أدوار علم الفقه و أطواره

اشارة

نام كتاب: أدوار علم الفقه و أطواره

موضوع: تاريخ فقه و تحولات آن

نويسنده: نجفي، كاشف الغطاء، علي بن محمد رضا بن هادي

تاريخ وفات مؤلف: 1411 ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 1

ناشر: دار الزهراء للطباعة و النشر و التوزيع

تاريخ نشر: 1399 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: بيروت- لبنان

============

عنوان: ادوار علم الفقه و اطواره

نام كتابخانه: كتابخانه دانشكده الهيات دانشگاه فردوسي

پديدآورنده: آل كاشف الغطاء، علي بن جعفر، -ق1253.

موضوع: تاريخ = فقه

شرح پديدآور: لمولفه علي نجل محمدرضا نجل، هادي من آل كاشف الغطاء

ناشر: دارالزهراء

محل نشر: بيروت

رده كنگره: BP169/9/آ8فلا4

نوع: كتابخانه مركزي و مركزاسناد دانشگاه فردوسي

مشخصات ظاهري: 286 ص

[المقدمة]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين و الصلوة و السلام علي محمد و آله و صحبه الطيبين الطاهرين و بعد، فيقول المفتقر إلي الله تعالي علي ابن المرحوم الشيخ محمد رضا ابن المغفور له الشيخ هادي من آل كاشف الغطاء.

تطور علم الفقه

اشارة

إن علم الفقه لما كان من العلوم التي ترتبط بواقع الحياة و صميمها لأنه تعالج فيه الوقائع و الحوادث الداخلية و الخارجية حيث انه العلم بالأحكام الإلهية لأفعال المكلفين فكان و لا بد أن تصقل مسائله العقول و تنقح مطالبه الأفكار و يناله التطور الذي ينال كل علم من العلوم التي يكون لها هذا الشأن. كيف لا و موضوعه هو أفعال المكلفين و هي تتغير بتغير الزمن

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 6

و تتطور بتطور الحياة و كم كان الفرق بين الحياة في صدر الإسلام و بينها في هذه الأيام فان في هذه الأيام قد صارت استفادة قوانينه و تطبيقها علي الحوادث النازلة و الوقائع المتجددة و استنباط الوظائف الدينية في الحياة العملية، و استلهام الأحكام الشرعية منها تحتاج إلي مهارة علمية و مقدرة فنية لانقطاع زمن الوحي و هذا أمر يتجدد بتجدد الحوادث و يختلف باختلاف الافهام و سعة الاطلاع، فكان تطور علم الفقه بتطور الزمن و تجدده بتجدد الأحداث أمراً لازماً لطبيعة موجوديته و لنفس حيويته و ان تمر به أدوار مختلفة منذ نشأته حتي اليوم. و علي الفقيه الاطلاع علي هذه الأدوار و تاريخ تطورها باختلاف الظروف و الأحوال و تعدد مظاهرها الناتج عن اختلاف المذاهب و الأنظار و تفاوت العقائد و الأفكار، بل يكاد أن يكون من المحتم علي من أراد زيادة البصيرة في هذا العلم التعرف بما قطعه هذا

العلم من الخطوات و العقبات في مضمار رقيه و تقدمه الذي أبرزه بهذه الصورة في هذه الحياة، فان في ذلك عرضاً للأسس العامة للثقافة الدينية و بياناً لمناهج دراستها العلمية الفقهية و هو ما يزيد الفقيه معرفة و خبرة و اطلاعاً و بصيرة، و الذي حصلناه من بطون الكتب المحررة في هذا الموضوع و استخرجناه من المؤلفات في هذا العلم انه قد مرت بهذا العلم أدوار متعددة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 7

الدّور الأول لعلم الفقه

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 9

الأول: دور التشريع للأحكام الشرعية حيث ان الأحكام الشرعية هي التي يتركز عليها علم الفقه لكونها هي التي يبحث في علم الفقه عن ثبوتها لأفعال المكلفين، و هذا الدور يبدأ من زمن بعثة الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم و قد كانت عند ما أكمل الأربعين سنة من عمره قبل هجرته للمدينة المنورة بثلاث عشرة سنة حيث كانت بعثته سنة 610 م تقريباً عند ما صعقه الوحي في غار حراء فقال له (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسٰانَ مٰا لَمْ يَعْلَمْ) فارتعدت صلّي الله عليه و آله و سلّم فرائصه و رجفت جوانبه و عاد إلي أهله قائلًا زملوني فزملوه حتي ذهب عنه الفزع و الروع.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 10

مكان الوحي و مبدؤه

كان ذلك الوحي في 27 من رجب عند الامامية و في 17 من شهر رمضان عند أهل السنة في الموضع الذي كان محل عبادته صلّي الله عليه و آله و سلّم بضواحي مكة المكرمة (غار حراء) ثمّ أخذ المسلمون يتلقون من الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم الأحكام الدينية و ما يوحي إليه فيه في دار الارقم بمكة المكرمة.

ثمّ بعد ذلك اصبح منزل رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم في مكة المكرمة هو الذي فيه يتلقي منه صلّي الله عليه و آله و سلّم الأحكام الفقهية و القوانين السماوية.

و من بعد ذلك كان مسجده صلّي الله عليه و آله و سلّم في المدينة المنورة هو الموضع الذي يأخذ منه صلّي الله عليه و آله و سلّم الأحكام الشرعية

و المعارف الإلهية، و ينتهي هذا الدور بوفاته صلّي الله عليه و آله و سلّم بعد الهجرة للمدينة المنورة بعشر سنين أي سنة 633 م.

مقدار الزمن الذي بلغ صلّي الله عليه و آله و سلّم الرسالة

فتبليغه صلّي الله عليه و آله و سلّم يبلغ اثنتين و عشرين سنة وعدة اشهر. و قد ذكر بعضهم بأنه عبارة عن اثنتين و عشرين سنة و شهرين و اثنين و عشرين يوماً و قد كانت دعوته صلّي الله عليه و آله و سلّم سراً بعد بعثته إلي مدة ثلاث سنوات و بعدها أمره الله تعالي بأن يجهر بدعوته بقوله تعالي: (فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) و استمرت دعوته ما يقارب ثلاث عشرة سنة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 11

في مكة المكرمة و قد نزل عليه من القرآن ما يقارب ثلثيه ثمّ ذهب للطائف بعد بعثته بعشر سنين سنة 620 م.

وقت الاسراء و المعراج و فرض الصلاة

و في السنة الحادية عشرة من بعثته المصادف سنة 621 م وقت الأسراء و المعراج و فرضت الصلوات الخمس اليومية.

وقت زمن هجرته صلّي الله عليه و آله و سلّم

ثمّ هاجر من مكة إلي المدينة المنورة في السنة الثالثة عشرة من بعد بعثته و قد وصلها يوم الجمعة 2 تموز سنة 623 م.

مبدأ التاريخ الإسلامي

و كانت هجرته هذه هي بدأ التاريخ الإسلامي الهجري القمري و في المدينة تكونت الدولة الإسلامية بقيادة الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم، و أخذ الرسول يبين الأحكام الإسلامية حتي كملت فنزل قوله تعالي: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً) و كان نزولها قبل وفاة الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم بثلاثة اشهر و لم تنزل بعدها آية من آيات الأحكام.

مدة نشره صلّي الله عليه و آله و سلّم للأحكام

كانت مدة نشره صلّي الله عليه و آله و سلّم للأحكام في المدينة المنورة عشر

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 12

سنوات نزل فيها من القرآن ثلثه الأخير و شي ء يسير منه.

الأعمال التي قام بها صلّي الله عليه و آله و سلّم في المدينة المنورة

و في السنة الأولي من الهجرة بني صلّي الله عليه و آله و سلّم المسجد النبوي و بني مسجد قبا و فيها شرع الجهاد و الآذان و صلاة العيدين. و عن الواقدي انه لا خلاف بين الحجازيين في انه في هذه السنة 12 ربيع الثاني زيد في الصلاة ركعتان بعد أن كانت ركعتين حضراً و سفراً و لعله هو مراد الشيخ الطوسي من قوله في مصباحه في أول سنة من الهجرة استقر فرض صلاة الحضر و السفر.

و في السنة الثانية من الهجرة تحولت القبلة من المسجد الأقصي و هو بيت المقدس إلي الكعبة بعد أن صلي المسلمون إلي البيت المقدس (16) شهراً. و فيها كان أول خمس خمسه النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم فاخذ الصفايا و الخمس في غزوة بني قينقاع و أعطي الباقي لأصحابه. و في شهر شعبان منها شرع صوم شهر رمضان بعد ما كان الصوم ثلاثة أيام من كل شهر. و فيها فرضت زكاة الفطرة.

ثمّ بعد ذلك فرضت في هذه السنة زكاة الأموال و سنت صلاة العيد و تزوج الإمام علي عليه السلام بفاطمة سيدة النساء بنت رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 13

و في السنة الرابعة شرع القصر في صلاة المسافرين.

و في السنة الخامسة ابطلت عادة التبني التي كان العرب يعاملون فيها الربيب معاملة الابن الحقيقي.

و في السنة السادسة فرض الحج و فيها توجه النبي صلّي الله عليه و

آله و سلّم مع أصحابه إلي مكة معتمراً فمنعه المشركون.

و في السنة السابعة اعتمر النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم.

و في السنة التاسعة حج بالناس أبو بكر.

و في السنة العاشرة توفي إبراهيم ابن النبي. و فيها حج النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم حجة الوداع و خطب خطبته المعروفة و بين فيها ان علياً خليفته.

أسماء سني هجرته صلّي الله عليه و آله و سلّم

و قد سمي المسلمون السنوات من هجرته إلي وفاته بأسماء مخصوصة، فالأولي بعد الهجرة سموها سنة الأذن، و الثانية سنة الأمر بالقتال، و الثالثة سنة التمحيص، و الرابعة سنة الترفئة، و الخامسة سنة الزلزال، و السادسة سنة الاستئناس، و السابعة سنة الاستغلاب، و الثامنة سنة الاستواء، و التاسعة سنة البراءة، و العاشرة سنة الوداع، و كانوا يستغنون بذكرها عن عددها من الهجرة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 14

كيفية بيان التشريع في هذا الدور

و في هذا الدور كان التشريع للأحكام اما بآية من القرآن العظيم أو بالسنة من النبي الكريم صلّي الله عليه و آله و سلّم. و السنة من النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم عبارة عن كلامه صلّي الله عليه و آله و سلّم أو كتابته صلّي الله عليه و آله و سلّم أو فعله صلّي الله عليه و آله و سلّم أو تقريره صلّي الله عليه و آله و سلّم و امضائه صلّي الله عليه و آله و سلّم فان هذه الأربعة تسمي باصطلاح الفقهاء بالسنة نقلًا من معناها اللغوي الذي هو الطريقة و يسمي الحاكي للسنة (بالخبر أو الحديث) و هو تارة يكون متواتراً و تارة يكون خبراً غير متواتر و يسمي بالخبر الواحد.

و قد تطلق السنة علي ما يعم الحاكي و المحكي.

اتجاه التشريع في مكة المكرمة

و كان التشريع في مكة المكرمة متجهاً نحو تركيز العقيدة و اصلاح الفاسد منها و مكافحة الإلحاد و الشرك بالله و إثبات الرسالة المحمدية.

اتجاه التشريع في المدينة المنورة

و في المدينة المنورة كان متجهاً إلي سن الأحكام الشرعية و القواعد الفقهية حتي كمل الدين و تمت رسالة سيد المرسلين

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 15

و لم يترك حادثة صغيرة

أو كبيرة إلا و نجد حكمها بنصوصه أو آثاره أو في كلياته و أصوله، و ترك معرفة الوقائع المتجددة لفهم المتفقهين في قوانينه و هذا ما صير الدين الإسلامي يتماشي مع سائر العصور خاتمة للأديان و صالحاً للبقاء في كل حال و زمان.

مصدر التشريع في الدور الأول

اشارة

ان مصدر التشريع في هذا الدور هو الوحي المنزل علي النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم من قبل رب العالمين سواء كان التشريع بآية قرآنية أو بالسنة النبوية.

اجتهاد الرسول

و قد نسب للشافعية و المالكية و بعض الحنفية القول بأن التشريع قد يكون مصدره اجتهاد رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم و ما أدي إليه رأيه لا بالوحي المنزل عليه. و ذهب أصحابنا الامامية و الاشعرية و كثير من المعتزلة و المتكلمين إلي عدم ذلك منه صلّي الله عليه و آله و سلّم و قد أشبعنا المقام بحثاً و تنقيحاً في المجلد الأول من كتابنا الأحكام الشرعية و شئونها.

إلا انه لا ينكر أن الاجتهاد قد كان عند الصحابة بالمعني

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 16

الأعم فان فهم أحكام الوقائع من بعض النصوص الدينية يحتاج إلي اعمال الرأي و بذل الوسع و الجهد و هو لا محالة يصدر عن الصحابة عند عدم تيسر وصولهم للنبي صلّي الله عليه و آله و سلّم بل ربما يرجعون لحكم العقل إذا لم يكن لديهم نص يمكن استلهام الحكم الشرعي للحادثة النازلة بهم لانسداد باب العلم فيها و من هذا الباب ما روي من أن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم قد أذن لمعاذ بن جبل لما بعثه إلي اليمن أن يجتهد فيما إذا لم يجد نصاً من الكتاب أو السنة في الواقعة التي هي محل ابتلائه و انك لتلمس الاجتهاد من بعض الصحابة عند ما أمر النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم بعض الصحابة ألّا يصلي العصر إلا في بني قريظة فكان فريق منهم لم يصلوا العصر رغم فوات وقته حتي

وصلوا لبني قريظة تعبداً بالنص بينما الفريق الآخر اجتهد و اعمل رأيه فصلي العصر قبل الوصول لبني قريظة قبل فوات وقت العصر و قال ان المقصود الحث علي الاسراع بالوصول لبني قريظة لا التعبد المحض.

إكمال الدين

و في هذا الدور كمل بيان الأحكام الشرعية و بيان مصادرها.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 17

إطلاق كلمة الفقه و الفقيه

و كانت كلمة (الفقه) في هذا الدور تطلق علي معرفة سائر الأحكام سواء كانت اصولية أو فرعية و سواء كانت اخلاقية أو تعبدية و كان (الفقيه) في هذا الدور من حفظ آيات من القرآن الشريف و عرف معانيها و ناسخها من منسوخها و متشابهها من محكمها و خاصها من عامها و مقيدها من مطلقها.

تسمية القراء بالفقهاء في هذا الدور

و كانوا يسمون الفقهاء بالقراء أي الذين يقرءون الكتاب باعتبار ان هذا أمر يميزهم عن عامة الناس لأن الأمية كانت منتشرة و عامة و لما كمل علم الفقه فيما بعد ذلك و اصبح علماً مستقلًا أبدلت أسماؤهم بالفقهاء.

المعروفون بالفتوي في هذا الدور

و كان المعروفون في الفتوي في هذا الدور أبو بكر و أبو الدرداء و أبو رافع و أبو سعيد الخدري و أبي بن كعب و أبو أيوب الأنصاري و حذيفة بن اليمان و جابر الأنصاري و زيد بن ثابت. و سلمان الفارسي، و عبد الرحمن بن عوف، و عبد الله بن مسعود، و عثمان بن عفان و عمر بن الخطاب

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 18

و ابنه عبد الله، و عبد الله بن العاص، و عمار بن ياسر، و عبد الله بن عباس و معاذ بن جبل.

المرجع في تشخيص الحكم هو الإمام علي عليه السلام

و كان الإمام علي عليه السلام هو المرجع الأعم في تشخيص الحكم الشرعي بعد النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم ففي المحكي عن الطبقات الكبري ج 2 ص 332 طبع بيروت عن ابن عباس أنه قال إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا فلا نعدوها و مثله عن كتاب (الجرح و التعديل) للحافظ الرازي و الصواعق لابن حجر و تاريخ الخلفاء للسيوطي و نظيره عن الاستيعاب ج 2 ص 462 طبع حيدرآباد و تهذيب التهذيب للعسقلاني ج 1 ص 337 طبع حيدرآباد و الاصابة.

قول عائشة في الإمام علي عليه السلام

و قد تواتر عن عائشة ان علياً اعلم الناس بالسنة كما في الاستيعاب و تاريخ الخلفاء للسيوطي و اسعاف الراغبين و ذخائر العقبي و المناقب للخوارزمي و غيرها. و مما يدل علي ذلك قول عمر (أقضانا علي) كما في الطبقات الكبري و أخبار القضاء و المستدرك و التاريخ الكبير لابن عساكر و الطبقات المالكية و غيرها من كتب الأخبار و التراجم و عن

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 19

الاستيعاب بسنده عن المغيرة (ليس أحد منهم أقوي قولًا في الفرائض من علي).

من اشتهر من الفقهاء في هذا الدور

و اشتهر من الفقهاء عبد الله بن عباس حتي سمي البحر لكثرة علمه. و سلمان الفارسي الذي قال فيه النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم (أنه من أهل البيت). و عمار بن ياسر الذي قال فيه النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم (أنه مع الحق و الحق معه). و أبي بن كعب الذي روي عن الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم (أنه أقرأ أمته).

وجود الفقه و الاجتهاد في هذا الدور

فالفقه في هذا الدور موجود لدي القراء لكون الفقه هو ملكة العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية و هم لوجود الكتاب و النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم فيما بينهم كانت عندهم الملكة المذكورة كما ان الاجتهاد أيضاً موجود عندهم لأن الاجتهاد هو القدرة علي الاستنباط و لا ريب عندهم في ذلك لسهولة الاستنباط في هذا الدور.

قصة معاذ بن جبل

و يدل علي وجوده عندهم قصة معاذ بن جبل حيث أمره

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 20

النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم بالاجتهاد عند فقد النص. و قول النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم في المجتهد (أنه إذا أخطأ له اجر واحد و إذا أصاب كان له اجران).

واقعة بني قريظة

و قد وقع مع الصحابة الاجتهاد كما تقدم في واقعة بني قريظة لما أمر النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم المسلمين بأن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة فصلاها بعضهم قبل الوصول لبني قريظة لفوت الوقت عند الوصول إليهم و اجتهد في قول النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم بحمله علي أن المقصود طلب الإسراع في الوصول إليهم لا تأخر الصلاة عن وقتها.

اجتهاد عمار

و هكذا اجتهد

عمار بن ياسر في التيمم حيث تمعك في التراب.

القضاء في هذا الدور

و كان القضاء في هذا الدور منحصراً في رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم أو من يقيمه مقامه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 21

كتابة الأحكام في هذا الدور

و كتبت في هذا الدور الأحكام الشرعية و يسمي ما كتب فيه بالصحائف منها صحيفة أمير المؤمنين علي عليه السلام الصحيفة التي ذكرتها كتب الفريقين و منها ما أمر رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم بعد هجرته للمدينة بكتابته كأحكام الزكاة و ما توجب فيه و مقادير ذلك و قد كتبت في صحيفتين. و منها ما اعطاه صلّي الله عليه و آله و سلّم إلي عمر بن حزم لما ولي اليمن أحكاماً مكتوبة من الفرائض و الصدقات و الديات و غير ذلك. و منها ما اعطاه صلّي الله عليه و آله و سلّم لعبد الله ابن حكيم من الكتاب الذي فيه أحكام الحيوانات الميتة. و منها ما أمر به صلّي الله عليه و آله و سلّم من كتابة خطبته يوم فتح مكة لرجل من اليمن حين سأله ذلك. و منها ما دفعه إلي وائل بن حجر عند ما أراد الرجوع إلي بلاده حضرموت من الكتاب الذي فيه أحكام الصلاة و الصوم و الربا و الخمر و غيرها.

و مما كتب من الصحائف في هذا الدور صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص و ذكروا ان فيها ما يكفي كاتبها في معرفة الشريعة كلها في جميع أبواب الفقه و ان كنا لا نؤمن بهذه المبالغة لأن عبد الله بن عمرو بن العاص و أباه قد أسلما قبل وفاة رسول

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 22

الله صلّي الله عليه و آله و سلّم بسنتين و كان له من

العمر حين إسلامه خمس عشرة سنة و لم يكن له من الصلة و المعاشرة مع الرسول ما يؤهله لذلك. و قد طعن فيها الحافظ ابن كثير في المجلد الأول من تاريخه المسمي بالبداية و النهاية. و منها صحيفة سعد بن عبادة الأنصاري و صحيفة عبد الله بن أبي أوفي. و صحيفة جابر بن عبد الله و صحف عبد الله بن عباس. و صحيفة سمرة بن جندب.

أمر الرسول زيد بن ثابت بتعلم كتابة اليهود

و حكي عن أهل التاريخ أن رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم في السنة الرابعة من الهجرة أمر زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة اليهود ليكتب لهم و يقرأ ما يكتبونه له صلّي الله عليه و آله و سلّم و في مختصر جامع بيان العلم ص 37 عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم انه قال قيدوا العلم بالكتابة. إلا أن الكتابة للأحكام الشرعية لم تكن معروفة لدي الصحابة في هذا الدور و كان نوع الصحابة يحفظون الأخبار و الآثار علي صدورهم مستغنين بذلك عن كتابتها و جمعها.

ما يمتاز به هذا الدور

و مما يمتاز به هذا الدور انه لم يكن فيه مجال للخلاف في الأحكام الشرعية لوجود الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم فيما بينهم و قوله صلّي الله عليه و آله و سلّم هو فصل الخطاب.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 23

زمن انتهاء الدور الأول و زمن انقراض الصحابة

و قد انتهي هذا الدور بوفاة رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم بالمدينة يوم الاثنين سنة 10 ه كما انقرض عصر الصحابة في سنة 100 ه حيث كان آخر واحد منهم أبو

الطفيل الكناني مات سنة 100 ه و قيل كان آخر واحد منهم هو سهل بن سهل الساعدي توفي بالمدينة و هو ابن مائة سنة 91 ه.

المراد بالصحابي

و الصحابي من لقي النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم مسلماً و مات علي ذلك و قد قبض النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم عن مائة و أربعة عشر ألف صحابي. و التابعي من لقي الصحابي مسلماً و مات علي ذلك. و أما من اسلم في زمن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و لم يلقه و لكنه لقي صحابياً فهو معدود من التابعين.

خلاصة تاريخ حياة الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم

و تتلخص حياته صلّي الله عليه و آله و سلّم بأن بدايتها يوم ولادته صلّي الله عليه و آله و سلّم 20 نيسان عام الفيل سنة 570 م و هو العام الذي جاء فيه أبرهة من ملوك الحبشة لهدم الكعبة صباح الاثنين في مكة المكرمة 17 ربيع الأول أو 12 منه و بعدها بأربعين سنة بعث

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 24

رسولًا من رب العالمين من غار حراء في ضواحي مكة المكرمة الذي كان محل عبادته و فيه هبط عليه الوحي الأمين، فقال له (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسٰانَ مٰا لَمْ يَعْلَمْ) الاثنين 27 رجب عند الامامية و 17 رمضان عند السنة المصادف سنة 610 م فكان صلّي الله عليه و آله و سلّم أعجوبة من عجائب الزمن في مواقفه الرائعة و آياته الباهرة، و جهاده العظيم يعجز عن حصرها القلم و عن وصف واقعها المفرد العلم و بعد عشر سنين من بعثته توفي كافله أبو طالب و زوجته خديجة أم المؤمنين فهاجر للطائف يدعو بني ثقيف لنصرته علي قريش فقابلوه بالأذي و رجع بعد شهر لمكة المكرمة ثمّ هاجر إلي المدينة

المنورة في أول ربيع الأول في السنة الثالثة عشرة من بعثته الموافقة لسنة 623 م أو سنة 622 م و بقي فيها عشر سنين يرشد الناس للأحكام الشرعية ثمّ ذهب بعدها لجوار ربه مسموماً 28 صفر سنة 10 ه و قيل 12 ربيع الأول فيكون عمره الشريف 63 سنة و عند جماعة ان يوم ولادته و هجرته و وفاته صلّي الله عليه و آله و سلّم يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول.

و عن ابن عباس أن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم ولد يوم الاثنين و أوحي إليه يوم الاثنين و رفع الحجر الأسود يوم الاثنين و خرج

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 25

من مكة إلي المدينة يوم الاثنين و قدم المدينة يوم الاثنين و قبض يوم الاثنين.

ما يجعل الأفكار صرعي في هذا الدور الأول

و مما يدهش الفكر و النظر في هذا الدور أن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم عند مرضه الذي التحق به إلي الرفيق الأعلي أراد أن يكتب كتاباً لا يضل بعده ابداً فمنعه عمر عن ذلك و قال ان رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم قد غلبه الوجع و هو يهجر و عندكم القرآن و حسبنا كتاب الله و أوجب ذلك اختلاف الحاضرين عنده فمنهم من أراد الكتابة و منهم من أبي ذلك مكتفياً بكتاب الله تعالي فلما رأي الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم خصومتهم قال صلّي الله عليه و آله و سلّم قوموا. و ما فتئ ابن عباس بعدها يري انهم أضاعوا شيئاً كثيراً حيث لم يسرعوا إلي كتابة ما أراد النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم إملاءه.

النبي في مرضه يهجر و أبو بكر لم يهجر

مع ان أبا بكر عند مرضه أيضاً أراد ذلك و لم يمنع منه مانع و لم يقل قائل عندنا القرآن و حسبنا كتاب الله فاستحضر عمر عثمان بن عفان و استكتبه استخلاف عمر علي المسلمين.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 26

كتبة الخلفاء الأربع

و قد كان أبو بكر قد اتخذ عثمان كاتباً له كما اتخذ عمر زيد بن ثابت كاتباً له كما اتخذ عثمان مروان بن الحكم كاتباً له و اتخذ علي عليه السلام عبد الله بن أبي رافع مولي رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم كاتباً له.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 27

الدّور الثاني

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 29

مبدأ الدور الثاني و منتهاه

ان الدور الثاني للفقه يبدأ من وفاة الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم سنة 10 ه و ينتهي بخروج معاوية عن طاعة خليفة المسلمين علي عليه السلام سنة 36 ه.

كتابة القرآن المجيد

و قد اتجه فيه المسلمون و خلفاؤهم إلي كتابة أول مصدر للفقه الإسلامي و هو القرآن الشريف و استنساخه و جمعه حفظاً له من الضياع و من اختلاط آياته بالأحاديث النبوية.

أول من تصدي لجمع القرآن الإمام علي عليه السلام

و شهادة العلماء بذلك

و أول من تصدي لذلك هو أمير المؤمنين علي عليه السلام فقد روي عنه صلّي الله عليه و آله و سلّم انه قال لما قبض رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم (أقسمت أو حلفت أن لا أضع ردائي علي ظهري حتي أجمع بين اللوحين

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 30

فما وضعت ردائي حتي جمعت القرآن) كما جاء ذلك في الإمامة و السياسة لابن قتيبة ص 12 طبع المكتبة التجارية. و عن السيوطي عن ابن الغرس من حديث محمد بن سيرين عن عكرمة قال لما كان بدء خلافة أبي بكر قعد علي بن أبي طالب في بيته فقيل لأبي بكر قد كره بيعتك فأرسل إليه فقال (أكرهت بيعتي) فقال خشيت كتاب الله يزداد فيه فحدثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا للصلاة حتي أجمعه قال له أبو بكر: فانك نعم ما رأيت.

و اخرج ابن سعد و ابن عبد البر في الاستيعاب عن محمد بن سيرين قال نبئت أن علياً أبطأ عن بيعة أبي بكر فقال أكرهت إمارتي فقال: آليت بيميني أن لا ارتدي

برداء إلا للصلاة حتي أجمع القرآن الحديث.

و في الإتقان ج 1 ص 59 أن علياً عليه السلام قال آليت علي نفسي أن لا آخذ عليّ ردائي إلا لصلاة الجمعة حتي اجمع القران فجمعته. و في إرشاد الساري ج 7 ص 459 و فتح الباري ج 9 ص 43 و عمدة القارئ ج 9 ص 304 ما يدل

علي جمع علي عليه السلام للقرآن. و عن الدرر عن تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أن رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم قال لعلي عليه السلام يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف و القراطيس فخذوه و اجمعوه و لا تضيعوه كما ضيع اليهود التوراة فانطلق علي عليه السلام فجمعه في ثوب اصفر ثمّ ختم عليه في بيته و قال لا ارتدي حتي اجمعه و انه كان الرجل يأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتي جمعه. و يقول المؤلف لهذا السفر اني قد شاهدت قطعة منه في خزانة الأمير عليه السلام و شاهدت قطعة من قران علي عليه السلام في خزانة ضريح رأس الحسين عليه السلام في مصر و في رحلة ابن بطوطة ج 1 ص 25 عدد من الآثار الموجودة في الرباط المبني علي ضفاف النيل مصحف أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام بخط يده، و ذكر ابن النديم في الفهرست ص 41 ان عند أبي يعلي حمزة الحسيني مصحفاً بخط علي يتوارثه بنو الحسن و إذا لاحظنا هذا الخبر و هذا الأثر مع ما ثبت من جمع القرآن من الرقاع عند رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم كما يرشد إلي ذلك ما هو المحكي عن مستدرك الحاكم ج 2 ص 611 و مسند الطيالسي ص 270 و المحبر لابن حبيب ص 286 و تاريخ الشام ج 7 ص 210 و فتح الباري ج 9 ص 440 ثمّ أضفنا إلي ذلك كله ما في صحيح البخاري في كتاب العلم باب (39) و في باب كتاب الجهاد

و السير باب (171) و في كتاب الجزية باب (10) و غير ذلك من الأخبار المتظافرة الدالة علي أن الكتاب المجيد كان عند أمير المؤمنين علي عليه السلام فانا نستفيد من المجموع أن القرآن

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 32

الذي جمعه هو القرآن الذي كان عند رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم الموجود في الرقاع التي كانت في بيت رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم و كانت منتشرة فجمعها علي عليه السلام و كتبها في كتاب خاص و لم يجمع عليه السلام القرآن كما جمعه الغير من صدور حفظة القرآن و لا مما في أيدي المسلمين من العسب (جمع عسيب) و هو جريد النخل حيث كانوا يكشفون الخوص و يكتبون في الطرف العريض و لا من (الأكتاف) (جمع كتف) و هو عظم البعير أو الشاة يكتبون عليه بعد أن يجف و لا من (الأقتاب) (جمع قتب) و هو الخشب الذي يوضع علي ظهر البعير ليركب عليه و لا من (قطع الأديم) و هو الجلد، فعلي عليه السلام لم يجمع القرآن من هذه الأشياء و إنما جمعه و كتبه مما هو موجود عند رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم من الرقاع.

جمع الإمام علي عليه السلام للقرآن حسب التنزيل

و أما ما في إرشاد الساري ج 7 ص 459 و ما حكي عن عمدة القاري للعيني ج 9 ص 304 و عن فتح الباري ج 9 ص 43 من جمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لكتاب الله علي حسب النزول لعل المراد به هو جمع القرآن مع التعليق علي آياته الكريمة و بيان وقت نزولها و فيمن نزلت و إلا فعلي لا

يعقل أن يغير كيفية الجمع التي صنعها رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 33

جمع أبي بكر للقرآن

ثمّ انه بعد ذلك تصدي أبو بكر إلي جمع القرآن بعد سنتين من خلافته فيكون جمعه للقرآن بعد جمع الإمام علي له لأن الراوية المتقدمة قد دلت علي جمع الإمام علي عليه السلام له بعد وفاة رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم بلا فصل و الرواية التي دلت علي جمع أبي بكر له قد دلت علي أن أبا بكر قد جمعه بعد واقعة اليمامة بين المسلمين و بين أهل الردة من أتباع مسيلمة الكذاب التي استشهد فيها من حفظة القرآن سبعون من الصحابة سنة اثنتي عشرة للهجرة ففي صحيح البخاري ما حاصله أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ارسل عليّ أبو بكر عند مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر ان عمر أتاني فقال: ان القتل قد استحر (أي اشتد) يوم اليمامة بقراء القرآن، و إني أخشي أن يستمر القتل بالقراء بالمواطن الأخري فيذهب كثير من القرآن و إني أري أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم قال عمر: هو و الله خير فلم يزل عمر يراجعني حتي شرح الله صدري لذلك و رأيت في ذلك الذي هو رأي عمر. قال زيد: قال أبو بكر: انك رجل شاب عاقل لا نتهمك و قد كنت

تكتب الوحي لرسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم فتتبع القرآن فتجمعه. قال زيد فوالله لو كلفوني نقل جبل من

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 34

الجبال

ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم قال: هو و الله خير قال زيد: فلم يزل أبو بكر يراجعني حتي شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر و عمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب و اللخاف و صدور الرجال حتي وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ) حتي خاتمة البراءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتي توفاه الله، ثمّ عند عمر مدة حياته ثمّ عند حفصة بنت عمر. و علي هذه الرواية فيكون قد تم جمع القرآن كله خلال سنة واحدة لأن بين واقعة اليمامة المذكورة و بين وفاة أبي بكر سنة واحدة مع أن الجمع قد كان من العسب و اللخاف و صدور الرجال.

تسمية القرآن بالمصحف

و عن الإتقان أنه قد اخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق موسي بن عقبة عن ابن شهاب قال: لما جمعوا القرآن فكتبوه علي الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسماً فقال بعضهم: السفر قال: ذلك اسم تسميه اليهود فكرهوا ذلك و قال بعضهم: المصحف فان الحبشة يسمون مثله (المصحف) فاجتمع رايهم علي أن يسموه المصحف.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 35

جمع عثمان للمصحف

ثمّ أنه بعد انتهاء غزو أرمينية و آذربيجان توجه حذيفة اليماني القائد المشهور للمدينة محذراً عثمان من اختلاف القراء في قراءة القرآن، فان أهل الكوفة يقرءون بقراءة ابن مسعود و أهل البصرة يقرءون بقراءة أبي موسي و أهل الشام و دمشق يقرءون بقراءة أبي بن كعب و أهل حمص يقرءون بقراءة المقداد بن الأسود. و طلب منه توحيد القراءة، و بعد مشاورة عثمان لبعض أصحاب الرسول في ذلك عزم عثمان علي تنفيذ فكرة حذيفة فأرسل عثمان إلي حفصة بنت عمر أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلي عثمان فأمر زيد بن ثابت المدني و ثلاثةٌ من قريش عبد الله بن الزبير و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن يكتبوها من صحف حفصة التي جعلت لهم أصلًا، و قال عثمان: إذا اختلفتم انتم و زيد بن ثابت في شي ء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فانه إنما نزل بلسان قريش ففعلوا حتي إذا تم نسخ الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلي حفصة و أرسل إلي كل أفق بمصحف مما نسخوا و أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 36

الرد علي السيوطي

و يمكن تحديد الوقت الذي حصل فيه ذلك بما بعد سنة ثلاثين هجرية لأن الغزو المذكور كان في سنة ثلاثين و عليه فلا وجه لما حكي عن إتقان السيوطي من انه حدده بسنة ست و عشرين و بعضهم حدده بسنة 650 م هذا و لكن التاريخ لم يروِ لنا أن المصحف الذي جمعه علي عليه السلام قد أحرق فقد عدت المصاحف التي أحرقت و لم

يذكر معها مصحف علي عليه السلام.

الأمر العجيب في جمع الخلفاء للمصحف

و الأمر العجيب الملفت للنظر هو عدم تعرض الأخبار و المؤرخين إلي أن أبا بكر و عمر و عثمان راجعوا علياً في مصحف رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم عند ما تصدوا لجمع القرآن الكريم و هكذا لم يراجعوا المصحف الذي كتبه الإمام علي عليه السلام علي مصحف رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم مع أن الأخبار و التاريخ قد تضافرت علي وجود مصحف رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم عند الإمام علي عليه السلام و انه قد كتب الإمام علي عليه السلام المصحف عليه كما انه مما يلفت النظر عدم وجود كبار الصحابة في من جمع القرآن بأمر عثمان فليس فيهم عبد الله بن العباس و لا عبد الله بن عمر و لا الإمام علي عليه السلام و لا غيرهم.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 37

إرسال الحفاظ مع المصاحف المرسلة للأقطار

ثمّ ان المعروف ان عثمان أرسل مع المصحف الخاص بكل إقليم حافظاً يوافق قراءته. فكان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني. و عبد الله بن السائب مقرئ المكي. و المغيرة بن شهاب مقرئ الشامي. و أبو عبد الله الرحمن السلمي مقرئ الكوفي. و عامر بن عبد القيس مقرئ البصري.

تشكيل أبي الأسود المصاحف و تنقيطها

و لما ظهر الألحان في قراءة البعض للقرآن توجهت العناية إلي أن يشكلوا المصاحف و ينقطوها حذراً من الغلط في القراءة للقرآن و الألحان فيها فانبري إلي ذلك أبو الأسود الدؤلي فان المشهور انه أول من شكل القرآن و نقطه فكان يجعل علامة الفتحة نقطة علي أول حرف و الضمة نقطة علي آخر الحرف و الكسرة نقطة تحت أوله و بقي الأمر كذلك إلي زمن الخليل بن احمد فوضع الحركات علي النحو الموجود لدينا.

خلاصة الكلام في شرح هذا الدور الثاني

و خلاصة الكلام أن في هذا الدور الثاني قد توجهت

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 38

عناية المسلمين إلي المصدر الأول للتشريع و هو القرآن الشريف و إخراجه بصورة يستفيد من منهله العذب مسائل المسلمين. و كان الفقه الإسلامي هو المعمول به عند المسلمين في عباداتهم و معاملاتهم الداخلية و الخارجية و المرجع فيه هم الصحابة و قول الخليفة هو الفصل، و في الأقطار البعيدة إذا نزلت بهم الحادثة يرجعون لما عندهم من أمير ذلك البلد و هو بدوره إذا لم يعرف الحكم يرجع للصحابة الذين معه في البلد فان كان عندهم أثر من رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم حكموا به و إلا اجتهد أمير البلد فيها.

المصدر لمعرفة الأحكام الشرعية في هذا الدور الثاني

و المصدر لمعرفة الأحكام الفقهية الإسلامية عندهم خمسة الأول الكتاب، الثاني السنة، الثالث الإجماع، الرابع استشارة الصحابة و أهل البصيرة في الحكم، الخامس الرأي بأن يستنبط الحكم الشرعي بفكره و تأمله فيما تقتضيه المصلحة و دفع المفسدة أو بالقياس و المقارنة.

و الحاصل انهم إذا نزلت بهم حادثة أو وقعت واقعة رجعوا إلي كتاب الله في معرفة حكمها بحسب فهمهم فان لم يجدوا حكمها فيه رجعوا للسنة و سألوا من الصحابة عمن يحفظ في هذه الحادثة حديثاً عن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم فان لم يجدوا ذلك

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 39

استشاروا فان أجمعوا علي حكمها بما تستوحيه عقولهم أخذوا به و ان اختلفوا اجتهد خليفة المسلمين فعمل بالقياس و بما تقتضيه المصلحة، ففي كتاب عمر إلي شريح، إذا حضرك أمر لا بد منه فانظر في كتاب الله فاقض به فان لم يكن ففيما قضي رسول الله صلّي الله عليه و آله

و سلّم فان لم يكن ففيما قضي به الصالحون و أئمة العدل فان لم يكن فان شئت ان تجتهد برأيك فاجتهد و إن شئت أن تؤامرني و لا أري مؤامرتك إياي إلا خيراً لك. و في كتاب أعلام الموقعين ج 1 ص 243 أن أبا عبيدة ذكر في كتاب القضاء قال: حدثنا كثير بن هاشم عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله فان وجد فيه ما يقضي به قضي به و ان لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم فان وجد فيها ما يقضي به قضي به فان أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم قضي فيه بقضاء فربما قام إليه القوم فيقولون: قضي بكذا و كذا، فان لم يجد سنة سنها النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم علي شي ء قضي به، و كان عمر يفعل ذلك فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب و السنة سأل: هل كان أبو بكر قد قضي فيه بقضاء فان كان لأبي بكر فيه قضاء قضي به و إلا جمع علماء الناس

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 40

و استشارهم، فإذا اجتمع رأيهم علي شي ء قضي به. و روي عن ميمون بن مهران أن أبا بكر و عمر إذا لم يجدا في كتاب الله و لا في سنة رسوله حكماً للواقعة يجمعان الناس للاستشارة في استنباط حكمها بالاجتهاد و الرأي فان اتفق المستشارون في الرأي اخذوا به. و روي

أن عمر أمر شريحاً أن يعمل في الكوفة كذلك و يبني علي ذلك قضاءه، و كان بعضهم يحترم اجتهاد صاحبه فقد روي أن عمر بن الخطاب لقي رجلًا له قضية نظرها الإمام علي عليه السلام فعرضها الرجل علي عمر حين لقيه في الطريق فقال: لو كنت أنا لقضيت بكذا فقال الرجل فما يمنعك و الأمر إليك

فقال عمر: لو كنت أدرك إلي كتاب الله و سنة رسوله صلّي الله عليه و آله و سلّم لفعلت و لكن أدرك إلي رأي و الرأي مشترك و لست ادري أي الرأيين أحق، و في هذا الدور عمل بالقياس و كان أول من بذر ذلك و أمر بالعمل به هو عمر بن الخطاب ففي كتابه لأبي موسي

الاشعري (أعرف الأشياء و الأمثال قس الأمور عند ذلك علي نظائرها)، و في هذا الدور نشأ الخلاف بين الشيعة و السنة في الخلافة فالأولون يقولون بخلافة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بعد النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم بنص من الله تعالي و النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و بعده أولاده، و أما أهل السنة فيقولون بأن الخليفة بعد الرسول هو أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 41

علي و لذا كان الشيعة في هذا الدور يرجعون لأمير المؤمنين علي عليه السلام و أولاده الإمام الحسن عليه السلام و الإمام الحسين عليه السلام و أمهم فاطمة الزهراء عليها السلام و الصحابة العدول الثقات كسلمان و المقداد و أبي ذر و نحوهم في معرفة أحكامهم الشرعية لاعتقادهم بعصمته عليه السلام و عصمة أولاده الأحد عشر و انهم عندهم علم ما كان و يكون

حتي ارش الخدش و لحصول الوثوق بالصحابة العدول.

شروط قبول الخبر الواحد عند الخلفاء

و ينقل ان أبا بكر لم يقبل الحديث عن رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم إلا إذا جاء بشاهد علي صدقه و أن عمر كان يطلب البينة ممن روي له الحديث عن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و أن علياً عليه السلام يحلف الراوي علي انه سمع الحديث من النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم.

رجوع الشيعة للأئمة هو رجوع للسنة النبوية

هذا و لا يخفي أن الرجوع للأئمة عليهم السلام عند الشيعة من الرجوع للسنة النبوية لقول الصادق عليه السلام كما في الشافي و في أصول الكافي في كتاب فضل العلم ص 103 ان حديثي حديث أبي و حديث أبي حديث جدي و حديث جدي حديث الحسين و حديث الحسين حديث الحسن و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين و حديث أمير المؤمنين حديث رسول الله و حديث

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 42

رسول الله قول الله و قد ذكرنا في كتابنا باب مدينة الفقه في مبحث واضع الفقه ان عند الإمام علي عليه السلام الجامعة سبعون ذراعاً كلها من املاء رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم و بخط الإمام علي عليه السلام و فيها حتي ارش الخدش و قد ذكرناه أيضاً في مبحث إيداع الرسول لبيان بعض الأحكام للأئمة الأطهار عليهم السلام و يرشدك إلي أن الرجوع إليهم عليهم السلام رجوع للسنة النبوية، ان فقهاء الشيعة عند ما تجي ء الرواية عن الأئمة عليهم السلام إذ قال فيها الإمام عليه السلام (و أنا اصنع كذا) لم يتبعوه في عمله و إنما يحملون ذلك علي الاستحباب و الأولوية كما انهم يعملون بالإخبار النبوية و ان كانت مروية من غير طرق أصحابهم إذا

كان رواتها موثوقين أو حصل لهم الثقة بصدورها من النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و كتب الشيعة مشحونة بذلك.

و في الدور الثاني وقع الاختلاف بين الصحابة في عدة أشياء.

الاختلاف في تدوين الحديث

منها الاختلاف في تدوين السنة فكان علي و ابنه الحسن عليهما السلام مما يري كتابتها كما نص علي ذلك السيوطي في تدريب الراوي، و عن ابن شهرآشوب انه قال: أول من صنف في الإسلام علي عليه السلام ثمّ سلمان الفارسي ثمّ أبو ذر،

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 43

و نقل الكثير من الفريقين ان عليَّ ابن أبي طالب عليه السلام كتب الجامعة من املاء رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم و كانت تبلغ سبعين ذراعاً و كتب العهد لمالك الاشتر و الوصية لابنه محمد بن الحنفية. و هذا أبو رافع المولي لرسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم و الذي اهداه له العباس بن عبد المطلب و سماه النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم إبراهيم و كان ملازماً للإمام علي عليه السلام و خرج معه إلي الجمل و هو ابن خمس و ثمانين سنة و قيم الإمام علي عليه السلام علي بيت ماله في الكوفة و كان يقول بايعت البيعتين و صليت القبلتين و هاجرت الهجر الثلاث فقيل و ما الهجر الثلاث فقال الأولي إلي الحبشة و الثانية

المدينة و هذه الثالثة الكوفة مع أمير المؤمنين، قد كتب السنن و الأحكام و القضايا و كان ولداه عبيد الله و علي كاتبي أمير المؤمنين علي عليه السلام و قد كتب الأول منهما كتاباً في الوضوء و الصلاة و سائر الأبواب و كتب الثاني منهما كتاباً في فنون الفقه

و الوضوء و الصلاة و سائر الأبواب و كان أهل البيت يعظمون كتاب علي بن أبي رافع و يطلبون من شيعتهم الرجوع إليه، و كان لسلمان مدونة في الحديث، و ألف الأصبغ بن نباتة كتابين: مقتل الحسين و عجائب أحكام أمير المؤمنين علي عليه السلام و ألف قيس بن سليم كتابه في الإمامة و ألف ميثم صاحب أمير المؤمنين كتاباً في الحديث يروي عنه الكثير من المحدثين و غيرهم من المؤلفين و كان عمر بن الخطاب ممن يمنع من

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 44

كتابة الحديث و تدوينه و قد سبب ذلك ضياع اعظم ثروة علمية و التفريط بأعظم مرجع بعد القرآن الكريم و يا حبذا لو أمر بجمع الأحاديث مع التحفظ علي صحتها كما صنع الخليفة الأول في جمع القرآن الكريم لما استطاع أهل الاغراض الافتراء و الكذب و الدس في السنة كما لم يستطيعوا ذلك في القرآن الكريم.

الاختلاف في خروج الفقهاء من المدينة

و منها الاختلاف في خروج الفقهاء من المدينة فان عمر كان يمنع خروج الفقهاء لسائر الأمصار إلا ما أخرجه للقيام بالوظيفة كالولاية و القضاء و قيادة الجيوش بخلاف الإمام علي عليه السلام.

الاختلاف في الرجوع إلي الرأي

و منها الاختلاف في الرجوع إلي الرأي فكان الإمام علي عليه السلام يمنع منه و يقول لو كان الدين بالرأي لكان اسفل القدم أولي بالمسح كما في المحلي لابن حزم و كان علي ذلك طريقة الأئمة الأحد عشر من بعده حتي قال الإمام جعفر الصادق لا بأن بن تغلب المتوفي سنة 141 ه أخذتني بالقياس و السنة إذا قيست محق الدين و كان اكثر أهل الحجاز علي هذه الطريقة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 45

و يؤكد صحتها قوله تعالي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فان الرجوع إلي الرأي في المسألة معناه أما الإهمال للدين فيها أو الالتزام بنقصان الدين و عدم كماله بالنسبة إليها، و في جامع بيان العلم ج 2 ص 76 عن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم: اعظم فتنة علي أمتي قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيحللون الحرام و يحرمون الحلال.

مدرسة أهل الحديث و مدرسة أهل الرأي

و كانت هذه الطريقة اعني المنع من الأخذ بالرأي هي التي اتبعتها مدرسة أهل الحديث و تسمي بمدرسة المدينة و بمدرسة الحجاز و كان ممن أخذ بهذه الطريقة سعيد بن المسيب المتوفي سنة 93 ه و تلقي منه هذه الطريقة الكثير من فقهاء الحجاز و غيرهم.

من أخذ هذه الطريقة و حرم الإفتاء بالرأي

و ممن أخذ بهذه النزعة سالم بن عمر فانه كان يرفض الإفتاء بالرأي فإذا سئل عن حكم واقعة لم يسمع فيها شيئاً قال لا ادري لعلي إذا افتيت لك برأي ثمّ تذهب فأري بعد ذلك رأياً غيره فلا أجدك فما ذا يكون مصيري، و ممن اتبع هذه المدرسة زيد بن ثابت، و لم تكن مدرسة الحديث اعني

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 46

من اتخذ هذه الطريقة هم خصوص فقهاء الحجاز بل الكثير منهم من أقطار أخري كعامر الشعبي التابعي فانه من فقهاء الكوفة، و سفيان الثوري من تابع التابعين أحد أعلام الكوفة في الفقه، و يزيد بن حبيب المعري، و الاوزاعي الشامي، و كانوا في طرق استنباطهم للأحكام الشرعية لا يعتمدون إلا علي العلم أو العلمي بمعني ان الحكم الشرعي أما ان يقوم عليه الدليل العقلي الذي يوجب العلم و القطع به كالدليل العقلي علي حسن رد الأمانة فان الدليل العقلي المفيد للقطع حجة بنفسه و ليست الأحكام الشرعية الفرعية اعظم شأناً من الأحكام الشرعية الاعتقادية و الدليل العقلي المفيد للقطع حجة فيها فبالطريق الأولي في الأحكام الشرعية الفرعية، و أما ان يقوم علي الحكم الشرعي الفرعي الدليل الذي قام الدليل القطعي علي حجيته كالخبر الصحيح الذي عمل به المشهور فان الدليل المفيد للقطع قام علي حجيته و هكذا ظواهر القرآن و لذا لم يعتبروا القياس و الاستحسان لكونها

أدلة لا تفيد القطع بالحكم و لم يقم دليل يفيد القطع بحجيتها، و ينسب لبعضهم بأن مدرسة الحديث لم يكتب لها البقاء حيث اختفت بوفاة الإمام الظاهري سنة 270 ه و لعله أراد عند بعض طوائف الإسلام و إلا فمدرسة الحديث لا تزال باقية ما بقي الإسلام، و قد خالف عمر بن الخطاب في ذلك حيث استعمل

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 47

الرأي بصورة واضحة في استخراج الأحكام الشرعية و هو أول من أمر بالعمل بالقياس و بذر بذرته ففي كتابه لأبي موسي الاشعري (اعرف الأشياء و الأمثال و قس الأمور في ذلك علي نظائرها) و كانت طريقته هي التي اتبعتها مدرسة أهل الرأي في العراق و تسمي بمدرسة الكوفة

حيث قد تأثر اكثر أهل العراق بفقه ابن مسعود في الكوفة، و ابن مسعود يسير علي طريقة عمر، فكانوا لا يحجمون عن الفتوي برأيهم فيما لم يجدوا نصاً بل يتبعون في فتواهم العلل التي يستخرجونها من النصوص و ان خالفت ظواهر النصوص و يبنون الأحكام علي العلل و ان خالفت ظواهر الأدلة فمدرسة الرأي تعتمد علي الأدلة التي تفيد الظن و ان لم يقم الدليل القطعي علي حجيتها فاعتمدوا علي مثل القياس و

الاستحسانات مع انه لم يقم الدليل القطعي علي حجيتها، و لم تكن مدرسة الرأي اعني من اتخذ هذه الطريقة هم خصوص فقهاء أهل الكوفة بل الكثير منهم من أقطار أخري، فان في المدينة نفسها كان ربيعة بن عبد الرحمن المتوفي سنة 136 أحد كبار التابعين من أهل هذه المدرسة و لذا سمي بربيعة الرأي.

نواة مدرسة الرأي و مدرسة الحديث

و الحاصل ان هذا الاختلاف في معرفة الحكم الشرعي

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 48

كان نواة و بذرة لوجود مدرستين

للفقهاء عرفتا فيما بعد باسم مدرسة الحديث و مدرسة الرأي، و كان اكثر المذاهب عملًا بالقياس الحنفية و لذا صار عندهم دليلا مستقلا في مقابل الرأي و خصوا اسم الرأي بحكم العقل من غير طريق القياس.

انتشار الفقهاء في أوائل خلافة عثمان

و في هذا الدور عند أوائل خلافة عثمان انتشر الفقهاء في الأمصار الإسلامية واخذ أهل كل قطر يأخذون ممن نزل عليه من الصحابة الفتوي و الرواية و العلم و المعرفة بعد أن كان عمر بن الخطاب لا يمكنهم من الخروج من المدينة المنورة إلا للقيام بالاعمال التي تخص الخلافة، فخرج عبد الله بن عباس لمكة المكرمة و توفي بالطائف سنة 68 ه. و خرج للكوفة علقمة بن قيس النخعي المتوفي سنة 62 ه و سعيد بن جبير الذي قتله الحجاج سنة 95 ه و إبراهيم ابن يزيد النخعي المتوفي سنة 96 ه و خرج لمصر عبد الله بن عمر بن العاص الذي كان يلوم أباه علي القيام في الفتنة. و خرج انس بن مالك للبصرة المتوفي سنة 93 ه. و بقي في المدينة المنورة جماعة منهم الإمام علي عليه السلام و زيد بن ثابت الذي كان عثمانياً و لم يشهد مع الإمام علي عليه السلام حروبه و المتوفي سنة 45 ه و عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي ندم علي تركه القتال

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 49

لخصوم علي عليه السلام و لحروبه و المتوفي سنة 73 ه و سعيد بن المسيب التابعي المتوفي سنة 94 ه و لقد كان بين سعيد و بين عكرمة مولي ابن عباس منافرة فكان يكذب عكرمة، و عكرمة يخطئه في فتواه.

من أعمال عمر في هذا الدور

و في هذا الدور استقضي عمر بن الخطاب شريحاً المتوفي سنة 378 علي الكوفة و ارسل للكوفة عبد الله بن مسعود الصحابي المتوفي سنة 32 ه معلماً و وزيراً و كان يأخذ أهل الكوفة منه الحديث إلي أن صار بينه و بين عثمان كدورة فاستقدمه للمدينة و

مات فيها، و بعث عبد الرحمن الاشعري لتفقيه الناس، و هو الذي تفقه علي يده التابعون بالشام سنة 78 ه و كان المرجع في كل بلد فتاوي من كان فيه من الصحابة و التابعين.

المرجع في الفتوي في هذا الدور الثاني

و كان المرجع في الفتوي في هذا الدور هم الصحابة و التابعون و كان المرجع في الفتوي عند التحير فيها من الجميع هو الإمام علي عليه السلام كما تشهد بذلك السير و التاريخ حتي قال فيه عمر

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 50

(رض) لو لا علي لهلك عمر، و لا يفتين أحدكم في المسجد و علي حاضر.

الأسف علي إهمال مثل البخاري لأكثر روايات علي عليه السلام

و يؤسفنا جداً أن يكون مثل الإمام علي عليه السلام الذي تربي في حجر النبوة و هو اكثر الصحابة مصاحبة للنبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و باب مدينة علمه و فقهه ان تكون روايته و فقهه قليلة في كتب الروايات كالبخاري و مسلم بحيث لا تتناسب مع المدة التي قضاها مع الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم و بعده.

ما يستوقف الفكر في هذا الدور الثاني

و كيفما كان فالذي يستوقف نظري في هذا المقام أمور:

الأول: اعراضهم عن القرآن الكريم الذي جمعه الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم فانه لا يعقل ان يكون الرسول قد ترك القرآن بلا جمع مبعثراً في الصدور و العظام و اللخاف مع انه الدستور الشرعي لصلاح الأمة و هو خاتمة الأنظمة الإلهية مع ما في ذلك من تعريضه للتلف و للتحريف و التبديل الذي اعابه الله علي اليهود و النصاري بالنسبة لتوراتهم

و انجيلهم و قد دلت الروايات المتضافرة علي انه كان مجموعاً عند رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم في اضبارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 51

خاصة كما في أحكام القران و فتح الباري و مستدرك الحاكم و تاريخ الشام و المحبر لابن حبيب و مسند الطيالسي و في صحيح البخاري في فضائل القرآن عن أنس بن مالك ان أربعة من الصحابة جمعوا القرآن في زمن حياة رسول الله و هم معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد و اختلفت الرواية عنه في الرابع بين أبي الدرداء و أبي بن كعب و في إرشاد الساري ما يدل علي جمع ابن عمر له في عهد الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم و عليه

فما وجه أعراض القوم عن هذا القرآن و التجائهم إلي جمعه من اللخاف و العسب و صدور الرجال.

الثاني: اعراضهم عن القرآن الذي كتبه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام علي نسخة الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم.

الثالث: اعراضهم عن كبار الصحابة و حفظة القرآن في جمعهم للقرآن الكريم كالإمام علي بن أبي طالب. و عبد الله بن عباس. و عبد الله بن عمر. و ابن مسعود و غيرهم من حفظة القرآن الكريم.

الرابع: منع الخليفتين أبي بكر و عمر من كتابة السنة و إصرارهما علي ذلك مع انه في ذلك حفظها من التحريف و التبديل و معرفة القوانين الإسلامية علي الوجه الأكمل، و لم يكن سبيل للدس و الافتراء من قبل أعداء الإسلام

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 52

و أصحاب الأهواء لقرب العهد بالرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم و الخوف من ولاة الأمور كما هو الشأن في القرآن الكريم مع ان الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم أمر بالكتابة لأبي شامة اليماني و أجاز لعبد الله بن عمر بن العاص ان يكتب عنه صلّي الله عليه و آله و سلّم الحديث كما تقدم و كان عليهم ان يحفظوا السنة بالتدوين كما حفظوا القرآن بالتدوين مع ان في السنة أحكاماً اكثر و شرحاً للقرآن اجدر بل هي المكملة للأحكام التي لم تأت صريحة في القرآن العظيم و المبينة للقوانين التي أجمل بيانها التنزيل الكريم و فيها من الثروة الفقهية ما يعرف بها حتي ارش الخدش و قد دخل علي المسلمين من ترك تدوينها بادئ بدء ضرر عظيم أوجب ان يشق عصا وحدتهم و اختلاف كلمتهم و انقسام آرائهم، و

القول بأن تدوينها يوقع الخلط بينها و بين القرآن الكريم ناشئ من الجهل ببلاغة القرآن و إعجازها فإنها هي المميزة بين التعبير الإلهي النازل للاعجاز و بين الحديث النبوي الصادر لبيان الأحكام ثمّ ان ذلك لا يوجب المنع و إنما يوجب المحافظة من الاختلاط بينهما و لعل التدوين كان احسن شي ء للتفرقة بينهما و لو خشي من الاختلاط. الخامس: منع الخليفة عمر من خروج الصحابة و الفقهاء من المدينة المنورة إلا بإذن خاص منه مع ان في ذلك نشر الأحكام الإسلامية و تفهيمها للمسلمين، و إذا ضممنا

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 53

هذين الأمرين الرابع و الخامس إلي ما ذكرنا من منع عمر ان يكتب الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم في حال مرضه كتاباً لن يضلوا بعده ابداً تري انه قد ذهب من ايدينا ثروة علمية عملية كانت تزيل هذا الانشقاق بين صفوف المسلمين في الخلافة الإسلامية و تمنع من انفصام عري وحدتها في الأحكام الشرعية.

وقت وفاة أبي بكر و عمر و عثمان

اشارة

و في هذا الدور توفي أبو بكر سنة 13 ه و توفي عمر ابن الخطاب سنة 23 ه و قتل عثمان بن عفان سنة 35 ه.

موقف الإمام علي عليه السلام من قتل عثمان

و قد أرسل الإمام علي عليه السلام ولديه الإمام الحسن و الإمام الحسين عليهما السلام لحمايته فكانا علي باب داره يحفظانه حتي تسلق القوم علي حائط قصره فنزلوا عليه و قتلوه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 55

الدور الثالث

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 57

مبدأ الدور الثالث و منتهاه و العوامل التي أوجبت انشقاق المسلمين

ثمّ يبدأ الدور الثالث من حيث ينتهي الدور الثاني أي من سنة 36 ه إلي خلافة عمر بن عبد العزيز سنة 99 فان في هذا الدور أعلن معاوية الخروج عن طاعة أمير المؤمنين و انشق المسلمون نصفين بعد أن كانوا في الدورين السابقين يداً واحدة يرجع بعضهم لبعض في تفهم المسائل الشرعية و كانت الشيعة متفقة مع السنة لا يجرأ أحدهم علي مخالفة الآخر في الظاهر للمحافظة علي وحدة الصف و جمع الكلمة و الاخوة الدينية الإسلامية، أما في هذا الدور فقد عصفت بهم ريح عاتية مزقتهم شر ممزق و فرقتهم أيدي سبا بالخروج علي خليفة المسلمين الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام فأعلن معاوية العصيان و جمع جموعه علي خليفة المسلمين و كان ذلك أول

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 58

حدث في الإسلام شق عري وحدتهم و فرق ما اجتمع من صفوفهم و أثارها فتنة شعواء ليوم المحشر تقذف علينا بحمم كأنها جمالة صفر غيرت الاتجاهات الروحية و بلبلت الأفكار الدينية و سببت التطاول علي مركز الخلافة الإسلامية التي هي رمز الوحدة و الاخوة في ذات الله.

وقعة الجمل

و ما كانت وقعة الجمل إلا نتيجة لخروج معاوية و إعلانه العصيان، فان مكة لم تتألب فتخرج علي الإمام علي عليه السلام إلا بعد أن أعلن معاوية العصيان و تأهب الإمام علي عليه السلام للذهاب بجيشه لحرب معاوية.

وقعة النهروان

و حتي وقعة النهروان فإنها كانت نتيجة لإعلان معاوية الحرب للإمام علي عليه السلام و استعماله الخدعة في رفع المصاحف.

موقف الأمويين من العلويين و المنكرات التي ارتكبوها

و كان من جراء إعلان الأمويين الحرب علي الإمام علي عليه السلام أن يوجهوا جهودهم لبسط سلطتهم و سطوتهم مهما كلفهم الأمر و بالغوا في تكوين دولتهم و نفوذ سلطانهم حتي بكشف العورات و إبداء السوءات كما فعل ذلك ابن العاص و بسر بن ارطأة. وسعوا وراء اشباع شهواتهم و تنفيذ أمانيهم و رغباتهم و ان تجاوز ذلك الحد و خالف الشرع فسبوا خليفة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 59

المسلمين علي منابرهم ثمانية و خمسين سنة و سفكوا الدماء الزكية الطاهرة من ذرية رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم و انتهكوا الحرمات الإلهية و اسرفوا بالقتل و الفتك في المسلمين و السلب و النهب لحجاج بيت الله المؤمنين فقتلوا عبد الله بن حنظلة و سبعمائة من المهاجرين و الأنصار. و اغاروا علي المدينة المنورة و احرقوا دورها حتي دار أبي أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم ثمّ بعد هذا أباحوها للجند ثلاثة أيام يقتلون فيها الناس و يسلبون الأموال و يسبون النساء. و رموا الكعبة بالمنجنيق بعد نصبه علي جبل أبي قبيس فاحترق سقفها و استارها. كما رماها الحجاج مرة ثانية في أيامهم و بأمرهم. و اتخذوا الخصيان و منعوا حج بيت الله الحرام. و اضطهدوا الفقهاء فجلدوا سعيد بن المسيب المسمي بفقيه الفقهاء و شهروا به في أسواق المدينة و منعوا الناس من الاجتماع به. و اغتالوا محمد بن أبي بكر الفقيه الصالح بالسم. و نكلوا بسعيد بن جبير المقرئ الفقيه المحدث الزاهد التابعي العالم

بالتفسير و كان يلقب بجهبذ العلماء و لم يرعوا العبد الصالح حجر بن عدي بقتلهم إياه و هو من أبطال الفتح لنهاوند (و في الكامل لابن الأثير إن الناس يقولون أول ذل دخل الكوفة موت الحسين بن علي و قتل حجر و دعوة زياد) أي دعوة معاوية لزياد بن سمية بأنه اخوه لأبيه أبي سفيان، و قتلهم عمرو بن الحمق من أصحاب

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 60

رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم و كان مقرباً عنده و كان رأسه أول رأس طيف به في الإسلام و صلبهم لرشيد الهجري و جويرة العبدي، و قتلهم ميثم التمار قبل قدوم الحسين للكوفة بعشرة أيام و قتلهم قنبر مولي أمير المؤمنين، و قتلهم العالم الورع كميل بن زياد. و استلحاق أولاد الزنا بهم كزياد بن أبيه حيث استلحقه معاوية بأبيه مقراً بأخوته له علي حين أن الشريعة

الإسلامية لا تبيح ذلك و لا ترضاه. قال الحسن البصري (ثلاث كن في معاوية و لو لم يكن إلا واحدة منهن لكانت موبقة انتزاؤه علي هذه الأمة بالسفهاء و استلحاقه زياداً و قد قال الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم الولد للفراش و للعاهر الحجر. و قتله لحجر بن عدي و أصحابه فيا ويله من حجر و أصحاب حجر) و بمثل هذا ينسب القول لسعيد بن المسيب حيث نقل عنه انه يقول: قاتل الله معاوية كان أول من غير قضاء الرسول و قد قال صلّي الله عليه و آله و سلّم الولد للفراش و للعاهر الحجر.

فصل الدولة عن الدين

و قد فصلوا الدولة عن الدين و أصبحت الخلافة أموية دنيوية إرثية لا إسلامية و لا أخروية و لا شوروية

و جعلوا الفقه ينفصل عن الحياة العملية تدريجياً و يكون علمياً اكثر منه عملياً مما سبب انفصال الفقهاء عن السلطة و انصرافهم عن الدولة حتي قال (أسيد بن حضير الأنصاري): لا أقضي

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 61

ما وليت بما قال معاوية، و بلغ بهم أن يغروا بعض الرواة و الفقهاء بالكذب علي رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم لتأييد مقامهم و تثبيت مراكزهم و إضعاف مخالفيهم فتطاولوا علي مقام الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم بالكذب عليه و أقحموا في الفقهاء من لم يستكمل عناصر الاجتهاد لديه و لم يستنتج الحكم الشرعي بالنظر السليم المجرد عن الهوي فيه و شجعوهم علي الإفتاء بما لم ينزل به الله من سلطان.

اختلاط صحيح الحديث بضعيفه

و بهذا و ذاك اختلط صحيح الحديث بضعيفه و حسنه بسقيمه و ادخل في الدين ما ليس من الدين و فسرت آيات القرآن الكريم بما تهوي الأنفس و تشتهيه و أصبحت مهمة علماء الحديث و الفقهاء و المفسرين شاقة متعبة في معرفة الحكم الشرعي و النص الصحيح النبوي و التفسير للمراد الإلهي و هذا هو السبب الأول الذي دعا العلماء لتكوين فكرة تلخيص الروايات و التفسير و الفتاوي و تنقيتها عن الشوائب و المفتريات و المفتعلات.

موقف الإمام علي عليه السلام من العبث في الدين

و أما جماعة الإمام علي عليه السلام فكانوا يأخذون بالكتاب و ما انصياعهم للرافعين للمصاحف يوم صفين إلا من جهة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 62

تمسكهم بالكتاب المبين و قد ردوا الروايات التي تخالفه حتي لو كانت رواتها في أسمي درجات الصحة. و عند فقد نص الكتاب أو ظاهره أخذوا بالسنة إذا صحت روايتها حتي لو كان نقلتها علي غير طريقتهم.

أخذ الشيعة بروايات أهل السنة و اجماعاتهم

و قد أوجب الشيخ الطوسي في كتاب العدة و هو صاحب الصحيحين عند الشيعة الاستبصار. و التهذيب. وجوب العمل بالخبر من طريق المخالفين إذا لم يكن للشيعة في حكمه خبر مخالف و لا يعرف لهم فيه قول. كيف و قد عملت الشيعة بما رواه حفص بن غياث العامي الكوفي و القاضي و غيره من غير الشيعة. و في الصحاح الأربعة المعول عليها عند الشيعة الكثير من أخبارها تنتهي إلي غير الشيعة. و يأخذون بالإجماع إذا كان كاشفاً كشفاً قطعياً عن سنة الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم و قد ملئت كتبهم الفقهية من الاستدلال به ككتب الشيخ و السيد المرتضي و العلامة و غيرهم. حتي أن بعض علماء الشيعة يعمل بالإجماع الذي ينقله مالك عن أهل المدينة في موطئه لكشفه عن رأي المعصوم عنده و يعمل الشيعة بالرأي ان كشف عن الحكم الشرعي كشفاً قطعياً لا ظنياً لعدم حجية الظن. و في أخبار الشيعة ما يدل علي ذلك كما في باب العقل من كتاب

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 63

الكافي فالعجب من بعض الكتبة في هذا المقام أن ينفي عن الشيعة العمل بالكتاب و السنة المروية عن غيرهم و الإجماع و الرأي.

المرجع في الفتوي في هذا الدور الثالث

و في هذا الدور كان المرجع الأعلي في الفتوي هو الإمام علي عليه السلام لأنه هو خليفة المسلمين إلي سنة استشهاده سنة 41 ه.

المذاهب الستة في هذا الدور

اشارة

و اتفق في هذا الدور أن تكونت للمسلمين مذاهب ستة و عند ما نرجع لتاريخها واصلها و أساسها نجد أن ما عدا الأول منها كان بسبب خروج معاوية علي الإمام علي عليه السلام و لولاه لكان الإسلام علي المذهب الأول منها و هي:

المذهب الأول

المذهب الأول اتباع الإمام علي عليه السلام

و هم بين قائل بأنه رابع خليفة و بين قائل بأنه أول خليفة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 64

المذهب الثاني

و الثاني و هم أصحاب الجمل و هم يذهبون إلي أن علياً ليس بخليفة و ليس الخلفاء الذين عندهم إلا ثلاثة.

مذهب أصحاب الجمل

و كان مرجعهم في الفتيا عائشة و طلحة و الزبير و قد انقرض هذا المذهب بموت عائشة في سنة 58 ه.

المذهب الثالث

و الثالث مذهب الأمويين

و هم الذين يرون أن الخليفة بعد عثمان هو معاوية بن أبي سفيان ثمّ من بعده أولاده و هذا المذهب قد انقرض في المشرق و المغرب بعد ذهاب دولة الأمويين فيهما.

المذهب الرابع

و الرابع مذهب المرجئة

و هم الذين اعتزلوا الناس و لم يقاتلوا و أرجئوا الحكم لله تعالي و من هؤلاء عبد الله بن عمر و سعد بن أبي وقاص و محمد بن مسلمة و أسامة بن زيد و أبو سعيد الخدري و حسان بن ثابت و مسلمة بن مخلد و غيرهم.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 65

مذهب المرجئة

و عندهم ان الإيمان مجرد الاعتقاد و لا أثر للعمل في تحققه و لا تنافيه المعصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة و قد تلاشت هذه الفرقة في العصر الأموي.

المذهب الخامس

و الخامس مذهب أهل النهروان

و هم الخوارج و يسمون (الحرورية) لأنهم خرجوا من الكوفة بعد أن صمموا علي محاربة الإمام علي عليه السلام إلي قرية قريبة للكوفة تسمي (حروراء) و أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي من الأزد و قد حاربهم الإمام علي عليه السلام في موضع يسمي بالنهروان و هزمهم شر هزيمة و قد قوي أمرهم في زمن الدولة الأموية فكان قسم منهم اتخذ (البطائح) قرب البصرة مركزاً لهم و قسم استولي علي حضرموت و اليمامة و الطائف و كانت الحرب بينهم و بين الأمويين مستمرة و لما جاء العباسيون ضعفت شوكتهم و انحط شأنهم و لا يزال قسم منهم يحتل بعض الإمارات في الخليج العربي و عندنا كتاب قديم في معتقداتهم و كتاب جوهر النظام في فروعهم.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 66

مذهب الخوارج

و مذهبهم صحة خلافة أبي بكر و عمر و عثمان في صدرها الأول أي مدة ست سنوات و علي قبل التحكيم و يطعنون في طلحة و الزبير و عائشة و يكفرون معاوية و عمر بن العاص و أبا موسي الأشعري و يشترطون في الخليفة أن يكون باختيار المسلمين و

لا يصح أن يتنازل و لا أن يحكم غيره في قضاياه و يرون أن العمل بالفرائض الدينية كالصلاة و الصوم و الزكاة و ترك المحرمات جزء من الإيمان و ليس الإيمان الاعتقاد وحده بدون العمل بالفرائض. و ان مرتكب الكبيرة و الذي لا يعمل بالفرائض كافر. و يري قسم منهم أن القرآن وحده هو المصدر للأحكام الشرعية و ليس غيره مصدراً لها و انه يجب الخروج علي السلطان الجائر و قد افترقوا إلي فرق عديدة و منهم الاباضية و هم تحت سلطنة مسقط.

المذهب السادس

السادس المذهب الكيساني

و يعزي هذا المذهب لكيسان مولي لعلي عليه السلام و قد أسسه عقب مقتل الحسين عليه السلام يدعو فيه إلي الخلافة لمحمد بن الحنفية و كان من أتباعه كثير عزة الشاعر المعروف.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 67

الكتب التي ألفت في هذا الدور و لا تزال موجودة لدينا

و يوجد في مكتبتنا في هذا الدور كتاب سليم بن قيس الذي توفي مستتراً عن الحجاج سنة 90 ه و قد أدرك سليم الإمام علي عليه السلام و الأئمة من ذريته إلي زمن الباقر عليه السلام و هو مجموعة من الأخبار التأريخية يستفيد منها الفقيه أحكام بعض المواضع الفقهية كالجهاد و نحوه و ما يتعلق بالامامة من الأحكام الشرعية و هو من أقدم الكتب التي بين أيدينا توجد منه نسخة خطية قديمة في مكتبة جدي الهادي و طبع بالحروف.

و في هذا الدور كتب همام بن منبئة أخو وهب صحيفته التي رواها عن أبي هريرة و قد رواها أحمد في مسنده بكاملها. و قد ذكر أهل التاريخ أن همام كان يوم وفاة أبي هريرة عمره ثماني عشرة سنة. و يوجد لدينا تفسير ابن عباس الموسوم بتنوير المقياس عن تفسير ابن عباس المتوفي سنة 68 ه اختصره صاحب القاموس من تفسير ابن عباس الكبير.

فقهاء الدور الثالث

و كان في هذا الدور الثالث من الفقهاء:

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 68

عبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفي سنة 73 ه و اسلم مع أبيه و هو صغير و قد ندم علي عدم مشاركته للإمام علي، في حروبه و اكثر من روي عنه ابنه سالم و مولاه نافع و ينقل عن الشعبي انه قال كان ابن عمر جيد الحديث و لم يكن جيد الفقه.

و منهم أبو هريرة المتوفي سنة 58 ه اسلم سنة سبع من الهجرة أي قبل وفاة الرسول بثلاث سنين مع انه اكثر رواية من أبي بكر و عمر و الإمام علي. ففي مسند حنبل يكون مسند أبي هريرة (313) صفحة بينما مسند علي عليه السلام فيه (85) صفحة

و مسند أبي بكر (14) صفحة و مسند عمر (41) صفحة.

و منهم سعيد بن المسيب المتوفي سنة 94 ه و هو زعيم مدرسة أهل الحديث و قد حكي عن الذهبي انه قال في سعيد بن المسيب انه اعلم الناس بالقضاء و سيد التابعين و ليس فيهم أحد أوسع علماً منه و ذكر أهل التاريخ انه أبي أن يزوج ابنته للوليد بن عبد الملك و زوجها لأحد الفقراء اسمه (أبو وداعه) و كان لا يقبل جوائز السلطان و كان بينه و بين الحسن البصري مكاتبة. و كان سعيد بن المسيب و القاسم بن محمد ابن أبي بكر و أبو خالد الكابلي من ثقاة الإمام علي بن الحسين عليهما السلام و حواريه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 69

و منهم إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي المتوفي سنة 96 ه زعيم مدرسة أهل الرأي و القياس و شيخ حماد بن أبي سليمان الذي هو شيخ أبي حنيفة. و قد نقل حديثه البخاري و مسلم و يذهب إلي أن الأحكام الشرعية لها علل و ان علي الفقيه إدراكها ليجعل الأحكام الشرعية تدور مدارها خلافاً لسعيد بن المسيب الذي يذهب إلي لزوم متابعة الكتاب و السنة من دون الرجوع لعلل الأحكام.

و منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي المتوفي سنة 94 ه و كان كثير الرواية.

و منهم سعيد بن جبير فانه من أعلام الفقهاء الذين تخرجوا من مدرسة الكوفة و عن أبي حجر في تقريبه انه فقيه ثبت. قتله الحجاج صبراً سنة 65 ه و قد عده اليعقوبي من الفقهاء الذين يفتون الناس في عصر الوليد و سليمان ابن عبد الملك. و عن ابن ميمون ابن مهران انه

قال: مات سعيد ابن جبير و ما علي وجه الأرض رجل إلا و يحتاج إلي علمه كان ابن عباس إذا سأله أهل الكوفة عن أمور دينهم يقول أ ليس فيكم سعيد بن جبير.

و منهم علقمة بن قيس النخعي الكوفي المتوفي سنة 62 ه و قد روي عنه البخاري و مسلم. و عن الذهبي انه قال: كان

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 70

فقيهاً اماماً بارعاً ثبتاً فيما ينقل صاحب خبر و ورع و كان علي رأس من تخرج من مدرسة الفقه في الكوفة. و منهم الأسود بن يزيد النخعي المتوفي سنة 95 ه ابن اخي علقمة ابن قيس المتقدم ذكره و كان عالم الكوفة.

و منهم الحرث بن عبد الله الهمداني و عن ابن داود إنه أفقه الناس و عن أبي جعفر الطبري في ذيل المذيل انه تعلم منه الشعبي الفرائض و الحساب.

و منهم أبو الأسود الدؤلي المتوفي سنة 69 ه في البصرة بالطاعون و كان في طليعة أهل العلم و عن الراغب الاصفهاني في مفرداته انه كان من أكمل الرجال رأياً و عقلًا، و قد وضع علم النحو بتعليم الإمام علي عليه السلام و قد روي عنه البخاري و مسلم و عن الأغاني انه من وجوه التابعين و فقهائهم و محدثيهم و عن ابن خلكان انه من سادات التابعين و أعيانهم و هو أول من أعرب القرآن العزيز و تلميذه يحيي بن يعمر العدواني المتوفي سنة 129 ه بخراسان و هو أول من نقط القرآن الكريم.

و منهم عروة بن الزبير بن العوام المتوفي سنة 94 ه ذكر الذهبي انه عالم المدينة و يحكي عن الزهري انه قال فيه: انه بحر لا ينضب.

أدوار علم الفقه و أطواره،

ص: 71

و منهم عبد الله بن عباس بن عبد المطلب المتوفي بالطائف سنة 68 ه و كان يسمي بترجمان القرآن و عليه يدور علم أهل مكة في التفسير و الفقه.

و منهم مسروق بن الأجدع الهمداني المتوفي سنة 63 ه تتلمذ علي الإمام علي عليه السلام و عن الشعبي انه اعلم من شريح القاضي.

و منهم عبيدة بن عمر السلماني المتوفي سنة 92 ه و كان يفتي الناس في الكوفة و أخذ الفقه من الإمام علي عليه السلام.

و منهم أنس بن مالك خادم رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم المتوفي سنة 93 ه و قد سكن البصرة و كان من علمائها.

و منهم عبد الرحمن الأشعري المتوفي سنة 78 ه بعثه عمر بن الخطاب إلي الشام ليفقه الناس. و منهم عبد الله بن عمر بن العاص المتوفي سنة 65 ه أخذ المصريون عنه علماً كثيراً و كان يلوم أباه علي القيام مع معاوية في الخروج علي الإمام علي عليه السلام و حضر صفين مع الإمام علي عليه السلام إلا انه يقال انه لم يسل سيفاً خوفاً من العقوق.

و اتفق في هذا الدور أن قتل الإمام علي عليه السلام بسيف ابن ملجم سنة 40 ه و استشهد الإمام الحسن عليه السلام بسم معاوية له سنة 49 ه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 72

أخذ الفقهاء من الإمام الحسن عليه السلام

و قد أخذ الفقهاء و العلماء من الإمام الحسن عليه السلام الكثير من الأحكام الشرعية. و كلماته و مواعظه اكثر من أن تعد و تحصي و ألف في الفقه كما نص علي ذلك السيوطي في كتابه تدريب الراوي و قد قاسم ماله مرتين أو اكثر و حج خمساً و عشرين حجة ماشياً و

الركائب تقاد بين يديه.

استشهاد الإمام الحسين عليه السلام

و استشهد الإمام الحسين عليه السلام بقتل يزيد بن معاوية له سنة 61 ه و عن الترمذي ان النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم قال: حسين مني و أنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً، و هو صاحب الدعاء المعروف في يوم عرفة الذي اشتمل علي الأسرار الدينية و المعارف الإلهية و البلاغة المنطقية و ما يدهش العقول و يخلب الألباب.

استشهاد الإمام زين العابدين عليه السلام

و استشهد الإمام علي بن الحسين عليهما السلام بسم الوليد بن عبد الملك سنة 95 ه و الذي يقول في حقه الزهري ما رأيت أحداً أفقه من علي بن الحسين. و روي عنه مالك في موطئه. و عن

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 73

ابن المسيب انه قال: ما رأيت أودع منه و هو صاحب الصحيفة السجادية البالغة منتهي البلاغة في ادعيتها كتبها ولده الباقر عليه السلام بإملاء أبيه عليه السلام و كتبها ولده زيد الشهيد عليه السلام بإملاء أبيه عليه السلام و كانت النسختان قد وصلتا للإمام للصادق عليه السلام و كان يقبلهما و يقول في نسخة الإمام الباقر: هذا خط أبي و إملاء جدي و في نسخة زيد: هذا خط عمي و إملاء جدي و قد قوبلت النسختان فلم يكن بينهما مخالفة. و كان من تلاميذه القاسم بن محمد ابن أبي بكر. و سعيد بن المسيب. و أبو خالد الكابلي.

و ذكر الكثير من أهل التاريخ انه مات مسموماً بسم الخليفة الأموي سنة 95 ه السنة التي مات فيها الكثير من الفقهاء.

الإمام الباقر عليه السلام

و من الأئمة في هذا الدور أبو جعفر محمد بن علي ابن الحسين المعروف بالباقر عليهم السلام إلا انه استشهد في الدور الرابع سنة 114 ه و قد دونت عنه أئمة المذاهب.

الانتقال إلي قم في هذا الدور

و في هذا الدور سنة 83 ه انتقل جملة من التابعين إلي قم.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 75

الدور الرابع

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 77

مبدؤه و منتهاه

و هو يبتدئ من زمن خلافة عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم سنة 99 ه الذي كانت خلافته سنتين و خمسة اشهر و ينتهي هذا الدور بأفول نجم الدولة العباسية بأوائل القرن الرابع الهجري و القرن العاشر الميلادي حيث أن باب الاجتهاد انسد عند أهل السنة في آخر هذا الدور لتصريحهم بأنه لم ير مجتهد منهم بعد محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة 310 ه.

ما حدث من الأمور التي تخص علم الفقه في هذا الدور الرابع

و في هذا الدور حدثت أمور تخص هذا العلم.

الأول: منها أن هذا العلم قد نال من الدعاية و العناية و التشجيع و الترغيب حظاً وافراً فهذا عمر بن عبد العزيز

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 78

أرسل العلماء إلي الآفاق الإسلامية لتعليم أهلها الأحكام الشرعية الإسلامية و قد روي لنا التاريخ انه بعث عشرة من العلماء التابعين إلي أهل افريقيا لتعليم أهلها الدين.

ذهاب الفقهاء إلي المدن

واخذ الفقهاء يتفرقون في المدن فكان في مكة سفيان بن عيينة. و في المدينة مالك. و ربيعة الرأي. و في الكوفة سفيان الثوري. و أبو محمد البجلي. و أبو حنيفة. و في البصرة الحسن البصري. و في بغداد احمد بن حنبل. و الظاهري. و الطبري. و أبي ثور. و ابن أبي عمير. و هشام بن الحكم. و في دمشق الأوزاعي. و في مصر الشافعي و الليث بن سعد.

انتقال السلطة من الأمويين إلي العباسيين

و الثاني منهما: انتقال السلطة و السلطنة من الأمويين إلي العباسيين سنة 132 ه باسم الدين.

ظهور دولة العباسيين بادئ بدء بمظهر الدين

و هذا ما أوجب أن يظهر العباسيون بمظهر المحافظين علي الشريعة المحمدية و يصبغوا الدولة بصبغة الدين و يتوجهوا لعلمائها الروحانيين و يشيدوا بالفقه و الفقهاء الربانيين و قد أدركوا خطأ الأمويين في بعدهم عن الصحابة و التابعين و عدم رعايتهم للفقهاء الروحانيين و هذا ما دعا العباسيين أن يرجعوا لهم في المسائل الشرعية وحل الخصومات

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 79

باسم الأحكام الدينية و بلغ بالعباسيين الحد في تشييدهم مجد الفقهاء أن يتمني المنصور أن يجلس في مصطبة و حوله أهل العلم و الحديث و يأمر مالك بن انس أن يكتب له كتاباً يتجنب فيه رخص ابن عباس و شدائد ابن عمر فكتب (الموطأ) سنة 147 ه و يقال أن المنصور أراد أن يحمل الناس علي العمل بالموطأ و أبي مالك ذلك. و يبعث هارون الرشيد ولديه الأمين و المأمون ليتعلما الأحكام الشرعية من مالك و الشيباني و يطلب من أبي يوسف أن يكتب له كتاباً في الخراج. و أمر هرثمة ابن أعين حين ولاه خراسان برعاية العمل بالأحكام الشرعية و الرجوع للفقهاء في معرفتها. و قد صب و هو الخليفة الماء علي يدي أبي معاوية الضرير أحد الفقهاء. و ان يجمع المأمون العلماء و يبحث معهم المسائل الدينية. و يبحث معهم في إثبات أفضلية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلا أن الحقيقة انهم أرادوا أن يتذرعوا بالدين للقضاء علي أهل الدين و يتخذونه وسيلة لتوطيد سلطانهم و رفع مقامهم كما يشهد بذلك إسرافهم في قتل الصلحاء و سبي النساء و الولوغ بدماء الأبرياء و اتباع

الشهوات فكان سفاحهم سفاكاً للدماء و منصورهم نصيراً للباطل و رشيدهم مرشداً للضلال و يدرك ذلك كل من ألقي السمع و تبصر في التاريخ.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 80

دولة الأدارسة

و الثالث منها: أن في هذا الدور تكونت دولة الأدارسة في المغرب الأقصي برئاسة إدريس بن عبد الله بن الحسن المثني بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث بويع في مدينة (وليلي) من المغرب الأقصي يوم الجمعة 4 رمضان سنة 172 ه أيام خلافة هارون الرشيد. و قد أسسوا مدينة فاس و بنوا فيها المدارس العلمية و انشأوا فيها المكتبات و استمروا في نشر المعارف الدينية إلي أن انتهي أمر خلافتهم سنة 309 ه علي أيدي الفاطميين.

دولة العلويين

الرابع منها: تكونت دولة العلويين في طبرستان برئاسة الحسن بن زيد المنتهي نسبه إلي أمير المؤمنين علي عليه السلام في سنة 250 ه و علي أيديهم اسلم أهل الديلم و الجبل و ذهبوا مذهب التشيع و نال علي أيديهم الفقهاء حسن الكرامة و عظيم المنزلة و استمرت دولتهم لسنة 316 ه.

دولة البويهيين

الخامس منها: ظهور دولة البويهيين برئاسة أبي شجاع

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 81

الملقب بعماد الدولة و كان ابتداء سلطانه في شيراز سنة 321 ه و كان لهم الحب العظيم للعلم و العلماء و فتحوا المدارس و عمروا ما خرب منها و دروا علي الفقهاء و باقي أرباب العلوم الأرزاق و استمرت سلطتهم لسنة 447 ه.

دولة الفاطميين

السادس منها: ظهور دولة الفاطميين في بلاد المغرب سنة 296 ه برئاسة عبيد الله المهدي الذي اعتنق مذهب الإسماعيلية و قد بنوا القاهرة و أنشئوا فيها جامع الأزهر سنة 358 ه و الجامعات و الكليات و دار الحكمة و المكاتب العامة و ينسب للدروزي الاعتقاد بأن الحاكم بالله الخليفة الفاطمي قد غاب سنة 411 ه و استمرت دولتهم لسنة 567 ه.

دولة الحمدانيين

و السابع منها: ظهور دولة الحمدانيين برئاسة حمدان التغلبي سنة 281 ه و قد قامت بخدمة العلم و العلماء و الفقهاء و استمرت دولتهم لسنة 392 ه.

تدوين السنة علي نطاق واسع

و الثامن منها: أن في هذا الدور الرابع شعر الفقهاء

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 82

بضرورة تدوين السنة التي هي المصدر الثاني للفقه علي نطاق واسع و كان مبدأ الأمر هو محاولة عمر بن عبد العزيز جمع الحديث في أوائل القرن الثاني للهجرة المصادف للقرن الثامن للميلاد فكتب إلي أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قاضي المدينة المنورة و واليها و إلي باقي عماله في الأمصار يأمرهم تدوين أحاديث الرسول و لكن عمر بن عبد العزيز قد عاجله الأجل قبل إتمام جمعها من قبل عامله ابن حزم بيد انه قد حقق أمله في زمن حياته محمد بن مسلم الزهري المدني التابعي المتوفي سنة 124 ه فقد دوّن لعمر بن عبد العزيز كتاباً في ذلك و أخذ عمر يبعث إلي مصر دفتراً من دفاتر هذا الكتاب و كان الزهري يفتخر و يقول (لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني) و يحكي أن الزهري قد أملي علي بعض ولد هشام بن عبد الملك أربعمائة حديث و انها كانت مكتوبة لديه و كان يطوف علي العلماء و يكتب كل ما سمعه منهم و قالت له امرأته إن هذه الكتب اشد علي من ثلاث ضرائر.

أول من دوّن السنة و أول من صنفها و بوبها

و قد روي الرواة أن أول من دوّن العلم هو محمد الزهري المذكور و إن أول من صنف و بوب سعيد بن

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 83

عروبة. و ألف مكحول الشامي المتوفي سنة 116 ه كتاب السنن في الفقه و كتاب المسائل في الفقه.

أقدم كتاب وصل إلينا في الحديث

و أقدم كتاب ألف في الأحاديث الفقهية قد وصل إلينا المجموع الفقهي الذي رواه إبراهيم بن الزبرقان و نصر بن مزاحم عن الإمام زيد الذي استشهد بأمر هشام بن عبد الملك الأموي سنة 121 ه فانه اقدم من الموطأ بنصف قرن و كان الإمام جعفر الصادق المتوفي سنة 148 ه يحث العلماء و الرواة علي تدوين السنة فقد نقل عنه بعدة طرق انه قال: (اكتبوا فانكم لن تحفظوا حتي تكتبوا).

محاولة المنصور تدوين الفقه بتحريض ابن المقفع

و عند ما تحولت الخلافة من الأمويين إلي العباسيين سنة 132 ه حاول المنصور العباسي تدوين الفقه بنحو يكون هو المرجع للأقطار الإسلامية بتحريض من ابن المقفع المتوفي سنة 144 ه صاحب ترجمة كليلة و دمنة فقد طلب من المنصور أن يضع قانوناً عاماً يؤخذ من الكتاب و السنة و عند عدمهما يؤخذ مما يرتضيه العدل و الصالح العام فيكون ذلك هو المرجع لسائر الأقطار الإسلامية. و الظاهر أن هذه الفكرة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 84

بقيت في ذهن المنصور فلما حج سنة 148 ه الموافق سنة 765 م طلب من مالك أن يحمل الناس علي مذهبه فأبي مالك ذلك (و قال: لكل قوم سلف و أئمة فان رأي أمير المؤمنين

قرارهم علي حالهم فليفعل) فاقتنع المنصور بما قاله مالك و لم ينفذ فكرة ابن المقفع و في سنة 163 ه الموافق لسنة 777 م ذهب المنصور مرة ثانية للحج و عرض الفكرة الأولي علي مالك و قال له (ضع الفقه و دوّن منه كتباً و تجنب شدائد عبد الله بن عمر و رخص عبد الله بن عباس و شوارد عبد الله بن مسعود و أقصد إلي أواسط الأمور و ما اجتمع عليه الأئمة و الصحابة

لنحمل الناس إن شاء الله علي علمك و كتبك و نثبتها في الأمصار و نعهد إليهم أن لا يخالفوها) فكتب مالك الموطأ و أصر علي موقفه و لم يرض لحمل الناس علي مذهبه. و لما جاء هارون الرشيد للخلافة طلب من مالك أن يكون كتابه الموطأ مرجعاً للقضايا و الفتوي و يوزع منه نسخاً علي الأمصار الإسلامية للعمل علي طبقه فأبي مالك ذلك و أصر علي فكرته السابقة فبقي الأمر علي ما هو عليه من اختلاف المذاهب في الفقه الإسلامي.

زمن كثرة التصنيف و التدوين للسنة و الفقه و التفسير

و يمكن أن يقال إن التأليف و التصنيف و تدوين السنة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 85

و الفقه و التفسير قد كثر في عام 143 ه.

فصنف و ألف في بغداد محمد بن مسلم المتوفي سنة 150 ه كتابه الأربعمائة مسالة.

و محمد بن حسن الشيباني المتوفي سنة 179 ه ألف كتبه و طبع منها الشي ء الكثير.

و أبو يوسف القاضي عند هارون الرشيد.

و في مكة المكرمة ألف عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح المتوفي سنة 150 ه كتبه.

و في المدينة المنورة صنف محمد بن اسحاق المتوفي سنة 151 ه و مالك بن أنس المتوفي سنة 179 ه.

و بالبصرة الربيع بن صبيح المتوفي سنة 160 ه و سعيد بن أبي عروة المتوفي سنة 156 ه و حماد بن مسلمة المتوفي سنة 176 ه و حماد بن عيسي الذي اغرقه السيل في موضع الاحرام عند ما أراد أن يغتسل سنة 209 ه فان له عدة كتب منها كتاب الصلاة.

و ألف بالكوفة أبان بن تغلب المتوفي سنة 141 ه و يوجد في آخر السرائر مستظرفات من كتبه مطبوعة. و سفيان بن سعيد الثوري المتوفي سنة 161 ه.

أدوار علم الفقه

و أطواره، ص: 86

و هشام بن الحكم المتوفي سنة 199 ه صاحب الكتب الكثيرة و المناظرات الجليلة. و حماد بن عثمان المتوفي سنة 190 ه. و عبد المؤمن بن القاسم بن قيس بن فهد الأنصاري المتوفي سنة 147 ه. و محمد بن قيس البجلي المتوفي سنة 151 ه. و محمد بن مروان الذهلي المتوفي سنة 161 ه. و معاوية بن عماد المتوفي سنة 175 ه و قد استطرف صاحب السرائر من كتبه بعض الأحاديث في آخر سرائره.

و بالشام صنف عبد الرحمن الاوزاعي المتوفي سنة 157 ه و الوليد بن مسلم.

و باليمن صنف معمر بن راشد المتوفي سنة 153 ه. و قد ظهر في الآونة الأخيرة كتاب المصنف لأبي بكر عبد الرزاق الصنعاني المتوفي سنة 211 ه و المولود سنة 126 ه. و مؤلفه قد طبع في بيروت في أحد عشر مجلداً ضخماً و عليه فيكون قد عاصر مالك صاحب الموطأ.

و صنف بخراسان و مرو عبد الله بن مبارك المتوفي سنة 181 ه.

و بالري جرير بن عبد الحميد.

و بمصر الليث بن سعد المتوفي سنة 175 ه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 87

و بواسط هيثم بن بشير.

أول من قام بتكثير أبواب الحديث

و يحكي أن أبا بكر بن أبي شيبة أول من قام بتكثير الأبواب و كان الحديث في هذه الكتب ممزوجاً بأقوال الصحابة و التابعين.

ما أطلق عليه المصنف

و أطلق علي هذا النوع من الجمع اسم المصنفات و اشهرها موطأ مالك. و عند الزيدية مجمع الإمام زيد.

من افرز أحاديث الرسول

ثمّ جاء بعد هؤلاء من أفرد و افرز أحاديث الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم عن فتاوي الصحابة و التابعين و كان ذلك ما بعد المائتين من الهجرة.

ما أطلق عليه اسم المسند

و أطلق علي هذا النوع اسم المسانيد.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 88

أول من ألف في الأحاديث المسند

و يقال: أن أول من ألف في ذلك هو أبو داود الطيالسي المتوفي سنة 204 و اكثر المسانيد رواية و حديثاً هو مسند احمد ابن حنبل المتوفي سنة 241 ه.

أول من ألف النوادر و المراد منها

و لعل محمد بن حسن الشيباني صاحب هارون الرشيد المتوفي سنة 179 ه أول من ألف في النوادر و هي في مصطلح أهل الحديث الأخبار التي ليس بمضمونها خبر آخر أو يكون و لكنه قليل جداً و ليس لها معارض و مسلم صحتها بخلاف الشواذ فإنها الأخبار غير الصحيحة أو لها معارض.

و كتاب نوادر الحكمة تأليف الشيخ الجليل محمد بن احمد بن يحيي بن عمران الأشعري القمي يشتمل علي عدة كتب و عن ابن شهرآشوب انه اثنان و عشرون كتاباً كما في مجمع البحرين.

ثمّ جاءت بعد هذه الطبقة أي ما بعد المائتين و الخمسين من الهجرة طبقة أخري فاختارت من الأحاديث التي كانت موجودة في بطون الكتب و صدور الرجال.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 89

العلماء الذين نالوا الشهرة

و كان الذين نالوا الشهرة منهم دون سواهم في التأليف و كتبهم موجودة لدينا.

البخاري و عدد أحاديثه

محمد البخاري المتوفي سنة 256 ه و بلغت أحاديث كتابه علي ما حكي (7275) حديثاً المكرر منها (3000) حديثاً.

صحيح مسلم و عدد أحاديثه

و مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفي سنة 261 ه، و أحاديث كتابه علي ما حكي (12000) حديثاً، و أبو داود سليمان السجستاني المتوفي سنة 275 ه و محمد السلمي الترمذي المتوفي سنة 279 ه، و محمد القزويني المعروف بابن ماجة المتوفي سنة 273 ه، و احمد بن شعيب النسائي المتوفي سنة 303 ه.

الصحاح الستة

و كتب هؤلاء الستة هي المعروفة بالصحاح الستة عند أهل السنة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 90

و المحاسن للبرقي المتوفي سنة 274 ه و مختلف الحديث لأبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفي سنة 276 ه دافع فيه مؤلفه عن الأحاديث التي زعم أهل المعقول بأنها تناقض الكتاب المجيد أو يتناقض بعضها مع بعض.

و الغيبة للنعماني من علماء القرن الثالث. و أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار المتوفي سنة 290 ه صاحب بصائر الدرجات المطبوع سنة 1285 ه.

و أبو محمد الحسن الحلبي المتوفي سنة 381 ه صاحب تحف العقول.

و أبو حنيفة النعمان قاضي مصر صاحب دعائم الإسلام المتوفي سنة 363 ه.

كيفية الفتوي

و كان الفقهاء يفتون في المسألة بلفظ الحديث بحذف إسناده دون أن يذكروها بالفاظهم و آرائهم و فيما سبق كانوا يفتون في المسألة بذكر الرواية بإسنادها و أما في عصرنا الحاضر فتذكر الفتوي بلفظ رأي المجتهد.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 91

علم الرجال و رجال الجرح و التعديل

ثمّ جاء إلي جانب أهل الحديث رجال بحثوا عن حال الرواة من حيث صحة الاعتماد علي روايتهم من كونهم عدولًا أو ثقات أو ضعافاً أو ضابطين و قد عرَّفوا بتسميتهم برجال الجرح و التعديل و قد وضعوا كتاباً في ذلك.

أول من صنف في علم الرجال

و أول من صنف في علم الرجال هو عبد الله بن جبلة بن ابحر الكناني المتوفي سنة 219 ه عن عمر طويل ثمّ كثر التأليف و التصنيف في هذا الموضوع.

اقدم كتاب لدينا في علم الرجال

و لعل اقدم كتاب لدينا في هذا الموضوع لأهل السنة طبقات ابن سعد المتوفي سنة 230 ه و للشيعة هو رجال احمد بن محمد بن خالد البرقي المتوفي سنة 274 ه و علي نهجه سلك اغلب مؤلفي الشيعة في الرجال كالشيخ الطوسي و غيره و سبب ذلك وجود الأحاديث المكذوبة في السنة بكثرة من جهة دس أهل الضلالة فيها أما معاداة للإسلام أو لإبراز نفسه مبرز أهل الحديث أو استنكافاً من الجهل أو نحو ذلك فكان

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 92

الشخص الذي يريد معرفة الحكم من السنة يقع أمام عقبة كئود صعبة لمعرفة الصحيحة منها من غيرها فوضعوا كتباً تشرح حال الرواة من هذه الناحية.

الميزان في صحة الرواية الوثوق بها

ثمّ قام إلي جانب ذلك طبقة جعلوا الميزان في صحة الرواية هو الوثوق بصدورها و هو إنما يحصل بالعمل بها و الاستناد إليها من قبل الكثير من المتقدمين.

الميزان في ضعف الرواية

و الميزان في ضعف الرواية هو أعراض المشهور من المتقدمين عن العمل بها فلو كانت الرواية رواتها كلهم عدول و قد اعرض عنها المشهور من المتقدمين و هي بمرأي منهم و مسمع فهي ضعيفة عندهم. و بعضهم اعتبر الشهرة في الرواية و اعرض عن الرواية الشاذة فإذا كانت الرواية اشتهر نقلها أخذ بها و إذا لم يروها إلا القليل طرحها فالميزان عنده شهرة نقلها لا شهرة العمل بها.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 93

الأسباب لكثرة المذاهب الفقهية في الدور الرابع

و في هذا الدور كثرت المذاهب الفقهية و تعددت الآراء في المسائل الشرعية و ذلك لأسباب كثيرة.

عدم الاهتمام بادي بدء بالتدوين

أحدها: و لعله هو الأهم عدم اهتمام ولاة الأمور بادئ بدء بتدوين السنة بل منعهم عنها فان عدم كتابتها قد أدي إلي تحريفها و الدس فيها مما أوجب اختلاف الفقهاء في الاعتماد عليها فتجد بعضهم اعتمد علي نوع منها في حكم المسألة دون أن يعتمد الآخر عليه.

التفاوت في سعة الاطلاع

ثانيها: تفاوتهم في سعة الاطلاع علي السنة فتجد أن بعضهم اطلع علي رواية في معرفة حكم المسألة دون أن يطلع الآخرون عليها مما جعل المطلع يفتي بما اطلع عليه دون أن يفتي الآخر به.

اختلاف الأفهام

ثالثها: اختلاف الأفهام لمعاني آيات القرآن و أحاديث الأحكام.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 94

اختلاف الفقهاء في الأدلة

رابعها: اختلاف الفقهاء في أدلة الأحكام كاختلافهم في حجية القياس و دليليته علي الحكم و كتب أصول الفقه قد بسطت البحث في ذلك.

الاطلاع علي علة الحكم

خامسها: اختلاف مدارك الفقهاء لعلل الأحكام الموجبة لسريان الحكم فان بعضهم قد يطلع علي علة الحكم لعمق تفكيره فيسريه بها دون الآخر.

السياسة

السادس: السياسة كان لها عظيم الأثر في تحصيل بعض الفتاوي في مقابل الفتاوي التي لا توافق أذواقهم و سيرهم. و لعل من هذه الجهة كثرت الحيل في الخروج عن حكم المسألة فإنها كانت لسلاطين الوقت.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 95

تعارض الأدلة

السابع: التعارض بين الأدلة و قد شرحته كتب الأصول و بسطت البحث فيه أحسن شرح و ألطف بسط.

و الحاصل ان في هذا الدور الرابع كثرت المذاهب لكثرة الفقهاء فيه مع اختلافهم في دليلية بعض الأدلة و الاطلاع علي ما هو الدليل منها دون اطلاع الآخرين أو فهم الحكم من المطلع عليه دون فهم الفقيه الآخر منه أو الداعي رغبة الدولة و الاتجاه السياسي فان هذه الأمور ابرز الأشياء لتعدد المذاهب في هذا الدور، و لكن المذاهب التي قدر لها الدوام و الشهرة و البقاء حتي الآن عدة مذاهب:

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 97

مذهب الامامية

اشارظ

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 99

الأول منها مذهب الامامية و راعينا في تقديم بعضها علي بعض بحسب الزمان و مع التساوي في القدم الزماني نقدم الأشهر من المتساويين بالنسبة للآخر و الاشهر هو الذي يكون أتباعه أكثر و دائرته أوسع، و عليه فيكون أول المذاهب هو مذهب الامامية باعتبار انه أقدمها زماناً و أكثرها شهرة و انتشاراً بالنسبة لما قارنه من المذاهب.

وجه التسمية بالامامية و بمذهب أهل البيت

وسمي بهذا الاسم نسبة للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام باعتبار أن هذا المذهب يتركز علي امامته عليه السلام بعد رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم. بلا فصل.

و يسمي أيضاً بمذهب أهل البيت لأن أهل البيت هم المقصودون

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 100

في آية التطهير عند علماء التفسير و هم النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم. علي عليه السلام. و فاطمة عليها السلام. و الحسن عليه السلام. و الحسين عليه السلام. و أهل هذا المذهب يتمسكون بهؤلاء الخمسة حيث يتبعون أقوالهم و أفعالهم و تقاريرهم دون باقي المذاهب فانهم لا يتبعونهم في ذلك.

و يسمي هذا المذهب أيضاً بمذهب التشيع لأن معتنقيه قد شايعوا علياً و ذريته و تابعوهم و يسمون بالشيعة لأن الشيعة هي الفرقة الموالية و هم موالون للإمام علي عليه السلام و ذريته و مفردها شيعي.

ما روته السنة عن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم في مدح الشيعة

و قد روي عن رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم من طرق أهل السنة أن علياً و شيعته في الجنة ما بلغ حد التواتر كالعسقلاني في لسان الميزان. و الخطيب الخوارزمي في المناقب. و الترمذي في المناقب. و الحافظ في فردوس الأخبار. و ابن الجوزي في التذكرة. و علاء الدين في منتخب كنز الأخبار. و السيوطي في الدرر المنثور. و الألوسي في تفسيره و الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد و غيرهم.

الفرقة الجعفرية

و قد افترق أصحاب المذهب الامامي إلي عدة فرق إلا أن الذي قدر لها البقاء فرقتان إحداهما فرقة الامامية الجعفرية

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 101

و ثانيهما الفرقة الزيدية. أما الفرقة الجعفرية فهم اتباع الإمام جعفر الصادق و سميت بالجعفرية نسبة للإمام جعفر الصادق عليه السلام.

و هي التي تقول بامامة علي عليه السلام بعد رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم بلا فصل و بعده ابنه الحسن عليه السلام ثمّ اخوه الحسين عليه السلام ثمّ ابن الحسين علي عليه السلام ثمّ محمد الباقر عليه السلام ثمّ جعفر بن محمد الصادق عليه السلام المولود سنة 83 ه و المتوفي سنة 148 ه.

وجه التسمية بالجعفرية

و إنما نسبت هذه الفرقة للإمام جعفر دون باقي الأئمة عليهم السلام بسبب كثرة نشره عليه السلام لهذا المذهب أكثر بكثير من باقي ائمة هذا المذهب حتي نهل من معين معدنه عليه السلام مثل أبو حنيفة و أمثاله كما ذكره تهذيب التهذيب و الاسعاف للسيوطي و روي عنه مالك في الموطأ و أطري عليه كما هو المحكي عن شرح الزرقاني علي الموطأ و تاريخ القضاء في الإسلام.

الفرصة التي أتاحت للصادق عليه السلام نشر مذهب التشييع

و لا ريب أن الفرصة قد أتاحت له بسط الأحكام الشرعية لأنه كان عليه السلام في أواخر الدولة الأموية و أوائل الدولة العباسية الزمن الذي انتقلت به الخلافة من الأمويين إلي العباسيين و كانت الكوفة هي مركز الانتقال حيث تمت بها البيعة للسفاح و السلطة الزمنية مشغولة بنفسها عن السلطة الدينية مما أوجب أن ينفسح

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 102

للإمام الصادق عليه السلام المجال لبسط الأحكام الشرعية و نشر المعارف الإلهية و الأخلاق الإسلامية و تربية رهط كثير من طلاب المعارف الدينية.

تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام

و هذا الحسن بن علي الوشاء يقول لابن عيسي القمي إني أدركت في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد عليه السلام. و هذا أبان بن تغلب و هو أحد القراء المشهورين يروي عن الصادق عليه السلام ثلاثين ألف حديثاً.

الصادق عليه السلام المؤسس الأول للمدارس الفلسفية في الإسلام

و عن تأريخ العرب لمير علي أن الإمام الصادق عليه السلام يعتبر في الواقع أول من أسس المدارس الفلسفية المشهورة في الإسلام و لم يكن يحضر حركته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب فحسب بل كان يحضرها طلاب الفلسفة و المتفلسفون من الأنحاء العامة.

و قد تواتر النقل بأن الرواة عنه قد بلغوا أربعة آلاف رجل.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 103

اعتبار المذهب الجعفري مذهباً خامساً

و في الآونة الأخيرة اعتبر مذهباً خامساً للمذاهب السنية الأربعة و قرر تدريسه في جامعة الأزهر و في معهد الدراسات العربية العالية.

و في الصواعق المحرقة لابن حجر أن الصادق نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان و انتشر صيته في جميع البلدان. و روي عنه الأئمة الأكابر كيحيي بن سعيد و ابن جريح و مالك و السفيانيين و أبي حنيفة و أيوب السختياني.

الغريب من البخاري

و من الغريب أن البخاري لم يرو عنه شيئاً.

و في ميزان الاعتدال للذهبي ان التشيع كثر في التابعين و تابعيهم مع الدين و الورع و الصدق فلو ردَّ حديث هؤلاء لذهبت جميع الآثار النبوية.

و في الموطأ لمالك تجد الرواية الكثيرة عن فقهاء الشيعة كالقاسم و سعيد بن المسيب و ابن جبير.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 104

كما أن الكثير من فقهاء السنة و محدثيهم قد رووا عن الأئمة عليهم السلام فقد روي الزهري و مالك و محمد بن إسحاق و السفيانيان و ابن أبي ليلي و الطبري و البلاذري و ابن سعد و ابن حنبل الشي ء الكثير من أخبارهم عليهم السلام.

انقسام الجعفرية

و قد انقسمت الفرقة الامامية الجعفرية إلي عدة أقسام إلا أن الذي قدر له البقاء قسمان: القسم الأول هو الفرقة الاثنا عشرية و هي المنتشرة في الآفاق و سميت بذلك لذهابها إلي أن الأئمة اثنا عشر من قريش واحداً بعد واحد بعد رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم.

صحاح السنة تذكر ان بعد رسول الله يتولي الأمر اثنا عشر اميراً

كما يظهر ذلك من الصحاح كالبخاري في الجزء الرابع صحيفة 158 و احمد بن حنبل في الجزء الخامس صحيفة 87 و الترمذي في الفتن صحيفة 46.

و قد كان لفقهاء الامامية الاثني عشرية من التصنيف فيما يخص علم الفقه أنواع و أقسام.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 105

أنواع تصانيف الشيعة الاثني عشرية في الفقه
أحدها و يسمي بالأصول و الجوامع
اشارة

ككتب الأخبار التي ألفت في زمن الأئمة الاثني عشر في الأحاديث المروية عن طريق أهل البيت.

مقدار كتب الأصول

و هي تزيد علي ستمائة و ستون ألف كتاباً كما في الفائدة الرابعة من كتاب الوسائل و قد عرض منها علي الأئمة عليهم السلام ككتاب يونس بن عبد الرحمن حيث عرض علي الإمام العسكري عليه السلام و ككتاب عبيد الله بن أبي سعيد علي الإمام الصادق عليه السلام و ككتاب الفضل بن شاذان علي العسكري عليه السلام و قد اشتهر كتاب حريز عندهم.

الاعتبار من موضع كتب الأصول

و قد كان موضع الاعتبار و الأهمية منها أربعمائة كتابٍ سميت في ألسنة الفقهاء بالأصول الأربعمائة و يوجد الكثير منها في مكاتب النجف إلا أن تدوين أكثرها إلا ما شذ لم يكن مرتباً علي أبواب الفقه إذ أن أربابها كانوا يكتبون كل ما يسمعون من الأئمة بحسب الزمن لا بحسب أبواب الفقه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 106

المرجع لكتب الصحاح الأربعة و تعدادها

و قد كانت هي الأساس و المرجع لتدوين الكتب الأربعة المسماة بالصحاح الأربعة و الجوامع الأربعة و هي الكتب الأربعة التي كان تدوينها حسب أبواب الفقه.

التعريف بكتاب الكافي

أولها كتاب الكافي للشيخ أبي جعفر محمد الكليني المتوفي سنة 329 ه و هو يشتمل حسبما حكاه بعض الثقات علي (16199) حديثاً في الأصول و الفروع مع أن أحاديث البخاري بحذف المكرر (4000) و مثله صحيح مسلم بحذف المكرر. و أحاديث الموطأ و سنن الترمذي و النسائي لا تبلغ عدد صحيح مسلم.

التعريف بكتاب من لا يحضره الفقيه

و ثانيها كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ أبي جعفر الصدوق محمد بن علي الحسين القمي المتوفي سنة 381 ه و يشتمل حسبما نقله الثقات علي (5963) حديثاً.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 107

التعريف بكتاب مدينة العلم

و كان له كتاب في الأخبار سماه بمدينة العلم اكبر من كتابه هذا كان موجوداً إلي زمان الشهيد الأول ثمّ فقد و لم يعثر عليه رغم كثرة التحريات عنه.

التعريف بكتاب التهذيب و الاستبصار

و ثالثها و رابعها كتاب التهذيب المشتمل علي ما ذكره الثقات علي (13590) حديثاً للشيخ الطوسي رحمه الله المتوفي سنة 460 ه. و كتاب الاستبصار المشتمل علي ما ذكره الثقات علي (5511) حديثاً أيضاً للشيخ الطوسي رحمه الله و كلها مطبوعة بعدة طبعات و لها شروح مطبوعة.

التعريف بكتاب الوافي

و سيجي ء إن شاء الله ان ملا محسن الفيض الكاشاني المتوفي سنة 1091 ه قد جمع روايات هذه الكتب الأربعة حسب أبواب الفقه و شرح أحاديثها شرحاً وافياً في كتاب سماه الوافي قد طبع في إيران.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 108

التعريف بالوسائل

ثمّ جاء محمد الحر العاملي المتوفي سنة 1104 ه فجمع روايات هذه الكتب الأربعة مع زيادة من كتب أخري كانت موضع اعتماده و رتبها حسب أبواب الفقه و سماه بكتاب الوسائل طبع عدة مرات.

التعريف بالمستدرك

ثمّ جاء محمد حسين النوري المتوفي سنة 1320 ه فاستدرك علي كتاب الوسائل المذكور ما فات صاحبه و أسماه بالمستدرك قد طبع اكثر من مرة. و قد توفرت كتب الأخبار و توسعت عند الشيعة و تيسرت.

التعريف بالبحار

فقد كان المرحوم محمد باقر المجلسي المتوفي سنة 1110 ه قد ألف موسوعته الكبري في الأخبار في ستة و عشرين مجلداً سماها بالبحار طبعت غير مرة

النوع الثاني من المصنفات الفقهية

النوع الثاني: ما جمعت فيه نصوص الأخبار بألفاظها

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 109

بحذف أسانيدها مرتبة علي أبواب الفقه و الموجود عندي منها مطبوعاً المقنع للصدوق رحمه الله و الهداية له رحمه الله و المقنعة للمفيد رحمه الله و النهاية للشيخ الطوسي رحمه الله و كان بعض الأصحاب إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إليها.

النوع الثالث من المصنفات الفقهية

النوع الثالث: ما جمعت فيه نصوص الأخبار من غير التزام بألفاظها مع إسقاط أسانيدها مرتبة علي أبواب الفقه و الموجود لدي منها المراسم لأبي يعلي و الوسيلة للشيخ أبي جعفر و الكافي لأبي صلاح.

النوع الرابع من المصنفات الفقهية

النوع الرابع: ما جمعت فيه القواعد الشرعية كقواعد الشهيد و قواعد جدنا الشيخ جعفر كاشف الغطاء المطبوعة في إيران. النوع الخامس من المصنفات الفقهية

النوع الخامس: ما ألف في الوسائل الفقهية

و هو علي قسمين أحدهما ما اشتمل علي الوسائل التي هي موضوع الخلاف و إقامة الحجة علي المختار من الأقوال و هو علي نوعين:

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 110

الأول ما اشتمل علي مسائل الخلاف بين الامامية و السنة ككتاب الخلاف للشيخ الطوسي و قد طبع عدة طبعات.

الثاني: ما اشتمل علي مسائل الخلاف بين الامامية ككتاب المختلف للعلامة الحلي و قد ذكر مؤلفه العلامة انه أول من صنف في هذا الموضوع و ككتاب مفتاح الكرامة للسيد جواد العاملي الذي ألفه بطلب من جدنا الشيخ جعفر كاشف الغطاء يشتمل علي بيان الخلاف في مسائل كتاب القواعد للعلامة الحلي و قد يتعرض لخلاف أهل السنة و قد طبع في مصر.

و ثانيهما ما يشرح فيه المسألة الفقهية و يذكر آراء الفقهاء فيها مع أدلتهم علي ما اختاروه فيها و يذكر رأيه فيها مع الدليل عليه ككتاب المستند للنراقي و كتاب أنوار الفقاهة للمرحوم الشيخ حسن كاشف الغطاء.

النوع السادس من المصنفات الفقهية

النوع السادس: ما ألف في المسائل الفقهية التي انفردت الامامية في حكمها عن غيرهم و تسمي بالانفرادات كالانتصار للسيد المرتضي و ككتاب الأعلام للمفيد فانه ذكر فيه ما اتفقت الامامية عليه من الأحكام و خالفتهم فيه أهل السنة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 111

النوع السابع من المصنفات الفقهية

النوع السابع: هو ما اشتمل علي التفريع علي النصوص الفقهية و فرض الفروع و تخريجها علي الأصول، و قال الشيخ الطوسي في أول كتابه المبسوط: ان الامامية لم يكونوا يفرعون إلي زمانه و كانوا يقفون عند النصوص التي وصلت إليهم يداً بيد عن قدمائهم و أن مخالفيهم قد طعنوا به عليهم و ان كتابه أول كتاب في هذا المسلك. و لقد أجاد احسن إجادة المرحوم الشيخ حسن كاشف الغطاء في كتابه أنوار الفقاهة في تفريعه الفروع الممكنة الحصول علي الأصول.

النوع الثامن من المصنفات الفقهية

النوع الثامن: هو الشروح لكتب الفقه أو التعليق عليها كشروح شرائع المحقق الحلي، و هذا النوع قد كثر في الأزمنة المتأخرة. و كالجواهر للمرحوم الشيخ محمد حسن و كموارد الأنام للمرحوم الشيخ عباس نجل الشيخ علي.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 112

النوع التاسع من المصنفات الفقهية

النوع التاسع: الرسائل العملية التي تجمع فتاوي المجتهد حسب أبواب الفقه كالعروة الوثقي للسيد كاظم و كالسفينة للشيخ احمد كاشف الغطاء و الهدي لجدنا الهادي.

النوع العاشر من المصنفات الفقهية

النوع العاشر: أجوبة المسائل الفقهية بنحو الاستدلال.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 113

الفتوي عند الشيعة
اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 115

إن الفتوي بالحكم الشرعي قد تطور بيانها عند الشيعة الامامية الاثني عشرية فقد كان أصحاب الأئمة يفتون الناس بنقل نفس الحديث للمستفتي مثل زرارة بن أعين. و يونس بن عبد الرحمن. و محمد بن مسلم. و أبي بصير. و أبان بن تغلب و جميل ابن الدراج. و محمد بن أبي عمير و الحسن بن علي بن فضال. و صفوان بن يحيي و غيرهم، ثمّ تطورت الفتوي عندهم فاخذوا يفتون بنص الرواية من دون ذكر السند ثمّ تطورت الفتوي فاخذوا يفتون بما أدي إليه اجتهادهم في حكم الواقعة الشرعي بتعابيرهم الخاصة، و الحاصل انه لما وقعت الغيبة الكبري للحجة المهدي عليه السلام سنة 329 ه. بوفاة علي بن محمد السيمري السفير الرابع للإمام الثاني عشر عجل الله فرجه انحصرت معرفة الشيعة للحكم الشرعي

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 116

في الحوادث و الوقائع بفتوي فقهائهم بأمر الحجة عليه السلام لهم بذلك علي يد السفير الرابع فرجعوا لهم و احتاج الفقهاء إلي إعمال اجتهادهم في معرفة أحكام المسائل التي تعرض عليهم بردها لأصولها الموجودة في الكتاب و السنة و ما تقتضيه القواعد الشرعية و الموازين العقلية و تشخيص ما قام إجماع الشيعة عليه إلي غير ذلك ما يقتضيه الاجتهاد و يتطلبه الاستنباط.

فأول من انبري لهذا العمل هو الحسن بن علي العماني شيخ فقهاء الشيعة و الذي استجازه صاحب كامل الزيارة سنة 329 ه و قد صنف كتاب المتمسك بحبل آل الرسول و عاصر الكليني و علي بن بابويه.

الزعامة الدينية للشيعة

و الظاهر أن الزعامة الدينية للشيعة كانت له بعد الغيبة الصغري فإنها قبل ذلك لم تكن إلا لإمام العصر أو السفراء بينه و بين

الخلق ثمّ من بعده انتقلت الزعامة الدينية لمحمد بن احمد بن جنيد الاسكافي المتوفي سنة 381 ه صاحب كتاب تهذيب الشيعة و كتاب الأحمدي ثمّ من بعدهما للشيخ محمد المفيد المتوفي سنة 413 ه و كان كتابه المقنعة مداراً للدراسة بين الفقهاء و هو الذي علق عليه الشيخ الطوسي و سمي تعليقه عليه بالتهذيب.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 117

ثمّ من بعده علم الهدي المتوفي سنة 436 ه.

ثمّ من بعده الشيخ الطوسي. و هكذا مرجع بعد مرجع و زعيم بعد زعيم.

عقيدة الشيعة الاثني عشرية في علم الأئمة عليهم السلام بالأحكام الشرعية

و يتلخص مذهب الشيعة في الأئمة الاثني عشر ان علمهم عليهم السلام بالأحكام الشرعية ليس من طريق الاجتهاد كسائر المجتهدين و إنما هو من طريق إيداع النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم للأحكام عندهم و هم معصومون من الخطأ في بيان الأحكام كالنبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و قد ذكرنا ذلك في كتابنا باب مدينة الفقه عند الكلام منا في الواضع لعلم الفقه و في الدور الثاني لعلم الفقه انه عند الأئمة عليهم السلام كتاب علي عليه السلام الذي هو باملاء رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم و خط علي عليه السلام و إن فيه حتي ارش الخدش. و تقدم أن الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم أودع بيان قسم من الأحكام للائمة الأطهار عليهم السلام و انهم لا يزالون يتوارثون هذا الأمر إلي الإمام الثاني عشر. نعم انهم لو أرادوا أن يعلموا بالأحكام من طريق الإلهام و انكشاف الواقع لتأتي لهم ذلك كما يتأتي لهم ذلك لو أرادوا العلم و المعرفة بأي شي ء من حقائق المخلوقات و الكائنات لقدسية نفسهم عليهم السلام و

في الخبر عبدي أطعني تكن مثلي و في كتاب الحجة من أصول الكافي ص 231) ان الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا).

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 118

الدليل علي انهم عليهم السلام لو أرادوا أن يعلموا علموا

و يشهد لذلك انهم مع غزارة علمهم و كثرة بيانهم للعلوم و ضخامة ما أورثوه للشيعة من الأحاديث و الأخبار لم تجد في كتب التراجم و التاريخ المعتبرة عند شرح حال أحدهم أن يذكر انه تتلمذ علي أحد من الفقهاء. أو روي عن أحد من الرواة و هو أدل دليل علي أن علمهم قد حصل لهم من رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم أو بطريق انكشاف الواقع له.

و هذا الإمام جعفر الصادق قد بين لجابر بين حيان أسرار علم الكيمياء و شرح لغيره أسرار الكائنات حتي ما كان منها في السماوات و هكذا من قبله و من بعده من الأئمة عليهم السلام مع انهم لم يذكر عنهم عليهم السلام انهم درسوا و تتلمذوا علي يد أحد من العلماء بأسرار الطبيعة. و ما يكون ذلك إلا لانكشاف الواقع لأنفسهم عليهم السلام و افتضاح أسرار العالم لديهم عليهم السلام و من راجع البحار لا سيما كتاب السماء و العالم منه يري ما يجعل الأفكار حيري و العقول صرعي من الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام المشتملة علي مختلف العلوم و الفنون و عليه فيكون عصر النص عند الشيعة ينتهي بأول الغيبة الكبري سنة 330 ه للإمام الثاني عشر و يكون وجود الأئمة عليهم السلام استمراراً لوجود النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم بخلاف أهل السنة فان عصر

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 119

النص عندهم ينتهي بموت رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم

و إن رجوع فقهاء الشيعة في معرفة حكم المسألة للاجتهاد إنما كان عند بعدهم عن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و عن أئمتهم عليهم السلام أو بعد غيبة الإمام الثاني عشر بخلاف أهل السنة فانه كان عند بعدهم عن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم أو بعد موته صلّي الله عليه و آله و سلّم. و أن الأئمة عليهم السلام عند الشيعة معصومون من الخطأ و النسيان كالرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم فتكون أقوالهم عليهم السلام و أفعالهم عليهم السلام و تقاريرهم عليهم السلام كأقوال و أفعال و تقارير الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم حجة علي الحكم الشرعي و لذا تجدهم يعبرون عن السنة التي هي الدليل علي الحكم الشرعي بقولهم (سنة المعصوم) و لا يخصون النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم بالذكر لكون السنة التي هي الحجة عندهم هي قول النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و قول الأئمة و فعل النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و فعل الأئمة و تقرير النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و تقرير الأئمة عليهم السلام فلا فرق بين النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و الأئمة الاثني عشر عندهم في الاطلاع علي الحكم الشرعي و انكشاف الواقع إلا أن النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم ينكشف له الواقع من طريق الوحي و الإمام ينكشف له الواقع من طريق القرآن المجيد أو من قول ما قبله من الأئمة أو من الكتاب الذي أملاه رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم للإمام علي

عليه السلام فان الكتاب المذكور كما قد عرفت أن فيه حتي ارش الخدش و قد عرفت أن الأئمة كان عندهم طريق الإلهام و الكشف لمعرفة الواقع بدليل

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 120

انهم كانوا يملون الحقائق العلمية و الأسرار الكونية من طريق انكشاف الواقع لهم بالإلهام.

ان الأئمة لم يستعملوا طريق الإلهام في الكشف عن الأحكام

و لكنهم عليهم السلام لم يصدر منهم نص علي انهم عليهم السلام استعملوا هذا الطريق أو احتاجوه في معرفة الأحكام الشرعية حتي في مستسرهم فانهم عليهم السلام كانوا في بيان الأحكام الشرعية قد أشاروا لمصدرها من القرآن الكريم أو السنة أو من الكتاب الذي خطه الإمام علي عليه السلام من إملاء رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم و لم يشيروا قط لطريق الإلهام في معرفة الأحكام و ذلك يدل علي عدم ارتكابهم له، فالشيعة ترجع للائمة عليهم السلام في معرفة الأحكام الشرعية باعتبار انها مروية لديهم عن الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم و لذا لو قال الإمام: أنا اعمل كذا لم يحمل علي الإلزام و إنما علي الأولوية و الاستحباب و الاحتياط.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 121

طريقة الشيعة في معرفة أحكام الشريعة
اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 123

إن للشيعة الاثني عشرية الامامية عند عدم التمكن من الرجوع للائمة أو الحرج عليهم في ذلك طريقتين لمعرفة الأحكام الشرعية إحداهما يسمي أصحابها بالأصوليين لرجوعهم في معرفة الحكم الشرعي للأدلة الأربعة: الكتاب و السنة و الإجماع و العقل و هي تسمي بأصول لأن الأصل ما ابتني عليه غيره و هذه الأربعة يبتني عليها معرفة الحكم الشرعي. و كيف كان فهذه الطريقة هي عبارة عن الرجوع للكتاب المجيد و عند عدم معرفة الحكم الشرعي منه يرجعون للسنة المروية عن الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم أو عن الأئمة عليهم السلام بسند يكون معتبراً عندهم. و رجوعهم للكتاب أو السنة إنما هو بالعمل بنصوصها أو ظواهرها و لا يأخذون بالسنة لو خالفت الكتاب كما لا يأخذون بسنة الأئمة لو خالفت سنة الرسول صلّي الله عليه

و آله و سلّم الثابتة عندهم و عند فقد ذلك كله يرجعون للعقل الحاكم بالبراءة أو الاحتياط أو التخيير أو الاستصحاب عند من اعتبرها من باب العقل و إلا فمن اعتبرها من باب قيام الكتاب و السنة عليها يكون رجوعه إليها من باب الرجوع للكتاب و السنة.

و أما رجوعهم للإجماع فان كان من باب الحدس لرأي المعصوم من الاتفاق فهو من باب الرجوع للعقل و إن كان من باب إحراز دخول المعصوم في جملة المجمعين فهو باب الرجوع للسنة، و توضيح ذلك و تفصيله يطلب من كتب أصول الفقه للشيعة.

طريقة استنتاج الأخباريين للحكم الشرعي

و الطريقة الثانية يسمي أصحابها بالاخباريين لعدم عملهم بالأدلة الأربعة و إنما يعملون بأصل واحد و هو الأخبار و بعضهم من جوز العمل بالكتاب أيضاً و لم يعملوا بالأصول الأربعة بأجمعها فان الكثير منهم منع من العمل بأصل البراءة حتي في الشبهة الوجوبية، و طريقتهم في معرفة الأحكام الشرعية هي الرجوع للأخبار و عدم رجوعهم للإجماع و للعقل

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 125

بل و عند الكثير منهم عدم حجية الكتاب لاختصاص فهمه بمن نزل عليهم و هم الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السلام حتي حصر الكثير منهم الحجية بالأخبار المودوعة في الكتب الأربعة: الكافي و من لا يحضره الفقيه و التهذيب و الاستبصار و غيرها من الكتب المعتبرة باعتبار أن البيان للأحكام قد كمل بها و لذا غاب الإمام الثاني عشر عليه السلام آخذين بظواهرها من دون فرق بين الصحيح منها و بين الضعيف و بين الشاذ الذي لم يعمل به الأصحاب و بين المشهور المعمول به و بين المرسل و بين المسند بناؤهم علي أصالة الحرمة في

الأشياء المحتملة حرمتها بل الكثير منهم بناؤه علي أصالة الوجوب في الأشياء المحتمل وجوبها و ذلك لاعتبارهم الاحتياط في الشبهات و منعوا من الاجتهاد و حرموا العمل بالظن الحاصل بالاجتهاد و انه ليس بحجة و منعوا من دراسة علم أصول الفقه باعتبار انه طريق للاجتهاد و تسمي هذه الفرقة من الشيعة بالمحدثين و الأخباريين.

من نقح طريقة الأخباريين

و عمدة من نقح طريقتهم المذكورة الميرزا محمد أمين الاسترآبادي في فوائده المدنية و من مشاهير علمائهم السيد نعمة الله الجزائري. و صاحب الحدائق رحمه الله.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 126

و قويت هذه الطريقة في القرن الحادي عشر الهجري و الثاني عشر و أوائل الثالث عشر و لكن الطريقة الأصولية تغلبت عليها بمواقف الوحيد البهبهاني المتوفي سنة 1206 ه ثمّ من بعده تلميذه جدنا الشيخ جعفر كما ذكرته كتب التاريخ.

عدم عمل الشيعة بالقياس

و لا تعمل الشيعة بالقياس و أنكرته اشد الإنكار لأن الدين قد كمل أيام الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم إلا أن القسم الكثير منه قد أودعه الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم عند الأئمة عليهم السلام أما لعدم الابتلاء بالوقائع المحكومة به في ذلك العصر أو لعدم المصلحة في إظهاره في ذلك الوقت و إلي زمن الغيبة الصغري قد كمل ظهوره و تم إخراجه. و بعضهم يري بأن بعض أحكام الأشياء اقتضت المصلحة إخفاءها إلي زمن ظهور الحجة عليه السلام أو لأن وقائعها لا توجد إلا ذلك الوقت و عند ظهوره عليه السلام يظهر تلك الأحكام.

و بلغ إنكار الأئمة عليهم السلام للعلم بالقياس و عدم الأخذ بالرأي أن يقول الإمام الصادق عليه السلام لأبان بن تغلب المتوفي سنة 141 ه (السنة إذا قيست محق الدين).

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 127

الإسماعيلية و البهرة و الآغاخانية

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 129

القسم الثاني من الامامية هو القسم المسمي بالاسماعيلية و هم الذين يقولون بإمامة إسماعيل بعد إمامة أبيه جعفر الصادق عليه السلام و من بعد إسماعيل ولده محمد ثمّ في أعقابه، و لا يقولون بإمامة الإمام موسي الكاظم عليه السلام الأخ لإسماعيل لأنه لا إمامة لأخوين عندهم بعد الحسن و الحسين.

و تتلخص عقيدتهم في الإمامة بأنه لا بد من وجود إمام معصوم في كل وقت من نسل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام و فاطمة عليها السلام منصوص عليه من الإمام الذي قبله من والد إلي ولد حتي تقوم القيامة و هم علي طائفتين الأولي المسماة بالمستعلية و البهرة و تبدأ الإمامة عندهم من الإمام علي عليه السلام ثمّ لابنه الحسن عليه السلام

ثمّ للحسين عليه السلام ثمّ في أعقابه الطائفة الثانية المسماة بالنزارية و المسماة بالآغاخانية فالإمام بعد الإمام علي عليه السلام هو الحسين و لا يعدون الإمام الحسن عليه السلام في عداد الأئمة و اتفقت الطائفتان علي إمامة الحسين ثمّ لابنه علي ثمّ لابنه

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 130

محمد الباقر ثمّ لابنه جعفر الصادق ثمّ لابنه إسماعيل ثمّ في أعقابه، و يقولون أن إسماعيل لم يمت قبل أبيه الإمام جعفر الصادق عليه السلام و انه قد رؤي بالبصرة بعد خمس سنوات من موت أبيه. و ان أباه الإمام الصادق عليه السلام أخفي وجوده و أظهر موته خوفاً عليه من الخلفاء العباسيين حيث كانت دلائل الإمامة ظاهرة عليه و استتر سنة 145 ه حتي مات سنة 158 ه و لكن الشيعة الاثني عشرية يعتقدون بموت إسماعيل أيام أبيه سنة 143 ه و انه أظهر إمامته خوفاً علي ولده موسي عليه السلام لعلمه بموت إسماعيل قبله و بقاء موسي بعده فإذا أظهر إمامة إسماعيل و قد مات قبل الإمام لم يبق للأعداء الخوف من الإمام موسي عليه السلام حتي يقتلوه.

وقت ظهور المذهب الإسماعيلي

و قد ظهر هذا المذهب بواسطة الدولة الفاطمية في المغرب التي أسسها سنة 297 ه إمامهم المهدي عبد الله بن الإمام الحسين في الجزائر و اتخذ تونس عاصمة له و في سنة 358 ه افتتح مصر إمامهم المعز لدين الله الفاطمي بن الإمام المنصور ابن الإمام القائم بأمر الله بن الإمام المهدي المتقدم ذكره بقيادة جوهر الصقلي و طريقتهم في معرفة الأحكام الشرعية هي الأخذ بما في كتاب دعائم الإسلام طبع في مصر، و كتاب الاقتصار طبع في دمشق و كتاب الهمة في آداب اتباع الأئمة طبع

في مصر و الجميع من تأليف أبي حنيفة نعمان بن أبي

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 131

عبد الله محمد بن منصور المغربي المتوفي سنة 367 ه و ليس لهم فقه سوي ما دونه لهم هذا الرجل و قد عينه القائم بأمر الله الفاطمي الخليفة الثاني قاضياً و بقي يشغل هذا المنصب إلي زمن الخليفة الرابع المعز لدين الله فجعله قاضي القضاة وداعي الدعاة ثمّ تولي هذا المنصب من بعده أولاده و المهم من هذه الكتب عندهم هو دعائم الإسلام فهو القانون الأساسي لهم و لا يزال كذلك حتي اليوم عند طائفة البهرة منهم و هو يشتمل علي مرسلات عن الإمام الصادق عليه السلام و آبائه عليهم السلام تطابق فقه الامامية الاثني عشرية. و يحكي أن يعقوب بن كلس وزير العزيز لدين الله احضر في سنة 380 ه جماعة الفقهاء و أهل الفتيا و اخرج لهم كتاباً في الفقه قد عمله و قال هذا عن الإمام العزيز بالله عن آبائه الكرام و هذا الكتاب يعرف بالرسالة الوزيرية و يعتمدون في تاريخهم علي كتاب افتتاح الدعوة طبع في بيروت، هذا و قد أسس الفاطميون جامع الأزهر لتدريس هذا المذهب و كان التدريس لمذهب مالك و الشافعي في الجامع العتيق و بذلوا قصاري الجهد لإحلال المذهب الإسماعيلي محلها.

و استمرت الخلافة الفاطمية في مصر حتي عهد المستنصر بالله.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 132

انشقاق الدولة الفاطمية

و بعد وفاته سنة 487 ه وقع النزاع بين ولديه الأكبر نزار و بين الأصغر منه المستعلي بالله فبويع الثاني في مصر و أدي ذلك إلي انقسام الإسماعيلية إلي فرقتين المستعلية و هي التابعة للمستعلي و هي التي قامت أئمتها بالخلافة في مصر إلي أن

جاء صلاح الدين الأيوبي و أزال الدولة الفاطمية و اتلف جميع ما أمكنه إتلافه من الآثار العلمية لهذه الدولة فزال القضاء بالمذهب الإسماعيلي وحل مكانه القضاء بالمذهب الشافعي إلي أن جاء الظاهر بيبرس فعدد القضاة من المذاهب الأربعة الحنفية و المالكية و الشافعية و الحنبلية، و توجد هذه الفرقة فعلًا في الهند و باكستان و اليمن و الشرق الأقصي و انجلترا و تسمي فعلًا هذه الفرقة بالصورتية نسبة لبلد صورة في الهند و بالبهرة و معناها بالهندية التجار لأن عمل اغلبهم التجارة و هم يؤمنون بوجود إمام مستور انتقلت له الإمامة من المستعلي بالله بالتوارث ولداً بعد ولد.

و له داعٍ مطلق ظاهر و هو اليوم السلطان الدكتور محمد برهان الدين و قد تبادلنا معه الزيارة و الطعام في بيتنا و بيته عدة مرات و حضرنا المؤتمر الإسلامي الذي عقده في بومبي و كان شخصية فذة يتمتع بأخلاق عالية و أدب راقٍ.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 133

و يأتي عندهم بعد مرتبة الداعي المطلق مأذون الدعوة و هو اليوم سيدي خزيمة قطب الدين و قد تناولنا معه الطعام في بيتنا و كان رجلًا يجمع الخصال الحميدة في منطق بليغ و أدب جم و مرتبته هي مرتبة أخذ العهد و الميثاق و تأتي بعدها مرتبة المكاسر

و هي مرتبة جذب الأنفس المستجيبة.

و مما يعتمدون عليه في عقائدهم كتاب تاج العقائد طبع في بيروت.

الفرقة الآغاخانية

و الفرقة الثانية من الإسماعيلية هي الفرقة المسماة بالنزارية و هي التي تسمي بالآغاخانية فعلًا و هي التابعة لنزار بن المستنصر فقد خرج من مصر مع أخيه عبد الله بعد أن بايع أهل مصر أخاه المستعلي إلي الاسكندرية و بايعه أهلها و لقبوه بالمصطفي لدين

الله و قامت الحرب بين الخليفتين الأخوين انتهت بانتصار المستعلي فانتقلت الفرقة النزارية من مصر إلي فارس و جعلت المقر قلعة ألموت.

و قد أيد الدعوي النزارية و مهد لها الأمور الحسن بن صباح بعد أن فلت من أيدي خصمائه اتباع المستعلي فكان يدعو لإمامة نزار بعد أبيه و لبطلان خلافة المستعلي في الشام و أطرافها و خوزستان و نواحيها و أصفهان و توابعها، ثمّ

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 134

انتقلت هذه الفرقة من إيران إلي الهند لسوء التفاهم الذي وقع بين إمامها حسن علي شاه الحسيني و بين سلطان إيران محمد بن علي علي شاه و اتخذ بومباي مقراً له و لأتباعه و قد نقل لي مشايخنا الكرام قدس سرهم ان آقا خان الثاني علي بن حسن شاه المذكور نقل جثمانه بعد أن حنط في بومباي إلي كربلاء. و ان زوجته عالية شمس الملك القاجارية ابنة نظام الدولة رئيس وزراء ايران في عهد فتح علي شاه سلطان إيران قد أتت بابنها آقا خان الثالث محمد شاه و هو صغير السن و معه جماعة من اتباعه النزارية فحلقت رأسه تحت ميزاب الذهب في جانب الصحن الشريف القبلي ثمّ أتت به لدارنا المعروفة بدار كاشف الغطاء و طلبت كتاباً فقهياً لدراسة ولدها المذكور فقدم لها جدي العباس الشيخ علي كتاب الشرائع للمحقق. و كان بخط جيد في ورق من الترمة.

و تذهب هذه الفرقة إلي أن الإمامة في ذرية نزار نسلًا بعد نسل حتي تقوم القيامة و إن إمامهم آقا خان الرابع من ذريته إلا أن أحكامهم و انظمتهم قد تطورت بتطور الزمن و أصبحت لا تتفق مع تنظيماتها السابقة و لا يعدون الإمام الحسن عليه السلام في

عداد أئمتهم بل ينتقلون من أمير المؤمنين علي عليه السلام إلي ولده الإمام الحسين عليه السلام بخلاف المستعلية.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 135

الزيديّة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 137

الفرقة الثانية من فرق الامامية هي الفرقة المسماة بالزيدية و تسمي بمذهب الشيعة و مذهب أهل البيت كما تقدم في تسمية المذهب الجعفري بذلك، و هم يفترقون عن الفرقة الجعفرية في الإمام الخامس محمد الباقر عليه السلام فالجعفرية يقولون بامامته و الزيدية يقولون بامامة أخيه زيد بن علي بن الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و قد ولد زيد سنة 76 ه و استشهد سنة 122 ه و يقولون بامامته بعد إمامة أبيه عليه السلام و إمامة الحسن و الحسين و أبيهما علي بن أبي طالب عليه السلام ثمّ كل فرد فاطمي من ذرية الحسن و الحسين عليهما السلام متدين خارج بالسيف تكون فيه الإمامة بشروطها من العلم الباهر و الفضل الظاهر و الشجاعة و السخاء و جودة الرأي بلا تردد و القوة علي تدبير الأمور و الورع المشهور، و كان زيد يتمتع بشخصية علمية دينية أوجبت أن يلتف حوله رهط من أهل العلم و الفقه و كان من تلاميذه أبو حنيفة حضر عنده سنتين و يعتمدون علي المجموع الفقهي المنسوب إليه و شرحه الروض النضير لمؤلفه شرف الدين السياغي المتوفي سنة 1221 ه و تممه السيد عباس

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 138

بن احمد من آل إبراهيم من علماء القرن الرابع عشر و قد طبع معه، و لما كان هذا المجموع غير مستوف لشتات المسائل الفقهية. بحيث يستغني به عما عداه اعتمدوا في الفقه علي يحيي بن الحسين بن القاسم

الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثني بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و علي كتبه في الفقه مثل الأحكام و المنتخب و الفنون و له في الأصول و غيرها كتاب اسمه المجموع. و عندهم الاجتهاد شرط في أئمتهم و يعدون فقهاءهم من أهل مدرسة الرأي و هذا يحيي الذي أسس حكومة أهل البيت الزيدية في اليمن سنة 288 ه و كان هو الإمام الأول في صنعاء و ذلك عن طلب أهل اليمن له من المدينة المنورة و لا تزال الإمامة في أبنائه إلي هذا الزمان، و عليه تخرج فقهاء الزيدية و أئمتهم و قلدوه في آرائه حتي لقبوا بالهادوية و لم يتعدوها فهو عندهم كأبي حنيفة و الشافعي من أئمة أهل السنة، و أدلته في الفقه أدلتهم، من أراد

التوسع في بحث الأدلة فعليه بكتاب (الأنوار في أدلة الأزهار) لمؤلفه الإمام احمد بن يحيي المتوفي سنة 841 ه و كتاب (البحر الزاخر) و تخريجه كتاب (الغيث المدرار) و غيرها، و كتاب (التجريد) للإمام المؤيد بالله احمد بن الحسين الهاروني و كتاب (الشفاء) للأمير الحسين بن بدر الدين.

و يتبعون في عقيدتهم مذهب الاعتزال و هم الآن في اليمن و يقال انه يوجد منهم في افريقية الشمالية و في طبرستان.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 139

الحنفية

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 141

و الثاني من المذاهب: مذهب الحنفية و هم الذين يعملون بمذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه المولود سنة 80 ه بالكوفة تفقه فيها و توفي في بغداد سنة 150 ه و قد روي عنه تلاميذه في الحديث مسانيد عديدة بلغت علي ما

يحكي خمسة عشر مسنداً منها مسند القاضي أبي يوسف يعقوب المتوفي سنة 182 ه و مسند محمد بن الحسن الشيباني المتوفي سنة 189 ه و غيرها جمعها قاضي القضاة محمد الخوارزمي المتوفي سنة 655 ه في كتاب واحد أسماه (جامع المسانيد). لكن ابن خلدون يذكر في مقدمته أن الأحاديث المروية عن أبي حنيفة تبلغ سبعة عشر حديثاً أو نحوها.

و لأبي حنيفة كتاب أسماه بالفقه الأكبر و هو رسالة صغيرة في العقائد شرحه ملا علي القاري طبع مع الشرح في مصر.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 142

و كان اكثر تلقيه لعلم الفقه من شيخه حماد بن سليمان المتوفي سنة 120 ه تلميذ إبراهيم بن يزيد النخعي المتوفي سنة 96 ه تلميذ علقمة بن قيس، و علقمة تلميذ الإمام علي عليه السلام. و قد قضي اثنتين و خمسين سنة من عمره في العصر الأموي و الباقي في العصر العباسي و لما أسس المنصور بغداد كان أبو حنيفة من العلماء الذين استقدمهم إليها.

طريقة أبي حنيفة في استنباط الأحكام

و كانت طريقته في الاستنباط للأحكام الشرعية علي ما نقل عنه من الأخذ بكتاب الله فإذا لم يجد فيه أخذ بسنة رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم المتواترة أو ما اتفق علماء الأمصار علي العمل بها أو ما رواها صحابي أمام جمع منهم و لم يخالف فيها أحد فإذا لم يجد ذلك أخذ باجماع الصحابة فإذا لم يجد ذلك اجتهد و عمل بالقياس فإذا قبح القياس عمل بالاستحسان. و كان تشدده في عدم العمل بالسنة سبباً في كثرة أخذه بالقياس و الاستحسان و الاجتهاد و الرأي.

و قد تتلمذ علي الإمام جعفر الصادق عليه السلام و علي أبيه الإمام محمد الباقر عليه السلام

و علي زيد بن علي أخي الباقر و قد أكثر تلميذاه أبو يوسف و محمد الشيباني من الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في مسنديهما لأبي حنيفة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 143

الوحشة بين أبي حنيفة و بين فقهاء الكوفة

و صارت وحشة و نفرة بين أبي حنيفة و بين عظماء فقهاء أهل الكوفة كسفيان بن سعيد الثوري المولود سنة 97 ه المتوفي سنة 161 ه لأن أبا حنيفة من أهل الرأي و سفيان من أئمة الحديث. و كشريك بن عبد الله النخعي قاضي الكوفة من قبل المهدي العباسي المولود سنة 95 ه و المتوفي سنة 177 ه و يعزي تنافرهما لسببية تنافر الأقران. و كمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي المولود سنة 74 ه و المتوفي سنة 148 ه و كان من أصحاب الرأي و صار قاضياً عند بني أمية و بني العباس و هو الذي يقول الثوري فيه و في ابن شبرمه (فقهاؤنا ابن أبي ليلي و ابن شبرمه) و يعزي تنافرهما إلي سببية المخالفة بينهما في كثير من المسائل فطالما ابن أبي ليلي يقضي. و يفتي أبو حنيفة بخلافه.

أقسام مسائل الفقه عند الحنفية

و مسائل الفقه عند الحنفية ثلاثة أقسام:

الأول الأصول: و هي المسائل التي رواها الثقات عن أبي حنيفة أو أحد تلاميذه كأبي يوسف و زفر و محمد بن حسن الشيباني و غيرهم ممن سمع من نفس أبي حنيفة و تسمي

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 144

بظاهر الرواية و قد جمعها محمد بن الحسن المذكور في كتب ستة تعرف بكتب ظاهر الرواية أو مسائل الأصول و سيجي ء إن شاء الله ذكرها. و عن هذه الكتب أخذت جمعية مجلة الأحكام العدلية اكثر مسائلها المدونة فيها.

الثاني النوادر: و هي المسائل التي رواها الموثوق بهم عن أبي حنيفة أو عن أصحابه و لكن لم تشتهر روايتها و تسمي بكتب النوادر أو مسائل النوادر ككتاب أمالي محمد في الفقه.

الثالث الفتوي: و هي المسائل التي أفتي بها مجتهدو الحنفية

المتأخرون فيما لم يرو فيه رواية عن أبي حنيفة و لا عن أصحابه و لكن كانت الفتوي تخريجاً علي مذهبه و يقال أن أول كتاب عرف في هذا القسم اعني فتاوي الحنفية هو كتاب النوازل لأبي ليث السمرقندي المتوفي سنة 373 ه.

تلاميذ أبي حنيفة الأربعة

و قد انتشر مذهب أبي حنيفة بواسطة تلاميذه الأربعة (أحدهم) يعقوب المعروف بأبي يوسف المتوفي سنة 182 ه فانه لما ولي هارون الرشيد القضاء لأبي يوسف سنة 170 ه لم يقلد القضاء هارون إلا لمن أشار إليه أبو يوسف و اعتني به قال ابن حزم (مذهبان انتشرا في بدء امرهما بالرئاسة و السلطان

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 145

الحنفي بالمشرق و المالكي بالأندلس) و المعروف أن أبا يوسف أول من صنف الكتب علي مذهب أبي حنيفة و لم يصل إلينا حسب اطلاعنا من كتبه إلا رسالته في الخراج كتبها للرشيد و قد طبعت بمصر و كتاب اختلاف أبي حنيفة و أبي ليلي و قد نقله الشافعي هو و كتاب سير الاوزاعي في كتاب ألام و قد ناقش الشافعي الكثير من أقوال أبي يوسف في كتابه ألام المذكور.

و (ثانيهم) تلميذه زفر بن الهذيل الكوفي.

و (ثالثهم) تلميذه محمد الشيباني و إليه يرجع الفضل في تدوين المذهب الحنفي و له كتب ستة تسمي بكتب ظاهر الرواية. المبسوط. و الجامع الكبير. و الجامع الصغير. و السير الكبير. و السير الصغير، و الزيادات قد جمعت في هذه الستة بعد حذف المكرر منها في كتاب الكافي لأبي الفضل المعروف بالحاكم المتوفي قتلا سنة 334 ه ثمّ شرح الكافي السرخسي في كتابه المبسوط. و كان بين محمد الشيباني و بين أبي يوسف وحشة.

و (رابعهم) الحسن اللؤلؤي الكوفي و كان هؤلاء

الأربعة نسبتهم لأبي حنيفة نسبة التلاميذ لأستاذهم لا نسبة المقلدين إلي مرجعهم لاستقلالهم بما به يفتون و قد يخالفونه في الفتوي.

و عن طبقات الحنفية أن أول من كَتَب، كُتب أبي حنيفة أسد بن عمرو. و عنها أيضاً انه قيل: أن نوح بن أبي مريم عرف بالجامع لأنه أول من جمع فقه أبي حنيفة و ينسب إلي أبي حنيفة انه قال (رأي هو احسن ما قدرت عليه فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولي بالصواب. و الله لا ادري أن قولي هو الحق فقد يكون الباطل الذي لا أشك فيه) و يري أبو حنيفة و أصحابه رأي المرجئة من أن المعاصي مهما كان نوعها لا تمنع من الإيمان كما لا تنفع من الكفر الطاعات. و المعروف أن الغالب علي الحنفية أنهم يتبعون في عقائدهم مذهب أبي منصور الماتريدي و ليس بين مذهب الماتريدي و بين مذهب الاشعري خلاف إلا في بضع عشرة مسألة و الباقي من الحنفية أشعريون علي قلة جداً. و يغلب وجود المذهب الحنفي بين أهل السنة فعلا في العراق و الشام و الأتراك العثمانيين و الألبان و سكان بلاد البلقان و الأفغان و بلاد القوقاز و الهند.

الطعن في مذهب أبي حنيفة

و قد طعن الظاهرية بالمذهب الحنفي بأنه فلسفة فارسية. و رمي ابن حزم أبا حنيفة و اتباعه بالكلام القارص فوصف

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 147

أقوال أبي حنيفة و اتباعه بالكذب و بالكلام الأحمق البارد. و سدد سهامه الخطيب البغدادي في تأريخه بعبارات خشنة عليه و علي اتباعه. و قالت مجلة الأحكام العدلية عن المذهب الحنفي بخصوصه في تقريرها الذي رفعته للصدر الأعظم عالي باشا سنة 1286 ه بأن مذهب الحنفية قام فيه مجتهدون كثيرون متفاوتون في

الطبقة. و وقع فيه اختلاف كثير و مع ذلك فلم يحصل فيه تنقيح كما حصل في فقه الشافعية.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 149

المالكية

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 151

الثالث من المذاهب: مذهب المالكية و هم اتباع مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي و يحكي عن الواقدي انه من الموالي و والده المذكور غير أنس الصحابي المعروف ولد بالمدينة سنة 93 ه و أقام بها و لم يرحل عنها و مات بها سنة 179 ه أي بعد وفاة أبي حنيفة بتسع و عشرين سنة و قبل وفاة أبي يوسف بثلاث سنين.

و شيخه في الفقه الإمام جعفر الصادق عليه السلام و ربيعة الرأي التابعي و سمع الحديث من نافع مولي ابن عمرو الزهري و كان يجلس في مسجد رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم لتدريس الفقه و من تلاميذه الشافعي و عبد الله بن وهب و محمد بن حسن الشيباني و أسد بن الفرات و كان لتلاميذه اجتهادات تخالف فتاويه إلا أنها لا تخرج عن دائرة قواعده. و كان مالك يعتمد في

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 152

فتاويه علي الكتاب ثمّ السنة ثمّ عمل أهل المدينة. و قد يرد الحديث إذا لم يعمل به أهل المدينة، ثمّ بقول الصحابي إذا لم يستند للرأي ثمّ بالقياس. و نسب إليه العمل بالمصالح المرسلة و الاستحسان و الاستصحاب و الذرائع و العرف و العادة. و انتشر مذهبه في شمال افريقية و الاندلس و لمالك كتاب اسمه الموطأ و معناه (الممهد) و يحكي عن ابن فهر انه لم يسبق أحد مالكاً بهذا الاسم و كان من ألف في زمانه يسمي كتابه بالجامع أو بالمصنف

أو بالمؤلف و رواه عنه الكثيرون ممن أخذوه عنه و كان في رواياتهم اختلاف من حيث الزيادة و النقصان إلا أنه لم يصل إلينا حسب اطلاعنا منها إلا اثنان رواية يحيي الليثي التي شرحها الزرقاني و السيوطي و رواية محمد بن حسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة و حكي ان ما في الموطأ من الأحاديث سبعمائة حديث و يقال أن التي صحت عنده منها نحو خمسمائة حديث و عادته في هذا الكتاب أن يذكر الأحاديث و يضم إليها جملة من فتاوي بعض الصحابة و التابعين و يضيف إليها أحياناً ما يؤدي إليه اجتهاده و ينقل عن مالك انه قال (إنما أنا بشر اخطئ و أصيب فانظروا في رأيي كل ما وافق الكتاب و السنة فخذوا به و ما لم يوافقهما فاتركوه).

و اشهر الكتب في المذهب المالكي هي المدونة لتلميذه أسد بن فرات و التي أخذها سحنون و رتبها و نشرها باسم المدونة الكبري.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 153

المطارحة التي دارت بين مالك و بين الليث

و قد دارت بين مالك و بين الليث بن سعد فقيه مصر مطارحات نقل بعضها ابن القيم فكان مالك يري أن عمل أهل المدينة حجة يؤخذ به و ان الحديث يرد إذا لم يعمل به أهل المدينة. و قد رد عليه الليث بأن المدينة و إن كانت منزل المهاجرين و الأنصار إلا أنهم قد خرجوا عنها للجهاد في سبيل الله فجندوا الأجناد منها و كان في كل جند منهم طائفة يعملون بالكتاب و السنة و يجتهدون برأيهم.

سبب انتشار مذهب مالك

و سبب انتشار مذهب مالك في الأندلس هو أن يحيي بن يحيي بن كثير الأندلسي قد صار مالكياً بعد أن كان أوزاعياً و قد رجعت الفتوي إليه و عظم أمره فكان المنتصر لم يقلد أحداً منصب القضاء إلا باشارته. و سبب انتشار مذهب مالك في افريقية هو ان سحنون بن سعيد لما ولي القضاء في افريقية نشر مذهب مالك ثمّ المعز بن باديس فانه حمل جميع أهل افريقية علي التمسك بمذهب مالك و ترك ما عداه من المذاهب.

و نشر مذهبه في مصر عبد الرحيم بن خالد و عبد الرحمن

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 154

بن القاسم إلي أن قدم الشافعي إلي مصر سنة 198 ه فتبعه جماعة من أعيانها فقوي مذهب الشافعي إلي ان قدم القائد جوهر من افريقية سنة 358 ه و بني مدينة القاهرة و كان شيعياً فانتشر مذهب التشيع في مصر و لم يبق بمصر مذهب سواه إلي أن جاء صلاح الدين بن أيوب سنة 564 ه و أزال القضاء الشيعي فاختفي المذهب الشيعي و ظهر المذهب المالكي. و الشافعي و كان صلاح الدين المذكور علي عقيدة الأشعريين و أوقف عليهم في مصر مدرسته الناصرية.

و

المعروف أن المالكية يتبعون مذهب الأشعري في عقائدهم كما أنهم يسمون بأصحاب الحديث. و يوجد المذهب المالكي فعلا بنحو الغلبة في المغرب الأقصي و الجزائر و تونس و طرابلس و في السودان و الصعيد و الكويت.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 155

الشافعية

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 157

و الرابع من المذاهب: مذهب الشافعية و هم اتباع أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع و قد أنهي بعضهم نسبه لعبد المطلب بن عبد مناف جد النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و قيل أن جده شافع كان مولي لأبي لهب بن عبد المطلب ولد بغزة سنة 150 ه و توفي في مصر سنة 204 ه و بعد سنتين من ميلاده حملته أمه إلي موطن آبائه بمكة و تلمذ علي يد شيخ الحرم و مفتيه مسلم بن خالد الزنجي و سفيان بن عيينة و رحل إلي المدينة و تلمذ علي مالك صاحب الموطأ و درس عليه الموطأ و علي إبراهيم بن محمد بن يحيي المدني تلميذ الإمام الصادق عليه السلام و أكثر الشافعي من الرواية عنه. ثمّ ذهب لليمن و قد بلغ سن الثلاثين للقيام بعمل يساعده علي دهره و اتهم هناك بالتشيع فأمر هارون الرشيد بحمله إليه سنة 148 ه و جي ء به للرشيد و هو بمدينة الرقة و بعد ذلك أمر باطلاقه و اتصل بمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ثمّ رجع لمكة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 158

المكرمة ثمّ عاد للعراق مرة ثانية سنة 195 ه زمان خلافة عبد الله الأمين ثمّ عاد للحجاز، و في سنة 198 ه قدم العراق مرة ثالثة و منه

سار إلي مصر و نزل بالفسطاط و لم يزل بها حتي مات سنة 204 ه. و في مقدمة طبقات الشافعية انه لما قتل الإمام موسي بن جعفر عليه السلام في بغداد خرج الشافعي من العراق إلي مصر.

طريقة الشافعي في استنباط الأحكام الشرعية

و طريقته في الاستنباط أن يأخذ بظواهر القرآن إلا إذا قام الدليل علي عدم إرادة ظاهرها و بعده بالسنة و كان يعمل بخبر الواحد الثقة الضابط و لو لم يكن مشهوراً خلافاً للحنفية و لا موافقاً لعمل أهل المدينة خلافاً لمالك ثمّ بعد ذلك يعمل بالإجماع و عدم الخلاف ثمّ بعد ذلك يعمل بالقياس إذا كانت علته منضبطة، ورد اشد الرد علي عمل الحنفية بالاستحسان و ألف فيه كتاباً سماه أبطال الاستحسان ورد عمل المالكية بعمل أهل المدينة و ابطل العمل بالمصالح المرسلة و أنكر الأخذ بقول الصحابي لأنه يحتمل أن يكون عن اجتهاد اخطأ فيه و رفض الحديث المرسل إلا مراسيل ابن المسيب لأنه يري أن القوم متفقون علي صحتها.

اشهر تلاميذ الشافعي

و من اشهر تلاميذه و أصحابه أبو ثور إبراهيم فقد أخذ

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 159

من الشافعي و صار له مذهب خاص و اتباع لكنه لم يقدر له البقاء. و منهم احمد بن حنبل إمام الحنبلية. و الحسن الزعفراني الذي يروي عنه البخاري و غيره من أئمة الحديث إلا مسلماً. و الحسين الكرابيسي الذي تجنب الناس رواية الحديث عنه. و احمد بن يحيي البغدادي المتكلم الذي لازم الشافعي في بغداد ثمّ صار من أصحاب داود و تبعه في رأيه. و يوسف بن يحيي المصري الذي مات مسجوناً ببغداد في فتنة خلق القرآن سنة 231 ه. و غيرهم. و من أهم كتبه التي وصلت إلينا هو كتاب ألام في الفقه الذي أملاه علي الربيع المرادي و طريقته فيه أن يذكر المسألة و دليلها و يرد علي خصمه فيها و الجزء السابع منه اشتمل علي مواضيع مختلفة و رسائل متعددة.

نسبة كتاب الشافعي لغيره

و يحكي عن الغزالي في إحياء العلوم. و عن أبي طالب المكي في كتاب قوت القلوب ان كتاب ألام لم يصنفه الشافعي و إنما صنفه تلميذه أبو يعقوب البويطي ثمّ زاد عليه الربيع بن سليمان و تصرف فيه و أظهره بهذا المظهر. و كان لمذهب الشافعي شيوع في مصر و الشام و ما وراء النهرين و بعض بلاد العرب. و كذا في الحرمين قبل ظهور

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 160

مذهب الوهابي بالحجاز و ينقل عن الشافعي انه قال (لا تقلدوني و إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه و اعلموا انه مذهبي)

النزاع بين الشافعية و غيرهم

و عن المقدسي أن سجستان و سرخس كانت تقع فيهما عصبيات بن الشافعية و الحنفية تراق فيها الدماء و يدخل بينهم السلطان.

و عن المقدسي في احسن التقاسيم قال: رأيت أصحاب مالك يبغضون الشافعي و يقولون: أخذ العلم من مالك ثمّ خالفه و المعروف انه يتبع غالب الشافعية مذهب أبي الحسن الأشعري إلا ما شذ.

و يغلب وجود هذا المذهب فعلا في الريف المصري و فلسطين و بلاد الأكراد و بلاد ارمينية.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 161

الحنبلية

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 163

و الخامس من المذاهب: مذهب الحنبلية و هم أتباع احمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي ولد ببغداد سنة 164 ه. و توفي ببغداد سنة 241 ه. و هو الذي يقول في حقه الشافعي خرجت من بغداد و ما خلفت رجلا افضل و لا افقه من احمد بن حنبل صنف المسند الذي يحتوي علي نيف و أربعين ألف حديث و رتبه بحسب السند لا بحسب أبواب الفقه فجمع لكل راوٍ أحاديثه و قد توفي قبل أن ينقحه و يهذبه و قد رواه عنه ابنه عبد الله بعد أن نقحه و هذبه و اتهم بأنه قد أضاف للمسند بعض الأخبار الموضوعة كما أن بعضهم ذكر أن ابنه احمد بن عبد الله بن احمد بن حنبل و أبو بكر القطيفي أضافا له بعض الزيادات و له في الأصول كتاب طاعة الرسول و كتاب الناسخ و المنسوخ و كتاب العلل. و هو الذي امتنع من القول بخلق القرآن رغم إصرار المأمون علي خلقه و إجابة العلماء له و بقي مصراً علي ذلك من سنة 218 ه

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 164

و هي السنة التي دعا

فيها المأمون العلماء للقول بخلق القرآن إلي سنة 233 ه السنة التي أبطل المتوكل فيها تلك الدعوة و ترك للناس حرية الرأي في خلق القرآن و عدمه. و درس الحديث علي هيثم بن بشير و علي الإمام الشافعي و لم يكتب في الفقه إلا ما أجاب به عن بعض المسائل و المنقول عنه أنه حرم علي تلاميذه كتابة الفقه إلا أنهم لم يستجيبوا له فقد كتب تلميذه عبد الملك بن مهران و غيره الفقه عنه و جمعوا فتاويه و أقواله الفقهية و جعلوها أساساً لمذهبه الذي نسبوه إليه.

طريقة احمد بن حنبل في استنباط الأحكام الشرعية

و طريقته في الاستنباط أن يأخذ بالنص كتاباً أو سنة حتي المرسل و الضعيف منها و يقدم الكتاب علي السنة عند التعارض في الظاهر ثمّ ان لم يجد النص أخذ بما يفتي به الصحابة و لم يختلفوا فيه. و عند الاختلاف بين الصحابة في المسألة رجح قول من كان اقرب للكتاب أو السنة فان لم يظهر له ما هو الأقرب حكي الخلاف. و ينقل عنه انه يأخذ بالحديث المرسل و يقدمه علي القياس و الرأي إذا لم يكن ما يعارضه شي ء من الكتاب أو السنة أو قول صحابي أو اتفاق علي خلافه و إلا استعمل القياس و الاستصحاب و الذرائع و المصالح المرسلة و كانت القاعدة عنده في العقود و الشرائط هو قاعدة الإباحة إلا إذا قام الدليل علي المنع.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 165

أشهر أصحاب احمد

و من أشهر أصحابه احمد بن هاني الأثرم. الذي روي عنه الفقه و الحديث. و عبد الملك الذي كتب الفقه عنه و ولداه صالح الذي ورث الفقه عن أبيه و ولي القضاء علي خلاف سنة أبيه. و عبد الله الذي ورث الحديث عن أبيه و روي مسند أبيه و اتهمه بعضهم بأنه قد أضاف لمسند أبيه بعض الأخبار الموضوعة.

و يحكي أن محمداً بن جرير الطبري صاحب التفسير و التاريخ ألف كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء و لم يذكر احمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال لم يكن فقيهاً و إنما كان محدثاً.

و قد انتشر هذا المذهب في بعض بلاد العراق. و ما وراء النهرين. و ظهر في مصر متأخراً و كان أول من ولي قضاء الحنابلة بدمشق الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن احمد بن قدامة المقدسي ثمّ

الصالحي المتوفي سنة 682 ه. و الذي هو شيخ احمد بن تيمية. و قد قام ابن تيمية و ابن القيم بنشر هذا المذهب و ناضلا عنه و حرضا الناس علي تعليمه و أخذت به نجد في أول عهد الوهابيين ثمّ ساد جميع بلاد الحجاز في هذا العصر.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 166

و حكي عن ابن حنبل انه قال (انظروا في أمر دينكم فان التقليد لغير معصوم مذموم) و استفحل المذهب الحنبلي في بغداد في القرن الرابع حتي إذا مر بهم شافعي أغروا به العميان فضربوه بعصيهم حتي يكاد يموت. و عن طبقات السبكي أن اكثر فضلاء متقدمي الحنابلة أشاعرة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 167

المذاهب المنقرضة

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 169

إن المذاهب الإسلامية التي قدر لها البقاء حتي الآن بمعني أنها لا يزال لها أتباع يسيرون عليها حتي هذا الوقت و اتسع أفقها و كثر أتباعها هي المذاهب المتقدمة الخمسة و هناك مذاهب أخري وجدت في هذا الدور و حصل لها اتباع يسيرون عليها و لكنها انقرضت و زالت.

مذهب الأوزاعي

اشهرها مذهب الأوزاعيين أتباع عبد الرحمن الأوزاعي ولد ببعلبك سنة 88 ه و توفي في بيروت سنة 157 ه و دفن في محلة منها تعرف باسمه و كان يميل لبني أمية و قد عمل بمذهبه أهل الشام ثمّ انتقل مذهبه إلي الأندلس مع الداخلين إليها من نسل بني أمية ثمّ اضمحل مذهبه في الشام و حل محله مذهب

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 170

الشافعي و انقرض في الأندلس وحل محله مذهب المالكي و ذلك في منتصف القرن الثالث. و كان ممن يكره القياس.

مذهب الظاهري و الداودي
اشارة

و من المذاهب المنقرضة، مذهب الظاهريين و الداوديين و هو مذهب داود بن علي بن خلف الاصفهاني المعروف بالظاهري ولد بالكوفة سنة 202 ه و نال رئاسة العلم في بغداد مذ كان شافعياً و انتقل سنة 223 ه إلي نيسابور ثمّ جاء لبغداد و مات فيها سنة 270 ه. و اتخذ لنفسه مذهباً خاصاً و هو العمل بظاهر الكتاب و السنة ما لم يقم دليل علي خلافهما و عدم البحث عن علل الأحكام فان لم يجد نصاً عمل بالإجماع إذا صدر عن الصحابة أو عن جميع العلماء و رفض القياس و الاستحسان و التقليد و الرأي رفضاً باتاً و قال: إن في عموم النصوص من الكتاب و السنة ما يفي بكل جواب.

عدم تحقق الإجماع

بل يحكي عنه عدم إمكان تحقق الإجماع بعد عصر الخلفاء الأربعة لتفرق الصحابة و انقسامهم بسبب السياسة و الحكم قال ابن حزم (التابعون لم يحصهم أحد و لا يعرف الكثير مما قالوا فمن ادعي إجماع هؤلاء فهو كاذب) و عنده ان الآية الكريمة (فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ) هي جامعة لكل ما تكلم الناس فيه من أولهم إلي آخرهم.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 171

و للظاهري عدة مؤلفات ينسب له القول بجواز أن يكون القاضي امرأة. و قد استمر مذهبه متخذاً إلي منتصف القرن الخامس ثمّ أخذ بالاضمحلال و الأفول، و يحكي عن ابن حزم الأندلسي المتوفي سنة 456 ه انه قام بنشر هذا المذهب في القرن الخامس ببلاد الأندلس و الذود عنه. و ألف ابن حزم كتاب الأحكام لأصول الأحكام الذي هو احسن ما ألف في أصول المذهب الظاهري و كتاب المحلي الذي هو احسن ما

ألف من الكتب

المتداولة في الفقه علي مذهب الظاهرية و كان ابن حزم كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه حتي قيل في حقه كان لسان ابن حزم و سيف الحجاج الثقفي شقيقين و خاصمه علماء وقته فردوا قوله و اجمعوا علي تضليله و شنعوا عليه و نهوا عوامهم عن الدنو منه و هو القائل إن مذهبين انتشروا في بدئ أمرهما بالرئاسة و السلطان الحنفي بالمشرق و المالكي بالمغرب و المحكي عن ابن فرحون في الديباج الخامس انه قد عد المذهب الظاهري من المذاهب المعمول بها في زمنه أي في القرن الثامن، و الظاهر انه قد دُرس في أواخر القرن الخامس أو كان في حكم المندرس كما يظهر من جملة من العلماء.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 172

مذهب محمد بن جرير

و من المذاهب المنقرضة مذهب محمد بن جرير بن يزيد ولد سنة 224 ه بآمل طبرستان و توفي في بغداد سنة 310 ه صاحب التفسير المعروف و التاريخ المشهور كان شافعياً ثمّ اتخذ مذهباً له و استمر مذهبه متبعاً إلي منتصف القرن الخامس للهجرة و نسب إليه القول بجواز كون القاضي امرأة كما تقدم نسبة ذلك للظاهري خلافاً لباقي مذاهب السنة الأربعة المشهورة و الموجودة حتي اليوم. هذه هي اشهر المذاهب المندثرة و هناك مذاهب لفقهاء لم ينتشر مذهبهم كالليث بن سعد إمام أهل مصر و صديق الإمام مالك و الذي يقول فيه الشافعي انه أفقه من مالك و لكن لم يحصل له أصحاب ينشرون مذهبه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 173

القراءات السبعة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 175

و في هذا الدور الرابع كما اختلفت المذاهب في استنباط الأحكام الشرعية كذلك اختلفت القراءات للقرآن الكريم و تكثرت إلا أن الذي اشتهر منها في كل قطر في هذا الدور هي القراءات السبعة. فبالمدينة المنورة اشتهرت قراءة نافع بن أبي نعيم توفي سنة 167 ه. و بمكة قراءة عبد الله بن كثير توفي سنة 120 ه. و بالبصرة قراءة أبي عمير بن العلاء المازني توفي سنة 154 ه و بدمشق قراءة عبد الله بن عامر توفي سنة 118 ه و بالكوفة أبو بكر عاصم بن أبي النجود توفي سنة 128 ه و هو اليوم يقرأ القرآن بقراءته، و بالكوفة أيضاً حمزة بن حبيب الزيات توفي سنة 145 ه. و بالكوفة أيضاً أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي من أولاد الفرس توفي سنة 179 ه و يلي هذه القراءات في الشهرة ثلاث قراءات

أدوار علم الفقه و أطواره، ص:

176

أخري. قراءة أبي جعفر يزيد القعقاع المدني توفي سنة 130 ه و قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي توفي سنة 205 ه و قراءة خلف بن هاشم البزاز و تسمي هذه القراءات مع السبعة المذكورة بالقراءات العشر. و يليها في الشهرة أربع قراءات أخري قراءة أبي محيصن محمد بن عبد الرحمن المكي و يحيي بن المبارك اليزيدي. و الحسن بن أبي الحسن البصري الفقيه. و الأعمش سليمان بن مهران.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 177

العُلوم العَقْلية

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 179

و في هذا الدور الرابع انتشرت العلوم العقلية و الفلسفية و الكلامية و اتسع أفق المعارف بواسطة ترجمة الكثير من الكتب الأجنبية و أدي ذلك إلي تعليل الأحكام الشرعية.

انشقاق الفقهاء إلي أهل الحديث و إلي أهل الرأي

فقوي الرأي في معرفة الأحكام الشرعية مما أدي إلي انقسام الفقهاء إلي طائفتين و تضخم كل من القسمين و اتساع أفقهما مختلفين.

طائفة أهل الرأي

الطائفة الأولي: تسمي بأهل الرأي و التي كانت برئاسة عبد الله بن مسعود في الكوفة و هم من يجيلون النظر و الفكر

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 180

في العلل الشرعية و الأغراض من الأحكام الإلهية ليعرفوا حكم الواقعة الشرعية دون الوقوف علي دلالة النص فهم يأخذون بالرأي و الاجتهاد و يبحثون عن علل الأحكام لمعرفة حكم الوقائع النازلة بهم.

الطائفة الثانية أهل الحديث

الطائفة الثانية: و تسمي بأهل الحديث التي كانت برئاسة سعيد بن المسيب في الحجاز و هم يعتمدون في معرفة الأحكام الشرعية علي دلالة النصوص و ظواهر الألفاظ و ينفرون من الأخذ بالرأي و الاجتهاد و عدم التعمق في استخراج العلل للأحكام و الاستحسانات بعكس الطائفة الأولي فانها لم تأخذ من الأحاديث إلا قليلها و لا من الآيات إلا نصوصها و كان رجوعهم في كثير من المسائل الفقهية إلي حكم العقل و الرأي و الاجتهاد بالقياس و الاستحسان. و هذا ما أدي إلي انقسام مدرسة الفقه إلي مدرستين مدرسة الرأي و مدرسة الحديث.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 181

خاتمة المطاف

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 183

إن مصادر الفقه في هذا الدور أعني الدور الرابع كانت كثيرة تختلف باختلاف اعتبار الفقهاء لها و كان في طليعتها الكتاب و السنة. و الإجماع. و عمل أهل المدينة و القياس و قول الصحابي و المصالح المرسلة و الاستحسان و الاستصحاب و البراءة و الاحتياط و التخيير و كانوا يقدمون عمل أهل المدينة علي القياس و ما بعد باعتبار أن عمل أهل المدينة بمنزلة روايتهم عن رسول الله صلّي الله عليه و آله و سلّم فيكون بمنزلة رواية جماعة عن جماعة فهو أولي بالتقديم، و نشطت فيه حركة جمع الروايات و الأحاديث و الآثار الشرعية و قد كان التأليف في هذا الدور بادئ بدء هو ضم الأحاديث بعضها إلي بعض حسب أبواب الفقه كأحاديث الصلاة و أحاديث الصوم و غير ذلك كما في مسند زيد و نحوه و قد يمتزج بأقوال الصحابة و التابعين ممن يري حجة قولهم كما في موطأ مالك ثمّ جاء بعد ذلك فكرة المسانيد فكان يفرد كل

شخص بأحاديثه عن

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 184

أحاديث غيره كما في مسند ابن حنبل ثمّ جاء بعد ذلك من قام باختيار ما هو المعتبر لديه من الأخبار فألفوا الصحاح.

مجموع الإمام زيد اقدم كتب الأخبار

و لكن الظاهر أن مجموع الإمام زيد الشهيد اقدم ما بأيدينا من كتب الأخبار فقد استشهد سنة 121 ه أو سنة 122 ه و هو مرتب علي أبواب الفقه كما أن مناسك الحج له طبع بغداد مرتب علي أبواب الحج. و كيف كان فلا ينكر انه في هذا الدور قد كثر فيه تأليف كتب الأخبار التي هي أهم مصدر لعلم الفقه و قويت الحركة نحو الفقه قوة منقطعة النظير و تظافرت الجهود علي ضبط مسائله و تأسيس أصوله و قواعده و دونت فيه العلوم التي تساعد علي استنباط مسائله كعلوم القرآن و علم الكلام و العلوم العربية و نحو ذلك مما أوجب ازدهار الفقه و اتساع دائرته و كثرة مسائله.

الإمام محمد الباقر عليه السلام

و في هذا الدور الرابع استشهد الإمام محمد الباقر عليه السلام بسم هشام بن عبد الملك سنة 114 ه و عن الطبقات الكبري لابن سعد انه كان عالماً عابداً ثقة عند المسلمين روي عنه أبو حنيفة و غيره من أئمة أهل العلم و المذاهب، و عن تذكرة ابن الجوزي عن عطاء أحد أعلام التابعين انه قال: ما رأيت العلماء عند أحد اصغر منه علماً اصغر منهم عند أبي جعفر

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 185

الباقر لقد رأيت الحكم بن عيينة عنده كأنه عصفور مغلوب و عن ابن الأثير في جامع الأصول انه مجدد مذهب الامامية علي رأس المائة الأولي.

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

و فيه استشهد الإمام جعفر الصادق عليه السلام بسم المنصور سنة 148 ه و قد قضي شطراً من حياته ما يقارب الخمسَ عشرة سنة في حكومة الأمويين و الشطر الآخر من حياته في حكومة العباسيين. و عن الملل و النحل أن أبا عبد الله الصادق ذو علم غزير في الدين و أدب كامل في الحكمة و زهد في الدنيا و ورع تام عن الشهوات.

الإمام موسي الكاظم عليه السلام

و فيه استشهد الإمام موسي الكاظم عليه السلام بسم الرشيد سنة 183 ه و هو الذي ذكر عنه القرماني صاحب كتاب (أخبار الدول) انه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجة قط و عن الشافعي أن قبر موسي الكاظم ترياق مجرب لاجابة الدعاء. قال الخليفة العباسي للإمام موسي الكاظم عليه السلام: أن الناس يقولون لا تحريم في القرآن للخمر فقال الإمام عليه السلام: بل هي محرمة في كتاب الله قال تعالي (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ) فهي إثم و الإثم محرم بنص القرآن حيث

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 186

قال (قُلْ إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ).

الإمام علي بن موسي الرضا عليه السلام
اشارة

و فيه استشهد الإمام علي بن موسي الرضا عليه السلام بسم المأمون سنة 203 ه و كان قد نصبه ولياً للعهد و ينسب له جملة من أصحابنا كتاب فقه الرضا و قد طبع في إيران و كتب الشيخ النوري في مستدركه بحثاً مفصلًا عنه قد اثبت فيه صحة نسبة الكتاب إليه سلام الله عليه.

كتاب فقه الرضا

و إن كان في عقيدتي إن الكتاب علي تقدير صحة النسبة انه قد مزجه بعض الرواة بالروايات المعارضة لما فيه و هكذا ينسب إليه المسند و يسمي بصحيفة الرضا عليه السلام و قد طبع مع مسند الإمام زيد في بيروت بواسطة مكتبة الحياة و ذكر المؤرخون أن الإمام الرضا عليه السلام إذا مر ببلد أخذ الفقهاء و العلماء بلجام دابته ليفيض عليهم من علمه و فضله.

الإمام محمد الجواد عليه السلام

و فيه استشهد الإمام محمد الجواد عليه السلام بسم المعتصم سنة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 187

220 ه و له مواقف مع يحيي بن أكثم في علم الفقه مع صغر سنه تكون من معاجز الفن.

الإمام علي الهادي عليه السلام

و فيه استشهد الإمام علي الهادي عليه السلام بسم المعتز العباسي سنة 254 ه و قد دونت مناقبه و احتجاجاته كتب الأخبار و التاريخ.

الإمام الحسن العسكري عليه السلام

و فيه استشهد الإمام الحسن العسكري عليه السلام بسم المعتمد أو المعتضد سنة 260 ه و ينسب له تفسير للقرآن الكريم قد طبع و شكك في صحة نسبته له بعض الفقهاء و قد اشبع البحث عنه النوري في مستدركه و صاحب الذريعة في مناقب ابن شهرآشوب ج 3 ص 525 ذكر أن الكندي أحرق جميع ما ألفه في تناقض القرآن بواسطة الإمام الحسن العسكري عليه السلام.

غيبة الحجة المهدي عليه السلام

و في هذا الدور غاب الإمام الثاني عشر المهدي الحجة القائم المنتظر عليه السلام سنة 260 ه الغيبة الصغري حيث لم تنقطع السفارة بينه و بين الشيعة، و أما غيبته الكبري التي انقطعت

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 188

فيها السفارة فقد كانت في الدور الخامس حيث انها وقعت سنة 329 ه.

فقهاء الدور الرابع
اشارة

و في هذا الدور الرابع برز جماعة من الفقهاء لا يسعنا حصرهم و لكن نذكر قسماً منهم علي سبيل المثال.

يونس بن عبد الرحمن

منهم يونس بن عبد الرحمن فقد ألف ما يزيد علي ألف مجلد من الكتب و كان لا يترك التأليف إلا للصلاة و الطعام و قضاء الحاجة.

محمد بن أبي عمير

و منهم محمد بن أبي عمير توفي سنة 217 ه و يروي عن الجاحظ انه قال فيه: إن محمد بن أبي عمير كان أوثق الناس عند الخاصة و العامة و يحكي عن ابن بطة انه قال فيه: انه ألف أربعاً و تسعين كتاباً و قد تلفت كتبه في الحبس فلذا كانت رواياته مرسلة إلا أنها معتبرة عند العلماء.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 189

صفوان بن يحيي البجلي

و منهم صفوان بن يحيي البجلي المتوفي سنة 210 ه و عن ابن النديم انه ألف ثلاثين كتاباً.

احمد البزنطي

و منهم احمد بن محمد البزنطي المتوفي سنة 221 ه من المؤلفين في الفقه.

الحسن الوشاء

و منهم الحسن بن علي الوشاء ألف في الفقه كتباً كثيرة.

الحسن السراد

و منهم الحسن بن محبوب السراد المتوفي سنة 224 ه له كتاب المشيخة مبوب علي معاني الفقه.

احمد الأشعري

و منهم احمد بن محمد بن عيسي الأشعري له مؤلفات في الفقه كثيرة، و محمد بن خالد الأشعري و محمد بن علي

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 190

الأشعري صاحب المؤلفات و المصنفات و له كتاب اسمه نوادر تصنيف المصنفين كانت نسخة منه بخط الشيخ الطوسي عند صاحب السرائر استطرف منها بعض الأخبار و طبع المستطرف منها مع السرائر.

علي بن مهزيار

و منهم علي بن مهزيار الأهوازي بلغت مؤلفاته ستة و ثلاثين كتاباً.

الفضل بن شاذان النيسابوري

و منهم الفضل بن شاذان النيسابوري بلغت كتبه مائة و ثمانين كتاباً في مختلف المواضيع.

عبد الله بن سعيد الكناني

و منهم عبد الله بن سعيد بن حنان الكناني ألف في الفقه و الحديث كتباً كثيرة.

عبد الله القمي

و منهم عبد الله بن جعفر القمي شيخ القميين له اكثر من ثلاثين كتاباً في مواضيع مختلفة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 191

عمر بن مسلم التميمي

و منهم عمر بن مسلم التميمي الكوفي له مؤلفات كثيرة في الفقه.

الحسين بن سعيد الأهوازي

و منهم الحسين بن سعيد الأهوازي و أخوه الحسن و عن ابن نديم انهما ألفا اكثر من ثلاثين كتاباً.

الحسن البرقي

و منهم الحسن بن خالد البرقي صاحب تفسير العسكري.

محمد بن مسعود العياشي

و منهم محمد بن مسعود العياشي صاحب تفسير العياشي الذي طبع في الآونة الأخيرة علي ما قيل و قد بلغت مؤلفاته مائتي مؤلف.

احمد بن محمد البرقي

و منهم احمد بن محمد بن خالد البرقي المتوفي سنة 274 ه و يحكي عن النجاشي و غيره أن له اكثر من تسعين مؤلفاً.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 192

محمد بن معافي

و منهم محمد بن معافي بن جعفر المتوفي سنة 265 ه له كتاب شرايع الإيمان و كان من أصحاب الكاظم عليه السلام و ابنه الإمام الرضا عليه السلام.

إبراهيم الثقفي

و منهم إبراهيم بن محمد الثقفي المتوفي سنة 283 ه و له مؤلف في الفقه و الأحكام.

إبراهيم الأسلمي

و منهم إبراهيم بن محمد بن يحيي المدني الأسلمي المتوفي سنة 184 ه له كتاب مبوب في الحلال و الحرام رواه عن الإمام الصادق عليه السلام.

عبيد الله بن شعبة

و منهم عبيد الله بن علي بن أبي شعبة له كتاب في الفقه كبير عرضه علي الإمام الصادق عليه السلام فصححه و استحسنه و قال: ليس لهؤلاء في الفقه كتاب مثله.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 193

محمد بن سيرين

و منهم محمد بن سيرين مولي انس بن مالك المتوفي سنة 110 ه سكن البصرة علامة في تعبير الرؤيا و يعد من فقهاء عصره.

القاسم بن محمد بن أبي بكر

و منهم القاسم بن محمد بن أبي بكر المتوفي سنة 108 ه و عن ابن خلكان انه من سادة التابعين و افضل أهل زمانه و عن أبي الزناد: ما رأيت فقيهاً اعلم من القاسم. و عن طبقات ابن سعد انه كان إماماً فقيهاً ثقة ورعاً كثير الحديث. و عن عمر بن عبد العزيز انه قال له لو كان لي من الأمر شي ء لاستخلفت أعيمش بني تيم يعني القاسم و كان في عهده أربعة من الملوك الوليد و سليمان و أولاد عبد الملك و عمر بن عبد العزيز و يزيد بن عبد الملك.

طاوس اليماني

و منهم طاوس بن كيسان اليماني المتوفي بمكة سنة 106 ه روي البخاري عنه عن مجاهد و غيره و عن الذهبي انه كان شيخ أهل اليمن و بركتهم و فقيههم و له جلالة عظيمة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 194

قتادة

و منهم قتادة بن دعامة المتوفي سنة 118 ه كان ضريراً حافظاً و فقيهاً و رأساً في العربية و اللغة و التاريخ و النسب سكن البصرة.

سليمان بن مهران

و منهم سليمان بن مهران الاسدي الكوفي الملقب بالأعمشي و كان محدث أهل الكوفة و لم يكن أحد في زمانه اكثر منه حديثاً و لقب بالأعمش لسيلان دمعته و ضعف بصره و كان مزاحاً فقد قصد داره أهل الحديث فخرج إليهم و قال: لو لا أن في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم و كان يعني بذلك زوجته. و بعث إليه هشام بن عبد الملك قرطاساً ليكتب له فيه مناقب عثمان و مساوئ علي عليه السلام فاخذ القرطاس و وضعه في فم شاة و قال للرسول هذا جوابه فقال له الرسول لقد توعدني بالقتل إن لم آته بجوابك. فاخذ القرطاس و كتب عليه بعد البسملة: أما بعد فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض لما نفعتك و لو كان لعلي مساوئ أهل الأرض ما ضرتك فعليك بخويصة نفسك.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 195

يحيي بن يعمر

و منهم يحيي بن يعمر العدواني الوشقي المضري المتوفي سنة 129 ه و هو أول من نقط القرآن و قد حكي عن ابن خلكان انه تابعي شيعي كما انه أول من أعرب القرآن أستاذه أبو الأسود الدؤلي.

عامر بن شراحبيل

و منهم عامر بن شراحبيل الشيعي المتوفي سنة 104 ه روي عن الإمام علي عليه السلام و ولي قضاء الكوفة و كان من مدرسة أهل الحديث.

الحسن البصري

و منهم الحسن البصري المتوفي سنة 110 ه و يحكي عن القاضي عياض عده من الأئمة و أصحاب المذاهب المقلدة المدونة و عن أعلام الموقعين انه جمع بعض العلماء فتاويه في سبعة أسفار ضخمة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 196

عطاء بن رياح و غيره

و منهم عطاء بن رياح المتوفي سنة 115 ه. و منهم عكرمة مولي بن عباس المتوفي سنة 115 ه. و منهم مسلم بن خالد الزنجي المتوفي سنة 179 ه. و منهم عبد الرحمن الأوزاعي المتوفي سنة 157 ه. و منهم الليث بن سعد المتوفي سنة 175 ه. و منهم أبو بكر محمد بن مسلم الزهري المتوفي سنة 124 ه.

خندق الأسدي و موقفه من أهل البيت

و منهم خندق بن بدر الأسدي المستشهد سنة 100 ه بعرفات عند ما وقف بها في الموسم و ذكر فضل أهل البيت عليهم السلام و ظلم الناس لهم و غصب حقهم و قد ساء الباقر عليه السلام مقتله.

أبان بن تغلب

و منهم أبان بن تغلب المتوفي سنة 141 ه أحد القراء المشهورين و الفقهاء البارزين. و منهم ثابت أبو حمزة الثمالي المتوفي سنة 150 ه الذي روي الدعاء المعروف.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 197

جابر الجعفي

و منهم جابر الجعفي الكوفي المتوفي سنة 128 ه الورع الصدوق. و منهم أبو حنيفة مؤسس المذهب الحنفي المتوفي سنة 150 ه بالحبس و قد ذكرناه في تعداد المذاهب.

زرارة بن أعين

و منهم زرارة بن أعين الذي قال فيه الإمام الصادق ما أجد أحداً أحيا ذكرنا و أحاديث أبي إلا زرارة. و يسمي بأوتاد الأرض زرارة. و أبو بصير ليث المرادي، و محمد بن مسلم، و بريد العجلي، و لزرارة اخوة أربعة معروفون بالعلم و هم حمران النحوي اللغوي. و بكير الثقة الجليل القدر. و عبد الملك الثقة الجليل القدر. و عبد الرحمن الجليل القدر.

من توفي في هذا الدور من علماء الأدب و شعرائه

و توفي في هذا الدور الخليل بن احمد سنة 160 ه مدون علم العروض و علم متن اللغة.

و توفي معاذ بن مسلم الهراء سنة 187 ه واضع علم الصرف و قرأ عليه الكسائي و هو ابن عم محمد الرواسي الذي هو أول من ألف من الكوفيين في النحو كتاباً.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 198

و قتل دعبل الخزاعي الشاعر المعروف سنة 242 ه و قتل يعقوب بن السكيت اللغوي سنة 244 ه بتفضيله علياً و ابنيه علي الخليفة العباسي.

و توفي أبو تمام الطائي سنة 231 ه في الموصل. و توفي الفيلسوف المعروف الكندي سنة 250 ه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 199

العلوم الفلسفية

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 201

و قد ظهرت العلوم العقلية في هذا الدور الرابع و اتسع افقها و انتشرت كتبها و كان من اشهر المتكلمين فيها عمرو بن عبيد المتوفي سنة 142 ه و أبو الهذيل العلاف المتوفي سنة 235 ه و عمرو الجاحظ المتوفي سنة 255 ه. فان الفلسفة اليونانية و غيرها قد دخلت البلاد الإسلامية بعد قرنين إلا انه قد أوضح المسلمون مسائلها و أضافوا إليها الشي ء الكثير و أخرجوها بهذه الحلة الجميلة بعد أن هذبوها و نقحوها و ناقشوا ما كان مخالفاً للعقيدة الدينية و الآيات القرآنية فظهرت خالصة من الآراء الالحادية و الخرافات التقليدية و أزالوا عنها الحجب و الغموض و فتحوا باب المناقشات و المباحث فيها و اعطوا للعقل حرية الفكر و أضافوا اليها مباحث قيمة كمبحث

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 202

النبوة و الإمامة و رتبوها ترتيباً حسناً حتي أصبحت العلوم العقلية غير العلوم العقلية اليونانية أو الرومانية و الفارسية و الهندية و كان اظهر طابع

علي العلوم العقلية الإسلامية هو قدرتها علي الجمع بين الدين و الفلسفة و الحكمة و المعرفة و للإسلام الفضل الأكبر في حفظ الفلسفة اليونانية و غيرها من الفلسفات القديمة فان النصرانية عند ما ضربت سرادقها علي بلاد اليونان خافت من فلسفتها علي دينها فمنعت من تدريسها و دفنت كتبها تحت التراب في الدهاليز و الانفاق حتي استطاع المأمون سنة 304 ه ج 819 م أن يحصل علي الكثير من هذه الكتب و قد أصابها التلف. كما ان للإسلام الفضل الأكبر علي الديانتين اليهودية و المسيحية فقد أخرجهما القرآن الكريم بحليتهما الواقعية المجردة عن الأوهام و الخرافات التي لم ينزل الله بها من سلطان.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 203

الدور الخامس

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 205

دور التقليد عند أهل السنة

اشارة

يبدأ هذا الدور بما انتهي إليه الدور الرابع أي انه يبدأ من أوائل القرن الرابع إلي سقوط الدولة العباسية سنة 655 ه بزحف التتر علي بغداد و سقوطها بأيديهم فان هذا الدور قد جاء و قد تفككت عري الوحدة الإسلامية بخلافات طائفية و مذهبية و انقسامات عنصرية و طبقية و تمزق شمل المسلمين فالبويهيون في فارس و الفاطميون في شمال إفريقيا و الامويون في الأندلس و الاخشيديون في سورية و مصر و الساسانيون في خراسان و القرامطة في البحرين و الحمدانيون في الموصل هذا و بغداد عاصمة الدولة العباسية منقسم بعضها علي بعض تعصف بها الزوابع السياسية و الفتن الداخلية لنيل التاج أو الصولجان لا للصالح العام و يغار عليها من كل جانب و مكان

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 206

حتي هرب الخليفة العباسي المتقي من بغداد خوفاً من الجيش البربري الزاحف عليها و استنجد بناصر الدولة في الموصل فأنجده و أرجعه إليها فضعفت الرغبة من العلماء في

الاجتهاد لتبلبل الأحوال و اضطراب الأوضاع أضف إلي ذلك أن الدولة نظراً لضعفها في هذا الدور أصبحت لا تمنح المنصب الديني و لا القضاء للذي يعمل برأيه و إنما تنصب من كان مقيداً و متبعاً لمذهب من المذاهب و تفرض عليه اجتناب كل قضاء يخالف ذلك المذهب خوفاً من تبلبل الأفكار و حدوث الانشقاق و الانقسام و أخذوا لا يجعلون شخصاً في منصب من المناصب الدينية إلا إذا كان متبعاً لأحد المذاهب السنية المشتهرة المعروفة كالحنفية و الظاهرية و الشافعية و نحوها من المذاهب و لا يكيلون وزناً للمجتهد المنفرد فأوجب ان ينصرف أهل السنة عن الاجتهاد حتي انه لم يبق

بعد محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة 310 ه من يجتهد في الأحكام الشرعية و بطبيعة الحال أصبحت النتيجة الحتمية عندهم بعد هذا الزمن الإجماع و الاتفاق علي العمل بالمذاهب السابقة و انسداد باب الاجتهاد. و الإجماع عندهم حجة لا ترد و دليل لا يفند فافتوا استناداً لهذا الإجماع بسد باب الاجتهاد و حصر المذاهب التي يرجع إليها بالمذاهب السابقة و اصبح هذا الدور للفقه الإسلامي السني في هذه الفترة من الزمن دور التقليد المحض

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 207

لأهل السنة و كان من جراء ذلك أن يحصر علماؤهم أبحاثهم ضمن نطاق خاص و إطار مخصوص فكان كل واحد منهم في هذا الدور لا يتجاوز بحثه حدود مذهب فقيه سابق قد قلده لا يحيد عنه و لا يتعداه لغيره و يري أن ما قاله مقلده هو الصحيح و ما عداه من الآراء خطأ لا يتبع و لم ير من يجتهد في الأحكام الشرعية فيأخذ أحكامه من أدلتها غير متقيد برأي أحد من الأئمة و رضوا لأنفسهم التقليد و لامام معين و اعتبار فتاواه كأنها نص من الشارع المقدس فأصبحوا عالة علي فقه أبي حنيفة و مالك و الأوزاعي و الظاهري و أمثالهم ممن كانت مذاهبهم متداولة و التزم كل منهم مذهباً معيناً لا يتعداه و بذل كل ما أوتي من قوة في نصرة ذلك المذهب جملة و تفصيلا و يأخذوا أحكامهم الشرعية منه دون أن يرجعوا للكتاب و السنة فكان الفقيه في هذا الدور هو الذي يستنبط الأحكام الشرعية من كتب أحد الفقهاء السابقين و يسمي ذلك بالاجتهاد المقيد بل لا يستجيز لنفسه أن يخالف فتوي الفقيه الذي قلده و لو قامت عليها الأدلة

من الكتاب و السنة. و قد بلغ هذا التعصب المذهبي في هذا الدور إلي أن يقول أبو الحسين الكرخي رئيس الفقه الحنفي في العراق المتوفي سنة 349 ه (أن كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ) و إلي أن يقول صاحب الدار المختار (إن من ارتحل عن المذهب

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 208

الحنفي إلي المذهب الشافعي يعزر) و أصبحت كلمات أئمتهم و عباراتهم هي المصدر الذي يستنبطون منه الحكم الشرعي حتي أنه في المغرب لما استولي عليه عبد الواحد بن علي ألزم العملاء الاجتهاد و ترك التقليد فأحرق كتب الفروع كلها و أمر بوضع كتب أحاديث الأحكام و كذا فعل حفيده يعقوب سنة 595 ه و قد بلغ التطاحن بين الفقهاء و أتباعهم في هذا الدور و مهاجمة بعضهم البعض من ناحية التعصب و التحيز للفقهاء السابقين حد التقاتل كما يظهر ذلك من ابن الأثير ج 8 ص 106 و كان نتيجة ذلك أن تأثر الفقه بالجمود لدي أهل السنة و اصبح بعيداً عن واقع الحياة رغم تطور الحضارة و تبدل الأوضاع فقد حدثت أشياء و أحوال لم تكن في عصر انفتاح باب الاجتهاد حتي يعالجها فقهاؤهم السابقون و لا يحق للمتأخرين منهم أن يعالجوها لانسداد باب الاجتهاد عليهم.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 209

وجه الانحصار بالمذاهب الأربعة في هذا الدور الخامس و مبدئه

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 211

و بعد ذلك في هذا الدور انحصرت المذاهب المتبعة عند السنة في أربعة: الحنفية. و المالكية. و الحنبلية. و الشافعية. و كان بذرة انحصارها هو القادر العباسي الذي تولي الخلافة الإسلامية سنة 381 ه فانه كان ذا سياسة و كياسة و ظهر بمظهر الصلاح و التقوي حتي عده

ابن الصلاح من الفقهاء الشافعية و أخذ الفقهاء يعقدون الاجتماعات برئاسته بصفة كونه زعيماً دينياً فيصدرون الفتاوي بتحريم حرية الرأي و تكفير بعض الطوائف كالفاطميين و مهاجمة المعتزلة و تكفير من يعتنقها. و أمر أربعة من الفقهاء أن يصنف كل واحد منهم مختصراً علي مذهبه من المذاهب الأربعة. فصنف الماوردي الاقناع علي مذهب الشافعي. و صنف أبو الحسين القدوري مختصراً علي مذهب أبي حنيفة. و صنف أبو محمد عبد الوهاب مختصراً علي مذهب المالكي. و صنف آخر مختصراً علي مذهب الحنبلي و أمر الخليفة القادر العمل بها لأجل تقليل الآراء في الأحكام الشرعية «1».

______________________________

(1) يحكي من غير واحد أن الخليفة القادر العباسي طلب من السيد المرتضي رحمه الله مالا ليأمر بالعمل بمذهب التشيع كما أمر بالعمل بالمذاهب المذكورة و لكن السيد المرتضي عجز عن دفع المال.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 212

و لا ريب أن هذا العمل من القادر يوجب اتساع رقعة المذاهب الأربعة و كثرة المتبوعية لها و ضعف باقي المذاهب السنية و قلة متبوعيتها و ندرة الدعاة لها لأن الخلافة العباسية مهما تطور الوضع بها و انحط نفوذها الزمني فهي لم تفقد سيادتها الروحية و بقيت تحتفظ بزعامتها الدينية عملا و عقيدة و الخليفة العباسي و إن فقد سلطته الزمنية إلا انه لم يتجرد حتي عند رعيته عن كونه إماماً روحياً و زعيماً دينياً و مصدراً لجميع السلطات الإلهية و انه الرئيس الفعلي للحكومة الدينية فإذا صدر منه الأمر بالعمل بتلك المذاهب الأربعة لا ريب كان معناه إلغاء العمل بما عداها من المذاهب بحكم الزعيم الديني و لا ريب أن ذلك يوجب اضمحلالًا شيئاً فشيئاً حتي تتلاشي و بالفعل أخذت باقي المذاهب بالتلاشي

شيئاً فشيئاً حتي إذا عصفت العاصفة الكبري و حلت الطامة العظمي سنة 656 ه باحتلال المغول (التتر) بغداد و بلغ منهم التخريب و التهديم و الحرق و الذبح منتهي المبلغ ستة أسابيع حتي صارت الدماء تنساب علي الطرقات و صبغت ماء دجلة باللون الأحمر الثاني عدة أميال و هدمت الجوامع و المدارس و أحرقت الكتب و النفائس و قتل المغول (التتر) الخليفة المستعصم و أولاده و لم ينج منهم نافخ ضرم و انقرضت بذلك الخلافة العباسية في بغداد و ظل الأفق السني طوال ثلاث سنين و نصف بلا خلافة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 213

و اصبح بحاجة لزعيم ديني و قد أدرك بيبرس الملقب بالظاهر ملك مصر من ملوك دولة المماليك بعد أن تغلب علي المغول حاجة العالم الإسلامي إلي إحياء الخلافة فاستدعي إليه احمد بن الظاهر محمد بن الناصر العباسي الذي نجا من حبائل المغول و يصير عم لمستعصم الذي قتله المغول فبايعه الملك و قاضي القضاة تاج الدين و كبار الفقهاء و الناس بالخلافة سنة 660 ه أو سنة 659 ه و لقب احمد بالمستنصر بالله و أصبحت القاهرة من ذلك الحين مقراً للخلفاء العباسيين و كانوا يلقبون بالأئمة و كانت سلطتهم لا نفوذ لها إلا من الجانب الديني فقط، ثمّ أراد الملك بيبرس أن يسترجع بغداد للخلفاء العباسيين فأعد العدة و جهز الجيوش و توجه مع الخليفة المستنصر المذكور فلما احتلوا دمشق عاد الملك بيبرس إلي مصر و تقدم الخليفة المستنصر قاصداً بغداد و قبل أن يصل إليها وصلت إليه المغول و قتلوه و اغلب أصحابه و لم تكن خلافته إلا خمسة اشهر و عشرين يوماً و كان في حلب رجل ينتسب

للعباسيين اسمه احمد بن علي نجا مختفياً من بغداد استقدمه الملك بيبرس إلي مصر و بايعه بالخلافة و لقب بالحاكم بأمر الله سنة 661 ه فعادت الخلافة العباسية في مصر برعاية ذلك الملك الظاهر إلا أنها كانت منصباً دينياً محضاً حتي دخول السلطان سليم الفاتح المشهور لمصر فتنازل له آخر الخلفاء العباسيين عن

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 214

منصب الخلافة و أصبحت الخلافة لملوك آل عثمان و في سنة 663 ه. و بعد أن امتد النفوذ الديني للخليفة العباسي الحاكم بأمر الله احمد المتقدم ذكره للعالم الإسلامي حتي للحجاز بواسطة السلطان الملك الظاهر بيبرس نصب الخليفة العباسي المذكور برعاية الملك الظاهر المذكور بالديار المصرية و بدمشق أربعة قضاة شافعي و مالكي و حنفي و حنبلي و ركز العقيدة الاشعرية فكان هذا العمل من الخليفة الذي يمثل المقام الديني مؤكداً لما صنعه الخليفة العباسي القادر من أمره بالعمل بالمذاهب الأربعة فأخذ يتضاءل ما تبقي من غير المذاهب الأربعة حتي لم يبق في سنة 665 ه في مجموع امصار الإسلام مذهب لأهل السنة يعرف غير هذه المذاهب الأربعة و لا عقيدة غير عقيدة الأشعري و عودي من تمذهب بغيرها و لم يول قاضٍ و لا تقبل شهادة شاهد و لا يقدم

للخطابة و الإمامة و التدريس أحد منهم لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب الأربعة خصوصاً و قد أخذ يقوي المركز الديني للخليفة المذكور و طفق يتوسع نفوذ السلطان الظاهر المذكور و هما يحملان الشعار بالتمسك بالمذاهب الأربعة فكانت النتيجة الحتمية هي حصول الإجماع و الاتفاق من علمائهم علي اتباع المذاهب الأربعة و عدم صحة تقليد ما عداها و الإجماع حجة عند أهل السنة يوجب الفتوي بمقتضاه فأفتي

الفقهاء منهم بوجوب اتباع هذه المذاهب الأربعة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 215

و تحريم ما عداها و لم تبق عقيدة عند أهل السنة إلا عقيدة الأشعري و أوجب ذلك عليهم أن يتجه نشاطهم الفقهي في هذا الدور نحو تكميل المذاهب الأربعة الفقهية من الترجيح لروايات الفتاوي المختلفة عن أئمتها الأربعة و التخريج لعللها المسمي بتخريج المناط و الفتوي فيما لم يوجد فيه فتوي منهم بالقياس بواسطة تلك العلل.

مشاهير علماء الدور الخامس

و من مشاهير علماء الحنفية في هذا الدور هو علي بن محمد البزدوي المتوفي سنة 483 ه ألف المبسوط أحد عشر مجلداً. و من مشاهير علماء المالكية في هذا الدور محمد

الأبهري المتوفي سنة 395 ه ألف عدة كتب في شرح مذهب مالك. و محمد بن رشد المتوفي سنة 595 ه صاحب كتاب بداية المجتهد و نهاية المقتصد. و من مشاهير علماء الشافعية في هذا الدور احمد النيسابوري المتوفي سنة 432 ه ألف كتاب الأحكام. و أبو حامد الغزالي المتوفي سنة 505 ه صاحب المستصفي في أصول الفقه طبع اكثر من مرة.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 217

الشيعة الامامية في هذا الدور الخامس
اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 219

و أما الشيعة الامامية في هذا الدور فقد نشطت عندهم الحركة العلمية و خلفوا لنا ثروة فقهية كبري في هذا الدور رغم أن أئمتهم بدءوا يختفون عنهم في الأزمنة المتأخرة من زمن الإمام العاشر علي الهادي عليه السلام فإنه احتجب عن كثير من الشيعة إلا عن عدد يسير من خواصه و جاء بعده ابنه الإمام الحادي عشر الحسن العسكري عليه السلام فكان يكلم شيعته الخواص و غيرهم من وراء الستر غالباً إلا في الأوقات التي يركب فيها لدار السلطان فلما توفي سنة 260 ه جاء بعده الإمام الثاني عشر و كان قد استتر عن أعين شيعته سنة 266 ه.

السفراء الأربعة

و جعل بينه و بينهم السفراء الأربعة أبو عمر عثمان بن سعيد ثمّ بعده ابنه محمد بن عثمان المتوفي سنة 304 ه ثمّ بعده

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 220

أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي المتوفي سنة 326 ه ثمّ بعده أبو الحسن علي بن محمد السيمري المتوفي سنة 329 ه و كان هؤلاء هم الوسائط بينه و بين شيعته و يصدر منه عليه السلام بواسطتهم التوقيعات و أجوبة المسائل و بيان الأحكام الشرعية و غيرها و يعرفون خطه عليه السلام و بوفاة محمد السيمري وقعت الغيبة الكبري و انسد باب السفارة و النيابة الخاصة و فوض عليه السلام الأمر إلي الفقهاء العالمين بالأحكام الإلهية المطلعين علي الأخبار و الأحاديث الشرعية و جعلهم النواب عنه عليه السلام.

و الحاصل انه في زمن الإمام العاشر إلي الإمام الثاني عشر كان من الصعوبة معرفة الحكم الشرعي للحادثة و الكتب الموجودة عندهم لم تكن سهلة المأخذ فقد تقدم أن نوعها غير مبوب مع ما

فيها من الأحاديث غير المقبولة مع أن بعض الأخبار كانت محفوظة في الصدور يخشي ضياعها فانبري علماؤهم للقيام بسد هذه الخلة و كان في طليعتهم محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله المتوفي سنة 329 ه.

كتاب الكافي

فألف كتاب الكافي الذي جمع فيه من الأحاديث ما صح عنده و نظمها حسب أبواب الفقه و الأصول و هو من اعظم كتب الشيعة و أكثرها فائدة و أجلها شأناً و قد ألفه

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 221

في زمن السفراء الأربعة أي في زمن غيبة الإمام الثاني عشر الصغري و يحكي عن ملا خليل القزويني شارح الكتاب المذكور أن كتاب الكافي عرض علي الإمام الثاني عشر فاستحسنه. و يحكي عن الوحيد البهبهاني أن الشيخ الكليني قد لاقي في جمع كتابه الكافي الأتعاب و المشاق بسفره إلي البلدان و الأقطار و اجتماعه بشيوخ الرواة و الإجازات و ظفره بالأصول الأربعمائة و الكتب المعمول عليها في الأحاديث و قد مضي علي تأليفه له عشرون سنة و عن الشهيد الأول أن أحاديث الكافي تزيد علي الصحاح الستة فقد أحصيت إلي (16199) حديثاً مع أن أحاديث البخاري بحذف المكرر (4000) حديثاً و مثله صحيح مسلم بحذف المكرر و أحاديث الموطأ و سنن الترمذي و النسائي لا تبلغ عدد صحيح مسلم.

رسالة والد الصدوق

و قد كتب في هذا الدور علي بن الحسين والد الصدوق المتوفي سنة وفاة السمري رحمه الله آخر السفراء و سنة وفاة الكليني رحمه الله سنة 329 ه لولده الصدوق رسالة في الأحكام الشرعية يأخذ الأصحاب الفتوي منها إذا أعوزتهم النصوص لأنها عبارة عن نصوص الأحاديث بحذف إسنادها ثقة به

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 222

و اعتماداً عليه تجد قطعاً منها في كتب ولده الصدوق و مختلف العلامة و كفي في جلالة قدره ما في التوقيع المنقول عن الإمام العسكري عليه السلام من وصفه له بالفقيه المعتمد.

ما قد وصلنا من كتب الأخبار
اشارة

و مما قد وصل إلينا من كتب الأخبار المؤلفة في زمن الغيبة الصغري كتاب الغيبة للنعماني ألفه سنة 300 ه كما وصل إلينا الكافي المتقدم ذكره ثمّ كثر بعد الغيبة الصغري التأليف من الشيعة في الأخبار و الأحاديث فألف علي بن احمد الكوفي المتوفي سنة 352 ه من الكتب ما يزيد علي الخمسين في الفقه و الفلسفة و الرد علي أهل العقائد و المذاهب الفاسدة و غيرها و ألف جعفر بن قالويه المتوفي سنة 368 ه أو سنة 369 ه كتاب كامل الزيارة.

من لا يحضره الفقيه

و ألف الصدوق المتوفي سنة 381 ه كتاب من لا يحضره الفقيه المطبوع عدة طبعات أحصيت أحاديثه فكانت (5963) حديثاً مرتبة حسب أبواب الفقه و قد سماه بهذا الاسم اقتباساً من اسم الكتاب الذي ألفه الرازي في الطب و سماه بمن لا يحضره الطبيب و يقول في حقه صاحب مرآة الجنان إنه

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 223

البارع في الكلام و الجدل و الفقه. و ربما زاره عضد الدولة و إن له اكثر من مائتي مصنف.

الاستبصار و التهذيب

و ألف الشيخ الطوسي المتوفي سنة 460 ه الاستبصار و التهذيب المطبوعين عدة طبعات و هذان الكتابان مع كتاب الكافي و من لا يحضره الفقيه تعرف عند الامامية بالصحاح الأربعة لكون مؤلفيها لم ينقلوا فيها إلا ما صح عندهم روايته.

الوسائل

و قد جمع محمد الحر العاملي المتوفي سنة 1104 ه روايات هذه الكتب الأربعة مع زيادة من كتب أخري كانت موضع اعتماده و صحيحة عنده في كتاب اسماه الوسائل طبع عدة مرات.

الوافي

كما جمع ملا محسن الفيض الكاشاني المتوفي سنة 1091 ه روايات هذه الكتب الأربعة و شرح أحاديثها شرحاً وافياً في كتاب اسماه الوافي.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 224

المستدرك

و جاء المرحوم محمد حسين النوري المتوفي سنة 1320 ه فاستدرك علي كتاب الوسائل المذكور ما فات صاحبه، أسماه المستدرك ثمّ أخذت كتب الأخبار عند الشيعة تتوسع.

البحار

حتي جاء المرحوم محمد باقر المجلسي المتوفي سنة 1110 ه فألف تلك الموسوعة الكبري في الأخبار المسماة بالبحار إلا أن فيها الدرة و الآجرة و لم نطلع علي من سبقهم من فقهاء الشيعة أن يجمع الأحاديث و ينظمها هذا التنظيم و يبوبها هذا التبويب و إنما كان جمعهم للأخبار التي سمعوها من الأئمة بالذات أو بالواسطة حسب موضع الحاجة الشخصية اعتماداً علي وجود الأئمة عليهم السلام عندهم فإذا ابتلوا بمسألة كان من السهل عليهم معرفتها من منبعها و هو إمام ذلك الوقت.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 225

مبدأ تدوين علم الفقه عند الشيعة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 227

و لم يدون الشيعة في هذا الدور الخامس إلي زمن الغيبة الكبري سنة 329 ه علم الفقه علي النهج المعروف فعلا من تحرير المسائل الفقهية. و بيان الدليل عليها إذا لم تكن بديهية و بيان اصح الأقوال فيها أو أظهرها أو ظاهرها إذا كانت مختلف فيها بل كانت فتاواهم المدونة هي نصوص الأحاديث إلي أن جاء ابن أبي عقيل الحسن بن علي بن أبي عقيل أبو محمد العماني الحذاء شيخ الشيعة و وجهها و فقيهها فإنه أول من حرر المسائل الفقهية و ذكر لها الأدلة و فرع عليها الفروع في ابتداء الغيبة الكبري و قد أثني الشيخ المفيد علي كتابه (المتمسك بحبل آل الرسول) في الفقه و قد ادرك زمان السيمري آخر السفراء و زمان الكليني و عاصر الصدوق علي بن بابويه و استجازه جعفر بن قالويه صاحب كتاب كامل الزيارة المتوفي سنة 369 ه أو سنة 368 ه و جاء بعده

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 228

الشيخ الفاضل أبو علي محمد بن احمد بن جنيد الإسكافي المتوفي سنة 381 ه

صاحب كتاب تهذيب الشيعة في عشرين مجلداً يشتمل علي جميع أبواب الفقه. و كتاب المختصر في الفقه الأحمدي اختصر به كتابه التهذيب و هو الذي وصل لأيدي المتأخرين و منه انتشرت مذاهبه و أقواله فقد قام رضي الله عنه بتحرير المسائل الفقهية علي وجه الاستدلال و قد أدرك زمان السيمري و الكليني صاحب الكفاية، و رأيت بخط والدي رضي الله عنه أن الإسكافي هو الذي دون الأصول علي مذهب الامامية و كذا تحرير الفتاوي في الكتب الفقهية. قال العلامة المجلسي في كتابه: مرآة العقول (و هو المتبحر و المطلع علي كثير من أصول القدماء و كتبهم): إن الإفتاء لم يكن شائعاً في زمن الكليني رحمه الله و ما قبله بل كان مدارهم علي نقل الأخبار و كانت تصانيفهم مقصورة علي جمعها و روايتها و بالطبع مراده رحمه الله عند الشيعة الاثني عشرية و إلا فالسنة كانت الفتاوي عندهم اكثر من أن تحصي، ثمّ جاء من بعد ابن جنيد و الإسكافي تلميذهما الشيخ محمد الملقب بالمفيد رضي الله عنه المتوفي سنة 413 ه فألف ما يقارب المائتي كتابٍ و منها كتابه المسمي (بالمقنعة) الذي بين مصادره و ذكر أدلته من الأخبار و الأحاديث الشيخ الطوسي و أسماه (بالتهذيب) أحد الكتب الأربعة و من جلالة قدر المفيد رحمه الله

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 229

في الأوساط الدينية انه كان يزوره عضد الدولة. ثمّ جاء من بعده تلميذه علم الهدي الشريف المرتضي المتوفي سنة 436 ه فألف كتبه في أصول الدين كالشافي و في أصول الفقه كالذريعة و يقال انه أول كتاب صنف في هذا الباب للشيعة و لم يكن لهم في علم أصول الفقه قبل هذا إلا

رسائل مختصرة و ألف رحمه الله في فروع الفقه الناصريات و الانتصار و غيرهما. ثمّ جاء من بعده في هذا الدور الشيخ محمد الطوسي المتوفي سنة 460 ه صاحب كتاب التهذيب و الاستبصار فألف كتاب الخلاف في الفقه الاستدلالي و كتاب المبسوط المملوء بالفروع الفقهية و الذي ذكر فيه بأنه لا يزال يسمع من معاشر مخالفينا من المتفقهين يستحقرون فقه أصحابنا الامامية و إن هذا جهل منهم بمذهبنا و قلة التأمل لأصولنا. و ألف كتاب النهاية الذي هو موضع العناية من الفقهاء و كان الفقهاء يتبعون طريقة الشيخ الطوسي و منهجه في الاستدلال و الاستنتاج و لم يخرجوا عن ذلك مدة تقارب القرن من الزمن لحسن ظنهم بالشيخ بل قيل أنهم كانوا مقلدين له حتي أن البعض لقبهم بالمقلدين له فيما استنبط و مقتفين أثره فيما اجتهد و استنتج لا يتعدون عما قال و لا يخرجون عن رأيه في البحث و المقال إلي أن جاء في هذا الدور محمد بن إدريس الحلي المتوفي سنة 598 ه فهاجم طريقة الشيخ الطوسي في

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 230

الاستنتاج و شن الحملة علي آرائه الفقهية في كتابه السرائر و فتح باب التمسك بالأدلة العقلية بينما كان المعتمد عليه في الأزمنة السابقة الإجماع و النص و الظاهر دون الأدلة العقلية ثمّ تبع ابن إدريس رضي الله عنه تلاميذه و من جاء بعده من فقهاء الشيعة في حرية الرأي و مناهج الاستدلال و الاستنتاج ضمن نطاق الأدلة الأصولية الصحيحة لديهم التي قام عندهم علي حجيتها القطع أو القطعي، و اتسع أفق البحث و النظر فيها حتي اليوم و أوجب ذلك ثروة فقهية عند الشيعة لا تكاد تجدها عند غيرهم.

علم دراية الحديث

و في هذا الدور الخامس دون علم دراية الحديث و كان أول من دونه كما في كشف الظنون أبو عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفي سنة 405 ه و تبعه ابن الصلاح الحافظ الشافعي المتوفي سنة 643 ه.

ما وصل إلينا من المؤلفات في هذا الدور الخامس

و في هذا الدور أي الدور الخامس وصل إلينا من المؤلفات في علم الرجال و الترجمة للرواة و الأصحاب فهرست ابن النديم المتوفي سنة 385 ه و رجال الكشي فانه مكن أعلام القرن الرابع و رجال النجاشي المتوفي سنة 405 ه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 231

أول من ألف في علم الرجال

و قد اثبت العلامة الجليل الورع السيد حسن الصدر بأن أول من ألف في علم الرجال أبو محمد عبد الله بن جبلة الكناني المتوفي سنة 219 ه لا ما قاله السيوطي من أن أول من تكلم فيه شعبة المتوفي سنة 260 ه.

الشيخ الرئيس ابن سينا

و في هذا الدور توفي الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا الحسين سنة 428 ه يوم الجمعة من شهر رمضان و يظهر من آخر كتابه الشفاء تشيعه و إن كان نسبه بعضهم إلي أنه تفقه علي مذهب أبي حنيفة.

الزمخشري

و توفي الزمخشري سنة 538 ه صاحب كتاب الكشاف في تفسير القرآن المجيد.

جامع الأزهر

و في هذا الدور انشأ جوهر الصقلي قائد الخليفة الفاطمي سنة 359 ه جامع الأزهر و اقتصر فيه علي التدريس علي المذهب الفاطمي و يذكر أن أول كتاب درس فيه هو كتاب

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 232

(الاقتصاد في فقه آل الرسول) ثمّ كتاب (دعائم الإسلام في الحلال و الحرام).

طلب جلال الدين تلقيبه بملك الملوك

و في هذا الدور الخامس سنة 429 ه طلب جلال الدين القائم بأمر الله البويهي أن يخاطبه الناس بملك الملوك فقالوا له نستفتي الفقهاء بذلك فأفتي بالجواز أبو الطيب الطري و الصيمري و ابن البيضاوي. و الكرخي و لقب بملك الملوك و امتنع صديقه الفقيه أبو حسن الماوردي و أفتي بالحرمة و لزم بيته خوفاً من القتل و في ذات يوم أرسل عليه و مدحه علي تصلبه في ذات الله و عدم فتواه.

إظهار الشعائر الحسينية في هذا الدور

و في هذا الدور سنة 352 ه أمر معز الدولة البويهي أن تغلق الدكاكين و أن تظهر الناس الحزن في عاشر محرم علي الحسين عليه السلام كما أمر بإظهار الزينة في البلد يوم 18 ذي الحجة فرحاً بعيد الغدير.

اتخاذ أهل السنة 26 ذي الحجة عيداً

و في مقابل ذلك اتخذ أهل السنة يوم 26 ذي الحجة عيداً لأنه يوم دخول النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و أبي بكر إلي الغار و جعلوا يوم 18 محرم يوم حزن لأنه قتل فيه مصعب بن الزبير.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 233

الدور السادس

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 235

و هو يبدأ من أواخر القرن السابع الهجري و ينتهي بأواخر القرن الحادي عشر حيث بدأ فيه النهوض من أهل السنة بالخروج عن التقليد و التحرر من الجمود. علي آراء المتقدمين تدريجاً بشكل دوائر ضيقة ثمّ أخذت تتسع شيئاً فشيئاً حيث أن تبدل الظروف و الأحوال و تطور الأوضاع و الحوادث و تجدد المصالح و المفاسد و المسايرة لركب الحضارة كان الناس من فقهائهم في حرج و ضيق من الجمود علي التقليد للمجتهدين المتقدمين و اصبح من المحتم عليهم الرجوع للمصادر الفقهية الأصلية و منابعه الأولية و الخروج من التقيد بفتاوي السابقين فكان ممن استبق الباب في هذا المضمار و خرج عن التقليد و رجع لأدلة الأحكام من الكتاب و السنة و نحوها من المصادر تقي الدين السبكي الشافعي المتوفي سنة 683 ه و نجم الدين أبو ربيع الطوني المتوفي سنة 716 ه

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 236

و ابن تيمية المتوفي سنة 728 ه و الذي اعتقلوه في القاهرة حتي كتب السلطان إلي دمشق ان من اعتقد اعتقاد ابن تيمية حل ماله و دمه. و تلميذه ابن القيم المتوفي سنة 751 ه الذي نكبوا به بألسنتهم و خليل بن اسحاق الكردي المصري المتوفي سنة 776 ه.

و قد كان لعلماء الشيعة اليد الطولي في إخراج فقهاء السنة من التقليد لكثرة احتجاجاتهم عليهم

و مباحثتهم معهم فيه فكان في بغداد عاصمة الدولة الإسلامية تجد فقهاء الشيعة قد ناقشوا أرباب المذاهب السنية بصورة حادة في النوادي و المجالس العامة و التأليف علي ضوء الكتاب و السنة و تلمس ذلك فيمن كتب من تقدم علي هذا الدور منهم كالشيخ المفيد و السيد المرتضي و الشيخ الطوسي فأدي ذلك إلي اليقظة في نفوس متبحري علمائهم نحو الاجتهاد و الخروج عن التقليد.

و في هذا الدور السادس ظهرت الدولة الصفوية في إيران برئاسة الشاه إسماعيل بن حيدر المنتهي نسبه إلي الإمام موسي بن جعفر عليه السلام سنة 905 ه و قد بالغوا بإكرام العلماء حتي جعلوا أمر المملكة بيد فقيه العصر المحقق الثاني الشيخ علي الكركي و شيدوا المدارس و المساجد و ألف الشيخ البهائي الكثير

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 237

من الكتب باسم الشاه عباس كالجامع العباسي و نحوه و استمر ملكهم إلي سنة 1148 ه و هي السنة التي جلس فيها نادر شاه علي سرير الملك.

الفتاوي الهندية

و في أواخر هذا الدور ألف السلطان محمد علمكير أحد ملوك الهند لجنة من مشاهير علماء الهند برئاسة الشيخ نظام لتصنع كتاباً جامعاً لظاهر الروايات التي اتفق عليها المذهب الحنفي فألفوا في ذلك كتاباً قد عرف بالفتاوي الهندية يذكر فيه آراء الفقهاء ثمّ يتبع بفتوي اللجنة ليكون مرجعاً للحكام و القضاة و المفتين إلا أن هذا الجمع لم يكن رسمياً و لا شبه الرسمي ليكون ملزماً لهم. و قد نبغ في هذا الدور أبو القاسم جعفر الحلي المتوفي سنة 676 ه صاحب كتاب الشرائع و المختصر النافع. و العلامة الحلي حسن بن يوسف المتوفي سنة 726 ه صاحب التآليف الكثيرة في الفقه و الشهيد الأول

أبو عبد الله محمد بن الشيخ جمال الدين المستشهد سنة 786 ه صاحب الذكري و القواعد و اللمعة و غيرها.

استشهاد الشهيد الأول و الثاني

و كان استشهاده بفتوي برهان الدين المالكي و ابن جماعة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 238

الشافعي بقتله فحبس سنة ثمّ قتل بالسيف ثمّ احرق بالنار. و الشهيد الثاني علي بن احمد العاملي المتشهد سنة 966 ه فألف الكتب القيمة في علم الفقه و في طليعتها المسالك في شرح الشرائع و شرح اللمعة للشهيد الأول. و المحقق الاردبيلي المتوفي سنة 993 ه شارح الإرشاد.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 239

الدور السابع

اشارة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 241

يبدأ هذا الدور من أواخر القرن الحادي عشر الهجري إلي ما نحن فيه فقد أدرك المسلمون و العرب ما وصل إليه حاضرهم و استيقظ الوعي الديني و القومي فيهم و قاموا بنهضة واسعة بحركات باسم الدين و الرجوع للكتاب و السنة و الخروج عن التقليد بشكل دوائر واسعة.

الحركة الوهابية

ففي نجد و الحجاز كانت الحركة الوهابية التي قام بها محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي المتوفي سنة 1206 ه في القرن الثاني عشر الهجري المصادف للقرن الثامن عشر الميلادي متخذاً الدين شعاراً لها و الرجوع للكتاب و السنة و عمل السلف هدفاً لها و كانت بداية ظهوره سنة 1143 ه

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 242

و انتشر أمره و اشتهر سنة 1150 ه و كان بينه و بين جدنا الشيخ جعفر كاشف الغطاء مكاتبات و مطارحات قد طبعت في إيران و قد حضر بحث جدنا المذكور في النجف الأشرف. و حضر بالبصرة عند الشيخ مهدي البصري. و كان ممن قام بنصره و نشر دعوته أمير المشرق سعود أمير الدرعية ثمّ بعده ولده محمد ثمّ من بعد محمد أولاد محمد و أحفاده.

حركة السنوسي و غيرها

و في ليبيا ظهر محمد بن السنوسي داعياً لنبذ التقليد و مناشداً للرجوع لمصادر الدين الحنيف.

و في السودان ظهرت حركة المهدي تهدف لذلك.

و في مصر قام السيد جمال الدين الافغاني مع تلميذه الشيخ محمد عبده و السيد رشيد رضا بمحاربة التقليد حتي صرح الأخير في مجلته المنار بقوله (لن يستطيع شعب إسلامي أن يتحمل أثقال تقليد المقلدين لمذهب واحد).

حركة كاشف الغطاء

و في العراق و إيران قام جدنا كاشف الغطاء المتوفي سنة 1228 ه صاحب كشف الغطاء بمحاربة الجمود الفكري الفقهي علماً و عملًا و قضي بجهود جبارة علي الدعوة للبقاء

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 243

علي تقليد الأموات و علي الدعوة للتقيد بالرجوع لأصل واحد هو الأخبار و علي الدعوة لنبذ العمل بأصول الفقه من الكتاب و الإجماع و العقل و دعا رحمه الله للعمل بأصول الفقه التي قام القطع و القطعي علي حجيتها و صحة التمسك بها ثمّ أنه رحمه الله بذل قصاري جهده و تبعه علي ذلك أشباله رحمهم الله علي تمصير النجف الأشرف و بناء السور لها و نقل الدراسة الدينية إليها و استدعي العلماء في العلوم الإسلامية حتي الطب و الفلك و الحساب و دعا العرب و العجم للدراسة الدينية فيها فولد الحركة العلمية الفقهية حتي أصبحت النجف الأشرف هي المركز العام للدراسة الدينية و لا تزال بحمد الله باقية حتي الآن و انك لا تجد فقيهاً شيعياً أو مرجعاً للتقليد إمامياً إلا و تنتهي سلسلة أساتذته إليه رحمه الله.

النجف الأشرف

و اليوم النجف الأشرف غنية بالعلوم الدينية و المعارف الإلهية خرجت رجالًا و أقطاباً من الفقهاء من مختلف الأقطار الإسلامية و قد توفرت فيها الدراسة الحرة للعلوم الإسلامية ما لم تتوفر لغيرها من المعاهد و المدارس و أوفدت الكثير من خريجيها لكثير من الأقطار لتعليم الفقه و إرشاد الضال و الدعوة للإسلام. و قد أنشأنا فيها المدارس الدينية استهدفنا فيها جمع

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 244

الكلمة و وحدة الصف و محاربة التبشير و لاقينا في سيرنا هذا العقبات الكئودة و قد اجتزناها بحول الله و قوته و نسأله تعالي التوفيق

لإنجاز رسالتنا علي الوجه الأكمل. أخذت كلية الشريعة في الجامعة الأزهرية و خاصة في قسم الدراسات العليا في تدريس الأحكام الفقهية و أدلتها عند مختلف المذاهب و الآراء و يعرضونها علي ما في كتاب الله و سنة نبيه غير متقيدة بمذهب خاص و بمثل ذلك قام المعهد العربي للدراسات الإسلامية. و يقوم الآن مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة بدور فعال في معالجة المسائل الفقهية المستحدثة التي هي محل الابتلاء و بيان الحكم الشرعي لها مستمدين معرفتها من الكتاب و السنة من غير تقيد بمذهب من المذاهب الإسلامية حضرنا فيه بأنفسنا أو بالنيابة عنا غير مرة و أهم ما عالجنا فيه موضوع التأمين علي الحياة و المعاملات المصرفية و الأهلة و اليانصيب.

محاربة الإلحاد و التبشير

و لا بد لنا من التنبيه علي أمر ذي بال هو محاربة الإلحاد و التبشير للإسلام في عقائده و فروعه فقد كان المبشرون و الملحدون يدعون الدول الإسلامية لنبذ القواعد و الأحكام الإلهية و يعمدون لهدم مقومات الشريعة الإسلامية و إذابة

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 245

شخصيتها الدينية بحجة اختلاف الآراء فيها و إن الإسلام نظري لا واقعي و انه لا يتماشي مع ركب الحضارة و لا يمكن لدولة أن تتخذه مبدءاً لسلوكها و سيرها في خضم هذه الحياة العملية و لا بد لنا من العمل بالقوانين الغربية و التشريعات الدولية.

مجلة الأحكام

و هذا ما دعا الحكومة العثمانية يوم كانت تتسم بالخلافة الإسلامية ان تكلف

جماعة من العلماء أسموها بجمعية المجلة بوضع قانون في المعاملات المدنية من الفقه الحنفي مع الأخذ بالقول الموافق لمصالح الناس في المذهب الحنفي و كان ذلك في آخر القرن الثالث عشر الهجري.

أعضاء اللجنة التي وضعت المجلة

و تتألف اللجنة من سبعة أعضاء برئاسة احمد جودت باشا ناظر ديوان الأحكام العدلية. و عضوية احمد خلوصي و احمد حلمي من أعضاء ديوان الأحكام العدلية. و محمد أمين الجندي. و سيف الدين من أعضاء شوري الدولة. و السيد خليل مفتش الأوقاف. و الشيخ محمد علاء الدين بن عابدين، فرفعت تقريراً للصدر الأعظم عالي باشا سنة 1286 ه جاء فيه: (ان علم الفقه بحر لا ساحل له و استنباط درر المسائل اللازمة منه

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 246

يتوقف علي مهارة علمية و ملكة كلية و علي الخصوص مذهب الحنفية لأنه قام فيه مجتهدون كثيرون متفاوتون في الطبقة و يقع فيه اختلافات كثيرة و مع ذلك لم يحصل فيه تنقيح كما حصل في فقه الشافعية) ثمّ ان اللجنة باشرت عملها من سنة 1285 ه و استمر حتي سنة 1293 ه مع تغيير في الأعضاء فاجتمعوا برئاسة وزير العدل و رسموا قوانين سميت بمجلة الأحكام العدلية كانت في الأصل باللغة التركية ثمّ ترجمت إلي اللغة العربية و في سنة 1293 ه صدر الأمر بالعمل بها في كل الأقطار الإسلامية الخاضعة للدولة العثمانية المتكونة من الأتراك و التي كانت عاصمتها استانبول.

رفض مصر للعمل بمجلة الأحكام

إلا أن مصر رفضت الأخذ بقوانين المجلة المذكورة بأمر خديوها إسماعيل متظاهراً بحبه للاستقلال و التخلص من التبعية للدولة العثمانية. و قد بدأ من ذلك الوقت حتي الآن تتجه مصر في تشريع القوانين غير متقيدة بمذهب خاص مراعية في ذلك روح العصر و مستمدة من الفقه الإسلامي. و كانت مجلة الأحكام المذكورة تتكون من (1851) مادة و تتناول هذه المواد أحكام البيوع و الاجارات و الكفالة و الحوالة و الرهن و الأمانات و الهبة

أدوار علم الفقه

و أطواره، ص: 247

و الغصب و الإتلاف و الحجر و الإكراه و الشفعة و الشركات و الوكالة و الصلح و الابراء و الاقرار و الدعوي و البينات و التحليف و القضاء و لعل آخر من شرحها هو جدنا المرحوم الهادي و لكن الظاهر انه لم يتم شرحه لها و ابن عمنا الأكبر وجد و لدينا حسين و أيمن المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في أربعة مجلدات مطبوعة في النجف الأشرف.

خروج الدولة العثمانية عن التقليد

و بعد ذلك رأت الدولة العثمانية ضرورة الخروج عن التقليد و التقيد بمذهب خاص فسنت في سنة 1326 ه قوانين العائلات التي يختص بالزواج و الفرقة مستمدة في الكثير من مسائلها من غير المذهب الحنفي كالأخذ بنظرية إفساد الاكراه لعقد الزواج و الطلاق. و لما رفضت مصر الأخذ بقانون المجلة المذكورة اتجهت إلي قانون فرنسا بحجة أن كتب الفقه الإسلامي بوضعها لا يمكن التقنين منها و قد احدث ذلك ضجة الرأي العام و سخطه عليها و علي اثر ذلك قام علماء الفقه عندهم بتأليف قوانين مستمدة من المذهب الحنفي لاثبات إمكان التقنين من الفقه الإسلامي إلا أنها لم يكن لها نصيب أن تصبغ بصبغة رسمية و بدأ الناس في مصر يظهرون الشكوي لولاة الأمر و القضاء من التقيد بالمذهب الحنفي.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 248

خروج مصر من التقليد

فأوجب ذلك أن تخرج مصر في هذا الدور عن التقليد و التقيد بمذهب معين فسنت قانون رقم 56 سنة 1923 م لم تتقيد بالمذاهب الأربعة و أخذت فيه بفتوي عبد الله بن شبرمة و عثمان البتي و أبي بكر الأصم. و جاء في مذكرة قانون 25 سنة 1929 م التفسيرية بأنه موافق لآراء بعض المسلمين و لو من غير أهل المذاهب الأربعة و انه ليس هناك مانع شرعي من الأخذ بقول غيرهم خصوصاً إذا ترتب عليه نفع عام و قد خطا القانون الشرعي بهذا التعديل خطوة واسعة إلي الامام و كان قائد هذه الحركة الشيخ المراغي شيخ الأزهر و قد وضع لهذا التعديل مذكرة إيضاحية جاء في آخرها (و اني مع احترامي لرأي القائلين باستحالة الاجتهاد المطلق أخالفهم في رأيهم و أقول: ان في علماء المعاهد الدينية في مصر

من توفرت فيهم شروط الاجتهاد و يحرم عليهم التقليد) و بذلك فتح باب الاجتهاد فعادت إلي الفقه روح الحياة و كان هو أول من اقترح دراسة المقارنة بين المذاهب في كليات الأزهر و صارت بذلك مادة من مواد الدراسة المقررة في السنة الرابعة لكلية الشريعة الإسلامية.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 249

خروج سوريا من التقليد

ثمّ خطت سوريا فوضعت قانوناً شاملًا لجميع أحكام الأسر من الزواج و ما يتفرع عنه من نفقة و نسب و حضانة و طلاق و تفريق وعدة لجميع أحكام الأهلية و ما يتفرع عنها من نيابة شرعية عن القاصرين كالولاية و الوصية و القيمومة و لجميع أحكام الميراث و كانت أحكام هذا القانون مستمدة من مختلف المذاهب الإسلامية.

اليمن

و أيضاً اليمن لم تعمل بقانون المجلة و كان المذهب الرسمي الذي يطبق وحده هو المذهب الزيدي.

المملكة العربية السعودية

و هكذا المملكة العربية السعودية لم تعمل بقانون المجلة و كان المذهب الحنبلي هو المذهب الرسمي الذي تعمل به و بعد اكتشاف البترول ألحقت به بعض القوانين الحديثة لبعض الأمور المستحدثة كنظام السيارات و نظام النقد و نحو ذلك.

إيران

و أما إيران فهي لم تعمل بالمجلة و كانت تطبق القانون الشيعي الاثني عشري.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 250

باكستان و الهند

و هكذا باكستان و الهند فإنهما في زمن الاحتلال البريطاني سنت السلطة سنة 1772 م قانوناً ينص علي أن الشريعة القرآنية يعمل بها في جميع قضايا الإرث و الزواج و غيرها من العادات فاقتضي ذلك أن يرجع القضاة و رجال القانون إلي الفقه الإسلامي في دعاوي المسلمين.

و قد اشتهر عند الحنفية منهم كتاب الهداية ثمّ فتاوي الهندية العالمكيرية و السراجية و غيرها.

و اشتهر عند الجعفرية منهم كتاب شرايع الإسلام للمحقق الحلي رحمه الله. و قد ترجم (بايلي) القسم الكبير من كتاب الشرائع و بعض أبواب الفتاوي الهندية إلي اللغة الانكليزية و ترجم (هاملتون) الهداية سنة 1791 م و ترجم السير وليم جونز كتاب السراجية سنة 1792 م، و بعد منتصف القرن التاسع عشر بدأت الحكومات حركتها التشريعية فأصدرت عدة قوانين منها قانون إلغاء الرق سنة 1823 م و قانون الأوقاف سنة 1913 م و غيرها.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 251

المذهب السلفي

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 253

و في هذا الدور السابع ظهر المذهب الذي يدعو للرجوع للكتاب و السنة و يحارب التقليد للمذاهب و يسمي بالمذهب السلفي نسبة للسلف المتقدم فإنه كان مذهبهم و طريقتهم في معرفة الأحكام الشرعية هو أخذها من الكتاب و السنة الصحيحة، و قد قام بهذه الدعوة السيد جمال الدين الأفغاني و تلميذه من بعده الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية و قد أخذت مجلة المنار المصرية لصاحبها محمد رشيد رضا نشر مبادي هذه الدعوة علي صفحاتها.

و المذهب السلفي يقرب من المذهب الوهابي في الرجوع لأصل الشريعة من الكتاب و السنة الصحيحة و الاجتهاد علي هذا الأساس و نبذ الخرافات و البدع المخالفة للدين و الثورة علي جميع التقاليد و

يري المذهب السلفي أن الشرع الإسلامي يتماشي مع الحضارة الحديثة و يفتون بحلية اكثر المعاملات التي

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 254

اقتضتها الحاجات التجارية في هذا اليوم و إن الصحيح المنقول في الشرع الإسلامي موافق دائماً لصريح المعقول هذه هي دعوتهم و لكن المهم هو تطبيقها علي الوجه الصحيح.

فتنة الشيخية

و في هذا الدور ظهرت فتنة الشيخية الفرقة المسماة بالكشفية و إليك ملخص ما جاء في كتاب العبقات: إن جماعة من فضلاء النجف عثروا علي بعض رسائل للسيد كاظم الرشتي القاطن في كربلاء فرأوا فيها ما يستنكرونه و يرونه من الكفر و الضلال فاجتمعوا و كان رئيسهم الشيخ موسي بن الشيخ عيسي بن الشيخ خضر رحمه الله و كلموا الشيخ علي رحمه الله بن الشيخ الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء في الحكم بكفر السيد كاظم فأبي و امتنع فلما أيسوا منه ذهبوا لصاحب الجواهر الشيخ محمد حسن رحمه الله فاطلعوه علي رسائل السيد كاظم المذكور و طلبوا منه الحكم بكفره فقال صاحب الجواهر رحمه الله: أن حكمي لا يفيد وحدي مع وجود الشيخ علي كاشف الغطاء فذهبوا إلي الشيخ علي و قالوا له: إذا حكم الشيخ محمد حسن فما أنت صانع فقال: لا أبطل حكمه فحكم الشيخ محمد حسن قدّس سرّه بكفر السيد كاظم و من اتبعه و أحرق جميع رسائله بعد انتزاع

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 255

الآيات و الأحاديث و الأسماء الشريفة منه و أمر بأن تمحي من زيارة الأمير عليه السلام الزيارة المسماة (بشيشم) بعض الفقرات الموهمة بالربوبية للأمير عليه السلام كفقرة (السلام عليك يا منزل المن و السلوي) و غيرها مما ظاهره الغلو. و كان امتناع الشيخ علي عن الحكم بكفره أوجب

عدم قتله، قال المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: حدثني السيد جعفر جلال و كان من الملازمين للشيخ علي كاشف الغطاء إني كنت في أثناء هيجان الفتنة المذكورة عند الشيخ علي المذكور فبينما نحن جالسون إذ دخل علينا حسن آغا بن صادق آغا و كان من أعاظم رؤساء الشيعة و ذا ثروة مشهورة و بعد أن استقر به المجلس خاطب الشيخ علي رحمه الله فقال له: يا مولاي جئتك في أمر مهم فقال رحمه الله: لا أهمك الله و ما هو فقال: أنا حيران في أمر السيد كاظم الرشتي و ما تكليفنا معه فبعضكم يكفره و بعضكم يؤيده و بعضكم يسكت عنه فقال الشيخ علي رحمه الله: أنا مع القسم الثالث. فخرج علي حيرة يجر رجليه بعد أن لثم يد الشيخ و قدميه. و اتفق أن سافر المرحوم الشيخ علي كاشف الغطاء لكربلاء في موسم أحد الزيارات و كان المرحوم صاحب الجواهر قد جاء إلي كربلاء فجمع السيد سعيد ثابت كليددار كربلاء و حاكمها بين الشيخ علي رحمه الله و الشيخ صاحب الجواهر رحمه الله مع السيد كاظم الرشتي المذكور في الصحن الحسيني و وقف السيد سعيد و بيده سيف مسلول و قال لهم: بيني و بين السيد كاظم هذا المجلس فإن حكمتم بكفره ضربت عنقه فعلا و أخمدت ثائرة هذه الفتنة و إلا ضربت عنق من يتكلم عليه فقال الشيخ علي للسيد سعيد من المحاكم و من الحكم فقال له: أنت المحاكم و الحكم فقال الشيخ علي رحمه الله للشيخ محمد حسن صاحب الجواهر رحمه الله سله عما في نفسك منه فقال الشيخ حسن للسيد كاظم: أسألك عن فقرتين في رسائلك صريحة في الكفر

و هي هذه و أخرج رسالة كانت تحت ردائه و فتحها فناقش السيد كاظم في دلالتهما علي الكفر فلما سمع الشيخ علي ذلك نفض ثيابه و قام و التفت إلي السيد سعيد و قال له: يا سيد سعيد الحدود تدرأ بالشبهات و حفظ النفوس في شرعنا من أهم الواجبات.

الحركة العلمية في كربلاء

و في هذا الدور اعني الدور السابع ازدهرت كربلاء بالفقهاء النوابغ ذوي المكانة السامية و المقام الكريم منهم الشيخ يوسف صاحب الحدائق و الآغا محمد باقر البهبهاني المتوفي سنة 1208 ه و السيد علي صاحب الرياض المتوفي سنة 1232 ه و السيد إبراهيم القزويني صاحب الضوابط و السيد محمد

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 257

المجاهد بن صاحب الرياض المتوفي سنة 1242 ه و شريف العلماء المتوفي بالطاعون سنة 1246 ه و الشيخ محمد حسين الأصفهاني المتوفي سنة 1255 ه.

الحركة العلمية في النجف الأشرف

و بعد هذا ازدهرت النجف الأشرف بفطاحل الفحول السيد مهدي الطباطبائي بحر العلوم المتوفي سنة 1212 ه صاحب المصابيح و غيرها و ما زلنا نتوسل به إلي الله تعالي في قضاء حوائجنا و تيسر أمورنا و لا يسع هذا المختصر عد فضائله و شرح مواقفه.

و جدنا الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفي سنة 1228 ه صاحب كشف الغطاء و الشيخ حسين نجف و غيرهم من فطاحل العلماء كالشيخ محمد يونس و الشيخ محمد محي الدين و غيرهم، و كان المرحوم السيد مهدي يصلي في مسجد الطوسي و الشيخ جعفر في مسجد الهندي و الشيخ حسين في داره و قد يصلي في الحرم و لم تكن الصلاة في الصحن الشريف معروفة قبل هذا.

ثمّ سافر الشيخ جعفر للحج و جعل الشيخ حسين يصلي في مكانه.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 258

موقف آل كاشف الغطاء من الحركة العلمية في النجف الأشرف

إنه لما رجع الشيخ جعفر جدّ أسرة آل كاشف الغطاء من الحج اجمع العلماء علي أن يجعلوا أمر التدريس للسيد مهدي رحمه الله و أمر الفتوي و التقليد للشيخ جعفر حتي أن المرحوم السيد مهدي أمر أهله بتقليد الشيخ جعفر.

و أمر صلاة الجماعة للشيخ حسين نجف فلم يكن سواه إمام في النجف الأشرف و كانت العلماء تقتدي به حتي السيد مهدي و الشيخ جعفر يصليان خلفه اغلب الأوقات، و لم يبق السيد مهدي رحمه الله إلا أياماً قليلة حتي انتقل إلي جوار ربه و اصبح التدريس منحصراً بالشيخ جعفر حتي ذكر المؤرخون إنه كان تحت منبره من المجتهدين ما لا يحصي عده فضلا عن المراهقين للاجتهاد، و قد قام الشيخ جعفر رحمه الله علي تمصير النجف فبني لها سوراً و أسكن بها جملة صالحة من بيوت العرب

و العجم لدرس العلوم الدينية فيها و تولي الزعامة الدينية و أصبحت له المرجعية العامة في التقليد و بلغ من حرصه علي تقدم الثقافة و نموها أن استدعي جملة من المهرة في سائر العلوم للنجف و تصدي لصد هجمات الأعراب عليها و التزم بإعاشة الطلاب فيها حتي اشتري لهم الدور و المساكن و بذل لهم حتي مصارف الأعراس فضلا عن اللوازم و الضرورات.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 259

الشيخ موسي كاشف الغطاء

ثمّ تولاها من بعده ولده الأكبر الشيخ موسي المتوفي 1241 ه فكانت له المرجعية العامة للشيعة و كان الأمر مردداً بينه و بين الميرزا القمي رحمه الله و قد سأله الفضلاء عن الشيخ موسي عند ما قصد الحج عن طريق النجف في سنة وفاة الشيخ جعفر رحمه الله فقال:

لا علم لي به و لكن اكتب لكم ثلاث مسائل فإن أجابني نظرت في جوابه و ميزت مقدار علمه، فكتب المسائل و بعثها إلي الشيخ موسي و كان قبل الغروب و قال للفضلاء أمهلوه عشرة أيام فجاءوا بها للشيخ موسي و هو مشغول بالوضوء لصلاة الغروب فقال الشيخ موسي: إني مشغول بأمور مهمة و قد أقلقت فكري و الوقت ضيق فقالوا له:

انه يمهلك عشرة أيام فقال رحمه الله: قفوا فخذوا ما تيسر علي العجلة و نادي أخاه الشيخ علي و أخذ هو يملي عليه و الشيخ علي يكتب فما أتم وضوءه إلا و أتم الجواب عنها فجاءوا بها للقمي رحمه الله و هو بعد لم يقم من مقامه فتعجب غاية العجب و قال هذا لا يكون إلا للقادر القدير فأمهلوني أراجع جوابه و أعطيكم غداً رأيي فيه فلما بكروا عليه قال لهم: اسألوا الشيخ موسي عن اجتهادي فقد

شككني علمه حفظه الله في أمري و لا أري أن اقلد مع وجود مثله فعند ذلك قلده الجميع.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 260

و نقل لي الثقة العلامة الشيخ جعفر آل شيخ راضي عن الشيخ العلامة الشيخ مجتبي اللنكراني أن صاحب القوانين حضر عند الشيخ موسي في الدرس و لما عرضت القوانين عليه قال: هذه بضاعتنا ردت إلينا. و قد اصلح بين الدولتين الإيرانية و العثمانية حقناً لدماء المسلمين، و قد تلمذ علي يده من العلماء ما لا يحصي عده كشريف العلماء و الشيخ الأنصاري.

الشيخ علي كاشف الغطاء

ثمّ جاء من بعده أخوه الشيخ علي المتوفي سنة 1254 ه الولد الثالث للشيخ كاشف الغطاء فصارت له المرجعية باجتماع العلماء في مسجد الهندي كالشيخ خضر شلال و الشيخ محسن خنفر و أمثالهما علي تعيينه للمرجعية العامة و تقليده و جعلت العلماء تحضر درسه و ينثر عليهم من العلوم ما لم يعهد مثله حتي سمي بالمحقق الثالث و من تلاميذه المعروفين: الشيخ مرتضي الأنصاري، و شريف العلماء، و السيد إبراهيم صاحب الضوابط، و السيد مهدي القزويني، و مير فتاح صاحب العناوين و غيرهم من العلماء الأساطين. و عن البراقي أن درس الشيخ علي كان مشتملًا علي ثمان مائة تلميذ كلهم ما بين مجتهد و مراهق.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 261

الشيخ حسن كاشف الغطاء

ثمّ جاء من بعده أخوهما الشيخ حسن المتوفي سنة 1262 ه الولد الرابع للشيخ كاشف الغطاء صاحب أنوار الفقاهة.

سؤال المفتي الآلوسي للشيخ حسن

و من عظمة فضله أن المفتي الآلوسي صاحب التفسير سأله في محضر جماعة من العلماء عن وجود نص في الكتاب علي النهي عن تخلف الناس عن خلافة الأمير عليه السلام فأجابه المرحوم الشيخ حسن: (نعم) فتعجب الحاضرون فقال المفتي: فأت به فقرأ الشيخ حسن آية المباهلة فقال المفتي: و ما الدلالة فيها؟ قال الشيخ حسن: أسألك ما المراد بأنفسنا قال المفتي: المراد النبي صلّي الله عليه و آله و سلّم و الإمام علي عليه السلام قال الشيخ حسن: قال الله تعالي (مٰا كٰانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرٰابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّٰهِ وَ لٰا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) و أراد الله بلفظ (نفسه) هو الإمام علي عليه السلام لا الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم و إلا لقال (عنه) فإنه أوجز و أبلغ و أصرح. و عليه فيكون أهل المدينة بعد الرسول صلّي الله عليه و آله و سلّم قد فعلوا ما نهوا عنه و هو التخلف عن نفس الرسول و الرغبة عنها.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 262

وجود اسم علي عليه السلام في القرآن الكريم

ولي موقف كذلك أقمت الدليل عليه بقوله تعالي هذا (صِرٰاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) في سورة الحجر فإن الأصح قراءته باسم (علي) لا بباء المتكلم و إلا لزم أن يكون الصراط علي الله. و لا بنحو التوصيف فإن الصراط لا يوصف بالعلو و إنما يوصف بالسعة و القرب و الاستقامة. و ينقل عن الشيخ محسن خنفر أنه كان يقول: ليس أحد في المتقدمين و المتأخرين افضل من الشيخ حسن بن الشيخ جعفر. و قد قام أحسن القيام بشئون الحوزة العلمية و شئون الشيعة الاثني عشرية سنة 1253 ه فإنه قد رفع القتل عن

أهل النجف الذي أراده الوزير نجيب باشا عند ما كان والياً علي العراق بعد عزل الوالي علي باشا فإنه بعد أن ذبح أهالي كربلاء شر مذبحة في ذي الحجة سنة 1258 ه و قصد النجف فهرع الناس للشيخ حسن عند ما سمعوا ذلك اجتمع عنده العلماء و أشراف البلد فأرسل الشيخ حسن رسالة بيد السيد جواد شبر لنجيب باشا يدعوه للضيافة عنده فحملها له و أعطاه إياها في مسجد الكوفة فلبي الدعوة و نزل ضيفاً علي الشيخ حسن و كان بمعيته الشيخ وادي شيخ زبيد و الملا علي الحضي إلي غير ذلك من مواقفه الكريمة التي لا تحصيها الصفحات

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 263

الكثيرة. و قد كان من تلاميذ الشيخ حسن رحمه الله الذين صارت لهم المرجعية العامة السيد حسن الشيرازي.

ثمّ قام من بعده الشيخ محمد بن أخيه الشيخ علي كاشف الغطاء المتوفي سنة 1268 ه بأعباء الزعامة الدينية و المرجعية في التقليد قال صاحب نقد الرجال الشيخ عبد الرحيم: إن الشيخ محمد من المجتهدين المعروفين و العلماء المبرزين و حوزة درسه مملوءة من الفضلاء و العلماء و الطلبة. قال المرحوم صاحب العبقات: إن الشيخ محمد ألقيت إليه مقاليد الرئاسة و هو يتولي مفاتيح الحرم الحيدري.

السيد رضا الرفيعي

ثمّ أناب السيد رضا الرفيعي منابه ثمّ جعله مكانه و هو الذي انحلت به فتنة الزقرت و الشمرت و أنزلهم من رباياهم المسماة بالصناكر في النجف الأشرف و أخذ العهد من رؤسائهم علي عدم العود إلي تقاتلهم و تناكرهم و أحلفهم علي ذلك بالقرآن الشريف عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام.

ثمّ من بعد وفاة الشيخ الأنصاري رحمه الله سنة 1281 ه قام بأعباء الزعامة الدينية و المرجعية في

التقليد الشيخ مهدي كاشف الغطاء المتوفي سنة 1288 ه أخو الشيخ محمد المذكور و قد قلده حتي أهالي آذربيجان و قرباغ و طبعت رسالته العملية

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 264

في تبريز بأمر السلطان مظفر الدين شاه يوم كان فيها ولياً للعهد و كان المرحوم الشيخ الأنصاري يعتمد علي الشيخ مهدي و ينشر ذكره و يعلن اجتهاده فاخذ يعلو و يسمو حتي أصبحت له المرجعية العامة بعد الأنصاري و قد شيد مدرسة لطلاب العلوم الدينية في النجف الأشرف كانت محبساً لملا يوسف و بني مدرسة جده الشيخ جعفر كاشف الغطاء في النجف الأشرف أيضاً و بني مدرسة لأهل العم في كربلاء ثمّ قام من بعده أخوه الشيخ عباس و له مواقف جليلة ذكرها المؤرخون ثمّ قام من بعده الشيخ عباس نجل الشيخ حسن صاحب المؤلفات الكثيرة و المواقف العظيمة ثمّ من بعده الشيخ علي و ولداه الشيخ احمد و الشيخ محمد حسين وجدنا الشيخ هادي و أبونا الشيخ محمد رضا لهم آثار قيمة و أعمال عظيمة سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور.

و من علماء هذا الدور صاحب الجواهر المتوفي سنة 1266 ه و كان للشريعة حارساً و علماً و مرجعاً منفرداً.

و من علماء هذا الدور الشيخ الجليل الشيخ راضي المتوفي سنة 1288 ه ابن بنت المرحوم الشيخ الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء و ابن عمه. و من تلاميذه الشيخ جعفر الواعظ المشتهر بالتستري و له المقام العظيم في نفوس رجال الدين و حضر مجلس درسه العلماء المبرزون.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 265

و من علماء هذا الدور السيد الكوه كمرئي المتوفي سنة 1299 ه و كان له المرجعية في النجف الأشرف بعد المرحوم الشيخ مهدي كاشف

الغطاء.

و من علماء هذا الدور السيد حسن الشيرازي المتوفي سنة 1312 ه و بعد وفاة السيد حسين الكوه كمرئي سنة 1299 ه انفرد بالزعامة السيد حسن المذكور و لكنه انتقل من سكني النجف إلي سكني سامراء لسوء التفاهم الذي حصل بينه و بين أهالي النجف فانهم علي ما رواه لي الثقة العالم الشيخ جعفر من آل الشيخ راضي عن العلامة السيد جعفر بحر العلوم بأن أهالي النجف طلبوا من السيد الشيرازي أن يرفع الجندية الإجبارية عنهم كما كان قد رفعها عنهم المرحوم الشيخ راضي المتقدم ذكره فقال رحمه الله: أي أمر استفدناه من أهالي النجف حتي نرفع ذلك عنهم فأوجب ذلك أن تقع وحشة بينه و بين أهالي النجف أوجبت أن يرتحل منها ثمّ استقر رأيه علي الانتقال لسامراء.

و من علماء هذا الدور المحقق الشيخ كاظم الخراساني المتوفي سنة 1329 ه.

و السيد كاظم اليزدي المتوفي سنة 1337 ه اللذان انتقلت الزعامة الدينية و الدراسة العلمية من سامراء إلي النجف الأشرف بانتقالهما ثمّ تفرد السيد كاظم بالمرجعية بعد وفاة الشيخ كاظم.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 266

ثمّ بعد وفاة السيد كاظم رجعت المرجعية العامة لميرزا محمد تقي الشيرازي المتوفي سنة 1338 ه في كربلاء لأنه كان قد سكن فيها بعد وفاة أستاذه السيد محمد حسن الشيرازي المتقدم الذكر.

ثمّ انتقلت للنجف الأشرف و اشترك فيها أستاذنا السيد أبو الحسن الأصفهاني و الميرزا حسن النائيني و الشيخ احمد كاشف الغطاء أسأله (تعالي) أن يرحم الجميع. و من علماء هذا الدور الشيخ قاسم بن محمد محيي الدين من الفقهاء المبرزين المتوفي سنة 1237 ه.

و من علماء هذا الدور احمد بن محمد مهدي النراقي المتوفي سنة 1245 ه أكمل علومه بالحضور

عند المرحوم بحر العلوم وجدنا كاشف الغطاء في النجف و رجع لبلده كاشان و توفي فيها و نقل جثمانه منها و دفن في النجف الأشرف جنب والده و لما جدد بناء أسس الصحن الشريف في زماننا وجدت جثتاهما علي حالهما لم يطرأ عليهما تغيير كأنما دفنا في هذه الساعة، و هو صاحب المؤلفات العظيمة الجليلة كمستند الشيعة و لوالده جامع السعادات.

و من علماء هذا الدور الشيخ محمد تقي المتوفي سنة 1248 ه شارح المعالم صهر الشيخ الكبير جعفر كاشف الغطاء.

أدوار علم الفقه و أطواره، ص: 267

و من علماء هذا الدور السيد صدر الدين جد (آل الصدر) المتوفي سنة 1263 ه صهر الشيخ الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء. و من علماء هذا الدور الشيخ أسد الله التستري المتوفي سنة 1234 ه صاحب مقابس الأنوار صهر الشيخ جعفر كاشف الغطاء و له رسالة في المواسعة و المضايقة نشرت باسم الشيخ مرتضي الأنصاري رحمه الله علي ما ببالي.

و من علماء هذا الدور الشيخ محسن خنفر المتوفي سنة 1271 ه و قد عرف بدقة النظر و عمق التفكير.

و من علماء هذا الدور الميرزا حبيب الله الرشتي المتوفي سنة 1312 ه قبل وفاة الميرزا الشيرازي بشهرين و قد كان هو من رؤساء الحوزة العلمية في النجف يوم كان مركز الدراسة العلمية و الزعامة الدينية في سامراء في عهد الشيرازي.

و من علماء هذا الدور الشيخ جواد محي الدين المتوفي سنة 1322 ه. و من علماء هذا الدور الشيخ محمد حسن المامقاني المتوفي سنة 1323 ه حضر عند الشيخ راضي و الشيخ حسن كاشف الغطاء و الشيخ الأنصاري.

و من محققي هذا العصر الشيخ ملا هادي الطهراني المتوفي سنة 1321 ه.

أدوار علم الفقه

و أطواره، ص: 268

و من علماء هذا الدور الشيخ محمد طه نجف المتوفي سنة 1323 ه و كان من رؤساء الحوزة العلمية في النجف يوم كانت المركزية للدراسة في سامراء.

و من علماء هذا الدور الميرزا حسين الخليلي في النجف المتوفي سنة 1326 ه من رؤساء الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

و من علماء هذا الدور في النجف الفاضل الشربياني المتوفي سنة 1322 ه و كانت له المرجعية في الفتوي و التدريس.

و هناك علماء أكابر أعاظم لم يكن إهمالنا لهم إلا من جهة عدم التذكر و من أراد الاطلاع فليراجع ما كتبه المرحوم الحجة الشيخ محمد حرز الدين و المرحوم العلامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني و غيرهما.

و الله حسبنا و نعم الوكيل و الحمد لله رب العالمين

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.