اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار

اشارة

سرشناسه : سند، محمد، 1340 -

عنوان و نام پديدآور : اصول استنباط العقائد و نظريةالاعتبار/ محاضرات محمد السند ؛ بقلم محمدحسن الرضوي.

مشخصات نشر : قم: مدين، 1429ق.= 2008م.= 1387.

مشخصات ظاهري : 162ص.

شابك : 978-964-6642-94-2

يادداشت : عربي.

يادداشت : چاپ دوم.

يادداشت : چاپ اول: 1426 ق.= 1384.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : كلام شيعه اماميه -- قرن 14

موضوع : اصول فقه شيعه -- قرن 14

موضوع : شيعه اماميه -- عقايد

شناسه افزوده : رضوي، محمدحسن

رده بندي كنگره : BP211/5/س85الف6 1387

رده بندي ديويي : 297/4172

شماره كتابشناسي ملي : 1318760

التقديم

الحمد للَّه ربّ العالمين وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين.

أمّا بعد، فإنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليّين خصوصيّات، تحتلّ المسألة مع ملاحظتها مكانة خاصّة، فتارة تعدّ من المسائل الكلاميّة وأخري من المسائل الاصوليّة وثالثة من مبادئ المسائل الأخلاقيّة.

فبما أنّها تقع في طريق معرفة فعله سبحانه من حيث الجواز والإمتناع- حسب حكمته البالغة- تعدّ مسألة كلاميّة وتترتّب عليها ثمرات.

وبما أنّها صغري لقاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع، يعدّ البحث عن الموضوع من المبادئ الأحكاميّة التي يبحث فيها عن عوارض الأحكام الخمسة، والبحث عن الملازمة من المسائل الاصوليّة التي لها دورها في إستنباط كثير من الأحكام العمليّة.

وبما أنّ الإعتقاد بالحسن والقبح الذاتيّين هو الدّعامة الوحيدة أو الأهمّ للدّعوة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 10

إلي محاسن الأخلاق أو الكفّ عن مساوئها، تعدّ من مبادئ مسائل علم الأخلاق ولولا القول بالحسن والقبح الذاتيّين لما صحّ البحث عن الفضائل والرذائل في نطاق وسيع.

فهذه الجهات الثلاث أعطت لمسألة الحسن والقبح مكانة مرموقة يبحث عنها العلماء، كلّ حسب اختصاصه ويطلب كلّ منها منشودته الضالة.

ولأجل ما لها من أهميّة قد تعرّض لها- مبسوطاً-

شيخنا الأستاذ المحقّق الفقيه سماحة آية اللَّه الشيخ محمّد سند البحراني- أدام اللَّه أيام إفاداته- في مبحث العقائد والأصول بنطاق واسع.

ولمّا رأيتها طويلة الذيل، مترامية الأطراف، أحببت أن أفردها وأُفصّلها عن سائر المباحث العقائديّة والأصوليّة التي قمت بتحريرها من أبحاث شيخنا الأستاذ.

وقد تمّ- بحمد اللَّه- تحرير هذه الرسالة وبسط القول فيها مع كثرة إشتغالاتي وأرجو من القرّاء الكرام، لو خطر ببالهم أنّ في بيان بعض المطالب وتوضيحه نحو قصور واضطراب أن يسندوا ذلك إليّ لا إلي شيخنا الأستاذ- مدّ ظلّه العالي- حيث إنّ مبانيه كانت عالية وبراهينه علي إثبات مقاصده قويّة، ولكنّها في مقام التقرير تتنزّل وتتقدّر بقدر إستفادة المقرّر واستعداده، وأسأل اللَّه سبحانه وتعالي أن يعصمني من النقص والزلل، وهو حسبي، إنّه نعم المولي ونعم النصير.

قم المقدّسة 1417 ه

محمّد حسن الرضوي

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 11

تمهيد

اشارة

قبل الخوض في المقصود نبحث في أمور:

الأمر الأوّل: في تقسيم العقل إلي العقل النظري والعملي … ص: 11

يعرّف العقل النظري بأنّه القوّة التي تدرك القضايا الباحثة عن الواقع بما هو واقع ولا ترتبط بعمل الفاعل المختار، شأنها الإدراك فقط ولها رأس مال تنطلق منه البديهيّات أو الفطريّات، ويصل منهما الإنسان إلي النظريّات.

ولا يخفي أنّ العقل النظري الذي ينطلق من البديهيّات هو معصوم في بديهيّاته، («1») أما في نظريّاته قد يخطئ ولا يمكن أن يستعصم نظريّاته إلّا بالرجوع إلي البديهيّات.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 12

ثم إنّه ربّما لم يتوصّل العقل البشري إلي إثبات مطلب من المطالب الإعتقاديّة في قرن من القرون، ثمّ في زمان لاحق يثبت ذلك أحد الأعلام بالبرهان العقلي، فيتوحش من ذكر البرهان من لا خبرة له بدعوي أنّه كيف لم يقم البرهان في تلك القرون التي سبقت وبعد ذلك يتوصّل إليه؟

ولكن بعد التأمّل يتّضح أنّه لا وجه للإستيحاش؛ وذلك لأنّ العقل يتنبّه بتوسّط سلسلة قافلة التكامل البشري إلي دليل برهاني علي أمر من المعارف، لم يكن روّاد المعقول تمكّنوا من إقامة ذلك الدليل والمهمّ النظر إلي صحّة المقدّمات التي يستدلّ بها، أمّا صرف أنّ القدماء لم يستطيعوا إقامة البرهان فهو أشبه بالمزاح.

وأمّا تعريف العقل العملي، فقد قيل إنّه القوّة المدركة للقضايا التي ينبغي أن يقع العمل عليها تمييزاً له عن العقل النظري.

هل العقل العملي يغاير النظري أو يتحد معه؟

قال جماعة من الفلاسفة المتكلّمين بأنّ العقل العملي هو عين النظري إلّاأنّ هذه القوّة الواحدة بلحاظ المدرك تنشعب إلي النظري والعملي وإلّا ليس شأن العقل إلّاالإدراك.

وذهب جماعة أخري إلي أنّ العقل العملي يمتاز عن النظري بأنّ العملي قوّة أخري غير قوّة العقل النظري، وهي قوّة باعثة عمّالة، لا أنّه فقط قوّة مدركة.

والصحيح هو

القول الثاني وعليه الفارابي وأفلاطون وسقراط. بل ابن سينا في بعض كلماته وإن كان في بعض عبائره في الإشارات يذهب إلي الأوّل.

والدليل علي تغاير العقل النظري مع العقل العملي وجهان:

الأوّل: لا ريب في أنّ من كمالات الإنسان سيطرة عقله علي القوي المادون،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 13

فإذا كان من كمالات الإنسان أن تخضع القوي المادون لقواه العقليّة فيحنئذٍ تكون قواه العقليّة المادون متأثّرة من العقل وللعقل نوع عمل فيها، فكيف ينفي ويقال إنّ العقل ليس شأنه إلّاالإدراك.

وبعبارة أخري: ما قرره وبرهنه الفلاسفة في الحكمة العمليّة من أنّ كمال الموجود الإنساني تخضّع القوي المادون لقوّة العقل العمليّة، يدلّ علي أنّ العقل عمّال في ما دونه ولذا إذا كان الإنسان في طريقه إلي الدركات- لا الكمالات- فعقله هو الأسير للقوي المادون أو منفعل عنها ومتأثّر بها.

وبعبارة ثالثة: إنّ القاعدة الفلسفيّة في معرفة النفس وهي إثبات تعدّد قوي النفس باختلاف آثار وأفعال النفس، فكلّما شوهدت في النفس أفعال وآثار مختلفة فيدلّ علي اختلاف المؤثّر، مثلًا إذا رُئي في النفس إدراك حسّي، فهذا يدلّ علي قوّة إدراكيّة حسّية في النفس وإذا رُئي عن النفس شوق أو إدراك لمعني وهمي، فهو يدلّ علي وجود القوّة الوهمية؛ لأنّ سنخها يختلف مع سنخ الإدراك الحسّي، فإثبات قوي النفس يتمّ بتوسّط رؤية معاليل متعدّدة في النفس، وفي المقام أيضاً نري غير الإدراك العقلي تأثير العقل في ما دونه أو تأثّر المادون عنه والتأثّر بلا تأثير لا معني له، فللإدراكات العقليّة نوع فعل في ما دونها، إذا كان الإنسان في صراط التكامل.

الثاني: وقع بحث بين المناطقة والفلاسفة قديماً وحديثاً في أنّه ما الفارق بين العلم التصديقي والعلم التصوري وهل الحكم هو من

أجزاء القضيّة المصدّق بها باعتبار أنّ التصديق لا يتعلّق إلّابالقضيّة ولا يتعلّق بالصور الإفراديّة، أم لا؟

والمنهج السائد في المقام هو نظريّة صدر المتألّهين وهو أنّ التصديق ليس إلّا الصورة الموجبة للإذعان، فكلّ من التصور والتصديق هو تصوّر بالمعني

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 14

الأعمّ، غاية الأمر أنّ تلك الصورة التي في التصديق أيضاً صورة إدراكيّة إلّاأنّها توجب الإذعان. فالتصديق ليس إلّاتصوّراً موجباً للإذعان.

ثمّ بني علي ذلك أنّ الإذعان والحكم ليس جزءاً للقضيّة؛ لأنّ التصديق هو صورة موجبة للإذعان حسب الفرض. فالإذعان ليس هو التصديق، بل هو أثر التصديق وليس جزءاً للقضيّة. فهو فعل من أفعال النفس؛ حيث إنّ النفس بعد أن تتصوّر الموضوع والمحمول والنسبة بينهما وهذا المقدار لا زال مجرّد تصوّر، ثمّ إذا انقلب إلي تصوّر موجب للإذعان فإنّها تقوم بأخذ الموضوع ودمجه مع المحمول، وعندها تدمج الموضوع بالمحمول في صورة واحدة وهو حكم النفس.

فتكون القضيّة التي هي متكوّنة من كافّة الأجزاء كمقدّمة إعدادية للنفس لأن تقوم بفعلها وهو الدمج بين الموضوع والمحمول. وهذا هو الإذعان. والنفس لا تقدّم علي الإدماج بين الصور إلّاإذا أذعنت بالإرتباط بين الصور. وهذا الدمج لا يختصّ بالقضايا الحسّية أو الوهميّة، بل حتي في القضايا العقليّة. وهذا فعل عقلاني ونوع من الفعل للقوّة العاقلة؛ لأنّ الذي يقوم بدمج الصور العقليّة ليس هو القوي المادون ومن ذلك يظهر أنّ من شؤون العقل الحكم أيضاً وليس شأنه الإدراك فقط.

فالعقل آمر وناهٍ تكويني طبعاً لا إنشائي؛ لأنّ الذي يؤثّر في ما دونه فهو يبعث ما دونه- ويكون آمراً تكوينياً لا إنشائياً قد يحرّك وقد لا يحرّك- عند من تكون فطرته سليمة تنقاد درجاته المادون لدرجات المافوق.

«فالعقل ما عبد به الرحمن واكتسب

به الجنان» كما في قول الكاظم عليه السلام في حديثه المعروف لهشام بن الحكم.

ويمكن أن يقال بأنّ العقل العملي هو وجود برزخي بين العقل النظري والقوي

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 15

المادون، فلا يرتبط العقل النظري بالقوي المادون مباشرة وإنّما بتوسّط العقل العملي.

فالعقل النظري يدرك قضايا ذات نمطين: قضايا عمليّة في الحسن والقبح وقضايا نظريّة لا ترتبط بالحسن والقبح، مثل «أنّ الوجود الإمكانيّ المادّي متناه».

وكمال العقل العملي أن ينقاد للعقل النظري، إذا كان ما يدركه العقل النظري من قضايا صادقة ولو كان العقل يذعن بقضايا كاذبة، فليس ذلك من كمال العقل بل من دركاته.

بقيت نكتة وهي أنّ الإيمان ليس إدراكاً صرفاً وإنّما هو إذعان، أي هو فعل العقل العملي وليس هو فعل العقل النظري. ولذلك ميّزنا بين الفحص والإدراك والإيمان؛ حيث قلنا بأنّ الفحص هو إستعداد العقل النظري وحركة الفكر لأجل الإستلهام من العوالم العلويّة، والإدراك هو حضور صور المدركات في العقل النظري، والإيمان هو فعل العقل العملي ولذلك قلنا بأنّ الوجوب الشرعي والإلزام التشريعي بالإيمان وحتي بالتوحيد ليس بدوري ولا ينحصر وجوبه بالعقل؛ لأنّ الدور إنّما يلزم لو كان وجوب الإدراك شرعيّاً، وأمّا إذا كان وجوب الإيمان في المعارف شرعيّاً فلا يلزم الدور؛ لأن الإدراك يتمّ بإلزام العقل بالفحص وأمّا وجوب الإيمان في التوحيد وغيره من الأصول الإعتقاديّة فتشريعيّ، ووجهه أنّ أفعال النفس العمليّة ولو المتعلّقة بالعقليّات هي موضوع الترغيب والترهيب والبشارة والإنذار والوعد والوعيد، كي تقدّم النفس علي فعل الكمال وترك النقص.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 17

الأمر الثاني: اعتباريّة الحسن والقبح وتولّد شبهتين … ص: 17

وفي ذيل التعريف المشهور للعقل العملي ينشأ الحديث عن الحسن والقبح.

والمعروف أنّ الأشاعرة ينفون كون الحسن والقبح عقليّين وإنّما هما اعتباريّان بجعل العقلاء

واعتبارهم، بخلاف متكلّمي الإماميّة، فيثبتون أنّ الحسن والقبح عقليّان تكوينيّان فطريّان.

وأهميّة هذا البحث من جهة ابتناء كثير من مباحث علم الكلام علي نظريّة الحسن والقبح العقليين، فإذا كانا اعتباريّين فلن تكون أدلّتهم واستدلالاتهم برهانيّة بل خطابيّة شعريّة.

وهذا الحديث يثار بلغة جديدة، لا سيّما وأنّه عدّة من الفلاسفة الإماميّة من عهد ابن سينا إلي يومنا هذا يذهبون إلي أنّ مواد الحسن والقبح العقليّين مأخوذة من المشهورات لا من اليقينيّات. فليس لها واقع وراء تطابقهم، يعني أنّها ليست تكوينيّة بل إعتباريّة. وهذا نوع من الإعتراف من الفلاسفة بعدم تكوينيّة الحسن والقبح العقليّين وإنّ الأدلّة التي تثار منهما ليست من الأدلّة البرهانيّة.

بل ينجم من هذا إشكال آخر وإثارة علي الشريعة الإسلاميّة، حيث إنّ

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 18

الشريعة الإسلاميّة مشتملة علي قوانين وتشريعات وتلك القوانين والتشريعات- كما يعترف المتكلّمون- أساسها عقلي، وإنّ الأحكام الشرعيّة ألطاف في الأحكام العقليّة، وأنّ الأحكام الشرعيّة لو علم بها العقل بملاكاتها لحكم بها.

وواضح أنّ تلك الأحكام في الشريعة غالبها أحكام عمليّة حتي الأفعال الجانحيّة، والأحكام الإعتقاديّة وإن لم تكن جارحيّة فهي أيضاً ممّا ينبغي فعلها أو لا ينبغي فعلها. («1»)

فالبنية التحتيّة للأحكام الشرعيّة الفرعيّة والأصليّة الإعتقاديّة هي أحكام عقليّة من العقل العملي وهي حسن فعل شي ء وقبحه. فإذا كان الحسن والقبح اعتباريّين وليسا بتكوينيّين ولا الدليل المركّب منهما برهانياً، وإذا كان أيضاً الإعتبار بيد المعتبر، لا ثبات له، لعدم رجوعه إلي حقيقة واقعيّة وراء تطابق العقلاء وإنّما هو تابع لنظره. فالشريعة- والعياذ باللَّه الحقّ- لا ثبات لها، بل تدور مدار التطابق العقلائي المتغيّر حسب الأزمان والأمكنة. فالشبهة الزاعمة أنّ الشريعة دائمة التغيّر، لها انبساط وإنقباض، متولّدة من هذا القول؛ لأنّ أساس

الشريعة مبتن علي الأحكام العقليّة وإن كان لا يستكشفها العقل إلّابنحو الإجمال وبنحو الإنّ، إلّاأنّ البناء والأساس علي ذلك غير ثابت. فالشريعة مبتنية علي غير الثابت وسيأتي البرهان علي بديهيّة الحسن والقبح.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 19

الأمر الثالث: منشأ الإشتباه … ص: 19

قد اشتهرت النسبة إلي الفلاسفة أنّهم يقولون: إنّ الحسن والقبح من المواد المشهورة لا من المواد اليقينيّة. وهذه النسبة تتبّعناها تاريخياً، فوجدنا أنّ النسبة خاطئة، نعم النسبة صحيحة في الجملة من عهد ابن سينا إلي يومنا هذا وأمّا ما قبل ابن سينا فالنسبة خاطئة.

فالفلسفة الهنديّة التي ربّما تعدّ من أقدم الفلسفات البشريّة والكتاب الذي يعدّ مصدراً لهذه الفلسفة- كتاب (اوپانيشادها) وهو باللغة الهنديّة القديمة ويقصد به (السرّ الأكبر) وهو جامع لتاريخ الفلسفة الهنديّة ومرادهم من السرّ الأكبر هو اللَّه عزّ وجلّ- يستفاد منه أنّهم يذهبون إلي أنّ الحسن والقبح ليسا من المشهورات، بل من الفطريّات البديهيّة.

وأمّا ابن سينا حيث إنّه عدّ الترجمان للفلسفة المتقدمة عليه، أي أنّ غالب كتبه وضعها لبيان مباني المشّائين، إلّاأنّ ترجمته في هذا الموضع لا تخلو إمّا عن الغفلة أو عن نوع من التحريف؛ حيث إنّه تتبّعنا رسائل أفلاطون وسقراط وأرسطو الذين هم روّاد الفلسفة اليونانيّة ووجدنا أنّهم قائلون بأنّ الحسن والقبح

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 20

العقليّين تكوينيّان لا أنّهما من المشهورات وكذلك الفارابي في عهد الفلسفة الإسلاميّة ذهب إلي هذا في كتابه المنطقيّات، إلّاأنّه لمّا وصلت النوبة إلي ابن سينا عدل عن ذلك من دون إشارة وتنبيه إلي ما سبقه من الأقوال.

وسبب ذلك غفلة من تأخّر عنه؛ لأنّ المعروف عن أكثر كتبه مثل الإشارات والشفاء والنجاة أنّها موضوعة لترجمة وبيان مباني القدماء من المشّائين، والذي يأتي بعده لا يلتفت

إلي أنّ هذه المسألة خلافيّة لعدم إشارة ابن سينا إلي ذلك، لشدّة الثقة العلميّة بابن سينا.

وابن سينا مع كونه مترجماً لما سبق، إذا أراد أن يثير رأياً جديداً من نفسه- سواء في هذه الكتب المعدّة لترجمة مباني القدماء من الفلاسفة أو في غيرها- فإنّه ينبّه إلي أنّ هذا ممّا وفّقه اللَّه للإستدلال عليه، وأمّا إذا لم ينبّه إلي أنّه هذا رأي مختصّ به، فقارئ هذه الكتب من الفلاسفة المتأخّرة كالشيخ الإشراق والخواجة وصاحب حكمة العين والفخر والملّا صدرا يتبادر إليهم أنّ هذا قول القدماء. وهو في كتاب الإشارات في مبحث النفس ذكر أنّهما من المشهورات والآراء المحمودة التي لا واقع لها وراء تطابق العقلاء وإنّما هي باعتبار العقلاء فقط. ولو أنّه نبّه إلي هذا الرأي في مثل كتاب التعليقات أو حكمة الشرقيّين اللذين هما كتابان موضوعان لأجل آرائه الخاصة، لعُلم أنّ هذا الرأي يختصّ به ولا ينسحب إلي الفلاسفة القدماء ولكن حيث إنّه وضعه في الكتب المعدّة لترجمة مباني الفلسفة القديمة فأوجب ذلك مثل هذا الإيهام.

أمّا سبب عدول ابن سينا عن مبني القدماء؟

فهو مغالطة أبي الحسن الأشعري وهو متقدّم قرابة قرنين علي ابن سينا؛ إذ المدرسة الأشعريّة الكلاميّة قد أحدثت مغالطة- كما سيأتي- وهي التفكيك

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 21

بين معاني الحسن والقبح؛ حيث إنّها ذكرت لهما معاني: منها الذمّ والمدح، والكمال والنقص، والملائم وغير الملائم، والمنافر وغير المنافر. وهذه المعاني حيث إنّ الأشعري لا يستطيع أن ينكرها فتوصل إلي إنكار معني آخر للحسن والقبح وهو المدح والذم وقال: إنّ هذا المعني لا يلازم ولا هو عين بقيّة معاني الحسن والقبح ولا يحكم بهما العقل المجرّد.

فابتدأت المدرسة الأشعريّة في إنكار الحسن والقبح بمعني

المدح والذم وأثارت التفكيك بين معاني الحسن والقبح، ثمّ وصلت النوبة إلي ابن سينا، فوجد أنّ مذهب المدرسة الكلاميّة هو علي التفكيك وحيث إنّ الفلسفة الإسلاميّة في كثير من المسائل التي أضافتها هي بالتأثّر من علم الكلام، فكان ذلك مدعاة وسبباً لاشتباه الأمر لدي ابن سينا.

ولأجل الإختلاف بين الفلاسفة والمدرسة الأشعريّة يُري التدافع أو التناقض في كلمات ابن سينا في كتبه. مثلًا في منطق الإشارات حينما يعرّف المشهورات، يمثّل لها بالحسن والقبح ويعرّفها بأنّها الآراء المحمودة التي تطابق عليها العقلاء وليس وراء تطابقهم شي ء، فلا يمكن إقامة البرهان عليها. وكذلك في منطق الشفاء والنجاة تعرّف المشهورات بذلك.

وهذا التعريف للمشهورات والتمثيل بالحسن والقبح أرسل إرسال البديهيّات عند من تأخّر عن ابن سينا وجذّر عقيدة أنّ الحسن والقبح ليسا تكوينيّين إلّاأنّ له كلمات أخري مناقضة لذلك، كما صرّح في النمط الثالث من الإشارات في الطبيعيات في مبحث النفس بأنّ أحكام العقل العملي هي بالإستعانة بالعقل النظري وقضاياه إمّا أوّليّات أو مشهورات أو ظنّيّات. وهذا نوع إعتراف بأنّ قضايا العقل العملي التي فيها الحسن والقبح يمكن أن يبرهن عليها ويستدلّ عليها؛

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 22

لأنّ بعض مواده موجبة جزئيّة تكون أوّليّات فيمكن أن يبرهن لها؛ إذ الأوّليّات قسم من اليقينيّات.

وعبّر هناك بأنّه يمكن إقامة البرهان عليها وإن كانت هي في نفسها ليست مدلّلة بالبرهان. وله عبارة أخري في إلهيّات الشّفاء في فصل يفسّر فيه كيفيّة استجابة الدّعاء في أواخر الكتاب أو كيفيّة التأثير والتأثّر في الحالات الشرعيّة الموجودة لدي الناس، وقال: «إنّ بعض المتفلسفة يسفّه عمل الناس وهو باطل؛ لأنّ أكثر ما في أيدي الناس من قضايا الحسن والقبح هي قضايا حقّة يمكن إقامة البرهان

عليها». وهذا تعبير مناقض لتعريف الحسن والقبح والمشهورات بأنّها التي ليس لها واقع غير صرف تطابق العقلاء.

والخواجة حيث اهتمّ بكلمات ابن سينا وشرح كتبه وكتب الرازي، كان علي إلتفاتٍ مّا في الجملة، حيث قال: «يمكن إقامة البرهان» وإن كان هو في بعض عباراته الأخري يطلق القول بأنّهما من المشهورات ولا واقع وراء تطابق آراء العقلاء.

والشي ء إذا لم يكن له واقع وراء آراء العقلاء، فكيف يمكن إقامة البرهان عليه ولو علي نحو الموجبة الجزئية؟ فبين العبائر نوع تدافع وتهافت. وأن التعريف الصحيح للمشهورات هي التي يتطابق عليها العقلاء من دون القيد المزبور، كما ذكر ذلك الفارابي في المنطقيّات.

ومنذ عهد ابن سينا إلي زمن ملّا صدرا ظلّت الكلمات متذبذبة علي التفصيل تارة بين نمط من المشهورات لا واقع لها ونمط يمكن إقامة البرهان عليها. وتارة أخري علي إطلاق القول بعدم إمكان إقامة البرهان عليها، تبعاً لتذبذب كلمات ابن سينا.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 23

وبعد صدر المتألّهين- عدا الحكيم اللاهيجي في گوهر مراد، والسبزواري في شرح الأسماء الحسني- ذهب الفلاسفة إلي أنّهما إعتباريّان مطلقاً ولا يمكن إقامة البرهان عليه مطلقاً وتبعهم الكمپاني والعلّامة الطباطبائي والمظفّر، إعتماداً علي بعض عبارات ابن سينا المطلقة.

والنسبة الصحيحة للفلاسفة أنّهم يذهبون إلي أنّهما من البديهيّات إلي عهد الفارابي، ثمّ تبدّل إلي أنّ بعضها بديهيّات وبعضها محلّ كلام وترديد، ثمّ تبدّل في العهد المتأخّر إلي أنّها قضايا إعتباريّة محضة ولا يمكن إقامة البرهان عليها.

إلّاأنّ السبزواري واللاهيجي تنبّها إلي أنّ الفلاسفة قائلون ببديهيّة الحسن والقبح وتكوينيّتهما وأنّ تعبير الفلاسفة وتمثيلهم للمشهورات بالحسن والقبح ليس من باب أنّهما من المشهورات فقط، بل من باب إمكان اندراج القضيّة الواحدة في قسم من أقسام المواد في

الحين الذي تندرج أيضاً من حيثيّة أخري في قسم آخر منها. فقضيّة الحسن والقبح من حيثيّةٍ هي من المشهورات ومن حيثيّة أخري هي من اليقينيّات.

وهذا ما نبّه عليه الفارابي في منطقياته مثل قضيّة (اللَّه واحد) من حيث قبول العامّة لها، تكون من المقبولات ومن حيث إقامة البرهان النظري عليها، تكون من الفطريّات أو البرهانيّات النظريّة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 24

الأسباب التي أوجبت دعوي ابن سينا هذه المغالطة … ص: 24

اشارة

إنّ الأسباب التي دعت ابن سينا لأن ينسب ذلك إلي الفلاسفة هي ثلاثة:

السبب الأوّل … ص: 24

ما ذكرنا من مشاهدة المدرسة الكلاميّة الأشعريّة الرائجة عند الأكثر أنّهم فكّكوا بين معاني الحسن والقبح، فقد أنكر الأشعري كون الحسن والقبح بمعني المدح والذم هو عين بقيّة المعاني. وهذا الإنكار يخيّل ويوهم أنّ الحسن والقبح ليسا بديهيّين، وإلّا فكيف ينكرهما جماعة من المتكلّمين، فلو كانا بديهيّين لأذعن لها الكلّ، فمن ثمّ أدرجهما في المشهورات.

ولا يخفي أنّ هذه المغالطة لم يبتكرها الأشعري، بل بدأت من السفسطيّين في اليونان وأشار إليها سقراط في كتبه؛ حيث قال: إنّه طرأت علي مُدن اليونان سابقاً حروب متعددة، فأوجبت الضعف المالي والإجتماعي والمحن الشديدة علي المجتمع اليوناني. وهذه المحن بدورها ولّدت للمجتمع اليوناني التفكير في سبب الإبتلاء بهذه المحن وبدأت حواجز بين الطبقة الثريّة وبقيّة الطبقات، حيث إنّهم

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 25

يستفيدون من الفُرص أكثر ما يمكن.

فقالوا: إنّ المعتقدات الدينيّة هي التي جرّت إلينا هذه المحن ومن ثمّ سري التفكير الخاطئ إلي أنّ الثوابت الأخلاقيّة والقيم الصحيحة أيضاً هي السبب الآخر في ذلك. لكي لا تبقي لديها حواجز عن إستغلال وامتصاص طاقات الطبقات الاخري حسب تعبير سقراط والتاريخ يعيد نفسه، فإنّ الرأسماليّة الغربيّة والإقطاع العالمي ينهج نفس المنهج حالياً. وقالوا: لا معني لكون الدولة إلهيّة ودينيّة والدولة ليست من الدين، بل هي تعاقد المجتمع وأنّ القانون العادل والحقوق أفكار تخيّلتها طبقة ضعيفة لتسخير الطبقة الثريّة وكذلك الأخلاق يبثّها رجال الدين لأجل تسخير بقيّة الطبقات. فقامت الطبقة الثريّة بتربية خطباء لأجل انتشار هذه العقائد وكانوا متميّزين ببيان ساحر مع قوّة الجدل والمغالطة، فأسّسوا عدّة مدارس خاصّة لأجل هذا وربّوا فيها علي هذا المنهج أعداداً كثيرة.

ثم

بدأوا في التشكيك في حسن وقبح الأفعال الذاتيّين وأنكروه وقالوا: إنّ حسن وقبح الأفعال إنّما هي بحسب المصالح للأشخاص والطبقات وأنّهما ليسا ببديهيّين، بل هما جعليّان إخترعتهما طبقات أخري من رجال الدين أوالضعفاء لاستثمار الطبقة الثريّة وأنّ الحسن والقبح لا أساس لهما.

وأكثر مناظرات سقراط لكسر شوكتهم حتي ساوموه علي أمر معيّن كي يتنازل عن موقفه ورأيه. فبداية التشكيك في هذه القضيّة هو من السفسطيّين، فالفلاسفة اليونانيّين يطلقون علي من ينكر الحسن والقبح العقلي إسم السفسطي.

السبب الثاني … ص: 25

هو ما بني عليه ابن سينا في تعريف العقل العملي، حيث جعل العقل العملي عين العقل النظري، وأنّ الإختلاف بينهما إعتباري، لأنّ العقل ليس شأنه

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 26

إلّا الإدراك وليس شأنه الأمر والنهي التكويني، وليس شأنه الفعل في النفس.

وإنّ الفرق بين العقل النظري والعملي في المدرك، وأنّ العقل إذا أدرك شيئاً لا يرتبط بالعمل يقال عقلًا نظريّاً، وإذا أدرك شيئاً يرتبط بالعمل ممّا ينبغي أن يفعل يسمّي عقلًا عمليّاً، لم يصوّر للعقل تدخّل في عمليّات النفس. فالعمليّات ليست إلّاعادات وتأديبات. والقضايا التي يبتني عليها العمل ليست قضايا برهانيّة؛ إذ لا تدخّل للعقل فيها وهذا علي خلاف مذهب الفارابي واليونانيّين وبقيّة المدارس الفلسفيّة القديمة العريقة حيث إنّهم ميّزوا بين قوّة العقل النظري والعملي كما بيّناه سابقاً.

السبب الثالث … ص: 26

وهو أمر خفي وخطِر وله بحث مستقلّ مع غضّ النظر عن بحث الحسن والقبح وهو أنّ أرسطو ذهب إلي أنّ البرهان علي قسمين: البرهان العياني الذي يقام علي الجزئيات والحال أنّ ابن سينا ألغي هذا القسم من البرهان من أساسه واقتصر علي القسم المعروف ولذلك ذكر في شرائط البرهان أن تكون القضايا كلّية دائمة ونحو ذلك، لكنّها ليست شرائط للقسم الأوّل. وقد نبّه علي ذلك الفارابي في منطقيّاته.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 27

محور النزاع … ص: 27

إنّ محور النزاع بين الأشاعرة والإماميّة والاصوليّين والاخباريّين، والاصوليّين بعضهم مع البعض الآخر هو في الحسن والقبح، بمعني صحّة المدح والذمّ علي فعل الناشئين من إدراك القوّة العاقلة- العقل العملي- لتوافق واعتبار العقلاء علي ذلك لغرض حفظ النظام وحفظ النوع باعتبار أنّ الفعل يشتمل علي مصلحة عامّة أو مفسدة عامّة.

وأمّا الحسن والقبح اللّذان يقعان وصفاً للأفعال ومتعلّقاتها بمعني الكمال والنقص، أو الملائم والمنافر، كحسن العدل بمعني أنّه كمال وملائم فلا خلاف فيه في أنّه واقعي تكويني. كذا لا خلاف في واقعيّة الحسن والقبح بمعني حبّ الكمال والملائم وبغض النقص والمنافر، ومثله لا خلاف في العلاقة التكوينيّة بين مجموعة من الأفعال وبين ما يلزمها من صور حسنة أو بذيئة أخرويّة وهو المسمّي (بتجسّم الأعمال)- الثابت بالبرهان والنقل القطعي (كتاباً وسنّة)- ومدّعي الإصفهاني في محور النزاع في قبال مجموعة من المتكلّمين والاصوليّين، أنّ هذه القضايا من المشهورات من قسم الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحيّة من

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 28

دون أن يكون لها جذر تكويني في حين أنّ آخرين قالوا بتكوينيّتهما.

وبعبارة أخري: الإصفهاني والمظفّر- تبعاً له- يصوّران النزاع بينهم وبين الأُصوليّين بالشكل التالي:

إنّ هناك إعتباراً وتوافقاً للمدح والذمّ لبعض الأفعال بسبب

ما تحتويه هذه الأفعال من كمال ونقص ومصلحة ومفسدة. وهذا الإعتبار العقلائي لا خلاف في وجوده، إنّما الخلاف في أنّه البداية وأنّ المدح والذمّ يتولّد به أو أنّه يسبقه إدراك عقلي واعتبار فلسفي نفس أمري، علي أساسه تمّ اعتبار العقلاء وتوافقهم.

وبعبارة ثالثة: مدح وذمّ العقلاء- لا المدح والذمّ في نفسه- هل هو ذو بعد واحد وهو الإعتبار العقلائي- الذي هو إعتبار أصولي، يصطلح عليه في المنطق بالمخيّلات، بمعني الذي لا واقع له ولا منشأ إنتزاع واقعي- أو أنّه ذو بعدين، بعدٌ منه تكويني واقعي وآخر منبثق منه إعتباري عقلائي.

الإصفهاني والمظفّر تبعاً لابن سينا والطوسي علي الأوّل وأنّ المدح والذمّ من العقلاء كظاهرة وكحكم إنّما هو وليد إعتبار وفرضيّة وإيجاد العقلاء.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 29

نظريّة الحكيم الفقيه الشيخ الإصفهاني قدس سره

اشارة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 31

نظريّة الحكيم الفقيه الشيخ الإصفهاني قدس سره

قال في كتاب النهاية في كون العقاب علي المعصية لكونها هتكاً لحرمة المولي وظلماً عليه:

«وهذا الحكم العقلي من الأحكام العقليّة الداخلة في القضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس، وأمثال هذه القضايا ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظ النظام وبقاء النوع بها.

وأمّا عدم كون قضيّة حسن العدل وقبح الظلم بمعني كونه بحيث يستحقّ عليه المدح أو الذمّ من القضايا البرهانيّة، فالوجه فيه: أنّ مواد البرهانيّات منحصرة في الضروريّات السّتّ، فإنّها:

إمّا أوّليّات، ككون الكلّ أعظم من الجزء وكون النفي والإثبات لا يجتمعان.

أو حسّيّات، سواء كانت بالحواسّ الظاهرة المسمّاة بالمشاهدات، ككون هذا الجسم أبيض أو هذا الشي ء حلواً أو مرّاً؛ أو بالحواسّ الباطنة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 32

المسمّاة بالوجدانيّات وهي الامور الحاضرة بنفسها للنفس، كحكمنا بأنّ لنا علماً وشوقاً وشجاعة.

أو

فطريّات، وهي القضايا التي قياساتها معها، ككون الأربعة زوجاً لأنّها منقسمة بالمتساويين وكلّ منقسم بالمتساويين زوج.

أو تجربيّات، وهي الحاصلة بتكرّر المشاهدة، كحكمنا بأنّ سقمونيا مسهل.

أو متواترات، كحكمنا بوجود مكّة لإخبار جماعة يمتنع تواطؤهم علي الكذب عادة.

أو حدسيّات موجبة لليقين، كحكمنا بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس للتشكّلات البدريّة والهلاليّة وأشباه ذلك.

ومن الواضح أنّ إستحقاق المدح والذمّ بالإضافة إلي العدل والظلم ليس من الأوّليّات بحيث يكفي تصوّر الطرفين في الحكم بثبوت النسبة، كيف وقد وقع النزاع فيه من العقلاء؟

وكذا ليس من الحسّيّات بمعنييها كما هو واضح، لعدم كون الإستحقاق مشاهداً ولا بنفسه من الكيفيّات النفسانيّة الحاضرة بنفسها للنفس.

وكذا ليس من الفطريّات؛ إذ ليس لازمها قياساً يدلّ علي ثبوت النسبة.

وأمّا عدم كونه من التجربيّات و المتواترات و الحدسيّات ففي غاية الوضوح. فثبت أنّ أمثال هذه القضايا غير داخلة في القضايا البرهانيّة بل من القضايا المشهورة.

وأمّا حديث كون حسن العدل وقبح الظلم ذاتياً فليس المراد من الذاتي ما هو المصطلح عليه في كتاب الكلّيات، لوضوح أنّ إستحقاق المدح والذمّ

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 33

ليس جنساً ولا فصلا للعدل والظلم؛ وليس المراد منه ما هو المصطلح عليه في كتاب البرهان لأنّ الذاتي هناك ما يكفي وضع نفس الشي ء في صحة انتزاعه منه، كالإمكان بالإضافة إلي الإنسان مثلًا، وإلّا لكان الإنسان في حدّ ذاته إمّا واجباً أو ممتنعاً.

ومن الواضح بالتأمّل أنّ الإستحقاق المزبور ليس كذلك لأنّ سلب مال الغير مثلًا مقولة خاصّة بحسب أنحاء التصرف، وبالإضافة إلي كراهة المالك الخارجة عن مقام ذات التصرّف ينتزع منه أنّه غصب وبالإضافة إلي ترتّب إختلال النظام عليه بنوعه وهو أيضاً خارج عن مقام ذاته ينتزع منه أنّه مخلّ بالنظام وذو مفسدة

عامّة فكيف ينتزع الإستحقاق المتفرّع علي كونه غصباً وكونه مخلّاً بالنظام عن مقام ذات التصرّف في مال الغير؟

بل المراد بذاتيّة الحسن والقبح كون الحكمين عرضاً ذاتياً بمعني أنّ العدل بعنوانه والظلم بعنوانه يحكم عليهما باستحقاق المدح والذمّ من دون لحاظ اندراجه تحت عنوان آخر، بخلاف سائر العناوين فإنّها ربّما تكون مع حفظها معروضاً لغير ما يترتّب عليه لو خلّي ونفسه كالصدق والكذب، فإنّهما مع حفظ عنوانهما في الصدق المهلك للمؤمن والكذب المنجي للمؤمن يترتّب استحقاق الذمّ علي الأوّل بلحاظ اندراجه تحت الظلم علي المؤمن، ويترتّب استحقاق المدح علي الثاني لاندراجه تحت عنوان الإحسان إلي المؤمن، وإن كان لو خلّي الصدق والكذب ونفسهما يندرج الأوّل تحت عنوان العدل في القول والثاني تحت عنوان الجور فضلًا عن سائر الأفعال التي في نفسها لا تندرج تحت عنوان ممدوح أو مذموم». («1»)

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 34

وقال أيضاً في موضع آخر:

«بيان حقيقة الأحكام العقليّة المتداولة في الكتب الكلاميّة والاصوليّة.

فنقول ومن اللَّه التوفيق: أنّ القوّة العاقلة كما مرّ مراراً شأنها التعقّل وفعليّتها فعليّة العاقلة كما في سائر القوي الظاهرة والباطنة، وليس لها ولا لشي ء من القوي إلّافعليّة ما كانت القوّةُ واجدةً له بالقوّة، وأنّه ليس للعاقلة بعث وزجر وإثبات شي ء لشي ء؛ بل شأنها تعقّل ما هو ثابت من ناحية غير الجوهر العاقل، وأنّ تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدركات، من حيث إنّ المدرك ممّا ينبغي أن يعلم أو ممّا ينبغي أن يؤتي به أو لا يؤتي به. فمن المدركات العقليّة الداخلة في الأحكام العقليّة العمليّة المأخوذة من بادئ الرأي المشترك بين العقلاء المسمّاة تارة بالقضايا المحمودة وأخري بالآراء المشهورة كقضيّة حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان؛

وقد بيّنّا في مبحث التجرّي من مباحث القطع في كلام مبسوط برهاني أنّ أمثال هذه القضايا ليست من القضايا البرهانيّة في نفسها وأنّها في قبالها.

ونزيدك هنا: أنّ المعتبر عند أهل الميزان في المواد الأوّليّة للقضايا البرهانيّة المنحصرة تلك المواد في الضروريّات السّتّ مطابقتها للواقع ونفس الأمر. والمعتبر في القضايا المشهورة والآراء المحمودة مطابقتها لما عليه آراء العقلاء، حيث لا واقع لها غير توافق الآراء عليها.

قال الشيخ الرئيس في الإشارات: «ومنها: الآراء المسمّاة بالمحمودة، وربّما خصّصناها باسم المشهورة، إذ لا عمدة لها إلّاالشهرة، وهي آراء لو خلّي الإنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسّه لم يؤدّب بقبول قضاياها

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 35

والإعتراف بها، ولم يمل الإستقراء بظنّه القويّ إلي حكمٍ لكثرة الجزئيّات، ولم يستدع إليها ما في طبيعة الإنسان من الرحمة والخجل والأنفة والحميّة وغير ذلك، لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسّه، مثل حكمنا أنّ سلب مال الإنسان قبيح، وأنّ الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه» («1») إلي آخر كلامه.

وعبّر عنها أخيراً بأنّها من التأديبات الصلاحيّة، وجعل منها ما تطابق عليه الشرائع الإلهيّة.

ومنها: الناشئة عن الخلقيّات والإنفعالات.

وقال العلّامة الطوسي في شرح كلامه: «ومنها أي المشهورات كونه مشتملًا علي مصلحة شاملة للعموم، كقولنا العدل حسن وقد يسمّي بعضها بالشرائع غير المكتوبة، فإنّ المكتوبة منها ربّما يعمّ الإعتراف بها، وإلي ذلك أشار الشيخ بقوله وما تطابق عليه الشرائع الإلهيّة.

ومنها: كون بعض الأخلاق والإنفعالات مقتضية لها، كقولنا الذبّ عن الحرم واجب، وإيذاء الحيوان لا لغرضٍ قبيح- إلي أن قال: - والآراء المحمودة هي ما تقتضيه المصلحة العامّة، أو الأخلاق الفاضلة» («2») إلي آخره.

وسلك هذا المسلك العلّامة قطب الدين صاحب المحاكمات («3») فذكر أيضاً

اصول

استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 36

أنّ هذا القسم من المشهورات من التأديبات التي يكون الصلاح فيها، كقولنا العدل حسن والظلم قبيح، وما تتطابق عليه الشرائع، كقولنا الطاعة واجبة، وإمّا خلقيّات وانفعاليّات كقولنا كشف العورة قبيح ومراعاة الضعفاء محمودة، إلي آخره.

وتوضيح ذلك بحيث يكون كالبرهان علي صحّة ما ذكروه هو: أنّ كون العدل والإحسان مشتملًا علي مصلحة عامّة ينحفظ بها النظام وكون الظلم والعدوان مشتملًا علي مفسدة عامّة يختلّ بها النظام- ولذا عمّ الإعتراف بهما من الجميع- أمر مدرك بحسب تفاوت أفراد الإحسان والإساءة من حيث تعلّقهما بما يناسب قوّة من القوي وكذا كون كلّ عاقل محباً لنفسه ولما يرجع إليه وجداني يجده كلّ إنسان من نفسه وكذا كون كلّ مصلحة ملائمة للشخص، وكلّ مفسدة منافرة له أيضاً وجداني يجده كلّ إنسان عند مساس المصلحة والمفسدة، فلا محالة يحب الإحسان ويكره الإساءة وهذا كلّه من الواقعيّات، ولا نزاع لأحد فيها.

إنّما النزاع في حسن العدل وقبح الظلم بمعني صحّة المدح علي الأوّل وصحّة الذمّ علي الثاني، والمدّعي ثبوتهما بتوافق آراء العقلاء لا ثبوتهما في الفعل علي حدّ اشتماله علي المصلحة والمفسدة.

ومن الواضح أنّ اقتضاء الفعل المحبوب والفعل المكروه للمدح والذمّ علي أحد نحوين إمّا بنحو إقتضاء السبب لمسبّبه والمقتضي لمقتضاه أو بنحو إقتضاء الغاية لذي الغاية.

فالأوّل في ما إذا أساء إنسان إلي غيره فإنّه بمقتضي ورود ما ينافره عليه وتألّمه منه ينقدح في نفسه الداعي إلي الإنتقام منه والتشفّي من الغيظ

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 37

الحاصل بسببه بذمّه وعقوبته. فالسببيّة للذمّ هنا واقعيّة وسلسلة العلل والمعلولات مترتّبة واقعاً.

والثاني في ما إذا كان الغرض من الحكم بالمدح والذمّ حفظ النظام وبقاء النوع بلحاظ إشتمال العدل

والإحسان علي المصلحة العامّة، والظلم والعدوان علي المفسدة العامّة.

فتلك المصلحة العامّة تدعو إلي الحكم بمدح فاعل ما يشتمل عليها وتلك المفسدة تدعو إلي الحكم بذمّ فاعل ما يشتمل عليها، فيكون هذا التحسين والتقبيح من العقلاء موجباً لانحفاظ النظام ورادعاً عن الإخلال به.

وما يناسب الحكم العقلائي الذي تصحّ نسبته إلي الشارع بما هو رئيس العقلاء هو القسم الثاني دون الأوّل الذي لا يناسب الشارع بل لا يناسب العقلاء بما هم عقلاء، وهو الذي يصحّ التعبير عنه بالتأديبات الصلاحيّة.

فإنّ الحكم بالمدح والذمّ علي العدل والظلم موجب لما فيه صلاح العامّة، دون المدح والذمّ المترتّب عليهما لداعٍ حيواني، فإنّهما لا يترتّب عليهما مصلحة عامّة، ولا يندفع بهما مفسدة عامّة.

فالإقتضاء بهذا المعني ليس محلّ الكلام وثبوته وجداني. والإقتضاء بالمعني الثاني هو محلّ الكلام بين الأشاعرة وغيرهم وثبوته منحصر في الوجه المشار إليه مراراً من أنّ حفظ النظام وبقاء النوع المشترك بين الجميع محبوب للجميع، وخلافه مكروه للجميع، وهو يدعو العقلاء إلي الحكم بمدح فاعل ما فيه المصلحة العامّة وذمّ فاعل ما فيه المفسدة العامّة.

وعلي ما ذكرنا فالمراد بأنّ العدل يستحقّ عليه المدح والظلم يستحقّ عليه

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 38

الذمّ هو أنّهما كذلك عند العقلاء وبحسب تطابق آرائهم، لا في نفس الأمر، كما صرّح به المحقّق الطوسي قدس سره حيث قال: «إنّ المعتبر في الضروريّات مطابقتها لما عليه الوجود والمعتبر في هذا القسم من المشهورات كون الآراء عليها مطابقة». («1»)

وقال المحقّق الطوسي قدس سره في مورد آخر: «وذلك لأنّ الحكم إمّا أن يعتبر فيه المطابقة للخارج أو لا، فإنّ اعتبر وكان مطابقاً قطعاً فهو الواجب قبولها، وإلّا فهو الوهميّات، وإن لا يعتبر فهو المشهورات» («2») إلي آخره.

وعليه

فمن الغريب ما عن المحقّق الحكيم السبزواري في شرح الأسماء من دخول هذه القضايا في الضروريات وأنّها بديهيّة وأنّ الحكم ببداهتها أيضاً بديهي، وأنّ جعل الحكماء إيّاها من المقبولات العامّة التي هي مادّة الجدل لا ينافي ذلك؛ لأن الغرض منه التمثيل للمصلحة والمفسدة العامّتين المعتبر فيه قبول عموم الناس لا طائفة مخصوصين. وهذا غير منافٍ لبداهتها، إذ القضيّة الواحدة يمكن دخولها في اليقينيّات والمقبولات من جهتين، فيمكن إعتبارها في البرهان والجدل بإعتبارين بهذه الأحكام من العقل النظري بإعانة من العقل العملي كما لا يضرّ إعانة الحسن في حكم العقل النظري ببداهة المحسوسات.

هذا وقد سبقه إلي كلّ ذلك بعينه المحقّق اللاهيجي في بعض رسائله الفارسيّة. لكنّك قد عرفت صراحة كلام الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسي

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 39

والعلّامة قطب الدين صاحب المحاكمات في خلاف ما ذكره، وأنّه ليس الغرض مجرّد التمثيل.

وأمّا دخول القضيّة الواحدة في الضروريّات والمشهورات فهو صحيح، لكنّه لا في مثل ما نحن فيه؛ بل مثاله كالأوّليّات التي يحكم بها العقل النظري ويعترف بها الجميع؛ فمن حيث الأوّليّة يقينيّة برهانيّة ومن حيث عموم الإعتراف مشهورة بالمعني الأعمّ.

قال الشيخ الرئيس في الإشارات: «فأمّا المشهورات: فمنها أيضاً هذه الأوّليّات ونحوه ممّا يجب قبولها لا من حيث إنّه يجب قبولها، بل من حيث عموم الإعتراف بها» («1») ثمّ ذكر بعده المشهورات بالمعني الأخصّ وقد ذكرنا عين عبارته سابقاً. وأمّا تنظير إعانة حكم العقل النظري بإعانة الحسّ له؛ فالجواب عنه: إن أريد بالعقل العملي نفس القوّة المدركة فليس شأنها إلّاالإدراك، وثبوت المدرك ليس من ناحية الجوهر العاقل وقد عرفت نحو ثبوت الحسن والقبح فلا يقاس بثبوت المحسوس في الخارج.

وإن أريد بالعقل العملي نفس المعقولات أي

الآراء المحمودة والمقدّمات المقبولة، فإطلاق العقل عليها في كتب الكلام شائع؛ حيث يقولون هذا ما يوجبه العقل أو يردّه العقل أي تلك الآراء والمقدّمات. فحينئذٍ لا شهادة له علي شي ء، لما عرفت من نحو ثبوت هذه الامور المعقولة وأنّها ليست من الضروريّات بل من غيرها.

ولا يخفي عليك أنّ عدم كون هذا القسم من المشهورات من الضروريّات

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 40

لا يوجب دخولها في المظنونات، كيف والمظنونات يقابلها في التقسيم، بل الفرق بين هذه المشهورات المتوافقة عليها آراء العقلاء والبرهانيّات الضروريّة أنّها- أي الضروريّات- تفيد تصديقاً جازماً مع المطابقة لما في الواقع، وهو المعبّر عنه بالحقّ واليقين؛ بخلاف هذا القسم من المشهورات، فإنّها تفيد تصديقاً جازماً ولا يعتبر مطابقتها لما في الواقع، بل يعتبر مطابقتها لتوافق آراء العقلاء عليها، فافهم ولا تغفل.

وممّا ذكرنا في تحرير محلّ النزاع تعرف أنّ ثبوت العلاقة اللزوميّة بين الأفعال الحسنة والأعمال القبيحة والصور الملائمة والمنافرة في الآخرة- كما يكشف عنها الكشف الصحيح والنصّ الصريح- خارج عن محلّ النزاع، فإنّ الكلام في التحسين والتقبيح بمعني استحقاق المدح والذمّ عند العقلاء المشترك بين مولي الموالي وسائر الموالي.

فالإيراد علي الأشاعرة بثبوت العلاقة اللزوميّة علي النهج المزبور عن المحقّق المذكور خارج عن محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام، وإن كان صحيحاً في باب إجراء الثواب والعقاب، بل في باب الإستحقاق والإقتضاء بالتأمّل أيضاً، لكنّه بمعني آخر من الإستحقاق.

وأمّا ما عن شيخنا العلّامة («1») (رفع اللَّه مقامه) في فوائده في تقريب عقليّة الحسن والقبح من «أنّ الأفعال بذواتها أو بخصوصيّاتها متفاوتة سعة وضيقاً كمالًا ونقصاناً بالإضافة إلي القوي ومنها القوّة العاقلة، فإنّه يلائمها بعض الأفعال فيعجبها أو منافرة لها فيغربها، وأنّ إنبساطها وإنقباضها أمر

اصول

استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 41

وجداني، وهما بالضرورة يوجبان صحّة المدح والقدح في الفاعل إذا كان مختاراً» علي تفصيل ذكره قدس سره، فمورد المناقشة من وجهين:

أحدهما: ما أفاده قدس سره من الإلتذاذ والتألّم والإستعجاب والإستغراب للقوّة العاقلة علي حدّ سائر القوي كيف وهي رئيسها. وذلك لما مرّ منّا من أنّ القوّة العاقلة لا شأن لها إلّاإدراك المعاني الكلّية، والتذاذ كلّ قوّة وتألّمها إنّما يكون بإدراك ما يناسب المدرك أو يضادّه؛ مثلًا إلتذاذ الحواسّ الظاهرة بتكيّف الحاسّة بالكيفيّة الملموسة الشهيّة أو الحلاوة أو الرائحة الطيّبة أو النغمة المطربة، وتألّمها بعكس ذلك؛ كما أنّ إلتذاذ القوّة المتخيّلة بتخيّل اللذات الحاصلة أو المرجوّة الحصول، وتألّمها بإدراك أضدادها.

وأمّا لذّة العاقلة بما هي عاقلة فبأن يتمثّل لها ما يجب تحصيله من الكمالات من أنواع المعارف والمطالب الكلّية النافعة في نظام أمور دينه ودنياه وآخرته، وتألّمها بفقدها مع القدرة علي تحصيلها وإهمالها؛ فإن فقد ما هو كمال للقوّة العاقلة يؤلمها دون ما هو أجنبي عنها. وإدراك الظلم الكلّي والعدل الكلّي بتجريدهما عن الخصوصيّات ودخولهما في المعقولات المرسلة إن لم يكن كمالًا للقوّة العاقلة لم يكن نقصاً لها حتي يؤلمها.

وبالجملة أفراد الإحسان أو الإسائة خارجاً كلّ منهما له مساس بقوّة من القوي وعند نيله خارجاً يحصل لتلك القوّة انبساط من نيل الإحسان خارجاً أو إنقباض من نيل الإسائة، سواء كان مستحقّاً لذلك الإحسان أو لتلك الإسائة أم لا.

وهذا أمر واقعي، ولا دخل له بإدراك القوّة العاقلة لكلّي الإحسان وكلّي

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 42

الإسائة فهو نظير نيل القوّة الذوقيّة للحلو أو المُرّ، وإدراك القوّة العاقلة لكلّي الحلو والمُرّ، فإنّ الأوّل هو الموجب للإنبساط والإنقباض ممّا هو حلو أو مُرّ

دون الثاني.

وأما إدراك الإحسان الجزئي أو الإسائة الجزئيّة بقوّة الخيال أو الوهم، فمع كونه أجنبيّاً عن القوّة العاقلة بما هي قوّة عاقلة ليس تأثيره في الإنقباض والإنبساط من جهة إشتمالها علي مصلحة عامّة أو مفسدة عامّة، بل يؤثّر تصوّر الإحسان إليه إعجاباً وإنبساطاً وإن لم يستحقّ إحساناً، وكذا تصوّر الضرب والشتم يؤثّر في إنقباضه وتألّمه وإن كان مستحقّاً لهما، وتصوّر ورودهما علي الغير وإن كان يؤلمه، لكنّه يسبب الرقّة وشبهها، لا من جهة كونه ذا مفسدة عامّة.

ومنه يظهر أنّ حمل كلامه قدس سره علي مطلق الإدراك لتصحيح التأثير في الإلتذاذ والتألّم لا يجدي شيئاً ولا يوجب كون الإستعجاب والإستغراب بالملاك الذي هو محلّ الكلام.

ثانيهما: ما أفاده قدس سره من أنّ الملائمة والمنافرة للعقل توجبان بالضرورة صحّة المدح والذمّ؛ وذلك لما عرفت من أنّ دعوي الضرورة لا تصحّ إلّا بالإضافة إلي ما هو خارج عن محلّ الكلام، وهو تأثيرهما أحياناً في إنقداح الداعي إلي مجازاة الإحسان بجزاء الخير ومجازاة الإسائة بجزاء الشرّ كما مرّ تفصيله.

وأمّا دعوي الضرورة بالنسبة إلي حكم العقلاء بصحّة المدح والذمّ فهي صحيحة لكنّها تؤكّد ما ذكرناه من أنّه لا واقعيّة لهما إلّابتوافق آراء العقلاء عليهما.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 43

وحيث عرفت حقيقة التحسين والتقبيح العقليّين، فاعلم أنّ المراد بكونهما ذاتيّين أو عرضيّين ليس كونهما ذاتيّين بالمعني المذكور في باب الكلّيات الخمس ولا كونهما ذاتيّين بالمعني المسطور في كتاب البرهان، كما بيّنّا وجهها في مبحث التجرّي مفصّلًا.

بل بمعني عدم الحاجة إلي الواسطة في العروض والحاجة إليها، فمثل العدل والإحسان والظلم والعدوان- بنفسهما لا من حيث إندراجهما تحت عنوان آخر- محكومان بالحسن والقبح، بخلاف الصدق والكذب فإنّهما مع حفظ عنوانهما يوصفان بخلافهما.

نعم

كونهما ذاتيّين لهما بمعني آخر، وهو أنّهما لو خلّيا وطبعهما يوصفان بهما لاندراج الصدق تحت (العدل في القول) واندراج الكذب تحت (الجور في القول)، دون غيرهما ممّا لا يتّصف بشي ء لو خلّي ونفسه، فراجع مبحث التجرّي.

وهذا بناءً علي كون الحسن والقبح من قبيل الحكم بالإضافة إلي موضوعه واضح، فكيف يعقل أن يكون الحكم المجعول منتزعاً عن مرتبة ذات موضوعه. وأمّا بناءً علي أنّهما من الامور الواقعيّة فهما من قبيل العرض غير المفارق؛ والعرض المفارق والعرض مطلقاً لا يكون ذاتيّاً لموضوعه كما هو واضح.

كما أنّا ذكرنا غير مرّة أنّ المراد من العلّية والإقتضاء هو إقتضاء الموضوع لحكمه بنحو إقتضاء الغاية لذي الغاية، لا بنحو إقتضاء السبب لمسببه؛ بداهة أنّ الحكم لا يترشّح من موضوعه، بل السبب الفاعلي له هو الحاكم وإنّما الموضوع- لمكان الفائدة المترتّبة علي وجوده- يدعو الحاكم

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 44

إلي الحكم عليه.

فبعض الموضوعات حيث إنّه يترتّب عليها- بنفسها- مصلحة عامّة أو مفسدة عامّة، تدعو العقلاء إلي الحكم بحسنها أو قبحها، ولا محالة لا يتخلّف الحكم عن موضوعه التامّ فيعبّر عنه بالعلّية التامّة.

وبعضها حيث إنّه يترتّب عليها المصلحة العامّة أو المفسدة العامّة- لو خلّيت ونفسها- لاندراجها كذلك تحت عنوان محكوم بنفسه بالحسن والقبح فيعبّر عنه بالإقتضاء؛ لمكان اندراجه بلحاظ العوارض تحت عنوان آخر محكوم بضدّ حكم عنوانه لو خلّي ونفسه، وإلّا ففي الحقيقة لا علّية ولا إقتضاء.

وحيث إنّ المصلحة العامّة قائمة بالعدل والمفسدة العامّة قائمة بالظلم، فالصدق بما هو عدل ذو مصلحة عامّة والكذب بما هو جور ذو مفسدة عامّة، لا أنّ الصدق مقتضٍ للمصلحة واندراجُه تحت عنوان العدل شرط لتأثيره فيها، وأنّ إهلاك المؤمن مانع عن تأثيره في المصلحة العامّة؛

وليست المعنونات بالإضافة إلي عناوينها مقتضيات بالنسبة إلي مقتضياتها، حيث لا جعل ولا تأثير ولا تأثّر بينها.

فاتّضح أنّه لا علّية ولا إقتضاء حقيقة في شي ء من المراتب، لا من حيث العناوين ومعنوناتها، ولا من حيث المصالح والمفاسد العامّة بالنسبة إلي الصدق والكذب، ولا من حيث العناوين الذاتيّة والعَرَضيّة بالإضافة إلي الحسن والقبح العقليّين، فتدبّر جيّداً». («1»)

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 45

هذا هو الحقّ الذي لا محيص عنه، بناءً علي ما عرفت من حقيقة الحسن والقبح العقليّين، وأنّ قضيّتهما داخلة في القضايا المشهورة لا القضايا البرهانيّة وأنّ حقيقتهما بلحاظ توافق الآراء لا واقعيّة لهما غير ذلك، فتدبّره جيّداً وإن كان خلاف ظاهر كلمات الاصوليّين، بل غير واحد من أهل المعقول، إلّاأنّ المتّبع هو البرهان». («1»)

«نعم هنا وجوب عقلي بمعني آخر غير التحسين والتقبيح العقلائيّين، فإنّ بعض الأعمال- حيث إنّه يؤثّر في كمال النفس وصقالة جوهرها لتجلّي المعارف الإلهيّة التي هي غاية الغايات من خلق الخلق- فلا محالة لا يري العقل بُدّاً منه. فالمراد باللزوم العقلي ليس هو البعث ولا التحسين والتقبيح العقلائيّين، بل الضرورة العقليّة واللّابديّة الفعليّة، وهذا أيضاً أجنبي عمّا نحن فيه». («2»)

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 46

موازنة ما أفاده … ص: 46

إنّه رحمه الله قد أذعن بعدّة امور، بل وذكر البرهنة عليها:

الأوّل: إنّ القوّة العاقلة واحدة في العقل النظري والعقل العملي؛ غاية الأمر الإختلاف في المدركات فنظريّة تارة وعمليّة اخري. وإذا كان الحال كذلك وكانت مدركات العقل العمليّة كلّها قضايا من موادّ مشهورة غير بديهيّة، فكيف يمكن للعقل إقامة برهانٍ مّا في هذا الباب؟ فلا بدّ مع هذا الإعتراف- تبعاً للشيخ الرئيس والخواجة نصير الدين الطوسي- من إمكان إقامة البرهان علي بعضها من وجود

بعض القضايا البديهيّة في هذا الباب وإلّا فكيف يتمكّن من إقامته.

ومن ثمّ ذكرنا في ما تقدّم أنّ الشيخ الرئيس وإن كان أوّل من أبدي وأظهر الخلاف في الحكم بالبداهة في الحكماء- تبعاً لما أتي به الشيخ الأشعري من المغالطة في الباب- إلّاأنّه مع إعترافه بإمكان إقامة البرهان علي بعض تلك القضايا في باب العقل العملي، قد أقرّ لوجود موادّ بديهيّة هي الأسّ في الأقيسة البرهانيّة الممكن إقامتها في هذا الباب؛ وبالتالي فهو لا يذهب إلي كون جميع قضايا العقل العملي داخلة في المشهورات فقط، بل بعضها داخل في البديهيّات

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 47

أيضاً، وقد دلّلنا علي أنّ هذا مذهب الشيخ الرئيس من نصوص كلماته، فراجع.

الثاني: كون العدل مشتملًا علي المصلحة والكمال والظلم مشتملًا علي المفسدة والنقص، وأنّ الأوّل ملائم للقوّة بحسب كونه كمالًا لكلّ منها، والثاني منافر لها لكونه نقصاً لها؛ ولذلك يحبّ الإنسان العدل لما فيه من المصلحة العامّة، وينفر من الظلم لما فيه من المفسدة العامّة.

فمع هذا الإعتراف يلزمه تخطئة ما تابع فيه الشيخ الرئيس من أنّ قبح الظلم وحسن العدل إنّما يقضي بها الإنسان للإنفعال وللعادة التي نشأ عليها وتعوّد عليها من تكرار التأديب؛ إذ الإعتراف المزبور يقضي بأنّ نفرة الإنسان من الظلم لحيثيّة واقعيّة في فعل الظلم، وأنّ حبّ الإنسان للعدل لحيثيّة واقعيّة في فعل العدل؛ لملائمة الكمال للقوي ومنافرة النقص لها، لا لكون ذلك انفعالًا، أو عادة موضوعة جعليّة.

هذا وكذلك يلزمه الإعتراف بقبح الظلم وحسن العدل بالمعني المتنازع عليه وهو صحّة المدح، فإنّ الذمّ حدّه الماهوي هو الإخبار بالنقص والشرّ والتوصيف به، والحدّ الماهوي للمدح هو الإخبار والثناء والتوصيف بالكمال والخير.

فإذا كان الظلم مشتملًا في نفس الأمر

علي النقص والشر، فإنّ الذمّ عليه كان صادقاً مطابقاً للواقع، وإذا كان العدل مشتملًا في نفس الأمر علي الكمال والخير كان الحمد والمدح عليه صادقاً مطابقاً للواقع.

الثالث: كون آراء العقل العملي والمشهورات من التأديبات الصلاحيّة والخلقيّات ويلزمه الإذعان بواقعيّة هذه القضايا؛ إذ أنّها واجدة للصلاح والمصلحة والكمال وكذلك كونه من الخلقيّات، حيث إنّ الكمالات الخلقيّة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 48

والشرور الخلقيّة حيثيّات واقعيّة، غير معلولة لآراء العقلاء بما هي آراء توافقوا عليها من دون وجودها في الواقع، كما هو الحال في قضايا الحكمة العمليّة من كونها برهانيّة.

والعجب أنّه قدس سره يتابع الشيخ الرئيس في كون الآراء المحمودة ناشئة من إقتضاء المصلحة العامّة أو الأخلاق الفاضلة وأنّها لذلك مشهورة غير واقعيّة، مع إعترافه في ضمن كلامه بأنّ إشتمال العدل علي المصلحة أمر واقعي وجداني؛ وهو لا يتلائم مع نفي الواقعيّة عن الرأي القاضي بمدح العدل، أي توصيفه بالمصلحة العامّة. وهذا التهافت بعينه يثار علي الشيخ الرئيس والخواجه نصير الدين قدس سره.

الرابع: كون الغرض من حكم العقلاء بمدح العدل وقبح الظلم هو حفظ النظام وبقاء النوع والمصلحة العامّة، يلزمه الإعتراف بترتّب كمالات واقعيّة علي ذلك الحكم مع كونه مشهوريّاً لا واقع له. فإذا كان الكمال الواقعي من أثر ذلك الحكم كان الحكم لا محالة واقعيّاً، وإن كان التأثّر بتوسيط الفعل العادل وبتوسط الإرادة المعلولة للإذعان بحسن الفعل، أي كماله. فالمدح وهو الإخبار والثناء علي الفعل بالكمال موجب لإذعان النفس وتولّد الإرادة والفعل ومن ثمّ المصلحة العامّة.

الخامس: ما ذكره من أنّ القطب، صاحب المحاكمات، قد سلك مسلك الشيخ الرئيس، وواضح لمن راجع نصوص كلمات القطب أنّه يذهب إلي أنّ آراء العقل العملي بعضها مستنبط من مقدّمات

بديهيّة- وهو مذهب الشيخ الرئيس أيضاً والخواجة نصير الدين- كما أنّه يذهب إلي أنّ الحكماء قائلون بالحسن والقبح بالمعاني الثلاثة جميعاً، فراجع.

السادس: ما ذكره من الفرق بين البديهيّات والمشهورات المتّفق عليها في آراء

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 49

العقلاء، من أنّ الاولي تطابق الواقع بخلاف الثانية، مع إشتراكهما في إيجاب كلّ منهما الجزم والتصديق، والحال أنّها مبادئ الأشياء العمليّة ولا يمكن أن تثبت أو تبطل بما هو أبين منها- كما نبّه عليه الفارابي- ولأنّ المتشكّك فيها ليس يؤمن أن يهوّن أمرها ويصير من الأشرار الأردياء الأخلاق غير مشارك لأهل المدن.

وقد جعل هذا القسم من المشهورات هو الصادق الذي لا ينبغي التعرّض لإبطاله والتشكيك فيه.

السابع: ما ذكره من ثبت العلاقة اللزوميّة بين الأعمال الحسنة والأفعال القبيحة والصور الملائمة والمنافرة في الآخرة، إلّاأنّه قد غاير بينه وبين إستحقاق المدح والذمّ، وخطّأ بذلك المحقّق السبزواري في ذهابه إلي الوحدة بين الأمرين؛ لكنّه لم يتفرّد المحقّق المزبور بذلك، بل قد ذهب إليه الحكيم الملّا صدرا الشيرازي وكذا الحكيم النراقي، فلاحظ.

هذا مع ما عرفت من أنّ الحدّ الماهوي للمدح والحمد هو التوصيف بالكمال وفي طرف الذمّ هو التوصيف بالنقص، فحينئذٍ لا انفكاك بين الأمرين، بل هما يقوّم أحدهما الآخر.

الثامن: ما ذكره من أنّ لذّة القوّة العاقلة هي بإدراك المعارف والمطالب الكلّية النافعة في نظام أمور دينه ودنياه وآخرته، وأنّه لا شأن للعاقلة إلّاالإدراك للأمور الكلّية وليست علي حدّ شأن بقيّة القوي، فليس إدراك العدل الكلّي أو الظلم يوجب إنقباضاً أو إنبساطاً؛ وأمّا إدراك الجزئيّ منهما فليس التأثّر من القوّة العاقلة بل من القوي الأخري.

ففيه: إن كان إدراك المذكورات كمالًا للعاقلة، فلا بدّ من الإذعان بصدق تلك

اصول استنباط العقائد و

نظرية الاعتبار، ص: 50

المدركات وحقيقتها، كي يكون إدراكها كمالًا لها. وهذا يخالف ما تابع فيه الشيخ الرئيس من كون الشرائع الإلهيّة من التأديبات الصلاحيّة من المشهورات التي لا واقع لها وراء الاتّفاق، مع أنّه قد تقدّم أنّ التأديبات الصلاحيّة هي ما فيه مصلحة عامّة وكمال، فكيف تكون قضاياها غير مطابقة للواقع؟

وأمّا اللذّة؛ فإن كان المراد بها ما هو من خواصّ القوي الشهويّة، فالمفروض أنّه في العدل الجزئي مع الغير لا نيل لها فيه وأمّا إرجاعه إلي الإنفعاليّات من الرأفة والرحمة في النفس، فالإنفعاليّات لا محصّل لها إلّاأنّها آثار الملكات الخلقيّة الفاضلة أو الرديّة وهي كمالات أو دركات للنفس. فالملائم للخلق الفاضل كمال والمنافر له نقص وعلي العكس في الخلق الردي ء.

هذا مع بنائه قدس سره علي أن لا شأن للعاقلة إلّاإدراك الكلّيات ولا شأن لها بالجزئيّات- كما حرّر ذلك في برهان الإشارات والشفاء- لكنّه سيأتي في العقل العياني إمكان إقامة البرهان علي الجزئيّات به، وهو عبارة عن إستعانة العاقلة بالآلات والقوي الأخري المدركة للجزئيّات.

التاسع: ما ذكره- من أنّ الداعي لدي العقلاء في الحكم علي الأفعال بالحسن والقبح هو وجود المصلحة أو المفسدة العامّة- إعتراف بأنّ الحسن الحاكم به العقلاء هو مساوق، بل مصادق للمصلحة أو المفسدة، وكذا ما ذكره من أنّ في حكمهم بالحسن والقبح بما هم عقلاء يتحفّظون علي المصلحة العامّة، لا بما لهم من شهوة التشفّي وحبّ الإنتقام، يثبت ذلك أيضاً. فمن الغريب بعد ذلك نفيه قدس سره التلازم بين الأمرين، مع أنّه قد عرفت أخذ أحدهما في حدّ الآخر.

العاشر: ما أقرّ به- من الوجوب واللابدّيّة العقليّة بين الأفعال وكمالات النفس

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 51

وصقالتها وتجلّي المعارف الإلهيّة، علي تقدير إرادة

هذا المعني منه، أو لابدّيّة الإتيان به العقليّة، كي تتحقّق تلك الغايات، علي التقدير الآخر المحتمل في كلامه- هو الذي ذكره غير واحد من الحكماء الأوائل من أنّ الحسن والقبح في الأفعال، مضافين إلي حدّهما الماهوي المتقدّم، يفسّر بلوازم أخري من قبيل إنبغاء الفعل وعدم إنبغاء الفعل، وضرورة الفعل وإمتناعه، واللابدّيّة والبدّيّة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 52

الإستدلال علي رأيه … ص: 52

اشارة

واستدلّ علي رأيه رحمه الله بأدلّة مختلفة:

الدليل الأوّل … ص: 52

اشارة

إنها لو كانت تكوينيّة واقعيّة لكانت علاوة علي كونها يقينيّة- لا مشهورة- ذات واقع تطابقه، ومعه- لا بدّ أن تكون عرضاً خارجياً- أو من الإعتبارات الفلسفيّة النفس الأمريّة المأخوذة من الواقع الخارجي، في حين أنا لا نجد الفعل يتلوّن بالحسن والقبح بمعني المدح والذمّ خارجاً، كتلوّن الجدار بالسواد والبياض أو كتلوّن الموجود بالإمكان والوجوب.

مناقشة الدليل الأوّل … ص: 52

إنّه قد تبلور الخلل في ما ذكره قدس سره، حيث اتّضح أنّ التحسين والتقبيح عبارة عن القضيّة الذهنيّة الحاكية عن الكمال الخارجي، ومن ثمّ فهما إعتباران فلسفيّان، لهما منشأ إنتزاع وليسا إعتباراً أصولياً صرفاً، ومن ثمّ كانا عرضاً علي الكمال والنقص التكويني ومحمولًا عليه.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 53

الدليل الثاني … ص: 53

اشارة

إن القياس البرهاني يشترك مع الجدلي في كونه جازماً، ولكنّه يتميّز عنه في اشتراط مطابقة موادّه للخارج، في حين أن الجدلي يشترط مطابقة موادّه لاعتبارات وقرارات العقلاء من دون أن يكون لهذه الإعتبارات- الأصوليّة- تأصّل ومصداقيّة خارجاً.

وحينما نأتي إلي الحسن والقبح ونلاحظ أنّهما يتقوّمان بحكم واعتبار وتوافق العقلاء، حتّي يكون لهما وجود ممّا يكشف عن عدم وجود واقع لهما سوي ايجاد واعتبار العقلاء لهما.

هذا الدليل ذكره في مجال الردّ علي السبزواري، فإنّه برهن علي تكوينيّة الحسن والقبح بمعني المدح والذمّ، ولم يكتف بذلك حتّي نسبه إلي الفلاسفة.

وإن ما يتراءي من كلامهم أنّهما من المشهورات صحيح، ولكنّه في الوقت نفسه يصنّفونهما في الضروريات واليقينيات، ولا يمنع من كون قضيّة واحدة تندرج تحت مادّتين من حيثيتين.

واستدلّ علي التكوينيّة بنظريّة تجسّم الأعمال.

وناقشه الإصفهاني: بأنا نقبل إندراج قضيّة واحدة تحت مادّتين كما في مثل الكلّ أكبر من الجزء. ولكن قضيّة الحسن والقبح لا تندرج إلّافي المشهورات بالمعني الأخصّ لما ذكرناه من الأدلّة علي الإعتبار البحت فيها.

وأمّا مسألة تجسّم الأعمال، فأنا نقبل العلاقة التكوينيّة إلّاأنّها خارجة عن محلّ النزاع.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 54

مناقشة الدليل الثاني … ص: 54

أن كونه من المشهورات لا ينفي وجود واقع مطابق لها، وأن المغالطة بدأت من ابن سينا حيث نفي وجود مطابق حقّ في المشهورات.

والصحيح ما ذكره القدماء إلي الفارابي من أن قسماً من المشهورات في عين كونها مشهورة هي واقعيّة وبديهيّة، وهي قسم الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحيّة التي تطابق عليها جميع الآراء وفي كلّ الأزمنة.

وذلك: لما ذكره الفارابي من أنها لو كانت بالإعتبار والمواضعة لم يعقل مثل هذا الإتفاق علي مرّ التاريخ ومن الجميع من دون أن يشذّ أحد، ممّا يعني وجود سبب واقعي صارخ

في وضوحه وهو بداهتها؛ بالاضافة إلي أنها محمودة، والحمد حده الحكاية عن الكمال كما أسلفنا، ومن ثم فهو من الواقعي التكويني والملاحظ لكلام الشيخ الرئيس يجد أنّه متناقض.

فتارة يعبّر أنّ هذه القضايا مشهورة.

وثانية يعبّر أنّ العقل العملي يستقي من مشهورات وأوليّات، فإنه يعني أن لبعضها حظّاً من الواقعيّة والبديهيّة.

وثالثة يعبّر بإمكان البرهنة علي بعضها الذي يعني واقعيّتها من جهة، ورجوعها إلي بديهيّات من جهة أخري شأن كلّ نظريّ.

ورابعة يعبّر أنّ من يتوهّم أنّ كلّ ما في أيدي الناس من حسن وقبح من مواضعتهم ولا حقّ يطابقه فهو متفلسف.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 55

الدليل الثالث … ص: 55

اشارة

إنّنا نتساءل عن فلسفة إذعان واعتبار العقلاء واتّفاقهم علي المدح والذمّ؟

فالجواب: إنه لأجل تحقيق غاية عامّة وهي بسط الأمن والنظام ونشر المصلحة والقضاء علي المفسدة، فعلاقة الحسن والقبح مع الفعل علاقة الغاية وذي الغاية.

من هذه الإجابة قد يلتبس الحال فيتصوّر أنّ للحسن والقبح واقعيّة، بعد أن كانت الغاية المتوخّاة واقعيّة ولكن الصحيح أن الإجابة تدل علي اعتباريّتهما وعدم واقعيّتهما وخارجيّتهما خارج أفق توافق العقلاء، وذلك: لأن العقلاء من خلال المدح والذمّ يتوصّلون إلي الغاية ممّا يعني أن هذا المدح والذمّ توجيهيّ تربويّ إصلاحيّ، وعالم التوجيه والتربية لا ينسجم إلّامع الإعتبار.

فإنّه رحمه الله يصوّر أن العلاقة بين الفعل والمدح والذمّ علاقة الغاية وذي الغاية، ومن ثمّ فهو دليل اعتباريّة المدح والذمّ مع الإيمان بعلاقة السببيّة أيضاً بين الفعل والمدح والذمّ وأنّ الأوّل سبب ومقتضي للثاني، ولكن هذه السببيّة ناشئة من دواعٍ حيوانيّة لا إنسانيّة عقلانيّة.

كما أنّه شدد النكير علي الآخذ في تصويره وجود ملائم ومنافر للقوة العاقلة وإستنتاجه من ذلك واقعيّة المدح والذمّ.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 56

مناقشة الدليل الثالث … ص: 56

إنّ ما تقدّم من بيان حدّ المدح والذمّ وعلاقتهما التكوينيّة بالكمال والنقص، يتّضح منه أن علاقة الغاية وذي الغاية وإن كانت، لكنّها لا تعني الإعتبارية وإنّما تعني إستفادة العقلاء من هذه الظاهرة التكوينيّة في مجال التوجيه.

في الوقت نفسه لا نرتضي تصنيفه لحالات السببيّة أنّها من مناشئ حيوانيّة، إذ أن ظاهرة سببيّة الفعل للمدح والذمّ يمكن أن نجدها في الكمّلين من البشر كالرسول الأعظم صلي الله عليه و آله ولا يعقل في مثله أنّ ذمّه لظالمه حين يظلمه يكون بداعي الغريزة الحيوانيّة وإنّما بداعٍ عقليّ محض يكون الفعل سبباً للمدح والذمّ، وهو دليل عقليّة المدح والذمّ حينئذٍ.

كما

أنّنا نقبل مدّعي الآخوند إجمالًا في وجود الملائم والمنافر في القوّة العاقلة، وأنها ليست مختصّة بالقوي الحيوانيّة كما حاول أن يصوّره الإصفهاني.

وتوضيحه: إنّ البداية المغلوطة والتي رسمت موقف الإصفهاني بالشكل الذي طرحه في النقاط الثلاثة المشار إليها أعلاه هي تصويره أنّ مهمّة قوّة العقل العملي هي الدرّاكيّة فقط من دون أن تكون قوّة عمّالة، فلا أمر ولا نهي ولا بعث ولا زجر تكوينياً لها، وأن تقسيم العقل إلي نظريّ وعمليّ اعتباري، وأنّ قوّة العقل واحدة، وأن المدركات هي التي تنقسم إلي ما من شأنه أن يعلم وما من شأنه أن يعمل.

ولكن الصحيح ما نظره المتقدّمون من الفلاسفة إلي الفارابي من أن قوّة العقل العملي قوّة عمّالة ونكتشف صحّة هذا التنظير من مجموعة من المسلّمات التي اتّفق عليها الجميع مع بعض التحقيقات الحديثة:

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 57

[أ] الجميع سلّموا أن الإدراك يولّد إذعاناً.

[ب] كذا سلّموا أن الإذعان يولّد شوقاً.

[ج] وسلّموا أيضاً أن كمال الإنسان يكون بخضوع وتطويع وانصياع قواه الدانية لقواه العالية.

[د] مع تسليم الجميع بأن الإنصياع المذكور يتمّ بإدراك القوّة العاقلة واذعانها فيتولّد الشوق في ما دون أو النفرة وهو البعث والزجر التكويني.

[ه] لا يمكن أن يكون هذا الإذعان وليد معلول لواهمة أو لمخيّلة، لأن الإذعان كلّي، فلا يصدر إلّامن قوّة مجرّدة. فهو يحصل في القضايا العقليّة البحتة كالإذعان بوجود اللَّه سبحانه.

[و] آخر التحقيقات يقول: إن العلم صرف الإدراك وهو يولّد الحكم، فالحكم فعل تقوم به النفس في ظرف الإدراك الذهني، فليس هو من مقولة العلم، فاختلافهما سنخاً دليل وجود قوّتين لا واحدة.

[ز] تسليم الأعلام أن الإيمان من أشرف العلوم أو أشرف من العلوم لأنه علم وصل إلي حدّ التأثير، فهو إدراك

وعمل والإيمان يكون نتاج العقل؛ كما يذكر في علم النفس الحديث أن الإيمان مهما كان متعلّقه- ولو الحجر- من كمالات النفس البشريّة، والنفس التي لا تؤمن مريضة مذبذبة لا يمكن أن تحصل علي كمالاتها وإن بلغت من الإدراك ما بلغت.

من مجموع هذه النقاط يعرف أنها لا تنسجم مع نظريّة الإصفهاني التي تحصر دور العقل بالإدراك، وتصنّف الإنفعال والشوق والنفرة في القوي الدانية الحيوانيّة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 58

فإنها وإن كانت كذلك ولكنها بدواعي عقليّة، فهناك شهوة حيوانيّة منبعثة عن العقل، وغضب حيواني منبعث عن رؤية وعمل عقلي.

فالصحيح ما ذكره المتقدّمون من أن للعقل عملًا وبعثاً وزجراً وأمراً ونهياً جنباً إلي جنب إدراكه.

ولكن الصورة لم تكتمل ومن ثمّ كانت بحاجة إلي مزيد من الايضاح:

إن قوّة العقل النظري تمثّل درجة ومرتبة من مراتب النفس، تكون قابلًا ومحلًا وموضوعاً للإدراك، الذي يوجده فيها العقل المجرّد، وقوّة العقل العملي تمثّل درجة أدني تكون قابلًا ومحلًا وموضوعاً للإذعان الذي هو فعل الدمج الذي يوجده فيها العقل النظري ومن ثمّ يتّضح أن هذه القوّة عمّالة فقط لا درّاكة في قبال القوّة النظريّة التي هي درّاكة فقط لا عمّالة.

ونؤكّد أنّنا حينما نقول قوّة العقل النظريّ وقوّة العقل العمليّ لا نعني إلّاالمحلّ القابل للإدراك في الأوّل، والقابل لفعل النفس (الحكم) في الثاني.

وحينما يقال عن الإدراك والحكم أنّهما فعلا القوّة النظريّة والعمليّة، لا يقصد منه أنّ القوّة النظريّة فاعل الإدراك وأنّ القوّة العمليّة فاعل الحكم، وإنّما يقصد أنّهما فعلان لهاتين القوّتين المطاوعتين، بمعني أنّ الإدراك فعل القوّة النظريّة بنحو القبول وأمّا الفاعل فهو العقل المجرّد وأن الحكم فعل القوّة العمليّة المطاوعيّ بنحو القبول، وأمّا فاعله فهو القوّة النظريّة بواسطة الإدراك. والفعل المطاوعي

نظير التألّم الذي هو فعل النفس المتألّمة بنحو القبول ولكن فاعله وموجده هو الضارب.

وبتعبير آخر: الفعل المطاوعي هو المسبّب التوليدي ولكن بقيد حلوله في

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 59

محلّ منفعل، وهو يكون في صورة مطاوعة وانصياع القوّة الدانية للقوّة العالية كانصياع قوّة العقل العمليّ لقوّة العقل النظريّ، أما لو تمرّدت النفس في هذه الدرجة وجمحت، فإن الفاعل للحكم والإذعان ليس قوّة العقل النظريّ، وإنّما قوّة أخري ومن هنا يحلّ الإنحراف فإن ذلك أحد أسبابه.

وبعد الالتفات إلي أنّ الإيمان باللَّه هو الحكم والإذعان، تتّضح فلسفة وجود الحكم الشرعي الفقهي في المسائل الإعتقاديّة الأصليّة ودوره بلحاظ أثره من الترغيب والترهيب، فإنّه يؤثّر في كبح جموح النفس المحلّ والقابل (قوّة العقل العمليّ) كي تقبل فعل القوّة العاقلة للإذعان فيها.

ومن ثمّ يتبلور أن الحكم الشرعيّ الفقهيّ لا يغني عن الإدراك النظريّ في العقيدة، وليس بدلًا له في فعل الإذعان وإيجاده في النفس، إذ لا يتحقّق الإذعان ويستحيل بدون الإدراك، وتفصيل الكلام متروك إلي بحث الإمامة.

علي أية حال، إذا حلّ فعل النفس وهو الإذعان وحلّ في مرتبة من مراتب النفس، سيحصل الشوق إلي الفعل والذي هو أيضاً فعل مطاوعي يحلّ في قوّة من قوي النفس الحيوانيّة، وتوجده قوّة العقل العملي بواسطة الإذعان.

من هذا العرض تبلورت مجموعة أمور:

[أ] القوّة العمليّة قوّة عمّالة لا درّاكة، أي أنّه يحلّ فيها فعل النفس وهو الحكم هو سنخ آخر غير الإدراك وتكون فاعلة بواسطة فعلها للشوق والنفرة «البعث والزجر التكويني».

[ب] إنّ المدركات- التي قسّمها الإصفهاني إلي قسمين- تدخل جميعاً في القوّة النظريّة، فهي مدركات القوّة النظريّة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 60

[ج] مع مطاوعة القوّة العمليّة يكون فعلها الحال فيها معلول القوّة

النظريّة بواسطة مدركاتها، وإلّا فقدت هذه الميزة.

[د] دور الحكم الشرعي هو تطويع القوّة العمليّة لقبول فعل القوّة النظريّة.

ومنه اتّضحت العلاقة بينه وبين الإدراك.

[ه] السرّ في تسمية القوّة العمليّة بقوّة العقل العملي، لأنّه قوّة مجرّدة ذاتاً وفعلًا، إلّاأنّه لمّا كان فعلها الحال فيها وهو الحكم ليس إدراكاً قيّدت بالعملي تمييزاً لها عن القوّة الدرّاكة.

[و] اتّضح بعض الشي ء طبيعة العلاقة بين العقل النظري والعملي، فإن القوّة الدرّاكة لا تستطيع التأثير في القوي المادون مباشرة، فاقتضت حكمة اللَّه سبحانه وجود قوّة تتوسّط بين القوّة الدرّاكة والقوي الدانية تستلم قضاياها من العقل النظري وتوجّه ما دونها من القوي.

ونضيف: إنّ القوّة الإدراكيّة أكثر تجرّداً من القوّة العمليّة، فإن الثانية أقرب إلي النفس هويّة من الأولي، إذ النفس كما هو معروف مجرّد ذاتاً لا فعلًا.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 61

الدليل الرابع … ص: 61

اشارة

علاقة الموضوع مع محموله في القضايا ليست علاقة الفاعل للمحمول والحكم، وإنّما يكون في القضايا العقليّة بمثابة العلّة الماديّة الحاملة للحكم والفاعل هو العقل، مثل الأربعة زوج، فإن الحاكم بزوجيّة الأربعة هو العقل ولكن ليس حكماً عبطياً وإنّما بسبب تحليله للموضوع ووجدانه أنه ينقسم بمتساويين، فكان ذلك منشأ لحكمه.

وحين نأتي إلي قضيّة «العدل حسن» نجد أن الموضوع لا فاعل ولا مادّة أيضاً، أي ليست فيه صفة المدح فينتزعها العقل ويحكم بها عليه، ممّا يعني أن فاعل الحكم هو العقلاء فهم الذين اعتبروه وأوجدوه.

مناقشة الدليل الرابع … ص: 61

ولعلّ الدليل كان وراء نظريّة العلّامة في الإعتباريّات- والمناقشة نقضاً وحلّاً-:

النقض: إنّ كلّ القضايا بدون إستثناء موضوعها الذهني ومحمولها من إنشاء الفاعل لا الخارج ومعه لا بدّ أن يلتزم بإنكار واقعيّتها، «فالأربعة زوج» لم يفعلها الخارج وإنّما أنشئت وأوجدت في الذهن من قبل فاعل مّا علي حدّ «العدل حسن» من دون فرق.

الحلّ: إن المدار في الواقعيّة وعدمها ليس علي الفاعل للموضوع والمحمول

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 62

الذهني وإنّما علي المطابقة للخارج وعدمها، فإنه هو مقياس الواقعيّة وعدمها فقضيّة «الدفتر أحمر»، واقعيّة لوجود مطابق لها في الخارج وإن كان الذي فعل الحمرة الذهنيّة (صورتها) غير الخارج.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 63

الدليل الخامس … ص: 63

اشارة

إنّ موادّ القياس البرهاني منحصرة بالبديهيّات الستّ المعروفة وليس حسن العدل والمدح عليه وبعكسه قبح الظلم من أحدها، فيتعيّن أن يكون من القضايا المشهورة.

مناقشة الدليل الخامس … ص: 63

كلّ ما سبق كان يصبّ في إثبات واقعيّة وتكوينيّة الحسن والقبح، وأما بداهتها فلم يركّز الحديث عنها وإن مرّت الإشارة اليها بشكل سريع.

والدليل علي البداهة يمكن أن يقولب ضمن نقاط:

1. التطابق في كلّ زمن ومن الجميع علي المدح والذمّ في بعض الأفعال دليل البداهة، وإلّا لم يعقل مثل هذا الاتفاق.

2. الكمال والنقص في بعض الأفعال بديهي، والمدح والذمّ يرجع إليهما كما أسلفنا فهما بديهيّان.

3. ذكر الأعلام أنّ الكلّيات العالية التي تكون علّة تامّة للمدح والذمّ كالعدل والظلم مفاهيم فلسفيّة لا ماهويّة، وهي غالباً ما تكون بديهيّة فالمدح والذمّ معلولهما بديهي أيضاً.

ونحن لا نريد أن ندّعي بداهة المدح والذمّ في كلّ الأفعال، وإنّما بداهتهما في الكلّيات العالية وكثير من الكلّيات المتوسطة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 64

الدليل السادس … ص: 64

اشارة

لو كان الحسن والقبح تكوينيّين لما اختلف العقلاء في حسن شي ء وقبح آخر، في حين أنا نري أن العقلاء من قطر آخر وفي زمن آخر يختلفون، ممّا يؤكّد جعليّتهما ومن ثمّ خضوعهما للظروف والحاجات الإجتماعيّة.

مناقشة الدليل السادس 1 … ص: 64

إنّ الإختلاف يرجع إلي الإختلاف في الإحراز والتشخيص والإدراك والذي يرجع بدوره إلي اختلاف العقول البشريّة وتفاوتها، وليس بسبب عدم واقعيّة المدرك وعدم حقيقته.

فالإختلاف في المدح والذمّ زماناً ومكاناً، علي حدّ الإختلاف في سائر الحقائق العلميّة، يرجع إلي قصور الإدراك البشري لا إلي تغيّر وعدم ثبات المدرك.

2. إنّ عناوين الأفعال الكماليّة وعكسها تختلف بالنسبة إلي المدح والذمّ فبعضها يكون علّة للمدح والذمّ وأخري تكون مقتضية للمدح والذمّ ما لم يمنع مانع وثالثة تكون لا بشرط، فإذا اندرجت في عنوان حسن، ثبت لها المدح وإذا اندرجت في عنوان قبيح، ثبت لها الذمّ وإن لم تندرج تحت أحدهما لم تكن حسنة ولا قبيحة ومن هنا يعرف أن الإختلاف والتغيير يكون في القسم الثالث وشطر من القسم الثاني لا في الحسن والقبح بشكل مطلق.

توضيح الفكرة أكثر: إن العقل العملي لا يتعاطي في عمله الإدراكي

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 65

مع الجزئيّات، وإنّما يختصّ بإدراك الكلّيات والكلّيات منها ما هو عامّ، ومنها ما هو متوسّط، والجزئيّات يتحدّد وضعها من خلال الكلّي المتوسّط- والذي هو بدوره يحسم أمره من خلال انتسابه إلي الكلّي العامّ- الذي ننتسب إليه، لا من خلال ماهيّاتها الخاصّة فإذا كان الفعل الجزئي ضمن شروط معيّنة من زمان ومكان وغيرها يساهم في تحصيل الكمال، إتّصف بالحسن لاندراجه تحت العناوين الكماليّة، فلو تغيّرت الشروط وأصبح تأثير الفعل عكسيّاً لاتّصف بالقبح ومن هنا لم تكن الجزئيّات ثابتة الحسن أو القبح- لعدم ثبوت الحسن

أو القبح لها بماهيّاتها الخاصّة- وإنّما هي متغيّرة ومتلوّنة حسب طبيعة الظروف المحيطة بها.

وأمّا الكلّيات المتوسّطة فهي التي تقتضي الحسن والقبح بماهيّاتها النوعيّة شريطة عدم المانع من تأثيرها كالصدق والكذب وبالتالي فهي متغيّرة ولكن تغيّرها منتظم ومنضبط وليست كسابقتها.

والكلّيات العامّة كالعدل والظلم علّة تامّة للمدح والذمّ وبالتالي فهي من الثوابت التي لا تتغيّر، بل لها تتحدّد وجهة الأفعال الكلّية الأخصّ منها، كذا الجزئيّات.

ومن هذا العرض يتبلور وجود ثابت في مدركات العقل العملي وهو في الحسن والقبح التكوينيين. ومن هذا العرض يتبلور أيضاً الضابطة في حدود تغيّر الأحكام بحسب الزمان والمكان والذي يصاغ بصياغة ثانية:

الفرق بين الحكم الشرعي والمولوي، وما هي مساحة كلّ منهما

وصياغة ثالثة: ما هو المتغيّر والثابت في الشريعة؟

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 66

وصياغة رابعة: أين منطقة ولاية المعصوم وأحكام اللَّه الثابتة؟

وصياغة خامسة: ما هي منطقة الولاية التشريعيّة للمعصوم؟

وتفصيل الحديث سيأتي لاحقاً إن شاء اللَّه.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 67

الدليل السابع … ص: 67

اشارة

والذي بلوره الشهيد الصدر: إن معني العدل هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، والظلم بعكسه، وهذا يعني أنّهما عنوانان اعتباريّان جعليّان، لأنّ الحقّ أمر اعتباري ومعه بالأولويّة يكون محمولهما- وهو الحسن والقبح- اعتباريّاً، إذ لا معني لحمل شي ء تكويني علي موضوع اعتباري، كما لا يخفي.

مناقشة الدليل السابع … ص: 67

قد تمّت الإشارة اليها في مناقشة المرحوم الإصفهاني في دعواه اعتباريّة العدل والظلم.

*** وينتهي الحديث مع الإصفهاني وقد خلصنا إلي هذه النتيجة:

إن الحسن والقبح تكوينيّان واقعيّان وهما دائماً بمعني الكمال والنقص؛ كذا التحسين والتقبيح بمعني والذمّ أيضاً تكوينيّان، بل بديهيّان مع إقرار شهرتهما في الوقت نفسه وإنّ قوّة العقل العملي درجة أخري في النفس غير قوّة العقل النظري وهي عمّالة لا درّاكة مع عقليّتها، وإن كانت المدرَكات- ما ينبغي أن يعلم وأن يُعمل- هي مدركات قوّة واحدة وهي قوّة العقل النظري.

وذهب الإصفهاني إلي أن استحقاق العقوبة يقصد منه إستحقاق العقوبة الأخرويّة، وهي ليست من مدركات العقل العملي بل هي تعبّد نقلي محض.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 68

وذلك لأنّ مناط إعتبار العقلاء للعقوبة إمّا أن يكون للتأديب أو التشفّي أو المصلحة العامّة.

والأوّل: لا معني له لمضيّ وقته وعدم وجود تكليف في الآخرة.

والثاني: غير معقول بالنسبة للعقلاء فضلًا عن الشارع.

والثالث: يعتمد وجود نظام ومدنيّة واجتماع وهو مفقود في الآخرة.

من زاوية أخري: إن العقاب الأخروي الذي دلّ النقل عليه توجد ثلاث نظريات في تفسيره.

الأوّل: تجسّم الأعمال.

«إنّما هي أعمالكم تردّ إليكم»، «ولا تجزون إلّاما كنتم تعملون» ولا طريق للعقل إلي معرفة الأعمال التي تكون سبباً تكوينياً وذاتياً للعقاب إلّامن طريق كشف الشارع ولذا قيل في تفسير كون النبي مبشّراً ونذيراً، أنّه يبشّر بما للعمل من صورة أخرويّة حسنة، وينذر بما للعمل من

صورة سيّئة، ممّا ليس للعقل البشري احاطة به ومن ثمّ احتاج إلي متمّم ومكمّل وهو الوحي، فالعقوبة الأخرويّة سير تكاملي للنفس البشريّة، علي حدّ المرض في دار الدنيا، وهذا لا يمكن للعقل الإحاطة به بدون البشير النذير.

الثاني: إن العقوبة الأخرويّة جزائيّة بجعل من الشارع تشريعاً كما هو الحال في العقوبات الجزائيّة الدنيويّة لدي الموالي العرفيّين وعلي هذا فهي تحدّد بجعل من الشارع.

الثالث: إنّ العقوبة الأخرويّة من مقتضيات مصلحة ذلك العالم، كالشرّ الموجود في عالمنا، فإنّه شرّ نسبي ولكنّه ضرورة بالنسبة إلي العالم ككلّ،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 69

وهذه أيضاً لا ينالها العقل.

ونضيف إحتمالًا رابعاً:

وهو ما ذكره العرفاء من أنّ العقوبة من لوازم الأسماء كالقاهر، في مقابل المثوبة، والجنة من لوازم أسماء أخري كالرحيم، ومن دون أن يلزم الجبر لفردٍ مّا علي القول بذلك.

وخلاصته … ص: 69

اشارة

إنّ العقل لا يمكنه إدراك ثبوت العقوبة أو نفيها، بدليل قوله تعالي: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولًا) («1»)، التي تدلّ علي نفي الشأنيّة والإستحقاق قبل بعثة الرسل، في الفترة بين رسول ورسول، فأصحاب الفترة الذين لم تصلهم الدعوة لا ينالهم عذاب بل ولا يستحقّون، وهذه الآية المباركة تدلّ وترشد إلي جهل العقل بتلك العوالم، وأن الذي يثبتها وينفيها هو الشرع.

ويؤكّد هذا الفهم الوسط الفلسفي الحديث الذي يحدّ من مساحة حركة العقل والعلم الحصولي بحدود عالم العقل، وأمّا العوالم التي هي فوق عالم التجرّد فليس من شأن العقل إدراكها وكشفها بمعادلاته فلا بدّ أن تستقي من الوحي.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 70

هذه النظريّة نكتفي هنا بالنقض عليها- بتقريرها المشار إليه هنا- والتي تشكل أوليات الردّ والنقد لا غير:

النقض الأوّل … ص: 70

الروايات المستفيضة والروايات الواردة في تفسير آية (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) («1») تحدّثنا أن أصحاب الفترة إذا كانوا من عبدة الأوثان يخلدون في النار، فإنها تدلّ بالإلتزام علي أن المراد من الرسول هو الأعمّ من الرسول الباطني- العقل- أو الظاهري.

ويؤكّد ذلك رواية الإمام الكاظم عليه السلام الواردة بهذا المضمون ومع ذلك نتساءل كيف كان للعقل دور في فهم ما وراء العقل، ثمّ ما هو الفرق بين عبادة الأوثان والظلم، ومع إنكار فهم العقل نتساءل عن تفسير الروايات المشار إليها.

النقض الثاني … ص: 70

عوالم الآخرة وتفاصيلها وشؤونها ليست أعظم من العالم الربوبي، ومعرفة الربّ وصفاته مفتوحة للجميع باتفاق الجميع، مشفوعاً بدلالة الآيات والروايات.

فإذا كانت مثل هذه المعرفة تنال بالعقل، فكيف بعوالم أخري دونها في الدرجة، هذا وإن كنّا نثبت للمعرفة العقليّة حدوداً وما وراءها لا ينال إلّابقناة الوحي والتي هي عقل مطلق كما يأتي.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 71

وأما الجواب الحلّي فهو … ص: 71

[أ] إنّه لا مانع من إدراك العقل لاستحقاق العقوبة الأخرويّة تأديباً للعبد في عالم الدنيا، لوضوح تأثير الترهيب في تلك الدار علي سلوك العبد في دار الدنيا، بل حتّي نفس ثبوت العقوبة الأخرويّة له دور في تأديب العبد وإعادته إلي جادّة الصواب أو عدم إنزلاقه في المعصية.

[ب] إنّ التشفّي الذي تنكر له المحقّق الإصفهاني ليس مرفوضاً بالنسبة للعقلاء بل وحتّي الشارع إذا كان عقلياً بمعني أن منشأه عقلي بحت لا غير، كما ألفتنا إلي ذلك في مناقشتنا السابقة.

ولتعميق الفكرة نقول: إنّ العرفاء أشاروا إلي أنّ من لوازم الأسماء الجلاليّة- كالكبرياء والعظمة- القهر، ومن لوازم الأسماء الجماليّة- كالرؤوف- الرحمة الخاصّة. وقد سبق أنّ الحقائق المدركة بالعقل تكون سبباً في التأثير في القوي الدانية ولو لاحظنا هذه المدركات من زاوية فاعلها لوجدنا أنها مفاضة من موجودات مجرّدة عقليّة، وتنتهي هذه العلوم في تصاعدها حتي تصل إلي مرتبة تكون بها من لوازم الصفات ومظاهرها ممّا يعني أن الحقائق العقليّة للمعصوم إنّما هي تنزّلات من حقائق فوقانيّة والبطش والغضب المتولد من الحقائق العقليّة يكون تنزّلًا للغضب الإلهي وبهذا يفهم ما ورد عنهم عليهم السلام: «إن رضا اللَّه رضانا أهل البيت، وأن رضاه رضا أوليائه» وأنه عبارة عن أن نفوسهم مَجلي التنزّل السليم من الحضرة الإلهيّة.

[ج] إنّه يمكن تصوير منشأ آخر لإعتبار

العقلاء العقوبة واستحقاقها غير ما ذكره الإصفهاني وهو: ما ألفتنا إليه من أن المدح والذمّ تكوينيّان يحكيان الكمال والنقص. والعقل له القدرة علي اكتشاف الكمال والنقص في الأفعال

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 72

ولو بنحو مجمل؛ والتفصيلُ يتمّ ببيانات الشارع، ومعه يمكن درج فكرة الإستحقاق علي الفعل أو العقوبة في النقص والذمّ الحاكي عن النقص المحمولين علي الفعل.

بل يمكن تصوير حسن الإستحقاق والعقوبة حتي علي مبني إعتباريّة المدح والذمّ، وأن العقلاء هم يعتبرون حسن الإستحقاق الأخروي ولكن شريطة ضمّ الملازمة بين اعتبارهم واعتبار الشارع كي تثبت شرعيّة الإستحقاق بواسطة الإدراك العملي.

كما أن ما ذكره الإصفهاني من عجز العقل عن إدراك كنه العقوبة، مهما كان تفسيرنا لها وأنها تجسّم العمل، أو مصلحة ذلك العالم، نقبله علي مستوي تفاصيل العقوبات وكيفيّاتها، فإن العقل لا سبيل له إلي معرفتها منفصلًا عن الشارع، ولكن علي مستوي إدراك كلّي العقوبة بنحو التجسّم وغيره، فإنّ العقل يمكنه إدراكها واكتشافها ضمن إدراكه الكلّي أنّ حركته باتجاه التجرّد وأن أفعاله تساهم في صياغة وجوده الصاعد المجرّد، وأنّ وجوده باقٍ لا فانٍ، فكلّ فعل له مردود تكويني في وجوده المجرّد، ويكون لهذا الإدراك أثر الترهيب والردع، وإن كان أخفّ بكثير من معرفة الصورة الأخرويّة المترتّبة علي كلّ عمل، والتي لا سبيل إلي معرفتها إلّامن خلال الشارع.

ومن مجموع ما تقدم اتّضحت نقاط الخلل في هذه النظريّة بتقريريها.

ويمكن أن نناقش النظريّة بنقاش عامّ هو: إنّ النظريّة حاولت أن تشلّ العقل في إدراكه للمعاد، وأنه عاجز عن إدراك نتائج فعله في الآخرة، وما ذاك إلّا لتقييدها إدراك العقل لكمال الفعل ونقصه بعالم المادّة، وأغفلت أن للكمال والنقص جنبتين مادّية ومجرّدة، وأنّهما ليسا مؤقّتين وإنّما دائميّان.

اصول استنباط

العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 73

نظريّة العلّامة الطباطبائي قدس سره

اشارة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 75

نظريّة العلّامة الطباطبائي قدس سره

قال العلّامة الطباطبائي في رسالة الإعتباريات ما مضمونه في المقالة الأولي منها، في الفصل الأوّل، حيث أقام برهاناً علي أن الفاعل الإرادي لا تنطلق إرادته إلّا من أمر إعتباري- أي أنّ الإنسان لا يفعل الفعل إلّابعد إذعان بأمر إعتباري دائماً- واستدلّ علي هذا المدّعي بأنّه: لو كان الشي ء موجوداً في الخارج لما أوجب حركة الإنسان، لأن الموجود في الخارج لا يسعي الإنسان لتحصيله، لأنه من باب تحصيل الحاصل وإنّما يسعي الإنسان دائماً لتحصيل ما ليس بحاصل. فإذا كان كذلك فلا بدّ أن ما يسعي لتحصيل غير موجود، أي لا بدّ من الإذعان بقضيّة إعتباريّة يسعي الفاعل الإرادي لايجاد الفعل لأجلها.

فبيّن أنّ الحاجة إلي الإعتبار ضروريّة وأنّ أفعال الإنسان متولّدة من إرادته المنبثقة من القضايا الإعتبارية، حيث أن قضايا الحسن والقبح عمليّة فتندرج في عموم القاعدة المزبورة، فيدلّ علي إعتباريّتهما. فدعوي العلّامة هي أنّ الإرادة تنطلق دائماً من جهات اعتباريّة لا حقيقيّة.

ومن هنا تكمن الحاجة إلي الإعتبار؛ حيث إنّ إرادة الإنسان وأفعاله الإراديّة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 76

لا تنوجد إلّابتوسّط الإذعان بقضايا إعتباريّة، ومن ثمّ تمسّ الحاجة إلي الإعتبار.

والإرادة قد تكون مسخّرة للقوي العاقلة وقد تكون للقوي الغضبية أو الشهوية وهذا بحث آخر ولكنها تنطلق دائماً من غايات إمّا كاملة خيّرة أو رديئة.

والعلّامة يذكر في رسالة الإعتباريّات ما مضمونه:

المقدمة الأُولي … ص: 76

إنّ الإنسان في نفسه وكلّ فاعل إرادي وكلّ موجود يتكامل بالإرادة، لا بدّ أن يحصل كماله عبر إرادته، مثلًا: الحيوان إذا جلس ولم يستحصل علي الغذاء وما يلزمه لمعيشته سوف لن يتكامل، بخلاف الموجودات الطبيعيّة الأخري كالنباتات والمعادن؛ لأنّ تكاملهم ليس مرتبطاً بالإرادة، وأمّا

الموجود الذي فعله بإرادته كماله رهين بإرادته، ولا بدّ أن يتكامل بتوسّطها.

المقدمة الثانية … ص: 76

هذا الفعل الإرادي كيف يصدر عن الإرادة؟ فإنّ الفاعل الإرادي لو أذعن واعتقد أن الشي ء موجود في الخارج، فهذا لا يبعث الشوق ولا يولّد الإرادة، بل لا بدّ أن لا يكون الشي ء موجوداً في الخارج كي لا يكون تحصيلًا للحاصل.

مثلًا الجواهر الموجودة في الخارج لا تنبعث لتحريك الإرادة، ومن ثمّ ركّز العلّامة علي أنّ المقدّمة الثانية هي بداية نشوء الإعتبار؛ حيث إنّ الإنسان إنّما تنطلق إرادته من قضايا غير حقيقيّة، أي قضايا مؤدّاها غير موجودة؛ والقضايا ذات المؤدّي غير الموجودة هي الإعتبار. ومن ههنا اتّضح لزوم الحاجة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 77

إلي الإعتبار، فإذن القضايا الإعتباريّة هي محرّكة للإرادة دائماً سواء الإرادة الحيوانيّة أو الإنسانيّة، فليس الإعتبار مخصوصاً بالإنسان، بل الإعتبار يعمّ حتّي الحيوانات؛ لأنّ الحيوانات أيضاً تتكامل عبر أفعالها، وأفعالها لا تصدر إلّامن إرادتها، وإرادتها لا تصدر إلّامن قضايا غير موجودة أي إعتباريّة.

القوي الواهمة في الحيوان تخلق الإعتبار- حسب ما يدّعي العلّامة- ونحن لا نوافقه في ذلك كما سيأتي، وأوّل قضيّة إعتباريّة، قد يكون العقل العملي استخرجها والتفت إليها، هي تلك القضيّة التي نشأت من باب التمثيل وإلّا ربّما كان أسبق من هذه القضيّة قضيّة إعتباريّة أخري، من إدراك الإنسان لأعضائه بأنها ضروريّة له، وانتساب أعضائه إلي نفسه لازمة له، فسلطنته علي أعضائه وأفعاله نسبة حقيقيّة ضروريّة وليست خياليّة. ثمّ بعد ما يصيبه الجوع وكان قد أكل ووجد الأكل في معدته وقد سبّب الشبع، فالجوع يولّد للإنسان نوع إلتفات ولحاظ بأنّه كما أنّ نسبة أعضائي نسبة ضرورة، فنسبة الأكل أيضاً نسبة الضرورة، كي يندفع ألم الجوع ويتحقّق الشبع. وهذه أوّل

خديعة خدعت بها الفطرة البشريّة من أنها أخذت النسبة الضروريّة من قضيّة حقيقيّة وهي نسبة الأعضاء للإنسان وأخذت هذه النسبة وجعلتها بين موضوع ومحمول ليس بينهما نسبة ضروريّة.

هذه المقدّمة استبدلها بعض المحقّقين بمقدّمة أخري وهي أنّه ليست الخديعة كما بلورها العلّامة، بل الخديعة هي قضيّة أخري وهي شعور النفس أنّ حاجات البدن هي حاجات للروح، لا كما بيّن العلّامة بعنوان النسبة الضروريّة، بل بجعل الحاجات والكمالات التي للبدن حاجات للروح تنسبها إلي نفسها وتجعلها ضروريّة لها.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 78

وإنّ تفسير هبوط الحقيقة الآدميّة إلي الأرض هي هبوطها في الإدراك، بدل أن تعتني النفس بنفسها في حاجيات الروح، هبطت في جهة الإدراك وجعلت البدن جزء حقيقة نفسها. فلذلك جعلت كمالات وحاجات البدن حاجات لنفسها.

فأوّل خديعة هي جعل البدن جزءاً من الروح؛ فمن ثمّ جعل كمالات البدن كمالات للروح. طبعاً هذا الهبوط للروح في الإدراك نوع من التكامل ولكن إذا لم ترجع الروح إلي كمالاتها واشتغلت دائماً بالبدن، فحينئذٍ سوف يكون تسافلًا.

ثمّ أنّ العلّامة- علي أي حال- يذكر أن أوّل قضيّة إعتباريّة وخديعة ارتكبتها الروح هي تلك النسبة الضروريّة التي أخذت من قضيّة حقيقيّة ووضعت كنسبة إعتباريّة وحسبتها الروح أنّها قضيّة ونسبة حقيقيّة؛ فهذه القضيّة الإعتباريّة تولّدت منها قضايا إعتباريّة متكثّرة، فتكوّنت شجرة عالم الإعتبار والقضايا الإعتباريّة بتبع الحاجة، فبداية الإعتبار انبثق من أنّ الفاعل الإرادي يدرك نقص نفسه حقيقة- وهذه حقيقة وليست بخيال- وهو يريد أن يتوصّل إلي كماله- وهذه أيضاً حقيقة وليست بخيال- فهو بين حقيقتين: حقيقة نقصه وحقيقة كماله. والإعتبار يكون وسيطاً بين حقيقتين، ويكون موصلًا من حقيقة إلي حقيقة؛ فمن هذا يقال بتوسّط الإعتبار بين حقيقتين.

ونبّه العلّامة بأن وساطة

الإعتبار بين حقيقتين قد يكون بجعل الحقيقة السابقة، النقص والحقيقة اللاحقة، الكمال؛ وقد يكون بجعل الحقيقة السابقة، ثبوت أعضاء الإنسان لنفسه بالضرورة وتلك حقيقة، فيستلّ منه نسبة ضروريّة ويجعلها بين غذائه ومعدته وهي نسبة إعتباريّة، ثمّ يترتّب عليه كمال وهي تكامل البدن بالغذاء.

ثمّ بعد ذلك يقول العلّامة حينئذٍ يّتضح لدينا أن الإعتبار يتولّد وينشأ من

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 79

الحاجة، فالوجوب الإعتباري متقدّم علي الحرمة الإعتباريّة بمراتب كثيرة حتّي الإستحباب، بمعني الأولويّة العقليّة تتقدّم علي الكراهة، بعد ذلك وجد ما يضرّ بنفسه وممتنعات تكوينيّة، فجعل النسبة بينهما نسبة الإمتناع أو الكراهة وهي نسبة إعتباريّة.

ثمّ يقول: إنّ القضايا الإعتباريّة الهامّة التي إلتفت إليها الإنسان، هو اختصاص الإنسان ببعض الأعيان التي يستفيد منها أعيان الأكل وأعيان المعاش. واختصاص الإنسان بالأعيان نوع من تكامل الإنسان؛ لأنّه لو كانت كلّ الأعيان اشتراكياً استلزم إمتناع تكامل البدن للإنسان؛ إذ لا يستطيع أن يستفيد من عين خاصّة، فالإختصاص لا بدّ منه. هذا الإختصاص ليس نسبة حقيقيّة تكوينيّة ولكن رأي الإنسان أنّ أعضائه وأفعاله لها اختصاص تكويني حقيقي، فانتزع هذه السلطة وجعلها بين الغذاء ونفسه أو بين المتاع ونفسه، لكي يتكامل بدنه وهو إعتبار الملك، فمن ثمّ إنتزع إعتبار الملك.

ثمّ يقول في تولّد إعتبار الحسن والقبح: أن الإنسان رأي بعض الأشياء التي فيها منافعه واعتبر لها نسبة الضرورة الإعتباريّة وبعض الأشياء التي لها مضرّة للإنسان واعتبر لها نسبة الإمتناع أو الكراهة، ووجد أنّ الإرادة قد لا تنبعث من هذه النسبة الإعتباريّة وهي نسبة الضرورة أو الإمتناع- أي أن الإرادة تحتاج إلي مكمّل لها في الإنبعاث- والشوق يحتاج إلي مولّد له بدرجة أشدّ، فاعتبر المدح والذمّ، فاعتبرهما العقلاء، الحسن قرين وملازم

الضرورة والوجوب، والقبح ملازم الحرمة والإمتناع. فالمدح جهة تكميليّة عند العقلاء لأجل توليد الإرادة، والقبح أيضاً جهة تكميليّة عندهم لأجل توليد الكفّ والزجر وعدم تولّد الشوق، وكذلك الثواب والعقاب وهما أمران إعتباريّان، فالحسن والقبح إعتباريّان.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 80

ثمّ بعد ذلك قال ما مضمونه: تولد لدي الإنسان اعتبار الرئاسة؛ لأن الإنسان كما أنه في عالم نفسه لا بدّ من وجود قوّة مهيمنة علي بقيّة القوي وهي توازن بين القوي الغضبيّة والشهويّة والإدراكيّة والتخيليّة والإدراكيّة الوهميّة مع القوي العاقلة؛ فالقوي العاقلة تكون مهيمنة علي تلك القوي وتنظم أنشطة وأفعال تلك القوي وإلّا يوجب عدم التوازن والاضطراب.

أقول: تفصيل الجواب عن هذا الإستدلال

أنّ فيه غفلة بسيطة يبعد صدورها منه جدّاً، وهي أن القضايا الحقيقيّة ليست مساوية للقضايا الخارجيّة بالفعل في الآن الحاضر، إذ القضايا الحقيقيّة عند ابن سينا مثلًا هي التي عقد الوضع فيها، أي قضيّة الوضع جهته ومادّته بالإمكان غير القضيّة المركبّة من عقدي الوضع والحمل وجهتها وهي كلّ ذات ثبت لها عنوان الموضوع، ثبت لها عنوان المحمول- فجهة ومادّة الثبوت الأوّل مغايرة لجهة ومادّة الثبوت الثاني- فمثلًا هل كلّ ذات ثبت لها عنوان الموضوع بالضرورة أو بالإمكان أو بالفعل يثبت لها عنوان المحمول أو لا؟

لدينا جهة قضيّة بين الموضوع للمحمول وجهة قضيّة في نفس عقد الوضع وعقد الحمل، وجهة القضيّة في عقد الحمل متناسبة مع جهة القضيّة في قضيّة الأمّ المركّبة بخلاف جهة القضيّة في عقد الوضع فقط.

فذهب ابن سينا إلي أنّ جهة القضيّة في عقد الوضع هي الإمكان، أي كلّ ذات أمكن أن يثبت لها عنوان الموضوع، يثبت لها عنوان المحمول، بنفس جهة قضيّة الأمّ.

وذهب الفارابي إلي أنّ جهة عقد الوضع هي

المطلقة الفعليّة، أي الثبوت في

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 81

أحد الأزمنة الثلاثة، سواء المستقبل الأبدي أو الماضي الأزلي أو الحاضر من باب التوسعة في دائرة المطلقة الفعليّة وليست منحصرة في الماضي القريب.

وأكثر الفلاسفة مالوا إلي رأي ابن سينا وأنه يكفي في كون القضيّة حقيقيّة أن جهة عقد الوضع إمكانيّة.

وههنا نقول: القضيّة الحقيقيّة قد تكون جهة عقد وضعها جهة إمكانيّة، فضلًا عن جهة قضيّة الأمّ التي قد تكون أيضاً إمكانيّة، ومع ذلك تبقي القضيّة حقيقيّة؛ فلا تحصر القضايا الحقيقيّة في الخارجيّة، فضلًا عن الخارجيّة في الموضوع الحاضر أو الماضي الوجود، بل أن القضايا الحقيقيّة تسع الممتنعات، مثل: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) («1») فالتلازم الموجود بين الممتنعات واقعي، ويشير إليه جواب الرضا عليه السلام عن «هل يعلم ربك بالممتنعات أو المحالات؟» فقال عليه السلام: «يعلم حتي بلوازم الممتنعات»؛ فالقضايا غير البتيّة حقيقيّة أيضاً.

فالإرادة البشريّة لا تنطلق لتحصل الموجود الحاضر أو الماضي، لكن ذلك لا يلزمه انبعاثها من القضايا الإعتباريّة؛ لأن ما يبقي من القضايا غير الخارجيّة هو القضايا الحقيقيّة بلحاظ الوجود الإستقبالي.

فالصدق جميل أو حسن، الكذب قبيح، هذه قضيّة مثلًا الإرادة تسعي لتحصيل الصدق والصدق غير موجود في الخارج، لكن لا يستلزم ذلك كون القضيّة إعتباريّة!! فعدم وجود الشي ء محقّقاً في الخارج لا يعني أن القضيّة إعتباريّة.

فالقضايا الحقيقيّة موضوعها مقدّر موجود.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 82

أمّا ضرورة الحاجة إلي قانون إعتباري- سواء سماوي أو بشري عند المتكلّمين والأصوليين من الإمامية- هو أن العقل العملي لمّا كان يقتصر إدراكه علي القضايا الكلّية الفوقانيّة في الحسن والقبح، مثل «الظلم قبيح والعدل حسن» أو الكلّيات المتوسّطة القريبة للعالي، مثل «الصدق حسن والكذب قبيح»،

وكذلك في الفضائل والراذئل الخلقيّة، العقل المحدود البشري تخفي عليه جهات الحسن والقبح في الجزئيّات المادون، مثلًا قضيّة «أنّ في القمار قبحاً» ليست من الكلّيات الفوقانيّة، بل من الكلّيات التحتانيّة، وكذلك «قبح نكاح الشغار» يخفي علي العقل البشري وكذا كون الربا ذا مفاسد، تخفي علي البشر جهات قبحه.

فما أن تتنزّل الأفعال وتصل إلي الفعل الجزئي تخفي علي العقل البشري المحدود جهات حسنها وقبحها وكذلك المتوسّطات الدانية فضلًا عن التحتانيّة تخفي علي العقل البشري المحدود جهات حسنها وقبحها، فمن ثمّ إنبثقت الحاجة إلي القانون.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 83

الإعتبار الإلهي … ص: 83

فالإعتبار ممّن يطّلع علي جهات الحسن هي بيان وحكاية لتلك الجهات ضمن قوالب وقضايا إعتباريّة غرضها الكشف عن جهات الحسن والقبح؛ غاية الأمر لا تكشف عنها تفصيلًا؛ لأنه يستلزم الحكاية إلي ما لا نهاية من القضايا العقليّة، بل تجمع الحكايات في حكاية إجمالية بالقضايا الإعتباريّة في الكشف عن تلك الجهات الحسن والقبح؛ لأنّ العقل البشري إنّما يدرك الكلّيات الفوقانيّة لجهات الحسن القبح في الأفعال، أمّا المتوسّطات إلي ما لا نهاية فضلًا عن الجزئيّات فلا بدّ في الكشف عنها من توسّط الإعتبار ولا إمكان للكشف بالعلم الحصولي إلّا بذلك.

فالحاجة إلي الإعتبار ليس لأنّ الإرادة البشريّة لا تنطلق إلّامن الإعتبار- كما ادّعاه العلّامة- أو أنّ الإعتبار ضرورة لتوسّطه بين الحقيقتين، حقيقة نقص الإنسان وحقيقة كمال الإنسان- كما بيّنه العلّامة- بل الإرادة تنطلق دائماً من الحقائق، والإعتبار وظيفته الكشف عن الحقائق اجمالًا. وإلّا فالإرادة الإنسانيّة لا تنبعث عن ما لا حقيقة له مع العلم بأنه لا حقيقة له، فالسراب مع الإلتفات

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 84

إلي سرابيّته لا يبعث الإرادة الحيوانيّة فضلًا عن الإنسانيّة. والإرادة حينما

تنطلق من الإعتبار إنّما تنطلق منه لأجل الحقائق المودعة في ذلك الإعتبار، نظير وجوب مراعاة قوانين العبور والمرور.

وبعبارة أخري: الإرادة لا تنطلق من الإعتبار بما هو هو، وإنّما تنطلق من الإعتبار بما هو كاشف عن الحقائق. والإعتبار أكثر ما يتّصل، يتّصل بقوّة العقل العملي. فأهميّة الإعتبار من جهة أنّه فعل من الأفعال قد يمارس من قبل النفس البشريّة وبتوسّط قوّة العقل العملي التي لديها، ومن الحيثيّة الفلسفيّة يلجأ الفيلسوف في تحقيق هذه الظاهرة الموجودة لدي الفاعل الإرادي الانساني؛ ومن ههنا تظهر الضرورة الملجئة للفيلسوف في البحث عن الإعتبار وأقسامه.

وهناك وجه آخر أو إلجاء آخر له للبحث عن الإعتبار، هو أنّه كثير من الحقائق ربّما تختلط لدي النفس بين كونها قضايا إعتباريّة، لا الإعتبار الفلسفي بالمعني الأخصّ الذي له منشأ نفس أمري، بل الذي بمعني مطلق ما ليس له واقع يطابقه ومنشأ يؤخذ إذ كثيراً ممّا تختلط الحقائق بهذه الامور الإعتباريّة، فمن ثمّ تميّزها أمر بالغ الأهميّة وكما نبّهت الفلسفة الإسلاميّة إلي اختلاط القضايا الذهنيّة الحقيقيّة مع الحقيقيّة الخارجيّة وكان مورداً لتشويش الكثير من الأبحاث في المعارف البشريّة، كذلك اختلاط القضايا الإعتباريّة مع القضايا الحقيقيّة أصبح مورداً لتشويش الكثير من المسائل في المعارف البشريّة، فلا بدّ من التمييز بين القضايا الإعتباريّة والحقيقيّة، ثمّ بين الحقيقيّة الذهنيّة والحقيقيّة الخارجيّة.

وقد ركّزت في الفلسفة جهوداً كثيرة بتمييز القضايا الحقيقيّة الذهنيّة عن الخارجيّة، والسبب في أهمّية ذلك هو أنّ القناة التي يستلم الإنسان منها معلوماته هي عبر قناة ذهنه في علومه الحصوليّة، فإذا لم يبيّن ما هو من

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 85

مختصّات رواسب القناة وخصوصيّات الوجود الذهني وما هو آتٍ عبر القناة وما هي الصورة للوجود الخارجي لم يميّز بين

أحكام الوجود الذهني وأحكام الوجود الخارجي وكثير من الإشتباهات نشأت من الخطأ بينهما وأحكامهما. وهذه الأهمّية نفسها ثابتة للبحث عن الإعتبار.

ثمّ قال في المقالة الثانية: إن الفاعل الإرادي كيف تتولّد إرادته وكيف يتحقّق اختياره من الإعتبار.

أقول: ما يذكر في المباحث التكوينيّة من قواعد بعينها آتٍ في الإعتباريّات.

وسبب ذلك أن الإعتبار يتوقّف علي شؤون الإرادة، فلذلك بسط العلّامة البحث فيها بما يبحث في العلّة والمعلول وأقسام الفاعل الإرادي، فلذلك لا حاجة لنا إلي ذكرها ونذكر الفصل الآخر في تلك المقالة وهو مهمّ جداً، حيث إن في المقالة الاولي قد سلّط الضوء علي كيفيّة نشوء الإعتبار عن الحقيقة وفي آخر المقالة الثانية يريد أن يسلّط الضوء في كيفيّة نشوء التكوّن عن الإعتبار.

فالمقالة الاولي في كيفية نشوء الإعتبار عن التكوين وهنا في المقالة الثانية في كيفيّة نشوء التكوين عن الإعتبار وهذا أمر معضل، إذ نشوء الإعتبار عن التكوين قابل للتصوير، باعتبار أخذ معني من وجودات تكوينيّة؛ أما نشوء التكوين من إعتبار فهذا ممتنع التصوّر إبتداءً وهنا يسلّط الضوء علي ذلك.

وقدّم تعريف الإعتبار وهو أخذ الشي ء الماهوي من وجود وموجود حقيقي واعطاؤه لشي ء آخر. مثلًا ماهيّة الملكيّة الموجودة بوجود تكويني لدي الإنسان في سلطته علي أفعاله، هذا المعني والماهيّة يأخذ العقل ويعطيه لشي ء آخر، للغذاء مع نفسه أو لنفسه مع الغذاء، فأخذ حدّ الشي ء من موجود حقيقي وهو سلطنته علي أفعاله وأعطاه للغذاء الذي بينه وبين الإنسان، لأنّه لا ربط حقيقيّاً

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 86

بينهما، فأخذ حدّ الشي ء من موجود حقيقي وهو سلطنته علي أفعاله وأعطاه لشي ء آخر، هذا هو الإعتبار. غاية الأمر حين ما يعطيه لشي ء آخر يفرض له وجود وهمي تخيلي لا حقيقي ونحن نتّبع العلّامة في

هذا التعريف نفسه.

ثمّ قال: إن الإرادة عندما تتولّد ويتولّد منها الفعل التكويني، الإرادة توجد الفعل التكويني وهو إمّا فيه كمال الإنسان أو نقصه، فههنا نشأ التكوين عن الإعتبار حيث أنّ الإعتبار ولّد الإرادة وهي ولّدت الفعل التكويني الذي فيه كمال أو نقص. فالإرادة بتوهّم هذا العنوان الإعتباري ولّدت الفعل التكويني، فاتّضح بهذا وساطة الإعتبار بين حقيقتين- حقيقة النقص فتتولّد الإعتبار، فيتولّد الإرادة، فيتولّد الفعل التكويني الخارجي- فتكون الإرادة بين حقيقتين.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 87

نكات في كلامه قدس سره … ص: 87

اشارة

الاولي: هي أنّ الإعتباريّات سبب وجودها هو أنّ الفاعل الإرادي لا يمكن أن تتولّد إرادته إلّامن الإعتبار.

والثانية: وساطة الإعتبار عنده هو وساطته في تحريك الإرادة ومن ثمّ إيجاد الفعل التكويني وأخذه من أمر تكويني آخر أو بين نقص الإنسان وكماله، هاتان النكتتان هما مورد للتأمل، وإلّا فما ذكره في تقسيم الأقسام متين.

أما النكتة الاولي … ص: 87

وهي أنّ الحاجة إلي الإعتبار هو كون الإرادة لا تتولّد إلّامن الإعتبار، فغفلة غريبة منه قدس سره حيث إنّه نفسه وأكثر الفلاسفة قالوا بأن القضايا الحقيقيّة ليست مرهونة بوجود الفعل الخارجي، والذي لا يحرّك الإرادة هو وجود الفعل الخارجي الحاضر، لأنّه تحصيل للحاصل وأمّا القضايا الحقيقيّة- أي غير القضايا الخارجيّة المقيّدة بكونها خارجيّة ولو كان قضيّة مطلقة فعليّة استقباليّة أو كانت القضيّة حقيقيّة تقديريّة لوجود استقبالي- فلِمَ لا تكون تلك محرّكة لإرادة الإنسان.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 88

نعم إرادة الإنسان لا تتولّد من قضيّة خارجيّة موجودة ولذلك يقال: إنّ مدركات العقل النظري بنفسه لا تحرّك الإرادة مباشرة، وكذلك التوحيد النظري بنفسه ليس توحيداً تامّاً. بل لا بدّ من وساطة العقل العملي، كي يحرّك الإرادة ولا بدّ في التوحيد النظري من مراتب توحيديّة عمليّة، كي يقال إنّه موحّد تامّ.

كما أن التوحيد النظري بنفسه ليس بإيمان وتسليم تامّ والإقتصار عليه يكون كمقولة بني اسرائيل (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) («1») يعني بالنسبة إلي أفعالنا وقوانيننا لا ربط لها بالباري.

فالعقل النظري بمفرده لا يوجب تحريك الإرادة. هذه النقطة صحيحة ومتينة، كما أنّ الفاعلين بالإرادة لا يستكملون إلّابأفعالهم الإراديّة، وهذه نقطة أخري تامّة. فكل فاعل إرادي لا يستكمل إلّابالإرادة. ولكن هاتين النقطتين لا توجبان القول بأنّ الإرادة تنطلق من الإعتبار؛ لأنّ في البين مدركات العقل العملي وهي مدركات حقيقيّة أي

مدركات بصياغة القضيّة الحقيقيّة لا القضيّة الخارجيّة، يمكن أن تحرّك إرادة الإنسان القضيّة المطلقة الفعليّة؛ لأن هذه القضيّة غير ملحوظ فيها خصوص الزمن الحالي، بل مع زمان الإستقبال وهو شي ء غير موجود، فتسعي الإرادة لتحصيل شي ء غير موجود.

والفعل المأخوذ في القضيّة المطلقة الفعليّة المستقبليّة أو القضيّة الحقيقيّة وجوده رهين ومعلول لإرادة الإنسان، فاتّضح أنّ القضيّة الحقيقيّة تحرّك الإرادة لأنّ متعلّقها شي ء غير موجود، لاستقباليّتها؛ والفعل الذي فيه كمال، وجوده منوط بإرادة الإنسان. يولّد الشوق للإنسان فإنّ الشوق وليد تصوّر الكمال، فإذا

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 89

التفت الإنسان إلي أنّ كمالًا مّا موجود في فعلٍ مّا- الفعل الإستقبالي- والمنوط وجوده بالإرادة حينها يتولّد لديه شوق والشوق تولّد منه الإرادة، فيسعي الإنسان لتحقيق تلك القضيّة.

فتلك المقدّمتان اللتان استدلّ بهما العلّامة مقدّمتان تامّتان ولكن لا تستلزمان مدّعاه. فيمكن أن تنشأ الإرادة من الحقائق وسيأتي أنها دائماً تنشأ من الحقائق وما يتراءي من أنّها تنشأ من قوانين إعتباريّة ففي الواقع ليس إنبعاثها من تلك القوانين.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 90

أمّا النكتة الأساسيّة الثانية … ص: 90

إنّ العلّامة بعد أن برهن أنّ الإرادة تتولّد من الإعتبار، قال: ههنا إنبثقت الحاجة للإعتبار. أنّ علّة الحاجة إلي الإعتبار وهو استناد الإرادة للاعتبار واحتياج الفاعل الإرادي للاستكمال في أفعاله ولا تتولّد الإرادة إلّابالإعتبار وأمّا علي ما بيّناه من عدم لزوم تولّد الإرادة من الإعتبار، فما هي الحاجة إلي الإعتبار ومن أين نشأ الإعتبار؟

نقول كما ذكره الاصوليّون والمتكلّمون: إنّ الإعتبار منشؤه أن العقل العملي أو النظري محدود في مدركاته- بتسليم كافّة ذوي العقول مطلقاً- فإنّهم يسلّمون بأن العقول البشريّة محدودة وليست لا محدودة، ورأس المال الموجود لديها هو البديهيّات التي ينطلق منها العقل البشري سواء النظري

أو العملي، ويتوصّل به العقل بمفرده إلي مقدار من النظريّات لا إلي كلّ النظريّات.

وبعبارة أخري: العقل العملي يدرك الكلّيات الفوقانيّة، أي كلّيتها تكون علي دائرة وسيعة جداً- مثلًا الظلم قبيح والعدل حسن والإحسان حسن- والكلّيات التي تأتي بعدها رتبةً كجنس للأفعال أو الكلّيات المتوسّطة- كالصدق حسن والكذب قبيح والبخل قبيح والعلم حسن والفضائل حسنة والراذئل قبيحة- وهذه قد تخفي علي العقل العملي أو النظري تمام جهات حسنها أو قبحها، فضلًا عما إذا تنزّلت، أي صارت جزئيّات إضافيّة أو حقيقيّة ولذلك لا يستطيع الإنسان دائماً في الفعل الخارجي الخاصّ أن يعلم كلّ جهات الحسن والقبح الموجودة أو المنفعة أو المضرّة أو جهات الكمال والنقص فيه؛ لأنّ جهات المنفعة والمضرّة في الفعل

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 91

قد لا تكون في نفسه، بل بلحاظ لوازم الفعل.

وقد يقوم الإنسان بفعلٍ مّا وينظر إلي الفعل في نفسه وبنظرة ظنّية أو قد يصل إلي العلم تارة لا في غالب الموارد، بل الغالب أنّه لا يصل إلي كلّ جهاته وهذا بخلاف من يكون عقله محيطاً بالإتّصال بالمنبع اللّامحدود، فهو يعلم الفعل- الفردي أو الاجتماعي- بكلّ جهات حسنه أو قبحه ولوازمه ولو بألف واسطة كذا وكذا.

فالإنسان الفرد أو المجموع البشري أو العقل المجموعي التجريبي من دون شريعة تهديه بإعتماده علي نفسه وعقله المحدود الفرد لا يمكنه أن يعرف كلّ جهات الحسن القبح في الكلّيات المتوسّطة أو التحتانيّة، فضلًا عن الفعل الجزئي الخارجي، سواء الفعل الفردي أو المجموعي، ولا يستطيع أن يتوصّل إلي كلّ جهات الحسن والقبح لا أنّها غير موجودة، إذ وجودها غير مرتهن بالإدراك إذ إدراك الإنسان محدود، فلا بدّ له أن يستعين باللّامحدود وهو الباري عزّ وجلّ، مَن هو عالم

لا تخفي عليه الخفيّات، ومن هذه الحاجة للّامحدود تبزغ وتتولّد الحاجة إلي القوانين والإعتبار والشريعة؛ فسبب الحاجة إلي الإعتبار هو محدوديّة مدركات إدراك العقل العملي والنظري للإنسان، وهذه المحدوديّة تلجئه للإستعانة بقضايا إعتباريّة.

وقد يتساءل: غاية ما يثبت هو الحاجة إلي العالِم المحيط، ويمكن سدّها وإغنائها بالحكاية عن الواقع بالقضايا الخبريّة فلِمَ تكون إعتباريّة؟ إذ منشأ الحاجة هي الكشف عن الواقعيّات، وأمّا الإعتبار فلا دخل له في الواقع.

قلت: هذا الكشف لو كان بالإخبار عنها تفصيلًا، لما وَصَلَ الإخبار إلي حدّ يقف عنده؛ لأن شجرة الأفعال وأنواعها وأصنافها لا تصل إلي حدّ ولو كان البناء

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 92

علي الإخبار بالقضايا الحقيقيّة لما وصل الإخبار إلي حدّ الذي هو من سنخ العلم الحصولي.

وبيان آخر: كان من اللازم علي الباري أن يجعل الكلّ أنبياء أو رسلًا، يبيّن لهم بالعلم الحضوري آحاد الأفعال وجهات الحسن والقبح فيها وهذا خلف وجود القسم الغالب من الحقيقة الإنسان الذي فيه خير أكثري، لا خصوص القسم الأوّل الذي هو خير محض، ويبطل الإمتحان بشرائطه الخاصّة في هذا النظام الأكمل، فلا بدّ من درجات وهذا لا يتوافق مع كون درجة العلم واحدة ولا يتوافق مع كون الكلّ أنبياء.

وببيان ثالث: إنّ الإخبار عن جميع كلّيات الأفعال لا يكفي ايضاً ولا البيان للأنواع العالية؛ لأنّ هناك اختلاطاً بين الأفعال أو بين القضايا الحقيقيّة في الأفعال، فعند الإختلاط بين جهات الحسن والقبح ليس في البين مميّز وتبقي تلك الفاقة وذلك الفقر عند الإنسان، لأنّ الغرض أن العقل محدود والبيان غير كافٍ.

فلذا مسّت الحاجة إلي الإعتبار، لأن بالإعتبار يمكن أن ينظم إرادة الإنسان وفق جهات الحسن والقبح الواقعي بنحو غالبي لا دائمي؛ لأنّ الدائمي لا يمكن.

لذلك

كانت ملاكات الأحكام الشرعيّة غالبيّة في مواردها لا دائميّة ولكن هذا هو المقدار الممكن المقدور. فلذلك صارت القضيّة إعتباريّة ولم تكن حقيقيّة، أي هي بلحاظ ما تكشف عنه من جهات واقعيّة بل غالبيّة، لأنّ الدائمي لا يمكن.

فهي قضايا حقيقتها خبريّة، لكنّها خبريّة غالبيّة لا دائميّة، وتنظيم تلك القضايا الخبريّة بنحو تستوفي غالب الملاكات، لأنّ كلّ الملاكات ليس من مقدور الطاقة البشريّة، فهذا هو معني القضايا الإعتباريّة. فليست هي بلحاظ الواقع أن تطابقه دائماً وإنّما هي قضيّة فرضية، الغاية منها الإخبار الإجمالي الغالب عن

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 93

الواقعيّات. فمنشأ الحاجة إلي الإعتبار هو محدوديّة العقل البشري وعدم إمكان اطّلاع العقول المحدودة بالوسائل الوجوديّة المجهّزة بها من قوي العلم الحصولي والنظام المفروض إلّابتوسّط الإعتبار.

ويتّضح من ذلك أنّ الوساطة ههنا في الكشف لا في ترتّب التكوين علي الإعتبار. ويؤيّد ما قلنا إنّ في القوانين الوضعيّة البشريّة الحاجة ايضاً إلي الإعتبار منشؤها هو ذلك، مثلًا خبراء المرور وحركة المواصلات ليس بإمكانهم إبلاغ كافّة المجتمع بالقضايا الحقيقيّة في خصوصيّات وسائل النقل. وكيف يوصلون إلي كافّة المجتمع كلّ الجهات في أفعال حركة المرور، فإنّه لا يمكن إلّابسَنّ قوانين إعتباريّة فتبيان كل جهات الحكمة في إشارات المرور وخطوط غير متيسرّة.

وكذا الأطباء لو أرادوا أن يُطلِعوا المجتمع بكافّة خبرتهم، لا يمكنهم ذلك بتوسّط قضايا حقيقيّة خبريّة تكوينيّة، بل يؤخذ منهم جماعة في المجالس التشريعيّة ويشرّع قوانين طبّيّة يجب أن لا يتجاوزها عامّة المجتمع وقس علي هذا في بقيّة الخبرات.

فالواضع للسنن والتشريع يجب أن يكون أكمل القوم عقلًا وأكملهم علماً كي يسنّ لهم ما ينفعهم ويسنّ لهم المنع عن ما يضرّهم، إذ ليس بالإمكان ابلاغ كلّ الجهات إلي كافّة الناس ويعبّر عنه

هذا بفلسفة القانون، أي القضايا الفرضيّة البديلة عن القضايا الحقيقيّة التي لا يمكن إخبار كافة المجتمع، فيسنّ لهم الإعتباريّات.

فلغة القانون الإعتباري في الفطرة البشريّة نشأت من محدوديّة عقل البشر وألجأه ذلك إلي الإستعانة بعقل أكمل منه وإستعانته لا تتمّ إلّابالإعتبار ولا تتمّ بالإخبار التكويني. فلغة القانون وليدة للغة العقل ولا يمكن تنزّل لغة العقل

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 94

الحصولي إلي التفاصيل، والقضايا الإعتباريّة متولّدة من القضايا الحقيقيّة هذه.

ثمّ ذكر العلّامة أنّ الإعتبار هو أخذ حدّ شي ء لشي ء آخر وهذا التعريف هو تعريف غالب الاصوليين من الإماميّة ولا غبار عليه. وبيّن في الميزان ورسالة الولاية وفي حاشية الكفاية: أنّ القضيّة الإعتباريّة هي التي ولّدت الإرادة، والإرادة ولّدت الفعل، وهذا الفعل البشري الصادر عن الإرادة وإن كان معنوناً بعنوان اعتباري، لكن نفس الفعل البشري هو وجود تكويني. فالإعتبار حيث كان لباساً وعنواناً لأفعال تكوينيّة فيكون واقعها باطن الشريعة وباطن القانون الشرعي، وفي الأفعال التكوينيّة كمالات وفي الأفعال المحرّمة دركات. فهذا هو دور وساطة الإعتبار بين الحقائق؛ فهو يتوسّط بين الإرادة والفعل التكوينيّين بجعله حدّاً عنوانيّاً ماهويّاً للفعل، ولكن علي ضوء المبنيين في النقطة الاولي والثانية من كيفيّة توسّط الإعتبار يظهر أنّ وساطة الإعتبار ليست ذلك، حيث ذكرنا أنّ الإرادة تنطلق من القضايا الحقيقيّة، بل ادّعينا أنها دائماً تنطلق من القضايا الحقيقيّة لا أنه في الجملة فقط.

وبيّنا الدليل عليه في الجملة في النقطة الاولي كما أنّه في النقطة الثانية بيّنا أن مرجع ومنشأ الحاجة إلي الإعتبار لغاية العلم والإدراك لجهات الحسن والقبح، أي أن منشأ الحاجة إلي الإعتبار هو الكشف عن جهات الحسن والقبح، أي الوساطة في الإثبات لا الوساطة في الثبوت كما بيّنها العلّامة، حيث إن

مفاد بيان العلّامة هو الوساطة في الثبوت، باعتبار أنّ الإعتبار يولّد الإرادة والإرادة تولّد الأفعال التي هي الكمالات أو الدركات، بينما بناء علي ضوء النقطة الثانية التي بينّاها من أن الحاجة إلي الإعتبار هي محدوديّة العقل البشري، أي أنّ الإعتبار يحتاج اليه من جهة كشفه اثباتاً عن جهات الحسن والقبح في الأفعال،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 95

يظهر أنه ليس في البين واسطة ثبوتيّة وهذا هو ما عليه المتكلّمون والاصوليون من الإماميّة.

نعم بقيّة الامور والتقسيمات التي ذكرها العلّامة تامّة وجيّدة والكثير منها زبدة التحقيقات الأخيرة التي توصّل إليها في الفقه والاصول ولا غبار عليها، نعم في بعض الأمثلة تأمّلات، مثلًا ما مثّله من الحاجة إلي الأكل من أنّه لا بدّ من توسيط الإعتبار، فمن البيّن أنّه لا داعي لفرضه الإعتبار فيه، حيث إن الأكل للغذاء مكمّل للبدن بنحو القضيّة الحقيقيّة ومولّد ومحرّك للإرادة، فيتولّد الشوق لإيجاد الأكل، فتتولّد الإرادة، ثمّ يقوم الإنسان بالفعل فهذه القضيّة حقيقيّة، فلا تفرض إعتباريّة؛ فكما ذكرنا من أن القضايا الإعتباريّة إنّما يتوصّل بها ويحتاج إليها في الموارد التي لا يدرك فيها العقل النظري أو العملي جهات الواقع، وأمّا مع إمكان إدراك العقل لجهات الواقع بسهولة فلا حاجة حينئذٍ لتوسّط الإعتبار.

ونقول بأنّه قد اتّضح في ما بيّنا من التأمّل في كلام الطباطبائي أنّ الإرادة تنطلق دائماً من الحقائق والقضايا الحقيقيّة ومع ذلك قلنا إن هناك حاجة تدعو إلي الإعتبار في ما كان العقل البشري محدوداً لا يطّلع علي جهات الحسن والقبح في الفعل، وأن الإرادة تنطلق من الإعتبار ولكنّها لا تنطلق من الإعتبار بما هو اعتبار أو بما هو لا واقع له ولا واقع ورائه وانما تنطلق من الإعتبار لما للإعتبار من

كشف اجمالي عن جهات الحسن والقبح والقضايا الحقيقيّة، ولذلك أن الفاعل الإرادي لا يتبع إعتبار أي معتبر وإنّما يتبع إعتبار المعتبر المطّلع علي جهات الحسن والقبح.

وأمّا إذا كان المعتبر بنفسه جاهلًا بجهات الواقع فالإرادة لا تتولّد من اعتبارات ذلك المعتبر؛ لأنّ الفرض أن ذلك المعتبر لا يطّلع علي جهات الحسن والقبح،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 96

فكيف تتولّد الإرادة؛ إذ أن الإرادة لا تنطلق إلّابلحاظ أن المعتبر محيط سواء احاطة لدنّية ذاتيّة كاللَّه عزّ وجلّ أو احاطة بسبب التجربة والخبرة كما في القوانين الوضعيّة مثلًا، فانطلاق الإرادة في الجملة في منطقة القضايا الإعتباريّة التي لا يدركها العقل ليس للإعتبار بما هو، بل بما هو كاشف اجمالي عن الواقعيّة الحقيقيّة عندما تطمئن النفس بهذا الكشف بقدر ما تذعن لذلك المعتبر من علم واحاطة.

ومن ثمّ ذكر أرسطو بأنّه لا بدّ أن يكون المسنّن للقوانين التشريعيّة في المجتمع والإجتماع أن يكون إنساناً إلهياً محيطاً بالجهات الواقعيّة عالماً بالعوالم العالية وهي تتّفق مع نظريّة الإصفهاني في إعتباريّة الحسن والقبح، ولكنّها تزيد عليه أنه من النوع الذي لا يقبل الردع من قبل الشارع، لأنّه ضرورة فطريّة وإن كان إعتباريّاً ومن صنع الواهمة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 97

أدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليّين

اشارة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 99

أدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليّين

استدلّ علي كون الحسن والقبح اعتباريّين وجعليّين بوجوه:

الأوّل: إن الحسن والقبح بالمعني الذي هو محلّ النزاع- أي المدح والذمّ- ليسا من الأوصاف الخارجيّة للفعل الحسن أو القبيح، لأنّ الحسن في الخارج ليس من الأعراض المقوليّة بل المدح قائم بالمادح وكذلك الذمّ. فليسا طارئين علي الفعل الخارجي وأن ارتباطهما بالفعل الخارجي ارتباط جعلي إعتباري لا تكويني، والمراد من الإعتباري التخيّل الذي

لا مطابق ولا منشأ له، لا الإعتباري النفس الأمري ولا من الأعراض المتأصّلة عيناً في الخارج. فلا تخرج الأعراض المقوليّة التسعة عن كونها إمّا متأصّلة عيناً في الخارج كاللون، أو منشؤها في الخارج مثل الفوقيّة والتحتيّة؛ أمّا المدح والذمّ فليسا كذلك، أنّهما من الإعتبارات المحضة أي التخيليّة.

الثاني: الحسن والقبح يختلف بإختلاف الأزمان والأمكنة وهذا الإختلاف شاهد علي عدم كونهما أمراً خارجيّاً وتكوينياً حقيقيّاً، لأن في الأمور الثابتة التكوينيّة لا اختلاف بحسب الأزمان والأمكنة، كما يمثّلون بالذي يلبس الإزار

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 100

في المناطق الباردة، فقد يستهزأ به والذي يلبس الألبسة الكثيرة يمدح، والعكس بالعكس.

الثالث: وهو نظير الدليل الذي ذكروه لإثبات أصل وجود النفس، وهو أنه لو فرضنا أن إنساناً لم يولد في مجتمع يربّيه علي عادات مستحسنة أو مستقبحة وإنّما وجد في أرض برّية ولم يلاق إنساناً، هذا الإنسان لا يجد الإلجاء والإضطرار والضرورة العقليّة بحسن العدل وقبح الظلم وهذا دالّ علي أنّهما ليسا ضروريّين، بل هما أمران جعليّان ولذا تري أنّ التربية لها أثر في حصول هذه العادات. وكذا الأحكام تستحكم بالعادات والتربية أو بالعاطفة أو بالرقّة أو ما شابه ذلك، وإلّا الإنسان لو خلّي وعقله، لما حكم بالإضطرار العقلي بحسن العدل وقبح الظلم.

الرابع: إن هذه الأحكام وهي الحسن والقبح إنّما يحكم بها العقلاء لأجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم وإلّا لو فرضنا أنّه لا إجتماع في البين ولا نظام في البين، بل الحياة فرديّة معيّنة، لما أذعن وقطع بذلك وإنّما جعلوا هذه الأحكام لمصلحة نظامهم للوصول إلي الأغراض الاخري بتوسّط هذا الإعتبار.

الخامس: دعوي أنّ العقل يذعن ويحكم بالحسن والقبح، لا يخرج الحكم المزبور عن أحد قسمين، إمّا أن يكون الفعل الذي يقطع

بحسنه أو قبحه سبباً لتحسين العقلاء للفعل الحسن والفعل سبب لتقبيح العقلاء، من باب السبب والمسبّب أو من قبيل الغاية وذي الغاية وتصوّر السبب والمسبّب في ما بعد وجود الفعل فهو يقتضي حكم العقل أو العقلاء بالحسن والتحسين أو بالقبح والتقبيح وتصوّر الغاية وذي الغاية في ما كان الحسن هو الغاية التي تدعو إلي إيجاد ذلك الفعل وقبحه تدعو إلي الكفّ عن إيجاده، فالقائل بأنّ الحسن والقبح عقليّان،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 101

لا بدّ أن يقول إن الفعل بالنسبة إلي الحسن والقبح إمّا من قبيل السبب والمسبّب أو الغاية وذي الغاية.

أمّا بالنسبة إلي السبب والمسبّب فلا ينكر أيّ عاقل أن الذي يظلم يذمّ أو أيّ عاقل حينما يحسن إليه يمدح فاعل الحسن ولكن هذه السببيّة التي بين الذمّ والفعل ليست ناشئة من نزعة عقليّة، بل ناشئة من نزعة حيوانيّة؛ حيث إن الحيوان مجبول علي أنّ من يتعدّي عليه ينفعل منه وينزجر منه وكذلك إذا أحسن إليه شخص، فهو مجبول علي مدحه والتمايل اليه. وهذا منشأ حيواني وتابع للقوي الحيوانيّة كالرأفة، لا القوي العقليّة والحال أنّ الكلام في المدح والذمّ الناشئ من القوي العاقلة وما تدركه القوّة العاقلة.

وأمّا الغاية وذو الغاية فهذا أمر مسلّم به، لكن لا يدلّ إلّاعلي الإعتبار، لأنّ العقلاء غايتهم من التحسين بالنسبة إلي الفعل الذي لم ينوجد هو إرادة البعث إلي إيجاده، فهذا لا غبار عليه ولكنّه اعتباري بإعتبار أن العقلاء يحثّون بعضهم البعض علي إيجاد الفعل الحسن وتجنّب الفعل القبيح بتوسّط المدح والذمّ؛ وهذا جعل من العقلاء لأجل التوقّي من الأفعال القبيحة وإرتكاب الأفعال الحسنة وهذا لا من باب المنشأ التكويني، بل لأجل هدف وهو الوصول إلي مصالحهم وكمالاتهم الإجتماعية.

فالحسن والقبح إمّا تكويني ولكن حيواني، وإمّا عقلي غائي ولكن جعلي إعتباري.

السادس: لو ادّعي أن الحسن والقبح تكوينيّان فهو لا يخرج عن أحد البديهيّات السّتّ:

أمّا الأوّليّات وهي- التي يحكم بها العقل بمجرّد تصوّر الطرفين بالملازمة- فالحسن والقبح ليسا كذلك، بل فيه إختلاف كثير.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 102

ولا هو من الفطريّات ولا من التجربيّات، لأنه ليس عرضاً علي المعروض في الخارج، بل هو قائم بالمادح والذامّ.

وليس من العينيّات الخارجيّة، ولا من المشاهدات، ولا من الوجدانيّات، لوجود الإختلاف الكثير فيه بين الناس فهو خارج عن البديهيّات.

السابع: إن المدح والذمّ عند العقلاء أمر إنشائي، فيقال: مدح فلان فلاناً، أي أنشأ كلاماً ومقالًا يثني به، والإنشاء هو الإعتبار والوجود الفرضي وليس أمراً تكوينياً خارجياً، فهو غير الكمال والنقص وغير الملائم والمنافر، بل هو أمر قائم بالمدح والذمّ الإعتباريّين، فهو من نسخ الانشائيّات والإعتباريّات.

الثامن: إن حسن العدل وقبح الظلم- لا سيّما علي القول بأنّ العدل هو أمّ الأفعال الحسنة والظلم هو أمّ الأفعال القبيحة- موضوعهما العدل والظلم وماهيّة هذين العنوانين وتعريفهما أن إعطاء حقّ الغير هو عدل وأمّا التجاوز عن حقّه فهو ظلم، والحقّ- يعني الأمر الجعلي القانوني الإعتباري- مأخوذ في العدل وهو أمر إعتباري وكذلك في الظلم، فإذا كان الظلم والعدل- اللذان هما موضوعان للحسن والقبح ومن أهمّ موضوعاتهما- متقوّمين بالإعتبار والجعل والقانون فكذلك حكمهما وهو الحسن والقبح إعتباريان إذ لا يزيد الفرع عن الأصل.

ومن هذا القبيل استدلال العلّامة الطباطبائي وهو أن الحسن نراه يعرض علي الامور الإعتباريّة مثل الإحترام حسن، مع أنه أمر جعلي إعتباري والحسن عارض عليه فإذا كان الموضوع إعتبارياً، فالمحمول أيضاً إعتباري.

هذه عمدة أدلّة القائلين بإعتباريّة الحسن والقبح.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار،

ص: 103

وقد أجاب عنها الفلاسفة المتقدّمون

أمّا

عن الوجه الأوّل … ص: 103

فقالوا إنّ عمدة المغالطة في تفكيك المدح والذمّ عن بقيّة معاني الحسن والقبح كالمنافر والملائم والكمال والنقص والخير والشرّ هو في إيهام ماهيّتي المدح والذمّ، فالجواب يتّضح ببيانهما.

فذكروا في تعريف الحدّ الماهوي للمدح، أن المدح هو التوصيف بالكمال، والذمّ هو التوصيف بالنقص، فإذا رجع الإنسان إلي تقرير المعني اللغوي في أيّة لغة- مع أن البحث ليس لغوياً حيث إنّه ليس مُنصبّاً حول رابطة اللفظ والمعني وإنّما البحث منصبٌ حول المعني بلحاظ جنسه وفصله والتكلّم في الإنتقال من اللفظ إلي المعني جسرٌ ومقدّمة للتعرض إلي التحليل الفلسفي لماهيّة المعني- يري أن المدح معناه هو التوصيف بالكمال والذمّ هو التوصيف بالنقص. فالحدّ الماهوي للمدح ليس أمراً إعتباريّاً، بل هو مرتبط ومتقوّم بالكمال والنقص،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 104

أي الأمر التكويني، وهل رأيت عاقلًا يمدح بغير كمال؟ إلّاأن يكون مشتبهاً يحسب النقص كمالًا وهذا بحث آخر.

والذمّ له مرادفات كالهجو وكذلك المدح له مرادفات، مثل الحمد والثناء، وهل يكون حمد واجب الوجود إعتباريّاً؟ أو يكون حمده أمراً حقيقيّاً برهانيّاً؟

فالمدح والحمد لهما حدّ ماهوي تقرّري هو الوصف أو الإتّصاف بالكمال، والذمّ والهجو له حدّ ماهوي تقرّري هو الوصف أو الإتّصاف بالنقص وعدم الكمال، فالتفكيك بين معاني الحسن والقبح سلب لماهيّة الشي ء عن نفسه.

ويؤيّد ذلك بأنه قد يري المدح والذمّ في حين أنّهما لا يطابقان الواقع فيقال مدح وذمّ كاذبان، ولو كان المدح والذمّ أمرين إعتباريّين فكيف يتّصفان بالصدق والكذب وما الواقع الذي يطابقه أو لا يطابقه؟ ومن الواضح أنه قد يمدح وينسب أو يصف الإنسان شخصاً بالكمال مع أنّه كاذب، لأنّه لا كمال له واقعاً أو يهجوه بالنقص مع أنّه إجتمعت فيه صفات

الكمال، فهجوه كذب لأنّه يصفه بالنقص وليس فيه نقص كما وصف اليهود اللَّه بيد اللَّه مغلولة.

ألم يبيّن عقليّاً وعرفانيّاً بأنّ نفس مخلوقات اللَّه هي نوع من محامد اللَّه عزّ وجلّ: لأنّ المخلوقات آيات عظمة اللَّه وقدرته، وكلّما كبرت الآية كانت حكايتها عن كمال اللَّه وعظمتها أكثر فأكثر، كما في قول أمير المؤمنين عليه السلام: «ما للَّه آية أكبر منّي» باعتبار أن الكمالات المحكيّة بتوسّط شراشر وجوده من النوري إلي وجوده الناسوتي، حكايتها عن عظمة اللَّه أعظم وأكثر من بقيّة المخلوقات.

فآيات اللَّه حواكي عن كمالات موجودة في اللَّه، فالرابطة بين الحاكي والمحكي تكوينيّة، فالتفكيك بينهما نوع مغالطة من الأشعري، فكّك الحاكي المحكي وجعل أحدهما إعتبارياً جعليّاً.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 105

نعم لا مضايقة في القول: إنّ كلّ تكويني مع كون وجوده تكوينيّاً يمكن أن يفرض له وجود إعتباري إنشائي، لا أن وجوده التكويني يسلب عنه التكوينيّة ولكن قد يحتاج العاقل إلي الإعتبار زيادة علي التكوين لحاجاته، مثلًا- الماء- له وجود تكويني وقد يلاحظ له وجود إعتباري مثل لفظ الماء- الذي هو وجود لفظي تنزيلي للعين الخارجيّة- وكذلك كتابة رسم لفظة الماء- وهو وجود كتبي تنزيلي للعين الخارجيّة-.

فللعين وجودان إعتباريان، وجود لفظي ووجود كتبي للحاجات الموجودة بين العقلاء. بل كلّ الأشياء لها وجود اعتباري حتّي خالق العالم وهو لفظة اللَّه ولكن ذلك لا يضرّ بتكوينيّة الشي ء؛ مثلًا الملكيّة، سلطة الفاعل الإرادي الحرّ علي أفعاله سلطة تكوينيّة، ومع ذلك قد ينشئ البيع ويملّك منافعه لغيره، فلا لغويّة للملكيّة الإعتباريّة مع وجود الملكيّة التكوينيّة، أو في باب الطهارة، حيث إن التحقيقات الأصوليّة تشير إلي أن الطهارة والنجاسة ليستا إعتباريّتين محضاً، بل ناجمتان من الملاكات الواقعيّة، والنجاسة هي قذارة لا

يكتشفها العقل البشري ولا العلم بسهولة. فكون الشي ء أمراً إعتباريّاً لا ينفي أن له وجوداً تكوينيّاً.

والحال في بحث الحسن بمعني المدح والقبح بمعني الذمّ هكذا، فمع أنّ له وجوداً تكوينيّاً لكن لا ينفي أن المدائح لها وجود إنشائي ايضاً، مثل القصائد التي تنشأ في المدح، فهي إنشائيّة ولكن المعاني الذهنيّة التي بإزاء الإنشاءات اللفظيّة إذا كانت صادقة فإنها تحكي عن الكمالات الموجودة في ذلك الممدوح، فالإنشاء المدحي هو ترجمان ودالّ علي المعاني الذهنيّة الصادقة في ذهن الشاعر الحاكية عن الكمالات الواقعيّة، كما في مدح الفرزدق للإمام السجاد عليه السلام.

كذلك الهجو الصادق كما يهجو اللَّه عزّ وجلّ بني إسرائيل، فهنا الهجو إنشائي

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 106

لكنّه غير متمحّض في الإعتبار، بل هو من جهة لإعلام الآخرين، ومن جهة أخري له معانٍ حكائيّة عن معانٍ واقعيّة، فالمدائح أو اللعائن الموجودة في القرآن وإن كانت إنشائيّة لكنّها ليست محض إعتبار، بل ترجمان ودلالة علي المعاني الموجودة الذهنيّة الحواكي عن النواقص أو الكمالات الواقعيّة.

ثم هل النزاع والشجار في الأمر البديهي يدلّ علي عدم بداهته؟

الجواب: لا، فكم من بديهي تقع فيه الغفلة والشجار، ثمّ ينبّه عليهما وترفع الغفلة أو الشجار وقد لا يريد الطرف الفحص عن الحقيقة ليتنبّه، بل للجدال أو لبيان المغالطة حتي في البديهيّات التي هي رأس مال فطرة اللَّه، فالفطرة قد تسلب عنه أي يغشي عليها بحجب الإذعان بالجهالات المركّبة نتيجة معاندة ولجاجة النفس البشريّة مع فطرة اللَّه، أوَليس الوسواسي لا يتبع البديهيّات لحالة مرضيّة فيه؟ فكذلك اللجاج والعناد حالة مرضيّة في النفس لسيطرة القوّة الوهميّة والتخيليّة علي قوّة العقل العملي في الإنسان.

وإذا لم تروّض قوّة العقل العملي علي اتّباع العقل النظري وعدم الإئتمار للقوي السفليّة

يبتلي الإنسان التشكيك كما نقل عن الفخر الرازي أنه مات وهو يشكّك حتي في التوحيد، لإدمانه في التشكيك. فهذه حالات مرضيّة في القوي الإدراكيّة للنفس وفي القوي العمليّة؛ فوجود التشاجر والنزاع في الامور الفطريّة العقليّة أو النظريّة التكوينيّة الصادقة لا يدلّ علي أنّها إعتباريّة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 107

أمّا الجواب عن الوجه الثاني … ص: 107

من أنّ تشخيص الكمال وإحراز الواقعيّات يقع فيه إختلاف، فقد يحرز جيلٌ من البشر أنّ مادّة معيّنة طبيّة نافعة للمرض الكذائي، ثم يأتي جيل بعد ذلك في الطبّ ويقول هذه المادّة سامّة قاتلة موجبة لانهدام الصحّة البشريّة، فهذا لا يعني نفي تكوينيّة التكوين.

وهذا الإختلاف ناشئ من إختلاف الإحراز أو ناجم من إختلاف الظروف؛ مثلًا في البلد البارد كمال البدن الإنساني لبس الثياب الكثيفة المثقلة وأمّا في البلد الحارّ لا يكون ذلك كمالًا للبدن الإنساني، بل كماله أن يرتدي ثوباً خفيفاً، فإختلاف الظروف يسبّب إختلاف ما هو حسن في هذه الأمكنة وكذلك الحال في العادات.

نعم لا نقول إنها كلّها مطابقة للواقع، بل بعضها رديئة وبعض السنن الإجتماعيّة أغلال للمجتمع وقيود له، فيستحسنها العقلاء أي يتخيّلون أنّها لازمة لكمالهم، وبعض العادات يستقبحها العقلاء والحال أنّها حسنة في نفس الأمر، لا لكون التحسين والتقبيح إعتباريّين، بل لأنّ إحراز الحسن والقبح خاطئ، ومن ثمّ نحتاج إلي الشرع لأنه يهدي إلي المحاسن والقبائح الواقعية الحقيقيّة في الموارد النظريّة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 108

أمّا الجواب عن الوجه الثالث … ص: 108

فلو سلّمنا به فغاية ما يدلّ عليه هو عدم كون الحسن والقبح أمراً بديهيّاً، لا أنّه ليس حقيقيّاً، لأنّ النظري ايضاً لا يقضي به العقل إبتداءاً ككيفيّة صدور أفعال الباري عن الباري، مع أن الحقّ هو قضاء العقل بذلك وليس حكمه متقوّماً بحالة الإجتماع البشري، بل يقضي في نفسه بأنّ الصدق حسن أو الكذب قبيح وهكذا، مثلًا لو رأي وميّز أن من كمال الإنسان أن يصل إلي فلان، لحكم بحسنه ولا بعد فيه، بل نجد من أنفسنا الإضطرار إلي ذلك الحكم في ذلك الفرض؛ أو عرض عليه مشهد معيّن بحيث شاهد ظلم شخص لشخص آخر وأنه

يمانع من وصوله إلي كماله، فلا ريب في أنه يتأثّر لا من جهة الرقّة والإنفعال العاطفي أو القلبي، بل عقله يقضي بقبحه.

ودعوي أنّ منشأ الغضب والرضا دوماً حيواني ممنوعة، لأن القوّة الغضبيّة والشهويّة إذا كانتا تحت سيطرة العاقلة يكون الغضب والرضا حينئذٍ عقلانيّين، ولذلك قد ذكرنا أن الرضا والغضب قد يكونان عقليّين وليس داعيهما حيوانياً علي الدوام ولذلك أن الملائكة مع عدم وجود القوي الحيوانيّة فيهم ومع أن حياتهم ليست حياة إجتماعيّة مدنيّة تربويّة وإنّما إرتباطهم تكويني، مع كونها كذلك فإنّها تتأثّر وتتنفّر من مظالم العباد، والملك وجود عقلاني يتأثّر من الظلم ويستحسن الحسن فكذلك الإنسان لا يقبّح بسبب حالته الإجتماعيّة.

وبذلك يندفع الوجه الرابع … ص: 108

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 109

أمّا الجواب عن الوجه الخامس … ص: 109

إنّ الإنفعال نوع منه عقلي والمراد منه أنّ هناك نوعاً من الغضب العقلي ونوعاً من تحريك للقوي الحيوانيّة المادون بتوسّط العقل العملي، كما يمثّل بقوله تعالي:

(وَلمَّا سَكَتَ عَن مُوسَي الْغَضَبُ) («1») حيث يتسائل لِمَ عبّر عزّ وجلّ ب «سكت»، إذ السكوت مقابل النطق والسكون مقابل الحركة، والحيوان يذكر في تعريفه الماهوي أنّه الجسم النامي المتحرّك بالإرادة وأمّا في تعريف الإنسان يذكر أنّه الناطق، فالنطق والسكوت خاصّة الإنسان، أمّا الحركة والسكون خاصّة مطلق الحيوان، فلذا عبّر في الآية بسكت، لأنّ مقابله النطق ولم يعبّر بالسكون الذي هو مقابل الحركة وهذا يدلّ علي أن غضب موسي لم يكن غضباً حيوانيّاً، بل هو غضب ناشئ من القوي العاقلة. وكذا قول أمير المؤمنين عليه السلام حين ما هجم جيش معاوية علي إمرأة في أطراف العراق وقال: «فلو أنّ إمرءاً مسلماً مات من بعد هذه أسفاً ما كان به ملوماً» («2») هذا ليس إنفعالًا حيوانيّاً وإنّما إنفعال عن قوّة عاقلة.

وتبيان ذلك تحليلًا أنّه إذا أدركت قوّة العقل النظري ثمّ تابعتها قوّة العقل العملي في ما تدركه ممّا ينبغي فعله أو لا ينبغي، وكانت القوي الحيوانيّة المادون مطيعة إلي أمارة وسلطة قوّة العقل العملي، فلا تكون حركات القوي الحيوانيّة حركات حيوانيّة وإن كانت هي قوّة حيوانيّة لكنّما منبعثة من العقل العملي وهذا كمال الإنسان ولذلك ورد «يغضب للَّه لا لنفسه».

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 110

وكذلك حال الكمّلين وتكاملهم في خضوع قواهم المادون إذا كانت إدراكيّة أو عمّالة لما فوقها إلي أن يصل إلي قوّة العقل النظري. وكذلك كمال وتمام العقل النظري هو كونه مدركاً خاضعاً للعوالم العلويّة، وتلك العوالم كذلك إلي أن تصل إلي

عوالم الربوبيّة، فتكون حينئذً مشيئة الكامل مشيئة إلهيّة، لأن مشيئته في القوي المادون تتلقّي من العوالم الربوبيّة وهكذا المشيئة الإلهيّة، وإلّا فليس في الربوبيّة غضب حيواني وإنّما غضب اللَّه بغضب أوليائه ورضاه برضا أوليائه؛ لأنّ منبعث رضاهم القوي العقليّة (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) («1») فالغضب وإن كانت تقوم به القوي الحيوانيّة لكنّها مسخّرة من قبل القوي العقلانيّة، فيمكن أن يكون الفعل يسبب المدح أو الذمّ بلحاظ عقلاني لا حيواني ويصير الحسن والقبح عقليّين وهذا هو وجه مستقلّ لإثبات عقلانيّة الحسن والقبح.

وكذلك في الغاية وقول المستدلّ بأنّ العقلاء قد تدفعهم الغايات أن يمدحوا أو يذمّوا ممّا يدلّ علي أنّه جعل إعتباري … إلخ.

فالجواب أنّه ليس جعليّاً اعتباريّاً، لأنّه بضميمة ما تقدّم من أنّ الحدّ الماهوي للمدح هو التوصيف بالكمال والحدّ الماهوي للذمّ هو التوصيف بالنقص، نفس الإلتفات والتذكير للأنفس بالحقائق وحثّها عليه نحو تكميل تكويني لتلك النفوس لا أنّه إعتباري فعندما يؤكّد الإنسان لإنسان آخر ويلقّنه كثيراً بما هو حقّ وبأنّ الصدق جيّد والخلق الحسن جيّد، تكرار هذا القول نوع تكميل تكويني مساعد له لكي يستعدّ لمرحلة التكامل وليس إعتباريّاً، بل التلقين للقضايا الحقيقيّة، يوجب صدورها عن الشخص وصدور الأفعال الحسنة، وهذا تأثير التربية والعادة علي القضايا الصادقة الحقّة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 111

أمّا الجواب عن الإشكال السادس … ص: 111

فواضح لأنّه حيث أخذ في ماهيّة المدح التوصيف بالكمال، فالكمال الذي هو منشأ التوصيف هو أمر عيني ومن أعراض الفعل، غاية الأمر الأفعال تارة تتّصف بكمال متّوسط وأخري إبتدائي وثالثة نهائي وهذا بحث آخر.

فالتوصيف أمر نفس الأمري لا إعتباري، نعم هو من سنخ الوجود لا من سنخ الماهيّات المقوليّة؛ لأنه توصيف بالكمال لا توصيف بمقولة خاصّة، فمنشأ المدح وهو

الكمال من سنخ الوجود لا من سنخ المقولات وهو عيني لا تخيّلي إعتباري وحيث ظهر أن المدح هو التوصيف بالكمال والذمّ هو التوصيف بالنقص، يظهر أنّه لا ينحصر بقسم من أقسام القضايا السّتّة، بل هو تارة من الوجدانيّات كما في الأخلاقيّات، وأخري قابل للإندراج في عدّة من تلك المقولات، فبعض كمالات الأفعال قد تكون محسوسة ونقائضها كذلك وبعضها قد تكون وجدانيّة نفسانيّة كحسن الظن أو سوء الظن أو غير ذلك فحيث إن الكمال من سنخ الوجود أي التوصيف بالكمال فهو قابل للإندراج في عدّة من أقسام البديهيّات.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 112

أمّا الجواب عن الوجه السابع … ص: 112

وهو أنّ الإحترام نوع إنشاء لأنّ وضع وحركة البدن بإعتبار العقلاء يدلّ علي الإحترام أو الإهانة، فالتلازم بين حركة البدن والإحترام نوع من الإعتبار ولكن مضافاً إلي ما نذكره في بحث الإعتبار مبسوطاً من ضابطته ونحو إرتباطه مع التكوين أن هذا الإنشاء يسمّي صادقاً إذا كان داعي المدح هو الكمال التكويني وإلّا يسمّي كذباً ودَجَلًا؛ حيث إنّ الإحترام منطوٍ ومتضمّن لنحوٍ من الإخبار فإذا لم يكن الطرف كاملًا لا يكون الإحترام توصيفاً حقيقيّاً صادقاً، فالداعي الموجب له إن كان صادقاً حقيقيّاً يحكي عن الواقع فيكون صادقاً وإلا كان كاذباً، وغاية من يحترم الكبار داعيه تقديس الكمال والحثّ علي الكمال، لأنّ تقديسه للصفات الحقيقيّة العليا فيه، لا لبدن العالم.

ففي تلك الموارد الحسن ليس بلحاظ الإنشاء في التعظيم، بل بلحاظ الداعي في التعظيم والفعل دلالة إنشائيّة علي ذلك بلحاظ الداعي؛ فهو نوع كمال تكويني.

مثلًا إذا خشع قلب المصلّي في صلاته خشعت جوارحه، فخضوع القلب الذي هو لازم خضوع العقل وهو مستلزم لخضوع الجوارح، فهذه قدسيّة للكمال وحثّ نحو الكمال؛ نعم القدسيّة للأباطيل سجن

وأغلال يجب أن تكسر. أمّا دعوي أن كلّ قدسي فيجب أن يصطدم معه لأنّ التقديس والتعظيم تحجير لمسير التكامل، فدعوي زائفة في إطلاقها، لأنّ القدسيّة أي الخضوع والإنقياد صفة مهمّة كماليّة وبرهنت كماليّتها في كلّ الفلسفات عدا السفسطة، نعم القدسيّة رهينة الحقيقة يعني الإنقياد، والتسليم إنّما هو للحقيقة لا لشي ء آخر.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 113

وأمّا الجواب عن الوجه الثامن … ص: 113

فقد يقرّر بأنا لا نلتزم أن قضيّة العدل حسن والظلم قبيح، أسّ أساس القضايا العقل العملي، بل هما قضيّتان منتزعتان من قضايا العقل العملي وإلّا فقضايا العقل العملي هو الكذب قبيحٌ والصدق حسنٌ والإحسان حسن والبخل قبيح وهكذا وينتزع من تلك القضايا الحاوية لتلك الأفعال، الظلم والعدل.

وهذه الإجابة لا بأس بها.

ولكن الإجابة الصحيحة هي التي ذكرها الفلاسفة بأن العدالة أمر حقيقي لا إعتباري وكذلك الظلم، وبيّنوا أنّ التعريف الدقيق للعدالة هو وصول كلّ موجود إلي كماله المطلوب من دون إعاقة شخص آخر وممانعته عن الوصول، مثلًا العدالة الإجتماعيّة هو وصل كلّ أفراد المجتمع إلي كمالهم المطلوب من دون معاوقة ومزاحمة شريحة منهم لشريحة أخري، أي وصول كلّ الطبقات إلي كمالهم المطلوب، والظلم بخلافه.

والعدالة الإقتصاديّة هو وصول المعدّات الماديّة لكمالات البدن لكلّ فرد، لأن البدن محتاج إلي إعدادات ماديّة وبكمال البدن الذي هو آلة للروح تستكمل الروح، فحاجة البدن إليها لهذه الجهة، كذلك العدالة السياسيّة وحرّيّة الرأي.

فالعدالة في كلّ الموارد ليست محض إعتبار من التشريع، بل حدّها الماهوي هو تكافؤ أفراد النوع الإنساني في إمكان تكامل كلٍّ بحسبه تكويناً والتشريع محرز

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 114

وكاشف عن طرق التكافؤ التكوينيّة والظلم عدم التكافؤ وامتناع التكامل في بعض الأفراد دون بعض، ففي كلّ مرحلة وأيّ صدد بدنيّاً كان

أو علميّاً أو سياسيّاً أو اقتصاديّاً، العدل والظلم ليسا متولّدين وناشئين من التشريع، بل من المناشئ التكوينيّة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 115

أدلّة عقليّةالحسن والقبح وتكوينيّته

اشارة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 117

أدلّة عقليّةالحسن والقبح وتكوينيّته

مضافاً إلي ما ذكرناه من أنّ حدّ كلّ من المدح والذمّ هو التوصيف بالكمال أو بالنقص وهما حدّان عقليّان تكوينيّان نضيف في المقام وجوهاً أخري:

البرهان الأول: الوجدان والفطرة … ص: 117

فإنّ الذين ينفون الحسن والقبح العقليّين هم في يوميّاتهم يضطرّون ويتعاملون بهما، فينفّرون من القبيح وينجذبون إلي الحسن كشي ء نابع من فطرتهم، فينكرونهما بلسانهم ويبنون عليهما في أعمالهم للفطرة. وفطرتهم مرتكزة عليه وهذا نوع من المكابرة مع الوجدان.

ولذا تري ابن سينا كلماته متهافتة. ففي الشفاء يذكر أنّ كلّ أو أكثر ما بأيدي الناس من الحسن والقبح حقّ، يقام عليه البرهان؛ وفي عبارة أخري لديه في مبحث النفس من الإشارات من النمط الثالث يذكر بأن العقل العملي قضاياه إمّا أوّليّات أو مشهورات أو مظنونات، وإذا كان العقل العملي بعض قضاياه أوّليّة ولو موجبة جزئيّة فيلزمه رجوع قضاياه إلي قضايا بديهيّة يمكن إقامة البرهان

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 118

عليها، وإذا كانت حصّة من قضايا العقل العملي أوّليّات فيبطل إطلاق القول بأنّها مشهورات لا واقع لها تطابقه، فالأوّليّات تعني بديهيّة وقضايا العملي تعني المشتملة علي ما ينبغي فعله والذي لا ينبغي فعله. وهذا واضح.

وكذلك في منطق الشفاء يعرّف المشهورات بأنّها لا واقع وراءها تطابقه وإذا كانت المشهورات كذلك، فكيف ينسجم مع القول بأن بعض قضايا أقيسته التي ينبغي فيها العمل أو لا ينبغي أوّليّات يعني بديهيّات، في حين أنه جعل الصنف الأوّل من المشهورات- الحسن والقبح بمعني المدح والذمّ- ممّا ليس لها واقع ما ورائه تطابقه، والأوّليّات لها واقعيّة وراء تطابق آراء العقلاء لا باعتبار المعتبر.

تدافع آخر، قال ابن سينا: يمكن إقامة البرهان علي قضايا العقل العملي ولو بنحو الموجبة الجزئيّة وضابطة البرهان

أن ترجع القضايا النظريّة إلي البديهيّة- وإذا كان قياس البرهان للإستدلال هو من القضايا النظريّة أي كلتا المقدّمتين نظريّة والنتيجة نظريّة- فلا بدّ أن ترجع المقدّمتان في نهاية المطاف إلي البديهيّة؛ إذ لا يمكن إنطلاق النظري من النظري هلمّ جراً، بل يرجع إلي أمر بديهي وإلّا يصير دوراً؛ فقوله هذا نوع من الإعتراف بأنّ قضايا العقل العملي ترجع إلي البديهيّة، والغريب أن الخواجة مع إحاطته يتابع في الشرح المتن عيناً فهو في شرحه يثبت أنّهما عقليّان تكوينيّان لكنّه في أساس الإقتباس يعبّر بتعبيرات مضطربة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 119

البرهان الثاني … ص: 119

هو ما ذكرناه في جواب دليل المحقّق الإصفهاني في السبب والغاية.

البرهان الثالث … ص: 119

إنّ إنشاء المدح والذمّ وإن كان إعتباريّاً إنشائيّاً إلّاأنّه قد ثبت في محلّه أن الإنشاء لا بدّ أن يكون بداعٍ تكويني، فالهجو الإنشائي بداعي إظهار النقص، والمدح بداعي إبراز الكمال.

نعم إذا كان الداعي كاذباً يقال كاذب بلحاظ داعيه، أو كان صادقاً فصادق بلحاظه. فالصدق والكذب بلحاظ الداعي، فهو أمر تكويني كما أنّ البلاغيّين قالوا بأن الإنشاء يتعنون بعنوان الإستفهام أو الدعاء وتلك العناوين لماهيّات الدواعي- يعني ماهيّة الداعي الموجودة في الذهن وتحريكها للإنشاء- تكويني، فيتعنون بعنوان الداعي.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 120

البرهان الرابع: قاعدة العناية … ص: 121

ما ذكره صدر المتألّهين في الأسفار في بحث العناية.

ومقدّمةً نذكر تعريف العناية كي نبيّن كيفيّة دلالة قاعدة العناية علي الحسن والقبح وهو أن العناية هي علم الباري تعالي بالنظام الأتمّ الأكمل في الوجود وعلّيته لذلك النظام ورضاه به.

وفي هذا التعريف ثلاثة حيثيّات: علمه بالنظام الأتمّ الأكمل والخير الأتمّ وعلّيته لذلك النظام ورضاه بذلك النظام ويعبّرون في بحث العناية حيث إن الباري هو علي أكمل ما يمكن أن يكون في ذاته فالصوادر من الباري ء عزّ وجلّ كذلك هي بحذاء ذلك النظام الذاتي الأعلي والأشرف يكون صدورها. كما في تعبير بعض الروايات عن الرضا عليه السلام إنّما ههنا يدلّ علي ما هناك باعتبار أن آيات مخلوقات اللَّه مع إختلاف درجاتها تدلّ علي صفة وكمال في الباري تعالي، فلذا عرّفوا العناية الإلهيّة هي علمه بالنظام الوجودي والخير الأشرف ورضاه به وعلّيته لذلك النظام وقد برهن الحكماء علي أن هذا الترتيب الموجود في أقسام الوجود هذا هو أقصي ما يمكن أن يبلغه النظام في الكمال والخير والأتميّة.

وبحث العناية قاعدة فلسفيّة عامّة تعمّ كلّ عوالم الوجود، يقولون إنّه حيث إن الباري هو اللّامحدود في الكمالات والخير

والعلّو، فنظام الخلق والصوادر عن الباري هي بحذاء تلك الذات الكاملة. هي الذات المقدّسة هي نظام جملي وجودي أكمل وأشرف وأعلي ونظام ترتيب الصوادر عن الباري هي بحذاء ذلك

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 121

النظام الأكمل؛ فالنظام الذاتي يكون علّة للنظام الخلقي وعلّة لأفعال الباري مع رضا الباري بذلك وعلّيته لذلك وفي المقام نبني عليه كأصل موضوعي.

القاعدة ومؤدّاها، وكيف نستدلّ بها علي عقليّة الحسن والقبح؟

مؤدّاها أن كلّ كمال ببركة العناية الإلهيّة يجب أن يكون علي أكمل ما يكون عليه ومنها الموجودات الإراديّة والفاعل بالإرادة. فالمفروض في العناية الأزليّة الإلهيّة أن توصل تلك الموجودات الفاعلة بالإرادة إلي أكمل ما تكون عليه بتهيّؤ الأسباب. وبهذه القاعدة يستدلّ علي ضرورة التشريع والتقنين، أي بيان طريق الكمال من واجب الوجود للموجودات الفاعلة بالإرادة في عالم الدنيا باعتبار أنه يجب أن يوصلها إلي أكمل ما يمكن أن تكون عليه.

فهذا المؤدي الإجمالي للقاعدة ويكون بمنزلة الكبري وصغراه ندلّل عليها:

إمّا بما تبيّن من كون الحسن بمعني المدح، والقبح بمعني الذمّ في الأفعال، قد أخذ في حدّهما الوصف بالكمال أو بالنقص، فيثبت صغري قاعدة العناية في الأفعال.

وإمّا ندلّل علي الصغري بما ذكره الفلاسفة في ضرورة التشريع والشريعة كما في إلهيّات الشفاء والنمط التاسع من الإشارات وغيرهما من ضرورة التمدن والإجتماع للنوع الإنساني لأجل التكامل تكويناً والإجتماع لا يحفظ تكويناً إلّا بأحكام العقل العملي والشريعة، فمصالح النظام تحفظ بها فهي حينئذٍ كمالات.

أو ثالثةً ندلّل عليها بما هو مقتضي قاعدة العناية من كون كمال الشي ء الذي تثبته القاعدة وإن كان معلولًا للعلم الذاتي، لكنّه متقرّر في ذات الشي ء،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 122

فكذا الحال في أفعال الإنسان سواء بالنسبة وبالإضافة إلي نفسه

أو إلي غيره المجموعي؛ فكمالاتها متقرّرة في نفس الأمر لا بحسب تطابق المجموع وآرائهم.

وبيان ذلك بنحو البسط: أن قاعدة العناية كما ذكرها صدر المتأ لّهين وغيره أنّ علم الباري- الذي هو منشأ لافاضة الكمالات علي المخلوقات الفاعلة بالإرادة- تابع للكمال أي للمعلوم، لا أنّ المعلوم تابع للعلم، فالمعلوم الذاتي هو النظام الكامل الذاتي في الساحة المقدّسة الربوبيّة، والعلم تابع له لا متبوع له علي الدوام، والعلم تابع للمعلوم وإلّا لم يكن العلم علماً به. نعم صدور وإفاضة الكمالات تابعة للعلم الذاتي أي معلول لها.

ثمّ الموجودات الفاعلة بالإرادة حينما يفاض الكمال عليها لا بنحو القسر لا بدّ أن تكون الأفعال في واقعها لها كمال معيّن، كما أن لها نقائص معينة بحيث تكون من عناية الباري الأزليّة هو إفاضة الكمالات لا بنحو القسر، والكمالات لا بدّ أن تكون هي في تقرّر الواقع ونفس الأفعال، والعلم تابع لها، لا أنّ العلم هو الذي يحدّد المعلوم والفرض أن المعلولات الإمكانيّة وإن كانت هي تابعة للإنشاء والإيجاد للعلم الذاتي ولكن بلحاظ المعلوم الذاتي. فالعلم تابع للمعلوم، فالكمالات في نفسها لا بدّ أن تكون مقرّرة، فليس الكمال ما جعله علم الباري كمالًا بل هو بنفسه في الرتبة السابقة يكون كمالًا، وليس النقص ما جعله علم الباري نقصاً وإنّما هو في الرتبة السابقة ما كان بنفسه ناقصاً؛ فالأفعال في حاقّ واقعها ذات كمالات أو نقائص بالجعل البسيط؛ ففي حاقّ واقع الأفعال اتّصاف بالكمال أو بالنقص، فليس الحسن في الأفعال ما حسّنه الشارع، بل الحسن هو ما يكون في واقعه حسن، وليس القبح في الأفعال ما قبّحه الشارع وإنّما هو في نفسه ذو نقص واقعاً. فالخير والشرّ في الأفعال كمالها ونقصها في نفسها.

اصول

استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 123

فبقاعدة العناية تثبت أنه تفاض تلك الكمالات التي للأفعال بحسب ذاتها.

والعلم تابع للمعلوم الذاتي وإن كانت المعلومات تابعة للعلم الذاتي لا في أصل التقرّر الواقعي، بل في الإيجاد؛ لأنها آية علي الكمال الذاتي، وفي الكمال الذاتي العلم تابع للمعلوم وإن كان في الكمال الإمكاني الحال أنه معلوم وتابع للعلم الذاتي ومخلوق له تبعيّة إيجاد.

ثم إنّه من النكات البالغة خطورةً وأهميّةً وفائدةً في سائر مباحث المعارف- وهي نحو وفاق بين علمي الكلام والفلسفة وبين ما يحكم به العقل العملي وما يحكم به النظري- أن كثيراً مّا يمكن إستبدال قاعدة اللطف الكلاميّة بقاعدة العناية الفلسفيّة، بل إنّ هناك نضجاً في الأبحاث الفلسفيّة عند الإماميّة حيث يزاوجون بين قاعدة اللطف والعناية، أي بإرجاع مؤدّاها إلي قاعدة واحدة، غاية الأمر أن لها صياغتين: صياغة قاعدة اللطف علي قواعد العقل العملي وصياغة قاعدة العناية علي قواعد العقل النظري؛ إذ لا تتّكي علي الحسن والقبح العقليّين، بل تتّكي علي قواعد العلّية والمعلوم والعلم الذاتي في واجب الوجود في صفاته وذاته وهذه بحوث في العقل النظري.

فهي قاعدة واحدة إلّاأنّه يستدلّ لها بقواعد العقل النظري تارة، فتكون قاعدة العناية وقد يستدلّ لها بقواعد الحسن والقبح، فتكون قاعدة اللطف. فالقضيّة الواحدة تارة يحكم بها العقل العملي فتسمّي بقاعدة اللطف بالحسن والقبح وهما خاصّتا حكمه وأخري يحكم بها العقل النظري بقاعدة العناية وهذا الإتّحاد من الأبواب في المعارف، واللطف هو بإعتبار ملاحظة قبول من الداني للكمال من العالي وفي العناية علي العكس وهذا فرق آخر بينهما ومناسبة تسميتها عند الفلاسفة بالعناية؛ لأنّ إفاضة الكمالات علي ما دون نوع من العناية من الباري.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 124

البرهان الخامس: تجسّم الأعمال … ص: 124

وهي قاعدة مهمّة في نفسها وقد بلورت عند الفلاسفة الإماميّة بشكل دقيق متين وهي أحد براهين إثبات المعاد الجسماني.

والظاهر أن تنبّههم لها هو للروايات الواردة عنهم عليهم السلام المرشدة لنكات العقوبات والمثوبات في القرآن، وأن تلك من قبيل تجسّم الأعمال وهذه القاعدة لها أدلّة مفصّلة في مبحث النفس والمعاد وغيره.

وملخّص برهنة القاعدة هو أنّ العمل بتكراره يولّد ملكات وهيئات إمّا حسنة نورانيّة أو رديئة ظلمانيّة عند الإنسان، كيف لا وأن بدنه الجسماني إذا عوّده علي شي ء يعتاد بدنه المادي عليه، مثلًا إذ عوّده علي الترياق أو علي السيجار حتّي أنه لو أراد بعد ذلك بارادة قويّة قطع ما اعتاد عليه لا يستطيع دفعةً ترك الإعتياد، بل قد يشرف علي الموت لو قطعه دفعة، فرسوخ تلك العادة البدنية ليس بإختياره بقاءً؛ فإذا عوّد البدن علي الشي ء لا يسهل إقتلاعه، بل يمنع في بعض الأحيان، سواء في العادات الجيّدة أو المضرّة، وإذا كان الحال في البدن الجسماني هكذا فكيف في البدن الروحاني أو المثالي، والبدن الروحاني إذا نشأ وأسّس علي هيئات ظلمانيّة، فلا يمكن بسهولة إقتلاع تلك الهيئات الفاسدة، والملكات تشتدّ إلي أن تصير فصولًا جوهريّة للإنسان الملكي أو السبعي أو البهيمي أو الشيطاني أو غير ذلك من الأنّواع اللاحقة للصورة الإنسانيّة.

أمّا تطبيق القاعدة علي المقام فبيانه: إن موارد الحكم بالحسن هي بلا ريب

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 125

نفس الفضائل والكمالات التي توجب رقي الإنسان وتوجب صوراً كماليّة أخرويّة وكذلك موارد الحكم بالقبح ايضاً فإنها تشتمل علي نواقص أي تتجسّم بصور رديّة؛ فيظهر من ذلك أن الحكم بالحسن أو القبح ليس حكماً إعتباريّاً تخيليّاً، بل حكم حقيقي ناشئ من منشأ تكويني.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص:

126

البرهان السادس: قاعدة الغاية … ص: 126

إذ للأفعال غايات كبقيّة الموجودات، كما هو مبرهن في قاعدة الغاية الفلسفيّة، وهناك رابطة تكوينيّة حقيقيّة بين الفعل وغايته، وكذلك رابطة حقيقيّة بين الفاعل والغاية، أي بين صدور الفعل من الفاعل والغاية.

وببيان آخر: إن هناك إرتباطاً بين الوجود الخارجي للغاية والفعل، وأن الفعل يتكامل للوصول إلي الغاية في الخارج وهناك أيضاً إرتباط بين الوجود العلمي للغاية وفاعليّة الفاعل. كما أن الفاعل الناقص يستكمل بأفعاله ولكن الفاعل الكامل غايته ليست فعله بل ذاته؛ فلا يستكمل بفعله كما في اللَّه عزّ وجلّ، والعالي لا ينظر إلي السافل والداني، بل غايته ذاته، فالباري فاعليّته ليست فاعليّة الإستكمال بالفعل، لكن ذلك ليس بمعني نفي الغاية، بل غايته ذاته. فلا يطلب شيئاً وراء ذاته، بل هو مستغنٍ بها كما أن ذلك لا ينفي الغاية للفعل وإن لم تكن غاية الفعل غاية للباري الفاعل؛ ففعله علي الحكمة أي له غاية وهي تغاير غاية الفاعل؛ نعم غاية غايات الفعل القرب من الذات الأزليّة.

وبعبارة موجزة: إن فعل الفاعل بلا غاية في الفاعل التامّ يساوق إنكار العلّة الفاعليّة، فالفاعل التامّ فاعليّته لأجل الذات وإلّا فهو ناقص يحتاج إلي التكميل، والفعل تكامل له. إن الفاعل الشاعر بالإرادة أي الفاعل العلمي لا يفعل الفعل لغاية، ولا بدّ أن تكون الغاية كمالًا لفعله أو الفاعل العلمي في موارد الفضائل له غايات، هي غايات كماليّة. فهناك نوع تلازم بين موارد الحكم بالحسن الموجود في تلك الأفعال وغايات تلك الأفعال وهي الكمالات، وهي كمالات للقوّة العاقلة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 127

وما فوقها، وكذلك في موارد الحكم بالقبح للأفعال غايات ليست كمالات للقوّة العاقلة، بل كمالات للقوي الدانية الغضبيّة والوهميّة والشهويّة والتخيّليّة علي تفاصيلها؛ فكلّ فعل له غاية، غاية

الأمر الغاية كمال لماذا؟

فموارد الحكم بالقبح هي كمالات لا للقوّة العاقلة وما فوقها- أي الدرجات العالية للنفس- بل كمالات للدرجات السافلة للنفس، وإذا اشتدّت كمالات تلك، يصدق قول أمير المؤمنين عليه السلام: «كم من عقل أسير تحت هوي أمير» فيكون الفصل الجوهري للإنسان مثلًا السبعيّة أو غيرها من الصفات السافلة. فبين قاعدة الغاية والحسن والقبح هناك نوع من التلازم ويثبت بذلك الحسن والقبح العقلي خلافاً للأشاعرة لأن إنكاره يصادم إنكار العلّة الغائيّة في الأفعال، ويلازم إنكار الغاية في الأفعال، سواء العلّة الغائيّة بوجودها العلمي أو الغاية بوجودها التكويني.

فلذلك كان الأشعري نافياً للعلّة الفاعليّة في الأفعال وقائلًا بالترجيح بلا مرجّح، بل الترجّح بلا مرجّح ويلتزم بصدور المعلول من العلّة بلا أولويّة ولا ضرورة.

فلكلّ فعل غاية والغاية كمال لذلك الفعل وكلّ كمال يناسب قوّة من قوي النفس، فإذا ناسب القوي الدانية، يحكم بالذمّ وتكون الأفعال مذمومة؛ فالحكم بالقبح مساوق لتلك الأفعال المناسبة للقوي الدانية بلحاظ غاياتها. وأمّا إذا كانت تلائم القوي العاقلة وما فوقها فيحكم بالمدح، فكيف يدّعي أن الحسن في الأفعال إعتباري تخيّلي وليس بعقلي؟!

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 128

هناك تساؤلان حول العقل العملي … ص: 128

تقدّمت الإشارة إليهما هما:

هل الحسن والقبح تكوينيّان عقليّان أو إعتباريّان جعليّان من العقلاء؟

ويترتّب عليه تساؤل آخر وهو أن المعروف أن أساس الشريعة وقوانينها هو الحسن والقبح العقليّان، والأحكام الشرعيّة ألطاف في الأحكام العقليّة، أي أن ملاكات الأحكام الشرعيّة جهات حسن أو قبح في الأفعال لو اطّلع عليها العقل لحكم بها. فإذا كان الحسن والقبح إعتباريّين قابلين للتغيّر، فحينئذٍ لا ثبات للشريعة؛ حيث إنّ الأحكام الشرعيّة تكشف عن جهات لو علم بها العقل حكم بها، فإذا كانت تلك الجهات متغيّرة فالحكم العقلي متغيّر، فالشريعة أيضاً

غير ثابتة. وهذه الإثارة مطروحة كثيراً في الأوساط الفكريّة حتّي أنّ البعض ذهب إلي أنّ معني ختم النبوة ليس بمعني ثبات الدين الإسلامي إلي يوم القيامة، وأنّ البشريّة قد تكاملت عقولها إلي حدّ لا يحتاج إلي نبيّ يرعاها أو وصي يسدّدها ويهديها، وإلّا فلا ثبات للقوانين، فعقلاء كلّ قوم وحكماء كلّ طائفة هم يسنّون تلك القوانين. وهذا إنكار للرسالة، لأنّ الإعتقاد بها كما يلزم بأصلها يلزم في إمتدادها أيضاً ولذا يعدّ القائل من منكري كون الرسالة لكافّة الناس والعالم.

ومنشأ وروح هذا الإشكال يرجع إلي إعتباريّة الحسن والقبح وهو موجب لإثارة تساؤلات كثيرة أخري في الرؤية والمعرفة الدينيّة في كثير من المباحث، إذ هو يتأثّر من القول، مثلًا قصّة بدء النسل هل هي بدأت من نكاح الأخوات أو من تزويج أبناء آدم بالحوريّة والجنّيّة.

وفي روايات أهل البيت عليهم السلام يستشهدون علي إبطال رأي العامّة- بأنّ بدء

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 129

عمليّة النسل هو بتزويج الأخوات- بتمثيله عليه السلام- لما سمعه من واقعة وقعت- أنّ خيلًا من الخيول النجيبة وقع علي امّه من دون شعور منه، ثمّ قتل نفسه ندامة، فهذه غريزة فطريّة أودعها اللَّه تعالي في الحيوانات، فكيف لا يودعها اللَّه عزّوجلّ في فطرة الإنسان؛ فالأفعال إذا كان لها محاسن أو جهات قبح في ذاتها، فلا مجال للتبدّل والتغيّر.

نعم لايلزم علي القول بالحسن والقبح التكوينيّين أن تكون جهات القبح أو الحسن في الأفعال بنحو العلّية دائماً، فقد تكون بنحو المقتضي، مثلًا الكذب مقتضٍ للقبح، لا أنّه علّة تامّة، لكن لا كما يقوله أحدهم أن الزنا لو لم يقبّح من الشارع، فليس فيه قبح وإنّما هو بتحريم الشارع قبيح! حتّي أن بعض الفلاسفة الإماميّة غفلوا عن

هذه النكتة وقالوا بهذا المقال- والحال أنه يخالف مبني الإماميّة- أن الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه الشارع بالتفسير الأشعري، إذ العلم تابع للمعلوم لا أنّ المعلوم تابع للعلم. نعم تابع للعلم في الإيجاد، ولا أن ماهيّة المعلوم تتحدّد بالعلم، وهو ما يلهج بها كثيراً فلاسفة الغرب كنظريّة حيث إن القوانين والتشريعات الإعتباريّة حتّي السماويّة، مبنيّة علي العقل العملي وأحكام العقل العملي إعتباريّة بحسب تواضعات وتوافقات كلّ مجتمع وكلّ قطر وكل زمان، فهي تتجدّد وتتغيّر بحسب الأزمنة والأمكنة والأجيال، وعليه فالتشريعات التي تبني عليها أيضاً تتبدّل؛ ولذلك قالوا: إن معني ختم النبوة ليس بمعني أن دينه أبدي إلي يوم القيامة وإنّما ختم النبوة بمعني أن البشريّة وصلت بعد نبوة النبي إلي حدّ بإمكانها أن تتّكئ علي عقلها أي أنها وصلت إلي نوع من الإستقلال عن السماء في التشريع بتوسّط العقل البشري.

فهذه الدعوي مفادها: أن الأحكام الإعتباريّة تخلقها الظروف والأزمنة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 130

والأمكنة وتوافق العقلاء وبحسب ما يناسبهم ويجعلوه ملائماً لهم، فتكون قابلة للتغيّر والتبدّل، وكذا الحال في أحكام العقل العملي، فضلًا عن الإعتبارات والتشريعات.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 131

وأوّل نقطة ضعف … ص: 131

في هذه الإثارة هي أن أحكام العقل العملي ليست متغيّرة، نعم الأشاعرة قد يجدون صعوبة في الردّ علي هذه الإثارة وأمّا علي ما قدّمناه فالبيانات العقليّة المبرهنة عليها كفيلة لتخطئة هذه الدعوي.

والنقطة الثانية أن القائل يفترض واقعاً متحقّقاً ولو بحسب الأزمنة تطابقه التشريعات، ولذلك لا بدّ أن تتغيّر بحسب الأزمنة كي تطابق واقع ذلك الزمن، وإذا ثبت وجود واقع تطابقه الإعتبارات والتشريعات، فلا تكون التشريعات حينئذٍ قضايا فرضيّة محضة، بل كاشفة إجماليّة عن كمالات الواقع ونقائصه، كما أن الواقع

الوجودي له قواعد تكوينيّة منضبطة لا تتبدّل علي مرّ الأزمنة بحسب الأجناس والأنواع وإن تبدّلت الأفراد والعوارض فلا بدّ أن يوازيه تشريع ثابت أيضاً.

والنقطة الثالثة: إنّه قد اتّضح أنّ الإعتبار ليس هو إقتراح محيطي إبتدائي يعتبره من أراد، بل لا بدّ من أن يكشف عن جهات الواقع حتّي في القوانين الوضعية. وآية ذلك بالإضافة إلي النكتة التي ذكرناها من المقننين أنه لا يمكن أن يوكل التقنين الوضعي إلي جهّال المجتمع وإنّما يوكل التقنين الوضعي في كلّ حقل منه إلي خبراء ذلك الحقل مع معونة الخبراء القانونيين كأن تجتمع لجنتان، لجنة الخبراء القانونيّة ولجنة خبراء الموضوع الخاص في ذلك الحقل والمجال.

فتري البشريّة تخصّص حقّ التشريع إلي فئة خاصّة مشتركة في كلّ فصل بين خبراء القانون وخبراء ذلك الموضوع ممّن يحيطون بالتجارب، بل ولا يكتفون

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 132

بذلك بل أنهم يجمعون خبرات البشريّة السابقة وقوانينها، بل أنهم يستفيدون من التقنينات الشرعيّة السماويّة أيضاً. وهذا حقل مفتوح في علم القانون المتداول في الجامعات البشريّة وهو فصل فلسفة القانون (الجنائي والقضائي والمعاملي).

ففلسفة القانون هي عبارة عن العلل والأسباب التي قُنّن القانون علي ضوئها، فتلك أسباب تكوينيّة وصواب القانون وصحّته هي في الكشف عن تلك الجهات وإصابتها وتنفيذها وقولبتها ويجعلون مدار القانون الوضعي هو في الكشف عن الواقع وإصابته، فالإعتبار يكون بلحاظ الواقع ليس بما هو هو.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 133

الثابت والمتغيّر

اشارة

لا يمكن القول بأنّ الواقع كلّه متغيّر؛ لأنّ القائل بتغيّر الواقعيّات لا بدّ أن يلجأ إلي ثابت- علي الأقلّ- وهي نظريّة التغيير، وإلّا لو كانت هذه النظريّة أيضاً متغيّرة فسيكون هناك ثوابت، وهذا ممّا يدلّ علي أنّ المتغيّرات مهما كانت سعة دائرتها

التكوينيّة والواقعيّة لا بدّ من أن تستند إلي ثوابت، فالثوابت هي التي تولّد وتنتج المتغيّرات.

ومضافاً إلي أنّه لو كان البناء علي التغيّر، فالسعي والجهد البشري للفحص عن الحقائق لغو وعبث وباطل، ولا يوجد عاقل يسعي إلي معادلات لا ثبات لها، التي تكون بعد حقب زمني مجهولات لا مجموع معلومات. فهذا السعي البشري من أجل التوصّل إلي ثوابت. فالعلوم تتشعّب إلي شعب كثيرة ويوماً بعد يوم تترابط مع بعضها البعض بشكل عجيب، فترابط الفلسفة بعلم السيكلوجيا وترابطه بعلم الأعصاب وترابط علم الأعصاب بعلم البدن و … فهذا السعي البشري من أجل التوصّل إلي الثوابت في عالم الطبيعة فضلًا عمّن يقرّ بأن هناك عوالم أخري؛ إذن فالواقع ليس كلّه متغيّراً، بل منطقة منه متغيّرة وأخري ثابتة.

ثمّ أنّنا في الجملة قد أذعنّا بوجود التغيّر في الواقعيّات ولكن المنطقة الواسعة في الواقعيّات هي الثبات، وحيث قلنا إنّ الإعتباريّات واسطة إثباتية في الكشف عن الواقعيّات، فلا بدّ أن نتعرّف علي منطقة التغيّر في الإعتباريّات في لغة القانون بغضّ النظر عن أن القانون إلهي أو وضعي.

للتعرّف علي ذلك لا بدّ من التذكير بأنّ منطقة الإعتبار ليست الكلّيات

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 134

الفوقانيّة العقليّة كالظلم قبيح والعدل حسن والكلّيات القريبة من الكلّيات الفوقانيّة، ولا حاجة للاعتبار والتشريع في تلك المنطقة- وإن كان الصحيح عندنا كما ذكرنا في مباحث علم الاصول وجود كمال في ذلك لا يتحقّق إلّابإنشاء التشريع- بل تكون منطقة الإعتبار في الكلّيات الوسطانيّة أو التحتانيّة. فهناك ثبات للبنيّة الأساسيّة للاعتبار وهي الأحكام العقليّة الفوقانيّة، فنلاحظ فطريّاً حتّي في القوانين الوضعيّة أنّ هناك تقسيماً للإعتبار التقنيني إلي تقسيمات منها ثابتة أو ثابتة متوسّطة ومنها متغيّرة، مثلًا: الدساتير التي للدول حيث

يعتبرونها مواد قانونيّة ثابتة بعد ذلك تأتي تشريعات المجالس النيابيّة أو مجالس الامّة.

فهذه تشريعات يعتبرونها ثابتة متوسّطة. بعد ذلك تأتي التشريعيات الوزاريّة الإجرائيّة التنفيذيّة التطبيقيّة علي المصاديق التي هي في داخل كلّ وزارة. بعد ذلك تأتي منطقة الإجراء والتطبيق. فكيفيّة إجراء وتولّد القانون يمرّان عبر ثلاثة مراحل وهذه المراحل هي قديمة في لغة القانون والفطرة البشريّة، ونفس الدستور توجد فيه مواد امّ ثابتة أساسيّة لا يمكن أن تتغيّر. وهناك مواد قد تحتمل التغيير، وكذلك الحال في التشريعات المتوسّطة.

وهناك نكتة أخري في القوانين الدستوريّة من أنّ الدستور ينطلق من أهداف وأغراض وتلك الأهداف والأغراض هي ثابتة بحسب رشد المقنّنين من الامّة انطلاقاً من الأهداف السامية كهدف الإستقلال والحريّة والعدالة، فهذه يجعلونها ثابتة إلّاإذا علموا بأنهم لم يحيطوا بأهداف اخري هي أسمي وأهمّ لم يلتفت إليها من قبل. إذن لغة التقنين البشري فيها منطقة ثوابت ومنطقة متغيّرات.

والميرزا النائيني ذكر في كتابه أنّ ضابطة المتغيّر في الشريعة هي الأحكام السياسية، وأمّا الثابت منها فهي غير الأحكام السياسيّة كالأحكام الشرعيّة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 135

والفتوائيّة، فهذه الضابطة متينة لكنّها إجماليّة.

توضيح ذلك: إنّه في لغة القانون أو اللغة العقليّة تتنزّل المعاني الكلّية الفوقانيّة في مدارج النفس وخضوع القوي الدانية تنزّل الأمر الكلّي إلي أن يصل إلي العمل الجزئي، مثلًا هناك إدراك للعقل النظري، ثم إدراك للعقل العملي، ثمّ العقل العملي يذعن بالقضيّة المدركة، ثم يستعين بالآلات الإدراكيّة النازلة كالتخيّل الوهم، ويستعين بالروية والفطنة وهو جعل الأمر الكلّي ضمن قالب جزئي مطابق له، ثمّ بعد ذلك يحرّك القوي العمليّة الأخري كالقوي الغضبيّة أو كالقوي الشهويّة وإيصال هذا المطلب الكلّي إلي ضمن فعل خارجي جزئي.

هذا الكلام علي صعيد منطقة النفس

وكذا علي صعيد منطقة الدولة، إذ الدولة بعد لحاظها كموجود واحد شاعر فاعل، لها قوي غضبيّة كالجيش والشرطة ولها قوي عَمّالة، ولها قوي درّاكة ومتخيّلة كالبرلمان، ولها قوي فطنة وتروّي كالقوي القضائية أو العقول المفكرة في جهاز الدولة، ولها عقل عملي كالدستور، فتكون نفس الجهاز التكويني للنفس وينطبق علي جهاز الدولة.

فعلي ما ذكرنا نري أنه في سلسلة لغة القانون البشريّة هناك معانٍ كلّية، بل ما فوق المعاني الكلّية وهي منابع الدستور وهي الاسس التي يعتمد عليها الدستور ومن ثمّ يأتي من بعده الدستور؛ ثمّ إنّ التشريعات المتوسّطة حيث تراعي مجالس الامم في القوانين الجزئيّة المطابقة للقوانين الكلّية في الدستور؛ ثمّ بعد ذلك تأتي التشريعات الوزاريّة التي تطابق تشريعات مجالس الامم. ثمّ تأتي بعد ذلك مرحلة التطبيق والسرّ في هذا الشي ء هو أن هناك نكتة عقليّة بالإضافة إلي أنّ الواقعيّات بعضها متغيّر وبعضها ثابت، أنّه الأمر العقلي الكلّي دائماً هو محلّ ثبات كما هو في الجوهر العقلي القائم بنفسه، كذلك في المعاني العقليّة، أيضاً

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 136

هي في محلّ ثبات دائم، إلي أن تتنزّل هذه المعاني والكلّيات العقليّة إلي عقليّات محدودة، فيكون ثباتها بالنسبة إلي ثبات المعاني العليا المطلقة أقلّ وما إن تتنزّل بعد ذلك إلي معاني مرتّبة بمعانٍ جزئيّة أكثر وهي الوهميّة (المقصود من الوهميّة هنا ليس بمعني الوهم الذي لا واقع له أو لا واقع ورائه، بل المقصود من المعاني الوهميّة هي الكلّيات المقيّدة بالإضافة إلي الجزئيّات الإضافيّة مثل الحبّ المطلق والبغض المطلق هو غير حبّ زيد وبغض زيد) والخياليّة وبعد ذلك تتنزّل إلي الجزئي الحقيقي وهو التطبيق.

إذن هذه المدارج التي تتنزّل منها المعاني الكلّية إلي كلّيات أكثر محدوديّة إلي

معانٍ خارجة عن المعاني العقليّة إلي معانٍ وهميّة إلي أن يصل إلي التطبيق إلي منطقة التغيير، فأوضح مناطق التغيير هي في الجزئي الحقيقي واوضح مناطق الثبات هي المعاني العقليّة الفوقانيّة جداً التي ليس هناك ما هو أوسع منها وبينهما متوسّطات ولذلك نري أن لغة التقنين البشري هي أيضاً كذلك. فهذا تدليل عامّ شرحاً لما أفاده المحقّق النائيني من الضابطة في التغيّر والثبات في الأحكام السياسيّة دون غيرها؛ فالأحكام السياسيّة هي التي فيها التطوير، لأنّ الأحكام السياسيّة مرهونة ومرتبطة بالجزئيّات، أمّا الأحكام الشرعيّة وهي الثوابت العامّة الكلّية التي هي بمنزلة الأحكام الدستوريّة، فتلك هي منطقة ثبات وليست متغيّرة.

ولأجل أن نوضّح أكثر نقول: إنّ المعني الماهوي للسياسة هو نفس معني التدبير وهو من خواصّ قوّة الفطنة وقوّة التروّي الموجودة لدي النفس البشريّة.

وبعبارة أخري: إنّ السياسة هي بمعني تطبيق الجزئيّات وموازنتها مع الكلّيات، فمثلًا العقل يحكم بحسن الصدق أو حسن الإحسان، وحينما يشاهد إنسان زيداً

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 137

ويريد أن يحسن إليه، فلا بدّ وأن يتدبّر ويتروّي أن هذا الفعل هل هو مصداق للإحسان أم لا أو هو مصداق الإهانة، ولا بدّ من التمييز بين مصداق الإحسان ومصداق الإهانة، ثمّ هل أن هذا مصداق للإحسان أو للإهانة، فلا بدّ أن يميّز بين الإحسان والإهانة.

إذن لا بدّ له من تمييز الجهات المشتركة بين الأفعال كي يستخلص الجزئي الدقيق الذي ليس فيه إلتباس ومندرج تحت ماهيّة الإحسان وكلّيته، فهذا إنّما يتمّ بتوسّط القوي الإدراكيّة المادون السالمة في إدراكها، وأيضاً بتوسط القوي العمّالة المادون، فالغضبيّة أو الشهويّة لا تتدخّل بنحو تمانع تنزّل المعاني الكلّية وكذا المخيّلة والواهمة لا تمانع ذلك التنزّل بسيطرة الفطنة التي هي فوق القوي المادون-

أي القوّة الغضبيّة والعمّالة والشهويّة- وسيطرة قوّة التروّي الإدراكيّة التي تستخدم آلات القوي الإدراكيّة المادون والقوّة العمّالة المادون في الوصول إلي الجزئي الحقيقي المندرج تحت الأجناس، حينئذٍ تصدر الأوامر في عالم النفس لتولّد الشوق والإرادة وصدور الفعل بعد ذلك وهذا ما يسمّي بالبرهان العياني الذي نبّه عليه أرسطو وأغفله ابن سينا، فهذه المحدودة والمنطقة هي منطقة التنزّل، أي تنزّل العقليّات إلي الجزئيّات الحقيقيّة.

فلا بدّ من مرحلتين: مرحلة تنزّل العقليّات إلي مرحلة الجزئيّات أي موازنة الحكم الجزئي مع الكلّيات واستنتاجه منها ومرحلة إعمال الحكم الجزئي بتحريك القوي العمّالة ولذلك كان التدبير من قوّة التروّي وقوّة الفطنة لدي الإنسان الأوّلي بمنزلة العقل النظري والثانية بمنزلة العقل العملي ولا ريب أن هاتين القوّتين غير قوّة العقل النظري الإدراكي ولكن هل هما نفس قوّة العقل العملي العمّال الذي يغاير القوّة النظريّة الدرّاكة كما هو مبني الفلاسفة المتقدّمين

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 138

كابن سينا وغيره أم لا؟

وعلي كلّ تقدير عندما تكون القوّتان تحت تسخير العقل ولأجل تنزيل الكلّيات العقليّة، فسيكون فعلهما لأجل القضايا العقليّة والحقّانيّة، وأمّا إذا كانتا تحت تسخير القوي الشهويّة أو القوي الواهمة حينئذٍ، فستكونان قوّة نكراء وليستا قوّة عقليّة؛ لأنّهما سوف تسيسان جميع القوي الأخري حتي العقليّة أي تدبّرانها وتجعلانها خاضعة والقوي الشهويّة والغضبيّة وهذا بنفسه يفرض في الإنسان المجموعي أي صعيد جهاز الدولة والمفروض أن الرئيس وظيفته أن يسيّس تلك القوي المختلفة لأجل الوصول إلي الجزئي وإذا تدخّلت إحدي القوي بنزعاتها الخاصّة لا يكون التسيّس تامّاً في محلّه وكمالهما فيها إذا اتّسقت القوي العقليّة فضلًا عمّا إذا تجرّد الرئيس.

إذن ما بيّنه النائيني تامّ من أن هناك ثباتاً في الأحكام العقليّة، أمّا التسيّس وهو نوع

من التطبيق للجزئي والجزئي فمحلّ تبدّل وتغيّر ولذلك يعبّر بأن الأحكام السياسيّة محلّ تبدّل أي الأحكام الجزئيّة هي التي تتبدّل ويتمّ إستنتاجها عن طريق قوّة الفطنة والتروّي وبتوسّط البرهان العياني والحكم الجزئي هو الذي في محلّ تبدّل وتغيّر.

وأمّا محلّ الثبات هي القضايا العقليّة فهذه علي أيّ حال منشأ من مناشئ التغيير وتحديد للأحكام الإعتباريّة التي يفرض فيها التغيّر بلحاظ الأحكام السياسيّة أو ما يعبّر عنه بالتعبير الفقهي بالحكم المولوي أي الولائي في مقابل الحكم التشريعي وقد يكون تبدّل الموضوع منشأ لتبدّل الأحكام الإعتباريّة، فطبعاً المقصود من تبدّل الموضوع هو الموضوع الجزئي الكلّي لا تبدّل فيها، فيعود لنفس الضابطة التي ذكرت من أنّ الجزئيّات هي منطقة التغيّر والتبدّل. وهذه هي

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 139

نفس المنشأ الأوّل فبدلًا من قولنا التغيير في الأحكام السياسيّة قلنا بالتغيير بلحاظ تبدّل الموضوع.

وهناك منشأ آخر وهو ما يقال عنه عامل الزمن، فالعامل الآخر هو وجود التزاحم والحرج والورود والضرر وقد تطبّق هذه الضوابط (التزاحم أو الضرر) علي صعيد الأحكام الفرديّة وقد تطبّق علي صعيد الأحكام الإجتماعيّة، فكما أن الوضوء الحرجي رافع للوضوء ومعيّن للتيمّم في الحكم الفردي، هناك أيضاً في الأحكام والواجبات الإجتماعيّة بسبب الحرج الذي يطرأ علي عموم الناس، فيسبّب رفع ذلك الحكم الموجود الأوّلي، أو الورود فقد يكون عنواناً وارداً علي عنوان آخر أو ضرراً لنوع عامّة الناس، فيكون تطبيقها بلحاظ الأحكام الشرعيّة التي هي أحكام إجتماعيّة وأحكام سياسيّة وأحكام مجموعيّة وليست أحكاماً فرديّة؛ وهذا نوع من أنواع التبدّل والتغيّر وهو تزاحم الأحكام. مثلًا لو تزاحم واجب فرعي مثلًا مع أحكام إعتقاديّة فيقدّم الحكم الإعتقادي في فترة وقت التزاحم، وهذا المنشأ ايضاً منطقته في الجزئي الحقيقي

أو ما يقرب منه.

ولكن ليتنبّه في هذا المنشأ إلي نكتة نبّه عليها الفقهاء في بحث القواعد الفقهيّة، أن هذا المنشأ الثاني في التغيّر ليس يوجب جعل الحكم الثانوي حكماً دائماً وأبديّاً ويقلّبه من حكم أوّلي إلي حكم ثانوي، بل يبقي الحكم الأوّلي علي حاله، بل في ظرف تواجد موضوع العنوان الثانوي من حرج أو ضرر أو تزاحم يتبدّل إلي حكم ثانوي لا دائماً، وإلّا لو كان علي نحو الدوام لكان وضعه كحكم أوّلي من قبل الشارع الذي قد افترض أنه محيط بالجهات الواقعيّة لا جاهل بالجهات الواقعيّة، مع أن الفرض أن الشارع وضعه عن علم وقلنا إنّ الكلّيات العقليّة لا تبدّل فيها.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 140

فالفرض أن التشريعات الفوقانيّة تعكس عن جهات واقعيّة كلّية معقولة، والقضيّة والمعني الحقيقي الكلّي لا تبدّل فيها؛ نعم في كيفيّة تنزّله قد يتصادم مع كلّي آخر إلّاأن هذا التصادم ليس بدائم، بل ظرفي.

أيضاً هناك منشأ آخر للتبدّل والتغيّر وهو ليس في الواقع بمنشأ حقيقي وهو كيفيّة إحراز التقنين، سواء التقنين الوضعي أو التقنين السماوي الإلهي؛ فمثلًا في الدستور الفرنسي القضاة يختلفون في فهم مادّة من موادّ الدستور أو الحقوقيّون الفرنسيّون يختلفون في فهم تلك المادّة؛ فهذا نوع من الإختلاف في التشريع إلّا أنّه إختلاف في الفهم والإحراز وليس هو إختلاف في نفس مادّة التشريع.

فهذا الإختلاف لا يتناول الكلّيات الفوقانيّة حيث إن الكلّيات الفوقانيّة يعترض الثبات، وكلّما كان بمعني الكلّي وكان ذو كلّية وثبت أكثر، فوضوحه وبداهته أكثر والخفاء يقلُّ ويندر، وكلّما تنزل يبدو الخفاء ويزداد الغموض. ولذا تري أن المبادي ء في أيّ دستور من الدساتير الوضعيّة تكون واضحة لا خفاء فيها والموادّ الأوّليّة- وهي الأمّ- لا خفاء

فيها أيضاً، بعد ذلك إذا تتنزّل تلك الموادّ إلي البرلمان ومنه إلي مجلس الوزراء، فهذه تحصل فيها إختلاف أكثر فأكثر، لأنّها تتداخل الجزئيّات بعضها مع بعض، فيكون عنصر الغموض أكثر فأكثر.

وقد يعبّر عن هذا أن النفس حيث إنها مجرّدة أو كلّية، فيكون إدراك النفس للكلّي أو المجرّد أسرع من إدراكها للجزئيّات؛ حيث إنّها متعلّقة بالمادّة فيكون أبعد عن سنخ النفس وهذا المنشأ الثالث لا يختلف عن المناشئ السابقة من زاوية المورد؛ حيث إن منشأ الإختلاف، الإحراز غالباً في موارد الجزئيّات لا الكليّات فمثلًا تري الإنسان لا يختلف في المعاني مع فرد آخر من بني نوعه في الكليّات العقليّة كحسن الفضائل وقبح الرذائل، بخلاف ما إذا تنزّلت المعاني إلي جزئيّات،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 141

يبدأ الإختلاف وهذا الإختلاف راجع إلي المنشأ الثالث لا إلي المنشأين السابقين. فهذا الشخص يحرز أن مصداق هذا الفعل تعظيم وذلك الشخص ينفي ذلك بأن هذا المصداق ليس بتعظيم بل إهانة، ففي الفعل الواحد يكون في جهات التطبيق إختلاف وإن كانوا متّفقين علي الكليّات العقليّة.

فالإختلاف في الإحراز في المنشأ الثالث لا يختلف كثيراً مّا من جهة المورد مع المنشأين السابقين في كون موارد الإختلاف غالبةً في الأحكام السياسيّة، سواء سياسة النفس الداخليّة في الأحكام الفرديّة أو السياسة الاجتماعيّة أو سياسة الأسرة فدائماً الإختلافات في الأحكام الجزئيّة وأمّا الكليّات فلا إختلاف فيها.

نعم الإختلاف في الإحراز سواء أكان في التشريعات الثابتة أو المتوسّطة أو التشريعات المادون المتوسّطة أو الجزئيّات، له ضوابط قانونيّة في الإحراز؛ كما أنّه للبرهان في الكليّات ضوابط علميّة ذكروها في باب البرهان من أنه تكون القضيّة دائمة كليّة، وأنه تكون القضيّة صادقة وأن لا يكون في العناوين إجمال، وأضاف

المتكلّمون والفلاسفة شرائط أخري. كذلك في البرهان العياني الذي يختصّ بمنطقه التنزّل من الكليّات إلي الجزئيّات فقد وضعوا لها ضوابط.

فالبرهان العياني يتكفّل نوعاً مّا إحراز أحوال الجزئيّات الحقيقيّة في كيفيّة إدراجها تحت الكليّات ولكن بضوابط.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 142

ملخّص الجواب عن الإثارة الثانية … ص: 142

ويتلخّص الجواب عن الإثارة الثانية بالتأمّل فيها

أوّلًا: أن البنية التحتيّة للأحكام الشرعيّة الثابتة وهو الحسن والقبح العقليّان برهانيّة فلا تبدّل ولا تغيّر فيها.

وثانياً: إن منشأ الحاجة إلي الإعتبار هو محدوديّة العقل البشري، فهذه المحدوديّة باقية وإن ازدادت عقليّة العقل البشري بالتجارب إلّاأنّ إعتراف البشر وإذعانهم بأنّه كلّما ازددنا تجربة إزددنا بصيرة بالواقع، وأن هناك كلّيات عقليّة يدركها العقل، وهناك كلّيات متوسّطة لا يدركها إلي أن تصل الجزئيّات، كلّما ازداد البشر تجربة إزداد بصيرة بكيفيّة تنزّل جهات الحسن والقبح أو جهات المضرّة والمنفعة أو جهات المصلحة والمفسدة، فبإزدياد التجربة يزدادون إحاطة. ولكنّها غير تامّة مع ذلك ولذلك يواصلون التجربة بنحو دائب إذعاناً بعدم الوصول التامّ.

وإذا لم تكن الإحاطة تامّة فيتوصّل البشر إلي عناية اللَّه عزّ وجلّ، فلا بدّ من عناية منه بأن سنّ لهم تشريعات ثابتة في تلك المنطقة التي لا تدركها عقولهم المحدودة، وإذا كان منشأ الحاجة للإعتبار هو محدوديّة العقل البشري، فهذا الخالق الذي قد برع وحيّر العقول في إيجاد نظم بارع من أصغر وأحقر مخلوق إلي أشرف وأحسن مخلوق، فأتقن خلق كلّ شي ء وأحسن خلق كلّ شي ء، فها هو العلم يعجز عن إكتشاف الدقّة اللامتناهية في المخلوقات وفي النظم،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 143

فكيف لا يحيط الخالق بما هو مدارج الكمال لأشرف مخلوق وهو الإنسان ومعارج الكمال له؟ الحدس الفطن يسلّم بذلك، ولا بدّ من أن يتقن له.

وعليه فلا

بدّ أن تكون التشريعات عند من يحيط أزلًا وأبداً بكلّ جهات الأفعال ويحيط إستقبالًا وحالًا وماضياً بكلّ الأفعال ويحيط بأنّ الفعل الواحد إذا تموّج خلال الأجيال التاريخيّة والبشريّة كيف تكون تموّجاته وآثاره؟ فلا بدّ له من إحاطته لجهات الحسن والقبح المتسلسلة عبر حلقات الأفعال لا الإحاطة بجهات الحسن والقبح النفسي الموضوعيّة أو الذاتيّة لذات الفعل فقط، وهذه الدائرة لجهات الواقع لا يحيط بها إلّاخالق الكون فهو الذي يسنّ التشريعات.

وثالثاً: إنّ جهات التغيّر والتبدّل في الإعتبار هي غالباً في منطقة الجزئيّات أي الأحكام السياسيّة أو الوَلَوِيَّة، لا في الأحكام الكلّية الثابتة للتشريعات الثابتة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 144

ولاية التشريع

اشارة

ثمّ إنّه لا بأس بأن ننظر لمن صلاحيّة التشريع؟ أو ما يسمّي بالولاية التشريعيّة هل تتبع الولاية التكوينيّة أم لا؟ قاعدة شرعيّة تقول: من له التشريع هو من له المقام التكويني الخاصّ ويعبّر عنهما في الحكمة بأن الولاية التشريعيّة تتبع الولاية التكوينيّة، والتشريع هو لمن يحيط بالواقع أولًا وبالذات، فالمشرّع الأوّل هو اللَّه عزّ وجلّ ولكن هل يمكن أن يفوّض التشريع للبشر؟ ولأيّ فرد من البشر؟

يظهر من أرسطو أنّ إيكال التشريع في التشريعات الوسطانيّة لا الفوقانيّة إلي الإنسان الإلهي من البشر وأن صلاحيّة التشريع الوسطاني لا بدّ من إيكالها إلي الإنسان البشري، لنكتة ستأتي وبحسب التتبّع يظهر من الفلاسفة حتّي في الفلسفات الهنديّة أنّهم يذهبون إلي أنّ المشرّع والمسنّن الأوّل هو الباري ومن بعده هو الإنسان الإلهي الذي كمل علماً وعملًا. بادي ء ذي بدء للإستدلال علي هذه القاعدة نقول:

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 145

الوجه الأوّل … ص: 145

ظهر ممّا سبق أن سبب الحاجة إلي الإعتبار هو محدوديّة العقل البشري وذكرنا أن الإرادة البشريّة لا تتبع الإعتبار بما هو إعتبار، بل بما هو كاشف عن الجهات الواقعيّة ولا بدّ من مراعاة ذلك في من له الحقّ في أن يسنّ ويشرّع فالذي يحيط بالجهات الواقعيّة- لكون علمه متّصلًا ومرتبطاً بالعلم للذات المقدّسة الأزلي الأبدي السرمد- له أن يسنّ ويشرّع، ولا بدّ أن هذا العلم لا يتخلّف ولا يكون جهلًا، فلا بدّ وأن يكون علمه مصيباً دائماً وإلّا يكون نقضاً لغرض التشريع، ولا يكون مثل التقنينات البشريّة في الموادّ الدستوريّة الفوقانيّة الأمّ حيث يشاهد التبديل وسببه عدم إحاطة المقنّن بجهات الواقع، وبمقتضي قاعدة العناية الإلهيّة وقاعدة اللطف الكلامي (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) («1») يعلم أن اللَّه يوصل عباده

إلي كمالاتهم ويبعدهم عن نقائصهم.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 146

الوجه الثاني … ص: 146

إن الجهاز الوجودي للإنسان وقواه وكيفيّة عمليّة الإدراك للأشياء وتصوّرها، ثمّ تنزّلها إلي حدّ ما تفصيلًا كما يذكر في العلوم العقليّة أن قبل مرحلة القوي العقليّة للإنسان هناك أربع درجات في وجوده: قلب وسرّ وخفيّ وأخفي، وتسمّي بالمراحل الوجوديّة القلبيّة للإنسان وبعدها تأتي منطقة قوّة العقل النظري، ثمّ قوّة العقل العملي، ثمّ الفطنة والرويّة، ثمّ شجرة القوي العمليّة النازلة- مثل القوي الغضبيّة والشهويّة- وهذه القوي أيضاً تتشعّب إلي شعب أيضاً والقوي الإدراكيّة النازلة كذلك مثل قوّة الوهم والخيال والحسّ المشترك. فعندما تتوجّه النفس إلي إدراك وتحصيل معلومة أو مجهولة من المجهولات تبدأ من قوّة العقل النظري بالبحث في المعلومات والعودة للمجهول بالمعلومات، ثمّ إصابة النتيجة.

وقد ذكر أن هناك ثلاثة أفعال مزدوجة بين العقل النظري والعقل العملي، بناء علي ما هو الصحيح من إحدي قولي الفلاسفة من أن قوّة العقل العملي مغايرة لقوّة العقل النظري.

فالفعل الأوّل هو الفحص والبحث في الفكر والفعل الثاني هو إدراك النتيجة التي يتولّد منها المقدّمات والفعل الثالث هو الإذعان بتلك النتيجة. وقد حقّق أخيراً في الأبحاث العقليّة أن الحكم ليس جزء القضيّة أي أن مدركات النتيجة ليست بجزء القضيّة وقد أشار إلي ذلك صدر المتأ لّهين في رسالته في التصوّر والتصديق؛ حيث أثبت أن كلّاً تسمّي التصوّر؛ والتصديق هو الصورة الحاصلة غاية الأمر أن التصوّر هو صورة مجرّدة غير موجبة للإذعان بخلاف الصورة التي

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 147

لها تأثير في ايجاد الإذعان والتسليم. فهذه الصورة تسمّي تصديقاً. فالعلم (تصوّره وتصديقه) ليس من مقولة الإذعان وليس من مقولة الحكم. بل العلم هي الصورة الحاصلة لقضيّة النتيجة من

العقل النظري للنتيجة، ثمّ بعدها يأتي الحكم.

فالحكم خارج عن القضيّة وليس من أجزاء القضيّة والحكم فعل من أفعال العقل العملي لا العقل النظري، وقد فسّر الحكم العلّامة الطباطبائي في النهاية بقيام النفس بدمج صورة الموضوع في صورة المحمول، فحينئذٍ تحكم النفس بهذه القضيّة وأن هذه القضيّة لها صورة خارجيّة؛ مثلًا في الصور الحسّيّة هي صور بديهيّة أيضاً تذعن بها النفس- زيد الجالس أمامي- فهذه القضيّة عندما تأتي في النفس، تأتي مدمجة لا مفكّكة، وهذه الصورة في الواقع عبارة عن صور عديدة- زيد جالس، زيد لابس، زيد طويل- فهي ذات عدّة محمولات في ضمن صورة واحدة وهذه الصورة هي في الواقع من المحسوسات التصديقيّة والوجه في ذلك أنها في الواقع هي صور مطبوعة علي بعضها البعض في ضمن صورة واحدة، فلو فكّكناها تنحلّ إلي موضوع ومحمولات كثيرة وإخبارات عديدة.

إذن التصديق دمج الصور في صورة واحدة وهذا الدمج يقوم به العقل العملي طبق معايير عقليّة، وعليه فالحكم في القضايا العقليّة يقوم به العقل العملي متابعة للصورة وقلنا سابقاً من أن عنوان وجوب المعرفة مجمل فلا بدّ من تحديد المعني المراد بوجوب المعرفة، هل المراد منه الفعل الأوّل أو الثاني أو الثالث، نعم وجوب المعرفة لا يمكن أن يكون شرعيّاً علي معني الفعل الأوّل والثاني، إلّا أن الثالث لا بُعد فيه، وبعد هذه المقدّمة نذكر مقدّمة ثانية وهي:

إنّ عمليّة التفكير حيث تتمّ بالفحص عن المقدّمات ثمّ إدراك النتيجة ثمّ حكم النفس بتوسّط العقل العملي متابعة لهذا الإدراك، لكن ليس هذه المتابعة بنحو

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 148

العلّية التامّة لما بيّنه الفلاسفة والمتكلّمون من أنه لا ملازمة بين المقدّمات- الصغري والكبري- وإدراك النتيجة، كما ذكر ذلك في

المنظومة السبزواري في بحث القياس حيث بيّن بأن الرابطة ليست رابطة العلّة والمعلول بين المقدّمات وإدراك النتيجة، بل من باب الإعداد.

وأمّا المتكلّمون فقالوا بأنّه جرت سنّة اللَّه علي أنّه إذا ادركت تلك المقدّمات، جعلت معدّة لإفاضة النتيجة، والفلاسفة يذهبون إلي الإعداد وأمّا العلّة لإدراك النتيجة فهي إفاضة العقول العالية علي العقل البشري النازل، كما في تعبير بعض الروايات «خلق اللَّه العقل وجعل للعقل رؤوساً بعدد رؤوس الخلائق»، فالرابطة بين المقدّمات وإدراك النتيجة إرتباط إعدادي؛ فالعلّية أثبتت للعوامل الفوقانيّة لا للمقدّمات، كما بيّن في الفلسفة نظير ذلك في الفاعل في عالم المادّة، أنّه ليس بفاعل إيجادي، بل فاعل طبيعي أي فاعل الحركة، فمثلًا الإنسان يتحرّك ويأخذ البذرة وباقي اللوازم فيزرع الزرع، ولكن المفيض للوجود الشجري هي العوامل العلويّة وقد بيّنوا في محلّه من أن الجسم لا يمكن أن يفيض صورة جسميّة أخري.

وإذا اتّضح عدم العلّية بين المقدّمات والنتيجة والإذعان، بل الإعداد فربّما لا يحصل إدراك النتيجة أو لا يحصل الإذعان بها وذلك لكون الإنسان ذا حالات مرضيّة نفسيّة في قوّة العقل العملي والنظري وفي القوي المادون الدرّاكة بمثل الجربزة والعناد والوسوسة والإضطراب. فهذه أمراض في القوي الفوقانيّة في النفس وهذه الصفات النفسيّة معادية وممانعة عن الإنتقال من مرحلة إلي مرحلة في الأفعال الثلاثة، فمثلًا الوسواسي لا يحصل له إذعان للإدراكات الصحيحة، وهذا ممّا يدلّ علي أن العلم بالنتيجة ليس علّة تامّة للإذعان والتسليم؛ لأنّه قد تمانع صفة الوسوسة والإضطراب من صفات الرويّة في العقل العملي،

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 149

وكذا صفة العناد وهي عدم الخضوع لقوّة العقل النظري وهكذا البلادة في قوّة العقل النظري أو المفكّرة بأن لا تدرك النتيجة بعد إدراكها للمقدّمات، والجربزة

الفكريّة هي سرعة إدراك النفس للنتائج أو المقدّمات ثمّ منها إلي نتائج أخري وهكذا من دون توقّف ممّا قد يوقعها في الإشتباه أو عدم الإذعان والتسليم بالحقائق، فهذه من صفات النقص لأنّه لا بدّ من ترتيب بعض الآثار.

المقدّمة الثالثة

وهي كما أنه لدينا صفات مرضيّة وصفات صحيحة في القوي الإدراكيّة كذلك في العمليّة في النفس في الجهاز الإنساني ممّا لا يجعل الرابطة بين الفحص وإدراك النتيجة رابطة العلّية كما أن الرابطة بين الفحص والوصول إلي المقدّمات ليست رابطة العلّية، وكذلك الرابطة بين إدراك المقدّمات وإدراك النتيجة ليست رابطة العلّية وأيضاً ليست الرابطة بين النتيجة والتسليم هي رابطة العلّية، بل رابطة المقتضي، بل وكذا الحال في الرابطة بين قوّة العقل النظري والقوي المادون ليست رابطة العلّية، بل قد تكون القوي النازلة هي المسيطرة علي قوّة العقل العملي والنظري، فمثلًا القوّة الغضبيّة قد تكون مسيطرة علي قوّة العقل العملي والنظري أيضاً حيث يكونان خادمين تحت سلطنة القوّة الغضبيّة مع أنّها ليست قوّة مدركة إلّا أنّها تطالب وتسخرهما لتحقيق ما تريده كما هو موجود في عالم الحضارة الغربيّة الحديثة حيث إن العلم والعقل في خدمة الشهوة والغضب.

إذن فخضوع القوي الإدراكيّة السفليّة المادون أو العمليّة السفليّة المادون ليس بنحو العلّية التامّة، ففي القوي المادون إقتضاء للخضوع لقوّة العقل العملي، ومقتضي فطرة الإنسان هو كون القوي المادون خاضعة للقوي الفوقانيّة، ولكن شيئاً فشيئاً قد تتجاوز تلك القوي المادون حدّها الفطري وتسيطر علي الملكة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 150

الموجودة في النفس البشريّة.

والحال كذلك في قوّة الوهم والتخيّل، فقد تكونان منصاعتين لقوّة العقل وتكونان آلتين للعقل حيث إنّه لا يدرك الجزئيّات فيستعين بقوّة الوهم والخيال؛ فمثلًا عندما تقول- زيد جالس- قد

يقطع به بالعقل ولكن الذي يدرك زيداً وجلوسه قوّة الخيال ولكن الحاكم هو العقل. فالمفروض في الطبيعة والفطرة البشريّة أن تكون القوي الإدراكيّة النازلة خاضعة وخادمة لقوّة العقل، وقد نري جحوداً من القوي الواهمة علي القوّة المدركة النظريّة وقد بيّنوا مغايرة مدرك قوّة الحسن والخيال والوهم مع إشتراك موردها في الجزئيّات، فالحس يدرك الصور الحسّية التي لها كلّ أحكام المادّة عدا المادّة ولا بدّ من محاذاة لموجود خارجي وأن يكون يها مقدار وطول وعرض.

وأمّا الصورة الخياليّة المثاليّة التي تدركها قوّة الخيال فهي مثل الصورة الحسّية لكن لا يشترط فيها المحاذاة، وأمّا الصورة الوهميّة التي تدركها قوّة الوهم لا يوجد فيها طول وعرض وعمق ولكنّها مضافة إلي جزئي خارجي فمثلًا الحبّ والبغض لا يوجد فيه طول ولا عرض ولا عمق ولكنه مضاف إلي حبّ زيد وبغض عمرو، فهذا يقال لها وهميّة، وكذلك يسمّي المعني الوهمي العقل المقيّد.

وهذه القوي الإدراكيّة المفروض فيها أن تكون خاضعة لقوّة العقل العملي والنظري ولكن قد تجمع هذه القوي علي قوّة العقل العملي والنظري، بل تمانع العقل العملي عن الإنصياع والخضوع للعقل النظري، فمثلًا ذات واجب الوجود لا تقتنص بحسّ ولا بوهم ولا بخيال؛ لأن المفروض أنه ليس بذي مقدار ولا حدّ، فكيف يمكن أن يقتنص بتوسّط هذه القوي، بل لا يدرك شعاع نوره بتوسّط هذه القوي النازلة وإنّما يدرك شعاع نوره بالقلب وما فوقه.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 151

والأئمة عليهم السلام يثبتون الرؤية القلبيّة للَّه عزّ وجلّ، فهي ليست حسّية ولا خياليّة ولا مثاليّة ولا عقليّة وإنّما هي رؤية قلبيّة فوق العقليّة، وهذا هو المعروف من مدرسة أهل البيت عليهم السلام خلافاً للأشاعرة. وعليه فالمقصود من أن واجب الوجود لا

يدرك بالإدراك النازل، بل بالإدرك الفوقاني أي لا يدرك بالإدراك النازل الحصولي، حيث إن منطقة الصور الحصوليّة من العقل فما دون ومنطقة الإدراك الحضوري هو القلب فما فوق، فهذه ثوابت لا بدّ من ملاحظتها دائماً.

نعم في بعض الروايات كما في رواية الصدوق في التوحيد عن الصادق في تعليمه لهشام بن سالم كيف يصف الباري مغايراً لوصف المخلوقين، أنّ الرؤية القلبيّة بعد عدم كونها من التحديد لا إشكال فيها وإن كانت دون الرؤية القلبيّة، وهذا مطابق البراهين الحصوليّة القائمة علي المعرفة الحصوليّة العقليّة.

ثمّ لا بدّ من بيان نكتة وهي أن تنزّل العلوم الحقيقيّة من العوالم العلويّة إلي العقل البشري، ثم منه إلي باقي قواه وهكذا إلي أن تتنزّل إلي الأدني، فهذا التنزّل لا يواجه مانعاً واحداً فقط، بل يواجه سيلًا من العوائق والموانع المحتملة، فهناك عوائق في أصل التلقّي عند العقل النظري، كما هو في الجربزة والبلادة. وفي كون الإدراك يولّد إذعاناً وفي كون الفحص عن المقدّمات يولّد إدراكاً لها والإدراك لها يولّد إدراكاً بالنتيجة، ثمّ في كون الإدراك للنتيجة يولد إذعاناً بها تسليماً، ثمّ إذا تولّد الإذعان والتسليم هل تنصاع بقيّة القوي إلي قوّة العقل العملي أم لا، إذن هناك كثير من العوائق والموانع المحتملة، كما يلاحظ أن النتائج الفكريّة التي يتوصّل إليها الإنسان إن كانت صائبة كلّها عبارة عن إلتقاطات أو تلقّيات من العقل البشري لما يستلهمه من العوالم الغيبيّة الفوقانيّة كما أن بين تلك الحقائق تفاوتاً شاسعاً.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 152

ومع هذه الحال كيف يؤمّن صدور أو سنّ تشريع وقانون متين ممّن لا تكون قنواته معصومة في جهازه الإنساني من أعلي قنواته إلي أدني قنواته؟ كيف يؤمن لمثل هذا في

تشريع وسنّ القوانين ويكون رضاه مظهر الرضا الإلهي وغضبه مظهر للغضب الإلهي؟ فغير المعصوم لا تكون لديه صلاحيّة للتسنين والتشريع؛ لأن التسنين والتشريع يجب أن يكون محيطاً بالحقائق أو ما يتلقّاه مطابقاً للحقائق الواقعيّة، ومعني كونه مطابقاٍ للحقائق الواقعيّة أنّه متنزّل من العوالم العلويّة عبر القنوات المعصومة من الزلل والخطأ، (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ) («1»)، وهو الذي يكون رضاه مظهراً للرضا الإلهي وغضبه مظهراً للغضب الإلهي ومظهراً للعزائم الإلهيّة حينما تكون كلّ حركاته وسكناته بلحاظ التأثّر من العوالم العلويّة.

وبتعبير آخر أنّ كلّ الدرجات الموجودة الدانية والوسطي والعالية هي في الواقع متأثّرة عن العوالم العلويّة، فمثلًا القوّة العاقلة عنده تدرك القضايا بالسلامة والمتانة والدوام والصواب، ثمّ بعد ذلك متابعة بقيّة القوي العمليّة الأخري من دون تشويش أو مشاغبة، كما مثّل في الكلام المجيد بالماء الإلهي عندما يفاض ماء العلم من العين الأزليّة ويجري في قناة الجهاز الإنساني، فيجب أن لا يتكدر ولا يتلوّث بالقنوات التي يمرّ عليها، ولو تلوّث وتكدّر فتذهب عنه زلاليّته ونفعه النابع من الصفاء، فلا بدّ من قناة مأمونة في جهاز وجودي إنساني عن تلويث ذلك الماء الزلال.

وبتعبير علمي دقيق، أنّه لا بدّ أن يكون التلقّي صحيحاً وسليماً، وأن لا تكون

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 153

القناة مسدودة- كالصمّ البكم العمي- بل علي الانفتاح علي الدوام والإتّصال بالعالم العلوي والجهات الغيبيّة، يكون المجري سليماً، كما تشير الآية إلي إختلال القنوات: (أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ) («1») فمن لا يكون رضاه رضا اللَّه وغضبه غضب اللَّه لا يمكن جعله مسنّناً ومشرّعاً؛ لأن تشريعه وتقنينه تتنازع فيه الموانع والإحتمالات والأمراض النفسيّة الكثيرة عن التلقّي أو التنزّل السليم ولا يكون ما سنّه من قضيّة

وحكم مطابقاً للواقع ومن ثمّ قالوا بأن الولاية التشريعيّة تابعة للمقام الخاصّ التكويني.

كما أنه لا بدّ من الإلتفات إلي أن هناك في درجات الإنسان مقامات أعلي أخري، فبعض أفراد الإنسان ليس له تجرّد فوق تجرّد العقل وليس له تلطّف في الروح فوق تلطّف الدرجة العقليّة، وقمّة التلطّف لديه الدرجة العقليّة وهي درجة العلم الوصولي، بخلاف درجة القلب فما فوق، فهي درجات العلم الحضوري، والإنسان إذا لم يكن له نوع من الرياضات الشرعيّة لتلطّف الروح والنفس عن المادون لا يكون له مقام القلب والسرّ والخفيّ والأخفي ولا تكون له درجات روحيّة ألطف فألطف، لا يكون له بعد ذلك صعود وجودي وكمال وجودي في دائرة الوجود. فهذه الدرجات حقل وباب مستقلّ للتعرّف علي الأمراض الموجودة في هذا القسم من الجهاز الوجودي لدي الإنسان والتي هي المراحل القلبيّة، فلا بدّ من التأمل في هذا الجانب في الأمراض الموجودة في درجات القلب من الجهاز الوجودي الإنساني وهي أعلي مراتب الوجودات.

الإنسان الذي يتعالي وجوده إلي مرحلة الصادر أو المخلوق الأول يكون متّصلًا بالصقع الربوبي، فلا يحجبه عن الصقع الربوبي والعلم الربوبي أيّ حاجب، فيكون

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 154

بصيراً بالواقع ومحيطاً بخصائص أكثر فأكثر.

وعلي كلّ حال فلا بدّ من المسنّن والمشرّع المفروض فيه أن يكون ذا مقام تكويني خاص والذي يصطلح عليه بالعصمة، كما لا يخفي أن في العصمة درجات ومن ثمّ إختلف الأنبياء، فبعضهم كان صاحب شريعة والبعض تابعاً لصاحب الشريعة وبعضهم كان من أولي العزم وبعضهم كان من غير أولي العزم وبعض أولي العزم شرائعهم دائميّة والبعض غير دائميّة. وهذا الإختلاف والتفاوت من الجانب الفوقاني والجانب اللمّي. نعم ما يذكر من أبحاث في تواريخ الدعوات الإلهيّين

إنّما يكون بحث من الجانب الإنّي، فما يقال من أن البشر تتكامل عقولها فتستغني عن الشريعة الدائمة دليل بنفسه علي الحاجة، لأنّ لازم التكامل هو الجانب اللمّي وأن تكامل العقول يدلّ علي أنّها بحاجة إلي مَن له قناة معصومة وإحاطة أشمل كي ينظّم لها ويبرمج لها صراط الأمان والنجاة.

ثمّ أنّه يفسّر الشرائع في محدوديّتها وعدم محدوديّتها بلحاظ أن الظروف والشرائط من حيث الوسع في الدائرة والضيق، وهذا الفارق في الواقع من الجانب السفلي والإنّي، وأمّا إذا نلحظه من الجانب اللمّي والعلوي فليس هو الفارق، فمثلًا هناك تعداد كبير من القضايا الحقيقيّة الصادقة الدائمة الحاكية عن الحقائق الواقعيّة الثابتة ولكن هناك أيضاً قضايا حقيقيّة مقيّدة غير دائمة، فالقضيّة العقليّة التي تتكفّل بالحكاية عن صنف من نوع معيّن في زمن معيّن في ما هي خصائصه ولوازمه وأحكامه، فهذه قضيّة حقيقيّة صادقة ولكن صدقها وحقيقتها محدودان بأمدٍ معيّن، وأمّا إذا اتّخذت قضيّة حقيقيّة صدقها أبدي أو أزلي أو دائم، فسوف تكون حقيقتها وصدقها أكثر سعة ودواماً وشرفاً؛ ولذلك يقولون من أن القضايا الحقيقيّة التي تعني بشؤون أو صفات الباري أكثر صدقاً من القضايا الحقيقيّة التي

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 155

تعني بشؤون المخلوقات ولو كان أشرف المخلوقات؛ لأن القضايا العقليّة التي تحكي عن أحكام الباري وعن الصفات التكوينيّة تكون جهة قضيّتها هي الأزل والأبد والسرمد للباري، بينما الجهات التي تكون في القضيّة التي تحكي عن الصفات. وأحكام الممكنات هي الضرورة بالغير لا بالذات، والضروريّة بالغير أقلّ صدقاً من الضرورة الذاتيّة الأزليّة، ولذلك نلاحظ الأشاعرة في قوله تعالي:

(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) («1») فهذا لا يعني أن كلّ غير اللَّه كاذب وإنّما المقصود منها أن محدودة ومنطقة الصدق

في قول اللَّه هي أكثر سعة من محدودة ومنطقة الصدق في قول غير اللَّه، أي المقصود منه أنه قد تكون القضايا الحقيقيّة تعكس عنه صدق متّسع أكثر دائرة وقد تعكس عن منطقة صدق أقلّ دائرة.

وفي هذا الوجه الثاني يتّضح لنا أنّ في الجهاز الوجودي الإنساني في النصف الأوّل منه في المراحل القلبيّة لا يكون في مطلق الأفراد سليماً ومأموناً، وإن كان علي ذي درجة عالية، فلا يكون مطلق الأفراد في السنن والتشريعات صائباً، بل إحتمال الخطأ والخضوع للنزعات النفسانيّة علي حاله. ومن ثمّ قالوا إنّ الولاية التشريعيّة تابعة للمقام الخاص التكويني وهي العصمة.

والوجهان المتقدّمان يدلّان علي أن صلاحيّة التشريع والتقنين للذي له المقام الخاصّ التكويني ويدلّان علي أنّ هذا المشرّع غضبه عاكس عن غضب اللَّه ورضاه فذلك الرضا والغضب والحركات والسكنات والإرادة والعزائم إلهي تشريعي، لكن الوجه الآتي دالّ علي ضرورة ذلك.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 156

الوجه الثالث … ص: 156

إنّ المعاني العقليّة وما فوقها من الحقائق لا ريب أنّها إذا تنزّلت في الإنسان الكبير وهو عالم الكون وكذا إذا أريد تنزل المشيئات للباري عزّ وجلّ- كما هو متسالم بين كلّ مدارس المعارف مطلقاً إجمالًا- أن تنزّل المشيئة الإلهيّة أو تنزّل العلم الربّاني الذاتي يتمّ بالعلم، ثمّ المشيئة، ثمّ الإرادة، ثمّ القضاء، ثمّ القدر بمعني الإبرام. فالإيجاد في عالم المادّة يتسلسل في ترتيب معيّن، فكذلك في الإنسان الصغير.

وبعبارة أخري، الترتيب في الإنسان الكبير بلحاظ عالم المادّة، وهذا الترتيب ليس في أفعال الباري لعجز منه تعالي وإنّما منشؤه عدم قابليّة وإمكان الممكن الموجودي لأن ينوجد إلّابتوسّط الترتيب المذكور، فليست القدرة الإلهيّة محدودة وإنّما المحدوديّة في الموجود للممكن. فعالم الدنيا بلا تقدير لا يمكن حدوثه، ولا بدّ من

تقدير قبله؛ لأنّ العالم المادّي الجسمي محدود فهو يحتاج إلي مادّة وغيرها من الشرائط، فنفس الموجود المتكوّن المادي طبيعته تستلزم له التقدير قبل تكوينه.

فخاصيّة الموجود المادّي أن فرض ذاته وإمكانه وفرض شيئيّته لا يمكن إلّابعد فرض سلسلة من أفعال الباري، فليس تدبير الملائكة في الإنسان الكبير أمراً إتّفاقيّاً واعتباطيّاً (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) («1») أي لهم نفوس كلّية مدبّرة وكيفيّة

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 157

إصدار تلك النفوس أفعالًا هي بهذا التنزّل أيضاً (علم- شاء- أراد- قضي- قدّر) هناك عدّة مراحل، فيتنزّل الأمر في عالم النفوس الكلّية، ثمّ في النفوس الجزئيّة، أي في العقل العملي، ثمّ مرحلة التردّي، ثمّ قوّة عمّالة أخري إلي أن يوجد ويصدر كونه، فقضي وقدّر وأراد وأبرم كما هو الحال في جهاز الوجود الإنساني، فكما في الإنسان الكبير الفعل يحتاج إلي المرور بهذه المراحل، وأن طبيعة الفعل والظاهرة الدنيويّة هي المرور بمراحل. والأمر الربّاني يمرّ بها- للقصور في جانب قابليّة الفعل لكي ينوجد- فيتنزّل إلي اللوح والقلم فيتنزّل إلي عالم الخلق.

إذا كان الحال كذلك في السنن التكوينيّة، فقس عليه قياساً عقليّاً لا إستحسانيّاً نزول الأمر التشريعي الإلهي، وإذا كان الحال في الإرادة والسنّة والإيجاد التكويني كذلك، فكيف الحال في الأمر التشريعي والإعتباري؟

هذا بيان مجمل لضرورة كون ماهيّة التشريع هي تقدير وتحديد وتدبير للأمر الكلّي المعلوم الفعلي ضمن الجزئيّات، فلا بدّ من فرض قوي مرتبطة ومتعلّقة بالجزئيّات، لكي يصدر التقنين والتسنين ولعلّ تسمية تشريع النبي بالسنّة لكونها عبارة عن السنّ أي التقييد والتطبيق لا التطبيق بمعني مع الإجزاء العملي الخارجي، بل بمعني التضييق وتنزيل الكلّي إلي مراحل أضيق فأضيق، لا أن يتوصّل إلي جزئيّ خارجي، ففكرة التشريع موكلّة إلي الكمّلين والمعصومين.

واتّضح من

الوجوه الثلاثة أن ذلك فطري، لأن التشريعات ليست كلّها من نمط وسنخ الكليّات المتنزّلة الوسطانيّة، بل القسم الأوّل الفوقاني منها كلّي مطلق من اللَّه تعالي، فهو تشريع ربّاني، وأمّا تقدير تلك التشريعات وما يسمّي بالتسنين، فتلك لمَن هو متعلّق ومرتبط بالجزئيّات كما هو الحال في السنن الكونيّة.

اصول استنباط العقائد و نظرية الاعتبار، ص: 158

إجمال من دون تفصيل:

العقل النظري يدرك لا بدّيّة دخالة الإرادة الأنفسيّة المخلوقة المعصومة عن تجاذب القوي النازلة وإلّا فسوف يكون تقنينها ناشئ من القوي النازلة وهو إنصباغ الأمر الإلهي بلون ما كدر وهذا خلاف الفرض، فلا بدّ من قناة مضمونة من أيّ تلوّن من الألوان النزوليّة، فكما في الأمر الكلّي الكوني لا يبقي علي كلّيته مثل المشيئة، بل لا بدّ من تنزّله بالإرادة والقضاء والتقدير لكي يوجد، وكما سبق ليس المحدوديّة والعجز في قدرة القادر بل المحدوديّة في قابليّة القابل وإلّا فمثل أن تفرض الجسم بدون الطول والعرض والعمق، فهو خلف الفرض فالترتيب عجز في الجسم لا في خالقه.

هذا بيان ثالث لكون الولاية التشريعيّة تتبع الولاية التكوينيّة وبيان لضرورة أن التشريع المتنزّل لا بدّ أن يوكل إلي المعصوم عليه السلام.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.