علي. وأمّ محمّد بنت حسن بن عليّ امرأة عليّ بن حسين. وموالي لهم ومماليك عبيد وإماء قدم بهم على عبيداللّه بن زياد مع رأس الحسين بن عليّ ورؤوس من قُتل معه رضي اللّه عنه وعنهم.». «3»

وقال الطبري: «وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثمّ أمر حميد بن بكير الأحمري فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 89

ومن كان معه من الصبيان وعليّ بن الحسين مريض.».»

وفي مقاتل الطالبين: «وحمل أهله أسرى، وفيهم عمرو، وزيد، والحسن بن الحسن

بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان الحسن بن الحسن بن عليّ قد ارتثّ جريحاً، فحُمل معهم، وعليّ بن الحسين الذي أمّه أمّ ولد، وزينب العقيلة، وأمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وسكينة بنت الحسين ..». «2»

وقال الشيخ عماد الدين الطبرى فى كامل البهائى: «وكنّ جميعهن عشرين نسوة، وكان لزين العابدين في ذلك اليوم إثنان وعشرون سنة، ولمحمّد الباقر أربع، وكانا كلاهما في كربلاء وحفظهما اللّه تعالى». «3»

ويستفاد من (الفائدة الثالثة) التي ذكرها المحقق السماوي في كتابه إبصار العين: أنّ زوجة الشهيد جنادة بن الحرث السلماني (رض) كانت في الركب الحسيني أيضاً، وهي أمُّ الشهيد عمرو بن جنادة (رض) الغلام ذي الإحدى عشرة سنة من العمر، وكذلك كانت عائلة الشهيد مسلم بن عوسجة (رض) «4» في هذا الركب، وأمُّ الشهيد وهب الذي كان نصرانيّاً (رض)، «5» وآخرون قد يكشف عنهم التحقيق الدقيق.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 90

متى دخل الركب الحسينيّ الكوفة؟ ..... ص : 90

أكثر المصادر التأريخيّة تذكر أنّ عمر بن سعد كان قد ارتحل من كربلاء إلى الكوفة في اليوم الحادي عشر بعد الزوال، حاملًا معه بقايا الركب الحسينيّ، وفي ضوء حساب المسافة وسرعة الدوابّ في ذلك العصر، فإنّ الأرجح أنّ عمر بن سعد ومن معه يمسون عند مشارف الكوفة أوّل الليل- أيّ ليلة الثاني عشر- هذا إذا كانوا قد جدّوا السير إلى الكوفة.

من هنا فإن الأرجح أن الركب الحسينيّ قد بات ليلة الثاني عشر في صحبة عسكر ابن سعد في منزل من منازل الطريق القريبة جدّاً من الكوفة أو على مشارفها، والظاهر أنّ عمر بن سعد كان قد دخل الكوفة نهار اليوم الثاني عشر مع عسكره وبقيّة الركب الحسيني أسرى وسبايا، ودخوله الكوفة نهاراً لا ليلًا أمرٌ يقتضيه العامل

الإعلامي، وزهو الإنتصار، والمباهاة بالظفر، في صدر كلّ من ابن زياد وابن سعد واعوانهما، وهناك أيضاً إشارات تأريخية تؤكّد أنّ دخول عمر بن سعد الكوفة كان في النهار، منها:

ما رواه سهل بن حبيب الشهرزوري قال: ... فدخلت الكوفة فوجدت الأسواق معطّلة، والدكاكين مغلّقة، والناس مجتمعون خلقاً كثيراً، حَلَقاً حَلَقاً، منهم من يبكي سرّاً، ومنهم من يضحك جهراً، فتقدّمتُ الى شيخ منهم وقلت له: يا شيخ! ما نزل بكم؟ أراكم مجتمعين كتائب! ألكم عيد لست أعرفه للمسلمين!؟

فأخذ بيدي وعدل بي ناحية عن الناس، وقال: يا سيّدي، مالنا عيد! ثمّ بكى بحرقة ونحيب! فقلت: أخبرني يرحمك اللّه!؟

قال: بسبب عسكرين أحدهما منصور، والآخر مهزوم مقهور!

فقلت: لمن هذان العسكران!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 91

فقال: عسكر ابن زياد وهو ظافر منصور! وعسكر الحسين بن عليّ عليهما السلام وهو مهزوم مكسور!

ثمّ قال: واحرقتاه أن يدخل علينا رأس الحسين!

فما استتمّ كلامه إذ سمعتُ البوقات تضرب، والرايات تخفق قد أقبلت، فمددت طرفي وإذا بالعسكر قد أقبل ودخل الكوفة.». «1»

إعلان حالة الطواري ء القصوى في الكوفة! ..... ص : 91

لمّا وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيشه بقيادة عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لايحمل أحدٌ من الناس السلاح في الكوفة، كما أمر عشرة آلاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق، والطرق والشوارع، خوفاً من النّاس أن يتحرّكوا حميّة وغيرة على أهل البيت عليهم السلام إذا رأوا بقيّتهم بتلك الحالة من الأسر والسبي، وأمر أن تُجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء، وأن يُطاف بهم في الشوارع والأسواق حتّى يغلب على الناس الخوف والخشية. «2»

كما أمر عبيداللّه بن زياد أن يضعوا الرأس المقدّس على الرمح ويُطاف به في سكك الكوفة وقبائلها، واجتمع مائة ألف إنسان للنظر إليه، منهم من كان يهنّي ء ومنهم من كان

يعزّي!. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 92

كيف استقبلت الكوفة بقيّة الركب الحسينيّ!؟ ..... ص : 92

كانت الكوفة قد خرجت عن بكرة أبيها لتشهد احتفال ابن زياد بمقدم جيشه الظافر في الظاهر! ولتشهد بقايا العسكر الذي قاتله جيش عمر بن سعد، ولتتصفّح وجوه السبايا!

ومن أهل الكوفة من كان يعلم بحقيقة مجرى الأحداث، ويُدرك عِظَم المصاب وفظاعة الجناية التي ارتكبتها الكوفة بالأساس، ويدري أنّ السبايا المحمولين مع عمر بن سعد هم بقيّة آل النبيّ صلى الله عليه و آله، وأنّ الرؤوس المشالات على أطراف الأسنّة هي رؤوس ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته وأصحابه، وهم خير أهل الأرض يومذاك، فكان يبكي لعظم الرزيّة!

ومنهم من كان أمويَّ الميل والهوى، أو جاهلًا لم يعلم بحقائق الأحداث، متوهّماً أنّ والي الكوفة وأميرها قد فتح فتحاً جديداً على ثغر من ثغور المسلمين! وجي ء إليه بسبايا من غير المسلمين، فكان يضحك جهراً ويهنّي ء من يلقاه بهذه المناسبة!!.

قال صاحب رياض الأحزان: «وقد مُلئت شوارعها- أي الكوفة- وسككها وأزقّتها من الرجال والنسوان والشيوخ والشبّان والصبايا والصبيان، من الموالي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 93

والمخالف، وحزب الرحمن، وأولياء الشيطان، منهم باك ومنتحب، ومنهم ضاحك وطرب، منهم عارف بالواقعة العظمى وأنها جرت على آل النبيّ محمد صلى الله عليه و آله، ومنهم جاهل غافل عن البلوى». «1»

وروى الشيخ الطوسي بسنده عن حذلم بن ستير «2» قال: «قدمت الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستين منصرف عليّ بن الحسين عليهما السلام بالنسوة من كربلاء، ومعهم الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلمّا أقبل على الجمال بغير وطاء جعل نساء الكوفة يبكين ويلتدمن! «3» فسمعت عليّ بن الحسين عليهما السلام وهو يقول بصوت ضئيل وقد نهكته العلّة، وفي عنقه الجامعة! ويده مغلولة إلى عنقه!:

إنّ هؤلاء النسوة يبكين! فمن قتلنا!؟». «4»

ويقول اليعقوبي في تاريخه: «وحملوهنّ إلى الكوفة، فلمّا دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين! فقال عليّ بن الحسين: هؤلاء يبكين! فمن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 94

قتلنا!؟». «1»

ويقول ابن أعثم الكوفي: «وساق القوم حرم رسول اللّه من كربلاء كما تساقُ الأسارى! حتّى إذا بلغوا بهم إلى الكوفة خرج الناس إليهم فجعلوا يبكون وينوحون ..». «2»

وقال السيد ابن طاووس (ره): «قال الراوي: فأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت: من أيّ الأسارى أنتنّ؟ فقلن: نحن أسارى آل محمد صلى الله عليه و آله!!

فنزلت المرأة من سطحها فجمعت لهنّ ملاء وأُزُراً ومقانع، وأعطتهنّ فتغطّينَ.». «3»

ويصف حاجب عبيد اللّه بن زياد حال الناس ذلك اليوم فيقول: «.. ثمّ أمر بعليّ بن الحسين عليه السلام فغُلَّ، وحمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنت معهم، فما مررنا بزقاق إلّا وجدناه ملاء رجالًا ونساء يضربون وجوههم ويبكون ..!!». «4»

مسلم الجصّاص يصف حال الكوفة يومذاك! ..... ص : 94

قال العلّامة المجلسي (ره): «رأيت في بعض الكتب المعتبرة «5» روى مرسلًا عن مسلم الجصاص قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 95

أجصّص الأبواب وإذا أنا بالزعقات «1» قد ارتفعت من جنبات الكوفة!

فأقبلت على خادم كان معنا، فقلت: مالي أرى الكوفة تضجُّ!؟

قال: الساعة أتوا برأس خارجيّ خرج على يزيد.

فقلت من هذا الخارجي!؟

فقال: الحسين بن علي!

قال فتركت الخادم حتّى خرج ولطمتُ وجهي حتّى خشيتُ على عيني أن تذهب! «2» وغسلت يدي من الجصّ، وخرجت من ظهر القصر وأتيتُ إلى الكناس، فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس، إذ أقبلت نحو أربعين شقّة «3» تُحمل على أربعين جملًا، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة عليها السلام، وإذا بعليّ ابن الحسين عليه السلام على بعير بغير

وطاء! وأوداجه تشخب دماً! وهو مع ذلك يبكي ويقول:

يا أمّة السوء لاسقياً لربعكم يا أمّة لم تراع جدَّنا فينا

لو أننا ورسول اللّه يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيّرونا على الأقتاب عارية كأننا لم نشيّد فيكم دينا

بني أميَّة ما هذا الوقوف على تلك المصائب لا تُلبون داعينا «4»

تصفّقون علينا كفّكم فرحاًوأنتم في فجاج الأرض تسبونا أليس جدّي رسول اللّه ويلكم أهدى البريّة من سُبْل المُضلِّينا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 96

يا وقعة الطفّ قد أورثتني حزناًواللّه يهتك أستار المسيئينا

قال: وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أمُّ كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة! إنّ الصدقة علينا حرام! وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض.

قال كلّ ذلك والنّاس يبكون على ما أصابهم!

ثمّ إنّ أمَّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم:

صهٍ يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم!؟ فالحاكم بيننا وبينكم اللّه يوم فصل القضاء!

فبينما هي تخاطبهنّ إذا بضجّة قد ارتفعت، فإذاهم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين عليه السلام، «1» وهو رأسٌ زهريٌّ قمرىٌّ أشبه الخلق برسول اللّه صلى الله عليه و آله، ولحيته كسواد السَّبَج «2» قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع! والرمح تلعب بها (كذا) يميناً وشمالًا، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدَّم المحمل، حتّى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بخرقة وجعلت تقول:

يا هلالًا لمّا استتمَّ كمالا غاله خسفه فأبدى غروبا

ما توهمّت يا شقيق فؤادي كان هذا مُقدَّراً مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلّمها فقد كاد قلبها أن يذوبا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 97

يا أخي قلبك الشفيق علينا ماله قد قسى وصار صليبا؟

يا أخي لو ترى عليّاً لدى الأسر مع اليتم لا يطيق

وجوبا

كلّما أوجعوه بالضرب نادا ك بذلّ يُغيض دمعاً سكوبا

يا أخي ضمّه إليك وقرّبه وسكّن فؤاده المرعوبا

ما أذلّ اليتيم حين ينادي بأبيه ولايراه مجيبا». «1»

اشارة ..... ص : 97

لاشكَّ بأنّ الصدقة الواجبة حرام على أهل البيت عليهم السلام وعلى ذراريهم، وهي كما ورد في الأثر «2» أوساخ الناس وأنّها لاتحلّ على محمّد ولا آل محمّد صلى الله عليه و آله، ثمّ إنّه لاخلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، فلماذا منعت السيّدة أمُّ كلثوم أو زينب عليها السلام الأطفال من أخذ ما كان يقدّمه لهم أهل الكوفة من تمر وخبز وجوز؟

ألأنّ ذلك كان صدقة واجبة وهي محرّمة عليهم، أم كان ذلك احتياطاً فلربّما كان بعض ذلك من الصدقة الواجبة؟ أم كان ذلك محمولًا على الكراهة أو الحرمة بتعليل خاص؟

يقول الشيخ الأنصاري (ره) في كتاب الزكاة «3» مانصّه: «ثمّ إنّه لاخلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، وبه وردت أخبار كثيرة، إلّا أنّ في بعض الأخبار ما يدلّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 98

على نهي الإمام عليه السلام عن ماء المسجد معلّلًا بأنّها صدقة، وقد اشتهر حكاية منع سيدتنا زينب أو أمّ كلثوم عليهما السلام للسبايا عن أخذ صدقات أهل الكوفة، معللّتين بكونها صدقة، ويمكن حملها على الكراهة أو الحرمة إذا كان الدفع على وجه المهانة كما احتمله في شرح المفاتيح.».

وفي طول ذلك يمكن أن نقول بأنّ من المحتمل أيضاً أنّ سيدتنا عليها السلام أرادت من وراء ردّ عطايا أهل الكوفة ومنع السبايا منها- مع فرض الكراهة- أن تعرّف النّاس بأن سبايا هذا الركب ليسوا من أيّ الناس، بل هم آل رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذين فرض اللّه مودّتهم واتباعهم، وأنّ يزيد بن معاوية وعامله ابن زياد قد عصيا اللّه ورسوله

صلى الله عليه و آله بارتكاب ما ارتكبا من آل الرسول صلى الله عليه و آله، حتّى ينكشف للنّاس من أهل الكوفة عظم الجريمة والرزيّة، وفظاعة ما اجترحوه من ذنب الإنقياد ليزيد وابن زياد وأتباعهما.

خطبة بطلة كربلاء عليها السلام ..... ص : 98

ولمّا رأت العقيلة زينب عليها السلام الحشود الكثيرة من أهالي الكوفة قد ملأت الشوارع والطرق والسكك اندفعت إلى الخطابة وإلى التبليغ وإلى تبيان ما جرى على أهل بيت النبوّة، وأخذت تحمّل أهل الكوفة مسؤولية نقض العهد والبيعة وقتل ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وتوخز ضمائرهم وتحرق قلوبهم بتعريفهم عظم ما اجترحوا من جُرم، وقبح ما ألبسوا أنفسهم من عارٍ لايُغسل أبد الدهر!

قال السيّد ابن طاووس (ره): «قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرتُ إلى زينب بنت عليّ يومئذٍ، ولم أر خفرةً واللّه أنطق منها! كأنّها تُفرغ من لسان أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام! وقد أومأت إلى النّاس أنِ اسكتوا فارتدّت الأنفاس

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 99

وسكنت الأجراس!! ثمّ قالت:

الحمدُ للّه، والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار! أمّا بعدُ يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر! أتبكون!؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة! إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلًا بينكم! ألا وهل فيكم إلّا الصَّلفُ النَّطِفُ، والصدر الشَّنِف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضّة (كقصة خ ل) على ملحودة!؟

ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!

أتبكون وتنتحبون!؟ إيِ واللّه فابكوا كثيراً واضحكوا قليلًا، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغُسل بعدها أبداً! وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدره

ألسنتكم!؟ ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من اللّه، وضُربت عليكم الذّلة والمسكنة!

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيَّ كبد لرسول اللّه فريتم!؟ وأيَّ كريمة له أبرزتم!؟ وأيَّ دم له سفكتم!؟ وأيَّ حرمة له انتهكتم!؟ ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء- وفي بعضها- خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض أو ملاء السماء!

أفعجبتم أن مطرت السماء دماً!؟ ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لاتُنصرون! فلا يستخفّنكم المهل، فإنّه لايحفزه البدار، ولايخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 100

قال الراوي: فواللّه لقد رأيت النّاس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم! ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلّت لحيته! وهو يقول: بأبي أنتم وأمّي كهولكم خير الكهول! وشبابكم خير الشباب! ونساؤكم خير النساء! ونسلكم خير نسل، لايخزى ولايُبزى!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 101

خطبة فاطمة الصغرى بنت الحسين عليها السلام ..... ص : 101

وقال السيّد ابن طاووس (ره): «وروى زيد بن موسى «1» قال: حدّثني أبي، عن جدّي عليهما السلام قال: خطبت فاطمة الصغرى بعد أن وردت من كربلاء، فقالت:

الحمدُ للّه عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لاشريك له، وأنّ محمّداً عبده

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 102

ورسوله صلى الله عليه و آله، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات بغير ذُحل ولاترات!

أللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، المسلوب حقّه، المقتول من غير ذنب كما قتل ولده بالأمس، في بيت من بيوت اللّه في معشر مسلمة بألسنتهم! تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولاعند مماته، حتّى

قبضته إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك اللّهم لومة لائم ولا عذل عاذل، هديته اللّهم للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلى الله عليه و آله حتى قبضته إليك زاهداً في الدنيا غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته فهديته إلى صراط مستقيم.

أمّا بعدُ يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء! فإنّا أهل بيت ابتلانا اللّه بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا اللّه بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله على كثير ممّن خلق تفضيلًا بيّناً، فكذّبتمونا وكفرتمونا! ورأيتم قتالنا حلالًا! وأموالنا نهباً! كأنّنا أولاد ترك وكابل! كما قتلتم جدّنا بالأمسِ، «1» وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدّم! قرّت لذلك

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 103

عيونكم وفرحت قلوبكم، افتراءً على اللّه ومكراً مكرتم، واللّه خير الماكرين.

فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة «في كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على اللّه يسير، لكيلا تأسوا على مافاتكم ولاتفرحوا بما آتاكم، والله لايُحبُّ كلّ مختال فخور»، تبّاً لكم! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأنْ قد حلَّ بكم وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذاب ويُذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة اللّه على الظالمين.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 104

ويلكم! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم!؟ وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا!؟ أم بأيّ رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا!؟

قست واللّه قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على

أفئدتكم، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجُعل على بصركم غشاوة فأنتم لاتهتدون!

فتبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيّ تراتٍ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله قبلكم، وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات اللّه وسلامه عليهم!؟ وافتخر بذلك مفتخركم فقال:

نحن قتلنا عليّاً وبني علي بسيوف هنديّة ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك ونطحناهمُ فأيُّ نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب! افتخرت بقتل قوم زكّاهم اللّه وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً! فاكظِمْ وأقع كما أقعى أبوك فإنّما لكلّ امرء ما اكتسب وما قدّمت يداه، أحسدتمونا- ويلًا لكم- على ما فضّلنا اللّه!؟

فماذنبا إنْ جاش دهراً بحورنا وبحرك ساجٍ لايواري الدّعامصا

ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم، ومن لم يجعل اللّه له نوراً فماله من نور.

قال: وارتفعت الأصوات بالبكاء! وقالوا: حسبك يا ابنة الطيبين! فقد أحرقت قلوبنا، وانضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا. فسكتت.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 105

خطبة أمّ كلثوم بنت عليّ عليها السلام ..... ص : 105

«قال: وخطبت أمُّ كلثوم بنت عليّ عليه السلام في ذلك اليوم من وراء كلّتها، رافعة صوتها بالبكاء فقالت:

يا أهل الكوفة! سوأة لكم! خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه!؟

وسبيتم نساءه ونكبتموه!؟ فتبّاً لكم وسحقاً.

ويلكم! أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم!؟ وأيّ وزرٍ على ظهوركم حملتم!؟ وأيّ دماءٍ سفكتم!؟

وأيّ كريمة أصبتموها!؟ وأيّ صبية سلبتموها!؟ وأيّ أموالٍ انتهبتموها!؟ قتلتم خير رجالات بعد النبيّ صلى الله عليه و آله! ونُزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب اللّه هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

ثمّ قالت:

قتلتم أخي صبراً، فويلٌ لأمّكم ستُجزونَ ناراً حرّها يتوقّد

سفكتم دماءً حرّم اللّه سفكها وحرّمها القرآنُ ثمّ محمّدُ

ألا فابشروا بالنّار إنّكمُ غداً لفي سقرٍ حقّاً يقيناً تُخلّدوا

وإنّي لأبكي في حياتي

على أخي على خير من بعد النبيّ سيولدُ

بدمعٍ غزير مستهلّ مكفكف على الخدّ منّي دائماً ليس يجمدُ

قال فضجَّ الناس بالبكاء والحنين والنوح، ونشر النساء شعورهنّ، ووضعن التراب على رؤوسهنّ، وخمشن وجوههنّ وضربن خدودهنّ، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال ونتفوا لحاهم! فلم يُرَ باكية وباكٍ أكثر من ذلك اليوم.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 106

خطبة الإمام السجّاد عليه السلام ..... ص : 106

«ثمَّ إنّ زين العابدين عليه السلام أومأ إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، فقام قائماً، فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ صلّى عليه، ثمّ قال:

أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتهب ماله، وسُبي عياله! أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذُحلٍ ولاترات! أنا ابن من قُتل صبراً، فكفى بذلك فخراً!

أيها الناس! فأنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه!؟

وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه!؟

فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم! وسوأة لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمّتي!؟

قال الراوي: فأرتفعت الأصوات من كلّ ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون!!

فقال عليه السلام: رحم اللّه امرءً قبل نصيحتي وحفظ وصيّتي في اللّه وفي رسوله وأهل بيته، فإنّ لنا في رسول اللّه صلى الله عليه و آله أُسوة حسنة.

فقالوا بأجمعهم: نحن كلّنا يا ابن رسول اللّه سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك! فمرنا بأمرك يرحمك اللّه! فإنّا حربُ لحربك! وسلم لسلمك! لنأخذنّ يزيد لعنه اللّه ونبرأ ممّن ظلمك!

فقال عليه السلام: هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم!

أتريدون أن تأتوا إليَّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 107

كلّا وربِّ الراقصات! فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلوات اللّه عليه بالأمسِ وأهل بيته معه، ولم ينسني ثكل رسول اللّه وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه يجري في فراش صدري، ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولاعلينا!

ثمّ قال:

لا غروَ انْ قُتل الحسين فشيخه قد كان خيراً من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي أصيب حسين كان ذلك أعظما

قتيل بشطّ النهر روحي فداؤه جزاء الذي أرداه نار جنهما

ثم قال: رضينا منكم رأساً برأس! فلايوم لنا ولايوم علينا!». «1»

إشارة (1) ..... ص : 107

يُلاحظ المتأمّل في خُطَب كلّ من الإمام السجّاد، والعقيلة زينب، وأمّ كلثوم، وفاطمة الصغرى عليهم السلام أنّ الخطَّ المشترك الرئيس في كلّ هذه الخطب هو أنهم صلوات اللّه عليهم ألقوا باللائمة على أهل الكوفة، وخاطبوهم بصفتهم الجناة الذين ارتكبوا جريمة قتل سيد الشهداء عليه السلام وأنصاره رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين، بما ظهر منهم من ختل وغدر ونقضٍ للبيعة، وبما كان منهم من انقياد تام لأوامر يزيد وعبيداللّه بن زياد وعمر بن سعد وشمر وبقيّة طغاتهم!

فالأمّة هنا هي وقود النار التي اقتدح شرارتها الجبابرة الظالمون، وهي أداة القتل، بل هي التي باشرت ارتكاب الجريمة العظمى بيدها! فهي التي تستحقّ اللعن الدائم إلى قيام الساعة وفي هذا وردت نصوص كثيرة عن أهل بيت

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 108

العصمة عليهم السلام منها هذه الفقرة من زيارة عاشوراء:

«.. فلعن اللّه امّة أسست أساس الظلم والجور عليكم أهلَ البيت، ولعن اللّه أمّة دفعتكم عن مقامكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتّبكم اللّه فيها، ولعن اللّه أمّة قتلتكم ..». «1»

إنّ دور الأمّة- في مجموعة العلل

والأسباب الإجتماعية- هو الدور الفاعل الرئيس، فبالأمّة يستطيع قادة الخير أن يحققوا كلّ مشاريع الخير والصلاح، وبدونها يعجز هؤلاء القادة عن تحقيق أيّ هدف من أهداف الإصلاح والخير، وكذلك فإنّ أئمّة الضلال إنّما يستطيعون بلوغ أهدافهم الشرّيرة المشؤومة ما أطاعتهم الأمّة فيما يريدون، ويعجزون عن تحقيق أي مطمع من مطامعهم إذا خالفتهم الأمة في الرأي والعمل.

نعم، في البدء يكون سامريٌّ وعجل! لكنهما لا أثر لهما مالم تطعهما الأمّة وتقتف أثرهما!

فالأمّة وإن كانت تابعة لكنها ذات الدور الفاعل الأساس!

من هنا صبّ خطباء بقيّة الركب الحسينيّ جام غضبهم على أهل الكوفة وحمّلوهم أوزار جريمة فاجعة عاشوراء .. إذ لولا أمّة «أهل الكوفة» لكان ابن زياد وجلاوزته أعجز من أنْ يقوموا بما قاموا به!

الإشارة (2): هل كانت لفاطمة عليها السلام بنتٌ واحدة أم أكثر؟ ..... ص : 108

يُستفاد من بعض النصوص أن مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام كان لها من ذريّتها

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 109

بنتٌ واحدة هي زينب عليها السلام وكانت كنيتها أمّ كلثوم، كما في هذا النصّ الذي ينقله الشيخ القمّي في كتابه (بيت الأحزان) عن كتاب مصباح الأنوار: «عن أبي عبداللّه عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: إنّ فاطمة عليها السلام لمّا احتضرت أوصت عليّاً عليه السلام فقالت: إذا أنا مِتُّ فتولَّ أنت غسلي، وجهّزني، وصلّ عليَّ، وأنزلني في قبري، وألحدني، وسَوِّ التراب عليَّ، واجلس عند رأسي قبالة وجهي فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء فإنّها ساعة يحتاج الميّت إلى أُنس الأحياء، وأنا أستودعك اللّه تعالى وأوصيك في ولدي خيراً، ثمَّ ضمّت إليها أمّ كلثوم فقالت له: إذا بلغت فلها ما في المنزل ثمَّ اللّه لها، فلمّا توفيت فعل ذلك أميرالمؤمنين عليه السلام.». «1»

وكما في النص الذي يرويه الشيخ الصدوق (ره) بسنده عن حمّاد بن عثمان «قال: قلت لأبي

عبداللّه عليه السلام: جُعلت فداك! ما معنى قول رسول اللّه: إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذريّتها على النار. فقال: المعتقون من النار هم ولد بطنها الحسن والحسين وأمّ كلثوم.». «2»

وكما في الخبر الذي ينقله الشيخ المفيد (ره) من رواية عثمان بن المغيرة حيث يقول: «لمّا دخل شهر رمضان كان أميرالمؤمنين عليه السلام يتعشّى ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبداللّه بن جعفر، وكان لا يزيد على ثلاث لُقم ...». «3»

فإنّ ليلة عبداللّه بن جعفر (رض) تعني ليلة زينب عليها السلام لأنها زوجته، وليس هنا ليلة أخرى يتعشّى فيها عليٌّ عليه السلام عند ابنة له أخرى إسمها أمّ كلثوم!

لكنّ هناك روايات أخرى يستفاد منها أنّ عليّاً وفاطمة عليهما السلام كان لهما من

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 110

ذريتهما إبنتان هما زينب وأمّ كلثوم عليهما السلام، بل إنّ هذه الروايات هي الأكثر، وفي ضوئها ذهب جمع من علمائنا إلى هذا، منهم الشيخ المفيد (ره) حيث يقول في الإرشاد: «فأولاد أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى:

الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المُكنّاة أمّ كلثوم، أمّهم فاطمة البتول ...». «1»

ويقول المقدسيّ المتوفّى سنة 620 ه في كتابه «التبيين في أنساب القرشيين»:

«وولدت- أيّ فاطمة عليها السلام- لعليّ رضي اللّه عنه: الحسن والحسين وأمّ كلثوم وزينب» «2» وقال أيضاً: «ولم يتزوّج عليّ امرأة سوى فاطمة حتّى ماتت، وولد له منها الحسن والحسين وأمّ كلثوم وزينب الكبرى رضي اللّه عنهم». «3»

وقال المرحوم المامقاني: «أمّ كلثوم بنت أميرالمؤمنين عليها السلام، هذه كنية لزينب الصغرى، وقد كانت مع أخيها الحسين عليه السلام بكربلاء، وكانت مع السجاد إلى الشام ثمّ إلى المدينة، وهي جليلة القدر فهيمة بليغة ...». «4»

وقال المرحوم النمازي:

«كانت لمولانا أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه بنات منهن ثلاث زينبات: زينب الكبرى، وزينب أخرى المكنّاة بأمّ كلثوم، من ولد فاطمة الزهراء صلوات اللّه عليها، وزينب أخرى من أمّ ولد.

أمّا زينب الكبرى صلوات اللّه عليها: من رواة الحديث، أدركت النبيّ صلى الله عليه و آله وولدت في حياته، وهي عقيلة بني هاشم، ذات الخصال الحميدة والصفات

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 111

المجيدة، وفي الصبر والثبات وقوة الإيمان والتقوى فريدة وحيدة، وفي الفصاحة والبلاغة كأنها تنطق من لسان أميرالمؤمنين عليه السلام ... وفي كتاب الزينبات روايات محصولها أنّ زينب الكبرى عليها السلام لمّا جاءت إلى المدينة كانت تحرّض الناس على الأخذ بثأر الحسين عليه السلام، فأبلغ خبرها والي المدينة إلى يزيد، فأمر يزيد بإخراجها من المدينة مع من تشاء من نساء بني هاشم إلى مصر، فجهّزهنّ إلى مصر، فلمّا وردوا مصر أقامت فيها أحد عشر شهراً وخمسة عشر يوماً، وتوفيت بمصر في 15 رجب سنة 62 ه ...». «1»

ويُنسب إلى السيّد محسن الأمين العاملي أنه قال: «وجد على قبر في الشام حجر مكتوب عليه: هذا قبر السيّدة زينب المكنّاة بأمّ كلثوم بنت سيّدنا عليّ رضي اللّه عنه.». «2»

حكاية اختطاف الإمام السجّاد!! ..... ص : 111

روى ابن سعد في طبقاته يقول: «قال عليّ بن الحسين: فغيّبني رجلٌ منهم، «3»

وأكرم نُزلي واختصّني، وجعل يبكي كلّما خرج ودخل! حتّى كنت أقول: إن يكن عند أحدٍ من الناس خيرٌ ووفاء فعند هذا!

إلى أن نادى منادي ابن زياد: ألا من وجد عليَّ بن حسين فيأتِ به فقد جعلنا فيه ثلاثمائة درهم!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 112

قال: فدخل واللّه عليَّ وهو يبكي، وجعل يربط يدي إلى عنقي وهو يقول: أخاف!!

فأخرجني واللّه إليهم مربوطاً حتّى دفعني إليهم وأخذ ثلاثمائة درهم وأنا أنظر إليها!!

فأُخذتُ

وأدخلت على ابن زياد فقال: ما اسمك؟

فقلت: عليّ بن حسين.

قال: أوَلمْ يقتل اللّه عليّاً؟

قال: قلت: كان لي أخ يُقال له عليّ، أكبر منّي، قتله النّاس!

قال: بل اللّه قتله.

قلت: «اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها».

فأمر بقتله، فصاحت زينب بنت عليّ: يا ابن زياد حسبك من دمائنا! أسألك باللّه إن قتلته إلّا قتلتني معه! فتركه ...». «1»

إشارة ..... ص : 112

إننا نتحفّظ على هذه الرواية- في صدد اختطاف الإمام عليه السلام أو تغييبه- من الناحية التحقيقية للأسباب التالية:

1- أنّ هذه الرواية فضلًا عن إرسالها كان ابن سعد قد تفرّد بها على مايبدو، إذ لم يذكرها مؤرّخ آخر من مؤرّخي أهل السنّة، فضلًا عن مؤرّخي الشيعة الأوائل.

وما في كتاب المنتظم أو في كتاب مرآة الزمان لابن الجوزي هو نقل عن كتاب الطبقات، وكذلك ما في كتاب تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي هو أيضاً نقل عن كتاب الطبقات.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 113

2- كان الإمام السجّاد عليه السلام زعيم قافلة السبي والراعي لها، ولاشك أنّه كان موضع حراسة مشدّدة خاصة من قبل حرس ابن زياد، فهو لايخفى عن أعينهم طرفة عين لأهميته، فلا يُعقل أن يأتي رجل فيأخذه ويغيّبه عن الركب وعن الحرس وعن الناس بهذه السهولة!!

3- ثمّ إنّ الإمام السجّاد عليه السلام لم يكن ليخفى طرفة عين عن نظر الهاشميّات في الركب الحسينيّ لأنه بقيّة السيف وبقيّة الإمامة، ولأنه حماهنّ الذي يلذن به، خصوصاً مولاتنا زينب عليها السلام التي كان أهمّ مايهمّها هو المحافظة على الإمام عليه السلام، وقد عرّضت نفسها مراراً للقتل دونه محافظة عليه، فلو صحّ ما في هذه الرواية لكانت زينب عليها السلام قد أقامت الدنيا وأقعدتها، ولبان ذلك في كتب التأريخ كحدث مهم جدّاً من أحداث وقائع الأسر والسبيّ.

4-

تُظهر هذه الرواية الإمام عليه السلام وكأنّه لايهمّه إلّا أمر نفسه! ولايهمّه ما تعانيه عمّاته وأخواته وبقية سبايا الركب الحسينيّ، إذ قد أحسّ بالراحة والإطمئنان عند هذا الرجل!!- كما تصوّره الرواية!- وهذا مما لايتلائم مع الغيرة الهاشميّة الحسينية التي خير ما تتجسد إن تجسَّدت ففي عليّ بن الحسين عليهما السلام نفسه.

5- وتُظهر هذه الرواية الإمام عليه السلام أيضاً وكأنّه ليس لايعلم ما يريده هذا الخاطف فقط- وهو الذي لايخفى عليه علم ما يشاء علمه!- بل وكأنّه من البساطة والسذاجة- حاشاه!- بحيث قد اطمأنّ بسرعة إلى هذا الرجل المجهول وهو من أهل الكوفة الذين يصفهم الإمام السجّاد عليه السلام نفسه بأنّهم أهل غدر وختل وخيانة.

6- ظاهر الرواية مُشعرٌ بأنّ الإمام عليه السلام بقي في منزل هذا الرجل نهاراً أو أكثر من نهار! وفي نقل ابن الجوزي: «فبينما أنا ذات يوم عنده» وهذا التعبير مُشعر بأنّه عليه السلام بقي عند هذا الرجل أيّاماً!!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 114

مع أنّ تسلسل حركة أحداث ووقائع وجود الركب الحسينيّ في الكوفة ينافي هذا تماماً، لأن لقاءهم مع ابن زياد في قصره كان قد تمّ في نفس اليوم الذي دخلوا فيه الكوفة- وهو اليوم الثاني عشر من المحرّم- ولأنّ إدخالهم السجن كان قد بدأ في أواخر نهار ذلك اليوم، فكيف يمكن لذلك الرجل- على ما تدّعيه رواية ابن سعد- أن يُغيّب الإمام عليه السلام عنده!؟

الطواف برأس الإمام عليه السلام في سكك الكوفة!! ..... ص : 114

قال السيّد ابن طاووس (ره): «ثمَّ أمر ابن زياد برأس الحسين عليه السلام فطيف به في سكك الكوفة، ويحقّ لي أن أتمثّل هاهنا بأبيات لبعض ذوي العقول يرثي بها قتيلًا من آل الرسول صلى الله عليه و آله فقال:

رأس ابن بنت محمّدٍ ووصيّه للناظرين على قناةٍ يُرفعُ

والمسلمون

بمنظرٍ وبمسمعٍ لامنكرٌ منهم ولا متفجّعُ

كحلت بمنظرك العيون عمايةً وأصمَّ رزؤك كلَّ أُذن تسمعُ

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع

ما روضةٌ إلّا تمنّت أنّها لك حفرة ولخطّ قبرك مضجع» «1»

وقال الشيخ المفيد (ره): «ولمّا أصبح عبيداللّه بن زياد بعث برأس الحسين عليه السلام فدير به سكك الكوفة كلّها وقبائلها، فروي عن زيد بن أرقم أنّه قال:

مُرَّ به عليَّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ «أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا». «1»

فقفّ «2» واللّه شعري وناديت رأسك واللّه يا ابن رسول اللّه أعجبُ!!

ولمّا فرغ القوم من التطوّف به بالكوفة ردّه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زجر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرّحه إلى يزيد بن معاوية.». «3»

وقال ابن شهرآشوب: وروى أبومخنف، عن الشعبي: أنّه صُلب رأس الحسين عليه السلام بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله:

«إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى» فلم يزدهم ذلك إلّا ضلالًا!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 116

كلام المرحوم السيّد المقرّم حول تكلّم الرأس ..... ص : 116

«لم يزل السبط الشهيد حليف القرآن مُنذ أُنشي ء كيانه لأنّهما ثقلا رسول اللّه وخليفتاه على أمته، وقد نصّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض، فبذلك كان الحسين عليه السلام غير مبارح تلاوته طيلة حياته، في تهذيبه وإرشاده، وتبليغه في حلّه ومرتحله، حتى في موقفه يوم الطف بين ظهراني أولئك المتجمهرين عليه، ليتمّ عليهم الحجّة ويوضّح لهم المحجّة.

هكذا كان ابن رسول اللّه يسير إلى غايته المقدّسة سيراً حثيثاً حتّى طفق يتلو القرآن رأسُه المطهّر فوق عامل السنان، عسى أن يحصل في القوم من يكهربه نور الحقّ، غير أنّ داعية الهدى

لم يصادف إلّا قصوراً في الإدراك وطبعاً في القلوب، وصمماً في الآذان «ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة».

ولايستغرب هذا من يفقه الأسرار الإلهيّة، فإنّ المولى سبحانه بعد أن أوجب على سيّد الشهداء النهضة لسدّ أبواب الضلال بذلك الشكل المحدّد الظرف والمكان والكيفية لمصالح أدركها الجليل جلّ شأنه، فأوصى إلى نبيّه الأقدس أن يقرأ هذه الصفحة الخاصة على ولده الحسين عليه السلام، فلا سبيل إلّا التسليم والخضوع للأصلح المرضيّ لربّ العالمين «لايُسأل عمّا يفعل وهم يسألون».

وحيث أراد المهيمن تعالى بهذه النهضة المقدّسة تعريف الأمّة الحاضرة والأجيال المتعاقبة ضلال الملتوين عن الصراط السويّ، العابثين بقداسة الشريعة، أحبّ الإتيان بكلّ ما فيه توطيد أسس هذه الشهادة التي كتبت بدمها الطاهر صحائف نيّرة من أعمال الثائرين في وجه المنكر، فكانت هذه محفوفة بغرائب لاتصل إليها الأفهام، ومنها استشهاد الرأس المعظّم بالآيات الكريمة، والكلام من رأس مقطوع أبلغ في إتمام الحجّة على من أعمته الشهوات عن إبصار الحقائق،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 117

وفيه تركيز العقائد على أحقيّة دعوته التي لم يقصد بها إلّا الطاعة لربّ العالمين، ووخامة عاقبة من مدَّ عليه يد السوء والعدوان، كما نبّه الأمّة على ضلال من جرّأهم على الطغيان.

ولابدع في القدرة الإلهيّة إذا مكّنت رأس الحسين عليه السلام من الكلام للمصالح التي نقصر عن الوصول الى كنهها بعد أن أودعت في الشجرة قوّة الكلام مع نبيّ اللّه موسى بن عمران عليه السلام عند المناجاة، وهل تُقاس الشجرة برأس المنحور في طاعة الرحمن سبحانه!؟ كلّا!». «1»

ماهو السرُّ في تلاوته هذه الآية من سورة الكهف؟ ..... ص : 117
اشارة

لعلَّ السرَّ في تلاوة الرأس المقدّس هذه الآية الشريفة من سورة الكهف: «أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا» «2»

هو أنَّ هناك مشتركات بين أصحاب الكهف

عليهم السلام وبين الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه الذين استشهدوا بين يديه عليهم السلام، ومع وجود هذه المشتركات جعل اللَّه تبارك و تعالى آية الحسين عليه السلام أعجب وأعجب؟!

وهذا ما تؤكّده نفس الآية الشريفة حيث تبدأ باستفهام استنكاري مفاده أنّ في آيات اللّه ماهو أعجب من آية أصحاب الكهف عليهم السلام، وهذا المعنى هو ما أراد أن يُلفت الإنتباه إليه الرأس المقدّس بتكراره تلاوة هذه الآية الشريفة في مواضع كثيرة. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 118

فإذا كان الناس قد أيقنوا بحقانيّة دعوة واعتقاد أصحاب أهل الكهف بعد ثلاثمائة وتسع سنين، فإنّ نهضة الإمام الحسين عليه السلام قد حفّت بها آيات اللّه الكاشفة عن حقّانيّتها منذ بدئها وحتى يومنا هذا، وماجرى من آيات إلهيّة على يد الإمام الحسين عليه السلام في أعدائه في أيّام حياته وبعد استشهاده، وهي كثيرة جدّاً دليل على ذلك أيضاً، بل إنّ نفس نطق الرأس المقدّس بعد قطعه وحتى دفنه هو آية من أكبر الآيات المُفصِحةِ عن هذه الحقّانية وعن كونه عليه السلام فيما جرى عليه أعجب وأعجب من آية أصحاب الكهف!

وقد يحسن هنا أيضاً الإشارة إلى أهمّ المشتركات بين الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه صلوات اللّه عليهم أجمعين وبين أصحاب الكهف عليهم السلام، وهي:

1- الفتوّة: «إنهم فتية»: ..... ص : 118

والفتى لاينحصر معناه بمعنى الشاب والحدث، بل معناه الجزل من الرجال، الناهض بأعباء المسؤولية، المتحمّل لأعباء المعتقد، كما قال الشاعر:

إنّ الفتى حمّالُ كلِّ مُلمّة ليس الفتى بمنعَّمِ الشبّانِ

2- القيام للّه: ..... ص : 118

إنّ قيام أهل الكهف قرّره القرآن الكريم بقوله تعالى: «إذ قاموا فقالوا ...»، وقيام شهداء الطف لايحتاج إلى دليل.

3- الرجعة: ..... ص : 118

ورد في الروايات «1» أنّ لأهل الكهف رجعة، وأنهم من أنصار الإمام المهديّ عليه السلام قائد الفصل الأخير من فصول نهضة الإمام الحسين عليه السلام، كما ورد في الروايات أنّ شهداء الطفّ يرجعون أيضاً.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 119

في مجلس الطاغية ابن زياد ..... ص : 119
الرأس المقدّس يتلو القرآن عند باب دار الإمارة! ..... ص : 119

ينقل صاحب كتاب رياض الأحزان أنّه حكي عن شاهد عيان: أنّ الرؤوس لمّا كانت تؤخذ من الرماح وتُنزَّل على باب دار الإمارة كانت شفتا رأس الإمام الحسين عليه السلام تتحركان وهو يقرأ قوله تعالى: «ولاتحسبنّ اللّه غافلًا عمّا يعمل الظالمون». «1»

وسالت دماً حيطان دار الإمارة! ..... ص : 119

روى ابن عساكر بسنده عن أبي غالب قال: «حدّثني بوّاب عبيداللّه بن زياد أنّه لمّا جي ء برأس الحسين فوضع بين يديه رأيت حيطان دار الامارة تسايل دماً!!». «2»

ابن زياد يضرب ثنايا الرأس المقدّس بالقضيب!! ..... ص : 119

قال الشيخ المفيد (ره): «جلس ابن زياد للناس في قصر الإمارة، وأذن للناس أذناً عامّاً، وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه، «3» فجعل ينظر إليه ويتبسّم! وفي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 120

يده قضيب يضرب به ثناياه! وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله- وهو شيخ كبير- فلمّا رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له: إرفع قضيبك عن هاتين الشفتين! فواللّه الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليهما مالا أحصيه كثرة تقبّلهما.

ثمّ انتحب باكياً، فقال له ابن زياد: أبكى اللّه عينيك! أتبكي لفتح اللّه!؟ واللّه لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك!

فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله». «1»

وفي نصّ ماينقله سبط ابن الجوزي، عن ابن أبي الدنيا: «فنهض زيدٌ وهو يقول: أيّها الناس أنتم العبيد بعد اليوم! قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة!؟ واللّه

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 121

ليقتلنّ أخياركم! وليستعبدن شراركم! فبُعداً لمن رضي بالذلّ والعار!

ثمّ قال: يا ابن زياد لأحدّثنّك حديثاً أغلظ من هذا! رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أقعد حسناً على فخذه اليمنى، وحسيناً على فخذه اليسرى، ثمّ وضع يده على يافوخيهما، ثمّ قال: أللّهم إنّي أستودعك إيّاهما وصالح المؤمنين. فكيف كانت وديعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله عندك يا ابن زياد!؟». «1»

وأنس بن مالك أيضاً! ..... ص : 121

روى ابن عساكر بأسانيد إلى أنس بن مالك الصحابي أنه قال: «لمّا أُتي برأس الحسين- يعنى إلى عبيداللّه بن زياد- قال: فجعل ينكت بقضيب في يده ويقول:

إن كان لحسن الثغر! فقلت واللّه لأسوءنّك! لقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم يقبّل موضع قضيبك منه». «2»

إشارة ..... ص : 121

روى الشيخ المفيد (ره) بسند عن أبي سلمان المؤذّن، عن زيد بن أرقم قال:

«نشد عليٌّ النّاس في المسجد فقال: أُنشد اللّه رجلًا سمع النبيّ صلى الله عليه و آله يقول: من كنت

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 122

مولاه فعليٌّ مولاه، أللّهمَ والِ من والاه، وعادِ من عاداه؟

فقام إثنا عشر بدرياً، ستّة من الجانب الأيمن، وستّة من الجانب الأيسر، فشهدوا بذلك.

قال زيد بن أرقم: وكنت فيمن سمع ذلك فكتمته! فذهب اللّه ببصري.

وكان يتندّم على ما فاته من الشهادة ويستغفر.». «1»

وأمّا أنس بن مالك فقد كان أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام بعثه إلى طلحة والزبير- لمّا جاء عليه السلام إلى البصرة- ليذكّرهما شيئاً ممّا سمعه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله في أمرهما، فلوى أنسُ عن ذلك ورجع إليه فقال: «إنّي أُنسيتُ ذلك الأمر! فقال عليه السلام: إن كُنت كاذباً فضربك اللّه بها بيضاء لامعة لاتواريها العمامة! فأصاب أنساً داء البرص فيما بعد في وجهه! فكان لايُرى إلّا مبرقعاً. «2»

فلاعجب أن يحضر مجلس ابن زياد، ويجلس إلى جانبه، أمثال هذين الصحابيين الذين كانا قد كتما ما سمعاه من الحقّ من فم رسول اللّه صلى الله عليه و آله! ولاعجب أن يكون هناك آخرون من الصحابة ممن تعوّدوا حضور مجلس الطاغية ابن زياد، في الأيام التي كانت حركة أحداث النهضة الحسينية تمرّ بأخطر منعطفاتها!

ألم يكن من واجب أمثال هؤلاء الصحابة أن يكونوا

إلى جنب الإمام عليه السلام في نهضته، حتّى وإن كانوا ممّن سقط عنه تكليف الجهاد والقتال، حتى تقوى بهم حجّة الحقّ على الباطل!؟ ثمّ أليسوا هم ممّن قتل ابن فاطمة عليها السلام وأمرّ ابن مرجانة!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 123

كيف لا!؟ وهم من المقرّبين الى ابن مرجانة الذين يجلسون الى جنبه، معرضين عن ركب الحسين عليه السلام في كربلاء وهي على قرب من الكوفة!

إننا لانملك أن نردّ أو أن ننكر ما أورده التاريخ من أنّ هذين الصحابيين قد أنكرا على ابن زياد نكته ثنايا الرأس المقدّس بالقضيب، لكننا نملك أن نفسّر سبب هذا الإستنكار فنقول: إنّ أمثال هؤلاء لايستنكرون على الطغاة مفتضَح مُنكراتهم وقبائحهم انتصاراً للحقّ وللمعروف، بل يستنكرونها عليهم حرصاً على ما تبقّى لهم أنفسهم عند الناس من سمعة حسنة!!- إن كان ثَمَّ سمعة حسنة لهم!؟- ثمّ هم لايصلون في استنكارهم الحدَّ الذي يهددّ حياتهم ويعرّضهم الى القتل، بل لايستنكرون إلّا مع اطمئنانهم من عدم وصول المكروه إليهم! ولو كان أمثال هؤلاء ممّن ينتصرون للحقّ في وجه الباطل في صدق من النيّة والعزم لرأيناهم في صفحة التأريخ تحت راية الهدى وفي صفّ الحقّ لافي مجالس الطغاة وأنديتهم وملاهيهم.

وكان للكاهن دور المستشار هناك أيضاً! ..... ص : 123

من الملفت للإنتباه أنّ من معالم الحكم الأموي- بل من معالم الفترة التي استولت فيها حركة النفاق على سدّة الحكم منذ السقيفة- هو أن أفراد فصيل منافقي أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا يقومون بدور (المستشار) لحكّام حركة النفاق. «1»

وهذا الخبر الذي ينقله سبط ابن الجوزي في كتابه تذكره الخواص من مصاديق هذه الحقيقة: «وقال هشام بن محمّد: لمّا وضع الرأس بين يدي ابن زياد قال له كاهنه: قُم فضع قدمك على فم عدوّك! فقام فوضع قدمه

على فيه! ثمّ قال

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 124

لزيد بن أرقم: كيف ترى؟

فقال: واللّه لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله واضعاً فاه حيث وضعتَ قدمك!». «1»

العقيلة زينب في مواجهة ابن زياد! ..... ص : 124

«وسيقتْ العقائل الهاشميّات إلى قصر الإمارة في موكب تعسٍ لم تشهد الدنيا له مثيلًا من قبلُ ولامن بعد!

بناتُ النبيّ سبايا قد حُملن على أقتاب الجمال بغير وطاء! ممزّقات الجيوب حواسر الوجوه! حافيات الأقدام! يتقدّمهنّ حملة الرؤوس على أسنة الرماح!». «2»

ويقول الشيخ المفيد (ره): «وأُدخل عيال الحسين عليه السلام على ابن زياد، فدخلت زينب أختُ الحسين في جملتهم متنكّرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتّى جلست ناحية من القصر وحفّت بها إماؤها، فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل عنها!

فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه.

فأقبل عليها ابن زياد وقال لها: الحمدُ للّه الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم!

فقالت زينب: الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله وطهّرنا من الرجس تطهيراً،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 125

وإنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمدُ للّه.

فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل اللّه بأهل بيتك؟

قالت: كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتختصمون عنده!

فغضب ابن زياد واستشاط.

فقال عمرو بن حُريث: «1» أيها الأمير! إنّها امرأة، والمرأة لاتؤخذ بشي ء من منطقها، ولاتُذمّ على خطابها.

فقال لها ابن زياد: لقد شفى اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!!». «2»

وفي عبارة الطبري: «فقال لها ابن زياد: قد أشفى اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك!

قال فبكت، ثمّ قالت: لعمري لقد قتلتَ كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت!

فقال

لها عبيداللّه: هذه سجّاعة! قد لعمري كان أبوك شاعراً سجّاعاً!

قالت: ما للمرأة والسجاعة!؟ إن لي عن السجاعة لشُغلًا، ولكنّ نفثي ما أقول.». «3»

وفي رواية ابن أعثم الكوفي والسيّد ابن طاووس أنّ ابن زياد لمّا سأل زينب عليها السلام قائلًا: كيف رأيتِ صنع اللّه بأخيك وأهل بيتك؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 126

قالت: «مارأيتُ إلّا جميلًا! هؤلاء القوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم يا ابن زياد، فتحاجّون وتخاصمون، فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة!». «1»

الإمام السجّاد عليه السلام في مواجهة ابن زياد! ..... ص : 126

قال الشيخ المفيد (ره): «وعُرضَ عليه عليّ بن الحسين عليه السلام، فقال له: من أنت؟

فقال: أنا عليُّ بن الحسين.

فقال: أليس قد قتل اللّه عليَّ بن الحسين!؟

فقال له عليّ عليه السلام: قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً قتله الناس.

فقال له ابن زياد: بل اللّهُ قتله.

فقال عليّ بن الحسين عليه السلام: «اللّه يتوفى الأنفس حين موتها». «2»

فغضب ابن زياد وقال: وبكَ جرأة لجوابي!؟ وفيك بقيّة للردّ عليَّ!؟ إذهبوا به فاضربوا عنقه!

فتعلّقت به زينب عمّته وقالت: يا ابن زياد حسبك من دمائنا!

واعتنقته وقالت: واللّه لا أفارقه، فإنْ قتلته فاقتلني معه!

فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة، ثمّ قال: عجباً للرحم! واللّه إنّي لأظنّها ودّت أنّى قتلتها معه! دعوه فإنّي أراه لِما به!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 127

وفي رواية ابن أعثم الكوفي: «فالتفت ابن زياد إلى عليّ بن الحسين رضي اللّه عنه وقال: أَوَلَم يُقتل عليُّ بن الحسين؟

قال: ذاك أخي، وكان أكبر منّي، فقتلتموه، وإنَّ له مطلًا «1» منكم يوم القيامة!

فقال ابن زياد: ولكنّ اللّه قتله!

فقال عليّ بن الحسين رضي اللّه عنه: «اللّه يتوفى الأنفس حين موتها» «2»

، وقال تعالى «وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن اللّه». «3»

فقال

ابن زياد لبعض جلسائه: ويحك! خذه إليك فأظنه قد أدرك الحلم؟ قال:

فأخذه مري بن معاذ الأحمري، فنحّاه ناحية ثمّ كشف عنه فإذا هو أنبت، فردّه إلى عبيداللّه بن زياد وقال: نعم، أصلح اللّه الأمير، قد أدرك. «4»

فقال: خذه إليك الآن فاضرب عنقه!

قال فتعلّقت به عمّته زينب بنت عليّ وقالت له: يا ابن زياد! إنك لم تبق منّا أحداً، فإن كنتَ عزمت على قتله فاقتلني معه!

فقال عليّ بن الحسين لعمّته: أُسكتي حتّى أكلّمه.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 128

ثمّ أقبل عليٌّ رضي اللّه عنه على ابن زياد فقال: أبالقتل تهدّدني!؟ أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة!

قال فسكت ابن زياد، ثمّ قال: أخرجوهم عنّي!

وأنزلهم في دار إلى جانب المسجد الأعظم ..». «1»

الرباب زوج الإمام عليه السلام مع رأسه المقدّس ..... ص : 128

قال السيّد المقرّم: «ودعا بهم ابن زياد مرّة أخرى، فلمّا أُدخلوا عليه رأين النسوة رأس الحسين بين يديه والأنوار الإلهيّة تتصاعد من أساريره إلى عنان السماء، فلم تتمالك الرباب زوجة الحسين دون أن وقعت عليه تقبّله، وقالت:

إنَّ الذي كان نوراً يُستضاء به بكربلاء قتيلٌ غير مدفون

سبط النبيّ جزاك اللّه صالحة عنّا وجُنّبتَ خسران الموازين

قد كنت لي جبلًا صعباً ألوذ به وكنت تصحبنا بالرحم والدينِ

من لليتامى ومن للسائلين ومن يُعنى ويأوي إليه كلّ مسكين

واللّه لا أبتغي صهراً بصهركم حتّى أُغَيَّب بين الماء والطين» «2»

«وقيل إنّ الرباب بنت امري ء القيس زوجة الحسين أخذت الرأس ووضعته في حجرها وقبّلته وقالت:

واحسيناً فلا نسيتُ حسيناً أقصدته أسنّة الأعداء

غادروه بكربلاء صديعاً لاسقى اللّه جانبي كربلاء» «1»

أمُّ كلثوم عليها السلام في مواجهة ابن زياد! ..... ص : 128

وفيما رواه الشيخ الصدوق (ره) قوله: «.. وأرسل ابن زياد لعنه اللّه قاصداً إلى أمّ كلثوم (أخت. ظ) بنت الحسين عليه السلام، فقال: الحمدُ للّه الذي قتل رجالكم! فكيف ترون ما فعل بكم؟

فقالت: يا ابن زياد! لئن قرّتْ عينك بقتل الحسين عليه السلام فطالما قرّت عين جدّه به، وكان يقبّله ويلثم شفتيه ويضعه على عاتقه! يا ابن زياد أعدَّ لجدّه جواباً فإنّه خصمك غداً!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 130

إشارات ..... ص : 130
اشارة

هناك عدّة إشارات وملاحظات تلفت انتباه المتأمل في وقائع ماجرى في مجلس ابن زياد، وفي محاوراته مع رموز بقيّة الركب الحسينيّ، منها:

1- الشجاعة العليا التي يتمتع بها أهل البيت عليهم السلام ..... ص : 130

وقد تجسّدت هذه الحقيقة في مجموعة من الردود التي صدرت عنهم عليهم السلام في مواجهة ابن زياد، في مثل قول زينب عليها السلام: «الحمدُ للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله وطهّرنا من الرجس تطهيرا، وإنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا والحمدُ للّه ..»

وفي قولها:

ما رأيت إلّا جميلًا! هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم يا ابن زياد، فتحاجّون وتخاصمون، فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة!».

وفي قول الإمام زين العابدين عليه السلام:

«أبالقتل تهدّدني!؟ أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة!».

وفي قول أمّ كلثوم عليها السلام: «يا ابن زياد أعدَّ لجدّه جواباً فإنّه خصمك غداً!».

2- العرفان والفداء في ذروته عند مولاتنا زينب عليها السلام ..... ص : 130

وقد تجلى ذلك في ردّها على ابن زياد قائلة: «ما رأيت إلّا جميلًا!»، ولم

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 131

تقل عليها السلام: «ما رأيت في كربلاء إلّا جميلًا!» بل صرّحت بإطلاق رؤية الجميل! أي أنّها عليها السلام منذ أن رأت لم ترَ مِنَ اللّه إلّا جميلًا!! في كربلاء وقبلها وبعدها! وفي هذا غاية المعرفة والعرفان، وغاية الرضا بقضاء اللّه والإطمئنان بقدره، وغاية الرضا عن اللّه تبارك وتعالى، وغاية الشكر له، ولايكون ذلك إلّا من الحبّ للّه سبحانه في أعلى مراتبه.

وأمّا فداؤها وتضحيتها صلوات اللّه عليها فقد تجسّد في مواصلتها إلقاء نفسها في فم الموت والقتل مراراً دفاعاً عن حجّة اللّه على عباده وإمام زمانه مولانا زين العابدين عليه السلام، وإصرارها على أن تقتل قبله ومعه! ولقد تجسّد ذلك في مثل قولها عليها السلام: «واللّه لا افارقه، فإن قتلته فاقتلني معه!» حتّى لقد تأثّر اللعين ابن زياد من تضحيتها وفدائها ظنّاً منه أنّ ذلك من عاطفة الرحم فقط! حتّى قال:

«عجباً للرحم! واللّه إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه!».

3- قربان اللّه وقتيله في كربلاء هو ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقاتله قاتلٌ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله، وهو خصمه يوم القيامة ..... ص : 131

وقد تجسّد هذا المعنى في قول أمّ كلثوم عليها السلام: «يا ابن زياد! لئن قرّت عينك بقتل الحسين عليه السلام فطالما قرّت عين جدّه به، وكان يقبّله ويلثم شفتيه ويضعه على عاتقه! يا ابن زياد أعدَّ لجدّه جواباً فإنّه خصمك غداً!»، كما ظهر هذا المعنى في اعتراض زيد بن أرقم وأنس بن مالك على ابن زياد أيضاً.

4- تفنيد المنطق الجبري الذي أشاعه الأمويون ..... ص : 131

وكان قد أصرَّ ابن زياد لعنه اللّه على ترسيخه في أذهان الناس في المجلس، في قوله لزينب عليها السلام: «كيف رأيتِ فِعلَ اللّه بأهل بيتك؟»، وفي قوله للإمام السجّاد عليه السلام: «أليس قد قتل اللّه عليَّ بن الحسين؟ «، وفي ردّه عليه مرّة أخرى حيث

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 132

قال: «بل اللّه قتله!».

كان الأمويون يريدون أن يوهموا النّاس بشبهة أنّ كلّ ما يجري من وقائع وأحداث وظلم وجور وقتل هو تجسيد لإرادة اللّه وتحقيق لأمره، فلا يحقّ لأحدٍ أن يعترض على إرادة اللّه، ففي ذلك الكفر والخروج عن ربقة الإسلام!! وشقّ لعصا المسلمين!! وتفريق كلمتهم!! وبذلك يحجر الأمويون وكلّ الطغاة على الأمّة أن تعترض أو تنهض وتقوم لإزالة الظلم والجور والطغيان! ليتمادوا هم في ممارسة ما يحلو لهم من اجتراح المظالم والمجازر وإخماد كلّ صوت يدعو إلى الحقّ والعدل!

وفي مواجهة هذا المنطق الجبري حرص أهل البيت عليهم السلام على نشر هذه العقيدة الحقّة وهي: أنّ ما يجري على يد الطغاة الظالمين من قتل وظلم وجور وفساد لايمثل إرادة اللّه، لأنّ اللّه تعالى- فيما صرّح به في كتابه الحكيم- لايريد الظلم، ولا الفساد، ولا الجور، ولاقتل النفس التي حرّم قتلها إلّا بالحقّ، ولايحبّ الظالمين ولايهديهم، بل هو مع المتقين والمحسنين، ومع المصلحين الذين لايريدون علّواً في الأرض ولافساداً.

واللّه تبارك وتعالى

قد دعا عباده المؤمنين المتّقين المصلحين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى القيام بوجه الظالمين الجائرين الطغاة، وإلى المتاجرة مع اللّه بأموالهم وأنفسهم في سبيله، فإذا قُتلوا في سبيله فهم على الحقيقة أحياء عند ربّهم يُرزقون، وهذا لايعني أنّ اللّه سبحانه أراد قتلهم على نحو القهر والجبر، وأنّ الطغاة الذين قتلوهم إنّما نفّذوا وحقّقوا الإرادة الإلهيّة بقتلهم! بل هؤلاء الطغاة مسؤولون أمام اللّه عن قتل كلّ مظلوم.

وقد ردّت زينب عليها السلام على دعوى ابن زياد أنّ ما جرى على أهل بيتها هو من

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 133

فعل اللّه سبحانه فقالت: هؤلاء القوم كتب اللّه عليهم القتل- اي على نحو الأمر الشرعي في القيام ضد الحكم الأموي وإن أدّى هذا القيام إلى استشهادهم، فبرزوا إلى مضاجعهم امتثالًا للأمر الشرعي- وسيجمع اللّه بينك وبينهم يا ابن زياد- فأنت يا اين زياد مسؤول أمام اللّه عن قتلهم- فتحاجّون وتخاصمون! فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة.

وقد ردّ الإمام السجّاد عليه السلام على هذه الدعوى الجبرية أيضاً في قوله: «قد كان لي أخٌ يُسمّى علياً قتله الناس» وحينما اصرَّ ابن زياد على دعواه بقوله: «بل اللّه قتله!» ردّ عليه الإمام عليه السلام بهذه الآية الشريفة: «اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها» أي أنه سبحانه يتوفّى الأنفس حين موتها وحين النوم وحين القتل وهذا لايعني أنّ اللّه حتم على النفس القتيلة أن تُقتل على نحو القهر والجبر، بل القاتل مسؤول عند اللّه، وقد تجسّد هذا في ردّ الإمام عليه السلام على ابن زياد- في رواية أخرى- حيث قال: ذاك أخي، وكان اكبر منّي، فقتلتموه، وإنّ له مطلًا منكم- اي حقاً وديناً يطالبكم به- يوم القيامة!

وبهذا يكون هذا المنطق

الجبري قد خاب وافتُضِحَ واتّضح بطلانه أمام الناس في مجلس ابن زياد ببركة وعي وشجاعة الإمام السجّاد والعقيلة زينب عليها السلام.

5- الطغيان والتشفّي من علائم الطواغيت دائماً ..... ص : 133

وهذا ما يلحظه المتأمّل في سيرة جميع طواغيت العصور، وقد تجلّى ذلك في مجلس ابن زياد في قوله مستنكراً على الإمام السجّاد عليه السلام جرأته وشجاعته في الردّ عليه قائلًا:

«وبك جرأة لجوابي!؟ وفيك بقيّة للردّ عليَّ!؟ إذهبوا به فاضربوا عنقه!»، وفي قوله لزينب عليها السلام: «لقد شفى اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!!».

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 134

وينتفض رجل من بكر بن وائل في وجه ابن زياد! ..... ص : 134

ينقل المحقّق القرشي عن كتاب مرآة الزمان قائلًا: «وكان في المجلس رجل من بكر بن وائل يُقال له جابر، فانتفض وهو يقول: للّه عليَّ أن لا أصيب عشرة من المسلمين خرجوا عليك إلّا خرجتُ معهم!». «1»

ابن زياد يستفزُّ الصحابي أبا برزة الأسلمي! ..... ص : 134

روى الخوارزمي بسند إلى أبي العالية البراء «2» قال: «لمّأ قُتل الحسين عليه السلام أُتيَ عبيداللّه بن زياد برأسه، فأرسل إلى أبي برزة «3» فقال له عبيد اللّه: كيف شأني وشأن حسين بن فاطمة؟

قال: اللّه أعلم! فما علمي بذلك!؟

قال: إنّما أسألك عن علمك!

قال: أما إذا سألتني عن رأيي فإنّ علمي أنّ الحسين يشفع له جدّه محمّد صلى الله عليه و آله، ويشفع لك زياد!

فقال له: أخرج! لولا ما جعلتُ لك لضربت واللّه عنقك! فلمّا بلغ باب الدار، قال: لئن لم تغدُ عليَّ وتَرُحْ لأضربنَّ عنقك!!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 135

وينقل سبط ابن الجوزي رواية عن الشعبي أنّه: كان عند ابن زياد قيس بن عبّاد، «1» فقال له ابن زياد: ما تقول فيَّ وفي حسين؟

فقال: يأتي يوم القيامة جدّه وأبوه وأمّه فيشفعون فيه، ويأتي جدّك وأبوك وأمّك فيشفعون فيك! فغضب ابن زياد وأقامه من المجلس. «2»

الركب الحسينيّ في محبس ابن زياد ..... ص : 135

روى الشيخ الصدوق (ره) بسند إلى حاجب عبيداللّه بن زياد أنّ ابن زياد: «لمّا جيي ء برأس الحسين عليه السلام أمر فوضع بين يديه في طست من ذهب، وجعل يضرب بقضيب في يده على ثناياه ويقول: لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبداللّه!

فقال رجل من القوم: فإني رأيت رسول اللّه يلثم حيث تضع قضيبك!

فقال: يوم بيوم بدر!!

ثمّ أمر بعليّ بن الحسين عليه السلام فَغُلَّ وحمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنتُ معهم، فما مررنا بزقاق إلّا وجدناه ملاءً رجالًا ونساءً، يضربون وجوههم ويبكون، فحُبسوا في سجن وطُبق عليهم!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 136

ثمَّ إنّ ابن زياد لعنه اللّه دعا بعليّ بن الحسين والنسوة، وأحضر رأس الحسين عليه السلام، وكانت زينب ابنة عليّ عليها السلام فيهم، فقال ابن زياد: الحمدُ للّه الذي فضحكم

وقتلكم وأكذب أحاديثكم! فقالت زينب عليها السلام:

الحمدُ للّه الذي أكرمنا بمحمّدٍ وطهّرنا تطهيرا ... يا ابن زياد حسبك ما ارتكبت منّا فلقد قتلت رجالنا وقطعت أصلنا وأبحت حريمنا وسبيت نساءنا وذرارينا، فإن كان ذلك للإشتفاء فقد اشتفيت!

فأمر ابن زياد بردّهم إلى السجن، وبعث البشائر الى النواحي بقتل الحسين ...». «1»

وذهب ابن سعد في طبقاته إلى أنّ عبيداللّه بن زياد أمر بحبس من قدم به عليه من بقيّة أهل الحسين معه في القصر. «2»

وقال السيد ابن طاووس (ره): «ثمّ أمر ابن زياد بعليّ بن الحسين عليه السلام وأهله فحُملوا إلى دار جنب المسجد الأعظم، فقالت زينب بنت عليّ عليه السلام: لايدخلنّ علينا عربية إلّا أمّ ولد أو مملوكة، فإنهنّ سُبين كما سُبينا ..». «3»

وروى الطبري قائلًا: «فبينا القوم محتبسون إذ وقع حجر في السجن معه كتاب مربوط، وفي الكتاب: خرج البريد بأمركم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 137

معاوية، وهو سائر كذا وكذا يوماً، وراجع في كذا وكذا، فإنْ سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل! وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إنْ شاء اللّه.

قال فلمّا كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجرٌ قد أُلقي في السجن ومعه كتاب مربوط وموسى وفي الكتاب: أوصوا واعهدوا فإنّما ينتظر البريد يوم كذا وكذا، فجاء البريد ولم يُسمع التكبير، وجاء كتابٌ بأنْ سرِّح الأسارى إليَّ». «1»

إشارة ..... ص : 137

هناك عدّة ملاحظات مستفادة من مجموعة هذه النصوص:

1- يُستفاد من نصّ الشيخ الصدوق (ره) أنّ ابن زياد لم يحبسهم معه في القصر كما ذهب إلى ذلك ابن سعد في طبقاته، ولا في دار إلى جنب المسجد الأعظم كما روى السيّد ابن طاووس في اللهوف، بل حبسهم في سجن على بُعد

من القصر ومن المسجد، بدليل قول الحاجب: «فما مررنا بزقاق إلّا وجدناه ملاءً رجالًا ونساءً يضربون وجوههم ويبكون» وربّما كان ابن زياد قد أمر بحبسهم في السجن المطبق قبل أن تقع بينه وبينهم المحاورات الجريئة الساخنة، ثمّ بعد أن استدعاهم فحاورهم وحاوروه، وصار الناس يولولون ويلغط أهل المجلس خاف ابن زياد فأمر بردّهم إلى الحبس مرّة أخرى في دار إلى جنب المسجد كما ذهب الى ذلك السيد المقرّم «2»، أو في القصر.

2- كما أنّ هذا السجن كان مُطبقاً عليهم ومُضَيَّقاً عليهم فيه لايمكن أن يدخل عليهم فيه داخل باختياره، بدليل قول الحاجب كما في رواية الصدوق (ره):

«فحُبسوا في سجن وطُبق عليهم»، لا كما توحي رواية السيّد ابن طاووس (ره) أنّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 138

بإمكان أية أمرأة الدخول عليهم، حيث يقول: «فقالت زينب بنت عليّ عليه السلام:

لايدخلنّ علينا عربية إلَّا أمُّ ولد أو مملوكة فإنهنّ سبين كما سُبينا»، ولعلّ هذه العبارة كانت قد نطقت بها زينب عليها السلام في المدينة بعد العودة إليها كما هو المشهور، أو ربّما حصل إمكان دخول النساء عليهم في المحبس بعدما سجنوا في المرّة الثانية في دار إلى جنب المسجد إذا أخذنا برواية اللهوف وذهبنا إلى ما ذهبت إليه السيّد المقرّم، لكنّ رواية الشيخ الصدوق ظاهرة في أنّهم أُعيدوا مرّة أخرى إلى نفس السجن المطبق الأوّل.

3- الذى يبدو و يحتمل أنّ مراد حاجب ابن زياد من قوله: «.. وبعث البشائر إلى النواحي بقتل الحسين ..» هو أنّ ابن زياد بعث بخبر مقتل الحسين عليه السلام إلى بقيّة عمّال بني أميّة وإلى أمرائهم لا إلى الأمّة، لأنّ خبر مقتل ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله عند سواد الأمّة ليس من

البشرى في شي ء، بل هو مصيبة عظمى وفاجعة كبرى، لكنّ الطغاة من عادتهم تحميل الأمم المقهورة تحت سلطانهم وظلمهم أفراحهم وأحزانهم، وإن كانت الأمّة تعيش الحزن فيما يفرح به الطغاة، ويطفح قلبها بالفرح في مصائبهم!

4- المثير للتساؤل في رواية الطبري وابن الأثير أنّه بينما هم في الحبس إذ سقط عليهم حجر فيه كتاب مربوط ..»، تُرى من هذا الذي أرسل إليهم هذا الكتاب؟

هل السلطة الأموية هي التي أمرت بإرسال هذا الكتاب مع الحجر إليهم مواصلة منها للإرهاب النفسي والتعذيب الروحي الذي كانت تمارسه ضدّهم؟

وهذا النوع من أساليب التعذيب كانت الحكومات الطاغوتية ولم تزل إلى اليوم تستخدمه ضدّ سجناء المعارضة، حيث لايعرف السجين هل المُرسِلُ عدوّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 139

أم صديق مشفق؟

أم أنَّ أحداً- أو جماعة- من محبّي أهل البيت عليهم السلام كان على اطّلاع بأخبار البريد ومدّة ذهابه وإيابه، وبعلامة الأمر بالقتل وعلامة الأمان، وأراد أن يخبر الإمام السجّاد عليه السلام بذلك، ليعهد بعهده ويوصي بوصيّته؟ ويؤيد هذا ما في عبارة رواية الطبري: «وإنْ لمْ تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إنْ شاء اللّه» فقوله: فهو الأمان إن شاء اللّه مُشعِرٌ بأنّ من ألقى الحجر والكتاب يتمنّى لهم الأمان والنجاة.

وممّا يؤيّد أيضاً أنّ هذا المُرسِل من محبّي أهل البيت عليهم السلام، قد لجأ إلى هذا الأسلوب خوفاً من بطش السلطة الأموية، هو أنّ هذه السلطة لو شاءت أن تمارس هذا الأسلوب من أجل الإرهاب النفسي والتعذيب الروحي لمارسته مع بقايا آل الحسين عليه السلام علناً، إذ العلانيّة لا تنقص من أثره شيئاً، أو إلّا شيئاً يسيراً.

دفن الإمام وبقيّة الشهداء عليهم السلام ..... ص : 139

يروي الطبري أنَّ الإمام الحسين عليه السلام وبقيّة الشهداء عليهم السلام دفنوا بعد مقتلهم بيوم، أي في اليوم الحادي عشر، وأنّ

أهل الغاضريّة من بني أسد قاموا بدفنهم، حيث يروي عن أبي مخنف قائلًا: «ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضريّة من بني أسد بعدما قُتلوا بيوم ..». «1»

وذهب إلى ذلك البلاذري أيضاً حيث يقول: «ودفن أهل الغاضريّة من بني أسد جثّة الحسين، ودفنوا جثث أصحابه رحمهم اللّه بعدما قُتلوا بيوم ..». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 140

أمّا الخوارزمي فيقول: «وأقام عمر بن سعد يومه ذلك إلى الغد، فجمع قتلاه فصلّى عليهم ودفنهم، وترك الحسين وأهل بيته وأصحابه! فلمّا ارتحلوا إلى الكوفة وتركوهم على تلك الحالة عمد أهل الغاضرية من بني أسد فكفّنوا أصحاب الحسين، وصلّوا عليهم، ودفنوهم ..». «1»

هذا قولُ جلّ مؤرّخي أهل السنّة ... ولعلّ المنبع الأوّل الذي أخذوا عنه هذا القول، هو نفس المنبع الذي أخذ عنه الطبري، وهو أبومخنف.

ويوافقهم في هذا الرأي أبرز مؤرّخي الشيعة! كالمسعودي أيضاً حيث يقول:

«ودفن أهل الغاضريّة- وهم قوم من بني غاضر من بني أسد- الحسين وأصحابه بعد قتلهم بيوم.». «2» والشيخ المفيد (ره) حيث يقول: «ولمّا رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولًا بالغاضرية إلى الحسين وأصحابه رحمة اللّه عليهم، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسين عليه السلام حيث قبره الآن، ودفنوا إبنه عليَّ بن الحسين الأصغر «3» عند رجليه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صُرّعوا حوله ممّا يلي رجلي الحسين عليهم السلام، وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العبّاس بن عليّ عليهما السلام في موضعه الذي قُتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الآن.». «4»

وذهب إلى ذلك السيد ابن طاووس (ره) أيضاً حيث يقول: «ولمّا انفصل عمر ابن سعد لعنه اللّه عن كربلا، خرج قوم من بني أسد فصلّوا على تلك الجثث

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 141

الطواهر المرمَّلة

بالدماء، ودفنوها على ماهي الآن عليه.». «1»

ومن هؤلاء أيضاً ابن شهرآشوب (ره) حيث قال: «ودفن جثثهم بالطفّ أهل الغاضريّة من بني أسد بعدما قُتلوا بيوم، وكانوا يجدون لأكثرهم قبوراً! ويرون طيوراً بيضاً! ..». «2»

إنّ المستفاد من جميع هذه النصوص أنّ دفن الإمام الحسين عليه السلام والمستشهدين بين يديه عليهم السلام كان قد تمّ في نفس اليوم الذي ارتحل فيه ابن سعد عن كربلاء، وهو اليوم الحادي عشر، وكان ذلك عصراً لأنّ ابن سعد قد ارتحل عن كربلاء فيه بعد الزوال.

ولكن هل يمكن الأخذ بهذا الرأي!؟ ..... ص : 141

خصوصاً فيما يتعلّق بأنّ بني أسد من أهل الغاضرية هم الذين تولّوا تكفين الإمام عليه السلام وأصحابه، «3» وصلّوا عليهم، ودفنوهم؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 142

إنّ طريقة دفن الإمام عليه السلام وأهل بيته وأصحابه المستشهدين بين يديه صلوات اللّه عليهم أجمعين على النحو والتوزيع المعروف من خلال قبورهم- والمتسالم عليه بلاخلاف- لايمكن لبني أسد من أهل الغاضريّة وهم من أهل القرى الذين لم يشهدوا المعركة أن يحقّقوا ذلك بدون مرشد عارف تماماً بهؤلاء الشهداء وبأبدانهم ولباسهم- خصوصاً وأن الرؤوس الشريفة كانت قد قُطّعتْ وبقيت الأجساد الشريفة بلا رؤوس- فلولا هذا المرشد المطّلع العالم لما أمكن لبني أسد من أهل الغاضرية التمييز بين شهيد وآخر، ولولاه لكان الدفن عشوائياً بلا معرفة، ولم يكن ليتحقّق هذا الفصل المقصود وهذا التوزيع المدروس بين هذه القبور على ما هي عليه الآن.

وفي ضوء الإعتقاد: بأنّ الإمام لايلي أمره إلّا إمام مثله، «1»

فإنّ هذا المرشد الذي لابدّ أن يكون قد حضر عملية الدفن مع بني أسدٍ من أهل الغاضرية هو الإمام السجّاد عليه السلام، ولابدَّ أن يكون حضوره عليه السلام إلى ساحة كربلاء حضوراً إعجازياً خارقاً للعادة في الأسباب! لأنّه عليه السلام

حينذاك كان لم يزل في قيد الأسر بيد الأعداء.

وهذا ما يؤكده المأثور عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، كما في رواية اثبات الوصية عن سهل بن زياد عن منصور بن العباس عن اسماعيل بن سهل عن بعض أصحابه قال: «كنت عند الرضا عليه السلام، فدخل عليه عليّ بن أبي حمزة، وابن السرّاج، وابن المكاري، فقال عليٌّ بعد كلام جرى بينهم وبينه عليه السلام في إمامته: إنّا روينا عن آبائك عليهم السلام أنَّ الإمام لايلي أمره إلّا الإمام مثله.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 143

فقال له أبوالحسن عليه السلام: فأخبرني عن الحسين بن عليّ كان إماماً أو غير إمام؟

قال: كان إماماً.

قال: فمن ولي أمره؟

قال: علي بن الحسين!

قال: وأين كان عليّ بن الحسين؟

قال: كان محبوساً بالكوفة في يد عبيداللّه بن زياد.

فقال: كيف ولى أمر أبيه و هو محبوس؟

قال: له روينا أنه خرج وهم لايعلمون حتّى ولي أمر أبيه ثمّ انصرف الى موضعه.

فقال له أبوالحسن: إنّ هذا الذي أمكن عليَّ بن الحسين و هو معتقل فهو يمكّن صاحب هذا الأمر و هو غر معتقل أن يأتي بغداد ويلي أمر أبيه ويتصرف و ليس هو المحبوس و لا مأسور!». «1»

ويستفاد من متن هذه الرواية في هذه الفقرة: «كان محبوساً بالكوفة في يد عبيداللّه بن زياد، خرج وهم لايعلمون حتّى ولي أمر أبيه ثمّ أنصرف» أنَّ الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام خرج من محبسه بالكوفة- بالأمر المعجز- إلى كربلاء لدفن أبيه عليه السلام، وكان خروجه هذا «وهم لايعلمون».

إذن فخروجه عليه السلام إلى كربلاء بالأمر المعجز لم يكن في اليوم الحادي عشر حتماً، ذلك لأنّه لم يدخل المحبس إلّا في اليوم الثاني عشر، إذ لم يكن عمر بن سعد قد دخل بعسكره

وبالسبايا مدينة الكوفة إلّا في نهار اليوم الثاني عشر كما قدّمنا قبل ذلك في سياق الأحداث.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 144

وإذا علمنا أنّ جُلَّ نهار اليوم الثاني عشر كان انقضى على بقية أهل البيت عليهم السلام في عرضهم على الناس، وفي عرضهم على ابن زياد- لعنه اللّه- في مجلسه في القصر، وفي محاوراتهم معه، فإنّه يتّضح لنا أنّ ابن زياد أمر بحبسهم عصر أو أواخر نهار اليوم الثاني عشر، ثمَّ استدعاهم، ثمّ أعادهم إلى الحبس مرّة أخرى.

وبهذا تكون ليلة اليوم الثالث عشر هي أوّل ليلة لهم في السجن حيث بقوا فيه إلى اليوم الذي أرسلهم ابن زياد فيه إلى يزيد.

ومن هنا- مع الإنتباه إلى ما تذكره الرواية من أنّه عليه السلام خرج من محبسه الى كربلاء لدفن أبيه عليه السلام وهم لايعلمون- نستنتج أنّ خروجه كان من المحبس في وقت كان قد فرغ الطاغية من التحقيق معهم فلايعود إلى استدعائهم، أي في وقت كان الإمام السجّاد عليه السلام قد اطمأنَّ إلى أنّه إذا غاب عن الأنظار فإنّه لايُفتقد في الفترة التي ينشغل فيها بدفن أبيه وأنصاره صلوات اللّه عليهم أجمعين ..

وعليه فالمرجّح أنّه عليه السلام- في ضوء هذا التحليل- كان قد خرج إلى كربلاء بالأمر المعجز إمّا ليلة الثالث عشر أو في نفس اليوم الثالث عشر، مبادراً إلى دفن الشهداء عليه السلام في أقرب وقت ممكن.

لكنّ ظاهر بعض الآثار يدلُّ على أنّ عملية دفن الأجساد المقدّسة حصلت في اليوم الثالث عشر من المحرّم لا في ليلته، كما في كتاب أسرار الشهادة حيث يقول: «وكان إلى جنب العلقميّ حيّ من بني أسد، فمشت نساء ذلك الحيّ إلى المعركة فرأين جثث أولاد الرسول، وأفلاذ حشاشة الزهراء البتول، وأولاد

عليّ أميرالمؤمنين عليه السلام فحل الفحول، وجثث أولادهم في تلك الأصحار وهاتيك القفار، تشخب الدماء من جراحاتهم كأنّهم قُتلوا في تلك الساعة! فتداخل النساء من ذلك المقام العجب! فابتدرن إلى حيِّهنَّ، وقلن لأزواجهنّ ما شاهدنه، ثمّ قلن لهم: بماذا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 145

تعتذرون من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام وفاطمة الزهراء إذا أُوردتم عليهم حيث إنكم لم تنصروا أولاده ولا دافعتم عنهم بضربة سيف ولابطعنة رمح ولابحذفة سهم!؟

فقالوا لهنّ: إنّا نخاف من بني أُميّة!

وقد لحقتهم الذلّة وشملتهم الندامة من حيث لاتنفعهم، وبقيت النسوة يجلن حولهم ويقلن لهم: إن فاتتكم نصرة تلك العصابة النبويّة، والذبّ عن هاتيك الشنشنة العليّة العلويّة، فقوموا الآن إلى أجسادهم الزكيّة فواروها، فإنّ اللعين ابن سعد قد وارى أجساد من أراد مواراته من قومه، فبادروا إلى مواراة أجساد آل رسول اللّه، وارفعوا عنكم بذلك العار! فماذا تقولون إذ قالت العرب لكم، إنّكم لم تنصروا ابن بنت نبيّكم مع قربه وحلوله بناديكم!؟ فقوموا واغسلوا بعض الدرن عنكم!

قالوا: نفعل ذلك.

فأتوا إلى المعركة، وصارت همّتهم أوّلًا أن يواروا جثّة الحسين عليه السلام ثم الباقين، فجعلوا ينظرون الجثث في المعركة، فلم يعرفوا جثّة الحسين عليه السلام من بين تلك الجثث لأنها بلا رؤوس وقد غيّرتها الشموس، فبيناهم كذلك وإذا بفارس أقبل إليهم حتّى إذا قاربهم قال: أنّى بكم؟

قالوا: إنّا أتينا لنواري جثّة الحسين عليه السلام وجثث ولده وأنصاره، ولم نعرف جثة الحسين عليه السلام!

فلمّا سمع ذلك حنَّ وأنَّ وجعل ينادي: وا أبتاه! وا أباعبداللّه! ليتك حاضر وتراني أسيراً ذليلًا!

ثمّ قال لهم: أنا أرشدكم.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 146

فنزل عن جواده، وجعل يتخطّى القتلى، فوقع نظره على جسد الحسين عليه السلام فاحتضنه وهو

يبكي ويقول: يا أبتاه! بقتلك قرّت عيون الشامتين! يا أبتاه! بقتلك فرحت بنو أميّة! يا أبتاه! بعدك طال حزننا! يا أبتاه! بعدك طال كربنا!

قال ثمّ إنّه مشى قريباً من محلّ جثّته فأهال يسيراً من التراب، فبان قبر محفور ولحد مشقوق! فأنزل الجثة الشريفة وواراها في ذلك المرقد الشريف كما هو الآن.

قال ثمّ إنّه عليه السلام جعل يقول: هذا فلان، وهذا فلان.

هذا والأسديّون يوارونهم، فلمّا فرغ مشى إلى جثّة العبّاس بن أميرالمؤمنين عليهما السلام فانحنى عليها وجعل ينتحب ويقول: يا عمّاه! ليتك تنظر حال الحرم والبنات وهنَّ ينادين: واعطشاه! واغربتاه!

ثمّ أمر بحفر لحده وواراه هنا، ثمّ عطف على جثث الأنصار وحفر حفيرة واحدة وواراهم فيها، إلّا حبيب بن مظاهر حيث أبى بعض بني عمّه ذلك، ودفنه ناحية عن الشهداء.

قال فلمّأ فرغ الأسديون من مواراتهم قال لهم: هلمّوا لِنُوَارِ جثّة الحرّ الرياحي.

قال فتمشى وهم خلفه حتى وقف عليه فقال: أمّا أنت فقد قبل اللّه توبتك وزاد في سعادتك ببذلك نفسك أمام ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

قال وأراد الأسديّون حمله إلى محلّ الشهداء فقال: لا، بل في مكانه واروه.

قال فلمّا فرغوا من مواراته ركب ذلك الفارس جواده، فتعلّق به الأسديّون، فقالوا بحقّ من واريته بيدك! من أنت؟

فقال: أنا حجّة اللّه عليكم، أنا عليّ بن الحسين عليه السلام، جئت لأواري جثّة أبي ومن معه من إخواني وأعمامي وأولاد عمومتي وأنصارهم الذين بذلوا مهجهم دونه، وأنا الآن راجع الى سجن ابن زياد لعنه اللّه، وأمّا أنتم فهنيئاً لكم، لاتجزعوا إذ تُضاموا فينا!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 147

فودّعهم وانصرف عنهم، وأمّا الأسديون فإنهم رجعوا مع نسائهم إلى حيّهم.». «1»

وقال المرحوم السيّد المقرّم: «وفي اليوم الثالث عشر من المحرّم أقبل

زين العابدين لدفن أبيه الشهيد عليه السلام لأنّ الإمام لايلي أمره إلّا إمام مثله «2» ... ولمّا أقبل السجّاد عليه السلام وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيّرين لايدرون ما يصنعون، ولم يهتدوا إلى معرفتهم ... فأخبرهم عليه السلام عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة، وأوقفهم على أسمائهم، كما عرّفهم بالهاشميين من الأصحاب ... ثمّ مشى الإمام زين العابدين إلى جسد أبيه واعتنقه وبكى بكاءً عالياً، وأتى إلى موضع القبر، ورفع قليلًا من التراب فبان قبر محفور وضريح مشقوق! فبسط كفّيه تحت ظهره

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 148

وقال: بسم اللّه، وفي سبيل اللّه، وعلى ملّة رسول اللّه، صدق اللّه ورسوله، ما شاء اللّه، لاحول ولاقوّة إلّا باللّه العظيم.

وأنزله وحده، لم يشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم: إنَّ معي من يعينني،. ولمّا أقرّه في لحده وضع خدّه على منحره الشريف قائلًا: طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أمّا الليل فمُسهَّد! والحزن سرمد! أو يختار اللّه لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم! وعليك منّي السلام يا ابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.

وكتب على القبر: هذا قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً.

ثمّ مشى إلى عمّه العبّاس عليه السلام، فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء! وأبكت الحور في غرف الجنان! ووقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلًا: على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة اللّه وبركاته.

وشقّ له ضريحاً، وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد، وقال لبني أسد: إنّ معي من يُعينني!

نعم، ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء، وعيّن لهم موضعين، وأمرهم أن يحفروا حفرتين،

ووضع في الأولى بني هاشم، وفي الثانية الأصحاب.

وأمّا الحرّ الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن، وقيل: إنَّ أمّه كانت حاضرة، فلمّا رأت ما يُصنع بالأجساد حملت الحرّ إلى هذه المكان.

وكان أقرب الشهداء إلى الحسين ولده «الأكبر» عليه السلام، وفي ذلك يقول الإمام

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 149

الصادق لحمّاد البصري: «1» قُتل أبوعبداللّه غريباً بأرض غربة، يبكيه من زاره، ويحزن له من لم يزره، ويحترق له من لم يشهده، ويرحمه من نظر إلى قبره إبنه عند رجليه ..». «2»

خبر سليمان بن قتّة: ..... ص : 149

روى ابن نما (ره) يقول: «ورويت إلى ابن عائشة قال: مرَّ سليمان بن قتّة العدويّ «3» مولى بني تميم بكربلاء بعد قتل الحسين عليه السلام بثلاث، فنظر إلى مصارعهم، فاتّكأ على فرس له عربية وأنشأ:

مررتُ على أبيات آل محمّد فلم أرها أمثالها يوم حُلَّتِ

ألمْ ترَ أنَّ الشمس أضحت مريضة لفقد حسينٍ والبلاد اقشعرّتِ

وكانوا رجاءً ثمّ أضحوا رزيّة لقد عظمت تلك الرزايا وجلّتِ

وتسألنا قيس فنعطي فقيرها وتقتلنا قيس إذا النعلُ زلَّتِ

وعند غني قطرة من دمائنا سنطلبهم يوماً بها حيث حَلّتِ

فلا يُبعد اللّه الديار وأهلها وإنْ أصبحتْ منهم برغمٍ تخلَّتِ

فإنّ قتيل الطفّ من آل هاشم أذلَّ رقاب المسلمين فذلّتِ

وقد أعولتْ تبكي النساء لفقده وأنجمنا ناحت عليه وصلَّتِ

وقيل: الأبيات لأبي رمح الخزاعي.». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 150

وقد يُستفاد ممّا ورد في متن الخبر: «مرَّ سليمان بن قتّة .. بعد قتل الحسين عليه السلام بثلاث فنظر إلى مصارعهم ..» أنّ الأجساد الطاهرة قد مرّت عليها ثلاث ليالٍ وهي بعدُ لم تدفن حين مرَّ عليها سليمان بن قتّة، فيكون هذا الخبر دليلًا على أنّ الدفن لم يحصل في اليوم الحادي عشر ولافي اليوم الثاني عشر، ولا في ليلة الثالث عشر.

لكننا إذا علمنا

أنّ المراد بمصارعهم هو الأمكنة التي صُرِّعوا فيها، «1» أي ساحة ميدان المعركة في كربلاء، فإنّ الإستفادة المشار إليها من هذا الخبر تنتفي، إذ يمكن أن يُقال: إنّ سليمان بن قتّة مرَّ بساحة المعركة في كربلاء في اليوم الثالث عشر بعد دفن الشهداء عليهم السلام فرأى قبورهم وآثار الحرب في ساحة الميدان فرثاهم بهذه الأبيات، وممّا يؤيد ذلك أنّه ذكر «أبيات آل محمّد» ولم يصف الأجساد حيث صُرِّعت، وربّما كان ذكر الأبيات كناية عن القبور، كما يؤيّد ذلك أنّ سليمان لو كان مرَّ بالأجساد الطاهرة قبل دفنها فكيف يصحّ منه عدم السعيّ إلى دفنها، وهو من محبّي أهل البيت عليهم السلام؟!

ولو كان- أيضاً حاضراً ساعة دفنهم مع جملة من حضر من بني أسد من أهل الغاضريّة بحضور الإمام السجّاد عليه السلام، لكان له خبرٌ يُذكر مع الإمام عليه السلام ومع بني أسد ذلك اليوم في التأريخ، بل لكان هو المبادر إلى تسجيل تلك اللحظات الخالدة من ساعة الدفن على صفحة التأريخ في قصيدة من شعره رائعة تبقى القلوب والألسن تتناقلها إلى قيام الساعة!

ولِنَعُد الآن إلى تتمّة مجرى أحداث الكوفة ...

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 151

ابن زياد يطلب مَن يُقَوِّرُ الرأس المقدّس! ..... ص : 151

روى الخوارزمي أنّه: «ولمّا جيي ء برأس الحسين إلى عبيداللّه، طلب من يقوّره ويُصلحه، فلم يجسر أحدٌ على ذلك، ولم يحر أحدٌ جواباً، فقام طارق بن المبارك «1» فأجابه إلى ذلك، وقام به فأصلحه وقوّره، فنصبه بباب داره!». «2»

وقال سبط ابن الجوزي: «وذكر عبداللّه بن عمر الورّاق في كتاب (المقتل) أنّه لمّا حضر الرأس بين يدي ابن زياد أمر حجّاماً فقال: قوّره.

فقوّره وأخرج لغاديده ونخاعه وما حوله من اللحم- واللغاديد ما بين الحنك وصفحة العنق من اللحم- فقام عمرو بن حُريث المخزومي

فقال: يا ابن زياد! قد بلغت حاجتك من هذا الرأس، فهب لي ما القيتَ منه.

فقال: ما تصنع به!؟ فقال: أواريه. فقال: خذه.

فجمعه في مطرف خزّ كان عليه، وحمله إلى داره، فغسله وطيّبه وكفّنه ودفنه عنده في داره وهي بالكوفة تُعرف بدار الخزّ دار عمرو بن حريث المخزومي». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 152

اوَّلُ رأس حُمل في الإسلام! ..... ص : 152

اختلفت الروايات في من هو أوّل رأس حُمل في الإسلام؟ فقد صرّحت بعضها بأنّ أوّل رأس حُمل (أي رُفع على رمح) هو رأس الإمام الحسين عليه السلام، وصرّح البعض الآخر أنّ أوّل رأس حُمل (نُقل من بلدٍ إلى آخر) هو رأس عمرو ابن الحمق (رض).

ومع اختلاف معنى الحمل فإنّ هذه الروايات لاتعارض بعضها بعضاً، أمّا إذا كان المراد بالحمل هو نقل الرأس من بلد إلى آخر، فإنّ الجمع بين هذه الروايات ممكن أيضاً إذا قلنا: إنّ أوّل رأس من بني هاشم حُمل في الإسلام هو رأس الحسين عليه السلام، وأوّل رأس حُمل في الإسلام من غيرهم هو رأس عمرو بن الحمق (رض).

ومن أمثلة هذه الروايات:

1- روي عن عاصم، عن زرّ «1» قال: «أوّل رأس حمل على رمح في الإسلام رأس الحسين بن عليّ، فلم أر باكياً ولاباكية أكثر من ذلك اليوم.». «2»

2- وروى ابن سعد في طبقاته بسنده عن عاصم، عن زرّ أنّه قال: «أوّل رأس رُفع

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 153

على خشبة رأس الحسين.». «1»

3- وروى أيضاً بسنده عن الشعبي قال: «رأس الحسين أوّل رأس حُمل في الإسلام.». «2»

4- وعن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنه قال: «إنّ أوّل رأس يحمل على رمح في الإسلام رأس ولدي الحسين عليه السلام. وقال: أخبرني بذلك أخي جبرئيل عن الربّ العظيم.». «3»

5-

وقال ابن الأثير الجزري: «وكان رأسه أوّل رأس حُمل في الإسلام على خشبة في قول، والصحيح أنّ أوّل رأس حُمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق.». «4»

انتفاضة عبداللّه بن عفيف الأزدي (رض)! ..... ص : 153

ولمّا قام طارق بن المبارك لعنه اللّه بتقوير الرأس المقدّس امتثالًا لأمر ابن زياد، أمر هذا الطاغية بالرأس الشريف فنُصب على باب داره، ثمّ إنَّ ابن زياد نادى في الناس فجمعهم في المسجد الأعظم، ثم خرج ودخل المسجد، وصعد المنبر، «فحمد اللّه وأثنى عليه، فكان من بعض كلامه أن قال: الحمدُ للّه الذي أظهر الحقّ وأهله! ونصر أميرالمؤمنين وأشياعه! وقتل الكذّاب بن الكذّاب!!

قال فما زاد على هذا شيئاً حتّى وثب إليه عبداللّه بن عفيف الأزدي ثمّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 154

العامري «1»- أحد بني والبة- وكان من رؤساء الشيعة وخيارهم، وكان قد ذهبت عينه اليسرى يوم الجمل، والأخرى يوم صفّين، وكان لايكاد يفارق المسجد الأعظم، يصلّي فيه إلى الليل ثمّ ينصرف إلى منزله ..

فلمّا سمع مقالة ابن زياد وثب إليه وقال: يا ابن مرجانة! إنَّ الكذّاب وابن الكذّاب أنت وأبوك! ومن استعملك وأبوه! يا عدوَّ اللّه ورسوله! أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين!؟

فغضب عبيداللّه بن زياد وقال: من المتكلّم!؟

فقال: أنا المتكلّم يا عدوّ اللّه! أتقتل الذريّة الطاهرة الذين أذهب اللّه عنهم الرجس في كتابه وتزعم أنّك على دين الإسلام!؟ وا غوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من هذا الطاغية اللعين بن اللعين على لسان رسول اللّه ربّ العالمين!؟

فازداد غضب ابن زياد حتّى انتفخت أوداجه، فقال: عليَّ به!

فوثب إليه الجلاوزة فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور.

وكان عبدالرحمن بن مخنف الأزدي «2» في المسجد، فقال: ويح نفسك!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 155

أهلكتها وأهلكت قومك.

وحاضر الكوفة يومئذٍ سبعمائة مقاتل من

الأزد، فوثبت إليه فتية من الأزد فانتزعوه منهم وانطلقوا به إلى منزله!

ونزل ابن زياد عن المنبر ودخل القصر، ودخلت عليه أشراف الناس!

فقال: أرأيتم ما صنع هؤلاء القوم!؟

قالوا: رأينا أصلح اللّه الأمير، إنّما فعل ذلك الأزد، فَشُدَّ يدَك بساداتهم فهم الذين استنقذوه من يدك!

فأرسل عبيداللّه إلى عبدالرحمن بن مخنف الأزدي فأخذه، وأخذ جماعة من أشراف الأزد فحبسهم، وقال: لاخرجتم من يدي أو تأتوني بعبداللّه بن عفيف!

ثمّ دعا بع مرو بن الحجّاج الزبيدي، ومحمّد بن الأشعث، وشبث بن ربعي، وجماعة من أصحابه، فقال لهم: إذهبوا إلى هذا الأعمى الذي أعمى اللّه قلبه كما أعمى عينيه، فأتوني به!

فانطلقوا يريدون عبداللّه بن عفيف، وبلغ الأزد ذلك، فاجتمعوا وانضمّت إليهم قبائل من اليمن ليمنعوا صاحبهم.

فبلغ ذلك ابن زياد، فجمع قبائل مضر وضمّهم إلى محمّد بن الأشعث، وأمره أن يُقاتل القوم!

فأقبلت قبائل مضر، ودنت منهم اليمن فاقتتلوا قتالًا شديداً، وبلغ ذلك ابن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 156

زياد فأرسل إلى أصحابه يؤنّبهم ويضعفهم!

فأرسل إليه عمرو بن الحجّاج يخبره باجتماع اليمن معهم، وبعث إليه شبث ابن ربعي: أيها الأمير! إنك بعثتنا إلى أسود الآجام فلا تعجل!

قال: واشتدّ اقتتال القوم حتى قُتلت جماعة من العرب، ووصل القوم إلى دار عبداللّه بن عفيف، فكسروا الباب واقتحموا عليه!

فصاحت ابنته: يا أبتي أتاك القوم من حيث تحذر!

فقال: لا عليكِ يا بنيّة! ناوليني سيفي.

فناولته السيف، فجعل يذبّ عن نفسه وهو يقول:

أنا ابن ذي الفضل عفيفِ الطاهرِ عفيف شيخي وانا ابن عامرِ

كم دارعٍ من جمعكم وحاسرِ وبطلٍ جدّلتُه مغاورِ

وجعلت ابنته تقول: ليتني كنتُ رجلًا فأقاتل بين يديك هؤلاء الفجرة، قاتلي العترة البررة!

وجعل القوم يدورون عليه من يمينه وشماله وورائه، وهو يذبّ عن نفسه بسيفه فليس أحدٌ يقدم عليه، كلّما جاءوه من

جهة قالت ابنته: جاءوك يا أبتي من جهة كذا! حتّى تكاثروا عليه من كل ناحية، وأحاطوا به، فقالت ابنته: واذلّاه! يُحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به!

وجعل عبداللّه يُدافع ويقول:

واللّه لو يُكشف لي عن بصري ضاق عليكم موردي ومصدري

ومازالوا به حتّى أخذوه.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 157

فقال جندب بن عبداللّه الأزدي «1» صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّا للّه وإنّا إليه

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 158

راجعون! أخذوا واللّه عبداللّه بن عفيف، فقبّح اللّه العيش بعده! فقام وجعل يُقاتل من دونه، فأُخذ أيضاً وانطُلق بهما، وابن عفيف يردّد: واللّهِ لو يكشف لي عن بصري ...

فلمّا أُدخل على عبيداللّه، قال له: الحمدُ للّه الذي أخزاك!

فقال ابن عفيف: يا عدوَّ اللّه! بماذا أخزاني!؟ واللّه لو يُكشف عن بصري ...

فقال له: ما تقول في عثمان؟

فقال: يا ابن مرجانة! يا ابن سميّة! يا عبد بني علاج! ما أنت وعثمان!؟ أحسنَ أم أساء، وأصلح أم أفسد!؟ اللّه وليّ خلقه يقضي بينهم بالعدل والحق، ولكن سلني عنك وعن أبيك! وعن يزيد وأبيه!

فقال ابن زياد: لا سألتك عن شي ء أو تذوق الموت!

فقال ابن عفيف: الحمدّ للّه ربّ العالمين، كنت أسأل اللّه ان يرزقني الشهادة قبل أن تلدك أمّك مرجانة، وسألته أن يجعل الشهادة على يدي ألعن خلقه وأشرّهم وأبغضهم إليه، ولمّا ذهب بصري آيست من الشهادة، أمّا الآن فالحمدُ للّه

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 159

الذي رزقنيها بعد اليأس منها، وعرّفني الإستجابة منه لي في قديم دعائي!

فقال عبيداللّه: إضربوا عنقه! فضُربت، وصُلِب!

ثمّ دعا ابن زياد بجندب بن عبداللّه، فقال له: يا عدوَّ اللّه! ألستَ صاحب عليّ ابن أبي طالب يوم صفّين؟

قال: نعم: ولازلتُ له وليّاً ولكم عدوّاً! لا أبرأ من ذلك إليك ولا أعتذر

في ذلك وأتنصّل منه بين يديك!

فقال ابن زياد له: أما إنّي سأتقرب إلى اللّه بدمك!

فقال جندب: واللّه ما يقرّبك دمي إلى اللّه، ولكنّه يباعدك منه، وبعدُ: فإنّي لم يبق من عمري إلّا أقلّه، وما أكره أن يكرمني اللّه بهوانك!

فقال: أخرجوه عنّي، فإنّه شيخ قد خرف وذهب عقله!

فأُخرج وخُلّي سبيله.». «1»

ابن زياد يحاول استعادة الموادعة مع الأزد ..... ص : 159

لاشكّ في أنّ ابن زياد لم يقدم على قتل جندب بن عبداللّه الأزدي (جندب الخير) مع ما في قلبه من غلٍّ وحقدٍ متأجّج عليه، لا لأنّه رجل قد تقادم به العمر فخرف وذهب عقله! بل لأنَّ قتله بعد قتل عبداللّه بن عفيف (رض) قد يؤجّج الأزد ويحرّضهم عليه، وهم من القبائل التي لها حساب مهم في كلّ أمرٍ مُلّم.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 160

إذن فالسبب هو حسابات الموازنات في تهدئة العشائر الكبيرة وكسب مودّتها وعدم إثارتها، فعفوه عن جندب بن عبداللّه (رض) محاولة لتهدئة ثائرة الأزد بعد تفاقم الوضع وتأزّم العلاقة معهم نتيجة وقائع انتفاضة عبداللّه بن عفيف (رض).

وفي هذا الإتجاه يروي لنا ابن أعثم الكوفي قائلًا:

«ثُمَّ قُدّم إليه سفيان بن يزيد، «1» فقال له ابن زياد: ما الذي أخرجك عليَّ يا ابن المعقل!؟ فقال له: بلغني أنّ أصحابك أسروا عمّي فخرجت أدافع عنه.

قال فخلّى سبيله، وراقب فيه عشيرته. ثمّ دعا ب عبدالرحمن بن مخنف الأزدي فقال له: ما هذه الجماعة على بابك!؟ فقال: أصلح اللّه الأمير! ليس على بابي جماعة، وقد قتلتَ صاحبك الذي أردت، وانا لك سامع مطيع! وإخوتي لك جميعاً كذلك! قال فسكت عنه ابن زياد، ثمّ خلّاه وخلّى سبيل إخوته وبني عمّه.». «2»

وهكذا قبلت رؤوس الأزد (وهم أسود الآجام!) أن توادع ابن زياد موادعة ذليلة، وهذا شأن من يهاب المواجهة مع الطغاة!، فلم

يؤثر عن أحدٍ من أشراف

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 161

الأزد أنّه آثر التأسّي بعبداللّه بن عفيف (رض)، الأزدي ذي القلب البصير والنفس العزيزة الأبيّة، الذي انتفض بوجه الطاغية ابن زياد صارخاً بكلمة الحقّ التي صُعِق ابن زياد لها ولجرأة صاحبها، فنزل عن المنبر مخذولًا مدحوراً ودخل قصره حائراً فيما يمكن أن يواجه به هذا الثائر الفرد الذي كان أمّة في انتفاضته!

ابن زياد يطالب ابن سعد بكتاب الأمر بقتل الإمام عليه السلام! ..... ص : 161

قال ابن الأثير الجزري: «ثمّ إنّ ابن زياد قال لعمر بن سعد بعد عوده من قتل الحسين: يا عمر إئتني بالكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين!

قال: مضيتُ لأمرك وضاع الكتاب!

قال: لتجئني به.

قال: ضاع!

قال: لتجئني به!

قال: تُرك واللّه يُقرأ على عجائز قريش بالمدينة إعتذاراً إليهنّ! أما واللّه لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقّاص لكنتُ قد أدّيتُ حقّه!

فقال عثمان بن زياد أخو عبيداللّه: صدق! واللّه لوددتُ أنّه ليس من بني زياد رجل إلّا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنّ الحسين لم يُقتل!

فما أنكر ذلك عبيداللّه بن زياد!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 162

وخرج عمر بن سعد من مجلس ابن زياد وهو يتجرّع كأس الندامة ولايكاد يسيغه وهو يقول: «ما رجع أحدٌ إلى أهله بشرٍّ ممّا رجعتُ به! أطعت الفاجر الظالم ابن زياد، وعصيت الحكم العدل، وقطعت القرابة الشريفة!». «1»

المختار يتصدّى لابن زياد في المسجد الأعظم! ..... ص : 162

ينقل الخوارزمي عن محمّد بن إسحاق «2» صاحب السيرة: «أنّ عبيداللّه لمّا قتل ابن عفيف الأنصاري، «3» وجاءت الجمعة الثانية، صعد المنبر وبيده عمود من حديد، فخطب الناس وقال في آخر خطبته: الحمدُ للّه الذي أعزّ يزيد وجيشه بالعزّ والنصر! وأذلّ الحسين وجيشه بالقتل!

فقام إليه سيّد من سادات الكوفة وهو المختار بن أبي عبيد، فقال له: كذبت يا عدوَّ اللّه وعدوَّ رسوله! بل الحمدُ للّه الذي أعزّ الحسين وجيشه بالجنّة والمغفرة، وأذلَّك وأذلَّ يزيد وجيشه بالنار والخزي!

فحذفه ابن زياد بعموده الحديد الذي كان في يده فكسر جبينه، وقال للجلاوزة: خذوه! فأخذوه.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 163

فقال أهل الكوفة: أيّها الأمير، هذا هو المختار! وقد عرفت حسبه ونسبه، وختنه عمر بن سعد، وختنه الآخر عبداللّه بن عمر!

فأوجس في نفسه خيفة، فحبس المختار ولم

يتجرّأ على قتله، فكتب المختار إلى عبداللّه كتاباً شرح فيه القصّة، فكتب ابن عمر إلى يزيد: أمّا بعدُ: أفما رضيت بأن قتلت أهل نبيّك حتّى ولّيت على المسلمين من يسبّ أهل بيت نبيّنا ويقع فيهم على المنبر!؟، عبر عليه ابن عفيف فقتله! ثمّ عبر عليه المختار فشجّه وقيّده وحبسه!

فإذا أنت قرأت كتابي هذا فاكتب إلى ابن زياد بإطلاق المختار، وإلّا فواللّه لأرمينَ عبيداللّه بجيش لاطاقة له به والسلام.

فلمّا قرأ يزيد الكتاب غضب من ذلك، وكتب إلى ابن زياد: أمّا بعدُ: فقد ولّيتك العراق ولم أولّك على أن تسبّ آل النبيّ على المنابر وتقع فيهم، فإذا قرأت كتابي هذا فأطلق المختار من حبسك مكرماً، وإيّاك أن تعود إلى ما فعلت، وإلّا فوالذي نفسي بيده، بعثت إليك من يأخذ منك الذي فيه عيناك!

فلمّا ورد الكتاب على ابن زياد أخرج المختار من حبسه، ودعا بمشايخ الكوفة وسلّمه إليهم سالماً، فخرج المختار من الكوفة هارباً نحو الحجاز ...». «1»

لكنّ المرحوم السيّد المقرّم ينقل عن كتاب «الأعلاق النفيسة» لابن رسته أنّه «لمّا أحضر ابن زياد السبايا في مجلسه أمر بإحضار المختار وكان محبوساً عنده من يوم قتل مسلم بن عقيل، فلمّا رأى المختار هيئة منكرة زفر زفرة شديدة، وجرى بينه وبين ابن زياد كلام أغلظ فيه المختار، فغضب ابن زياد وأرجعه الى

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 164

الحبس، ويقال ضربه بالسوط على عينه فذهبت!». «1»

وينقل صاحب كتاب «معالى السبطين» هذه الصورة:

«وفي بعض الكتب: ثمّ إنّ ابن زياد استخرج المختار من الحبس، وكان محبوساً، لأنّه لمّا قتل مسلماً وهانياً وبعث برأسيهما إلى يزيد، كتب يزيد كتاباً إلى ابن زياد يشكره في ذلك، وكتب أنه بلغني أنّ حسيناً توجّه إلى العراق، فَضَعِ المناظر والمسالح،

وأقتل واحبس على الظنّة والتهمة، فلمّا وصل الكتاب الى ابن زياد قتل من قتل، وحبس جماعة من الشيعة منهم المختار، فبقي في السجن حتى جي ء برأس الحسين عليه السلام، ووضع بين يديه فغطّاه بمنديل، واستخرج المختار من الحبس، وجعل يستهزي ء عليه (كذا)! فقال المختار، ويلك أتستهزي ء عليَّ وقد قرّب اللّه فرجي!؟

فقال ابن زياد: من أين يأتيك الفرج يا مختار!؟

قال: بلغني أنّ سيّدي ومولاي الحسين قد توجّه نحو العراق، فلابدّ أن يكون خلاصي على يده!

قال اللعين: خاب ظنّك ورجاؤك يا مختار! إنّا قتلنا الحسين!

قال: صه! فضَّ اللّه فاك! ومن يقدر على قتل سيّدي ومولاي الحسين!؟

قال له: يا مختار انظر! هذا رأس الحسين!

فرفع المنديل وإذا بالرأس بين يديه في طشت من المذهب، فلمّا نظر المختار إلى الرأس الشريف جعل يلطم على رأسه وينادي: وا سيّداه! وا مظلوماه!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 165

إشارة ..... ص : 165

يبدو من مجموع روايات حبس المختار (ره) أنه كان قد حُبس مرّتين، الأولى: حين حُبس مع ميثم التمّار (رض) في أوائل أيام ولاية ابن زياد على الكوفة، ثمّ أُخرج بشفاعة عبداللّه بن عمر له عند يزيد، والثانية: حين حُبس مع عبداللّه بن الحارث ابن نوفل في ختام حركة مسلم بن عقيل عليهما السلام في الكوفة «وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تُدعى (خطوانيّة) فجاء بمواليه يحمل راية خضراء، ويحمل عبداللّه بن الحارث راية حمراء، وركز المختار رايته على باب عمرو بن حُريث وقال: أردتُ أن أمنع عمراً!

ووضح لهما قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، وأُشير عليهما بالدخول تحت راية الأمان عند عمرو بن حريث ففعلا، وشهد لهما ابن حُريث باجتنابهما ابن عقيل، فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب

فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قُتل الحسين عليه السلام». «1»

لكنّ السيّد المقرّم (ره) يستفيد من رواية الخوارزمي الماضية أنّ عبداللّه بن عمر كان قد تشفّع في المختار مرتين وأطلقه من الحبس في كلّ منهما، حيث يقول: «وبعد قتل ابن عفيف كان المختار بن أبي عبيدالثقفي مُطلق السراح بشفاعة عبداللّه بن عمر بن الخطاب عند يزيد، فإنّه زوج أخته صفيّة بنت أبي عبيدالثقفي، ولكنّ ابن زياد أجّله في الكوفة ثلاثاً، ولمّا خطب ابن زياد بعد قتل ابن عفيف، ونال من أميرالمؤمنين عليه السلام ثار المختار في وجهه وشتمه وقال: كذبت يا عدوّ اللّه وعدوّ رسوله! بل الحمد للّه الذي أعزّ الحسين وجيشه بالجنّة والمغفرة، وأذلّك وأذلّ يزيد وجيشه بالنار والخزي.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 166

فخدفه ابن زياد بعمود حديد فكسر جبهته وأمر به إلى السجن، ولكنّ النّاس عرّفوه بأنّ عمر بن سعد صهره على أخته، وصهره الآخر عبد اللّه بن عمر، وذكروا ارتفاع نسبه فعدل عن قتله، وأبقاه في السجن، ثمّ تشفّع فيه ثانياً عبداللّه بن عمر عند يزيد، فكتب الى عبيداللّه بن زياد بإطلاقه ...». «1»

مقتل وَلَدَيْ مسلم بن عقيل عليهما السلام ..... ص : 166

روى الشيخ الصدوق (ره) بسندٍ إلى حمران بن أعين (ره)، عن أبي محمّد شيخ لأهل الكوفة قال: «لمّا قُتل الحسين بن عليّ عليه السلام أُسِرَ من عسكره غُلامان صغيران، فأُتي بهما عبيداللّه ابن زياد، فدعا سجّاناً له فقال: خُذ هذين الغلامين إليك، فمِنْ طيّب الطعام فلا تطعهما، ومن البارد فلا تسقهما، وضيّق عليهما سجنهما!

وكان الغلامان يصومان النهار، فإذا جنّهما الليل أُتيا بقرصين من شعير، وكوز من ماء القراح! فلمّا طال بالغلامين المكث حتّى صارا في السنّة! قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، قد طال بنا مكثنا، ويوشك أن تفنى

أعمارنا وتبلى أبداننا! فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا وتقرّب إليه بمحمّد صلى الله عليه و آله لعلّه يوسّع علينا في طعامنا ويزيدنا في شرابنا!

فلمّا جنّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من ماء القراح.

فقال له الغلام الصغير: يا شيخ، أتعرف محمّداً؟

قال: فكيف لا أعرف محمّداً، وهو نبيي!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 167

قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟

قال: وكيف لا أعرف جعفراً، وقد أنبت اللّه له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء!؟

قال: أفتعرف عليَّ بن ابي طالب عليه السلام؟

قال: وكيف لا أعرف عليّاً، وهو ابن عمّ نبيي وأخو نبيّي!؟

قال له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله، ونحن من وُلدِ مسلم بن عقيل بن أبي طالب، بيدك أُسارى، نسألك من طيّب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيّقت علينا سجننا!!

فانكبّ الشيخ على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء! ووجهي لوجهكما الوقاء يا عترة نبيّ اللّه المصطفى! هذا باب السجن بين يديكما مفتوح! فخذا في أيّ طريق شئتما!

فلمّا جنّهما الليل أتاهما بقرصين من شعير وكوز من ماء القراح! ووقفهما على الطريق، وقال لهما: سيرا يا حبيبيّ الليل، واكمُنا النهار، حتّى يجعل اللّه عزّ وجلّ لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً!

ففعل الغلامان ذلك، فلمّا جنّهما الليل انتهيا إلى عجوز على باب فقالا لها: يا عجوز، إنّا غلامان صغيران غريبان، حدثان غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جنّنا، أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق!

فقالت لهما: فمن أنتما يا حبيبيّ؟ فقد شممت الروائح كلّها فما شممت رائحة أطيب من رائحتكما!

فقالا لها: يا عجوز، نحن من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله، هربنا من سجن عبيداللّه ابن زياد

من القتل!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 168

قالت: يا حبيبيّ إنّ لي ختناً قد شهد الواقعة مع عبيداللّه بن زياد، أتخوّف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما!

قالا: سواد ليلتنا هذه فإذا أصبحنا لزمنا الطريق.

فقالت: سآتيكما بطعام.

ثمّ أتتهما بطعام فأكلا وشربا، ولمّا ولجا الفراش قال الصغير للكبير: يا أخي، إنّا نرجوا أن نكون قد أمنا ليلتنا هذه، فتعال حتّى أُعانقك وتعانقني، وأشمّ رائحتُك وتشمّ رائحتي، قبل أن يفرّق الموت بيننا!

ففعل الغلامان ذلك واعتنقا وناما، فلمّا كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتّى قرع الباب خفيفاً، فقالت العجوز: من هذا؟

قال: أنا فلان!

قالت: ما الذي أطرقك هذه الساعة، وليس هذا لك بوقت!؟

قال: ويحك! إفتحي الباب قبل أن يطير عقلي وتنشق مرارتي في جوفي جهد البلاء الذي قد نزل بي!

قالت: ويحك! ما الذي نزل بك؟!

قال: هرب غلامان صغيران من عسكر عبيداللّه بن زياد، فنادى الأمير في معسكره: من جاء برأس واحدٍ منهما فله ألف درهم! ومن جاء برأسيهما فله ألفا درهم! فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شي ء!

فقالت العجوز: ياختني! إحذر أن يكون محمّد خصمك في القيامة!

قال: ويحكِ! إنّ الدنيا مُحرص عليها!

فقالت: وما تصنع بالدنيا وليست معها آخرة!؟

قال: إنّي لأراك تحامين عنهما، كأنّ عندك من طلب الأمير شي ء!؟ قومي فإنّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 169

الأمير يدعوك!

قالت: ما يصنع الأمير بي، وإنّما أنا عجوز في هذه البريّة!؟

قال: إنّما ليَ الطلب! إفتحي لي الباب حتى أُريح واستريح، فإذا أصبحتُ فكّرت في أيّ الطريق آخذُ في طلبهما.

ففتحت له الباب، وأتته بطعام وشراب، فأكل وشرب، فلمّا كان في بعض الليل سمع غطيط الغلامين في جوف الليل، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، ويخور كما يخور الثور، ويلمس بكفّه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب

الغلام الصغير!

فقال له: من هذا؟

قال: أمّا أنا فصاحب المنزل، فمن أنتما!؟

فأقبل الصغير يحرّك الكبير ويقول: قم يا حبيبي، فقد واللّه وقعنا فيما كنّا نحاذره!

قال لهما: من أنتما!؟

قالا له: يا شيخ، إن نحن صدقناك فلنا الأمان!؟

قال: نعم!

قالا: أمان اللّه وأمان رسوله، وذمّة اللّه وذمّة رسول اللّه؟

قال: نعم!

قالا: ومحمّد بن عبداللّه على ذلك من الشاهدين؟

قال: نعم!

قالا: واللّه على ما نقول وكيل وشهيد؟

قال: نعم!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 170

قالا له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله، هربنا من سجن عبيداللّه بن زياد من القتل!

فقال لهما: من الموت هربتما، وإلى الموت وقعتما! الحمّد للّه الذي أظفرني بكما!

فقام إلى الغلامين فشدّ أكتافهما، فبات الغلامان ليلتهما مكتّفين، فلمّا انفجر عمود الصبح دعا غلاماً له أسود يُقال له فليح، فقال: خذ هذين الغلامين فانطلق بهما إلى شاطي ء الفرات وأضرب أعناقهما، وأئتني برؤسهما لأنطلق بهما إلى عبيداللّه بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم.

فحمل الغلام السيف، فمضى بهما ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلّا غير بعيد حتّى قال أحد الغلامين: يا أسود، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذّن رسول اللّه!!

قال: إنّ مولاي قد أمرني بقتلكما، فمن أنتما؟

قالا له: يا أسود، نحن من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله، هربنا من سجن عبيداللّه بن زياد من القتل، أضافتنا عجوزكم هذه، ويريد مولاك قتلنا!

فانكبّ الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء يا عترة نبيّ اللّه المصطفى! واللّه لايكون محمّد صلى الله عليه و آله خصمي في القيامة.

ثمّ عدا فرمى السيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر إلى الجانب الآخر، فصاح به مولاه: يا غلام عصيتني!؟

فقال: يا مولاي! إنّما أطعتك ما دمت لاتعصي اللّه،

فإذا عصيت اللّه فأنا منك بري ء في الدنيا والآخرة!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 171

فدعا إبنه فقال: يا بني! إنّما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك! والدنيا مُحرصٌ عليها، فخذ هذين الغلامين إليك فانطلق بهما إلى شاطي ء الفرات فاضرب أعناقهما، وائتني برؤسهما لأنطلق بهما إلى عبيداللّه بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم.

فأخذ الغلام السيف، ومشى أمام الغلامين، فما مضى (فما مضيا) إلّا غير بعيد حتّى قال أحد الغلامين: يا شاب! ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنّم!

فقال: يا حبيبيَّ فمن أنتما؟

قالا: من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله يريد والدك قتلنا!

فانكبّ الغلام على أقدامهما يقبّلهما ويقول لهما مقالة الأسود، ورمى بالسيف ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر! فصاح به أبوه: يا بنيَّ! عصيتني!؟

قال: لأن أطيع اللّه وأعصيك أحبّ إليّ من أن أعصي اللّه وأطيعك.

قال الشيخ: لايلي قتلكما أحدٌ غيري! وأخذ السيف ومشى أمامهما، فلمّا صار إلى شاطي ء الفرات سلّ السيف من جفنه، فلمّا نظر الغلامان إلى السيف مسلولًا اغرورقت أعينهما وقالا له: يا شيخ! انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا، ولاترد أن يكون محمّد خصمك في القيامة غداً!

فقال: لا! ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما الى عبيداللّه بن زياد، وأخذ جائزة ألفين!

فقالا له: يا شيخ! أما تحفظ قرابتنا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله!؟

فقال: ما لكما من رسول اللّه قرابة!!

قالا: يا شيخ! فائت بنا إلى عبيداللّه بن زياد حتى يحكم فينا بأمره!

قال: ما بي إلى ذلك سبيل إلّا التقرّب إليه بدمكما!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 172

قالا له: يا شيخ! أما ترحم صغر سننا!؟

قال: ما جعل اللّه لكما في قلبي من الرحمة شيئاً!

قالا: يا شيخ! إن كان ولابدّ فدعنا نصلّي ركعات!

قال: فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة!

فصلّى

الغلامان أربع ركعات، ثمّ رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا: يا حيّ يا حكيم يا أحكم الحاكمين! أحكم بيننا وبينه بالحقّ!

فقام إلى الأكبر فضرب عنقه وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة! وأقبل الغلام الصغير يتمرّغ في دم أخيه وهو يقول: حتّى ألقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنا مختضب بدم أخي!

فقال: لا عليك، سوف أُلحقك بأخيك! ثمّ قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة! ورمى ببدنيهما في الماء وهما يقطران دماً!

ومرَّ حتّى أتى بهما عبيداللّه بن زياد وهو قاعد على كرسيّ له، وبيده قضيب خيزران، فوضع الرأسين بين يديه، فلمّا نظر إليهما قام ثمّ قعد ثلاثاً، ثمّ قال: الويل لك! أين ظفرت بهما!

قال: أضافتهما عجوز لنا!

قال: فما عرفت حقّ الضيافة!؟

قال: لا!

قال: فأيّ شي ء قالا لك؟

قال: قالا: يا شيخ! إذهب بنا إلى السوق فبعنا فانتفع بأثماننا، فلا نرد أن يكون محمّد صلى الله عليه و آله خصمك في القيامة!

قال: فأيّ شي ء قلت لهما!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 173

قال: قلت: لا! ولكن أقتلكما وانطلق برأسيكما إلى عبيداللّه بن زياد، وآخذ ألفي درهم.

قال: فأيّ شي ء قالا لك؟

قال: قالا: إئت بنا إلى عبيداللّه بن زياد حتّى يحكم فينا بأمره!

قال: فأي شي ء قلت!؟

قال: قلت: ليس لي إلى ذلك سبيل إلّا التقرّب إليك بدمهما!

قال: أفلا جئتني بهما حيَّيْن فكنت أضاعف لك الجائزة وأجعلها أربعة آلاف درهم!؟

قال: ما رأيت إلى ذلك سبيلًا إلّا التقرّب إليك بدمهما!

قال: فأيّ شي ء قالا لك أيضاً؟

قال: قالا: يا شيخ! إحفظ قرابتنا من رسول اللّه!

قال: فأيّ شي ء قلت لهما!؟

قال: قلت: مالكما من رسول اللّه قرابة!

قال: ويلك! فأيّ شي ء قالا لك أيضاً؟

قال: قالا: يا شيخ! إرحم صغر سننا!

قال: فما رحمتهما!؟

قال: قلت: ما جعل اللّه لكما من

الرحمة في قلبي شيئاً!

قال: ويلك؟ فأيّ شي ء قالا لك أيضاً؟

قال: قالا: دعنا نصلّي ركعات. فقلت: فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة! فصلّى الغلامان أربع ركعات.

قال: فأيّ شي ء قالا في آخر صلاتهما؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 174

قال: رفعا طرفيهما إلى السماء وقالا: يا حيّ يا حكيم يا أحكم الحاكمين! أحكم بيننا وبينه بالحقّ!

قال عبيداللّه بن زياد: فإنّ أحكم الحاكمين قد حكم بينكم وبين الفاسق!

قال فانتدب له رجل من أهل الشام فقال: أنا له!

قال: فانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين فاضرب عنقه، ولاتترك أن يختلط دمه بدمهما، وعجّل برأسه! ففعل الرجل ذلك، وجاء برأسه فنصبه على قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون: هذا قاتل ذريّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 175

المقصد الثاني

الفصل الثاني: مع الركب الحسينيّ من الكوفة إلى الشام ..... ص : 175
مدّة بقاء الركب الحسينيّ في الكوفة ..... ص : 175

يُستفاد من بعض النصوص أنّ بقيّة الركب الحسينيّ لم يطل بقاؤهم في الكوفة إلّا يومين أو يوماً وبعض يوم!، كما في، نصّ سبط ابن الجوزي حيث يقول: «ثمّ إنّ ابن زياد حطّ الرؤوس في اليوم الثاني وجهّزها والسبايا إلى الشام إلى يزيد بن معاوية.»، «1» وهذه المدّة هي أقلّ مدّة ممكنة.

لكنّ نصوصاً أخرى تفيد أنهم بقوا في الكوفة المدّة التي يستغرقها ذهاب وإياب البريد بين الكوفة ودمشق، كما في نصّ ابن الأثير الجزري حيث يقول: «إنّ آل الحسين لمّا وصلوا إلى الكوفة حبسهم ابن زياد، وأرسل إلى يزيد بالخبر، فبينما هم في الحبس إذ سقط عليهم حجر فيه كتاب مربوط، وفيه: إنّ البريد سار بأمركم إلى يزيد، فيصل يوم كذا ويعود يوم كذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل! وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان.

فلمّا كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجرٌ قد أُلقي، وفيه

كتاب يقول:

أوصوا وأعهدوا فقد قارب وصول البريد.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 178

والظاهر أنّ البريد آنذاك كان على نوعين: «بريد الطير»، و «بريد الخيل»، وبريد الطير أسرع من بريد الخيل، وبريد الخيل أسرع كثيراً من رحلة مسافر أو أكثر يجدّون السير على نفس مسافة البريد، ذلك لأن الخيل في البريد وهي من أجود الخيل وأسرعها تقطع مسافة جزئية من مسافة البريد، ثمَّ تسلّم البريد إلى غيرها لتقطع مسافة جزئية أخرى بعدها، وهكذا حتّى تتمّ مسافة البريد كلّها، فلا تعاني أفراس البريد ولا فرسانها من تعب ولا نصب، ويتمّ إيصال البريد بأسرع وقت ممكن!

فإذا علمنا- في ضوء بعض النصوص «1»- أنّ عميرة الذي أرسله عبداللّه بن عمر إلى يزيد ومعه كتاب يشفع فيه لإطلاق سراح المختار من سجن ابن زياد، توجّه إلى الكوفة من الشام حاملًا كتاب يزيد إلى ابن زياد بإطلاق سراح المختار، وقد قطع المسافة بين الشام والكوفة بأحد عشر يوماً! أمكننا القول بأنّ «بريد الخيل» يقطع هذه المسافة- بين دمشق والكوفة- في ستّة أيّام مثلًا.

وإذا علمنا- في ضوء نصوص أخرى «2»- أنّ هناك طريقاً مستقيماً بين الشام والعراق يمكن أن يقطعه المسافر في العادة خلال مدّة أسبوع، وكان عرب عقيل يسلكون هذا الطريق، كما كان عرب صليب يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيام، أمكننا أن نقبل بأنّ البريد آنذاك يمكن أن يقطع المسافة بين الكوفة ودمشق في سبعة أيّام أو أقلّ.

وإذا افترضنا أنّ ابن زياد كتب إلى يزيد بخبر انتهاء وقعة الطفّ مباشرة بعد

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 179

انتهائها، وأنّ البريد تحرّك برسالته إلى يزيد في ليلة الحادي عشر أو في اليوم الحادي عشر، فإنه يمكننا أن نحتمل- على فرض أنّ مدّة البريد

أسبوع- أن البريد وصل إلى دمشق حوالي اليوم السابع عشر من المحرّم.

وإذا افترضنا أيضاً أنّه تحرّك من دمشق إلى الكوفة بجواب يزيد في نفس اليوم، فإنّ من المحتمل أيضاً أنّه يصلها حوالي اليوم الرابع والعشرين من المحرّم.

وإذا قلنا أن الركب الحسينيّ تحرّك من الكوفة إلى الشام في نفس اليوم الرابع والعشرين من المحرّم، فإنَّ مدّة بقائهم في الكوفة- وهي تبدأ من اليوم الثاني عشر- تكون حوالي إثني عشر يوماً على احتمال قويّ، واللّه العالم.

كيف حُمل بقيّة أهل البيت عليهم السلام إلى يزيد!؟ ..... ص : 179

فيما رواه الطبري قوله: «ثُمّ إنّ عبيداللّه أمر بنساء الحسين وصبيانه فجُهّزن، وأمر بعليّ بن الحسين فَغُلَّ بغُلٍّ إلى عنقه! ثمّ سرّح بهم مع مُحفّز بن ثعلبة العائذي- عائذة قريش- ومع شمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حتّى قدموا على يزيد، فلم يكن عليٌّ بن الحسين يُكلِّم أحداً منهما في الطريق كلمة حتّى بلغوا ..». «1»

وقال السيد ابن طاووس (ره): «وأمّا يزيد بن معاوية فإنّه لمّا وصل كتاب ابن زياد ووقف عليه أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين عليه السلام إليه ورؤوس من قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله، فاستدعى ابن زياد بمخفر بن ثعلبة العائذي فسلّم إليه الرؤوس والأسارى والنساء، فسار بهم مخفر إلى الشام كما يُسار بسبايا الكفّار، يتصفّح وجوههنّ أهل الأقطار!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 180

ويقول السيّد ابن طاووس (ره) في كتابه (إقبال الأعمال): «رأيتُ في كتاب المصابيح بإسناده إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام قال:

قال لي أبي محمّد بن عليّ: سألت أبي عليَّ بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال:

حملني على بعير يطلع بغير وطاء! ورأس الحسين عليه السلام على علم! ونسوتنا خلفي على بغال، فأكفّ، والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعت من أحدنا عين

قُرع رأسه بالرمح! حتّى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت الملعون!». «1»

ويقول ابن الصبّاغ المالكي في كتابه الفصول المهمّة: «وقد جعل ابن زياد الغلَّ في يديه- أي الإمام السجّاد عليه السلام- وفي عنقه، ولم يزالوا سايرين بهم على تلك الحالة إلى أن وصلوا الشام.». «2»

وفيما يرويه لنا الصحابيّ سهل بن سعد «3» عن لقائه بالركب الحسينيّ في

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 181

دمشق قوله: «... فبينا أنا كذلك، حتّى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان، عليه رأس أشبه الناس وجهاً برسول اللّه صلى الله عليه و آله! فإذا أنا من ورائه رأيت نسوة على جمال بغير وطاء ...». «1»

وإنّ صفة دخول بقيّة أهل البيت عليهم السلام على يزيد كاشفة عن حالهم الأصعب أثناء الطريق، يقول السيّد ابن طاووس (ره): «ثُمّ أُدخل ثقل الحسين عليه السلام ونساؤه ومن تخلّف من أهله على يزيد، وهم مقرّنون في الحبال! فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال قال له عليّ بن الحسين:

أُنشدك اللّه يا يزيد! ما ظنّك برسول اللّه لو رآنا على هذه الحال!؟ ...». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 182

وفي خطبة مولاتنا زينب العقيلة عليها السلام في مجلس يزيد صورة وافية لطريقة حمل بقيّة أهل البيت عليهم السلام من الكوفة إلى الشام، حيث قالت عليها السلام وهي تقرّع الطاغية:

«أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول اللّه سبايا قد هتكت ستورهنّ!؟ وأبديت وجوههن!؟ تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد!؟ ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل؟! ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف!؟ ليس معهن من رجالهنّ وليّ، ولا من حماتهنّ حميّ!؟ ...». «1»

هل كانت الرؤوس المقدّسة مع الركب الحسينيّ؟ ..... ص : 182

يُستفاد من النصوص التي

مضت عن السيّد ابن طاووس (ره) أنّ الرؤوس المقدّسة كانت مع الركب الحسينيّ في حركته من الكوفة إلى الشام.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 183

لكنّ نصوصاً أخرى تُشعر أنّ الرؤوس المقدّسة سبقت الركب الحسينيّ إلى الشام، كما في نصّ الشيخ المفيد (ره) حيث يقول: «ولمّا فرغ القوم من التطوّف به- أي الرأس المقدّس- بالكوفة، ردّه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس، «1» ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرّحه إلى يزيد بن معاوية عليهم لعائن اللّه ولعنة اللاعنين في السموات والأرضين، وأنفذ معه أبابردة بن عوف الأزدي، «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 184

وطارق بن أبي ظبيان، «1» في جماعة من أهل الكوفة حتّى وردوا بها على يزيد بدمشق.». «2»

وأوضح من ذلك في هذا الصدد ما قاله الشيخ المفيد (ره) أيضاً: «ثمّ إنّ عبيداللّه بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين عليه السلام أمر بنسائه وصبيانه فجهّزوا، وأمر بعليّ بن الحسين فغُلّ بِغلّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع مجفر بن ثعلبة العائذي، وشمر بن ذي الجوشن، فانطلقوا بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس، ولم يكن عليّ بن الحسين عليه السلام يكلّم أحداً من القوم في الطريق كلمة حتّى بلغوا ...». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 185

منازل الطريق من الكوفة إلى دمشق ..... ص : 185
اشارة

هناك طريقان يصلان بين الكوفة ودمشق، عرضت لذكرهما بعض الكتب التي تناولت الحديث في قصة سفر الركب الحسينيّ من الكوفة إلى الشام، وهذان الطريقان هما:

1- الطريق السلطاني: ..... ص : 185

وهو الطريق الذي ذكره الميرزا النوري، «1» وذهب إلى أنّ بقيّة الركب الحسيني كانوا قد سلكوا هذا الطريق من الكوفة الى الشام، وعلى هذا كان الميرزا النوري قد استبعد أن تكون زيارة الأربعين التي زار بها بقيّة أهل البيت عليهم السلام قبر الحسين عليه السلام في الأربعين يوماً الأولى بعد مقتله في سنة 61 للهجرة.

وهذا الطريق مع طوله وكثرة منازله لايمكن لسالك يجدّ السير فيه ولايلوي على أحد ولايتوقّف في منزل أن يسلكه في أقلّ من عشرة أيّام، ولو أردنا أن نقبل بأنّ مسير الركب الحسيني كان على هذا الطريق، ونقبل جميع ما حدث لهم في منازله لاستغرق ذلك سنة من الزمان على قول بعض المحققّين!. «2»

ومنازل هذا الطريق على ما ذهب إليه فرهاد ميرزا صاحب كتاب «قمقام زخّار» هي: حرّان، حصاصة، تكريت، وادي النخلة، برصاباد، الموصل، عين الوردة، قنسرين، معرّة النعمان، كفرطاب، الشيرز، الحمى (حماة)، حمص، بعلبك. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 186

وقد وردت أسماء منازل هذا الطريق في المقتل المنسوب لأبي مخنف متفاوتة في الترتيب، مع إضافة ونقص. «1»

والمتأمّل في الخرائط الجغرافية يجدها لاتقبل بترتيب بعض تلك المنازل!! ويقول المرحوم المحدّث الشيخ عبّاس القميّ: «إعلم أنّ ترتيب المنازل التي نزلوها في كلّ مرحلة باتوا بها أم عبروها منها غير معلوم ولامذكور في شي ء من الكتب المعتبرة، بل ليس في أكثرها كيفية مسافرة أهل البيت إلى الشام ...». «2»

2- الطريق المستقيم (طريق عرب عقيل): ..... ص : 186

وهو طريق يمكن قطعه في مدّة أسبوع لكونه مستقيماً، وممّن ذهب إلى أنّ أهل البيت عليهم السلام سلكوا هذا الطريق هو المرحوم السيد محسن الأمين في موسوعته الكبيرة (أعيان الشيعة) حيث يقول: «.. والمشهور أنّهم وصلوا إلى كربلاء في العشرين من صفر، ومنه زيارة الأربعين الواردة عن

أئمّة أهل البيت عليهم السلام للحسين عليه السلام.

وقد يستبعد ذلك بأنّ المسافة بين العراق والشام تقطع في نحو من شهر، ولابدّ يكونوا بقوا في الشام مدّة، فكيف يمكن استيعاب الذهاب والإياب والبقاء في الشام، والذهاب للكوفة والبقاء فيها، أربعين يوماً؟!

ويمكن دفع الإستبعاد بأنّه يوجد طريق بين الشام والعراق يمكن قطعه في أسبوع لكونه مستقيماً، وكان عرب عقيل يسلكونه في زماننا.

وتدلّ بعض الأخبار على أنّ البريد كان يذهب من الشام للعراق في أسبوع،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 187

وعرب صليب يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيّام.

فلعلّهم سلكوا هذا الطريق وتزوّدوا ما يكفيهم من الماء، وأقلّوا المقام في الكوفة والشام، واللّه أعلم.». «1»

ونحن أيضاً نرجّح أنّ أعداء اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله كانوا قد سلكوا ببقية الركب الحسيني في سفرهم من الكوفة إلى الشام أقصر الطرق مسافة، سواء أكان طريق عرب عقيل أو غيره، ونستبعد أنّهم سلكوا ما يُسمّى بالطريق السلطاني الطويل.

ذلك لأنّ من الطبيعي يومذاك أن يحرص كلٌّ من يزيد وابن زياد وجلاوزتهم الموكّلين ببقية الركب الحسيني على وصول هذا الركب إلى دمشق في أسرع وقت ممكن! ويتوسّلوا بكلّ الوسائل المساعدة لتحقيق هذه الرغبة!

أمّا يزيد لعنه اللّه، فلكي يروي ظمأه إلى التشفّي بمشهد انكسار أهل البيت عليهم السلام من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين متوهماً أن بني أميّة عدلوا يوم عاشوراء ببدر فاعتدل! حتّى استشهد بشعر ابن الزبعرى في هذا المعنى! جذلان بمظاهر الظفر المكذوب!

وأمّا ابن زياد لعنه اللّه، فلكي يُري أميره يزيد كيف نفّذ أوامره كما يحبّ ويرضى! حتّى يحظى عنده بمزيد من الوجاهة والمنزلة والإعتماد، فهو على عجلة من أمر وصول بقيّة الركب الحسيني إلى الشام بأسرع وقت، من

أجل دفقة سرور موهومة تدخل على قلب يزيد تنعكس آثارها الإيجابية على حياة ابن زياد ومصيره!

وأمّا الجلاوزة لعنهم اللّه الذين رافقوا الركب الحسيني فهم أشدّ لهفة إلى

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 188

الوصول بالركب الى الشام بأسرع ما يمكن من الوقت، طمعاً في نوال جوائز يزيد، والحصول على مزيد من الحظوة عنده!

فكانت جميع مصالح الطغاة وجلاوزتهم تدعو الى اعتساف أقصر الطرق من الكوفة إلى الشام!! ويُذكر أيضاً أنّ جلاوزة ابن زياد حينما خرجوا برأس الحسين عليه السلام من الكوفة كانوا يخافون من قبائل العرب أن تثور فيهم الغيرة والحميّة، فكانوا يخشون أن يأخذوا منهم الرأس المقدّس ولذا كانوا يتجنّبون السير على الجادة المعروفة، وكلّما وصلوا إلى قبيلة طلبوا العلوفة وقالوا معنا رأس خارجيّ!. «1»

جملة من وقائع الطريق إلى الشام ..... ص : 188
اشارة

أشارت مصادر تأريخية إلى جملة من وقائع حدثت على طريق الركب الحسيني من الكوفة إلى الشام، نورد هنا ذكر هذه الوقائع- ممّا اشتهر منها، وممّا لم يتفرّد به المقتل المنسوب إلى أبي مخنف- في ضوء تتابعها حسب منازل الطريق ما أمكننا ذلك، وهي:

1- خروج يدٍ من الحائط تكتب بمدادٍ من الدم! ..... ص : 188

روى الخوارزمي بسند عن ابن لهيعة، «2» عن أبي قبيل، «3» قال: «لمّا قُتل

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 189

الحسين عليه السلام بُعث برأسه إلى يزيد، فنزلوا أوّل مرحلة، فجعلوا يشربون ويبتهجون بالرأس! فخرجت عليهم كفٌّ من الحائط، معها قلم من حديد، فكتبتْ سطراً بدم:

أترجو أُمّةٌ قتلت حسيناً شفاعة جدِّه يوم الحساب!؟» «1»

وفي المقتل المنسوب إلى أبي مخنف: أنّ ابن زياد دعا الشمر اللعين،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 190

وخولّي، وشبث بن ربعي، وعمر بن سعد، «1» وضمَّ إليهم ألف فارس! وأمرهم بأخذ السبايا والرؤوس إلى يزيد، وأمرهم أن يشهروهم في كلّ بلدة يدخلونها! فساروا على ساحل الفرات، فنزلوا على أوّل منزل كان خراباً، فوضعوا الرأس الشريف المبارك المكرّم، والسبايا مع الرأس الشريف، وإذا رأوا يداً خرج من الحائط معه (كذا) قلم يكتب بدم عبيط شعراً:

أترجو أمّة قتلت حسيناً شفاعة جدّه يوم الحساب

فلا واللّه ليس لهم شفيع وهم يوم القيامة في العذاب

لقد قتلوا الحسين بحكم جور وخالف أمرهم حكم الكتاب

فهربوا، ثمّ رجعوا، ثمّ رحلوا من ذلك المنزل، وإذا هاتف يقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم وأنتم آخر الأممِ

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ

ماكان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي.». «2»

وروى الخوارزمي عن إمامٍ لبني سليم قال: حدّثنا أشياخنا، قالوا: دخلنا في الروم كنيسة لهم، فوجدنا في الحائط صخرة، فيها مكتوب:

أترجو أُمّة قتلت حسيناً شفاعة جدّه يوم

الحساب

فلا واللّه ليس لهم شفيع وهم يوم القيامة في العذابِ

فقلنا لشيخ في الكنيسة: منذُ كم هذا الكتاب؟

فقال: من قبل أن يُبعث صاحبكم بثلاثمائة عام!!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 191

وفي «تاريخ الخميس» يقول الديار بكري: «فساروا إلى أنْ وصلوا إلى دير في الطريق، فنزلوا ليقيلوا به فوجدوا مكتوباً على بعض جدرانه:

أترجوا أمّة قتلت حسيناً شفاعة جدّه يوم الحسابِ

فسألوا الراهب عن السطر، ومن كتبه؟

فقال: إنّه مكتوب هاهنا من قبل أن يُبعث نبيّكم بخمسمائة عام!». «1»

2- قصّة الراهب مع الرأس المقدّس! ..... ص : 191

قال سبط بن الجوزي في (تذكرة الخواص): «وذكر عبدالملك بن هاشم في كتاب (السيرة) الذي أخبرنا القاضي الأسعد أبوالبركات عبدالقويّ بن أبي المعالي ابن الحبّار السعدي في جُمادى الأوّل سنة تسع وستّمائة بالديار المصرية قراءة عليه ونحن نسمع قال: أنبأنا أبومحمّد عبداللّه بن رفاعة بن غدير السعدي في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة قال: أنبأنا أبوالحسين عليّ بن الحسين الخلعي أنبأنا أبومحمد عبدالرحمن بن عمر بن سعيد النحّاس النحيي:

أنبأنا أبومحمد عبداللّه بن جعفر بن محمد بن رنجويه البغدادي: أنبأنا أبوسعيد عبدالرحيم بن عبداللّه البرقي: أنبأنا أبومحمد عبدالملك بن هشام النحوي البصري «2» قال:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 192

لمّا أنفذ ابن زياد رأس الحسين عليه السلام إلى يزيد بن معاوية مع الأسارى، موثّقين في الحبال، منهم نساء وصبيان وصبيّات من بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله، على أقتاب الجمال، موثقين مكشّفات الوجوه والرؤوس! وكلّما نزلوا منزلًا أخرجوا الرأس من صندوق أعدّوه له، فوضعوه على رمح وحرسوه طول الليل إلى وقت الرحيل، ثمّ يعيدوه الى الصندوق ويرحلوا، فنزلوا بعض المنازل، وفي ذلك المنزل ديرٌ فيه راهب، فأخرجوا الرأس على عادتهم، ووضعوه على الرمح وحرسه الحرس على عادته، وأسندوا الرمح إلى الدير.

فلمّا كان

في نصف الليل رأى الراهب نوراً من مكان الرأس الى عنان السماء! فأشرف على القوم وقال: من أنتم؟

قالوا: نحن أصحاب ابن زياد.

قال: وهذا رأس من!؟

قالوا: رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ابن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله!

قال: نبيّكم!؟

قالوا: نعم!

قال: بئس القوم أنتم! لو كان للمسيح ولد لأسكنّاه أحداقنا!

ثم قال: هل لكم في شي ء؟

قالوا: وماهو؟

قال: عندي عشرة آلاف دينار، تأخذونها وتعطوني الرأس يكون عندي تمام الليلة، وإذا رحلتم تأخذونه!

قالوا: وما يضرّنا!؟

فناولوه الرأس، وناولهم الدنانير، فأخذه الراهب فغسله وطيّبه، وتركه على فخذه، وقعد يبكي الليل كلّه! فلمّا أسفر الصبح قال: يا رأس! لا أملك إلّا نفسي،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 193

وأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ جدّك محمّداً رسول اللّه، وأُشهد اللّه أنني مولاك وعبدك!

ثمّ خرج عن الدير وما فيه، وصار يخدم أهل البيت!

قال ابن هشام في السيرة: ثمّ إنهم أخذوا الرأس وساروا، فلمّا قربوا من دمشق قال بعضهم لبعض: تعالوا حتّى نقسم الدنانير لايراها يزيد فيأخذها منّا!

فأخذوا الأكياس وفتحوها، وإذا الدنانير قد تحوّلت خزفاً! وعلى أحد جانبي الدينار مكتوب: «ولاتحسبنّ اللّه غافلًا عمّا يعمل الظالمون» الآية، وعلى الجانب الآخر: «وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقبلون» فرموها في بردى «1».». «2»

أمّا الخوارزمي فقد روى نظير هذه القصة، حيث قال: «وروي: أنّ رأس الحسين عليه السلام لمّا حُمل إلى الشام، جنَّ عليهم الليل فنزلوا عند رجلٍ من اليهودِ، فلمّا شربوا وسكروا قالوا له: عندنا رأس الحسين!

فقال لهم: أروني إيّاه!

فأروه إيّاه بصندوق، يسطع منه النور إلى السماء! فعجب اليهودي، واستودعه منهم فأودعوه عنده، فقال اليهودي للرأس- وقد رآه بذلك الحال-: إشفع لي عند جدّك! فأنطق اللّه الرأس وقال: إنّما شفاعتي للمحمّدييّن، ولستَ بمحمّدي!

مع الركب

الحسينى (ج 5)، ص: 194

فجمع اليهودي أقرباءه، ثمّ أخذ الرأس ووضعه في طست، وصبّ عليه ماء الورد، وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثم قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمّد!

ثمّ قال: وا لهفاه! لم أجد جدّك محمّداً فأُسلم على يديه! ثمّ وا لهفاه! لم أجدك حيّاً فأُسلم على يديك وأقاتل دونك! فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيامة؟

فأنطق اللّه الراس، فقال بلسان فصيح: إن أسلمتَ فأنا لك شفيع!

قالها ثلاث مرّات، وسكت، فأسلم الرجل وأقرباؤه!

وقال الخوارزمي: لعلّ هذا الرجل اليهودي كان راهب «قنسرين» لأنّه أسلم بسبب رأس الحسين عليه السلام، وجاء ذكره في الأشعار، وأورده الجوهري والجرجاني في مراثي الحسين كما سيرد عليك في موضعه إن شاء اللّه.». «1»

ونقول: لامانع من أن تتكرر قصة اهتداء راهب يهودي أو نصراني، وتتشابه الواقعة في أكثر من منزل، كما أنّه لا دليل على انحصارها في منزل واحد ومع راهب واحد! مع العلم أنّ الطرق الخارجية التي تمتد بين المدن الرئيسة يومذاك كانت تكثر فيها الصوامع والأديرة!

وينقل السيد هاشم البحراني (ره) عن الطريحي (ره) فيقول: «روى الثقاة عن أبي سعيد الشامي قال: كنت ذات يوم مع القوم اللئام الذين حملوا الرؤوس والسبي إلى دمشق، لمّا وصلوا إلى دير النصارى فوقع بينهم أنّ نصر الخزاعي قد جمع عسكراً ويريد أن يهجم عليهم نصف الليل، ويقتل الأبطال، ويجدّل الشجعان، ويأخذ الرؤوس والسبي، فقال رؤساء العسكر من عِظم اضطرابهم:

نلجأ الليلة إلى الدير ونجعله كهفاً لنا. لأنّ الدير كان لايقدر أن يتسلّط عليه العدوّ.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 195

فوقف الشمر وأصحابه على باب الدير، وصاح بأعلى صوته: يا أهل الدير!

فجاءهم القسيس الكبير، فلمّا رأى العسكر قال لهم: من أنتم!؟ وما تريدون!؟

فقال الشمر: نحن من عسكر

عبيداللّه بن زياد، ونحن سائرون من العراق إلى الشام.

فقال القسيس: لأيّ غرض؟

قال: كان شخص بالعراق قد تباغى، وخرج على يزيد، وجمع العساكر! فعقد يزيد عسكراً عظيماً فقتلوهم، وهذه رؤوسهم، وهؤلاء النساء سباياهم!

قال الراوي: قال: فنظر القسيس إلى رأس الحسين عليه السلام وإذا بالنور ساطع منه! والضياء لامع قد لحق بالسماء! فوقع في قلبه هيبة منه.

فقال القسيس: ديرنا ما يسعكم، بل أدخلوا الرؤوس والسبي إلى الدير، وحيطوا أنتم من خارج، إن دهمكم عدوّ فقاتلوه، ولاتكونوا مضطربين على السبي والرؤوس. قال: فاستحسنوا كلام القسيس صاحب الدير، وقالوا: هذا هو الرأي!

فحطّوا رأس الحسين في صندوق، وقفل عليه، وأدخلوه إلى داخل الدير والنساء وزين العابدين عليه السلام، وصاحب الدير حطّهم في مكان يليق بهم.

قال الراوي: ثمّ إنّ صاحب الدير أراد أن يرى الرأس الشريف، فجعل ينظر حول البيت الذي فيه الصندوق، وكان له رازونة، فحطّ رأسه فى تلك الرازونة فرأى البيت يُشرق نوراً! ورأى أنّ سقف البيت قد انشقّ! ونزل من السماء تخت عظيم والنور يسطع من جوانبه، وإذا بامرأة أحسن من الحور جالسة على التخت، وإذا بشخصٍ يصيح: أطرقوا ولاتنظروا، وإذا قد خرج من ذلك البيت نساء، فإذا حوّاء، وصفيّة، وزوجة إبراهيم أمّ اسماعيل، وراحيل أمّ يوسف، وأمّ موسى، وآسية، ومريم، ونساء النبيّ.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 196

قال الراوي: فأخرجوا الرأس من الصندوق، وكلُّ من تلك النساء واحدة بعد واحدة يقبّلن الرأس الشريف، فلمّا وقعت النوبة لمولاتي فاطمة الزهراء عليها السلام غشي على بصر صاحب الدير، وعاد لاينظر بالعين، بل يسمع الكلام، وإذا قائلة تقول:

السلام عليك يا قتيل الأمّ، السلام عليك يا مظلوم الأمّ، السلام عليك يا شهيد الأمّ، السلام عليك يا روح الأمّ، لايداخلك همّ وغمّ، فإنّ اللّه

سيفرّج عنّي وعنك ويأخذ لي بثأرك.

قال: فلمّا سمع الديرانيّ البكاء من النساء اللاتي نزلن من السماء اندهش ووقع مغشيّاً عليه، فلما أفاق من ذلك البكاء وإذا بالشخص نزل إلى البيت وكسر القفل والصندوق واستخرج الرأس وغسله بالكافور والمسك والزعفران، ووضعه في قبلته، وجعل ينظر إليه ويبكي ويقول: يا رأس رؤوس بني آدم، ويا عظيم، ويا كريم جميع العوالم! أظنّك أنت من الذين مدحهم اللّه في التوراة والإنجيل، وأنت الذي أعطاك فضل التأويل، لأنّ خواتين سادات الدنيا والآخرة يبكين عليك ويندبنك!

أمّا أنا أريد أن أعرفك باسمك ونعتك!

فنطق الرأس بإذن اللّه وقال: أنا المظلوم! أنا المقتول! أنا المهموم! وأنا المغموم! وأنا الذي بسيف العدوان والظُلم قتلت! أنا الذي بحرب أهل الغيّ ظُلمت!

فقال صاحب الدير: باللّه أيها الرأس زدني!

فقال الرأس: إنْ كنت تسأل عن حالتي ونسبي؟ أنا ابن محمّد المصطفى! أنا ابن عليّ المرتضى! أنا ابن فاطمة الزهراء! أنا ابن خديجة الكبرى! وأنا ابن العروة الوثقى!

أنا شهيد كربلاء! أنا مظلوم كربلاء! أنا قتيل كربلاء! أنا عطشان كربلاء! أنا ظمآن كربلاء! أنا مهتوك كربلاء!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 197

قال الراوي: فلمّا سمع صاحب الدير من رأس الحسين عليه السلام هذا الكلام جمع تلامذته ومريديه، وحكى لهم هذه الحكاية، وكانوا سبعين رجلًا، فضجّوا بالبكاء والنحيب، ونادوا بالويل والثبور، ورموا العمائم من رؤوسهم، وشقّوا أزياقهم، وجاءوا إلى سيّدنا ومولانا علي بن الحسين، زين العابدين عليه السلام، ثمّ قطعوا الزنّار وكسروا الناقوس! واجتنبوا أفعال اليهود والنصارى، وأسلموا على يديه، وقالوا: يا ابن رسول اللّه! مُرنا أن نخرج إلى هؤلاء القوم الكفرة ونقاتلهم ونجلي صدأ قلوبنا ونأخذ بثأر سيّدنا! فقال لهم الإمام:

لا تفعلوا ذلك، فإنّهم عن قريب ينتقم اللّه منهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

فردّوا

أصحاب الدير عن القتال.». «1»

3- الانبياء والملائكة يزورون الرأس المقدّس ..... ص : 197

قال السيّد ابن طاووس (ره): «روى ابن لهيعة وغيره حديثاً أخذنا منه موضع الحاجة، قال: كنتُ أطوف بالبيت فإذا أنا برجل يقول: أللّهمّ أغفر لي وماأراك فاعلًا!

فقلتُ له: يا عبداللّه، إتّقِ اللّه ولاتقل مثل هذا! فإنّ ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمطار وورق الأشجار فاستغفرت اللّه غفرها لك فإنّه غفور رحيم!

قال: فقال لي: تعال حتّى أخبرك بقصّتي!

فأتيته، فقال: إعلم أنّا كنّا خمسين نفراً ممّن سار مع رأس الحسين عليه السلام إلى الشام، فكنّا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت، وشربنا الخمر حول التابوت! فشرب أصحابي ليلة حتّى سكروا ولم أشرب معهم، فلمّا جنّ الليل سمعتُ رعداً

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 198

ورأيتُ برقاً، فإذا أبواب السماء قد فُتحت! ونزل آدم عليه السلام، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ونبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله وعليهم أجمعين، ومعهم جبرئيل وخلق من الملائكة، فدنا جبرئيل من التابوت وأخرج الرأس وضمّه إلى نفسه وقبّله، ثمّ كذلك فعل الأنبياء كلّهم، وبكى النبيّ صلى الله عليه و آله على رأس الحسين عليه السلام وعزّاه الأنبياء، وقال له جبرئيل عليه السلام: يا محمّد! إنّ اللّه تبارك وتعالى أمرني أن أطيعك في أمّتك، فإن أمرتني زلزلتُ بهم الأرض، وجعلت عاليها سافلها كما فعلتُ بقوم لوط!

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: لا يا جبرئيل! فإنّ لهم معي موقفاً بين يدي اللّه يوم القيامة! ثمّ جاء الملائكة نحونا ليقتلونا، فقلت: الأمانَ الأمانَ يا رسول اللّه!

فقال: إذهب فلا غفر اللّه لك!». «1»

4- تكريت «2» ..... ص : 198

ينقل الطريحي عن مسلم الجصّاص قوله: «فلمّا وصلوا إلى تكريت أنفذوا إلى صاحب البلد أن تلقّانا (كذا) فإنّ معنا رأس الحسين وسباياه! فلمّا أخبرهم الرسول بذلك نشرت الأعلام وخرجت الغَلَمة يتلقّونهم!

فقالت النصارى: ما هذا؟

فقالوا: رأس الحسين!

فقالوا:

هذا رأس ابن بنت نبيّكم!؟

قالوا: نعم.

قال فعظم ذلك عليهم، وصعدوا إلى بيعهم وضربوا النواقيس تعظيماً للّه ربّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 199

العالمين! وقالوا: أللّهم إنّا إليك بُراء ممّا صنع هؤلاء الظالمون!». «1»

وقال القندوزي: «فلمّا وصلوا إلى بلد تكريت نشرت الأعلام وخرج الناس بالفرح والسرور! فقالت النصارى للجيش: إنّا براء ممّا تصنعون أيها الظالمون! فإنكم قتلتم ابن بنت نبيّكم وجعلتم أهل بيته أسارى!». «2»

المشاهد المقدّسة في منازل الطريق ..... ص : 199
1- مشهد النقطة في الموصل! ..... ص : 199

لم يُذكر في واحد من الكتب التاريخية المعتبرة على مستوى التحقيق أنّ أهل البيت عليهم السلام في الطريق من الكوفة إلى الشام قد مرّوا بمدينة الموصل، وقد تجنّب بعض المحققّين والمؤرّخين الخوض في صدد صحة أو عدم صحة هذا المدّعى، ومن ذكرها منهم ذكرها على نحو النقل عمّن ذكرها، فالمرحوم الشيخ عبّاس القمّي مثلًا يقول ما هذا نصّه: «وأمّا مشهده بالموصل، فهو كما في روضة الشهداء «3» ما ملخّصه: أنّ القوم لمّا أرادوا أن يدخلوا الموصل أرسلوا إلى عامله أن يهيي ء لهم الزاد والعلوفة، وأن يزيّن لهم البلدة، فاتّفق أهل الموصل أن يهيئوا لهم ما أرادوا، وأن يستدعوا منهم أنْ لايدخلوا البلدة، بل ينزلون خارجها، ويسيرون من غير أن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 200

يدخلوا فيها، «1» فنزلوا ظاهر البلد على فرسخ منها، ووضعوا الرأس الشريف على صخرة، فقطرت عليها قطرة دم من الراس المكرّم، فصارت تشع «2» ويغلي منها الدم كلّ سنة في يوم عاشوراء! وكان الناس يجتمعون عندها من الأطراف ويقيمون مراسم العزاء والمآتم في كلّ عاشوراء، وبقي هذا إلى أيّام عبدالملك بن مروان فأمر بنقل الحجر، فلم يُرَ بعد ذلك منه أثر، ولكن بنوا على ذلك المقام قبّة سمّوها مشهد النقطة.». «3»

2- مشهد النقطة في نصيبين «4» ..... ص : 200

ويقول الشيخ عبّاس القمّي: «وأمّا السانحة التي وقعت بنصيبين: ففي الكامل للبهائي ما حاصله: أنّهم لمّا وصلوا إلى نصيبين أمر منصور بن الياس بتزيين البلدة، فزيّنوها بأكثر من ألف مرآة، فأراد الملعون الذي كان معه رأس الحسين عليه السلام أن يدخل البلد فلم يطعه فرسه! فبدّله بفرس آخر فلم يُطعه! وهكذا فإذا بالرأس الشريف قد سقط إلى الأرض، فأخذه إبراهيم الموصلي، «5» فتأمّل فيه فوجده رأس الحسين عليه السلام، فلامهم ووبخّهم فقتله

أهل الشام، ثمّ جعلوا الرأس في خارج البلد ولم يُدخلوه به.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 201

قلتُ: ولعلّ مسقط الرأس الشريف صار مشهداً.». «1»

وفي كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات: «في مدينة نصيبين مشهد النقطة، يُقال إنّه من دم رأس الحسين عليه السلام، وفي سوق النشّابين مشهد الرأس فإنّه عُلِّق هناك لمّا عبروا بالسبي إلى الشام!». «2»

3- مشهد النقطة في حماة! ..... ص : 201

ويقول الشيخ عباس القمّي (ره): «وأمّا المشهد الذي كان بحماة: «3» ففي بعض الكتب «4» نقلًا عن بعض أرباب المقاتل أنه قال: لمّا سافرت إلى الحجّ فوصلت إلى حماة رأيت بين بساتينها مسجداً يسمّى مسجد الحسين عليه السلام! قال: فدخلت المسجد فرأيت في بعض عماراته ستراً مسبلًا من جدار، فرفعته ورأيت حجراً منصوباً في جدار، وكان الحجر مؤرّباً فيه موضع عنق رأسه أثر فيه، وكان عليه دم منجمد! فسألت من بعض خدّام المسجد: ما هذا الحجر والأثر والدم؟

فقال لي: هذا الحجر موضع رأس الحسين عليه السلام، فوضعه القوم الذين يسيرون به إلى دمشق ...». «5»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 202

4- هل هناك مشهد للرأس المقدّس بحمص؟ ..... ص : 202

يقول المرحوم الشيخ عبّاس القمّي: «وأمّا مشهد الرأس بحمص فما ظفرتُ به! كما أنّي لم أظفر بمشهد الرأس من كربلاء إلى عسقلان!

نعم، في جنب الباب الشمالي من صحن مولانا أبي عبداللّه الحسين عليه السلام مسجد يُسمّى مسجد رأس الحسين عليه السلام وفي ظهر الكوفة عند قائم الغري مسجد يسمّى بمسجد الحنّانة فيه يستحب زيارة الحسين عليه السلام لأن رأسه عليه السلام وضع هناك.». «1»

5- مشهد النقطة في حلب! «2» ..... ص : 202

يقول صاحب كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب: «وفي سنة إحدى وستين قُتل الحسين عليه السلام بكربلاء، واحتزَّ رأسه الشريف شمر بن ذي الجوشن، وسار به وبمن معه من آل الحسين إلى يزيد في دمشق، فمرَّ بطريقه على حلب، ونزل به عند الجبل ووضعه على صخرة من صخراته، فقطرت منه قطرة دم بُني على أثرها مشهد عُرف بمشهد النقطة». «3»

وقال أيضاً: «قلت: ذُكر أنّ سبب بناء مشهد النقطة هو أنّ رأس الحسين لمّا وصلوا به إلى هذا الجبل وضعوه على الأرض فقطرت منه قطرة دم فوق صخرة، بنى الحلبيون عليها هذا المشهد، وسُمّي مشهد النقطة، ولعلّ هذه الصخرة نُقلت

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 203

من هذا المشهد بعد خرابه إلى محراب مشهد الحسين فبُني عليها ...». «1»

6- مشهد السقط في حلب! ..... ص : 203

قال الحموي: «وفي غربيّ البلد في سفح جبل جوشن «2» قبر المحسن بن الحسين، يزعمون أنه سقط لمّا جيي ء بالسبي من العراق ليحمل إلى دمشق، أو طفل كان معهم بحلب دفن هنالك.». «3»

وقال أيضاً: «جوشن جبل في غربي حلب، ومنه كان يُحمل النحاس الأحمر وهو معدنه، ويقال إنه بَطَل منذ عبر عليه سبي الحسين بن علي ونساؤه، وكانت زوجة الحسين حاملًا فأسقطت هناك، فطلبت من الصنّاع في ذلك الجبل خبزاً وماء، فشتموها ومنعوها! فدعت عليهم، فمن الآن من عمل فيه لايربح.». «4»

وقال الغزّي: «وممّا يُلحق بهذه المحلّة (أي محلّة الكلامته) مشهد محسن، ومشهد الحسين. فأمّا مشهد محسن فيعرف بمشهد الدكّة ومشهد الطرح، وهو غربيّ حلب، سُمّي بهذا المكان لأنّ سيف الدولة بن حمدان كان له دكّة على الجبل المُطلّ على موضع المشهد، يجلس عليها لينظر إلى حلبة السباق فإنّها كانت تُقام بين يديه هناك.

وعن تاريخ ابن أبي طيّ: أنّ مشهد

الدكّة ظهر في سنة 351 ه، وأنّ سبب ظهوره هو أنّ سيف الدولة كان في إحدى مناظره التي بداره خارج المدينة فرأى

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 204

نوراً ينزل على مكان المشهد وتكرر ذلك، فركب بنفسه إلى ذلك المكان، وحفره فوجد حجراً عليه كتابة: هذا قبر المحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فجمع سيف الدولة العلويين وسألهم هل كان للحسين ولد إسمه المحسن؟ فقال بعضهم: ما بلغنا ذلك، وإنّما بلغنا أنّ فاطمة كانت حاملًا فقال لها النبيّ صلى الله عليه و آله: في بطنك محسن! فلمّا كان يوم البيعة هجموا على بيتها لإخراج عليّ إلى البيعة فأحدجت! ...». «1»

«وقال بعضهم: إنّ سبي نساء الحسين لمّا مرّوا بهنّ على هذا المكان طرحت بعض نسائه هذا الولد. فإنّا نروي عن آبائنا أنّ هذا المكان سُمِّي بجوشن لأن شمر ابن ذي الجوشن نزّل عليه السبي والرؤوس، وكان معدناً يُستخرج منه الصفر، وإنّ أهل المعدن فرحوا بالسبي فدعت عليهم زينب بنت الحسين (هكذا)، ففسد ذلك المعدن.

فقال سيف الدولة: هذا الموضع قد أذن اللّه بإعماره، فأنا أُعمّره على اسم أهل البيت ..». «2»

وقال السيّد المقرّم (ره): «وبالقرب من حلب مشهد يُعرف ب «مسقط السقط»، وذلك أنّ حرم الرسول صلى الله عليه و آله لمّا وصلوا إلى هذا المكان أسقطت زوجة الحسين سقطاً كان يُسمّى محسناً!». «3»

وقال الشيخ عبّاس القمّي (ره): «وإنّي قد تشرّفت بزيارة هذا المشهد الشريف في مرجعي من زيارة بيت اللّه الحرام في سنة 1342 ه، وقد شاهدت عمارة المشهد الشريف، وكانت مبنيّة من صخور عظيمة في نهاية الإتقان والإستحكام،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 205

ولكنّ الأسف أنّها لإجل المحاربة الواقعة بحلب تهدمت بنيانها، فهي الآن مخروبة منهدمة ساقطة حيطانها

على سقوفها، خاوية على عروشها ..». «1»

7- مشهد الرأس المقدّس في عسقلان!! ..... ص : 205

قال الشيخ عبّاس القمي (ره): «وأمّا مشهد الرأس الشريف بعسقلان ففي بعض الكتب «2» أنّه مشهور!». «3»

ولْنَعُدِ الآن إلى قنسرين وقصة راهبها! ..... ص : 205

قال النطنزي في الخصائص: «لمّا جاءوا برأس الحسين ونزلوا منزلًا يُقال له قنسرين، إطّلع راهب من صومعته إلى الرأس فرأى نوراً ساطعاً يخرج من فيه ويصعد إلى السماء! فأتاهم بعشرة آلاف درهم، وأخذ الرأس وأدخله صومعته، فسمع صوتاً ولم يَر شخصاً قال: طوبى لك! وطوبى لمن عرف حرمته!

فرفع الراهب رأسه وقال: يا ربّ بحقّ عيسى! تأمر هذا الرأس بالتكلّم معي! فتكلّم الرأس وقال: يا راهب! أيّ شي ء تريد؟

قال: من أنت؟

قال: أنا ابن محمّد المصطفى! وأنا ابن عليّ المرتضى! وأنا ابن فاطمة الزهراء! وأنا المقتول بكربلاء! أنا المظلوم! أنا العطشان! فسكت.

فوضع الراهب وجهه على وجهه، فقال: لا أرفع وجهي عن وجهك حتى

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 206

تقول: أنا شفيعك يوم القيامة!

فتكلّم الرأس وقال: إرجع إلى دين جدّي محمّد صلى الله عليه و آله.

فقال الراهب: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه.

فقبل له الشفاعة، فلمّا أصبحوا أخذوا منه الرأس والدراهم، فلمّا بلغوا الوادي نظروا الدراهم قد صارت حجارة!». «1»

وقد ذكر الطريحي قصة راهب مع الرأس المقدّس أيضاً تشبه قصة راهب قنسرين، لكنّه ذكر أنّ مكان هذه القصة كان قريباً (نحو ستة أميال) من بعلبك! «2»

تكلّم الرأس المقدّس مع الحارث بن وكيدة «3» ..... ص : 206

روى ابن رستم الطبري بسنده عن سعد بن أبي خيران (طيران)، عن الحارث بن وكيدة قال: «كنت فيمن حمل رأس الحسين فسمعته يقرأ سورة الكهف! فجعلت أشكّ في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبداللّه!

فقال لي: يا ابن وكيدة! أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربّنا نرزق!

فقلتُ في نفسي: أسرق رأسه!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 207

فنادى: يا ابن وكيدة! ليس لك إلى ذاك سبيل، سفكهم دمي أعظم عند اللّه من تسييرهم رأسي، فذرهم فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل

يُسحبون!». «1»

وعلى مقربة من دمشق! ..... ص : 207

قال السيّد ابن طاووس (ره): «وسار القوم برأس الحسين عليه السلام والأُسَراء من رجاله، فلمّا قربوا من دمشق دنت أمّ كلثوم من شمر وكان من جملتهم.

فقالت له: لي إليك حاجة!

فقال: ما حاجتك!؟

قالت:

إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظّارة، وتقدّم إليهم أن يُخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل، ويُنحّونا عنها فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال!

فأمر في جواب سؤالها أنْ يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً!! وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة حتّى أتى بهم باب دمشق!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 208

اليوم الذي ورد فيه الركب الحسينيّ دمشق ..... ص : 208

قال المرحوم الشيخ عبّاس القمّي: «قال الشيخ الكفعمي، «1» وشيخنا البهائي، «2» والمحدّث الكاشاني: «3» في أوّل صفر أُدخل رأس الحسين عليه السلام إلى دمشق، وهو عيد عند بني أميّة، وهو يوم تتجدّد فيه الأحزان:

كانت مآتم بالعراق تعدّها أمويّة بالشام من أعيادها

وحكي أيضاً عن أبي ريحان في الآثار الباقية «4» أنه قال: في اليوم الأوّل من صفر أُدخل رأس الحسين عليه السلام مدينة دمشق ...». «5»

الجزء السادس

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة (الجزء السادس)

مقدّمة مركز الدراسات الإسلامية ..... ص : 3

التابع لممثلية الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ودليلًا على نعمه وآلائه، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد: فهذا هو الجزء السادس والأخير من موسوعتنا التاريخية (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة). ويدور هذا الجزء حول المقاطع الأخيرة من هذه الدراسة وهي:

1- الركب الحسيني في الشام.

2- عودة الركب الطاهر إلى كربلاء.

3- رجوع أهل البيت إلى المدينة. إذن هذا الجزء يتناول مرحلة ما بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه؛ ومن ثمّ فهو يعنى أيضاً بمعرفة نتيجة هذه المسيرة التي سارها هذا الركب الطاهر، ومن هو المنتصر حقاً؛ لذلك أفرد المؤلّف الفاضل فصلًا مستقلًا تحت عنوان «المظلوم ينتصر» بيّن فيه كيف أنّ نتيجة هذا الصراع الدامي كانت لصالح الحسين المظلوم عليه السلام، وأنّ نقطة انقلاب المعادلة بدأت بمجرّد وصول الأسارى من آل بيت الرسول صلى الله عليه و آله إلى الشام وقصر يزيد. ومن هنا استحقّت أن يطلق عليها اسم

«المسيرة المظفّرة».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 4

ولما كانت الشام مركز الحكم الذي أمر بارتكاب هذه الجريمة النكراء، وبقي آل الرسول فيها مدّة شهدوا خلالها حوادث ووقائع، وألقوا هم فيها بدورهم خطباً بقيت تدوّي في آذان الدهر، وأدّوا أدواراً ...

رأى المؤلّف الفاضل إعطاء صورة عن الشام ووضعها قبل ورود أهل البيت، وكذلك عن حكّامها- ويزيد بالخصوص ومسؤوليّته في الموضوع- ليكون الباحث على معرفة بخلفية القضايا التي يتناولها الكتاب.

وهكذا تمّ في هذا الجزء ربط الختام بالمطلع، كما يقال.

ونحمد اللَّه تعالى على أن وفّقنا في المبدأ والمآل.

بيد أنّ النقطة التي نرى من واجبنا الإشارة إليها هي أنّ المؤلّف الفاضل سعى لأن يكون كتابه جامعاً في تناوله لمواضيعه فالتقط كلّ ما له علاقة بأبحاث الكتاب، ونحن لا يسعنا في هذا المقام إلّاأن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى سماحة المؤلّف المحترم الشيخ الأميني- حفظه اللَّه- وكلّ الإخوة الذين آزرونا في مراجعة وتنظيم هذا البحث القيم والأجزاء الأخرى من هذا الكتاب، ونسأل اللَّه أن يتقبل منا جميعاً وأن يوفّقنا لما فيه رضاه، إنّه خير ناصر ومعين.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

مركز الدراسات الإسلامية

التابع لممثلية الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 5

مقدمه المؤلف: المسيرة المظفّرة في فصلها الأخير ..... ص : 5

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

إنّها مسيرة مظفّرة، تحمل رسالة خالدة، إلى أُناس تعرّفوا على الدِّين من طريق حكّامهم الطواغيت، آخذين بأقوالهم، ممتثلين أوامرهم، تاركين نواهيهم، معتقدين أنّهم خلفاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، زاعمين أنّ كلّ صوت يُرفع بوجههم لابدّ أن يُخمد، وكلّ من يقف أمامهم لابدّ أن يُقتل، يحسبون أنّ كلّ حركة تتحرّك نحو إيقاظ شعور الأمّة فتنة، وقادتها أرباب الفتنة! والفتنة لابدّ أن تُخمد! وكلّ

مَنْ يعارض السلطة الحاكمة خارجيّ، لابدّ أن يُقطع رأسه ويُدار به بالبلدان! ويُصلب في قلب العاصمة، ويُسبى أهله ويُطاف بهم البلاد، لكي يتعلّم الجميع أنّه ليس لديهم إلّاالصمت والالتزام بما يراه الخليفة المتغلِّب على الحكم مهما كان، وبلغ ما بلغ!

وإلى أُناس تعرّفوا على إسلام أمويّ في ظلّ حكمٍ دمويّ! ولم يعرفوا أيّ حقّ لآل بيت نبيّهم صلى الله عليه و آله، بل لم يعرفوا من هو المقتول؟ ومن أبوه وجدّه؟ فكيف يدرون لماذا قُتل؟ وما الذي دعاه لهذه النهضة الدامية؟

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 8

أجل، إنّهم لم يكونوا يعلمون إلّاكلمة واحدة تعلّموها من وعّاظ سلاطينهم- أصحاب الزمرة المتسلّطة الجائرة الفاسدة- وهي أنّ هؤلاء القتلى خرجوا على أمير المؤمنين يزيد!

لهذه المسيرة رسالتان؛ الأولى إلى شعب ضائع جاهل بالواقع، قد تربّى على نهج بني أميّة، وأخرى إلى عامّة الأمّة الإسلامية الكبرى، الزاعمة أنّ الحكم لمن غلب!.

وتهدف الرسالتان لبثّ الروح في ضمير هؤلاء الناس، وإحيائهم بعد أن ماتوا معنويّاً، وإيقاظهم من رقدتهم، واستنهاضهم للوقوف بوجه كلّ حاكم جابر وصل بالغلبة إلى السلطة، فاقد لشرائط الحكم والإمامة، وذاك لعمري هو الإصلاح في أمّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كما صرّح به سيّد الشهداء وقائد الأحرار الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام في مقولته الشهيرة: «وإنّما طلبت الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه و آله» «1»

.وهذا المهمّ تبنّته هذه المسيرة، وعلى رأسها ابن قائد النهضة: الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام وأخته العقيلة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين عليهما السلام، وقد نهضا بها على أحسن وجه وفوق ما يُتصوّر، حتّى انقلبت المعادلة والركب ما زال في قلب العاصمة، ولم يكن ليزيد اللعين بدٌّ إلّاالبكاء تصنّعاً، والتظاهر

بلعن ابن مرجانة والبراءة منه، وإبراز تأسّفه على ما جرى! وإعادة بقيّة عترة الرسول صلى الله عليه و آله إلى المدينة المنوّرة، إبقاءً على حكمه وخوفاً على زوال سلطته، وهذا ما سنتوفّر عليه خلال قراءتنا لهذه القطعة من تاريخ النهضة الحسينيّة المباركة، إن شاء اللَّه. والسلام

محمّد أمين الأمينيّ (پور أميني)

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 9

المدخل: الشام وحكّامها الأمويّون ..... ص : 9

اشارة

التعرّف على الشام من الجهات الجغرافية والطبيعيّة والاجتماعية والتأريخية، ومعرفة حكّامها في تلك الفترة- أي بني أُميّة- وطبيعة حكمهم وجذور علاقتهم بالشام ولاسيّما حاكمها آنذاك يزيد بن معاوية ... يعطينا آفاقاً جديدة ورؤىً واضحة لمعرفة جذور ما يواجهنا حينما نقرأ هذا المقطع من التاريخ، إذاً من الأجدر أن نتوقّف عند هذه المحطّة قبل متابعة مسيرة الركب الطاهر.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 11

المدخل

الشام وحكّامها الأمويّون

التعريف بالشام ..... ص : 11
اشارة

الشام اسم يتناول عامّة الأقاليم الداخلة اليوم في سورية ولبنان وفلسطين.

وللّغويّين والجغرافيّين في سبب تسميته شاماً آراء مختلفة، فقيل: سمّي بسام بن نوح لأنّه نزل به واسمه بالسريانيّة شام بشين معجمة. وقيل: لأنّ أرضه مختلفة الألوان بالحمرة والسواد والبياض فسمّي شاماً لذلك كما يسمَّى الخال في بدن الإنسان شامة، وقيل: سمّي شاماً لأنّه عن شمال الكعبة، والشام لغة في الشمال «1».

وهو قطرٌ تأخذ فيه الفصول الأربعة حكمها وتتمّ في قيعانه وجباله أسباب النعيم. معتدل الأهوية، متهاطل الأمطار والثلوج، ممرع التربة، فيه الغابات والمعادن والحمّامات المعدنية والأنهار الجارية والبحيرات النافعة والأجواء البهيجة والرباع المنبسطة والمناظر المدهشة. فيه تنبت الحبوب والبقول والأشجار على اختلاف أنواعها. «2»

من خواصّ الشام ..... ص : 11

قيل: إنّ من خواصّها الطاءات الثلاث: الطعن والطاعة والطاعون، أمّا الطعن فمشهور أنّ أجنادها شجعان، وأمّا الطاعة فما يضرب به المثل حتّى قيل إنّما تمشّى الأمر لمعاوية لأنّه كان في أطوع جند، وكان عليّ عليه السلام في أعصى جند وهم أهل العراق، وأمّا الطاعون فكثير الحدوث فيها.. «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 12

ومن الخصائص التي امتازت بها الشام- وما تزال- تعايش أصحاب الديانات والقوميّات المختلفة- كالروم والرومان، والفرس والعرب..- فيه. «1»

الشام مدخل الفاتحين ..... ص : 12

جاء الفاتحون الشام بحراً وبرّاً، ... بل من جهاتها الأربع، فجاءها الفراعنة من البحر والبرّ، والبابليّون والفرس من الشرق والشمال، والإسكندر والصليبيّون والعثمانيّون من الشمال، وغازان وهولاكو وتيمورلنك من الشرق، والعرب الفاتحون من الشرق والجنوب، ونابليون من الجنوب ومن الغرب بحراً و ... «2».

وخضعت دمشق للآشوريّين إلى سنة 721 حين استولى البابليّون والفرس عليها، ثمّ جاهر أهلها مع سائر السوريّين بالعصيان على بختنصر.. وفي سنة 331 ق. م استولى إسكندر ذو القرنين عليها، ثمّ صارت من مملكة السلوقيّين اليونانية إلى زمن استيلاء الرومان عليها سنة 64 ق. م. وفي سنة 59 ق. م قُتل فيها كثير من الإسرائيليّين، وفي نحو سنة 20 ق. م عاد الإسرائيليّون إليها، وفي نحو سنة 37 للميلاد أتاها بولس وكان مستولياً عليها وقتئذٍ موقّتاً الحارث الغسّانيّ العربيّ حمو هيرودرس الكبير.. ولمّا تنصّرت الدولة الرومانية ذاعت النصرانية في دمشق وأمر يثودوسيوس بإبطال عبادة الأصنام.. وفي برهة وجيزة تنصّر أهلها جميعاً خلا الإسرائيليّين منهم، وسنة 540 للميلاد فتحها الفرس.. وعادت بعد برهة قصيرة إلى المملكة الرومانية وكان عمّالهم فيها بنو غسان، وسنة 633 ميلادية فتحها المسلمون.. واستعمل عليها عمر معاوية بن أبي سفيان، وكانت مدّة إمارته عليها

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 13

عشرين سنة، وسنة (41)

بايعه الناس! بالخلافة، فهو مؤسّس الدولة الأمويّة التي جعلت دمشق قاعدة المماليك الإسلامية، وظلّت كذلك إلى سنة 132 هجرية.. «1».

فتح الشام ..... ص : 13

كانت الشام من أوّل الأقطار التي فكّر الرسول صلى الله عليه و آله في أمرها لنشر كلمة التوحيد وبثّ الدعوة إلى الإسلام، وكانت تحت حكم الرومان منذ سبعة قرون، وملكها صاحب مملكة بيزنطية أو مملكة الروم الشرقية ويُعرف باسم هرقل، وكانت علائق عرب الحجاز في الجاهلية كثيرة جدّاً مع أهل هذا القطر.

بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ بدومة الجندل جمعاً كثيراً يريدون أن يدنوا من المدينة وهي طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليالٍ، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة، فندب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الناس واستخلف على المدينة وخرج في ألف من المسلمين فكان يسير الليل ويكمن النهار.. إلى أن صالحهم النبيّ صلى الله عليه و آله على الجزية وذلك في السنة السادسة من الهجرة، ثمّ أرسل صلى الله عليه و آله كتاباً إلى هرقل- وهو بالشام- والحارث بن أبي شمر- أمير دمشق- يدعوهما إلى الإسلام، وفي السنة الثامنة للهجرة بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سريّة كعب بن عُمير الغفاريّ إلى ذات أطلاح من ناحية الشام وهي وراء وادي القرى بين تبوك وأذرعات.. وفي هذه السنة استنفر الرسولُ الناسَ إلى الشام فكانت غزوة ذات السلاسل.. ومن السرايا التي أُرسلت إلى الشام سريّة زيد بن حارثة إلى جذام بحسمى وراء وادي القرى ممّا يلي فلسطين من أرض الشام.. وفيه غزوة مؤتة التي بعث النبيّ صلى الله عليه و آله جيشاً مؤلّفاً من ثلاثة آلاف مقاتل بلغوا تخوم البلقاء فلقيتهم جموع هرقل

ومعهم العرب المتنصّرة بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فلقيتهم الروم في جمع عظيم، فاستشهد من الأمراء زيد بن حارثة ثمّ جعفر بن أبي طالب، ثمّ عبداللَّه بن رواحة..

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 14

وفي السنة التاسعة من الهجرة حصلت غزوة تبوك، وكان مع الرسول صلى الله عليه و آله ثلاثون ألفاً والخيل عشرة آلاف والجمال اثنا عشر ألفاً.. إلى أن صالح الرسول صلى الله عليه و آله نجبة بن رؤبة أسقف أيلة على البحر الأحمر، صالحه على الجزية، وصالح الرسولُ أهلَ جربا، وأذرح من أرض الشراة، صالح أهل أذرح على مائة دينار، وأهل مقنا- على مقربة من أيلة- على ثلاثمائة دينار وعلى ربع عروكهم وغزولهم وربع كراعهم.

وفي أواخر أيّام حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جهّز جيشاً إلى الشام وأمّر عليه أسامة بن زيد، وقال: لعن اللَّه من تخلّف عن جيش أُسامة.. «1».

هذا خلاصة ما جرى في عهد الرسول صلى الله عليه و آله بالنسبة إلى اهتمامه الوافر بهذا القطر، ولا يخفى أنّ داعي المسألة لم يكن إلّاإنقاذ البشرية ووضعهم على جادّة الحقيقة، وإيصالهم إلى رحمة الحقّ، وما كان هدف الرسول صلى الله عليه و آله توسيع رقعة حكمه جغرافياً، بل كان ذلك أمراً عرضيّاً تابعاً لبسط كلمة التوحيد والتفاف الناس حول راية الإسلام، وإنّما هدفه هو هداية الناس إلى اللَّه تبارك وتعالى.

بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تغيّرت الموازين تدريجيّاً وانقلبت الدواعي والحوافز شيئاً فشيئاً، وغرّت الدُّنيا كثيراً من الناس، وأصبحت الغنيمة والحصول على المناصب الدنيوية وبسط السلطة والنفوذ من أهمّ الدواعي لفتوح البلدان، وهذه نقطة مهمّة لابدّ أن نلتفت إليها ونميّز بها

غزوات الرسول صلى الله عليه و آله عمّا جرى بعده، خاصّة في ظلّ حكم بني أميّة وبني العبّاس.

يقول صاحب خطط الشام: وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله- بعد قتال أبي بكرٍ أهل الردّة- كتب أبو بكر إلى أهل مكّة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد في الشام، ويرغّبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارعَ الناسُ إليه بين

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 15

محتسبٍ وطامعٍ، فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال وهم يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص.. وقد شيّع أبو بكر يزيد بن أبي سفيان راجلًا إلى ما بعد ربض المدينة وأوصاه بوصايا.. إلى أن وصل الجيش إلى مشارف الشام فنزل في أبل وزيزاء والقسطل، وكان جيش الروم من دون زيزاء بثلث، وطلع ماهان قائد الروم وقدم قدّامه الشماسة والرهبان والقسيسين يحضّون جيش الروم على القتال، وكان هرقل وهو من عظام القوّاد أدرك الخطر ورأى لمّا أتاه الخبر بقرب جيش المسلمين أن لا يقاتلهم ويصالحهم، وقال لقومه: فواللَّه لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفاً وتقرّ بكم جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم في جبال الروم، فلمّا رآهم يعصونه ويردّون عليه بعث أخاه تيودورا وأمّر الأمراء، وأوّل وقعة كانت بين المسلمين والروم بقرية من قرى غزة يقال لها دائن في 12 ه، كانت بينهم وبين بِطْريق غزة، فاقتتلوا قتالًا شديداً، فهُزم الروم، وتوجّه يزيد بن أبي سفيان في طلب ذلك البطريق.. وانتهى إليه ستّة من قوّاد الروم.. وهُزم الروم هزمهم المسلمون.. أمّا أبو عبيدة فصالحهم، وخالد بن الوليد حاربهم.. حتّى أن فتح المسلمون جميع أرض حوران وغلبوا عليها سنة 13 ه، وأهمّ الوقائع التي انهزم فيها الروم

شرّ هزيمة ولحق فلّهم بالشمال وقعة يرموك- واليرموك نهر- فهي الوقعة الفاصلة التي هان (للمسلمين) بها الاستيلاء على القدس ودمشق وما إليها، ثمّ على حمص وحماة وحلب وما إليها من البلدان.. في حين ما كان خالد يريد الفتح والغلبة جاءه البريد يعرّفه بموت أبي بكر وخلافة عمر وتأمير أبي عبيدة على الشام كلّه وعزل خالد، فأخذ الكتاب منه وتركه في كنانته ووكّل به من يمنعه أن يخبر الناس من الأمر لئلّا يضعفوا! وتوفّي أبو بكر قبل فتح اليرموك بعشر ليالٍ، وبعد أن أُصيب الروم بالهزيمة القاطعة على اليرموك، كانت وقعة فحل من الأردن بعد خلافة عمر بن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 16

الخطّاب بخمسة عشر شهراً، ولمّا انتصر المسلمون على اليرموك كان هرقل في البيت المقدّس جاءها للاحتفال بتخليص الصليب الذي استردّه قبل ذلك فصار إلى أنطاكية، واستنفر الروم وأهل الجزيرة وبعث عليهم رجالًا من خاصّته وثقاته، فلقوا المسلمين بفحل، فقاتلوهم أشدّ قتال حتّى ظهروا (أي ظهر المسلمون) عليهم، وقُتل بطْريقهم وزهاء عشرة آلاف معه، وتفرّق الباقون من مدن الشام، ولحق بعضهم بهرقل.. ثمّ نهض المسلمون إلى الروم وهم بفحل فاقتتلوا فهزمت الروم ودخل المسلمون فحل في ذي القعدة سنة 13 ه.. وافتتح شرحبيل بن حسنة الأردن عنوة ما خلا طبرية فإنّ أهلها صالحوه.. وفتح عمرو بن العاص غزّة ثمّ سبسطية ونابلس ويبنى وعمودس و...، وظلّت القدس وقيسارية محاصرتين ولم تفتح القدس إلّاسنة خمس عشرة أي بعد فتح دمشق بسنة.. «1».

فتح دمشق ..... ص : 16

فتحها المسلمون في رجب سنة 14 للهجرة بعد حصار ومنازلة، وكان قد نزل على كلّ باب من أبوابها أمير من المسلمين، فصدّهم خالد بن الوليد من الباب الشرقيّ حتّى افتتحها عنوة، فأسرع أهل البلد إلى أبي عبيدة

بن الجرّاح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وكان كلّ منهم على ربع الجيش فسألوهم الأمان فأمنوهم، وفتحوا لهم الباب، فدخل هؤلاء من ثلاثة أبواب بالأمان، ودخل خالد من الباب الشرقي بالقهر وملكوهم.. «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 17

بنو أميّة والشام ..... ص : 17
جذور العلاقة ..... ص : 17

أميّة هو عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب..، وعبد شمس والد أُميّة هو أخو هاشم الجدّ الثاني للنبيّ صلى الله عليه و آله، قيل: وُلد هاشم وعبد شمس توأمين وإنّ أحدهما قُبل الآخر وله إصبع ملتصقة بجبهة صاحبه، فتنجّبت فسال الدم، فقيل يكون بينهما دم.. وأوّل منافرة كانت بين أميّة وعمّه هاشم أنّ هاشماً لمّا ولّي بعد أبيه عبد مناف ما كان له من السقاية والرفادة حسده أميّة على رئاسته وإطعامه، فتكلّف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز فشمتت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنّه وقدره، فلم تدَعْه قريش حتّى نافره على خمسمائة ناقة والجلاء عن مكّة عشر سنين، فرضي أميّة، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعيّ ومنزله بعسفان، فقضى لهاشم بالغلبة. وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها الناس، وغاب أميّة عن مكّة بالشام عشر سنين، فكانت هذه أوّل عداوة بينهما «1».

لو صحّ هذا النقل فهذا يعني أن هذه المسألة كانت انطلاقاً لأمرين:

الأمر الأوّل: كانت بداية العداوة بين بني أميّة وبني هاشم، بداعي الحسد، وبعد ظهور الإسلام تغيّرت الدواعي وكثرت، وحصلت آفاق جديدة في البين، وهذا ما سنبيّنه في الأبحاث الآتية.

الأمر الثاني: بداية علاقة بني أميّة بالشام، فإنّ الشام بموقعه الخاص وطبيعته الجميلة وأنهاره الكثيرة وتنوّع سكّانه أصبح موقعاً مهمّاً للتجارة، ولذلك نرى قريشاً- ومنهم أبو سفيان الأمويّ- أنشأوا الروابط الاقتصادية والتجارية مع الشام.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 18

ومن الغريب جدّاً

أنّ نرى بني أميّة- الطلقاء- يقومون بدور مهمّ في فتح الشام ويأخذون بزمام أمرها قبل الفتح ولم يتركوه حتى غُلبوا على أمرهم.

فأبو سفيان بنفسه يحضر المعركة «في مشيخة من قريش يحارب تحت راية ابنه يزيد، وكان له ولابنيه يزيد ومعاوية، بل ولجماعة من أسرته بل للنساء منهنّ اليد الطولى والكعب المعلّى في فتح الشام!.. ولقد قاتل بعض النساء بالفعل يوم اليرموك، مثل جويرية ابنة أبي سفيان وكانت مع زوجها. وكذلك هند بنت عتبة أمّ معاوية بن أبي سفيان» «1».

هذا الكلام وإن لم يخلُ من المبالغة؛ بسبب حبّ المؤلّف لمعاوية وانحرافه عن الحقّ- كما نلمسه في مطاوي كتابه- بيدَ أنّ دوافع المسألة معلومة إجمالًا، وتتمثل في حبّ بني أميّة لهذه المنطقة وتعلّقهم بها، ولا يبعد أن تكون ثمة خطّة مدروسة بدأوا بتنفيذها شيئاً فشيئاً.

إذن حضر المعركة أبو سفيان وابناه وزوجته وبعض بناته واسرته، وأصبح يزيد بن أبي سفيان حاكماً على دمشق بوعدٍ من الخليفة الذي شيّعه راجلًا إلى خارج المدينة، كما مرّ ذكره عن «الخطط»، وبقي الشام ليزيد بن أبي سفيان، لكنه لم يطل أمد ولايته، لأنّه هلك في طاعون عمواس «2»، وبعده يأتي دور أخيه معاوية بن أبي سفيان.

معاوية مؤسِّس الحكومة الأمويّة السوداء ..... ص : 18

لمّا هلك يزيد بن أبي سفيان والي دمشق سنة 18 من الهجرة، ولّى عمر بن الخطّاب أخاه معاوية بن أبي سفيان، فلم يزل والياً لعمر حتّى قُتل عمر، ثمّ ولّاه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 19

عثمان وأقرَّ عمّال عمر على الشام، فلمّا مات عبد الرحمن بن علقمة الكناني- وكان على فلسطين- ضمّ عمله إلى معاوية، وكان عمير بن سعيد الأنصاري في سنة 21 على دمشق والثنية وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة، ومعاوية على الأردن وفلسطين والسواحل وأنطاكية ومعرّة ومصرين وقيليقية،

ثمّ جعل عمير في سنة 23 على حمص ومعاوية على دمشق.

اجتمع الشام على معاوية لسنتين من إمارة عثمان، أضاف عثمان إليه حمص وحماة وقنسرين والعواصم وفلسطين مع دمشق، ورزقه ألف دينار كلّ شهر «1».

وهكذا ترسّخ الحكم الأموي في الشام في ظلّ قيادةٍ وتوجّهات جاءت خطواتها تنفيذاً لما قاله أبو سفيان بعد استقرار خلافة عثمان: «يا بني أميّة، تلقّفوها تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة» «2».

يقول صاحب الخطط: «وما زال عثمان على شيخوخته مغلوباً لمروان وبني أميّة، أخذ الناس ينقمون في الحجاز وغيره على عثمان لستّ سنين من خلافته، فاجتمع ناس من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله وكتبوا كتاباً ذكروا فيه عدّة أمور منها ما كان من هبته خُمس أفريقية لمروان، وما كان من تطاوله في البنيان حتّى عدّوا سبع دور بناها بالمدينة داراً لنائلة وداراً لعائشة وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان القصور بذي خشب وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب للَّه ولرسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمّه من بني أميّة أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور» «3»، إلى أن حصلت فتنة قتل عثمان.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 20

يقول محمّد فريد وجدي: «لمّا قُتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان وتولَّى الخلافة عليُّ بن أبي طالب وهو من قريش، حدث شقاق بين الأُسرتين الأمويّة والقرشية، وتداعى الناس إلى العصبية الجاهلية، وكان في مقدّمة النافخين في نار هذه الفتنة معاوية بن أبي سفيان الأمويّ والي الشام، فقام يطالب بدم عثمان متّهماً عليّ بن أبي طالب بالإغراء على قتله، ولمّا كانت ولايته للشام منذ عشرين سنة وأهل الشام لا يدرون

من أمر الخلافة إلّاما كان يريد لهم، التفّت حوله جموع منهم أكثرهم من شذّاذ القبائل العربية وأصحاب المطامع الذاتية، فشقّ عصا الطاعة لعليّ وادّعى لنفسه الخلافة..» «1».

لقد استفاد معاوية من جهل الناس أقصى ما يمكن مستنداً إلى مكره وشيطنته، ولقد كان أهل الشام قريبي العهد بالإسلام، ما عرفوه إلّامن خلال حكم الخلفاء وإمارة أمرائهم، وما وجدوه إلّامجسّداً في شخص معاوية المتستّر بالدين، فهو يؤمّهم بالصلاة وهم يقتدون به، يخطبهم في الجمع، ويترأسهم باسم الخلافة الإسلامية، ويدير شؤونهم في الحرب والسلم.

وانتهز معاوية الفرصة في فتنة قتل عثمان. ومع أنّه كان منصوباً من قِبله على الشام وأميراً من أمرائه لم يلبِّ دعوته لنصرته حين كتب عثمان إليه: إنّ أهل المدينة قد كفروا! وخلعوا الطاعة ونكثوا البيعة، فابعث إليّ من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كلّ صعب وذلول.

ولقد أخطأ صاحب الخطط إذ زعم أنّ معاوية تربّص به وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول اللَّه وقد علم اجتماعهم، فأبطأ أمره على عثمان حتّى قُتل «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 21

وإنّما أراد معاوية أن يبدّل الإمارة بالخلافة.

وبعد قتل عثمان تستّر بقميصه وبه رسّخ أركان حكمه وحكومة أسرته، وبثّ الفتنة في أوساط المجتمع الإسلامي، وحمل راية الشقاق والخلاف ضدّ خليفة المسلمين الشرعي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

قال في الخطط: «اغتنم معاوية هذه الفرصة السانحة في مقتل عثمان ليعيد الأمر إلى بني أميّة ويصبحوا أمراء في الإسلام!.. وكان النعمان بن بشير أتاه إلى دمشق بقميص عثمان الذي قُتل فيه مخضّباً بدمه، وبأصابع نائلة زوجته، فوضع القميص على منبر دمشق، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلّقة في أردانه، وتعاهد الرجال من أهل الشام على

قتل قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشي ء أو تفنى أرواحهم، وكان ستّون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان.. وكان عمرو بن العاص لمّا نشب الناس في أمر عثمان في ضيعة له بالسبع من حيّز فلسطين قد اعتزل الفتنة! فاستدعاه معاوية يسترشد برأيه ووعده بملك مصر إن هو ظفر بعليّ، فارتأى عمرو أن يجلب معاوية شرحبيل بن السمط الكنديّ رأس أهل الشام، فسار هذا يستقري مدنها مدينةً مدينةً يحرّض الناس على الأخذ بدم عثمان، فأجابه الناس كلّهم إلّانفراً من أهل حمص نسّاكاً، فإنّهم قالوا نلزم بيوتنا ومساجدنا وأنتم أعلم منّا..» «1».

ومن هنا انطلقت شرارة حرب صفّين، ولا مجال لذكر تفاصيلها الآن.

إسلام أمويّ وحكم دمويّ ..... ص : 21

هنا إسلام أمويّ ينطق بمنطق القهر والقوّة، برهانه السلاح، ودليله قمع كلّ من يقوم بالكفاح، ينفّذه أرباب السلطة والسيف، ويزيّنه البائعون دينهم بدنياهم، المشترون سخط الخالق برضى المخلوق.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 22

ترى مظاهر الإسلام من الصلاة والصوم والحجّ و..، لكنّها قشر بلا لبّ، وجسد بلا روح؛ فالطليق ابن الطليق يدّعي الخلافة الإسلامية ولا يعرف الناس حقّ عليّ عليه السلام حتى تشتبه المسألة على العامّة ويتأوّه أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الكلمات:

«فيا عجباً للدهر! إذ صِرتُ يُقرن بي من لم يسعَ بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحدٌ بمثلها..» «1».

وللمال دوره الهامّ في تثبيت ما يريده الحكّام، فلقد بثّوه ووزّعوه على أوساط الضعفاء والمحبّين لحلاوة الدُّنيا الناسين مرارة حساب العقبى، فأصبحوا ساكتين صامتين كأن لم يحصل شي ء ولم يحدث أيّ أمر!

«خطب معاوية يوماً بمسجد دمشق، وفي الجامع يومئذٍ من الوفود علماء قريش وخطباء ربيعة ومدارهها، وصناديد اليمن وملوكها، فقال معاوية: إنّ اللَّه تعالى أكرم خلفاءه فأوجب لهم الجنّة، فأنقذهم من النار، ثمّ جعلني منهم! وجعل

أنصاري أهل الشام الذابّين عن حرم اللَّه! المؤيَّدين بظفر اللَّه! المنصورين على أعداء اللَّه!! ... وفي الجامع من أهل العراق الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان، فقال الأحنف لصعصعة:" أتكفيني أم أقوم أنا إليه؟" فقال صعصعة:" بل أكفيكه أنا"، ثمّ قام صعصعة فقال: يابن أبي سفيان، تكلّمت فأبلغت ولم تقصر دون ما أردت، وكيف يكون ما تقول وقد غَلَبْتنا قسراً وملكتنا تجبّراً ودِنتنا بغير الحقّ، واستوليت بأسباب الفضل علينا؟!

فأمّا إطراؤك أهل الشام فما رأيت أطوع لمخلوق وأعصى لخالق منهم، قوم ابتعت منهم دينهم وأبدانهم بالمال، فإن أعطيتهم حاموا عنك ونصروك، وإن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 23

منعتهم قعدوا عنك ورفضوك..» «1».

وأكثروا وضع الأحاديث في فضل الشام حتّى كأن ليس للَّه تعالى بشي ء من الأرض حاجة إلّابها- كما قال محمد الصغاني «2»- ونشروا لزوم اتّباع كلّ أمير وحرمة الخروج عليه ودعوا إلى الصلاة خلف كلّ إمام، برّاً كان أو فاجراً، وبثّوا فضل الغزو في البحر، وتركوا الواقع الثابت، وصار حبّ عليّ وآله أكبر جرم لا يُغتفر، وسبّه على المنابر يجهر. «3»

نعم إنّ معاوية تمكّن من بسط حكمه الجائر، بفضل المال الوافر وحدّة سيفه الشاهر وقتله الأفاضل من الصحابة والتابعين الأكابر، مثل عمرو بن الحمق وحجر بن عديّ وأصحابه، كما احتجّ به الإمام الحسين عليه السلام في ضمن رسالته التي أرسلها إلى معاوية:

«ألستَ قاتل حجر بن عديّ أخي كندة وأصحابه الصالحين العابدين، كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون المنكر والبدع، ويؤثرون حكم الكتاب، ولا يخافون في اللَّه لومة لائم، فقتلتَهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنتَ أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، لا تأخذهم بحدَث كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدها في صدرك عليهم؟ أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفّرت لونه ونحلت جسمه بعد أن أمنته وأعطيته من عهود اللَّه عزّ وجلّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 24

وميثاقه ما لو أعطيته العصم ففهمته لنزلت إليك من شغف الجبال، ثمّ قتلته جرأة على اللَّه عزّوجلّ، واستخفافاً بذلك العهد؟.. أولست صاحب الحضرميّين الذين كتب إليك فيهم ابن سميّة أنّهم على دين عليّ ورأيه، فكتبت إليه: اقتل كلّ من كان على دين عليّ ورأيه، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ واللَّه وابن عليّ الذي كان يضرب عليه أباك..» «1».

فبمنطق القوّة أخذ معاوية البيعة لولده يزيد، كما اعترف بذلك الجميع ومنهم صاحب خطط الشام بقوله: «أوعز معاوية سرّاً إلى ولاة الأمصار أن يوفدوا الوفود إليه يزيّنون له إعطاء العهد لابنه يزيد، حتّى استوثق له أكثر الناس وبايعوه والسيوف مسلولة فيما قيل على رقاب الصحابة في مسجد الرسول، وبذلك أخرج معاوية الخلافة عن أصولها، وجعلها كالملك يورثها الأب ابنه أو من يراه أهلًا لها من خاصّته، أو كسروية أو قيصرية على سنّة كسرى وقيصر كما قالوا» «2».

ذكر علماء السير عن الحسن البصريّ أنّه قال: «قد كانت في معاوية هنات لو لقي أهل الأرض ببعضها لكفاهم: وثُوبه على هذا الأمر واقتطاعه من غير مشورة من المسلمين، وادّعاؤه زياداً، وقتله حجر بن عديّ وأصحابه، وبتوليته مثل يزيد على الناس» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 25

من هو يزيد؟ ..... ص : 25
اشارة

هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمّه ميسون بنت بجدل بن دلجة بن قنافة أحد بني حارثة بن جناب.

ولد سنة 25 ه وكان آدم جعداً مهضوماً أحور العين، بوجهه آثار جدريّ، حسن اللحية خفيفها «1».

لهوه ..... ص : 25

قال البلاذريّ: «المدائني والهيثم وغيرهما قالوا: كان ليزيد بن معاوية قرد يجعله بين يديه ويكنّيه أبا قيس، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصاب خطيئة فمُسخ، وكان يسقيه النبيذ ويضحك ممّا يصنع! وكان يحمله على أتان وحشيّة ويرسلها مع الخيل فيسبقها، فحمله عليها يوماً وجعل يقول:

تمسّك أبا قيس بفضل عنانها فليس عليها إن هلكت ضمان

فقد سبقت خيل الجماعة كلّها وخيل أمير المؤمنين أتان

قال المسعودي: وكان على أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مشمر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع الألوان.

قالوا: وكان يزيد همّ بالحجّ ثمّ إتيان اليمن، فقال رجل من تنوخ:

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا فحنّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة صحابته الأدنون منه قرود» «2»

وروى الباعوني نحوه عن الفوطي في تاريخه، وفيه: أنّ يزيد كان يسقي قرده

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 26

فضل كأسه، وفيه أيضاً: وجاء يوماً سابقاً فطرحته الريح فمات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه وأمر أهل الشام أن يعزّوه فيه! وأنشأ يقول:

كم قوم كرام ذو محافظة إلّا أتانا يعزّي في أبي قيس

شيخ العشيرة أمضاها وأجملها إلى المساعي على الترقوس والريس

لا يبعد اللَّه قبراً أنت ساكنه فيه جمال وفيه لحية التيس «1»

فسقه ..... ص : 26

قال ابن الصبان: «وأمّا فسقه فقد أجمعوا عليه» «2».

روى السيّد ابن طاوس عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: «لمّا أتوا برأس الحسين عليه السلام إلى يزيد لعنه اللَّه كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين عليه السلام ويضعه بين يديه ويشرب عليه» «3»

.وفي التنبيه والإشراف: «كان (يزيد) يبادر بلذّته ويجاهر بمعصيته ويستحسن خطأه ويهوّن الأمور على نفسه في دينه إذا صحّت له دنياه» «4».

وعن المدائنيّ: كان

يزيد ينادم على الشراب سرجون مولى معاوية، وليزيد شعر منه قوله:

ولها بالماطرون إذا أكل النمل الذي جمعا

منزل حتّى إذا ارتبعت سكنت من جلّق بيعا

في جنان ثَمّ مؤنقة حولها الزيتون قد ينعا «5»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 27

وقال المسعوديّ: «وليزيد وغيره أخبار عجيبة ومثالب كثيرة من شرب الخمر وقتل ابن بنت الرسول، ولعن الوصيّ، وهدم البيت وإحراقه، وسفك الدماء والفسق والفجور ...» «1».

وقال الكيا الهراسي في شأنه: «لو مددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل... كيف لا وهو اللّاعب بالنرد والمتصيّد بالفهود ومدمن الخمر..» «2». وقال الذهبي: «كان ناصبيّاً فظّاً، يتناول المسكر ويفعل المنكر..» «3».

وقال أبو علي مسكويه الرازي: «وظهر في المدينة أنّ يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتّى يترك الصلاة، وصحّ عندهم ذلك، وصحّ غيره ممّا يشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك حتّى خلعوه وبايعوا عبداللَّه بن حنظلة الغسيل» «4».

وعن ابن حجر: «أنّ يزيد قد بلغ من قبايح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً لا يُستكثَر عليه صدور تلك القبائح منه» «5».

قال المسعودي: «ولمّا شمل الناس جور يزيد وعمّاله وعمّهم ظلمه وما ظهر من فسقه من قتله ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنصاره وما أظهر من شرب الخمور وسيره سيرة فرعون بل كان فرعون أعدل منه في رعيّته وأنصف منه لخاصّته وعامّته، أخرج أهل المدينة عامله عليهم وهو عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وسائر بني أميّة» «6».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 28

وقال المنذر بن الزبير لمّا قدم المدينة: «إنّ يزيد قد أجازني بمائة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره، واللَّه إنّه ليشرب الخمر، واللَّه إنّه ليسكر حتّى يدَع الصلاة» «1».

قال ابن حجر: «وعلى القول بأنّه مسلم فهو فاسق شرّير

سكّير جائر، كما أخبر به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم» «2».

وذكر البلاذري في أنساب الأشراف: «وذكر لي شيخ من أهل الشام أنّ سبب وفاة يزيد أنّه حمل قرده على الأتان وهو سكران، ثمّ ركض خلفها فاندقّت عنقه أو انقطع في جوفه شي ء» «3».

كتب الأستاذ عبّاس محمود العقّاد: «الروايات لم تُجمع على شي ء كإجماعها على إدمانه الخمر، وشغفه باللذّات، وتوانيه عن العظائم.. وقد مات بذات الجنب وهو لمّا يتجاوز السابعة والثلاثين، ولعلّها إصابة الكبد من إدمان الشراب والإفراط في اللذات، ولا يعقل أن يكون هذا كلّه اختلاقاً واختراعاً من الأعداء، لأنّ الناس لم يختلقوا مثل ذلك على أبيه أو على عمرو بن العاص، وهما بغيضان أشدّ البغض إلى أعداء الأمويّين.. ولأنّ الذين حاولوا ستره من خدّام دولته لم يحاولوا الثناء على مناقب فيه تحلّ عندهم محلّ مساوئه وعيوبه، كأنّ الاجتراء على مثل هذا الثناء من وراء الحسبان، ولم يكن هذا التخلّف في يزيد من هزال في البنية أو سقم اعتراه كذلك السقم الذي يعتري أحياناً بقايا السلالات التي تهمّ بالانقراض

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 29

والدثور، ولكنّه كان هزالًا في الأخلاق وسقماً في الطوية.. قعد به عن العظائم مع وثوق بنيانه وضخامة جثمانه واتّصافه ببعض الصفات الجسدية التي تزيد في وجاهة الأمراء كالوسامة وارتفاع القامة، وقد أُصيب في صباه بمرض خطير- وهو الجدريّ- بقيت آثاره في وجهه إلى آخر عمره، ولكنّه مرض كان يشيع في البادية، ولم يكن من دأبه أن يقعد بكلّ من أصيب به عن الطموح والكفاح» «1».

كفره ..... ص : 29

«الارتداد هو الكفر بعد الإسلام، ويتحقّق بالبيّنة، وبالإقرار على النفس بالخروج من الإسلام، أو ببعض أنواع الكفر- وبكلّ فعل دالّ صريحاً على الاستهزاء بالدِّين والاستهانة به

ورفع اليد عنه- وبالقول الدالّ صريحاً على جحد ما عُلم ثبوته من الدِّين ضرورة أو على اعتقاده ما يحرم اعتقاده بالضرورة من الدِّين..» «2».

إذا حكمنا بظاهر الإسلام في حقّ أبي سفيان ومعاوية بعد فتح مكّة- وإن كان للتوقّف في ذلك مجال واسع، تؤيّده الشواهد التاريخية في حياتهما السوداء- فإننا نحكم بارتداد يزيد عنه؛ وذلك استناداً إلى أشعاره التي أفصح بها عن الإلحاد وأبان عن خبث ضميره وعدم الاعتقاد، وفيها:

لعبتْ هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ولقالوا يا يزيد لا تشل

فجزيناهم ببدرٍ مثلها وأقمنا مثل بدرٍ فاعتدل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 30

لستُ من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل «1»

وفيها:

لمّا بدتْ تلك الحمول وأشرفت تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرسول ديوني «2»

ما قالته زينب الكبرى ..... ص : 30

وأوّل من استند إلى أشعاره وأثبت كفره- في مجلسه وأمامه- هي العقيلة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين عليهما السلام التي وصفها الإمام زين العابدين عليه السلام بأنّها عالمة غير معلَّمة «3»

. فإنّها قالت ليزيد: «أنسِيتَ قول اللَّه عزّوجلّ: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) «4»

،.. ولا غرو منك ولا عجب من فعلك، وأنّى يُرتجى الخير ممّن لفظ فوه أكباد الشهداء ونبت لحمه بدماء الشهداء، ونبت لحمه بدماء السعداء ونصب الحرب لسيّد الأنبياء وجمعَ الأحزاب وشهرَ الحراب وهزّ السيوف في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم. أشدّ العرب للَّه جحوداً، وأنكرهم لرسوله، وأظهرهم له عدواناً وأعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً، ألا إنّها نتيجة خلال الكفر، وضبّ يجرجر

في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يستبطئ في بغضنا أهلَ البيت من كان نظره إلينا شنفاً وشنآناً وإحناً وأضغاناً، يُظهر كفره برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويُفصح ذلك بلسانه وهو يقول- فرحاً بقتل ولده وسبي ذرّيته- غير متحوّب ولا مستعظم يهتف بأشياخه:

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ولقالوا يا يزيد لا تشل

منتحياً على ثنايا أبي عبداللَّه- وكان مقبّل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- ينكتها بمخصرته وقد التمع السرور بوجهه، لعمري لقد نكأتَ القرحة واستأصلتَ الشأفة، بإراقتك دمَ سيّد شباب أهل الجنّة، وابن يعسوب العرب وشمس آل عبد المطّلب، وهتفتَ بأشياخك، وتقرّبتَ بدمه إلى الكفرة من أسلافك..» «1».

ما قاله بعض الصحابة ..... ص : 30

واستند إلى تلك الأبيات بعض الصحابة، وأثبت ارتداد يزيد بتمثّله لها.

ذكر ابن عبد ربه: «بعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلمّا أُلقيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزبعرى يوم أُحُد: ليت أشياخي ... الأبيات.

فقال له رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: ارتددت عن الإسلام يا أميرالمؤمنين؟

قال:" بلى نستغفر اللَّه"، قال:" واللَّه لا ساكنتك أرضاً أبداً"، وخرج عنه» «2».

أقوال العلماء في كفره ..... ص : 30
اشارة

صرّح كثير من العلماء والمؤرِّخين وأرباب الفكر بكفر يزيد بن معاوية، نكتفي بذكر بعضهم:

رأي الإمام أحمد بن حنبل: ..... ص : 30

قال الشبراوي: «قال العلّامة ابن حجر في شرح الهمزية: إنّ يزيد قد بلغ من قبائح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً لا يستكثر عليه صدور تلك القبائح منه، بل قال الإمام أحمد بن حنبل بكفره، وناهيك به علماً وورعاً يقضيان بأنّه لم يقل ذلك إلّالقضايا وقعت منه صريحة في ذلك ثبتت

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 32

عنده» «1».

رأي ابن القفطي: ..... ص : 32

قال الباعوني: «وذكر ابن القفطي في تأريخه قال: إنّ السبي لمّا ورد على يزيد بن معاوية خرج لتلقّيه، فلقي الأطفال والنساء من ذرّية علي والحسن والحسين والرؤوس على أسنة الرماح، وقد أشرفوا على ثنيّة العقاب، فلمّا رآهم أنشد:

لمّا بدتْ تلك الحمول وأشرقت تلك الرؤوس على رُبى جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرسول ديوني

يعني بذلك أنّه قتل الحسين بمن قتله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم بدر، مثل عتبة جدّه ومن مضى من أسلافه، وقائل مثل هذا بري ء من الإسلام ولا يُشكّ في كفره» «2».

رأي الباعوني: ..... ص : 32

قال: وما أظنّ أنّ من استحلّ ذلك (قتل الحسين عليه السلام) وسلك مع أهل النبيّ هذه المسالك شمّ ريحة الإسلام ولا آمن بمحمّد عليه الصلاة والسلام، ولا خالط الإيمان بشاشة قلبه ولا آمن طرفة [عين] بربّه والقيامة تجمعهم وإلى ربّهم مرجعهم.

ستعلم ليلى أيّ دين تداينت وأيّ غريمٍ في التقاضي غريمها «3»

رأي ابن عقيل: ..... ص : 32

ذكر سبط ابن الجوزيّ عن ابن عقيل أنّه قال: وممّا يدلّ على كفره (يزيد) وزندقته فضلًا عن سبّه ولعنه أشعاره التي أفصح بها بالإلحاد وأبان عن خبث الضمائر وسوء الاعتقاد، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها:

عليّة هاتي واعلني وترنّمي بدلّك إنّي لا أحبّ التناجيا

حديث أبي سفيان قدماً سمى بها إلى أحُدٍ حتّى أقام البواكيا

ألا هات فاسقيني على ذاك قهوة تخيّرها العنسي كرماً شاميا

إذا ما نظرنا في أمورٍ قديمة وجدنا حلالًا شربها متواليا

وإن متّ يا أُمّ الأُحيمر فانكحي ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا

فإنّ الذي حُدِّثْتِ عن يوم بعثنا أحاديث طسم تجعل القلب ساهيا

ولابدّ لي من أن أزور محمّداً بمشمولة صفراء تروي عظاميا «1»

رأي اليافعي: ..... ص : 32

وعن اليافعي: وأمّا حكم من قتل الحسين أو أمر بقتله ممّن استحلّ ذلك فهو كافر، وإن لم يستحلّ ففاسق فاجر واللَّه أعلم «2».

رأي القاضي أبي يعلى وابن الجوزي: ..... ص : 32

قال الآلوسيّ: وقد جزم بكفره- أي يزيد بن معاوية- وصرّح بلعنه جماعة من العلماء منهم الحافظ ناصر السنّة ابن الجوزي وسبقه القاضي أبو يعلى «3».

رأي الكيا الهراسي: ..... ص : 32

قال: هو (يزيد) اللّاعب بالنرد، المتصيّد بالفهد، والتارك للصلوات، والمدمن للخمر، والقاتل لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، والمصرّح في شعره بالكفر الصريح «4».

رأي سبط ابن الجوزي: ..... ص : 32

قال سبط ابن الجوزيّ- بعد ذكره استناد ابن عقيل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 34

بأشعار يزيد على كفره وزندقته «1»- قلت: ومنها قوله:

ولو لم يمسّ الأرض فاضل بردها لما كان عندي مسحة في التيمّم

ومنها: لمّا بدت تلك الحمول وأشرقت- وقد ذكرناها-.

ومنها قوله:

معشر الندمان قوموا واسمعوا صوت الأغاني

واشربوا كأس مدام واتركوا ذكر المغاني

أشغلتْني نغمة العيدان عن صوت الأذانِ

وتعوّضت عن الحور خموراً في الدنان

إلى غير ذلك ممّا نقلتُه من ديوانه، ولهذا تطرّق إلى هذه الامّة العار بولايته عليها، حتّى قال أبو العلاء المعرّي يشير بالشنار إليها:

أرى الأيّام تفعل كلّ نكر فما أنا في العجائب مستزيد

أليس قريشكم قتلت حسيناً وكان على خلافتكم يزيد

رأي ابن عساكر: ..... ص : 34

حكي عن ابن عساكر أنّه قال: نسب إلى يزيد قصيدة منها:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لعبت هاشم بالملك فلا ملكٌ جاء ولا وحيٌ نزل

فإن صحّت عنه فهو كافر بلا ريب، انتهى معناه «2».

رأي الأجهوري: ..... ص : 34

قال: وقد اختار الإمام محمّد بن عرفة والمحقّقون من أتباعه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 35

كفر الحجّاج، ولا شكّ أنّ جريمته كجريمة يزيد، بل دونها «1».

رأي السعد التفتازاني: ..... ص : 35

قال: والحقّ أنّ رضا يزيد بقتل الحسين وإهانته أهل بيت رسول اللَّه ممّا تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً، فنحن لا نتوقّف في شأنه، بل في إيمانه، فلعنة اللَّه عليه وعلى أنصاره وعلى أعوانه.

قال الشبراويّ: وقول السعد بل في إيمانه أي بل لا نتوقّف في عدم إيمانه، بقرينة ما بعده وما قبله «2».

رأي الحافظ البدخشاني: ..... ص : 35

قال: وجعل (يزيد) ينكت رأسه (الحسين عليه السلام) بالخيزران، وأنشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا إلى آخره، والأبيات مشهورة، وزاد فيها بيتين مشتملين على صريح الكفر «3».

رأي الشبراوي: ..... ص : 35

قال بعد ذكر تمثّل يزيد بأشعار ابن الزبعرى: خزّاه اللَّه في هذه الأبيات، إن كانت صحيحة فقد كفر فيها بإنكار الرسالة «4».

رأي الآلوسي: ..... ص : 35

قال في تفسيره: وفي تاريخ ابن الوردي وكتاب الوافي بالوفيات: أنّ السبي لمّا ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرّية عليّ والحسين رضي اللَّه تعالى عنهما والرؤوس على أطراف الرماح، وقد أشرفوا على ثنية جيرون فلمّا رآهم نعب غراب، فأنشأ يقول:

لمّا بدتْ تلك الحمول وأشرفتْ تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرسول ديوني

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 36

يعني أنّه قتل بمن قتله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم بدر كجدّه عتبة وخالد ولد عتبة وغيرهما، وهكذا كفر صريح، فإذا صحّ عنه فقد كفر به، ومثله تمثّله بقول عبداللَّه بن الزبعرى قبل إسلامه: ليت أشياخي، الأبيات..

رأي عبد الباقي أفندي العمري: ..... ص : 36

أشار إلى أبيات يزيد، شاعرُ العراق عبد الباقي أفندي العمري فيما حُكي عن الباقيات الصالحات بقوله:

نقطع في تكفيره إن صحّ ما قد قال للغراب لمّا نعبا «1»

تأمُّل ابن حجر ..... ص : 36

تأمَّل ابن حجر في صواعقه واتّخذ طريقاً آخر حول هذه المسألة، قال: «اعلم أنّ أهل السنّة اختلفوا في تكفير يزيد بن معاوية وولّي عهده من بعده، فقالت طائفة إنّه كافر لقول سبط ابن الجوزي وغيره المشهور أنّه لمّا جاءه رأس الحسين رضي اللَّه عنه جمع أهل الشام وجعل ينكت رأسه بالخيزران وينشد أبيات ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا الأبيات المعروفة، وزاد فيهما بيتين مشتملين على صريح الكفر.. وقالت طائفة ليس بكافر لأنّ الأسباب الموجبة للكفر لم يثبت عندنا منها شي ء، والأصل بقاؤه على إسلامه حتّى يُعلم ما يُخرِجه عنه، وما سبق أنّه المشهور يعارضه ما حكي أنّ يزيد لمّا وصل إليه رأس الحسين قال:

رحمك اللَّه يا حسين لقد قتلك رجل لم يعرف حقّ الأرحام، وتنكّر لابن زياد وقال: قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر. وردّ نساء الحسين ومن بقي من بنيه مع رأسه إلى المدينة ليُدفن الرأس بها.

وأنت خبير بأنّه لم يثبت موجب واحدة من المقالتين، والأصل أنّه مسلم،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 37

فنأخذ بذلك الأصل حتّى يثبت عندنا ما يوجب الإخراج عنه، ومن ثمّ قال جماعة من المحقّقين إنّ الطريقة الثابتة القويمة في شأنه التوقّف فيه وتفويض أمره إلى اللَّه سبحانه، لأنّه العالم بالخفيّات والمطّلع على مكنونات السرائر وهواجس الضمائر، فلا نتعرّض لتكفيره أصلًا، لأنّ هذا هو الأحرى والأسلم، وعلى القول بأنّه مسلم فهو فاسق شرّير سكّير جائر كما أخبر به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم» «1».

نقول: إنّ هذه الطريقة غير قويمة؛ وذلك

لعدّة أمور:

أوّلًا: إنّه بعدما نقل المؤلّف الشهرة في المقام عن سبط ابن الجوزيّ وغيره بزيادة يزيد بيتين مشتملين على صريح الكفر فلا مجال له أن يقول: والأصل أنّه مسلم، فنأخذ بذلك حتى يثبت عندنا ما يوجبه الإخراج، فأيّ موجب أدلّ من كلامه الصريح، ولولا التواتر في النقل فالشهرة القائمة كافية لإثبات ذلك، كما نقلها.

أضف إلى ذلك ما قاله الآلوسي: «وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر» «2».

ثانياً: وأمّا ما ادّعاه من تعارض الشهرة بالمحكي- مع فرض صحّة المحكيّ- فلا تعارض في البين، لأنّنا نقول إنّه تمثّل بالأبيات وزاد فيها البيتين المشتملين على صريح الكفر، ومع ذلك لمّا رأى انقلاب الأمر وتغيّر الأوضاع وخاف الفتنة ورأى الزلزال في ملكه تفوّه بهذه الكلمات، والدليل على ذلك ما نقله المؤلّف في هذه المقالة أنّ يزيد تنكّر لابن زياد وقال:" قد زرع لي العداوة في قلب البرّ والفاجر"، هذا يؤيّد أنّه اتّخذ هذا الموقف بعدما ثبت لديه استنكار الرأي العام.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 38

ثالثاً: إنّ الاحتياط في المسألة أن يتّخذ الإنسان موقفاً مناسباً في هذه المأساة الكبرى، إنّها فاجعة قتل الحسين عليه السلام الذي بكى الرسول على قتله قبل مقتله كراراً، ولعن قاتله مراراً، فما فعله ابن الحجر من الاحتياط هو خلاف الاحتياط.

توقّف البيهقي: ..... ص : 38

ذكر الخوارزميّ: «قال شيخ السنّة أحمد بن الحسين حول تمثّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى: وآخر كلام يزيد لا يشبه أوّله، ولم أكتبه من وجه يثبت مثله، فإن كان قاله فقد ضَمَّ إلى فعل الفجّار- في قتل الحسين وأهل بيته- أقوال الكفّار» «1».

علّق العلّامة المحمودي عليه بهذا الكلام:

«أقول: إنّ البيهقي لم يعجبه أن يفتّش عن كفر

إمامه كي يثبت له كفره ويفتضح عند العقلاء، ولو كان بذل جهده حول أقوال يزيد لكان يثبت له أنّه قال بالكفر مراراً كما عمل بأعمال الكفّار مراراً» «2».

مع مجاهد: ..... ص : 38

ذكر سبط ابن الجوزي أنّ مجاهد قال حول أبيات (لعبت هاشم بالملك فلا ...): نافق «3».

وفي مقتل الخوارزمي أنّه قال: فلا نعلم الرجل إلّاقد نافق في قوله هذا «4».

وللعلّامة المحمودي تعليق في المقام أعجبني ذكره، قال:

«النفاق هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر وإسراره، فإن كان قول يزيد:

لعبتْ هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 39

هو إظهار الإيمان فما هو إظهار الكفر والإعلان به؟ وهل فرق بين قول يزيد هذا في كونه صريحاً بالكفر ببعث الرسول وبين قول الدهريّين الذي حكى اللَّه تعالى عنهم بقوله: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) «1»

، فكما أنّ هذا القول من الدهريّين صريح في إنكار المبدأ كذلك قول يزيد صريح في إنكار الرسالة التي هي الركن الثاني من الدِّين، وكذلك ما حكاه اللَّه عزّوجلّ عن فرعون في قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) «2»

، وهل يمكن لمن يعرف العربية ومعنى الكفر والنفاق أن يقول إنّ هذا القول من فرعون ليس صريحاً في الكفر وإنّما هو نفاق أي إبطان الكفر؟ وما أظنّ الفرق بين الأمرين غمض على مجاهد، أو لم يعرف الفرق بينهما؟ الظاهر أنّه حينما تكلّم بهذا الكلام وفسّر الكفر الصريح بالنفاق كان في جوّ من المعاندين التابعين للنزعات الأمويّة، ففسّر الكفر الصريح بالكفر غير الصريح المسمّى بالنفاق كي يستريح من مشاغبتهم ومجادلتهم الجاهلية. والأمر واضح غير محتاج إلى التطويل» «3».

جوره ..... ص : 39

إنّ حكومة آل أبي سفيان قامت على أساس الجور والعدوان، ونجد ذروة ذلك في زمن ملك يزيد بن معاوية، لأنّ اللعين لم تدم سلطته إلّاثلاث سنين قتل في السنة الأُولى منها الإمام الحسين وأصحابه عليهم السلام، وفي السنة الثانية غزا المدينة المنوّرة وأباحها على

جنده ثلاثاً وهم بجوار قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- وسمّيت بوقعة الحرّة- وفي الثالثة منها هدم الكعبة، أمّا مأساة كربلاء فقد قرأت تفاصيلها، وأمّا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 40

وقعة الحرّة وقضايا ابن الزبير فتفاصيلها خارجة عن عهدة هذا الكتاب، إلّاأنّنا نذكر نبذة عن صفحة تاريخه السوداء في وقعة الحرّة.

قال سبط ابن الجوزيّ: «وذكر المداينيّ في كتاب الحرّة عن الزهريّ قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمائة من وجوه الناس من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وأمّا من لم يُعرف من عبدٍ أو حرٍّ أو امرأة فعشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء حتّى وصلت الدماء إلى قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وامتلأت الروضة والمسجد. قال مجاهد: التجأ الناس إلى حجرة رسول اللَّه ومنبره والسيف يعمل فيهم.. وذكر أيضاً المداينيّ عن أبي قرّة قال: قال هشام بن حسّان: ولدت ألف امرأة بعد الحرّة من غير زوج، وغير المدايني يقول: عشرة آلاف امرأة.

قال الشعبيّ: أليس قد رضي يزيد بذلك وأمر به وشكر مروان بن الحكم على فعله؟!» «1».

يقول ابن قتيبة: «فوجّه يزيد مسلم بن عقبة المريّ في جيش عظيم لقتال ابن الزبير فسار بهم حتّى نزل المدينة فقاتل أهلها وهزمهم وأباحها ثلاثة أيّام فهي وقعة حرّة» «2».

وقال اليعقوبي: «فوجّهه في خمسة آلاف إلى المدينة فأوقع بأهلها وقعة الحرّة فقاتله أهل المدينة قتالًا شديداً.. حتّى دخلتُ المدينة فلم يبق بها كثير أحد إلّا قتل وأباح حرم رسول اللَّه حتّى وَلدت الأبكار لا يعرف من أولدهنّ» «3».

وقال ابن حجر: «فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المريّ وأمره أن يستبيح

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 41

المدينة ثلاثة أيّام، وأن يبايعهم على أنّهم خول وعبيد ليزيد، فإذا فرغ منها نهض إلى مكّة لحرب

ابن الزبير، ففعل بها مسلم الأفاعيل القبيحة وقتل بها خلقاً من الصحابة وأبنائهم وخيار التابعين وأفحش القضية إلى الغاية..» «1».

وقال ابن الجوزيّ: «فأباحها مسلم بن عقبة ثلاثاً يقتلون الرجال ويقعون على النساء! وحكّمتْ امرأةٌ مسلم بن عقبة في ولدها وكان قد أُسر فقال: عجّلوه لها، فضربتْ عنقه، ثمّ دعا مسلم الناس إلى البيعة ليزيد وقال: بايعوا على أنّكم خَوَل له وأموالكم له! فقال يزيد بن عبداللَّه بن زمعة: نبايع على كتاب اللَّه، فأمر به فضرب عنقه، وجي ء بسعيد بن المسيّب إلى مسلم فقالوا: بايع، فقال: أُبايع على سيرة أبي بكر وعمر! فأمر بضرب عنقه فشهد رجل أنّه مجنون فخلّي عنه، وذكر محمّد بن سعد في الطبقات أنّ مروان بن الحكم يحرّض مسلم بن عقبة على أهل المدينة ونهبها ثلاثاً، فلمّا قدم مروان على يزيد شكر له وأدناه..».

ثمّ قال ابن الجوزي: «من أراد أن ينظر إلى العجائب فلينظر إلى ما جرى يوم الحرّة على أهل المدينة بإطلاق يزيد أصحابه في النّهب» «2».

وقال الشبراوي: «إنّ يزيد بن معاوية قال لمسلم بن عقبة: إذا ظفرت بالمدينة فخلّها للجيش ثلاثة أيّام يسفكون الدماء ويأخذون الأموال ويفسقون بالنساء» «3».

وقال ابن قتيبة: «فبلغ عدّة قتلى الحرّة يومئذٍ من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الناس ألفاً وسبع مئة، وسائرهم من الناس عشرة آلاف، سوى النساء والصبيان، ذكروا أنّه قُتل يوم الحرّة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثمانون

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 42

رجلًا ولم يبق بدريّ بعد ذلك، ومن قريش والأنصار سبعمئة، ومن سائر الناس من الموالي والعرب والتابعين عشرة آلاف، وكانت الوقعة في ذي الحجّة لثلاث بقين منها سنة ثلاث وستّين» «1».

وفي البدء والتاريخ: «فجاء مسلم بن عقبة فأوقع بالمدينة

وقتل أربعة آلاف رجل من أفناء الناس وسبعين رجلًا من الأنصار وبقر عن بطون النساء وأباح الحرم وأنهب المدينة ثلاثة أيّام» «2».

هذا بالنسبة إلى المدينة، وأمّا مكّة فقد قال المسعودي: «ولمّا نزل بأهل المدينة ما وصفنا من القتل والنهب والرقّ والسبي وغير ذلك ممّا عنه أعرضنا من مسرف خرج عنها يريد مكّة في جيوشه من أهل الشام ليوقع بابن الزبير وأهل مكّة بأمر يزيد، وذلك في سنة أربع وستّين، فلمّا انتهى إلى الموضع المعروف بقديد مات مسرف لعنه اللَّه، واستخلف على الجيش الحصين بن نمير فسار الحصين حتّى مكّة وأحاط بها، وعاذ ابن الزبير بالبيت الحرام.. ونصب الحصين فيمن معه من أهل الشام المجانيق والعرادات على مكّة والمسجد من الجبال والفجاج وابن الزبير في المسجد. فتواردت أحجار المجانيق والعرادات على البيت ورمي مع الأحجار بالنار والنفط ومشاقات الكتّان وغير ذلك من المحروقات، وانهدمت الكعبة واحترقت البنية..» «3».

وقال ابن قتيبة الدينوريّ: «وحاصروا عبداللَّه بن الزبير وأحرقت الكعبة حتّى انهدم جدارها وسقط سقفها..» «4».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 43

لعنه ..... ص : 43
اشارة

اللعن: الطّرد من الرحمة، قال تعالى: (لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) «1»

أي أبعدهم وطردهم من الرحمة «2»، وأصل اللعن الطرد والإبعاد من اللَّه، ومن الخلق السبّ والدّعاء «3».

يمكن الاستدلال على جواز لعن يزيد بعدّة أُمور:

1. التمسّك بعموم وإطلاق بعض الآيات القرآنية ..... ص : 43

منها: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) «4»

. ولاشكّ أنّ إيذاء الحسين إيذاء للنبيّ صلى الله عليه و آله فكيف بقتله؟ «5»

ومنها: قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) «6»

.إذا كانت لعنة اللَّه وعذابه العظيم تشمل من يقتل مؤمناً متعمّداً، فكيف بمن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 44

يقوم بقتل الحسين عليه السلام وهو سبط الرسول صلى الله عليه و آله وثمرة البتول عليها السلام الذي قال جدّه في حقّه: «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ اللَّه من أحبّ حسيناً»؟ «1».

وقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَالْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَايَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً) «2».

ويزيد هو من الشجرة الملعونة في القرآن؛ قال السيوطي في الدرّ المنثور:

«أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرّة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: أُريت بني أُميّة على منابر الأرض وسيتملّكونكم فتجدونهم أرباب سوء. واهتمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لذلك فأنزل اللَّه: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)» «3»

.وعن كتاب المعتضد: لا خلاف بين أحد أنّه تبارك وتعالى أراد بها بني أميّة «4».

ومنها: قوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) «5»

.ولا ريب أنّ يزيد هو من

أكابر المفسدين في الأرض بعد قتل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه بكربلاء، وأمره ورضاه بذلك ووقعة الحرّة وهدم الكعبة- فإذا لم يكن هذا إفساداً في الأرض فلا يبقى للفساد أيّ معنى!- فيشمله لعن اللَّه طبقاً لهذه الآية الشريفة. وعدّه أحمد بن حنبل من مصاديق المفسدين في الأرض بتمسّكه بهذه الآية المباركة «6».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 45

2. التمسّك بعموم بعض الأحاديث ..... ص : 45

منها: ما روي عن عليّ عليه السلام قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: سبعة لعنهم اللَّه وكلّ نبيّ مجاب: المغيّر لكتاب اللَّه، والمكذّب بقدر اللَّه، والمبدّل سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والمستحلّ من عترتي ما حرّم اللَّه عزّوجلّ، والمتسلّط في سلطنة ليعزّ من أذلّ اللَّه ويذلّ من أعزّاللَّه، والمستحلّ لحرم اللَّه، والمتكبّر على عبادة اللَّه عزّوجلّ «1».

ولا ريب أنّ موارد مما ذكر آنفاً مطبّقة على يزيد، مثل ما روى ابن حجر عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: أوّل من يبدّل سنّتي رجل من بني أميّة يقال له يزيد «2»

.ومنها: ما روى البخاريّ بإسناده عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثاً فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين «3»

.ومنها: ما رواه أحمد بإسناده عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبَنا عليّ فقال:... قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة عدلًا ولا صرفاً.. «4».

ومنها: ما روي مسنداً عن السائب بن خلّاد أنّ رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله و سلم قال:

من أخاف أهل المدينة أخافه اللَّه عزّوجلّ وعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلًا «5»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 46

ومنها: ما رواه في كفاية الطالب بإسناده عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لمّا عرج بي إلى السماء، رأيت على باب الجنّة مكتوباً «لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ حبّ اللَّه، الحسن والحسين صفوة اللَّه، فاطمة أمَة اللَّه، على باغضهم لعنة اللَّه، مهما ذكر اللَّه». ثمّ قال: «تفرّد به عليّ بن حمّاد وهو ثقة، وأخرجه محدّث الشام عن محدّث العراق وإمام أهل الحديث» «1».

قال ابن الجوزي: جاء في الحديث لعن من فعل ما لايقارب معشار عشر فعل يزيد «2».

3. أقوال العلماء في لعن يزيد ..... ص : 46
أحمد بن حنبل: ..... ص : 46

قال الآلوسي: «نقل البرزنجي في الإشاعة والهيثميّ في الصواعق المحرقة أنّ الإمام أحمد لمّا سأله ولده عبداللَّه عن لعن يزيد قال: كيف لا يلعن من لعنه اللَّه في كتابه، فقال عبداللَّه: قد قرأت كتاب اللَّه عزّوجلّ فلم أجد فيه لعن يزيد! فقال الإمام: إنّ اللَّه تعالى يقول: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) الآية «3»، وأيّ فساد وقطيعة أشدّ لما فعله يزيد؟!» «4».

ابن الفراء «5» ..... ص : 46

: قال ابن الجوزيّ: «وصنّف القاضي أبو الحسين محمّد بن القاضي أبي يعلى ابن الفراء كتاباً فيه بيان من يستحقّ اللعن وذكر فيهم يزيد وقال:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 47

الممتنع من ذلك إمّا أن يكون غير عالم بجواز ذلك أو منافقاً يريد أن يوهم بذلك وربّما استفزّ الجهّال بقوله: المؤمن لا يكون لعّاناً، قال (القاضي): وهذا محمول على من لا يستحقّ اللعن، نقلت هذا من خط أبي الحسين وتصنيفه»»

ابن الجوزيّ: ..... ص : 47

قال ابن الجوزيّ: «سألني سائل في بعض مجالس الوعظ عن يزيد بن معاوية وما فعل في حقّ الحسين صلوات اللَّه عليه وما أمر به من نهب المدينة، فقال لي: أيجوز أن يُلعن؟ فقلت: يكفيه ما فيه، والسكوت أصلح! فقال:

قد علمت أنّ السكوت أصلح، ولكن هل تجوّز لعنه؟ فقلت: قد أجازها العلماء الورعون منهم الإمام أحمد بن حنبل «2» فإنّه ذكر في حقّ يزيد ما يزيد على اللعنة» «3».

ورغم عبارة «السكوت أصلح»، لكنّا نرى أنّ ابن الجوزيّ لم يلتزم بذلك فعلًا ولا قولًا، ولعلّه قاله خوفاً على نفسه في تلك الجلسة، والدليل عليه ما قاله سبطه في التذكرة: «قلت: ولمّا لعنه جدّي أبو الفرج على المنبر ببغداد بحضرة الإمام الناصر وأكابر العلماء قام جماعة من الجفاة من مجلسه فذهبوا، فقال جدّي:

(أَلَا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ)» «4»

.وقال: «وحكى لي بعض أشياخنا عن ذلك اليوم أنّ جماعة سألوا جدّي عن يزيد، فقال: ما تقولون في رجل وليَ ثلاث سنين، في السنة الأُولى قتل الحسين، وفي الثانية أخاف المدينة وأباحها، وفي الثالثة رمى الكعبة بالمجانيق وهدمها، فقالوا: نلعن، فقال: فالعنوه» «5».

الأسفراينيّ: ..... ص : 47

قال: المختار ما ذهب إليه ابن الجوزي وأبو الحسين القاضي

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 48

ومن وافقهما «1».

المقدسيّ: ..... ص : 48

ومن الذين لعنوا يزيد هو مطهر بن طاهر المقدسيّ المتوفى سنة 507 ببغداد، فقد صرّح بلعنه في كتابه البدء والتاريخ «2».

السيوطيّ: ..... ص : 48

قال جلال الدين السيوطي: لعن اللَّه قاتله (أي قاتل الحسين) وابن زياد معه، ويزيد أيضاً، وكان قتله بكربلاء، وفي قتله قصّة فيها طول لا يحتمل القلب ذكرها، فإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون «3».

عبد الكريم ابن الشيخ وليّ الدِّين: ..... ص : 48

قال العلّامة المحمودي: ومنهم (العلماء المجوّزين للعن يزيد) الشيخ عبد الكريم ابن الشيخ ولي الدِّين مؤلّف كتاب «مجمع الفوائد ومعدن الفرائد» في ذكر الأحاديث الواردة في الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: «فمعلوم أنّ يزيد اللعين وأتباعه كانوا من الذين أهانوا أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فكانوا مستحقّين للغضب والخذلان واللعنة من الملك الجبّار المنتقم يوم القيامة، فعليه وعلى من اتّبعه وأحبّه وأعانه ورضّاه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، ثمّ قال: ومن أراد التفصيل في اللعنة على يزيد فليطالع إلى تبيين الكلام، وأمّا منع بعضهم فليس من عدم جوازه لأنّه جايز بالاتّفاق بل من خوف السراية إلى أبيه معاوية، كما في شرح المقاصد!» «4».

العلّامة الأجهوري ..... ص : 48

عن شيخ مشايخه: قال الشبراوي: «وقال شيخ مشايخنا في حاشية الجامع الصغير عند قوله صلى الله عليه و آله و سلم: أوّل جيش من أمّتي يركبون البحر

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 49

قد أوجبوا، وأوّل جيش من أُمّتي يغزون مدينة قيصر مغفورٌ لهم: هذا يقتضي أنّ يزيد بن معاوية من جملة المغفور لهم! وأجيب: بأنّ دخوله فيهم لا يمنع خروجه منهم بدليل خاص أو أنّ قوله مغفور لهم مشروط بكونه من أهل المغفرة ويزيد ليس كذلك، حتّى أطلق بعضهم جواز لعنه بعينه، لأنّه أمر بقتل الحسين ..» «1».

وفي الحديث المذكور وجوه للنظر من حيث الصغرى والكبرى وغيرها، لا مجال لذكرها.

الكيا الهراسي: ..... ص : 49

قال الباعونيّ: «وسئِل الكيا الهراسي وهو من كبار الأئمّة عن لعنه (يزيد بن معاوية)، فقال: لم يكن [يزيد من] الصحابة، ولد في زمان عمر بن الخطّاب، وركب العظائم المشهورة. قال: وأمّا قول السلف ففيه لأحمد قولان تلويح وتصريح، ولمالك أيضاً قولان تصريح وتلويح، ولنا قول واحد وهو التصريح دون التلويح. قال: وكيف لا وهو اللاعب بالنرد، المتصيّد بالفهد، والتارك للصلوات، والمدمن للخمر والقاتل لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، والمصرّح في شعره بالكفر الصريح» «2».

التفتازانيّ ..... ص : 49

في شرح العقائد النسفيّة: «اتّفقوا على جواز اللعن على من قتلَ الحسين أو أمر به أو أجازه أو رضي به، قال: والحقّ أنّ رضا يزيد بقتل الحسين واستبشاره بذلك وإهانته أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّا تواتر معناه وإن كان تفصيله آحاداً، قال: فنحن لا نتوقّف في شأنه بل في كفره وإيمانه، لعنة اللَّه عليه وعلى أنصاره وأعوانه» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 50

السمهوديّ: ..... ص : 50

قال الشبراوي: «وقال السيّد السمهوديّ في جواهر العقدين:

اتّفق العلماء على جواز لعن من قتل الحسين رضي اللَّه عنه أو أمر بقتله أو أجازه أو رضي به من غير تعيين..» «1».

البدخشاني: ..... ص : 50

قال في نزل الأبرار: «.. ويتحقّق أنّه- يزيد- لم يندم على ما صدر منه، بل كان مصرّاً على ذنبه مستمرّاً في طغيانه إلى أن أقاد منه المنتقم الجبّار، وأوصله إلى دركات النار، والعجب من جماعة يتوقّفون في أمره ويتنزّهون عن لعنه وقد أجازه كثير من الأئمّة منهم ابن الجوزيّ، وناهيك به علماً وجلالة..» «2».

عبد الباقي أفندي: ..... ص : 50

قال الآلوسي: ويعجبني قول شاعر العصر ذو الفضل الجليّ عبد الباقي أفندي العمريّ الموصليّ، وقد سُئل عن لعن يزيد اللعين:

يزيد على لعني عريضٌ جنابه فأغدو به طول المدى ألعن اللعنا «3»

الآلوسيّ: ..... ص : 50

«الذي يغلب على ظنّي أنّ الخبيث لم يكن مصدّقاً برسالة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأنّ مجموع ما فعل مع أهل حرم اللَّه تعالى وأهل حرم نبيّه عليه الصلاة والسلام وعترته الطيّبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات، وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر، ولا أظنّ أنّ أمره كان خافياً على أجلّة المسلمين إذ ذاك ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلّاالصبر ليقضي اللَّه أمراً كان مفعولًا، ولو سلم

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 51

أنّ الخبيث كان مسلماً فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان، وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين، ولو لم يتصوّر أن يكون له مثل من الفاسقين، والظاهر أنّه لم يتب، واحتمال توبته أضعف من إيمانه، ويلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة، فلعنة اللَّه عزّوجلّ عليهم أجمعين، وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم ومن مال إليهم إلى يوم الدِّين ما دمعت عين على أبي عبداللَّه..

ومن كان يخشى القال والقيل من التصريح بلعن ذلك الضلّيل فليقل لعن اللَّه عزّوجلّ من رضي بقتل الحسين ومن آذى عترة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بغير حقّ ومن غصبهم حقّهم، فإنّه يكون لاعناً له لدخوله تحت العموم دخولًا أوّلياً في نفس الأمر، ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها سوى ابن العربي المارّ ذكره وموافقيه، فإنّهم على ظاهر ما نقل عنهم لا يجوّزون لعن

من رضي بقتل الحسين رضي اللَّه تعالى عنه، وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد» «1».

قتله الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 51
اشارة

إنّ قتل الحسين عليه السلام مصيبة لا مصيبة أعظم منها، كيف لا وهو من الخمسة الذين قال لهم الرسول صلى الله عليه و آله: «أنا سلمٌ لمن سالمتم وحربٌ لمن حاربتم» «2».

جزاء قاتل الحسين عليه السلام وأوصافه في الروايات ..... ص : 51

لقد جاءت في شأن قاتل الحسين عليه السلام وأوصافه وعذابه روايات دالّة على عمق المأساة، نذكر بعضها:

روى ابن المغازلي بإسناده عن أبي أحمد بن عامر عن عليّ بن موسى الرضا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 52

عن آبائه عن عليّ عليهم السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ قاتل الحسين في تابوتٍ من نار منكّس في النار، حتّى يقع في قعر جهنّم وله ريح يتعوّذ أهل النار إلى ربّهم عزّوجلّ من شدّة ريح نتنه، وفيها خالد ذائق العذاب الأليم، لا يفتّر عنه ساعة ويُسقى من حميم، الويل له من عذاب اللَّه عزّوجلّ «1»

.وروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: إنّ موسى بن عمران سأل ربّه فقال:

ياربّ إنّ أخي هارون مات فاغفر له، فأوحى اللَّه إليه: يا موسى، لو سألتني في الأوّلين والآخرين لأجبتك ما خلا قاتل الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنّي أنتقم له من قاتله «2»

.روى الخوارزمي اعتراض حبر من الأحبار في مجلس يزيد، اعترض على يزيد في قتله الحسين عليه السلام، فأمر يزيد به بحلقه ثلاثاً، فقام الحبر وهو يقول: «إن شئتم فاقتلوني وإن شئتم فذروني، إنّي أجد في التوراة: من قتل ذريّة نبيّ فلا يزال ملعوناً أبداً ما بقى، فإذا مات أصلاه اللَّه نار جهنّم «3»».

روي عن القندوزي قال: علي عليه السلام رفعه: يقتلُ الحسينَ شرّ هذه الامّة «4»

.وعن مودّة القربى عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله و سلم: يقتل الحسين شرّ هذه الامّة، ويتبرّأ اللَّه منهم ومن والاهم وممّن يكفر بي «5»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 53

وعن المتّقي الهندي روى ابن عساكر عن امّ سلمة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

إنّ جبرئيل أخبرني أنّ ابني هذا يُقتل، وأنّه اشتد غضب اللَّه على من يقتله «1»

.وعن ابن سعد عن عائشة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إنّ جبرئيل أراني التربة التي يُقتل عليها الحسين، فاشتدّ غضب اللَّه على من يسفك دمه. فيا عائشة والذي نفسي بيده إنّه ليحزنني. فمن هذا من أُمّتي يقتل حسيناً بعدي!؟ «2»

روى الخطيب في تاريخه بإسناده عن جابر بن عبداللَّه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال للحسين عليه السلام: لعن اللَّه قاتلك، قال جابر: فقلت يارسول اللَّه ومَن قاتله؟ قال:

رجل من امّتي يبغض عترتي لا يناله شفاعتي، كأنّي بنفسه بين أطباق النيران يرسب تارةً ويطفو أخرى، وأنّ جوفه ليقول: عِقْ عِقْ «3»

.وروى الخوارزمي عن أبي برزة الأسلمي أو غيره من الصحابة أنّه قال ليزيد:

أشهد لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول: إنّهما سيدا شباب أهل الجنّة قتل اللَّه قاتلهما ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً «4»

.وقال: قال ابن عبّاس: خرج النبيّ صلى الله عليه و آله قبل موته بأيّام إلى سفر له ثمّ رجع وهو متغيّر اللون محمرّ الوجه، فخطب خطبة بليغة موجزة وعيناه تهملان دموعاً، قال فيهما: أيّها الناس إنّي خلّفت فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي، فساق الخطبة إلى أن قال: ألا وإنّ جبرئيل قد أخبرني بأنّ امّتي تقتل ولدي الحسين

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 54

بأرض كربٍ

وبلاء، ألا فلعنة اللَّه على قاتله وخاذله آخر الدهر «1»

.ومنها: ما ذكر من حديث امّ الفضل بنت الحارث حين أدخلت حسيناً على رسول اللَّه فأخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وبكى وأخبرها بقتله، إلى أن قال: ثمّ هبط جبرئيل معه قبضة من تربة الحسين تفوح مسكاً أذفر. فدفعها إلى النبيّ وقال: يا حبيب اللَّه هذه تربة ولدك الحسين ابن فاطمة وسيقتله اللعناء بأرض كربلاء، فقال النبيّ: حبيبي جبرئيل، وهل تفلح امّة تقتل فرخي وفرخ ابنتي؟ فقال جبرئيل: لا، بل يضربهم اللَّه بالاختلاف فتختلف قلوبهم وألسنتهم آخر الدهر... إلى أن قال: ثمّ أخذ النبيّ تلك القبضة التي أتاه بها الملك فجعل يشمّها ويبكي ويقول في بكائه: اللّهم لا تبارك في قاتل ولدي وأصله نار جهنّم «2»

يزيد هو القاتل ..... ص : 54

لاشكّ أنّ الفعل كما ينسب إلى المباشر، ينسب إلى المسبّب، يقال: فتح الأمير البلد وإن لم يحضر المعركة، بل حصل الفتح على يد جنده، ولكن ينسب إلى أميرهم لكونه الآمر، وفي مأساة كربلاء نجد أدلّة قويّة على أنّ يزيد هو القاتل باعتبار أنّه هو الذي أمر بقتل الحسين عليه السلام والقتال معه.

فتحصّل أنّ جميع ما روي حول قاتل الحسين وخذلانه في الدّنيا وعقابه في العقبى يشمل يزيد، لكونه الآمر الأعلى، وبصفته أمير قَتَلة الحسين عليه السلام، فما شأن عبيداللَّه بن زياد إلى يزيد إلّاكنسبة شمر وعمر بن سعد إلى عبيداللَّه بن زياد، فيشمله العنوان، هذا وثمّ شواهد تاريخية مهمّة تثبت الموضوع.

الشواهد التاريخية ..... ص : 54
اشارة

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 55

عندما يتفحّص المتتبّع صفحات التاريخ، يجد هناك أدلّة كافية لإثبات الموضوع نشير إلى بعضها:

أمره الوليد بن عتبة بقتل الحسين عليه السلام ..... ص : 55

: إنّ يزيد أمر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عامله على المدينة بقتل الحسين عليه السلام وإرسال رأسه الشريف إليه إن لم يبايع، ولعلّ هذا أوّل مبادرة لقتل الإمام عليه السلام.

قال اليعقوبي: «كتب (يزيد) إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو عامله على المدينة: إذا أتاك كتابي هذا فأحضر الحسين بن علي وعبداللَّه بن الزبير فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث لي برؤوسهما، وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم وفي الحسين بن علي وعبداللَّه بن الزبير، والسلام» «1».

مسألة اغتيال الإمام الحسين عليه السلام في موسم الحجّ ..... ص : 55

: إنّ يزيد أمر باغتيال الإمام عليه السلام في موسم حجّ عام 60 من الهجرة، قال العلّامة المجلسي: «ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم وولّاه أمر الموسم وأمّره على الحاجّ كلّهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين عليه السلام سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة، ثمّ إنّه دسّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلًا من شياطين بني اميّة وأمرهم بقتل الحسين عليه السلام على أيّ حال اتّفق» «2».

وكتب الدكتور حسن إبراهيم حسن: «وقد قيل: إنّ الحسين كان يعرف ما يحدق به من خطر إذا بقى في مكّة، لأنّ بني اميّة سوف يتعقّبونه حتّى يقتلوه في الحجاز، لذلك آثر أن يكون قتله بعيداً عن البيت الحرام» «3».

* رسائل يزيد حول قتل الحسين عليه السلام ..... ص : 55

: إنّه كتب إلى عبيداللَّه بن زياد بقتال الحسين عليه السلام، وهناك عدّة شواهد:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 56

منها: ما روى ابن عبد ربه عن علي بن عبد العزيز عن محمّد بن الضحّاك بن عثمان الخزاعي عن أبيه قال: «كتب يزيد إلى عبيد اللَّه بن زياد وهو واليه بالعراق أنّه بلغني أنّ حسيناً سار إلى الكوفة وقد ابتلي به زمانك بين الأزمان وبلدك بين البلدان، وابتليت به من بين العمّال، وعنده تُعتق أو تعود عبداً..» «1».

وقال السيوطي: «وبعث أهل العراق إلى الحسين الرُّسل والكتب يدعونه إليهم، فخرج من مكّة إلى العراق في عشر ذي الحجّة ومعه طائفة من آل بيته رجالًا ونساءً وصبياناً، فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيداللَّه بن زياد بقتاله، فوجّه إليه جيشاً أربعة آلاف عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص ...»»

.وفي نور الأبصار: «كتب عبيداللَّه بن زياد إلى الحسين كتاباً يقول فيه: أمّا بعد، فإنّ

يزيد بن معاوية كتب إليّ أن لا تفحض [تغمض] جفنك من المنام ولا تشبع بطنك من الطعام إمّا أن يرجع الحسين إلى حكمي أو تقتله والسلام» «3».

اعتراف ابن زياد بذلك ..... ص : 56

: قال مسكويه الرازي «أنّه كتب يزيد إلى عبيداللَّه بن زياد أن أغز ابن الزبير، فقال: واللَّه لا أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن رسول اللَّه وأغزو البيت؟!» «4».

زينب الكبرى تجعل مسؤولية قتل الحسين على عاتق يزيد ..... ص : 56

: قالت عليها السلام في مجلس يزيد: «أتقول ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا غير متأثِّم ولا مستعظم وأنت

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 57

تنكت ثنايا أبي عبداللَّه بمخصرتك؟! ولمَ لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإهراقك دماء ذرّية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب، ولتردن على اللَّه وشيكاً موردهم ولتودنّ أنّك عميت وبكمت وأنّك لم تقل فاستهلّوا وأهلّوا فرحاً.. فلئن اتخذتنا مغنماً لتتّخذنّ مغرماً حين لا تجد إلّاما قدّمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة ويستصرخ بك وتتعاوى وأتباعك عند الميزان وقد وجدت أفضل زاد زوّدك معاوية قتلك ذرّية محمّد صلّى اللَّه عليه» «1».

وقالت في ضمن خطبتها مخاطبةً له: «وفعلت فعلتك التي فعلت وما فريت إلّا جلدك وما جززت إلّالحمك وسترد على رسول اللَّه بما تحمّلت من ذرّيته وانتهكت من حرمته وسفكت من دماء عترته ولحمته حيث يجمع به شملهم ويلمّ به شعثهم وينتقم من ظالمهم ويأخذ لهم بحقّهم من أعدائهم ولا يستفزنّك الفرح بقتلهم.. فالعجب كلّ العجب لقتل الأتقياء وأسباط الأنبياء وسليل الأوصياء بأيدي الطلقاء الخبيثة، ونسل العهرة الفجرة تنطف أكفّهم من دمائنا..» «2».

ابن عبّاس يحمّل يزيد مسؤولية قتل الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 57

: قال اليعقوبي: «إنّه كتب في ضمن كتابه إلى يزيد:.. وأنت قتلت الحسين بن علي بفيك الكثكث، ولك الأثلب، إنّك إن تمنّك نفسك ذلك لعازب الرأي وإنّك لأنت المفنّد المهوّر، لا تحسبني لا أبا لك نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب مصابيح الدجى ونجوم الأعلام غادرهم جنودك مصرّعين في صعيد مرمّلين بالتراب مسلوبين بالعراء لا مكفّنين تسفى عليهم الرياح وتعاورهم الذئاب وتنشى بهم عرج الضباع، حتى أتاح اللَّه لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم فأجنّوهم في أكفانهم وبي

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 58

واللَّه وبهم عززت وجلست مجلسك الذي

جلست يا يزيد.. فلا شي ء عندي أعجب من طلبك ودّي ونصري وقد قتلت بني أبي وسيفك يقطر من دمي.. إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي فلا يستقرّ بك الجدل ولا يهملك اللَّه بعد قتلك ثمرة رسول اللَّه إلّاقليلًا حتّى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك اللَّه من الدُّنيا ذميماً أليماً» «1».

وقالوا إنّه كتب إليه: «ما أنس طردك حسيناً من حرم اللَّه وحرم رسوله وكتابك إلى ابن مرجانة تأمره بقتله، وإنّي لأرجو من اللَّه أن يأخذك عاجلًا حيث قتلت عترة نبيّه صلى الله عليه و آله ورضيت بذلك. أنسيت إنفاذ أعوانك إلى حرم اللَّه لتقتل الحسين» «2».

معاوية ابنه يحمّله المسؤولية ..... ص : 58

: قال ضمن خطبته التي ألقاها بعد موت أبيه يزيد: «.. ثمّ قُلّد أبي وكان غير خليق للخير فركب هواه واستحسن خطأه وعظم رجاؤه فأخلفه الأمل وقصر عنه الأجل فقلّت منعته وانقطعت مدّته وصار في حضرته رهناً بذنبه وأسيراً بجرمه، وقال: إنّ أعظم الامور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه وقد قتل عترة الرسول وأباح الحرمة وحرّق الكعبة» «3».

بعض بني العبّاس يحمّله المسؤولية ..... ص : 58

: قيل: «إنّه لمّا أحضرت حرم مروان إلى صالح بن علي بن عبداللَّه ليقتلن فقالت ابنة مروان الكبرى: يا عمّ أمير المؤمنين حفظ اللَّه لك من أمرك ما تحبّ حفظه، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمّك فليسعنا من عفوكم ما أوسعكم من جورنا. قال: واللَّه لا أستبقي منكم أحداً، ألم يقتل أبوك ابن أخي إبراهيم الإمام؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 59

الحسين وصلبه بالكوفة؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟

ألم يقتل ابن زياد الدعيّ مسلم بن عقيل؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي وأهل بيته؟ ألم يخرج إليه بحرم رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم سبايا فوقّفهنّ موقف السبي؟» «1».

رضاه بقتل الحسين عليه السلام بعد مقتله ..... ص : 59

: قال السعد التفتازاني: «والحقّ أنّ رضا يزيد بقتل الحسين وإهانته أهل بيت رسول اللَّه ممّا تواتر معناه» «2».

قال الشبراوي: «قال أبو الفضل: وبعد أن وصل الرأس الشريف إلى دمشق وضع في طست بين يدي يزيد وصار يضرب ثناياه الشريفة بقضيب، ثمّ أمر بصلبه فصلب ثلاثة أيّام بدمشق، وشكر لابن زياد صنيعه، وبالغ في إكرامه ورفعته حتّى صار يدخل على نسائه» «3».

وقال سبط ابن الجوزي: والذي يدلّ على هذا أنّه استدعى ابن زياد إليه وأعطاه أموالًا كثيرة وتحفاً عظيمة وقرّب مجلسه ورفع منزلته وأدخله على نسائه وجعله نديمه، وسكر ليلة وقال للمغنّي غنّ، ثمّ قال يزيد بديهيّاً:

اسقني شربة تروي فؤادي ثمّ مل فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحب السرّ والأمانة عندي ولتسديد مغنمي وجهادي

قاتل الخارجي أعني حسيناً ومبيد الأعداء والحسّادِ «4»

ونحسب من علائم رضا يزيد أمره بنصب الرأس الشريف على باب داره «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 60

أقوال العلماء في المسألة ..... ص : 60
البلاذري: ..... ص : 60

روي بأسانيد متعدّدة أشياء حول فسق ولهو يزيد ثمّ قال: «ثمّ جرى على يده قتل الحسين وقتل أهل الحرّة ورمي البيت وإحراقه» «1».

القاضي ابن نعمان: ..... ص : 60

علّق على كلام يزيد لأسارى أهل البيت: (صيّرتم أنفسكم عبيداً لأهل العراق ما علمت بمخرج أبي عبداللَّه حتّى بلغني قتله)، بقوله (القاضي ابن نعمان): «كذب عدوّ اللَّه بل هو الذي جهّز إليه الجيوش» «2».

المسعودي: ..... ص : 60

قال: «وليزيد وغيره أخبار عجيبة ومثالب كثيرة من شرب الخمر وقتل ابن بنت رسول اللَّه و..» «3».

ابن عقيل (431- 513): ..... ص : 60

قال الباعوني: «ولقد قرأ قارئٌ بين يدي الشيخ العالم أبي الوفاء ابن عقيل رحمه الله «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «4»

، فبكى وقال: سبحان اللَّه كان طمعه فيما قال: «فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ» «5»

جاوزوا واللَّه الحدّ الذي طمع فيه!

ضحّوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

إي واللَّه عمدوا إلى عليّ بن أبي طالب بين صفيه فقتلوه، ثمّ قتلوا ابنه الحسين ابن فاطمة الزهراء وأهل بيته الطيّبين الطاهرين بعد أن منعوهم الماء، هذا والعهد

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 61

بنبيّهم قريب، وهم القرن الذي رأوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ورأوه يقبّل فمه وترشفه [يرشف ثناياه] فنكتوا على فمه وثناياه بالقضيب! تذكّروا واللَّه أحقاد يوم بدرٍ وما كان فيه. وأين هذا من مطمع الشيطان وغاية أمله بتبكيت آذان الأنعام؟ هذا مع قرب العهد وسماع كلام ربّ الأرباب «قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» «1»

، ستروا عقائدهم في عصره مخافة السيف، فلمّا صار الأمر إليهم كشفوا قناع البغي والحيف «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ»» «2»

الكيا الهراسي (450- 504): ..... ص : 61

وصفه بقوله: «هو اللّاعب بالنرد والمتصيّد بالفهد والتارك للصلوات والمدمن للخمر والقاتل لأهل بيت النبيّ» صلى الله عليه و آله و سلم «3».

التفتازاني: ..... ص : 61

في شرح العقائد النسفية: «والحقّ أنّ رضا يزيد بقتل الحسين واستبشاره بذلك وإهانته أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّا تواتر معناه وإن كان تفصيله آحاداً..» «4».

الذهبي: ..... ص : 61

قال الذهبي في شأنه: «كان ناصبيّاً فظّاً يتناول المسكر ويفعل المنكر افتتح دولته بقتل الحسين وختمها بوقعة الحرّة..» «5».

الأجهوري: ..... ص : 61

قال في ضمن كلماته: «أطلق بعض العلماء جواز لعن يزيد بعينه لأنّه أمر بقتل الحسين» «6».

الشبراوي: ..... ص : 61

قال: «وقد ذكر بعض الثقات: ولا يشكّ عاقل أنّ يزيد بن معاوية هو القاتل للحسين رضى الله عنه، لأنّه الذي ندب عبيداللَّه بن زياد لقتل الحسين» «7».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 62

لماذا تنصّل من مسؤولية قتل الإمام عليه السلام ..... ص : 62

عندما نتصفّح تاريخ مأساة كربلاء نجد هناك كلمات صدرت من يزيد تثير الغرابة، وهي جديرة بالتأمّل، من ذلك:

«ويلي على ابن مرجانة، فعل اللَّه به كذا، أما واللَّه لو كانت بينه وبينه رحم ما فعل هذا» «1»، و «لعن اللَّه ابن مرجانة، لقد وجده بعيد الرحم منه» «2»، «وما علمت بخروج أبي عبداللَّه حين خرج ولا بقتله حين قتله» «3»، «أحرزت أنفسكم عبيد أهل العراق وما علمت بخروج أبي عبداللَّه ولا بقتله» «4»، «لعن اللَّه ابن مرجانة أما واللَّه لو أنّي صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلّاأعطيتها إيّاه، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن اللَّه قضى ما رأيت!» «5»، «كنت أرضى من طاعتهم بدون قتل الحسين، لعن اللَّه ابن سميّة، أما إنّي لو كنت صاحبه لعفوت عنه» «6»، «.. لكن عبيداللَّه بن زياد لم يعلم رأيي في ذلك فعجّل عليه بالقتل فقتله» «7»، «أما واللَّه يا حسين لو أنا صاحبك ما قتلتك»»

، «لو كان بينك وبين ابن مرجانة قرابة

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 63

لأعطاك ما سألت» «1»، «لعن اللَّه ابن مرجانة، فواللَّه ما أمرته بقتل أبيك ولو كنت متولّياً لقتاله ما قتلته» «2»...

إنّ ما نجده من قبيل ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور:

الأوّل: كذبه، فإنّ الرجل الذي يلهو ويفسق جهراً ويكفر بالربّ عياناً ليس بغريب عنه أن يكذب، كيف يدّعي الجهل ويجعل المسؤولية على عاتق واليه عبيداللَّه بن زياد وهو المسبّب الأعلى لتلك الفاجعة العظمى؟!

أليس هو الذي كتب إلى واليه وليد يأمره بقتل الحسين

إذا لم يبايع؟

أليس هو الذي أمر باغتيال الإمام في موسم الحجّ؟

أليس هو الذي أرسل الكتب إلى عبيداللَّه وأمره بقتال الحسين عليه السلام وقتله؟

إنّ كلّ هذه الأدلّة القويّة والشواهد القويمة تدلّ على مدى كذب الرجل.

الثاني: انقلاب الأوضاع وخوفه على زوال ملكه، والدليل على ذلك أنّه فرح بقتل الحسين في بادئ الأمر، لكنّه بعد ذلك وحينما رأى بوادر الفتنة والمشاكل العديدة في ملكه وفي قلب عاصمته وحتّى في بيته التجأ إلى إبراز الندم، وقد صرّح بذلك المؤرّخون؛ قال ابن الأثير: «قيل ولمّا وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسرّه ما فعل، ثمّ لم يلبث إلّا يسيراً حتّى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم، فندم على قتل الحسين» «3».

ونقل نحوه الذهبي عن محمّد بن جرير بإسناده عن يونس بن حبيب قال:

«لمّا قتل عبيداللَّه الحسين وأهله بعث برؤوسهم إلى يزيد فسرّ بقتلهم أوّلًا ثمّ لم يلبث حتّى ندم على قتلهم» «4».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 64

وقال الشيخ محمّد الصبان: «ثمّ ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك وأبغضه العالم وفي هذه القصّة تصديق لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ أهل بيتي سيلقون بعدي في امّتي قتلًا وتشريداً، وإنّ أشرّ قومنا لنا بغضاً بنو أميّة وبنو مخزوم، رواه الحاكم» «1».

وثم شواهد متقنة سنوافيك بها في مبحث «انقلاب المعادلة وخوف الفتنة».

الثالث: لا نستبعد أنّ هناك أيادي مرتزقة دسّوا بعض ذلك في كتب التاريخ والسير، لأجل أن يطهروا يزيد ويبرئوه عن بعض ما فعل- مع أنّه لا يطهر ولو بإلقائه في ماء البحر- ويشوّهوا الأمر بعد ذلك! ويفتحوا المجال لمثل ابن تيمية وأذنابه، ولكن دون ذلك خرط القتاد.

يزيد في مرآة الحديث ..... ص : 64

روى ابن حجر عن أبي يعلى بسنده عن

أبي عبيدة قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«لا يزال أمر امّتي قائماً بالقسط حتّى يكون أوّل من يثلمه رجل من بني اميّة يقال له يزيد».

وقال: وأخرج الروياني في مسنده عن أبي الدرداء قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله يقول:

«أوّل من يبدّل سنّتي رجل من بني اميّة يُقال له يزيد» «2»

.وروي عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه قال لأخيه محمّد بن الحنفيّة:

«يا أخي واللَّه لو لم يكن في الدُّنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 65

يزيد بن معاوية، فقد قال جدّي صلى الله عليه و آله: اللّهمَّ لا تبارك في يزيد» «1»

يزيد في كلمات الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 65

كتب عليه السلام إلى معاوية:

«.. اتّق اللَّه يا معاوية، واعلم أنّ للَّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها، واعلم أنّ اللَّه ليس بناس لك قتلك بالظنّة وأخذك بالتهمة وإمارتك صبيّاً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب..» «2».

وفي كتابه إلى معاوية أيضاً:

«ثمّ ولّيت ابنك وهو غلام يشرب الشراب ويلهو بالكلاب، فَخُنْت أمانتك وأخربت رعيّتك، ولم تؤدّ نصيحة ربّك، فكيف تولّي على امّة محمّد من يشرب المسكر؟ وشارب المسكر من الفاسقين، وشارب المسكر من الأشرار، وليس شارب المسكر بأمين على درهم فكيف على الامّة؟!» «3».

وقال عليه السلام لمعاوية:

«وفهمت ماذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لُامّة محمّد تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 66

بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبق لأترابهن والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي تجده ناصراً ودع عنك ما تحاول ..» «1».

وقال عليه السلام له أيضاً:

«من خير لُامّة محمّد! يزيد الخمور الفجور؟!»

«2»

.وقال عليه السلام لعبداللَّه بن الزبير:

«.. ا نظر أبا بكر (أتظنّ «3») أنّي أُبايع ليزيد، ويزيد رجل فاسق معلن الفسق يشرب الخمر ويلعب بالكلاب والفهود، ويبغض بقيّة آل الرسول؟! لا واللَّه لا يكون ذلك أبداً» «4»

.وقال لوليد بن عتبة:

«.. ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع لمثله..» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 67

وقال لمروان بن الحكم:

«.. إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الامّة براعٍ مثل يزيد.. ويحك أتأمرني ببيعة يزيد وهو رجل فاسق لقد قلت شططا.. لا ألومك على قولك لأنّك اللعين الذي لعنك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنت في صلب أبيك الحكم بن أبي العاص، فإنّ من لعنه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يمكن له ولا منه إلّاأن يدعو إلى بيعة يزيد!» «1»

.وقال عليه السلام:

«سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: (الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان وعلى الطلقاء أبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فأبقروا بطنه). فواللَّه لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما أُمروا به فابتلاهم اللَّه بابنه يزيد، زاده اللَّه في النار عذاباً» «2»

.وقال عليه السلام لعبداللَّه بن عمر:

«أبا عبد الرحمن! أنا ابايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله فيه وفي أبيه ما قال؟» «3»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 68

يزيد في نظر الصحابة والتابعين وبعض كبار القوم ..... ص : 68
اشارة

لقد جرت على لسان بعض الصحابة والتابعين والكبار من الناس كلمات حول يزيد بن معاوية عليه اللعنة- الذي وصفته زينب الكبرى سلام اللَّه عليها بكونه عدوّ اللَّه وابن عدوّ اللَّه «1»- نذكر بعضها:

أبو هريرة: ..... ص : 68

قال الشبراوي: «وروى ابن أبي شيبة وغيره عن أبي هريرة أنّه قال: (اللّهمّ لا تدركني سنة ستّين ولا إمرة الصبيان)، وكانت ولاية يزيد فيها، انتهى» «2».

ابن عبّاس: ..... ص : 68

قال الخوارزمي: «وذكر أبو الحسن السلامي البيهقي في تاريخه عن ابن عبّاس أنّه قال: سبب زوال الدولة عن يزيد بن معاوية واللَّه قتله الحسين عليه السلام» «3».

عتبة بن مسعود: ..... ص : 68

حينما علم عتبة بن مسعود بإرادة ابن عبّاس لبيعة يزيد خوفاً، اعترضه بهذا الكلام- كما نقله ابن قتيبة- وقال:

«أتبايع ليزيد وهو يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش» «4».

ابن الزبير: ..... ص : 68

وفي تاريخ خليفة بإسناده عن بقيّة بن عبد الرحمن عن أبيه قال:

«لمّا بلغ يزيد بن معاوية أنّ أهل مكّة أرادوا ابن الزبير على البيعة فأبى، أرسل النعمان بن بشير الأنصاري وهمام بن قبيصة النميري إلى ابن الزبير يدعوانه إلى البيعة ليزيد على أن يجعل له ولاية الحجاز وما شاء وما أحبّ لأهل بيته من

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 69

الولاية، فقدما على ابن الزبير، فعرضا عليه ما أمرهما به يزيد، فقال ابن الزبير:

أتأمراني ببيعة رجل يشرب الخمر ويدع الصلاة ويتبع الصيد..!» «1».

وجاء في تذكرة الخواص: «ذكر الواقدي وهشام وابن إسحاق وغيرهم قالوا:

لمّا قُتل الحسين عليه السلام بعث عبداللَّه بن الزبير إلى عبداللَّه بن العبّاس ليبايعه وقال: أنا أولى من يزيد الفاسق الفاجر..» «2».

وفي البدء والتاريخ: «وأمّا عبداللَّه بن الزبير فامتنع بمكّة ولاذ بالكعبة ودعا الناس إلى الشورى وجعل يلعن يزيد وسمّاه الفاسق المتكبّر..» «3».

وفي البداية والنهاية: «أنّ ابن الزبير لمّا بلغه مقتل الحسين شرع يخطب الناس ويعظم قتل الحسين وأصحابه جدّاً ويعيب على أهل الكوفة وأهل العراق ما صنعوه من خذلانهم الحسين، ويترحّم على الحسين ويلعن من قتله ويقول:

(أما واللَّه لقد قتلوه، طويلًا بالليل قيامه، كثيراً في النهار صيامه، أما واللَّه ما كان يستبدل بالقرآن الغناء والملاهي ولا بالبكاء من خشية اللَّه اللغو والحداء ولا بالصيام شرب المدام وأكل الحرام، ولا بالجلوس في حلق الذكر طلب الصيد- يعرّض في ذلك بيزيد بن معاوية- فسوف يلقون غيّاً)، ويؤلّب الناس على بني أميّة، ويحثّهم على مخالفته وخلع يزيد» «4».

سعيد بن المسيب: ..... ص : 69

قال اليعقوبي: «وكان سعيد بن المسيب يسمّي سني يزيد بن معاوية بالشؤم، في السنة الاولى قتل الحسين بن علي وأهل بيت رسول

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 70

اللَّه، والثانية استبيح حرم رسول اللَّه وانتهكت

حرمة المدينة، والثالثة سفكت الدماء في حرم اللَّه وحرقت الكعبة» «1».

عبداللَّه بن عفيف: ..... ص : 70

حينما قال عبيداللَّه بن زياد في خطبته: (الحمد للَّه الذي أظهر الحقّ وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه وقتل الكذّاب بن الكذّاب حسين بن عليّ وشيعته) وثب إليه عبداللَّه بن عفيف الأزدي- وكان شيخاً كبيراً ضريراً قد ذهب بصره قد ذهبت إحدى عينيه بصفّين والاخرى يوم الجمل- قام فقال: «يابن مرجانة! إنّ الكذّاب ابن الكذّاب لأنت وأبوك والذي ولّاك وأبوه..» «2».

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب «أنّه قال له ابن زياد: يا عدوّ نفسه، ما تقول في عثمان؟ فقال: يابن مرجانة ويابن سميّة الزانية، ما أنت وعثمان أساء أم أحسن، أصلح أم أفسد؟ واللَّه تعالى وليّ خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل، ولكن سلني عنك وعن أبيك وعن يزيد وأبيه» «3».

عبداللَّه بن حنظلة: ..... ص : 70

قال ابن الجوزي: وكان ابن حنظلة يقول: «يا قوم، واللَّه ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إنّ الرجل ينكح الامّهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة، واللَّه لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت للَّه فيه بلاءً حسناً» «4».

عبداللَّه بن مطيع: ..... ص : 70

روى الذهبي عنه أنّه قال في شأن يزيد: «إنّه يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدّى حكم اللَّه» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 71

عبداللَّه بن عمرو بن حفص المخزومي: ..... ص : 71

قال ابن الجوزي: «قال أبو الحسن المدائني- وكان من الثقات-: أتى أهل المدينة المنبر فخلعوا يزيد، فقال عبداللَّه ابن عمرو بن حفص المخزومي: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي- ونزعها من رأسه- وإنّي لأقول هذا وقد وصلني وأحسن جائزتي ولكنّ عدوّ اللَّه سكّير» «1».

عمرو بن حفص بن المغيرة- أبو زوجة يزيد-: ..... ص : 71

قال البيهقي: «ولمّا كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان قدم عمرو بن حفص بن المغيرة وكان تزوّج يزيد بن معاوية ابنته وأعطاه مالًا كثيراً، فلمّا قدم المدينة جاءه محمّد بن عمرو بن حزم وعبيداللَّه بن حنظلة وعبداللَّه بن مطيع بن الأسود وناس من وجوه أهل المدينة قالوا: ننشدك اللَّه ربّ هذا البيت وربّ صاحب هذا القبر إلّاأخبرتنا عن يزيد، فقال: إنّه ليشرب الخمر وينادم القردة ويفعل كذا ويصنع كذا.

فقالوا: واللَّه ما لنا بأهل الشام من طاقة، ولكن ما يحِلّ لنا أن نبايع رجلًا على هذه الحال..»»

وفد المدينة: ..... ص : 71

قال ابن الجوزي: «لمّا دخلت سنة اثنتين وستّين ولّى يزيد عثمان بن محمّد ابن أبي سفيان المدينة، فبعث إلى يزيد وفداً من المدينة، فلمّا رجع الوفد أظهروا شتم يزيد وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب، وإنّا نشهدكم إنّا قد خلعناه» «3».

معاوية بن يزيد بن معاوية: ..... ص : 71

قال في دائرة المعارف: «قام بالأمر بعده ابنه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 72

معاوية بن يزيد بن معاوية لكنّه خلع نفسه بعد أربعين يوماً حبّاً بعليّ وكرهاً لقتل الحسن والحسين ولأخذ جدّه الخلافة من بني هاشم» «1».

وقال ابن حجر: «إنّه لمّا ولّي صعد المنبر فقال: إنّ هذه الخلافة حبل اللَّه، وإنّ جدّي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منه عليّ بن أبي طالب وركب بكم ما تعلمون حتّى أتته منيّته فصار في قبره رهيناً بذنوبه، ثمّ قلّد أبي الأمر وكان غير أهل له ونازع ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فقصف عمره وانبتر عقبه وصار في قبره رهيناً بذنوبه» «2».

عمر بن عبد العزيز: ..... ص : 72

روى ابن الحجر أنّه قال نوفل بن أبي عقرب: «كنت عند عمر بن عبد العزيز فذكر رجلٌ يزيد بن معاوية فقال: (قال أمير المؤمنين يزيد)، فقال عمر: (تقول أمير المؤمنين يزيد؟!) وأمر به فضرب عشرين سوطاً» «3».

يزيد في أقوال العلماء ..... ص : 72
اشارة

ذكرنا في مطاوي المباحث السابقة أقوالًا لكبار العلماء والمؤرِّخين والمفسِّرين- حول هذه الجرثومة الفاسدة الطاغية- ما يناسب بعض زوايا حياته السوداء، ونذكر هنا بعض ما يكون أعمّ وأشمل منها:

1- الإمام ابن حنبل: ..... ص : 72

روى ابن الجوزي بإسناده عن مهنّا بن يحيى قال:

«سألت أحمد عن يزيد بن معاوية، فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل. قلت:

وما فعل بها؟ قال: نهبها. قلت: فنذكر عنه الحديث؟ قال: لا يُذكر عنه الحديث ولا [كرامة]، لا ينبغي لأحد أن يكتب عنه حديثاً. قال: ومن كان معه حين فعل ما

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 73

فعل؟ قال: أهل الشام» «1».

وقال ابن الجوزي في المنتظم: «وقد أسند يزيد بن معاوية الحديث، فروى عن أبيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإسنادنا إليه متّصل! غير أنّ الإمام أحمد سُئل أيروى عن يزيد الحديث؟ فقال:" لا ولا كرامة"، فلذلك امتنعنا أن نسند عنه» «2».

2- مجاهد: ..... ص : 73

ذكر سبط ابن الجوزي عن ابن أبي الدُّنيا قال: «قال مجاهد: فواللَّه لم يبق في الناس أحد إلّامن سبّه وعابه وتركه (أي يزيد بن معاوية)» «3».

3- الكيا الهراسي: ..... ص : 73

وحكى عن ذيل تاريخ نيسابور أنّه كان قد سئل عن يزيد بن معاوية، فقدح فيه وشطح وقال: «لو مدت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل، فأمّا قول السلف فلأحمد ومالك وأبي حنيفة قولان تلويح وتصريح، ولنا قول واحد التصريح، وكيف لا وهو اللاعب بالنرد والمتصيّد بالفهود ومدمن الخمر، وهو القائل:

أقول لصحب ضمّت الكأس شملهم وداعي صبابات الهوى يترنّم

خذوا بنصيب من نعيمٍ ولذّة فكلٌّ وإن طال المدى يتصرّم

ولا تتركوا يوم السرور إلى غدٍ فربّ غدٍ يأتي بما ليس يعلم» «4»

4- ابن الجوزي: ..... ص : 73

قال: «ليس العجب من فعل عمر بن سعد وعبيداللَّه بن زياد، وإنّما العجب من خذلان يزيد وضربه بالقضيب على ثنية الحسين وإعادته إلى المدينة.. لبلوغ الغرض الفاسد، أفيجوز أن يفعل هذا بالخوارج؟! أوليس في

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 74

الشرع أنّهم يُصلّى عليهم ويدفنون، وأمّا قوله: (لي أن أسبيهم) فأمر لا يقع لفاعله ومعتقده إلّااللعنة، ولو أنّه احترم الرأس حين وصوله وصلّى عليه ولم يتركه في طست ولم يضربه بقضيب ما الذي كان يضرّه وقد حصل مقصوده من القتل؟

ولكن أحقاد جاهلية ودليلها ما تقدّم من إنشاده: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا» «1».

وقال: «واعلم أنّه ما رضي ببيعة يزيد أحد ممّن يعوّل عليه حتّى العوام أنكروا ذلك، غير أنّهم سكتوا خوفاً على أنفسهم.. وأجمع العلماء على أنّه لا يجوز التنصيص على إمام بالتشهّي وأنّه لابدّ من صفات وصفات الإمام وشروط الإمامة جمعها الحسين عليه السلام لا يقاربه فيها أحد من أهل زمانه.. وإذا ثبت أنّ الصحابة كانوا يطلبون الأفضل ويرونه الأحقّ أفيشكّ أحد أنّ الحسين أحقّ بالخلافة من يزيد؟ لا بل من هو دون الحسين في المنزلة كعبد الرحمن بن أبي بكر وعبداللَّه بن عمر وعبداللَّه بن الزبير وعبداللَّه بن عبّاس،

وما في هؤلاء إلّامن له صحبة ونسب ونجدة وكفاية وورع وعلم وافر لا يقاربهم يزيد، فبأيّ وجه يستحقّ التقديم؟ وما رضى ببيعة يزيد عالم ولا جاهل، ولو قيل لأجهل الناس أيّهما أصلح الحسين أو يزيد؟ لقال الحسين، فبان بما ذكرنا أنّ ولاية يزيد كانت قهراً وإنّما سكت الناس خوفاً، ومن جملة من خرج ولم يبايع ابن عمر! فلمّا خاف على نفسه بايع..» «2».

5- ابن أبي الحديد ..... ص : 74

ردّاً على بعض: «وكذا القول في الحديث الآخر وهو قوله (القرن الذي أنا فيه خير .. ثم الذي يليه) وممّا يدلّ على بطلانه أنّ القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شرّ قرون الدُّنيا وهو أحد القرون التي ذكرها في

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 75

النصّ وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه الحسين، وأوقع بالمدينة وحوصرت مكّة ونقضت الكعبة وشربت خلفاؤه القائمون مقامه والمنتصبون أنفسهم في منصب النبوّة الخمور وارتكبوا الفجور كما جرى ليزيد بن معاوية وليزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد.. وإذا تأمّلت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية شرّاً كلّها لا خير فيها، فكيف يصحّ هذا الخبر؟» «1»

6- سيّد الحفّاظ شهردار بن شيرويه الديلمي: ..... ص : 75

قال الخوارزمي:

«وأخبرني سيّد الحفّاظ- ثمّ ذكر إسناد الخبر إلى عبداللَّه بن بدر الخطمي- عن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم يقول: (من أحبّ أن يبارك في أجله وأن يمتّع بما خوّله اللَّه تعالى فليخلفني في أهلي خلافة حسنة، ومن لم يخلفني فيهم بتك عمره وورد علي يوم القيامة مسودّاً وجهه) قال: فكان كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فإنّ يزيد بن معاوية لم يخلفه في أهله خلافة حسنة فبتك عمره، وما بقي بعد الحسين عليه السلام إلّاقليلًا، وكذلك عبيداللَّه بن زياد لعنهما اللَّه» «2».

7- مجد الأئمّة: ..... ص : 75

روى الخوارزمي بإسناده: «عن عبداللَّه بن عمر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: (من ذبح عصفوراً بغير حقّه سأله اللَّه عنه يوم القيامة)، وفي رواية أخرى: (من ذبح عصفوراً بغير حقّ ضجّ إلى اللَّه تعالى يوم القيامة منه، فقال: ياربّ إنّ هذا ذبحني عبثاً ولم يذبحني منفعة) ثمّ قال: قال مجد الأئمّة:

هذا لمن ذبح عصفوراً بغير حقّ، فكيف لمن قتل مؤمناً؟! فكيف لمن قتل ريحانة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو الحسين عليه السلام؟» «3»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 76

8- ابن تيمية: ..... ص : 76

حكي عن ابن تيميّة أنّه حكم بضلالته، حيث قال ما معناه:

«ومن الناس من يرى يزيد رجلًا صالحاً وإمام عدل، وهذا قول بعض الضلّال ..» «1».

9- صاحب الميزان: ..... ص : 76

قال صاحب شذرات الذهب: «وقال فيه (يزيد) في الميزان: إنّه مقدوحٌ في عدالته ليس بأهل أن يروى عنه» «2».

11- ابن حجر: ..... ص : 76

قال الشبراوي: «قال العلّامة ابن حجر في شرح الهمزية: إنّ يزيد قد بلغ من قبايح الفسق والانحلال عن التقوى مبلغاً لا يستكثر عليه صدور تلك القبائح منه» «3».

12- الجوهري: ..... ص : 76

ذكر العلّامة المحمودي أنّه أنشد في ناصبي أحمق:

رأيت فتىً أشقراً أزرقاً قليل الدماغ كثير الفضول

يفضّل من حمقه دائماً يزيد ابن هند على ابن البتول «4»

13- ابن حزم: ..... ص : 76

قال في شذرات الذهب: «وعدّ ابن حزم خروم الإسلام أربعة: قتل عثمان وقتل الحسين ويوم الحرّة وقتل ابن الزبير» «5».

14- العلّامة الحجّة الأميني: ..... ص : 76

ولنختم المقال بما ذكره العلّامة الحجّة البحّاثة الشيخ الأميني:

«.. نعم تمّت تلك البيعة المشومة مع فقدان أيّ جدارة وحنكة في يزيد،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 77

تؤهّله لتسنّم عرش الخلافة على ما تردّى به من ملابس الخزي وشية العار من معاقرة الخمور، ومباشرة الفجور، ومنادمة القيان ذوات المعازف، ومحارشة الكلاب، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية، وقد عرفته الناس بذلك كلّه منذ أولياته وعرّفه به اناس آخرون..» «1».

موته ..... ص : 77

قال ابن قتيبة الدينوري: «كانت ولاية يزيد ثلاث سنين وشهوراً وهلك بحوارين من عمل دمشق سنة أربع وستّين وهو ابن ثمان وثلاثين سنة» «2».

وروى الذهبي عن محمّد بن أحمد بن مسمع قال: «سكر يزيد، فقام يرقص فسقط على رأسه فانشقّ وبدا دماغه» «3».

وفيه يقول الشاعر:

يا أيّها القبر بحوّارينا ضممت شرّ الناس أجمعينا «4»

***

روي عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال: «رأيت فيما يرى النائم أنّ القيامة قد قامت- إلى أن قال-: ثمّ مررت على واد من نار فإذا رجل فيه، كلّما أراد أن يخرج قمع بمقامع من حديد فهوى، فقلت: مَنْ هذا؟ قيل: يزيد بن معاوية» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 81

الفصل الأوّل: دور أهل البيت في الشام ..... ص : 81

الشام قبل ورود أهل البيت عليهم السلام ..... ص : 81
ظهور الآيات في الشام بعد مقتل الحسين عليه السلام ..... ص : 81

رُويت عدّة روايات حول ظهور آيات كونيّة في الشام بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام «1»، نذكر بعضها:

روى الطبراني بإسناده عن ابن شهاب قال: «ما رُفع بالشام حجر يوم قتْل الحسين بن علي إلّاعن دم، رضي اللَّه عنه» «2».

وقال الزرندي: «روى أبو الشيخ في كتاب السنّة.. بسنده إلى يزيد بن أبي زياد قال: شهدت مقتل الحسين وأنا ابن خمس عشرة سنة فصار الفرس «3» في

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 82

عسكرهم رماداً واحمرّت السماء لقتله، وانكسفت الشمس لقتله حتّى بدت الكواكب نصف النهار، وظنّ الناس أنّ القيامة قد قامت ولم يُرفع حجر في الشام إلّا رُؤي تحته دم عبيط» «1».

وقال محبّ الدِّين الطبري: «رُوي عن جعفر بن سليمان قال: حدّثتني خالتي أمّ سالم قالت: لمّا قُتل الحسين مُطرنا مطراً كالدم على البيوت والخدر، قالت:

وبلغني أنّه كان بخراسان والشام والكوفة» «2».

حالة الناس ..... ص : 82

إنّ قتل الحسين عليه السلام أفجع كلّ الناس ما خلا السلطة الحاكمة وبنو أميّة وأهالي دمشق والبصرة- على ما في بعض الروايات-:

روى الشيخ الجليل جعفر بن محمّد بن قولويه بإسناده عن يونس بن ظبيان وأبي سلمة السرّاج والمفضّل بن عمر قالوا: سمعنا أبا عبداللَّه عليه السلام يقول:

«لمّا مضى الحسين بن عليّ عليهما السلام بكى عليه جميع ما خلق اللَّه إلّاثلاثة أشياء: البصرة ودمشق وآل عثمان» «3»

.وروى الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن فاختة عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: «إنّ أبا عبداللَّه الحسين عليه السلام لمّا قُتل بكتْ عليه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهنّ وما بينهنّ ومن يتقلّب في الجنّة والنار وما يُرى وما لا يُرى إلّاثلاثة أشياء فإنّها لم تبكِ عليه، فقلتُ: جُعلت فداك وما هذه الثلاثة

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 83

أشياء التي لم تبكِ

عليه؟ فقال: البصرة ودمشق وآل الحَكم بن أبي العاص» «1».

ولاشكّ أنّ المقصود من البصرة ودمشق أهلهما، كما في قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) «2»

أي أهلها.

أمّا أهل دمشق فلطول زمان تسلّط بني أميّة عليهم وبثّ الفتنة والدعايات الكاذبة ضدّ آل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله في هذا المصر.

وأمّا البصرة فحسبها أنّها البلدة التي اتّخذها الناكثون موضعاً للوقوف في وجه الإمام المفترض الطاعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ولبقاء آثار حرب الجمل دور لا يمكن التغافل عنه.

وأمّا آل عثمان وآل الحكم بن أبي العاص فإنّهم من بني أميّة الشجرة الملعونة في القرآن، كما تقدّم.

المهمّ أنّ أهل الشام لم يتأثّروا في بادئ الأمربقتل الحسين عليه السلام، بل راحوا يهنئون يزيد بالفتح»

!!.

أمر يزيد بإرسال رأس الإمام عليه السلام وأسرته إلى الشام ..... ص : 83
اشارة

أمر يزيدُ عبيدَ اللَّه بن زياد بإرسال الرأس الشريف وبقيّة عترة الرسول صلى الله عليه و آله «4»؛ ممّن صرّح بهذا الأمر ابن سعد، فإنّه نقل بإسناده عن عامر، قال: «وقدم رسول من قِبل يزيد بن معاوية يأمر عبيداللَّه أن يرسل إليه بثقل الحسين ومن بقي من ولده وأهل بيته ونسائه، فأسلفهم أبو خالد ذكوان عشرة آلاف درهم، فتجهّزوا بها» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 84

وقال السيّد ابن طاووس: «وأمّا يزيد بن معاوية فإنّه لمّا وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين عليه السلام ورؤوس من قُتل معه وبحمل أثقاله ونسائه وعياله» «1».

وقال ابن الجوزي: «ثمّ دعا ابنُ زياد زحرَ بن قيس فبعث معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد، وجاء رسولٌ من قبل يزيد فأمر عبيداللَّه أن يرسل إليه بثقل الحسين ومن بقي من أهله» «2».

وممّا يؤيّد ذلك ما نقله الطبري وابن الأثير عن هشام الكلبي عن مجي ء

بريد من يزيد بن معاوية إلى عبيداللَّه حاملًا كتابه إليه بأن سرِّح الأسارى إليّ «3».

من حمل الرأس الشريف؟ ..... ص : 84
اشارة

وقع خلاف بين أهل السير في من دُفع إليه رأس الحسين عليه السلام ورؤوس أصحابه الأوفياء حتّى يحملها إلى يزيد، والأقوال ثلاثة:

أ) زحر بن قيس الجعفي ..... ص : 84

هذا هو رأي الأغلب «4»، يؤيّده ما رواه الطبري الإمامي بإسناده عن إبراهيم بن سعد أنّه كان مع زهير بن القين حين صحب الحسين عليه السلام، فقال له: «يازهير، اعلم أنّ هاهنا مشهدي، ويحمِل هذا من جسدي- يعني رأسه- زحر بن قيس،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 85

فيدخل به على يزيد يرجو نواله، فلا يعطيه شيئاً». «1»

وكان معه أبو بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة.

قال الشيخ المفيد: «ولمّا فرغ القوم من التطواف به- أي بالرأس الشريف- بالكوفة ردّوه إلى باب القصر فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرّحه إلى يزيد بن معاوية عليهم لعائن اللَّه ولعنة اللاعنين في السماوات والأرضين، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة، حتّى وردوا بها على يزيد بدمشق» «2».

ب) محفّز بن ثعلبة العائذي ..... ص : 85

صرّح بذلك البلاذري، قال: «وأمر عبيداللَّه بن زياد بعليّ بن الحسين فغُلّ بغلّ إلى عنقه وجهَّز نساءه وصبيانه ثمّ سرّح بهم مع محفز بن ثعلبة من عائذة قريش وشمر بن ذي الجوشن» «3».

ونُقل عن عوانة بن الحكم أنّه قال: «قُتل الحسين بكربلاء، قتله سنان بن أنس واحتزّ رأسه خولي بن يزيد وجاء به إلى ابن زياد فبعث به إلى يزيد مع محفّز بن ثعلبة» «4».

ج) عمر بن سعد ..... ص : 85

تفرّد بذكره الشبراوي، قال: «ويقال: إنّ الذي حضر بالرأس إلى الشام عمر

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 86

بن سعد بن أبي وقّاص، وفي عنق عليّ بن الحسين ويديه الغلّ» «1».

أهل البيت عليهم السلام في الشام ..... ص : 86
أصبح أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أُسارى! ..... ص : 86

هذه هي الفاجعة الكبرى، والمأساة العظمى، جاءوا إلى الشام وعلى رأسهم سيّد العابدين وزين المتهجِّدين عليّ بن الحسين عليه السلام، وقد جُعل الغلّ في عنقه ويده «2»، يحمله بعير يطلع بغير وطاء، والأسارى من أهل بيت الرسول من النساء والصبيان راكبين أقتاباً يابسة، ورأس الحسين عليه السلام على علَم، وحولهم الجنود بالرماح إنْ دمعت عين أحدهم قُرع رأسه بالرمح، ساقوا بهم من منزل إلى منزل كما تساق أسارى الترك والديلم..

نعم إنّهم جاءوا إلى الشام مشدودين على أقتاب الجمال موثوقين بالحبال، والنساء مكشفات الوجوه و... إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.

روي عن زينب الكبرى سلام اللَّه عليها أنّها قالت: «قد علم اللَّه ما صار إلينا.

قُتل خيرنا، وانسقنا كما تُساق الأنعام، وحُملنا على الأقتاب» «3»!

وجاء في رسالة ابن عبّاس ليزيد: «ألا ومن أعجب الأعاجيب- وما عشت أراك الدهر العجيب- حملك بنات عبد المطّلب وغلمة صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب تُري الناس أنّك قهرتنا وأنّك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمناً لجرح يدي ...» «4».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 87

وقال ابن حبان: «ثمّ أنفذ عبيداللَّه بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع أسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أقتاب مكشّفات الوجوه والشعور» «1».

وقال: «ثمّ أركب الأسارى من أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم من النساء والصبيان أقتاباً يابسة مكشّفات الشعور، وادخلوا دمشق كذلك» «2».

وقال ابن عبد ربّه: «وحمَل أهلُ الشام بنات رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله و سلم سبايا على أحقاب الإبل» «3».

واليعقوبي: «وأُخرج عيال الحسين وولده إلى الشام ونُصب رأسه على رمح» «4».

وقال ابن أعثم والخوارزمي: «فسار القوم بحرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم من الكوفة إلى بلاد الشام على محامل بغير وطاء من بلد إلى بلد ومن منزل إلى منزل كما تُساق أسارى الترك والديلم» «5».

وقال سبط ابن الجوزي: «ولمّا أسلم وحشي قاتل حمزة قال له رسول اللَّه:

غيّب وجهك عنّي، فإنّي لا أحبّ مَن قَتَل الأحبّة، قال هذا والإسلام يجبّ ما قبله، فكيف يقدر الرسول أن يَرى من ذبح الحسين وأمر بقتله وحمَل أهله على أقتاب الجمال؟!» «6».

وقال الباعوني: «وحمل أهل الشام بنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم سبايا على

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 88

الأقتاب» «1».

وفي شذرات الذهب: «ولمّا تمّ قتله حمل رأسه وحرم بيته وزين العابدين معهم إلى دمشق كالسبايا، قاتل اللَّه فاعل ذلك وأخزاه ومن أمر به أو رضيه» «2».

وقال الشبراوي: «ثمّ أرسل بها إلى يزيد بن معاوية وأرسل معه الصبيان والنساء مشدودين على أقتاب الجمال موثوقين بالحبال والنساء مكشّفات الوجوه والرؤوس» «3».

وقال: «ومن عجائب الدهر الشنيعة وحوادثه الفظيعة أن يحمل آل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على أقتاب الجمال موثّقين بالحبال والنساء مكشّفات الوجوه والرؤوس، من العراق إلى أن دخلوا دمشق، فأُقيموا على درج الجامع حيث يقام الأسارى والسبي، والأمر كلّه للَّه، لا حول ولا قوّة إلّابه» «4».

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب: «فسار بهم محفّز حتّى دخل الشام كما يُسار بسبايا الكفّار، ويتصفّح وجوههم أهل الأقطار» «5».

كيف ورد أهل بيت الحسين عليه السلام دمشق؟! ..... ص : 88

لقد دخل أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دمشق نهاراً وأهلها قد علّقوا الستور والحجب والديباج،

فرحين مستبشرين، ونساؤهم يلعبن بالدفوف، ويضربن على الطبول، كأنّه العيد الأكبر عندهم.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 89

روى الخوارزمي بإسناده عن زيد عن أبيه عليه السلام قال: «إنّ سهل بن سعد قال:

خرجت إلى بيت المقدس حتى توسّطت الشام فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علّقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: لعلّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن. فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت: يا هؤلاء ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟

قالوا: ياشيخ نراك غريباً! فقلت: أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وحملت حديثه، فقالوا: يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تخسف بأهلها. قلت: ولِمَ ذاك؟ فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يهدى من أرض العراق إلى الشام وسيأتي الآن. قلت: واعجباه! يهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟! فمن أيّ باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات، فسرت نحو الباب، فبينما أنا هنالك إذ جاءت الرايات يتلو بعضها بعضاً وإذا أنا بفارس بيده رمح منزوع السنان وعليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول اللَّه، وإذا النسوة من ورائه على جمال بغير وطاء، فدنوت من إحداهنّ فقلت لها: يا جارية، مَن أنت؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها: ألكِ حاجة إليّ- فأنا سهل بن سعد، ممّن رأى جدّك وسمعت حديثه؟ قالت: يا سهل، قل لصاحب الرأس أن يتقدّم بالرأس أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول اللَّه.

قال: فدنوت من صاحب الرأس وقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمائة دينار؟ قال: وما هي؟

قلت: تقدّم الرأس أمام الحرم، ففعل ذلك، ودفعت له ما وعدته..» «1».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 90

إنّ هذه الرواية تكشف عن عدّة نقاط:

1- الوضع العامّ، المتمثِّل بحالة الفرح والانبساط والاشتغال باللهو، وهي ناشئة عن الجهل السائد، وقد بيّنا جذوره في مدخل هذا الكتاب.

2- الوضع الخاصّ، وهو وجود ضمائر حيّة تعرف الأمور، وتميّز الحقّ من الباطل، ممّن رأى سهلُ بن سعد بعضَهم مصادفة، وسمع منهم هذا الكلام:

(يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تخسف بأهلها، هذا رأس الحسين عترة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يُهدى من أرض العراق إلى الشام)، وأغلب الظنّ أنّهم قاموا بدور مهمّ في إيقاظ الناس، بعدما فُسح لهم المجال، إلى جانب الدور المهمّ الذي أدّاه أهل بيت الحسين عليه السلام في الشام، وإن لم نعلم تفاصيل ذلك.

3- اهتمام حرم الحسين عليه السلام بمسألة الحجاب وحفظ مكانة المرأة في الإسلام، مع كونهم في مأساة كبيرة لا تتصوّرها العقول، فلقد قدموا من سفر بعيد، ونالت منهم جراحات اللسان والسنان ما نالت، ومع ذلك تقول سكينة: «قل لصاحب الرأس أن يتقدّم بالرأس أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول اللَّه».

ونحو ذلك ما رواه السيّد ابن طاووس وابن نما، قال- واللفظ للأوّل-: «قال الراوي: وسار القوم برأس الحسين عليه السلام ونسائه والأسرى من رجاله فلمّا قربوا من دمشق دنت أُمّ كلثوم من الشمر- وكانت من جملتهم- فقالت: لي إليك حاجة، فقال: وما حاجتك؟ قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة، وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال، فأمر في جواب سؤالها

أن تُجعل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 91

الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل- بغياً منه وكفراً- وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة، حتّى أتى بهم إلى باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي» «1».

وروي أنّ السبايا لمّا وردوا مدينة دمشق أُدخلوا من باب يقال له باب «توما» «2».

وروى محمّد بن أبي طالب قال: «إنّ رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً واقتسمتها القبائل ليتقرّبوا بذلك إلى عبيداللَّه وإلى يزيد» «3».

رأس الحسين يتلو القرآن ..... ص : 91

كيف ينطق الرأس الشريف؟ وما الذي نطق به؟ لقد نطق بالقرآن لكي يثبت للجميع أنّه شهيد القرآن، وإذا كان هو القرآن الناطق في حياته، فكيف لا ينطق به بعد استشهاده؟!

المروي في التاريخ أنّ الرأس الشريف تلا هذه الآية الشريفة (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) «4»

.روى ابن عساكر عن الأعمش عن سلمة بن كهيل قال: «رأيت رأس الحسين بن علي رضي اللَّه عنه على القنا وهو يقول: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 92

وجاء في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور:

«وقال: إنّ كلّ راوٍ لهذا الحديث قال لمن رواه له: اللَّه إنّك سمعته من فلان؟

قال: اللَّه إنّي سمعته منه، إلى الأعمش، قال الأعمش: فقلت لسلمة بن كهيل: اللَّه إنّك سمعته منه؟ قال: اللَّه إنّي سمعته منه بباب الفراديس بدمشق لا مُثّل لي ولا شُبّه لي وهو يقول: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)» «1»

تكلّم رأس الحسين عليه السلام بدمشق ..... ص : 92

أخرج ابن عساكر بإسناده عن المنهال بن عمرو قال: أنا واللَّه رأيت رأس الحسين بن علي حين حُمل وأنا بدمشق وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتّى بلغ قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً) «2»

، قال:

فأنطق الرأس بلسان ذرب فقال: «أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي» «3».

وروى ابن شهرآشوب عن الحافظ السروي أنّه قال: «وسمع أيضاً صوته عليه السلام بدمشق: لا قوّة إلّاباللَّه» «4»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 93

على درج المسجد ..... ص : 93

أمر يزيد عليه اللعنة بإيقاف الأسارى من اسرة الرسول صلى الله عليه و آله بدرجة المسجد حيث توقف الأسارى لينظر الناس إليهم، صرّح بذلك المؤرّخون ومنهم مطهّر بن طاهر المقدسي «1»، وابن العبرى «2»، قال- واللفظ للأخير-: «ثمّ بعث (أي ابن زياد) به (أي رأس الحسين عليه السلام) وبأولاده إلى يزيد بن معاوية فأمر نساءه وبناته فأقمن بدرجة المسجد حيث توقف الأسارى ينظر الناس إليهم».

مع الشيخ الشامي ..... ص : 93

قال ابن أعثم: «وأُتي بحرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أُدخلوا من مدينة دمشق من باب يقال له" باب توما"، ثمّ أُتي بهم حتّى وقفوا على درج باب المسجد حيث يقام السبي، وإذا بشيخ قد أقبل حتّى دنا منهم وقال: الحمد للَّه الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين! منكم.

فقال له عليّ بن الحسين: يا شيخ هل قرأت القرآن؟

فقال: نعم قرأته.

قال: فعرفت هذه الآية: (قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) «3»؟

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 94

فقال عليّ بن الحسين رضى الله عنه: فنحن القربى يا شيخ!

قال: فهل قرأت في «بني إسرائيل»: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) «1»؟

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال عليّ رضى الله عنه: نحن القربى يا شيخ! ولكن هل قرأت هذه الآية: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) «2»

فنحن ذو القربى يا شيخ، ولكن هل قرأت هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) «3»؟

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال: فنحن أهل البيت الذين خُصصنا بآية الطهارة.

قال: فبقى الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلّمه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمَّ إنّي تائبٌ إليك ممّا تكلّمته ومن بغض هؤلاء

القوم، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من عدوّ محمّد وآل محمّد من الجنّ والإنس» «4».

وفي اللهوف قال: قال الراوي: «بقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، وقال:" تاللَّه إنّكم هُم؟!" فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: تاللَّه لنحن هم من غير شكّ، وحقّ جدّنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إنّا لنحن هم. قال: فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد صلى الله عليه و آله من الجنّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 95

والإنس، ثمّ قال: هل لي من توبة؟ فقال له: نعم، إن تبت تاب اللَّه عليك وأنت معنا، فقال:" أنا تائب". فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ، فأمر به فقُتل» «1».

تأمّل وملاحظات ..... ص : 95

نستنتج من هذا الخبر عدة أمور:

1- إنّ هذا أوّل موقف تكلّم به الإمام زين العابدين بعد تحمّله شدّة السفر وشقته، وبعدما رأى من المعاناة، لأنّه روي أنّ الإمام عليه السلام لم يتكلّم في الطريق- من الكوفة إلى الشام- حتّى وصل الشام «2».

2- الإمام عليه السلام يقوم بأداء الرسالة في أوّل فرصة وأوّل نقطة يجد بها الطينة الطيّبة. فمع أنّ ذاك الشيخ الشاميّ لم يكن إلّارجلًا عاش في كنف حكم الأمويّين مدّة طويلة، ولم ير عليّاً ولا أحداً من أبنائه ولكنّه كان على فطرة سليمة، بينما الذين قاموا بقتل الإمام الحسين وسبي أهل بيته فقد كان كثير منهم ممّن رأى عليّاً والحسن والحسين عليهم السلام وصلّى خلفهم! وسلّم عليهم ولكنّهم كانوا خبثاء!

3- هذا الخبر يدلّ على سيطرة الجوّ الإعلامي المسموم على مجتمع وبيئة تربّت في أحضان بني أميّة، لقد أذاعوا بأنّ المقتول هو رجل خارجيّ خرج على أمير المؤمنين! وخليفة المسلمين! كان يريد بثّ

الفتنة والفرقة في المجتمع «3»، ولذلك نرى أنّ الشيخ الشامي حينما يواجه الإمام عليه السلام أوّل مرّة يحمد اللَّه على قتل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 96

الحسين عليه السلام ويقول: «الحمد للَّه الذي قتلكم وأهلككم وأراح الرجال من سطوتكم وأمكن أمير المؤمنين منكم».

ولكن حينما ينكشف له الواقع يتوب إلى اللَّه من قوله ويتبرّأ من قَتَلة أهل بيت رسول اللَّه عليهم السلام وأعدائهم، وكانت أكثرية المجتمع الشامي، على غرار هذا الشيخ، قد ضلّلتهم الدعاية الأموية وحجبتهم عن معرفة أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛ ومن ثمّ لم يتحمّل يزيد ذلك وأمر بقتل ذلك الشيخ، كي يظلّ مسيطراً على الأوضاع في زعمه.

متى وصل الرأس الشريف؟ ..... ص : 96

بالنسبة إلى زمان وصول الرأس الشريف هناك عدّة احتمالات:

الأوّل: أنّ الرأس الشريف حُمل مع تسييرهم أهل البيت إلى الشام، وهناك بعض الشواهد التاريخية تؤيّد ذلك.

* منها: ما رواه ابن حبان بقوله: «ثمّ أنفذ عبيداللَّه بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع أسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول اللَّه» صلى الله عليه و آله و سلم «1».

* ومنها: ما رواه السيّد ابن طاووس عن الإمام زين العابدين أنّه قال:

«حملني على بعير يطلع بغير وطاء ورأس الحسين عليه السلام على علم ونسوتنا خلفي على بغال ... والفارطة خلفنا وحولنا بالرّماح» «2».

* ومنها: ما رواه ابن الأثير: «ثمّ أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام إلى يزيد ومعه جماعة وقيل مع شمر وجماعة

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 97

معه وأرسل معه النساء والصبيان وفيهم عليّ بن الحسين» «1».

* ومنها: ما نقله السيّد ابن طاووس أيضاً: «وأما يزيد بن معاوية فإنّه لمّا وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه أعاد الجواب إليه يأمره فيه

بحمل رأس الحسين عليه السلام ورؤوس من قُتل معه وبحمل أثقاله ونسائه وعياله» «2».

الثاني: أنّ الرأس الشريف أُوصل إلى دمشق قبل وصول أهل البيت عليهم السلام، وهناك بعض الشواهد تؤيّد هذا الاحتمال:

منها: ما صرّح به ابن أعثم والخوارزمي بقولهما- واللفظ للأوّل-: «ثمّ دعا ابن زياد بزحر بن قيس الجعفي فسلّم إليه رأس الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما ورؤوس إخوته ... ورؤوس أهل بيته وشيعته (رضي اللَّه عنهم أجمعين) ودعا علي بن الحسين فحمله وحمل أخواته وعمّاته ونساءهم إلى يزيد بن معاوية..

وسبق زحر بن قيس برأس الحسين عليه السلام إلى دمشق حتى دخل على يزيد فسلّم عليه ودفع إليه كتاب عبيداللَّه بن زياد، قال: فأخذ يزيد كتاب عبيداللَّه بن زياد فوضعه بين يديه، ثمّ قال: هات ما عندك يا زحر، فقال: ابشر يا أمير المؤمنين ..» «3».

ومقتضى هذا الاحتمال أنّ الرأس الشريف ارجع بعد ذلك إلى خارج دمشق لكي يدخل مع الأسارى الشام.

الثالث: أنّ أهل بيت الحسين عليه السلام سُرّحوا إلى دمشق بعدما أُنفذ برأس الحسين عليه السلام، ولكنّهم لحقوا بالذين معهم الرأس الشريف، فأدخلوا مع الرأس الشريف الشام.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 98

روى الشيخ المفيد والطبرسي ما يؤيّد ذلك، قالا: «ثمّ إنّ عبيداللَّه بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين أمر بنسائه وصبيانه فجُهّزوا وأمر بعليّ بن الحسين فغلّ بغلّ إلى عنقه ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع محفز بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن فانطلقا بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس..» «1».

ويمكن أن يقال: إنّ الرأس الشريف أُنفذ مع إنفاذ أهل البيت إلى الشام وأُدخل معهم دمشق، ولكنّه أدخل بالرأس الشريف مجلس يزيد قبل إدخالهم مجلسه، وهذا يتّحد مع الاحتمال الأوّل الذي ربما

ذكره الأكثر، ويحمل عليه الاحتمال الثاني أيضاً.

أمّا زمن دخول الرأس الشريف في الشام تحديداً فقد صرّح بعض العلماء كونه في أوّل يوم من شهر صفر.

قال أبو ريحان البيروني: «في اليوم الأوّل من صفر أُدخل رأس الحسين عليه السلام مدينة دمشق، فوضعه بين يديه ونقر ثناياه بقضيب كان في يده، وهو يقول: لست من خندف إن لم أنتقم ... الأبيات» «2».

وقال الكفعمي: «وفي أوّله (صفر) ادخل رأس الحسين عليه السلام إلى دمشق، وهو عيد عند بني أميّة» «3».

وعليه يُحمل ما ذكره الشيخ البهائي بقوله: «الأوّل من صفر فيه حُمل رأس أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام إلى دمشق، وجعلوه بنو أميّة عيداً» «4».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 99

رأس الإمام عليه السلام بين يدي يزيد ..... ص : 99

قال الحافظ البدخشاني: «ولمّا قدموا دمشق ودخلوا على يزيد رموا برأس الحسين رضى الله عنه بين يديه، فاستبشر الشقيّ بقتله، وجعل ينكت رأسه بالخيزران ..» «1».

وقال الدينوري: «قالوا إنّ ابن زياد جهّز علي بن الحسين ومن كان معه من الحرم ووجّه بهم إلى يزيد بن معاوية مع زحر بن قيس ومحقن بن تغلبة «2» وشمر بن ذي الجوشن، فساروا حتّى قدموا الشام ودخلوا على يزيد بن معاوية بمدينة دمشق، وأُدخل معهم رأس الحسين، فرمي بين يديه، ثمّ تكلّم شمر بن ذي الجوشن فقال: يا أمير المؤمنين ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلًا من أهل بيته وستّين رجلًا من شيعته ...» «3».

ثمّ ذكر الدينوري كلاماً تفرّد هو بنسبته إلى شمر، خلافاً لغيره من المؤرّخين الذين يرون أنّ المتكلّم كان زحر بن قيس.

قال الشيخ المفيد- وغيره «4»-: «روى عبد اللَّه بن ربيعة الحميري فقال: إنّي لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتّى دخل عليه، فقال له يزيد:

ويلك ما

وراءك وما عندك؟

قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح اللَّه ونصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستّين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا أو

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 100

ينزلوا على حكم الأمير عبيداللَّه بن زياد أو القتال، فأحطنا بهم من كلّ ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم، جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون منّا بالآكام والحفر لواذاً كما لاذ الحمائم من صقر، فواللَّه يا أمير المؤمنين! ما كانوا إلّا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجرّدة، وثيابهم مرمّلة، وخدودهم معفّرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الرياح، زوّارهم العقبان والرخم.

فأطرق يزيد هنيهة، ثمّ رفع رأسه فقال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما لو أنّي صاحبه لعفوت عنه» «1».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 101

وروى سبط ابن الجوزي عن الواقدي عن ربيعة بن عمر قال: «كنت جالساً عند يزيد بن معاوية في بهوٍ له إذ قيل" هذا زحر بن قيس بالباب" فاستوى جالساً مذعوراً وأذِن له في الحال فدخل فقال: ما وراءك؟ ...».

إلى أن يقول: «... في سبعين راكباً من أهل بيته وشيعته.. فأبوا واختاروا القتال... وهم صرعى في الفلاة..». «1»

تأمّل وملاحظات ..... ص : 101

مع ملاحظة تلك النصوص نصل إلى الحقائق التالية:

الأوّل: خوف يزيد، كما روى سبط ابن الجوزي في الفقرة أعلاه.

الثاني: صلابة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه الأوفياء، وعظمتهم وعزّة أنفسهم وقدرتهم الفائقة، حيث إنّ الجميع- بما فيهم ابن سعد وابن عبد ربّه وابن أعثم والطبري وابن الجوزي وسبطه وابن الأثير وابن نما وابن كثير والباعوني وغيرهم اعترفوا بأنّ الإمام وصحبه رفضوا الاستسلام وأبوا إلّاالقتال «2».

الثالث: اعتراف العدوّ بقساوة أفعاله وفظاعة جريمته.

الرابع: عجز العدوّ عن مقابلة الواقع والتجاؤه

إلى الكذب، حيث يقول:

«وجعلوا يهربون إلى غير وزر ويلوذون منّا بالآكام والحفر..».

بينما الواقع الثابت على عكس ذلك، والدليل عليه «تصديق أميرهم عمر بن سعد لكلام عمرو بن الحجّاج حينما رأى عدم قدرتهم لمبارزتهم فصاح بالناس:

(يا حمقى، أتدرون مَنْ تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 102

مستميتين، لا يبرز إليهم منكم أحد، فإنّهم قليل وقلّما يبقون، واللَّه لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم)، فقال عمر بن سعد: (صدقت، الرأي ما رأيت)، فأرسل في الناس من يعزم عليهم ألّا يبارز رجل منكم رجلًا منهم» «1».

ويكفي لقطع نباح هذا الشقي وأمثاله المراجعة إلى ما تجلّى في يوم عاشوراء من تسابق الحسين وأصحابه عليهم السلام في الرواح إلى اللَّه تعالى برواية الموثوقين من المؤرِّخين وكذا يكفي ما أبداه بعض الحاضرين في كربلاء من أشقّاء هذا الرجس (زحر بن قيس) حيث اعتذر عن قتاله وقتله لآل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بما رواه عنه ابن أبي الحديد قال: «ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية ... تلقي أنفسها على الموت لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها!» «2».

ردّ فعل يزيد ..... ص : 102

ذكر المؤرِّخون أنّ يزيد بعدما سمع كلام زحر بن قيس تكلّم بكلمات تدلّ- بنظرنا- على كذبه ونفاقه. «3»

فمن ذلك ما ذكره ابن سعد أنّه دمعت عينا يزيد! وقال: «كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين»! ثمّ تمثّل:

من يذق الحرب يجد طعمها مرّاً وتتركه بجعجاع «4»

ومنه: ما رواه ابن أعثم أنّه «أطرق يزيد ساعة ثمّ رفع رأسه فقال: يا هذا لقد كنت أرضى من طاعتكم

بدون قتل الحسين بن علي، أما واللَّه لو صار إليّ لعفوت عنه، ولكن قبّح اللَّه ابن مرجانة.

قال: وكان عبداللَّه بن الحكم- أخو مروان بن الحكم- قاعداً عند يزيد بن معاوية، فجعل يقول شعراً، فقال يزيد: نعم لعن اللَّه ابن مرجانة، إذ أقدم على قتل الحسين ابن فاطمة، أما واللَّه لو كنت صاحبه لما سألني خصلة إلّاأعطيته إيّاها ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما استطعت، ولو كان بهلاك بعض ولدي، ولكن ليقضي اللَّه أمراً كان مفعولًا، فلم يكن له منه مردّ» «1».

وأظنّ «2» أنّ وضع المجلس أدّى بيزيد لاتّخاذ هذا الموقف- كذباً ونفاقاً- ولعلّ هذا أوّل موقف أبرز فيه تراجعه وأظهر ندامته.

وروى نحوه ابن عبد ربّه من أنّ يزيد قال: «لعن اللَّه ابن سمية، أما واللَّه لو كنت صاحبه لتركته، رحم اللَّه أبا عبد اللَّه وغفر له!» «3».

وقريب منه ما في الأخبار الطوال، وفيه أنّه تمثّل بعد ذلك:

نفلّق هاماً من رجال أعزّة علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما «4»

وقد ذكرنا الشواهد المتقنة والكافية لإثبات أنّ يزيد هو الآمر بقتل الحسين عليه السلام والراضي بقتله وأنّه هو الأصل في ذلك، وأنّ ما أظهره من الندامة

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 104

يرجع إلى كذبه وخوفه على زوال ملكه وتمشّياً مع الوضع العام واستنكار الناس لذلك- بعدما كُشف عن القضية شيئاً فشيئاً- والدليل على ذلك أنّه لم يعاقب ابن زياد على ما فعله ولم يعزله عن الإمارة، بل شكر له واستدعاه وشرب معه الخمر كما مرّ ذكره «1».

وممّا يدلّ على ذلك ما رواه الحافظ البدخشاني، قال: «ولمّا قدموا دمشق ودخلوا على يزيد رموا برأس الحسين رضى الله عنه بين يديه، فاستبشر الشقيّ بقتله، وجعل ينكت رأسه بالخيزران..» «2».

إزاحة وهم ..... ص : 104

قيل: «إنّ زحر بن قيس الجعفي

شهد صفّين مع عليّ عليه السلام وقدّمه على أربعمائة من أهل العراق، وبقي بعده مؤمّراً وأمّره الحسن عليه السلام بأخذ البيعة له، وهو مع ذلك وثّقه الإمام أحمد بن حنبل وأحمد بن عبداللَّه العجلي، ومعه لابدّ أن يكون غيره- وليس هو- الذي أتى برأس الحسين عليه السلام «3».

الجواب: إنّ الرأي الغالب بين أصحاب السير والتراجم أنّ الذي أتى بالرأس الشريف هو زحر بن قيس الجعفي «4»، وإن قيل غيره مثل ما نقله ابن نما بكونه زحر بن قيس المذحجي «5»، وما قيل بأنّه كان شمر بن ذي الجوشن «6». والظاهر أنّ ما

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 105

قيل بأنّه زفر بن قيس «1»، أو زجر بن قيس «2» فإنّه تصحيف، ومردّ الجميع إلى شخص واحد، نعم هناك احتمال وجود فرد آخر وهو محفز بن ثعلبة العائذي «3»، والظاهر أنّه كان مع أسارى أهل البيت حينما دخل على يزيد، وهناك خلط في النقل، فبعضهم يذكرون أنّه أتى بالرأس الشريف «4»، وبعضهم يقول إنّه أتى بالرأس الشريف وأهل بيته «5»، وبعضهم يذكر أنّه أتى مع أهل بيت الحسين «6»، وهو المختار. وكيفما كان فالمشهور أنّ الذي أتى بالرأس الشريف إلى يزيد هو زحر بن قيس لعنه اللَّه.

وأمّا ما قيل بأنّه كان من أصحاب عليّ و... فإنّه ليس أوّل قارورة كسرت، فغير واحدٍ من أصحاب عليّ عليه السلام انقلبوا إلى الجاهلية السوداء، ألم يكن شمر من أصحاب عليّ عليه السلام في صفّين؟ ألم يُجرح في تلك الحرب؟ «7» ألم يكن شبث بن ربعي من أصحاب عليّ والحسين عليهما السلام حتّى أنّه قال: «قاتلنا مع عليّ بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثمّ عدونا على ولده

وهو خير أهل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 106

الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سميّة الزانية» «1»، ولكن المهمّ حسن العاقبة.

وأمّا توثيق الإمام حنبل والعجلي فلا نرتّب عليه أثراً.

القاتل يطلب الجائزة ..... ص : 106

قال أبو الفرج الإصفهاني: «وحمل (ابن زياد) أهله (الحسين عليه السلام) أسرى وفيهم عمر وزيد والحسن بنوالحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان الحسن بن الحسن بن علي قد ارتث جريحاً فحُمل معهم، وعلي بن الحسين الذي امّه أُمّ ولد، وزينب العقيلة، وأُمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وسكينة بنت الحسين لمّا أُدخلوا على يزيد- لعنه اللَّه- أقبل قاتل الحسين بن علي يقول:

أوقر ركابي فضّة أو ذهبا فقد قتلت الملك المحجّبا

قتلت خير الناس أُمّاً وأبا وخيرهم إذ يُنسبون نسبا» «2»

وفي مقتل الخوارزمي بإسناده عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عليهم السلام:

«ثمّ وضع الرأس في حقّة وأُدخل على يزيد، فدخلت معهم، وكان يزيد جالساً على السرير وعلى رأسه تاج مكلّل بالدرّ والياقوت، وحوله كثير من مشايخ قريش، فدخل صاحب الرأس ودنا منه، وقال:

أوقِرْ ركابي فضّةً أو ذهبا فقد قتلتُ السيِّدَ المحجّبا

قتلت أَزكَى الناسِ أُمّاً وأبا وخيرهم إذ يذكرون النَّسَبا

فقال له يزيد: إذا علمت أنّه خير الناس لِمَ قتلته؟

قال: رجوت الجائزة!

فأمر بضرب عنقه، فحزّ رأسه ...» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 107

مجلس يزيد ..... ص : 107
اشارة

لقد غمرت الأفراح والمسرّات يزيد، وسُرّ سروراً بالغاً، وأمر بترتيب مجلس فخم حاشد من الأشراف والأعيان والشخصيات.

قال ابن الجوزي: «ثمّ جلس يزيد ودعا أشراف أهل الشام، وأجلسهم حوله، ثمّ أدخلهم- أي الأسرى من آل البيت عليهم السلام- عليه» «1».

إنّ التاريخ لم يزوّدنا بأسماء كلّ من حضر ذلك المجلس المشؤوم، لكنّا نعلم أنّه كان حاشداً بالأشراف والأعيان والشخصيات، مثل بعض الصحابة والتابعين! كأبي برزة الأسلمي «2»، وزيد بن الأرقم «3»، وقيل سمرة بن جندب «4»، وبعض الأنصار «5» وبعض ناصري بني أميّة منهم النعمان بن بشير «6»، والكبار من الشجرة الملعونة في القرآن،

مثل يحيى بن الحكم «7»، وعبداللَّه بن الحكم «8»، وعبد الرحمن بن الحكم «9»،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 108

وكذا رجال السلطة الحاكمة، وبعض نساء بني أميّة مثل «ريّا» حاضنة يزيد «1»، والتحقت بها زوجة يزيد هند بنت عبداللَّه بن عامر بن كريز «2».

ومن أهل الكوفة الذين أتوا مع أسارى آل البيت عليهم السلام إلى الشام: زحر بن قيس «3» وشمر بن ذي الجوشن «4»، ومخفر بن ثعلبة «5»، وعمر بن سعد «6»، ومحقن بن ثعلبة «7»، وأبو بردة بن عوف الأزدي، و (طارق بن أبي ظبيان الأزدي، وجماعة من أهل الكوفة)، «8» وغيرهم مثل ربيعة بن عمر «9»، والعذري بن ربيعة بن عمرو الجرشي «10»، وعبداللَّه بن ربيعة الحميري «11»، والغار بن ربيعة الجرشي «12»، وروح بن زنباع «13».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 109

ومن جانب آخر نرى بعض ممثّلي كبار الدولة آنذاك وكبار أهل الكتاب مثل سفير الروم «1» ورأس الجالوت «2».

فتحصّل أنّه كان مجلساً في غاية الأهمّية سياسياً واجتماعياً، داخلياً وخارجياً، ومن هنا أراد يزيد أن يظهر نفسه بأنّه هو الغالب على عدوّه! وقد انتهى كلّ شي ء. «3»

قال المزي: «فلمّا قدموا (الأسارى من آل البيت) عليه (يزيد) جمع مَن كان بحضرته من أهل الشام، ثمّ أُدخلوا عليه، فهنّأوه بالفتح!» «4».

مجلس أم مجالس؟ ..... ص : 109

هل كان مجلس يزيد- الذي أحضر فيه الرأس الشريف وأسارى آل محمّد صلى الله عليه و آله- مجلساً واحداً أم مجالس متعدّدة؟ يظهر من بعض السير الثاني.

روى الخوارزمي بإسناده عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام أنّه قال: «لمّا أُتي برأس الحسين عليه السلام إلى يزيد كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين فيضعه بين يديه ويشرب عليه» «5».

وقال ابن نما: «وكان يزيد يتّخذ مجالس الشرب

واللهو والقيان والطرب، ويحضر رأس الحسين بين يديه» «6».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 110

قالوا: «وحضر ذات يوم في مجلسه رسول ملك الروم» «1»، وظاهر هذا النقل حصول التكرّر، وهو ليس ببعيد، لأنّ اللعين كان يُحضر الرأس الشريف ويشرب الشراب كما روي. فتحصّل أنّ المجالس تكرّرت، سواء قبل ورود أهل البيت أم بعده، ولكن كان ذلك ضمن مجالس خاصّة، والظاهر أنّ المجلس الذي جرت فيه الأمور الآتي ذكرها، الحاشد بالأعيان والأشراف (بل الأرجاس) من الناس لم يكن إلّا مجلساً واحداً، وهو المجلس العام الذي سوف نذكر تفاصيل ما جرى فيه.

كيفيّة دخول أسارى آل البيت عليهم السلام ..... ص : 110

قال الشيخ المفيد والطبرسي: «ولم يكن عليّ بن الحسين عليه السلام يُكلِّم أحداً من القوم في الطريق كلمة حتّى بلغوا- أي الشام- فلمّا انتهوا إلى باب يزيد رفع مجفر بن ثعلبة صوته فقال: هذا مجفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه عليّ بن الحسين عليهما السلام: ما ولدت أُمّ مجفر أشرّ وألأم» «2»

.ونُسَبت هذه الإجابة إلى يزيد- وهو الأنسب- «3».

فمن الذين نسبوا هذه الإجابة إلى يزيد: البلاذريّ «4» وابن سعد «5» والطبري «6»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 111

وابن نما «1» وابن الأثير «2» وابن كثير «3» والذهبي «4» والخوارزمي «5». بتفاوت يسير بينهم.

قال البلاذري: «ثمّ سرّح (عبيداللَّه) بهم (الأسارى) مع محفز بن ثعلبة من عائذة قريش وشمر بن ذي الجوشن وقوم يقولون بعث مع محفز برأس الحسين أيضاً، فلمّا وقفوا بباب يزيد رفع محفز صوته فقال: يا أمير المؤمنين هذا محفز بن ثعلبة أتاك باللئام الفجرة، فقال يزيد: ما تحفزت عنه أمّ محفز ألأم وأفجر» «6».

أقول: ويل لمن كفّره نمرود!

وقال الطبري وابن الأثير: «فدعا عبيد اللَّه بن زياد محفز بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن فقال: انطلقوا بالثقل

والرأس إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فخرجوا حتّى قدموا على يزيد، فقام محفز بن ثعلبة فنادى بأعلى صوته: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم. فقال يزيد: ما ولدت أمّ محفز ألأم وأحمق، ولكنّه قاطع ظالم» «7».

وقال ابن سعد: «وقدم برأس الحسين مخفر بن ثعلبة العائذي- عائذة قريش- على يزيد، فقال: أتيتك يا أمير المؤمنين برأس أحمق الناس وألأمهم. فقال يزيد: ما ولدت أمّ مخفر أحمق وألأم، لكن الرجل لم يقرأ كتاب اللَّه (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) (آل عمران: 26)» «8».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 112

وروى الخوارزمي بإسناده عن مجاهد «أنّ يزيد حين أتي برأس الحسين بن علي ورؤوس أهل بيته قال ابن محفز: يا أمير المؤمنين جئناك برؤوس هؤلاء الكفرة اللئام! فقال يزيد: ما ولدت أمّ محفز أكفر وألأم وأذمّ» «1».

وأظنّ أنّ الرأس أُدخل ثانياً مع محفز في مجلس يزيد، لأنّه أُدخل مع زحر بن قيس في المرّة الأُولى كما ذكرناه- وكان ذاك مجلسه الخاصّ- وفي المرّة الثانية أُدخل في مجلسه العام مع هذا الرجس الخبيث.

وأمّا كيفيّة الورود فلقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لمّا أُدخل رأس الحسين بن عليّ عليهما السلام على يزيد لعنه اللَّه وأُدخل عليه عليّ بن الحسين وبنات أمير المؤمنين عليه السلام كان عليّ بن الحسين مقيّداً مغلولًا» «2»

.وعن الإمام الباقر عليه السلام: «قدم بنا على يزيد بن معاوية لعنه اللَّه بعدما قتل الحسين ونحن اثنا عشر غلاماً ليس منّا أحد إلّامجموعة يداه إلى عنقه وفينا عليّ بن الحسين..» «3».

وفي مقتل الخوارزمي: «ثمّ أُتي بهم حتّى أُدخلوا على يزيد، قيل إنّ أوّل من دخل شمر بن ذي الجوشن بعليّ بن

الحسين مغلولة يداه إلى عنقه، فقال له يزيد:

مَن أنت يا غلام؟ قال: أنا عليّ بن الحسين، فأمر برفع الغلّ عنه» «4».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 113

قال السيّد ابن طاووس: «قال الراوي: ثمّ أُدخل ثقل الحسين عليه السلام ونساؤه ومن تخلّف من أهله على يزيد وهم مقرّنون في الحبال» «1».

وقال سبط ابن الجوزي: «وكان عليّ بن الحسين والنساء موثّقين في الحبال» «2».

وعنه: «ولمّا أتي يزيد بثقل الحسين رضى الله عنه ومن بقي من أهله فأُدخلوا عليه وقد قرنوا بالحبال فوقفوا بين يديه» «3».

وقال الشبلنجي: «ثمّ أمر بعلي زين العابدين فدخل عليه مغلولًا» «4».

رأس الحسين عليه السلام في مجلس يزيد ..... ص : 113

روى ابن شهرآشوب عن أبي مخنف قال: «لمّا دخل بالرأس على يزيد كان للرأس طيب قد فاح على كلّ طيب» «5».

وعن مرآة الزمان: «لمّا وضع الرأس بين يدي يزيد كان بالخضراء «6»، فتهته (فقهقه خ ل) حتّى سمعه من كان بالمسجد، ولمّا سمع صوت النوائح عليه أنشد:

يا صيحة تُحمد من صوائح ما أهوَن الموت على النوائح

ويُقال إنّه كبّر تكبيرة عظيمة!» «7».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 114

قال ابن الأثير: «ثمّ أُدخل نساء الحسين عليه (يزيد) فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس! فلمّا رأين الرأس صحن، فصاح نساء يزيد وولول بنات معاوية» «1».

وقال السيّد ابن طاووس: «ثمّ وضع رأس الحسين عليه السلام بين يديه وأجلس النساء خلفه لئلا ينظرن إليه» «2».

يزيد ينكت ثنايا الحسين عليه السلام ..... ص : 114
اشارة

إنّ هذا الفعل الفضيع ممّا تواتر نقله حتى عدّ من مسلّمات التاريخ، وافتضح به فاعله يزيد.

قال أحمد بن أبي طاهر (م 280): «لمّا كان من أمر أبي عبداللَّه الحسين بن علي عليهما السلام الذي كان وانصرف عمر بن سعد- لعنه اللَّه- بالنسوة والبقيّة من آل محمّد صلى الله عليه و آله ووجّههنّ إلى ابن زياد لعنه اللَّه، فوجّههنّ هذا إلى يزيد- لعنه اللَّه وغضب عليه- فلمّا مثلوا بين يديه أمر برأس الحسين عليه السلام فأبرز في طست فجعل ينكت ثناياه بقضيب في يده..» «3».

وقال اليعقوبي: «ووضع الرأس بين يدي يزيد، فجعل يقرع ثناياه بالقصب» «4».

روى ابن الجوزي عن سالم بن أبي حفصة قال: «قال الحسن البصري:

«جعل يزيد بن معاوية يطعن بالقضيب موضع في رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وا ذلّاه!» «5»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 115

وقال السيّد ابن طاوس وابن نما: «ثمّ دعا يزيد بقضيب خيزران، فجعل

ينكت به ثنايا الحسين عليه السلام» «1».

وعن مرآة الزمان: «قال العامري بن ربيعة: جمع يزيد أهل الشام ووضع الرأس في طشت وجعل ينكت عليه بالخيزرانة» «2».

روى ابن كثير عن ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن الحسن قال: «لمّا جي ء برأس الحسين جعل يزيد يطعنه بالقضيب» «3».

وقال مطهّر بن طاهر المقدسي: «ووضع رأسه بين يديه وجعل ينكت بالقضيب في وجهه» «4».

ونقل ذلك كثير من المؤرّخين مثل الباعوني «5»، والشبراوي «6» وغيرهما، نكتفي بما أوردناه. كما وثّقه الشعراء بقصائدهم؛ أنشد الصاحب بن عبّاد:

يقرع بالعود ثنايا لها كان النبي المصطفى لاثما «7»

وقال الجواليقي:

أختال بالكبر على ربّه يقرع بالعود ثناياه

بحيث قد كان نبيّ الهدى يلثم في قبلته فاه «8»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 116

ولقد أظهر يزيد بفعله الفضيع ما في قلبه من الكفر والحقد، يفعل ذلك في حقّ من قال الرسول صلى الله عليه و آله في شأنه: «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ اللَّه من أحبّ حسينا، حسين سبط من الأسباط» «1»

، وقال صلى الله عليه و آله: «إنّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» «2»

.ولنعم ما قال ابن الجوزي على ما ذكره سبطه في التذكرة، قال: «قال جدّي:

ولو لم يكن في قلبه أحقاد جاهلية وأضغان بدرية لاحترم الرأس لمّا وصل إليه ولم يضربه بالقضيب وكفّنه ودفنه وأحسن إلى آل رسول اللَّه» «3».

وبذلك يظهر ضلالة من يدّعي أنّ يزيد ما كان راضياً بقتل الحسين عليه السلام وأنّه اغتمّ لذلك! إذ لو صحّ ذلك فلماذا ارتكب هذا الفعل الفضيع؟

نقل الباعوني عن الشيخ العالم أبي الوفاء ابن عقيل أنّه قال: «ثمّ قتلوا ابنه (أي ابن الإمام عليّ) الحسينَ بن فاطمة الزهراء وأهل بيته الطيّبين الطاهرين بعد أن منعوهم الماء، هذا والعهد بنبيّهم قريب

وهم القرن الذي رأوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ورأوه صلى الله عليه و آله و سلم يقبِّل فمه وترشفه (يرشف ثناياه)، فنكتوا على فمه وثناياه بالقضيب! تذكّروا واللَّه أحقاد يوم بدر وما كان فيه. وأين هذا من مطمع الشيطان وغاية أمله بتبتيك آذان الأنعام؟ هذا مع قرب العهد وسماع كلام ربّ الأرباب «قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ستروا واللَّه عقائدهم في عصره مخافة السيف، فلمّا صار الأمر إليهم كشفوا قناع البغي والحيف» «4».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 117

أ) ما قاله يزيد عند نكته ثنايا الحسين عليه السلام ..... ص : 117

قال البلاذري: «وحدّثني ابن برد الأنطاكي الفقيه عن أبيه قال:.. وقال يزيد حين رأى وجه الحسين: ما رأيت وجهاً قطّ أحسن منه!

فقيل له: إنّه كان يشبه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فسكت» «1».

وروى ابن سعد بإسناده عن يزيد بن أبي زياد قال: «لمّا أتى يزيد بن معاوية برأس الحسين بن علي جعل ينكت بمخصرة معه سنّه، ويقول: ما كنت أظنّ أبا عبداللَّه يبلغ هذا السنّ!

قال: وإذا لحيته ورأسه قد نصل من الخضاب الأسود» «2».

وقال محمّد بن حبان: «فلمّا وضع الرأس بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينقر ثنيّته بقضيب كان في يده ويقول: ما أحسن ثناياه» «3».

وعن التلمساني أنّه قال: «وأُتي يزيد برأس الحسين عليه السلام فلمّا وضع بين يديه جعل ينكت أسنانه بقضيب كان في يده ويقول: كان أبو عبداللَّه صبيحاً» «4».

ب) ما أنشده يزيد ..... ص : 117

لقد تمثّل يزيد ببيت شعر للحصين بن الحمام المري «5» وهو:

نفلّق هاماً من رجال أعزّة علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما «1»

وفي بعض الكتب أنّه قال:

يفلّقنَ هاماً من رجال أعزّة علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما «2»

وأمّا زمان إنشاده فقد ذكروا أنّه كان حينما كشف عن ثنايا سيّد الشهداء وتناوله بقضيب. «3»

وذكر بعضهم أنّه قالها حينما وُضع الرأس الشريف بين يديه. «4»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 119

نكتفي بذكر ما أورده الطبري، قال: ثمّ أذِن (يزيد) للناس، فدخلوا والرأس بين يديه، ومع يزيد قضيب، فهو ينكت به في ثغره، ثمّ قال: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام المرّي:

يفلّقن هاماً من رجال أحبّة إلينا وهم كانوا أعقّ وأظلما «1»

وقفة مع بعض الكتب ..... ص : 119

1- ذكر ابن شهرآشوب عن الطبري والبلاذري والكوفي أنّه لمّا وضعت الرؤوس بين يدي يزيد جعل يضرب بقضيبه على ثنيته، ثمّ قال: يومٌ بيوم بدر، وجعل يقول: نفلّق هاماً إلى آخره «2».

هذا أيضاً ممّا يدلّ على كفره وزندقته، وتصريح على أنّ ما ارتكبه يزيد كان انتقاماً من الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم، وإليه يشير ابن عبّاس ضمن رسالته إلى يزيد.

قال سبط ابن الجوزي: ذكر الواقدي وهشام وابن إسحاق وغيرهم أنّه كتب ابن عبّاس إلى يزيد كتاباً جاء فيه: «يايزيد، وإنّ من أعظم الشماتة حملك بنات رسول اللَّه وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام أسارى مجلوبين مسلوبين، تُري الناس قدرتك علينا وأنّك قد قهرتنا واستوليت على آل رسول اللَّه، وفي ظنّك أنّك أخذت بثأر أهلك الكفرة الفجرة يوم بدر، وأظهرت الانتقام الذي كنت تخفيه والأضغان الذي تكمن في قلبك كمون النار في الزّناد، وجعلت أنت وأبوك دم عثمان وسيلةً إلى إظهارها. فالويل لك من ديّان يوم الدِّين،

وواللَّه لئن أصبحت آمناً من جراحة يدي فما أنت بآمن من جراحة لساني» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 120

2- ذكر الطبري بإسناده عن القاسم بن عبد الرحمن مولى يزيد بن معاوية أنّ يزيد قال بعد تمثّله بأبيات الحصين: «أما واللَّه يا حسين لو أنا صاحبك ما قتلتك» «1».

ففيه أوّلًا: أنّه منقول عن مولى يزيد فهو متّهم في حدّ نفسه.

ثانياً: لو لم يكن راضياً بقتله فلماذا أساء إلى الرأس الشريف وأمر بسبي أهله إلى الشام.

ثالثاً: قد ذكرنا الأدلّة الوافية بأنّه هو الذي أمر بقتل الحسين عليه السلام والراضي بقتله، وإليه يُنسب الفعل بالسبب.

رابعاً: لو صحّ النقل نقول: لم يقل هذا إلّامراعاةً لوضعه وإبقاءً لحكمه.

والدليل عليه ما رواه سبط ابن الجوزي «أنّه ضرب يزيد ثنايا الحسين بالقضيب وأنشد للحصين بن الحمام المرّي: ... (الأبيات) فلم يبق أحد إلّاعابه وتركه» «2».

وبذلك يظهر وهن ما نقله الطبراني عن محمّد بن الحسن المخزومي أنّه « «لمّا أُدخل ثقل الحسين بن علي على يزيد بن معاوية ووضع رأسه بين يديه بكى يزيد وقال: نفلّق ... (الأبيات)، أما واللَّه لو كنت صاحبك ما قتلتك أبداً» «3».

وزبير بن بكار روى الخبر عن محمّد بن الحسن وهو ضعيف ومعاند لأهل البيت؛ قال الشيخ المفيد في شأنه: «لم يكن موثوقاً به في النقل، وكان متّهماً فيما يذكره من بغضه لأمير المؤمنين عليه السلام وغير مأمون فيما يدّعيه على بني هاشم» «4».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 121

إنّها محاولة شرذمة من الناس لإنقاذ يزيد، وماهي إلّاكتشبّث الغريق بالتوافه.

فعل يزيد واستنكار بعض الحاضرين ..... ص : 121
اشارة

لقد سخطت كلّ الضمائر الحرّة أشدّ السخط على يزيد وأفعاله، وأنكرت عليه ما ارتكبه في حقّ رأس سيّد الشهداء عليه السلام، وفيما يلي نذكر بعضهم:

1- أبو برزة الأسلمي ..... ص : 121
اشارة

قال سبط ابن الجوزي: «وأمّا المشهور عن يزيد في جميع الروايات أنّه لمّا حضر الرأس بين يديه جمع أهل الشام وجعل ينكت عليه بالخيزران.. قال ابن أبي الدُّنيا: وكان عنده أبو برزة الأسلمي، فقال له: يا يزيد ارفع قضيبك، فواللَّه لطالما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقبِّل ثناياه» «1».

وروي عنه أيضاً أنّه «لمّا ضرب يزيد ثنايا الحسين بالقضيب وأنشد للحصين بن الحمام المرّي، فلم يبق أحد إلّاعابه وتركه، وكان عنده أبو برزة الأسلمي، فقال له: ارفع قضيبك، فطالما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقبّل ثناياه، أمّا أنّك ستجي ء يوم القيامة وشفيعك ابن زياد ويجي ء الحسين وشفيعه محمّد صلى الله عليه و آله و سلم» «2».

وروى المزي «3» والطبري «4»، وابن الجوزي «5»، والذهبي «6»، وابن كثير «7»، أنّه بعدما وضع الرأس الشريف بين يدي يزيد جعل ينكت بالقضيب على فِيه عليه السلام وتمثّل بالأبيات، فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك، فواللَّه لربّما رأيت فاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 122

على فيه يلثمه.

وقال البلاذري: «قالوا: وجعل يزيد ينكت بالقضيب ثغر الحسين حين وضع رأسه بين يديه، فقال أبو برزة الأسلمي: أتنكت بالقضيب ثغر الحسين؟ لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً ربما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يرشفه، أما إنّك يا يزيد تجي ء يوم القيامة وشفيعك ابن زياد ويجي ء الحسين وشفيعه محمّد، ثمّ قام.

ويقال: إنّ هذا القائل رجلٌ من الأنصار» «1».

وقد بسط السيّد ابن طاووس وابن

نما أنّه أقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال:

«ويحك يا يزيد، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين عليه السلام ابن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول: أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، قتل اللَّه قاتلكما ولعنه، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيرا، قال الراوي: فغضب يزيد وأمر بإخراجه فأُخرج سحباً» «2».

وفي هذا الموقف يستند أبو برزة- بصفته أحد الصحابة «3»- إلى فعل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 123

الرسول صلى الله عليه و آله بالنسبة إلى لزوم حبّ الحسين عليه السلام، وقوله بالنسبة إلى حبّه والبراءة من أعدائه وقاتله، وهو موقف جليل في أهمّ زمان وأخطر مكان، ولأجل ذلك لم يتحمّل الطاغية هذا الموقف فغضب عليه وأمر بإخراجه، فأخرج سحباً.

ملاحظتان الملاحظة الأولى: ..... ص : 123

قيل إنّ ابن تيميّة- الضالّ المضلّ- نفى حضور أبي برزة الأسلمي مجلس يزيد، بدليل وجوده بالكوفة حينما أُحضر الأسارى من آل البيت «1».

فنقول: الدليل عليل من وجوه:

الأوّل: المشهور حضور أبي برزة في الشام وفي مجلس يزيد، وقد ذكر ذلك الجمّ الغفير من المؤرِّخين مثل البلاذري والطبري، وابن أعثم، وابن الأثير، والذهبي، وابن كثير، وابن الجوزي، وسبطه، والباعوني، والمزّي والخوارزمي وغيرهم، كما أسلفناه. وهذا أمر لا يمكن لأحد أن يتغافل عنه إلّاإذا كان أعور!

الثاني: على فرض وجوده بالكوفة زمن وجود الأسرى فيها، فوجوده بالشام زمن وجودهم فيها ليس بأمر مستبعد، لأنّه قد ذكرنا أنّ ابن زياد جهّزهم وأرسلهم إلى الشام ومعهم جماعة، فمن الممكن أن يكون منهم، أو أنّه ذهب بنفسه إلى الشام.

الثالث: أنّ ابن تيمية لم ينفِ هذا فحسب، بل ينفي أموراً بديهيّة ضروريّة ومسلّمة تاريخيّاً ممّا يدعو إلى السخرية والاستهزاء به، فإنّه قال: «فيزيد لم يأمر بقتل الحسين! ولا حمل رأسه بين يديه،

ولا نكت بالقضيب على ثناياه، بل الذي

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 124

جرى هذا منه هو عبيداللَّه بن زياد، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، ولا طيِفَ برأسه في الدُّنيا ولا سُبي أحد من أهل الحسين»!! «1».

إنّ الناظر فيما أوردناه والمتتبّع في السير يعلم بأنّ ابن تيمية- لكونه من أصلب المدافعين عن يزيد- كيف يبالغ بحرارة في الدفاع عن هذه الجرثومة الفاسدة، وكيف يعرض عن جميع ما ذكره أرباب السير والتاريخ من اقتراف يزيد لهذه الجريمة النكراء، فهذا هو ابن كثير الدمشقي- الذي تلوح شقاوته في تاريخه- من جملة من اعترف بذلك وقال: «وقد ورد في ذلك آثار كثيرة» «2»، فلأجل ذلك لا يعتنى بكلامه في المقام.

الرابع: أنّ المهمّ هو اتّخاذ هذا الموقف من أحد الصحابة في المجلس- أيّاً كان ذلك الصحابيّ- وهو ثابت.

الملاحظة الثانية ..... ص : 124

قال الخوارزمي: «وقيل: إنّ الذي ردّ على يزيد ليس أبا برزة، بل هو سمرة بن جندب صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقال ليزيد: قطع اللَّه يدك يا يزيد، أتضرب ثنايا طالما رأيت رسول اللَّه يقبّلهما ويلثم هاتين الشفتين؟ فقال له يزيد: لولا صحبتك لرسول اللَّه لضربت واللَّه عنقك! فقال سمرة: ويلك تحفظ لي صحبتي من رسول اللَّه ولا تحفظ لابن رسول اللَّه بنوّته؟ فضجّ الناس بالبكاء وكادت أن تكون فتنة» «3».

ففيه:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 125

أوّلًا: أنّه خبر مرسل لا يذكره غيره، ولا يثبت عند الخوارزمي أيضاً، ولذلك يذكره بقوله (قيل).

وثانياً: إنّ المشهور أنّ سمرة بن جندب قد مات قبل وقعة الطف «1»، فالمسألة منتفية بانتفاء موضوعها رأساً.

وثالثاً: قيل إنّ سمرة كان عامل معاوية وشريكاً في جرمه، وهو من شرطة ابن زياد الذين حرّضوا الناس على قتال أبي عبداللَّه الحسين عليه

السلام، فمن كان هذا حاله يُستبعد منه اتّخاذ مثل هذا الموقف- على فرض حياته وحضوره بالشام آنذاك- وإن لم نستبعد بالمرّة أن يتّخذ إنسان فاسد موقفاً جليلًا في زمنٍ مّا.

ونرجع إلى المقصود ونقول: بأنّ المهمّ هو محض اتّخاذ هذا الموقف من أحد الصحابة وإن لم نعرفه على وجه التحديد.

2- زيد بن أرقم ..... ص : 125

قال القطب الراوندي: «فدخل عليه (أي على يزيد) زيد بن أرقم، ورأى الرأس في الطشت وهو يضرب بالقضيب على أسنانه، فقال:" كفّ عن ثناياه، فطالما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقبّلها"، فقال يزيد: لولا أنّك شيخ خرفت لقتلتك» «2».

وإلى ذلك أشار الحميري بقوله:

لم يزل بالقضيب يعلو ثنايا في جناها الشفاء من كلّ داء

قال زيد ارفعن قضيبك ارفع عن ثنايا غرّ غذي باتّقاء

طالما قد رأيت أحمد يلثمها وكم لي بذاك من شهداء «3»

إنّ زيد هو الذي روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في شأن سبطه سيّد الشهداء عليه السلام أنّه قال: «اللّهمّ إنّي أحبّه فأحبّه» «1»

، فلذلك إذا صدر منه هذا الموقف فليس بغريب.

روى ابن الجوزي عن زيد بن أرقم أنّه قال: «كنت عند يزيد بن معاوية، فأُتي برأس الحسين بن علي، فجعل ينكت بالخيزران على شفتيه وهو يقول:

يفلّقن هاماً من رجال أعزّة علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقلت له: ارفع عصاك! فقال: ترابيّ!

فقلت: أشهد لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم واضعاً حسناً على فخذه اليمنى، واضعاً حسيناً على فخذه اليسرى، واضعاً يده اليمنى على رأس الحسن، واضعاً يده اليسرى على رأس الحسين وهو يقول: اللّهمّ إنّي أستودعكهما وصالح المؤمنين، فكيف كان حفظك يا يزيد وديعة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم»؟! «2»

3- نعمان بن بشير ..... ص : 125

روي عن محمّد بن أبي بكر التلمساني المشهور بالبري أنّه قال: «وأتي يزيد برأس الحسين عليه السلام فلمّا وضع بين يديه جعل ينكت أسنانه بقضيب كان في يده ويقول:" كان أبو عبداللَّه صبيحاً"، فقال النعمان بن بشير:" ارفع يدك يا يزيد عن فم طالما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله و سلم يقبّله"، فاستحيى يزيد وأمر برفع الرأس» «3».

4- صحابيّ لم يُسمَ ..... ص : 125

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 127

روى ابن الأثير عن عبد الواحد القرشي قال: «لمّا أُتي يزيد برأس الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما تناوله بقضيب، فكشف عن ثناياه، فواللَّه ما أبرد بأبيض منها، وأنشد:

يفلّقن هاماً من رجال أعزّة علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقال له رجل عنده: يا هذا ارفع قضيبك، فواللَّه ربما رأيت شفتي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فكأنّه يقبّله. فرفع متذمِّراً عليه مغضباً» «1».

قال ابن سعد: «ثمّ مال بالخيزرانة بين شفتي الحسين فقال له رجل من الأنصار حضره: ارفع قضيبك هذا فإنّي رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقبِّل الموضع الذي وضعته عليه» «2».

5- يحيى بن الحكم أو عبد الرحمن بن الحكم ..... ص : 127

وممّن اعترض على فعل يزيد يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم، فإنّه لمّا رأى ما فعل يزيد برأس الحسين وتمثّله بالأبيات قال:

لهامٌ بأدنى الطف أدنى قرابة من ابن زيادالعبد ذي الحسب الرذل

أميّة أمسى نسلها عدد الحصى وبنت رسول اللَّه ليس لها نسل

فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال: اسكت!

رواه كثير من أرباب السير منهم الشيخ المفيد والطبرسي «3»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 128

وجاء في بعض الكتب أنّه قال:

لهام بجنب الطفّ أدنى قرابة من ابن زياد العبدذي الحسب الوغل

سميّة أمسى نسلها عدد الحصى وليس لآل المصطفى اليوم من نسل «1»

ونسب هذا الموقف وهذه الأبيات وموقف يزيد منها إلى أخيه عبد الرحمن بن الحكم أيضاً «2»، ووصفه سبط ابن الجوزي أنّه كان شاعراً فصيحاً، فلعلّ الراجح نسبتها إليه لا إلى أخيه يحيى.

وعن سبط ابن الجوزي أنّه بعدما أنشد الأبيات صاح وبكى، فضرب يزيد صدره، وقال له: يابن الحمقاء، مالكَ ولهذا؟ «3»

وفي البحار عن المناقب بعد ذكر ما أنشده عبد الرحمن بن الحكم قال يزيد:

نعم، فلعن اللَّه ابن مرجانة إذ

أقدم على مثل الحسين بن فاطمة، لو كنت صاحبه لما سألني خصلة إلّاأعطيته إيّاها! ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، لكن قضى اللَّه أمراً فلم يكن له مردّ. وفي رواية أنّ يزيد أسرّ إلى عبد الرحمن وقال: سبحان اللَّه، أنّى هذا الموضع؟ أما يسعك السكوت؟! «4»

6- الحسن المثنّى ..... ص : 128

روى ابن نما أنّ الحسن بن الحسن لمّا رآه يضرب بالقضيب موضع فم

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 129

رسول اللَّه قال: وا ذلّاه:

سميّة أمسى نسلها عدد الحصى وبنت رسول اللَّه ليس لها نسل «1»

ولقد ذكرنا أنّ الحسن البصري أيضاً قال ذلك حينما سمع بالخبر «2». ولعلّه حصل خبط في النقل.

يزيد في موضع الانفعال ..... ص : 129

قال سبط ابن الجوزي: «ولمّا فعل يزيد برأس الحسين مافعل تغيّرت وجوه أهل الشام وأنكروا عليه ما فعل، فقال: أتدرون من أين دهى أبو عبداللَّه؟ قالوا: لا، قال: من الفقه والتأويل، كأنّي به قد قال: أبي خيرٌ من أبيه، وامّي خيرٌ من امّه وجدّي خيرٌ من جدّه، فأنا أحقّ بهذا الأمر منه، ولم يلحظ قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) الآية «3». فسرى عن وجوه أهل الشام» «4».

قال ابن أعثم والخوارزمي: «ثمّ أقبل (يزيد) على أهل مجلسه وقال: هذا يفخر عليَّ ويقول:" أبي خير من أبي يزيد، وامّي خيرٌ من أُمّه، وجدّي خيرٌ من جدّ يزيد، وأنا خير من يزيد"، فهذا الذي قتله! فأمّا قوله (إنّ أبي خير من أبي يزيد) فقد حاجّ أبي أباه فقضى اللَّه لأبي على أبيه! وأمّا قوله (إنّ امّي خير من امّ يزيد) فلعمري إنّه صادق، إنّ فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خيرٌ من امّي، وأمّا قوله (إنّ جدّي خير من جدّ يزيد) فليس أحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر يقول إنّه خيرٌ من محمّد صلى الله عليه و آله، وأمّا قوله (أنا) خيرٌ منّي فلعلّه لم يقرأ هذه الآية (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ... قَدِيرٌ) «5»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 130

ومن المعلوم أنّ يزيد التجأ إلى هذا القول بعد اعتراض كثير من الحاضرين وفيهم بعض الصحابة وأقاربه أيضاً، فصار محرجاً فسعى

لتشويه أهداف نهضة الحسين بهذا القياس السخيف، وإلّا فأين الثرى من الثريّا، أين معاوية الطليق ابن الطليق من عليّ أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وقائد الغرّ المحجّلين؟! وأين هند آكلة الأكباد من فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين؟! وأين أبو سفيان الطليق من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله سيد الأوّلين والآخرين؟! وأين يزيد اللعين من الحسين عليه السلام وهو سيّد شباب أهل الجنّة أجمعين؟! وبعبارة أخصر: أين الشجرة الملعونة في القرآن من الشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؟

ويختم يزيد كلامه بذكر مشيئة اللَّه وقضائه وقدره، وهو لا يعلم منها شيئاً، وهذا هو سلاح المتجبّرين أن ينهوا كلّ شي ء إلى هذه النقطة ويروّجوا لمسلك الجبر في المقام ويُسكتوا أصوات مخالفيهم والساذجين من الناس.

نعم التجأ يزيد إلى هذا الموقف المنفعل بعدما رأى فضاعة إساءته إلى رأس سبط الرسول وثمرة البتول، ولذلك ذكروا أنّه قال بهذا المقال بعدما اعترضه أبو برزة الأسلمي «1» أو ابن الحكم «2» وبعد ذلك تمثّل بأبيات ابن الزبعرى.

ويزيد نفسه يعلم مَن هو الحسين عليه السلام ومكانته في قلوب الناس العارفين.

إنّ ابن كثير- مع ما فيه- يعترف بعلوّ مكانة أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام في عيون الناس، ويقول: «بل الناس إنّما ميلهم إلى الحسين لأنّه السيّد الكبير وابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحدٌ يسايره ولا يساويه» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 131

تمثّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى ..... ص : 131

قال الخوارزمي: «ثمّ كشف (يزيد) عن ثنايا رأس الحسين بقضيبه ينكته به وأنشد.. فقال بعض جلسائه: ارفع قضيبك فواللَّه ما أحصي ما رأيت شفتي محمّد صلى الله عليه و آله و سلم في مكان قضيبك يقبّله! فأنشد يزيد:

يا غراب البين ما شئت

فقل إنّما تندب أمراً قد فعل

كلّ ملك ونعيم زائل وبنات الدهر يلعبن بكلّ

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ثمّ قالوا يا يزيد لا تشلّ

لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

قد أخذنا من عليّ ثارنا وقتلنا الفارس الليث البطل

وقتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدرٍ فاعتدل «1»

عدّة ملاحظات ..... ص : 131

1- إنّ يزيد تمثّل بأبيات ابن الزبعرى في المقام. صرّح بذلك الكثير.

منهم: أبو الفرج الاصفهاني «2» وابن أعثم الكوفي «3» وسبط ابن الجوزي «4» وابن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 132

شهرآشوب «1» والخوارزمي «2» ..

وابن نما «3» وابن عساكر «4» والباعوني «5» والسيّد ابن طاووس «6» وابن أبي الحديد المعتزلي «7» وابن عبد ربه «8» والبدخشاني «9» وغيرهم. وادّعى سبط ابن الجوزي الشهرة في ذلك «10».

أمّا أصل الأشعار فقد ذكرها ابن هشام (المتوفى سنة 213 أو 218) «11» ومحمّد بن سلام الجمهي (المتوفى سنة 231) «12»، والجاحظ (المتوفى سنة 255) «13»، وأقدمها وأكملها في سيرة ابن هشام.

وأمّا ابن الزبعرى فهو عبداللَّه بن الزِّبَعْرى بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، أبو سعد، شاعر قريش من الجاهلية، كان شديداً على المسلمين، قيل إنّه أسلم في الفتح سنة ثمان، ومات سنة 15 من الهجرة «14».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 133

قال الخوارزمي: «قال الحاكم: الأبيات التي أنشدها يزيد بن معاوية هي لعبداللَّه بن الزبعرى أنشدها يوم أُحد لمّا استشهد حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله وجماعة من المسلمين، وهي قصيدة طويلة» «1».

قال ابن هشام: «قال ابن إسحاق: وقال عبداللَّه بن الزبعرى في يوم أُحد:

يا غراب البين أسمعت فقل إنّما تنطق شيئاً قد فعل

إنّ للخير وللشرّ مدىً وكلا

ذلك وجدٌ وقبل

والعطيات خساس بينهم وسواء قبر مثر ومقل

كلّ عيش ونعيم زائل وبنات الدهر يلعبن بكل

أبلغا حسّان عنّي آية فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كم ترى بالجرّ من جمجمة وأكفّ قد أمرّت ورجل

وسرابيل حِسان سريت عن كماة أهلكوا في المنتزل

كم قتلنا من كريمٍ سيِّد ماجد الجدّين مقدام بطل

صادق النجدة قرم بارع غير ملتاث لدى وقع الأسل

فسل المهراس من ساكنه بين أقحاف وهام كالجحل

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكّت بقباء بركها واستحرّ القتل في عبد الأشل

ثمّ خفّوا عند ذاكم رقصا رقص الحفّان يعلو في الجبل

فقتلنا الضعف من أشرافهم وعدلنا ميل بدر فاعتدل

لا ألوم النفس إلّاأنّنا لو كررنا لفعلنا المفتعل

بسيوف الهند تعلو هامهم عللا تعلوهم بعد نهل

فأجابه حسّان بن ثابت الأنصاري رضى الله عنه بقصيدة مطلعها:

ذهبت يابن الزبعرى وقعة كان منّا الفضل فيها لو عدل «1»

ورواه الخوارزمي بهذا التفصيل مع تفاوت يسير «2».

2- إن يزيد قد زاد على أبيات ابن الزبعرى ما يدلّ على كفره وخبث باطنه وسريرته، ويكشف عمّا في قلبه من الإلحاد والحقد لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته الطيّبين الطاهرين.

قال ابن أعثم: ثمّ زاد فيها هذا البيت من نفسه:

لستُ من عتبة إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل «3»

وقال سبط ابن الجوزي: قال الشعبي: وزاد فيها يزيد فقال:

لعبت هاشم بالملك... الأبيات «4».

وعنه أنّه قال: وقيل: إنّ يزيد زاد فيها هذه الأبيات:

لاستهلّوا ثمّ طاروا فرحاً ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

لست من خندف إن لم أنتقم من بني هاشم ما كان فعل «5»

ولذلك اتّخذ كثير من علماء المسلمين موقفاً جلياً وصلباً أمام هذا الطاغي الملحد استناداً إلى هذه الأبيات-

وإلى غيرها من أعماله السيّئة- كما ذكرنا ذلك بالتفصيل في المباحث السابقة، ومنه على سبيل المثال:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 135

قال مجاهد: «نافق فيها، ثمّ واللَّه ما بقي من عسكره أحد إلّاتركه» «1».

3- لقد أوضحنا أنّ أرباب كتب السير والتاريخ قد ذكروا تمثّل يزيد بهذه الأبيات، وإن كان هناك اختلاف يسير في كيفيّة النقل وعدد الأبيات، فبعضهم لم يذكر إلّابيتاً واحداً «2» وبعضهم اثنين «3» وبعضهم ثلاثة «4»، وبعضهم أربعة «5»، وبعضهم خمسة «6»، وبعضهم ستّة «7»، وبعضهم سبعة «8»، وبعضهم ثمانية أبيات منها «9».

4- لقد استندت العقيلة السيّدة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى إنشاد يزيد لهذه الأبيات في المجلس بقولها:

«ألا إنّها نتيجة خلال الكفر وضبّ يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يستبطئ في بغضنا أهل البيت من كان نظره إلينا شنفاً وشناناً وأحناً وأضغاناً يظهر كفره برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ويفصح ذلك بلسانه، وهو يقول فرحاً بقتل ولده وسبي ذرّيته غير متحوّب ولا مستعظم يهتف بأشياخه:

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ولقالوا يا يزيد لا تشل

منتحياً على ثنايا أبي عبداللَّه- وكان مقبّل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- ينكتها بمخصرته قد التمع السرور بوجهه «1».. فلتردن وشيكاً موردهم و لتودنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت» «2».

5- قال ابن أبي الحديد المعتزلي في جملة أبيات ذكرها عن ابن الزبعرى أنّه قالها لوصف يوم أحُد:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حطّت بقباء بركها واستحرّ القتل في عبد الأشل

ثمّ قال: «كثير من الناس يعتقدون أنّ هذا البيت ليزيد بن معاوية، وقال من أكره التصريح باسمه: هذا البيت ليزيد؟ فقلت له: إنّما قاله يزيد متمثِّلًا لمّا حُمل

إليه رأس الحسين عليه السلام وهو لابن الزبعرى، فلم تسكن نفسه إلى ذلك، حتّى أوضحته له فقلت: ألا تراه قال: «جزع الخزرج من وقع الأسل» والحسين عليه السلام لم تحارب عنه الخزرج، وكان يليق أن يقول جزع بني هاشم من وقع الأسل، فقال بعض من كان حاضراً: لعلّه قاله يوم الحرّة، فقلت: المنقول أنّه أنشده لمّا حُمل إليه رأس الحسين عليه السلام والمنقول أنّه شعر ابن الزبعرى، ولا يجوز أن يترك المنقول إلى ما ليس بمنقول» «3».

أقول: لا ريب في صحّة ما قاله المعتزلي من أنّ أصل الأبيات لابن الزبعرى

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 137

وإن زاد عليها يزيد أبياتاً- كما مرّ- وكذلك لا خلاف في أنّه أنشده لمّا حمل إليه رأس الحسين عليه السلام بالشام، ولكن ما ادّعاه من عدم نقل إنشاده في وقعة الحرّة فإنّه غير صحيح، فلقد روى ابن عبد ربه ذلك بقوله: «وبعث مسلم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلمّا القيت بين يديه جعل يتمثّل بقول ابن الزبعرى يوم أُحد:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ولقالوا ليزيد لا فشل

فقال له رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: ارتددت عن الإسلام يا أمير المؤمنين!

قال: بلى نستغفر اللَّه.

قال: واللَّه لا ساكنتك أرضاً أبداً، وخرج عنه» «1».

وهذا اعتراف من يزيد على نفسه بأنّ قوله يوجب الكفر والارتداد عن الدِّين! وإن أمكن أن يقال بأنّها سالبة بانتفاع الموضوع!!

6- جاء في تفسير القمّي في ذيل الآية الشريفة: (ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) «2»

:«وأمّا قوله: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ) فهو رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا أخرجته قريش من مكّة وهرب منهم إلى الغار وطلبوه ليقتلوه، فعاقبهم اللَّه يوم بدر فقُتل عتبة وشيبة والوليد وأبو جهل وحنظلة بن أبي سفيان

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 138

وغيرهم، فلمّا قُبض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله طُلب بدمائهم فقُتل الحسين وآل محمّد بغياً وعدواناً، وهو قول يزيد حين تمثّل بهذا الشعر: (وذكر الأبيات ثمّ قال:)

وقال الشاعر في مثل ذلك:

وكذاك الشيخ أوصاني به فاتّبعت الشيخ فيما قد سئل

وقال يزيد أيضاً، والرأس مطروح يقلّبه:

ياليت أشياخنا الماضين بالحضر حتّى يقيسوا قياساً لا يقاس به

أيّام بدرٍ لكان الوزن بالقدر

فقال اللَّه تبارك وتعالى: (وَمَنْ عَاقَبَ) يعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) يعني حين أرادوا أن يقتلوه (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ) يعني بالقائم عليه السلام من ولده «1».

7- روى ابن عساكر بإسناده عن حمزة بن زيد الحضرمي قال: «رأيت امرأة من أجمل النساء وأعقلهنّ يقال لها (ريا) كان بنو أميّة يكرمونها، وكان هشام (أي هشام بن عبد الملك) يكرمها، وكانت إذا جاءت إلى هشام تجي ء راكبة فكلّ من رآها من بني أميّة أكرمها، ويقولون ريا حاضنة يزيد بن معاوية، فكانوا يقولون قد بلغت من السنّ مائة سنة، وحسن وجهها وجمالها باق بنضارته! فلمّا كان من الأمر الذي كان «2» استترت في بعض منازل أهلنا، فسمعتها- وهي تقول وتعيب بني أميّة مداراة لنا- قالت: دخل بعض بني أميّة على يزيد، فقال:" أبشر يا أمير المؤمنين، فقد أمكنك اللَّه من عدوّ اللَّه! وعدوّك- يعني الحسين بن علي- قد قُتل ووُجّه برأسه إليك"، فلم يلبث إلّاأيّاماً حتّى جي ء برأس الحسين، فوضع بين يدي يزيد في طشت، فأمر الغلام، فرفع الثوب الذي

كان عليه، فحين رآه خمّر وجهه بكمه-

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 139

كأنّه يشمّ منه رائحة «1»- وقال: الحمد للَّه الذي كفانا المؤونة بغير مؤونة! كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللَّه.

قالت ريا: فدنوت منه فنظرت إليه وبه ردع من حنّا.

قال حمزة: فقلت لها: أقرع ثناياه بالقضيب كما يقولون؟

قالت: إي والذي ذهب بنفسه وهو قادر على أن يغفر له، لقد رأيته يقرع ثناياه بالقضيب في يده ويقول أبياتاً من شعر ابن الزبعرى» «2».

أقول: ليس بغريب أن يتمثّل يزيد بتلك الأبيات في مواطن عديدة ومواقف مختلفة ومتعدّدة، ومن المحتمل أنّ ما روته ريا حصل في مجلسه الخاص كما جرى ذلك في مجلسه العام، كذلك استند إليها في وقعة الحرّة كما مرّ ذكره.

8- أنكر ابن تيمية- في رسالته «سؤال في يزيد بن معاوية» التي كتبها بعد قرون من وقعة الطف منتصراً ليزيد- كونه المردّد لشعر ابن الزبعرى (ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا) «3».

وإنكار ابن تيميّة لمثل هذه المسألة الواضحة المسلّمة تأريخيّاً، التي ادّعى سبط ابن الجوزي حصول الشهرة عليها «4» ليس إلّاإنكار أمر بديهي، وليس الداعي لذلك إلّانصرة يزيد، حشره اللَّه معه، ولقد ذكرنا مصادر البحث شافياً فلا نعيد.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 140

محاورات الإمام السجّاد عليه السلام مع يزيد ..... ص : 140
اشارة

لقد بلغت الحرب النفسيّة الذروة بعد وقعة الطف الأليمة، ولم تكن بأقلّ من الحرب في ظلّ السيوف، فيزيد يريد أن يظهر بمظهر الغالب الظافر في جميع المجالات، وأن يرى انتهاء الأمر بتمامه، لكي يتمّ بذلك كلّ شي ءٍ له! وهو يعلم أنّه لا يصل إليه إلّابظفره في هذه الحرب النفسيّة، فثمّ يتمّ ترجيح إحدى كفّتي المعادلة. وفي جبهة الحق نرى أنّها تسير على مسير قائدها، وتتحرّك نحو تحقق أهدافها. وللإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام القدح المعلى في ذلك، لأنّه هو

الحجّة على الأرض بعد أبيه، ولذلك نرى أنّ زينب الكبرى تقف خلفه في جميع المواقف، ومنها ما روي أنّه قال يزيد لزينب: تكلّميني؟! فقالت: هو- أي الإمام زين العابدين عليه السلام- المتكلِّم «1»، نعم ولعمّته زينب الكبرى سلام اللَّه عليها الدور الأوفى بعده كما نذكره إن شاء اللَّه.

كان الإمام عليه السلام يواجه مشاكل عديدة ينبغي له أن يتغلّب عليها:

1- طاغوتاً يسمّى بيزيد متستّر بستار الخلافة الإسلامية، لابدّ أن يفتضح على رؤوس الأشهاد، ويكشف الغطاء عن واقعه الرذل، ليُكسر أمام محبّيه ومواليه.

2- حكماً دمويّاً تحت غطاء ديني، فيزيد يستند إلى بعض الآيات القرآنية! ولابدّ للإمام أن يواجه ذلك، ويتمسّك بالقرآن في الإجابة، أو يفسّره بواقعه.

3- إعلاماً مضلّلًا وبيئة مسمومة، فلقد عرّفوا الحسين عليه السلام بأنّه رجل خارجيّ! فعلى الإمام أن يواجه ذلك بكلّ صلابة ويعرِّف أباه ونفسه وأهل بيته بأنّهم أولاد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث يتكرّر ذلك في مواطن عديدة.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 141

إنّ كلّ ذلك يحتاج إلى اتّخاذ مواقف بطولية وشجاعة علوية وصمود فاطميّ وقد تمثّلت في زين العابدين وزينب الكبرى سلام اللَّه عليهما.

وحينها سوف ترى مَن هو الغالب؟!

قال ابن سعد: «ثمّ أُتي يزيد بن معاوية بثقل الحسين ومن بقي من أهله، فأُدخلوا عليه قد قُرنوا في الحبال، فوقفوا بين يديه، فقال له عليّ بن الحسين:

أنشدك باللَّه يا يزيد، ما ظنّك برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لو رآنا مقرّنين في الحبال، أما كان يرقّ لنا؟! فأمر يزيد بالحبال، فقطّعت، وعُرف الانكسار فيه!» «1».

وهكذا تمكّن الإمام عليه السلام في أوّل موقف وقفه أمام هذا الطاغي أن يجرّده من السلاح، فهو عليه السلام لم يكسره نفسياً فحسب، بل جعل الانكسار

يبين ويُعرف فيه، كما صرّح بذلك ابن سعد، وسبط ابن الجوزي- في المرآة-.

قال سبط ابن الجوزي: «وكان عليّ بن الحسين والنساء موثّقين في الحبال، فناداه علي: يا يزيد، ما ظنّك برسول اللَّه لو رآنا موثّقين في الحبال عرايا على أقتاب الجمال، فلم يبق في القوم إلّامن بكى» «2».

وهذه الرواية تصرّح بتغيير وضع المجلس بهذه الكلمة.

قال ابن نما: «فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: وأنا مغلول فقلت: أتأذن لي في الكلام؟

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 142

فقال: قل ولا تقل هجراً!

قلت: لقد وقفت موقفاً لا ينبغي لمثلي أن يقول الهجر، ما ظنّك برسول اللَّه لو رآني في الغلّ؟

فقال لمن حوله: حلّوه» «1»

.قال ابن أعثم: «ثمّ أُتي بهم- الأسرى من آل البيت- حتّى أُدخلوا على يزيد، وعنده يومئذٍ وجوه أهل الشام، فلمّا نظر إلى عليّ بن الحسين رضى الله عنه قال: مَن أنت يا غلام؟!

فقال: أنا عليّ بن الحسين.

فقال: يا عليّ، إنّ أباك الحسين قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سلطاني، فصنع اللَّه به ما قد رأيت.

فقال عليّ بن الحسين: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) «2»

.فقال يزيد لابنه خالد:" اردد عليه يا بُني"، فلم يدر خالد ماذا يقول، فقال يزيد قل له: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبَما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) «3»

». «4»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 143

يستفاد من هذه الرواية استشهاد يزيد بالآية الشريفة، دون أن يردّه الإمام، وفيه تأمّل واضح، فكيف يستند الطاغي إلى آية شريفة في المقام- وهو يريد المغالطة في البين- والإمام قادر على الجواب ولا يفعل!

فلذلك نرى حصول خلل في النقل.

فبعضهم لم يذكر شيئاً عن إجابة يزيد لكلام الإمام، مثل ما

أورده ابن الجوزي في المنتظم «1»، ولا بأس به.

ولنعم ما ذكره أبو الفرج الإصفهاني في المقام، قال: «ثمّ دعا يزيد- لعنه اللَّه- بعليّ بن الحسين، فقال: ما اسمك؟ فقال: عليّ بن الحسين، قال: أولم يقتل اللَّه عليّ بن الحسين؟! قال: قد كان لي أخ أكبر منّي يسمّى علياً فقتلتموه! قال: بل اللَّه قتله، قال علي: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) «2»

، قال له يزيد: (مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبَما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) «3»

، فقال علي: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) «4»

.فوثب رجل من أهل الشام فقال: دعني أقتله، فألقت زينب نفسها عليه» «5».

فتحصّل أنّه بناءً على ما ذكره أبو الفرج ينتهي الكلام بما استند به الإمام عليه السلام، وهو المطلوب المختار.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 144

والدليل عليه ما رواه علي بن إبراهيم القمّي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: قال الصادق عليه السلام:

«لمّا أُدخل رأس الحسين بن عليّ عليهما السلام على يزيد لعنه اللَّه وأُدخل عليه عليّ بن الحسين وبنات أمير المؤمنين عليه السلام، وكان عليّ بن الحسين عليه السلام مقيّداً مغلولًا، فقال يزيد: يا عليّ بن الحسين، الحمد للَّه الذي قتل أباك.

فقال عليّ بن الحسين: لعن اللَّه من قتل أبي.

فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه.

فقال عليّ بن الحسين: فإذا قتلتني فبنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من يردّهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟

فقال: أنت تردّهم إلى منازلهم!

ثمّ دعا بمبرد فأقبل يبرد الجامعة من عنقه بيده.

ثمّ قال له: يا عليّ بن الحسين، أتدري ما الذي

أريد بذلك؟

قال: بلى تريد أن لا يكون لأحد عليَّ منّة غيرك.

فقال يزيد: هذا واللَّه ما أردت أفعله.

ثمّ قال يزيد: يا عليّ بن الحسين (مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبَما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) «1»

.فقال عليّ بن الحسين: كلّا، ما هذه فينا نزلت، إنّما نزلت فينا:

(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ... وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ...) «2»،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 145

فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا، ولا نفرح بما آتانا منها» «1»

.نعم، ذكر ابن الصبّاغ المالكي بعد ذكر استشهاد يزيد بآية: (مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبَما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) كلاماً للإمام عليّ بن الحسين عليه السلام يكون بمنزلة تفسير هذه الآية قال: فقال عليّ عليه السلام: هذا في حقّ من ظَلَم، لا في مَنْ ظُلم «2»

، فالإمام يهدم أصل استناد يزيد من الأساس، ويبيّن عدم فقهه بمعنى الآية الشريفة.

قالوا: «ثمّ دعا بالنساء والصبيان، فأُجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة فقال:

قبّح اللَّه ابن مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بكم ولا بعث بكم هكذا» «3».

وهذا أيضاً موضع آخر لتبيّن الانكسار في وجه يزيد، والتجائه للتفوّه بهذه الكلمات الواهية، وهو يريد أن يتخلّى عن المسؤولية ويرميها على عاتق فاسق مثله هو ابن زياد.

ملاحظات ..... ص : 145

ذكر بعضٌ وقوع المكالمة بين يزيد والإمام زين العابدين عليه السلام والاستناد بتلك الآيات الشريفة في هذه المواقف:

1- قال ابن قتيبة: «وذكروا أنّ أبا معشر قال: حدّثني محمّد بن الحسين بن علي «4» قال:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 146

دخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر غلاماً مغلّلين في الحديد، وعلينا قمص، فقال يزيد: أخلصتم أنفسكم بعبيد أهل العراق؟

وما علمت بخروج أبي عبداللَّه حين خرج ولا بقتله حين قُتل، فقال عليّ بن الحسين: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ

وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) «1»

.فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته وقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبَما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) «2»

، يا أهل الشام ما ترون في هؤلاء؟

فقال رجل من أهل الشام: لا تتّخذنّ من كلب سوء جرواً ..» «3».

فبناءً على ما ذكره ابن قتيبة لم يفسح المجال للإمام حتّى يقوم بالجواب.

2- ذكر ابن عبد ربّه عن عليّ بن عبد العزيز عن محمّد بن الضحّاك بن عثمان الخرامي عن أبيه قال: «فقتله (أي الإمام الحسين عليه السلام) عبيدُ اللَّه وبعث برأسه وثقله إلى يزيد، فلمّا وُضع الرأس بين يديه تمثّل بقول حصين بن الحمام المرّي:

يفلّقن هاماً من رجال أعزّة علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقال له عليّ بن الحسين- وكان في السبي-: كتاب اللَّه أولى بك من الشِّعر،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 147

يقول اللَّه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) «1»

.فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته، ثمّ قال: غير هذا من كتاب اللَّه أولى بك وبأبيك، قال اللَّه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبَما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) «2»

، ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء؟..» «3».

فبناءً على هذا الخبر- أيضاً- لم يفسح يزيد المجال لإجابة الإمام عليه السلام.

أورد الحافظ الطبراني بإسناده عن الليث قال: «أبى الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما أن يُستأسر «4»، فقاتلوه فقتلوه وقتلوا بنيه وأصحابه الذين قاتلوا معه بمكان

يقال له الطف، وانطلق بعليّ بن حسين وفاطمة بنت حسين وسكينة بنت حسين إلى عبيداللَّه بن زياد وعليّ يومئذٍ غلام قد بلغ، فبعث بهم إلى يزيد بن معاوية، فأمر بسكينة فجعلها خلف سريره لئلّا ترى رأس أبيها وذو قرابتها وعليّ بن الحسين رضي اللَّه عنهما في غلّ فوضع رأسه فضرب على ثنيتي الحسين رضى الله عنه فقال:

نفلّق هاماً من رجالٍ أحبّة إلينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقال عليّ بن الحسين رضى الله عنه:

(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 148

قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) «1»

.فثقل على يزيد أن يتمثّل ببيت شعر وتلا عليّ آية من كتاب اللَّه عزّوجلّ، فقال يزيد: بل (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) «2»

.فقال عليّ عليه السلام: أما واللَّه لو رآنا رسول للَّه صلى الله عليه و آله و سلم مغلولين لأحبّ أن يخلّينا من الغلّ.

قال: صدقت، فخلّوهم من الغل.

قال: ولو وقفنا بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لأحبّ أن يقرّبنا.

قال: صدقت، فقرّبوهم.

فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لتريان رأس أبيهما، وجعل يزيد يتطاول في مجلسه ليستر عنهما رأس أبيهما..» «3».

التأمّل الذي ذكرناه يجري في هذا النقل، وعلى فرض صحّته فالكلام الواقع بين الإمام ويزيد محمول على إرادة الإمام تجريد يزيد من سلاحه وذلك بتعريف نفسه وأهل بيته بأنّهم أولاد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأنّ ما يجري باسم الخلافة الإسلامية هو على خلاف سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقد نجح الإمام عليه السلام في ذلك.

قال ابن أعثم والخوارزمي- واللفظ للأوّل-:

«فتقدّم عليّ بن الحسين حتّى وقف بين يدي يزيد بن معاوية، وجعل يقول:

لا تطمعوا أن

تهينونا ونكرمكم وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

فاللَّه يعلم أنّا لا نحبّكُم ولا نلومكُم إن لم تحبّونا

فقال يزيد: صدقت يا غلام، ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين، فالحمد للَّه الذي أذلّهما وسفك دماءهما!

فقال له عليّ بن الحسين:

يابن معاوية وهند وصخر، لم يزل آبائي وأجدادي فيهم الإمرة من قبل أن تلد [تولد]، ولقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- يوم بدر وأُحد والأحزاب في يده راية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفر.

ثمّ جعل عليّ بن الحسين يقول:

ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم ماذا فعلتم وأنتم آخر الامم

بعترتي وبأهلي بعد منقلبي منهم أسارى ومنهم ضُرّجوا بدم

أكان هذا جزائي أن نصحتكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

ثمّ قال عليّ بن الحسين:

ويلك يايزيد، إنّك لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال وفرشت الرمال ودعوت بالويل والثبور، أن يكون رأس الحسين بن فاطمة وعلي منصوباً على باب المدينة وهو وديعة رسول اللَّه فيكم صلى الله عليه و آله و سلم، فأبشر بالخزي والندامة غداً، إذا جمع الناس ليومٍ لا ريبَ فيه» «1»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 150

وفيه نقاط للبحث والتأمّل: ..... ص : 150

1- صلابة موقف الإمام وصموده في المقام.

2- جعل الإمام مسؤولية قتل الإمام الحسين عليه السلام- وما جرى في وقعة الطف وبعده- على عاتق يزيد وتنبيهه لعمق الفاجعة الكبرى، ووعيده بنار جهنّم.

3- تبيين موضع جبهة يزيد بأنّه وأباه وجدّه كانوا على خط الباطل، وفي قباله هو وأبوه وجدّه على نهج الحقّ، وأنّ النهضة الحسينيّة هي استمرار لتلك المواجهة والمقابلة.

4- وفي هذا الخبر أيضاً ما يفضح يزيد نفسه، فقد رأينا أنّه يحاول أحياناً أن يتخلّى عن

مسؤولية قتل الإمام الحسين ويدّعي كذباً وزوراً بعدم علمه بقتل الحسين عليه السلام وعدم رضاه بذلك، بينما نراه- في هذا الخبر- يفصح عمّا في ضميره ويصرّح بفرحه وسروره بقتل سيّد الشهداء ويحمد اللَّه على ذلك!

يزيد يهمُّ بقتل الإمام عليه السلام ..... ص : 150

قال الفقيه المحدّث قطب الدين الراوندي: «وروي أنّه لمّا حمل عليّ بن الحسين عليهما السلام إلى يزيد عليه اللعنة همَّ بضرب عنقه، فوقفه بين يديه وهو يكلّمه ليستنطقه بكلمة يوجب بها قتله، وعليّ عليه السلام يجيبه حسب ما يكلّمه وفي يده سبحة صغيرة يديرها بأصابعه، وهو يتكلّم، فقال له يزيد عليه ما يستحقّه: أنا أُكلّمك وأنت تجيبني وتدير أصابعك بسبحة في يدك، فكيف يجوز ذلك؟

فقال عليه السلام: حدّثني أبي عن جدّي صلى الله عليه و آله:

أنّه كان إذا صلّى الغداة وانفتل لا يتكلّم حتّى يأخذ سبحة بين

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 151

يديه، فيقول: اللّهم إنّي أصبحت أسبّحك وأحمدك وأُهلّلك وأُكبّرك وأُمجّدك بعدد ما أدير به سبحتي، ويأخذ السبحة في يده ويديرها وهو يتكلّم بما يريد من غير أن يتكلّم بالتسبيح، وذكر أنّ ذلك محتسب له وهو حرز إلى أن يأوي إلى فراشه، فإذا آوى إلى فراشه قال مثل ذلك القول ووضع سبحته تحت رأسه فهي محسوبة له من الوقت إلى الوقت، ففعلت هذا اقتداءً بجدّي صلى الله عليه و آله.

فقال له يزيد عليه اللعنة مرّة أخرى: لست أُكلّم أحداً منكم إلّاويجيبني بما يفوز به.

وعفا عنه ووصله وأمر بإطلاقه» «1».

إشارة بعض الحاضرين بقتل الإمام ..... ص : 151

قال المسعودي: «فلمّا استشهد (أي الإمام الحسين عليه السلام) حمل عليّ بن الحسين مع الحرم، وأُدخل على اللعين يزيد، وكان لابنه أبي جعفر عليه السلام سنتان وشهور، فأُدخل معه، فلمّا رآه قال له: كيف رأيت يا عليّ بن الحسين؟!

قال: رأيت ما قضاه اللَّه عزّوجلّ قبل أن يخلق السماوات والأرض.

فشاور يزيد جلساءه في أمره، فأشاروا بقتله وقالوا له: لاتتّخذ من كلب سوء جرواً.

فابتدر أبو محمّد الكلام، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال ليزيد لعنه اللَّه:

لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف

ما أشار جلساء فرعون عليه، حيث شاورهم في موسى وهارون، فإنّهم قالوا له: ارجه وأخاه، وقد أشار هؤلاء عليك لقتلنا، ولهذا سبب.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 152

فقال يزيد: وما السبب؟ فقال عليه السلام:

إنّ أولئك كانوا الرشدة، وهؤلاء لغير رشدك، ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلّاأولاد الأدعياء.

فأمسك يزيد مطرقاً، ثمّ أمر بإخراجهم على ما قُصّ وروي» «1».

وحيث كان هذا الكلام يحتوي على أحسن برهان وأتقن دليل، لم يجد يزيد أيّ ملجأ يهرب إليه.

مجابهة الإمام زين العابدين مع الرجل الشامي ..... ص : 152

قال ابن سعد: «فقام رجل من أهل الشام فقال:" إنّ سباءهم لنا حلال"! فقال عليّ بن حسين: كذبت ولؤمت، ماذاك لك إلّاأن تخرج من ملّتنا وتأتي بغير ديننا. فأطرق يزيد ملياً، ثمّ قال للشامي: اجلس» «2».

وروى القاضي نعمان عن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: «ووجّه بي إلى يزيد لعنه اللَّه مع سائر حرم الحسين عليه السلام وحرم من اصيب معه، فلمّا صرنا بين يدي يزيد اللعين قام رجل من أهل الشام فقال: يا أمير المؤمنين، نساؤهم لنا حلال، فقال عليّ بن الحسين عليه السلام:

كذبت إلّاأن تخرج من ملّة الإسلام، فتستحلّ ذلك بغير دين.

فأطرق يزيد ملياً، وأمر بالنسوة، فأدخلن إلى نسائه ...» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 153

زينب الكبرى في مجلس يزيد ..... ص : 153

إنّها بنت عليّ وفاطمة، واخت الحسن والحسين، قد تربّت في أحضان النبوّة والولاية، وهي اليوم بطلة المعركة تقف أمام الطاغي بكلّ صلابة، وتكلِّمه بتمام الشجاعة، لأنّها ترى الواقع الثابت عند اللَّه، وتعلم بأنّ أخاها ومسيره الغالبان، والطاغي هو المخذول المغلوب على أمره، ولأجل ذلك نرى أنّه لم يدركها الهول والفزع، وتقوم برسالتها وبواجبها امتداداً لثورة كربلاء وتجسيداً رائعاً لقيمها الكريمة وأهدافها السامية.

فهي تتكلّم في وقت الكلام وتسكت في وقت السكوت. حينما يسألها يزيد بكلامه (تكلّميني؟!) تجعل المسؤولية على عاتق عليّ بن الحسين عليه السلام بقولها: هو المتكلِّم «1»، حتّى تعرّف الإمام والحجّة وقائد المسيرة، وحينما يكون الوقت مقتضياً نرى أنّها تأخذ بزمام الكلام وتنطق بكلمات عالية تكشف عن كونها تربّت في مدرسة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

قال القندوزي: «ثمّ أمر يزيد الملعون أن يحضروا عنده حرم الحسين وأهل بيته، قالت زينب:

يا يزيد أما تخاف اللَّه ورسوله من قتل الحسين؟ وما كفاك ذلك حتّى تستجلب بنات رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم من العراق إلى الشام! وما كفاك حتّى تسوقنا إليك كما تُساق الإماء على المطايا بغير وطاء! وما قتل أخي الحسين سلام اللَّه عليه أحدٌ غيرك يا يزيد، ولولا أمرك ما يقدر ابن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 154

مرجانة أن يقتله، لأنّه كان أقلّ عدداً وأذلّ نفساً، أما خشيت من اللَّه بقتله وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فيه وفي أخيه: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين»؟، فإن قلت لا فقد كذبت، وإن قلت نعم فقد خصمت نفسك واعترفت بسوء فعلك.

فقال:" ذرّية يتبع بعضها بعضاً". وبقي يزيد خجلًا ساكتاً» «1».

وفي هذا الخطاب نقاط لابدّ من الالتفات إليها:

1) التركيز على الانتساب لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وذلك لأجل كسر حاجز الخوف الإعلامي المشوّه والمسموم.

2) التركيز على جعل مسؤولية قتل الإمام الحسين عليه السلام على عاتق يزيد، وعدم إمكانه من التخلّي عنه، وأنّه لولاه لما تمكّن ابن مرجانة أن يرتكبه.

3) تأثير كلام زينب الكبرى، بحيث أنّ يزيد لم يحر جواباً.

بين يدي رأس الإمام ..... ص : 154

نرى أنّ زينب الكبرى سلام اللَّه عليها تتّخذ موقفاً عاطفياً حينما تواجه رأس أخيها سيّد الشهداء سلام اللَّه عليه، ومع ذلك تؤثّر على المجلس تأثيراً تامّاً بحيث ينقلب المجلس، حتّى يبكي كلّ من كان حاضراً في المجلس ويزيد ساكت.

قال السيّد ابن طاووس:

«وأمّا زينب فإنّها لمّا رأته (رأس الحسين عليه السلام) أهوت إلى جيبها فشقّته، ثمّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب: يا حسيناه، يا حبيب رسول اللَّه، يابن مكّة ومنى، يابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء، يابن بنت المصطفى».

قال الراوي: «فأبكت واللَّه كلّ من كان حاضراً في المجلس، ويزيد ساكت»»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 155

خطبة زينب الكبرى ..... ص : 155
اشارة

إنّ من أروع الخطب التي سجّلها التأريخ فصارت من متمِّمات النهضة الحسينيّة المباركة هي الخطبة التي ألقتها زينب الكبرى في مجلس يزيد.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: «فقد دمّرت فيه حفيدة الرسول صلى الله عليه و آله جبروت الطاغية، وألحقت به الهزيمة والعار، وعرّفته أنّ دعاة الحقّ لا تنحني جباههم أمام الطغاة والظالمين» «1».

ولقد ذكر كثيرٌ تلك الخطبة الغرّاء أقدمهم ابن طيفور (ت: 280) نذكرها حسب نقله لقدمته وعلوّ مضامينه، ثمّ نردف ما نقله بالصيغة التي رواها الخوارزمي، وذلك لأجل وجود فروق كثيرة في نقل الأخير ولاشتماله على مطالب راقية ومضامين عالية.

قال ابن طيفور- بعد ذكر تمثّل يزيد بأبيات ابن الزبعرى-:

فقالت زينب بنت عليّ عليهما السلام:

صدق اللَّه ورسوله يا يزيد (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون) «2»

أَظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ- حين أُخِذ عَلَيْنَا بأَطراف الْأَرْضِ وَأكناف السَّمَاءِ فَأَصْبَحْنَا نُسَاقُ كَمَا تُسَاقُ الأسارى أَنَّ بِنَا هَوَاناً عَلَى اللَّهِ، وَبِكَ عَلَيْهِ كَرَامَةً!! وَأَنَّ هذا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 156

لِعَظِيمِ خَطَرِكَ فَشَمخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ في عِطْفِكَ، جَذلان فرحاً حينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا مُسْتَوْسِقَةً لكَ، وَالْأُمُورَ

مُتَّسِقَةً عليك، وقد أمهلت ونفّست وهو قول اللَّه تبارك وتعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِانْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) «1»

، أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك نساءك وإماءَك وسوقك بنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قد هتكت ستورهن وأصحلت صوتهن مكتئبات تحذي بهنّ الأباعر ويحدو بهنّ الأعادي من بلدٍ إلى بلد، لا يراقبن ولا يؤوين، يتشوفهنّ القريب والبعيد، ليس معهنّ وليّ من رجالهنّ، وكيف يستبطأ في بغضنا من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان، أتقول: «ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا» غير متأثِّم ولا مستعظم وأنت تنكت ثنايا أبي عبداللَّه بمخصرتك؟! ولِمَ لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشافة بإهراقك دماء ذرّية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب، ولتردنّ على اللَّه وشيكاً موردهم ولتودنّ أنّك عميت وبكمت، وأنّك لم تقل «فاستهلّوا وأهلّوا فرحاً» اللّهمَّ خذ بحقّنا وانتقم لنا ممّن ظلمنا، واللَّه ما فريت إلّافي جلدك ولا حززت إلّافي لحمك، وسترد على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم برغمك وعترته ولحمته في حظيرة القدس، يوم يجمع اللَّه شملهم ملمومين من الشعث، وهو قول اللَّه تبارك وتعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 157

اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) «1»

، وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المؤمنين إذا كان الحَكَم اللَّه والخصم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وجوارحك شاهدة عليك، فبئس للظالمين بدلًا، أيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً. مع أنّي واللَّه يا عدوّ اللَّه وابن عدوّه أستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، غير أنّ العيون عبرى والصدور حرّى وما يجزي ذلك

أو يغني عنّا، وقد قُتل الحسين عليه السلام، وحزب الشيطان يقرّبنا إلى حزب السفهاء ليعطوهم أموال اللَّه على انتهاك محارم اللَّه، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات، فلئن اتّخذتنا مغنماً لتتّخذنّ مغرماً حين لا تجد إلّاما قدّمت يداك، تستصرخ ابن مرجانة ويستصرخ بك وتتعاوى وأتباعك عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد زوّدك معاوية قتلك ذرّية محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، فواللَّه ما اتّقيتُ غير اللَّه ولا شكواي إلّاإلى اللَّه، فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فواللَّه لا يدحض عنك عار ما أتيت إلينا أبداً، والحمد للَّه الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبّان الجنان، فأوجب لهم الجنّة، أسأل اللَّه أن يرفع لهم الدرجات وأن يوجب لهم المزيد من فضله، فإنّه وليٌّ قدير «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 158

وأمّا ما ذكره الخوارزمي فهو:

فقامت زينب بنت علي وامّها فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالت:

«الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ والصلاة والسلام على «1» سيّد المرسلين، صدق اللَّه تعالى إذ يقول: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُا السُّؤى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ» «2»

. أَظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حَيْثُ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ «3» وَآفَاقَ السَّمَاءِ وأَصْبَحْنَا «4» نُسَاقُ كَمَا تُسَاقُ الأسارى «5» أَنَّ بِنَا عَلَى اللَّهِ «6» هَوَاناً «7»، وَبِكَ عَلَيْهِ كَرَامَةً «8»؟ وَأَنَّ ذلِكَ لِعَظمِ خَطَرِكَ عِنْدَهُ «9»؟! فَشَمخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ فى عِطْفِكَ «10»، جَذلان مَسْرُوراً، حينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 159

وَالْأُمُورَ «1» مُتَّسِقَةً، وَحِينَ صَفَا لَكَ مُلْكُنَا «2» وَسُلْطَانُنَا، فَمَهْلًا مَهْلًا «3»! أَنَسِيتَ قَوْلَ اللَّهِ تعالى: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً

وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ» «4»

.أمِنَ الْعَدْلِ يَابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ إِمَاءَكَ وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟!، قَدْ هَتَكْتَ سُتُورَهُنَّ، وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ، يحدى «5» بِهِنَّ مِنْ بَلَدٍ إِلى بَلَدٍ، وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَاهِلِ «6» والمناقل، وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ «7»، وَالدَّنِيُّ وَالشَّرِيفُ «8»، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالِهِنَّ وَلِيٌّ، وَلَا مِنْ حُمَاتِهِنَّ حَمِيٌّ «9». وَكَيْفَ تُرْجى المُرَاقَبَةُ مَنْ لَفِظَ فُوهُ أَكْبَادَ السّعداء «10»، وَنَبَتَ لَحْمُهُ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ «11»؟!

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 160

وَكَيْفَ «1» لا يستبطئ في بغضنا أَهْلَ الْبَيْتِ «2» مَنْ نَظَرَ إِلَيْنَا بِالشَّنَفِ وَالشَّنَآنِ وَالْإِحَنِ وَالْأَضْغَانِ؟! ثُمَّ تَقُولُ «3» غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ وَلَا مُسْتَعْظِمٍ «4»:

لأَهَلُّوا وَاسْتَهَلُّوا فَرَحاً ثُمَّ قَالُوا: يَا يَزِيدُ لَاتُشَلْ

مُنْتَحِياً «5» عَلى ثَنَايَا أَبي عَبْدِاللَّهِ عليه السلام»

تَنْكُتُهَا بِمِخْصَرَتِكَ «7»؟.

وَكَيْفَ لَاتَقُولُ ذلِكَ، وَقَدْ نَكَأَت الْقُرْحَة، وَاسْتَأْصَلَت الشَأْفَة، بِإِرَاقَتِكَ «8» دِمَاءَ ذُرِّيَّةِ آل «9» مُحَمَّدٍ «10» وَنُجُومِ الْأَرْضِ مِنْ آلِ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 161

عَبْدِالْمُطَّلِبِ؟!. أَتَهْتِفُ «1» بِأَشْيَاخِكَ؟ زَعَمْتَ تُنَادِيهِمْ «2»، فَلَتَرِدَنَّ وَشِيكاً مَوْرِدهم، وَلَتَوَدَّنَّ أَنَّكَ شَلَلْتَ وَبَكَمْتَ وَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ مَا قُلْتَ. اللَّهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا، وَانْتَقِمْ «3» مِمَّنْ ظَلَمَنَا «4»، وَاحْلُلْ غَضَبَكَ «5» بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا «6» وَقَتَلَ حُمَاتَنَا. فَوَاللَّهِ مَا فَرَيْتَ إِلَّا جِلْدَكَ، وَلَا «7» جَزَزْتَ «8» إِلَّا لَحْمَكَ، وَلَتَرِدَنَّ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله و سلم بِمَا تَحَمَّلْتَ «9» من سفك دماء ذرّيته وانتهاك حرمته «10» في لحمته وعترته، وليخاصمنّك حيث يَجْمَعُ اللَّهُ تعالى شَمْلَهُمْ، وَيَلُمَّ شَعْثَهُمْ، وَيَأْخُذُ لهم بِحَقِّهِمْ «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا فى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 162

أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» «1». «2»

فَحَسْبُكَ بِاللَّهِ «3» حَاكِماً، وَبِمُحَمَّدٍ خَصماً «4» وَبِجِبْرَئِيلَ ظَهِيراً، وَسَيَعْلَمُ مَنْ سَوَّلَ «5» لَكَ وَمَكَّنَكَ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ، أن بِئْسَ «6» لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، وَأَيُّكُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ «7» جُنْداً.

وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ

الدَّواهي مُخَاطَبَتَكَ، فَإنّي «8» لَأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ، وَأَسْتَكْبِرُ «9» تَوْبِيخَكَ، لكِنَّ الْعُيُونَ عَبْرى، وَالصُّدُورَ حَرّى.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 163

أَلا «1» فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ بِقَتْلِ «2» حِزْبِ «3» اللَّهِ النُّجَبَاءِ بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاءِ، فَتلك الْأَيْدى تَنْطفُ «4» مِنْ دِمَائِنَا، وَتلك «5» الْأَفْوَاهُ تَتَحَلَّبُ مِنْ لُحُومِنَا، وَتِلْكَ الْجُثَثُ الطَّوَاهِرُ الزَّوَاكي تَتَنَابُهَا «6» الْعَوَاسِلُ وَتَعْفُوهَا «7» الذئاب «8»، وتؤمّها الْفَرَاعِلُ، وَلَئِنِ اتَّخَذْتَنَا مَغْنَماً لَتَجِدُنَا»

وَشِيكاً مَغْرَماً، حِيْنَ لَاتَجِدُ إِلَّا مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ «10»، وَأنّ اللَّه ليس بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، فَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكى «11»، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ. فَكِدْ كَيْدَكَ «12»، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا تَمْحُو «13» ذِكْرَنَا، وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا، وَلَا تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا «14»، ولا تغيب شنارها، فهل رأيك إلّافند وأيّامك إلّا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 164

عدد، وشملك «1» إلّابدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة «2» اللَّه على الظالمين. فَالْحَمْدُ للَّهِ الَّذي خَتَمَ «3» لِأَوَّلِنَا بِالسَّعَادَةِ وَالْرحمة، وَلآخِرِنَا بِالشَّهَادَةِ وَالمغفرة «4».

وَأسْأَلُ «5» اللَّهَ أَنْ يُكْمِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ، وَيُوجِبَ لَهُمُ الْمَزِيدَ «6»، وَحسن المآب، ويختم بنا الشرافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير «7»». «8»

إنّه خطاب عظيم تمكّن من كسر غرور يزيد وتحطيم كبريائه.

يقول الإمام كاشف الغطاء رحمه الله: «أتستطيع ريشة أعظم مصوّر وأبدع ممثّل أن يمثِّل لك حال يزيد وشموخه بأنفه وزهوه بعطفه وسروره وجذله باتّساق الأمور وانتظام الملك ولذّة الفتح والظفر والتشفّي والانتقام- بأحسن من ذلك التصوير

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 165

والتمثيل- وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجّة والبيان والتقريع والتأنيب، ويبلغ ما بلغته سلام اللَّه عليها بتلك الكلمات، وهي على الحال الذي عرفت، ثمّ لم تقتنع منه بذلك حتّى أرادت أن تمثّل له وللحاضرين عنده ذلّة الباطل وعزّة الحقّ وعدم

الاكتراث والمبالاة بالقوّة والسلطة والهيبة والرهبة، أرادت أن تعرّفه خسّة قدره وضعة مقداره وشناعة فعله ولؤم فرعه وأصله» «1».

ويقول المرحوم الفكيكي:

«تأمّل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة وأساليب الفصاحة، وبراعة البيان، وبين معاني الحماسة وقوّة الاحتجاج وحجّة المعارضة والدفاع في سبيل الحرّية والحقّ والعقيدة بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب، وأحدّ من وقع الأسنّة في الحشا والمهج في مواطن القتال ومجالات النزال، وكان الوثوب على أنياب الأفاعي وركوب أطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أميّة وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة، ثمّ إنّ هذه الخطبة التاريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القويّة الحسّاسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية، وسيبقى هذا الأدب الحيّ صارخاً في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال وفي كلّ ذكرى لواقعة الطف الدامية المفجعة» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 166

نظرة سريعة في مضامين الخطبة ..... ص : 166

إنّ هذه الخطبة الغرّاء تحتوي على مضامين عالية ومواقف صلبة نشير إلى بعضها:

1- بيان نقطة مهمّة في المعارف الإسلامية حول إمهال اللَّه تعالى الطغاة الظلمة والكفرة الفجرة، وأنّه ليس ذلك إلّالإتمام الحجّه عليهم وليزدادوا إثماً، وفي المقام أنّ ما وصل إليه يزيد ليس لعظم خطره عند اللَّه! فليعلم أنّه له عذاب عظيم.

2- بيان جور يزيد في الحكم، مع أنّه يدّعي تمثيله الخلافة الإسلامية.

3- التركيز على مسألة حفظ مكانة المرأة ولزوم الغيرة.

4- التركيز على أنّ ما فعله يزيد هو نتيجة الكفر وأنّ ما ارتكبه هو انتقام لمّا فعله الرسول من قتل أقرباء يزيد الكفرة في يوم بدر، وهو هزّ السيوف في وجه رسول

اللَّه بعد مضيّ خمسين سنة من وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.

5- التأكيد أنّ الحكم والولاية لآل محمّد لا لغيرهم، وذلك في قولها: «وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا».

6- الإشارة إلى مسؤولية من مكّن الطاغية من رقاب المسلمين، وبذلك تجيب عمّا يريد أن يحيل ذلك إلى قضاء اللَّه وقدره!

7- التصريح بعدم تمكّن يزيد ولا أذنابه من محو ذكر أهل البيت، فذلك أمر لا يتمكّنه أحد.

8- بيان عظمة مقام الشهيد وعلوّ الشهادة في الفكر الإسلامي.

9- جعل المسؤولية الكبرى في قتل الإمام الحسين عليه السلام على عاتق يزيد مباشرة.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 167

موقف يزيد من الخطبة ..... ص : 167

قال الخوارزمي- بعد ذكره الخطبة- فقال يزيد:

يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النوائح «1»

وقال الأستاذ باقر شريف القرشي: «وكان خطاب العقيلة كالصاعقة على رأس يزيد، فقد انهار غروره وتحطّم كبرياؤه، وحار في الجواب فلم يستطع أن يقول شيئاً، إلّاأنّه تمثّل بقول الشاعر (وذكر البيت) ولم تكن أيّة مناسبة بين ذلك الخطاب العظيم الذي أبرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد، وجرّدته من جميع القيم الإنسانية، وبين ما تمثّل به من الشعر الذي أعلن فيه أنّ الصيحة تحمد من الصوائح، وأنّ النوح يهون على النائحات، فأيّ ربط موضوعي بين الأمرين؟!» «2»

موقف زينب الكبرى من طلب الرجل الشامي ..... ص : 167
اشارة

قال الشيخ المفيد:

«قالت فاطمة بنت الحسين عليها السلام: فلمّا جلسنا بين يدي يزيد ورقّ لنا، فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية- يعنيني- وكنت جارية وضيئة، فأرعدت وظننت أنّ ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمّتي زينب، وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون.

فقالت عمّتي للشامي: كذبت واللَّه ولؤمت، واللَّه ما ذلك لك ولا له!

فغضب يزيد وقال: كذبِت! إنّ ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت!

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 168

قالت: واللَّه ما جعل اللَّه لك ذلك إلّاأن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها.

فاستطار يزيد غضباً وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟! إنّما خرج من الدِّين أبوك وأخوك!

قالت زينب: بدين اللَّه ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إن كنت مسلماً.

قال: كذبت يا عدوّة اللَّه!

قالت له: أنت أمير، تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك.

فكأنّه استحيا وسكت.

فعاد الشامي فقال: هب لي هذه الجارية.

فقال له يزيد: اعزب، وهب اللَّه لك حتفاً قاضياً» «1».

ملاحظات: ..... ص : 168

1- قال ابن الجوزي وأمّا قوله: «لي أن أسبيهم» فأمر لا يقع لفاعله ومعتقده إلّا اللعنة «2».

وقال سبطه: «ليس العجب من قتال ابن زياد الحسين وتسليطه عمر بن سعد على قتله وحمل الرؤوس إليه، وإنّما العجب من خذلان يزيد وضربه بالقضيب ثناياه وحمل آل رسول اللَّه سبايا على أقتاب الجمال وعزمه على أن يدفع فاطمة

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 169

بنت الحسين إلى الرجل الذي طلبها... وكذا قول يزيد:" لي أن أسبيكم" لمّا طلب الرجل فاطمة بنت الحسين» «1».

2- ذكر الخوارزمي- حينما ذكر ما وقع من الكلام بين يزيد وزينب الكبرى عليها السلام في المقام-:

«قالت زينب: أمير مسلّط يشتم ظالماً، ويقهر بسلطانه، اللّهمّ إليك أشكو دون غيرك.

فاستحيى يزيد، وندم وسكت مطرقاً، وعاد الشاميّ إلى مثل كلامه، فقال:

يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية.

فقال له يزيد: اعزب عنّي لعنك اللَّه، ووهب لك حتفاً قاضياً، ويلك لا تقل ذلك! فهذه بنت علي وفاطمة، وهم أهل بيت لم يزالوا مبغضين لنا منذ كانوا» «2».

وروى سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمّد قال:

«إنّه لمّا دخل النساء على يزيد نظر رجل من أهل الشام إلى فاطمة بنت الحسين عليه السلام وكانت وضيئة، فقال ليزيد: هب لي هذه فإنّهنّ لنا حلال، فصاحت الصبية وارتعدت وأخذت بثوب عمّتها زينب، فصاحت زينب ليس ذلك إلى يزيد ولا كرامة، فغضب يزيد وقال: لو شئت لفعلت، فقالت زينب: صلِّ إلى غير قبلتنا ودن بغير ملّتنا وافعل ما شئت، فسكن غضبه» «3».

والمهمّ ما ذكره السيّد ابن طاووس:

«ونظر رجل من أهل الشام إلى فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقال: يا أمير

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 170

المؤمنين! هب لي هذه الجارية، فقالت فاطمة لعمّتها: يا عمّتاه، أُيتمت وأستخدم؟ فقالت زينب: لا، ولا كرامة لهذا الفاسق، فقال الشامي: مَن هذه الجارية؟ فقال له يزيد لعنه اللَّه: هذه فاطمة ابنة الحسين، وتلك عمّتها زينب ابنة عليّ، فقال الشامي: الحسين بن فاطمة وعليّ بن أبي طالب؟! قال: نعم، فقال الشامي: لعنك اللَّه يا يزيد، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيته، واللَّه ما توهّمت إلّاأنّهم سبي روم! فقال يزيد: واللَّه لألحقنّك بهم، ثمّ أمر به، فضربت عنقه» «1».

وهذا الخبر أيضاً يدلّ بوضوح على سيطرة الإعلام المضلّل وبثّ الدعايات الكاذبة في الشام، ولذلك نرى تركيز أهل البيت وعلى رأسهم الإمام زين العابدين عليه السلام وزينب الكبرى عليها السلام وتكرارهم بأنّهم من أولاد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وثمرة عليّ وفاطمة.

3- ذكر بعض أنّ القصّة جرت في شأن فاطمة بنت علي،

ثمّ ذكروا الموقف الزينيّ نفسه، ذكر ذلك البلاذري «2»، والشيخ الصدوق «3»، والطبري «4»، وابن الأثير «5»، وابن الجوزي «6»، وابن كثير «7» بتفاوت بالنقل.

أقول: وأمّا فاطمة بنت علي- عليه السلام- فقد ذكرها الشيخ المفيد «8» وابن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 171

شهرآشوب «1» والطبرسي «2»، وابن أبي الحديد «3» وغيرهم في عداد أولاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وامّها أُمّ ولد، روي عن عنبسة العابد أنّه قال: إنّ فاطمة بنت علي مدّ لها في العمر حتّى رآها أبو عبداللَّه عليه السلام «4».

ولكن المهمّ في المقام أمران:

الأوّل: لا نعلم بحضورها في وقعة الطف وبعدها.

الثاني: على فرض حضورها فالقرائن الحالية والمقالية في الخبر تدلّ على أنّها كانت في شأن فاطمة بنت الحسين عليهما السلام لا فاطمة بنت عليّ عليهما السلام، التي روي أنّها كانت متزوّجة من محمّد بن عقيل «5».

وأمّا ما جاء في بعض هذه الأخبار بأنّها قالت: فأخذت أُختي وهي أكبر منّي وأعقل «6»، أو: وأخذت بثياب أُختي زينب «7»، فهناك رواية يمكن الركون والاعتماد عليها وهي ما رواها الخوارزمي أنّها قالت فاطمة بنت الحسين: فأخذت بثياب أُختي وعمّتي زينب «8»، والاخت هي سكينة بنت الحسين عليهما السلام.

4- أهمل بعض التصريح بالاسم، واكتفى بذكر عنوان «وصيفة من بناتهم» «9»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 172

أو «وصيفة من بناته» «1»، أو «صبيّة منهم» «2»، ثمّ ذكر الموقف نفسه لزينب عليها السلام.

5- لقد تفرّد أبو الفرج الإصبهاني بذكره الخبر في شأن زينب سلام اللَّه عليها، فإنّه بعدما ذكر من الكلام الذي جرى بين الإمام زين العابدين عليه السلام ويزيد، قال: «فوثب رجل من أهل الشام فقال:" دعني أقتله"، فألقت زينب نفسها عليه، فقام رجل آخر فقال:" يا أمير المؤمنين هب لي هذه أتّخذها

أمَة"، قال: فقالت له زينب:" لا ولا كرامة ليس لك ذلك، ولا له، إلّاأن يخرج من دين اللَّه"، فصاح به يزيد:" اجلس" فجلس، وأقبلت زينب عليه وقالت:" يا يزيد، حسبك من دمائنا"، وقال عليّ بن الحسين: إن كان لك بهؤلاء النسوة رحم وأردت قتلي فابعث معهنّ أحداً يؤدّيهنّ، فرقَّ له وقال: لا يؤدّيهنّ غيرك» «3».

6- لقد حقّقت زينب الكبرى نصراً حاسماً على الطاغي وهو في ذروة السلطة والقدرة الظاهريّة فقد أفحمته المرّة بعد المرّة، وقد تمكّنت أن تظهر جهل مدّعي الخلافة للناس، كما كشفت عن عدم فقهه في شؤون الدِّين، فإنّ نساء المسلمين لا يصحّ اعتبارهنّ سبايا في الحروب، ولا يعاملن معاملة السبي، فكيف إن كنّ بنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟!

دور امّ كلثوم في مجلس يزيد ..... ص : 172

قال العلّامة المجلسي رحمه الله- حول طلب الرجل الشامي من يزيد-:

«وفي بعض الكتب: قالت امّ كلثوم للشامي: اسكت يالكع الرّجال، قطع اللَّه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 173

لسانك، وأعمى عينيك، وأيبس يديك، وجعل النار مثواك، إنّ أولاد الأنبياء لا يكونون خدمة لأولاد الأدعياء.

قال: فواللَّه ما استتمّ كلامها حتّى أجاب اللَّه دعاءها في ذلك الرجل.

فقالت: الحمد للَّه الذي عجّل لك العقوبة في الدُّنيا قبل الآخرة، فهذا جزاء من يتعرّض لحرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «1».

دور سكينة بنت الحسين عليهما السلام ..... ص : 173

قال الشيخ المفيد: «سكينة بنت الحسين.. أُمّها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي، كلبية، وهي امّ عبداللَّه بن الحسين..» «2».

ولها دور مهمّ في جميع مراحل النهضة الحسينيّة، ومنها في مجلس يزيد، فهي تسير على نهج أخيها الإمام السجّاد عليهما السلام وعمّتها زينب الكبرى عليها السلام. وتقصد تحقيق نفس الأهداف، وتتوسّل بذات الأساليب، فلذلك نرى أنّها تقوم بتعريف الأسارى بأنّهم من آل محمّد، لكي تسيطر على الجوّ المسموم إعلاميّاً.

روى الحميري بإسناده عن عبداللَّه بن ميمون عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام قال: لمّا قدم على يزيد بذراري الحسين أدخل بهنّ نهاراً مكشوفات وجوههنّ، فقال أهل الشام الجفاة: ما رأينا سبياً أحسن من هؤلاء، فمَنْ أنتم؟

فقالت سكينة بنت الحسين: نحن سبايا آل محمّد» «3»

.ونرى أنّها تواجه يزيد بكلّ صلابة، وتجبره على التراجع في الموقف، بحيث يُظهر الندامة ويجعل المسؤولية على عاتق ابن مرجانة كذباً وزوراً.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 174

قال ابن سعد: «وقالت له سكينة بنت حسين: يايزيد، بنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم [سبايا؟ «1»].

فقال: يابنت أخي! هو واللَّه عليَّ أشدّ منه عليك!

وقال: أقسمت باللَّه لو أنّ بين ابن زياد وبين حسين قرابة ما أقدم عليه، ولكن فرّقت بينه

وبينه سميّة!

وقال: قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، فرحم اللَّه أبا عبداللَّه، عجّل عليه ابن زياد، أما واللَّه لو كنت صاحبه ثمّ لم أقدر على دفع القتل عنه إلّابنقص بعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه! ولوددت أنّي أتيت به سلماً» «2».

قال الشيخ الصدوق رحمه الله: ثمّ أدخل نساء الحسين عليه السلام على يزيد بن معاوية، فضمن نساء آل يزيد وبنات معاوية وأهله، وولولن وأقمن المأتم، ووضع رأس الحسين بين يديه، فقالت (سكينة بنت الحسين): واللَّه ما رأيت أقسى قلباً من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ولا أجفى منه، «3» وأقبل يقول وينظر إلى الرأس:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل «4»

دور فاطمة بنت الحسين عليهما السلام ..... ص : 174

قال الشيخ المفيد: «فاطمة بنت الحسين.. امّها أُمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيداللَّه، تيميّة» «1».

قال ابن عبد ربه: «وحمل أهل الشام بنات رسول اللَّه سبايا على أحقاب الإبل، فلمّا أُدخلن على يزيد قالت فاطمة ابنة الحسين: يا يزيد، أبنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم سبايا؟ قال: بل حرائر كرام، ادخلي على بنات عمّك تجديهن قد فعلن ما فعلتِ، قالت فاطمة: فدخلت إليهنّ، فما وجدت فيهنّ سفيانيّة إلّامتلدّمة تبكي» «2».

وقال ابن نما: «وقالت فاطمة بنت الحسين: يا يزيد، بنات رسول اللَّه سبايا! فبكى الناس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات» «3».

وقال القاضي نعمان: «فقالت فاطمة بنت الحسين عليه السلام: يا يزيد، ما تقول في بنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سبايا عندك؟

فاشتدّ بكاؤه حتّى سمع ذلك نساؤه، فبكين حتّى سمع بكاءهن من كان في مجلسه» «4».

وروى الطبري عن أبي عوانة بن الحكم الكلبي: «ثمّ أُدخل نساء الحسين على يزيد، فصاح

نساء آل يزيد وبنات معاوية وأهله وولولن، ثمّ أنّهنّ أُدخلن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 176

على يزيد، فقالت فاطمة بنت الحسين- وكانت أكبر من سكينة-: أبنات رسول اللَّه سبايا يا يزيد؟

فقال يزيد: ابنة أخي أنا لهذا كنت أكره.

قالت: واللَّه ما ترك لنا خرص.

قال: يا ابنة أخي، ما أتي إليك أعظم ممّا أُخذ منك.

ثمّ أخرجن فأدخلن دار يزيد بن معاوية» «1».

والشي ء الذي يلفت النظر في هذا الموقف هو وضوح التراجع والتنازل من قبل الطاغي يزيد بن معاوية، وهو يرجع إلى ما حصل في المجلس، ومن تأثير كلام أهل بيت العترة، بحيث انقلب المجلس، لأنّ المجلس الذي أُسّس على أساس أن يكون مجلس فرح يزيد أصبح مجلس مأتم الحسين عليه السلام ومنطلق الانقلاب ضدّ يزيد، وعليه يحمل ما ورد في هذه الأخبار من أنّه رقّ عليهم! ولعن ابن مرجانة، أو أنّه بكى!! فإنّ ذلك كان لأجل بكاء الناس وخوفه من إثارة الفتنة وزوال ملكه.

وأمّا ما حكي عن فاطمة قولها: «واللَّه ما ترك لنا خرص»، ففيه:

1- لم يثبت صدور هذا الكلام منها، وفي صحّة ما حكي عنها تأمّل.

2- بناءً على فرض صحّة الصدور، فإنّها قالته لأجل بيان شدّة ما ارتكبه جلاوزة يزيد في معركة الطفّ، لا أنّها تطالب ذلك، إلّاأنّ في ضمن ما سلب عن أهل البيت بعض مواريث فاطمة الزهراء، فإنّه لا تقابلها أيّ شي ء، فمطالبة ذلك ليس بمعنى الحصول على أمر مادّي فحسب.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 177

استنكار بعض أهل الكتاب ..... ص : 177
اشارة

إنّ رسالة الثورة الحسينيّة لم تنحصر بطائفة دون أخرى، ولا بقوم دون آخرين، ولا بزمان دون غيره، لذلك نرى أنّ الاستنكار والتنديد بمرتكبي الفاجعة العظمى ومسبّبيها لم يخصّ المسلمين وحدهم، بل شمل كلّ أحرار العالم على مدى الزمان، ومنه استنكار بعض حاضري مجلس

يزيد من أهل الكتاب.

جذور المسألة ..... ص : 177

صحيح أنّ عمق الفاجعة والمأساة يستدعي أن يتّخذ كلّ إنسان حرّ موقفاً جليّاً وجليلًا وصلباً تجاهها، ولكنّ جذور المسألة- هنا- قد تعود إلى ما روي في كتبهم وآثارهم (أعني أهل الكتاب) حول ما يجري في كربلاء.

فقد روى سالم بن أبي جعدة عن كعب الأحبار أنّه قال: «إنّ في كتابنا (أنّ رجلًا من ولد محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يُقتل ولا يجفّ عرق دوابّ أصحابه حتى يدخلوا الجنّة، فيعانقوا الحور العين)، فمرّ بنا الحسن عليه السلام فقلنا: هو هذا؟ قال: لا، فمرّ بنا الحسين عليه السلام فقلنا: هو هذا؟ قال: نعم» «1».

وفي كامل الزيارة بإسناده عن خالد الربعي قال: حدّثني من سمع كعباً يقول:

«أوّل من لعن قاتل الحسين عليه السلام إبراهيم خليل الرحمن، لعنه وأمر ولده بذلك، وأخذ عليهم العهد والميثاق، ثمّ لعنه موسى بن عمران وأمر أمّته بذلك، ثمّ لعنه داود وأمر بني إسرائيل بذلك، ثمّ لعنه عيسى وأكثر أن قال: يا بني إسرائيل العنوا قاتله، وإن أدركتم أيّامه فلا تجلسوا عنه، فإنّ الشهيد معه كالشهيد مع الأنبياء ...، وكأنّي أنظر إلى بقعته، وما من نبيّ إلّاوقد زار كربلاء ووقف عليها وقال: إنّكِ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 178

لبقعة كثيرة الخير فيك يدفن القمر الأزهر» «1».

وروى الخوارزمي عن الفتوح بإسناده عن كعب الأحبار أنّه لمّا أسلم زمن عمر بن الخطّاب وقدم المدينة وجعل أهل المدينة يسألونه عن الملاحم التي تكون في آخر الزمان فكان يخبرهم بأنواع الملاحم والفتن ويقول: «وأعظمها ملحمة هي الملحمة التي لا تنسى أبداً وهي الفساد الذي ذكره اللَّه تعالى في كتابكم فقال: «ظهر الفساد في البرّ والبحر»، وإنّما فتح بقتل قابيل هابيل ويختم بقتل الحسين بن علي

عليه السلام، ثمّ قال كعب: لعلّكم تهوّنون قتل الحسين، أولا تعلمون أنّه تفتح يوم قتله أبواب السماوات كلّها ويؤذن للسماء بالبكاء فتبكي دماً عبيطاً؟ فإذا رأيتم الحمرة قد ارتفعت من جنباتها شرقياً وغربياً فاعلموا أنّها تبكي حسيناً، فقيل له: يا أبا إسحاق، كيف لم تفعل ذلك بالأنبياء وأولاد الأنبياء من قبل وبمن كان خيراً من الحسين؟ فقال كعب، ويحكم إنّ قتل الحسين لأمرٌ عظيم، لأنّه ابن بنت خير الأنبياء، وأنّه يُقتل علانية مبارزة ظلماً وعدواناً، ولا تحفظ فيه وصيّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو مزاج مائه، وبضعة من لحمه، فيذبح بعرصة كربلاء في كرب وبلاء» «2».

وقال ابن كثير: «وقد روي عن كعب الأحبار آثار في كربلاء» «3».

وعن رأس الجالوت أنّه قال: «كنت أسمع أنّه يُقتل بكربلاء ابن نبيّ، فكنت إذا دخلتها ركضت دابّتي حتّى أخلفها! فلمّا قُتل الحسين جعلت أسير على هنيئتي» «4».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 179

وقال سبط ابن الجوزي: قال ابن سيرين: وجد حجر قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه و آله بخمسمائة سنة مكتوب بالسريانية، فنقلوه إلى العربية فإذا هو:

أترجو أمّة قتلت حسيناً شفاعة جدّه يوم الحساب «1»

وروى الخوارزمي عن إمام لبني سليم قال: «حدّثنا أشياخنا قالوا: دخلنا في الروم كنيسة لهم، فوجدنا في الحائط صخرة فيها مكتوب:

أترجو أمّة قتلت حسينا شفاعة جدّه يوم الحساب

فلا واللَّه ليس لهم شفيع وهم يوم القيامة في العذاب

فقلنا لشيخ من الكنيسة: منذ كم هذا الكتاب؟ فقال: من قبل أن يبعث صاحبكم بثلاثمائة عام» «2».

وفي بعض الكتب أنّه وجد ذلك البيت بستّمائة عام قبل مبعث الرسول «3».

وروى الزرندي عن سليمان بن يسار: وجد حجر مكتوب عليه:

لابدّ أن ترد القيامة فاطم وقميصها بدم الحسين ملطّخ

ويلٌ

لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في يوم القيامة يُنفخ «4»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 180

هذا، وأهمّ من جميع ذلك أنّه جاء في العهد القديم والجديد ذكر ما ينطبق على الإمام الحسين عليه السلام، كما أورده الاستاذ الشيخ أحمد الواسطي في كتابه القيّم «أهل البيت في الكتاب المقدّس»، قال:

«يوحنا» يخبر عن المذبوح بكربلاء ..... ص : 180

فقد جاء في سفر يوحنا

كي أتّا نشحطتا

في بدمخا قانيتا لإيلوهيم

من كل مشبحا في لا شون في كل عم في گوي

في إيريه فا اشمع

قول ملاخيم ربيم

قورئيم عوشير في حاخما

في گبورها في هدار كافود في براخا «1».

ويعني هذا النصّ:

إنّكَ الذي ذُبِحت

وقدّمت دمك الطاهر قرباناً للرب

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 181

ومن أجل إنقاذ الشعوب والامم

وسينال هذا الذبيح المجد

والعزّة والكرامة وإلى الأبد لأنّه

جسّد البطولة والتضحية بأعلى مراتبها.

يشير النصّ العبري إلى الإمام الحسين عليه السلام من خلال ما جاء على لسان «يوحنا» بأنّه المذبوح الذي ضحّى بنفسه وأهل بيته من أجل اللَّه وأنّه سينال المجد والعزّة على مرّ العصور والأجيال وهذا ما يتّضح من خلال التحليل اللغوي للنصّ العبري حيث نجد الإشارة إلى أنّه (ذُبِحَ، قُتِل) من خلال صيغة اسم الفاعل (نشحطتا) وهي مشتقّة من الفعل (شاحط): (ذَبَح، قَتَل) «1».

ثمّ نجد في النص العبري تأكيداً آخر على أنّ المذبوح يشري دمه الطاهر قربةً إلى اللَّه وابتغاء مرضاته من خلال عبارة: (بَدِمْخا قانيتا) فالفعل (قانيتا) هو بالأصل:

(قانا): (اشترى، باع) و (التاء) في (قانيتا) هي (تاء المخاطب) «2».

ثمّ الإشارة إلى نكتة مهمّة وهي أنّ هذه التضحية وهذا القربان الذي قدّمه الحسين عليه السلام لكلّ الشعوب والامم على اختلاف لغاتهم وقومياتهم بقوله: (من كل مشبحا ولاشون وعم وگوي) «3».

ثمّ يؤكّد النصّ على أنّ اللَّه سيجعل- لسيّد الشهداء- المجد والكرامة والعزّة بقوله: (في اشمع قول ملاخيم ربيم قورئيم عوشر في حاخما

في گبورا في هدار كافود) «4». وهذا ما ينطبق على سيّد الشهداء المذبوح بكربلاء، الذي انفرد بهذه الخصوصية التي ميّزته عن بقيّة الشهداء على مرّ التأريخ.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 182

«أرميا» يخبر عن مذبحة كربلاء ..... ص : 182

فقد جاء في صحيفة «أرميا»

في هيوم هَهوكاشلوا

في نافلوا تسافونا عل يد نهر فرات

في آكلا حيرب

في سابعا

في راوتا من دمام

كي زيبح لأدوناي يهفا

تسفاؤوت با إيرتس

تسافون إل نهر فرات «1».

ويعني هذا النص:

في ذلك اليوم يسقط القتلى في المعركة

قرب نهر الفرات

وتشبع الحرب والسيوف وترتوي

من الدماء التي تسيل في ساحة المعركة

بسبب مذبحة ربّ الجنود في أرض

تقع شمال نهر الفرات

فالنصّ الذي أخبر عنه «أرميا» يكشف بكلّ وضوح عن ملحمة الطف في كربلاء الحسين، ومن خلال التحليل اللغوي للنصّ العبري نجد تعظيماً لفداحة ما

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 183

يحدث في ذلك اليوم حيث يسقط القتلى في المعركة: (كاشلوا في نافلوا) في شمال نهر الفرات: (تسافونا عل يد نهر فرات) «1»

ثمّ التأكيد على أنّ: الحراب والسيوف ستشبع وترتوي من الدماء التي ستسيل في ساحة المعركة: (في آكلا حيرب في سابعا في راوتا من دمّام)، والإشارة ثانية إلى أنّ هذه المذبحة ستقع شمال نهر الفرات:

(تسافون إل نهر فرات). فإخبار «أرميا» بسقوط الشهداء وارتواء السيوف من دمائهم على أرض تقع على (نهر الفرات) يدلّ دلالة واضحة على أنَّ هذه الأرض هي (كربلاء)، لأنّ (عبيداللَّه بن زياد) عندما بعث (بعمر بن سعد) على رأس جيش فلقي الحسين عليه السلام بموضع على الفرات يقال له (كربلاء) «2»، فمنعوه الماء وحالوا بينه وبين ماء الفرات. ويتتضح من خلال هذين النصّين، وما تضمّناه من تنبؤاتٍ بما سيحدث على أرض (كربلاء) وما سيلاقيه «سيّد الشهداء» يتطابق مع ما ورد عن الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، بشأن مظلومية الحسين،

وأشارت إلى مكان استشهاده والحسين كان طفلًا صغيراً «3».

رأس اليهود في مجلس يزيد ..... ص : 183

قال الفقيه المحدّث قطب الدِّين الراوندي: «ودخل عليه (يزيد) رأس اليهود. فقال: ما هذا الرأس؟

فقال: رأس خارجيّ!

قال: ومَنْ هو؟

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 184

قال: الحسين؟

قال: ابن مَن؟

قال: ابن عليّ.

قال: ومَن امّه؟

قال: فاطمة.

قال: ومَن فاطمة؟

قال: بنت محمّد.

قال: نبيّكم؟! قال: نعم.

قال: لا جزاكم اللَّه خيراً، بالأمس كان نبيّكم واليوم قتلتم ابن بنته؟! ويحك إنّ بيني وبين داود النبيّ نيفاً وسبعين أباً، فإذا رأتني اليهود كفّرت لي «1»، ثمّ مال إلى الطشت وقبّل الرأس، وقال: أشهد أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ جدّك محمّداً رسول اللَّه، وخرج، فأمر يزيد بقتله» «2».

وذكر ابن أعثم- بعد ذكره ما جرى بين الإمام زين العابدين عليه السلام ويزيد من الكلام- قال: «فالتفت حبر من أحبار اليهود وكان حاضراً، فقال: مَن هذا الغلام ياأمير المؤمنين؟!

فقال: صاحب الرأس هو أبوه.

قال: ومَن هو صاحب الرأس يا أمير المؤمنين؟

قال: الحسين بن علي بن أبي طالب.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 185

قال: فمَن امّه؟

قال: فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

فقال الحبر: يا سبحان اللَّه، هذا ابن نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة، بئس ما خلفتموه في ذرّيته، واللَّه لو خلف فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لكنّا نعبده من دون اللَّه «1»، وأنتم إنّما فارقكم نبيّكم بالأمس، فوثبتم على ابن نبيّكم فقتلتموه، سوأة لكم من امّة.

قال: فأمر يزيد بكرة في حلقه «2»، فقام الحبر وهو يقول: إن شئتم فاضربوني أو فاقتلوني أو فذروني، فإنّي أجد في التوراة أنّه من قتل ذرّية نبيّ لا يزال مغلوباً «3» أبداً ما بقي، فإذا مات يصليه اللَّه نار جهنّم» «4».

وروى ابن عبد ربه عن أبي الأسود محمّد بن عبد الرحمن أنّه قال: «لقيت رأس

الجالوت «5»، فقال:

إنّ بيني وبين داود سبعين أباً، وإنّ اليهود إذا رأوني عظّموني وعرفوا حقّي وأوجبوا حفظي، وأنّه ليس بينكم وبين نبيّكم إلّاأب واحد، وقتلتم ابنه» «6».

قال الخوارزمي: «قال بعض العلماء: إنّ اليهود حرموا الشجرة التي كان منها

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 186

عصا موسى أن يخبطوا بها وأن يوقدوا منها النار تعظيماً لعصا موسى، وأنّ النصارى يسجدون للصليب لاعتقادهم فيه أنّه من جنس العود الذي صلب عليه عيسى، وأنّ المجوس يعظّمون النار لاعتقادهم فيها أنّها صارت برداً وسلاماً على إبراهيم نفسها، وهذه الامّة قد قتلت أبناء نبيّها وقد أوصى اللَّه تعالى بمودّتهم وموالاتهم، فقال عزّ من قائل: «قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» «1»

.» «2»

رسول ملك الروم في مجلس يزيد ..... ص : 186

روى سبط ابن الجوزي عن عبيد بن عمير، قال: «كان رسول قيصر حاضراً عند يزيد، فقال ليزيد: هذا رأس مَن؟ فقال: رأس الحسين، قال: ومَن الحسين؟

قال: ابن فاطمة، قال: ومَن فاطمة؟ قال: بنت محمّد، قال: نبيّكم؟ قال: نعم، قال:

ومَن أبوه؟ قال: عليّ بن أبي طالب، قال: ومَن عليّ بن أبي طالب؟ قال: ابن عمّ نبيّنا، فقال: تبّاً لكم ولدينكم ما أنتم وحقّ المسيح على شي ء، إنّ عندنا في بعض الجزائر دير فيه حافر حمار ركبه عيسى السيّد المسيح، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار وننذر له النذور ونعظّمه كما تعظّمون كعبتكم، فأشهد أنّكم على باطل، ثمّ قام ولم يعد إليه» «3».

وروى ذلك الخوارزمي بتفصيل أكثر وهو ما أورده بإسناده عن زيد بن علي ومحمّد بن الحنفية عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام أنّه قال:

«لمّا أُتي برأس الحسين عليه السلام إلى يزيد كان يتّخذ مجالس الشرب، ويأتي برأس الحسين، فيضعه بين يديه ويشرب عليه، فحضر ذات يوم

أحد مجالسه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 187

رسول ملك الروم- وكان من أشراف الروم وعظمائها- فقال: يا ملك العرب رأس مَنْ هذا؟

فقال له يزيد: مالكَ ولهذا الرأس؟

قال: إنّي إذا رجعت إلى ملِكِنا يسألني عن كلّ شي ء رأيته، فأحببت أن أخبره بقصّة هذا الرأس وصاحبه ليشاركك في الفرح والسرور.

فقال يزيد: هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب.

فاقل: ومَن امّه؟

قال: فاطمة الزهراء.

قال: بنت مَن؟ قال: بنت رسول اللَّه.

فقال الرسول: أُفٍ لك ولدينك، وما دين (إلّا) أحسن من دينك! اعلم أنّي من أحفاد داود، وبيني وبينه آباء كثيرة، والنصارى يعظّمونني ويأخذون التراب من تحت قدمي تبرّكاً، لأنّي من أحفاد داود، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول اللَّه وما بينه وبين رسول اللَّه إلّاامّ واحدة، فأيّ دين هذا؟!

ثمّ قال له الرسول: يا يزيد، هل سمعت بحديث كنيسة الحافر؟

فقال يزيد: قل حتّى أسمع.

فقال: إنّ بين عمّان والصين بحراً مسيرته سنة، ليس فيه عمران إلّابلدة واحدة في وسط الماء، طولها ثمانون فرسخاً وعرضها كذلك، وما على وجه الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يحمل الكافور والياقوت والعنبر، وأشجارهم العود، وهي في أيدي النصارى، لا ملك لأحد فيها من الملوك، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر، في محرابها حقّة من ذهب معلّقة فيها حافر يقولون إنّه حافر حمار كان يركبه عيسى، وقد زيّنت حوالي الحقّة بالذهب والجواهر والديباج والابريسم، وفي كلّ عام يقصدها عالم من النصارى، فيطوفون حول

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 188

الحقّة ويزورونها ويقبّلونها ويرفعون حوائجهم إلى اللَّه ببركتها، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنّه حافر حمار كان يركبه عيسى نبيّهم، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم! لا بارك اللَّه فيكم ولا في دينكم.

فقال يزيد لأصحابه: اقتلوا هذا النصراني، فإنّه يفضحنا إن رجع إلى بلده

ويشنّع علينا.

فلمّا أحسّ النصراني بالقتل قال: يا يزيد، أتريد قتلي؟

قال: نعم.

قال: فاعلم إنّي رأيت البارحة نبيّكم في منامي وهو يقول لي: يا نصراني، أنت من أهل الجنّة! فعجبت من كلامه حتّى نالني هذا، فأنا أشهد أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ثمّ أخذ الرأس وضمّه إليه، وجعل يبكي حتّى قُتل» «1».

ثمّ قال الخوارزمي: «وروى مجد الأئمّة السرخسكي عن أبي عبداللَّه الحدّاد أنّ النصراني اخترط سيفاً وحمل على يزيد ليضربه، فحال الخدم بينهما وقتلوه وهو يقول الشهادة الشهادة» «2».

ولنعم ما أورده ابن شهرآشوب عن بعض شعراء أهل البيت عليهم السلام:

واخجلة الإسلام من أضداده ظفروا له بمعائب ومعاثر

آل العزير يعظّمون حماره ويرون فوزاً لثمهم بالحافر

وسيوفكم بدم ابن بنت نبيّكم مخضوبة لرضى يزيد الفاجر «3»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 189

دور الإمام زين العابدين عليه السلام في الشام ..... ص : 189
اشارة

هناك مسؤولية كبيرة يتحمّل أثقالها ويحمل أعباءها حجّة اللَّه على أرضه الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام، إذ يرى نفسه أمام حكّام فجرة وأُناسٍ جهلة، وعليه أن يؤدّي رسالة دم شهداء كربلاء وعلى رأسهم أبيه سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام.

زينب الكبرى تُعرِّف قائد المسيرة ..... ص : 189

ذكرنا أنّ زينب الكبرى سلام اللَّه عليها حينما واجهها يزيد وسألها بقوله «تكلّميني؟» أشارت إلى ابن أخيها الإمام السجّاد عليه السلام وقالت: «هو المُتكلِّم «1»»، أرادت بذلك أن تعرِّف قائد المسيرة المظفّرة.

السجّاد عليه السلام يعرّف أهل البيت من خلال القرآن ..... ص : 189

لقد مضت فترة طويلة من الزمان وكتابة أحاديث فضل أهل البيت ونشرها ممنوعة- فكيف بفهمها واستيعابها؟!- فقد مُنع من تدوين الأحاديث بعد رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، بذريعة عدم التهاء الناس به عن القرآن!.

وأعجب من ذلك أنّه منعت الحكومات عن فهم القرآن! وأصرّت على قراءة ظاهر آياته دون السؤال عن تأويلها! كما منع معاويةُ ابنَ عبّاس عن ذلك «2».

وهكذا كان على الإمام عليه السلام أن ينتهز كلّ فرصة لبثّ الروح في أجساد هذه الامّة الميّتة ويرشدهم إلى حقائق القرآن الكريم، ويهديهم إلى معرفة المقصود منه.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 190

ومن هذا المنطلق نرى الإمام عليه السلام يستدلّ بآيات شريفة نزلت في شأن أهل البيت عليهم السلام حتّى يعرّف الناس واقع الأمر، مثل ما ذكرناه حول محادثة الإمام عليه السلام مع الرجل الشامي، واستدلاله عليه السلام بهذه الآيات الشريفة:

«قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى».

«وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ».

«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى».

«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «1»

خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام ..... ص : 190
اشارة

لم يكتفِ الإمام عليه السلام بذكر آيات شريفة منطبقة على أهل البيت عليهم السلام، بل وقف موقفاً حازماً أمام الطاغية، وواجهه بكلّ صلابة، وكلّمه بكلّ شجاعة، ولم يكتفِ بذلك أيضاً، بل أخذ بزمام الكلام، وخاطب الجمهور، وكشف القناع عمّا سُتر فترة طويلة، وذلك بعدما قام الخطيب الشامي وتكلّم بما اشترى به رضا المخلوق بسخط الخالق.

قال الخوارزمي:

«وروي أنّ يزيد أمر بمنبر وخطيب ليذكر للناس مساوئ للحسين وأبيه عليّ عليهما السلام «2»، فصعد الخطيب المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه وأكثر الوقيعة في عليّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 191

والحسين، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد، فصاح به عليّ بن الحسين:

ويلك أيّها الخاطب!

اشتريت رضا «1» المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ «2» مقعدك من النار.

ثمّ قال: يا يزيد! ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد، فأتكلّم بكلمات «3» فيهنّ للَّه رضا ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب.

فأبى يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، ائذن له ليصعد، فلعلّنا نسمع منه شيئاً. فقال لهم: إن صعد «4» المنبر هذا لم ينزل إلّابفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 192

فقالوا: وما قدر ما يُحسن هذا؟

فقال: إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّاً «1».

ولم يزالوا به حتّى أذِن له بالصعود، فصعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه «2»، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، فقال فيها:

«أيّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع، أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، ومنّا الصدِّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد اللَّه وأسد الرسول، ومنّا سيّدة نساء العالمين

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 193

فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الامّة وسيّدا شباب أهل الجنّة «1».

فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني «2» أنبأته بحسبي ونسبي «3».

أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم «4» والصفا «5»، أنا ابن مَن حمل الزكاة «6» بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى «7»، (أنا) ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق «8» في الهواء، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 194

ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء،

أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمّد المصطفى.

أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا لا إله إلّااللَّه، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللَّه بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وصلّى القبلتين، وقاتل ببدرٍ وحُنين، ولم يكفر باللَّه طرفة عين. أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين [و] «1» رسول ربّ العالمين، أنا ابن المؤيّد بجبرائيل، والمنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأوّل من أجاب واستجاب للَّه «2» من المؤمنين، وأقدم السابقين «3»، وقاصم المعتدين، ومبير «4» المشركين، وسهم من مرامي

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 195

اللَّه على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، ناصر «1» دين اللَّه، ووليّ أمر اللَّه، وبستان حكمة اللَّه، وعيبة علم اللَّه «2»، سمح سخيّ، «3» بهلول زكيّ أبطحيّ، رضيّ مرضيّ، مقدام همام، صابر صوّام، مهذّب قوّام، شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، ومفرّق الأحزاب، أربطهم جناناً، وأطبقهم عناناً، وأجرأهم لساناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدّهم شكيمة، أسد باسل، وغيث هاطل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة، طحن الرحى «4»، ويذروهم ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وصاحب الإعجاز، وكبش العراق، الإمام بالنصّ والاستحقاق، مكّيّ مدنيّ، أبطحيّ تهاميّ، خيفيّ عقبيّ، بدريّ أُحديّ، شجريّ مهاجريّ، من العرب سيّدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، مظهر العجائب، ومفرّق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد اللَّه الغالب، مطلوب كلّ طالب، غالب كلّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 196

غالب، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب «1».

أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا

ابن سيّدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول.. «2»

قال: ولم يزل يقول «أنا أنا» حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة «3»، فأمر المؤذّن أن يؤذّن فقطع عليه الكلام وسكت «4».

فلمّا قال المؤذِّن «5»: «اللَّه أكبر» «6» قال عليّ بن الحسين:

كبّرت كبيراً لا يقاس ولا يدرك بالحواس، لا شي ء أكبر من اللَّه.

فلمّا قال: «أشهد أن لا إله إلّااللَّه» قال عليّ:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 197

شهد بها «1» شعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي.

فلمّا قال: «أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه» التفت عليّ «2» من أعلى المنبر إلى يزيد وقال: يا يزيد، محمّد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت «3»، وإن قلت «4» إنّه جدّي فلِمَ قتلت عترته؟

قال: وفرغ المؤذّن من الأذان والإقامة، فتقدّم يزيد «5» وصلّى صلاة الظهر «6».

روى الخطبة أرباب السير والتاريخ، فمنهم من ذكرها تفصيلًا كابن أعثم «7» والخوارزمي «8» ومحمّد بن أبي طالب «9» ومنهم من ذكر معظمها كابن شهرآشوب «10» والمجلسي 1»

ومنهم من ذكر بعضها مثل أبي الفرج الإصفهاني «12» ومنهم من أشار إليها واكتفى بذكر مقدّماتها مثل ابن نما والسيّد ابن طاووس «13».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 198

نظرة خاطفة في الخطبة وصداها ..... ص : 198

لقد اقتصر الإمام السجّاد عليه السلام في هذه الخطبة على التعريف باسرته ونفسه، ولم يتعرّض لشي ء آخر- فيما وصل إلينا من خطبته الشريفة- ولعلّ السرّ في ذلك أنّه لمّا كان يعلم أنّ المجتمع الشامي لا يعرف عن أهل البيت ومنزلتهم الرفيعة شيئاً، لكونه تربّى في أحضان سلطة الطغاة من بني أميّة التي أخفت عنهم الحقائق وغذّتهم بالولاء لأبناء الشجرة الملعونة- بني أُميّة- والحقد على آل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، اكتفى عليه السلام بذلك.

ومن هذا

المنطلق نرى أنّ الإمام عليه السلام يعالج المسألة عاطفيّاً، لأنّ تأثيره- في هذه المرحلة- أكثر من أيّ أداة، ومضمون الخطبة يرشدنا إلى أنّ المخاطَبين كانوا من جمهور الناس، لا الأشراف والأعيان منهم فحسب، فجوّ المجلس يختلف عن جوّ مجلس يزيد العامّ الذي كان محشوّاً بالأعيان والأشراف وكبار رجال أهل الكتاب وبعض ممثّلي الدول الكبار آنذاك «1».

فلذلك نرى أنّ الإمام يعدّد مزايا آل البيت عليهم السلام، ويخصّ بالذكر رجالًا منهم ليس لهم بديل ولا نظير، فيقول بأنّ منّا النبيّ المختار، ومنّا الصدِّيق- يعني عليّ بن أبي طالب عليه السلام- ومنّا الطيّار- يقصد جعفر بن أبي طالب عليه السلام- ومنّا أسد اللَّه وأسد الرسول- يريد حمزة سيّد الشهداء عليه السلام- ومنّا سيّدة نساء العالمين- أي فاطمة البتول عليها السلام- ومنّا سبطا هذه الامّة وسيّدا شباب أهل الجنّة- الحسنين عليهما السلام- دون أن يصرّح في البداية بالمقصود ممّن يذكرهم بهذه الأوصاف مثل الصدِّيق،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 199

وسيّدي شباب أهل الجنّة و...، حتّى يذكر أوصافاً متعدّدة لهم تكشف عن بعض زوايا حياتهم وفضائلهم، ليكون أوقع بالنفوس، كما كان ذلك بالفعل.

وبعد ذلك يذكر الإمام أصله وجذره نسباً وموطناً، حتّى يعلم الجميع أنّه فرع الشجرة النبويّة والثمرة العلويّة والجوهرة الفاطمية واللؤلؤة الحسينيّة، ومن قلب مكّة والمدينة، فكيف شوّهت السلطة الباغية والحكومة الطاغية الواقع على الناس وأذاعت الكذب وعرّفتهم للأمّة بأنّهم الخوارج على أمير المؤمنين يزيد!

إنّ الإمام عليه السلام بعد تبيينه مختصّات جدّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الوحي والمعراج و... يقوم ببيان خصائص جدّه المظلوم أسد اللَّه الغالب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، والمجتمع الشامي يسمع أوصافاً له يسمعها أوّل مرّة؛ فهو الذي ضرب بين يدي رسول

اللَّه بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين وصلّى القبلتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر باللَّه طرفة عين.. وارث النبيّين وقامع الملحدين ويعسوب المسلمين.. وتاج البكّائين وأصبر الصابرين..

المؤيّد بجبرائيل والمنصور بميكائيل.. قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين..

ثمّ يذكر بعض خصائص جدّته الصدِّيقة الكبرى الإنسيّة الحوراء فاطمة الزهراء عليها السلام حتّى يصل إلى قمّة كلامه بقوله «أنا ابن المقتول ظلماً..» يقول ذلك والظالم- يزيد- جالس بين يديه في المجلس. ويشير إلى بعض مأساة كربلاء فيقول: «أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتّى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء».

وبذلك عرّف الناس أنّ والده الحسين قد قُتل مظلوماً، عطشاناً، واحتُزّ رأسه الشريف من القفا، وطُرح جسمه الطاهر بكربلاء وسُلب عمامته ورداؤه.

فانقلب المجلس- وذلك تبعاً لانقلاب العالم- لقتل الحسين عليه السلام! كيف لا وقد قال الإمام عليه السلام: «أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء..».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 200

هذا ما جرى في كربلاء، وهذا ما وقع في الكون بقتل الحسين عليه السلام، وأمّا الشي ء الموجود حالياً بالشام الذي لابدّ أن يلتفت إليه هذا الجمهور الغافل الضائع فهو أنّ جسم الحسين عليه السلام الطاهر وإن كان في كربلاء ولكن رأسه الشريف وحرمه موجودان بالشام وبين أيديهم، ونبّههم الإمام على ذلك بقوله: «أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى..».

ولم يجد الطاغي ابن الباغي يزيد بن معاوية مفرّاً إلّاأن يلتجئ إلى المؤذِّن بذريعة الأذان، وقد كان يعلم في البداية أنّ الإمام عليه السلام لو صعد المنبر يقلب الوضع عليه، وقد صرّح بأنّه لو صعد المنبر لم ينزل إلّابفضيحته

وفضيحة آل أبي سفيان، وأنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّاً، ولكنّ إصرار الناس غلبه على أمره، وأظنّ أنّه ما كان يعلم أنّه ينقلب الأمر عليه إلى هذه الدرجة، وإلّا لما كان يرضى بذلك، وإن بلغ ما بلغ، وإنّما رضي بذلك خوفاً من الناس وفراراً من حفيرة، ولكنّه وقع في بئر حفره سوء عمله وخبث ضميره، وأوجبه كلام حقّ صدر من قلبٍ طاهر على لسانٍ صادق.

نعم، إنّ يزيد لم يتمكّن أن يقطع كلام الإمام إلّابالأذان، كما أنّ أباه- معاوية- لم يتمكّن أن يهرب من سيف جدّه- عليّ بن أبي طالب عليه السلام- إلّابرفعه المصاحف! ولكنّ الإمام واجه هذه الخدعة ببيان حقيقة الربوبيّة وواقع التوحيد ولبّ الرسالة، وواجه الطاغية يزيد بكلامه: يا يزيد، محمّد هذا جدّي أم جدّك، فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت، وإن قلت إنّه جدّي فلِمَ قتلت عترته؟

فطرح أمامه سؤالًا لم يحر يزيد جواباً له، وهو أنّ هذا محمّداً رسول اللَّه الذي تشهد برسالته فيما تزعم، وتترأس رئاسة امّته، وتدّعي خلافته- ظلماً وزوراً- فهل هو جدّك أم جدّي؟ إذا كنت تدّعي أنّه جدّك فهذا كذب واضح، فالجميع

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 201

يعلم أنّك فرع الشجرة الملعونة، وإذا قلت إنّه جدّي فلماذا قتلت عترته وسبطه، وسبيت أهله.

قال بعض المؤرِّخين: لقد أثّر خطاب الإمام تأثيراً بالغاً في أوساط المجتمع الشامي، فقد جعل بعضهم ينظر إلى بعض ويُسرّ بعضهم إلى بعض بما آلوا إليه من الخيبة والخسران، حتّى تغيّرت أحوالهم مع يزيد «1»، وأخذوا ينظرون إليه نظرة احتقار وازدراء.

الإمام عليه السلام مع مكحول صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ..... ص : 201

ذكر الطبرسي- بعد نقله خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام- قال: «فنزل- أي نزل عليّ بن الحسين عليه السلام عن المنبر- فأخذ ناحية باب المسجد، فلقيه مكحول «2»

صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال له: كيف أمسيت يابن رسول اللَّه؟ قال:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 202

أمسينا بينكم مثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم» «1»

زين العابدين عليه السلام مع منهال «2» ..... ص : 202
اشارة

روى المحدّث الجليل عليّ بن إبراهيم القمّي بإسناده عن عاصم بن حميد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لقي المنهال بن عمر [عليّ «3»] بن الحسين بن عليّ عليهم السلام، فقال له: كيف أصبحت يابن رسول اللَّه؟ قال:

ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت؟! أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا «4»، وأصبح خير البرية بعد محمّد يُلعن على المنابر، وأصبح عدوّنا يُعطى المال والشرف، وأصبح من يحبّنا محقوراً منقوصاً حقّه، وكذلك لم يزل المؤمنون، وأصبحت العجم تعرف للعرب حقّها بأنّ محمّداً كان منها، وأصبحت

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 203

قريش تفتخر على العرب بأنّ محمّداً كان منها، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقّها بأنّ محمّداً كان منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً كان منها، وأصبحنا أهل البيت لا يُعرف لنا حقّ، فكهذا أصبحنا يا منهال» «1».

وقال ابن أعثم الكوفي: وخرج عليّ بن الحسين ذات يوم، فجعل يمشي في أسواق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمرو الطائي، فقال له: كيف أمسيت يابن رسول اللَّه؟ قال: أمسينا كبني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، يا منهال، أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً عربيٌّ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منهم، وأمسينا أهل بيت محمّد ونحن مغصوبون مظلومون مقهورون منقتلون مثبورون مطرودون، فإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال» «2»

.ذكر هذه المحادثة عدّة من أرباب الأخبار والسير بتفاوت

يسير، منهم المحدّث الجليل فرات الكوفي «3» وأبو جعفر الكوفي «4» والخوارزمي «5» وابن نما «6» وابن شهرآشوب «7» وابن طاووس «8» وابن عساكر «9»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 204

ملاحظة ..... ص : 204

ذكر ابن شهرآشوب ما جرى بين الإمام السجّاد عليه السلام وكلام السائل على نحو ما أورده فرات الكوفي في تفسيره، إلّاأنّه قال في بدايته: «فقام إليه رجل من شيعته يُقال له المنهال بن عمرو الطائي، وفي رواية: مكحول صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «1».

ولكنّ الظاهر تكرّر الواقعة والمحادثة لا وحدتها، خاصّة وأنّ المروي كون محادثة مكحول عند ناحية المسجد، ومكالمة منهال في سوق دمشق، وليس بغريب أن يتكرّر ويتقارب جواب في سؤال واحد.

وكيف كان فالإمام يتأوّه ويسترجع على ما رأى بأُمّ عينيه من المصائب والمآسي التي لم يتحمّلها أحدٌ من الناس.

قال ابن نما: وللَّه درّ مهيار «2» بقوله في العترة الطاهرة:

يعظّمون له أعواد منبره وتحت أرجلهم أولاده وضعوا

بأيّ حكم بنُوه يتبعونكم وفخركم أنّكم صحبٌ له تبع «3»

مع الرأي العام المُضلَّل.. مرّة أُخرى ..... ص : 204

لقد اهتمّ الإمام عليه السلام بمسألة تنوير الأفكار وكشف الحقائق أكثر من أيّ شي ء،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 205

ولقد ذكرنا شيئاً من كلامه ومحادثاته وخطبه التي تعالج هذا الجانب. وفيما يلي نذكر بعض الأسئلة التي طرحت على الإمام، ونرى كيف اهتمّ الإمام بالمسألة وذلك في ضمن أجوبته.

روى فرات بن إبراهيم الكوفي بإسناده عن يحيى بن مساور، قال: «أتى رجل من أهل الشام إلى عليّ بن الحسين عليهما السلام، فقال له: أنت عليّ بن الحسين؟

قال: نعم.

قال: أبوك قتل المؤمنين!

فبكى عليّ بن الحسين ثمّ مسح وجهه وقال: ويلك! وبما قطعت على أبي أنّه قتل المؤمنين؟

قال: بقوله إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم على بغيهم.

قال: أما تقرأ القرآن؟

قال: إنّي أقرأ.

قال: أما سمعت قوله: «وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً.. وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً..

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً» «1»

؟

قال: بلى.

قال: كان أخاهم في عشيرتهم أو في دينهم؟

قال: في عشيرتهم.

قال: فرّجت عنّي فرّج اللَّه عنك» «2».

وروى نحوه

العيّاشي «3»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 206

حبس الإمام زين العابدين عليه السلام ..... ص : 206

قال المدائني: «وموضع حبس زين العابدين هو اليوم مسجد» «1».

أقول: لعلّه هو المسجد الواقع في جنب مقام رأس الحسين عليه السلام في جوار المسجد الأموي حاليّاً.

قال ابن الحوراني: «قال الكمال الدميري في" حياة الحيوان الكبرى": قال ابن عساكر: ومسجد عليّ بن الحسين هو زين العابدين في جامع دمشق معروف.

قلت: هو في المسجد الشرقي الشمالي، كان رضى الله عنه يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة، وهو مسجد لطيف عليه جلالة وهيبة، يُزار ويتبرّك به» «2».

وروى الشيخ الصدوق عن فاطمة بنت عليّ (صلوات اللَّه عليهما) قالت: «ثمّ إنّ يزيد (لعنه اللَّه) أمر بنساء الحسين عليه السلام، فحبسن مع عليّ بن الحسين عليهما السلام في محبس لا يكنّهم من حرّ ولا قرّ، حتّى تقشّرت وجوههم» «3».

محاولات اغتيال الإمام زين العابدين عليه السلام ..... ص : 206
اشارة

وزين العابدين بقيد ذلٍّ وراموا قتله أهل الخؤونا «4»

لقد تعرّض الإمام السجّاد عليه السلام للقتل والاغتيال في عدّة مواطن، ولكن أبى اللَّه ذلك؛ حفظاً لبقاء حججه على أرضه.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 207

فمن تلك المواطن كربلاء: قال سبط ابن الجوزي: «وإنّما استبقوا عليّ بن الحسين لأنّه لمّا قُتل أبوه كان مريضاً، فمرّ به شمر فقال: اقتلوه، ثمّ جاء عمر بن سعد، فلمّا رآه قال: لا تتعرّضوا لهذا الغلام، ثمّ قال لشمر: ويحك! مَن للحرم؟!» «1».

ومنها في الكوفة: قال الطبرسي بعد ذكر ما جرى بين الإمام عليه السلام وابن زياد من الكلام: فغضب ابن زياد وقال: «لك جرأة على جوابي! وفيك بقيّة للردّ عَليّ؟! اذهبوا واضربوا عنقه»، فتعلّقت به زينب.. «2».

ومنها في الشام، وذلك في عدّة مواقف.

منها: ما ذكره الفقيه القطب الراوندي: «وروي أنّه لمّا حُمل عليّ بن الحسين عليه السلام إلى يزيد لعنه اللَّه همَّ بضرب عنقه» «3».

ومنها: ما روي عن الإمام الصادق

عليه السلام أنّه قال: «كان عليّ بن الحسين مقيّداً مغلولًا، فقال يزيد لعنه اللَّه: يا عليّ بن الحسين، الحمد للَّه الذي قتل أباك، فقال عليّ بن الحسين: لعنة اللَّه على من قتل أبي»، قال: «فغضب يزيد وأمر ضرب عنقه، فقال عليّ بن الحسين: فإذا قتلتني فبنات رسول اللَّه من يردّهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟...» «4».

ومنها: ما رواه صاحب الاحتجاج بعد ذكره الخطبة السجّادية ورجوع الإمام السجّاد عليه السلام إلى المنزل، فبعده قال ليزيد: «يا يزيد، بلغني أنّك تريد قتلي، فإن كنت لابدّ قاتلي فوجّه مع هؤلاء النسوة من يردّهن» «5».

ومنها: ما رواه ابن شهرآشوب عن المدائني: «لمّا انتسب السجّاد إلى النبيّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 208

قال يزيد لجلوازه: ادخله في هذا البستان واقتله وادفنه فيه، فدخل به إلى البستان، وجعل يحفر والسجّاد يصلّي، فلمّا همّ بقتله ضربته يد من الهواء، فخرّ لوجهه وشهق ودهش، فرآه خالد بن يزيد وليس لوجهه بقيّة، فانقلب إلى أبيه وقصّ عليه، فأمر بدفن الجلواز في الحفرة وإطلاقه، وموضع حبس زين العابدين هو اليوم مسجد «1»».

ومنها: ما رواه المسعوديّ بعد ذكر المحادثة بين الإمام عليه السلام ويزيد؛ قال:

«فشاور يزيد جلساءه في أمره، فأشاروا بقتله» «2».

ومنها: ما رواه ابن كثير بقوله: وروي أنّ يزيد استشار الناس في أمرهم، فقال رجل ممّن قبّحهم اللَّه: «يا أمير المؤمنين، لا يتّخذن من كلب سوء جرواً، اقتل عليّ بن الحسين حتّى لا يبقى من ذرّية الحسين أحد»، فسكت يزيد ... «3».

ومنها: ما رواه ابن عساكر بإسناده عن حمزة بن زيد الحضرمي عن ريّا حاضنة يزيد أنّها قالت: «ولقد جاءه (أي يزيد) رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم فقال له: قد أمكنك اللَّه من

عدوّ اللَّه وابن عدوّ أبيك! فاقتل هذا الغلام ينقطع هذا النسل، فإنّك لا ترى ما تحبّ وهم أحياء، آخر من ينازع فيه- يعني عليّ بن حسين بن علي- لقد رأيت ما لقي أبوك من أبيه، وما لقيت أنت منه، وقد رأيت ما صنع مسلم بن عقيل، فاقطع أصل هذا البيت، فإنّك إن قتلت هذا الغلام انقطع نسل الحسين خاصّة، وإلّا فالقوم ما بقي منهم أحد طالبك بهم، وهم قوم ذو مكر، والناس إليهم مائلون، وخاصّة غوغاء أهل العراق يقولون ابن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، ابن عليّ وفاطمة، اقتله فليس هو بأكرم من صاحب هذا الرأس.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 209

فقال: لا قمت ولا قعدت، فإنّك ضعيف مهين، بل أدعهم، كلّما طلع منهم طالع أخذته سيوف آل أبي سفيان!

قال: إنّي قد سمّيت الرجل الذي من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، ولكن لا أسمّيه ولا أذكره» «1».

تأمّل وملاحظات ..... ص : 209

نجد في هذه الرواية موارد للتأمّل والتوقّف عليها:

1- إصرار بالغ من رجل قيل إنّه صاحب رسول اللَّه! على قتل سبطه الوحيد المتبقّي من ذرّيته، ولم يكتف بذكر اقتراحه مرّة واحدة، بل كرّره مرّة بعد اخرى.

2- بطلان نظرية عدالة جميع الصحابة! فهل من العدالة أن يصرّ رجل على قتل سبط الرسول صلى الله عليه و آله، إلّاأن يُقال إنّه ما أكثر هذا السنخ من الصحابة العدول في شيعة آل أبي سفيان!

3- اعتراف هذا الرجل العدو بميل الناس إلى آل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث يقول: والناس إليهم مائلون، يريد بذلك أن يحرّك يزيد على قتل الإمام.

4- والعجب من راوي الخبر أنّه يكتم اسم هذا الصحابي العادل! أيرى أنّ ذلك يوجب حفظ مكانته!

تجلّي مكارم الأخلاق ..... ص : 209

روي أنّ يزيد أمر بردّ ما أُخذ من أهل البيت عليهم السلام، وزاد عليه مائتي دينار، فأخذها زين العابدين عليه السلام، وفرّقها على الفقراء والمساكين «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 210

مأساة الشام ..... ص : 210
رأس الحسين عليه السلام في دمشق ..... ص : 210
اشارة

الجسم منه بكربلاء مضرّج والرأس منه على القناة يُدار

إنّ للرأس الشريف دوراً هامّاً في استمرار رسالة النهضة الحسينيّة، فقد ذكرنا أنّ الرأس الشريف تلا القرآن وتكلّم في دمشق. وهذه هي من أكبر الحجج وأحسن الأدلّة على منزلته الرفيعة وعلوّ مقامه عند اللَّه تبارك وتعالى.

ولم تنحصر معجزة الرأس الشريف بما ذُكر، بل هناك أمور وشواهد اخرى:

روى البيهقي بإسناده عن أبي معشر قال: «وقُتل الحسين رضي اللَّه عنه وجميع من معه رحمهم اللَّه، وحمل رأسه إلى عبيداللَّه بن زياد، فوضع بين يديه على ترس، فبعث به إلى يزيد، فأمر بغسله وجعله في حريرة وضرب عليه خيمة ووكّل به خمسين رجلًا.

فقال واحد منهم: نمت وأنا مفكّر في يزيد وقتله الحسين عليه السلام، فبينا أنا كذلك إذ رأيت سحابة خضراء فيها نور قد أضاءت ما بين الخافقين، وسمعت صهيل الخيل ومنادياً ينادي: يا أحمد اهبط، فهبط رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه جماعة من الأنبياء والملائكة، فدخل الخيمة، وأخذ الرأس، فجعل يقبِّله ويبكي ويضمّه إلى صدره، ثمّ التفت إلى من معه، فقال: انظروا إلى ما كان من امّتي في ولدي، ما بالهم لم يحفظوا فيه وصيّتي، ولم يعرفوا حقّي؟! لا أنالهم اللَّه شفاعتي.

قال: وإذا بعدّة من الملائكة يقولون: يا محمّد، اللَّه تبارك وتعالى يقرئك

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 211

السلام، وقد أمرنا بأن نسمع لك ونطيع، فمرنا أن نقلب البلاد عليهم.

فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: خلّوا عن امّتي، فإنّ لهم بلغة وأمداً.

قالوا: يا محمّد، إنّ اللَّه جلّ ذكره أمرنا أن نقتل هؤلاء

النفر.

فقال: دونكم وما أمرتم به.

قال: فرأيت كلّ واحد منهم قد رمى كلّ واحد منّا بحربة، فقتل القوم في مضاجعهم غيري، فإنّي صِحت يا محمّد.

فقال: وأنت مستيقظ؟

قلت: نعم.

قال: خلّوا عنه يعيش فقيراً ويموت مذموماً.

فلمّا أصبحت دخلت على يزيد وهو منكسر مهموم، فحدّثته بما رأيت، فقال: امض على وجهك، وتب إلى ربّك!!» «1».

وعن الشبلنجي أنّه قال: «روى سليمان الأعمش رضي اللَّه عنه قال: خرجنا ذات سنة حجّاجاً لبيت اللَّه الحرام وزيارة قبر النبيّ عليه السلام، فبينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل متعلّق بأستار الكعبة وهو يقول:" اللّهمَّ اغفر لي وما أظنّك تفعل"، فلمّا فرغتُ من طوافي قلت: سبحان اللَّه العظيم، ما كان ذنب هذا الرجل؟! فتنحّيت عنه.

ثمّ مررت به مرّة ثانية وهو يقول:" اللّهمّ اغفر لي، وما أظنّك تفعل"، فلمّا فرغتُ من طوافي قصدتُ نحوه فقلت: يا هذا، إنّك في موقف عظيم، يغفر اللَّه فيه الذنوب العظام، فلو سألت منه عزّوجلّ المغفرة والرحمة لرجوت أن يفعل، فإنّه منعم كريم.

فقال: يا عبداللَّه، مَن أنت؟

فقلت: أنا سليمان الأعمش.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 212

فقال: يا سليمان، إيّاك طلبت، وقد كنت أتمنّى مثلك.

فأخذ بيدي، وأخرجني من داخل الكعبة إلى خارجها، فقال لي: يا سليمان، ذنبي عظيم.

فقلت: يا هذا، أذنبك أعظم أم السماوات؟ أم الأرضون؟ أم العرش؟

فقال لي: يا سليمان، ذنبي أعظم! مهلًا حتّى أخبرك بعجب رأيته.

فقلت له: تكلّم رحمك اللَّه.

فقال لي: يا سليمان، أنا من السبعين الذين أتوا برأس الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما إلى يزيد بن معاوية، فأمر بالرأس، فنصب خارج المدينة، وأمر بإنزاله ووضع في طست من ذهب، ووضع ببيت منامه، فلمّا كان في جوف الليل انتبهتْ امرأة يزيد بن معاوية، فإذا شعاع ساطع إلى السماء، ففزعتْ فزعاً شديداً، وانتبه

يزيد من منامه، فقالت له: يا هذا قم، فإنّي أرى عجباً، قال: فنظر يزيد إلى ذلك الضياء فقال لها: اسكتي، فإنّي أرى كما ترين.

قال: فلمّا أصبح من الغد أمر بالرأس، فأُخرج إلى فسطاط وهو من الديباج الأخضر، وأمر بالسبعين رجلًا فخرجنا إليه نحرسه، وأمر لنا بالطعام والشراب حتّى غربت الشمس، ومضى من الليل ما شاء اللَّه ورقدنا، فاستيقظت ونظرت نحو السماء، وإذا بسحابة عظيمة ولها دويّ كدويّ الجبال وخفقان أجنحة، فأقبلتْ حتّى لصقتْ بالأرض، ونزل منها رجل وعليه حلّتان من حلل الجنّة وبيده درانك وكراسي، فبسط الدرانك، وألقى عليها الكراسي، وقام على قدميه ونادى:

انزل يا أبا البشر، انزل يا آدم صلى الله عليه و سلم، فنزل رجل أجمل ما يكون من الشيوخ شيباً، فأقبل حتّى وقف على الرأس فقال: السلام عليك يا وليّ اللَّه، السلام عليك يا بقيّة الصالحين، عشت سعيداً، وقُتلت طريداً، ولم تزل عطشاناً حتّى ألحقك اللَّه بنا،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 213

رحمك اللَّه ولا غفر لقاتلك، الويل لقاتلك غداً من النار، ثمّ نزل وقعد على كرسي من تلك الكراسي.

قال: ياسليمان ثمّ لم ألبث إلّايسيراً وإذا بسحابة أُخرى أقبلت حتّى لصقت بالأرض، فسمعت منادياً يقول: انزل يا نبيّ اللَّه، انزل يا نوح، وإذا برجل أتمّ الرجال خلقاً، وإذا بوجهه صفرة، وعليه حلّتان من حلل الجنّة، فأقبل حتّى وقف على الرأس، فقال: السلام عليك يا أبا عبداللَّه، السلام عليك يا بقيّة الصالحين، قتلت طريداً، وعشت سعيداً، ولم تزل عطشاناً حتّى ألحقك اللَّه بنا، غفر اللَّه لك، ولا غفر لقاتلك، الويل لقاتلك غداً من النار، ثمّ زال فقعد على كرسي من تلك الكراسي.

قال: يا سليمان، ثمّ لم ألبث إلّايسيراً وإذا بسحابة أعظم منها، فأقبلت حتّى لصقت بالأرض،

فقام الأذان، وسمعت منادياً ينادي: انزل يا خليل اللَّه، انزل يا إبراهيم، وإذا برجل ليس بالطويل العالي ولا بالقصير المتداني، أبيض الوجه، أملح الرجال شيباً، فأقبل حتّى وقف على الرأس، فقال: السلام عليك يا أبا عبداللَّه، السلام عليك يا بقيّة الصالحين، قتلت طريداً وعشت سعيداً، ولم تزل عطشاناً حتّى ألحقك اللَّه بنا، غفر اللَّه لك، ولا غفر لقاتلك، الويل لقاتلك غداً من النار، ثمّ تنحّى فقعد على كرسي من تلك الكراسي.

ثمّ لم ألبث إلّايسيراً فإذا بسحابة عظيمة فيها دويّ كدويّ الرعد وخفقان أجنحة، فنزلت حتّى لصقت بالأرض، وقام الأذان فسمعت قائلًا يقول: انزل يا نبيّ اللَّه، انزل يا موسى بن عمران، قال: فإذا برجل أشدّ الناس في خلقه وأتمّهم في هيبته، وعليه حلّتان من حلل الجنّة، فأقبل حتّى وقف على الرأس فقال مثل ما تقدّم، ثمّ تنحّى فجلس على كرسيّ من تلك الكراسي.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 214

ثمّ لم ألبث إلّايسيراً وإذا بسحابة أُخرى وإذا فيها دويّ عظيم وخفقان أجنحة، فنزلت حتّى لصقت بالأرض، وقام الأذان، فسمعت قائلًا يقول: انزل يا عيسى، انزل يا روح اللَّه، فإذا أنا برجل محمرّ الوجه، وفيه صفرة، وعليه حلّتان من حلل الجنّة، فأقبل حتّى وقف على الرأس، فقال مثل مقالة آدم ومَن بعده، ثمّ تنحّى فجلس على كرسي من تلك الكراسي.

ثمّ لم ألبث إلّايسيراً وإذا بسحابة عظيمة فيها دويّ كدويّ الرعد والرياح وخفقان أجنحة، فنزلتْ حتّى لصقتْ بالأرض، فقام الأذان، وسمعت منادياً ينادي: انزل يا محمّد، انزل يا أحمد، وإذا بالنبيّ صلى الله عليه و سلم وعليه حلّتان من حلل الجنّة، وعن يمينه صفّ من الملائكة والحسن وفاطمة رضي اللَّه عنهما، فأقبل حتّى دنا من الرأس، فضمّه إلى صدره، وبكى بكاءً

شديداً، ثمّ دفعه إلى امّه فاطمة، فضمّته إلى صدرها، وبكت بكاءً شديداً، حتّى علا بكاؤها وبكى لها من سمعها في ذلك المكان.

فأقبل آدم عليه السلام حتّى دنا من النبيّ صلى الله عليه و سلم، فقال: السلام على الولد الطيّب، السلام على الخلق الطيّب، أعظم اللَّه أجرك، وأحسن عزاءك في ابنك الحسين، ثمّ قام نوح وإبراهيم وموسى و عيسى عليهم السلام، فقالوا كقوله كلّهم يعزّونه صلى الله عليه و سلم في ابنه الحسين.

ثمّ قال النبيّ صلى الله عليه و سلم: يا أبي آدم، ويا أبي نوح، ويا أبي إبراهيم، ويا أخي موسى، ويا أخي عيسى، اشهدوا وكفى باللَّه شهيداً على امّتي بما كافأوني في ابني وولدي من بعدي.

فدنا منه ملك من الملائكة فقال: قطعت قلوبنا يا أبا القاسم، أنا الملك الموكّل بسماء الدُّنيا، أمرني اللَّه تعالى بالطاعة لك، فلو أذنت لي أنزلتها على

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 215

امّتك، فلا يبقى منهم أحد.

ثمّ قام ملك آخر فقال: قطعت قلوبنا يا أبا القاسم، أنا الموكّل بالبحار، أمرني اللَّه بالطاعة لك، فإن أذنتَ لي أرسلتها عليهم، فلا يبقى منهم أحد.

فقال النبيّ صلى الله عليه و سلم: يا ملائكة ربّي، كفّوا عن امّتي، فإنّ لي ولهم موعداً لن أخلفه.

فقام إليه آدم عليه السلام فقال: جزاك اللَّه خيراً من نبيّ أحسن ما جوزي به نبيّ عن امّته.

فقال له الحسن: يا جدّاه، هؤلاء الرقود هم الذين يحرسون أخي، وهم الذين أتوا برأسه.

فقال النبيّ صلى الله عليه و سلم: يا ملائكة ربّي، اقتلوهم بقتلهم ابني.

فواللَّه ما لبثت إلّايسيراً حتّى رأيت أصحابي قد ذُبحوا أجمعين.

قال: فلصق بي ملك ليذبحني، فناديته: يا أبا القاسم أجرني، وارحمني يرحمك اللَّه.

فقال: كفّوا عنه.

ودنا منّي وقال: أنت من السبعين رجلًا؟

قلت: نعم.

فألقى

يده في منكبي، وسحبني على وجهي، وقال: لا رحمك اللَّه، ولا غفر لك، أحرق اللَّه عظامك بالنار، فلذلك أيست من رحمة اللَّه.

فقال الأعمش: إليك عنّي، فإنّي أخاف أن أُعاقب من أجلك» «1».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 216

صلب الرأس الشريف في دمشق ..... ص : 216

روى الذهبي عن حمزة بن يزيد الحضرمي أنّه قال: «وقد حدّثني بعض أهلنا أنّه رأى رأس الحسين مصلوباً بدمشق ثلاثة أيّام» «1».

وقال الشبراوي: قال أبو الفضل: «وبعد أن وصل الرأس الشريف إلى دمشق وُضع في طست بين يدي يزيد، وصار يضرب ثناياه الشريفة بقضيب، ثمّ أمر بصلبه، فصلب ثلاثة أيّام بدمشق» «2».

وذكر الباعوني أنّ الرأس نُصب بدمشق ثلاثة أيّام ثمّ وضع بخزانة السلاح «3».

ونقل العلّامة المجلسي أنّ رأس الحسين عليه السلام صُلب بدمشق ثلاثة أيّام، ومكث في خزائن بني أُميّة «4».

هذا بالنسبة إلى أصل صلب الرأس الشريف في دمشق، وأمّا بالنسبة إلى مكان صلبه ففيه روايتان:

1- على باب مسجد دمشق

روى الشيخ الصدوق وابن الفتّال قالا: «ثمّ أمر (يزيد) برأس الحسين عليه السلام، فنصب على باب مسجد دمشق» «5».

2- على باب دار يزيد

قال العلّامة المجلسي: وقال صاحب المناقب: «وذكر أبو مخنّف وغيره: أنّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 217

يزيد لعنه اللَّه أمر بأن يصلب الرأس على باب داره» «1».

الرأس الشريف في بيت يزيد ..... ص : 217

قال البلاذري: «وبعث يزيد برأس الحسين إلى نسائه، فأخذته عاتكة ابنته، وهي امّ يزيد بن عبد الملك، فغسّلته ودهنته وطيّبته، فقال لها يزيد: ما هذا؟

قالت: بعثت إليّ برأس ابن عمّي شعثاً، فلممتُه وطيّبته» «2».

إطافة الرأس الشريف في مدائن الشام ..... ص : 217

قال القاضي نعمان: «ثمّ أمر يزيد اللعين برأس الحسين عليه السلام فطيف به في مدائن الشام وغيرها» «3».

أوّل رأس حُمل في الإسلام ..... ص : 217

لقد حملوا رأس الحسين عليه السلام، وقد صرّح المؤرِّخون بأنّه هو أوّل رأس حُمل على رمح في الإسلام «4».

إسلام يهودي ببركة الرأس الشريف ..... ص : 217

قال الخوارزمي: «وروي أنّ رأس الحسين عليه السلام لمّا حمل إلى الشام، جنّ عليهم الليل، فنزلوا عند رجل من اليهود، فلمّا شربوا وسكروا قالوا له: عندنا رأس الحسين، فقال لهم: أروني إيّاه، فأروه إيّاه بصندوق يسطع منه النور إلى السماء،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 218

فعجب اليهودي واستودعه منهم، فأودعوه عنده، فقال اليهودي للرأس- وقد رآه بذلك الحال-: اشفع لي عند جدّك، فأنطق اللَّه الرأس وقال: إنّما شفاعتي للمحمّديّين، ولست بمحمّدي.

فجمع اليهودي أقرباءه، ثمّ أخذ الرأس ووضعه في طست، وصبّ عليه ماء الورد، وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثمّ قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمّد، ثمّ قال: والهفاه! لم أجد جدّك محمّداً فأسلم على يديه، ثمّ والهفاه! لم أجدك حيّاً فأسلم على يديك، واقاتل دونك، فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيامة؟ فأنطق اللَّه الرأس، فقال بلسانٍ فصيح: إن أسلمت فأنا لك شفيع. قالها ثلاث مرّات، وسكت، فأسلم الرجل وأقرباؤه.

قال: أقول: لعلّ هذا الرجل اليهودي كان راهب" قنسرين" لأنّه أسلم بسبب رأس الحسين عليه السلام، وجاء ذكره في الأشعار، وأورده الجوهري والجرجاني في مراثي الحسين» «1».

رباب ترثي الحسين ..... ص : 218

وعن تاريخ الفرماني أنّ رباب بنت امرئ القيس رثت الحسين عليه السلام في الشام بعد أن أخذت رأسه وقبّلته ووضعته في حجرها وهي تقول:

واحسيناً فلا نسيت حسيناً أقصدته أسنّة الأعداء

غادروه بكربلاء صريعاً لا سقى اللَّه جانبي كربلاء «2»

رأس الحسين عليه السلام عند يتيمته ..... ص : 218
اشارة

روى عماد الدِّين الطبري عن كتاب الحاوية لقاسم بن محمّد بن أحمد المأموني «أنّ نساء أهل بيت النبوّة أخفين على الأطفال شهادة آبائهم وقلن لهم إنّ آباءكم قد سافروا إلى كذا وكذا، وكان الحال على ذلك المنوال حتّى أمر يزيد بأن يدخلن داره، وكان للحسين عليه السلام بنت صغيرة لها أربع سنين، قامت ليلة من منامها وقالت: أين أبي الحسين؟ فإنّي رأيته في المنام مضطرباً شديداً، فلمّا سمع النسوة ذلك بكين وبكى معهنّ سائر الأطفال، وارتفع العويل، فانتبه يزيد من نومه، وقال: ما الخبر؟ ففحصوا عن الواقعة وقصّوها عليه، فأمر لعنه اللَّه بأن يذهبوا برأس أبيها إليها، فأتوا بالرأس الشريف وجعلوه في حجرها، فقالت: ما هذا؟! قالوا: رأس أبيك! ففزعت الصبيّة وصاحت، فمرضت وتوفّيت في أيّامها بالشام» «1».

وفي" الإيقاد" للسيّد الجليل السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيمي رحمه الله عن العوالم وغيره ما ملخّصه:

«إنّه كان للحسين عليه السلام بنت صغيرة يحبّها وتحبّه، وقيل كانت تسمّى رقيّة، وكان لها ثلاث سنين، وكانت مع الأسراء في الشام، وكانت تبكي لفراق أبيها ليلًا ونهاراً، وكانوا يقولون لها: هو في السفر «2»، فرأته ليلة في النوم، فلمّا انتبهت جزعت جزعاً شديداً وقالت: ايتوني بوالدي وقرّة عيني، وكلّما أراد أهل البيت إسكاتها ازدادت حزناً وبكاءً، ولبكائها هاج حزن أهل البيت، فأخذوا في البكاء، ولطموا الخدود، وحثّوا على رؤوسهم التراب، ونشروا الشعور، وقام الصياح، فسمع يزيد [صيحتهم وبكاءهم فقال: ما الخبر؟ قيل له:

إنّ بنت الحسين الصغيرة

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 220

رأت أباها بنومها، فانتبهت وهي تطلبه وتبكي وتصيح، فلمّا سمع يزيد ذلك] «1» فقال: ارفعوا إليها رأس أبيها، وحطّوه بين يديها تتسلّى. فأتوا بالرأس في طبق مغطّى بمنديل، ووضعوه بين يديها، فقالت: يا هذا «2» إنّي طلبت أبي ولم أطلب الطعام، فقالوا: إنّ هنا أباك، فرفعت المنديل ورأت رأساً فقالت: ما هذا الرأس؟! قالوا: رأس أبيك، فرفعت الرأس ووضعته «3» إلى صدرها وهي تقول: يا أبتاه من ذا الذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه من ذا الذي قطع وريدك «4»؟ يا أبتاه، من ذا الذي أيتمني على صغر سنّي؟ يا أبتاه مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه مَن للعيون الباكيات؟ يا أبتاه مَن للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه مَن للشعور المنشورات؟ يا أبتاه مَن بعدك واخيبتاه، يا أبتاه من بعدك واغربتاه، يا أبتاه ليتني لك الفداء، يا أبتاه ليتني قبل هذا اليوم عمياء، يا أبتاه ليتني وسدت «5» التراب ولا أرى شيبك مخضّباً بالدماء.

ثمّ وضعت فمها على فم الشهيد المظلوم، وبكت حتّى غشي عليها، فلمّا حرّكوها فإذا هي قد فارقت روحها الدُّنيا، فارتفعت أصوات أهل البيت بالبكاء، وتجدّد الحزن والعزاء، ومن سمع من أهل الشام بكاءهم بكى، فلم يرَ في ذلك اليوم إلّاباكٍ أو باكية، فأمر يزيد بغسلها وكفنها ودفنها» «6».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 221

كلام حول السيّدة رقيّة ..... ص : 221

إن قيل: إنّه ما كان للإمام الحسين عليه السلام إلّابنتان، وهما سكينة وفاطمة.

نقول: المرويّ وإن كان ذلك، ولكنّه ليس بمتّفق عليه، فهناك بعض الروايات تدلّ على أنّ الإمام عليه السلام كان له بنات ثلاث بل- على قول- أربع.

قال الطبري الإماميّ: «وله- أي للإمام الحسين عليه السلام- من

البنات زينب، وسكينة، وفاطمة» «1».

وممّن ذكر القول الآخر العلّامة الأربلي وابن الصبّاغ المالكي، فإنّهما قالا- واللفظ للأخير-: «قال الشيخ كمال الدِّين بن طلحة: كان للحسين عليه السلام من الأولاد ذكوراً وإناثاً عشرة، ستّة ذكور وأربع إناث، فالذكور عليّ الأكبر، وعليّ الأوسط وهو زين العابدين، وعليّ الأصغر، ومحمّد، وعبداللَّه، وجعفر.. وأمّا البنات فزينب وسكينة وفاطمة، هذا قول المشهور» «2».

ولم يصرّح الأربلي وابن الصبّاغ باسم البنت الرابعة، فلعلّها هي التي عرفت باسم رقيّة في أوساط الناس.

إن قيل: لعلّها هي رقيّة بنت الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

قلنا: لكن لا يمكن الاعتماد عليه، لأنّ الروايات في شأنها على قسمين:

القسم الأوّل: ما تصرّح بأنّها ماتت صغيرة، مثل ما ذكره سبط ابن الجوزي في قوله: «وقد زاد ابن إسحاق في أولاد فاطمة من عليّ عليه السلام: محسناً، مات صغيراً،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 222

وزاد الليث: رقيّة، ماتت صغيرة أيضاً» «1».

فبناءً على هذا لا يمكن القول بأنّها المقصودة بالمقام، لأنّ الفاصل الزماني بين وفاة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وما بعد وقعة الطفّ يخرجها عن كونها صغيرة! هذا إذا فرضنا أنّها ولدت في آخر أيّام حياة الإمام عليّ عليه السلام، وإلّا فإنّ المسألة أصعب.

القسم الثاني: ما تصرّح بأنّها كبرت وتزوّجت من مسلم بن عقيل «2». فإنّ المؤرِّخين ذكروا في عِداد أنصار الإمام الحسين عليه السلام الذين استشهدوا معه في كربلاء عبداللَّه بن مسلم بن عقيل، وقد صرّحوا بأنّ امّه كانت رقيّة بنت عليّ بن أبي طالب.

صرّح بذلك ابن حبّان «3»، والقاضي نعمان «4»، والطبري «5» عن أبي مخنف، وخليفة بن خياط «6»، وابن الأثير «7» وغيرهم.

ولكن مع هذا لا يمكن القول بأنّها المقصودة، وذلك لعدّة أُمور:

أوّلًا: لا نعلم بحضورها في وقعة الطف،

ولكن القرائن تؤيّد حضورها، وذلك لأسباب متعدّدة مثل إرسال زوجها مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وحضور أبنائها مع الحسين عليه السلام من البنات والذكور، فبطبيعة الحال هي تلازم أخاها في

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 223

هذه المرحلة الحسّاسة والهامّة جدّاً.

ثانياً: ليس لنا دليل على وفاتها في الشام، بل هناك بعض الأخبار بوجود قبرها بمصر «1»،- صرّح بذلك ياقوت الحموي وغيره «2»، وإلّا فبطبيعة الحال تكون قد توفّيت بالمدينة.

ثالثاً: القرائن التي نُقلت في شأن وفاة هذه السيّدة تختلف تماماً عمّا إذا كانت امرأة كبيرة، كما هو واضح.

أضف إلى ذلك ما نقل في شأن إصلاح قبر هذه السيّدة وكونها بنتاً صغيرة، روى الشيخ الحائري المازندراني قال: «وقد أخبرني بعض الصلحاء أنّ للسيّدة رقيّة بنت الحسين عليهما السلام ضريحاً بدمشق الشام، وأنّ جدران قبرها قد تعيّبت، فأرادوا إخراجها منه لتجديده فلم يتجاسر أحد أن ينزله من الهيبة، فحضر شخص من أهل البيت يدعى السيّد ابن مرتضى، فنزل في قبرها ووضع عليها ثوباً لفّها فيه وأخرجها فإذا هي بنت صغيرة دون البلوغ، وكان متنها مجروحاً من كثرة الضرب، وقد ذكرتُ ذلك لبعض الأفاضل فحدّثني به ناقلًا له عن بعض أشياخه» «3».

رابعاً: تصريح بعض أرباب الكتب مثل ما نقل عن كتاب منتخبات التواريخ لمحمّد أديب آل تقي الدِّين الحصني بقوله: «ونقل أيضاً أنّ السيّدة رقيّة بنت

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 224

الإمام الحسين الصغيرة دفنت عند باب الفراديس» «1».

وروي عن الشعراني في الباب العاشر من كتاب المنن: «وأخبرني بعض الخواص أنّ رقيّة بنت الحسين عليه السلام في المشهد القريب من جامع دار الخليفة أمير المؤمنين يزيد، ومعها جماعة من أهل البيت، وهو معروف الآن بجامع شجرة الدرّ، وهذا الجامع على يسار الطالب للسيّدة نفيسة، والمكان الذي

فيه السيّدة رقيّة عن يمينه ومكتوب على الحجر الذي ببابه هذا البيت:

بقعة شُرّفت بآل النبيّ وببنت الحسين الشهيد رقيّة» «2»

وقد جُدِّد بناء قبر هذه السيّدة بعد انتصار الثورة الإسلامية وإقامة الجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني أعلى اللَّه مقامه الشريف، وقد أصبح بناءً ضخماً ورمزاً للتضحية والجهاد في سبيل اللَّه وإعلاء كلمته.

إن قيل: هل هناك تصريح باسمها في ضمن كلمات الإمام الحسين عليه السلام؟

يقال: نعم، مثل ما ذكره السيّد ابن طاووس أنّه حينما أراد عليه السلام أن يودّع أهله قال: يا اختاه يا امّ كلثوم، وأنت يا زينب، وأنت يا رقيّة، وأنت يا فاطمة، وأنتِ يا رباب، انظرن إذا أنا قُتلت فلا تشققن عليَّ جيباً، ولا تخمشن عليَّ وجهاً، ولا تقلن عليَّ هجراً «3».

وما ذكره القندوزي أنّه نادى: يا امّ كلثوم، ويا سكينة، ويا رقيّة، ويا عاتكة، ويا زينب، ويا أهل بيتي عليكنّ منّي السلام «4».

وكلا الاحتمالين في شأنها ممكن، وإن كان ظاهر لحن خطاب ما ذكره السيّد

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 225

ابن طاووس أنّه متوجّه إلى اخته رقيّة بنت عليّ عليه السلام، ويمكن اعتبار هذا دليلًا آخر على حضورها في معركة الطفّ.

وصف مسكن أهل البيت في الشام ..... ص : 225

روى الشيخ الصدوق رحمه الله بإسناده عن فاطمة بنت علي (صلوات اللَّه عليهما) أنّها قالت: «ثمّ إنّ يزيد (لعنه اللَّه) أمر بنساء الحسين عليه السلام فحُبسن مع عليّ بن الحسين عليهما السلام في محبس لا يكنّهم من حرٍّ ولا قرّ حتّى تقشّرت وجوههم» «1».

وقال القاضي نعمان بعد ذكره بكاء يزيد!: «وقيل إنّ ذلك بعد أن أجلسهنّ في منزل لا يكنّهن من برد ولا حرّ، فأقاموا شهراً ونصف، حتّى أقشرت وجوههنّ من حرّ الشمس، ثمّ أطلقهم» «2».

وقال ابن نما: «وأُسكِنّ في مساكن لا تقيهن

من حرّ ولا برد، حتّى تقشّرت الجلود وسال الصديد، بعد كنّ الخدود وظل الستور، والصبر ظاعن والجزع مقيم، والحزن لهنّ نديم» «3».

وقال السيّد ابن طاووس: «ثمّ أمر (يزيد) بهم إلى منزل لا يكنّهم من حرّ ولا برد، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم» «4».

وقال الشيخ المفيد: «ثمّ أمر (يزيد) بالنسوة أن ينزلن في دار على حدة، معهنّ أخوهنّ عليّ بن الحسين عليهم السلام، فأُفرد لهم دار تتّصل بدار يزيد، فأقاموا أيّاماً» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 226

والمستفاد من بعض الأخبار- مضافاً إلى ما ذكر- أنّ البيت كان خراباً بحيث كان يُخشى وقوعه عليهم.

روى صاحب «بصائر الدرجات» بإسناده عن محمّد بن علي الحلبي قال:

«سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: لمّا أُتي بعليّ بن الحسين عليه السلام يزيد بن معاوية- عليه لعائن اللَّه- ومن معه، جعلوه «1» في بيت، فقال بعضهم: إنّا جُعلنا في هذا البيت ليقع علينا فيقتلنا فراطن الحرس، فقالوا: انظروا إلى هؤلاء يخافون أن تقع عليهم البيت، وإنّما يخرجون غداً فيقتلون، قال عليّ بن الحسين عليهما السلام: لم يكن فينا أحد يُحسن الرطانة غيري، والرطانة عند أهل المدينة الروميّة» «2»

.وروى الطبراني الإمامي بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبي قال: «سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: أُتي بعليّ بن الحسين عليهما السلام إلى يزيد بن معاوية ومَن معه من النساء أسرى فجعلوهم في بيت، ووكّلوا بهم قوماً من العجم لا يفهمون العربيّة، فقال بعض لبعض: إنّما جعلنا في هذا البيت ليهدم علينا فيقتلنا فيه، فقال عليّ بن الحسين عليه السلام للحرس بالرطانة: تدرون ما يقول هؤلاء النساء؟

يقلن كيت وكيت، فقال الحرس: قد قالوا إنّكم تخرجون غداً وتُقتلون، فقال عليّ بن الحسين عليه السلام: كلّا، يأبى اللَّه ذلك، ثمّ

أقبل عليهم يعلّمهم بلسانهم» «3»

رؤيا سكينة بنت الحسين عليه السلام بالشام ..... ص : 226

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 227

قال ابن نما: «ورأت سكينة في منامها وهي بدمشق: كأنّ خمسة نجب من نور قد أقبلت، وعلى كلّ نجيب شيخ والملائكة محدقة بهم، ومعهم وصيف يمشي، فمضى النجب وأقبل الوصيف إليّ وقرب منّي وقال: يا سكينة، إنّ جدّك يسلّم عليك.

فقلت: وعلى رسول اللَّه السلام، يارسول رسول اللَّه، مَن أنت؟

قال: وصيف من وصائف الجنّة.

فقلت: مَن هؤلاء المشيخة الذين جاءوا على النجب؟

قال: الأوّل آدم صفوة اللَّه، والثاني إبراهيم خليل اللَّه، والثالث موسى كليم اللَّه، والرابع عيسى روح اللَّه.

فقلت: مَن هذا القابض على لحيته يسقط مرّة ويقوم اخرى؟

فقال: جدّك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

فقلت: وأين هم قاصدون؟

قال: إلى أبيك الحسين.

فأقبلت أسعى في طلبه لأعرّفه ما صنع بنا الظالمون بعده، فبينما أنا كذلك إذ أقبلت خمسة هوادج من نور، في كلّ هودج امرأة.

فقلت: مَن هذه النسوة المقبلات؟

قال: الأولى حوّاء أُمّ البشر، والثانية آسية بنت مزاحم، والثالثة مريم بنت عمران، والرابعة خديجة بنت خويلد، والخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرّة وتقوم مرّة وتقوم أُخرى.

فقلت: مَن؟

فقال: جدّتك فاطمة بنت محمّد، أُمّ أبيك.

فقلت: واللَّه لأخبرنّها ما صُنِعَ بنا.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 228

فلحقتها ووقفت بين يديها أبكي وأقول: يا أُمّتاه، جحدوا واللَّه حقّنا، يا أُمّتاه بدّدوا واللَّه شملنا، يا أُمّتاه استباحوا واللَّه حريمنا، يا أُمّتاه قتلوا واللَّه الحسين أبانا.

فقالت: كفّي صوتك يا سكينة، فقد أقرحت كبدي، وقطّعت نياط قلبي، هذا قميص أبيك الحسين معي لا يفارقني حتّى ألقى اللَّه به.

ثمّ انتبهتُ وأردت كتمان ذلك المنام، وحدّثت به أهلي، فشاع بين الناس» «1».

وذكر بعضه السيّد ابن طاووس وروى عنها أنّها رأت ذلك في اليوم الرابع من مقامهم في الشام «2» وذكره العلّامة المجلسي بتفصيل

أكثر عن بعض مؤلّفات أصحابنا مرسلًا «3».

مدّة إقامة أهل البيت في الشام ..... ص : 228
اشارة

لم نعثر على من صرّح بمدّة إقامتهم بالشام تحديداً من القدماء إلّاالقاضي أبو حنيفة النعمان بن محمّد التميمي المغربي المتوفى سنة 363 من الهجرة، فإنّه قال:

«فأقاموا فيه شهراً ونصف» «4»، ويقرب منه قول ابن طاووس حيث قال: «أقاموا فيه شهراً» «5»، وما عداه اكتفوا بذكر عنوان عام، مثل ما ذكره الشيخ المفيد بقوله:

«فأقاموا أيّاماً» «6»، واعتمد عليه الطبرسي «7».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 229

نعم ذكر العلّامة المجلسي عن بعض كتب أصحابنا مرسلًا ما يستفاد منه أنّ مدّة البقاء كانت زهاء عشرة أيّام، حيث قال: «وندبوه على ما نقل سبعة أيّام فلمّا كان اليوم الثامن دعاهنّ يزيد وعرض عليهنّ المقام فأبين وأرادوا الرجوع إلى المدينة فأحضر لهم المحامل» «1»، ولكن المأخذ غير معلوم فلا يمكن الاستناد إليه.

وإذا اعتمدنا على ما رواه ابن سعد من بعث يزيد إلى المدينة وقدوم عدّة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم عليه، وضمّه إليهم عدّة من موالي أبي سفيان، وبعث الأسارى من آل البيت عليهم السلام معهم إلى المدينة «2» فيكون البقاء- مع ملاحظة مدّة إرسال البريد إلى المدينة وإتيانهم منها إلى الشام- أكثر من ذلك حتماً.

حقائق أم أوهام؟ ..... ص : 229

1- قيل: إنّ يزيد أمر بالنسوة- من آل البيت عليهم السلام- أن ينزلن في دار على حدة معهنّ ما يصلحهنّ وأخوهنّ عليّ بن الحسين في الدار التي هنّ فيها «3».

وفيه: أنّ هذه الدار تختلف عن الدار الخربة التي وصفت بكونها لا تكنّهم من حرّ ولا برد حتّى تقشّرت وجوههم «4»، بل هي دار نقلوا إليها بعد أحداث مجلس يزيد، ويدلّ عليه ما أردفه الطبري بعد ذلك بقوله: فخرجن حتّى دخلن دار يزيد فلم تبق من آل معاوية امرأة إلّااستقبلتهنّ تبكي «5»، فهي إمّا دار يزيد

كما هو ظاهر

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 230

نقل الطبري، وتصريح آخرين بقولهم: إنّ يزيد أنزلهم في داره الخاصّة «1»، أو دار تتّصل بدار يزيد كما مرّ ذلك عن المفيد «2» والطبرسي «3»، فما عن بعض من توصيف منزلهم بالحسن والصلاح! فغير صحيح، والمنقول من ذلك محمول على ما ذكر، ويؤيّده ما قاله السيّد محمّد بن أبي طالب بقوله: «روي أنّ اللعين لمّا خشى شقّ العصا وحصول الفتنة أخذ في الاعتذار والإنكار لفعل ابن زياد وإبداء التعظيم والتكريم لعليّ بن الحسين عليهما السلام ونقل نساء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى داره الخاصّة وكان لا يتغدّى ولا يتعشّى إلّامع سيّدنا سيّد العابدين» «4».

2- قيل: إنّ يزيد ما كان يتغدّى ويتعشّى حتّى يحضر معه عليّ بن الحسين عليهما السلام «5».

وفيه- إن صحّ ذلك- أنّه لم يكن إلّابعد تغيّر المعادلة وانقلاب الأمر عليه، قام به حفظاً للظاهر سياسةً منه وخوفاً من الفتنة، وأمّا في الخفاء والواقع فقد عرفت غير مرّة أنّه هو الذي همَّ بقتل الإمام زين العابدين عليه السلام وأراد اغتياله، وهو الذي كشف عن خبث باطنه وسوء سريرته عند محادثته مع الإمام عليه السلام.

3- قيل: إنّ يزيد طلب من عليّ بن الحسين عليه السلام أن يصارع ولده خالداً «6».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 231

وهذا أيضاً خطأ وغير صحيح قطعاً، وإن صحّ مضمون الخبر فهو في شأن عمرو بن الحسن، الذي ذكره أصحاب السير والتواريخ منهم ابن سعد في طبقاته، قال: ثمّ دعا بعليّ بن حسين وحسن بن حسن وعمرو بن حسن، فقال لعمرو بن حسن وهو يومئذٍ ابن إحدى عشرة سنة: أتصارع هذا؟ يعني خالد بن يزيد، قال:

لا، ولكن أعطني سكّيناً وأعطه سكّيناً حتّى أُقاتله، فضمّه إليه يزيد

وقال:

شنشنة أعرفها من أخزم هل تلد الحيّة إلّاحيّة «1»

ومنه يظهر أنّ ما في بعض الكتب «2» من كونه عمرو بن الحسين، بدل عمرو بن الحسن تصحيف، إذ لا نعلم بولد له عليه السلام بهذا الاسم، مضافاً إلى أنّه لم يبقَ من ذرّيته الطاهرة إلّاالإمام عليّ بن الحسين عليه السلام.

والذي يغلب على الظنّ- أنّ عمّال بني أميّة دسّوا هذه الامور ونشروها بين أوساط الناس بعدما رأوا تأثير كلام الإمام عليه السلام في قلب عاصمة حكومة بني أميّة السوداء، أو أنّه حصل من سهو الكتّاب.

وأمّا البيت الذي تمثّل به يزيد فهناك بعض الخلاف في كيفيّته، روى الخوارزمي أنّه قال:

شنشنة أعرفها من أحزم هل يلد الأرقم غير الأرقم «3»

وروى ابن الجوزي: «سنّة أعرفها من أحرم» «4»، وجاء في نسخة من كتابه كما

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 232

في الطبقات وفي نور الأبصار: «وهل تلد الحيّة إلّاالأحوية» «1».

وفي المناقب:

هذا من العصا عصيّة هل تلد الحيّة إلّاالحيّة

ثمّ قال: وفي كتاب الأحمر قال: أشهد أنّك ابن علي بن أبي طالب «2».

وفي الاحتجاج أنّه قال: لا تلد الحيّة إلّاالحيّة

أشهد أنّك ابن عليّ بن أبي طالب «3»

وأصل البيت هو- كما عن ابن الكلبي- لأبي أخزم الطائي وهو جدّ أبي حاتم أو جدّ جدّه، وكان له ابن يقال له أخزم، وقيل كان عاقّاً فمات وترك بنين، فوثبوا يوماً على جدّهم أبي أخزم فأدموه، فقال:

إنّ بنيّ ضرّجوني بالدم شنشنة أعرفها من أخزم

يعني هؤلاء أشبهوا أباهم في العقوق، والشنشنة: الطبيعة والعادة.. يضرب في قرب الشبه «4».

4- قيل: (إنّ فاطمة بنت علي قالت لامرأة يزيد: «ما تُرك لنا شي ء». فالتفت يزيد فقال: «ما أتى إليهم عظيم»، ثمّ ما ادّعوا شيئاً ذهب لهم إلّاأضعفه لهم) «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 233

ومن هذا القبيل

ما رواه ابن الأثير بقوله: «وسألهنّ- أي يزيد- عمّا أُخذ منهنّ فأضعفه لهنّ «1»، وما رواه الطبري وابن كثير: وأرسل يزيد إلى كلّ امرأة ماذا أخذ لك؟ وليس منهنّ امرأة تدّعي شيئاً بالغاً ما بلغ إلّاقد أضعفه لها» «2».

ففي جميع ذلك أنّه: أوّلًا: لا نسلّم بصحّة الخبر، فشأن أهل اليت- الذين هم أهل بيت الحميّة والغيرة وأرباب العزّة والمنعة- أعلى وأرفع من أن يطلبوا من رجل خبيث سيّئ السيرة والسريرة شيئاً، فما هي إلّامفتعلات وموضوعات وضعها أنصار بني أُميّة حقداً على أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبغضاً لهم.

وثانياً: على فرض التسليم بها، فإنّ مطالبة أهل البيت ما كانت لأجل الحصول على أمور مادّية، بل هناك في ضمن ما سُلب منهم بعض مواريث آل البيت الخاصّة، وخاصّةً ما يتعلّق بفاطمة الزهراء سلام اللَّه عليها «3»، وهذا أمرٌ لا يعوّض بأيّ شي ء.

وثالثاً: من الممكن أنّ بعض نساء آل البيت نقلن تلك الامور، لأجل تبيين عمق الفاجعة والمأساة التي جرت في كربلاء، حتّى يبقى في التاريخ ويذكر على الألسن، لا أن يكون المقصود مطالبة شي ء منها.

ورابعاً: يحقّ لكلّ أحد غصب ماله أن يطالب به، وليس في ذلك أيّ نقيصة، ولكن المسائل التي ضمّتها هذه الروايات أوجبت أن نتأمّل في قبولها، فإنّ هناك أغراضاً سياسيّة فاسدة لا يمكن التغاضي عنها.

5- إنّ المتتبّع في أحداث كربلاء يجد روايات تريد أن تمرّ على القضايا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 234

مروراً سريعاً، غامضة العين، كأنّه لم يحدث شي ء! أو أنّه انتهى بالخير والسلامة! نذكر بعضها:

روى الذهبي بإسناده عن عمرو بن دينار قال: «حدّثنا محمّد بن علي عن أبيه قال: قُتل الحسين وأُدخلنا الكوفة فلقينا رجل، فأدخلنا منزله، فألحفنا! فنمتُ فلم أستيقظ

إلّابحسّ الخيل في الأزقّة، فحُملنا إلى يزيد، فدمعت عينه حين رآنا، وأعطانا ما شئنا! وقال: إنّه سيكون في قومك أمور، فلا تدخل معهم..» «1».

إنّ الناظر الجاهل بالحقائق حينما يقرأ الخبر، يتصوّر أنّ راويه يقصّ عن سفر فحسب! ولم يحدث أي خبر في الكوفة، لا من السجن ولا أحداث مجلس عبيداللَّه بن زياد، ولم يحدث في الطريق إلى الشام أي أمر، ووصلوا بالخير والسلامة الشام، وتأثّر يزيد، بحيث دمعت عينه!.

ولا نعلم كيف يُتصوّر إمكان أن يأخذ رجلٌ بقية الركب إلى منزله والحراسة مشدّدة عليهم من قِبل ابن زياد؟!

وروى الطبراني- بعد ذكر بعض أحداث مجلس يزيد ومحادثة الإمام عليه السلام معه- قال: «فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لتريا رأس أبيهما، وجعل يزيد يتطاول في مجلسه ليستر عنهما رأس أبيهما، ثمّ أمر بهم فجهّزوا وأصلح إليهم وأُخرجوا إلى المدينة»! «2».

وهناك بعض الأخبار التي هي على هذا المنوال، فكلّ هذه الروايات إمّا أن تكون بيان قطعة ناقصة من الحادثة، وإمّا أن تكون لأجل تحريف التاريخ عن حقائقه.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 235

المظلوم ينتصر ..... ص : 235
غلبة الدم على السيف ..... ص : 235

حصلت المعركة، ووقعت الملحمة في أرض الطف، ولكنّها لم تنته فصولها. أجل، سقط قائد النهضة صريعاً على الثرى، وذُبح عطشاناً من القفا، ورُفع رأسه الشريف على السنا، ولكنّ المعركة لم ولن تنتهي.

أرادوا أن يحكموا بالظاهر، بأنّ الخليفة! هو الظافر، كيف لا وقد قُتل قائد المسيرة، وسُبي أهله الذين حُملوا مع رؤوس الشهداء أسارى من بلد إلى بلد، حتّى وصلوا بهم إلى عاصمة المملكة، وأهلها فرحون مستبشرون، زاعمون أنّ ذلك أمارة الغلبة والظفر؟!

نعم، إنّهم ارتكبوا المجازر التي تشمئزّ منها القلوب، وفعلوا ما يقرح الأكباد، ولكنّهم نسوا شيئاً واحداً، وهو أنّه هناك سنّة اللَّه وإرادته التي تغلب كلّ شي ء!

أرادوا أن يطفئوا نور

اللَّه بأفواههم، وأبى اللَّه ذلك: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» «1»

، وقال سبحانه وتعالى:

«يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» «2»

.أرادوا أن يغلبوا حجّة اللَّه وقد قال سبحانه وتعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» «3»

.تخيّلوا أنّ الغلبة بالعدد والعُدّة فقط وقد نسوا قوله تعالى: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» «4»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 236

ومن هذا المنطق، ننطلق إلى سنّة إلهية ثابتة في ساحة صراع الحقّ مع الباطل، وهي انتصار الحقّ على الباطل. لقد غلب الدم السيف، لأنّ اللَّه يقول: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» «1»

، وقال تعالى: «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» «2»

كيف انقلبت المعادلة؟ ..... ص : 236

إنّ مسألة انقلاب المعادلة وتغيّر الأوضاع وتبدّل كفّتي الموازنة لم تحصل دفعة ودونما مقدّمات، بل هي حصيلة جهود كثيرة، ونتيجة مقاساة شدائد صعبة تحمّلها أهل بيت الحسين عليه السلام وعلى رأسهم سيّد المتهجِّدين وزين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام، والسيّدة العقيلة زينب الكبرى سلام اللَّه عليها. وابتدأت تلك الجهود بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام مباشرة، واستمرّت في الكوفة وفي الطريق إلى الشام، وأثمرت في دمشق، وامتدّت حتّى وصلت إلى بيت الطاغي ابن الباغي يزيد بن معاوية بحيث زعزعت أركان حكومته من الداخل والخارج. هذا ما سنتناوله في هذه المرحلة ونركّز على بعض جوانبه وننظر إلى بعض زواياه.

نظرة إلى دور الإمام زين العابدين عليه السلام ..... ص : 236

لقد رأينا موقف الإمام عليه السلام تجاه المسائل العديدة التي حصلت بعد عاشوراء إلى زمان دخوله الشام- لاسيّما ما جرى في الشام- ولقد ذكرنا شواهد متعدِّدة على

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 237

دور الإمام البارز على صعيد الشعب والحكومة والشخصيات.

فقد تمكّن الإمام عليه السلام أن يكسر الحواجز ويهدم الموانع التي فرضتها السلطة الطاغية ويعبر جميع ذلك ويقوم بكسر الحواجز الإعلامية المفروضة على الناس ويبيِّن الحقائق التي اخفيت عليهم.

فتارةً يرى الإمام عليه السلام اناساً ساذجين قلبوا الأمر عليهم، فيواجههم برحابة صدره الشريف، كما حصل ذلك مع الشيخ الشامي الذي حمد اللَّه على قتل الحسين عليه السلام وأهله!- في البدية- ولكنّه حينما يسمع آيات قرآنية نازلة في شأن آل بيت رسول اللَّه- كآية التطهير، والمودّة في القربى وغيرها- يرجع إلى فطرته السليمة ويقول: اللّهمَّ إنّي تائب إليك ممّا تكلّمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللّهمَّ إنّي أبرأ إليك من عدوّ محمّد وآل محمّد من الجنّ والإنس «1».

ولم يتحمّل يزيد ذلك فأمر بقتل ذلك الشيخ الشامي «2».

إنّ التمسّك بالقرآن والاستدلال به هو أحسن

طريق اتّخذه الإمام عليه السلام للاحتجاج به في هذا المقطع، لأنّهم- كما ذكرنا- منعوا نشر أحاديث فضل أهل البيت عليهم السلام منعاً كاملًا، كما وضعوا في قبالها أحاديث في شأن مبغضيهم!

فتارةً نرى الإمام إذا واجه الطاغية قابله وهاجمه بقوّة الإيمان وصلابة البيان وإقامة البرهان بحيث لم يبقِ له إلّاالخزي والخسران، ثمّ أوعده بالنيران لأنّه تابع إمامه الذي ليس هو إلّاالشيطان، ولكونه ثمرة عبدة الأوثان. فلذلك واجهه بهذا الكلام: أنشدك باللَّه يا يزيد ما ظنّك برسول اللَّه صلى الله عليه و آله لو رآنا مقرّنين في الحبال؟ أما كان يرقّ لنا؟ فأمر يزيد بالحبال فقطعت وعرف الانكسار فيه «3». فلم

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 238

يبق في القوم إلّامن بكى «1»، وحينما استشهد يزيد- المدّعي خلافة رسول اللَّه- ببيت لشاعر جاهلي يجيبه الإمام عليه السلام بآية قرآنية، فيثقل ذلك على يزيد «2»، ولم يجد إلّاأن يلتجئ لآية شريفة في غير موقعها، فيثبت الإمام عليه السلام له وللجميع عدم فقهه بالقرآن وعدم دركه معناه «3»، هذا وهو مدّعي الخلافة الإسلاميّة؟

ومع الأسف الشديد فإنّ كثيراً من المؤرّخين لم يذكروا هذه القطعة الأخيرة.

هذا جانب ممّا نقل عن نشاط الإمام عليه السلام على صعيد مواجهة الطاغوت ومجابهته، وكسر كبريائه وسطوته، وكذا الأمر بالنسبة إلى مقابلة الإمام عليه السلام مع بعض الأشخاص، سواء كانوا من الساذجين المنخدعين منهم- كما مرّ في قصّة الشيخ الشامي- أو غيرهم مثل ماذ كر حول تكلّم الإمام عليه السلام مع مكحول صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «4» أو منهال «5».

وأمّا على الصعيد الشعبي العام فنجد ذروة ذلك في خطبته الغرّاء التي القيت أمام حشد الجماهير مع حضور يزيد الملعون، ولقد بسطنا القول في تأثير الخطبة وصداها

فراجع «6»، ونكتفي بذكر ما أورده السيّد محمّد بن أبي طالب عند ذكره الخطبة، قال: «فلم يزل يقول أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب والأنين وخشى يزيد اللعين أن تكون فتنة، فأمر المؤذِّن فقال: اقطع عليه الكلام» «7».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 239

ومن هنا نعلم ما هو السرّ وراء قيام يزيد بحبس الإمام عليه السلام «1»، أو أمره باغتياله «2»، واقتراح بعض الصحابة! «3» ومشاوريه «4» ذلك. وهذه الشواهد المتقنة تؤيّد مدى نجاح نشاط الإمام عليه السلام وعمله في جوانب متعدّدة.

نظرة إلى دور زينب الكبرى عليها السلام ..... ص : 239

لقد قامت السيّدة العقيلة زينب الكبرى- سلام اللَّه عليها- بواجبها الرسالي امتداداً للنهضة الحسينيّة وتجسيداً رائعاً لقيمها الراقية وأهدافها السامية.

إنّها بنت علي وفاطمة.

إنّها أُخت الحسنين.

إنّها التي تغذّت في حضن النبوّة وتربّت في كنف الولاية.

وهي التي رأت مصائب لم ولن يرى مثلها أحد!

لقد رأت بالأمس مظلومية جدّها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في آخر أيّام حياته.

ثمّ رأت مظلوميّة أمّها الصدّيقة الشهيدة فاطمة الزهراء سلام اللَّه عليها وكيف كُسر ضلعها «5» وأُحرق باب دارها «6» وهي التي حضرت المسجد مع امّها ونقلت تلك الخطبة الغرّاء التي ألقتها امّها عليها السلام «7».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 240

وبذلك تعلّمت كيف تواجه الحكّام الظلمة بقوّة البيان وصلابة الإيمان، وإذا أردْتَ أن تعلم جذور خطب زينب فارجع البصر إلى ما بعد وفاة الرسول تجدها ترجع إلى خطبة امّها الزهراء البتول سلام اللَّه عليها.

ثمّ رأت غربة أبيها المظلوم عليّ بن أبي طالب واستشهاده، ثمّ الحسن عليهم سلام اللَّه جميعاً.

أمّا اليوم! فقد أصبحت بطلة المعركة الكبرى، ولقد أدّت واجبها بأحسن وجه، وعبر مواقف؛ منها:

1- متابعتها لإمام زمانها وابن أخيها عليّ بن الحسين عليه السلام، الذي عرّفته أمام يزيد بقولها هو المتكلِّم «2».

2- وقوفها

الصلب أمام الطاغية يزيد.

3- تأثير كلامها في أوساط المجتمع الشامي، وخاصّة في مجلس يزيد.

4- تأثيرها البالغ في قلب العاصمة وفي بيت يزيد- كما يأتي تفصيل ذلك-.

5- موقفها العاطفي أمام رأس أخيها الحسين بحيث قلبت المجلس، إلى حدّ قالوا: فأبكت واللَّه كلّ من كان «3».

6- إلقاء خطبتها الغرّاء في مجلس يزيد، التي تضمّنت معاني عالية ومضامين راقية وبراهين متقنة- ولقد بسطنا القول في شأنها.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 241

نظرة إلى دور سائر أهل البيت عليهم السلام وأثره ..... ص : 241

لقد ذكرنا مواقف صلبة من أهل البيت عليهم السلام في مواضع مختلفة ومواطن متعدّدة.

منها: الموقف الذي اتّخذته امّ كلثوم أمام طلب الرجل الشامي من يزيد «1».

ومنها: ما قامت به سكينة في تعريف هذه الاسرة الطاهرة بقولها: «نحن سبايا آل محمّد» «2»، فهذا الكلام يثير سؤالًا في أذهان الناس فحواه أنّه لو كانوا هم من آل محمّد فلماذا السبي؟! وهل هذه هي المودّة في القربى التي جعلها اللَّه أجراً لجدّهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

وهي التي كشفت القناع عن باطن يزيد بقولها: «واللَّه ما رأيت أقسى قلباً من يزيد ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ولا أجفى منه» «3».

وهي التي أذلّت يزيد بقولها: يا يزيد، بنات رسول اللَّه سبايا؟ «4»

ومنها: الموقف الذي اتّخذته فاطمة بنت الحسين عليه السلام بحيث حينما دخلوا بيت يزيد ما وجدوا فيهنّ سفيانيّة إلّاوهي تبكي «5».

قال ابن نما: «وقالت فاطمة بنت الحسين: يا يزيد، بنات رسول اللَّه سبايا؟! فبكى الناس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات» «6».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 242

وكذا ما روي في شأن عمرو بن الحسن حينما طالبه يزيد المصارعة مع ولده خالد «1».

فإنّ المتأمِّل في جميع ذلك- وهو شي ء قليل ممّا وصل بأيدينا، وما أخفته الأعداء حقداً وبغضاً وحسداً أكثر، واللَّه

العالم- يجد أنّ هذه المسيرة حقّقت أهدافها، ووصلت إلى بلغتها ونالت مناها من استيقاظ الناس وكشف النقاب عن سريرة أصحاب الزمرة الطاغية، وإصلاح أمر الامّة، لكي تكون معركة كربلاء أعظم وأشرف معارك الحقّ ضدّ الباطل على مدى الدهور والأعصار.

نظرة إلى مواقف بعض الصحابة ..... ص : 242

لقد ذكرنا في مطاوي الأبحاث السابقة أنّ بعض الصحابة كان لهم الدور الإيجابي تجاه الفاجعة العظمى التي حصلت في أرض كربلاء، وجرى الحق على ألسنتهم، وتكلّموا بالواقع واتّخذوا مواقف جليلة، ولا نعني بذلك تبرئتهم عن عدم نصرتهم الحسين عليه السلام، بل المقصود أنّ اتّخاذ هذا الموقف نفسه قد أثّر في أوساط الناس وانقلاب المعادلة، ومن هؤلاء:

1- سهل بن سعد، فهو الذي قال هذه الكلمة- حينما علم بورود سبايا أهل البيت الشام ومعهم رأس الحسين عليه السلام-: واعجباه! يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟! «2».

2- واثلة بن الأسقع، فإنّه لمّا سمع أنّ رجلًا من أهل الشام قام بلعن الحسين

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 243

وأبيه عليهما السلام- وقد جي ء برأسه الشريف- قال: واللَّه لا أزال أحبّ عليّاً والحسن والحسين وفاطمة بعد أن سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم يقول فيهم ما قال... «1».

3- أبو برزة الأسلمي، هو الذي اعترض على يزيد حينما رآه ينكت رأس الحسين عليه السلام بالخيزران بقوله: يا يزيد ارفع قضيبك، فواللَّه لطالما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقبِّل ثناياه «2».

ولقد بسطنا القول في تفصيل ذلك عند ذكر مجلس يزيد، فراجع.

4- زيد بن أرقم، فإنّه اتّخذ موقفاً مشابهاً لموقف أبي برزة الأسلمي بقوله:

كفّ عن ثناياه، فطالما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقبّلها.

فقال يزيد: لولا أنّك شيخ خرفت لقتلتك «3».

وإليه أشار السيّد الحميري في أشعاره «4».

5- النعمان بن بشير، قيل: إنّه

ممّن استنكر فعل يزيد في مجلسه «5».

وروى الخوارزمي بإسناده عن عكرمة بن خالد قال: «أُتي برأس الحسين إلى يزيد بن معاوية بدمشق فنصب، فقال يزيد: عليَّ بالنعمان بن بشير، فلمّا جاء قال: كيف رأيت ما فعل عبيداللَّه بن زياد؟ قال: الحرب دُوَل. فقال: الحمد للَّه الذي قتله! قال النعمان: قد كان أمير المؤمنين- يعني به معاوية- يكره قتله، فقال:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 244

ذلك قبل أن يخرج، ولو خرج على أمير المؤمنين واللَّه قتله إن قدر، قال النعمان:

ما كنت أدري ما كان يصنع! ثمّ خرج النعمان، فقال (يزيد): هو كما ترون إلينا منقطع، وقد ولّاه أمير المؤمنين ورفعه، ولكن أبي كان يقول: لم أعرف أنصاريّاً قطّ إلّايحبّ عليّاً وأهله ويبغض قريشاً بأسرها» «1».

هذا مع أنّ ابن أبي الحديد قد صرّح بانحرافه عن عليّ عليه السلام بقوله: وكان النعمان بن بشير منحرفاً عنه، وعدوّاً له، وخاض الدماء مع معاوية خوضاً، وكان من امراء يزيد ابنه حتّى قُتل وهو على حاله «2».

ولقد أثّر اتّخاذ هذا الموقف من بعض الصحابة، بحيث لم يتحمّله يزيد وقال: لولا صحبتك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لضربت واللَّه عنقك، فقال: ويلك تحفظ لي صحبتي من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولا تحفظ لابن رسول اللَّه بنوّته؟ فضجّ الناس بالبكاء وكادت أن تكون فتنة «3».

بعض الموالين لأهل البيت في الشام ..... ص : 244

حينما نريد أن نحلّل الواقع الاجتماعي لابدّ أن نلتفت إلى هذه النقطة وهي أنّ المستفاد من بعض النصوص وجود بعض الموالين لأهل البيت عليهم السلام في الشام وفي قلب عاصمة الدولة الأمويّة، وهذا أمر لا يمكن أن نتغافل عنه في هذا المقطع.

ممّا يؤيّد هذا المطلب هو ما رواه سهل بن سعد، قال: «خرجت إلى بيت المقدس

حتّى توسّطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علّقوا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 245

الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: لعلّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن، فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت: يا هؤلاء ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟ قالوا: يا شيخ نراك غريباً! فقلت: أنا سهل بن سعد: قد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم وحملت حديثه، فقالوا: يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تخسف بأهلها؟ قلت:

ولِمَ ذاك؟ فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يهدى من أرض العراق إلى الشام وسيأتي الآن..» «1».

وهذا الخبر يدلّ على وجود ضمائر حيّة عارفة بالامور وتميّز الحقّ عن الباطل، فلابدّ أن نجعل لهم سهماً في دعم النهضة الحسينيّة وإيقاظ الناس، وإن لم نعلم تفاصيله.

وممّا يؤيّد ذلك ما روي أنّ بعض الفضلاء التابعين لمّا شاهد رأس الإمام الحسين عليه السلام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه، فلمّا وجدوه بعد أن فقدوه سألوه عن سبب ذلك، فقال: أما ترون ما نزل بنا؟ ثمّ أنشأ يقول:

جاءوا برأسك يابن بنت محمّد مترمّلًا بدمائه ترميلا

فكأنّما بك يابن بنت محمّد قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولمّا يرقبوا في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبّرون بأن قُتلت وإنّما قتلوا بك التكبير والتهليلا

يا من إذا حسن العزاء عن امرئ كان البكا حسناً عليه جميلا

فبكتْك أرواح السحائب غدوة وبكتْك أرواح الرياح أصيلا «2»

نفوذ بعض الموالين في جهاز الحكم الأموي ..... ص : 245

إنّ الناظر في الأحداث التاريخية يجد شواهد قد يستشمّ منها نفوذ بعض محبّي أهل البيت في جهاز السلطة، منها ما رواه الطبري عن حبس الأسارى من آل بيت الرسول صلى الله عليه و آله في السجن بالكوفة،

ووقوع حجر فيه ومعه كتاب مربوط وفيه خبر خروج البريد بأمرهم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية، وهو سائر كذا وكذا يوماً، وراجع في كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إن شاء اللَّه «1».

فهذا ممّا يؤيّد نفوذ موالي أهل البيت في جهاز السلطة ولو بتعدّد الوسائط.

وممّا يؤيّد ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام حول موضع دفن رأس الحسين عليه السلام بقوله: «ولكن لمّا حمل رأسه إلى الشام سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين عليه السلام» «2». وسيأتي الكلام حول موضع دفن الرأس الشريف.

يزيد يواجه المشاكل في بيته ..... ص : 245
اشارة

إنّ عمق المأساة أثّر في نفوس الكلّ، حتّى دخل بيت يزيد، الذي لم يتمكّن من السيطرة على الوضع. وبين يديك الشواهد التأريخية التي تثبت ذلك:

1- بكاء نساء الاسرة الأمويّة ..... ص : 245

قال البلاذري: وصيّح نساء من نساء يزيد بن معاوية وولولن حين أُدخل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 247

نساء الحسين عليهنّ «1».

قال ابن فتّال: ثمّ أُدخل نساء الحسين على يزيد بن معاوية- لعنهما اللَّه وأخزاهما- فصحن نساء أهل يزيد وبنات معاوية وأهله وولولن وأقمن المأتم «2».

وروي عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام أنّها قالت: «فدخلت إليهنّ فما وجدت سفيانيّة إلّاملتدمة «3» تبكي» «4».

قال ابن الصبّاغ: قال (يزيد): «ادخلوهم إلى الحريم»، فلمّا دخلن على حرمه لم تبق امرأة من آل يزيد إلّاأتتهنّ وأظهرنَ التوجّع والحزن على ما أصابهنّ وعلى ما نزل بهنّ «5».

قال الطبري بإسناده عن الحارث بن كعب عن فاطمة بنت عليّ عليهما السلام:

«فخرجن حتّى دخلن دار يزيد فلم تبق من آل معاوية امرأة إلّااستقبلتهنّ تبكي تنوح على الحسين» «6».

روى البلاذري: «لمّا قدم برأس الحسين على يزيد بن معاوية فأُدخل أهله الخضراء بدمشق، تصايحت بنات معاوية ونساؤه فجعل يزيد يقول:

يا صيحة تُحمد من صوائح ما أهون الموت على النوائح

إذا قضى اللَّه أمراً كان مفعولًا، قد كنّا نرضى من طاعة هؤلاء بدون هذا!» «7».

نعم، روى القاضي نعمان ما يغاير ما ذكرناه مبدئيّاً، فإنّه روى عن علي بن الحسين عليه السلام أنّه قال: «وأمر بالنسوة فأدخلن إلى نسائه، ثمّ أمر برأس الحسين عليه السلام، فرُفع على سنّ القناة، فلمّا رأين ذلك نساؤه أعولن، فدخل- اللعين- يزيد على

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 249

نسائه فقال: ما لكنّ لا تبكين مع بنات عمّكنّ، وأمرهن أن يعولن معهنّ تمرّداً على اللَّه عزّوجلّ واستهزاءً بأولياء اللَّه عليهم السلام.

ثمّ قال:

نفلّق هاماً من رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

صبرنا وكان الصبر منّا سجيّة بأسيافنا يفرين هاماً ومعصما

وجعل يستفره الطرب والسرور، والنسوة يبكين ويندبن، ونساؤه يعولن معهنّ وهو يقول:

شجيٌّ بكى شجوة فاجعاً قتيلًا وباكٍ على من قُتل

فلم أرَ كاليوم في مأتم كان الظبا به والنفل «1»

2- موقف زوجة يزيد ..... ص : 249

روى الطبري بإسناده عن القاسم بن بخيت قال: «ودخلوا على يزيد، فوضعوا الرأس بين يديه، وحدّثوه الحديث، قال: فسمعت دور الحديث هند بنت عبداللَّه بن عامر بن كُرَيز- وكانت تحت يزيد بن معاوية- فتقنّعت بثوبها وخرجت، فقالت: يا أمير المؤمنين أرأس الحسين ابن فاطمة بنت رسول اللَّه؟

قال: نعم فاعولي عليه، وحُدّي على ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد، فقتله قتله اللَّه «2»».

ولكن الخوارزمي نقله بعد أحداث ورود أهل بيت الحسين بيت يزيد، قال:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 250

«وخرجت هند بنت عبداللَّه بن عامر بن كريز امرأة يزيد- وكانت قبل ذلك تحت الحسين بن عليّ عليهما السلام- فشقّت الستر وهي حاسرة، فوثبت على يزيد وقالت:

أرأس ابن فاطمة مصلوب على باب داري؟ فغطّاها يزيد وقال: نعم! فاعولي عليه يا هند، وابكي على ابن بنت رسول اللَّه وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله اللَّه!» «1».

وصُرّح في رواية السيّد محمّد بن أبي طالب «2» والعلّامة المجلسي «3» أنّها شقّت الستر وهي حاسرة فوثبت إلى يزيد وهو في مجلس عام فغطّاها، فبناء عليه فهي خرجت إلى مجلس يزيد بعد ورود أهل بيت الحسين إلى بيتها.

قال ابن سعد: «وبكت امّ كلثوم بنت عبداللَّه بن عامر بن كريز على الحسين، وهي يومئذٍ عند يزيد بن معاوية، فقال يزيد: حقّ لها أن تعول على كبير قريش وسيّدها» «4».

رؤيا زوجة يزيد ..... ص : 250

قال العلّامة المجلسي: روي في بعض مؤلّفات أصحابنا.. قال:

«ونقل عن هند زوجة يزيد قالت: كنت أخذت مضجعي فرأيت باباً من السماء وقد فُتحت، والملائكة ينزلون كتائب كتائب إلى رأس الحسين وهم يقولون: السلام عليك يا أبا عبداللَّه، السلام عليك يابن رسول اللَّه، فبينما أنا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص:

251

كذلك إذ نظرت إلى سحابة قد نزلت من السماء وفيها رجال كثيرون، وفيهم رجل درّيّ اللون قمريّ الوجه، فأقبل يسعى حتّى انكبّ على ثنايا الحسين يقبّلهما وهو يقول: يا ولدي قتلوك، أتراهم ما عرفوك، ومن شرب الماء منعوك، يا ولدي أنا جدّك رسول اللَّه، وهذا أبوك عليّ المرتضى، وهذا أخوك الحسن، وهذا عمّك جعفر، وهذا عقيل، وهذان حمزة والعبّاس، ثمّ جعل يعدّد أهل بيته واحداً بعد واحد.

قالت هند: فانتبهت من نومي فزعة مرعوبة، وإذا بنور قد انتشر على رأس الحسين، فجعلت أطلب يزيد وهو قد دخل إلى بيت مظلم، وقد دار وجهه إلى الحائط وهو يقول: ما لي وللحسين؟! وقد وقعت عليه الهمومات، فقصصت عليه المنام وهو منكّس الرأس» «1».

إقامة عزاء الحسين عليه السلام في بيت الطاغية ..... ص : 251

إنّ أهل بيت الحسين عليه السلام بدّلوا بيت يزيد إلى موضع إقامة العزاء والمأتم على الحسين عليه السلام، حيث صرّح بعض المؤرِّخين بقوله: «وأقمن المأتم» «2»، وذلك بعد ورودهنّ بيت يزيد.

وصرّح بعض آخر بأنّهنّ أقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيّام «3».

وانقلب الأمر على اللعين يزيد بن معاوية حتّى التجأ هو لإقامة المأتم على

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 252

الحسين عليه السلام ثلاثاً!!

قال ابن سعد: «وأمر- يزيد- نساء آل أبي سفيان، فأقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيّام، فما بقيت منهنّ امرأة إلّاتلقّتنا تبكي وتنتحب، ونُحنَ على حسين ثلاثة» «1».

وقال البلاذري: «وصيّح نساء من نساء يزيد بن معاوية وولولن حين أُدخل نساء الحسين عليهنّ وأقمن على الحسين مأتماً، ويقال إنّ يزيد أذِن لهنّ في ذلك» «2».

وقال السيّد ابن طاووس: «ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين عليه السلام وتنادي يا حبيباه، يا سيّداه، يا سيّد أهل بيتاه، يابن محمّداه، يا ربيع الأرامل واليتامى، يا قتيل

أولاد الأدعياء.

قال الراوي: فأبكت كلّ من سمعها» «3».

والمستفاد من بعض النصوص أنّ مأتم الحسين استمرّ أكثر من ذلك- ولعلّ التحديد بثلاثة أيّام راجع إلى ما أمره يزيد بإقامة المأتم-، مثل ما رواه العلّامة المجلسي رحمه الله عن بعض مؤلّفات أصحابنا، فإنّه بعدما نقل رؤيا زوجة يزيد قال:

«فلمّا أصبح [يزيد] استدعى حرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال لهنّ: أيّما أحبّ إليكنّ، المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة؟ ولكم الجائزة السنية!

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 253

قالوا: نحبّ أوّلًا أن ننوح على الحسين.

قال: افعلوا ما بدا لكم.

ثمّ اخليت لهنّ الحجر والبيوت في دمشق، ولم تبق هاشميّة ولا قرشيّة إلّا ولبست السواد على الحسين، وندبوه على ما نقل سبعة أيّام..» «1».

بل لابدّ أن يُقال: إنّ العزاء والنوح على الحسين عليه السلام استمرّ طيلة مقامهم في دمشق، لأنّه لم تكن مجرّد سكب الدموع وجريانها، بل هي رسالة دم الحسين الذي هزّ أركان سلطة يزيد، بل طريق زوال كلّ ظالم مشى على نهج يزيد.

قال ابن أعثم: «وأقاموا أيّاماً يبكون وينوحون على الحسين رضي اللَّه عنه» «2».

وقال ابن نما: «وكانت النساء مدّة مقامهنّ بدمشق يَنحنَ عليه بشجو وأنّة، ويندبن بعويلٍ ورنّة، ومصاب الأسرى عظم خطبه، والأسى لكلم الثكلى عال طبه» «3».

وقال السيّد ابن طاووس: «وكانوا مدّة مقامهم في البلد المشار إليه ينوحون على الحسين عليه السلام» «4».

يزيد يبكي تصنّعاً ..... ص : 253

وآل الأمر إلى أن يُظهر يزيد البكاء أمام الناس تصنّعاً ورياءً، حتّى أنّ ابن قتيبة قال: «فبكى يزيد حتّى كادت نفسه تفيض! وبكى أهل الشام حتّى علت أصواتهم» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 254

ولقد بالغ ابن قتيبة فيما رواه، فما ذكره فهو راجع إمّا إلى حسن تصنّعه! أو ناش عن مدى نصرة ناصريه في الرواية، حشرهم

اللَّه معه.

يزيد يأمر بتقديم بعض الخدمات! ..... ص : 254

إنّ خوف زوال الملك وحصول الفتن أوجب على يزيد أن يغيّر معاملته مع أهل البيت عليهم السلام، فلقد ذكرنا في توصيف سكنى أهل البيت عليهم السلام أنّهم أُسكنوا داراً لا يكنّهم من حرٍّ ولا برد حتّى أقشرت وجوههم «1»، ولكن انظروا إلى ما فعله بعد ذلك.

قال ابن قتيبة: ثمّ قال- يزيد بعد بكائه التصنّعي-: «خلّوا عنهم، واذهبوا بهم إلى الحمّام، واغسلوهم، واضربوا عليهم القباب»، ففعلوا، وأمال عليهم المطبخ وكساهم، وأخرج لهم الجوائز الكثيرة من الأموال والكسوة «2».

ولكن مع ذلك لم نستبعد وقوع شي ء من الكذب في تقديم هذه الخدمات الواهية، فالظنّ الغالب أنّها من أكاذيب أنصار بني أُميّة خذلهم اللَّه.

يزيد يُظهر الندامة ويلعن ابن مرجانة! ..... ص : 254
اشارة

واضطرّ يزيد إلى أن يُظهر الندامة على ما ارتكبه في شأن قتل سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه الكرام الأوفياء، وبادر بلعن عامله على الكوفة عبيداللَّه بن زياد؛ وذلك نتيجة لعدّة أُمور:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 255

1- الاستنكار الشعبي العام، بحيث بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم إيّاه، وهذا الاستنكار شمل المسلمين كافّة، حيث صرّح يزيد هو بنفسه قائلًا:

«لعن اللَّه ابن مرجانة! لقد بغّضني إلى المسلمين وزرع لي في قلوبهم البغضاء» «1»، «لعن اللَّه ابن مرجانة.. لقد زرع لي ابن زياد في قلب البرّ والفاجر والصالح والطالح العداوة» «2».

وقال جلال الدِّين السيوطي: «ولمّا قُتل الحسين وبنو أبيه، بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد، فسرّ بقتلهم أوّلًا، ثمّ ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك، وأبغضه الناس، وحقّ لهم أن يبغضوه» «3».

وقال الشيخ الصبان: «ثمّ ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك وأبغضه العالم» «4».

2- الاستنكار الخاصّ وذلك في:

أ) وجوه أهل الشام: قال سبط ابن الجوزي: «ولمّا فعل يزيد برأس الحسين ما فعل تغيّرت

وجوه أهل الشام، وأنكروا عليه ما فعل» «5».

ب) عسكر يزيد: روى ابن الجوزي عن مجاهد- بعد ذكر تمثّل يزيد بأشعار ابن الزبعرى-: «نافق فيها، ثمّ واللَّه ما بقي في عسكره أحد إلّاتركه، أي عابه وذمّه» «6».

ج) استنكار بيت يزيد: وقد ذكرناه تفصيلًا آنفاً.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 256

فظهر أنّ تظاهر يزيد بالندامة ولعنه ابن مرجانة ما كان إلّاخوفاً على زوال ملكه وفناء نفسه الخبيثة، ولم يكن إلّاعن مكر وخدعة وكذب وزور.

هذا هو لبّ الواقع، وأمّا الظاهر فهناك بعض الروايات تعالج جانباً من هذا الموضوع، ومع ذلك فيها أمور منكرة مدسوسة من قبل محبّي بني أُميّة، ولابدّ من الانتباه لها.

قال ابن الأثير: «وقيل: ولمّا وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده، وزاده ووصله وسرّه ما فعل، ثمّ لم يلبث إلّايسيراً حتّى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما عليَّ لو احتملت الأذى، وأنزلت الحسين معي في داري، وحكّمته فيما يريد وإن كان عليَّ في ذلك وهن في سلطاني، حفظاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، ورعايةً لحقّه وقرابته، لعن اللَّه ابن مرجانة، فإنّه اضطرّه، وقد سأله أن يضع يده في يدي، أو يلحق بثغر حتّى يتوفّاه اللَّه، فلم يجبه إلى ذلك فقتله، فبغّضني بقتله إلى المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فأبغضني البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ما لي ولابن مرجانة، لعنه اللَّه وغضب عليه» «1».

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 256

1- اعتراف يزيد بأنّ ندامته ناشئة عن بغض المسلمين وعداوتهم له، بعد قتله الإمام الحسين عليه السلام، وإلّا فلِمَ الفرح والسرور أوّلًا ثمّ حصول الندامة بعده.

2- وأمّا قوله: «وحكّمته فيما يريد وإن كان عليَّ في ذلك وهن في سلطاني» ففي الحقيقة

كان الإمام يرى عدم شرعيّة سلطته، وقد صرّح بقوله عليه السلام: «الخلافة

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 257

محرّمة على آل أبي سفيان» «1».

فالمطلوب عند الإمام قلع أساس حكمه وسلطته، فحينئذٍ لا يبقى من ملكه شي ء وإن كان موهناً.

3- وأمّا قوله: «وقد سأله أن يضع يده في يدي» فهو أيضاً إمّا من أكاذيب يزيد نفسه التي ليست بقليلة، أو من مفتعلات أعوانه، لأنّ الإمام الشهيد عليه السلام هو الذي أدلى بموقفه الصامد بقوله: «لا واللَّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد» «2»

، وهو القائل: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد تركني بين السلّة والذلّة، وهيهات له ذلك منّي، هيهات منّا الذلّة...» «3».

4- وأمّا لعنه ابن مرجانة فعلى فرض صحّته لا يكون إلّاصوريّاً، لما قد ذكرنا أنّه هو الذي استدعاه وشكر له وشرب معه الخمر بعد مقتل الحسين عليه السلام، «4» وكذا الجواب فيما قيل بأنّه غضب على ابن زياد ونوى قتله! «5». والدليل على ذلك بأنّه لم يفعل أيّ شي ء بعد ذلك إلّاالشكر له!

ومن هذا القبيل ما رواه سبط ابن الجوزي عن الواقدي أنّه قال: «فلمّا حضرت الرؤوس عنده قال: فرّقت سميّة بيني وبين أبي عبداللَّه وانقطع الرحم! لو كنت صاحبه لعفوت عنه! ولكن ليقضي اللَّه أمراً كان مفعولًا، رحمك اللَّه يا حسين، لقد قتلك رجل لم يعرف حقّ الأرحام!» «6».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 258

ولقد أثبتنا لك بالشواهد المتقنة وذكر الاعترافات المتعدّدة أنّه هو الذي أمر بقتل الحسين عليه السلام «1»، ولكن الخبيث يريد أن يتخلّى عن المسؤولية ويجعلها على عاتق فاسقٍ مثله، خوفاً من إثارة الناس عليه.

ومن الغريب جدّاً أنّنا نجد أُناساً يريدون أن يبرّئوا ساحة يزيد من هذه الجريمة النكراء، وقد لوّثوا بذلك أنفسهم،

ومن هؤلاء صاحب خطط الشام حينما يقول: «وكانت غلطة زياد في قتل الحسين وسبي آله الطاهرين ذريعة أكبر للنيل من يزيد وآل يزيد، فتقوّلوا عليه وحطّوا من كرامته! مع أنّه سار بسيرة أبيه في الملك من التوسّع في الفتوح وقتال أعداء المملكة من الروم» «2».

نعم إنّه سار بسيرة أبيه، بل أسرع في السير في بغيه وظلمه وجوره وطغيانه ووقوفه أمام الحقّ، وقتله الطاهرين من ذرّية خاتم المرسلين صلى الله عليه و آله، وذهب بنفسه إلى عذاب ربّ العالمين.

فحينئذٍ لا يمكن لأحد أن يخفي ما في ضميره باستعمال كلمة غلطة ابن زياد وما شابهها، فإنّه إن صحّ التعبير بذلك- وليس بصحيح- فليست هي إلّاامتثال لما أمره يزيد، والتستّر خلف مسألة الفتوح لا يغني عن الحقّ شيئاً.

ولعلّ المؤلّف جعل وقعة الحرّة ومجزرة المدينة المنوّرة، وخراب الكعبة من جملة فتوحات يزيد!.

ولنختم الكلام بما ذكره السيّد محمّد بن أبي طالب، فإنّه أجاد بقوله:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 259

«وأقول: لعن اللَّه يزيد وأباه، وجدّيه وأخاه، ومن تابعه وولّاه، بينا هو ينكت ثنايا الحسين بالقضيب ويتمثّل بشعر ابن الزبعرى.. وإغلاظه لزينب بنت عليّ بالكلام السيّئ لمّا سأله الشامي.. وقوله لعليّ بن الحسين عليه السلام: أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين، فالحمد للَّه الذي قتلهما وسفك دماءهما.. ونصب رأس الحسين عليه السلام على باب القرية الظالم أهلها- أعني بلدة دمشق- وإيقافه ذرّية الرسول على درج المسجد كسبايا الترك والخزر، ثمّ إنزاله إيّاهم في دار لا يكنّهم من حرّ ولا قرّ حتّى تقشّرت وجوههم وتغيّرت ألوانهم، وأمر خطيبه أن يرقى المنبر ويخبر الناس بمساوئ أمير المؤمنين ومساوئ الحسين عليهما السلام وأمثال ذلك، ثمّ هو يلعن ابن زياد ويتبرّأ من فعله ويتنصّل من صنعه، وهل فعل اللعين

ما فعل إلّابأمره وتحذيره من مخالفته؟ وهل سفك اللعين دماء أهل البيت إلّابإرغابه وإرهابه له بقوله، ومراسلته بالكتاب الذي ولّاه فيه الكوفة، وحثّه فيه على قتله، وأمره له بإقامة الأرصاد وحفظ المسالك على الحسين، وقوله لابن زياد في كتابه: إنّه قد ابتلي زمانك بالحسين من بين الأزمان، وفي هذه الكرّة تعتق أو تكون رقّاً عبداً كما تعبد العبيد، فاحبس على التهمة واقتل على الظنّة..

وإنّما أظهر اللعين التبرّي من فعل ابن زياد لعنه اللَّه خوفاً من الفتنة وتمويهاً على العامّة، لأنّ أكثر الناس في جميع الآفاق والأصقاع أنكروا فعله الشنيع وصنعه الفضيع، ولم يكونوا راضين بفعله وما صدر عنه، خصوصاً من كان حيّاً من الصحابة والتابعين في زمنه كسهل بن سعد الساعدي والمنهال بن عمرو والنعمان بن بشير وأبي برزة الأسلمي ممّن سمع ورأى إكرام الرسول صلى الله عليه و آله له ولأخيه، وكذلك جميع أرباب الملل المختلفة من اليهود والنصارى.. ولم يكن أحد من المسلمين في جميع البلاد راضياً بفعله إلّامن استحكم النفاق في قلبه من شيعة آل أبي سفيان، بل كان أكثر أهل بيته ونسائه وبني عمّه غير راضين بذلك» «1».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 260

وعد يزيد لزين العابدين عليه السلام ..... ص : 260

قال ابن نما: «وعد يزيد لزين العابدين عليه السلام بقضاء ثلاث حاجات» «1»، والمستفاد من نقل السيّد ابن طاووس أنّه كان بعد اعتراض الإمام عليه السلام لما تفوّه به الخطيب الشامي، ووعد يزيد للإمام في ذلك اليوم «2»، فحينئذٍ هي من إحدى نتائج الموقف الصلب الذي اتّخذه الإمام عليه السلام، فقام يزيد بتقديم التنازلات، حتى آل الأمر إلى أن يفي بوعده.

قال السيّد رحمه الله: «وقال لعليّ بن الحسين عليه السلام: اذكر حاجاتك الثلاث التي وعدتك بقضائهنّ.

فقال له: الاولى: أن تريني

وجه سيّدي ومولاي الحسين، فأتزوّد منه، وأنظر إليه واودّعه.

والثانية: أن تردّ علينا ما اخذ منّا.

والثالثة: إن كنت عزمت على قتلي أن توجّه مع هؤلاء النسوة من يردّهن إلى حرم جدّهنّ صلى الله عليه و آله» «3».

فقال: أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً، وأمّا قتلك فقد عفوت عنك، وأمّا النساء فلا يردّهن إلى المدينة غيرك، وأمّا ما أُخذ منكم فإنّي أُعوّضكم عنه أضعاف قيمته.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 261

فقال عليه السلام: أمّا مالك فلا نريده، وهو موفّر عليك، وإنّما طلبت ما أُخذ منّا لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد ومقنعتها وقلادتها وقيمصها.

فأمر بردّ ذلك، وزاد عليه مائتي دينار، فأخذها زين العابدين عليه السلام وفرّقها على الفقراء والمساكين» «1».

قال السيّد محمّد بن أبي طالب: «روي أنّ اللعين لمّا خشي شقّ العصا وحصول الفتنة أخذ في الاعتذار، والإنكار لفعل ابن زياد، وإبداء التعظيم والتكريم لعليّ بن الحسين عليهما السلام، ونقل نساء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى داره الخاصّة، وكان لا يتغدّى ولا يتعشّى إلّامع سيّدنا سيِّد العابدين عليه السلام، وكلّ من كان حاضراً من الصحابة والتابعين والأجلّة وبني أُميّة أشاروا عليه لعنه اللَّه بردّ حرم رسول اللَّه والإحسان إليهم والقيام بما يصلحهم، فأحضر سيّدنا عليّ بن الحسين وقال: إنّي كنت قد وعدتك بقضاء ثلاث حاجات فاذكرها لي لأقضيها» «2».. ثمّ ذكر نحو ما مرّ.

ففي الخبر الذي رواه السيّد ابن طاووس وابن نما وجوه للتأمّل:

1- تعليل الإمام عليه السلام بوجود آثار من فاطمة الزهراء سلام اللَّه عليها في ضمن ما سُلب من أهل البيت يرشدنا إلى علّة كلّ ما روي حول طلب أهل البيت بردّ ما أُخذ منهم، فتكون هذه الرواية حاكمة وناظرة ومفسِّرة لما رُوي في هذا

الشأن.

2- إنّ تصريح الإمام بأنّ فيه آثار فاطمة ومغزلها وقميصها وقلادتها ومقنعتها يرشدنا إلى لزوم الاهتمام بحفظ آثار النبيّ صلى الله عليه و آله وعترته الطاهرين عليهم السلام والتبرّك بها.

3- مسألة عفو يزيد عن قتل الإمام زين العابدين تدلّ على نيّته الخبيثة حول قتل واغتيال الإمام عليه السلام بالمطابقة، وكذلك تدلّ على كذب إدّعائه بأنّه ما كان يحبّ قتل الحسين عليه السلام بالملازمة، فإنّه إن لم يكن آمراً بقتل الحسين عليه السلام وراضياً به- مع أنّه خرج عليه بزعمه- فكيف أراد قتل ابنه عليه السلام- مع أنّه في حالة الأسر- ثمّ يعفو

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 262

عنه بعد ذلك.

4- قوله «لن تراه أبداً» لعلّه ناظر إلى إرسال الرأس الشريف إلى المدينة حينذاك، كما سيأتي الكلام حوله.

5- أمر يزيد بردّ المأخوذ يدلّ على أنّ المسلوب من أهل البيت عليهم السلام أُرسل إلى يزيد، وهذا يؤيّد ما احتملناه سابقاً.

6- فعل الإمام عليه السلام بتفريق الزائد على ما أُخذ منهم- وهو مائتي دينار- كشف عن زاوية من زوايا الأخلاق العالية المتجلِّية في أهل بيت النبوّة.

استشارة يزيد وجوه أهل الشام ..... ص : 262

روى ابن عبد ربّه عن عليّ بن عبد العزيز عن محمّد بن الضحّاك بن عثمان الخزامي عن أبيه قال: «.. [قال يزيد]: ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء؟

فقال له رجل: لا تتّخذ من كلب سوء جرواً.

قال النعمان بن بشير الأنصاري: انظر ما كان يصنعه رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم لو رآهم في هذه الحالة، فاصنعه بهم.

قال: صدقت، خلّوا عنهم، واضربوا عليهم القباب.

وأمال عليهم المطبخ وكساهم وأخرج إليهم جوائز كثيرة، وقال: لو كان بين ابن مرجانة وبينهم نسب ما قتلهم! ثمّ ردّهم إلى المدينة» «1».

إنّ المستفاد من النصوص أنّ هذه المحادثة والاستشارة حصلت

في آخر أيّام مقام أهل البيت عليهم السلام في الشام، لا ما هو المترائي من بعض الكتب من أنّه جرت

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 263

في مجلس يزيد العام، لأنّنا قد ذكرنا شواهد عديدة بأنّ المجالس قد تكرّرت، وإن لم تكن على حدٍّ سواء من حيث الأهمّية، فحينئذٍ يريد يزيد أن يجد مفرّاً لكي يخلّص نفسه من هذه الواقعة التي هزّت أركان حكومته، وممّا يؤيّد ذلك هو ما أورده القاضي نعمان بقوله:

ثمّ قال: يا أهل الشام ما ترون في هؤلاء؟

فقال قائلهم: قد قتل (كذا) ولا تتّخذ جروء من كلب سوء.

فقال النعمان بن بشير: انظر ما كنت ترى أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يفعله فيهم لو كان حيّاً، فافعله.

فبكى يزيد، فقالت فاطمة بنت الحسين عليه السلام: «يا يزيد ما تقول في بنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سبايا عندك». فاشتدّ بكاؤه! حتّى سمع ذلك نساؤه! فبكين حتّى سمع بكاءهنّ من كان في مجلسه.

وقيل: إنّ ذلك بعد أن أجلسهنّ في منزل لا يكنّهنّ من بردٍ ولا حرّ، فأقاموا فيه شهراً ونصف، حتّى اقشرّت وجوههنّ من حرّ الشمس، ثمّ أطلقهم «1».

تجهيز الأسرى من آل البيت إلى المدينة ..... ص : 263

قال السيّد ابن طاووس: «ثمّ أمر- يزيد- بردّ الأسارى وسبايا البتول إلى أوطانهم بمدينة الرسول» «2».

قال الشيخ المفيد: «ثمّ ندب يزيد النعمان بن بشير وقال له: تجهّز لتخرج بهؤلاء النسوان إلى المدينة» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 264

قال الباعوني: «فقال يزيد: جهّزوهم، وأمر النعمان بن بشير أن يجهّزهم بما يصلحهنّ ويسير معهم» «1».

قال الطبري: «ثمّ قال يزيد بن معاوية: يا نعمان بن بشير، جهّزهم بما يصلحهم، وابعث معهم رجلًا من أهل الشام أميناً صالحاً، وابعث معه خيلًا وأعواناً، فيسير بهم إلى المدينة» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 267

الفصل الثاني: حركة المسيرة المظفّرة ..... ص : 267

الخروج من الشام ..... ص : 267
اشارة

لقد نجح أعلام الركب الحسيني في أداء واجبهم الرسالي في هذا المقطع الزمني والمكاني المهمّ على أحسن وجه، حتّى خشي يزيد وقوع الفتن والأحداث واضطراب الرأي العام وخروج الأمر من يده؛ الأمر الذي دعاه للتفكير بجدّية في طريق للخلاص من هذه المشكلة العويصة، فأمر النعمان بن بشير بتجهيز الركب الطاهر لإرجاعهم إلى المدينة. وقد رأينا كيف اختلفت المعاملة مع أهل بيت الرسول منذ ذلك الحين.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي: «وأصبحت- الخطب- حديث الأندية والمجالس، فكانت تغلي كالحمم على تلك الدولة الغاشمة، وهي تنذر بانفجار شعبي يكتسح دولة يزيد، فقد عرّفت أهل الشام لؤم يزيد وخبث عنصره وقلبت الرأي العام عليه فجوبه بالنقد حتّى في مجلسه وسقط اجتماعيّاً، وذهبت مكانته من النفوس» «1».

يزيد يعتذر من الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام ..... ص : 267

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 268

قال السيّد محمّد بن أبي طالب: «ولم يكن أحد من أكثر الناس في جميع الآفاق راضياً بفعله، فلذلك أبدى الاعتذار وركن إلى الإنكار، خوفاً أن يُفتق عليه فتق لا

يُرتق، وأن ينفتح عليه باب من الشرّ لا يغلق، فاعتذر وأنّى له الاعتذار» «1».

قال الشيخ المفيد رحمه الله: «ولمّا أراد أن يجهّزهم دعا عليّ بن الحسين عليهما السلام، فاستخلاه، ثمّ قال له: لعن اللَّه ابن مرجانة، أَمَ واللَّه لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلّاأعطيته إيّاها! ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولكنّ اللَّه قضى ما رأيت، كاتبني من المدينة وأنْهِ كلّ حاجة تكون لك.

وتقدّم بكسوته وكسوة أهله» «2».

وأعرض عنه الإمام لأنّ كلامه لم يكن إلّاتهرّباً ممّا لحقه من الخزي والعار.

قال ابن سعد: «وقال- يزيد- لعليّ بن حسين: إن أحببت أن تقيم عندنا فنصل رحمك ونعرف لك حقّك فعلت، وإن أحببت أن أردّك إلى بلادك وأصلك.

قال: بل تردّني إلى بلادي.

فردّه

إلى المدينة ووصله» «3».

وقال الخوارزمي: وروي أنّ يزيد عرض عليهم المقام بدمشق، فأبوا ذلك

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 269

وقالوا: «ردّنا إلى المدينة، لأنّها مهاجرة جدّنا»، فقال للنعمان بن بشير: «جهّز هؤلاء بما يصلحهم وابعث معهم رجلًا من أهل الشام أميناً صالحاً، وابعث معهم خيلًا وأعواناً»، ثمّ كساهم وحباهم وفرض لهم الأرزاق والأنزال «1».

وقال القاضي نعمان: وأمر- يزيد- بإطلاق عليّ بن الحسين عليه السلام، وخيّره بين المقام عنده أو الانصراف، فاختار الانصراف إلى المدينة فسرّحه «2».

وقال: ولمّا بلغ من النداء على رأس الحسين عليه السلام والاستهانة [بحرمه] ونساء من قُتل معه من أهل بيته ما أراده، وعليّ عليه السلام على حاله من العلّة، وما أراده اللَّه تعالى من سلامته، وأن لا تنقطع الإمامة بانقطاعه، فسرّحهم يزيد اللعين، وانصرف إلى المدينة «3».

عرض الأموال على آل البيت عليهم السلام ورفض السيّدة أُمّ كلثوم ..... ص : 269

روى العلّامة المجلسي عن بعض أصحابنا قال: «فلمّا كان اليوم الثامن دعاهنّ يزيد، وأعرض عليهنّ المقام، فأبين وأرادوا الرجوع إلى المدينة، فأحضر لهم المحامل وزيّنها، وأمر بالأنطاع الإبريسم، وصبّ عليها الأموال، وقال: يا أُمّ كلثوم، خذوا هذا المال عوض ما أصابكم!

فقالت أُمّ كلثوم: يا يزيد، ما أقلّ حياءك وأصلب وجهك؟! تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم!» «4».

متى كان الخروج من الشام؟ ..... ص : 269

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 270

المستفاد من بعض النصوص أنّ الخروج من الشام كان في العشرين من صفر. قال الشيخ المفيد رحمه الله: «وفي العشرين منه (شهر صفر)، كان رجوع حرم سيّدنا ومولانا أبي عبداللَّه عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله» «1».

وقال الشيخ الطوسي رحمه الله: «وفي اليوم العشرين منه (صفر) كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبداللَّه الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله» «2».

وقال الشيخ رضيّ الدين علي بن يوسف بن المطهر الحلّي: «وفي اليوم العشرين من صفر سنة إحدى وستّين أو اثنين وستّين- على اختلاف الرواية به في قتل مولانا الحسين عليه السلام- «3» كان رجوع حرم مولانا أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم» «4».

وقال الكفعمي: «وفي العشرين منه (صفر) كان رجوع حرم الحسين بن علي عليه السلام إلى المدينة» «5».

وقال في موضع آخر: «وفي هذا اليوم (العشرين من صفر) كان رجوع حرم الحسين عليه السلام من الشام إلى المدينة» «6».

فإذا فرضنا أنّ المقصود من عبارة يوم خروجهم من الشام إلى المدينة هو

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 271

يوم خروجهم من الشام لا يوم دخولهم المدينة، وقلنا إنّ الرأس الشريف أُدخل الشام في

الأوّل من صفر، وأنّ أهل بيت الحسين عليه السلام دخلوها في ذلك اليوم- مع احتمال تقدّم ورود الرأس عليهم- فيكون مدّة بقائهم في الشام عشرين يوماً.

وقد ذكرنا عن القاضي نعمان القول ببقائهم فيها شهراً ونصف، وهناك رأي وسط يقول بمكوثهم فيها شهراً، ذكره السيّد ابن طاووس «1».

المسايرون للركب ..... ص : 271
اشارة

لقد سايرت الركب الطاهر عدّةٌ بأمر يزيد، وقد ورد ذكرهم في التاريخ إمّا بالعنوان الكلّي أو بالخصوص، وللتوقّف في ذلك مجال، وذلك بطرح سؤالين:

السؤال الأوّل: مَنْ هم المسايرون؟ ..... ص : 271

1) جيش: قال مسكويه الرازي: «ثمّ جهّز- يزيد- النساء وعليّ بن الحسين، وضمّ إليهم جيشاً، حتّى ردّهم إلى المدينة» «2».

2) جماعة: قال ابن نما: «ثمّ أمر يزيد بمضيّ الأسارى إلى أوطانهم مع نعمان بن بشير وجماعة معه إلى المدينة» «3».

3) ثلاثون فارساً: قال أحمد بن داود الدينوري: «ثمّ أمر- يزيد- بتجهيزهم بأحسن جهاز، وقال لعليّ بن الحسين: «انطلق مع نسائك حتّى تبلغهنّ وطنهنّ»، ووجّه معه رجلًا في ثلاثين فارساً، يسير أمامهم، وينزل حجرة عنهم، حتّى انتهى

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 272

بهم إلى المدينة» «1».

4) عدّة من موالي أبي سفيان: روى الخوارزمي عن أبي العلاء الحافظ بإسناده عن مشايخه «أنّ يزيد بن معاوية حين قُدم عليه برأس الحسين وعياله بعث إلى المدينة فأقدم عليه عدّة من موالي بني هاشم، وضمّ إليهم عدّة من موالي آل أبي سفيان، ثمّ بعث بثقل الحسين ومن بقي من أهله معهم، وجهّزهم بكلّ شي ء ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلّاأمر لهم بها» «2».

5) نعمان بن بشير: كما ذكرنا ذلك عن ابن نما «3» والباعوني «4».

وهو المستفاد ممّا ذكره الشيخ المفيد «5» والطبرسي «6».

6) محرز بن حريث الكلبي: روي عن سبط ابن الجوزي أنّه قال: «وبعث- يزيد- معهم محرز بن حريث الكلبي» «7».

7) رجل من بهرا: قال ابن سعد: «وبعث- يزيد- بهم مع محرز بن حريث الكلبي ورجل من بهرا، وكانا من أفاضل أهل الشام» «8».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 273

8) عدّة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم: قال ابن سعد: «ثمّ بعث يزيد إلى المدينة، فقدم عليه بعدّة من ذوي

السنّ من موالي بني هاشم، ثمّ من موالي بني علي، وضمّ إليهم أيضاً عدّة من موالي أبي سفيان، ثمّ بعث بثقل الحسين ومن بقي من نسائه وأهله وولده معهم، وجهّزهم بكلّ شي ء، ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلّاأمر لهم بها» «1».

9) عدّة من موالي بني عليّ: كما ذكرنا ذلك عن الطبقات آنفاً، وهو عطف الخاص على العام، كما أنّه يمكن دمج بعض ما ذكرنا في بعض.

السؤال الثاني: لماذا هذه المسايرة؟ ..... ص : 273

من الغريب جدّاً أن يقول أحد أنّ يزيد يقوم بإرسال هؤلاء لأجل المحافظة عليهم فحسب، وإن كان هذا هو الظاهر المترائى من القضيّة، ولكن الواقع هو المحافظة عليهم أوّلًا، والسيطرة على الأوضاع ثانياً، والثاني أولى بالمقصود عنده؛ إذ بعدما علمنا بمدى تأثير أهل البيت في العاصمة ونشر الحقائق إلى سائر البلدان، فمن الطبيعي أن يخاف يزيد حصول التمرّد والعصيان عليه في بعض البلدان الواقعة في المسير، وقد راعت السلطة ذلك بالبعث إلى المدينة واستقدام عدّة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم وموالي بني عليّ من أجل مسايرتهم للركب.

ما سُمع عند ترك دمشق ..... ص : 273

قال ابن أعثم: ثمّ أمر بهم يزيد بزاد كثير ونفقة، وأمر بحملانهم إلى المدينة، فلمّا فصلوا من دمشق سمعوا منادياً ينادي في الهواء وهو يقول:

أيّها القاتلون ظلماً حسينا أبشروا بالعذاب والتنكيل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 274

كلّ من في السماء يدعو عليكم من نبيٍّ ومرسلٍ وقتيل

قد لُعنتم على لسان موسى وداود وحامل الإنجيل «1»

حسن المعاملة في الطريق ..... ص : 274

قال ابن سعد: «وأمر- يزيد- الرُّسل الذين وجّههم معهم أن ينزلوا بهم حيث شاءوا ومتى شاءوا» «2».

وذكرنا عن الدينوري أنّ يزيد وجّه معهم رجلًا في ثلاثين فارساً يسير أمامهم وينزل حجرة عنهم حتّى انتهى بهم إلى المدينة «3».

قال الشيخ المفيد رحمه الله: «وأنفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولًا تقدّم إليه أن يسير بهم في الليل، ويكونوا أمامه، حيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحّى عنهم، وتفرّق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، وينزل منهم حيث إذا أراد إنسان من جماعتهم وضوءاً أو قضاء حاجة لم يحتشم، فسار معهم في جملة النعمان، ولم يزل ينازلهم في الطريق، ويرفق بهم- كما وصّاه يزيد- ويرعونهم حتّى دخلوا المدينة» «4».

وقال الشبلنجي: «ثمّ إنّ يزيد بعد ذلك أمر النعمان بن بشير أن يجهّزهم بما يصلحهم إلى المدينة الشريفة، وسيّر معهم رجلًا أميناً من أهل الشام في خيل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 275

سيّرها صحبتهم.. وأوصى بهم الرسول الذي سيّره صحبتهم، وكان يسايرهم وهو وخيله التي معهم، فيكون الحريم قدّام بحيث أنّهم لا يفوتون، فإذا نزلوا تنحّى عنهم ناحية هو وأصحابه، وكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسألهم عن حالهم، ويتلطّف بهم في جميع أُمورهم، ولا يشقّ عليهم في مسيرهم، إلى أن دخلوا المدينة» «1».

وممّا يدلّ على ذلك ما رواه الطبري عن أبي مخنف قال: «قال الحارث بن كعب: قالت لي فاطمة

بنت علي: قلت لُاختي زينب: يا أُخيّة، لقد أحسن هذا الرجل الشامي إلينا في صحبتنا، فهل لكِ أن نصله؟

فقالت: واللَّه ما معنا شي ء نصله به إلّاحليّنا!

قلت لها: فنعطيه حليّنا؟

قالت: فأخذت سواري ودملجي، وأخذت أختي سوارها ودملجها، فبعثنا بذلك إليه، واعتذرنا إليه، وقلنا له: هذا جزاؤك بصحبتك إيّانا بالحسن من الفعل.

قالت: فقال: لو كان الذي صنعت إنّما هو للدُّنيا كان في حليكنّ ما يرضيني، ولكن واللَّه ما فعلته إلّاللَّه، ولقرابتكم من رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم» «2».

لعلّ المقصود من هذا الرجل الشامي هو محرز بن حريث الكلبي أو رجل من بهرا الذي عبّر عنهما ابن سعد بقوله: وكانا من أفاضل أهل الشام «3»، وإن كان

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 276

المستفاد ممّا نقله ابن نما والباعوني أنّ المتولّي لذلك هو نعمان بن بشير «1»، ولكنّه أنصاري مدني، فلا يشمله إطلاق كونه الرجل الشامي، إلّاإذا قيل إنّه صار شاميّاً بعدما استوطنه!- أي هو شامي الهوى مدنيّ الأصل!-.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 277

إلى كربلاء ..... ص : 277
زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 277
اشارة

قال السيّد ابن طاووس: «قال الراوي: ولمّا رجع نساء الحسين عليه السلام وعياله من الشام وبلغوا إلى العراق قالوا للدليل: «مرّ بنا على طريق كربلاء» فوصلوا إلى موضع المصرع» «1».

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب: «فسألوا أن يُسار بهم على العراق ليجدّدوا عهداً بزيارة أبي عبداللَّه عليه السلام» «2».

وقال القندوزي: «ثمّ أمرهم (يزيد) بالرجوع إلى المدينة المنوّرة، فسار القائد بهم، وقال الإمام والنساء للقائد: بحقّ معبودك أن تدلّنا على طريق كربلاء، ففعل ذلك حتّى وصلوا كربلاء» «3».

ولا غرابة في الأمر فإنّ يزيد- كما روى ابن سعد في طبقاته- أمر الرسل الذين وجّههم معهم أن ينزلوا بهم حيث شاءوا ومتى شاءوا «4».

مَنْ هو أوّل زائر لقبر الحسين عليه السلام ..... ص : 277

روى ابن نما عن ابن عائشة قال: مرّ سليمان بن قتة العدوي مولى بني تميم بكربلاء بعد قتل الحسين عليه السلام بثلاث، فنظر إلى مصارعهم، فاتّكأ على فرس له عربيّة، وأنشأ:

مررت على أبيات آل محمّد فلم أرها أمثالها يوم حلّت

ألم تر أنّ الشمس أضحت مريضة لفقد حسين والبلاد اقشعرّت

وكانوا رجاءً ثمّ أضحوا رزيّة لقد عظمت تلك الرزايا وجلّت

وتسألنا قيس فنعطي فقيرها وتقتلنا قيس إذا النعل زلّت

وعند غني قطرة من دمائنا سنطلبهم يوماً بها حيث حلّت

فلا يبعد اللَّه الديار وأهلها وإنْ أصبحت منهم برغم تخلّت

فإنّ قتيل الطفّ من آل هاشم أذلّ رقاب المسلمين فذلّت

وقد اعولت تبكي السماء لفقده وأنجمنا ناحت عليه وصلّت «1»

قد يستدِلّ القائل بهذه الرواية أنّ سليمان بن قتة العدوي هو أوّل من زار قبر الحسين عليه السلام، حيث صرّح ابن نما أنّه زاره بعد قتل الحسين عليه السلام بثلاث.

وفيه: أوّلًا: هذا ممّا لم يقله أحد فيما نعرفه.

ثانياً: إنّ هذا القيد ممّا تفرّد به ابن نما، وأمّا بقيّة أرباب السير والتواريخ فقد اكتفوا

بذكر رثاء سليمان، من دون أن يقيّدوا ذلك بيوم «2»، ولا مكان «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 279

ثالثاً: الرواية تدلّ على مروره بكربلاء ونظره إلى مصارعهم. والمرور بها والنظر إلى المصرع أعمّ من أن يكون ذلك بقصد الزيارة أم لا، فهذا يختلف عمّا إذا نوى شخص زيارة قبر أبي عبداللَّه عليه السلام، ف «إنّما الأعمال بالنيّات» «1»

، وإنّما «لكلّ مرئٍ ما نوى» «2»

.رابعاً: إنّ لفظ المصرع أعمّ من أن يكون ناظراً إلى مكان استشهادهم أو إلى أجسادهم المطهّرة التي كانت ملقاة على الأرض، فهناك إجمال في هذه الناحية، إذ لو كان ذلك قبل دفن الأجساد المطهّرة فلا ينطبق عليه عنوان زيارة القبور، فشأنه شأن بني أسد الذين شاركوا في تدفين الشهداء، كما روي ذلك.

خامساً: إنّ في بعض الروايات أنّه قال ضمن تلك الأبيات:

وأنّ قتيل الطفّ من آل هاشم أذلّ رقاباً من قريش فذلّت

فقال له عبداللَّه بن حسن بن حسن: ويحك ألا قلت: أذلّ رقاب المسلمين فذلّت «3».

فلو علمنا أنّ عبد اللَّه بن الحسن لم يكن حاضراً في كربلاء في اليوم الثالث، فهذا يعني أنّه أنشدها متأخّراً، إلّاأن يقال: إنّه كرّر ما أنشده سابقاً بعد ذلك، واعترض عليه عبداللَّه بن الحسن المثنّى!

فالمتحصّل من جميع ذلك أنّه لا نتمكّن أن نعرّف سليمان بكونه أوّل من زار قبر الحسين عليه السلام. نعم، ربّما نتمكّن من أن نقول: هو أوّل من رثاه- من الشعراء- بعد مقتله عليه السلام، وقد كسب بذلك لنفسه شرفاً لا ينكر، خاصّة مع لحاظ ذلك الزمن المخوف، وغلبة الجور والظلم على الناس، ولأجله نرى أهمّية ما نقله أبو الفرج

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 280

الإصبهاني- بعد ذكره الأبيات- بقوله: وقد رثى الحسين بن عليّ- صلوات اللَّه عليه- جماعة من متأخّري

الشعراء. وأمّا من تقدّم فما وقع إلينا شي ء رثي به، وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك مخافة بني أُميّة وخشية منهم» «1».

فحينئذٍ لا ينطبق هذا العنوان إلّافي رجل شريف ذي معرفة كاملة، وهو ذلك الصحابي الجليل والعارف النبيل جابر بن عبداللَّه الأنصاري- رضوان اللَّه عليه- الذي رحل من المدينة المنوّرة إلى كربلاء لأجل زيارة سيّد الشهداء عليه السلام، فقد صرّح كثير من العلماء في كونه هو أوّل من اكتسب شرف عنوان زائر قبر الحسين عليه السلام، وكفاه شرفاً وكرامة وذخراً.

قال الشيخ المفيد: «وفي اليوم العشرين منه (صفر).. هو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبداللَّه بن حزام الأنصاري صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله، ورضي اللَّه تعالى عنه من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر سيّدنا أبي عبداللَّه عليه السلام، فكان أوّل من زاره من الناس» «2».

وبه قال الشيخ الطوسي «3» والعلّامة الحلّي «4» والشيخ رضيّ الدِّين علي بن يوسف بن المطهّر الحلّي «5» والكفعمي «6» والمجلسي «7» والمحدّث النوري «8» وغيرهم.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 281

جابر بن عبداللَّه الأنصاري وعطية العوفي في كربلاء ..... ص : 281

جابر بن عبداللَّه هو ذلك الصحابي الجليل الذي روى عنه عبد الرحمن بن سابط قال: «كنت مع جابر فدخل الحسين بن علي، فقال جابر: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا، فأشهد لسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقوله» «1».

فهو من أهل المعرفة، فإن فاتته السعادة بفوز الشهادة في ركاب سبط خاتم الرسالة، فليس بغريب عنه أن يشدّ الرحال لزيارة قبره الشريف إبرازاً لمحبّته إيّاه ومخالفته للسلطة وتجديداً للعهد والوفاء.

روى الشيخ أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم محمّد بن علي الطبري بإسناده عن الأعمش عن عطية العوفي قال:

«خرجت مع جابر بن عبداللَّه الأنصاري

زائرين قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات، فاغتسل، ثمّ ائتزر بأزار، وارتدى بآخر، ثمّ فتح صرّة فيها سعد، فنثرها على بدنه، ثمّ لم يخطُ خطوة إلّا ذَكر اللَّه تعالى، حتّى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه «2» فألمسته، فخرّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلمّا أفاق قال:" يا حسين" ثلاثاً، ثمّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 282

قال: حبيب لا يجيب حبيبه. ثمّ قال: وأنّى لك بالجواب، وقد شحطت أوداجك على أثباجك، وفرّق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنّك ابن خاتم النبيّين، وابن سيّد المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيّد النقباء، وابن فاطمة سيّدة النساء، ومالكَ لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين، وربيّت في حجر المتّقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفطمت بالإسلام، فطبت حيّاً، وطبت ميّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة لفراقك، ولا شاكّة في الخيرة لك، فعليك سلام اللَّه ورضوانه، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.

ثمّ جال بصره حول القبر وقال: السلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين، وأناخت برحله، وأشهد أنّكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم اللَّه حتّى أتاكم اليقين، والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال عطيّة: فقلت له: يا جابر، كيف؟ ولم نهبط وادياً، ولم نعلُ جبلًا، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فرّق بين رؤوسهم وأبدانهم، واوتمت أولادهم، وأُرملت أزواجهم!

فقال: يا عطيّة، سمعت حبيبي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: من أحبّ قوماً حُشر معهم، ومن أحبّ عمل قوم أُشرك في عملهم، والذي بعث محمّداً

بالحقّ نبيّاً، إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين عليه السلام وأصحابه، خذني نحو أبيات كوفان.

فلمّا صرنا في بعض الطريق قال: يا عطيّة، هل أوصيك وما أظنّ أنّني بعد هذه السفرة ملاقيك، أحبب محبّ آل محمّد صلى الله عليه و آله ما أحبّهم، وابغض مبغض آل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 283

محمّد ما أبغضهم وإنْ كان صوّاماً قوّاماً، وأرفق بمحبّ محمّد وآل محمّد، فإنّه إن تزلّ له قدم بكثرة ذنوبه ثبتت له اخرى بمحبّتهم، فإنّ محبّهم يعود إلى الجنّة، ومبغضهم يعود إلى النار» «1».

وفيه نقاط للتأمّل، منها:

1- معرفة عظمة جابر، وذلك عبر علوّ معرفته بمنزلة آل بيت محمّد صلى الله عليه و آله.

2- اتّخاذ موقف مهمّ لجابر، حيث إنّه عدّ أعداء الحسين عليه السلام من الملحدين.

3- أدب جابر تجاه أبي عبداللَّه عليه السلام، وذلك نتيجة لكمال معرفته، فلذلك نراه يغتسل، ثمّ ينثر السعد على بدنه، ثمّ يذكر اللَّه في كلّ خطوة، ثمّ لمسه القبر فوقوعه مغشيّاً عليه، وصياحه يا حسين ثلاثاً، ثمّ فقرات زيارته الدالّة على مدى معرفته تجاه الرسول ووصيّه وسبطه عليهم السلام.

4- المستفاد من هذا النقل أنّ جابراً يتّجه بعد زيارته نحو أبيات كوفان، ولم يذكر فيه شيئاً من ملاقاته للإمام زين العابدين عليه السلام وسائر أُسرة الحسين عليه السلام.

ويأتي تحقيق المقام.

ثمّ إنّ السيّد ابن طاووس أورد كيفيّة زيارة جابر قبر أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام وأصحابه الأوفياء مع تفاصيل أُخرى يستدعي ذكرها تماماً.

قال: «وقال عطا «2»: كنت مع جابر بن عبداللَّه يوم العشرين من صفر، فلمّا وصلنا الغاضرية اغتسل في شريعتها، ولبس قميصاً كان معه طاهراً، ثمّ قال لي:

أمعكَ شي ء من الطيب يا عطا؟ قلت: معي سعد، فجعل منه على رأسه وسائر

مع الركب الحسينى(ج 6)،

ص: 284

جسده، ثمّ مشى حافياً حتّى وقف عند رأس الحسين عليه السلام، وكبّر ثلاثاً، ثمّ خرّ مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق سمعته يقول:

السلام عليكم يا آل اللَّه، السلام عليكم يا صفوة اللَّه، السلام عليكم يا خيرة اللَّه من خلقه، السلام عليكم يا سادة السادات، السلام عليكم يا ليوث الغابات، السلام عليكم يا سفن النجاة، السلام عليك يا أبا عبداللَّه ورحمة اللَّه وبركاته.

السلام عليك يا وارث علم الأنبياء، السلام عليك يا وارث آدم صفوة اللَّه، السلام عليك يا وارث نوح نبيّ اللَّه، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل اللَّه، السلام عليك يا وارث إسماعيل ذبيح اللَّه، السلام عليك يا وارث موسى كليم اللَّه، السلام عليك يا وارث عيسى روح اللَّه، السلام عليك يا ابن محمّد المصطفى، السلام عليك يا ابن عليّ المرتضى، السلام عليك يا ابن فاطمة الزهراء، السلام عليك يا شهيد ابن الشهيد، السلام عليك يا قتيل ابن القتيل، السلام عليك يا وليّ اللَّه وابن وليّه، السلام عليك يا حجّة اللَّه وابن حجّته على خلقه.

أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وبررت والديك، وجاهدت عدوّك، أشهد أنّك تسمع الكلام، وتردّ الجواب، وأنّك حبيب اللَّه وخليله ونجيبه وصفيّه وابن صفيّه.

زرتك مشتاقاً، فكن لي شفيعاً إلى اللَّه، يا سيّدي، أستشفع إلى اللَّه بجدّك سيّد النبيِّين، وبأبيك سيّد الوصيّين، وبأُمّك سيّدة نساء العالمين، لعن اللَّه قاتليك وظالميك وشانئيك ومبغضيك من الأوّلين والآخرين.

ثمّ انحنى على القبر، ومرَّغ خدّيه عليه وصلّى أربع ركعات، ثمّ جاء إلى قبر عليّ بن الحسين عليهما السلام فقال: السلام عليك يا مولاي وابن مولاي، لعن اللَّه قاتلك، لعن اللَّه ظالمك، أتقرّب إلى اللَّه بمحبّتكم، وأبرأ إلى اللَّه من عدوّكم.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص:

285

ثمّ قبّله وصلّى ركعتين، والتفت إلى قبور الشهداء، فقال:

السلام على الأرواح المنيخة بقبر أبي عبداللَّه، السلام عليكم يا شيعة اللَّه وشيعة رسوله وشيعة أمير المؤمنين والحسن والحسين، السلام عليكم يا طاهرون، السلام عليكم يا مهديّون، السلام عليكم يا أبرار، السلام عيكم وعلى ملائكة اللَّه الحافّين بقبوركم، جمعني اللَّه وإيّاكم في مستقرّ رحمته تحت عرشه.

ثمّ جاء إلى قبر العبّاس ابن أمير المؤمنين عليهما السلام، فوقف عليه وقال:

السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا عبّاس بن عليّ، السلام عليك يا ابن أمير المؤمنين، أشهد لقد بالغت في النصيحة، وأدّيت الأمانة، وجاهدت عدوّك وعدوّ أخيك، فصلوات اللَّه على روحك الطيّبة، وجزاك اللَّه من أخٍ خيراً.

ثمّ صلّى ركعتين ودعا اللَّه ومضى» «1».

إنّ هذه الزيارة تدلّ على مدى عظمة ومعرفة وجلالة هذا الصحابي الجليل.

ثمّ إنّه متى التحق عطية بجابر؟ هل كان عطية في الحجّ- تلك السنة- ثمّ اصطحبه جابر؟ أو أنّ جابراً جاء إلى الكوفة وأتيا معاً لزيارة قبر الحسين عليه السلام؟ هذا ممّا لم يتيسّر لنا تحقّقه.

بيان شخصيتيهما ..... ص : 285

1- جابر بن عبداللَّه بن عمرو بن حزام الأنصاري: روى الكشّي أنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام «2»، ...، وهو آخر من بقي من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله وكان منقطعاً إلى آل البيت عليهم السلام، وكان يقعد في المسجد وهو معتمّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 286

بعمامة سوداء وينادي:" يا باقر العلم" «1»، وكان يتوكّأ على عصاه ويدور في سكك المدينة ويقول:" عليّ خير البشر" «2». وكان شيخاً قد أسنّ فلم يتعرّض الحجّاج له» «3».

وقال المحدّث النوري: «هو من السابقين الأوّلين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وحامل سلام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

إلى باقر علوم الأوّلين والآخرين، وأوّل من زار أبا عبداللَّه الحسين عليه السلام في يوم الأربعين، المنتهى إليه سند أخبار اللوح السمائي الذي فيه نصوص من اللَّه ربّ العالمين، على خلافة الأئمّة الراشدين، الفائز بزيارته من بين جميع الصحابة عند سيّدة نساء العالمين، وله بعد ذلك مناقب أُخرى وفضائل لا تحصى» «4».

وذكره المحدّث القمّي قال: «صحابيّ جليل القدر، وانقطاعه إلى أهل البيت عليهم السلام، وجلالته أشهر من أن تذكر، مات سنة 78 ه، والروايات التي يظهر منها فضله كثيرة جدّاً». ثمّ ذكر بعضها، فقال بعد ذلك: «أقول: حكي عن" أُسد الغابة" أنّه قال في جابر رضى الله عنه: إنّه شهد مع النبيّ ثمان عشرة غزوة وشهد صفّين مع عليّ بن أبي طالب، وعُمي في آخر عمره.. وهو آخر من مات بالمدينة ممّن شهد العقبة. إلى أن قال: وكان من المكثرين للحديث، الحافظين للسنن، وقال الشيخ رحمه الله: إنّه شهد بدراً وثماني عشرة غزوة مع النبيّ، قلت: وهذا يطابق قول جابر: شاهدت منها تسعة عشر، واللَّه العالم» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 287

وذكر السيّد الخوئي أنّه شهد بدراً وثماني عشرة غزوة مع النبيّ صلى الله عليه و آله، من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومن أصفياء أصحاب عليّ عليه السلام، ومن شرطة خميسه، ومن أصحاب الحسن والحسين والسجّاد والباقر عليهم السلام، جليل القدر.. روى الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر عليه السلام قوله: «ولم يكذب جابر» «1»

. «2»

2- عطيّة بن سعد بن جنادة العوفي من جديلة قيس

ويكنّى أبا الحسن قاله المحدّث القمّي، وقال:

«عطيّة العوفي أحد رجال العلم والحديث يروي عنه الأعمش وغيره، وروي عنه أخبار كثيرة في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.. وهو الذي تشرّف

بزيارة الحسين عليه السلام مع جابر الأنصاري الذي يعدّ من فضائله أنّه كان أوّل من زاره ... روي أنّه جاء سعد بن جنادة إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو بالكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين إنّه قد ولد لي غلام فسمّه، فقال: هذا عطيّة اللَّه، فسمّي عطية، وكانت امّه روميّة، وخرج عطيّة مع ابن الأشعث «3»، هرب عطية إلى فارس، وكتب الحجّاج إلى محمّد بن القاسم الثقفي أن ادع عطيّة، فإن لعن عليّ بن أبي طالب وإلّا فاضربه أربعمائة سوط واحلق رأسه ولحيته، فدعاه وأقرأه كتاب الحجّاج، وأبى عطية أن يفعل، فضربه أربعمائة سوط، وحلق رأسه ولحيته، فلمّا ولّي قتيبة بن مسلم خراسان خرج إليه عطية، فلم يزل بخراسان حتّى ولّي عمر بن هبيرة العراق،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 288

فكتب إليه عطيّة يسأله الإذن له في القدوم، فأذن له، فقدم الكوفة فلم يزل بها إلى أن توفّي سنة 111 وكان كثير الحديث ثقة إن شاء اللَّه، انتهى.

عن" ملحقات الصراح" قال: عطيّة العوفي بن سعيد (سعد ظ) له تفسير في خمسة أجزاء. قال عطيّة: عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاث عرضات على وجه التفسير، وأمّا على وجه القراءة فقرأت عليه سبعين مرّة، انتهى.

ويظهر من كتاب بلاغات النساء أنّه سمع عبداللَّه بن الحسن يذكر خطبة فاطمة الزهراء عليها السلام في أمر فدك فراجع» «1».

قال ابن نما: «ولمّا مرّ عيال الحسين عليه السلام بكربلاء وجدوا جابر بن عبداللَّه الأنصاري رحمه الله وجماعة من بني هاشم قدموا لزيارته في وقت واحد، فتلاقوا بالحزن والاكتئاب والنوح على هذا المصاب المقرح لأكباد الأحباب» «2».

قال السيّد ابن طاووس: «فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبداللَّه الأنصاري رحمه الله وجماعة من بني هاشم

ورجالًا من آل الرسول صلى الله عليه و آله قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام، فوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم» «3».

إقامة العزاء على أرض الطف ..... ص : 288

أقام الركب الحسيني مجلس العزاء في أرض المعركة وهي الطفّ، وذلك بعد إقامته في الشام، وبذلك صارت سنّة حسنة استمرّت من ذلك الحين إلى الآن، وأمّا المجلس الذي أُقيم بكربلاء فقد تبنّاه أهل بيت الحسين عليهم السلام الذين شهدوا بأعينهم عمق المأساة والفاجعة بأعينهم، وقد حضرها جابر بن عبداللَّه الأنصاري «4» وجماعة من بني هاشم ورجال من آل الرسول صلى الله عليه و آله أتوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 289

واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد، وأقاموا أيّاماً، وفي بعض التواريخ استمرّت ثلاثة أيّام.

قال السيّد: «وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد، وأقاموا على ذلك أيّاماً» «1».

وروى القندوزي عن أبي مخنف: «فأخذوا بإقامة المآتم إلى ثلاثة أيّام» «2».

التحقيق حول الأربعين ..... ص : 289
اشارة

لقد وقع الخلاف في زمن مجي ء أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء؛ هل كان ذلك في الأربعين الأولى؟ أم الثانية؟ أم غيرهما.

أمّا أصل مجيئهم إلى كربلاء فلا ينبغي الريب فيه، إذ إنّه- مضافاً إلى إمكانه- مذكور في كثير من الكتب المعتبرة، وعدم تصريح بعض الكبار من العلماء لا يكون تصريحاً بالعدم، إذ أنّه أعمّ.

وأمّا زمن المجي ء فقد وقع الخلاف فيه، فذهب فريق إلى كونه في الأربعين الأوّل، ونفى فريق إمكان وقوعه فيه وقالوا إنّ المدّة لا تكفي فلابدّ أن يكون بعد ذلك ولكن ليس في الأربعين الثاني، بل فيما بينهما.

أمّا كونه في الأربعين الثاني (أي في سنة 62 ه) فبعيد جدّاً، وإن ذكره بعض «3» ولكن لا يمكن الالتفات إليه.

أمّا الفريق الأوّل (أعني القائلين بأنّ الرجوع كان في الأربعين الأوّل) فمنهم:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 290

1- أبو ريحان البيروني، قال: «العشرون (من صفر) رُدّ رأس الحسين إلى جثّته حتّى دُفن مع جثّته، وفيه زيارة الأربعين، وهم

حرمه بعد انصرافهم من الشام» «1».

2- الشيخ البهائي، قال: «التاسع عشر (من صفر) فيه زيارة الأربعين لأبي عبداللَّه عليه السلام، وهي مرويّة عن الصادق عليه السلام، وقتها عند ارتفاع النهار، وفي هذا- وهو يوم الأربعين من شهادته عليه السلام- كان قدوم جابر بن عبداللَّه الأنصاري رضى الله عنه لزيارته عليه السلام، واتّفق في ذلك اليوم ورود حرمه عليه السلام من الشام إلى كربلاء، قاصدين المدينة، على ساكنها السلام والتحيّة» «2».

3- العلّامة المجلسي رحمه الله، فقد نقل الشهرة بين الأصحاب، وقال حول علّة استحباب زيارة الحسين صلوات اللَّه عليه في يوم الأربعين: «والمشهور بين الأصحاب أنّ العلّة في ذلك رجوع حرم الحسين- صلوات اللَّه عليه- في مثل ذلك اليوم إلى كربلاء عند رجوعهم من الشام، وإلحاق عليّ بن الحسين- صلوات اللَّه عليه- الرؤوس بالأجساد» «3».

4- الشهيد القاضي الطباطبائي، فإنّه أتعب نفسه الزكيّة لإثبات هذه المسألة، وقد أتى بكتاب ضخم حول هذا الموضوع، وسنتعرّض إلى ملخّص ما استدلّ به حينما نذكر أدلّة المحدّث النوري.

وهناك من العلماء- رحمهم اللَّه- من لم يتعرّض لذلك مطلقاً كالشيخ المفيد «4»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 291

والحلّي «1» والكفعمي «2»، فإنّهم اكتفوا بذكر رجوع أهل البيت من الشام إلى المدينة، ولم يذكروا شيئاً من وصولهم إلى كربلاء.

وبعضهم قد توقّف في المسألة، ولم يختر أيّ الجانبين، مثل جدّنا آية اللَّه الفقيه الشيخ الطبسي النجفي، حينما قال: «إنّما البحث في أنّهم أتوا إلى كربلاء في الأربعين الأولى أو في السنة المقبلة، مقتضى ظاهر بعض أنّه كان في السنة الاولى، وظاهر عبارة ابن طاووس في اللهوف كذلك.. وفي الناسخ أنّه ليس لنا خبر صريح في ذلك، بل قال: مجي ء آل اللَّه سنة الشهادة محال، ولكن مجي ء جابر وجماعة

من بني هاشم في الأربعين الأوّل بلا إشكال، وأمّا الشيخ عماد الدِّين حسن بن علي الطبري الذي كان معاصراً للخواجة نصير الدِّين الطوسي في كامل البهائي: أنّ آل الرسول دخلوا دمشق في السادس عشر من ربيع الأوّل، وإلحاق الرأس الشريف به كما في الناسخ كان في العشرين من شهر صفر في الأربعين الثاني، والذي يقول بالثاني إنّ مكثهم في الكوفة ما كان بنحو الاختصار، ثمّ بعد ذلك مرورهم في الأمصار والبلدان والقرى وتوقّفهم في قرب «ميافارقين» عشرة أيّام، وثلاثة أيّام في النصيبين، وثلاثة أيّام في خارج الشام، مع وقوفهم في الكوفة في الحبس وغيره ما يقرب من عشرين يوم، فكيف وصلوا في عشرين صفر من السنة الأولى التي وقعت فيها الشهادة، والعلم عند اللَّه، وما كان البناء في رواحهم ومجيئهم من الشام إلى كربلاء بطريق الإعجاز، فعليه أنا من المتوقّفين في ذلك، ولكنّ المشهور عند عوامّ الناس في السنة الاولى، مع أنّ ظاهر عدّة التواريخ أنّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 292

توقّفهم في الشام لا يقلّ من شهر» «1».

وقد نفى ذلك بعض العلماء واستبعده جدّاً، ومنهم:

1- السيّد ابن طاووس: قال في" إقبال الأعمال": «وجدت في" المصباح":

أنّ حرم الحسين عليه السلام وصلوا المدينة مع مولانا عليّ بن الحسين عليه السلام يوم العشرين من صفر، وفي غير" المصباح": أنّهم وصلوا كربلاء أيضاً في عودهم من الشام يوم العشرين من صفر، وكلاهما مستبعد، لأنّ عبيداللَّه بن زياد- لعنه اللَّه- كتب إلى يزيد يعرّفه ما جرى ويستأذنه في حملهم، ولم يحملهم حتّى عاد الجواب إليه، وهذا يحتاج إلى نحو عشرين يوماً أو أكثر منها، لأنّه لمّا حملهم إلى الشام روي أنّهم أقاموا فيها شهراً في موضع لا يكنّهم من حرٍّ ولا برد،

وصورة الحال يقتضي أنّهم تأخّروا أكثر من أربعين يوماً من يوم قُتل عليه السلام إلى أن وصلوا العراق أو المدينة، وأمّا جوازهم في عودهم على كربلاء فيمكن ذلك، ولكنّه ما يكون وصولهم إليها يوم العشرين من صفر، لأنّهم اجتمعوا على ما روى جابر بن عبداللَّه الأنصاري، فإن كان جابر وصل زائراً من الحجاز، فيحتاج وصول الخبر إليه ومجيئه أكثر من أربعين يوماً، وعلى أن يكون جابر وصل من الحجاز من الكوفة أو غيرها [كذا] انتهى» «2».

وفيه: أنّه لم نعثر في «المصباح»: (أنّ حرم الحسين عليه السلام وصلوا المدينة يوم العشرين من صفر)، وإنّما فيه: «أنّه كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول في اليوم العشرين من صفر» «3».

وقلنا آنفاً أنّه لو كان المقصود هو مبدأ الرجوع- لا الوصول والدخول فيها-

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 293

فحينئذٍ يكون المراد أنّه كان يوم الانطلاق من الشام، فلا مجال لأحد الاستبعادين.

2- العلّامة المجلسي، فإنّه قال: «فائدة: اعلم أنّه ليس في الأخبار ما العلّة في استحباب زيارته- صلوات اللَّه عليه- في هذا اليوم- الأربعين-؟، والمشهور بين الأصحاب أنّ العلّة في ذلك رجوع حرم الحسين- صلوات اللَّه عليه- في مثل ذلك اليوم إلى كربلاء عند رجوعهم من الشام، وإلحاق عليّ بن الحسين- صلوات اللَّه عليه- الرؤوس بالأجساد، وقيل: في مثل ذلك اليوم رجعوا إلى المدينة، وكلاهما مستبعدان جدّاً، لأنّ الزمان لا يسع ذلك، كما يظهر من الأخبار والآثار، وكون ذلك في السنة الأُخرى أيضاً مستبعد» «1».

واستبعدهما في زاد المعاد «2»، وما علّقناه حول كلام السيّد جارٍ هنا أيضاً.

3- المحدّث النوري فإنّه استبعده بالمرّة، وذكر أدلّة لا بأس بها في الجملة، سنذكرها في المبحث الآتي «القضاء بين

المحدّث النوري والقاضي الطباطبائي».

4- المحدّث القمّي، فإنّه قدس سره من المستبعدين والمنكرين لذلك أيضاً «3».

5- الشيخ محمّد إبراهيم الآيتي، فإنّه نفاه وعدّه من الأساطير التاريخية! «4».

6- الشهيد المطهري فإنّه رضي اللَّه عنه، نفى خبر لقاء أهل البيت مع جابر بجدّ، وقال: المتفرّد بذلك هو السيّد ابن الطاووس في اللهوف، ولم يذكره أحد غيره، حتّى أنّ السيّد لم يذكره في سائر كتبه أيضاً، والدليل العقلي يرفضه أيضاً «5».

وفيه: إن كان مقصوده- رضوان اللَّه عليه- من إنكار اللقاء، عدم حصوله في

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 294

خصوص يوم الأربعين- كما هو المترائي من ظاهر عبارته، خاصّة مع ضمّه الدليل العقلي لذلك- فإنّ السيّد ابن طاووس لم يقله حتّى في اللهوف، وإن كان المقصود إنكار أصل اللقاء فإنّ السيّد ليس المتفرّد في هذه القضيّة، فإنّ هناك كباراً من العلماء نجدهم قد صرّحوا بذلك؛ منهم: الشيخ ابن نما الذي كان معاصراً للسيّد «1» والشيخ البهائي «2» والسيّد ابن أبي طالب «3» والعلّامةالمجلسي «4» والقندوزي «5» وغيرهم.

ويأتي القول المختار في الموضوع.

القضاء بين المحدّث النوري والقاضي الطباطبائي ..... ص : 294
اشارة

ذكرنا الأقوال في المسألة، وأشرنا إلى أنّ المحدّث النوري كان من المنكرين للرجوع في الأربعين الأوّل، بينما كان الشهيد القاضي من الذاهبين لإثباته، لكنّ لمّا كان هذين العلمين الحجّتين متحمّسين في رأيهما ويقدّمان الأدلّة على ما يذهبان إليه، فإليك مجمل ما أفاداه، والنظر المختار فيه:

1- مع المحدّث النوري ..... ص : 294
اشارة

قال المحدّث النوري:

«إنّ السيّد ابن طاووس والذي روى خبر لقاء أهل البيت مع جابر بن عبداللَّه الأنصاري، ألّف كتاب اللهوف في أوان تكليفه وبداية شبابه، ويدلّ عليه اثنان:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 295

1) إنّه أسقط ذكر المأخذ والإسناد فيه وفي مصباح الزائر، وهو خلاف سيرته وطريقته في سائر كتبه الموجودة، وليس هناك وجه إلّاعدم إتقانه التامّ وقلّة اطّلاعه في حين تأليف هذين الكتابين، وكذلك في كتابه الآخر المسمّى بالمجتنى فحينئذٍ لو ورد إشكال على كتابه فلا ينافي شخصيّته وعظمته وعلوّ مقامه وطول باعه وكثرة اطّلاعه في الأحاديث والآثار، لأنّها حصلت تدريجيّاً وعلى مرّ الزمان.

2) إنّ السيّد قد صرّح في إجازاته أنّه كتب مصباح الزائر في بداية التكليف «1»، وقال في أوّل اللهوف: إنّ من أجلّ البواعث لنا على سلوك هذا الكتاب «2» أنّني لمّا جمعت كتاب (مصباح الزائر وجناح المسافر) ورأيته قد احتوى على أقطار الزيارات ومختار أعمال تلك الأوقات؛ فحامله مستغنٍ عن نقل مصباح لذلك الوقت الشريف أو حمل مزار كبير أو لطيف، أحببت أيضاً أن يكون حامله مستغنياً عن نقل مقتل في زيارة عاشوراء إلى مشهد الحسين صلوات اللَّه عليه، فوضعت هذا الكتاب ليُضمّ إليه» «3».

مناقشة مقدّمتي النوري ..... ص : 295

فمقصود المحدّث النوري من هاتين المقدّمتين أنّ السيّد ابن طاووس كتب اللهوف- وهو المصدر الأقدم في المسألة- في سنّ مبكّرة وفي وقت عدم تضلّعه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 296

التامّ، فلا يركن إليه في هذه المسألة.

وفي كليهما وجوه للنظر:

1- إنّ إسقاطه المأخذ والإسناد ليس ناشئاً عن عدم إتقانه التامّ وقلّة اطّلاعه- كما قال- بل لمّا كان قصد المؤلّف تأليف كتاب صغير الحجم كثير الموضوع قابل للحمل في مشهد الحسين عليه السلام وغيره فلابدّ له أن يفعل ذلك، وإلّا يكون ذلك نقضاً للغرض،

ولكان الأجدر الاكتفاء بالمطوّلات كمصباح الشيخ.

2- قال السيّد (ابن طاووس) في إجازاته: «ممّا ألّفته في بداية التكليف من غير ذكر الأسرار والتكشيف كتاب مصباح الزائر وجناح المسافر ثلاث مجلّدات» «1»، ثمّ ذكر سائر كتبه، وقال في آخر ما ذكره من تصانيفه: «وصنّفت كتاب الملهوف على قتلى الطفوف ما عرفت أنّ أحداً سبقني إلى مثله، ومن وقف عليه عرف ما ذكرته من فضله» «2»، فربما الناظر إلى هذه العبارة يستشفّ منها أنّ اللهوف هو آخر ما صنّفه، لما في جعله آخر تصانيفه، ومع عدم قبول ذلك فالمتيقّن أنّ هذه الشهادة منه على مضمون الكتاب حصلت في مرحلة كمال عمره الشريف، وبعد فراغه من كثير من تصانيفه، فإذن لا يناسب ذلك الكلام في حقّ هذا الكتاب.

3- إنّ المحدّث النوري قد صرّح في كتابه هذا بأنّ" مصباح الزائر" من الكتب المعتبرة «3»! وهذان لا يجتمعان.

4- ثمّ إنّ ضمّه إلى" مصباح الزائر" ليس دليلًا على كتابته في أوان التكليف،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 297

بل المؤلّف رأى حسن ذلك فيما بعد، كما صرّح بذلك نفسه.

5- أضف إلى ذلك أنّ تأليف الكتب من مثل هؤلاء في هذا السنّ المبكِّرة هو عناية إلهيّة خاصّة لمن يشاء من خيار عباده، ولذلك نجد كباراً من العلماء القدماء مجتهدين في أوان التكليف أو قبله.

6- إنّ السيّد ليس المتفرّد بذلك، بل هذا العلّامة الجليل الفقيه ابن نما الحلّي (567- 645 ه)- الذي قال المحقّق الكركي عنه: وأعلم العلماء بفقه أهل البيت «1»- ذكر خبر اللقاء أيضاً، ولا يقول أحد إنّه كتبه في أوان تكليفه! وإنّه ناش عن كذا وكذا. وهو متقدِّم زمنيّاً على السيّد ابن طاووس، إذ كانت ولادة السيّد رحمه الله سنة 589 ه ووفاته سنة 664،

بينما ولد ابن نما في سنة 567 وتوفّى سنة 645، فولادته كانت قبل السيّد ب 22 سنة، واتّفق وفاته قبل وفاة السيد ب 21 سنة.

فتحصّل أنّ صدور هذا اللحن من الخطاب من مثل هذا المحدّث في شأن ذلك العالم الكبير غير مناسب.

7- لقد أجابه الشهيد القاضي الطباطبائي بقوله ما ملخّصه:

(إنّ هذه المسألة ليس قائلها السيّد ابن طاووس في اللهوف فحسب، بل هناك أبو ريحان البيروني المتوفى عام 440 قد صرّح بذلك، وعليه شهرة الأصحاب من الإمامية- التي ادّعاها العلّامة المجلسي- ومورد وفاق العلماء من القرن الأوّل إلى القرن السابع، وأوّل من استشكل فيها السيّد ابن طاووس في الإقبال، ومن المتأخِّرين المحدّث النوري) «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 298

إذن تخرج المسألة عن كونها في إطار نقل راوٍ مجهول نقل في سنّ مبكِّر من العمر، بل هناك جذور للمسألة. نعم، سوف نذكر بعض الملاحظات على كلام الشهيد القاضي الطباطبائي.

المحدّث النوري يستدلّ بسبع نقاط ..... ص : 298

ثمّ إنّ المحدّث النوري قال:

«وصول أهل البيت في الأربعين (الاولى) إلى كربلاء- بناءً على ما ذكره السيّد في اللهوف- منافٍ لأمور كثيرة وأخبار عديدة وتصريح عدّة من العلماء، منها:

1- إنّ السيّد في الإقبال- بعد إشارته إلى ما ذكره في اللهوف سابقاً- قد استبعد ذلك.

ثمّ نقل المحدّث النوري ما ذكرناه عن الإقبال فيما مضى، وقال بعده:

هذا ملخّص ما أفاده في الإقبال، والعجب منه أنّه يذكر في اللهوف قضيّة استئذان ابن مرجانة من يزيد حول مسألة الأسارى، وحملهم إلى الشام بعد ذلك، ومع ذلك نقل تلك القصّة (أي اجتماعهم مع جابر في يوم الأربعين) وهما لا يجتمعان.

2- إنّ أحداً من أجلّاء فنّ الحديث والمعتمدين من أهل السير والتاريخ لم يذكروا ذلك في كتبهم، مع أنّه في غاية الأهمّية وجدير بالذكر، بل المستفاد

من سياق كلامهم إنكارهم له.

ثمّ ذكر خبر المفيد في الإرشاد حول أمر يزيد بتجهيز أهل بيت الحسين إلى المدينة، إلى أن قال:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 299

فسار معهم في جملة النعمان ولم يزل ينازلهم في الطريق ويرفق بهم كما وصّاه يزيد ويرعاهم حتّى دخلوا المدينة، ومن البعيد أن يرى المفيد خبراً يعتمد عليه حول ذهابهم إلى كربلاء ولقائهم جابراً وإقامتهم العزاء على الحسين عليه السلام ولم يشر إليه، وكذا الطبري في تاريخه الذي يعدّ من التواريخ المعتبرة، وابن الأثير في الكامل لم يذكرا شيئاً من الرجوع إلى كربلاء «1».

3- قال الشيخ المفيد في (مسار الشيعة) في ضمن وقائع شهر صفر: وفي اليوم العشرين منه كان رجوع حرم سيّدنا ومولانا أبي عبداللَّه عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبداللَّه الأنصاري صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر سيّدنا أبي عبداللَّه عليه السلام فكان أوّل من زاره [من المسلمين] ويستحبّ زيارته «2» وذكر نحوه الشيخ الطوسي في مصباح المتهجّد (730)، والعلّامة الحلّي في منهاج الصلاح، والكفعمي في موضعين من مصباحه (489 و 510). وظاهر العبارة أنّه يوم خروجهم من الشام لا ورودهم المدينة كما توهّمه بعض، لأنّ السير من الشام إلى المدينة الذي يزيد على مائتي فرسخ، لا يتعارف أن يكون أقلّ من شهر، خاصّة مع

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 300

ملاحظة أمر يزيد لنعمان (برعاية حالهم في الطريق) واختلاف العبارة يدلّ على المراد، إذ لو كان المقصود واحداً لما غيّر التعبير ولاكتفى بكلمة الرجوع، بينما نجد استعمال كلمتين في المقام وهما الرجوع والورود، وعلى أيّ حال فهذه الكلمات صريحة في عدم

مجيئهم إلى كربلاء! وإلّا لكان ذكره في أحداث شهر صفر أجدر، وذلك لجهات متعدّدة.

4- إنّ تفصيل ورود جابر إلى كربلاء مذكور في كتابين معتبرين وهما «بشارة المصطفى» للشيخ عماد الدِّين أبي القاسم الطبري- الذي هو من نفائس الكتب الموجودة- و «مصباح الزائر» للسيّد ابن طاووس، وليس فيهما ذكر عن ورود أهل البيت إلى كربلاء وحصول اللقاء مع جابر، بل المستفاد أنّ الزيارة لم تكن إلّاساعات عديدة، فمن المستبعد عادةً أن يحصل اللقاء ولم يذكره عطيّة، هذا مضافاً إلى أنّه لا أظنّ أن يقبل ذو العقل السليم بأن يأتي الإمام السجّاد عليه السلام- ويكون ذلك أوّل زيارته لقبر أبيه في الظاهر- ولم يُنقل عنه كلام ولا زيارة، وتُنقل الزيارة التي تعمل بها الشيعة عن جابر.

5- «إنّ أبا مخنف لوط بن يحيى من كبار المحدّثين والمعتمد عند أرباب السير والتواريخ، ومقتله في غاية الاعتبار، إلّاأنّه لم يوصل أصل مقتله بأيدينا، والموجود حالياً المنسوب إليه مشتمل على بعض المطالب المنكرة المخالفة لأصول

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 301

المذهب التي أدخلها الأعداء والجهّال لأغراض فاسدة، فهو ساقط عن الاعتماد والاعتبار ولا يمكن الوثوق على منفرداته، ولذلك لم ننسب خبر ورود أهل البيت إلى كربلاء في الأربعين إليه، مع أنّ الموجود فيه هو نحو ما مرّ عن اللهوف،.. هذا، ولكن مع ذلك نجد أنّ الموجود في هذا المقتل- مع كثرة النسخ المختلفة- اتّفاق (في جميع نسخه) على أنّه كان سير أهل البيت من الكوفة نحو الشام من طريق تكريت والموصل ونصيبين وحلب المعبّر عنه بالطريق السلطاني الذي كان معموراً ومارّاً بكثير من القرى والمدن المعمورة، وهناك ما يقرب بأربعين منزلًا من الكوفة إلى الشام، وحصلت قضايا عديدة وبعض الكرامات في الطريق بحيث لا

يمكن ادّعاء دسّ جميعها وجعلها بواسطة الوضّاعين، خصوصاً مع عدم وجود الداعي على وضع بعضها.

أضف إلى ذلك أنّ هناك شواهد كثيرة على كون تسييرهم من الطريق السلطاني، منها ما ذكر في سائر الكتب المعتبرة مثل مناقب ابن شهرآشوب حول قصّة دير راهب قنسرين، وبروز الكرامات الباهرة من الرأس الشريف، وقنسرين يقع بمنزل من حلب، وخرّب سنة 351 حين إغارة الروم.

ومنها: قصّة يحيى اليهودي الحراني وسماعه تلاوة الرأس آيات من القرآن، ثمّ إسلامه وشهادته كما نقله الفاضل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 302

المتبحِّر الجليل السيّد جلال الدِّين في روضة الأحباب، وقال إنّ هناك قبر يحيى المعروف بيحيى الشهيد، والدُّعاء عند رأسه مستجاب، والحران يطلق على موضعين الأوّل:

بلد في شرقي الفرات من بلاد الجزيرة (وهي ما بين الفرات ودجلة)، الثاني: قرية من توابع حلب، وكلاهما محتمل.

وكذا تصريح العالم الجليل البصير عماد الدِّين الطبرسي (الطبري) في كتابه كامل السقيفة المعروف ب (كامل بهائي) في أنّ مرور الأسرى من آل البيت عليهم السلام من آمِد وموصل ونصيبين وبعلبك وميّافارقين وشيرز، و" آمد" على ساحل دجلة مثل موصل، و" بعلبك" على ثلاث منازل من الشام، و" ميافارقين" في قرب ديار بكر من بلاد الجزيرة، و" شيزر" بقرب حماة بين حلب والشام، وذُكر بعض القصص والحكايات في هذه المنازل، وموضع الرأس الشريف في «معرّة» من قرى" حلب" كما ذكره بعض العلماء الأعلام وذكروا ما حصل فيها ومعاملة أهلها مع جيش ابن زياد.

كما أنّ الفاضل الألمعي ملّا حسين الكاشفي في «روضة الشهداء» ذكر قضايا عديدة حين عبورهم من تلك المنازل وغيرها.

وليس الغرض من ذكر هذه الشواهد التمسّك والاستشهاد بكلّ واحد منها، وإن كان بعضها في غاية الاعتبار، ولكن الغرض أنّ المنصف يحصل على اطمئنان تامّ

بأنّ المسير

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 303

كان في هذا السير- أي السلطاني- مضافاً على أنّه لم نجد معارضاً ومخالفاً له من الأخبار وكلمات الأصحاب إلى زماننا هذا.

وحينما يتأمّل العاقل ويلاحظ السير من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ثمّ إلى كربلاء، مع ملاحظة لبثهم أقلّ الأيّام في كلا البلدين (الكوفة والشام) يعدّ رجوعهم في الأربعين من الممتنعات.

ومع الإغماض عمّا ذكر، لو فرض أنّ السير كان من البرية وفي غربي الفرات، فمع التأمّل يصدق الامتناع والاستبعاد أيضاً، لأنّ الفاصلة بين الكوفة إلى الشام- بخط مستقيم- يكون 175 فرسخاً، ونعلم أنّهم وصلوا الكوفة في 12 من المحرّم، وكان المجلس المشؤوم في 13 منه، وذهاب القاصد منها إلى الشام ورجوعه منها إليها- في مسألة استئذان ابن مرجانة من يزيد وحمله الأسرى إليه من بعد وصول جوابه كما ذكره السيّد في اللهوف وابن الأثير في الكامل- لا يقلّ من عشرين يوماً، كما في الإقبال.

وأمّا ما احتمله بعض الأفاضل في حواشيه على مزار البحار من وقوع الاستئذان وجواب يزيد بواسطة الحمام فاسد، لعدم تداوله في عصر بني أُميّة وبداية حكم بني العبّاس، بل على ما صرّح به شهاب الدِّين أحمد بن يحيى بن فضل اللَّه العمري في كتاب التعريف أنّ أصل تلك النوع من الحمام-

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 304

الذي يعبّر عنه بحمام الهدى وحمام الرسائلي من الموصل، وكان موضع اعتناء هامّ عند ملوك الفاطميّين، وأوّل من نقله من الموصل هو نور الدِّين محمود بن زنگي في سنة 565.

وبالجملة مع ملاحظة ما ذكر عن الإقبال حول حبسهم في الشام شهراً، وإقامتهم العزاء سبعة أيّام بعد خروجهم عن الحبس- كما في كامل البهائي-، ولبثهم عشرة أيّام في منزل يزيد على ما ذكره محمّد بن جرير

الطبري في تاريخه، وسيرهم مع نهاية الإجلال والإكرام والتأنّي والوقار ليلًا من الشام- كما ذكره الشيخ المفيد وغيره-، (فوصولهم في الأربعين غير ممكن)، فلو فرض أن يسيروا كلّ ليلة ثمانية فراسخ على ذلك الخطّ المستقيم، لاستمرّ السير نحو 22 يوماً، مع أنّ السير فيه غير ميسّر، لقلّة المياه فيه، خاصّة لتلك المسيرة الحافّة بالنساء والأطفال.

6- لو كان وصول الإمام السجّاد عليه السلام وجماعة من بني هاشم وتشرّفهم لزيارة قبر أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام في يوم واحد، بل في وقت واحد، لما كان مناسباً أن يعدّ جابر أوّل زائر قبره، ويجعل ذلك من مناقبه، كما قاله الشيخ المفيد في مسار الشيعة والكفعمي في مصباحه «1».

7- لا يخفى على الناظر في كتب المقاتل أنّه بعدما أبرز يزيد الندامة الظاهرية وعرض على آل البيت الخيار في البقاء أو

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 305

الرجوع وطلبهم الرجوع، تركوا الشام قاصدين المدينة، ولم يكن هناك ذكر عن العراق وكربلاء، ولم يكن البناء على الذهاب لذك الصوب، والمسموع من المتردّدين أنّ طريق الشام إلى العراق يختلف من طريق الشام نحو المدينة ويتمايز في الشام نفسه، فلم يكن هناك قدر مشترك في السير، وهو معلوم لمن يلاحظ اختلاف طول هذه البلاد، فبناءً عليه من يرد العراق فلابدّ أن يسير على خط العراق من الشام نفسه، ولو كان تركهم الشام قاصدين العراق- كما هو ظاهر اللهوف- من دون اطّلاع وإذن يزيد فهذا غير ميسّر، ولابدّ أن يعرضوا ذلك عليه في المجلس، ولا يظنّ أنّه لو عرضوا طلبهم الذهاب إلى العراق- الذي لم يكن القصد إلّازيارة التربة المقدّسة- لرضى بذلك وأذِن، وذلك لخبث سريرته، ودناءة طبعه، وهو الذي أعطى مائتي دينار وقال: هذا عوض ما أصابكم،

فكيف يرضى بأن يزداد في مصارف السفر؟!

فكيف كان، إنّ هذا الاستبعاد يسقط الوثوق بالمرّة عن ذلك الراوي المجهول الذي روى عنه في اللهوف، ومع ضمّه لتلك الشواهد المتقدّمة يخرب أساس احتمال ورودهم بكربلاء في الأربعين، من أساسه «1».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 306

مناقشتنا للمحدّث النوري ..... ص : 306

مناقشة النقطة الأولى:

إنّ السيّد في اللهوف لم يصرّح بحصول اللقاء في خصوص يوم الأربعين، بل ذكر خبر اللقاء فقط، كما ذكره ابن نما أيضاً، ويأتي وجه عدم منع اجتماعهما.

مناقشة النقطة الثانية:

أوّلًا: لقد أجاب الشهيد القاضي حول عدم ذكر الشيخ المفيد لذلك: أنّ بناءه كان هو نقل ما وصل إليه مسنداً ولو كان خلافاً للمشهور «1»- والعهدة على مدّعيها.

ثانياً: أنّ عدم الذكر أعمّ من عدم الوقوع، وهؤلاء لم ينفوا ذلك.

ثالثاً: وقد ذكرنا تصريح بعضهم حول حصول اللقاء، مثل البيروني والشيخ البهائي وغيرهما.

مناقشة النقطة الثالثة:

إنّنا نوافقه في استنباطه من كلمة الرجوع الخروج من الشام لا الوصول إلى المدينة، كما ذكرناه سابقاً، والظاهر أنّ قوله (وإن توهّمه بعض) ناظر إلى ما ذكره السيّد ابن طاووس في الإقبال، ولكن لا نوافق في كون هذه الكلمات صريحة في عدم إتيانهم إلى كربلاء، وقد قلنا إنّ عدم الذكر يكون أعمّ، خاصّة مع ملاحظة ما قيل حول دأب الشيخ المفيد في كتابة التاريخ.

وأمّا ما ذكره من عدم إمكان الرجوع إلى المدينة في أقلّ من شهر فقد ذكر الشهيد القاضي الطباطبائي شواهد عديدة على إمكان ذلك، ويأتي كلامه.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 307

مناقشة النقطة الرابعة:

أوّلًا: إنّ تعبير هذا المحدّث العظيم عن مصباح الزائر بكونه من الكتب المعتبرة مع تصريحه أنّه ألّف في أوان تكليفه وهو في ذلك الوقت كذا وكذا عدول عمّا ذكره سابقاً، فإنّه رفض خبر اللقاء استناداً لضمّه اللهوف إلى مصباح الزائر

الذي ألّف في سنّ مبكّر، تسرياً للضعف منه إليه!

ثانياً: استبعاد المحدّث في مكانه، إلّاأنّه عدم ذكر عطيّة ذلك في محلّه، ويأتي وجهه!

مناقشة النقطة الخامسة:

هذا هو أهمّ دليل ذكره المحدّث النوري، حيث المقصود منه وصوله إلى نتيجة الامتناع في فرض المسألة.

ولقد اهتمّ الشهيد القاضي لإجابته وإثبات الإمكان، وسنذكر أدلّته بعد إتمام أقوال المحدّث النوري.

مناقشة النقطة السادسة:

على فرض ذلك ليس هناك مانع أن يكون جابر سبق القوم في الزيارة، فينبطق عنوان أوّل زائر عليه، بل المستفاد من النصوص سبق جابر عليهم، حينما قالوا: فوصلوا إلى موضع المصرع فوجدوا جابر بن عبداللَّه «1»، فتحصّل أنّ اللقاء وإن كان في يوم واحد، ولكن التشرّف بزيارة القبر لم يكن في وقت واحد، ويأتي المختار في المسألة.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 308

مناقشة النقطة السابعة:

أوّلًا: إنّ وجود القدر المشترك من الطريق «1» هو ممّا يستفاد من نقل اللهوف، وأمّا ما نقله ابن نما- الذي هو مقدّم على اللهوف- فليس فيه أثر عن ذلك.

وثانياً: إنّ المستشكل نفى وجود قدر مشترك في الطريق لأجل شيئين:

أ) اتّكاله على نقل قول المتردّدين في عصره.

وفيه: أنّ هذا لا يكفي، إذ إنّ التغيير والتبديل في الطرق ممّا يحصل في كلّ زمان، فكيف ذلك بالنسبة إلى مسألة راجعة إلى أكثر من ألف سنة، ثمّ نظنّ كونه على تلك الحالة السابقة، فالمسألة تحتاج إلى تتبّع وتحقيق أكثر.

ب) اعتماده على ملاحظة طول البلدان الثلاثة.

وهذا ممّا لا يغني في المقام، فالطريق قضية ترجع إلى مصالح عامّة لأُناس يقطعونه- من أهالي تلك المناطق- ولأجله نرى أنّه ربّما يكثر في طول السير لأجل عبوره في تلكم البلاد والقرى، إذ ليس المقصود هو المبدأ الأعلى والمقصد المنتهى فحسب، فلحاظ طول البلاد يفيد إذا كان السير في الهواء،

لا الأرض!

وثالثاً: إنّ ما استبعده في المقام غير وارد، إذ مع تصريحه باختلاف حالة يزيد يوم خروج الأسرى من الشام، وإبراز ندامته ظاهراً، ومع ملاحظة أوامر يزيد بلزوم حسن المعاملة معهم، وخاصّة مع الالتفات إلى ما ذكرناه عن ابن سعد بأنّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 309

يزيد أمر الرُّسل الذين وجّههم أن ينزلوا بهم حيث شاءوا ومتى شاءوا «1»، فلو طلبوا الذهاب إلى كربلاء إمّا ابتداءً من نفس الشام، أو بعد الخروج منه، فليس بمستبعد.

وأمّا عدم ذكرهم كربلاء والاكتفاء بذكر المدينة لا ضير فيه، بعد أن كانت هي الغاية القصوى بالنسبة إليهم، لكونها موطنهم ومسقط رأسهم، فما شأن كربلاء في ذلك الزمان إلّاشأن إحدى المنازل في الطريق، فسؤال يزيد كان ناظراً إلى اختيار محلّ الإقامة الدائميّة، لا المؤقّتة، ومن الطبيعي أن يكون الجواب مطابقاً للجواب، ولذلك اكتفوا بذكر المدينة، ولا ينافي لقاصد المدينة أن يكون مارّاً بكربلاء.

2- مع القاضي الطباطبائي ..... ص : 309
اشارة

هذا، ولكن الشهيد السعيد القاضي الطباطبائي قد وقف بجدٍّ وعزم على إثبات كون الرجوع في الأربعين الأولى، وبما أنّ أهمّ أدلّة المحدّث النوري كان الوجه الخامس منها فنذكر ملخّص ما أفاده الشهيد، ثمّ نذكر ملاحظاته على ذلك الوجه. قال:

إنّ رجوع أهل البيت في الأربعين الأول وإلحاق رؤوس الشهداء إلى أجسادهم هو المشهور بين العلماء وكان موضع وفاقهم إلى القرن السابع، وأوّل من أشكل في ذلك السيّد ابن طاووس في الإقبال، وأمّا مسألة لقائهم مع جابر فقد ذكره ابن طاووس وابن نما، وإنّهما وإن لم يصرحا بتحديد يوم الورود، ولكنّه كان ذلك في الأربعين حتماً، لأنّ أحداً لم يذكره في غير الأربعين، وهو ما فهمه العلماء، وقد اتّفق العلماء وأرباب المقاتل على تشرّف جابر في يوم الأربعين.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 310

ثمّ قال- في توجيه إمكان

السير-:

إنّ البعير الذلول والخيل العربية التي كانت تستعمل في ذلك الزمان، كانت تسير المسافة الكثيرة في مدّة قليلة، ولعلّه لن يوجد نظيرها في عصرنا!

القاضي يستدلّ بعشر نقاط ..... ص : 310

ثمّ ذكر شواهد عديدة على تحقّق السير من العراق إلى الشام- وبالعكس- في مدّة عشرة أو ثمانية بل وحتّى سبعة أيّام، منها:

1- ذكر السيّد محسن الأمين رحمه الله في أعيان الشيعة: أنّ هناك طريقاً مستقيماً بين العراق والشام، يسلكه أعراب العقيل في زماننا هذا خلال أسبوع فقط.

2- وذكر السيّد الأمين رحمه الله أيضاً: أنّ أعراب صليب- وهم من حوران الواقع في قبلة دمشق- كانوا يسيرون السير إلى العراق في مدّة ثمانية أيّام.

3- لقد أتى خبر موت معاوية إلى الكوفة بعد مضيّ أسبوع من موته، ذكر المامقاني في تنقيح المقال عن الكشي بإسناده عن أبي خالد التمّار قال: كنت مع ميثم التمّار بالفرات يوم الجمعة، فهبّت ريح وهو في سفينة من سفن الرومان، قال:

فخرج فنظر إلى الريح، فقال: شدّوا برأس سفينتكم إنّ هذه ريح عاصف مات معاوية الساعة، قال: فلمّا كانت الجمعة المقبلة قدم بريد من الشام فلقيته فاستخبرته، قلت: يا عبداللَّه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 311

ما الخبر؟ قال: الناس على أحسن حال، توفّي أمير المؤمنين وبايع الناس يزيد، قال: قلت: أيّ يوم توفّي؟ قال: يوم الجمعة «1».

4- لقد كان موت معاوية في 15 من رجب سنة 60، وخروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة في 28 من شهر رجب، وتحقّق في هذا الفاصل الزماني- الذي هو عبارة عن 13 يوماً- وصول القاصد، وعدم بيعته عليه السلام، مع أنّ الفاصلة بين الشام والحجاز أكثر منه إلى العراق.

5- ذكر الطبري أنّ بسر بن أرطاة أمهل أبا بكر أن يذهب من الكوفة نحو الشام ويرجع خلال

اسبوع، فصار ذهابه إلى معاوية وإيابه إلى بسر في سبعة أيّام، فيعلم من ذلك أنّه ذهب من الكوفة إلى الشام في ثلاثة أيّام ونصف، وكذا حال الرجوع.

6- في مسألة نجاة المختار من الحبس، ذهب عميرة حاملًا رسالة عبد اللَّه بن عمر- زوج اخت المختار- إلى يزيد، وأخذ بكتاب استخلاصه منه، وتوجّه نحو الكوفة وسار الطريق في أحد عشر يوماً إلى أن وصل الكوفة.

7- خرج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة في الثامن من ذي الحجّة، والفاصل بينها وبين الكوفة ما يقارب ب 380 فرسخاً، والإمام ما كان يسرع في السير، ووصل إلى كربلاء في الثاني من

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 312

المحرّم، فتحصّل أنّ مسيرته تمكّنت أن تقطع هذه المسافة الطويلة خلال 24 يوماً، فعلم من ذلك أنّهم ساروا كلّ يوم ما يقرب من 15 فرسخاً (مع أنّه كان يقف في بعض المنازل).

8- لقد صرّحت كثير من الكتب المعتبرة أنّ ورود أهل البيت في الشام كان في الأوّل من صفر، منها ما ذكره أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية وأنّهم توجّهوا من الكوفة نحو الشام في حوالى العشرين أو الخامس عشر من المحرّم، ثمّ إنّهم ساروا هذه المسافة في حدود عشرة أيّام أو خمسة عشر يوماً إلى أن وصلوا الشام، ورجوعهم في هذه المدّة نحو العراق غير بعيد، مع أنّ أبا ريحان البيروني الذي كان عالماً بالأوضاع ومطّلعاً على كيفيّة السير في ذلك الزمان ذكره ولم يستبعده ولم يرفضه.

9- روي أنّ هارون الرشيد وأبا حنيفة كانا يستهلّان هلال ذي الحجّة في الكوفة أو بغداد، وبعد رؤيتهما الهلال كانا يخرجان للحجّ.

10- روى الشيخ المفيد بإسناده عن خيزران الأسباطي، قال:

قدمت على أبي الحسن علي بن محمّد عليهما السلام المدينة، فقال

لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: جعلت فداك، خلّفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيّام، قال: فقال لي: إنّ أهل المدينة يقولون إنّه مات، فقلت: أنا أقرب الناس به عهداً، قال: فقال لي: إنّ الناس يقولون إنّه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 313

مات، فلمّا قال لي: إنّ الناس يقولون علمت أنّه يعني نفسه.. «1».

تلخيص استنتاج القاضي ..... ص : 313

يمكننا أن نلخّص ما أراد القاضي استنتاجه هكذا:

يعلم من قوله: (عهدي به منذ عشرة أيّام) أنّه تمكّن أن يسير هذه المسافة التي نحو 380 فرسخاً في عشرة أيّام.

فتحصّل من جميع ذلك إمكان السير في زهاء عشرة أيّام، وما ذكره المحدّث النوري ليس إلّاهو صرف استبعاد، وهذه الشواهد التاريخية تثبت الإمكان.

فملخّص القول: أنّه يصحّ ما ذكره سبط ابن الجوزي أنّهم تركوا الكوفة في (15) من المحرّم نحو الشام، ثمّ إنّهم وصلوا الشام في الأوّل من صفر، ولبثوا فيه ما يقرب ثمانية أيّام، ثمّ توجّهوا إلى كربلاء خلال ثمانية أو عشرة أيّام فتمكّنوا من الرجوع إلى كربلاء والدخول فيها في العشرين من صفر- الأربعين-، وهو المطلوب.

ثمّ قال ردّاً على حجج المقابل:

أمّا مسألة استئذان ابن مرجانة من يزيد ورجوع القاصد إليه الذي يحتاج إلى عشرين يوماً، ولبثهم في الشام شهراً- الذي ذكره المحدّث النوري، وبذلك نفى الرجوع في الأربعين- ففيه:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 314

أوّلًا: إنّ البريد يتمكّن أن يوصل في خلال ثلاثة أيّام تقريباً، كما مرّ ذكره في خبر بسر بن أرطاة.

وثانياً: من الممكن أنّ الاستئذان يكون قد حصل بواسطة حمام الهدى، وكان ذلك ممكناً، إذ إنّ أوّل من استعمل الحمام لهذا القصد هو نوح النبيّ، ثمّ سليمان، وكذلك الإيرانيّون، فحينئذٍ كان استعماله لذلك القصد متداولًا في ذلك العصر.

وثالثاً: لم يكن

هناك دليل معتبر على لبثهم في الشام شهراً. بل التواريخ المعتبرة تصرّح بكونه أيّاماً، من ثمانية إلى عشرة.

وقال أيضاً:

ثمّ إنّ المشهور بين علماء الإمامية أنّ الرأس المطهّر الحق بالجسد الطاهر في الأربعين الاول، ألحقه الإمام زين العابدين عليه السلام، وروى المجلسي شهرة الأصحاب حول رجوع أهل البيت في العشرين من صفر.

ملخّص أدلّة القاضي الطباطبائي ومناقشتها ..... ص : 314
اشارة

فملخّص أدلّة القاضي الطباطبائي:

1- أنّ الشهرة قائمة على رجوع آل البيت في الأربعين الأول.

2- أنّ الرجوع في هذا الوقت ممكن، وذلك بذكر الشواهد التاريخية المتعدّدة.

3- وبما أنّ جابراً قد زار قبر الإمام الحسين عليه السلام في الأربعين، فحصول اللقاء أيضاً كان في الأربعين الأول، إذ لم يقل أحد بغيره، وهو ما فهمه العلماء.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 315

وفيه: ..... ص : 315

أمّا الأوّل: إنّ هذه الشهرة لا تغني من الحقّ شيئاً، خاصّة وقد ذكرنا أنّ مدّعيها- وهو العلّامة المجلسي «1» أعرض عنها واستبعدها بالمرّة.

وأمّا الثاني: الحقّ أنّ ما ذكره الشهيد القاضي الطباطبائي من الشواهد التاريخية المتعدّدة- التي تدلّ على مدى تتبّعه وكثرة تعبه لأجله- يُخرج المسألة عن صورة الامتناع، ويدخلها في فرض الإمكان، وبذلك يهدم أساس قول المحدّث النوري، إلّاأنّه لا يكفي هذا الحدّ في إثبات المراد، إذ المطلوب هو ثبوت الوقوع لا الإمكان، وإمكان الشي ء أعمّ من وقوعه.

وأمّا الثالث فإنّ الصحيح أنّ زيارة جابر لقبر الإمام عليه السلام كانت في الأربعين، ولكنّا ننفي حصول اللقاء فيه أيضاً، خاصّة وأنّ ابن نما والسيّد ابن طاووس- وهما المصدران الأساسيّان في خبر اللقاء- لم يحدّدا زمن اللقاء، فننفي الملازمة بينهما.

القول المختار في المسألة ..... ص : 315

ويتّضح بذلك- واللَّه العالم بحقائق الامور- ما يلي:

إنّ جابر بن عبداللَّه الأنصاري ذلك الصحابي الجليل العالم العارف البصير، الذي تحمّل مشقّة السفر- وهو كبير العمر مكفوف البصر- وشدّ رحله من المدينة نحو كربلاء، لم يكتفِ بزيارة واحدة لقبر سيّد الشهداء عليه السلام، وأنّه زار قبر الإمام عليه السلام مرّتين على الأقلّ، أمّا زيارته الاولى فهي التي رويناها عن الطبري «2»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 316

والسيّد ابن طاووس «1»، والخوارزمي «2»، تلك الزيارة التي رواها عطيّة، فإنّ هذه الزيارة تختلف عن زيارته المقرونة باللقاء، وذلك لأمور:

1- في هذه الزيارة لم نجد ذكراً عن خبر اللقاء، بل لعلّ هناك تصريحاً بعدم اللقاء، إذ جاء في رواية الطبري والخوارزمي أنّ جابراً طلب من عطيّة أن يتوجّه نحو أبيات كوفان بقوله: (خذني نحو أبيات كوفان)، ثمّ صارا في الطريق، فمن المستبعد جدّاً أن يحصل اللقاء ولم يذكره عطيّة، مع أنّه في غاية الأهمّية.

2- إنّ

المستفاد من خبر الطبري والسيّد ابن طاووس والخوارزمي أنّه لم يكن هناك في حين زيارتهما أحد غيرهما، ولكن جاء في ضمن الخبر المقرون باللقاء أنّ هناك جماعة من بني هاشم، حينما قال ابن نما: «ولمّا مرّ عيال الحسين عليه السلام بكربلاء وجدوا جابر بن عبداللَّه الأنصاري- رحمة اللَّه عليه- وجماعة من بني هاشم قدموا لزيارته» «3». وقال السيّد: «فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبداللَّه الأنصاري رحمه الله وجماعة من بني هاشم ورجالًا من آل الرسول صلى الله عليه و آله وقد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام، فوافوا في وقت واحد».

فالمستفاد منهما ورود عدّة من بني هاشم ورجال من آل الرسول إلى كربلاء- وإن لم نعرفهم تفصيلًا- ولم نجد هناك اسم عطيّة، ولو كان حاضراً لروى اللقاء مع هؤلاء الجماعة، فتحصّل أنّهما زيارتان.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 317

3- إنّ تصريح كثير من العلماء بكون جابر أوّل زائر للحسين عليه السلام، يثبت تقدّم زيارته على زيارة جماعة من بني هاشم، وإلّا فما كان هناك وجه في تلبّسه بهذا العنوان دون غيره، فتحصّل أنّ الزيارة التي رواها الطبري والسيّد والخوارزمي- التي فيها ذكر عطيّة، وليس فيها ذكر ورود جماعة من بني هاشم وخبر اللقاء- تختلف عمّا ذكره ابن نما، والسيّد (في اللهوف)- والذي ليس فيه ذكر عطيّة، وهي زيارة اخرى توفّق جابر لها بعد زيارته الاولى، وليس ببعيد على إنسان ذي معرفة وبصيرة مثل جابر أن يكرّر الزيارة ولا يكتفي بزيارة واحدة.

فبناءً عليه يكون يوم الأربعين يوم زيارة جابر لقبر الحسين عليه السلام، كما ذكرناه عن المصادر المتعدّدة. وأمّا مجي ء أهل البيت وحصول لقائهم معه ومع جماعة من بني هاشم فقد حصل في زيارة أخرى بعد ذلك،

وإن لم نعلم تحديدها بالضبط. كما أنّ ابن نما والسيّد في اللهوف لم يحدّداه. وبذلك تنحلّ العقدة وترفع العويصة في مسألة رجوع أهل البيت إلى كربلاء؛ كيف جاءوا؟ وهل جاءوا؟ وهل يمكن الوصول أم لا؟ ويزول تشتّت الأقوال الموجودة المردّدة بين القبول والردّ والتوقّف في ذلك.

وأمّا ما ذكره الشهيد القاضي بفهم العلماء كذلك فإنّه غير محقّق، وهو ناش عن ثبوت ملازمة زيارة جابر في الأربعين وحصول اللقاء مع أهل البيت في كربلاء وهو مبنيّ على وصولهم في الأربعين، هذه الملازمة غير ثابتة.

وأمّا ما ذكره السيّد الشهيد فإنّه لم يكن إلّالأجل إثبات إمكان رجوعهم ورفع الامتناع والاستبعاد، وهذا غاية ما يمكن أن يستفاد منه- والحقّ أنّه وفّق لذلك- إلّا أنّه لا يمكن الاستناد إليه في المقام، إذ مع فرض التسليم بذلك، فإنّ هذا يتحقّق في فرض إرسال البريد- وما شابهه- الذي من شأنه السرعة في السير، أو تكون هناك ظروف خاصّة (كمسألة الوصول لأداء مناسك الحجّ أو تنفيذ الأوامر ... الخ)، لا في مثل هذه المسيرة التي كان شأنها خلاف ذلك، إذ إنّها بطبيعة حالها حاملة للأطفال والنساء، وقد مرّت بالمنازل المتعدّدة قبل وصولها الشام، وبعد الخروج منها تغيّرت المعاملة، وذلك بصدور أوامر بلزوم المحافظة عليهم ورعاية أمرهم

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 318

في السير واللبث، ولم يكن هناك نذر للوصول في الأربعين إلى كربلاء!!، فإذن لا يكون هناك أيّ داع لإيصالهم- أو وصولهم- في الأربعين إلى كربلاء.

نعم، لو كانت لدينا نصوص معتبرة حول رجوعهم في الأربعين لالتزمنا بها، ولكنّ أنّى لنا ذلك، وأمّا ما ذكره البيروني «1» والبهائي «2» من التصريح بذلك فلا يمكن الالتزام به، لعدم تمحضهما في روايات التاريخ، ولكونهما ذوي فنون، فلعلّ حصل ذلك من

خطور الملازمة المنتفية، أضف إلى ذلك ما يعارضه ممّا ذكره القاضي نعمان (ت: 363 ه)- المقدّم عليهما زمناً وخبرة (في الرواية)- وقد صرّح في كتابه «شرح الأخبار» بلبث أهل بيت رسول اللَّه شهراً ونصفاً في الشام «3»، وبذلك يظهر الجواب عمّا ذكره السيّد الشهيد من عدم وجود دليل معتبر حول بقاء أهل البيت شهراً في الشام- كما رواه في الإقبال-.

فظهر من ذلك أنّه مع ملاحظة بقائهم في الشام، مع ضمّ مسألة استئذان ابن مرجانة من يزيد، ولحاظ حالة المسيرة في الذهاب والإياب، يكون رجوع هذه المسيرة في الأربعين إلى كربلاء أمراً مستبعداً جدّاً، وإن كان هو ممكناً في حدّ نفسه فيما عداها.

فيستنتج بذلك عدم الالتزام بإلحاق الرأس الشريف بالجسد الطاهر في خصوص يوم الأربعين. نعم، أُلحق الرأس في وقت مجي ء أهل البيت، اللّهمّ إلّا أن نلتزم بما ذكره السيّد ابن طاووس من الوجه.

فالمختار في المسألة أنّ رجوع آل بيت الرسول صلى الله عليه و آله إلى كربلاء ما كان في الأربعين الأولى ولا الثانية، بل في الفترة الواقعة بينهما.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 319

تحديد يوم الأربعين ..... ص : 319

إنّ العشرين من صفر هو يوم الأربعين وهو موضع وفاق الجميع، إلّاما ذكرنا عن الشيخ البهائي، فإنّه جعل يوم التاسع عشر من صفر يوم الأربعين «1»، وهو المتفرّد في قوله، وذلك الاختلاف ناش عن احتساب يوم عاشوراء أو عدمه، والظاهر عدم احتسابه، لأنّ المقصود مضي ذلك المقدار من بعد الشهادة فيكون يوم الحادي عشر من محرّم مضيّ يوم عنها وهكذا، فيكون يوم العشرين من صفر مضيّ أربعين يوماً من شهادته عليه السلام.

وقال السيّد ابن طاووس:

«فإن قيل: كيف يكون يوم العشرين من صفر يوم الأربعين، إذا كان قتل الحسين صلوات اللَّه عليه يوم عاشر

من محرّم، فيكون يوم العاشر من جملة الأربعين، فيصير واحداً وأربعين.

فيقال: لعلّه قد كان شهر محرّم الذي قتل فيه صلوات اللَّه عليه ناقصاً، وكان يوم عشرين من صفر تمام الأربعين يوماً، فإنّه حيث ضُبط يوم الأربعين بالعشرين من صفر فإمّا أن يكون الشهر كما قلنا ناقصاً، أو يكون تامّاً ويكون يوم قتله صلوات اللَّه عليه غير محسوب من عدد الأربعين، لأنّ قتله كان في أواخر نهاره، فلم يحصل ذلك اليوم كلّه في العدد، وهذا تأويل كاف للعارفين، وهم أعرف بأسرار ربّ العالمين في تعيين أوقات الزيارة للطاهرين» «2».

فضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين ..... ص : 319

سمّى الشيخ الحرّ العاملي باباً باسم «باب تأكّد استحباب زيارة الحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 320

يوم الأربعين من مقتله، وهو يوم العشرين من صفر» «1».

روى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي قالا: «روي عن أبي محمّد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام أنّه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم» «2»

.وروى الشيخ الطوسي بإسناده عن صفوان الجمّال قال: «قال لي مولاي الصادق عليه السلام في زيارة الأربعين: تزور عند ارتفاع النهار وتقول: السلام على وليّ اللَّه وحبيبه.. وذكر الزيارة- إلى أن قال:- وتصلّي ركعتين وتدعو بما أحببت وتنصرف» «3».

إلحاق الرأس الشريف بالجسد الطاهر ..... ص : 320

لقد أحسن دعبل الخزاعي في رثائه، إذ قال:

رأس ابن بنت محمّد ووصيّه للناظرين على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمسمع لا منكر منهم ولا متفجّع

كحلت بمنظرك العيون عماية وأصمّ رزؤك كلّ إذن تسمع

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 321

ما روضة إلّاتمنّت أنّها لك منزلٌ ولخطّ قبرك مضجع «1»

قال فخر الشيعة وسند الشريعة العلّامة المجلسي رحمه الله: «والمشهور بين علمائنا الإماميّة أنّه دفن رأسه مع جسده، ردّه عليّ بن الحسين عليهما السلام» «2».

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب: «وأمّا رأس الحسين عليه السلام فروي أنّه أُعيد إلى كربلاء ودفن مع جسده الشريف، وكان العمل من الطائفة على هذا» «3».

وأمّا كيفيّته فقد قال البدخشاني: «ثمّ وجّه (يزيد) ذرّية الحسين رضى الله عنه ورأسه مع عليّ بن الحسين إلى المدينة» «4».

فبناءً على مرورهم بكربلاء فقد أُلحق الرأس الشريف بالجسد الطاهر، وهو المرويّ كما يأتي.

الأقوال في موضع دفن رأس الحسين عليه السلام ..... ص : 321
اشارة

لقد ذكرنا قول المشهور بين علمائنا على أنّه دفن الرأس الشريف بكربلاء، وإليك تفصيل الكلام.

لقد ذُكرت مواضع متعدّدة حول مكان دفن الرأس الشريف، وهي:

1) كربلاء المقدّسة: صرّح بذلك الكثير من علمائنا- حتّى أصبح هو المشهور بينهم بل ادّعى البعض الإجماع على ذلك- بل ذكره بعض علماء العامّة أيضاً، وتدلّ عليه بعض الروايات.

روى الشيخ الصدوق بإسناده عن فاطمة بنت علي (صلوات اللَّه عليهما) أنّها

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 322

قالت: «ولم يرفع ببيت المقدس حجر عن وجه الأرض إلّاوجد تحته دم عبيط، وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنّها الملاحف المعصفرة، إلى أن خرج عليّ بن الحسين عليهما السلام بالنسوة، وردّ رأس الحسين إلى كربلاء» «1».

ووجّه سؤال إلى السيّد المرتضى- أعلى اللَّه مقامه- وهو: «هل ما روي من حمل رأس مولانا الشهيد أبي

عبداللَّه عليه السلام إلى الشام صحيح؟ وما الوجه فيه؟

فقال: الجواب: هذا أمر قد رواه جميع الرواة والمصنّفين في يوم الطف، وأطبقوا عليه، وقد رووا أيضاً أنّ الرأس أُعيد بعد حمله إلى هناك، ودفن مع الجسد بالطف» «2».

وقال الطبرسي: «وذكر الأجلّ المرتضى رضى الله عنه في بعض مسائله أنّ رأس الحسين بن عليّ ردّ إلى بدنه بكربلاء من الشام وضمّ إليه، واللَّه أعلم» «3».

وذكر ابن فتّال النيسابوري مضمون ما رواه الشيخ الصدوق، الذي يدلّ على أنّه ارتضاه «4».

قال ابن نما الحلّي بعد ذكره الأقوال في موضع الدفن من المدينة ودمشق- عند باب الفراديس عند البرج الثالث ممّا يلي المشرق- ومصر، قال: «والذي عليه المعوّل من الأقوال أنّه أُعيد إلى الجسد بعد أن طيف به في البلاد ودفن معه» «5».

وقال السيّد ابن طاووس في الملهوف: «وأمّا رأس الحسين عليه السلام فروي أنّه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 323

أُعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف صلوات اللَّه عليه، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه» «1».

ولقد ذكرنا عن البيروني «2» والشيخ البهائي «3» تصريحهم بإلحاق الرأس الشريف بالجسد بكربلاء.

وقد ذكر السيّد في الإقبال وجهاً لكيفيّة الإلحاق «4».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 324

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب: «وأمّا رأس الحسين عليه السلام فروي أنّه أُعيد إلى كربلاء ودفن مع جسده الشريف، وكان العمل من الطائفة على هذا» «1».

وذكر الخوارزمي ما فعل سليمان بن عبد الملك بالرأس الشريف، وهو «أنّ الرأس الشريف صلب بدمشق ثلاثة أيّام، ومكث في خزائن بني أميّة حتّى ولّي سليمان بن عبد الملك، فطلبه، فجي ء به وهو عظم أبيض قد قحل، فجعله في سفط وطيّبه وجعل عليه ثوباً ودفنه في مقابر المسلمين بعدما صلّى عليه، فلمّا ولّي عمر بن عبد

العزيز بعث إلى المكان يطلبه منه فأخبره بخبره، فسأل عن الموضع الذي دفن فيه، فنبشه وأخذه واللَّه أعلم بما صنع، والظاهر من دينه أنّه بعثه إلى كربلاء، فدفن مع جسده» «2».

وفيه: إن صحّ الخبر فهو في حقّ أحد شهداء وقعة الطفّ لا سيّد الشهداء، إذ المشهور عندنا إلحاقه بالجسد بواسطة الإمام زين العابدين عليه السلام ولذلك أجابه العلّامة المجلسي رحمه الله بقوله: «أقول: هذه أقوال المخالفين في ذلك، والمشهور بين علمائنا الإماميّة أنّه دُفن رأسه مع جسده، ردّه عليّ بن الحسين عليهما السلام» «3».

وقال الشبراوي: «وقيل أُعيد إلى الجثّة بكربلاء بعد أربعين يوماً من مقتله» «4».

وقال الشبلنجي: «وذهبت الإماميّة أنّه أُعيد إلى الجثّة، ودفن بكربلاء بعد أربعين يوماً من المقتل» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 325

بل قد يقال: إنّ حصول الشهرة على الدفن بكربلاء ليس هو عند الإماميّة فقط، بل هو عند المسلمين، كما قال سبط ابن الجوزي: واختلفوا في الرأس على أقوال أشهرها أنّه ردّه إلى المدينة مع السبايا، ثمّ ردّ إلى الجسد بكربلاء، فدفن معه، قاله هشام وغيره «1».

ولا يخفى أنّه وإن كانت روايات الشيعة تختلف عن غيرها في كيفيّة الإلحاق، إذ الشهرة على إلحاق الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام رأس أبيه إلى جسده الطاهر، بينما غيرهم يذكرونه إمّا من بعد رجوع السبايا إلى المدينة، أو غيره، ولكنّ المهمّ هو أصل الإلحاق بالجسد والدفن في أرض كربلاء.

2) النجف الأشرف: قال العلّامة المجلسي رحمه الله: وقد وردت أخبار كثيرة في أنّه مدفون عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام «2».

أقول: الظاهر أنّ كلامه رحمه الله ناظر إلى روايات في باب زيارة أمير المؤمنين عليه السلام:

منها: ما رواه الشيخ الكليني بإسناده عن يزيد بن عمر بن طلحة،

قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام وهو بالحيرة: أما تريد ما وعدتك؟ قلت: بلى- يعني الذهاب إلى قبر أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه- قال: فركب وركب إسماعيل (ابنه معه) «3»، وركبت معهما حتّى إذا جاز الثوية «4» وكان بين الحيرة والنجف عند ذكوات بيض، نزل ونزل إسماعيل ونزلت معهما، فصلّى وصلّى إسماعيل وصلّيت، فقال لإسماعيل: قم فسلِّم على جدّك الحسين عليه السلام، فقلت: جعلت فداك، أليس

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 326

الحسين عليه السلام بكربلاء؟ فقال: نعم، ولكن لمّا حمل رأسه إلى الشام سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين عليه السلام «1»

.وروى بإسناده عن أبان بن تغلب، قال: كنت مع أبي عبداللَّه عليه السلام، فمرّ بظهر الكوفة، فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ تقدّم قليلًا فصلّى ركعتين، ثمّ سار قليلًا فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ قال: هذا موضع قبر أمير المؤمنين عليه السلام، قلت: جعلت فداك والموضعين اللذين صلّيت فيهما؟ قال: موضع رأس الحسين عليه السلام وموضع منزل القائم «2»

.وروى الشيخ ابن قولويه عن عليّ بن أسباط رفعه قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام:

إنّك إذا أتيت الغري رأيت قبرين قبراً كبيراً وقبراً صغيراً، فأمّا الكبير فقبر أمير المؤمنين، وأمّا الصغير فرأس الحسين بن عليّ عليه السلام «3»

.وروي عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام بالحيرة أيّام مقدمه على أبي جعفر في ليلة صحيانة مقمرة، قال: فنظر إلى السماء فقال: يا يونس، أما ترى هذه الكواكب ما أحسنها، أما أنّها أمانٌ لأهل السماء ونحن أمانٌ لأهل الأرض، ثمّ قال: يا يونس أيّهما أحبّ إليك البغل أو الحمار؟ قال:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 327

فظننت أنّ البغل أحبّ إليه لقوّته، فقلت الحمار، فقال: أحبّ أن تؤثرني به، قلت: قد فعلت،

فركب وركبت، ولمّا خرجنا من الحيرة قال: تقدّم يا يونس، قال: فأقبل يقول: تيامن تياسر، فلمّا انتهينا إلى الذكوات الحمر قال: هو المكان؟ قلت: نعم، فتيامن ثمّ قصد إلى موضع فيه ماء وعين، فتوضّأ، ثمّ دنا من أكمة فصلّى عندها، ثمّ مال عليها وبكى، ثمّ مال إلى أكمة دونها، ففعل مثل ذلك، ثمّ قال: يا يونس افعل مثل ما فعلت، ففعلت ذلك، فلمّا تفرّغت قال لي: يايونس، تعرف هذا المكان؟ فقلت: لا، فقال: الموضع الذي صلّيت عنده أوّلًا هو قبر أمير المؤمنين عليه السلام، والأكمة الأخرى رأس الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام إنّ الملعون عبيداللَّه بن زياد لعنه اللَّه لمّا بعث رأس الحسين عليه السلام إلى الشام ردّ إلى الكوفة، فقال: اخرجوه عنها لا يفتن به أهلها، فصيّره اللَّه عند أمير المؤمنين عليه السلام، فالرأس مع الجسد والجسد مع الرأس «1».

قال العلّامة المجلسي رحمه الله في بيان الخبر: «قوله (فالرأس مع الجسد) أي بعدما دفن هناك ظاهراً الحق بالجسد بكربلاء، أو صعد به مع الجسد إلى السماء، كما في بعض الأخبار، أو أنّ بدن أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- كالجسد لذلك الرأس، هما من نور واحد» «2».

وروي عن الشيخ الطوسي بإسناده عن مفضل بن عمر قال: جاز الصادق عليه السلام بالقائم المائل في طريق الغري، فصلّى عنده ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة؟

فقال: هذا موضع رأس جدّي الحسين بن علي عليه السلام وضعوه هاهنا «3»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 328

ولكن يمكن أن يقال: إنّه مكان وضع الرأس لا دفنه، إلّاأن يرفع هذا الاحتمال بفعل الإمام وهو الصلاة، فتأمّل إذ هو أعمّ.

وروى الشيخ عبد الكريم بن طاووس قال: وذكر محمّد بن المشهدي في مزاره ما

صورته:

«روى محمّد بن خالد الطيالسي عن سيف بن عميرة قال: خرجت مع صفوان بن مهران الجمّال وجماعة من أصحابنا إلى الغري بعدما ورد أبو عبداللَّه عليه السلام فزرنا أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا فرغنا من الزيارة صرف صفوان وجهه إلى ناحية أبي عبداللَّه عليه السلام وقال: نزور الحسين بن علي عليهما السلام من المكان هذا من عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام، قال صفوان: وزرت مع سيّدي أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام وفعل مثل هذا» «1».

ثمّ قال المحدّث الحرّ العاملي: هذا يحتمل قصد الزيارة من بُعد، ويحتمل إرادة زيارة رأس الحسين عليه السلام «2».

كيفما كان فهذا المكان من الأمكنة المقدّسة التي ينبغي للمؤمن العارف أن يظهر أدبه ويزور سيّده، ولأجله نرى أنّ المحدّث الحرّ العاملي يعقد باباً في كتابه، باسم «باب استحباب زيارة رأس الحسين عليه السلام عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام، واستحباب صلاة ركعتين لزيارة كلّ منهما» «3».

وعلى ذلك نحمل عمل العارف الكامل المجاهد الفقيه المجدّد مؤسّس

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 329

الجمهورية الإسلامية في إيران، آية اللَّه العظمى الإمام الخميني أعلى اللَّه مقامه الشريف، فإنّه- على ما قيل- لم يكن يمرّ من أمام رأس الإمام أمير المؤمنين أبداً خلال حضوره في النجف الأشرف طيلة 14 سنة؛ احتمالًا لوجود الرأس الشريف فيه واحتراماً له.

وأمّا ما أورده سبط ابن الجوزي بقوله: «وذكر عبداللَّه بن عمرو الورّاق في كتاب المقتل أنّه لمّا حضر الرأس بين يدي ابن زياد أمر حجّاماً فقال: قوّره فقوّره، وأخرج لغاديده ونخاعه وما حوله من اللحم، واللغاديد ما بين الحنك وصفحة العنق من اللحم، فقام عمرو بن الحريث المخزومي فقال لابن زياد: قد بلغت حاجتك من هذا الرأس، فهب لي ما ألقيت منه، فقال:

ما تصنع به؟ فقال:

أُواريه، فقال: خذه، فجمعه في مطرف خزّ كان عليه وحمله إلى داره، فغسله وطيّبه وكفّنه ودفنه عنده في داره، وهي بالكوفة تعرف بدار الخزّ دار عمرو بن حريث المخزوميّ» «1».

ففيه: أنّه على فرض صحّته فإنّه دفن بعض ماكان متّصلًا بالرأس الشريف في الكوفة لا الرأس، كما هو صريح الخبر، لأنّه قبل إرسال الرأس الشريف إلى الشام.

اللعنة الأبدية على كلّ من ارتكب وأمر ورضي بتلك المأساة الكبرى والفاجعة العظمى.

3- المدينة (البقيع): يأتي في المبحث الآتي حول أوضاع المدينة بعد قتل الحسين عليه السلام ما ورد حول إرسال يزيد الرأس الشريف إلى عامله فيها وهو عمرو بن سعيد، ولأجل ذلك صارت جنّة البقيع- المدينة- إحدى الأمكنة التي قيل بكونها تشرّفت بضمّ الرأس الشريف فيها.

قال ابن سعد: ثمّ أمر عمرو بن سعيد برأس الحسين فكفّن ودفن بالبقيع عند

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 330

قبر امّه «1».

وقال ابن نما: «وأمّا الرأس الشريف اختلف الناس فيه، قال قوم: إنّ عمرو بن سعيد دفنه بالمدينة، ثمّ ذكر سائر الأقوال» واختار قول الدفن بكربلاء وقال: «هو المعوّل عليه» «2».

وروى الخوارزمي عن أبي العلاء الحافظ بإسناده عن مشايخه «أنّ يزيد بعث رأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص وهو إذ ذاك عامله على المدينة، فقال عمرو: وددت أنّه لم يبعث به إليّ، ثمّ أمر عمرو برأس الحسين عليه السلام، فكفّن ودفن بالبقيع عند قبر امّه فاطمة عليها السلام» «3».

وقال الباعوني: «وأمّا رأسه فالمشهور بين أهل التاريخ والسير أنّه بعثه ابن زياد بن أبيه الفاسق إلى يزيد بن معاوية، وبعث به يزيد إلى عمرو بن سعيد الأشدق- لطيم الشيطان- وهو إذ ذاك بالمدينة، فنصبه ودفن عند امّه بالبقيع» «4».

وفي شذرات الذهب: «والصحيح أنّ الرأس

المكرّم دفن بالبقيع إلى جنب امّه فاطمة، وذلك أنّ يزيد بعث به إلى عامله بالمدينة عمرو بن سعيد الأشدق، فكفّنه ودفنه» «5».

وقال الشبلنجي: «وقيل دفن بالبقيع عند قبر امّه وأخيه الحسن، وهو قول ابن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 331

بكار والعلّامة الهمداني وغيرهما» «1».

وكيفما كان فهذا الاحتمال ناش عن إرسال الرأس الشريف إلى المدينة، كما ذكره ابن حجر في قوله: «وأرسل- يزيد- برأسه وبقيّة بنيه إلى المدينة» «2».

والجواب هو ما ذكره العلّامة المجلسي، أمّا إرسال الرأس إلى المدينة فلا ضير بالمقام، لاحتمال كون الإرسال في مدّة وجود أهل البيت بالشام، وعليه يحمل قول يزيد للإمام السجّاد عليه السلام، فأمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً «3»، فلا يمنع تبدّل رأيه بعد وصول الرأس من المدينة إلى الشام وتسليمه إلى الإمام السجّاد عليه السلام.

وأمّا قول ابن حجر بإرسال يزيد الرأس والاسرة إلى المدينة فلا ينافي مرورهم بكربلاء ودفنهم الرأس فيها ثمّ قصدهم المدينة، وسيأتي خبر البلاذري حول إرجاع الرأس الشريف من المدينة إلى الشام «4».

4- الشام: قال البلاذري: قال الكلبي: وبعث يزيد برأسه إلى المدينة، فنصب على خشبة، ثمّ ردّ إلى دمشق، فدفن في حائط بها، ويقال في دار الإمارة، ويقال في المقبرة «5».

قيل: الحائط: الحديقة أو البستان، ودار الإمارة هي قصر الخضراء وكان بجوار الجامع الأموي إلى الجنوب منه «6».

وقال: «ودفن رأس الحسين في حائط بدمشق، إمّا حائط القصر وإمّا غيره،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 332

وقال قوم: دفن في القصر حفر له وأعمق» «1».

وروى ابن عساكر بإسناده عن ريا حدّثته «أنّ الرأس مكث في خزائن السلاح حتّى ولّي سليمان بن عبد الملك، فبعث إليه فجاء به وقد قحل وبقي عظم أبيض، فجعله في سفط وطيّبه، وجعل عليه ثوباً، ودفن في مقابر

المسلمين، فلمّا ولّي عمر بن عبد العزيز بعث إلى الخازن- خازن بيت السلاح- وجّه إليّ رأس الحسين بن علي، فكتب إليه أنّ سليمان أخذه وجعله في سفط وصلّى عليه ودفنه، فصحّ ذلك عنده، فلمّا دخلت المسوّدة سألوا عن موضع الرأس، فنبشوه وأخذوه، واللَّه أعلم ما صنع» «2».

قال ابن كثير: المسوّدة يعني بني العبّاس»

.وحكى الخوارزمي: «أنّ سليمان بن عبد الملك بن مروان رأى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في المنام كأنّه يبرّه ويلطفه، فدعا الحسن البصري وقصّ عليه وسأله عن تأويله، فقال الحسن: لعلّك اصطنعت إلى أهله معروفاً، فقال سليمان: إنّي وجدت رأس الحسين في خزانة يزيد بن معاوية، فكسوته خمسة من الديباج وصلّيت عليه في جماعة من أصحابي وقبرته، فقال الحسن: إنّ النبي رضي عنك بسبب ذلك، فأحسن إلى الحسن البصري وأمر له بجوائز» «4».

وقال ابن الجوزي: «وذكر ابن أبي الدُّنيا أنّهم وجدوا في خزانة يزيد رأس

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 333

الحسين فكفّنوه ودفنوه بدمشق عند باب الفراديس» «1».

وذكره أيضاً في «الردّ على المتعصّب العنيد» عن ابن أبي الدُّنيا من حديث عثمان بن عبد الرحمان عن محمّد بن عمر بن صالح- ثمّ نقل الخبر كما في المنتظم- ثمّ قال: «وعثمان ومحمّد ليسا بشي ء عند أهل الحديث، والأوّل- أي الدفن بالبقيع- الصحيح» «2».

وروى ابن نما عن منصور بن جمهور «أنّه دخل خزانة يزيد بن معاوية، لمّا فتحت وجد بها جونة حمراء، فقال لغلامه سليم: احتفظ بهذه الجونة، فإنّها كنز من كنوز بني أميّة، فلمّا فتحها إذا فيها رأس الحسين عليه السلام وهو مخضوب بالسواد، فقال لغلامه: آتني بثوب، فأتاه به، فلفّه، ثمّ دفنه بدمشق عند باب الفراديس عند البرج الثالث ممّا يلي المشرق» «3».

ثمّ ذكر

سائر الأقوال، واعتمد على كون الدفن بكربلاء «4».

وذكر سبط ابن الجوزي ما رواه جدّه عن ابن أبي الدُّنيا بعنوان القول الثالث في المسألة، وفيه: «فكفّنوه ودفنوه بباب الفراديس في دار الإمارة، وكذا ذكر الواقدي أيضاً» «5».

ثمّ قال: «والرابع أنّه بمسجد الرقّة على الفرات بالمدينة المشهورة، ذكره عبداللَّه بن عمر الورّاق في كتاب المقتل، وقال: لمّا حضر الرأس بين يدي يزيد بن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 334

معاوية قال: لأبعثنّه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان وكانوا بالرقّة، فبعثه إليهم، فدفنوه في بعض دورهم، ثمّ أُدخلت تلك الدار في المسجد الجامع قال: وهو إلى جانب سدرة هناك، وعليه شبيه النيل لا يذهب شتاءً ولا صيفاً» «1».

وروى الذهبي عن أبي أميّة الكلاعي قال: «سمعت أبا كرب قال: كنت فيمن توثّب على الوليد بن يزيد بدمشق، فأخذت سفطاً وقلت فيه غنائي، فركبت فرسي وخرجت به من باب توما، قال: ففتحته فإذا فيه رأس مكتوب عليه هذا رأس الحسين بن علي، فحفرت له بسيفي فدفنته» «2».

وروى ابن كثير ما رواه ابن أبي الدُّنيا من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن محمّد بن عمر بن صالح، وقال وهما ضعيفان، ثمّ قال: «قلت: ويعرف مكانه بمسجد الرأس اليوم داخل باب الفراديس الثاني، ثمّ ذكر ما رواه ابن عساكر عن ريّا» «3».

وقال ابن الحوراني: «وداخل باب الفراديس مشهد الحسين ويسمّى مسجد الرأس وهو معروف الآن، وهو مشهد حافل عليه جلالة وهيبة وله وقف على مصالحه، وهذا المشهد يقصده الناس للزيارة والدُّعاء والتبرّك والتماس الحوائج، وهو في غاية القبول» «4».

وجاء في دائرة المعارف: «وفي باب الفراديس مشهد الحسين بن علي» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 335

فتحصّل من جميع ذلك: ..... ص : 335

أنّ الروايات حول دفن الرأس الشريف في الشام على أقسام، منها

ما روي بطريق ضعيف كما اعترفوا بذلك، ومنها ما أعرض عنها ناقلوها.

وأنّ الأقوال في تحديد مكانه مختلفة وهي:

أ) دمشق- في حائط بها-

ب) في دار الإمارة بدمشق.

ج) في المقبرة بدمشق.

د) في القصر الخضراء بدمشق.

ه) عند باب الفراديس بدمشق.

و) بمسجد الرقّة.

ز) قرب باب توما.

5) مصر: قال ابن نما: وحدّثني جماعة من أهل مصر أنّ مشهد الرأس عندهم يسمّونه مشهد كريم، عليه من الذهب شي ء كثير يقصدونه في المراسم، ويزورونه، ويزعمون أنّه مدفون هناك «1».

وقال سبط ابن الجوزي: «واختلفوا في الرأس على أقوال .. الخامس: أنّ الخلفاء الفاطميّين نقلوه من باب الفراديس إلى عسقلان، ثمّ نقلوه إلى القاهرة، وهو فيها، وله مشهد عظيم يزار في الجملة» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 336

ولقد ذكرنا اختيار ابن نما وسبط ابن الجوزي القول بدفن الرأس الشريف بكربلاء.

قال ابن كثير: «وادّعت الطائفة المسمّون بالفاطميّين الذين ملكوا الديار المصريّة قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستّين وستّمائة أنّ رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها، وبنوا عليه المشهد المشهور به بمصر الذي يقال له تاج الحسين بعد سنة خمسمائة، وقد نصّ غير واحد من أئمّة أهل العلم على أنّه لا أصل لذلك» «1». ثمّ ذكر علّة ذلك على ما زعمه، والذي يظهر حقده من خلاله.

وقال الشبلنجي: «اختلفوا في رأس الحسين رضى الله عنه بعد مسيره إلى الشام إلى أين سار وفي أيّ موضع استقرّ، فذهب طائفة إلى أن يزيد أمر أن يطاف به في البلاد، فطيف به حتّى انتهى به إلى عسقلان، فدفنه أميرها بها، فلمّا غلب الأفرنج على عسقلان افتداه منهم الصالح طلائع وزير الفاطميّين بمال جزيل، ومشى إلى لقائه من عدّة مراحل، ووضعه في كيس حرير أخضر على كرسي من الآبنوس،

وفرش تحته المسك والطيب، وبنى عليه المشهد الحسيني المعروف بالقاهرة قريباً من خان الخليلي .. والذي عليه طائفة من الصوفية أنّه بالمشهد القاهري.

قال المناوي في طبقاته: «ذكر لي بعض أهل الكشف والشهود أنّه حصل له اطّلاع على أنّه دفن مع الجثّة بكربلاء، ثمّ ظهر الرأس بعد ذلك بالمشهد القاهري! لأنّ حكم الحال بالبرزخ حكم الإنسان الذي تدلّى في تيّار جارٍ فيطفو بعد ذلك في مكان آخر، فلمّا كان الرأس منفصلًا طاف في هذا المحل (المسمّى) بالمشهد الحسيني المصري! وذكر أنّه خاطبه» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 337

وقال: وفي كتاب الخطط للمقريزي بعد كلام على مشهد الحسين رضى الله عنه ما نصّه: «وكان حمل الرأس الشريف إلى القاهرة من عسقلان، ووصوله إليها في يوم الأحد ثامن من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة .. ويذكر أنّ هذا الرأس الشريف لمّا اخرج من المشهد بعسقلان وجد دمه لم يجفّ، وله ريح كريح المسك» «1».

وقال الشبراوي: «قال العلّامة الشعراني: لمّا دفن الرأس الشريف ببلاد المشرق ومضى عليه مدّة أرشى عليه الوزير طلائع بن رزيك، وأنفق ثلاثين ألف دينار، ونقله إلى مصر، وبنى عليه المشهد الشريف، وخرج هو وعسكره حفاة إلى نحو الصالحية من طريق الشام يتلقّون الرأس الشريف، ثمّ وضعه طلايع في برنس من حرير أخضر على كرسي من ابنوس، وفرش تحته المسك والطيب، وقد زرته مراراً، .. ثمّ ذكر رؤيا الشيخ شهاب الدين أحمد بن الشبلي الحنفي» «2».

إنّ طلائع بن رزيك كان نائب مصر، كما صرّح بذلك الشبراوي «3»، وذكر تفصيل ما حصل من نقل الرأس من عسقلان إلى القاهرة سنة 548 «4».

وفي جميع ذلك أنّه على فرض صحّته فلعلّه راجع إلى أحد أصحاب الحسين عليه السلام الذين استشهدوا

معه صلوات اللَّه عليه، وأهل البيت أدرى بما في البيت، ولم يذكر أحد منهم حول دفن الرأس الشريف بمصر.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 338

فالمختار هو قول المشهور من إلحاق الرأس الشريف بالجسد الطاهر بكربلاء.

ولنختم الكلام بما ذكره سبط ابن الجوزي: ففي أيّ مكان رأسه أو جسده فهو ساكن في القلوب والضمائر، قاطن في الأسرار والخواطر، أنشدنا بعض أشياخنا في هذا المعنى:

لا تطلبوا المولى «1»

حسين بأرض شرق أو بغرب

ودعوا الجميع وعرّجوا نحوي فمشهده بقلبي «2»

ترك كربلاء نحو المدينة ..... ص : 338

ثمّ إنّ أهل بيت الرسول صلى الله عليه و آله تركوا كربلاء قاصدين المدينة، بعدما أقاموا العزاء على سيّد الشهداء بكربلاء.

قال السيّد ابن طاووس: قال الراوي: ثمّ انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة «3».

ولقد نلتم ونلنا منكم وكذاك الحرب أحياناً دول

نضع الأسياف في أكتافكم حيث نهوى عللًا بعد نهل

نخرج الأضياح من أستاهكم كسلاح النّيب يأكلن العصل

إذ تولّون على أعقابكم هرباً في الشعب أشباه الرِسَل

إذ شددنا شدّة صادقةً فأجأناكم إلى سفح الجبل

بخناطيل كأشداف الملا من يلاقوه من الناس يهل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 339

ضاق عنّا الشعب إذ نجزعه وملانا الفرط منه والرِّجَل

برجالٍ لستُمُ أمثالهم أيّدوا جبريل نصراً فنزل

وعلونا يوم بدرٍ بالتّقى طاعة اللَّه وتصديق الرّسل

وقتلنا كلّ رأسٍ منهم وقتلنا كلّ جحجاحٍ رفل

وتركنا في قريشٍ عورةً يوم بدرٍ وأحاديث المثل

ورسول اللَّه حقّاً شاهدٌ يوم بدرٍ والتنابيل الهبل

في قريشٍ من جموعٍ جمّعوا مثل ما يجمع في الخصب الهمل

نحن لا أمثالكم، ولد استها نحضر الناس إذا البأس نزل «1»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 343

الفصل الثالث إلى مدينة الرسول ..... ص : 343

المدينة قبل وصول خبر مقتل الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 343
اشارة

كانت المدينة المنوّرة تترقّب سماع خبر أعظم حادثة وأكبر كارثة وأفضع فاجعة في العالم.. كيف لا وهو خبر قتل من قال جدّه سيّد الكائنات في حقّه:

«حسين منّي وأنا من حسين» «1»

.إنّ بعض أقرباء النبيّ صلى الله عليه و آله وأصحابه كانوا يعلمون بمصير الحسين عليه السلام إجمالًا، وذلك عبر ما سمعوه عن صاحب الرسالة صلى الله عليه و آله مباشرةً أو بالواسطة، فإنّهم- وإن فاتهم الفوز العظيم، أو قصّروا في سبيل نصرة ابن بنت نبيّهم عليه السلام- ولكن ذلك لم يمنعهم أن يعيشوا في حالة من الخوف والقلق، وترقّب الأحداث!

لقد قامت زوجة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله امّ سلمة- التي حصلت على شرف العلم والمعرفة وأصبحت موضع سرّ

الرسول صلى الله عليه و آله- بدورها العظيم تجاه هذه المأساة، إذ استودعها النبيّ صلى الله عليه و آله تربة من تراب كربلاء قبل مقتل الحسين عليه السلام بسنوات عديدة، ولقد احتفظت بها، وصار احمرارها علامة تحقّق المأساة. وهي التي روت أحاديث كثيرة في هذا الشأن، كما سترى.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 344

وروى ابن عبّاس بدوره عدّة روايات حول هذا الموضوع، واتّخذ مواقف جيّدة- ولا نريد بذلك توجيه عدم حضوره في كربلاء.

وثمّة بعض القصائد والأشعار التي ربما نسبت إلى الجنّ، وإنّها وإن كانت بموضع من الإمكان بل الوقوع، فإنّ مصيبة قتل الحسين عليه السلام شملت الكون بكامله والخلائق بأجمعها، والموجودات كلّها، إلّاأنّ هناك احتمالًا آخر وهو صدورها من بعض الناس الموالين لأبي عبداللَّه الحسين عليه السلام ومحبّي أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، أو أنّ بعضها كذلك، ولا ضير بأن نجمع حصول كلا الأمرين وتحقّقهما- أي صدور بعضها من الجنّ وبعضها من شيعة الإمام من الإنس.

كما رويت بعض المنامات والرؤى الصادقة من أمثال امّ سلمة وابن عبّاس وغيرهما تناقلها الناس وأثّرت في أوساط المجتمع الذي تهيّأ لسماع خبر الفاجعة.

ولا ننسى أنّ الآيات السماوية والأرضية الكثيرة التي حصلت في مناطق عديدة بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام خلقت الجوّ المناسب لذلك.

وإليك- أيّها القارئ الكريم- بعض النصوص التي تعالج هذا الموضوع وتبيّن ما جرى في هذه الفترة من الزمان.

دور أمّ سلمة ..... ص : 344
* أُمّ سلمة تعلم بمصير الإمام عليه السلام ..... ص : 344

فقد روى الطبراني بإسناده عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ، عن أُمّ سلمة قالت:

«قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يُقتل حسين بن علي رضى الله عنه على رأس ستّين من

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 345

مهاجرتي» «1»

* أُمّ سلمة ترى تربة الحسين عليه السلام ..... ص : 345
اشارة

روى الطبراني بإسناده عن عتبة بن عبداللَّه بن زمعة، عن أُمّ سلمة:

«أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اضطجع ذات يوم، فاستيقظ وهو خاثر النفس وفي يده تربة حمراء يقلّبها، فقلت: ما هذه التربة يارسول اللَّه؟ فقال: أخبرني جبريل عليه السلام أنّ هذا- الحسين عليه السلام- يُقتل بأرض العراق، فقلت لجبريل عليه السلام: أرني تربة الأرض التي يُقتل بها. فهذه تربتها» «2»

.وروى الحاكم بإسناده عن عبداللَّه بن وهب بن زمعة قال:

أخبرتني أُمّ سلمة رضي اللَّه عنها أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم اضطجع ذات ليلة للنوم، فاستيقظ وهو حائر، ثمّ اضطجع فرقد، ثمّ استيقظ وهو حائر دون ما رأيت به المرّة الأولى، ثمّ اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يقبّلها، فقلت: ما هذه التربة يارسول اللَّه؟ قال: أخبرني جبريل عليه الصلاة والسلام أنّ هذا- الحسين- يُقتل بأرض العراق فقلت لجبريل: «أرني تربة الأرض التي يُقتل بها»، فهذه تربتها.

ثمّ قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 346

وروى الطبراني بإسناده عن المطلب بن عبداللَّه بن حنطب، عن أُمّ سلمة قالت:

«كان رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم جالساً ذات يوم في بيتي فقال: لا يدخل عليَّ أحد، فانتظرت فدخل الحسين رضى الله عنه، فسمعت نشيج رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم يبكي، فاطّلعتُ فإذا حسين في حجره والنبيّ صلى الله عليه و سلم يمسح جبينه وهو

يبكي، فقلت: واللَّه ما علمت حين دخل، فقال: إنّ جبرئيل عليه السلام كان معنا في البيت، فقال: تحبّه؟ قلت: أمّا من الدُّنيا فنعم، قال: إنّ أُمّتك ستقتل هذا بأرض يُقال لها كربلاء، فتناول جبريل عليه السلام من تربتها فأراها النبيّ صلى الله عليه و سلم، فلمّا أُحيط بحسين حين قُتل قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء، قال: صدق اللَّه ورسوله أرض كربٍ وبلاء» «1».

وروي بإسناده عن صالح بن أريد عن أُمّ سلمة رضي اللَّه عنها قالت:

«قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: اجلسي بالباب ولا يلجنّ عليَّ أحد، فقمت بالباب إذ جاء الحسين رضى الله عنه، فذهبت أتناوله، فسبقني الغلام، فدخل على جدّه، فقلت: يا نبيّ اللَّه، جعلني اللَّه فداك، أمرتني أن لا يلج عليك أحد، وإنّ ابنك جاء، فذهبت أتناوله فسبقني، فلمّا طال ذلك تطلّعت من الباب، فوجدتك تقلّب بكفّيك شيئاً ودموعك تسيل، والصبي على بطنك، قال: نعم.

أتاني جبريل، فأخبرني أنّ أُمّتي يقتلونه، وأتاني بالتربة التي يقتل عليها، فهي التي أقلّب بكفّي» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 347

ملاحظتان ..... ص : 347
اشارة

1- إنّ أُمّ سلمة ليست الوحيدة في نقل أخبار إتيان جبرئيل بتربة الحسين عليه السلام إلى جدّه الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، بل هناك روايات عديدة عن غيرها مثل عائشة وزينب بنت جحش حول هذا الموضوع الهامّ «1» التي لا مجال لذكرها الآن.

2- إنّها لم تكن الوحيدة التي رأت تربة الحسين عليه السلام قبل مقتله، بل هناك أشخاص رأوها وعلى رأسهم أبوه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، نذكر بعضهم:

أ) الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: ..... ص : 347

روى الطبراني بإسناده عن عبداللَّه بن نجي عن أبيه أنّه سافر مع عليّ رضى الله عنه، فلمّا حاذى نينوى قال: صبراً أبا عبداللَّه صبراً بشط الفرات، قلت:

وما ذاك؟ قال: دخلتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم ذات يوم وعيناه تفيضان، فقلت: هل أغضبك أحد يارسول اللَّه؟ ما لي أرى عينيك مفيضتين؟ قال: قام من عندي جبريل عليه السلام، فأخبرني أنّ أُمّتي تقتل الحسين ابني، ثمّ قال: هل لك أن أُريك من تربته؟ قلت: نعم، فمدّ يده فقبض قبضة، فلمّا رأيتها لم أملك عينيّ أن فاضتا «2»

ب) أبو بكر وعمر وحذيفة وعمّار وأبو ذرّ: ..... ص : 347

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 348

روى الطبراني بإسناده عن عائشة قالت:

«دخل الحسين بن علي رضى الله عنه على رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم وهو يوحى إليه، فنزا على رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم وهو منكبّ، ولعب على ظهره، فقال جبريل لرسول اللَّه صلى الله عليه و سلم: أتحبّه يا محمّد؟ قال: ياجبريل، وما لي لا أحبّ ابني؟ قال: فإنّ أُمّتك ستقتله من بعدك. فمدّ جبريل عليه السلام يده، فأتاه بتربة بيضاء، فقال: في هذه الأرض يُقتل ابنك هذا يامحمّد واسمها الطفّ. فلمّا ذهب جبريل عليه السلام من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم والتربة في يده يبكي، فقال: يا عائشة إنّ جبريل عليه السلام أخبرني أنّ الحسين ابني مقتول في أرض الطفّ، وأنّ أُمّتي ستفتن بعدي.

ثمّ خرج إلى أصحابه فيهم عليّ وأبو بكر وعمر وحذيفة وعمّار وأبو ذرّ- رضي اللَّه عنهم- وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يارسول اللَّه؟ فقال: أخبرني جبريل أنّ ابني الحسين يُقتل بعدي بأرض الطفّ، وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أنّ فيها مضجعه»

«1».

* تربة الحسين عليه السلام عند أُمّ سلمة ..... ص : 348

روى الطبراني بإسناده عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال:

«استأذن مَلَك القطر ربّه عزّوجلّ أن يزور النبيّ صلى الله عليه و سلم، فأذِن له، فجاءه وهو في بيت أُمّ سلمة، فقال: يا أُمّ سلمة، احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، فبينما هم على الباب إذ جاء الحسين، ففتح الباب، فجعل يتقفّز على ظهر النبيّ صلى الله عليه و سلم، والنبيّ صلى الله عليه و سلم

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 349

يلثمه ويقبّله، فقال له المَلَك: تحبّه يا محمّد؟ قال: نعم [قال:] أما أنّ أُمّتك ستقتله، وإن شئت أن أُريك من تربة المكان الذي يُقتل فيها، قال: فقبض من المكان الذي يُقتل فيه، فأتاه بسهلة حمراء، فأخذته أُمّ سلمة، فجعلته في ثوبها، قال ثابت: كنّا نقول: إنّها كربلاء» «1».

وروى الطبراني بإسناده عن شقيق بن سلمة عن أُمّ سلمة قالت:

«كان الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما يلعبان بين يدي النبيّ صلى الله عليه و سلم في بيتي فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمّد، إنّ أُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك- فأومأ بيده إلى الحسين- فبكى رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم وضمّه إلى صدره، ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم: وديعة عندك هذه التربة، فشمّها رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم وقال: ويح كرب وبلاء.

قالت: وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم: يا أُمّ سلمة، إذا تحوّلت هذه التربة دماً فاعلمي أنّ ابني قد قتل.

قال: فجعلتها أُمّ سلمة في قارورة، ثمّ جعلت تنظر إليها كلّ يوم وتقول: إنّ يوماً تحولين دماً ليوم عظيم» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 350

وقال الشيخ المفيد: وروي بإسناد آخر عن أُمّ سلمة- رضي اللَّه عنها- أنّها قالت:

«خرج رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله من عندنا ذات ليلة، فغاب عنّا طويلًا، ثمّ جاءنا وهو أشعث أغبر ويده مضمومة، فقلت: يارسول اللَّه، ما لي أراك شعثاً مغبرّاً؟! فقال: أسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يُقال له كربلاء، فأُريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي، فلم أزل ألقط دماءهم، فها هي في يدي، وبسطها إليّ فقال: خذيها واحتفظي بها، فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعته في قارورة، وسددتُ رأسها واحتفظتُ به، فلمّا خرج الحسين عليه السلام من مكّة متوجِّهاً نحو العراق كنت أخرج تلك القارورة في كلّ يوم وليلة فأشمّها وأنظر إليها، ثمّ أبكي لمصابه، فلمّا كان في اليوم العاشر من المحرّم- وهو اليوم الذي قُتل فيه عليه السلام- أخرجتها في أوّل النهار وهي بحالها، ثمّ عدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط، فصمت في بيتي وبكيت وكظمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة، فيسرعوا بالشماتة، فلم أزل حافظةً للوقت حتّى جاء الناعي ينعاه، فحقّق ما رأيت» «1».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 351

وقال ابن الأثير:

«وروي أنّ النبي صلى الله عليه و سلم أعطى أُمّ سلمة تراباً من تربة الحسين حمله إليه جبرائيل، فقال النبيّ صلى الله عليه و سلم لأُمّ سلمة: إذا صار هذا التراب دماً فقد قُتل الحسين، فحفظت أُمّ سلمة ذلك التراب في قارورة عندها، فلمّا قُتل الحسين صار التراب دماً، فأعلمت الناس بقتله أيضاً» «1».

وقال الطبري:

«إنّ أُمّ سلمة أخرجت يوم قتل الحسين بكربلاء وهي بالمدينة قارورة فيها دم، فقالت: قُتل- واللَّه- الحسين، فقيل: من أين علمتِ؟ قالت: دفع إليّ رسول اللَّه من تربته وقال لي: إذا صار هذا دماً فاعلمي أنّ ابني قد قتل، فكان كما

قالت» «2».

وذكر الخوارزمي «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أخذ تلك القبضة- من تربة الحسين عليه السلام- التي أتاه بها المَلَك فجعل يشمّها ويبكي ويقول في بكائه:

اللّهمَّ لا تبارك في قاتل ولدي، واصله نار جهنّم.

ثمّ دفع تلك القبضة إلى أُمّ سلمة وأخبرها بقتل الحسين بشاطئ الفرات، وقال: يا أُمّ سلمة، خذي هذه التربة إليك، فإنّها إذا تغيّرت وتحوّلت دماً عبيطاً فعند ذلك يُقتل ولدي الحسين» «3»

.بل المستفاد من بعض النصوص أنّ أُمّ سلمة كانت تحمل قارورتين من تراب الحسين عليه السلام، إحداهما سلّمها إليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والاخرى تسلّمتها من

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 352

يدي الحسين عليه السلام.

لقد روى الفقيه المحدّث القطب الراوندي أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا أراد العراق

«قالت له أُمّ سلمة: لا تخرج إلى العراق، فقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: يقتل ابني الحسين ب [أرض] العراق، وعندي تربة دفعها إليّ في قارورة.

فقال: واللَّه إنّي مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً، وإن أحببت أن أُريك مضجعي ومصرع أصحابي، ثمّ مسح بيده على وجهها، ففسح اللَّه في بصرها حتّى أراها ذلك كلّه، وأخذ تربة فأعطاها من تلك التربة أيضاً في قارورة أُخرى، وقال عليه السلام: فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت.

فقالت أُمّ سلمة: فلمّا كان يوم عاشوراء نظرت إلى القارورتين بعد الظهر، فإذا هما قد فاضتا دماً.

فصاحت، ولم يقلّب في ذلك اليوم حجر ولا مدر إلّاوجد تحته دم عبيط» «1».

ويظهر من رواية الفقيه ابن حمزة عن الباقر عليه السلام مرسلًا- بعد ذكر ما يقرب من نقل الخرائج في المضمون- أنّها خلطت التربة التي أعطاها الإمام الحسين عليه السلام مع التربة التي كانت

عندها «2».

* ما سمعته أُمّ سلمة ليلة قتل الحسين عليه السلام ..... ص : 352

روى الخوارزمي بإسناده عن عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سلمة يذكر عن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 353

أبيه عن جدّه عن امّ سلمة قالت:

«جاء جبرئيل عليه السلام إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: إنّ أُمّتك تقتله- يعني الحسين- بعدك، ثمّ قال له: ألا أُريك من تربة مقتله؟ قال: نعم، فجاء بحصيّات، فجعلهنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قارورة، فلمّا كانت ليلة قتل الحسين- قالت أُمّ سلمة- سمعت قائلًا يقول:

أيّها القاتلون جهلًا حسيناً أبشروا بالعذاب والتنكيل

قد لُعنتم على لسان ابن داود وموسى وصاحب الإنجيل

قال: فبكيت وفتحت القارورة، فإذا قد حدث فيها دم» «1».

* ما رأته امّ سلمة في منامها ..... ص : 353

روى الترمذي بإسناده عن سلمى قالت: «دخلتُ على امّ سلمة وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم- تعني في المنام- وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: ما لكَ يارسول اللَّه؟ قال: شهدت قتل الحسين آنفاً» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 354

وزاد الباعوني- بعد ذكره خبر سلمى-: ثمّ قالت: «فعلوها؟ ملأ اللَّه قبورهم وبيوتهم ناراً». ثمّ استيقظتْ مغشيّاً عليها «1».

وقال الخوارزمي بعد ذكره الخبر: «وجاء في المراسيل أنّ سلمى المدنيّة قالت: رفع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أُمّ سلمة قارورة فيها رمل من الطف، وقال لها: إذا تحوّل هذا دماً عبيطاً فعند ذلك يقتل الحسين، قالت سلمى: فارتفعت واعية من حجرة أُمّ سلمة فكنت أوّل من أتاها، فقلت لها: ما دهاك يا أُمّ المؤمنين؟ قالت:

رأيت رسول اللَّه في المنام والتراب على رأسه، فقلت: ما لكَ؟ قال: وثب الناس على ابني فقتلوه، وقد شهدته قتيلًا الساعة، فاقشعرّ جلدي وانتبهت وقمت إلى القارورة، فوجدتها تفور دماً، قالت سلمى: ورأيتها موضوعة بين يديها» «2».

روى الشيخ

الصدوق رحمه الله بإسناده عن أبي البختري وهب بن وهب عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام عن أُمّ سلمة رضي اللَّه عنها «أنّها أصبحت يوماً تبكي، فقيل لها: ما لكِ؟ قالت: لقد قُتل ابني الحسين عليه السلام، وما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منذ مات إلّاالليلة، فقلت: بأبي أنت وأُمّي، مالي أراك شاحباً؟ فقال: لم أزل منذ الليلة أحفر قبر الحسين وقبور أصحابه» «3»

.وذكر الشيخ الطوسي بإسناده عن عبداللَّه بن عبّاس قال: «بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أُمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه و آله فخرجت يتوجّه بي قائدي إلى منزلها، وأقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء، فلمّا انتهيت إليها قلت: يا أُمّ المؤمنين، ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني، وأقبلت على

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 355

النسوة الهاشميّات وقالت: يا بنات عبد المطّلب، اسعدنني وابكين معي، فقد واللَّه قُتل سيّدكنّ وسيّد شباب أهل الجنّة، قد واللَّه قُتل سبط رسول اللَّه وريحانته الحسين، فقيل: يا أُمّ المؤمنين، ومن أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المنام الساعة شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم، فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم، قالت: فقمت حتّى دخلت البيت، وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء، فقال: إذا صارت هذه التربة دماً فقد قُتل ابنك، وأعطانيها النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: اجعلي هذه التربة في زجاجة- أو قال: في قارورة- ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين، فرأيت القارورة الآن، وقد صارت دماً

عبيطاً تفور، قال: وأخذت أُمّ سلمة من ذلك الدم، فلطّخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين عليه السلام، فجاءت الركبان بخبره وأنّه قد قُتل في ذلك اليوم.

قال عمرو بن ثابت: قال أبي: فدخلت على أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام منزله، فسألته عن هذا الحديث، وذكرت له رواية سعيد بن جبير هذا الحديث عن عبداللَّه بن عبّاس، فقال أبو جعفر عليه السلام: حدّثنيه عمر بن أبي سلمة عن أُمّه امّ سلمة.

قال ابن عبّاس- في رواية سعيد بن جبير عنه قال-: فلمّا كانت الليلة رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في منامي أغبر أشعث، فذكرت له ذلك وسألته عن شأنه، فقال لي:

ألم تعلمي أنّي فرغت من دفن الحسين وأصحابه.

قال عمرو بن أبي المقدام: فحدّثني سدير عن أبي جعفر عليه السلام أنّ جبرئيل جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله بالتربة التي يُقتل عليها الحسين عليه السلام، قال أبو جعفر: فهي عندنا» «1»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 356

وروى الفقيه ابن حمزة عن الإمام الباقر عليه السلام:

«فلمّا كانت تلك الليلة التي صبيحتها قُتل الحسين بن عليّ صلوات اللَّه عليهما فيها، أتاها (أُمّ سلمة) رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المنام أشعث باكياً مغبرّاً، فقالت: يارسول اللَّه، مالي أراك باكياً مغبرّاً أشعث؟ فقال: دفنت ابني الحسين عليه السلام وأصحابه الساعة.

فانتبهت أُمّ سلمة رضي اللَّه عنها، فصرخت بأعلى صوتها، فقالت: وا ابناه، فاجتمع أهل المدينة، وقالوا لها: ما الذي دهاك؟

فقالت: قُتل ابني الحسين بن علي صلوات اللَّه عليهما، فقالوا لها:

وما علمك [بذلك]؟ قالت: أتاني في المنام رسول اللَّه صلوات اللَّه عليه باكياً أشعث أغبر، فأخبرني أنّه دفن الحسين وأصحابه الساعة، فقالوا: أضغاث أحلام،

فقالت: مكانكم، فإنّ عندي تربة الحسين عليه السلام، فأخرجت لهم القارورة فإذا هي دم عبيط» «1».

* أُمّ سلمة تسمع نوح الجنّ ..... ص : 356

روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أُمّ سلمة- زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله- قالت:

ما سمعت نوح الجنّ منذ قُبض النبيّ صلى الله عليه و آله إلّاالليلة، ولا أراني إلّاوقد أصبت بابني.

قالت: وجاءت الجنّية منهم:

ألا يا عين فانهملي بجهد فمن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا إلى متجبّر في ملك عبد «1»

* صراخ أُمّ سلمة وضجّة المدينة ..... ص : 356

لقد ذكرنا عن ابن عبّاس أنّ أهل المدينة- رجالًا ونساءً- توجّهوا نحو بيت أُمّ سلمة، بعدما سمعوا صراخها وبكاءها.

وممّا يؤيّد ذلك ما أورده اليعقوبي في تاريخه، قال: «وكان أوّل صارخة صرخت في المدينة أُمّ سلمة زوج النبي، كان دفع إليها قارورة فيها تربة، وقال لها:

إنّ جبريل أعلمني أنّ أُمّتي تقتل الحسين، وأعطاني هذه التربة، وقال لي: إذا صارت دماً عبيطاً فاعلمي أنّ الحسين قد قُتل، وكانت عندها، فلمّا حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كلّ ساعة، فلمّا رأتها قد صارت دماً صاحت واحسيناه! وا ابن رسول اللَّه! وتصارخت النساء من كلّ ناحية، حتّى ارتفعت المدينة بالرجّة التي ما سُمع بمثلها قطّ» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 358

* خلاصة الكلام ..... ص : 358

إنّ أُمّ سلمة- بما حازت من موقع انتمائها لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وبما نالت من موضع ائتمانها من قبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وبما فازت من معرفتها بآل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وبما قامت برسالتها تجاه آل اللَّه ...- أخذت دورها المحوري في فترة عدم حضور آل بيت المصطفى صلى الله عليه و آله بالمدينة، وأثّرت تأثيراً بالغاً، بحيث ضجّت المدينة بصراخها ورجفت بأنينها، سلام اللَّه ورضوانه عليها، ولعلّ عدم إجابتها لسؤال ابن عبّاس- في ما رواه الشيخ الطوسي- عتاب منها عليه في عدم نصرته سبط الرسول عليه السلام، واللَّه العالم.

دور ابن عبّاس ..... ص : 358
* علمه بمصير سيّد الشهداء عليه السلام ..... ص : 358

كان ابن عبّاس من الذين يعلمون بمصير الإمام عليه السلام، فمن الطبيعي أن يكون ممّن يترقّب خبر استشهاده عليه السلام.

أخرج الحاكم عن ابن عبّاس قال: «ما كنّا نشكّ وأهل البيت متوافرون أنّ الحسين يُقتل بالطف» «1».

* رؤيا ابن عبّاس وإخباره بعض الناس ..... ص : 358

روى أحمد بإسناده عن ابن عبّاس قال: «رأيت النبيّ صلى الله عليه و سلم فيما يرى النائم بنصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأُمّي يارسول اللَّه، ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم، فأحصينا ذلك اليوم، فوجدوه قُتل في ذلك اليوم» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 359

وروى ابن عساكر بإسناده عن عليّ بن زيد بن جدعان قال: «استيقظ ابن عبّاس من نومه، فاسترجع وقال: قُتل حسين واللَّه، فقال له أصحابه: كلّا، قال:

رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم ومعه زجاجة من دم، فقال: ألا تعلم ما صنعتْ أُمّتي من بعدي؟ قتلوا ابني الحسين وهذا دمه ودم أصحابه أرفعها إلى اللَّه عزّوجلّ، قال: فكتب ذلك اليوم الذي قال فيه، وتلك الساعة، فما لبثوا إلّاأربعة وعشرين يوماً حتّى جاءهم الخبر بالمدينة أنّه قُتل ذلك اليوم، وتلك الساعة» «1».

وقال الزرندي: وفي رواية أنّ ابن عبّاس كان في قايلة له، فانتبه من قايلته وهو يسترجع، ففزع أهله فقالوا: ما شأنك؟ ما لكَ؟ قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله وهو يتناول من الأرض شيئاً، فقلت: بأبي وأُمّي يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله ماهذا الذي تصنع؟

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 360

قال: دم الحسين أرفعه إلى السماء «1».

وكيفما كان فقد أيقن ابن عبّاس بالمأساة، وأخبر الناس بقتل الحسين عليه السلام، وهذا ما صرّح به ابن الأثير في قوله: قال ابن عبّاس: «رأيت النبيّ

صلى الله عليه و سلم الليلة التي قُتل فيها الحسين وبيده قارورة، وهو يجمع فيها دماً، فقلت: يارسول اللَّه ما هذا؟ قال:

هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى اللَّه تعالى، فأصبح ابن عبّاس فأعلَمَ الناس بقتل الحسين، وقصّ رؤياه، فوُجد قد قُتل في ذلك اليوم» «2».

ولقد ذكر ابن شهرآشوب فيما رواه خصوصيّات لابدّ من ذكرها، قال: «إنّ ابن عبّاس: رأى النبيّ صلى الله عليه و سلم في منامه بعد [ما] قتل الحسين عليه السلام وهو مغبرّ الوجه حافي القدمين باكي العينين، وقد ضمّ حجز قميصه إلى نفسه، وهو يقرأ هذه الآية: «تَخ لَا مَخسْميَهنَحنَّج ثما للَّهَ ئَزتمائِر لًا ثَن لَّج تما يَتْن لَج لُثم ثما لنمنَّى تما لِنملُ ج يخ لَح» «3»

وقال: «إنّي مضيت إلى كربلاء والتقطت دم الحسين من الأرض، هو ذا في حجري، وأنا ماضٍ أُخاصمهم بين يديّ ربّي» «4».

ما سمعه أهل المدينة ..... ص : 360
اشارة

روى الشيخ الجليل ابن قولويه بإسناده عن عمرو بن عكرمة قال: أصبحنا ليلة قتل الحسين عليه السلام بالمدينة، فإذا مولى لنا يقول: سمعنا البارحة منادياً ينادي ويقول:

أيّها القاتلون جهلًا حسينا أبشروا بالعذاب والتنكيل

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 361

كلّ أهل السماء يدعو عليكم من نبيٍّ ومرسلٍ وقبيل

قد لُعنتم على لسان ابن داود وذي الروح حامل الإنجيل «1»

وقال الشيخ مطهر بن طاهر المقدسي: وسمع أهل المدينة ليلة قتل الحسين في نهارها هاتفاً يهتف:

مسح الرسول جبينه فله بريق في الخدود

أبواه من عليا قريش وجدّه خير الجدود «2»

وقال الشيخ الثقة ابن نما الحلّي: وممّا انفرد به النطنزي في كتاب الخصائص عن أبي ربيعة عن أبي قبيل: قيل: سُمع في الهواء بالمدينة قائل يقول:

يا من يقول بفضل آل محمّد بلّغ رسالتنا بغير تواني

قتلتْ شرارُ بني أُميّة سيّداً خير البريّة ماجداً ذا شان

ابن المفضّل

في السماء وأرضها سبط النبيّ وهادم الأوثان

بكت المشارق والمغارب بعدما بكت الأنام له بكلّ لسان «1»

وقال ابن نما:

«وناحت عليه- أي على الحسين عليه السلام- الجنّ، وكان نفر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله منهم المسوّر بن مخزمة ورجال يستمعون النوح ويبكون» «2».

وروى الشيخ ابن قولويه بإسناده عن الحلبي قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام:

«لمّا قُتل الحسين عليه السلام سمع أهلنا قائلًا يقول بالمدينة: اليوم نزل البلاء على هذه الأُمّة، فلا يرون فرحاً حتّى يقوم قائمكم فيشفي صدوركم ويقتل عدوّكم، وينال بالوتر أوتاراً، ففزعوا منه وقالوا: إنّ لهذا القول لحادثاً، قد حدث ما لا نعرفه. فأتاهم خبر الحسين عليه السلام بعد ذلك، فحسبوا ذلك فإذا هي تلك الليلة التي تكلّم فيها المتكلِّم» «3».

وروى الشيخ المفيد بإسناده عن محفوظ بن المنذر قال: «حدّثني شيخ من بني تميم كان يسكن الرابية قال: سمعت أبي يقول: ماشعرنا بقتل الحسين عليه السلام حتّى كان مساء ليلة عاشوراء فإنّي لجالس بالرابية ومعي رجل من الحيّ فسمعنا هاتفاً يقول:

واللَّه ما جئتكم حتّى بصرتُ به بالطفّ منعفر الخدّين منحورا

وحوله فتية تدمى نحورهم مثل المصابيح يعلون الدّجى نورا

وقد حثثت قَلوصي كي أصادفهم من قبل أن يلاقوا الخُرَّد الحورا

فعاقني قدرٌ واللَّه بالغه وكان أمراً قضاه اللَّه مقدورا

كان الحسين سراجاً يُستضاء به اللَّه يعلم أنّي لم أقل زورا

صلّى الإله على جسمٍ تضمّنه قبر الحسين حليف الخير مقبورا

مجاوراً لرسول اللَّه في غُرَف وللوصيّ وللطيّار مسرورا

فقلنا له: من أنت يرحمك اللَّه؟ قال: أنا وأبي من جنّ نصيبين، أردنا مؤازرة الحسين عليه السلام ومواساته بأنفسنا، فانصرفنا من الحجّ، فأصبناه قتيلًا» «1».

إلّا أنّ سبط ابن الجوزي ذكره بنحو آخر قال: «وذكر المدايني عن رجل من أهل المدينة

قال: خرجت أريد اللحاق بالحسين عليه السلام- لمّا توجّه إلى العراق- فلمّا وصلت الربذة إذا برجل جالس، فقال لي: يا عبد اللَّه، لعلّك تريد أن تمدّ الحسين؟ قلت: نعم، قال: وأنا كذلك، ولكن اقعد فقد بعثت صاحباً لي والساعة يقدم بالخبر، قال: فما مضت إلّاساعة وصاحبه قد أقبل وهو يبكي، فقال له الرجل: ما الخبر؟ فقال:

واللَّه ما جئتكم حتّى بصرتُ به في الأرض منعَفر الخدّين منحورا

وحوله فتية تدمى نحورهم مثل المصابيح يغشون الدجى نورا

وقد حثثت قلوصي كي أُصادفهم من قبل ما ينكحون الخرّدَ الحورا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 364

يالهف نفسي لو أنّي لحقتهم إذاً لقرّت إذا حلّوا أساريرا

فقال له الرجل الجالس:

اذهب فلا زال قبراً أنت ساكنه حتّى القيامة يُسقى الغيث ممطورا

في فتيةٍ بذلوا للَّه أنفسهم قد فارقوا المال والأهلين والدورا» «1»

.والمستفاد منه ومن بعض النصوص أنّه سيطرت حالة من الندامة على بعض أوساط المجتمع من بعد خروج أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام إلى العراق، ولعلّه أصابهم الخجل في عدم نصرتهم ابن بنت نبيّهم، وأحسّوا لذلك في نفسهم الذلّ.

ولقد روى الزرندي الخبر بتفصيل أكثر، قال: «ونقل أبو الشيخ في كتابه بسنده إلى محمّد بن عبّاد بن صهيب عن أبيه، قال: قدم رجل المدينة يطلب الحديث والعلم بها، فجلس في حلقة، فمرّ بهم رجل، فسلّم عليهم، فقال له ذلك الرجل:

نحبّ أن تخبرنا بما جئت له، تريد نصرة الحسين بن علي؟ قال: نعم، خرجت أُريد نصرة الحسين، فلمّا صرت بالربذة إذا برجل جالس، فقال لي: يا أبا عبداللَّه، أين تريد؟ قلت: أريد نصرة الحسين، قال: وأنا أريد ذلك أيضاً، ولنا رسول هناك يأتينا بالخبر الساعة، قال: فتعجّبت من قوله: يأتينا بالخبر الساعة، فلم يلبث وهو يُحدّثني إذ أقبل رجل وقال له

الذي كان معي: ما وراءك؟ فأنشأ يقول:

واللَّه ما جئتكم حتّى بصرت به لحب العجاجة لحب السيف منحورا

وحوله فتيةٌ تُدمى نحورهم مثل المصابيح يغشون الدجى نورا

وقد حثثت قلوصي كي أُصادقهم من قبل ما أن يلاقوا الخرّد الحورا

يا لهف نفسي لو أنّي قد لحقت بهم إنّي تحليت إذ حلّت أساويرا

فأجابه الذي كنت معه واستعبر وقال:

في فتيةٍ وهبوا للَّه أنفسهم قد فارقوا المال والأهلين والدورا

فلا زال قبراً أنت تسكنه حتّى القيامة يُسقى الغيث ممطورا

ثمّ التفتُّ فلم أرهما، فعلمت أنّهما من الجنّ، فرجعت إلى المدينة وإذا الخبر قد لحقنا أنّ الحسين قد قُتل، وأنّ رأسه حمله سنان بن أنس النخعي إلى يزيد» «1».

ولا يخفى أنّ سماع الهاتف لم ينحصر بالمدينة وضواحيها، بل حصل في أمكنة شتّى وبقاع عديدة منها:

مكّة وضواحيها: روى القاضي نعمان عن عبداللَّه بن زواق، قال: «سمعت رجلًا من الأنصار يحدّث معمراً، قال: لمّا كان اليوم الذي قُتل فيه الحسين بن عليّ عليه السلام مرّ رجل في بعض الليل في منى، فسمع صوتاً على كبكب «2» كأنّه صوت امرأة تنوح: «ابك ابكي حسينا أيما»، فأجابتها أُخرى من ثبير «3» تقول: «إبك ابكي ابن الرسول ايما». قال الرجل: فكتبت تلك الليلة، فإذا هي الليلة التي تتلو اليوم الذي قُتل الحسين عليه السلام» «4»

ومنها: البصرة. قال ابن نماء: وروي أنّ هاتفاً سُمع بالبصرة ينشد ليلًا:

إنّ الرماح الواردات صدورها نحو الحسين تقاتل التنزيلا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 366

ويهلّلون بأنْ قُتلت وإنّما قَتلوا بك التكبير والتهليلا

فكأنّما قتلوا أباك محمّداً صلّى عليه اللَّه أو جبريلا «1»

رؤيا عامر بن سعد البجلي ..... ص : 366

أورد ابن عساكر بإسناده عن عامر بن سعد البجلي، قال: «لمّا قُتل الحسين بن علي رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم في المنام، فقال: إن رأيت البراء

بن عازب فاقرأه منّي السلام وأخبره أنّ قتلة الحسين بن علي في النار، وإن كاد اللَّه أن يسحت أهل الأرض منه بعذاب أليم.

قال: فأتيت البراء، فأخبرته، فقال: صدق رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم:

من رآني في المنام فقد رآني، فإنّ الشيطان لا يتصوّر بي» «2».

تقاطر الدم من شجرة ..... ص : 366

إنّ مصيبة قتل الحسين عليه السلام شملت الكون كلّه، ولذلك نرى حدوث الآيات الكونية في الأرض والسماء بعد مقتله- صلوات اللَّه عليه- وبكاء العالَم عليه «3»،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 367

وتفصيلها خارج عن المقام، إلّاإنّنا نكتفي بذكر هذا الخبر:

روى العلّامة المجلسي عن بعض كتب المناقب المعتبرة عن سيّد الحفّاظ أبي منصور الديلمي بإسناده عن هند بنت الجون قالت: نزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بخيمة خالتها أُمّ معبد ومعه أصحاب له، فكان من أمره في الشاة ما قد عرفه الناس، فقال «1» في الخيمة هو وأصحابه حتّى أبرد، وكان يوم قائظ شديد حرّه، فلمّا قام من رقدته دعا بماء، فغسل يديه فأنقاهما، ثمّ مضمض فاه ومجّه على عوسجة كانت إلى جنب خيمة خالتها ثلاث مرّات، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه وذراعيه، ثمّ مسح برأسه ورجليه وقال: «لهذه العوسجة «2» شأن» ثمّ فعل من كان معه من أصحابه مثل ذلك، ثمّ قام فصلّى ركعتين، فعجبت أنا وفتيات الحيّ من ذلك وما كان عهدنا ولا رأينا مصلّياً قبله، فلمّا كان من الغد أصبحنا وقد علت العوسجة حتّى صارت كأعظم دوحة عادية وأبهى، وخضّد اللَّه شوكها، وساخت عروقها، وكثرت أفنانها، واخضرّ ساقها وورقها، ثمّ أثمرت بعد ذلك وأينعت بثمر كأعظم ما يكون من الكمأة في لون الورس المسحوق، ورائحة العنبر، وطعم الشهد، واللَّه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص:

368

ما أكل منها جائع إلّاشبع، ولا ظمآن إلّاروي، ولا سقيم إلّابرأ، ولا ذو حاجة وفاقة إلّااستغنى، ولا أكل من ورقها بعير ولا ناقة ولا شاة إلّاسمنت ودرّ لبنها، ورأينا النماء والبركة في أموالنا منذ يوم نزل، وأخصبت بلادنا، وأمرعت، فكنّا نسمّي تلك الشجرة: «المباركة»، وكان ينتابنا من حولنا من أهل البوادي يستظلّون بها، ويتزوّدون من ورقها في الأسفار، ويحملون معهم في الأرض القفار، فيقوم لهم مقام الطعام والشراب، فلم تزل كذلك وعلى ذلك أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمارها، واصفرّ ورقها، فأحزننا ذلك وفرقنا له، فما كان إلّاقليل حتّى جاء نعي رسول اللَّه، فإذا هو قد قُبض ذلك اليوم، فكانت بعد ذلك تثمر ثمراً دون ذلك في العظم والطعم والرائحة، فأقامت على ذلك ثلاثين سنة، فلمّا كانت ذات يوم أصبحنا وإذا بها قد تشوّكت من أوّلها إلى آخرها، فذهبت نضارة عيدانها وتساقط جميع ثمرها، فما كان إلّايسيراً حتّى وافى مقتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فما أثمرت بعد ذلك لا قليلًا ولا كثيراً، وانقطع ثمرها، ولم نزل ومن حولنا نأخذ من ورقها ونداوي مرضانا بها، ونستشفي به من أسقامنا.

فأقامت على ذلك برهة طويلة، ثمّ أصبحنا ذات يوم فإذا بها قد انبعثت من ساقها دماً عبيطاً جارياً وورقها ذابلة تقطر دماً كماء اللحم، فقلنا إن قد حدث عظيمة، فبتنا ليلتنا فزعين مهمومين نتوقّع الداهية، فلمّا أظلم الليل علينا سمعنا بكاءً وعويلًا من تحتها وجلبةً شديدة ورجّة، وسمعنا صوت باكية تقول:

أيابن النبيّ ويابن الوصيّ ويا من بقيّة ساداتنا الأكرمينا

ثمّ كثرت الرنّات والأصوات، فلم نفهم كثيراً ممّا كانوا يقولون، فأتانا بعد ذلك قتل الحسين عليه السلام، ويبست الشجرة، وجفّت، فكسّرتها الرياح والأمطار بعد ذلك، فذهبت

واندرس أثرها.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 369

قال عبد اللَّه بن محمّد الأنصاري: فلقيت دعبل بن علي الخزاعي بمدينة الرسول، فحدّثته بهذا الحديث فلم ينكره وقال: حدّثني أبي عن جدّي عن أمّه سعيدة بنت مالك الخزاعيّة أنّها أدركت تلك الشجرة فأكلت من ثمرها على عهد عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، وأنّها سمعت تلك الليلة نوح الجنّ فحفظت من جنيّة منهنّ:

يابن الشهيد ويا شهيداً عمّه خير العمومة جعفر الطيّار

عجباً لمصقول أصابك حدّه في الوجه منك وقد علاه غبار «1»

ولقد روى ذلك أيضاً الخوارزمي «2» والسيّد محمّد بن أبي طالب «3» بتفاوت يسير.

قصّة الغراب وفاطمة بنت الحسين- الصغرى ..... ص : 369

روى الخوارزمي بإسناده عن المفضّل بن عمر الجعفي، سمعت جعفر بن محمّد عليهما السلام يقول: حدّثني أبي محمّد بن علي، حدّثني أبي عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: لمّا قتل الحسين جاء غراب فوقع في دمه، ثمّ تمرّغ، ثمّ طار، فوقع بالمدينة على جدار دار فاطمة بنت الحسين وهي الصغرى، فرفعت رأسها إليه، فنظرته فبكت وقالت:

نعب الغراب. فقلت: من تنعاه ويلك من غراب!؟

قال: الإمام. فقلت: من؟ قال: الموفّق للصواب

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 370

إنّ الحسين بكربلا بين المواضي والحراب

قلت: الحسين؟ فقال لي: مُلقىً على وجه التراب

ثمّ استقلّ به الجناح ولم يطق ردّ الجواب

فبكيت منه بعبرةٍ تُرضي الإله مع الثواب

قال محمّد بن عليّ عليهما السلام: فنعتْهُ لأهل المدينة، فقالوا: جاءت بسحر عبد المطّلب، فما كان بأسرع من أن جاءهم الخبر بقتل الحسين عليه السلام «1»

الطير المتلطّخ بالدم في المدينة ..... ص : 370

قال العلّامة المجلسي رحمه الله: (روى بعض أصحابنا قال: وروي من طريق أهل البيت عليهم السلام أنّه لمّا استشهد الحسين عليه السلام بقي في كربلاء صريعاً ودمه على الأرض مسفوحاً، وإذا بطائر أبيض قد أتى وتمسّح بدمه، وجاء والدّم يقطر منه، فرأى طيوراً تحت الظلال على الغصون والأشجار، وكلّ منهم يذكر الحبّ والعلف والماء، فقال لهم ذلك الطير المتلطّخ بالدّم: يا ويلكم! أتشتغلون بالملاهي، وذكر الدُّنيا والمناهي، والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ مُلقى على الرمضاء، ظامى ء مذبوح، ودمه مسفوح، فعادت الطيور كلّ منهم قاصداً كربلاء، فرأوا سيّدنا الحسين عليه السلام مُلقى في الأرض، جثّة بلا رأس ولا غسل ولا كفن، قد سفت عليه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 371

السوافي، وبدنه مرضوض قد هشّمته الخيل بحوافرها، زوّاره وحوش القفار، وندبته جنّ السهول والأوعار، قد أضاء التراب من أنواره، وأزهر الجوّ من إزهاره، فلمّا رأته الطيور

تصايحن وأعلنّ بالبكاء والثبور، وتواقعن على دمه يتمرّغن فيه، وطار كلّ واحد منهم إلى ناحية يُعلم أهلها عن قتل أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام، فمن القضاء والقدر أنّ طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول، وجاء يرفرف والدّم يتقاطر من أجنحته، ودار حول قبر سيّدنا رسول اللَّه يعلن بالنداء: «ألا قُتل الحسين بكربلا، ألا ذُبح الحسين بكربلا»، فاجتمعت الطيور عليه وهم يبكون عليه وينوحون.

فلمّا نظر أهل المدينة من الطيور ذلك النوح، وشاهدوا الدّم يتقاطر من الطير، لم يعلموا ما الخبر حتّى انقضت مدّة من الزمان وجاء خبر مقتل الحسين، علموا أنّ ذلك الطير كان يخبر رسول اللَّه بقتل ابن فاطمة البتول، وقرّة عين الرسول.

وقد نُقل أنّه في ذلك اليوم الذي جاء فيه الطير إلى المدينة، كان في المدينة رجل يهودي، وله بنت عمياء زمناء طرشاء مشلولة، والجذام قد أحاط ببدنها، فجاء ذلك الطائر والدم يتقاطر منه، ووقع على شجرة يبكي طول ليلته، وكان اليهودي قد أخرج ابنته تلك المريضة إلى خارج المدينة إلى بستان، وتركها في البستان الذي جاء الطير ووقع فيه، فمن القضاء والقدر أنّ تلك الليلة عرض لليهوديّ عارض، فدخل المدينة لقضاء حاجته، فلم يقدر أن يخرج تلك الليلة إلى البستان التي فيها ابنته المعلولة، والبنت لمّا نظرت أباها لم يأتها تلك الليلة لم يأتها نوم لوحدتها، لأنّ أباها كان يحدّثها ويسلّيها حتّى تنام، فسمعت عند السحر بكاء الطير وحنينه، فبقيت تتقلّب على وجه الأرض، إلى أن صارت تحت

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 372

الشجرة التي عليها الطير، فصارت كلّما حنّ ذلك الطير تجاوبه من قلب محزون، فبينما هي كذلك إذ وقع قطرة من الدّم، فوقعت على عينها ففتحت، ثمّ قطرة أُخرى على عينها الأُخرى فبرئت،

ثمّ قطرة على يديها فعوفيت، ثمّ على رجليها فبرئت، وعادت كلّما قطرت قطرة من الدّم تلطّخ به جسدها، فعوفيت من جميع مرضها من بركات دم الحسين عليه السلام.

فلمّا أصبحت أقبل أبوها إلى البستان، فرأى بنتاً تدور ولم يعلم أنّها ابنته، فسألها أنّه كان لي في البستان ابنة عليلة لم تقدر أن تتحرّك، فقالت ابنته: واللَّه أنا ابنتك، فلمّا سمع كلامها وقع مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قام على قدميه، فأتت به إلى ذلك الطير، فرآه واكراً على الشجرة يئنّ من قلبٍ حزين محترق ممّا رأى ممّا فُعل بالحسين عليه السلام، فقال له اليهودي: أقسمت عليك- بالذي خلقك أيّها الطير- أنْ تكلّمني بقدرة اللَّه تعالى، فنطق الطير مستعبراً، ثمّ قال: إنّي كنت واكراً على بعض الأشجار مع جملة الطيور عند الظهيرة وإذا بطير ساقط علينا، وهو يقول: أيّها الطيور، تأكلون وتتنعّمون، والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ على الرمضاء طريحاً ظامئاً والنحر دام، ورأسه مقطوع، على الرمح مرفوع، ونساؤه سبايا، حفاة عرايا، فلمّا سمعنا بذلك تطايرنا إلى كربلاء، فرأيناه في ذلك الوادي طريحاً، الغسل من دمه، والكفن الرّمل السافي عليه، فوقعنا كلّنا عليه ننوح ونتمرّغ بدمه الشريف، وكان كلّ منّا طار إلى ناحية، فوقعت أنا في هذا المكان.

فلمّا سمع اليهودي ذلك تعجبّ وقال: لو لم يكن الحسين ذا قدر رفيع عند اللَّه ما كان دمه شفاء من كلّ داء، ثمّ أسلم اليهودي وأسلمت البنت وأسلم خمسمائة من قومه) «1».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 373

المدينة بعد تلقّيها خبر مقتل الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 373
اشارة

ضجّت المدينة المنوّرة أربع مرّات لخبر مقتل الإمام أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام منذ استشهاده عليه السلام حتّى وصول أهل بيته إليها، كما يلي:

1- بعد فزع أُمّ سلمة حين ملاحظتها انقلاب ما في القارورة

دماً، وبعد أن رأت النبي صلى الله عليه و آله في منامها.

2- بعد وصول مبعوث ابن زياد، وإذاعة السلطة الفاجرة- رسميّاً- خبر تحقّق الفاجعة والمأساة.

3- بعد مجي ء مبعوثي يزيد بالخبر- أو برأس الحسين عليه السلام كما في بعض الروايات-.

4- بعد وصول آل بيت الحسين إلى المدينة، واستقبال الناس لهم بالعويل والبكاء.

وإليك التفاصيل:

أمّا الموقف الأوّل (انقلاب ما في القارورة دماً ورؤية أم سلمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المنام وتأثّرها) فقد مرّت تفاصيله آنفاً، فلا نعيد.

وأمّا الموقف الرابع (أعني: ضجّة المدينة بعد وصول آل بيت الحسين عليه السلام إليها) فهذا ما سنتناوله تفصيلًا في المبحث الآتي (عودة بقيّة الركب الحسيني إلى المدينة المنوّرة) تحت عنوان «حال المدينة بعد علم أهلها بمصرع الإمام عليه السلام».

أمّا ما سنتعرّض له فهما الموقفان الباقيان، أي الموقف الثاني (بعد وصول مبعوث ابن زياد) والثالث (بعد دخول الرأس الشريف حسب بعض الروايات):

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 374

وصول مبعوث ابن زياد المدينة المنوّرة ..... ص : 374
اشارة

لقد أنفذ اللعين ابن زياد رسولًا إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة يحمل خبر قتل الحسين عليه السلام، وهو عبد الملك بن أبي الحُدَيث السُّلمي «1»، أو عبد الملك بن أبي الحارث السلمي «2»، أو عبيداللَّه بن الحرث السلمي «3».

* ولقد اكتفى بعضٌ بذكر العنوان العام، ولم يصرّح باسمه:

قال السيّد ابن طاووس: «وكتب عبيداللَّه بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بقتل الحسين وخبر أهل بيته، وكتب أيضاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة بمثل ذلك» «4».

وقال ابن الأثير: «فأرسل عبيد اللَّه بن زياد مبشّراً!! إلى المدينة بقتل الحسين إلى عمرو بن سعيد» «5».

وقال ابن كثير: «ثمّ كتب ابن زياد إلى عمرو بن سعيد أمير الحرمين يبشّره بمقتل الحسين!» «6»

*

فيما رواه آخرون بتفاصيل أكثر كالطبري، فإنّه قال: «قال هشام: حدّثني عوانة بن الحكم قال: لمّا قتل عبيداللَّه بن زياد الحسين بن عليّ وجي ء برأسه إليه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 375

دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلمي فقال: انطلق حتّى تقدم المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص، فبشّره بقتل الحسين، وكان عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ، قال: فذهب ليعتل له، فزجره، وكان عبيداللَّه لا يُصطلى بناره، فقال: انطلق حتّى تأتي المدينة ولا يسبقك الخبر، وأعطاه دنانير، وقال: لا تعتلّ، وإنْ قامت بك راحلتك فاشتر راحلة» «1».

ولقد ذكرنا مراراً أنّ أهل المدينة كانوا يترقّبون سماع خبر المأساة، ومن الشواهد على ذلك ما رواه الطبري في الخبر نفسه: قال: «قال عبد الملك: فقدمت المدينة، فلقيني رجل من قريش، فقال: ما الخبر؟ فقلت: الخبر عند الأمير، فقال:

إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، قُتل الحسين بن علي» «2».

مبعوث ابن زياد عند والي المدينة ..... ص : 375

قال الطبري: «قال عبد الملك: فدخلت على عمرو بن سعيد، فقال: ما وراءك؟

فقلت: ما سرّ الأمير. قُتل الحسين بن علي.

فقال: ناد بقتله.

فناديت بقتله، فلم أسمع واللَّه واعية قطّ مثل واعية نساء بني هاشم في دورهنّ على الحسين، فقال عمرو بن سعيد- وضحك-:

عجّت نساء بني زياد عجّة كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

- والأرنب وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب من

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 376

رهط عبد المدان، وهذا البيت لعمرو بن معديكرب-.

ثمّ قال عمرو: هذه واعية بواعية عثمان بن عفّان!

ثمّ صعد المنبر، فأعلم الناس بقتله «1»، ودعا ليزيد بن معاوية ونزل» «2».

ضجّة الناس عند سماع الخبر ..... ص : 376

«ولمّا بلغ أهل المدينة مقتل الحسين كثر النوائح والصوارخ عليه» «3».

وروى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي وابن شهرآشوب عن أبي هياج عبداللَّه بن عامر أنّه قال: «فما رأينا باكياً ولا باكية أكثر ممّا رأينا ذلك اليوم» «4».

اشتداد الواعية في دور بني هاشم ..... ص : 376

روى الشيخ المفيد رحمه الله عن مبعوث ابن زياد إلى المدينة: «فلم أسمع واللَّه واعية قطّ مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن عليّ عليهما السلام حين سمعوا النداء بقتله» «5».

وقال البلاذري: واشتدّت الواعية في دور بني هاشم، فقال عمرو بن سعيد الأشدق: واعية بواعية عثمان.

وقال مروان حين سمع ذلك:

عجّت نساء بني زبيد عجّة كعجيج نسوتنا غداة الأزيب «1»

وقال ابن كثير: ثمّ كتب ابن زياد إلى عمرو بن سعيد أمير الحرمين يبشّره بقتل الحسين، فأمر منادياً فنادى بذلك، فلمّا سمع نساء بني هاشم ارتفعت أصواتهنّ بالبكاء والنوح، فجعل عمرو بن سعيد يقول: هكذا ببكاء نساء عثمان بن عفّان «2».

وروي عن القاسم بن نجيب أنّه قال: ولمّا بلغ أهل المدينة مقتل الحسين بكى عليه نساء بني هاشم ونحن عليه «3».

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب: وكان ابن زياد حين قُتل الحسين عليه السلام أرسل يخبر يزيد بذلك، وكتب أيضاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص ... أمير المدينة بمثل ذلك، فأمّا عمرو بن سعيد فحيث وصله الخبر صعد المنبر وخطب الناس وأعلمهم ذلك، فعظمت واعية بني هاشم، وأقاموا سنن المصائب والمآتم «4».

جلاوزة السلطة تظهر كفرها وحقدها ..... ص : 376

يستبشرون بقتله وبسبّه وهمُ على دين النبيّ محمّد!

واللَّه ما هم مسلمون وإنّما قالوا بأقوال الكفور الملحد

قد أسلموا خوف الردى وقلوبُهم طُويَت على غلٍّ وحقدٍ مكمد «5»

من جلاوزة السلطة الحاكمة ممّن أظهر كفره باللَّه وبغضه وحقده لآل بيت رسوله: عمرو بن سعيد أحد أفراد هذه الشجرة الملعونة.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 378

قال العلّامة الحجّة الشيخ الأميني رحمه الله:

«عمرو بن سعيد بن العاص بن أميّة الأموي المعروف بالأشدق الذي جاء فيه في «مسند أحمد» من طريق أبي هريرة مرفوعاً: ليرعفنّ على منبري جبّار من جبابرة بني

أميّة يسيل رعافه «1»

. قال: فحدّثني من رأى عمرو بن سعيد رعف على منبر رسول اللَّه حتّى سال رعافه، كان هذا الجبّار ممّن يسبّ عليّاً عليه السلام على صهوة المنابر، قال القسطلاني في «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري»، والأنصاري في «تحفة الباري شرح البخاري المطبوع في ذيل إرشاد الساري»، في الصفحة المذكورة: سمّي عمرو بالأشدق، لأنّه صعد المنبر فبالغ في شتم عليّ رضى الله عنه، فأصابته لقوة- أي داء في وجهه..» «2»

وقال- بعد ذكر وصول مبعوث ابن زياد إليه، وعلمه بخبر قتل الحسين عليه السلام-:

ثمّ صعد المنبر، فأعلم الناس قتله، وفي «مثالب أبي عبيدة»: ثمّ أومأ إلى القبر الشريف وقال: «يا محمّد يوم بيوم بدر»، فأنكر عليه قوم من الأنصار «3».

وممّا يدلّ على خبثه ما أردفه العلّامة الأميني رحمه الله قال: «كان أبو رافع عبداً لأبي أُحيحة سعيد بن العاص بن أميّة، فأعتق كلّ من بنيه نصيبه منه إلّاخالد بن سعيد، فإنّه وهب نصيبه للنبيّ صلى الله عليه و آله فأعتقه، فكان يقول: أنا مولى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلمّا ولّي عمرو بن سعيد بن العاص المدينة أيّام معاوية أرسل إلى البهيّ بن أبي رافع، فقال له: مولى مَن أنت؟ فقال: مولى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فضربه مائة سوط، ثمّ تركه ثمّ دعاه، فقال: مولى مَن أنت؟ فقال: مولى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فضربه مائة سوط،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 379

حتّى ضربه خمسمائة سوط، فلمّا خاف أن يموت قال له: أنا مولاكم» «1».

وممّن أبرز خبثه وحقده على آل الرسول صلى الله عليه و آله مروان بن الحكم كما روى عن التنبيه على أبي القالي في أماليه أنّه

قال: «وقد رأيت أبا محمّد ابن حبيب البصري:

أدرج هذا البيت (عجّت نساء) في خبر ذكره، فقال: لمّا جاء نعي الحسين رضى الله عنه ومن كان معه قال مروان: يوم بيوم الخفض المجوّر؟! أي يوم بيوم عثمان، ثمّ تمثّل بقول الأسدي: عجّت نساء ...» «2».

موقف أُمّ سلمة ..... ص : 379

إنّ لُامّ المؤمنين أُمّ سلمة- سلام اللَّه عليها- مواقف صريحة وجريئة تجاه هذه الجريمة النكراء التي جرت في حقّ ثمرة فؤاد الرسول ومهجة قلب بنته البتول وأهل بيته، ولقد ذكرنا شيئاً منها في أوّل هذا الفصل.

وأمّا بالنسبة إلى بعد وصول خبر نعي أبي عبداللَّه الحسين سلام اللَّه عليه فنجد منها مواقف بطولية وكلمات صريحة وواضحة تجاه المأساة، نذكر بعض ما ظفرنا به:

قال ابن الجوزي: «وذكر ابن أبي الدُّنيا أنّه لمّا بلغ أُمّ سلمة قتل الحسين قالت: فعلوا؟! ملأ اللَّه قبورهم وبيوتهم ناراً، ثمّ وقعت مغشيّاً عليها» «3».

روى ابن سعد بإسناده عن عامر بن عبد الواحد، عن شهر بن حوشب قال:

«أنا لعند أُمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: فسمعنا صارخة، فأقبلت حتّى انتهت إلى أُمّ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 380

سلمة، فقالت: قتل الحسين، قالت: قد فعلوها، ملأ اللَّه بيوتهم- أو قبورهم- عليهم ناراً، ووقعت مغشيّاً عليها. قال: وقمنا» «1».

وروى أيضاً بإسناده عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب قال:

«سمعت أُمّ سلمة حين أتاها قتل الحسين لعنت أهل العراق وقالت: قتلوه، قتلهم اللَّه، غرّوه وذلّوه، لعنهم اللَّه» «2».

وروى الحاكم الحسكاني بإسناده عن عبد الحميد بن بهرام قال: «حدّثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أُمّ سلمة حين جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق، فقالت: قتلوه قتلهم اللَّه، غرّوه وذلّوه لعنهم اللَّه، وإنّي رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه

و سلم جاءته فاطمة غدية ببرمة لها قد صنعت له فيها عصيدة تحملها في طبق لها حتّى وضعتها بين يديه، فقال لها: أين ابن عمّك؟ قالت: هو في البيت، قال: اذهبي فادعي به وائتيني بابنيه، فجاءت تقود ابنيها كلّ واحد منهما بيد، وعليّ يمشي في أثرهم [في أثرها «خ»]، حتّى دخلوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأجلسهما في حجره، وجلس عليّ على يمينه وفاطمة على يساره، فاجتذب من تحتي كساءً خيبريّاً كان بساطاً لنا على المنامة بالمدينة، فلفّه رسول اللَّه عليهم جميعاً، فأخذ بشماله بطرفي الكساء وألوى بيده اليمنى إلى ربّه وقال: اللّهمَّ إنّ هؤلاء أهلي

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 381

أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً- ثلاث مرّات- قلت: يارسول اللَّه، ألست من أهلك؟ قال: بلى، فأدخلني في الكساء. فدخلت في الكساء بعدما قضى دعاؤه لابن عمّه وابنيه وابنته فاطمة عليهم السلام» «1».

إنّ أُمّ سلمة- مع أنّها كانت تعيش في ظروف صعبة جدّاً- وضّحت أنّ القوم أجرموا بحقّ آخر من بقي من أصحاب الكساء وهو الطاهر ابن الطاهر الحسين بن عليّ عليهما السلام.

ولم تكتف هذه المرأة الجليلة بهذا الحدّ من إبراز الموقف، بل أعلنت الحداد ولبست السواد علناً وفي الملأ العام من الناس، وفي مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

روى القاضي نعمان عن أبي نعيم بإسناده عن أُمّ سلمة:

«أنّها لمّا بلغها مقتل الحسين صلى الله عليه و آله ضربت قبّة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، جلست فيها ولبست سواداً» «2».

نعي أسماء بنت عقيل ..... ص : 381

روى الشيخ المفيد بإسناده عن أبي الهياج عبداللَّه بن عامر قال: «لمّا أتى نعي الحسين عليه السلام إلى المدينة خرجت أسماء بنت عقيل بن أبي طالب- رضي

اللَّه عنها- في جماعة من نسائها، حتّى انتهت إلى قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلاذت به، وشهقت عنده، ثمّ التفتت إلى المهاجرين والأنصار وهي تقول:

ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم يوم الحساب وصدق القول مسموع

خذلتم عترتي أو كنتم غيّباً والحقّ عند وليّ الأمر مجموع

أسلمتموهم بأيدي الظالمين فما منكم له اليوم عند اللَّه مشفوع

ما كان عند غداة الطف إذ حضروا تلك المنايا ولا عنهنّ مدفوع

قال: فما رأينا باكياً ولا باكية أكثر ممّا رأينا ذلك اليوم» «1».

وصول مبعوثي يزيد إلى المدينة ..... ص : 381
اشارة

لقد أرسل يزيد رسولين إلى المدينة، وهما محرز بن حريث بن مسعود الكلبي ورجل من بهرا، كما صرّح بذلك ابن نما في قوله: «وروي أنّ يزيد بن معاوية بعث بمقتل الحسين إلى المدينة محرز بن حريث بن مسعود الكلبي من بني عدي بن حباب ورجلًا من بهرا «2»، وكانا من أفاضل أهل الشام، فلمّا قدما خرجت امرأة من بنات عبد المطّلب قيل هي زينب بنت عقيل ناشرة شعرها، واضعة كمّها على رأسها، تتلقّاهم وهي تبكي وتقول: ماذا تقولون .. (الأبيات)» «3».

رأس الحسين عليه السلام بالمدينة ..... ص : 381

ثمّة روايات تدلّ على إرسال الرأس الشريف إلى المدينة، بغية إشاعة الرعب والخوف والقضاء على كلّ حركة مضادّة، وذكرنا بعض الأخبار في بحث «الأقوال في موضع دفن رأس الحسين عليه السلام»، فلا نعيدها، والظاهر أنّه كان في فترة وجود أهل البيت عليهم السلام في الشام، ثمّ إنّه أرجع الرأس الشريف إلى الشام، كما صرّح

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 383

بذلك البلاذري عن الكلبي بقوله: وبعث يزيد برأسه إلى المدينة فنصب على خشبة ثمّ ردّ إلى دمشق «1»، ثمّ دفع إلى الإمام زين العابدين عليه السلام، حتّى ألحقه عليه السلام بالجسد الشريف، وهذا ينسجم مع رواية القاضي نعمان بوجود أهل البيت عليهم السلام في الشام مدّة شهر ونصف «2»، أو مع نقل السيّد ابن طاووس بوجودهم فيه ما يقارب شهراً «3».

قال ابن سعد: وبعث يزيد برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص وهو عامل له يومئذٍ على المدينة، فقال عمرو: وددت أنّه لم يبعث به إليّ، فقال مروان: اسكت، ثمّ تناول الرأس، فوضعه بين يديه، وأخذ بأرنبته فقال:

يا حبّذا بردك في اليدين ولونك الأحمر في الخدّين

كأنّما بات بمجسدين

واللَّه لكأنّي أنظر إلى أيّام عثمان، وسمع عمرو بن سعيد

الصيحة من بني هاشم فقال:

عجّت نساء بني زياد عجّة كعجيج نسوتنا غداة الأرنب «4»

وجاء في نقل البلاذري:

قال عمرو بن سعيد: وددت أنّ أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه، فقال مروان: بئس ما قلت، هاته:

يا حبّذا بَرْدُك في اليدين ولونك الأحمر في الخدّين «1»

وقال: حدّثنا عمر بن شبه، حدّثني أبو بكر عيسى بن عبداللَّه بن محمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال: رعف عمرو بن سعيد على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، فقال بيار الأسلمي- وكان زاجراً-: إنّه ليوم دم.

قال: فجي ء برأس الحسين، فنصب، فصرخت نساء أبي طالب، فقال مروان:

عجّت نساء بني زبيد عجّة كعجيج نسوتنا غداة الأزيب

ثمّ صحْن أيضاً، فقال مروان:

ضربت ذو شرّ فيهم ضربة أثبتت إن كان ملك فاستقرّ» «2»

وقال ابن نما:

«ونقلت عن تاريخ البلاذري أنّه لمّا وافى رأس الحسين عليه السلام المدينة سمعت الواعية من كلّ جانب، فقال مروان بن الحكم:

ضربت دوسر فيهم ضربة أثبتت أوتاد حكم فاستقرّ

ثمّ أخذ ينكت وجهه بقضيب ويقول:

يا حبّذا بردك في اليدين ولونك الأحمر في الخدّين

كأنّه بات بمجسدين شفيت منك النفس يا حسين» «3»

لقد كشف القاضي نعمان عن بعض زوايا القضيّة بقوله: «ثمّ أُتي برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد، فأعرض بوجهه عنه واستعظم أمره، فقال مروان

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 385

اللعين لحامل الرأس: هاته. فدفعه إليه، فأخذه بيده وقال:

يا حبّذا بردك في اليدين ولونك الأحمر في الخدّين» «1»

وفي شرح الأخبار أيضاً: «ولمّا أمر اللعين (يزيد) بأن يُطاف برأس الحسين عليه السلام في البلدان أتى به إلى المدينة، وعامله عليها عمرو بن سعيد [الأشدق]، فسمع صياح النساء، فقال: ما هذا؟ قيل: نساء بني هاشم يبكين لمّا رأين رأس الحسين، وكان عنده مروان بن

الحكم، فقال مروان اللعين متمثّلًا:

عجّت نساء بني زياد عجّة كعجيج نسوتنا غداة الأذيب

عنى اللعين عجيج نساء بني عبد شمس ممّن قتل منهم يوم بدر، فأمّا ما أقاموه ظاهراً من أمر عثمان فمروان اللعين فيمن ألبَّ عليه وشمت بمصابه وهو القائل:

لمّا أتاه نعيه ذينه من كسر ضلعاً كسر جنبه

ولكن ذحول بني أميّة بدماء الجاهلية التي طلبوا بها رسول اللَّه في عترته وأهل بيته، ولمّا قال ذلك مروان اللعين قال عمرو بن سعيد- عامل المدينة يومئذٍ:

لوددت واللَّه أنّ أمير المؤمنين لم يكن يبعث إلينا برأس الحسين فقال له مروان:

اسكت لا امّ لك، وقل كما قال الأوّل:

ضربوا رأس شريز ضربة اشتت أوتاد ملك فاستتر» «2»

وروى ابن أبي الحديد المعتزلي عن الإسكافي قوله: «أمّا مروان.. فأخبث عقيدة وأعظم إلحاداً وكفراً، وهو الذي خطب يوم وصل إليه رأس الحسين عليه السلام إلى المدينة وهو يومئذٍ أميرها «3» وقد حمل الرأس على يديه فقال:

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 386

يا حبّذا بردك في اليدين وحمرة تجرى على الخدّين

كأنّما بتّ بمحشدين

ثمّ رمى بالرأس نحو قبر النبيّ، وقال: يا محمّد، يومٌ بيوم بدر!

وهذا القول مشتقّ من الشعر الذي تمثّل به يزيد بن معاوية، وهو شعر ابن الزبعرى يوم وصل الرأس إليه، والخبر مشهور «1».

نعم، إنّ بني أُميّة وأذنابهم أثبتوا بفعلتهم النكراء استمرار جاهليّتهم السوداء، ولقد أظهروا أحقادهم المكنونة، وأرادوا استيفاء ثأرهم من صاحب الرسالة بإبادتهم لعترته، وإنّهم ما آمنوا باللَّه ورسوله طرفة عين أبداً.

رثاء ابنة عقيل ...... ص : 386

كان لبنات عقيل دور مهمّ في إثارة مشاعر الناس وانقلابهم نفسيّاً بعد مقتل أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام وأصحابه، وقد ذكرنا سابقاً ما يتعلّق بإحداهنّ وهي أسماء بنت عقيل، وذلك بعد وصول خبر استشهاد أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام.

ثمّ هانجد هنا دوراً

بارزاً لُاختها وهي- على ما صرّح به أكثر المؤرِّخين- زينب بنت عقيل، وإن اكتفى بعضهم بذكر عنوان «امرأة من بنات عبد المطّلب» «2»، أو «ابنة عقيل» «3» أو «أُمّ لقمان بنت عقيل» «4» لكن الأكثر ذكر أنّها «زينب بنت عقيل» «5».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 387

وأمّا كيفيّة خروجها فقد ذكر المسعودي أنّها خرجت في نساء من قومها حواسر حائرات لما قد ورد عليهنّ من قتل السادات «1».

وقال الطبري: إنّها خرجت ومعها نساؤها وهي حاسرة تلوي بثوبها «2».

وقال الشيخ المفيد: «وخرجت أُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين حاسرة ومعها أخواتها أُمّ هاني وأسماء ورملة وزينب بنات عقيل بن أبي طالب- رحمة اللَّه عليهن- تبكي قتلاها بالطفّ وهي تقول ..» «3».

وذكره ابن الفتّال «4» والأربلي «5» كذلك.

وقال ابن الجوزي: «ولمّا أتى المدينة مقتل الحسين عليه السلام خرجت ابنة عقيل ومعها نساؤها حاسرة وهي تبكي وتقول..» «6».

وقال سبط ابن الجوزي: قال الواقدي: «لمّا وصل الرأس إلى المدينة والسبايا لم يبق بالمدينة أحد «7»، وخرجوا يضجّون بالبكاء وخرجت زينب بنت عقيل بن أبي طالب كاشفة وجهها ناشرة شعرها تصيح: واحسيناه وا إخوتاه وا أهلاه وا محمّداه، ثمّ قالت..» «8».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 388

وقال ابن نما: «فلمّا قدما (مبعوثا يزيد إلى المدينة) خرجت امرأة من بنات عبد المطّلب قيل هي زينب بنت عقيل ناشرة شعرها، واضعة كمّها على رأسها، تتلقّاهم وهي تبكي وتقول..» «1».

وأمّا مكان ذلك فقد صرّح البلاذري والطبراني والقاضي نعمان بكونه في البقيع «2»، وأمّا الآخرون فلم يحدّدوا الموضع من المدينة.

وأمّا ما قالته فقد ذكر البلاذري أنّه: وقالت زينب بنت عقيل ترثي قتلى أهل الطف، وخرجت تنوح بالبقيع:

ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم ماذا فعلتم وأنتم

آخر الأُمم

بأهل بيتي وأنصاري أما لكمُ عهد كريم أما توفون بالذمم

ذرّيتي وبنو عمّي بمضيعةٍ منهم أسارى وقتلى ضُرِّجوا بدم

ما كان ذا جزائي إذ نصحتكمُ أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي «3»

وأمّا غيره- ما عدا سبط ابن الجوزي والخوارزمي- فقد ذكر من الأبيات ثلاثاً مع تفاوت. وجاء في ضمن نقل المسعودي:

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي نصف أسارى ونصف ضرّجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بشرٍّ في ذوي رحمي «4»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 389

ثمّ إنّ الطبراني قال بعد ذلك: فقال أبو الأسود الدؤلي: نقول: «ربنا ظلمنا انفسنا» الآية «1»، ثمّ قال أبو الأسود:

أقول وزادني جزعاً وغيظاً أزال اللَّه ملك بني زياد

وأبعدهم كما غدروا وخانوا كما بعدت ثمود وقوم عاد

ولا رجعت ركابهم إليهم إذا وقفت إلى يوم التناد «2»

.وقال القاضي نعمان: «فقال أبو الأسود الدؤلي: وقد سمعتها تقول: (ربنا ظلمنا انفسنا و ان لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين» «3»

، وهذا قول من لم يعتقد عداوة أهل بيت محمّد، فأمّا الذين اعتقدوا عداوتهم وقصدوا لما قصدوا إليه منهم مصرّون على كفرهم وعلى ما ارتكبوه منهم، وقد قتلوا من أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد هذا خلقاً كثيراً قلّ من يحصر عددهم ظلماً لهم، واستخفافاً

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 390

لحقّهم غير من تعاطى ما ليس له منهم، فصرعه تعاطيه ما ليس له، وتعدّيه إلى غير حظّه وتسمية اسمه» «1».

خطبة عمرو بن سعيد ..... ص : 390

أورد ابن سعد- بعدما ذكر وصول الرأس الشريف إلى المدينة-:

«ثمّ خرج عمرو بن سعيد إلى المنبر، فخطب الناس، ثمّ ذكر حسيناً وما كان من أمره، وقال: واللَّه لوددتُ أنّ رأسه في جسده، وروحه في بدنه، يسبّنا ونمدحه، ويقطعنا ونصله، كعادتنا وعادته.

فقام ابن أبي حبيش

أحد بني أسد بن عبد العزى بن قصي، فقال: أما لو كانت فاطمة حيّة لأحزنها ما ترى.

فقال عمرو: اسكت لا سكتّ، أتنازعني فاطمة وأنا من عفر ظبايها، واللَّه إنّه لابننا، وأنّ امّه لابنتنا، أجل واللَّه لو كانت حيّة لأحزنها قتله ثمّ لم تلم من قتله! يدفع عن نفسه!

فقال ابن أبي حبيش: إنّه ابن فاطمة، وفاطمة بنت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى» «2».

لقد ذكرنا فيما سبق حقد ابن سعيد وبغضه لآل بيت رسول اللَّه، بل ما يثبت بذلك كفره، وإنّ المتأمِّل في هذه الخطبة والعارف بأجوائها لا يستغرب منها، إذ يعلم أنّها أُلقيت في ظلّ أجواء مضطربة بعد وصول الخبر المدينة، ووصول الرأس الشريف إليها، ولذلك ترى هذا الحاقد يظهر التراجع في كلامه ويظهر

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 391

نفسه في موقف المدافع والمتأثّر، ولكنّه مع ذلك تراه لا يستطيع التستّر على خبث سريرته حتّى في هذه الكلمات التي يتفوّه بها في هذه الظروف الخاصّة.

قال البلاذري: «وقام ابن أبي حبيش وعمرو يخطب فقال: رحم اللَّه فاطمة، فمضى في خطبته شيئاً، ثمّ قال: واعجباً لهذا الألثغ، وما أنت وفاطمة؟ قال: أُمّها خديجة- يريد أنّها من بني أسد بن عبد العزّى- قال: نعم واللَّه، وابنة محمّد أخذتها يميناً وأخذتها شمالًا، وددت أنّ أمير المؤمنين كان نحّاه عين (عنّي ظ) ولم يرسل به إليّ، وددت واللَّه أنّ رأس الحسين كان على عنقه وروحه كانت في جسده» «1».

وقال الخوارزمي: «قالوا: ثمّ صعد عمرو بن سعيد- أمير المدينة- المنبر، وخطب وقال في خطبته:

إنّها لدمة بلدمة، وصدمة بصدمة، وموعظة بعد موعظة «قِميْزلَج لٌا بَحتمالِنمئَم لٌا ئَرلَج تما مُخئْم تج ي ثمالنمتُّج ئُم لُم» «2»

، واللَّه لوددت أنّ رأسه في بدنه وروحه في جسده أحيان كان يسبّنا ونمدحه ويقطعنا ونصله

كعادتنا وعادته، ولم يكن من أمره ما كان، ولكن كيف نصنع بمن سلّ سيفه يريد قتلنا؟! إلّاأن ندفع عن أنفسنا.

فقام إليه عبداللَّه بن السائب فقال: أما لو كانت فاطمة حيّة فرأت رأس الحسين لبكت عليه، فجبهه عمرو بن سعيد وقال: نحن أحقّ بفاطمة منك! أبوها عمّنا! وزوجها أخونا! وابنها ابننا! أما لو كانت فاطمة حيّة لبكت عينها، وحزن كبدها، ولكن ما لامت من قتله، ودفع عن نفسه» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 392

إنّ سخافة ما استدلّ به هذا اللعين هو ممّا يضحك الثكلى، أمن الدفاع أن يحاصر آلاف الفسقة الفجرة عدّة قليلة وفيهم آخر سبط بقي من آخر رسول لربّ العالمين، وعترته وذريّته والنساء والأطفال، وعدّة من خيار الأصحاب الذين كانوا رهبان الليل وأسد النهار، ثمّ يُقتلون عطاشى وتحتزّ رؤوسهم الطاهرة وتسبى نساؤهم وتُحمل من مدينة إلى مدينة ونقطة إلى نقطة.. وهل هذا إلّاالانتقام من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كما اعترف بذلك الطاغي ابن الباغي يزيد بن معاوية وسائر أذنابه بما فيهم عمرو بن سعيد ومروان بن الحكم وغيرهم.

وأمّا فاطمة وأبوها وزوجها، وسائر الأنبياء من قبل الرسول صلى الله عليه و آله فلقد بكوا على مصاب الحسين عليه السلام، ولعنوا من أمر وارتكب ورضي بقتل الحسين عليه السلام.

موقف عبداللَّه بن جعفر ...... ص : 392

إنّ لعبد اللَّه بن جعفر مواقف مشّرفة بعد وقوع مأساة كربلاء واستشهاد ولديه- وهما عون وعبداللَّه- في ركاب خالهما أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام.

وممّا يمكن أن يستند إليه في توجيه عدم حضوره في كربلاء ما جاء في زيارة الناحية المقدّسة المنسوبة للإمام الحجّة عليه السلام، حيث قال في حقّ ولده:

«السلام على محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الشاهد مكان أبيه» «1»

.فلعلّ عذراً لم نعلمه منعه من الحضور.

وممّا

يرشدنا إلى موقفه الإيجابي ما ذكره الطبري بإسناده عن عبد الرحمن

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 393

ابن عبيد أبي الكنود قال: «لمّا بلغ عبداللَّه بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين دخل عليه بعض مواليه والناس يعزّونه، قال- ولا أظنّ مولاه ذلك إلّاأبا اللسلاس- فقال: هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين، قال: فحذفه عبداللَّه بن جعفر بنعله، ثمّ قال: يابن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟ واللَّه لو شهدتُه لأحببت أن لا أُفارقه حتّى أُقتل معه، واللَّه إنّه لممّا يسخي بنفسي عنهما ويهوّن عليَّ المصاب بهما أنّهما أُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له صابرين معه.

ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمد للَّه عزّوجلّ عليَّ بمصرع الحسين إن لا يكن آستْ حسيناً يدي فقد آساه ولدي» «1».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 394

عودة بقيّة الركب الحسيني إلى المدينة المنوّرة ..... ص : 394
اشارة

إنّهم على مقربة من المدينة، مدينة جدّهم، ومهاجر أبيهم، ومأوى امّهم، مسقط رأسهم، وموطن أحبّتهم، ما أصعب الدخول إليها وهم على هذه الحالة..

لقد خرجوا مع الحسين عليه السلام واليوم رجعوا بلا حسين إلّامن رايته الحمراء.

ومن الطبيعي أن تأخذ المسيرة منحىً عاطفيّاً أكثر من أيّ شي ءٍ، فلقد عاش أهل المدينة مع الحسين وتعوّدوا عليه، ورأوا في وجوده وجود جدّه بعلمه وهيبته وخُلقه وشجاعته وغيرته وبكلّ مكارم الأخلاق، واليوم يسمعون بوصول أهل بيته قرب موطنه، أهل بيت خرجوا معه ورجعوا وحدهم، ولكنّهم يحملون رسالته.

ومن هذا المنطلق نرى أنّ المسيرة لم تكتف بالتزام الظاهر العاطفي فحسب، بل أنّها عنيت بالجانب المبدئي والمنهجي أكثر، واستمرّت على ذلك في أشكال مختلفة، سواء كان ذلك على شكل إقامة العزاء والمأتم، أو استمرار البكاء، أو إلقاء الخطب أو بثّ الأدعية العالية المضامين أو غير ذلك. والغاية من كلّ ذلك هو تنوير الأفكار وإيقاظ المجتمع من السبات

العميق الذي استولى على جميع أفراده، ما خلا من تمسّك بالقرآن والعترة.

نعم، إنّها لحظات صعبة..

يقول الشيخ ابن نما الحلّي- واصفاً تلك الحال-: ولمّا رجع صحب آل الرسول من السفر بعد طول الغيبة.. وقد خلّفوا السبط مفترشاً للتراب بعيداً من الأحباب، بقفرة بهماء، وتنوفة شوهاء، لا سمير لمناجيها، ولا سفير لمفاجيها، وأعينهم باكية ليتم البقيّة الزاكيّة، فأسفت ألا أكون رائد أقدامهم ورافد حذي

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 395

لموطئ أقدامهم، وقلت هذه الأبيات بلسان قالي ولسان حالهم:

ولمّا وردنا ماء يثرب بعدما أسلنا على السبط الشهيد المدامعا

ومدت لما نلقاه من ألم الجوى رقاب المطايا واستكانت خواضعا

وجرّع كأس الموت بالطفّ أنفساً كراماً وكانت للرسول ودايعا

وبدّل سعد الشم من آل هاشم بنحس فكانوا كالبدور طوالعا

وقفنا على الأطلال نندب أهلها أسى وتبكي الخاليات البلاقعا «1»

ما قالته أُمّ كلثوم ..... ص : 395

روى العلّامة المجلسي عن بعض مؤلّفات أصحابنا قال: وأمّا أُمّ كلثوم فحين توجّهت إلى المدينة جعلت تبكي وتقول:

مدينة جدّنا لا تقبلينا فبالحسرات والأحزان جينا

ألا فاخبر رسول اللَّه عنّا بأنّا قد فجعنا في أبينا

وأنّ رجالنا بالطفّ صرعى بلا رؤوس وقد ذبحوا البنينا

وأخبر جدّنا أنّا اسرنا وبعد الأسر يا جدّا سبينا

ورهطك يارسول اللَّه أضحوا عرايا بالطفوف مُسلّبينا

وقد ذبحوا الحسين ولم يراعوا جنابك يارسول اللَّه فينا

فلو نظرتْ عيونك للأُسارى على أقتاب الجمال محمّلينا

رسول اللَّه بعد الصّون صارت عيون الناس ناظرة إلينا

وكنتَ تحوطُنا حتّى تولّت عيونُك ثارت الأعدا علينا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 396

أفاطم لو نظرتِ إلى السبايا بناتك في البلاد مشتّتينا

أفاطم لو نظرتِ إلى الحيارى ولو أبصرتِ زين العابدينا

أفاطم لو رأيتينا سهارى ومن سهر الليالي قد عمينا

أفاطم ما لقيتي من عِداكي ولا قيراط ممّا قد لقينا

فلو دامت حياتكِ لم تزالي إلى يوم القيامة تندبينا

وعرّجْ بالبقيع وقف ونادِ أيابن حبيب ربّ العالمينا

وقل يا عمّ

يا حسن المزكّى عيال أخيك أضحوا ضائعينا

أياعمّاه إنّ أخاك أضحى بعيداً عنك بالرّمضا رهينا

بلا رأس تنوح عليه جهراً طيور والوحوش الموحشينا

ولو عاينت يا مولاي ساقوا حريماً لا يجدن لهم معينا

على متن النياق بلا وطاء وشاهدت العيال مكشّفينا

مدينة جدّنا لا تقبلينا فبالحسرات والأحزان جينا

خرجنا منك بالأهلين جمعاً رجعنا لا رجال ولا بنينا

وكنّا في الخروج بجمع شملٍ رجعنا حاسرين مسلّبينا

وكنّا في أمان اللَّه جهراً رجعنا بالقطيعة خائفينا

ومولانا الحسين لنا أنيس رجعنا والحسين به رهينا

فنحن الضائعات بلا كفيل ونحن النائحات على أخينا

ونحن السائرات على المطايا نشال على جمال المبغضينا

ونحن بنات يس وطه ونحن الباكيات على أبينا

ونحن الطاهرات بلا خفاء ونحن المخلصون المصطفونا

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 397

ونحن الصابرات على البلايا ونحن الصادقون الناصحونا

ألا يا جدّنا قتلوا حسينا ولم يرعوا جناب اللَّه فينا

ألا يا جدّنا بلغت عدانا مُناها واشتفى الأعداء فينا

لقد هتكوا النساء وحمّلوها على الأقتاب قهراً أجمعينا

وزينب أخرجوها من خباها وفاطم والهٌ تبدي الأنينا

سكينة تشتكي من حرّ وجدٍ تنادي الغوث ربّ العالمينا

وزين العابدين بقيد ذيل وراموا قتله أهل الخؤونا

فبعدهمُ على الدُّنيا تراب فكأس الموت فيها قد سقينا

وهذى قصّتي مع شرح حالي ألا يا سامعون ابكوا علينا «1»

الإمام زين العابدين عليه السلام يوفد بشير بن حذلم ..... ص : 397

المتتبّع لمسيرة الركب الطاهر من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، يدرك أنّ الإمام عليه السلام كان هو المسيطر على الأوضاع وكان يخرق الاعلام المشوّه ويقلّب الأمر على الحكّام ويبيّن الحقائق المستورة، فكان نهجه وسلوكه نهج الفعل والتأثير، لا الانفعال والتأثّر.

ومن هذا المنطلق نفهم سرّ إيفاد الإمام عليه السلام بشير بن حذلم الشاعر إلى المدينة، فلقد تمكّن- بصفته رسول الإمام عليه السلام، وبكونه شاعراً قويّاً ومؤثّراً عاطفياً،- من التأثير في المجتمع حتّى كاد أن يقلب الوضع في المدينة، بحيث تحرّك أهل المدينة- بما

فيها من الرجال والنساء والكبار والصغار- إلى خارجها لاستقبال آل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، واستثمر الإمام عليه السلام هذه الفرصة وألقى عليهم

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 398

كلمته التي سوف ترى مدى تأثيرها بعد ذلك.

قال السيّد ابن طاووس: «قال بشير بن حذلم: فلمّا قربنا منها- أي المدينة- نزل عليّ بن الحسين عليهما السلام، فحطّ رحله، وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، وقال:

يا بشير، رحم اللَّه أباك، لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شي ء منه؟ قلت: بلى يابن رسول اللَّه، إنّي لشاعر، قال: فادخل المدينة وانْعَ أبا عبداللَّه عليه السلام.

قال بشير: فركبتُ فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة «1».

وقال: فلمّا بلغت مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله رفعت صوتي بالبكاء، وأنشأتُ أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسمُ منه بكربلاء مضرّجٌ والرأس منه على القناة يُدارُ

قال: ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه» «2».

الفصل الثالث ..... ص : 398
حال المدينة بعد علم أهلها بمصرع الإمام عليه السلام ..... ص : 398

وروى السيّد ابن طاووس عن بشير بن حذلم أنّه قال: «وسمعت جارية تنوح على الحسين عليه السلام وتقول:

نعى سيّدي ناعٍ نعاه فأوجعا فأمرضني ناع نعاه فأفجعا

أعينيّ جودا بالمدامع واسكبا وجودا بدمع بعد دمعكما معا

على من دهى عرش الجليل فزعزعا وأصبح أنف الدِّين والمجد أجدعا

على ابن نبيّ اللَّه وابن وصيّه وإن كان عنّا شاحط الدار أشسعا

ثمّ قالت: أيّها الناعي جدّدت حزننا بأبي عبداللَّه عليه السلام، وخدشت منّا قروحاً لمّا تندمل، فمن أنت يرحمك اللَّه؟

قلت: أنا بشير بن حذلم، وجّهني مولاي عليّ بن الحسين، وهو نازل موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام ونسائه» «1».

وروى السيّد ابن طاووس عن بشير بن حذلم أيضاً أنّه قال: «فما

بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلّابرزن من خدورهن، مكشوفة شعورهنّ، مخمشة وجوههنّ، ضاربات خدودهنّ، يدعون بالويل والثبور، فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «2».

وقال ابن نما: «فلم يبق في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلّابرزت وهنّ بين باكية ونائحة ولاطمة، فلم يرَ يوم أمرّ على أهل المدينة منه» «3».

وقال في أخبار الزينبات: «حدّثني إبراهيم بن محمّد الحريري، قال: حدّثني عبد الصمد بن حسّان السعدي، عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمّد الصادق، عن أبيه، عن الحسن بن الحسن قال: لمّا حملنا إلى يزيد وكنّا بضعة عشر نفساً أمر أن نسير إلى المدينة، فوصلناها في مستهلّ.. «4» وعلى المدينة عمرو بن سعيد الأشدق... «5»، فجاء عبد الملك بن الحارث السهمي فأخبره بقدومنا، فأمر أن ينادي في أسواق المدينة ألا إنّ زين العابدين وبني عمومته وعمّاته قد قدموا إليكم، فبرزت الرجال والنساء والصبيان صارخات باكيات، وخرجت نساء

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 400

بني هاشم حاسرات تنادي واحسيناه واحسيناه، فأقمنا ثلاثة أيّام بلياليها ونساء بني هاشم وأهل المدينة مجتمعون حولنا» «1».

استقبال الناس بقيّة العترة الطاهرة ..... ص : 400

قال ابن نما: «وخرج الناس إلى لقائه (عليّ بن الحسين عليه السلام)، وأخذوا المواضع والطرق» «2».

قال السيّد ابن طاووس: «قال بشير بن حذلم: فتركوني مكاني وبادروا، فضربتُ فرسي حتّى رجعتُ إليهم، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع، فنزلت عن فرسي، وتخطّيت رقاب الناس، حتّى قربت من باب الفسطاط» «3».

وهذا التوصيف يكشف عن مدى زحام الناس حول الإمام عليه السلام، بحيث لم يجد بشير بُدّاً إلّاأن يتخطّى رقاب الناس، ويوصل نفسه قرب باب الفسطاط.

خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام ..... ص : 400

روى السيّد ابن طاووس عن بشير: «وكان عليّ بن الحسين عليهما السلام داخلًا، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسي، فوضعه له، وجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين الجواري والنساء، والناس من كلّ ناحية يعزّونه، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة، فأومأ بيده أن اسكتوا، فسكنت فورتهم، فقال عليه السلام: «4»

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 401

الحمد للَّه ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدِّين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الامور، وفجائع الدهور، وألم الفواجع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم، إنّ اللَّه تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبداللَّه عليه السلام وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزية.

أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟! أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها؟!

فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقرّبون، وأهل السماوات أجمعون.

أيّها الناس، أيّ قلبٍ لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد

لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمعٍ يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟!

أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذمومين شاسعين عن الأمصار، كأنّنا أولاد ترك أو كابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إن هذا إلّااختلاق.

واللَّه، لو أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 402

بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمرّها وأفدحها، فعند اللَّه نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا، إنّه عزيز ذو انتقام» «1».

ثمّ قام- عليه السلام- ومشى إلى المدينة ليدخلها.. «2».

تأمّل وملاحظات ..... ص : 402

إنّ هذا الخطاب مع قصره يحتوي على أمور مهمّة، نذكر بعضها:

1- التركيز على حمد اللَّه وثنائه المستمرّ وعلى كلّ حال وفي كلّ الظروف.

2- بيان ما وقع في عالم الكون، وأنّ العوالم بما فيها من البحار والسماوات والأرض والأشجار والحيتان والملائكة وأهل السماوات و... بكت على الحسين وأنّ ما حدث مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأفظعها وأمرّها وأفدحها و..

3- بيان عمق ما ارتكبوه من الفاجعة، بحيث لم يمكن أن يقع أبشع منها، وأنّه لم يعهد في التاريخ، حتّى لو أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان أوصاهم بذلك- فرضاً- لما زادوا على ما فعلوا بهم، وإليه يشير العلّامة الآية السيّد مهدي بحر العلوم في قوله:

لو أنّهم أمروا بالبغض ما صنعوا فوق الذي صنعوا لو جدّ جدّهم «3»

4- إيقاظ الناس وتوجيههم على ذلك بلزوم اتّخاذ الموقف، في قوله عليه السلام:

أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمعٍ يسمع هذه الثلمة التي

ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟!

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 403

في المدينة المنوّرة ..... ص : 403
حالة أهل البيت عليهم السلام حين دخولهم المدينة ..... ص : 403

قال الشيخ ابن نما الحلّي يصف الحالة: ثمّ دخل زين العابدين عليه السلام وجماعته دار الرسول صلى الله عليه و آله فرآها مقفرة الطلول، خالية من سكّانها، خالية بأحزانها، قد غشيها القدر النازل، وساورها الخطب الهائل، وأطلّت عليها عذابات المنايا، وأظلّتها جحافل الرزايا، وهي موحشة العرصات، لفقد السادات ...

وقفت على دار النبيّ محمّد فألفيتها قد أقفرت عرصاتها

وأمست خلاءً من تلاوة قارئٍ وعطّل منها صومها وصلاتها

وكانت ملاذاً للعلوم وجنّة من الخطب يغشي المعتقين صلاتها

فأقوت من السادات من آل هاشم ولم يجتمع بعد الحسين شتاتها

فعيني لقتل السبط عبرى ولوعتي على فقده ما تنقضي زفراتها

فيا كبدي كم تصبرين على الأذى أما آن أن يغني إذن حسراتها «1»

وقال السيّد محمّد بن أبي طالب الكركي: «ولمّا شاهد عليه السلام منازل أحبّائه التي كانت مشارق أنوار الإيمان ومظاهر أسرار القرآن ومواطن مصابيح العرفان ومعادن مجاويع الإحسان تندب بلسان حالها وتنحب لفقد رجالها وتذرف عبراتها من مآقيها وتصاعد زفراتها من تراقيها، وتنادي بصوت ينبئ عن شدّة لوعتها، ويخبر بحدّة كربتها، ويستخبر كلّ راكب وراجل، وينشد كلّ ظاعن ونازل:

أين من كانوا شموسي وبدوري أين من كانوا جمالي وسروري

أين من كانوا حماتي ورعاتي وهداتي حين تعييني أموري ... «1»

مذ نأوا بالبُعد عن إنسان عيني كثر الشامت إذ قلّ نصيري يا عيوني إن تكن عزّت دموعي فاذرفي بالدم من قلبٍ كسير

نادى مجالس كراماتهم ومدارس تلاواتهم ومقامات عباداتهم ومحاريب صلواتهم، أين من كُتب رياض الكرم بجودهم وحماة الامم بوجودهم؟ أين عمّارك بركوعهم وسجودهم وقوّامك في طاعة معبودهم؟ أين من كانت حدائق أنعمهم في فنائك مغدقة، وجداول كرمهم في خلالك متدفّقة، وأعلام علومهم منصوبة، وأروقة شرفهم مضروبة؟ كم أضاءوا بمصابيح نفقاتهم

ظلمتك؟ وكم آنسوا بنغمات تلاوتهم وحشتك؟ وكم أحيوا بصلاتهم ليلك ونهارك؟ وكم أناروا بنور تهجّدهم حنادس أسحارك؟

فأجابه صداها بلسان حالها وأخبره فناؤها بتنكّر أحوالها: رحلوا عن تقنّعي فسكنوا في بيت الأحزان قلبي، ونأوا عن ربوعي، فأطالوا لطول نواهم كربي، فآه فياشوقاه لمواطئ أقدامهم على صعيدي، آه وا أسفاه لانتقال أقمار وجوههم عن منازل سعودي، خابني زماني بإبعادهم عنّي، فأصبح باب سروري مرتجى، وعاندني دهري إذ أسلبهم منّي، فليس لي بعدهم في الخلق مرتجى، فيا كلم قلبي ذُب أسفاً فما لك مأوى في رميم عظامي، ويا سقيم جسمي مت كمداً قبل تقضّي مدّتي وأيّامي...

وشاهد صلوات اللَّه عليه منازل أحبّائه مظلمة لوحشتها، مقفرة لخلوتها،

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 405

فكأنّي بلسان حاله قد ناجاها، وببيان مقاله ناداها: يا أيّتها المنازل التي غابت عنها حماتها، وغيّرت صفاتها، وحلّت مرابعها، وأقوت مجامعها، حزني لفقد عمّارك سرمد، ووجدي لبُعد سمائك لا ينفد، وأنباء مصيبتهم ترسل عبراتي، وأحاديث محنتهم تهيّج حسراتي، وديارهم الخالية تحرق قلبي، وربوعهم الخاوية تذهل لبّي، وكيف لا يقدح زند الفراق نار الاشتياق في جوانحي وأحشائي، ويفرغ فرط الغرام ثوب السقام على جوارحي وأعضائي..» «1».

حالة المدينة بعد دخول حرم الحسين عليه السلام ..... ص : 405
اشارة

قال الخوارزمي: «قالوا: ولمّا دخل حرم الحسين عليه السلام المدينة عجّت نساء بني هاشم، وصارت المدينة صيحةً واحدة..» «2».

وقال ابن فتّال النيسابوري: «.. حتّى دخلوا المدينة، فلم يسمع واعية مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن عليّ عليهما السلام» «3».

رثاء امرأة من بنات عبد المطّلب ..... ص : 405

روى ابن الجوزي بإسناده عن عمّار الدهني، عن أبي جعفر قال: [لمّا] قدموا المدينة خرجت امرأة من بنات عبد المطّلب ناشرة شعرها واضعة كمّها على رأسها تلقّاهم وتقول:

ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم ماذا فعلتم وأنتم آخر الامم

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 406

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي منهم أُسارى وقتلى ضرّجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي «1»

عند مسجد الرسول صلى الله عليه و آله ..... ص : 406

قال العلّامة المجلسي رحمه الله: «روي في بعض مؤلّفات أصحابنا: قال الراوي:

«وأمّا زينب فأخذت بعضادتي باب المسجد، ونادت:" يا جدّاه، إنّي ناعية إليك أخي الحسين"، وهي مع ذلك لا تجفّ لها عبرة، ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلّما نظرت إلى علي بن الحسين تجدّد حزنها، وزاد وجدها» «2».

لبس السواد وإقامة المأتم ..... ص : 406

روى البرقي بإسناده عن عمر بن علي بن الحسين، قال: «لمّا قتل الحسين بن علي عليه السلام لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان عليّ بن الحسين يعمل لهنّ الطعام للمأتم» «3».

مكافأة الحرس ..... ص : 406

لقد شكرت العلويات كلّ الذين قاموا برعايتهنّ من الشام حتّى المدينة، قال الشبلنجي: «وكان [الرجل الحارس] يسألهم عن حالهم ويتلطّف بهم في جميع

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 407

أُمورهم، ولا يشقّ عليهم في مسيرهم إلى أن دخلوا المدينة، فقالت فاطمة بنت الحسين لُاختها سكينة: قد أحسن هذا الرجل إلينا، فهل لك أن تصليه بشي ء؟

فقالت: واللَّه ما معنا ما نصله به إلّاما كان من هذا الحلي، قالت: فافعلي، فأخرجنا له سوارين ودملجين وبعثا بهما إليه فردّهما، وقال: لو كان الذي صنعته رغبةً في الدُّنيا لكان في هذا مقنع بزيادة كثيرة، ولكنّي واللَّه ما فعلته إلّاللَّه، ولقرابتكم من رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم» «1».

ولقد ذكرنا فيما سبق في مبحث «حسن المعاملة في الطريق» ما يدلّ على ذلك، إلّاأنّ الكلام جرى بين فاطمة بنت علي واختها زينب سلام اللَّه عليهما، وأنّ التي أرسلت السوار والدملج إلى ذلك الرجل هي زينب عليها السلام، وهو الأنسب «2».

ولكن الإمام زين العابدين عليه السلام كافأ بعضهم بأحسن ما يمكن وفوق مايتصوّر.

روى الطبري الإمامي بإسناده عن أبي نمير عليّ بن يزيد، قال: «كنت مع عليّ بن الحسين عليه السلام عندما انصرف من الشام إلى المدينة، فكنت أُحسن إلى نسائه وأتوارى عنهم عند قضاء حوائجهم، فلمّا نزلوا المدينة بعثوا إليّ بشي ء من حليّهن فلم آخذه، وقلت: فعلت هذا للَّه عزّ وجلّ (ولرسوله خ) فأخذ عليّ بن الحسين عليه السلام حجراً أسود أصمّاً، فطبعه بخاتمه، ثمّ قال: خذه وسل

كلّ حاجة لك منه، فواللَّه الذي بعث محمّداً بالحقّ لقد كنت أسأله الضوء في البيت فينسرج في الظلماء، وأضعه على الأقفال فتفتح لي، وآخذه بين يدي السلاطين فلا أرى إلّاما أحبّ» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 408

هدم بيوت تتعلّق بأسرة الحسين عليه السلام ..... ص : 408

وممّا يكشف القناع عن سياسة القمع الأموي ما ارتكبوه من هدم لبعض البيوت التي تتعلّق بأسرة أبي عبداللَّه عليه السلام، وهذا هو تأييد آخر لما ذكرناه مراراً.

قال القاضي نعمان: «وروي عن جعفر بن محمّد عليه السلام أنّه قال:

أُصيب الحسين عليه السلام وعليه دين بضع وسبعون ألف دينار.

قال: وكفّ يزيد عن أموال الحسين عليه السلام، غير أنّ سعيد بن العاص هدم دار عليّ بن أبي طالب، ودار عقيل ودار الرباب بنت امرئ القيس وكانت تحت الحسين، وهي أُمّ سكينة» «1».

وهذا هو تأييد آخر لما هو مسلّم في التاريخ، وركّزنا عليه وأكّدناه مراراً وقلنا إنّ ما هو يظهر من بعض الكتب من إظهار يزيد الحزن على ما وقع لم يكن إلّاكذباً ونفاقاً وزوراً، وإلّا فلماذا هذا الفعل الشنيع؟

لاحظوا ما قيل من طلب يزيد من الإمام عليه السلام أن يكتب إليه كتاباً إذا اضطرّ إلى أمر! ثمّ يفعل بهم هذا!

إقامة العزاء على الحسين عليه السلام ..... ص : 408

روى القاضي نعمان عن الإمام جعفر بن محمّد عليه السلام أنّه قال:

«نيح على الحسين بن علي سنة كاملة كلّ يوم وليلة، وثلاث سنين من اليوم الذي أُصيب فيه، وكان المسْوَر بن مخرمة وأبو هريرة وتلك المشيخة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأتون مستترين ومقنّعين، فيسمعون ويبكون» «2».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 409

وهذا الخبر يدلّ على مدى حزن الهاشميّين واهتمامهم بعزاء سيّد الشهداء عليه السلام، بحيث حزنوا كأشدّ ما يكون الحزن واللوعة، واستمرّوا على ذلك، إبقاءً لذكر أبي عبداللَّه عليه السلام واستمراراً لنهجه.

نوح الجنّ ..... ص : 409

قال الزرندي: روى جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام قال: نيح (على) الحسين بن علي ثلاث سنين، وفي اليوم الذي قتل فيه، فكان وائلة بن الأصقع ومروان بن الحكم ومسور بن مخرمة وتلك المشيخة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يجيئون متقنّعين فيسمعون نوح الجنّ ويبكون «1».

رثاء أُمّ البنين ..... ص : 409

روي عن صاحب رياض الأحزان أنّه قال: «وأقامت أُمّ البنين زوجة أمير المؤمنين العزاء على الحسين عليه السلام، واجتمع عندها نساء بني هاشم يندبن الحسين وأهل بيته» «2».

وقال المامقاني: «ويستفاد قوّة إيمانها.. أنّ بشراً كلّما نعى إليها بعد وروده المدينة أحداً من أولادها الأربعة قالت ما معناه أخبرني عن الحسين عليه السلام، فلمّا نعى إليها الأربعة قالت: قد قطّعت أنياط قلبي، أولادي ومن تحت الخضراء كلّهم فداءً لأبي عبداللَّه الحسين عليه السلام» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 410

قال أبو الفرج الإصفهاني: «وكانت أُمّ البنين.. تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، فكان مروان يجي ء فيمن يجي ء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي!

ذكر ذلك عليّ بن محمّد بن حمزة، عن النوفلي، عن حمّاد بن عيسى الجهني، عن معاوية بن عمّار، عن جعفر بن محمّد» «1».

وقال أبو الحسن الأخفش في شرح الكامل: «وقد كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم ترثيه، تحمل ولده (أي ولد العبّاس عليه السلام) عبيداللَّه، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة وفيهم مروان بن الحكم، فيبكون لشجى الندبة.

ومن قولها رضي اللَّه عنها:

يا من رأى العبّاس كرّ على جماهير النقد ووراه من أبناء حيدر كلّ ليثٍ ذي لبد

أنبئت أنّ ابني أُصيب برأسه مقطوع يد ويلي على شبلي أمال برأسه ضرب العمد

لو كان سيفك في يديك لما دنا منك أحد

وقولها أيضاً:

لا تدعونّي

ويك أُمّ البنين تذكّريني بليوث العرين

كانت بنون لي ادعى بهم قد واصلوا الموت بقطع الوتين

تنازع الخرصان أشلاءهم فكلّهم أمسى صريعاً طعين

ياليت شعري أكما أخبروا بأنّ عبّاساً قطيع اليمين» «2»

حزن وبكاء الرباب بنت امرئ القيس ورثاؤها ..... ص : 410

لقد حزنت الرباب زوجة الإمام الحسين عليه السلام حزناً بالغاً، ووجدت عليه وجداً شديداً، وقد أبدت من الوفاء شيئاً غريباً.

قال ابن الأثير: «وكان مع الحسين امرأته الرباب بنت امرئ القيس، وهي أُمّ ابنته سكينة، وحُملت إلى الشام فيمن حمل من أهله، ثمّ عادت إلى المدينة، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: ما كنت لأتّخذ حمواً بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، وبقيت بعده سنة لم يظلّها سقف بيت حتّى بليت وماتت كمداً» «1».

وقال ابن كثير: «ولمّا قتل (الحسين عليه السلام) بكربلاء كانت (رباب) معه، فوجدت عليه وجداً شديداً.. وقد خطبها بعده خلقٌ كثير من أشراف قريش، فقالت: ما كنت لأتّخذ حمواً بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، وواللَّه لا يؤويني ورجلًا بعد الحسين سقف أبداً، ولم تزل عليه كمدة حتّى ماتت. ويقال إنّها عاشت بعده أيّاماً يسيرة، فاللَّه أعلم» «2».

وما ذكر من إقامتها على قبر أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام سنة، ثمّ رجوعها إلى المدينة قائلة:

إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر «3»

ممّا لا يمكننا المساعدة عليه، وهو بعيد جدّاً، والمستفاد من البيت البكاء

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 412

على الحسين عليه السلام سنة لا البقاء على قبره الشريف، ولذلك ذكر بعض المؤرِّخين ذلك بقوله «قيل» الدالّ على ضعفه «1».

نعم، قال سبط ابن الجوزي: «وعاشت بعد الحسين سنة، ثمّ ماتت كمداً، ولم تستظلّ بعد الحسين بسقف» «2».

وبذلك يستظهر أنّها قالت ذلك البيت في آخر أيّام حياتها، ولعلّها أنشدته حينما رأت

بوادر الموت وعلمت بفراق الروح من الجسم، وإلّا فمن شأنها أن تكون على هذه الحالة إلى آخر أيّام حياتها ولو طالت.

وذكر بعض المؤرِّخين أنّها رثته رثاءً حزيناً فقالت فيه:

إنّ الذي كان نوراً يستضاء به بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبيّ جزاك اللَّه صالحة عنّا وحبيت خير الموازين

قد كنت جبلًا صعباً ألوذ به وكنت تصحبنا بالرحم والدِّين

مَن لليتامى ومن للسائلين ومن يغني ويأوي إليه كلّ مسكين

واللَّه لا أبتغي صهراً بصهركم حتّى أغيَّب بين الرمل والطين «3»

رثاء عاتكة بنت زيد ..... ص : 412

قيل: إنّه بلغ من وفاء أزواج الإمام الحسين عليه السلام أنّ زوجته السيّدة عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت تنوح عليه، وقد رثته بذوب روحها قائلةً:

واحسيناً فلا نسيتُ حسينا أَقْصَدَتْه أسِنّةُ الأعداء

غادروه بكربلاء صريعاً لا سَقى الغيثُ بعده كربلاء «4»

هذا، ولكن نُسبت هذه الأبيات- مع تفاوتٍ يسير- إلى رباب زوجة الإمام الحسين، وأنّها رثت بها الحسين عليه السلام في الشام بعدما أخذت رأسه وقبّلته ووضعته في حجرها وقالتها «1».

أُمّ سلمة تردّ الأمانات إلى أهلها ..... ص : 412

روى الشيخ الكليني أيضاً بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ الحسين صلوات اللَّه عليه لمّا صار إلى العراق استودع أُمّ سلمة رضي اللَّه عنها الكتب والوصيّة، فلمّا رجع عليّ بن الحسين عليه السلام دفعتها إليه» «2».

ونحوه ما ذكره المسعودي بقوله: «ثمّ أحضر (أي الإمام الحسين عليه السلام) عليّ بن الحسين عليه السلام وكان عليلًا، فأوصى إليه بالاسم الأعظم ومواريث الأنبياء عليهم السلام وعرّفه أن قد دفع العلوم والصحف والسلاح إلى أُمّ سلمة رضي اللَّه عنها، وأمرها أن تدفع جميع ذلك إليه» «3».

وقال أيضاً: «فلمّا قرب استشهاد أبي عبداللَّه عليه السلام دعاه (أي عليّ بن الحسين عليه السلام)، وأوصى إليه، وأمره أن يتسلّم ما خلّفه عند امّ سلمة- رحمها اللَّه- مع مواريث الأنبياء والسلاح والكتاب» «4».

وهذا أيضاً ممّا يدلّ على مدى جلالة وعظمة أُمّ سلمة رضوان اللَّه عليها، بحيث إنّها كانت مؤتمنة عند الرسول وآله إلى آخر أيّام حياتها، والأشياء التي حفظتها هي الأشياء التي لابدّ أن تكون عند حجّة اللَّه في الأرض في كلّ زمان.

وممّا يُظهر أهمّية ذلك ما رواه الفقيه ابن حمزة الطوسي عن أبي خالد الكابلي أنّه

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 414

قال: «لمّا قُتل أبو عبداللَّه الحسين صلوات

اللَّه عليه، وبقيت الشيعة متحيّرة، ولزم عليّ بن الحسين صلوات اللَّه عليهما منزله، اختلفت الشيعة إلى الحسن بن الحسن، وكنت فيمن يختلف إليه، وجعلت الشيعة تسأله عن مسألة ولا يجيب فيها، وبقيت لا أدري من الإمام متحيّراً، وإنّي سألته ذات يوم فقلت له: جعلت فداك، عندك سلاح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

فغضب، ثمّ قال: يا معشر الشيعة، تعنّونا (تعيبوننا خ)؟!

فخرجت من عنده حزيناً كئيباً لا أدري أين أتوجّه، فمررت بباب عليّ بن الحسين زين العابدين عليه الصلاة والسلام قائم الظهيرة، فإذا أنا به في دهليزه قد فتح بابه، فنظر إليّ فقال: «يا كنكر»، فقلت: جعلت فداك، واللَّه إنّ هذا الاسم ما عرفه أحد إلّااللَّه عزّوجلّ وأنا، وامّي كانت تلقّبني به وتناديني وأنا صغير.

قال: فقال لي: كنت عند الحسن بن الحسن؟ قلت: نعم.

قال: إن شئت حدّثتك، وإن شئت تحدّثني؟

فقلت: بأبي أنت وأُمّي فحدّثني، قال: سألتَه عن سلاح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: يا معشر الشيعة، تعنّونا؟ فقلت: جعلت فداك، كذا واللَّه كانت القضيّة، فقال للجارية: ابعثي إليّ بالسفط، فأخرجتْ إليه سفطاً مختوماً، ففضّ خاتمه وفتحه، ثمّ قال: هذه درع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثمّ أخذها ولبسها، فإذا هي إلى نصف ساقه، قال: فقال لها: اسبغي، فإذا هي تنجرّ في الأرض، ثمّ قال: تقلّصي، فرجعت إلى حالها، ثمّ قال صلوات اللَّه عليه: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا لبسها قال لها هكذا، وفعلت هكذا مثله» «1»

.مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 415

فاطمة بنت الحسين عليه السلام تردّ الأمانات إلى أهلها ..... ص : 415

روى الشيخ الكليني رحمه الله بإسناده عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«إنّ الحسين بن عليّ عليهما السلام لمّا حضره الذي حضره دعا ابنته الكبرى

فاطمة بنت الحسين عليه السلام، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيّة ظاهرة، وكان عليّ بن الحسين عليهما السلام مبطوناً معهم لا يرون إلّاأنّه لما به، فدفعَت فاطمة الكتاب إلى عليّ بن الحسين عليه السلام، ثمّ صار واللَّه ذلك الكتاب إلينا يا زياد.

قال: قلت: ما في ذلك الكتاب جعلني اللَّه فداك؟ قال:

فيه واللَّه ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق اللَّه آدم إلى أن تفنى الدُّنيا، واللَّه إنّ فيه الحدود، حتّى أنّ فيه أرش الخدش» «1».

ويبدو أنّ هذه غير الأمانات التي قامت بردّها أُمّ سلمة، فيظهر أنّ الإمام عليه السلام قسّم الأمانات والوصيّة وبعض المواريث إلى قسمين، فجعل بعضها بيد ابنته فاطمة، والآخر بيد أُمّ سلمة، لكي يسلّماهما من بعده إلى حجّة اللَّه في أرضه. هذا وعقولنا قاصرة عن إدراك ذلك تفصيلًا.

استمرار بكاء وحزن الإمام زين العابدين عليه السلام ..... ص : 415

روى الشيخ الصدوق عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه قال:

«البكّاءون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمّد صلى الله عليه و آله، وعليّ بن الحسين عليهما السلام، فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية، وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره، وحتّى قيل له: «عز و جل الحمد لله لله عز و جل ف الله اكبر الحمد لله عز و جل مقدمه كر يو صدق الله العظيم ف صلي الله عليه و آله و سلم الله اكبر ى عز و جل كون صلي الله عليه و آله و سلم رض الحمد لله

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 416

او عز و جل كون من اله الحمد لله لكين» «1»

، وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهل السجن، فقالوا: إمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل، وإمّا أن تبكي بالليل

وتسكت بالنهار، فصالحهم على واحد منهما، وأمّا فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه و آله فبكت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتّى تأذّى بها أهل المدينة، وقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك، فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء، فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف، وأمّا عليّ بن الحسين فبكى على الحسين عليهما السلام عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وُضع بين يديه طعام إلّابكى، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يابن رسول اللَّه، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى اللَّه، وأعلم من اللَّه ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني لذلك عَبْرة» «2»

.وقال ابن نما: «فقد رويت عن والدي رحمة اللَّه عليه أنّ زين العابدين عليه السلام كان- مع حلمه الذي لا توصف به الرواسي وصبره الذي لا يبلغه الخلّ المواسي- شديد الجزع والشكوى لهذه المصيبة والبلوى، بكى أربعين سنة بدمع مسفوح وقلب مقروح، يقطع نهاره بصيامه وليله بقيامه، فإذا أحضر الطعام لإفطاره ذكر قتلاه وقال: واكرباه، ويكرّر ذلك ويقول: قتل ابن رسول اللَّه جائعاً، قتل ابن رسول اللَّه عطشانا حتّى يبلّ [بالدمع] ثيابه» «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 417

وقال: «قال أبو حمزة الثمالي: سُئل عليه السلام عن كثرة بكائه، فقال:

إنّ يعقوب فقد سبطاً من أولاده فبكى عليه حتّى ابيضّت عيناه وابنه حيّ في الدُّنيا ولم يعلم أنّه مات، وقد نظرت إلى أبي وسبعة عشر من أهل بيتي قُتلوا في ساعة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي؟!» «1»

.وقال السيّد ابن طاووس: «فاسلك أيّها السامع بهذا المصاب مسلك القدوة من حملة الكتاب، فقد روي عن مولانا زين العابدين عليه السلام- وهو ذو الحلم الذي

لا يبلغ الوصف إليه- أنّه كان كثير البكاء لتلك البلوى، عظيم البثّ والشكوى، فروي عن الصادق عليه السلام أنّه قال: إنّ زين العابدين عليه السلام بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره، قائماً ليله، فإذا حضره الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه، فيقول: كُلْ يا مولاي، فيقول: قُتل ابن رسول اللَّه جائعاً، قُتل ابن رسول اللَّه عطشاناً، فلا يزال يكرّر ذلك ويبكي حتّى يبلّ طعامه من دموعه، ويمتزج شرابه منها، فلم يزل كذلك حتّى لحق باللَّه عزّوجلّ» «2».

وروى الخوارزمي بإسناده عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام قال:

«كان أبي عليّ بن الحسين عليه السلام إذا حضرت الصلاة يقشعرّ جلده ويصفرّ لونه وترتعد فرائصه، ويقف شعره ويقول ودموعه تجري على خدّيه: لو علم العبد من يناجي ما انفتل.

وبرز يوماً إلى الصحراء، فتبعه مولى له، فوجده قد سجد

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 418

على حجارة خشنة، قال مولاه: فوقفت حيث أسمع شهيقه وبكاءه، فواللَّه لقد أحصيت عليه ألف مرّة وهو يقول: لا إله إلّا اللَّه حقّاً حقّاً، لا إله إلّااللَّه تعبّداً ورقّاً، لا إله إلّااللَّه إيماناً وصدقاً، ثمّ رفع رأسه من سجوده وإنّ لحيته ووجهه قد غُمرا بالماء من دموع عينيه، فقال له مولاه: يا سيّدي، أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقلّ؟! فقال له: ويحك، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيّاً ابن نبيّ وله اثنا عشر ابناً، فغيّب اللَّه تعالى واحداً منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ، وذهب بصره من البكاء وابنه حيّ في دار الدُّنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة وعشرين «1» من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي»

«2».

وقال الأربلي: وعن جعفر بن محمّد عليهما السلام قال:

«سُئل عليّ بن الحسين عن كثرة بكائه، قال: لا تلوموني، فإنّ يعقوب فَقَدَ سِبْطاً من ولده فبكى حتّى ابيضّت عيناه ولم يعلم أنّه مات، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلًا من أهل بيتي في غداة واحدة قتلى، فترون حزنهم يذهب من قلبي؟ «3»».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 419

دور الإمام زين العابدين عليه السلام في استمرار الرسالة ..... ص : 419

إنّ الإمام عليه السلام قد أدّى في دوره بأحسن ما يمكن بالنسبة إلى استمرار الرسالة الحسينيّة وتثبيت دعائمها وثمرتها وتربية النفوس عليها، وذلك بعدّة أمور:

1- تثبيت أمر الإمامة: إنّ السلطة الغاشمة والزمرة الحاكمة أرادت وأحبّت أن ترى انخماد كلّ شي ء بعد مقتل أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام، ولكن الإمام عليه السلام بدوره أثبت أنّ الإمامة أمرٌ خارج عن نطاق إرادة البشر، وأنّها أمر إلهي يلازمها لطف ربّاني وعناية ربّانيّة مخصوصة، وبذلك يحمل ما جرى بينه عليه السلام وبين عمّه محمّد ابن الحنفيّة «1»، وممّا يؤيّد ذلك ما ذكرناه في رواية أبي خالد الكابلي آنفاً.

2- تربية الناس: إنّ الإمام عليه السلام بما أنّه يمتلك قوّة وموهبة إلهيّة، فقد قام بتربية الناس، وذلك عبر كلماته ومواعظه التي ربما كانت تلقى في يوم الجمعة وفي مسجد رسول اللَّه عليه السلام، ومعلوم أنّ حضور الناس في يوم الجمعة يختلف عمّا سواه.

روى ورّام بن أبي فراس عن سعيد بن المسيب أنّه قال: «كان عليّ بن الحسين يعظ الناس ويزهّدهم في الدُّنيا ويرغّبهم في الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد الرسول» «2».

3- بثّ المعارف الإلهيّة: لمّا كان الإمام عليه السلام يعيش في ظروف سياسيّة شاقّة جدّاً، فمن الطبيعي أنّه ما كان يسعه أن يحضر الساحة بالنحو المطلوب، ولذلك نرى أنّه عليه السلام قدّم ثروة علميّة

عظيمة في قالب الدُّعاء، وهو يعالج أموراً

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 420

عديدة في جوانب مختلفة كالمجال التربوي والعرفاني والاجتماعي والسياسي..

4- الإمام ومسألة أخذ الثأر من قتلة الإمام عليه السلام: إنّ المتتبّع في التاريخ ربما يحصل على قرائن وشواهد عديدة على قيادة الإمام عليه السلام مسألة أخذ ثأر قتلة الإمام الحسين عليه السلام، وتفصيل ذلك خارج عن عهدة هذا المقال «1»، بل إنّنا نجد أنّه كان يهتمّ في هذه المسألة في دعائه المستمرّ ليلًا ونهاراً.

قال القاضي نعمان: «وكان عليّ بن الحسين عليه السلام يدعو في كلّ يوم وليلة أن يريه اللَّه قاتل أبيه مقتولًا، فلمّا قتل المختار قَتَلة الحسين عليه السلام بعث برأس عبيداللَّه بن زياد ورأس عمر بن سعد مع رسول من قِبله إلى عليّ بن الحسين عليهما السلام، وقال لرسوله أنّه يصلّي من الليل، فإذا أصبح وصلّى الغداة هجع ثمّ يقوم [فيستاك] فيؤتى بغذائه، فإذا أتيت بابه فاسأل عنه، فإذا قيل لك: إنّ المائدة وضعت بين يديه فاستأذن عليه وضع الرأسين على [مائدته] وقل له: «المختار يقرأ عليك السلام، ويقول لك: يابن رسول اللَّه، قد بلّغك اللَّه ثارك»، ففعل الرسول ذلك.

فلمّا رأى عليّ بن الحسين رأسين على [مائدته] خرّ للَّه ساجداً، وقال: الحمد للَّه الذي أجاب دعائي وبلغني ثأري من قتلة أبي، ودعا للمختار وجزّاه خيراً» «2».

وممّا يدلّ على مدى تأثير الإمام عليه السلام هو ملاحظة ردود فعل السلطة، نذكر بعضها:

1- إيذاؤهم له وشتمه على المنبر: ذكر سبط ابن الجوزي عن ابن سعد أنّ والي المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي كان يؤذي علي بن الحسين ويشتم عليّاً على المنبر وينال منه «3».

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 421

وقال القاضي نعمان: «وولّى هشام بن إسماعيل المخزومي المدينة، فنال عليّ بن الحسين

عليه السلام من الأذى والمكروه عظيماً» «1».

وهكذا كان دأب سائر الولاة، وإن كانت تختلف أحياناً شدّةً وضعفاً.

2- قصد قتل الإمام أو سمّه: روى الطبري- الإمامي- بإسناده عن إبراهيم بن سعد قال: «لمّا كانت واقعة الحرّة وأغار الجيش على المدينة وأباحها ثلاثة وجّه بَرْدَعَة الحمار صاحب يزيد بن معاوية (لعنه اللَّه) في طلب عليّ بن الحسين عليهما السلام ليقتله أو يسمّه..» «2».

دور زينب الكبرى سلام اللَّه عليها في استمرار الرسالة ..... ص : 421

لقد اطّلع القارئ الكريم على مواقف بطولية لزينب الكبرى في مواطن عديدة، ولم تترك زينب الكبرى هذه الرسالة إلى آخر حياتها، ومن تلك المواطن هي المدينة المنوّرة، فقد أخذت بدورها العظيم تجاه هذه المأساة بحيث إنّها كانت تحرّض الناس على أخذ ثأر الحسين عليه السلام، وخطبت بالناس في ذلك، وأثّرت، بحيث لم تتمكّن السلطة أن تتحمّل وجودها بالمدينة، وقامت بنفيها عنها.

روى صاحب «أخبار الزينبات» بإسناده عن مصعب بن عبداللَّه، قال: «كانت زينب بنت عليّ وهي بالمدينة تؤلّب الناس على القيام بأخذ ثأر الحسين، فلمّا قام عبداللَّه بن الزبير بمكّة وحمل الناس على الأخذ بثأر الحسين وخلع يزيد، بلغ

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 422

ذلك أهل المدينة، فخطبت فيهم زينب، وصارت تؤلّبهم على القيام للأخذ بالثأر، فبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فكتب إلى يزيد يعلمه بالخبر، فكتب إليه أنْ فرّق بينها وبينهم، فأمر أن ينادي عليها بالخروج من المدينة والإقامة حيث تشاء، فقالت:

قد علم اللَّه ما صار إلينا، قُتل خيّرنا، وانسقنا كما تساق الأنعام، وحُملنا على الأقتاب، فواللَّه لا خرجنا وإن اهريقت دماؤنا.

فقالت لها زينب بنت عقيل: يابنة عمّاه، قد صدقنا اللَّه وعده، وأورثنا الأرض نتبوّأ منها حيث نشاء، فطيبي نفساً، وقرّي عيناً، وسيجزي اللَّه الظالمين، أتريدين بعد هذا هواناً، ارحلي إلى بلد آمن.

ثمّ اجتمع عليها نساء بني

هاشم، وتلطّفن معها في الكلام، وواسينها» «1».

بل المستفاد من بعض النصوص أنّ يزيد لعنه اللَّه هو الذي أشار بنقلها عن المدينة، فقد رُوي عن عبيداللَّه بن أبي رافع أنّه قال: «سمعت محمّداً أبا القاسم بن علي يقول: لمّا قدمت زينب بنت علي من الشام إلى المدينة مع النساء والصبيان ثارت فتنة بينها وبين عمرو بن سعيد الأشدق والي المدينة من قِبل يزيد، فكتب إلى يزيد يشير عليه بنقلها من المدينة، فكتب له بذلك، فجهّزها هي ومن أراد السفر معها من نساء بني هاشم إلى مصر، فقدمتها لأيّام بقيت من رجب» «2».

وهذا يدلّ على مدى تأثير زينب الكبرى سلام اللَّه عليها في المجتمع، بحيث أحسّت الزمرة الفاسدة الحاكمة بالخطر، وقامت بنفيها عن المدينة.

وأمّا ذهابها إلى مصر أو الشام والتحقيق في موضع دفنها فخارج عن عهدة هذا الكتاب، ولكن المهمّ التركيز على أنّها أدّت واجبها بنجاح بإبلاغ الرسالة الحسينيّة، وتحمّلت أنواع المشاقّ والآلام في هذا السبيل.

مع الركب الحسينى(ج 6)، ص: 423

روي بإسناد عن محمّد بن عبداللَّه عن جعفر بن محمّد الصادق عن أبيه عن الحسن بن الحسن أنّه قال: «لمّا خرجت عمّتي زينب من المدينة خرج معها من نساء بني هاشم فاطمة ابنة عمّ الحسين واختها سكينة» «1».

وقال: وبالسند المرفوع إلى رقيّة بنت عقبة بن نافع الفهري قالت: كنت فيمن استقبل زينب بنت علي لما قدمت مصر بعد المصيبة، فتقدّم إليها مسلمة بن مخلد، وعبداللَّه بن الحارث وأبو عميرة المزني، فعزّاها مسلمة وبكى وبكت وبكى الحاضرون، وقالت: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون..

*** وهكذا كانت حركة المسيرة المظفّرة، وهذا هو تاريخ الركب الحسيني الطاهر. ولنختم الكتاب بما أورده الباعوني بقوله:

«ولم تقم لبني حرب بعدهم قائمة حتّى سلبهم اللَّه ملكهم

وقطع دابرهم وأورثهم اللعنة والخزي والعار إلى آخر الأبد، وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج بن يوسف: جنّبني دماء أهل البيت، فأنّي رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لمّا قتلوا الحسين» «2».

1/ ذو القعدة/ 1419 ه

محمد أمين الأميني

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.