اسس النظام السياسي عندالامامية

اشارة

سرشناسه : سند، محمد، 1340 -

عنوان و نام پديدآور : اسس النظام السياسي عندالامامية تقريرا لما افاده المحقق آيةالله الشيخ محمد السند/ بقلم محمدحسن الرضوي، مصطفي الاسكندري.

مشخصات نشر : قم: باقيات، 1426 ق.= 1384.

مشخصات ظاهري : 368 ص.

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : اسلام و سياست

موضوع : اسلام و دولت

شناسه افزوده : رضوي، محمدحسن

شناسه افزوده : اسكندري، مصطفي، 1351 -

رده بندي كنگره : BP231/س84الف5 1384

رده بندي ديويي : 297/4832

شماره كتابشناسي ملي : 3042309

كلمة الأستاذ

بسم اللَّه الرحمن الرحيم و الحمد للَّه الذي قرن طاعته بطاعة رسوله وبطاعة ولاة أمره الذي يتنزّل ليلة القدر من عالم أمره.

ثم الصلاة والسلام علي المرسَل رحمةً للعالمين من البشر والكائنات والبيئات الكونيّة المحيطة في هذه النشأة والنشأت الأخري وعلي آله ولاة الأمر المعصومين و لا سيما علي المهدي الذي أبرز نعوته أنّه قائم بالأمر وليس قاعداً عن أمر الناس طيلة عشرة قرون من ستار غيبته لتحرّكه الخفي وأنشطته السرّية وشبكة منظومته النافذة المخترقة لأنظمة البشر في البلدان واللعن الدائم علي أعدائهم أجمعين.

إنّ البحث في النظام السياسي لمذهب أهل البيت عليهم السلام هو في الحقيقة بحث عن الإمامة الإلهية التي يقوم عليها الإيمان عندهم و هو في الحقيقة بحث عن وجه من الوجوه المهمة في شئون الإمامة، فإنّ كثيراً من البحوث حول الإمامة عند المتكلّمين يركّز علي جانب صفات الإمام مِن بُعد أشبه بالفردي بخلاف الحديث عن النظام، فإنّه الإلتفات إلي الإمامة كنظام اجتماعي سياسي وهذا البُعد أحد النظم والنظامات المرتسمة في هيكلية الإمامة، وقد أشار إلي مثل هذا البعد في الإمامة قوله تعالي: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ» فأشير في أبرز

تعريفٍ لخلافة التصرف والتدبير في النظام البشري الأرضي إلي حيلولة تدبير الإمامة من وقوع الفساد الأكثري

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 10

و سفك الدماء المستأصل لغالبية وجود النسل البشري، وكذلك إشارة الصديقة الطاهرة (عليها أفاضل الصلوات) في خطبتها في التأسيس المعرفي «وإمامتنا نظاماً للملّة … » فينبغي في تبيين الحقائق في معاني الإمامة الإلهية شرح الجانب المنظومي فيها بتوسط آليات علوم النُظُم في قراءة النصوص.

و من المهم في دراسة النظام السياسي الإجتماعي عدم الاقتصار علي الهيكل الإداري الرسمي للدولة السياسية، فإن ذلك لا يمثّل مسحاً كاملًا لذلك؛ بل ما هو إلّافصل من مجموع النظام العام، كما هو مقرّر حالياً في العلوم الإنسانية الإجتماعية والسياسية؛ فالبنية الثقافية بما تحمل من مكوّنات عقائدية وأعراف قانونية فقهية كرسوم وعادات متجذّرة في الهويّة الإجتماعية هي المحاور البنويّة لصرح النظام.

و علي ضوء ذلك فإن مواقع التدبير والقدرة في النظام لا تنحصر في نظام الدولة الرسمية؛ فإنّ ذلك الموقع وإن كان ذو دور فاعل هامّ إلّاأنّ هناك مواقع عديدة أخري مؤثرة أكثر باقتدار في النظام العام.

هذه الرؤية لبنية ومحاور وهوية النظام العام تضفي بظلالها علي قراءة كثير من النصوص الشرعيّة حول دور أئمّة أهل البيت عليهم السلام ودور الإمام المهدي- عجل اللَّه فرجه- في الغيبة الكبري الذي هو امتداد لدور الأنبياء والرسل في ضمن حلقات لسلسلة واحدة، وكذلك علي قراءة النصوص الشرعيّة حول دور الفقهاء في عصر الغيبة الكبري، ومؤثّرة في قراءة الدور الذي مارسه فقهاء الإمامية في قرون متطاولة.

كما وقد بات من المسلّم أكاديمياً في الأدبيات السياسية والإجتماعية تنوّع صور الحكومات والقوي المتنفّذة في إدارة النظام الإجتماعي السياسي، فلا تنحصر قدرة التدبير في الحكومة الرسمية المعلنة علي السطح فتنوّعت أسماء الأنواع

الأخري كحكومة الظلّ، و قوي الضغط، وحكومة الأعراف، وسلطة الأموال؛ فتنوعت الأنظمة الإجتماعية و السياسية إلي نظام المذاهب و نظام العشائر و نظام الديانات و نظام الطبقات و غيرها.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 11

إنّ أحد دواعي الخوض في هذا البحث و كتابته هو ما انطبع خطأً عند جملة من أبناء المذاهب الإسلامية الأخري و أهل الحلّ و العقد عندهم أنّ مذهب الإمامية حيث تبنّي في الآونة الأخيرة إقامة الحكومة الرسمية، فهو بمثابة الإعلان منهم بالتخلّي من اشتراط العصمة في الإمامة و القيادة السياسية العُليا و أنّ النظام آل عندهم بنائه علي قاعدة الشوري- بمعناها المقرّر عندهم و هي حاكمية الأكثرية، لا بمعناها القرآني و هي المداولة العلمية الفكرية و جمع الخبرات و المعلومات و الإنفتاح الفكري و العلمي و المعلوماتي- و أنّ هناك حالة تمذهب جديد و ظهور لمذهبية بازغة للتوِّ فيهم و هي و إن كانت غير محسوسة لدي الروّاد عندهم فضلًا عن أوساط قاعدتهم بنحو متميّز إلّاأنّ ظهور المذهبية في طبيعة بَدْوِها لا يُستشعر بها إلّاأنّها تأخذ في التنامي و الظهور و التشكّل و البروز كلّما تمادي المسار، فتبدء من إطار فكري مبتني علي متبنيّات عقديّة يرتكز عليها و لو بنحو الإبهام فتُضفي بظلالها علي المنهاج الفقهي و السياسي و منابع التراث و مستنداتها.

و كلّ ذلك الوهم ناشي ء من عدم القرائة العلمية العميقة إلي الأسس الإعتقادية التي يتبنّي عليها النظام السياسي عند الإمامية و كيفية تأثير تلك الأصول الإعتقادية علي طابع النظام السياسي، مضافاً إلي عدم تفرقتهم بين سعة دائرة الدين و الشريعة و ضيق دائرة النظام السياسي الإجتماعي و أنّ الإمامية متقيّدة في كلّ صغيرة و كبيرة بالكتاب و العترة و أنّ

موقعية حجّية العترة لديهم هي الحجّية الذاتية نظير حجّية الكتاب، لا كحجّية طريقية كفتاوي الفقهاء و أخبار الرواة، سواء علي مستوي المعارف الإعتقادية أو الفروع العملية و إذا كانت دائرة الفروع العملية أوسع بكرّات و مرّات من دائرة النظام السياسي، فضلًا عن دائرة المعارف الإعتقادية و الآداب و السنن، فكيف يتوهّم إنحصار موقعيّة الإمامة في ضيق تلك الدائرة فقط؟

فهذا الوهم الخاطي ء ناشي ء- في أحسن تقاديره لو حمل علي الصحّة- من السطحية في القراءة الأديانية و المذهبيّة و حقيقة موقعية الإمامة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام؛ فإنّ خليفة المسلمين بالفعل في العصر الراهن في إعتقاد الإمامية و الإمام المنصوب مِن قِبل

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 12

اللَّه تعالي إنّما هو المعصوم- و هو المهدي عجل اللَّه ظهوره علي السطح عياناً أمام الملأ- و أنّه الذي تنتهي إليه الولايات و الصلاحيّات و أنّ كلّ التشريعات العامّة و الأحكام و القواعد مأخوذة عن الكتاب و العترة، فأين تخلّي الإمامية عن ذلك؟ و هل نبذت الإمامية إتّباع أهل البيت و الأخذ عنهم بما هم أسباب إتصال بين الأرض و السماء و أنّهم الكتاب المبين الناطق الذي نصبهم اللَّه و رسوله قَيّمين علي المصحف، مبيِّنين للوح المحفوظ و الكتاب المكنون، لا بما هم رواة و فقهاء؛

فهل رَسي النظام العقائدي للإماميّة الراهن القائم في هذا اليوم إلّاعلي ذلك و علي معارف أهل بيت النبوة و كذلك نظام السنن و الآداب عندهم و نظام القضاء و نظام الفتيا و التشريعات العامّة و غيرها من الأنظمة و هل استحلّ أحد من علماء الإماميّة لنفسه نبذ ذلك؟ و رفع يده عن التمسك بكلّه؟

و هذا البحث في الحقيقة محاولة للقرائة الإعتقادية لأسس النظام السياسي الذي ترسمها

الإمامية في عصر غيبة الخفاء و السرّية لحركة الإمام المهدي- عجل اللَّه فرجه- و نشاطه و أن هذا الأساس كلّه مبنيّ علي النظام العقائدي عند أهل البيت عليهم السلام.

و أنّ مناعة البُني العقائدية في منهاج أهل البيت عليهم السلام يلجي ء التابعين لهم إلي البصيرة و الحصانة عن الإنزلاق و الإنتهاج إلي سبل الزائغة الأخري، فإنّ الذاكرة التاريخية تتحفظ لنا بمحن و امتحانات مرّت بها الطائفة من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام بقي فيها منهاج أهل البيت صلباً منيعاً لم تزلزله العواصف، بل إزداد تشعشعاً و وضوحاً و شَعَتْ معالمه بأنوار كشفت المبهمات و أنارت السبيل بجلاء واضح، كلّ ذلك لما اشتمل عليه هذا الدين من إعجاز في نسيج مكوّناته؛ كيف و قد وعد اللَّه بإظهار دينه و إتمام نوره.

و قد بحثنا عن منظومة السياسة و السلطة وفق معطيات الشيعة الإمامية و مكتب أهل البيت عليهم السلام في برنامجنا الدراسية و قد قام بتحرير و تأليف ما تداولناه من هذه البحوث كلّ من العلّامة النبيل السيّد محمد حسن الرضوي والعلّامة الفهّامةالشيخ مصطفي الإسكندري- أدام اللَّه تأييدهمالخدمة الشريعة الغرّاء والصراط الحق للفرقة الناجية- و هذا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 13

الكتاب بمثابة الحلقة الأولي التي ستتبعها بقية الحلقات بمشيئة اللَّه تعالي.

محمّد السند

قم المقدسة

25- محرم الحرام- 1426 ه

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 15

1إليكم

إنَّ جوهر الموقف الشرعي الشيعي من السلطة علي وجه العموم يستجلي ممثّلًا- بعد الكتاب و السنّة- في المصنفات الفقهيّة الشيعية التي لم تتناول في معظم الأبحاث السياسية إلّالماماً؛ فالسياسة الشرعية الشيعية بعدَ كون جذورها في الأصول الإعتقادية- خاصة الإمامة- هي موضوع فقهي و تتحدّد معالمها و أحكامها في المجال الفقهي.

و بدأنا رحلة شائكة لاقتفاء جذور الفقه السلطاني

الشيعي منذ عصر النص الي الوقت الراهن و حاولنا قرائة في الجذور من زاوية كلامية و فقهية لاستكشاف الأسس التي رسمها مكتب أهل البيت عليهم السلام في مجال النظرية و التطبيق.

و استفدنا لخطواتنا في هذه الرحلة الشائكة من إرشادات و إفادات شيخنا الأستاذ المحقّق الفقيه آية اللَّه الشيخ محمّد السند- حفظه اللَّه تعالي- و قد قمنا بتحرير أبحاثه الأنيقة لفتح باب جديد في التحقيق.

و قد تداول شيخنا الأستاذ عرض تلك المباحث ضمن حلقات دراسيّة و محاضرات و مقالاتٍ من سنة 1417 إلي سنة 1426 الهجرية و افتخرنا بتلقّي هذه الدراسات و تدوينها و تنظيمها بجهدٍ و تتابعٍ طوال تسع سنوات.

و أبواب و فصول الكتاب الإجمالية تنقسم بشكل رئيسي إلي مجموعة مباحث في الحكومةتارة و أخري في الحاكم و ثالثة في المحكوم.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 16

كما أنّها ستتوزّع المباحث في السلطات المتنوعة التشريعية و التنفيذية و القضائية و كذلك في سلطة الإعلام و سلطة الرقابة و في الثوابت و القواعد الأساسية في النظام الإجتماعي السياسي و نظام الحكم و منظومات الأنظمة المختلفة، كما سيتمّ التطرق إلي ضرورة الحكومة و الجدل الدائر حول ذلك في عصر الغيبة و حقيقة دور المعصوم في هذه الفترة و دور نيابة الفقهاء و حقيقة الشوري في الحكم عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام و أنّها بمعني إعتماد منهج الكيان و النظام الإستشاري و المؤسّسات العلمية أو أنّها بمعني سُلْطَوي لتحكيم إرادة الأكثرية المتغلّبة، كما سيتمّ استيفاء البحث في الفصول التي هي مثار جدل وسيع في عصرنا الحاضر من بحث حقوق الأقلّيات و المعارضة و اختلاف تشكيل الأحزاب و حقوق الإنسان و حقوق المرأة و العدالة الإجتماعية و العولمة.

و قد احتوي هذا المجلد علي

بابين يتضمّنان فصولًا في المباحث العامّة الكلّية في الحكومة و الحاكم.

و يعدّ هذا الجزء كالحلقة الأولي من هذه الموسوعة السياسيّة و نسأل اللَّه تبارك و تعالي أن يوفّقنا لإنجاز ذلك المشروع الضخم الثري و نستمدّ من صاحب الولاية الكبري الألهية أن يشرقَ مسيرتنا بأنوار البصيرة و يفيض علينا الحكمة الربانيّة و يجعلنا خادماً للشريعة، و آخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.

قم المقدسة/ ذوالحجة 1424 ه

محمّد حسن الرضوي

مصطفي الإسكندري 2

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 17

خطوات تمهيدية

اشارة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 19

إشارة … ص: 19

من الواضح أنّ الأسس التشريعية القانونية لأيّ مدرسة من المدارس- الإعتقادية أم السياسية- لا تكفي بمفردها لإعطاء صورة وشكل للنظام في أيّ حقل من الحقلات؛ سواء كان النظام السياسي أو النظام القضائي أو الحقوقي أو غيرها من الأنظمة، بل لابدّ علاوة علي تلك الأصول التشريعية الأولية الفوقية، من آليّات صياغية لأطر تتنزّل فيها تلك التشريعات علي واقع بيئة الموضوعات في ذلك الحقل؛ فتكون الصياغات القانونية متجاوبة ومتناغمة مع البيئة الموضوعية الراهنة؛ و تكون تلك الأطر والأشكال ومسارها التطبيقي إلي تلك الأصول التشريعية. فالنظام التقنيني في أيّ حقل لا يشترط ثباته مثل ما هو الحال من الأصول التشريعية وإنما هو مواكبة من الأسس القانونية للجانب المتغيّر في أطوار المعاش البشري ومسار التمدّن الإنساني.

و علي ضوء ذلك فيطرح السؤال بدرجة من الصراحة عن معالمِ نظامٍ سياسي علي وفق الأسس الإعتقادية والتشريعية في مذهب أهل البيت عليهم السلام و أتباعهم من الطائفة الإمامية الإثني عشرية ولِعطاء نبذة عن ذلك- والتفصيل والبسط سيطالعه القارئ في أبواب وفصول الكتاب- نشير بنحو الإقتضاب:

إنّ النظام السياسي المرسوم من قِبل أئمة أهل البيت عليهم السلام في فترة عدم تصدّي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 20

المعصوم علي المكشوف العلني للسلطة السياسية يتكوّن مِن منظومة من الأركان؛ و قد أشير إلي معالم هذا النظام من العمل بنحو الإجمال في جملة من الروايات عنهم عليهم السلام كما في التوقيع الشريف من الناحية المقدسة:

فإنّا نحيط علماً بأنبائكم و لا يعزب عنا شيئاً من أخباركم و معرفتنا بالإذلال الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلي ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً و نبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم، كأنّهم لا يعلمون، إنّا غير

مهملين لمراعاتكم و لا ناسين لذكركم و لولا ذلك لنزل بكم اللأواء و اصطلمكم الأعداء، فاتقوا اللَّه جلّ جلاله و ظاهرونا علي انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله و يحمي عنها من أدرك أمله و هي إمارة لأزوف حركتنا و مباثّتكم بأمرنا و نهينا، واللَّه متمّ نوره و لو كره المشركون.

اعتصموا بالتقية مِن شبّ نار الجاهلية يحششها عصب أموية يهول بها فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرم منكم فيها المواطن الخفية و سلك في الظعن منها السبل المرضية. «1»

فقوله عليه السلام: ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً؛

اشارة واضحة إلي المنهاج الذي خطّوه لنظام العمل في هذه الفترة و كذلك قوله عليه السلام: و سلك في الظعن منها السبل المرضية؛ و هو متضمن للتوصية بالإعتصام بهذا النظام المرسوم من قبلهم عليهم السلام و أنّ الإلتزام به ضمانة لبلوغ إنجاز الهدف.

و نظير ذلك روي عن أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام بعد ما بيّن النظام المرسوم من قبلهم عليهم السلام حيث قال:

و إنّهم لا يريدون بجائحة إلّاأتاهم اللَّه بشاغل إلّامَن تعرّض لهم. «2»

إنّ من مهامّ بحوث هذا الكتاب هو تسليط الضوء علي أنّ العمل بإقامة النظام

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 21

الإجتماعي الإيماني لا ينحصر في الصيغة السياسية المعلنة الرسمية و لا في الكيان للدولة الرسمية، بل إنّ آليات العمل و أطوار الأدوار لإقامة هذا النظام و الكيان تتّخذ أشكالًا عديدة و أساليب كثيرة و أدوات مختلفة و صياغات متنوعة و كلّ منها لا يقلّ في الأهميّة عن الآخر.

فإنّه قد توهّم أنّ النشاط و الحركة السياسية و الدينية منحصرة أو عمدتها هو في إقامة النظام السياسي في الساحة الرسمية و أنّ هذا

النمط هو الكفيل بتحصيل أنفذ مواقع القدرة، بينما الظاهر من مفاد الروايات الواردة عنهم عليهم السلام- و يشهد له جملة من أدبيات العلوم السياسية و الإجتماعية في الآونة الأخيرة- أنّ قوّة التحكّم و شدّتها، لها قنوات عديدة؛ مِن أهمّها و عمدتها هو مسار جميع الأنبياء و المرسلين و هو المسار الثقافي بما يتضمن من العقائد و الأخلاق و الآداب و القوانين و بناء الأعراف الإجتماعية بنحو المتجذّر علي ذلك و أنّ الأدوات الكفيلة بأداء ذلك غير منحصرة بالقنوات الرسمية.

بل إنّ هناك جملة من القنوات الطبيعية و التقليدية التي لا تحصي عدداً نافذة التأثير في إنجاز ذلك من دون أن يعني ذلك إغفال دور النظام السياسي الرسمي، كما أنّ الأخذ بنمط النظام العلني هو ذو عرض عريض من الأنحاء و الحالات و الدرجات و لك أن تتمثل بالتركيب الوجودي للإنسان الصغير و تقايسها علي المجتمع و الدولة، الإنسان الكبير.

ففي الإنسان الصغير الحقيقي، الفكر و العقل و العلم تتكفّله قوي تهيمن و تشرف علي فريق القوي النظرية و فريق القوي العملية و قوّة الرَّويّ و التدبّر التي هي قوّة ذات جنبتين عملية و علمية و هي التي تتكّفل بتدبير أفعال الإنسان و تسييس حركاته و سلوكه، هذه القوّة تتأثّر بمجموع من القوي العلمية و العملية الفوقانية عليها، كما تؤثّر فيها صفات الإنسان العلمية و العملية و الخَلفية الفكرية للإنسان و المعلومات التي زرّق لها و أنحاء العادات و العادات التي تربّي و نشأ و

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 22

ترعرع عليها و مدي آفاق العلم التي انفتح عليها و مَدي الدرجات الروحية التي رُوِّض عليهما إلي غير ذلك من العوامل و المؤثّرات الكثيرة. نعم قوّة الرَّويّ و التدبّر

تُسَيّس مادونها من القوي الغضبية و الشهوية و القوّة المحركة للعضلات و الأعضاء و الجوارح.

فإذا تبيّن تشكيلة هذا البناء الوجودي للإنسان الحقيقي و طبقات وجوده يتبيّن موقعية دور الأنبياء و المرسلين و خطّ الرسالة السماوية أنّه يقع في المواقع المتقدّمة الفوقية ليتمّ التحكّم في الطبقات النازلة و إن كان خلفاء اللَّه المصطفون لم ينفكّوا منذ أول الخليقة عن موقع قوّة التسييس بالنحو الخفي النافذ تحت السطح و قد عرف في الآونة الأخيرة أنّ الحرب و الغزو الثقافي من أخطر الحروب و أنفذ أنواع السيطرة في أدبيات العلوم السياسية.

و نلقي بعض الضوء علي أركان ذلك النظام:

منها: النيابة التي أذنوا فيها للفقهاء و العلماء التابعين لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، العارفين بعلومهم، العاملين بوصاياهم و تعاليمهم؛ و هذه النيابة هي بنحو إستغراقي شمولي لكلّ من تتوفّر فيه في الشرايط اللازمة «1»؛ فإنّه يُخوَّل له تلك الصلاحيات المفوّضة مِن قبلهم عليهم السلام في النظام الإجتماعي للمؤمنين؛ و هذه الشمولية المفوَّضة ثابتة لكلّ منهم بنحو الإستقلال، لكن في ظلّ النظام المجموعي للمؤمنين، فعموم النيابة ليس بنحو العموم المجموعي و لا العموم البدلي بنمط صرف الوجود و هذا يخلق نحواً من التعددية و المشاركة بنحو التكثّر.

و لو أريد بيان ذلك بمثال فهو بنحو الملكية المشاعة في التصرف بين أفراد علي العين الواحدة من دون لزوم تصادم أو تعارض بينهم في حين أنّ البيئة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 23

الموضوعية هي بيئة مجموعية و جماعية و لكنها تختلف عن الملكية في الأراضي المفتوحة عنوة مثلًا، حيث أنّها بنحو الملكية المجموعية الجماعية فليس هذا التفويض في الصلاحيّة النيابية بنحو الشوري بالمعني المطروح لدي أهل سنة الخلافة و هي حاكميّة الأكثرية و لا بنحو

صرف الوجود في الشمول البدلي بحيث يؤدّي إلي استبداد اول فرد تتوفّر فيه الشرائط بهذه النيابة و هذه الصيغة هي من خصائص العموم الإستغراقي المتمّيزة عن خصائص العموم المجموعي و العموم البدلي.

و السرّ في كون عموم النيابة المفوَّضة للفقهاء و العلماء من مدرسة أهل البيت عليهم السلام أنّ طبيعة هذا النظام الإجتماعي للمؤمنين- و هو ما يعرف بالطائفة الإمامية- الذي هو الموضوع و البيئة الأرضية لهذه النيابة، أنّ طبيعة العمل المرسوم من قبلهم عليهم السلام لا يتحقق القيام بعهدته و كاهل مسئولية إلّابنحو الكثرة الكاثرة المتعدّدة، لا سيّما أنّ نظام العمل المرسوم يقتضي التنوّع و المراقبة المتبادلة- التواصي- و التكافل و لاسيّما بعد عدم وقوف هذه البيئة عند حدود جغرافية و لا حدود قومية أو عرفية و لا عند حدود قطرية، بل هي منتشرة المدي و المدار بحسب سعة إنتشار الإيمان في أفراد البشرية، كما سيتبين ذلك تفصيلًا في فصول الكتاب.

ومنها: المسئولية الملقاة علي عامّة المؤمنين المكلّفين من المشاركة في إقامة الوظائف العامّة و إحراز شرائط النّواب، كما هو الحال في خطاب «وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ» «1»،

«لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» «2»،

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 24

«كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلي أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ» «1»، «كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» «2» و غيرها من الخطابات.

فإنّ المؤمنين مخاطبون بها لا مِن بُعد التدبير و الإدارة و الإشراف القيادي، فإنّ هذه الجهة و البُعد مخصوص بولاة الأمر المطهرين، بل عامة المؤمنين مخاطبون بها من بُعد المشاركة و التعاون مع ولاة الأمر المطهرين أصحاب الأمر في ليلة القدر و الرقابة علي الجهاز الحاكم و علي كلّ جهة دينية و مدنية فاعلة في النظام الإجتماعي و السياسي

و الديني و الثقافي في مجتمع المؤمنين؛ و إلي هذا المفاد مودّي الآية:

«وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» «3»

و كذلك قولهم عليهم السلام خطاباً للمؤمنين:

أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا.

فَوَجَّهَ الخطاب بمسئولية الرجوع إلي عامّة المؤمنين. و أيضاً:

إجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا فانّي قد جعلته عليكم قاضياً. «4»

و غيرها من الروايات.

و منها: دور أهل الخبرة في الموضوعات المختلفة، فإنّ حجّية أهل الخبرة في كلّ مجال و موضوع ممّا تسالم عليه علماء المذهب.

و هذه الحجّية مستفادة من جملة من الآيات التي تشيّد العلم و أهله ممّا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 25

يقتضي- بالدلالة الإلتزامية- بالحجّية إلايمائية و الإشارية، فضلًا عن السيرة الممضاة و هذه الحجّية الطريقية لاتقتصر في صياغتها علي الكاشفية، بل هي متنوعة بتنوّع الحجّية في الأقسام النظرية و العملية، أي جانب الخبرة النظرية و الخبرة العملية و الجانب العلمي و الإداري و غيرها من قوالب الحجّية. و هذا نمط من مشاركة شرائح عموم المؤمنين.

و منها: الوظائف الكبري المرسومة من قبلهم عليهم السلام فضلًا عن توصيات الكتاب و السنة و كبري تلك الوظائف نشر و ترسيخ العقائد الحقّة الحقيقية الواقعية و هداية و ارشاد البشرية إليها و هو ما يعرف اليوم بالمسئولية الثقافة و ما تقوم بشطر من عهدتها وزارة الثقافة و التربية و التعليم العالي في الحكومات الرسمية المعلنة و كذلك وزارة الإعلام، بل سلطة الإعلام التي هي سلطة رابعة في مقابل السلطات الثلاث، لكن هذا الدور لا يضيق و لا ينحبس و لا يقتصر فيه علي أداء الحكومات السياسية.

و يشير إلي

هذا الدور و خطورة موقعيته قوله تعالي:

«وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» «1»

فَنَبَّه تعالي علي أنّ أهمّ أدوار الإمامة هي الهداية، كما أنّ أبرز أدوار النبوة هي الهداية بنحو البشارة و النذارة، كما في قوله تعالي:

«إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» «2»

«رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ» «3»

«إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» «4»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 26

و منها: نشر الأحكام الشرعية و الآداب الدينية و الأخلاق المحمودة من جهة العلم بها و زيادة مستوي الوعي الثقافي بها و ترسيخ دائرة العمل بها و كلّ ذلك نوع من الثقافة و الوعي القانوني الشرعي الذي يوطّي ء للوظائف الأخري و يؤكّد عليها الكتاب و السنّة.

و منها: بناء الأعراف الصالحة القويمة التي يعبّر عنها بالقانون المفعَّل و التي تفوق القوانين المدوَّنة نفوذاً و تأثيراً و التزاماً من قِبل المجتمع و أشدّ في التقيد بها في النظام الإجتماعي من القوانين المدوَّنة و هي عبارة عن بناء عينيّة النظام الإجتماعي حقيقة و النظام المدني.

و منها: سلطة القضاء و فصل النزاع و الخصومات من دون انحصار ذلك بآليّة القنوات الرسميّة ضرورة، فإنّ الرجوع إلي القنوات التقليدية في العرف الشرعي الإجتماعي أسهل مَنالًا و أسرع وصولًا من عقبات المقررات الإدارية الرسمية المعقَّدة، بل إنّ في جملة من الموارد يتمّ الفصل بالمصالحة أو الإحتكام إلي القوانين الأولية و هي الفتاوي و قد اضطرّت الأجهزة الرسمية القضائية في الدول الرسمية إلي الإستعانة بهذه الآليات التقليدية تفادياً عن تضخمّ الركام المكدّس من ملفّات النزاعات الجنائية أو المدنّية بعد عدم قدرة النُظُم القضائية الرسمية الحديثية عن القيام بكافّة هذه الأدوار.

و منها: انشاء بيت المال و صندوق الخزينة للطائفة من الخمس و الزكاة و غيرهما من الموارد

عبر القنوات و الآليات التقليدية بعيداً عن القنوات الرسمية التي تسيطر عليها الأنظمة السياسية و هذا ممّا يُعطي نمطاً من استقلالية المالية للطائفة عاشته منذ القرون الأولي في عهد أئمة أهل البيت عليهم السلام إلي يومنا الحاضر ممّا يضمن استقلال الإرادة عن الأنظمة الوضعية.

و كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام:

أمنن علي من شئت تكن أميره و احتج إلي من شئت تكن أسيره، و استغن

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 27

عمن شئت تكن نظيره. «1»

فلا زالت الطائفة مؤيّدة مسدّدة علي جادّة الحقّ بحفظ تعزّزها عن الرضوخ لإرادات الأنظمة السياسية و بلاط الحكومات.

و منها: المشاركة في الأنظمة الوضعية بقيام ثلّة من المؤمنين بذلك- كَثُر التعداد أم قلّ- مع التشدّد علي جملة من الشروط الهامّة في ذلك، أوّلها أن لا يكون في ذلك إعطاء الشرعية لأنظمة الوقت و أنشطتها و بأن لايستند النشاط الممارِس مِن قِبل المؤمنين المشاركين إلي المذهب و مسار الشرعية فيه.

و بعبارة أخري: لا تتبنّي عموم طائفة المؤمنين شرعية ذلك النظام الذي حصلت فيه المشاركة و المراد بسلب الشرعية عن تلك الأنظمة هو أنّ سلوك تلك الأنظمة لا يلصق بالدين القويم و بمنهاج أهل البيت و طريقتهم عليهم السلام، فالبون شاسع بين النظرية و التطبيق، إذ لا تطابق بينهما إلّاعند النبي صلي الله عليه و آله و سلم و أهل بيته المعصومين عليهم السلام لأنّهم القرآن الناطق و سيرتُهم و سياساتُهم وحيانيّة، كما قال تعالي:

«ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوي* وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوي* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحي* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوي» «2»

و قوله تعالي:

«إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «3»

و هو ما يتنزّل في ليلة القدر من برامج

و أنظمة في التدبير كلّية و جزئية لاتغادر صغيرة و لا كبيرة، فَعَلي مستوي العمل و السلوك و السيرة و السنن لا يتواجد الشرعية المطلقة إلّافي النبي و أهل بيته عليهم السلام، بل إنّ سيرة النبي و أهل

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 28

بيته عليهم السلام ذات قيمة موضوعية ذاتية في رسم الميزان و منهاج الصواب، و أمّا في غيرهم فالمحكَّم هو الميزان و قواعد الشرع المبين؛ و من ثمّ كان هناك تشدّد بالغ في توصيات أهل البيت عليهم السلام علي فصل مسار الشرعية عن مسار الأنظمة الوقتية ليظلّ الميزان و القسطاس رقيباً علي المسار الثاني و ليكون المسار الأول مرجعاً يحتكم اليه و يُقاضي إليه أصحاب المسار الثاني و لئلّا تتحكم السياسات الوقتية و مصالح الحكومات في تغيير هويّة الميزان و حقيقة العدل و قواعد الحق عمّا هي عليه.

و من ثمّ كانت المشاركة بمختلف درجاتها قوّةً و ضعفاً و بمختلف أشكالها و أنماطها لا تحمل إسم الشرع و لا تنسب إلي ذمّة الشريعة و لا إلي عهدة الدين. و هذا الشرط فيه من التّحفظ و الصيانة للدين عن التغيير كما فيه من الحماية و الوقاء لبيضة الدين و معالمه عن الإندراس.

و الشرط الثاني في المشاركة هو الإصلاح بقدر الوسع و إقامة الحق و العدل و عدم السعي في الفساد و الظلم و العدوان و البغي و المنكر و الفحشاء و سفك الدماء المحترمة و هتك الأعراض الخَفِرة و للمشاركة فيها، و غير ذلك من الشروط الأخري.

و منها: الوحدة في الرؤية و التعبئة باتجاهها بمراقبة الأمر العام و الأمور الذائعة، فإنّ الذيوع و الإفشاء و الإنتشار لأيِّ شي ء أمر بالغ النفوذ في الموقف و المسيرة لجماعة

المؤمنين سواء في الحقل الفكري و الإعتقادي و الأخلاقي أو الأمني و السياسي و التي تتّخذ من أدوات التحسين و التقبيح، و التخطئة و التصويب، و التصحيح و التغليط، و التحذير و الإثارة، و التطمين و الإرعاب، و التشويق و التنفير، و المدح و الذم، و التشجيع و التهديد، و الموادّة و العداوة، و غيرها من نوافذ هذا الباب و التي يتمّ من خلالها تغيير الأعراف و السنن و الأفكار و العادات و التقاليد.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 29

المحاور المهمّة في النظام السياسي … ص: 29

اشارة

المحاور المهمّة في النظام السياسي

إنّ من المحاور المهمّة المثارة في تدوين النظام السياسي في الأدبيات السياسية والقانونية هو جملة من المحاور:

الأول: مدي ومدار حاكميّة السماء والقانون الإلهي في مقدّرات نظام الحكم وكذلك الحاكم المفوّض إليه صلاحيّة الحكم.

الثاني: مدي مشاركة الأمّة في مسار الحكم والحكومة والنظام السياسي والدور المفتوح لها.

الثالث: مؤدّي النسبة والتناسب بين المحورين السابقين علي صعيد السلطات الأربعة في الحكم: السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية والسلطة الإعلامية.

المحور الأول: العناصر الأساسية في حاكميّة التشريع الإلهي و صلاحيّات الحاكم المفوّض إليه الحكم … ص: 29

و يتضمّن هذا المحور بيان أسس الثبات في أصول التشريع وفي مصدر صلاحيّات الحاكم في الحقول المختلفة في الأنظمة الإجتماعية والسياسية وهذه العناصر مؤثّرة لا محالة في شكل وإطار النظام السياسي مهما فُرض تغيّره وتكييفه بحسب الأطوار البيئيّة لحياة البشر.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 30

و بعبارة أخري: إنّ القضية القانونية أو الفقهية المحكَّمة في بنود أيّ نظام سياسي أو إقتصادي أو غيرهما تتشكّل من محورين أساسيين:

محور الموضوع أو المتعلّق للحكم و محور المحمول أو الحكم.

و القضية تتألّف من هذين الجانبين بإطارها وشكلها، إذ مجموعهما هو المكوّنات الأساسية للقضية وهذه القضية والقضايا القانونية والفقهية يمكن فرضها علي صعيد كلّ المحاور التي تقدّم تعدادها؛ فتفرض علي صعيد السلطة التشريعية والقضائية والسياسية والإعلامية.

و القضايا هي الراسمة لشكل النظام والأنظمة في الحقول المختلفة وعلي ضوء ذلك يتبيّن أنّ هناك مشاركة بين المحمول والموضوع في رسم القضية ورسم إطار النظام، فَبُعدُ المحمول- الذي هو الحكم- يمثّل جانب الثبات وبُعد الموضوع يمثّل جانب المتغيّر.

أما بيان تعداد عناصر الثبات، فمن البديهي أنّ ثبات الشريعة يَعني ثبات الأحكام وبالتالي ثبات المحمول وذلك حسب سلسلة مراتب الحكم بدءاً من الأصول القانونية الفوقية إلي أن تصل إلي سلسلة بقية الأحكام المتنزّلة منها، حتي تعود الأحكام في الطبقات النازلة إلي

كونها أحكاماً ولائيّة أو ما يعبّرسياسية و الذي يراد به التطبيق الوقتي الراهن للأحكام الثابتة وطبيعة التطبيق لا يأخذ جانب الثبات ومن ثمّ يسمّي حكماً وَلَويّاً أو حكماً سياسيّاً، أي سُيّسَ فيه تدبير الموضوع لتطبيق الحكم الثابت المناسب له.

أما شرائط الحاكم فلا ريب بحسب الأدبيات الدينيّة أنّ مصدر الولايات والقدرات والسلطات ومنبع الصلاحيّات هو منه تعالي، ثمّ منه تعالي إلي النبي صلي الله عليه و آله و سلم ومنه صلي الله عليه و آله و سلم إلي المعصومين عليهم السلام أي إلي المهدي- عجل اللَّه تعالي فرجه- و هذه الولاية فعليّة له في عصر الغيبة وستارها وحجابها وعدم تصدّيه في الظاهر العالَمي لا يعني عدم تصدّيه في الواقع الخفي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 31

و من ثمّ تكون الصلاحيّة مفوّضة للفقيه والمجتهد نيابيّة محدودة غير بديلة عن ولايته- عجل اللَّه تعالي فرجه- بل قائمة بولايته- عجل اللَّه تعالي فرجه- و سيأتي أنّه عليه السلام و كذا الأئمّة عليهم السلام من قَبْله رسموا شرائط خاصّة لِمَن له تلك الصلاحيّة النيابيّة و إنّهم فوّضوا إحراز تلك الشرائط في المصاديق إلي الأمّة ويشير إلي هذه الطولية قوله تعالي:

«أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1»

و مفاد الآية يشير إلي المراتب الثلاثة الأولي: أي ولاية اللَّه وولاية الرسول و ولاية المعصومين.

و يشير إلي المرتبة الرابعة النيابية قوله تعالي:

«إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُديً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ» «2».

حيث جعل الأحبار في الرتبة المنشعبة عن مرتبة الربّانيين وهم المستحفظون الوارثون للكتاب الإلهي، أي الأوصياء المعصومين.

و من المهمّات الإلتفات إلي مغلوطة منتشرة في أذهان جملة من نخب

المذاهب الإسلامية الأخري تجاه الإماميّة بأنّهم في الغيبة الكبري قد تبدّلت رؤيتهم في شرائط الحكم والحاكم، فقد رفعوا اليد عن لزوم العصمة في الإمام الحاكم وبنوا علي صحّة الشوري في الحكم، وعلي ضوء ذلك فقد آل أمر الإماميّة- حسب وهمهم- إلي ما عليه أهل سنّة جماعة السلطان والخلافة من شورويّة الحكم وانتخاب الحاكم.

و هذه الذهنية المقلوبة عن تنظير الحكم وتعيين الحاكم ناشئة عن بعض التعبيرات الواردة في جملة من الكتب المؤلّفة أخيراً في الأندية العلمية بأنّ الإمام

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 32

المهدي- عجل اللَّه تعالي فرجه- ليس متصديّاً بالفعل لإدارة وتدبير الحكم السياسي، و أنّ الغيبة بمعني الإقصاء والذهاب و زوال الحضور عن الساحة؛ فهو- عجل اللَّه تعالي فرجه- ليس بحاضر حالياً في الميدان و ليس متصرّفاً في الأمور. بل في بعض التعبيرات إنّ الإمامة السياسية لا تكون فعلية إلّابالبيعة والتصدّي العلني الرسمي؛ و ما في بعضها الآخر أيضاً من أنّ الشوري قاعدة للحكم عند عدم النص و في الغيبة، حيث انه- عجل اللَّه تعالي فرجه- لم يتصدَّ فهو بمنزلة انعدام موضوع النص، وغيرها من التعبيرات التي لا تتسق و لا تنسجم مع مفهوم الإمامة الإلهية التي يؤصّلها القرآن والسنّة كعقيدة أساسية في حصول الإيمان، فإنّ الآيات والروايات المتواترة كلّها علي أنّ الأرض لا تخلو من حجّة و إلّالفسدت و ساخت، لأنّ اللَّه جعل بنحو دائم في الأرض خليفة، كما هو مفاد الآية الشريفة:

«إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ» «1»

فغاية هذه السنّة الإلهية الدائمة هي الممانعة عن وقوع الفساد، أي عن إطباقه علي الأرض و لكي لا يستأصل النسل البشري، والآية تقضي بأنّ من أبرز خواص الخليفة

في الجعل الإلهي هو قيامه بتدبير النظام البشري وإصلاحه بنحو يتفادي عن وقوع المحذور الذي اعترضت به الملائكة، فكيف يفرض ارتفاع وانعدام ذلك الخليفة؟ و هل عدم العلم بهويّة الخضر عليه السلام دليل نافٍ لوجوده ودوره الفاعل الذي أشارت إليه سورةالكهف، و هل الإمامة الفعلية لإبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السلام التي عهدها الباري تعالي لهم و حكي شيئاً عنها ما سطّره التاريخ الذي لا يتناول في غالب ما يؤرّخه إلّاما يطفح علي السطح وما يتّخذ شكلًا معلناً، كما هو دأبه في العصر الراهن حيث لا يقيّد القلم إلّاما هو ظاهر مكشوف لا ما هو

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 33

خفي مستور، لكن مع ذلك شهد للنبي إبراهيم عليه السلام أيادي عظيمة علي البشرية حيث طهّر عقل وروح الإنسانية عن الوثنية وعبادة الكواكب وبقية ملل الشرك إلي نور التوحيد والملّة الحنيفية، وهل ذلك يتمّ بنحو عفوي وبعمل فردي أم هو بإدارة و تدبير منظومة تدير دفّة النظام البشري، فإنّنا نشاهد أنّ التغيير الثقافي و لاسيما الإعتقادي لا يمكن بسهولة، فكيف تسنّي ذلك للنبي إبراهيم عليه السلام من دون نظام نافذ في المجتمعات البشرية ولو بنحو خفي متستر.

و كذلك الحال في ما يقصّه لناالقرآن المجيدفي سورةالكهف من نشاط الخضر عليه السلام عند لقاء النبي موسي عليه السلام معه وكانت أفعاله في الصميم تأثيراً علي منعطفات المسار البشري، وكلّها ضمن برنامج إلهي معهود بتفاصيله، يقوم بدوره ضمن مجموعات بشرية معهود إليها ذلك كما ذكره تعالي: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» «1» فقال: «مِنْ عِبادِنا» الذي يشعر بأنّه في منظومة العبّاد.

و كذلك منظومة الآيات والسور الواردة حول ليلة القدرو ما يتنزل من

إحصائيات و استبيانات عن مستقبل كلّ شي ء «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «2» «من كل أمر» «3» و هذا التقدير والتحديد الذي لا يتخلّف عنه مستقبل الأشياء تتنزّل هذه المعلومات الخطيرة علي من اصطفاه اللَّه من العباد لإدارة نظام البشر «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» «4»

و هذا البرنامج يتجدّد في كلّ عام، بل ظاهر بعض الآيات و صريح جملة من الروايات أنّ من فصوله تجدّده كلّ أسبوع، بل كلّ يوم. و هذه الحقيقة إذا تقرّرت،

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 34

كما سيجدها القارئ في الكتاب، سوف يسلّط الضوء علي كيفية ارتباط هذه الواقعية مع انشعاب جميع الصلاحيّات في الأبواب القانونية والفقهية في مذهب أهل البيت عليهم السلام من مركز الصلاحيّة و الولاية و هو المعصوم عليهم السلام وأنّ كلّ كيان و نظام و فصل من فصول ونظامات النظام الإجتماعي السياسي لأتباع أهل البيت يستمدّ من ولاية المهدي- عجل اللَّه تعالي فرجه- الفعلية الراهنة سواء علي صعيد النظرية أم علي صعيد التطبيق والتنفيذ والإجراء.

و من الأساس التشريعي الثابت هو المشاركة وهو المعروف بقاعدة الشوري لا بالمعني الذي انتهج في السقيفة ومذاهب السنة، بل بالمعني المتبنّي من مذهب الإمامية؛ فإنّ مؤدّاها تحكيم الحقيقة والوصول إليها عبر الطريق المدلَّل عليه المبرهَن وهو الذي يحكَّم علي الآراء، سواء كانت أكثرية أم أقلّية.

فقاعدة الشوري في مذهب الإمامية، هي حاكميّة العلم والفحص عنه علي الآراء والميول والأهواء و حاكميّةُ العقل كذلك وهو عين مفاد الحديث الشريف و هي «أعقل الناس من جمع عقول الناس إلي عقله» و هو شعار آخر الحضارات التي توصّل إليها البشرية والنمط التمدّني الذي انتهت إليه وهو حضارة المعلومات والعِلم الجمعي والعقل الجمعي لا

الأهواء والميول الجمعية والنزعات الهيجانية النفسية الجمعية، بل المدار علي العلم والعقل المتوزّع في المجموع.

و هذا المفاد لقاعدة الشوري في مذهب الإمامية يطابق قاعدة أخري لديهم و هي الحسن والقبح العقليان الذاتيان للأشياء، حيث أنّ مؤدّي هذه القاعدة الثانية هو أنّ الحُسن للواقعيات أو القبح لا يتأثّر بالآراء وليس هما أمران تصادق عليهما الأكثرية ولا يتولّدان من تباني الأكثرية عليهما، بل هما ينبعان من حاقّ الواقع؛ فالنظام المالي العادل حَسَن وإن صَوَّبَتْ الأكثرية بما يخالفه وكذلك في مثل النظام النقدي والقضائي والحقوقي، فعدالة الأشياء لا ترتهن برأي ولا بادراك الأكثرية ولا الأقلّية، بل بحسب الواقع الخارجي للحقائق. و يتمّ تحقيق هذا الأصل عبر

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 35

اتخاذ هياكل وقنوات وآليّات متناسبة مع كلّ عصر ومكان وبلاد.

و حجية قولهم في الموضوعات من المسلّمات الفقهية في جميع الأبواب إلّا ما خصّه الدليل كموارد العقوبات الجنائية (الحدود) وغيرها وهذه الحجّية في الحقيقة وإن كانت طابعها علمياً وطريقياً واحرازياً إلّاأنّه سيأتي أنّ حجيّة الإحراز و الإثبات، لها طابع القدرة والسلطة والنفوذ. و علي أيّ حال فلابدّ للحاكم بالنيابة عن المعصوم أن يستعين في سلسلة مراتب وفقرات نظام الحكم بأهل الخبرة من كلّ مجالٍ؛ و قد أشار عليه السلام إليه في عهده إلي مالك الأشتر.

المحورالثاني وهذا يتألّف ويشاهد في عدّة أبعاد: … ص: 35

أوّلها: عملية انتخاب الحاكم … ص: 35
اشارة

و هذه العملية ليس في حقيقتها توكيل من الأمّة للحاكم ولا تولية منهم إليه، بل صلاحيّة الحاكم منشعبة من ولاية و صلاحيّة الإمام عليه السلام. إلّاأنّه قد فوّض إليهم إحراز وتعيين الواجد لتلك الشرائط.

فحقيقة الإنتخاب ترجع إلي الكاشفية والإحراز وإعطاء حجية الكاشفية وإن لم يكن إعطاء ولاية الأمّة وسلطة وملكية القدرة إلّاأنّ حجية الكاشفية وتشخيص المصداق، حيث أنّها لازمة الإتّباع والإنقياد لها، فهذا لونٌ من

ألوان الولاية والسلطة وإن كان بنحو شفّاف ضعيف.

وهذا الدور تقوم به الأمّة إبتداءً ويظلّ مستمراً للزوم إحراز بقاء الصفات وهذه النظرية من الإنتخاب تَبَنّاها المذهب العقلي في القوانين الوضعية البشريّة حيث أنّ أتباع المذهب العقلي يقرّرون أنّ أخذ الشرائط في الحاكم وأيّ مدير ذوصلاحيّة في النظام السياسي وغيره في أيّ درجة وسطح- هو بحكم العقل

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 36

سواء الفطري أم التجريبي- وبالتالي فهي حاكميّة للعقل علي إرادات آحاد الأمة. «1»

حجّية قول أهل الخبرة في الموضوعات … ص: 36

و علي ضوء المدرسة العقلية الوضعية تكون حقيقة انتخاب الأمّة هي كشف المصداق والمورد الواجد لتلك الشرائط التي يُخَوّل العقل الصلاحيّة للحاكم، فالصلاحيّة عندهم منْبَعها بالذات هو الحكم العقلي.

و إذا تقرّر هذا في رأس الهرم، فيتقرّر في ما دونه من مراتب إدارة الحكم من المُدَراء، فللُامّة بحسب الآليّات العصرية متابعة واجديّة الولاة والمُدَراء لشرائط الكفاءة إبتداءً و بقاءً.

اٌلبُعد الثاني: حجّية قول أهل الخبرة في الموضوعات … ص: 36

وهذا سارٍ في طبقات المراتب المختلفة في النظام السياسي وغيره وبالتالي مشاركة من النخبة في مسيرة نظام الحكم؛ بل إنّ الفقيه و المجتهد لا يَنْفَذُ حكمه إلّابضميمة قول أهل الخبرة في كلّ موضوع لكلّ مجال و مورد. و هذا نحو من المشاركة في القرار و الحكم.

و حجّية أهل الخبرة من المسلّمات الفقهية وهذا المعني هو أحد مؤدّيات مفاد نظرية الشوري عند مذهب الإمامية؛ حيث إنّ الصحيح من معناها هو مداولة الآراء والوصول إلي الحقيقة والصواب لا أنّ مؤدّاها سلطة الأكثرية وسطوتهم علي الأقلّية.

البُعد الثالث: مراقبة الامّة … ص: 36

لكلّ نظام الحكم من رأسه إلي طبقاته المتوسطة إلي فروعات قاعدته و شُعَبها ونجد جذر هذا التشريع متأصّلًا في النهج الديني بدءاً في اولي خطواته، فإنّ الإعتقاد بالنبوة والإمامة والمتابعة والإنقياد لهما عليهما السلام مشروط بإحراز الأمّة عبر المعجزة والدليل العلمي اتصافهما بهذين العنوانين فضلًا عن بقية المراحل النهج الديني.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 37

و من نماذج و أنحاء مراقبة الأمّة و ممّا يشير إلي هذه الصلاحية للأمّة ما قرّر في مباحث المعارف الدينية من حجّية العقل ولو بنحو محدود مقيّد باليقينيات؛ فإنّ ذلك يُعطي مؤدّي نحو مشاركة للأمّة بما لهم من عقل في النظام الديني علي صعيد التنظير والتطبيق.

و من نماذج مشاركة الامّة محاسبتها و متابعتها لمسيرة الحكم ويشير إلي ذلك أيضاً قوله تعالي:

«وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «1»

و في هذه الآية إشارة إلي عموم ولاية الناس لا في إعطاء الحاكم الولاية، فإنّ ولاية الحاكم بمقتضي الآيات العديدة للَّه ولرسوله ولأولي الأمر من ذي القربي، بل ولايتهم في المراقبة والمحاسبة والنظارة علي مسير الحكم وهو ما قد يعبّر عنه بالنصيحة.

و في الآية إشارة إلي

نموذج آخر من مشاركتهم وهو دركهم لما هو المعروف ولما هو منكر وسعيهم لإقامة الأول وإزالة الثاني؛ فإنّ الأمّة و إن كانت محكومة بالحاكم إلّاأنّ المحكوم بدوره و نوبته هو الطرف الآخر في فعل الحكم الذي لابدّ من فرض فعله، كي تتمّ عملية فعل الحكم؛ فبذلك اللحاظ والحيثيّة يكون علي الأمّة مسئولية مراقبة المعروف وعدم حصول المنكر في كل المجالات والحقول بحسب ما تتمكّن منه من جهة المعرفة الصحيحة ومن جهة الأداء.

و يشير إلي هذا الدور، العديد من الآيات الأخري التي تتضمّن توجه الخطاب إلي الامة في موارد الأفعال التي يقوم بها نظام الحكم؛ فإنّ النكتة في عموم الخطاب- والذي يفيد عموم المسئولية للجميع- لا يعني اتحاد سنخ المسئولية في القيام بمؤدّي الخطاب، بل لأنّ الامّة و إن كانت محكومة بالحاكم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 38

المشروع إلّاأنّها تشارك الحاكم في فعل الحكم من حيث أنّها منفعلة بفعله ومؤازِر له علي القيام به، فتتفاعل معه في ذلك الفعل من تلك الحيثية. فهذا هو سرّ توجيه الخطاب بنحو العموم.

و لا ريب أنّ شكل وأدوات وآليّات المراقبة هي خاضعة لعقل التجريبي والخبروات التي يتبادلها المجتمعات البشرية في ما بين بعضها مع بعض. و استخدام الآليّات المناسبة العصريّة هو الجانب المتغيّر في مقام الأداء لما هو الثابت الديني.

و هذا نموذج ثالث لمشاركة الناس- في هذا البُعد- ألا وهو اتّخاذ الآليّات من تجارب العقلاء والأمم، سواء علي صعيد الحكم أو صعيد آليّات المراقبة و النظارة؛ ما دامت الثوابت الدينية قابلة للإنحفاظ في شكل تلك الآليّات.

و هناك نماذج عديدة أخري تتولّد من ولاية نظارة الأمّة علي نظام الحكم و لاتنحصر في نماذج معيّنة و إنّما ما مرّ كان من باب بيان

والتمثيل لأبرزها.

البُعد الرابع: و هو البُعد الإعلامي … ص: 38

وينطوي فيه الجانب الثقافي علي صعيد كلّ ميادين الثقافة والوعي العلمي؛ و قد عُدَّ في الآونة الأخيرة آليّة مهمّة للتأثير علي مجريات الأمور، سواء التأثير علي الرأي العام أو علي النظام السياسي و الحكومة و من ثمّ عُدّ الإعلام سلطة رابعة تُوازي سلطة السلطات الثلاث؛ بل قد تذهب بعض النظرات الحديثة الآكاديميّة إلي أنّ الإعلام يفوق القدرات الأخري في القوة والتأثير وإحاطة الناس والأمم بحقائق مجريات الأمور ووقوفهم علي تفاصيل الحوادث بدقّة هو الكفيل بتحمّلهم المسئوليّة والتكاليف الملقاة علي عاتقهم وتمسّكهم بطريق الصواب وحفظهم عن طريق الغيّ والضلال.

و في الحقيقة هذا الدور للإعلام ليس وليد هذا العصر المتأخّر وإن تبيّن ذلك بوضوح في هذا العصر بسبب قدرة جهاز الإعلام والتُرسان الضخمة لآليّاته إلّاأنّ دوره وتأثيره هو من اليوم الأول في النشأة البشريّة نظراً لكون الإنسان موجوداً

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 39

درّاكاً يُصدر أفعاله عن الرأي الذي يتكوّن له والذي هو وليد المعلومات التي يستقيها سواء الكلّية أو ما يتعلّق بالموضوعات التي تحيط به.

و من ثمّ أكّدالقرآن الكريم علي المشورة و استقاء الرأي علي ما هو الصحيح في نظرية الشوري، كما هو عليه مذهب الإمامية، لا بمعني حاكمية و قدرة الأكثرية، كما أشير إلي خطورة الاعلام في قوله تعالي:

«وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَ إِلي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا» «1»

و هذه الآية تشير إلي مَدي خطورة الإذاعة للمعلومات والأخبار و مدي أهمية تسييس الخبر و أنّ الإعلام و الإذاعة للمعلومات كيف يوجب اضطراب الأمور أو اعتدالها واستقرارها و أنّ هذه

القدرة للإعلام لابدّ أن يتحكّم فيها الحاكم الشرعي وهو الرسول صلي الله عليه و آله و سلم وأولو الأمر عليهم السلام مِن بعده الذين أُمِر بطاعتهم ممّا يدلّ علي أنّ هذا الإعلام قوّة و سلطة من سلطات التحكم في النظام الإجتماعي السياسي، مع أنّ القرآن الكريم قد بيّن في سورة أخري أنّ الإعلام حقّ عامّ لجميع المؤمنين و قال: «وَ أَمْرُهُمْ شُوري بَيْنَهُمْ» «2»

حيث إنّ الشور والتشاور هو تبادل الآراء و الإطلاع علي آراء الآخرين كعلم جمعي وعقل جمعي، لا من حيث أنّ الأكثرية أو المجموع والجمع لهم نافذية القدرة، بل من حيث توسعة أفق الإطلاع و الوصول إلي الرأي الجزل ورأي الخبير الفطن وإن كان أقليّة و رأي النخبة و لا تنافي بين هذين المفادين؛ لأنّ الآية الأولي تشير إلي إدارة وتدبير جهاز وعالَم المعلومات والآية الثانية تشير إلي مورد مصرف المعلومات وأنّها من حق عموم المؤمنين علي الوالي تزويدهم وتغذيتهم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 40

بها بنحو ناصح، مضافاً إلي أنّ الآية الأولي موردها ما يتعلّق بالأمن الإجتماعي السياسي النظامي والآية الثانية موردها عموم الموارد الأخري العامة.

و من الآيات التي تشير إلي ذلك قوله تعالي:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» «1»

و في هذه الآية إشارة إلي لزوم التمحيص في الأنباء والتثبّت فيها عموماً لا سيّما تلك التي ترتبط بالجماعات والأقوام وأحوالهم وشئونهم وحقوقهم.

و أيضاً يشير إلي ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام و في كتاب له إلي امرائه علي الجيش:

من عبد اللَّه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلي أصحاب المسالح (أي حماة الثغور): أمّا بعد، فإنّ حقّاً علي الوالي أن لا يغيّره علي

رعيّته فضل ناله ولا طَول خُصَّ به وأن يزيده ما قسّم اللَّه له من نعمه دنواً من عباده وعطفاً علي إخوانه. ألا و إنّ لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرّاً إلّافي حرب ولا أطوي دونكم أمراً إلّامن حكم ولا أؤخّر لكم حقاً عن محله ولا أقف به دون مقطعه وأن تكونوا عندي في الحق سواء. «2»

و كلامه عليه السلام يؤسّس قاعدة في مجال الإعلام والإخبار: إنّ الوالي والحاكم يجب أن لا يُخفي علي الرعية شيئاً من الأمور إلّاما يُخلّ اظهاره وانتشاره بالأمن الإجتماعي لا الأمن العائد إلي شخصه.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 41

المحور الثالث: مؤدّي النسبة بين المحورين السابقين علي صعيد السلطات الأربعة في الحكم … ص: 41

إنّ عمدة بيان وجه النسبة الخاصّة بين هذه النظرية في الحكم والحاكم عند مذهب الإمامية- حيث إنّ ولاية الحكم منشعبة من ولاية اللَّه ولا تنالها ولا تطالها يد البشر، ثمّ لرسوله صلي الله عليه و آله و سلم و لأولي الأمر من قرابته هذا من جانب. ومن جانب آخر ما مرّ من نظارة ومراقبة الرعية والامّة لنظام الحكم وأمرهم بالمعروف وإقامتهم له ونهيهم عن المنكر وإزالتهم له وغيرها من الحقوق التي مرّت- يتمّ ببيان النسبة و العلاقة بين هذين الجانبين بأنّ ولاية الوالي لا تستمدّ من الرعية والامّة حتي في نائب المعصوم، بل هي منشعبة من ولاية المعصوم الذي ولايته منشعبة من ولاية اللَّه و رسوله؛ و ذلك لا ينافي دور الرعيّة و الأمّة من مراقبة جهاز الحكم ونظامه ومساره حتي في جهاز حكم المعصوم، كما هو ملاحظ في حكومة النبي صلي الله عليه و آله و سلم و حكومة علي عليه السلام؛ حيث إنّ في حكومته عليه السلام وإن كان رأس الجهاز معصوماً إلّاأنّ بقية فقرات الجهاز وأعضائه ليسوا كذلك؛

هذا فضلًا عن حكومة غير المعصوم ممن ينوب عنه عليه السلام.

و هذه المراقبة من الامّة تتحدّث في مواضع الثوابت والمسلّمات لا مواضع الإجتهاديات واختلاف الآراء إلّاأن يكون ذلك من النخبة ممن يضطلع بالأدلة الكافية والبراهين العلمية.

وكذلك للُامّة و الرعيّة إحراز واجديّة من ينوب عن المعصوم للشرائط ابتداءً وبقاءً وكذلك لجملة من شرائح الأُمّة كأهل الإختصاص من الحقول المختلفة المشاركة في فقرات حياة النظام السياسي نظراً لاضطلاعهم في مجال اختصاصهم.

كما أنّ للُامّة و عليها تمكين وإقدار ومعاونة إمام الحق ونوّابه علي إمساك زمام الأمور في النظام السياسي، كما أنّ لهم وعليهم إزالة ومدافعة أنظمة الجور إلي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 42

غير ذلك من الأدوار ممّا يدلّ علي أنّ هناك تمام التفاعل بين نظرية النص في الإمامة وفتح المجال أمام الأمّة للقيام بأدوارها.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 43

السلطة والولاية وأنماطها … ص: 43

إنّ السلطة والولاية هما بمعني القدرة نظير الملكية ويقرب منهما الحق، فإنّه علي أصحّ الأقوال سلطنة ضعيفة و هي كالملكية تتشعّب وتنقسم إلي شعب و أقسام عديدة لا تكاد تحصر في عدد وذلك بسبب اختلاف المتعلّق ومتعلّق المتعلّق لها.

و بعبارة أخري: إنّ القدرة تتنوّع وتتكثّر بحسب المتعلّق والموضوع، كما قد تتكثّر بحسب الشدّة و الضعف؛ و بالتالي تكون أنواعاً متباينة متخالفة، لكلّ آثار وأحكام متخالفة عن النمط الآخر.

وحقيقة التعدّد هذه في السلطنة والولاية بالغة الأهميّة، إذ يترتّب عليها عدم صحّة التمسّك بالإطلاق في جانب النفي وفي جانب الإثبات، إذ اللازم تحرّي نمط الولاية الوارد في الدليل بعد فرض تباين أنماط الولاية والسلطة عن بعضها البعض.

فمنها: ما يكون بنحو الإمامة والخلافة والقيادة العُليا في النظام الإجتماعي و السياسي والديني وهي التي يبحث فيها عن ضرورة العصمة.

و منها: ما يكون ذات

دائرة أضيق من السابقة كخصوص القيادة العسكرية والأمنية أو الإدارة و التدبير لمحافظة معيّنة أو حقيبة وزارية ونحو ذلك؛ فمن ثمّ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 44

يطلق عليها بعناوين ماهويّة مباينة كالمحافظ والوزير ونحوها من العناوين.

و منها: ما يكون أضيق دائرة من النمطين السابقين كإدارة مؤسّسة أو شعبة وزارية، فيطلق عليه مدير أو وكيل مساعد.

و منها: ما يكون منشأ القدرة والسلطة هو نفس الرأي العلمي كالقوّة التشريعية من المجالس النيابية، فمن ثمّ تسمّي المجالس النيابية بالسلطة التشريعية وكان منصب الإفتاء للفقهاء ليس إخباراً محضاً، بل نحو حاكميّة في الطائفة، فنافذيّة الفتيا والتشريع في المجتمع والنظام السياسي والإجتماعي نحو سلطة واقتدار وبالتالي نمط من الولاية.

فتري في هذا النمط من القدرة الإختلاف بينها وبين ما قبلها ليس في سعة وضيق الدائرة وإنّما في سنخ القدرة والولاية.

و منها: فصل النزاعات، أي القضاء وهو نمط أيضاً من السلطة والقدرة يهيمن علي المسار الإجتماعي و من ثمّ يعبّر عنه بالسلطة القضائية، بل إنّ السلطة القضائية قد يفرض متعلّقها بفصل النزاع بين أجنحة السلطة نفسها كالنزاع بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ويعبّر عنها بالمحكمة الدستورية أو سلطة القضاء الأعلي. فهذه السلطة والقدرة وظيفتها التعديل في القدرات و السلطات، سواء تعديل القدرات الفردية أم القدرات ذات الطابع المجموعي.

ومنها: الولاية في الأمور الحسبية ذات النطاق المحدود التي قد تسمّي في مصطلح القانون الوضعي بإدارة الأمور الخيرية نظير التدبير والقيمومة علي القصّر واليتامي أو المعتوهين أو الأوقاف العامة أو الخاصة أو وصايا الأموات مع عدم الوارث والوصي ونحو ذلك، فإنّ تدبير تلك الأمور والقيمومة عليها نحو سلطة وقدرة إلّاأنّها من نمط يختلف عما سبق من الأقسام و من ثمّ يعبّر عنه بالناظر و القيّم والقائم

بالمصلحة كذا.

و منها: ولاية التواصي بالمعروف والتناهي عن المنكر؛ فإنّ مداخلة فرد في

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 45

شئون الفرد الآخر نحو تصرّف في حوزة شئون الغير وتقاطع في الإرادة و من ثمّ كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نحو ولاية اشير إليها في قوله تعالي:

«الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «1»

وكذا قوله تعالي:

«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ» «2»

ثمّ إنّ هذا التواصي إذا أخذ في الإنتشار كظاهرة إجتماعية يأخذ نمطاً من القدرة السياسيّة العامّة و حكومة الأمّة و المجتمع علي نفسه وإن كان مجري هذه القدرة العامّة يختلف عن مجري وقناة الحكومة والدولة. ولعلّه إلي ذلك يشير تعبير الفقهاء بولاية عدول المؤمنين وإن كان ظاهر مرادهم تخصيصه بالحسبيات.

إلّا أنّه مع اطلاق المتعلّق ينطبق علي هذا النمط من الولاية والقدرة.

هذا و الولاية والسلطة والقدرة كصفة في الموجودات التكوينية ترجع إلي كمالات الوجود وهي بطبيعتها تشتدّ شدّة وضعفاً بدرجات كالوجود وبالتالي فتتباين حدود الماهيّات بحسب ذلك.

و منها: التولية والتفويض في إحراز صفات المنصّب في موقع من مواقع القدرة في النظام الإجتماعي و السياسي، كما في تفويض إحراز شرائط المرجع أو القاضي أو الوالي إلي عموم المكلّفين؛ فإنّ دورهم هذا وإن كان استكشاف واجديّة الشرائط إلّاأنهم نمط من الولاية والخيار لهم، كما لو كان هناك عدّة من الواجدين لصفات فيتخيّر في الرجوع إليهم وهذا النمط من الولاية غير استكشاف أصل الخبرة في الموضوعات المختصة بمجال.

و منها: حجّية قول أهل الخبرة في الموضوعات، سواء علي صعيد الشبهة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 46

الحكمية أم الموضوعية في الموضوعات المستنبطة في مجال تحليل ماهيّة الموضوع وتحديد أجزائه المكوّنة لذاته؛ فإنّ

هذه الحجّية و إن كانت أمارة كاشفية إلّا أنّ لزوم الإتّباع لها نَحوُ نفوذ لرأي أهل الخبرة وبشكل عام، فإنّ الحجج العلمية طراً يكون لصاحبها نحو نفوذ و ولاية، كما تقدّم في فتوي الفقيه، فإنّها و إن كان إخباراً حدسياً من فهم الفقيه لمفاد الأدلّة و نتائجها إلّاأنّ نفوذ قوله و حجّيته نحو من السلطة التشريعية.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 47

في ماهيّة السلطة … ص: 47

إنّ ضروب الأدلّة الواردة لإمضاء فعل معيّن أو إقامته تنقسم- كما هو المعروف- إلي الأدلّة التي تتعرّض إلي شرائط الفعل في نفسه كأدلّة شرائط العقد من الموالاة والماضوية وشرطية القبض في الرهن والصداقة ونحو ذلك.

وإلي أدلّة شرائط مورد الفعل، و موضوعه، كشرائط العوضين في المعاوضات.

و إلي أدلّة الفاعل لذلك الفعل، كأدلّة شرائط المتعاوضين والمتعاقدين.

ولا يصحّ التمسّك بإطلاق أحد الأنماط لنفي الشرائط المشكوكة في حيثية النمط الآخر لعدم كون أدلّة النمط المعيّن في صدد بيان حيثية النمط الآخر.

هذا من جانب ومن جانب آخر إنّ تنقيح الموضوع في الأدلّة المتعرّضة إلي القضية الشرعية يتمّ عبر خمس مراحل: - كما حرّر في علم الأصول-.

الأولي: تحديد المعني أو المعاني الموضوع له اللفظ أو الألفاظ؛ أي تعيين أصل المعني بنحو الإجمال الذي له رابطة العلقة الوضعية باللفظ. وفي هذه المرحلة قول اللغويين معتمد من باب أهل الخبرة. (وتسمّي بالحقيقة الوضعية)

الثانية: بعد الفراغ عن تحديد أصل المعني يتمّ تحليل أجزاء المعني الحدِّيّة والرسميّة وتركيبه بدقّة وعمق ويتمّ ذلك بتوسّط أهل اختصاص ذلك العلم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 48

الباحث عن ذلك الموضوع. فهيهنا يكون الدور لأهل الخبرة و الإختصاص العلمي في علوم الموضوعات المختلفة دون اللغويين؛ إذ منتهي دورهم هو تحديد الإرتباط بين اللفظ وأصل المعني؛ و أمّا البحث في ذات

المعني في نفسه فليس ذلك من شأنهم.

و مراعاة هذه المرحلة بمكان من الأهميّة في عملية الإستنباط والإستظهار من الأدلّة؛ إذ يتمّ تحديد موضوع الأدلّة بمداقّة تامّة، فلا يقع الخلط في مفاد الأدلّة و لا يعطف فيه إلي غير ما سيقت له. (وتسمّي بالحقيقة التكوينية أو الماهويّة)

الثالثة: تحديد الحقيقة الشرعية أو ما هو بمنزلتها من تصرّفات الشارع وقيوده الموجبة لتضييق أو توسعة المعني. (وتسمّي بالحقيقة الشرعية)

الرابعة: تحديد المعني الإستعمالي الذي وقع في الأدلّة.

الخامسة: استقصاء الألفاظ المختلفة ذات المعاني المتعدّدة الواردة في لسان الدليل (وتسمّي بتحديد المعني الجدّي)

و من حيث الترتيب تراعي المرحلة الأولي أوّلًا، ثمّ الرابعة، ثمّ الخامسة، ثمّ الثانية و الثالثة؛ و ذلك لأنّ المراحل الأولي والرابعة والخامسة إنّما توصل الباحث إلي بدايات حدود المعني من دون أن يقتحم أرض المعني ويلج فيه بعمق وهذا بخلاف المرحلة الثانية والثالثة.

و علي ضوء ذلك فلابدّ من الإلتفات في المقام إلي أنّ موضوع البحث- و هو الحكم بمعني القيادة والولاية و صلاحيّة الرئاسة- لابدّ من تحديد كنه معناه تحليلًا و تركيباً كي لا يقع الخلط بينه وبين موضوعات أخري متّصلة بشكل آخر بأعمال الحكومة والدولة، فنقول:

إنّ المعروف لدي الحكماء في باب الحكمة العملية تعريف الحكم وفعل الحكومة بتدبير سياسة المدن وفق ضوابط وقوانين مقرّرة وأهداف وغايات مرسومة و تعيين القرارات وترسيم الخطط والمسارات والبرامج لإدارة والرقي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 49

بأمور الناس و النظام الإجتماعي و توجيهه إلي الأهداف المعيّنة وقريب من ذلك ما ذكره الفارابي في إحصاء العلوم «1» والخواجه نصير الدين «2».

فعنوان التدبير يقارب عنوان الإدارة و النظم و في جملة من التعريفات الأخري أخذ عنوان السلطة و القدرة و القوّة إلّا أنّه لا تنافي بين المعنيين

للزوم تقييد كلّ منهما بالآخر، أي إنّ المحصّل علي القدرة علي التدبير وسلطة الإدارة ونظم المرافق المختلفة لهيكل النظام الإجتماعي و السياسي للمجتمع.

كما أنّه لابدّ من اليقظة والالتفات في تعريف الحكومة والحكم إلي أنّ ذات معني هذا الفعل إذا جرّد بدقّة يختلف عن وظائف الحكومة و مسئولياتها، فإنّ القضاء في نزاعات الناس وإقامة العدالة فيهم وتوزيع بيت المال بالقسط وغير ذلك من أفعال الحكومة وإن كانت من شعب أفعالها وأنشطتها إلّاأنّها من قبيل موضوعات فعلها، أي موضوع الموضوع ومن قبيل الموارد لفعلها وإلّا فهو بالأصالة لا يخرج عن حدود التدبير والإدارة والنظم.

و من ثمّ كان الوالي علي بلاد معيّنة قد يقوم بنصب القاضي والخازن لبيت المال وينصب ثالثاً رئيساً للديوان إلي غير ذلك من الأيدي والأعوان. وكما هو الملحوظ في ظاهرة الحكم والحكومة في العصر الحديث، فإنّه قد راج أخيراً أنّ الوظيفة الأصلية للحكومة والدولة هو الإدارة والاشراف علي مرافق النظام العامّ و إن لم تقم هي بوظائف أركانه ومن ثمّ انتشرت ظاهرة خصخصة المؤسّسات العامّة، أي ايكال أعمالها إلي الشركات الأهلية مع حفظ سلطة الإشراف و النظارة و الولاية للدولة و الحكومة و هو مقام الولي الناظر المشرف علي أفعال المولّي عليه، فإنّه يخفّف مِن كاهِل أعباء الدولة ويجرّدها إلي القيام بالفعل الأصلي للحكومة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 50

وهذه الظاهرة الأخيرة في عالم السياسة والحكومات تؤكّد وتوضّح ماهيّة الفعل الأصلي للحاكم والحكومة والسلطان والقدرة وأنها التدبير والإدارة والنظم و ترسيم خطط العمل؛ نعم لا نريد من ذلك تخصيص ذلك الفعل بالسلطة التنفيذية في مقابل السلطة التشريعية والقضائية حسب التقسيم والمصطلح المعاصر، بل ما يشمل ذلك، إلّاأنّه لابدّ من التمييز بين وظائف العامّة ووظائف أجزاء وأعضاء

النظام الإجتماعي السياسي وبين الفعل والوظيفة الأصلية للحاكم و الحكومة. و لتقريب الفكرة نذكر هنا المثال و هو مثال المخّ والدماغ وبقية أعضاء البدن، سواء أعضاء القوّة الهاضمة أو أعضاء الحركة الدمويّة والعضلات أو أعضاء الإدراكات الحسّية، فإنّ المخّ يدير ويدبّر كلّ تلك الأعضاء حتي إنّه لو فرض توقّف بعض خلايا الدماغ لتسبّب ذلك في توقّف أعمال جزء تلك الأعضاء و عطالها، مع أنّ وظيفة الهضم والحركة والإدراك لا يقوم بها الدماغ مباشرة.

و من سياسات الدول في عصر الحديث التركيز علي الفعل الأصلي للحكومة وهو الحكم والحاكميّة و التخلّي عن الأفعال الثانوية لها وإن كانت هي وظائف عامّة ويطلقون علي النمط الأول من الفعل- الذي هو ماهية الحكم- فعل الحاكميّة والنظارة والرقابة ويرغّب الباحثون في علم الإدارة والقانون والسياسة اتّساع مرافق الحكومة ومؤسّساتها من هذا الجانب، إذ كلّ ما اتسعت رقابتها وإشرافها سبّب ذلك تحكيماً للقانون بنطاق واسع.

و من جملة التوسّع في هذا الجانب أيضاً التوسّع في السلطة القضائية، بل تعدّ من أبرز محاور الفعل الأول وهو الحاكميّة و من هنا يظهر سرّ التعبير عن القضاء في روايات نصب الفقهاء بجعل الحاكم «إني جعلته حاكماً».

و منه يظهر عمومية حاكميّة الفقيه نيابة عن المعصوم بنصبه قاضياً، أي بالإلتفات إلي النكتة المزبورة.

أمّا الفعل الثاني فيطلقون عليه فعل التصدّي والقيام بالخدمات العامّة و

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 51

الوظائف ذات الطابع العامّ، فإنّه تابع لحقيقة فعل الحكم والحاكميّة و لك أن تقول:

إنّ الفعل الثاني مورد وموضوع للفعل الأول، فالفعل الأول حكم والفعل الثاني موضوع له.

ثمّ إنّه بعد تقرير ماهيّة فعل الحكم الأصلية واختلافها عن وظائف واجبات النظام الاجتماعي يتمّ علي ضوئها التفرقة بين الأدلة المتعرّضة للولاية والصلاحيّة القانونية والأدلّة

المتعرّضة لوظائف النظام.

هذا وهناك حيثية أخري هامّة في ماهيّة الوظائف العامّة التي تقوم بها الدولة أو الحكومة والحاكم والوالي وهي أنّ تلك الأفعال التي من قبيل القضاء وتجييش الجيوش والإعداد العسكري أو القيام بالخدمات العامّة لحاجيات الناس و رفاههم، كالصحّة والتعليم والضمان الإجتماعي و تأمين وسائل وأدوات المعيشة الضرورية من الماء والكهرباء يشتمل وجودها علي حيثيتين: حيثية الفاعلية وحيثية الإنفعال والمطاوعة وشأنها في ذلك شأن بقية الأفعال ولذلك جرت في هيئات المواد هيئة دالّة علي حيثية الفاعلية في وجود المادّة وهيئة دالّة علي حيثية المطاوعة والقبول في وجود المادّة.

والحال في أفعال ووظائف الحكومة والحاكم كذلك، فإنّ هذه الأفعال موضوعها وظرفها النظام الإجتماعي و البيئة البشرية ومرافقها المحيطة بها وبالتالي فهي أفعال ذات جنبتين وحيثيتين والمخاطب بها يصلح أن يكون كلًّا من الطرفين؛ لأنّ كلّاً منهما له مسئوليته ووظيفته تجاه ذلك الفعل المشترك؛ فمن إطلاق الأمر المتعلّق بتلك الأفعال لا يمكن استفادة نفي قيد من القيود في صلاحيّة الوالي والحاكم لعدم تعرّض الإطلاقات والأدلّة لخصوص الحيثية الفاعلية في الفعل؛ و هذا بخلاف ما لو كانت الأدلّة متعرّضة إلي الفعل الذي ماهيّته صرف التدبير والإدارة والنظم لمرافق النظام السياسي وأجزاء الدولة.

فتحصل: إنّ التمسّك بالأصل اللفظي الوارد في الأدلّة الآمرة بوظائف الدولة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 52

وأنشطتها وأفعالها- لنفي القيود المشكوكة في الحاكم- في غير محلّه، بخلاف ما لو كان الدليل وارداً في نفس ماهيّة التدبير والإدارة والقيادة والنظم الحكومي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 53

حيثيات فعل الحكم … ص: 53

اشارة

إنّ لمتصدّي الولاية فعلين: الفعل الأول تصدّيه لسدّة الشي ء وتمكّنه من ذلك المسند وجلوسه فيه؛ والفعل الثاني مباشرته لآحاد الأفعال والتصرّفات في ذلك المسند.

وفي مقابل ذلك تنصيب الناس له وتمكينه من ذلك المسند

والفعل الثاني الإنصياع وانفاذهم لتصرّفاته. هذا تقسيم لفعل التولّي من حيثية التكليفية من طرف الوالي والمتولّي عليه و أمّا من الناحية الوضعيّة فيقع الشكّ في التولّي بمعنيين أيضاً:

الأول: في وجود هذه الولاية التي هي ماهيّة وضعية.

و الثاني: في نفوذ تصرّفاته وضعاً، أي حجيّتها كماهيّة وضعيّة أيضاً.

مقتضي القاعدة عند الشك في شرائط الحاكم … ص: 53

و تنقيح الحال في الشكّ في الولاية تارة بحسب الأصل العملي وأخري بحسب الدليل الاجتهادي.

أمّاالأول: فقد يقرّر جريانه في الفعل التكليفي من الطرفين بأنّ البراءة وأصالة الحلّ تجريان في المقام للشكّ البدوي في الحكم التكليفي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 54

وأمّا الحكم الوضعي فيقرّر جريان أصالة عدم الماهيّة الوضعيّة، لأنّها نحو من المسبّب الإنشائي المشكوك وجوده في أفق اعتبار الشارع، سواء كان بمعني الولاية من طرف المتصدّي أو بمعني الحجّية وهي من طرف المتولّي عليه.

و قد يقال: إنّ للمتصدّي والمتولّي للمسند المشكوك ليس من اللازم بنائه علي الولاية الشرعيّة، كما أنّه ليست من اللازم للمتولّي عليهم البناء علي الحجّية والنفوذ الشرعي لذلك المتصدّي، بل يكفي لكلا الطرفين البناء علي الولاية العرفيّة والحجّية البنائية العقلائية ولو الحاصلة من تراضي الطرفين أو تعاقدهما، فيندرج في أوفوا بالعقود أو في عقد الإجارة أو البيع و نحوهما، بأن تكون خدمات المتصدّي من تدبيره و إدارته مورد استيجار المتولّي عليهم أو يكون قيام المتولّي عليهم بإجراء تصرّفات المتصدّي وإنفاذه العمل مورد استيجار المتصدّي فيلزم الطرفين بهذا التعاقد.

والتحقيق: عدم جريان الأصول العملية الفراغيّة في الأفعال التكليفية في المقام وذلك لأنّ الحكم التكليفي المشكوك ينقسم إلي حكم تكليفي مجرّد محض وإلي حكم تكليفي مشوب بالمعني الوضعي وهو الذي قد أخذ في موضوعه حكماً وضعياً آخر، ففي مثل الحكم التكليفي المتعلّق بالتصرّفات في الأعيان الماليّة أو في الأمور العامّة

في النظام الإجتماعي ليس الشك في الحرمة والحلّية ناشئاً إلّامن الحكم الوضعي وهو ملكيّة تلك العين أو ملكيّة التصرف في الأمر العامّ وهو الولاية، ويكون الحكم التكليفي المزبور بمثابة شعبة منشعبة من الحكم الوضعي المتقدّم عليه رتبة، ففي مثل النمط الثاني من الموارد لا تجري مثل البراءة وأصالة الحلّ لاختصاصهما بالقسم الأوّل؛ بل الجاري حينئذٍ في المقام هو الإحتياط و التوقّف لتنقيح الأصل العملي الجاري في الموضوع وهو الحكم الوضعي عدم موضوع الحلّ، إذ ليس الشكّ في الحلّية الذاتية والطبعيّة لذات الفعل ولذات الشي ء، بل الشك في الحلّية الناشئة من ملكيّته لتلك العين أو لذلك

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 55

التصرّف في الأمور الوَلَويّة أي في الأمور العامّة.

وعلي ذلك فلا تجري الأصول الفراغية في الحكم التكليفي المنشعب من السلطة والملكيّة و الحق المشكوك، بل الجاري هو الإحتياط و أصالة المنع؛ لأصالة عدم ذلك الملك والحق ولا يعارض بأصالة عدم ملك الغير و حقّه، لأنّه لا يثبت موضوع الحلّ للمشكوك.

و لا يتوهّم أنّ الغرض في تحرير الأصل العملي هو نفي الحرمة من دون لزوم إثبات الحلية، إذ العذرية يكفي فيها نفي الملزِم، لا إثبات اطلاق حكم الفعل. وذلك لأن التصرّف في المقام ليس تصرّفاً كفعلٍ مجرّد، كما في المباحات العامّة، ليكون حكماً تكليفياً مجرّداً و إنّما حقيقة الفعل في المقام والتصرّف ترجع إلي أكل المال ولو بنحوٍ تدريجي مما يتوقّف علي الملك، فهو نظير التصرّفات الوضعية المتوقّفة علي إحراز الملك.

و ما اشتهر من عدم توقّف التصرفات التكليفية المجرّدة علي الملك بخلاف الوضعية إنما يتمّ في المباحات دون الأعيان المملوكة الخارجة عن الإباحة الأصلية؛ فإنّها في كلا النمطين من التصرّفات متوقّفة علي الملك.

و لمزيد البيان للمطلب نقول: إنّ هناك قسمين

من الحلّ و الحرمة: أحدهما الحلّ والحرمة الطبيعيين والذاتيين، و ثانيهما الحلّ والحرمة الفعليين.

أمّا الأول فهو الحكم التكليفي الثابت للأشياء بحسب ذواتها، مثل حلّية شرب الماء وحرمة شرب الخمر ونحو ذلك.

وأمّا الثاني فهو الذي يثبت للأشياء بعنوانٍ آخر طارئ، سواء كان عنواناً أولياً أو ثانوياً، كالحلّية الثابتة للأعيان المملوكة والحرمة المترتّبة علي ملك الغير وحرمة ماله ومثل الحلّية الناشئة من الإضطرار أو الحرمة الناشئة من الضرر؛ ففي موارد الشك في الحلّية و الحرمة الناشئة من الملك لا يوجد شك في حلّية التصرّف الطبعية الذاتية كي تجري أصالة الحلّ أو البراءة و إنّما الشك في الحلّ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 56

والحرمة من القسم الثاني ذي الموضع الخاص كما تبيّن.

و قد ينعكس الفرض بأن يقع الشك في الحلّ والحرمة الذاتيين مع عدم الشك في الحلّية من القسم الثاني لكون الشي ء ملكاً محرَزاً، كما لو شك في حلّية معاملة خاصّة واقعة علي ماله.

و هذا هو مراد من قال بأصالة الحرمة في الأموال المجهولة المالك، أي الحرمة من النمط الثاني؛ بتقريب أنّ المال المعلوم الملكيّة لشخصٍ مّا ولم يبقَ علي إباحته الأصلية فله حرمة خاصّة ولا يسوغ انتهاكها أو اقتحامها إلّابمسوّغ.

وقد يستفاد هذا المفاد كأحد مداليل الآية الشريفة في قوله تعالي: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» «1» أي لا تأكلوا المال المملوك إلّا بطريق محلّل تعلمونه (طريق حِلّ محرَز)

و يدعم ذلك التفصيل عدم جريان البراءة العقلية أو العقلائية في مثل هذه الموارد؛ أمّا البراءة العقلية فلاختصاصها وفاقاً لمشهور المتكلمين الإماميين بموارد الجهل المركّب والغفلة دون الجهل البسيط و أمّا موارد الجهل البسيط فهي البراءة العقلائية المجعولة من قبل العقلاء المحتاجة إلي إمضاء الشرع؛

و قد عرفت أنّ أدلّة الأصول المفرِغة لا تتناول مثل هذا النمط من الموارد ممّا ينشأ الشك في الحلّ والحرمة من السلطنة علي التصرّف من الملكية أو الحقّ.

مضافاً إلي أنّ الأصل المقرّر عنه العقلاء في مثل هذا النمط ليس هو البراءة العقلائية أيضاً، بل المقرّر لديهم الإحتياط في ذلك لا سيّما في الأفعال ذات الظاهرة العامّة في النظام الاجتماعي، فإنّ التصرّف في الأمور العامّة والتصدّي لها يتوقّف لديهم علي شرعية قانونية يسوغ بها مباشرة الأمور العامّة وإلّا كان التصدّي والتصرّف غير مشروع لديهم؛ مع غضّ النظر عن الوجه المشرّع القانوني لديهم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 57

كمثل التعاقد الإجتماعي أو سلطة النخبة أو غيرها من المذاهب لديهم.

ثمّ إنّ هذا التقرير لمنع جريان الأصل المفرغ كما يجري في جانب المتصدّي للتصرّفات في المسند والمقام المشكوك صلاحيّته له، كذلك يقرّر في من يتعاطي مع تصرّفاته من المحكومين أو المتولي عليهم أو من يريد أن يرتّب الأثر علي تلك التصرّفات (تصرّفات المتصدّي)

فيتلخّص: أنّ الأصل العملي في كلٍّ من الحكم التكليفي والوضعي جارٍ بالمنع بالاضافة إلي جميع الأطراف. و أمّا دعوي البناء والتباني العقلائي القانوني لديهم من دون بناء ذلك علي الحكم الشرعي، فإنّ غاية ذلك دفع إشكال التشريع دون التخلّص من الحرمة الشرعية، فإنّ موضوع أدلّة التحريم الشرعي في المعاملات والأمور الوضعية هو وجودها بحسب البناء العرفي لتكون الحرمة رادعة وصادّة عن البناء العرفي تعديلًا له و سوقاً إلي الطريق الذي يسوّغه الشارع، كما أنّ أدلّة الحلّية و الإمضاء أيضاً موضوعها الوجود بحسب البناء العرفي و إلّالو كان موضوع الأدلّة الوجود بحسب الإعتبار الشرعي للزم من ذلك التناقض في موارد الحرمة وتحصيل الحاصل في موارد الحلّ والإمضاء.

و محصّل هذا

التوهّم الذي قد يكرّر في عدّة من أبواب المعاملات والأحكام هو كون التعبّدات الشرعية إنّما يلزم المكلّف بها إذا أراد التديّن والتقيّد بها؛ و إلّا فهي غير نافذة عليه وهو كما تري.

و أمّا عموميّة الأبواب المعاملية كالبيع والإجارة والوكالة والهبة وغيرها من العقود والشروط لموارد التعاقد السياسي أو العسكري أو الاقتصادي المالي في الأموال العامّة وغيرها من المجالات فهو متين و متّجه بحسب عموم أدلّة تلك المعاملات إلّاأنّ غاية ذلك إمضاء المعاملة من حيث الشرائط وإجراء الماهيّة في نفسها وليس هو دليل إمضاء المتولّي والمتصدّي لتلك المعاملة كما هو الشأن في المعاملات الفردية؛ فإنّ أدلّة إمضاء المعاملات ليست أدلّة إمضاء لولاية الفرد

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 58

وعدم حَجره، بل أدلّة سلطنة الفاعل تلتمس من نمط آخر من الأدلّة.

أمّا الأصل اللفظي فقد يتمسّك بالعديد من الآيات وكذلك الروايات الآمرة بإقامة وظائف الحكومة والحكم في مجال القضاء والمال والحدود والتعزيرات (العقوبات الجنائية) والجهاد من الوظائف العسكرية والأمنية.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 59

حاكميّة اللّه عزّوجل

اشارة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 61

قد وقع البحث في العلوم العديدة كعلم القانون والحقوق والفلسفة والكلام عن مبدأ الحاكميّة ومصدر صلاحيّات الحكم ومشروعيّته ولم يختصّ هذا البحث بالسلطة التشريعية، بل عمّ كلّاً من السلطة التنفيذية والقضائية أيضاً واختلفت المذاهب في ذلك وأبرز ما انقسمت إليه هو: المذهب الإلهي والمذهب الوضعي، و يطلق المتكلّمون علي هذا التقسيم وأصحاب التراجم أتباع الملّة والنحلة.

و المعروف لدي الإلهيين أنّ مبدأ السلطات هو اللَّه الخالق ربّ العالمين، بينما المعروف لدي الوضعيين أنّ مبدأ السلطات هو البشر أنفسهم، علي اختلاف بينهم في كيفية النشوء و منطلقه، هل هو الطبيعة البشرية أو القوّة والتغلّب أو العقد الإجتماعي أو العقل التجريبي وغيرها من المناشئ لديهم.

والغريب

من جملة من الباحثين في هذا المجال لا سيما الإسلاميين أنّهم قصّروا البحث في السلطة التشريعية، مع أنّ الحكم و الحاكمية معنيً عامّ شامل للأبعاد الثلاثة المتقدّمة.

و قبل استعراض أدلّة الطرفين يتعيّن الخوض في معني الصلاحيّة والحقّ عند التعبير بحقّ الحاكميّة، و من ثمّ تقييم الأدلة علي وفق معني أهلية الحقّ والصلاحيّة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 62

مبدأ تولّد الحق … ص: 62

اشارة

الحقّ عند الحكماء يُقال علي الثابت والموجود والغاية، أي كمال الشي ء و علي القديم.

و الحقّ عند الفقهاء هو السلطنة الضعيفة أو الملكيّة والقدرة.

و قد يطلق علي كلّ شي ء ذي نفع ثابت.

والحقّ عند المتكلّمين هو ما يسوغ فعله لصاحبه ولا يمانع عن فعله.

وفسّر بعضٌ الحقّ بمعني الإختيار في الأفعال أو في أيّ شي ء يكون له. و الإختيار تارة فسّر بالتكويني واخري بالتشريعي، يعني المطابقة مع القانون وما يسوّغه القانون.

و قد تعدّدت النظريات في علم القانون و العلوم السياسية والإنسانية في مبدأ تولّد الحقّ فيجدر في المقام التعرّض إلي تلك المناشئ المتبنّاة عند أصحابها … ص: 62

فالأول: القدرة والغلبة … ص: 62

و كأنّ القائل بأنّ مصدر الحقوق والمنبع الأول للحقّ نشأ من القوّة والغلبة، يستمدّ استدلاله من قضية فطرية و هي أنّ صاحب القوّة هو صاحب كمال وهو أقدر علي إقامة الكمال من الضعيف وبالتالي يكون هو صاحب الحق والمشروعية وقد قال بذلك معظم أهل السنّة.

فيلاحظ علي هذه النظرية: إنّ فلسفة الحقّ نشأت من الكمال ويمكن توافقها

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 63

مع نظرية نشوء الحقّ من الغاية؛ نعم القائلين بنظرية القوّة والغلبة يخطئون في تعيين مصداق و فرد القوّة، فأنّ الإلهيين يجعلونه الخالق، بينما أصحاب النظرية المزبورة يجعلونه الفرد البشري.

و جماعة أخري فَلْسَفُوا مشروعية القوّة والغلبة لنشوء الحقّ بأنّ الضعيف إذا قاوم القوي فأنّه يوجب استشراء للفساد ومرادهم أنّ تغلّب القوي و إن لم يلتزم بالصلاح التامّ، إلّاأنّه يوجب أدني درجات النظام المدني الإجتماعي، كما أشار إلي هذه الضرورة أمير المؤمنين عليه السلام، «ولابدَّ للناس من أمير برّ أو فاجر» بخلاف ما إذا قاوم الضعيف، فإنّه لن يقوي علي إقامة النظام الإجتماعي و سيظلّ دوره محدوداً بالمقاومة وبالتالي زعزعة النظام المدني في أدني صُوَره.

و هذا التفسير للمشروعيّة و الحقّ بغضّ النظر عن الملاحظات الواردة عليه يتبنّي أيضاً علي تفسير منشأ الحقّ والمشروعيّة بالكمال و المصلحة العامّة، حيث أنّ حفظ أدني درجات النظام يؤمّن

ايجاد مصالح الأفراد وكمالاتهم ولو بأدني الدرجات.

نعم يرد علي هذا التفسير مضافاً إلي ما أورد عليه قبله، أنّ الضعيف في كلّ الحالات لا يكون غير قادر علي إقامة النظام، كما أنّ مقاومته قد تكون هي بنفسها موجبة لقلب معادلة القدرة بوصول الضعيف إلي قنوات القدرة وقطع الطريق عن المتغلّب عن استمرار في التحكم بها، بل لو فرض أنّ الضعيف لم يتمكّن من الوصول إلي السيطرة علي النظام يمكن مع ذلك فرض العديد من المزايا في مقاومته للمتغلّب كأن يوجب إرعواء المتغلّب عن التمادي في الفساد وإيجاب مقاومته للضغط عليه وأن تمهّد المقاومة للمقاومات في الأجيال اللّاحقة تزيل القدرة المتغلّبة الفاسدة.

والثاني: الطبيعة أو الفطرة … ص: 63

ويصطلح علي الحقوق الناشئة منها بالحقوق الطبيعية أو الفطرية.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 64

وقد يشكل علي مبدئية الطبيعة لتوليد الحقوق: بأنّ حدود و دائرة الحقّ لاتكون بيّنة المعالم علي طبق الطبيعة و بالتالي فإنّه يفتح الباب علي مصراعيه أمام الحريّات الجنسية والشهوية وايجاد الجوّ الخُلُقي الرديّة.

و يمكن الاجابةعلي ذلك: بأنّ ابهام الحدود لا يعني التنكّر لأصل منشئية الطبيعة ومقتضياتها للحقّ، غاية الأمر لابدّ علي المقنّن الوضعي مثلًا من مراعاة المقدار المتيقّن ونحو ذلك أو استكشاف حدوده بالوحي في التقنين الإلهي.

كما أنّ القول بمبدئية الطبيعة للحقّ لا يعني المغالاة و الإفراط في رسم الحقوق منها علي حساب الحقوق الناشئة من الفطرة الروحية، بل لابدَّ من الموازنة؛ لا بمعني التساوي، بل المعادلة بنحو الأهمّ و المهمّ ونحو ذلك وقد جري ديدن الفقهاء في كثير من الأبواب الفقهية بالإستدلال علي مشروعيّة أمر بالآيات الواردة في السنن الإلهيّة في التكوين.

والثالث: القدرة … ص: 64

وقد تقدّم أنّها تفسّر بعدّة معاني.

والرابع: ضرورة حفظ النظام الإجتماعي و مصلحة النُظُم العامّة … ص: 64

و هذه ترجع إلي نشوء الحقّ من أدني الكمالات الضرورية، إذ بعد كون الإنسان لا يؤمّن تمام حاجياته بفعل نفسه، بل يؤمّنها بمجموع أفعال بني آدم فلابدَّ من إقامة أدني مراتب النظم التعايش والتبادل.

وعلي أية حال، فهذا المنشأ يصلح مبدأ لتولّد الحقوق والحقّ السياسي لا مبدأ لأوّل حقّ متصوّر، إذ لحاظ الفرد ووجوده سابق علي لحاظ ووجود المجموع رتبةً وبالتالي فحقّ الحكم والمشروعيّة السياسية متأخّر عن مجموعة الحقوق الأولي.

ومن ثمّ أُقِرَّ في البحوث الحقوقية والقانونية في الآونة المتأخّرة أنّ هناك منظومة من الحقوق قبل القانون- أي قانون النظام الإجتماعي السياسي- و هناك مجموعة من الحقوق متولّدة من القانون فلا تعدّ الثانية وكيفية نشوئها من الحقوق

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 65

الأوليّة لنشأة الحقّ.

إنّ هناك جدليّة قائمة في البحث الحقوقي والقانوني حول ترجيح و مراعاة حقوق الفرد في مقابل حقوق المجتمع، و أكثر الآراء في ذلك علي ترجيح جانب المجموع علي الفرد، في مقابل الآراء الأخري التي تكيّف الوضع النظام الإجتماعي مع حالة إطلاق الحريّات الفردية واختيارات الفرد، إلّاأنّ هناك بُزُوغاً لصياغة تعادلية أخري لا تجعل في حسبانها تلك الكفّتين في الميزان، فلا تقابل بين حق الفرد وحق المجموع، بل تجعل التقابل بين حقّ الجميع مع حقّ المجموع.

والفرق بين النظريّتين هو الفرق بين العامّ الإستغراقي و العامّ المجموعي كما هو المصطلح عليه عند علماء الأصول و لك أن تقول: هو الفرق بين المصالح والمنافع الواصلة إلي كلّ الأفراد بنحو الإستيعاب و بين المنافع غير الواصلة إليهم مباشرة، بل التي تنتهي إلي مؤسسات وبُني النظام الإجتماعي.

والخامس: العدالة العامّة … ص: 65

و الظاهر أن مرادهم يقارب المنشأ الذي سبق وإن كان بينهما فرق من بعض الجهات، حيث أنّ عنوان و مفهوم العدالة لازمه

ومقتضاه مراعاة هذا الأصل في تمام قانون النظام الإجتماعي، بخلاف أصل حفظ النظام العامّ، فإنّه يتأتّي و لو بالعدالة النسبيّة. فالكلام في هذا المنشأ هو الكلام في ما سبق.

و بعبارة أُخري: إنّ عنوان العدالة يفترض فيها تقرّر حقّ في المرتبة السابقة يؤدّي إلي صاحبه ويؤخذ من المتجاوز للحدّ ذي العدوان. نعم وإن كانت العدالة كما هو محرر في الحكمة العملية وأحكام العقل العملي غير متوقّفة علي الإعتبار و القانون.

والسادس: أحكام العقل … ص: 65

و قد يفسّر تارة بخصوص العقل العملي وأخري بما يعمّ العقل النظري وهذا بناءً علي أنّ أحكام العقل العملي برهانية والحسن والقبح

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 66

ذاتيان للأشياء، فالأمر واضح؛ و أمّا بناء علي أنّ أحكامه إعتبارية فأحكام العقل العملي راجعة إلي العقد الاجتماعي الآتي وليس مبدأ مستقلًا.

كما أنّ العقل العملي بناء علي القول بتكوينية الحسن والقبح ورجوع المدح والذمّ إلي الكمال والنقص فأيضاً يؤول هذا المبدأ إلي مبدأ الكمال غاية الأمر باستكشاف العقل العملي أو النظري.

والسابع: العقد الاجتماعي … ص: 66
اشارة

تنطلق النظريات العقدية- أو ما يسمّي بنظريةالعقد الإجتماعي- من أنّ الدولة هي ظاهرة إرادية قامت نتيجة اتفاق حرّ واختياري بين مجموعة من الناس، رجّحوا الإنتقال من حالة الطبيعة إلي حالة المجتمع المدني والسياسي وما نتج عن ذلك من قيام سلطة سياسية وتنازل المواطنين عن كلّ أو بعض حقوقهم الطبيعية. «1»

و جذور هذه الفكرة ارتبطت في تاريخ الفكر السياسي بأسماء ثلاثة مفكّرين، وهم: توماس هابز، جان لاك، جان جاك روسو … ص: 66
نظرية توماس هابز (1588- 1679 م) … ص: 66

يذهب هابزإلي أنّ الإنسان البدائي كان شرّيراً وكانت القوّة هي السائدة في العلاقات بين الأفراد إلّاأنّ الإنسان أدرك مع التطوّر فائدة الإنتقال من حالة الفوضي وسيادة القوّة إلي حالة الإجتماع المدني. «2»

و لتفسير الإنتقال من حالة الحياة الطبيعية الأولي إلي المجتمع المدني استخدم هابز فكرة العقد الإجتماعي بأنّ الأفراد اتّفقوا في ما بينهم علي إقامة مجتمع يرعي فيه كلّ فرد حقوق غيره وينزل فيه كل فرد عن حرّيته في العمل

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 67

مُؤثّراً في ذلك، المصلحة الآجلة علي المصلحة العاجلة.

من هنا فإنّ الدولة تقوم حين يتنازل الناس عن سلطتهم لصاحب السيادة فتتركّز في يده سلطة عظيمة يخافونها ويشكل بها إرادتهم بذلك لصيانة السلام في الداخل والدفاع عن الداخل أمام الخارج.

وحسب تعريفه إنّ السيّد الرئيس هو الذي يمتلك الحقوق كوكيل عن الناس.

نظرية جان لاك (1632- 1704 م) … ص: 67

يؤكّد علي أنّ المجتمع لم يقم علي أساس القوّة و الإكراه، بل قام علي أساس الإختيار والرضا المتبادل بين الأفراد و إنّ الغاية من ذلك الإجتماع المدني هي المحافظة علي الملكيّة التي تعني حقّ الحياة والحرّية والتملّك.

و حسب رأيه الحكومة المشروعيّة معنيّة بوظائف محدّدة وإن غفلت عن تأمين الأهداف وعملت وفق الهوي، فإنّها تفقد سند مشروعيّتها ويتحرّر الأفراد من الإلتزام بطاعتها ويحقّ لهم الثورة عليها. «1»

و يؤكّد علي أهميّة القانون في الحكومة ويعتبر أنّه حيثما ينتهي القانون يبدّء الاستبداد؛ فالفكر السياسي عنده هو علماني بصورة جذريّة ويعلن بأنّ كلّ سلطات الحكومة المدنية لا تتعلّق إلّابالمصالح المدنية وأنّ الآراء الدينية تتمتع بحقّ مطلق وشامل ولكن بالمسامحة ويعلن أنه يؤمن بالوحي ومن أنصار المسيحية العاقلة وألّف كتاباً سمّاه المسيحية المعقولة «2».

نظرية جان جاك روسو (1712- 1778 م) … ص: 67

ورأيه قائم علي سيادة الشعب ويرفض وجود سلطات تشريعية وتنفيذية

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 68

مستقلّة عن الشعب ولا تلعب الحكومة إلّادوراً تابعاً وهي مجموعة من الأفراد التي تنفّذ القوانين بينما الشعب هو الذي يضع القوانين.

*** والملاحظ في نظرية العقد الإجتماعي أنّ جلّ نظرياتها تسلّم بلزوم تحديد وتقييد الحقوق الطبيعية بالأحكام العقلية أو العقلائية التي تَرعي وتَعني برعاية مصلحة الإجتماع المدني للأفراد وقالوا بلزوم تنازل الفرد عن جملة من حقوقه الطبيعية في مقابل المصلحة العامّة للمجموع وأنّ هذه ضريبة الدخول الإختياري في العقد الإجتماعي.

هذا ولكن الحكماء في الحكمة الإلهية والعملية وكذلك المتكلّمون قد كشفوا النقاب عن الغاية في دخول الإنسان في العقد الإجتماعي وهي وصوله إلي كمالات وتلبية حاجات ليس بالإمكان وصوله إليها من دون التعاون مع بني أبناء جنسه في حياته المشتركة.

و بعبارة أُخري: فإنّ نظام الإجتماع المدني قنطرة لتحقيق التعاون في البيئة المناسبة لتلبية حاجات الأفراد؛ فلا

يكون تنازله عن جملة من اختياراته إلّالأجل الوصول إلي بقية اختياراته وتلبيةً لبقيّة حاجاته؛ فليس تنازله تنازلًا مجانياً، بل هو يستعيض بذلك بتحقيق كمالاته.

وبالتالي فالنظام الإجتماعي هو الطريق الوحيد لتأمين ذلك وإقامة النَظْم الحكيم في الإجتماع المدني ضرورة لوصول جميع الأفراد إلي غاياتهم المنشودة وهو يسمّي بالعدالة في كافّة مجالاتها.

وبهذا المقدار من البيان لفكرة العقد الإجتماعي يتقرّر تولّد حقّ الحاكميّة للباري تعالي أيضاً، حيث أنّه العالم بالقوانين الكفيلة لإقامة العدل الإجتماعي.

هذا فضلًا عن الدخول في تفاصيل البحث في العقد الإجتماعي نظير البحث القائم عن غايات الحكم في النظام الإجتماعي أو البحث عن البنية الحقوقية

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 69

السابقة علي العقد الإجتماعي وهي الحقوق الطبيعية و غيرها من البحوث الأخري، فإنّ هذه الأبحاث أيضاً كلّها تؤدّي إلي تقرير حقّ حاكميته تعالي.

أمّا البحث في الأغراض فقد اختلفت فلاسفة الإجتماع البشري في تحديده، فمنهم مَن جَعل الغرض من الحكم والتدبير السياسي هو التربية الأخلاقية للأفراد و عرّف المدينة الفاضلة بذلك وهم قاطبة الفلاسفة والحكماء، سواء في العهد القديم أو فترة العهد الإسلامي، فلم يحصروا كمال الأفراد في الجانب المادي، بل أخذوا بعين الإعتبار الكمالات الروحية.

وقد برهن في الحكمة العملية أنّ الكمال الخُلُقي والعدالة الخُلُقية أُسُّها الذي تنطلق منه هو عبوديّة الإنسان لخالقه هي الحاجز عن ظهور طابع الأخلاق الوحش الكاسر علي الإنسان؛ فَعلي هذا التقرير لغاية الحكم والتدبير السياسي يتقرّر جليّاً حقّ حاكميّته تعالي.

و منهم مَن جعل الغرض من الحكم والتدبير هو الوصول للرفاه المادي، إلّا أنّ سرعان ما تبيّن في أبحاث الفلسفة الإجتماعية أنّ هذه النظرية تؤدّي إلي «اللّاعدالة» و حاكميّة أصحاب الثروة علي مقدّرات أفراد المجتمع وعلي حساب حقوق الجميع.

والسبب المكتشف لهذه النتيجة والظاهرة هو

إطلاق الرغبة المادية للأفراد من دون حاجز داخلي في أعماق كلّ فرد وقصور العقوبة القانونية عن إقامتها لذلك الحاجز.

و أمّا البحث عن البنية التحتية للعقد الإجتماعي وهي الحقوق الطبيعية، فقد تبيّن في ما مضي تقرير حقّ حاكميّته تعالي بلحاظ مبدئية الطبيعة لتوليد الحقّ.

ثمّ إنّ هناك كلمة جامعة حول مبدئية العقد الإجتماعي لتوليد الحقّ وهي ما أشار إليه الحقوقيّون والقانونيّون في التقنين الوضعي من أنّ هناك تنازعاً بين المذهب العقلي و الفردي في التقنين.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 70

و حقيقة هذا التنازع يرجع إلي التنازع بين الجانب الغريزيّ النازل في الإنسان والجانب العقلاني منه؛ فإنّ العقل قاضٍ بأنّ وصول الإنسان لكمالاته- أجمع، حتي الغريزي منها، فضلًا عن غيرها- لابدّ فيها من الإجتماع المدني و هو لا يقرّ قراره و لاتقوم دعامته بنحو يبسط فيه المجال لوصول كلّ فرد إلي كمالاته- و هو ما يسمّي بالعدالة- إلّابتحكيم قوانين الفطرة العقلية وهي فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق اللَّه، ذلك الدين القيّم.

وبذلك يتبيّن أنّ فلاسفة القانون وعلم الإجتماع لا تصحّ مقابلتهم وترديدهم البحث بين أصالة الفرد أو أصالة المجتمع الذي المراد به قوانين النظم الإجتماعي، لأنّ الدَوَران في حقيقته ليس بين الفرد وغيره، بل هو بين أبعاد الفرد الواحد ولك أن تقول بين بُعدَيْه: البُعد العقلاني وما يتبعه من الجهات الروحية والخُلُقية والبُعد الغريزي من الشهوة والغضب ولذائذ ومُتعة البدن ورفاهه الجسماني.

وقد أثبتت العلوم الإنسانية (علم فلسفة التاريخ و علم الإجتماع) أنّ التفريط بالبعد العقلاني والأخلاقي والروحي في النظام الإجتماعي مدعاة لِتَصَدُّعِ الحضارات وانهيار الأمم وزوال النظام الإجتماعي والتاريخ يعيد نفسه، فقد تكرّر ذلك في العديد من الأمم والحضارات. ونحن نشاهده في الحضارة الغربيّة الآخذة

بالتَّهَرُّءْ والفوضي الروحية وتصدّع الأسرة وتفاقم الأمراض الروحية.

فحيث إنتهينا إلي هذه الضرورة في العقد الإجتماعي من مراعاة الجانب الخُلُقي والعقلاني فمن الثابت في موضعه أنّ الفلسفة الأخلاقية والعقلية لا ينبني سَرْحُها إلّابأساس التوحيد وبالتالي حقّ حاكميّة الباري تعالي في كل هذه المراحل المنتهية إلي النظام الإجتماعي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 71

معني حاكميّة اللَّه تعالي … ص: 71

لابدّ من الإلتفات إلي معني حاكميّة اللَّه قبل التعرّض والخوض في الأدلّة علي ذلك وبعبارة أخري: إنّ أدلّة ضرورة النبوة العامّة والخاصّة هي عبارة عن الحاكميّة التشريعية للَّه تعالي، كما أنّ أدلّة الإمامة هي عبارة عن الحاكميّة التدبيريّة للَّه تعالي في السلطات الثلاث التنفيذيّة والقضائيّة والتشريعيّة المتنزّلة؛ فأدلّة ضرورة النبوة هي في الحقيقة حاكميّة للَّه تعالي وفي الدرجة الثانية هي وصاية للنبي صلي الله عليه و آله و سلم علي الطبيعة البشريّة وكذلك الحال في أدلّة الإمامة هي بالدرجة الأولي حاكميّة للَّه أوّلًا في السلطة و بالدرجة الثانية حاكميّة للرسول صلي الله عليه و آله و سلم وبالدرجة الثالثة هي حاكميّة للإمام المعصوم عليه السلام، و من ثمّ كانت أصول الدين كلّها عبارة عن صياغات للتوحيد في مقامات متعدّدة، أي توحيد الذات والصفات والتوحيد في التشريع والتوحيد في الولاية والحكم والتوحيد في الغاية.

و من ثمّ لا توحيد تامّ في الأديان إلّافي دين الإسلام علي ما هو عليه في مذهب الإمامية ولم يتمّ نصاب التوحيد في بقية الفِرق الإسلامية كما لم يتمّ عند أتباع الأديان السماوية السابقة.

والحاصل أنّ أدلّة النبوّة والإمامة مجموعهما هي أدلّة لحقّ حاكميّة اللَّه تعالي في مجال التشريع والتقنين وفي مجال التدبير السياسي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 72

أدلّة حاكميّة اللَّه تعالي … ص: 72

اشارة

و حيث قد تبيّن مناشئ الحقّ وكيفية تولّدها، يمكن للباحث حينئذٍ أن يصوغ الأدلّة الآتية علي حاكميّة الباري تعالي علي النظام الإجتماعي بِلُغَةٍ حقوقية.

ويجب الأخذ بعين الإعتبار مؤدّي كلّ دليل وشموليّته لحقّ التشريع في كافّة المجالات ولحقّ الحاكميّة القضائية ولحقّ حاكميّة التدبير السياسي.

الدليل الأول كون الإنسان مدنيّاً بالطبع … ص: 72

و قد صاغ هذا الدليل وقرّره كلّ من الحكماء والمتكلّمين وغيرهم من أصحاب علم المعرفة وعلم الاجتماع من أنّ الإنسان مضطرّ إلي الحياة الاجتماعية و هي متوقّفة علي الحاكميّة النموذجيّة في جانب التشريع أو في جانب التدبير.

أّما المقدّمة الأولي

فمِن البديهي أنّ الإنسان لا يتوصّل ولا يقضي كثيراً من حاجياته إلّابتوسّط تبادل الخدمات مع أفراد جنسه البشري، وبالتالي فتلبية كثير من حاجياته الجِبِلّيّة والغريزية تتمّ بالإستخدام المتبادل بين الأفراد، بل الحال كذلك في الجوانب الروحية و النفسية، فإنّه يميل فطرةً إلي الألفة والأنس ببقية أفراد جنسه؛ و كمالاتُه

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 73

الروحية أيضاً إنّما تتمّ بتبادل العلوم في شتّي المجالات وتبادل المهارات وكذا التأثير المتبادل في نظام السلوك. وقد أشبعتْ العلوم الإجتماعية والنفسانية هذا الجانب بحثاً ودراسةً.

أمّا المقدّمة الثانية

إنّ توقّف الحياة الإجتماعية علي الحاكميّة النموذجيّة في جوانبها العديدة- والتي أبرزها جانب التشريع والتدبير- فلأنّ حفظ تآلف مجموع النظام المدني إنّما يتمّ بتوفّر الفُرَص للأفراد ليقضي كلّ منهم حاجياته ورغباته وهو معني العدالة الإجتماعية.

ولا يتمّ حفظ العدالة إلّابالتشريع العادل في كلّ تفاصيله ومِن بعده التدبير العادل والتطبيق الدقيق إلي ذلك التشريع. والتشريع الجامع القانوني يتطلّب مُشرّعاً ومقنّناً عارفاً وعالماً ومحيطاً بحقائق الأفعال، سواء علي صعيد النُظُم أم علي صعيد الأفراد والأُسَر، و الغايات والكمالات المطلوب الوصول إليها ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» «1»

كما يتطلّب

ذلك أن لا يكون المشرّع والمقنّن نفعيّاً يُراعي مصلحتَه الخاصّة و إلي ذلك يشير قول الحكماء في أنّ الجواد هو الفاعل بالعناية وكذلك الحال في مقام التدبير بالمعني العامّ الشامل للجوانب المختلفة و لاريب أنّ هذه الصفات لا تتوفّر بنحو مطلق إلّافي الباري تعالي، فهو أحكم الحاكمين في كلّ مجال و مقام، كما قال تعالي: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» * «2»

فالحاكميّة للَّه تعالي سواء في جانب التشريع أم في جانب التدبير، ولا يتوفّر هذا التقرير من حاكميّته تعالي المطلقة في كلّ الجوانب إلّاعند أتباع الشرائع

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 74

السماويّة، بل خصوص نظرية الإمامة عند أهل البيت عليهم السلام، حيث أنّ الإمام وعاء لهبوط الإرادات والمشيئات الإلهية.

و يمكن أن يصاغ الدليل المتقدّم بأنّ: غاية الوجود والايجاد هو الكمال و السعادة، و الحركة باتّجاههما- مع انطواء الإنسان علي الغرائز المختلفة المتضادّة و عقله و علمه المحدودين- يضطرّ إلي الإستعانة بتعاليم الإله بتوسّط الأنبياء و الرسل ومن ثمّ يشاهد- علي الدوام- اختلاف المذاهب البشرية في النظام المدني في شتّي المجالات، بل المشاهد من أصحاب المدارس الأخلاقية والحقوقية، الإختلاف الشديد في تشريع القوانين والسنن وعجزهم عن تعديل الغرائز بنحو متوازن يؤدّي إلي حركة المجتمعات نحو الكمالات المنشودة لدي جميع أفراد المجتمع.

و يمكن أن يُصاغ هذا الدليل بصياغة ثالثة و هو أنّ الملاحظ في تاريخ الحضارات البشرية إلي يومنا هذا أمران:

الأول: السعي البشري الحثيث في مختلف العلوم والفنون والمهارات بلا انقطاع لأجل التكامل والتطوّر والتقدّم.

الثاني: الإيقان الفطري البشري من الجميع بأنّ هذه المسيرة والحركة لن تتوقّف عند حدّ، بل هي مستمرّة

و هذان الأمران يقتضيان أمرين آخرين:

1. وجود حقيقة منشودة و واقعيّة مطلقة مرسلة غير محدودة يتوخّي الجنس البشري الوصول إليها

وهي خفيّة عليه، لأنّه من غير المعقول أن يكون هذا السعي والطلب من جميع الجنس البشري إلي شي ء يسمّي الكمال والسعادة مع كونه أمراً موهوماً وخيالًا فارغاً.

2. إنّ الإحاطة بهذه الحقيقة لن تتمّ للبشر من أنفسهم، لأنّه لو احتُمل الوصول في يومٍ مّا إلي تلك الحقيقة، لكان اللازم هو توقّف عجلة الحركة والتكامل وقد

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 75

فرضنا امتناع سكون تلك الحركة. هذا يقتضي عدم وصول البشر من أنفسهم في يومٍ مّا إلي الإحاطة بتلك الحقيقة وبالتالي دَوْماً في حالة عجز عن إدراك تمام حقيقة الكمال والسعادة في شتّي المجالات و العلوم، لأنّ المقدّمتين الأوّلتين منتشرتان في كلّ العلوم والمجالات؛ فحيث يكون البشر بهذه المرتبة من العجز فهو مضطرّ إلي سدّ عجزه بالإلتجاء إلي المنبع المحيط بحقيقة الكمالات والسعادة وهو الخالق وصانع الأشياء أجمع.

و الإلتجاء إنّما يتمّ بالرجوع إلي تعاليم الأنبياء والرسل والإتّباع للقادة المنتجَبين من قِبَلِه تعالي الذين اصطفاهم لتدبير النظام المدني البشري.

الدليل الثاني [أنّ للإنسان نشأة أبديّة وراء هذه النشأة المنقطعة] … ص: 75

حيث إنّ مرتبة البحث في المقام بعد الفراغ عن المعرفة التوحيدية وعن أنّ للإنسان نشأة أبديّة وراء هذه النشأة المنقطعة وأنّ أفعاله في حياته الفعلية علي النطاق الفردي والأُسَري والاجتماعي المدني ترتبط بآثار ونتائج علي تلك النشأة، بمقتضي سنن الوجود والتأثير والتأثّر بين العوالم، كما هو الحال في تأثير النشئات السابقة للإنسان، نشأة الأصلاب والأرحام في وجوده الفعلي، وبالتالي فإنّ السعادة والكمال اللذَيْنِ ينشدهما الإنسان ليسا مقصورين علي هذه الحياة الفعليّة، بل هما مرجوّان في تلك الحياة الأطول والنشأة الكُبري.

هذا من جانب ومن جانب آخر لم يتفطّن البشر في علومهم وفنونهم إلي المناسبة بين هذه الأفعال في هذه الدار وآثارها ونتائجها في أفعالهم في هذه النشأة بنحو يكفي لهم السعادة

في النشأة اللّاحقة ولا هادي إلي ذلك إلّااللَّه تعالي أو مَن ابتُعث من قِبَله أو من استُخلف من قِبله لذلك وهذا ليس مقتصراً علي التشريعات الكلّية، بل حتي في مقام تطبيقها وتدبير الشئون السياسية والقضائية، وتنزّل تلك التشريعات إلي تشريعات متوسطة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 76

ويفترق هذا الدليل عمّا سبق في أنّ الدليل الأول قد جعل فيه عمدة مقدّمات الدليل السعادة والكمال الدنيوي، بينما في الدليل الثاني قد جعل عمدة مقدّمات الإستدلال فيه، هي سعادة الحياة الأبدية، وهي الحياة الثانية لا الحياة الأولي.

الدليل الثالث [كلّ شئون الحكم تشريعاً و تدبيراً راجعة إليه تعالي] … ص: 76

قد مرّ في مبحث مناشئ الحق وكيفية تولّدها، تولّد الحقّ من الطبيعة وبحسب الوجود الخارجي ويطلق عليه الحقّ الطبيعي ومن المحقَّق في محلّه أنّ كلَّ ما في الوجود ينتمي إلي خَلْق اللَّه و فِعله، بل كلّ ما في الوجود قائم وجوده الآن باللَّه تعالي، فالمخلوقات مملوكة لقدرته تعالي التكوينية. وبالتالي فالحقّ الإعتباري يتولّد من هذا الملك الطبيعي؛ فكلّ شئون الحكم تشريعاً وتدبيراً راجعة إليه تعالي «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» * «1»

ويفترق هذا الدليل عن سابقه أنّ عمدة مقدّمة الإستدلال في الدليلين السابقين هو حول كمال الإنسان و منافعه و أمّا في هذا الدليل فعمدة مقدّمته هي الملكيّة الطبيعية للباري تعالي وتولّد الحقّ منها.

الدليل الرابع: وجوب شكر المنعم … ص: 76

بعد ما ثبت أنّ الباري هو المنعم بكلّ النعم وليست الأسباب التكوينية إلّا مجاري فيضه وسَيْبه علي الخلق، بل أصل الخلقة هي النعمة الكبري علي المخلوقات، فضلًا عن الكمالات الأخري وشكر كلّ منعم بحسبه؛ فإنّ الباري تعالي الأزلي لا يصل إليه نفع المخلوقين وإنّما الشكر اللائق به تعالي هو معرفته والخضوع له بالعبادة وطاعته من الأعمال التي هي إحدي نعمه بصرفها في الهدف الذي خُلق لأجله وهذا الوجوب مبتنٍ علي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، أي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 77

علي هذا النمط من حكم العقل وبالتالي فحق الحاكمية يتولّد من حكم العقل الذي هو أحد مناشئ الحق وهو في الحقيقة راجع إلي كمالٍ خفيٍ يرجع إلي الشاكر نفسه.

الدليل الخامس: وجوب دفع الضرر المحتمل … ص: 77

و هذا الوجوب قد فسّر بعدّة تفسيرات، كما أنّ المراد من الضرر هو الضرر المتوجّه من المولي الباري تعالي بسبب المخالفة، سواء كانت العقوبة جزاءً اعتبارياً قانونياً أم إفاضة من الباري تعالي ما يناسب الملكات الرديّة والأفعال القبيحة الذي يقال عنه بتجسّم الأعمال أم غيرها من وجوه العقوبة المحرّرة والمقرّرة في بحوث علوم المعرفة؛ فما دامت العقوبة محتملة و الإستحقاق مجزوماً به فوجوب دفعه محقَّق إمّا لقضاء العقل النظري بذلك أو نفرة العقل العملي من الضرر المحتمل وهو ما يسمّي بالفطرة العقلية أو لقضاء الطبع الحيواني أو لكونه منافياً للجِبِلّة الطبيعية وسواء كان ذلك الضرر المحتمل دنيوياً أم أخروياً.

و هذا الدليل تفسيره في توليد الحق يتناسب ويتناغم مع المبدأ الأول الذي مرّ في منشأ تولّد الحقوق مع التحفّظ بالقيود التي أثرناها حول تلك النظرية.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 79

أدلّة نفي حاكميّة اللَّه تعالي عند العلمانيّين … ص: 79

اشارة

أدلّة نفي حاكميّة اللَّه تعالي عند العلمانيّين

أدلّة العلمانيين النافين للحاكميّة الدينية ونظريّتهم وإن تعدّدت في الصياغة تارة بتعبير فصل الدين عن الحياة السياسية وأخري بفصل الدين كمسير أخروي عن نظام الحياة المدنية وثالثة بأنّ الدين يتكفّل البرنامج الروحي للأفراد لا علي النظام المادّة والأبدان، وغيرها من قوالب التعبير المرفوعة لديهم وقد صاغوا لنظريتهم عدّة من الأدلّة:

الدليل الأول إنّ الدين و القوانين الثابتة لا يتمكّن من تلبية الجانب المتغيّر في الإنسان، … ص: 79

اشارة

حيث إنّ طبيعة الإنسانية هي علي الدوام في مسير التحوّل والتبدّل وكذلك في علاقة الإنسان مع البيئة المحيطة به، فإنّ تلك العلاقة والرابطة خاضعة لسلسلة غير متوقّفة من التغيّرات والتبدّلات فكيف يفرض جانب ثبات فيها؟

والجواب عنه: … ص: 79

أولًا: إن الأدلّة التي صاغوها علي ظاهرة التغيّر في الإنسان ومعيشته في البيئة لا تقتضي عموم التغيّر في كلّ الموارد وإلّا لَوَرَد علي هذه الدعوي ما يرد علي نظرية

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 80

التضاد الديالكتيكي، بل إنّ جوانب الثبات في الإنسان والبيئة كثيرة جداً؛ وأبين برهان علي وجود أبعاد الثبات فيهما ما يشاهد من طلب الباحثين في العلوم التجريبية- كعلم الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات- من السعي والتحرّي لاكتشاف القواعد الكليّة الشاملة بكلّ الجزئيات المتغيّرة، بحيث لا يشذّ منها الموارد الجزئية؛ فتري باحثي العلوم والِهينَ في طلبهم حياري وراء جاذبية الكليّات الثابتة ويفرّون من الإعتماد علي المتغيّرات.

و بعبارة أخري: إنّ طبيعة الإنسان سواء البدنية أو الروحية وإن جرت عليها سلسلة من التغيّرات إلّاأنّ هيئة أعضائه واحتياجاته الطبيعية لم تختلف منذ نشأة الإنسان علي وجه الأرض إلي يومنا هذا وكذلك الحال في العناصر الطبيعية المحيطة به من الهواء والتراب والطبائع الحيوانية والنباتية، فإنّها وإن جرت عليها عوارض متغيّرة عديدة إلّاأنّ جانب الثبات في طبائعها هو الأكثر.

و ثانياً: إنّ حالة التغيّر الدائم في الجهة المتبدّلة من الإنسان والبيئة لا تقتضي نفي وجود العلم والقواعد الكليّة الجامعة الضابطة للجزئيات بنحو حاصر لها، نعم هي تقتضي ضرورة وجود الشخص المحيط بإحاطة لدنيّة بذلك العلم المحيط الشامل يكون هو المؤهَّل لدراية وتدبير الجزئيات بحيث لا يشذّ عنه شي ء من الجزئيات بكلّ مدارجها ومحالّها ومواضعها اللازمة. فالدليل المزبور إنّما يصبّ في ضرورة وجود الشخص الكامل وعدم كفاية

الناقص. وهذا الدليل مؤشّر في النزعة الفطرية البشرية لتحسّس الإضطرار والإفتقار إلي وجود الشخص الكامل المتكفّل لايصال هداية الباري تعالي للبشرية.

وبعبارة أخري: إنّ المتغيّرات- مهما فرض تكثّرها وسلسلة تبدّلها- فإنّنا بضرورة الوجدان نذعن بوجود حيثية كليّة عامّة نافذة في كلّ تلك السلسلة، بها تنحفظ وحدة السلسلة ويبقي دوامها وتلك الجهة من الجهة ليست إلّاهي القانون الثابت؛ فلو افترضنا أنّ باحثاً من علماء القانون استطاع أن يهيمن ويطلع علي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 81

أدوار البشرية منذ بعثة النبي الخاتم صلي الله عليه و آله و سلم إلي اليوم الموعود من انقراض النسل البشري علي وجه الكرة وكان اطلاعه محيطاً بكلّ التفاصيل والمجريات، ألا يقضي العقل حينئذٍ إنّه بالإمكان حينئذٍ استخلاص قواعد قانونية ثابتة تسيطر علي توليد المسير المعتدل من أطوار التغير المختلفة؟ لا ريب إنّ الإجابة هي المثبتة بالإضافة إلي ما يأتي في الجواب الثالث.

و ثالثاً: إنّ التقنين الديني والتشريع الإسلامي حيث كان جانب الثبات فيه من الأصول التشريعية فَقَدْ روعي فيه فتح المجال من جهة المتغيّر، أي في جانب الموضوعات وحيثيّة التطبيق، مِن ثمّ لم يحدّد التشريع الإلهي شكل الحكومة وآليّاتها التفصيلية وآليّات المشاركة ونحوها؛ وذلك لاختلاف هذه الأمور في كلّ عصر بحسبه إلي غير ذلك من مجالات التطبيق المفتوحة.

وبعبارة أخري: إنّ التشريع الإلهي كما روعي فيه جانب الثبات روعي فيه آليّة المتغيّر أيضاً وإيهامُ أنّ مدار الثبات لا يعالج المتغيّرات ولا يتقبّلها مغالطة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 82

الدليل الثاني إنّ التغيير السريع و الواسع بسبب احتياجات البشر في كافّة المجالات تستلزم دوام الوحي … ص: 82

اشارة

وإلّا فلابدّ من فسح المجال للعقل كي يُغَطّي مساحات الحاجة المستجدّة وبالتالي سيكون الدور الأهمّ في التشريع هو في التقنين العقلي والعقلائي وإن استلزم نسخ العقل للتشريع الديني ورفع تلك الأحكام.

و الجواب عن هذا: … ص: 82

أولًا: إنّ هذا الدليل يرجع لبّاً إلي الإستدلال السابق فيواجه الأجوبة المتقدّمة.

و ثانياً: إنّ هذا الإستدلال قد افترض فيه قصر الشريعة علي الظواهر و أنّ تمام الشريعة هي في ظواهر الأدلّة المتناولة بين الأيدي ولكن هذه الفرضية بمنأي وبعيدة عن حقيقة الشريعة، فإنّ القرآن ينادي

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

و غيرها من الآيات التي تثبت تأويلًا للشريعة لا يصل إليه فقهاء الشريعة وعامّة المسلمين، بل هو عند الراسخين في العلم من المعصومين وهذه الحقيقة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 83

هي أحد أدلّة ضرورة وجود المعصوم المفسّر للحقائق القلبية للشريعة. نظير قوله تعالي:

«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» «1»

حيث تبيّن الآية أنّ حقائق الكتاب العِلْوية لا يمسّها إلّاأهل آية التطهير من عترة النبي صلي الله عليه و آله و سلم وكذلك قوله تعالي في سورة الكهف في قول العالم لموسي عليه السلام:

«ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» «2»

و بعبارة أخري: إنّ هذا الإستدلال يدلّل علي ضرورة وجود المعصوم وعدم الإستغناء عنه بفقهاء الشريعة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 84

الدليل الثالث إنّ دين الإسلام إذا أُريد له الخلود و الأبديّة فلابدّ أن يغطّي الكثير من مساحات الفراغ في مجالات الحياة … ص: 84

اشارة

و النظام الإجتماعي نظير مجالات المستجدّة الإقتصادية والمالية والمصرفية والميادين العسكرية والبيئية وقوانين الإجتماع و النظم الدولي وغيرها من الأبواب الواسعة المستجدّة مع أنّها ليس لها أيّ إشارة في المتون والنصوص الدينيّة.

الجواب: … ص: 84

أولًا: يرد عليه ما تقدّم في الأجوبة علي الأدلّة السابقة.

ثانياً: إنّ القوانين الدينية ليست تنحصر بالأبواب والفصول التي استخرجها الفقهاء علي مدي القرون، حيث كان الفقه ابتداءً يضم أبواباً معيّنة وعدداً محدوداً من المسائل إلّاأنّه بمرور القرون والأزمان المختلفة تكثّرت تلك الأبواب وازداد استخراج الفقهاء للقواعد الشرعية والقوانين الدينية والفصول الجديدة في التشريع ولكن مع كلّ ذلك هذا لا يعني أنّهم استخرجوا كلّ ما في القرآن والسنّة المطهّرة من فقه ومن قواعد شرعية؛ فإن ما في القرآن من أصول للتشريع و القوانين وكذلك ما في سنّة المعصومين عليهم السلام أوسع ممّا عليه كتب الفقهاء ولذلك تري الكتاب الفقهي الحاضر بالمقايسة مع الكتاب الفقهي قبل قرون وبالمقايسة مع الكتاب الفقهي في القرون الأولي الهجرية قد ازداد حجماً كبيراً مضاعفاً عمّا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 85

هو عليه سابقاً.

وكلّ ذلك لأجل تواصل مسيرة الإستنباط والقراءة التخصصية للشريعة ويقظة فقهاء الشريعة إلي أصول في التشريع وقواعد لم يتنبّه إليها السابقون في التخصص الفقهي وذلك لإلحاح الحاجة في الحياة المستجدّة بطرح أسئلة وبحوث اضطرارية، فعدم العثور علي أجوبة فقهية للمسائل المستجدّة من كتب الفقهاء لا ينسحب علي القرآن والسنّة، بل اللازم تظافر الجهود وتنوّعها لتغطّي حاجات الحياة المعاصرة.

و علي أيّ تقدير إنّ هذا الدليل وطبيعة المرمي الذي يهدف إليه مؤشّر إلي وجود الإضطرار والحاجة إلي المعصوم من كلّ الأزمنة والأعصار و أنّه المحيط بكافّة التشريعات الخافية علي الأجيال البشرية مهما تواصلت مسيرة الفقه والفقهاء ومسيرة التفسير وعلماء العلوم

الدينية ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 86

الدليل الرابع ليس من لوازم الخاتميّة إطلاق أحكام الشريعة و عمومها لكلّ الأزمان و الأحوال، … ص: 86

اشارة

سواء تلك الأحكام الواردة في القرآن الكريم أم السنّة النبوية ولا تلازم بين أبديّة الذات الإلهية واطلاق الأوامر الإلهية.

وينبّه علي عدم التلازم ما يشاهد في القرآن من امتزاج الأحكام والمعارف العقلانية مع أحكام وثقافات البيئة العربية ومحيط القَبَلي الجزيرة العربية والذي لا يمكن تعميمه لبقية البيئات البشرية والمحيط الزمني للأجيال اللاحقة.

ومن أمثلة ذلك ترغيبهم في الثواب الأخروي بالحور العين وتشبيههنّ بالبيض المكنون والياقوت والمرجان وغيرها من الأوصاف التي تتواجد في الجنس البشري من الأمم الأخري فلا تكون مدعاة رغبة واستثارة لبقية الأمم الأخري كي تحثّهم علي التوجّه إلي الآخرة وترغّبهم في الجزيل الثواب.

وكذلك التمثيل للثواب الأخروي بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار والفواكه الطَريّة، فإنّ محيط البادية في الجزيرة العربية، حيث لا تتوفّر لديهم مثل هذه الأشياء تكون مدعاة رغبة لهم بخلاف بقية البلدان العامرة جمالًا وخضرةً.

و الجواب: … ص: 86

إنّ أبديّة الذات الإلهية ومبدئيّتها تعني واجدية الذات الإلهية لجميع الكمالات ومنها علمه تعالي بكلّ شي ء و خالقيّته لكلّ شي ء وقدرته عليه وعلمه

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 87

بما يخلق وهو اللطيف الخبير، لطيف بما هو كمال للمخلوقات، و خبير بما هو صلاح لها؛ فلا يشذّ عن علمه وحيطته شي ء من أول الخلقة إلي آخرها.

و قد مرّ في الأجوبة السابقة أيضاً التنويه بوجوه عناصر أو جهات مشتركة كلّية عامّة في كلّ أطوار وأدوار التغيّر في مراحل البشر وعلي ضوء هاتين النقطتين لا محالة من تعلّق الأوامر الإلهية والأحكام الشرعية بما هو ثابت في كمال وصلاح البشر المنسجم مع كلّ أمثلة المتغيّر.

وأمّا حديث تصنيف القرآن إلي مَزيج من المفاد العقلاني والمفاد البيئي العربي، فإن أريد به ما يؤول إلي التفرقة بين المصاديق والحكم الكلّي العامّ، فهذا التفصيل لابدّ من مراعاته ومن ثمّ بني فقهاء

الشريعة علي أنّ المورد لا يخصّص الدليل الحكم الوارد، كما دأبوا في باب الإستظهار من الأدلّة علي التفرقة بين الموضوع الكلّي الثابت و الموضوعات المصداقية التطبيقية المتبدلّة؛ لكن تبدّل الموضوع لا يضرّ بثبات الحكم، حيث أنّ الحكم وارد علي الموضوع بنحو الفرض التقديري فلا يزلزل ثبات التشريع تبدّل المصاديق، لأنّها إن خرجت من الإندراج تحت تشريعٍ مّا عادت بالإندراج تحت تشريع آخر ومثل ذلك ما لو لم يتحقّق مصداق للموضوع المأخوذ في الحكم التشريعي، فإنّه لا مجال لفعلية الحكم حينئذٍ لكن هذه الصورة الثانية أيضاً لا تعني تبدّل الحكم وعدم ثباته.

و أمّا إن أريد من التفصيل المزبور أنّ جملة من الأحكام هي محدودة بذلك العصر أو منسوخة في هذا العصر، فهذا خلاف إطلاق دليلها والتمسّك بالأصول العامّة التشريعية وبالأدلّة المقرّرة لروح الشريعة لا ينفي تلك الأحكام إلّابما يرجع إلي تبدّل الموضوع أو ملاحظة المناسبة والتناسب بين منظومة الأحكام ومشجّرة التشريعات وباب توارد الأحكام بعضها علي بعض أو تزاحمها والتشبّث بالأصول التشريعية ورفع اليد عن التشريعات المتنزّلة لا يصحّ بعد لزوم طاعة الرسول وأولي الأمر من أهل بيته؛ نعم ملاحظة التناسب القانوني والعلاقات

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 88

والروابط بين فصول التشريع بالقواعد والموازين المقرّرة العلاجية أمر قانوني منضبط.

و أمّا الأمثلة المذكورة فالترغيب والترهيب ليس ناشئاً من البيئة وظرف زمني معيّن، بل هو ناشئ من غرائز مفطور عليها البشر أيّاً كانت بيئته وأياً كان زمنه فها نحن نسمع بالشره والولَه الغريزي لدي الغرب بحكايات يمجّها الطبع الشرقي فقد ساء الخُلُق والآداب الجنسية لديهم بدرجة مسعورة فَقَدَ العقلُ السيطرة عندها. فَوُفْرَةُ الجمال لديهم لم نَرَها موجبة لفتور الجنس، بل لزيادة حرارته وهذه الظاهرة إن دلّت علي شي ء فإنّما

تدلُّ علي وجود الطلب الغريزي لدرجات أكثر صفاءً ولطفاً وجمالًا وبهاءً لا تتوفّر في هذه النشأة المادية الغليظة الكثيفة.

و بعبارة أخري: إنّ هذه الغرائز ليس الحامل لها البدن، بل الروح و إنّما البدن الدنيوي أداة و آليّة لوصول إلي بعض درجات غايات وأفعال تلك الغرائز، فالإنسان في روحه وأبدانه البرزخية والأخروية مطويّ علي تلك الغرائز تنجذب ذاته نحو تلك الغايات و من ثمّ كان الدين الإسلامي دين الفطرة لا دين البيئة الخاصة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 89

الدليل الخامس إنّ حاكميّة الدين في شئون الحياة و نظمه للبناء الإجتماعي مبتنٍ علي تشريع أصول وقواعد ثابتة، … ص: 89

اشارة

والتراث الديني يفتقر عن وجود نصوص ثابتة قطعية الدلالة بعيدة عن الترديد في الإحتمالات المتعدّدة في المفاد. هذا لو سلّمنا بصيانة القرآن وحفظه عن التحريف، إلّاأنّه لا ضمان عن التحريف في المستقبل الآتي.

والجواب عن ذلك: … ص: 89

أولًا: إنّ وجود الأصول والقواعد التشريعية القطعية اليقينيّة لا ريب فيه في الشريعة الإسلامية سواء من حيث الصدور أو من حيث الدلالة وإن كان وجه حجّية القرآن لا تعتمد علي التواتر ولا علي الصحابة في نقله بتاتاً، بل اليقين بكونه كلام اللَّه الخالد هو وجوه الإعجاز فيه المتعدّدة سنخاً ونوعاً وقد أوصل تعدادها بعض من العلماء إلي عشرين نوعاً، سواء من ناحية النظم والبديع والبلاغة أم من ناحية الملاحم التي تنبّأ بها المجالات المختلفة والتي تحقّقت جملة منها وتأتي جملة أُخري أم من ناحية العلوم العديدة الطبيعية والمعارف الإلهية والإنسانية والتي أثبتت التحقيقات العلمية اتقان قواعدها المنوّه بها في القرآن.

هذا فضلًا عمّا لم يتوصّل البشر إلي الإكتشاف منها ولا سيّما المعارف الإلهية حيث إنّ ما جاء به القرآن من دقائق المعارف الإلهية لا يوجد جزء من معشارها في العرفان والتصوّف البشري، سواء الهندي أم المسيحي أم غيرهما.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 90

والوجه الآخر لحجيّةالقرآن هو العترة المطهّرة الحائزة لأسمي صفات الفضائل علي كافّة البشرية، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي:

«كَفي بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» «1»

و قد قال تعالي أيضاً: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «2» وغيرها من الآيات المتضمّنة للحفاظ علي الدين وثوابته كقوله تعالي: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «3» بنحو التأبيد إلي يوم القيامة «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» «4» كافّة للأجيال البشرية إلي يوم القيامة المستلزم للبقاء وحفظ هذا

الدين من قِبل اللَّه تعالي بتوسّط خليفته في الأرض وحجّته علي عباده، لا بدونه كما نطق بذلك القرآن الكريم في آيات حجّية الثقلين معاً كسورة آل عمران و الواقعة و النحل و غيرها وإلّا لزاغت الأمّة المتشابهات ولو فطنت الأمّة للتأويل الحقّ للشريعة الذي واكب الأدوار والأصول المختلفة.

و ثانياً: إنّ توفّر اليقين في هذه النشأة نزر قليل كما جاء في الحديث: «إنّ أقلّ ما قسّمه اللَّه بين العباد، اليقين»، فطلب اليقين في كلّ الأمور هو من طلب الممتنع وقوعاً و إنّما اللازم بناء الأدلّة الظنّية علي وفق اليقين وهدايته، كي تكون مبنيّة علي ركن وثيق.

و بعبارة اخري، إنّ اللازم البناء علي اليقين باعتبار الشرعي الإلهي لرأس هرم منظومة الظنّيات والتي يتشعّب منها بقيّة درجات تلك المنظومة وبالتالي فيكون الفراغ من عهدة التكاليف يؤول إلي اليقين؛ نعم هذا الدليل يبيّن حقيقة اخري وهي اضطرار البشر إلي الحجّة لأنه الذي يمتلك اليقين التامّ والحقيقة المحيطة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 91

بالواقع بما أوتي من علم لدني إلهي وأما البدائل الأخري- و لو الطرق الشرعية الإضطرارية- فإنّما هي من باب أكل الميتة، كما عبّر الميرزا النائيني في كتاب تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة، فهذه الجدلية في الإستدلال لدي القائل تبيّن الضرورة و الإضطرار إلي المعصوم الحجّة، فهذه المقدّمة في الإستدلال تامّة كما أنّ هناك مقدّمة أخري في الإستدلال حقانية أيضاً و هي أنّ الإمامة بنحو الدائرة المطلقة والقيادة الفردية لرأس كلّ الأمور، أي تمركز القدرات و القوي، لا يصحّ عقلًا أن يفوّض إلي غير المعصوم، لعدم وجود الأمان والضمان والعصمة العلمية والعملية التي في المعصوم.

وبالتالي فلابدَّ من نمط الحاكميّة الجماعيّة وإدارة الأمور بأحد أشكال العقل الجماعي وهذه الظاهرة هي التي توصّل إليها

البشر في تمدّنه الحاضر كبديل اضطراري ناقص عن الإنسان الكامل. وعلي هذا فلابدَّ من توزيع القدرة وتقاسم السلطات والمشاركة الجماعيّة في التدبير بأشكال مختلفة فضلًا عن رقابة الأمّة جمعاً للسلطة.

نعم المدّعي الذي يريد المستدلّ التوصّل إليه- من تنحية الأحكام الشرعية عن مسرح التطبيق في النظام الإجتماعي السياسي ولو بدرجتها الظنيّة المعتبرة- خاطئ، فإنّ الدرجة الظنيّة من الوصول إلي الحقيقة وإن لم يكن وصولًا حقيقياً محيطاً بالسعادة والكمال الحقيقي المتوفّر في الدين والإسلام بحسب الواقع المتوفّر عند المعصوم فقط دون غيره إلّاأنّ تلك الدرجة مهما تكن أولي من الإقتصار علي نتائج العقل التجريبي والظنّي.

و لك أن تقول: أنّ هناك فوارق عديدة بين الطريق الظنّي المعتبر في الشريعة والنتائج الظنيّة في العقل التجريبي:

الفارق الأول: إنّ الظنون المعتبرة في الشريعة وإن كانت هي ظنيّة وكذا نتائجها وانشعاباتها إلّاأنّ اعتبارها و رسميّة صلاحيّاتها وصفة حجيّتها و علميّتها يقينية

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 92

من قبل المشرّع السماوي الأزلي المهيمن علي شئون الخلقة، بخلاف المناهج والطرق الظنيّة في العقل والعلوم التجريبية البشرية، فإنّها من باب الإضطرار لسلوك أفضل السبل الممكنة وهي الطرق الظنيّة التي تتوصّل إليها التجربة المحدودة والعقل المحدود البشري.

الفارق الثاني: إنّ المظنون و متعلّق الظن في الظنون الشرعية هو أحكام الباري تعالي وإراداته النابعة والناشئة من علمه المحيط بمخلوقاته بخلاف مظنونات العلوم التجريبيّة الإنسانية الإجتماعية، فإنّها عبارة عن ظواهر أحداث جزئية محدودة مهما تكثّر العدد فيها؛ فهناك فارق كبير بين المتعلّق والمورد المحيط مع المورد المحدود جدّاً بالقياس إلي الأول.

الفارق الثالث: إنّ الطرق الظنيّة المعتبرة في التشريع الإلهي اعتبارها لديه دالّ علي غلبة إصابتها الواقع علي حالات إخفاقها وخطائها بخلاف الطرق الظنيّة والمناهج غير اليقينية التي يسلكها البشر ممّا

تمليه التجربة كالقياس الظنّي والتمثيل كذلك و الإستقراء الناقص نقصاً من جهة الأفراد والحالات.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 93

الدليل السادس إنّ الحكم و الحكومة يتقوّم بمعارف عملية و فنون و مهارات في تدبير مفاصل و أجنحة الحكم السياسي لإدارة دفّة الأمور … ص: 93

اشارة

و لاريب أنّ مثل هذه العلوم و المعارف أجنبيّة عن المشروع الديني.

و يرد عليه … ص: 93

بعد الإلتفات إلي أنّ مراده بالمعرفة العملية هي قوانين النظام الإجتماعي أن المشروع الديني مملوء بأبواب وفقرات قوانين النظم الإجتماعي سواء في جانب الجنايات أم الحقوق المدنية أم حقوق الأسرة أم قوانين و صلاحيّات للسلطة السياسية، فضلًا عن قوانين القضاء وغيرها عن بقية مرافق المعيشة والحياة الإجتماعية.

و أمّا فنون مهارات التدبير فهي أمور لا ربط لها بمنظومة علم القانون والحقوق و إنّما هي ترجع إلي علوم الإدارة والعلوم السياسية وقد خلط المستدلّ بينهما، مضافاً إلي أنّ الحكم السياسي يعتمد علي آليّات وعلوم عديدة في تدبير الحكم ولكن لا ربط لها بعلم القانون والحقوق وتباين هذه الحيثيات لا ينفي وجود الحيثية القانونية في المشروع الديني التي هي محطّ البحث.

مضافاً إلي أنّ للدين رؤية و خطوطاً عامّة في كافّة العلوم، كما ذهب إلي ذلك جملة من علماء الإسلام بمقتضي قوله تعالي: «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 94

الدليل السابع إنّ مقدار ما هو ضروري في الدين إنّما هو اثبات الخالق و الإعتقاد و الإيمان به … ص: 94

اشارة

وكذلك الإعتقاد والإيمان بصفاته و أمّا أفعاله ودخالته في أمور عباده فلا تصل إلي درجة الضرورة المتوفّرة في القسمين الأولين، بل هي محلّ أخذ وردّ.

و يرد عليه … ص: 94

بُعدُ المستدلّ عن الإحاطة بالأدلّة والمعارف الدينيّة والخوض في أبوابها، حتي تَوَهّم أنّ الأدلّة اليقينيّة مقتصرة علي التوحيد في مقام الذات و الصفات دون التوحيد في مقام الأفعال- أي علي تجميد التوحيد و حبسه عن السريان و الشمول في النظام الإجتماعي وإزواء حاكميّة الباري تعالي في النظام السياسي-.

و في الحقيقة إنّ هذا الإزواء لحاكميّة الباري و التوحيد علي صعيد الحكومة السياسية لا يقتصر علي أصحاب النظرية العلمانية، بل يشاهد في غالب المذاهب الإسلامية عدا مذهب أهل البيت عليهم السلام فإنّ المذاهب الإسلامية وإن أقرّت بوجود القانون الديني في النظام الإجتماعي إلّاأنّها رفضت دخالة السماء في الحاكميّة العملية للنظام السياسي، بينما نجد الحاكميّة الإلهية في حكومة الرسول متجليّة بوضوح؛ فإنّ الحاكم الأول في حكومته صلي الله عليه و آله و سلم هو الباري تعالي، سواء علي صعيد الحاكم السياسي أو القضائي أو التشريعي، و الرسول صلي الله عليه و آله و سلم هو الحاكم الثاني في حكومته، كما يستعرض القرآن سيرة حكومة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم وفجأة تتبنّي المذاهب الإسلامية فترة ما بعد الرسول انحصاراً لحاكميّة الباري تعالي لعدم وجود القناة البشرية التي تتنزل عليها إرادات اللَّه ومشيئاته.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 95

الدليل الثامن إنّ الدين حيث إنّه حقيقة و ليس مجموعة أوهام و سراب فلا محالة لابدَّ أن يتّكئ علي اليقين و البرهان والدلائل الموثّقة علميا … ص: 95

اشارة

وإذا كان الحال كذلك فها نحن نري أنّ المعرفة المشتقّة من الإستنباط هي معرفة ظنيّة، فتتدافع مع الحقيقة الدينية من جانبين:

الأول: ما تقدّم من كون الدين مجموعة ومنظومة يقينية وحقائق موثّقة علمية فكيف يتضمّن ظنوناً وحدسيّات تخرّصية.

الثاني: إنّ اليقيني لا يشتقّ منه ظنّي وأصل المعرفة الدينية يقينية، فكيف تولّدت منها الظنون؟

وهذا الدليل الثامن قد تقدّم الجواب عنه … ص: 95

في ذيل الدليل الخامس ونضيف إليه في المقام: إنّ مساحة اليقينيات في الشريعة ومفردات اليقين وموارده تتعلّق وتشمل الأصول الإعتقادية والمعارف النظرية، كما أنّها تشمل أركان المعرفة العملية و ما يسمّي بنُظُم السلوك الفردي والسلوك في النظام الإجتماعي وقوانين النظام السياسي.

و أمّا تفاصيل المعرفة النظرية- المترامية سعة وامتداداً وكذلك تفاصيل المعارف والقوانين العملية وتشعّباتها المتراكمة الممتّدة بامتداد شعب وتفرّعات الحياة العملية الفردية والإجتماعية- فغير مشمولة في الغالب لدائرة اليقين، بل لدرجات الظنّ قوّة وظنّاً.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 96

والسرّ في ذلك أنّ الدليل الكاشف والطريق للمعرفة للشي ء لابدّ أن يتناسب طرداً مع أهميّة و درجة الشي ء نفسه؛ فكلّ ما ازدادت أهميّة الشي ء وموقعيّته في منظومة قوانين معيّنة أو في منظومة معارف نظرية معيّنة لزم ازدياد درجة قوّة الدليل علي ذلك الشي ء بنسبة اطّرادية، و ذلك لأهميّة ذلك الشي ء، فأهميّته موجبة لتوليد الأدلّة الدالّة عليه الموازية له والعكس كذلك، فكلّ ما تضاءلت أهميّته تضاءلت أيضاً درجة قوّة الدليل والطريق المنصوب للوصول إليه.

وهذه السُّنّة معادلة فطرية في الفطرة العلمية والعملية و من ثمّ نَري أنّ أدلّة التوحيد و المعاد في الشرائع السماوية هي أبين من الأدلّة المُقامة علي النبوّات، و كذلك نري الأدلّة الواردة علي النبوّات أبين من الأدلّة المُقامة علي الإمامة وكذلك الأدلّة المقامة علي الإمامة أبين من الأدلّة الواردة في بقية أركان فروع الدين

وإن وقع فيها الخلاف الكبير إلّاأنّ ذلك لا يغيّر صفة الدليل في نفسه؛ فالمطالبة باستواء أدلّة الشريعة في درجة واحدة يناقض الأصول والموازين العلمية للمنطق العلمي من العلوم وفي منهجة القوانين الوضعية أيضاً.

أمّا تولّد الظنّي من اليقيني فذلك لا يعني أنّ الظنّي من أفراد اليقيني كي يتوهّم التناقض حينئذٍ ولا يعني أيضاً اتحاد المورد والمتعلّق، بل متعلّق ومساحة اليقيني مختلفة مع متعلّق الظنّي و إنّما الدليل اليقيني قام علي صفة الظنّي- أي مفهوم حجيّته و ما قد يسمّي في الإصطلاح بمحمول وحكم الظن- فالمغالطة نشأت من ذلك؛ و هي ناشئة من الخلط بين حقيقة الإستنباط من جهة والتطبيق والإستنتاج من جهة أخري.

و قد حرّر في أصول الفقه (أصول القراءة القانونية) الفرق بينهما ونقتصر علي فارق واحد بأنّ المنكشف في الإستنباط ليس من مصاديق الكاشف بخلاف التطبيق والإستنتاج.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 97

الدليل التاسع إنّ كلّ حكم لا يكون ناظراً إلي امتثال نفسه و لا عصيانه، … ص: 97

اشارة

و بعبارة أخري: إنّ الإمتثال والعصيان من العوارض المتأخّرة عن الحكم، فلا يمكن فرضها في مرحلة متقدّمة مع الحكم أو قبله ليكون الحكم متكفّلًا لها؛ و نتيجة ذلك أنّ التشريع لا يمكن أن يكون هو بنفسه الضامن التنفيذي لنفسه، بل لابدّ أن يكون التنفيذ والتطبيق و الإجراء آتٍ من منشأ خارج تماماً عن التشريع والقانون، أي ليس له أيّ ربط بالقوّة التشريعية.

و الوجه في ذلك أنّ التشريع لو كان هو يدعو ويلزم بتنفيذ القوانين والتشريعات للزم أن يفرض قانون آخر يُلزِم بذلك القانون الأول الذي يدعو إلي تنفيذ مجمل القوانين، ثمّ تعود النوبة إلي هذا القانون الثاني أيضاً لكي ينفّذ ويلزم به، يلزم فرض قانون ثالث وهلم جراً إلي سلسلةٍ لا تقف إلي حدّ، فلابدّ من فرض أنّ الملزم بالتنفيذ والتطبيق هو حكم العقل

لا حكم التشريع والقانون والشارع الإلهي إنّما يرشد إلي حكم العقل ولذلك قال الفقهاء في باب الأمر بالمعروف: إنّ وجوبهما عقلي لا شرعي لنفس النكتة.

و يرد عليه: … ص: 97

اولًا: النقض بالقوانين الوضعية مع أنّ كافّة القوانين الوضعية قد تكفّلت أبواباً مبسوطة حول صلاحيّات التنفيذ والتطبيق وتعيين شرائط «من له الصلاحية» كما

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 98

تعرّضتْ إلي كثير من الضمانيات الإجرائية كتشريع العقوبة والتجريم والغرام و نحوها.

و ثانياً: إنّ عدم تعرّض الحكم بامتثال نفسه لا يستلزم عدم تعرّض حكم آخر ثانٍ لامتثال الأول و أمّا شبهة التسلسل فإنّما يلزم ذلك المحذور لو بني علي الترامي لحاجة الحكم المتكفّل لتنفيذ واجراء بقية الأحكام، لو فرض حاجة ذلك الحكم إلي ضامن تنفيذي آخر، مع أنّ ذلك الفرض غير لازم لإمكان تقدير فرض آخر وهو الزام الحكم العقلي وادراك تسجيل العقوبة الأخروية علي تركه. و علي ضوء ذلك لا يعني ذلك التقدير أنّ الضمان التنفيذي هو حكم العقل بمفرده، بل المعيّن والشارح لتفاصيل التنفيذ هو أحكام الشرع، كأحكام القضاء وأحكام الولاية أو الجهاد أو الحدود والديات أو القصاص أو غيرها من الأحكام في الفقه السياسي. و هذا نظير حكم العقل بالتوحيد ومعرفة الباري ومن ثمّ بقية أصول الدين، لكن ذلك لا يستلزم استحالة التشريع في الفقه العبادي أو الفقه المالي وغيرهما من أبواب الفقه؛ فمجرّد أول ورجوع الأحكام الشرعية في تشعّبها إلي أسّ حكم عقلي لا يسلبها عن شرعيّتها وإنقلابها إلي أحكام إرشادية.

والسرّ في ذلك إنّ العقل لا يهتدي إلي التفاصيل، فمن ثمّ اضطرّ إلي هداية الشرع السماوي أو الي الإلتجاء الي التشريع التجريبي البشري، أي افتقر العقل في الحكم التفصيلي إلي الإستمداد من التجربة والإستجداء من عبر تاريخ الأمم السابقة

إلّاأنّ المتعيّن هو الرجوع إلي الشارع الإلهي الخالق لإحاطته بحقيقة الواقع بخلاف تجربة البشر، لما مرّ من البرهان علي عدم إصابة التجربة لتمام الحقيقة لنقطتين:

1. إنّ التجربة لا تقف عند حدّ، مهما تعاقبت وترامت وامتدّت لأجل استكشاف الواقع بنسبة أكثر فأكثر وهلمّ جراً.

2. إنّ هذا البحث الفطري عند البشر عبر التجربة لكشف الواقع ليس طلباً

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 99

للصواب، بل نُذعن في فطرتنا أنّه نزوع إلي الحقيقة وعلي ضوء النقطتين يتبيّن أنّ البشرية ليس بإمكانهم في يومٍ مّا أن يحيطون بتمام حقيقة الواقع وهذا ممّا يبرهن ضرورة الحاجة إلي الخالق.

وثالثاً: إنّ حكم العقل لا يعني كون ذلك الحكم ليس بشرعي، كما قرّر في علم الأصول؛ فإنّ حكم العقل بمعني إدراكه وكشفه للإرادة الشرعية وهذا معني قولهم: كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

و بعبارة أخري: إنّ حكم العقل لا يعني أنّ العقل فوّض لزوم الإمتثال وتطبيق الشريعة للعقلاء و إنّما غاية ما يعنيه وجود حكم للعقل، أمّا المحكوم به بحكم العقل ما هو؟ فهذا أمر آخر والمغالطة نشأت من الخلط بين حكم العقل بمعني إدراكه وبين ما يحكم به العقل وما أدركه؛ فحصلت المغالطة بين الحكم بمعني المصدر والحكم بمعني اسم المصدر ونتيجة الفعل وإلّا فالعقل يحكم- بمقتضي خالقيّة الباري- أنّ الولاية والصلاحيّة هي للباري دون الخلق. إنّ المغالطة وقعت بين حكم العقل بمعني إدراكه للقانون وبين حكم العقل بمعني الحاكمية التنفيذية وبينهما بون بعيد.

و رابعاً: إنّه إن اريد أنّ أصل لزوم الطاعة والتوصّل لأداء الأحكام والتشريع- و هو التعريف و المعني العامّ لفعل الحكومة والحاكم- هو بحكم العقل لا بحكم الشرع، فهو متين إلّاأنّ ذلك لا يلازم كون منظومة التشريعات في الفقه

السياسي ليست شرعيّة بما في ذلك صلاحيّات الحاكم ومراتب الحكم السياسي، نظير ما قرّرناه في الإيمان باللَّه تعالي والمعاد وبقية أصول الدين؛ فإنّ الإلزام بالمعرفة وإن كان عقلياً- الذي هو فعل العقل النظري- ولا يعقل أن يكون شرعياً إلّاأنّ الإذعان والإخبات للمعرفة به تعالي- الذي هو فعل العقل العملي المترتّب علي العقل النظري- لا مانع من كونه حكماً شرعياً، كما هو ظاهر الأدلّة الواردة: «إنّ أول

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 100

الفرائض الإيمان به تعالي»، و الحكم في وجوب الأمر بالمعروف كذلك، فإنّه وإن كان عقلياً إلّاأنه لا ينافي أن يكون شرعياً ولا يلزم منه الدور والتسلسل، لعدم كون المعروف وراء الأمر بالمعروف كي يلزم منه التسلسل.

فلك أن تقول: إنّ الأمر بالمعروف وإن كان معروفاً إلّاأنّ الذي يخاطب بالأمر بالمعروف المتعلّق بالأمر بالمعروف عند الآخرين هو الحاكم والإمام حتي ينتهي ذلك إلي اللَّه الذي هو الداعي إلي دار السلام؛ إذ لا يصحّ للغير التارك للأمر بالمعروف أن يخاطب بأمر نفسه لامتثال الأمر بالمعروف بعد فرض أنّه تارك غير معتبر.

وكذلك الحال في لزوم الطاعة فإنّه وإن اشتهر أنه لا يعقل أن يكون شرعياً فهو تامّ بلحاظ المكلّف نفسه لا غيره ممن يكون له الولاية عليه، سواء ولاية الحاكم أو ولاية الأخوّة والتآخي في الإيمان أو في العقد الإجتماعي.

وتنتهي سلسلة الآمر بالطاعة وحق الطاعة إلي الباري عزّ اسمه.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 101

الدليل العاشر إنّ النبوة و الإرشاد الديني و تبليغ الأحكام الإلهية و الهداية الربّانية أمر يختلف عن الحكومة، … ص: 101

اشارة

فإنّ الحكومة أمر عقلائي مرتبط بالإنسان وتقييد الإنسان بغير الإنسان لا يتعقّل ولا يلائم العدالة وحقوق الإنسان؛ و من ثمّ قال تعالي: «وَ أَمْرُهُمْ شُوري بَيْنَهُمْ» «1» و أَخَذَ النبي صلي الله عليه و آله و سلم البيعة في العقبتين من المسلمين لتنصيبه حاكماً، فوظيفة

الأنبياء البشارة والنظارة والرسالة لا الإمامة والقيادة إلّابنصب من الناس أنفسهم له. وكذلك الحال في الإمامة الإلهية، فإنّها بمعني الإمامة الملكوتية والمقامات التكوينية لأداء الهداية المكمّلة والمتمّمة لدور النبوة للإرشاد وبيان العلوم والمعارف.

وأورد جملة من الآيات التي تَوَهّم حصر مقامه صلي الله عليه و آله و سلم بالنذارة والبشارة نظير قوله تعالي: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» «2» و «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ» «3» وغيرهما من الآيات.

و يرد عليه: … ص: 101

أولًا: إنّ المستدلّ قد أغمض العين عن الكثير من الآيات والسور الواردة في

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 102

الأحكام القضائية والسياسية والعسكرية وعلاقات الصلح والحرب بين النبي صلي الله عليه و آله و سلم ومجتمع المسلمين من جهة وجماعات أخري من المشركين وأهل الكتاب وغيرها من أبواب تشريعات النظام الإجتماعي السياسي وجملة هذه الآيات والسور قد نزل تشريعها عندما كوّن الرسول صلي الله عليه و آله و سلم مجتمع المسلمين في المدينة وشكّل الحكومة والأوامر بطاعة اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله و سلم، مُلِئت السور منها نظير قوله تعالي:

«فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» «1»

وقوله تعالي:

«وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَي اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» «2»

«فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* إِنَّا أَنْزَلْنَا

التَّوْراةَ فِيها هُديً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ* وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* وَ قَفَّيْنا عَلي آثارِهِمْ بِعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 103

يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُديً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُديً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ* وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَي اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ» «1»

و غيرها من آيات الحدود والقصاص والديات والجهاد.

و ثانياً: إنّ بيعَتَي العقبة والرضوان ليستا مصدر إعطاء الولاية للَّه ورسوله في الحكومة، كما سيأتي الحديث

عنها مفصلًا في مبحث النيابة.

وثالثاً: إنّ جملة الآيات نظير «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» «2» و «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» «3» وغيرها في صدد الطاعة القلبية والإيمان الجانحي ولا ربط له بالحكومة السياسية في النظام الإجتماعي السياسي كنشأة دنيوية قبل دولة الرجعة للأئمة عليهم السلام.

فمحصّل مفاد تلك الآيات هو أنّ اللَّه تعالي خلق الإنسان مختاراً في أفعاله الجنائية والجناحية.

تنبيه … ص: 103

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 104

إنّ الأدلّة السابقة من مقولة العلمانية و هي فصل الدين عن السياسة متحقّقة في حاكميّة غير المعصوم مطلقاً علي اختلاف درجاتها، لأنّ تحقّق وتطبيق الدين والعلم به في كلّ جهاته اليقينية علماً وعملًا بنحو الإحاطة في كلّ منها لايمكن و لايتصوّر إلّافي المعصوم، فكلّ حاكم- مهما بلغ شأنه في العلم والعمل- تصدّيه للحكم من دون المعصوم بالإستقلال و الإستغناء عنه فصل للدين عن السياسة و فصل للدنيا علي الآخرة و من ثمّ لا يتحقّق التوحيد الكامل و الحاكميّة الكاملة للَّه عزّوجلّ إلّافي نظرية إمامة المعصوم كما ذكرنا في الإمامة الإلهية.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 105

حاكميّة المعصوم عليه السلام

اشارة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 107

إنّ هرم الحاكميّة في مكتب أهل البيت عليهم السلام تبدء من اللَّه تعالي، فهو منشأ كلّ سلطة و حاكميّة و تنشعب منه كلّ الصلاحيّات؛ فالمعصوم في منظومة التدبير و الإدارة هو السبب المتصل بين السماء و الأرض الذي يعبّر عنه في الأدب القرآني ب «خليفة اللَّه» في الأرض «وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «1» و ب «الإمام» «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» «2»، «فهو كلمة اللَّه و حجّته و نوره و آيته، يختاره اللَّه و يجعل قلبه مكان مشيّته و يرتضيه لغيبه و يلقّنه حكمته و ينادي له بالسلطنة و يذعن له بالإمرة و يحكم له بالطاعة و كيف يفرض اللَّه علي عباده طاعةَ مَن يحجب عنه ملكوت السماوات و الأرض؟ فهو خازن علم اللَّه و واحد دهره و خليفة اللَّه في نهيه و أمره». «3»

فموضوع بحثنا في هذا الفصل هو ممارسة السلطة و حاكميّة خليفة اللَّه في طول حاكميّة اللَّه و سلطته و ترسيم لِبناتها

البُنْيَويّة و إطاراتها الإدارية للإجابة عن تساؤلات هامّة:

1. ما هو دور المعرفة بالإمام في رسم خطوط النظام السياسي؟

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 108

2. ما هو دور الإنصياع بالولاء السياسي للإمام و الخروج عن طاعته السياسية؟

3. ما هي أساليب الإدارة و السلطة و الحاكميّة من قبل الإمام؟

4. ما هي الحدود و الضوابط الشرعية في الحكومة؟

5. ما هو دور الأمّة في السلطة السياسية؟

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 109

1 فقه عقيدة الإمامة و الولاية: و نبذ التقصير في المعرفة … ص: 109

اشارة

إنّ جملة من التساؤلات والإشكالات والشبهات التي تعتور فهم المعرفة بأهل البيت عليهم السلام وولايتهم ومعالم الدين بالنحو الذي هُدوا إليه هو ناشئ من مباني مُسبِقة، اعتمد عليها السائل والمستشكل وهي كأصول موضوعة اعتمد عليها في تساؤله و إشكاله ولو بنحو الإرتكازي الإجمالي.

وهذا لا يخصّ علماء مذاهب أهل سنّة الخلافة و جماعة السلطان، بل ربما يقع من بعض أهل الخاصّة أيضاً وفي جملة ذلك راجع إلي القصور في معرفة حقيقة الإمام والإمامة أو إلي القصور في معرفة أصول الديانة ومعالمها التي أبْلَغَها وبَيَّنَها أهل البيت عليهم السلام و لاريب أنّ كلّ ما تظافرت الجُهود ازداد وضوح تلك المعالم والأصول.

ولنذكر نبذة و جملة من تلك الأصول و القواعد المعرفية التي لم تتبلور من الوسط العلمي بالنحو الكافي … ص: 109

اشارة

بل ساد القصور فيها إلي حدّ يباين الحقيقة ممّا انجرّ إلي تولّد جملة من التساؤلات والإشكالات:

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 110

الأولي من تلك الأصول … ص: 110

غموض حالات وشئون المعصومين عليهم السلام وهو راجع إلي حقيقة تركّبهم من أبدان وأرواح و نفوس جزئيّة و كليّة وعقول وأنوار.

عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن علم العالم، فقال لي:

يا جابر، إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الايمان وروح الحياة و روح القوّة و روح الشهوة.

فبروح القدوس- يا جابر- عرفوا ما تحت العرش إلي ما تحت الثري.

ثمّ قال: يا جابر، إّن هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلّاروح القدس فإنّها لاتلهو و لا تلعب. «1»

عن المفضل بن عمر عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخي عليه ستره. فقال:

يا مفضل، إنّ اللَّه- تبارك وتعالي- جعل في النبي صلي الله عليه و آله و سلم خمسة أرواح:

روح الحياة، فبه دبّ ودرج؛

و روح القوّة، فبه نهض وجاهد؛

و روح الشهوة، فبه أكل وشرب وأتي النساء من الحلال؛

و روح الإيمان، فبه آمن وعدل؛

و روح القدس فبه حمل النبوة؛

فإذا قبض النبي صلي الله عليه و آله و سلم انتقل روح القدس فصار إلي الإمام.

و روح القدس لا ينام و لايغفل و لايلهو و لايزهو؛ والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو وروح القدس كان يري به. «2»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 111

فهو عليه السلام يشير إلي أن المعصوم بحسب طبقات روحه وقواه المختلفة تختلف شئونه وحالاته؛ فلا يستقيم علي ضوء هذا الأصل القويم والذي قد بُيّن إلي حدٍ مّا في المباحث العقلية في العصور الأخيرة من كيفية التحام واتحاد هذه الأرواح بعضها مع

البعض في حين اختلاف أحكام كلّ مرتبة ودرجة منها، بعضها مع بعض، و بهذا الأصل يمكن تفسير كثير من حالات الأنبياء والرسل المذكورة في القرآن الكريم و إنّها لا تتنافي مع مسارهم الوحياني.

ومن ثمار معرفة هذا الأصل وتلك القاعدة يتّضح وجه الجمع بين طائفتين مستفيضتين في علم الأئمة عليهم السلام في المسئلة العضال المعروفة من أنّ علم الأئمة فعليّ بالأشياء كلّها أو أنّه مشيئي ء وإرادي؟ أي إذا شائوا وأرادوا علموا؛ وقد صُنّفت فيها رسائل وكتب لترجيح إحدي الطائفتين علي الأخري، مع أنّه بالإلتفات إلي هذه القاعدة يتجلّي عدم التضارب بين مفاديهما، فإنّ العلم الفعليّ بلحاظ الأرواح العالية فيهم، كروح القدس أو ما فوقها من النور الأول؛ و العلم المشيئي بلحاظ أرواحهم الجزئية والنازلة.

ومن الغفلة عن هذا الأصل ما طفح من كلمات متأخّري العصر نظير ما يوجد في كلمات العامّة من أنّ نحو علم الإمام بالأحكام الشرعية نظير علم المجتهد والفقيه بالأحكام لا يفترق عنه من حيث هو علم إلّابأنّه لدني وعلم الفقيه عبر الأدلة ومع التماثل في العلم يتناسب حينئذٍ الصلاحيّات المفوّضة لكلٍّ منهما في إقامة الأحكام و الحال، إنّ هناك جملة من الفروق الأوّلية بين العِلْمين نذكرها لا علي نحو الاستقصاء، بل علي نحو المثال:

الأول: إنّ المجتهد إنّما يصل إلي النتيجة عبر جولان فكره من المجهول إلي المبادي المعلومة، ثمّ الإنتقال منها إلي المطلوب، و هي حركة الفكر، بينما المعصوم حيث أنّ العلوم و المعلومات حاضرة لديه بنحو يشرف عليها، فليس يحتاج إلي حركة يصل فيها إلي أمر غائب عنه وهذا نظير ما ورد من الحديث إنّ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 112

أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن سرعة إجابته بالبديهة، فأشار إلي أصابع يده، فقال

للسائل: كم هي؟ فأجاب السائل بسرعة البديهة، إنّها خمسة. فقال: لِمَ أسرعتَ في الجواب ولم تتأمّل؟ فأجاب السائل: بأنّه أمر واضح جليّ لا يحتاج إلي بحث وتنقيب. فقال عليه السلام: إنّ الأمور لديّ بهذه المثابة من الوضوح.

الثاني: إنّ المعصوم يحيط بمجموعة منظومة العلوم بما لها من سعة مترامية وأصول هرمية علي ما هي عليه في اللوح المحفوظ، بينما المجتهد لا يحيط بذلك، بل إن حسنت له التقادير فهو يحيط ببعض الفقرات و من ثمّ يكثر تشبّثه بالأحكام الظاهرية.

الثالث: إنّ المعصوم يحيط أيضاً بكلّ منظومة دلالات الأدلّة اللفظية من النص القرآني والحديث النبوي، سواء الذي انتشر بين الناس أو الذي لم ينتشر وتوارثه المعصومون عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، كصحيفة الجامعة وغيرها، فهو يحيط بكلّ دلالات الألفاظ وأحوالها من العامّ و الخاصّ والناسخ والمنسوخ والمتشابه و كلّ الموازين المناسبة والتناسب بين الأدلّة بنحو لا يتخلّف عن إصابة الواقع، بينما لا يحيط المجتهد بكلّ مجاميع الأدلّة، فضلًا عن الاحاطة بكلّ فنون دلالاتها و محتملاتها، نظير ما يثار في العصر الحاضر من التساؤلات حول عملية الإجتهاد في مدرسة الفلسفات الألْسُنية وقراءات النص وهي وإن كانت نتائجها ومدّعياتها محلّ نظر و نقض إلّاأنّ جملة من معطياتها تشير إلي هذه الحقيقة الراهنة.

الرابع: إنّ وصول المجتهد والفقيه إلي النتيجة لا يعدو الظن بخلاف إحاطة المعصوم بها، فإنّه بكلّ درجات اليقين من علم اليقين وحقّه وعينه.

الخامس: إنّ النتيجة التي يصل إليها الفقيه هو الحكم الظاهري في مقابل الواقعي وهو قابل للخطأ والصواب وهو مسلك المخطّئة عند العدلية، بل قد يكون الحكم الذي وصل إليه الفقيه هو حكم تخيلي ليس بالظاهري من رأس وذلك في ما إذا أخطأ

إعمال الموازين؛ وهذا بخلاف المعصوم، فإنّ الحكم الذي لديه هو

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 113

الحكم الواقعي.

نعم قد يطلق عليه الحكم الظاهري في مقابل باطن الشريعة، كما في باب القضاء والشهادات في حكم الموضوعات، حيث يكون المعصوم مأموراً بإعمال الموازين الظنية من أمارات كاشفة عن الموضوع أو كما في إبقائه الحكم السابق من الظهار قبل نزول الوحي الناسخ عليه لحكمه؛ و بالجملة فهذا الظاهر في مقابل باطن الشريعة يختلف من سنخ معناه عن الحكم الظاهري في مقابل الحكم الواقعي في عملية الإستنباط وتفصيل الكلام في الفرق بين المعنيين يضيق المقام عن بسطه وقد تعرّض إلي شطر من الحديث عنه المفسرون في سورةالكهف في ذيل قصّةموسي وخضر.

السادس: إنّ علم المعصوم بالأحكام الشرعية لا يتلقّاه من وراء حجاب الألفاظ، بل هو واقف علي حقيقة الأحكام والتشريعات بنزول الإرادات التشريعية الإلهية الكليّة والجزئية عليه والتي هي روح وحقيقة الحكم الإعتباري. و لك أن تقول: إنّ الأحكام المُنشَأة- سواء الوضعية أم التكليفية- التي هي اعتبارية تشكّل منظومة عالم الإعتبار، لها أرضية حقيقية و إنّ ما وراءها حقيقة تنطلق منها، و المعاني الإعتبارية من الأحكام المنشَأة الواقعية المجعولة، و القوانين المشرّعة بمثابة كواشف عن تلك الحقيقة وإن لم تكن أمارة ظنيّة بالمعني المصطلح في التشريع وتلك الحقيقة هي التي ذكرها الفقهاء والمتكلّمون و الأصوليون و هي الإرادات الشرعية أو التشريعية، فتحتَ كلِّ حكم إرادةٌ شرعية إلهية، سواء كان الحكم كليّاً- فالإرادة التي هي قوام أرضيّته كليّة- أو جزئيا، فالإرادة التي ينطلق منها جزئية.

و بعبارة أخري، إنّ بحذاء منظومة الأحكام الإعتبارية هناك منظومة من الإرادات التكوينية الشرعية بنحو هِرَميّ علي حذو هِرم الأحكام الإعتبارية، حتي إنّ بعض علماء الأصول كالمحقّق النهاوندي صاحب تشريح الأصول والمحقّق

اسس النظام

السياسي عندالامامية، ص: 114

العراقي وغيرهما ذهب إلي أنّ حقيقة الحكم الشرعي هو الإرادة و أنّه ليس دور للأنشاء القانوني إلّاإبراز و كشف تلك الإرادة و منه مَن ذهب- كالسيّد الخوئي رحمه الله- إلي أنّ المعني الذهني التكويني القائم بالذهن هو حقيقة الحكم وعلي أي تقدير فللحكم الشرعي صلة وثيقة بحقيقة تكوينية هي حقيقته التي ينطلق منها، بل قد ذكر علماء الأصول والقانون و الحكمة إنّ الحاجة إلي علم الإعتبار القانوني من التقنين و التشريع، إنّما هو بسبب جهل المخاطبين بالحقيقة التكوينية للحكم، فمن ثمّ كان الخطاب القانوني بالحكم الإعتباري الإنشائي أسهل منالًا للمخاطبين من حقائق الأحكام التي لا تصل إليها أذهانهم وإدراكاتهم.

و علي ضوء كلّ ذلك، فالمحيط بحقيقة الأحكام وهي مجموع الإرادات التشريعية الإلهية التكوينية- فتكوينّيتها من جهة كونها إرادة وتشريعيّتها من جهة أنّ لها نحو تعلّق وصلة بفعل الغير- يستغني عن منظومة الإعتبار القانوني للحكم، بل إنّ عالم الإعتبار ينتظم علي نسق عالم التكوين للإرادات بحسب مدارجها و انشعابها بعضها عن البعض و الأهمّ منها من المهمّ، و المقدّم منها من المؤخّر، و الأشدّ من الأضعف، و ذات الأولوية من غيرها، و ذات الأمومة والأُصولة من غيرها، و غيرها من الشئون التي لا تظهر بوضوح من اطُر القضايا الإعتبارية، فَبَيْن العِلْمين تفاوت شاسع.

و هذا العلم بمنظومة الإرادات هو الذي قد استعمل في لسان الشرع من الآيات والروايات بلفظ ومعني الولاية وهو أحد المعاني التي يطلق عليها الولاية و قد استعملها بنفس المعني علماء الذوق و المعني، فإنّ لمنظومة الإرادات الإلهية أيضاً حقيقة تنطلق منها وهي ملاك الحكم من المصلحة والمفسدة الدنيوية والأخروية من العوالم المختلفة، كما أشير إلي ذلك في علمي الأصول و الكلام،

فإنّ في متعلّق الأحكام من الأفعال آثاراً دنيوية وهي النشأة الأولي وآثاراً في العُقبي من النشأة الأخري من البرزخ والمحشر والصراط وغيرها من مَشاهد وعوالم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 115

الآخرة؛ فإنّ الإحاطة بتلك الحقيقة التي هي تَحقّق الأشياء فيها يحيط بالعلم المتعلّق بمنظومة الإرادات الإلهية التشريعية و علم الولاية تشمل كلّ ذلك و هو ما يصطلح عليه بباطن الشريعة الذي كان لدي الخضرفي قصّته مع النبي موسي عليه السلام في سورةالكهف.

و علي ضوء ذلك فلو افترض بنحو المحال أنّ المجتهد يحيط بجميع الأحكام الإعتبارية من منظومة القوانين الشرعية، فإنّه مع ذلك لا يتمكّن و لايتأهّل من معرفة الصلة المتناسبة و أصول الروابط التي تَحكُم العلاقات فيها بينها لمعرفة المتقدّم من المتأخّر و ما هو الأصل ممّا هو فرع إلي غير ذلك من شئون الأحكام، بخلاف من لديه الولاية، فإنّه يعلم بأحكام و شئون الإرادات كما مرّ، كما أنّه يحيط علماً بالحقيقة من آثار الأشياء وضريب تدافع المقتضيات وتزاحم المؤثّرات و سلسلة نتائجها المترابطة في مقام إقامة الأحكام.

هذا و لابدّ من التنبيه علي أنّ المراد من الإرادات الإلهية الكليّة و الجزئية ليس بمعني أنّ الذات الإلهية تعرضها إرادة نفسانية كحالات النفس و الروح، بل المراد هي الإرادة المخلوقة كصفة للفعل المخلوق الإلهي وهي قائمة بالنفوس الشريفة المقدّسة من الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين والأوصياء المرضيين؛ فإرادتهم مظهر الإرادة الإلهية كما أشار إلي ذلك أهل البيت عليهم السلام في الروايات عنهم مستفيضة والتزم بذلك علماء الأصول والكلام.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 116

الثانية من الأصول المعرفية التي لم تتبلور … ص: 116
اشارة

نوعية علم المعصوم وتفسير علمه اللدنّي و منابع العلم التي يَستقي منها و إنّها من نمط وحياني يغاير الوحي النبوي.

فقد اشكل هذا المبحث علي كثير من علماء المذاهب

الأخري، بل قد يشاهد في الوسط الداخلي جملة من الكلمات تنطوي علي القصور في فهم وجوه وشئون و أقسام علم المعصوم، سواء بقرائة حِكَمية أو كلامية أو ذوقية أو تفسيرية و حديثية.

ويزيد هذا المبحث غموضاً تعدّد أنماط علم المعصوم واختلاف أحكام تلك الأنماط وحالاتها و طبائعها، فيعالج الباحث علمهم بمكيال واحد وقرائة ونظرة واحدة ممّا يوقع الباحث في تناقض وتهافت.

و قد اشير في القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة إلي جملة من أقسام تلك العلوم: … ص: 116
1. علم الكتاب والكتاب المبين والكتاب المكنون … ص: 116

كقوله تعالي: «كَفي بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» «1»

و: «لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» «2»

و: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «3»

و: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «4»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 117

و: «وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» «1»

و: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «2»

و: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» «3»

2. علم التأويل … ص: 117

كما في قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «4»

و قوله تعالي: «وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» «5»

3. رؤية الأعمال والشهادة عليها … ص: 117

كقوله تعالي: «وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ» «6»

وقوله تعالي: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ» «7»

وقوله تعالي: «وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلي هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْري لِلْمُسْلِمِينَ» «8»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 118

4. الوحي التسديدي … ص: 118

كما في قوله تعالي: «وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ» «1»

5. علم القضاء والقدر … ص: 118

كما في قوله تعالي: «حم* وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «2»

وقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «3»

و: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» «4»

و: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» «5»

6. العلم الالهامي والنقر في القلوب والأسماع … ص: 118

كما أشير إليه في قوله تعالي: «وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ» «6»

7. مواريث الأنبياء وميراث سيد الأنبياء … ص: 118

كما في قوله تعالي: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 119

وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

وقوله تعالي: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» «2»

و: «فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسي وَ آلُ هارُونَ» «3»

8. العلم اللدني … ص: 119

كما في قوله تعالي: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» «4»

وقوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ» «5»

9. علم الأسباب والتمكين … ص: 119

كقوله تعالي: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً» «6»

10. علم الملكوت وعلم اليقين وعين اليقين … ص: 119

كما في قوله تعالي: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» «7»

وقوله تعالي: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» «8»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 120

11. التوسّم والفراسة … ص: 120

كقوله تعالي: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» «1»

وقوله تعالي: «وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» «2»

12. علم أصحاب الأعراف … ص: 120

كقوله تعالي: «وَ عَلَي الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ» «3»

وقوله تعالي: «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ» «4»

13. علم الاستنباط … ص: 120

كما في قوله تعالي: «وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَ إِلي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» «5»

والمراد به الإستخراج الحقيقي للحكم والأمر، أي إخراج حقيقة الشي ء كما هو الأصل في معناه لغة، لا عملية الإجتهاد الظنية التي يطلق عليها في العرف الخاص بالإستنباط.

14. الحكمة … ص: 120

كما في قوله تعالي: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ» «6»

وقوله تعالي: «وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» «7»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 121

وقوله تعالي: «وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ» «1»

و: «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» «2»

و: «وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ»

«3»

و: «لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ» «4»

و: «وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ» «5»

كما في قوله تعالي: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأي* أَ فَتُمارُونَهُ عَلي ما يَري* وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْري* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهي* عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوي* إِذْ يَغْشَي السِّدْرَةَ ما يَغْشي* ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغي* لَقَدْ رَأي مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْري» «6»

وكذلك قد أشير إلي اختلاف هذه الأنماط من علم المعصوم من الروايات كما تقدّم في صحيحة الحلبي.

وإذا اتضح تعدّد أنماط علومهم و منابعها، يتضح اندفاع كثير من التساؤلات التي ستذكر: … ص: 121
منها: ما اعترض علي مفاد الحديث النبوي مضمونا … ص: 121

وهو: أنا مدينة العلم وهي الحكمة وأنت يا علي بابها. و في طريق آخر عند الفريقين: أنا مدينة الفقه.

و الإعتراض المتوهّم هو أنّ النبي صلي الله عليه و آله و سلم قد بثّ حديثه الشريف إلي كلّ الصحابة، فكيف يُحصر أخذ العلم بعليّ عليه السلام؟ مع أنّ علياً عليه السلام قد يكون غاب عن بعض مواطن النبي صلي الله عليه و آله و سلم. حيث إنّ مفاد الحديث بأنّه باب مدينة علم النبي و

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 122

حكمته إنّه من غير المقدور الإقتراف من ذلك العلم إلّابوسيلته. و وجه الإندفاع يظهر ممّا تقدّم من أقسام العلوم التي لعليّ عليه السلام قد اختص بها و ولده المطهّرين دون بقية الامّة. فمَن يحيط بعلم الكتاب المبين في اللوح المحفوظ أو بعلم تأويل الكتاب؟ و مَن يتنزّل عليه علم ليلة القدر؟ إلي غير ذلك من أقسام العلم ويحسبون أنّ ما ظهر

من علم النبي صلي الله عليه و آله و سلم بذلك المقدار كاف للبقاء علي الشريعة والدين و للتمسّك بالقرآن مع أنّ الدين إنّما يبقي ويستقيم ويستمر بما يتواصل ويظهر من التأويل له وما يتنزّل من حقيقة الكتاب في ليلة القدر، و بتوسط استمرار ظهور ذلك يمكن البقاء علي التمسّك بما قد سبق ظهوره من النبي صلي الله عليه و آله و سلم أو المعصومين السابقين عليهم السلام، كما هو الحال من الفِرق التي انحرفت من الشيعة، فإنّهم تركوا التمسّك بالباقي من العترة ظناً منهم أنّهم متمسّكون بالسابقين من العترة، فكما أنّ متاركة العترة متاركة للقرآن بحسب الحقيقة، كذلك المتاركة لأحد المعصومين من العترة هو متاركة لكلّ العترة وللقرآن أيضاً بحسب الحقيقة وإن لم يتنبّه إلي ذلك بحسب الظاهر.

فهذه الضرورة للعلوم المختصة بالأئمة لبقاء الدين لا تقف علي أميرالمؤمنين عليه السلام وحده، بل هي مستمرة إلي الإمام الثاني عشر- عجل اللَّه فرجه- كذلك و مستمرة باستمرار حياة الإمام الثاني عشر عليه السلام؛ فالمتاركة لولايته بقاءً وإن تُمسّك بولايته حدوثاً لا يُغني ولا يحقّق التمسّك بالثقلين والبقاء علي الدين.

وٌ منها: ما قاله ابن تيمية في منهاج السنة: … ص: 122

كُذب علي جعفر الصادق أكثر ممّا كذب علي مَن قبله، فالآفة وقعت من الكذّابين عليه لا منه ولهذا نسب إليه أنواع من الأكاذيب، مثل كتاب البطاقة والجفر والهفت والكلام في النجوم …

حتي نقل عنه أبو عبدالرحمن في حقائق التفسيرمن الأكاذيب ما نزّه

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 123

اللَّه جعفراً عنه وحتي إن كان من أراد أن ينفق أكاذيبه نسبها إلي جعفر، حتي إنّ طائفة من الناس يظنّون أنّ رسائل أخوان الصفا مأخوذة عنه و هذا من الكذب المعلوم، فإنّ جعفراً توفّي سنة 148 وهذه الرسائل وضعت بعد ذلك بنحو مأتي

سنة. «1»

و هذا مبني علي أنّ علومهم كسبية ولم يشمّ ابن تيمية رائحة علم الكتاب وأني له بذلك وهو لم يتدبّر الآيات المتقدّمة و أنواع العلوم وأقسامها المشار إليها من الآيات؛ فأدّارك علمه عن العلوم الغيبية وَزَن الأمور بميزان ضحالة علمه.

و الغريب أنّ هذه العبارات في الإشكالات يجدها المتتبّع من تضعيفات النجاشي لأمثال مفضل و جابر و غيرهما من أصحاب السرّ ورواة المعارف ممّا يظهر منه سقم ميزان الجرح لديه.

و منها: من يحسب أنّ علم الأئمة كرواة حديث، … ص: 123

كلّ منهم ينقل عن أبيه في سلسلة متّصلة بسماع حسي، فَمِن ثمّ يحكم علي علمهم بأنّه علم روائي حسّي، فَمِن ثمّ يتطرّق عليه آفات العلم الحسّي و ربما يصل الأمر عند بعض هؤلاء أنّ النبي والأئمة عليهم السلام من قبيل ناقل الألفاظ!، فالإبلاغ عندهم وتبليغ الدين هو سماع أصوات و حفظها، ثمّ إيصالها إلي الامة و أنّ عصمتهم في التبليغ هو أن لا ينسوا تلك الألفاظ و أمّا غور المعاني وبطونها، بل الحقائق التكوينية التي وراء المعاني، فلا يتطرقون للحديث عنها وكأن المعصوم ساعي بريد محفوظ عن التفريط في ما يرسَل إليه؛ ثمّ يتلقّي ذلك الصحابة والسادة المجتهدون من المعصوم، فلربما يكون لهم عقل المعاني و الإهتداء إلي الحقائق ما لم يهتدي إليه الناقل و كلّ هذا النسيج لبيت العنبكوت ناشئ من القصور في معرفة وجوه علم المعصوم، فادّارَك علمهم بعلم الإمام و نشأ من ذلك جملة من التصورات والأحكام الخاطئة في

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 124

المعرفة التي ترجع كلّها إلي ذلك.

و منها: ما ذكره ابن تيمية في منهاج السنة عند قول العلّامة الحلّي حول الصادق عليه السلام … ص: 124

«هو الذي نشر فقه الإمامية والمعارف الحقّة والعقائد اليقينية»، قال:

فهذا كلام يستلزم أحد أمرين: إمّا أن ابتدع في العلم ما لم يكن يعلمه مَن قبله و إمّا أن يكون الذين قبله قصّروا في ما يجب عليهم من نشر العلم و هل يشك عاقل أنّ النبي بيّن لأمتّه المعارف الحقيقية و العقائد اليقينيّة أكمل بيان و أنّ الصحابة تلقّوا ذلك عنه وبَلَّغوه للمسلمين؟ وهذا يقتضي القدح إمّا فيه أو فيهم. «1»

و ما ذكره من الإشكال بشقوقه، كلّه مبني علي قصر العلم في ظاهر دلالة الألفاظ وهذا يدافع جملة الآيات المتقدّمة المشار إليها في العلم الإلهي لأوليائه.

وكذلك يظهر اندفاع قول ابن تيمية من «أنّ الصادق

أخذ العلم عن جدّه أبي امّه امّ فروة بنت قاسم بن محمد بن أبي بكر وعن محمد بن المنكدر ونافع مولي ابن عمر والزهري وعطاء بن أبي رباح وغيرهم. «2»

مضافاً إلي ما أشار إليه زميل ابن تيمية وصديقه والذي كان علي شاكلته- كما قيل- المِزّي في تهذيب الكمال ممّا أشرنا إليه مفصلًا من روايته بطرقه أنّ علم الصادق عليه السلام لم يكن من أسباب عادية، بل علماً لدنيّاً وكذلك أشاروا إلي هذا المطلب في تراجم بعض أصحاب السرّ.

منها: ما قاله إحسان إلهي ظهير في كتابه بين الشيعة و أهل السنة: … ص: 124

ما روي عن جعفر عن الباقر عن زين العابدين عن الحسين عن علي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 125

فهو أقل قليل في صحاحهم الأربعة وكتبهم في الحديث. «1»

الثالثة من الأصول المعرفية هي حقيقة إمامتهم للبشر، … ص: 125

فَبَيْن مَن يُقصرها علي الإمامة في الملكوت، وبين من يقصرها علي بيان أحكام الشريعة، وبين من يقصرها الطهارة والعصمة الذاتية في الأفعال الشخصية إلي غير ذلك من الإقتصار علي أبعاد خاصّة.

و ينجم من ذلك جملة من الإشكالات في أدوار المعصومين عليهم السلام «2» و اضطلاعهم بالإمامة، سواء في دور أمير المؤمنين عليه السلام في ما جري بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله و سلم ودور الحسنين عليهما السلام ورفض الصادق عليه السلام لعرض أبي مسلم الخراساني الخلافة عليه وكذلك الرضا عليه السلام وكذلك دور الحجّة- عجل اللَّه تعالي فرجه- في الغيبة و غيرها من صيغ التساؤلات والشبهات التي تعنون والتي منشؤها القصور في معرفة أدوار الإمامة ومراتب شئونها و أنّ الإمام يضطلع بكلّ تلك الأدوار من مراتب الملكوت وهداية النفوس و التلقّي عن الغيب بالتحام روحه بروح القدس و منابع العلوم اللدنية التي تقدّمت الإشارة إليها والدور الإجتماعي والثقافي و الإرشاد الديني بتوسط المنصب والصفة الرسمية الخاصة للنطق عن السماء وغيرها من الأدوار، و منها الدور السياسي أيضاً، فإنّ إبعاده عن الحكومة الظاهرية ليس بمعني إحجامه عن الحكومة السياسية، بل بمعني خفاء جهاز حكومته السياسية وبرامج تدبيره السياسي، كما هو مقرّر في الأدبيات الآكاديمية السياسية في العصر الراهن من إختلاف أنماط الحكومة السياسية وأشكالها الشامل لكل قوّة اجتماعية متنفّذة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 126

و لكلّ دور خفي فاعل متنفّذ كما يشير إلي ذلك قوله تعالي من تعريف الخليفة:

«إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً

قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ» «1»

فإنّ المجي ء باعتراض الملائكة الذي مورد الفساد الغالب والمطبق وكذلك سفك الدماء الغالب والمطبِق، إنّما هو لبيان أبرز مقوّم معرف لحقيقةالإمام و عنوان الخليفة مرادف معنوي له وكذلك تشير إليه في سورةالكهف.

و يشير إليه ما في زيارة الجامعة أيضاً حيث قال:

أصلح ما كان فسد من دنيانا.

و علي ضوء ذلك يتضح المسامحة في تعريف الإمامة في كتب المتكلّمين بأنّها: «رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا»، إذا اريد من ذلك الرئاسة والحكومة المعلَنَة وكذلك تعبير مثل العلّامة الحلّي قدس سره بأنّ الصادق عليه السلام «إشتغل بالعبادة عن الرئاسة» والغفلة الكبيرة في ذلك؛ و كذلك اندفاع قول ابن تيمية في ذيل كلام العلّامة السابق حيث قال:

فهذا تناقض من الإمامية لأنّ الإمامة عندهم واجب عليه أن يقوم بها و بأعبائها، فإنّه لا إمام في وقته إلّاهو، فالقيام بهذا الأمر العظيم لو كان واجباً لكان أولي من الإشتغال بنوافل العبادات. «2»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 127

الرابعة من القواعد المعارفية التي لم تتبلور إنّهم عليهم السلام الطُهر و الطهارة و العدالة … ص: 127

وهو مضمون ما رُوي أنّ الإمام يعرف بالعدل وحسن السيرة وأعدائهم يعرفون بالرجاسة والظلم والغيّ وهذه المفارقة في الطبيعة بينهم وبين مُناوِئيهم علامة إلهية ثابتة يتفرّع منها عدّة ملاحم أخري تفسّر جملة من معالم الدين كما تفسّر السيرة وتاريخ الإسلام.

وقد أثبت هذا الأصل جملة من الآيات والأحاديث النبوية المتواترة، كقوله تعالي:

«إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «1»

وقوله تعالي:

«أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي» «2»

و قوله صلي الله عليه و آله و سلم:

مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجي ومن تخلّف عنها غرق.

فمن ذلك يظهر أنّ الحقّ في سيرتهم و مسارهم و الباطل و الغيّ

و الضلال في سيرة أعدائهم و مناوئيهم، فلا مجال لما يتكرر الإشكال به من قِبل أهل الخلاف عليهم من أنّ التقية نفاق وحاشا أهل البيت أن يرتكبوا ذلك؛ لأنّ هذا الإشكال مبتنٍ علي فرض الحقّ عند السلاطين و خلفاء الجور بدعوي أنّهم خلفاء العدل لأنّ النفاق هو كتمان الباطل والغيّ وإظهار الحق والعدل والرشد بخلاف التقية، فإنّها كتمان الحقّ و إظهار الباطل مجاراةً لأهل الباطل؛ فهذا الاشكال من قِبل علماء جماعة السلطان وسنّة الخلافة مبتنٍ علي فرض الحقّ من طرف مناوئي أهل البيت من الخلفاء الثلاثة وسلاطين بني امية وبني العباس وإلّا لو أقرّوا بأنّ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 128

الغيّ والجور عند السلاطين لما أشكل عليهم تصوّر التقية لأهل البيت من الخلفاء.

فالتشنيع بالتقية و مشروعيّتها يعني في طيّاته التدين بدين السلطان و أنّ الحقّ علي الدوام مع خلفاء الجور أهل الفحشاء والفجور وهذا منكر عظيم، شنيع قبحُه، نَتِنٌ رائحته، كيف لا وهم يبنون علي أنّ السلطان مهما كان فاسقاً، فهو ظلّ اللَّه في الأرض و أنّ طاعة السلطان واجبة ولو كان متغلباً ما لم يكن كفراً بواحاً.

ومنه يظهر النظر في ما قاله ابن تيمية في مجموع الفتاوي:

و لهذا كان أعظم الأبواب التي يدخلون منها باب التشيع والرفض، لأنّ الرافضة هم أجهل الطوائف وأكذبها وأبعدها عن معرفة المنقول والمعقول وهم يجعلون التقية من أصول دينهم ويكذبون علي أهل البيت كذباً لا يحصيه إلّااللَّه، حتي يرووا عن جعفر الصادق أنّه قال:

التقية ديني ودين آبائي، والتقية هي شعار النفاق، فإنّ حقيقته عندهم أن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وهذا حقيقة النفاق. ثمّ إذا كان هذا من أصول دينهم صار كلّ ما ينقله الناقلون عن علي أو غيره من

أهل البيت ممّا فيه موافقة أهل السنة والجماعة يقولون هذا قالوه علي سبيل التقية، ثمّ فتحوا باب النفاق القرامطة الباطنية. «1»

و لا يخفي أنّ هذيانه لا يستند إلي ركن ركين، فإنّ اعترافه بأنّ التقية من أصول دين الشيعة هو إكبار و إجلال للشيعة أنّهم علي ممرّ التاريخ في الخطّ المعارض للسلاطين وحيث كان دين ابن تيمية علي سنّة الخلافة وجماعة السلطان، فَيَري تحصّن المظلوم بالتقية نفاقاً ويَري الصدق و الحقّ مع السلاطين الفجرة الفسقة من بني امية وبني العباس ولا يتعقّل التقية في الروايات الموافقة لسنّة الخلافة وجماعة السلطان.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 129

وكيف يري ذلك وهو يدين بدين السلطان و قاعدة إنّ السلطان ظلّ اللَّه في الأرض و أنّه تجب طاعته و إن فسق و فجر، مادام يلقلق لسانه بالشهادتين ولا عجب في استماتته في الدفاع عن السلاطين وعن سياساتهم لجعل الدين الْعُوبة في أيديهم، فلا يُبقوا منه إلّارسمه ويُخْووه عن حقيقته.

ومن ذلك ادّعاؤهم بأنّ الأئمة عليهم السلام كانوا علي وفاق مع سلاطين بني أُمية وبني العباس ومع الخلفاء الثلاثة ويصيغون هذا الدعم بأنحاء مختلفة وبصياغات متعدّدة ويتشبّثون بقصاصات موهمة في السيرة ليلبسوا علي الحقيقة إلّاأنّ الفطن يلتفت إلي أنّ جذر كل تلك الإشكالات يرجع إلي تطهيرهم للسلاطين وديانتهم ببرائتهم عن أيّ لوث.

ومن ذلك يظهر الجرح العظيم في تراث حديثهم ومدارسهم الفقهية والكلامية وقافلة علمائهم علي مرّ التاريخ، فإنّهم كانوا علماء بَلاطِ وسلطة، فُسُيّسَتْ مذاهبهم ومسار كتبهم علي أغراض السلطة.

و أمّا اجتهاد النبي صلي الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام فإنّ القائلين من العامّة بأنّ جملة من أحكام النبي صلي الله عليه و آله و سلم هي اجتهادية ظنّية، هم في

الحقيقة يفتحون باب الردّ علي النبي صلي الله عليه و آله و سلم وتسويغ نقض طاعته وتبرير المتمرّدين من الصحابة علي أحكام اللَّه تعالي و نبيّه، نابذين بذلك أمر اللَّه تعالي بطاعته وترك التقدّم عليه، و أنّه تقدّم علي اللَّه تعالي وتكذيب الآيات بأنّ النبي لا يتّبع إلّاالوحي و أنّه لا يصل ولا ينطق عن الهوي.

وأمّا قضاؤه صلي الله عليه و آله و سلم في النزاعات فهي وإن استندت إلي البيّنات و الأيمان و هي موازين ظنية إلّاأنّه لا يصحّ إطلاق الإجتهاد علي أحكامه القضائية أيضاً، لأنّ مفهوم الإجتهاد الظني هو ممّا يقبل معني الخطأ في تطبيق القواعد الظنية المعتبرة؛ فالمجتهد كثيراً ما أو في جملة من الموارد يخطأ في كيفية تطبيق القواعد الظنية إمّا جهلًا أو سهواً أو غفلةً وفي كثيرٍ ما لا يحيط علماً بأطراف المسألة وهذا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 130

بخلافه صلي الله عليه و آله و سلم في القضاء، فإنّه لا يتصوّر فيه الخطأ في استخدام القواعد الظنية المعتبرة في النزاع فضلًا عن إحاطته اللدنّية المسدّدة من قبله تعالي بجهات المسألة.

وهذا نظير الفرق بين المعصوم وغير المعصوم في استنطاق دلالة الكتاب فإنّ المعصوم وإن تمكّن من بيان موازين الدلالة والتركيب اللغوي والقواعد الأدبية للإنتهاء إلي سلسلة المعاني إلّاأنّ الفرق بينه وبين المجتهد والمفسّر و الأديب هو أنّ المعصوم لا يُخطئ في تطبيق تلك القواعد، كما أنّه لاتفوته ولايشذّ عن علمه دالّة من الدوال ولاشاهد من الشواهد ولا ينحصر ولا يقف بيانه للدلالة بين اللفظ والمعاني إلي معانٍ محدودة، بل يتسلسل بيانه إلي كلّ ما في الكتاب من أسرار و بطون؛ هذا فضلًا عن أنّ علمه بتلك المعاني والحقائق لا ينحصر بطريق

اللفظ و الدلالة، بل له علم آخر يبتدأ من الحقائق ويتنزل إلي المعاني والألفاظ.

فهذه الفوارق مائزة بين بيان المعصوم لدلالة ألفاظ الكتاب مع استظهار غيره من ألفاظ الكتاب.

وأمّا ما يشاهد من العتاب في الآيات القرآنية العديدة للأنبياء أو للنبي الخاتم في تدبيره الحكومي والسياسي، فليس ذلك خارجاً مخرج الخطأ الإصطلاحي أو الزلل الخارج عن الطريق القويم، بل هو العتاب علي ترك الأولي؛ و الأولي بالنسبة إليه صلي الله عليه و آله و سلم يفوق بدرجات شاسعة عن ما هو الأولي عند الأنبياء أولي العزم فضلًا عن بقية الأنبياء، فلا مقارنة ولا قياس مع غير المعصوم.

هذا مع أنّ جملة من الموارد الذي فيه العتاب هي من باب «إياك أعني واسمعي ياجارة» وأنّ العتاب في الحقيقة متوجه إلي الأمّة.

إنّ ما يقال في توجيه أنّ الغاية والهدف يبرر الوسيلة من لزوم حاكمية اللَّه تعالي علي النظام الإجتماعي و حاكمية أحكام اللَّه، يرد عليه:

أولًا- إنّ هذا الحاكم البشري الذي يستسيغ أيّ وسيلة للبقاء علي سدّة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 131

الحكم، سيؤول به الأمر إلي تسويغ ارتكاب كلّ المحرمات الشرعية والفطرية وارتكاب الفجائع والشنائع من أجل البقاء علي القدرة وبالتالي ستكون حاكميّة حكومة الشيطان لا حكومة الرحمن.

ثانياً- إنّ حاكميّة اللَّه التكوينية في الإرادة التكوينية لاريب أنّه لا يتخطّاها قدر من الأقدار «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً» «1» لكن لا بنحو التنصّل من عهدة التكاليف الإختيارية كي يكون مسلك الجبرية والمرجئة والقدرية، فليس هو جبر مطلق ولا هو تفويض مطلق للجانب التشريعي الذي يكون تدبيره بيد البشر كي يكون اللَّه مغلوباً علي أمره (العياذ باللَّه)، بل هي حالة وسطية من نفي الجبر المطلق ونفي التفويض المطلق،

أمر بين أمرين.

فالصلاحيّة التشريعية محدودة ضمن حدود الحرمات والمحرمات والواجبات وعزائم اللَّه تعالي ورُخَصِه وما وراء ذلك فهو موكول للارادة التكوينية، فلا مجال لدعوي أنّ التقيّد بالتشريعات الأوّلية ينجم منه زوال حاكميّة الباري و أحكامه علي النظام الإجتماعي، فإنّ هذه الدعوي تؤول وترتكز علي نظرية التفويض المطلق كما أن ليس الحاكمية التكوينية و الإرادة الإلهية تعني إيكال الأمور التي هي في دائرة الإختيار البشري ضمن الحدود الإلهية و إيكالها للحاكميّة التكوينية و التخلّي عن مسئوليتها، لأنّ ذلك يعني البناء علي نظرية الجبر في الفعل الإجتماعي و نفي القدرة و الإختيار في فعل النظام الإجتماعي فالإستدلال من الطرفين لا يخلو من مغالطة في الابتناء علي نظرية الجبر الإجتماعي أو التفويض المطلق الإجتماعي، فَحَدُّ المسئولية هي ضمن الحدود الإلهية وما وراؤها فهو موكول إلي الإرادة التكوينية إذ لا مسئولية وراء الحدود الالهية حيث لا ضياع للحاكميّة الالهية إذ الذي يؤمّن الحاكميّة في ما وراء الحدود الإلهية التشريعية هو

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 132

الحاكميّة التكوينية للَّه تعالي «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» * «1» و من ثمّ نري في سيرة النبي والوصي و الحسنين و بقية الأوصياء عليهم السلام أنّهم لا يحقّقون النصر والظفر السياسي بارتكاب أيّ وسيلة و بكلّ قيمة.

و بعبارة أخري: إنّ الذي يوازن بين الإرادة التشريعية والتكوينية بحفظ تمام الحدود بين دائرتي الارادتين هو المعصوم، فهو يعلم بأنّ ما يفوت عن التشريع لا يفوت عن النظام الارادة التكوينية إذ ان اللَّه بالغ أمره وقد جعل اللَّه لكل شي ء قدراً وان الحكم إلّاللَّه فإن لم يكن تشريعياً فلن يفوت الحكم التكويني له تعالي.

و من ثمّ كان الورع والتقوي في التدبير السياسي والتنفيذي الحكومي هو السبيل لحفظ الحدود بين الارادتين.

هذا مع أنّ أشكال الحكومة التشريعية لا ينحصر في الشكل العلني، بل يتّخذ أطواراً عديدة و سيأتي تفصيل ذلك.

ثالثاً- إنّ الوصول للقوّة و الإقتدار في الحاكميّة في كافّة الصور والحالات والمواقع لا ينحصر بتسويغ المحظورات وانتهاك الحرمات بغرض الوصول إلي القدرة أو المحافظة عليها، إذ هناك آليّة التقية- و التي تَعني في المصطلح الحديث:

اعتماد الأسلوب السِلْمي والنشاط الفاعل بأسلوب هادِئ طويل المَدي والنَفَس- فالتقابل بين الطريقتين بَيّنٌ واضح، كما أنّ الوصول إلي القدرة بهدف تحكيم حدود اللَّه تعالي بطريق التقية والخفاء والأسلوب الهادِئ واللّيّن بديل يُغني بوضوح عن قاعدة تبرير الهدف للوسيلة والمصلحة المزعومة، سواء ذلك علي صعيد النظام الطائفي أو علي صعيد الحاكم السياسي، بل علي كافّة الأصعدة الفردية والجمعية المختلفة.

فتحصّل: إنّ حكم المعصوم و إن استند إلي سبب ظاهري لا يطلق عليه الإجتهاد بخلاف حكم المجتهد لعدّة فروق:

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 133

اٌلأول: إنّ المعصوم لا يخطئ في السبب الظني المقدّم علي بقية الموازين الظنّية المؤخّرة، كالخاصّ علي العامّ، و المقيّد علي المطلق، و الدليل الحاكم علي المحكوم، و الوارد علي المورود، و النص علي الأصل، و الراجح علي المرجوح؛ بينما إنّ المجتهد في جملة من الموارد يخطئ في ذلك فيحسب الحكم التخيّلي أنّه الحكم الظاهري.

الثاني: إنّ المعصوم يحيط بكلّ منظومة الأسباب الظنية ووجوهها ودرجاتها و مراتبها، بينما لا يتسنّي ذلك لغير المعصوم، فإنّه يحفظ شيئاً وتغيب عنه أشياء.

الثالث: إنّ سلسلة المعاني التي يحيط بها المعصوم لا تقف عند حدّ حتي تنتهي إلي حقائق اللوح المحفوظ، بينما مقدار ما يدركه غير المعصوم هو بعض درجات المعاني.

الرابع: إنّ المعصوم حين استناده إلي السبب الظني يكون علي جزم بدرجة اليقين أنّه السبب الظني الذي يستند

إليه، بينما المجتهد والفقيه لا يكون جزمه بالحكم الظاهري إلّاإطمئناناً ظنّياً، و من ثمّ يحتمل التغيّر و تبدّل الرأي عنده. وهذا بخلاف المعصوم في مقام استناده إلي السبب الظني.

الخامس: إنّ المعصوم لا ينحصر معرفته بالحكم عن طريق السبب الظني، بل معرفته حقيقة هي بإحاطته بالواقع وباللوح المحفوظ وبمراتب الحكم الواقعي ومراتب الحكم الظاهري، و هل إنّ الحكم الظاهري يطابق الواقع أو لا يطابقه، و بعبارة أخري:

لا يطلق علي المعصوم أنّه ظانّ عند ما يستند إلي السبب الظني؛ و ذلك لأنّ معرفته بالحكم ليست مسبّبة عن السبب الظني، سواء معرفته بالحكم الظاهري أو الحكم الواقعي. و هذا بخلاف غير المعصوم فإنّه يطلق عليه ظانّ لتولّد معرفته من

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 134

السبب الظني.

السادس: إنّ الحكم الذي يُنْشِئُه المعصوم وإن أطلق عليه في بعض الموارد أنّه ظاهري، إلّاأنّ ظاهريته هي بالإضافة إلي باطن الشريعة وإلي حكم اللَّه في اللوح المحفوظ وما يطلق عليه ظاهر الشريعة في قبال باطن الشريعة، إلّاأنّ ذلك الحكم منه عليه السلام هو واقعي بالإضافة إلي سائر الأُمّة فالحكم الظاهري الذي يستند إليه غير المعصوم، كالمجتهد و الفقيه متأخّر بمراتب عن ذلك الحكم من المعصوم وفي طوله وهو من قبيل ترامي الكواشف؛ فحكم المجتهد إذا قدّر له إصابة الواقع فإنّما يصيب و يطابق حكم المعصوم؛ فإطلاق الحكم الظاهري علي حكم المعصوم هو بمعني يغاير إطلاق الحكم الظاهري علي حكم المجتهد، فليسا بمعني واحد.

فهذه جملة من الفوارق لا علي سبيل الإستقصاء موجبة لعدم إطلاق الإجتهاد علي الأحكام الصادرة من المعصوم وإن استندت إلي أسباب ظنّية في بعض الموارد، بخلاف الأحكام الصادرة من المجتهد.

و علي ضوء ذلك، فلو سلّمنا- جَدَلًا- أنّ الولاية السياسية الإعتبارية للمعصوم،- المغايرة

للولاية التكوينية التي هي من مقاماته- تلك الولاية الإعتبارية قابلة بتمام حدودها لأن يتصدّي إليها غير المعصوم، كالفقيه بلا فرق في حدود الولاية و الصلاحيّة الإعتبارية من جهة الولاية الإعتبارية نفسها، فإنّه بموجب الفوارق السابقة في إحاطة المعصوم بالأحكام الإعتبارية و عدم إحاطة المجتهد و الفقيه بها في أنحاء الفوارق الستة السابقة لا يعقل حينئذٍ تساوي ولاية المعصوم الإعتبارية مع صلاحيّة المجتهد النيابية «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» «1»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 135

هذا فضلًا عمّا قرّرناه من امتناع تساوي الولاية الإعتبارية لمن له ولاية تكوينية مع من ليس له ولاية تكوينية، حيث إنّ الولاية الإعتبارية متولّدة و منشعبة في سعتها الإطلاقية عن الولاية التكوينية.

و قد بيّناه مفصلًا في كتاب نظريّة الإعتبار.

إنّ القول باتحاد ولاية و صلاحيّة غير المعصوم مع ولاية وصلاحيّات المعصوم ينطوي علي عرضيّة ولايته لولاية المعصوم، إذ مقتضي التبعية أن يلزم بمتابعة المعصوم، فتكون صلاحيّاته مقيّدة بالتبعية للمعصوم ومن ثمّ لم تكن حدود ولاية رسول اللَّه بعين حدود ولاية اللَّه تعالي، لأنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم تابع و مطيع لولاية اللَّه و أوامره وأحكامه؛ و كذلك ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام ليست هي في الحدود كولاية الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم، لأنّ أميرالمؤمنين عليه السلام تابع ومطيع لولاية رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم؛ و كذلك سائر الأئمة عليهم السلام في حدود ولايتهم تابعون مطيعون للَّه ورسوله ولأمير المؤمنين عليه السلام؛ فالتبعية والطاعة تقتضي بالضرورة ضيق ولاية التابع عن ولاية المتبوع وإلّا لم يكن في البين التبعية والطاعة والتسليم.

و من ثمّ كان استنباط الأحكام من التشريعات القرآنية و

الإقتصار عليها والتجاوز للتشريعات النبوية ولبيانات المعصومين التشريعية هو خروج ومروق عن ولاية الرسول والأئمة المعصومين عليهم السلام.

قد ورد في حسنة الميثمي عن الرضا عليه السلام أنّه قال: …

لأنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم لم يكن ليحرّم ما أحلّ اللَّه ولا ليحلّل ما حرّم اللَّه ولا ليغيّر فرائض اللَّه وأحكامه، كان في ذلك كلّه متّبعاً مسلّماً مؤدّياً عن اللَّه و ذلك قول اللَّه: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحي إِلَيَّ» * «1» فكان صلي الله عليه و آله و سلم متّبعاً للَّه مؤدّياً عن اللَّه ما أمره به من تبليغ الرسالة …

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 136

فأمّا أن نستحلّ ما حرّم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم أو نحرّم ما استحلّ رسول اللَّه لا يكون ذلك أبداً، لأنّا تابعون لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم مسلّمون له، كما كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم تابعاً لأمر ربّه مسلّماً له … «1»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 137

الولاية النوعيّة … ص: 137

و قد يستدلّ بأمور علي كون مقام الولاية- التي ثبتت للأئمّة الإثني عشر- هي ولاية نوعيّة لا تختص بهم، بل تعمّ مطلق من وصل إلي مقام قيادة الأمّة و تَأَهَّل لذلك بتوفّر الشرائط والصفات اللازمة، و بالتالي فمقام الإمامة نوعي لا ينحصر بالعدد المحدود الإثني عشر، سواء من حيث الإمامة السياسية أم من جهة الإمامة في الهداية التكوينية-:

الأول: عموم ما دلّ من الأدلّة النقلية علي فتح الباب لهذه المقامات لكلّ مَن يسير علي الطريق، فيكون عارفاً واصلًا متحقّقاً بتلك المقامات، نظير قوله تعالي:

«إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» «1»

فإنّ الآية عامّة في كلّ من اتّقي بحسب درجات

تقواه، فإنّه ينال درجات من الفرقان وهو من العلم اللدنّي و التسديد الملكوتي.

و كذلك قوله تعالي: «وَ اتَّقُوا اللَّهَ» * «2»

و قوله: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» «3»

فإنّ الكرامة التكوينية والقرب الإلهي ليس حكراً علي أحد، بل هو عامّ لكلّ من اتّقي، فالباب مفتوح لكلّ فرد إنساني.

وكذا قوله: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» * «4»

و قوله: «وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» «5»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 138

فكلّ من بلغ مقام الإحسان يُزَقُّ الحكمة والعلم اللدنّيان، و قد قال تعالي:

«وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» «1»

و به يشعر قوله تعالي ليلة المعراج خطاباً لحبيبه صلي الله عليه و آله و سلم:

و ما يتقرب اليّ عبد من عبادي بشي ء أحبّ اليّ ممّا افترضتُ عليه و إنّه ليتقرّب اليّ بالنافلة حتي أحبّه، فإذا أحببته كنت اذاً سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به، و لسانه الذي ينطق به، و يده التي يبطش بها، إن سألني أعطيته. «2»

فبقرب النوافل يكون الباري تعالي سمعاً وبصراً ويداً للعبد وأمّا بقرب الفرائض فيكون العبد اذن اللَّه، عين اللَّه، حجّة اللَّه وهذان البابان للتقرّب مفتوحان لكلّ سالك علي الطريق.

وكذا قوله صلي الله عليه و آله و سلم: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللَّه». «3»

و يرد عليه:

إنّ التقوي وإقامة الفرائض وكذا النوافل- حدوثاً و بقاءاً- لا تتحقّق بالدرجة الكاملة التامّة إلّالدي المطهَّر من الذنوب ومن الرجس، أي لدي صاحب العصمة العلمية والعصمة العملية؛ فإنّ من أكبر الفرائض هو الإيمان باللَّه واليوم الآخر وبالأنبياء والرسل والأوصياء والحجج. والإيمان باللَّه مقوّم بمعرفته، فمِن دون المعرفة الكاملة والتامّة لا يتمّ الإيمان الكامل ولا يتمّ أداء الفريضة

كما هو حقّ الأداء إلّابالعصمة العلمية وبانتفاء الشك والريب- الذي هو الرجس الأكبر- عن القلب وكذلك مقام الخلوص والإخلاص، مع أنه قال تعالي: «وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 139

بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ» «1»

فقرب الفرائض وقرب النوافل والفُرقان التامّ اللدني بمقامه الأتمّ لا يتحقّق إلّا للمطهَّر من الريب والشكّ. والخلوص في المعرفة والاخلاص في العبادة لا يتحقّق إلّابالمعرفة التامّة.

فإذا تقرّر أنّ كلّ من لم يكن معصوماً علمياً و عملياً، فلا محالة يكون ناقص التقوي ومُفَرّطاً في أداء الفرائض علي وجهها الأتمّ، فلا محالة يكون ظالماً لنفسه ولو في سنين مراهقته وأوان بلوغه، بل منذ بدء ولادته. و إذا صدق عليه عنوان الظالم فيشمله عموم الآية: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» أي عهد الإمامة.

فكلّ مَن اعترضه الشكّ في المعرفة واختلج قلبَه الريب ولو في آنٍ من عمره لا يصل ولا ينال المقام الأتمّ من التقوي والمقام الرفيع من الكرامة الإلهية ولا صدارة درجات الإحسان، فلا يكون خليفة اللَّه المودعة الأسماء الإلهية جميعها ولا يكون من المصطفين المختار لرسالته عزّوجلّ، فلا يكون عين اللَّه وأذن اللَّه و لسان اللَّه ويد اللَّه وحجّة اللَّه إلّامَن طُهّر قلباً وذاتاً، روحاً وبدناً، علماً و عملًا منذ انعقاد نطفته* بل اودع الأصلاب والأرحام المطهّرة.

هذا من حيث الحدوث فضلًا عن جانب البقاء وقد أكّدالقرآن هذه الحقيقة في قوله تعالي:

«ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» «2»

ومفاد هذه الآية نفي قابلية الفرد البشري للنبوة أو الحكمة في مقامها الأتمّ أو علم الكتاب اللدنّي، إذا لم يكن معصوم الذات عن الزلل بقاءاً، أي فالذي لا يمتنع عليه الخطأ بقاءاً يمتنع

فيه قابليّة الوصول إلي تلك المقامات حدوثاً.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 140

و هذا ممّا يعزّز مفاد الآية السابقة في نيل العهد، أنّ هذه المقامات الخاصّة الإلهية يجب أن تكون لذوات خاصّة بعينها يمتنع عليها الظلم حدوثاً وبقاءاً، أي مُصطفي بالإصطفاء الخاصّ و منتجَبٌ.

وكذا ما دلّ من طائفة الآيات علي أنّ الإمامة هي في عقب وذرّية إبراهيم و أنّها ذرّية بعضها من بعض، كما في قوله تعالي:

«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفي آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَي الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» «1»

و هي استجابة لدعوته عليه السلام حيث أشار إليه قوله تعالي:

«وَ إِذِ ابْتَلي إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2»

و كذلك يشير إلي إجابة الدعوة في بقاء الإمامة في عقب إبراهيم نسلًا بعد نسل إلي يوم القيامة قوله تعالي: «وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ» «3» أي كلمة التوحيد.

و يشير إلي بقاء الإمامة في خصوص عقبه في هذه الأمّة دون غيرهم قوله تعالي:

«وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلي وَ نِعْمَ النَّصِيرُ» «4»

و هذه الآية تشير إلي الامّة المسلمة في ذرّية إبراهيم التي يشير إليها قوله

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 141

تعالي:

«رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1»

ففي ذرّيته تلك الامّة المسلمة التي خُصّت بدعاء

إبراهيم يجعل عهد الإمامة فيها وهي التي سمّاها إبراهيم مسلمة وهم الشهداء علي الناس والرسول عليهم شهيد ولا ريب في ضرورة كون الشهداء علي الناس هم ممّن لهم صفة العصمة علماً وعملًا وإلّا لكانوا أولي بأن يُشهَد عليهم من أن يَشهدوا علي جميع الناس، و أنّ هذه الأمّة المسلمة الموحّدة المعصومة الشاهدة علي الناس، أبوها إبراهيم أي من ذرّيته وإلي ذلك يشير قوله تعالي: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «2» أي أخرجت من عقب إبراهيم عليه السلام.

ونظير هذا المعني في قوله تعالي:

«وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» «3»

فهذه الأمّة ليست كلّ الأمّة الإسلامية التي فيها من لايقبل اللَّه شهادته علي بقلة خضراوات، فضلًا عن أن يشهد علي جميع أعمال الناس يوم يقوم الأشهاد، بل هي الأمّة المشار إليها في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» «4»

و إلي ذلك كلّه يشير قوله تعالي:

«أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلي ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 142

الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» «1»

إلي أن قال تعالي:

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلي أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «2»

فَهُم اولو الأمر الحكّام علي الناس الذين لهم معاقد الولاية وهي باقية فيهم في هذه الأمّة دون بقية قريش الذين لم يكونوا مقيمين علي التوحيد حيث عبدوا الأوثان وهم الظالمون من الذريّة الذين لا ينالون عهد الإمامة، فضلًا عن

بقية الناس من غير قريش و يشير إلي هذا الإصطفاء في ذرّية إبراهيم و هي محمّد و آل محمّد عليهم السلام آيةُ التطهير في قوله تعالي: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «3» و قوله تعالي: «سَلامٌ عَلي إِلْ ياسِينَ* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» «4» كما في قراءة نافع وابن عامر ويعقوب ويشهَدُ لَها الجمع بالياء والنون حيث أنّ (ياسين) تسميته تعالي لنبيّه حيث قال تعالي «يس».

و كذا قوله تعالي:

«قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي» «5»

و قال:

«قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» «6»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 143

و قال:

«قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلي رَبِّهِ سَبِيلًا» «1»

فبيّن تعالي أنّ مودّة ذوي القربي و ولايتهم هي السبيل إليه والمسلك إلي رضوانه.

هذا فضلًا عن الأحاديث النبوية المتواترة بين الفريقين، مثل الحديث المتواتر:

إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي.

و كذلك حديث:

إنّ الخلفاء إثني عشر كلّهم من قريش.

إنّه لا يزال أمر هذا الدين عزيزاً منيعاً قائماً.

و كذلك حديث السفينة:

مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجي ومن تخلّف عنها غرق.

علمانية بعض الأقوال … ص: 143

و عليه إذا كانت الفقاهة و العدالة شرطاً لانضباط التدبير السياسي علي الجادّة المستقيمة بخلاف الحاكم غير الفقيه و غير العادل، فبنفس المناط بنحو الأولوية الأشدّ بما لا يقاس اللازم في الحاكم توفّر العصمة العلمية والعملية وإلّا لما كان هناك فرق بين الفقيه والعامي والقانوني الوضعي وبين العادل الأمين والفاسق الخؤون.

بل إنّ الفارق بين أمانة المعصوم بالعصمة العملية مع العادل هو الفرق بين الثري والثريا، و كذلك الحال في الفرق بين الفقيه والمعصوم بالعصمة الفعلية، بخلاف الفرق بين العامي ذي الخبرة القانونية الوضعية مع

الفقيه، أو الفاسق مع

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 144

العادل، فإنّ الفارق ليس بمثابة الفارق الأول وكذلك اشتراط الأعلمية في الحاكم سواء في الفقاهة أو في التدبير أو الأعلمية في التدبير والمهارة في إدارة الأمور بكافّة مجالاتها ليس منشأ اشتراطها إلّالتأثير العلم النظري والعملي في كفاءة الحاكم، فكيف بالمعصوم علماً وعملًا و بالمعصوم في كمالاته ومهاراته، فبنفس المناط والدليل الذي اشترط منه الأعلمية هو بنفسه دالّ علي شرط العصمة في الحاكم.

و اعلم إنّ اشتراط الكفاءة العلمية والأمانة العملية والتدبيرية، إنّما هي لأجل التدبير الصائب والصالح ومن البيّن أنّ الفرد البشري مهما بلغ علمه الكسبي وتهذيبه النفسي ومهاراته المجرّبة، فإنّه لن يحيط بكلّ وجوه الأمور ولن يستيقظ لكلّ دقائق الأشياء و حيثياتها، فتغيب عنه بقدر محدوديّة علمه و مهارته، و بالتالي يخفق في الوصول إلي الصواب وهذا معني ضرورة العصمة بالعلم اللدنّي المحيط و الكفاءة العملية المسدّدة من ربّ العالمين.

و بعبارة أخري: إنّ أصل اشتراط الفقاهة والعدالة يتناقض مع دعوي عدم الفرق بين صلاحيّات المعصوم وصلاحيّات الفقيه و عينيّة الولاية، لأنّ الولاية و الصلاحيّة المسندة للفقيه إن كانت لأجل حاكميّة الفقيه والتشريع والعدل والأمانة فاختلافها بسبب تشكيكية درجات العلم بالتشريع والأمن في العدالة لابدَّ منه، أي إنّ الولاية والصلاحيّة لا محالة تكون تشكيكية بتبع تشكيكية العلم والعدل والأمانة.

والغريب في الإلتزام بأنّ العدالة اللازمة في الفقيه أشدّ درجة من الثابتة في القاضي و أنّ العدالة الثابتة في القاضي أشدّ درجة من الثابتة في الشاهد في المنازعات وهي أشدّ درجة من العدالة الثابتة في إمام الجماعة، فكيف لا تتفاوت العدالة التي في الفقيه مع العصمة العملية في المعصوم وبالتالي فكيف لا تتفاوت ولاية المعصوم مع صلاحيّة المسندة للفقيه؟

اسس النظام

السياسي عندالامامية، ص: 145

هذا لو كنّا نحن و الحكم العقلي والعقلائي وإلّا فأدلّة مذهب الإمامية علي حصر الولاية بالمعصوم بشخص المعصوم دون غيره متظافرة في الآيات والروايات والأدلّة العقلية الأخري، نظير قوله تعالي:

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» «1»

و كذلك آية التطهير وآية مسّ الكتاب وحصر مسّ الكتاب للمطّهرين، و غيرها من الآيات وكذلك الروايات كحديث السفينة والثقلين الدالّين علي الإمامة السياسية والإمامة التشريعية والإلهية التكوينية؛ فلا يعقل ثبوت ولايتهم عليهم السلام بعينها للفقهاء ودعوي عدم دخل مقاماتهم التكوينية وعلمهم اللدنّي في إمامتهم السياسية نظير دعوي العلمانية بعدم دخل الفقاهة والعدالة في الحكومة.

فدعوي عدم شرطية العصمة في الإمامة السياسية علمانية مفرطة وترجع إلي عزل حاكميّة اللَّه تعالي عن التدبير السياسي، لأنّ الذي تتنزّل عليه إرادات اللَّه ومشيئاته هو المعصوم دون غيره في موارد التدبير السياسي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 147

الولاء السياسي تابع للولاء العقائدي … ص: 147

إنّه من الأصول المقرّرة في علم القانون تبعية النظام السياسي للنظام القانوني وتبعية النظام القانوني لنظام المعرفة والإعتقاد، فالتفكيك بين هذه الأنظمة غير متصوّر وكلّ حلقة من حلقات أيّ نظام مرتبطة بمجموعة منظومة ذلك النظام وتَتْبَع بتبعية ذلك النظام إلي النظام المتبوع؛ فأيّ إطار وموقف ولونٍ من الولاء السياسي يعكس الإطار القانوني ويكشف عنه وذلك الإطار القانوني يكشف عن الإطار العقائدي وهذه التبعية بين النظامات الثلاثة ليس يقرّها علم القانون فقط وعلوم مدارس المعارف المختلفة، بل قام عليها البرهان العقلي والفلسفي أيضاً؛ إذ هذه النظامات الثلاثة هي محاذية لجهاز خلقة روح الإنسان و بدنه، فإنّ إذعان الإنسان يتصدر التحكّم في بقيّة قوي الإنسان، فإنّها تابعة لكيفية نوع الإذعانات التي لدي الإنسان ومن ثمّ تتولّد

فيه الصفات الخُلُقية وهي بدورها تولّد أنماط الفعل وتدبير الإنسان لأفعاله، فكلّ فعل وليد خُلُق وكاشف عنه، كما أنّ كلّ خُلُق وليد إذعان وكاشف عنه، فَتَلازمُ هذه الأمور الثلاثة بعضها مع بعض ضروري لا محالة.

و من ثمّ صحّت هذه المقولة القائلة بأنّ أكثر المذاهب الإعتقادية كانت وليدة سياسات وقتية ونزاع القُوي المتصارعة، فإنّ هذه المقولة المذكورة في العلوم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 148

الإجتماعية وكتب التراجم قد تفسّر بعدّة تفاسير و علي أيّ تفسير منها فإنّها متضمّنة لبيان التلازم بين هذه الأمور الثلاثة، فإنّ مَن يريد أن يُشَرْعِنَ خطواته السياسية مضطرّ لتبريرها بخَلْفية قانونية وأطر تشريعية، كما أنّ تَبَنّي الأطر التشريعية والقانونية المبتدعة والمستحدثة يستدعي تبنّي أطر ورُؤي عقائدية منسجمة مع تلك الإطارات التشريعية الجديدة؛ فعملية التغيير العقائدي قد تبدو من المواقف السياسية وطبيعة التحالفات السياسية لتكتسب صبغة قانونية، ثمّ تكتسب تلك القوانين صبغة عقائدية و هذا التداعي بين الأمور الثلاثة في موارد التغيير مُؤشّر علي توالد الأمور الثلاثة بعضها من بعض وتأثيرها علي بعضها الآخر.

ومنه يظهر مدي الخطورة في الولاء السياسي والتحالف في المواقف السياسية وانعكاسها علي المتبنيّات القانونية الفقهية وبالتالي علي المسار العقائدي لدي أيّ طائفة. ومن هذا يظهر أنّ الولاية بكلّ درجاتها لها التأثير البالغ في أركان العقيدة ومعالم التشريع الديني، سواء الولاية السياسية أم الولاية التشريعية الفقهية أم الولاية المعرفية الإعتقادية، كما ورد في الروايات المستفيضة إنّ الاسلام بني علي خمس: إحداهنّ الولاية و أنّها أفضلهنّ و أنّه لم ينادِ بشي ء كما نودي بالولاية. «1»

و قد أشير إليه في جملة من الآيات الكريمة أيضاً كقوله تعالي:

«فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا

قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» «2»

فربط بين الطاعة والولاء السياسي وبين الايمان.

و قال تعالي:

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 149

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا* أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» «1»

و قال تعالي:

«فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقي» «2»

فبيّنت الآيات أنّ التحاكم والإحتكام سواء في النزاع أو الإختلاف وفي القضاء أو في المال أو في الحرب أو السِلم أو بقية الأسئلة السياسية، فضلًا عن الإحتكام التشريعي لابدّ أن يكون إلي اللَّه ورسوله وإلي من يتنزّل عليهم الأمر ليلة القدر بتوسط الروح والملائكة، أي المطهّرون الذين يمسّون الكتاب النازل في ليلة القدر، فالولاء السياسي لابدّ أن يكون منتسباً إليهم وهو وليد الايمان باللَّه وبرسوله وأولي الأمر من عترته و أنّ بناء الولاء والإنتماء و الإنتساب والتضامن والتحالف السياسي المطلق مع غيرهم هو من التحاكم إلي الطاغوت ومن الايمان به والايمان بالجبت ومن الضلال البعيد.

و قد قرّر الفقهاء أنّ التحاكم إلي من لا يستمدّ صلاحيّته القضائية والسياسية من أئمّة أهل البيت عليهم السلام هو حاكم جور وطاغوت ويحرم التحاكم إليه وهو من الكبائر العظيمة وقد قال تعالي:

«وَ لا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» «3»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 150

و «كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» «1»

كما أنّه قرّر في الفقه لدي كافّة المذاهب أنّ الخارج عن طاعة إمام العدل وإمام

الحق باغٍ، بل قد روي الفريقان أنّ من ليس في عنقه بيعة وولاء السياسي لإمام زمانه يموت ميتة جاهلية «2» و هذا المقام لا يصلح عقلًا ونقلًا إلّا للمعصوم عليه السلام.

ومن الجانب الآخر هناك جملة من الآيات المتضمنة للتقريع الشديد والنكير البالغ علي التولّي السياسي لمن حادّ اللَّه ورسوله كقوله تعالي:

«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «3»

والآية هذه في سياق آيات قبلها، حيث قال تعالي:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَي الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» «4»

ثمّ تصفهم الآيات الأخري بصفات النفاق وتقول:

«اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ» «5»

فهذه الآيات تبيّن لنا أنّ الولاء السياسي نحو تحزّب ومناصرة ومؤازرة، فإن

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 151

كان مع الذين يحادّون اللَّه فيكون ذلك الحزب حزب الشيطان وإن رفع راية الإسلام و شعاراته و إن كان التناصر من أجل البراءة ممن حادّ اللَّه و رسوله، فأولئك علي صفة الايمان القلبي لا كالمنافقين الذين هم علي صفة ظاهر الإسلام دون الايمان.

و مفاد هذه الآية إنّ البراءة السياسية من شرائط الايمان و إنّ من لم يتبنّاها يمرق من الايمان، كما وردت روايات مستفيضة عن أهل بيت العصمة في ذلك.

والملفت للنظر في الآيات السابقة أنّ جعل وجوب البراءة وحرمة الموالاة لا لعنوان الكافر ولا المشرك ولا

اليهود ولا النصاري، بل لعنوان من حادّ اللَّه ورسوله، أي ولو كان علي ظاهر الإسلام، متقنّعاً بشعاره، و قال تعالي:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ* إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ* لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّي تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ* رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* عَسَي اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 152

الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ

مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلي إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» «1»

وهذه الآيات أيضاً تجعل موضوع المنع عن الموالاة السياسية عنوان «الْعَدُوُّ»، لا عنوان الكافر، بل تصرّح بأنّ المنع عن موالاة الكفار مقيّد بالمعادي و يدور مدار ذلك العنوان و أمّا غير المعادي فتحثّ الآيات علي البرّ والقسط معه وهما لا يعني جواز الموالاة و إنّما هي أدني درجات الألفة والتعايش السلمي.

ومثله قوله تعالي:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» «2»

و نلاحظ أنّ الآية جعلت موضوع وجوب البراءة السياسية ممّن غضب اللَّه عليه وفي استعمال القرآن هناك تفكيك بين الضال والكافر، قد يكون عدواً وقد لا يكون عدواً وقد يكون ممّن استحقّ الغضب الإلهي وقد لا يكون، و ذلك بحسب القصور والتقصير وبحسب المعاندة والمحادّة والمشاققة لمسار الايمان وقافلة الهداية والفرقة الناجية، كما في قوله تعالي:

«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبي مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «3»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 153

فالآية تقسّم الكافر إلي عدوّ و مستحقّ الجحيم، أي حُتِم ذلك عليه، و إلي غيره ممّا يؤكّد أنّ المدار علي العداوة والشقاق وتحتّم استحقاق العقاب والغضب الإلهي وهذا العنوان كما تري قد ينطبق علي المنافق المظهِر للإسلام المعادي للإيمان وقد لا ينطبق علي بعض الكفّار كما في بعض النصاري في قوله تعالي:

«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ

مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصاري ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» «1»

و من ثمّ يلاحظ نكير القرآن بشدّة علي أهل النفاق أشدّ من لحنه علي بعض أصناف الكفار، كما يلاحظها المتدبّر لآيات سورةالبراءةأو سورةالمنافقين و غيرهما وليس ذلك إلّالأنّ المنافقين يَحيكُون الدسائس ويرصدون الدوائر بالدين و الايمان.

و قال تعالي- علي لسان إبراهيم-:

«وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» «2»

فبيّنت الآية أنّ المدار في المودّة والولاء السياسي علي الحق و أنّ الباطل مدار البراءة والقطيعة، كما هو مقتضي الأمر بالتأسي بإبراهيم والذين معه.

و قوله تعالي:

«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» «3»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 154

و إجمال معني الآية ينهي عن الولوج و الإنتماء إلي غير جماعة الحق علي صعيد الولاء السياسي، أي غير الجماعة التي تنتمي سياسياً إلي ولاء اللَّه و ولاء رسوله و ولاء المؤمنين، و المراد بالمؤمنين ليس عموم المؤمنين في الآية، بل المراد بهم هو المراد في الآية الآخري في نفس السورة:

«وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ» «1»

أي مَن جعل اللَّه لهم مقام رؤية أعمال العباد و الشهادة عليها و هم أولوا الأمر الذين أمر اللَّه بطاعتهم في آية الطاعة، أي اصحاب الأمر المتنزّل عليهم في ليلة القدر، فإنّ إسناد الرؤية التي للَّه إلي الرسول و إلي المؤمنين صريح في كون الرؤية عبارة عن العلم الحضوري

بتبع علم الباري و في طوله.

و هم المشار اليهم إيضاً في سورةالحجّ بقوله تعالي:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ» «2»

فإنّ هذه الآية تصرّح بأنّ المراد من المؤمنين ليس عمومهم، بل هم أئمة المؤمنين الذين اجتباهم اللَّه ذريّة من نسل إبراهيم الخليل، و لهم مقام الشهادة علي الناس و الرسولُ شاهد عليهم.

فهؤلاء لابدّ من طاعتهم و اتّباعهم في الولاء السياسي و الكينونة في الجماعة التابعة لهم و العيش في ظلّهم السياسي.

و «الوليجة» فَعيلة من «ولج»، كالدخيلة من «دخل» كما في الكشّاف، أي لم يتخذوا بطانة من الذين يضادون و يعادّون اللَّه و رسوله و المؤمنين؛ والمضادّةو

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 155

المعاداةمفهومة من الآية من موضع كلمة «دون»؛ و يقال: «الوليجة» الدخيلة في القوم من غيرهم، كما في مجمع البيان، أي الجماعة المخترقة لصفوف جماعة الحقّ، و يفيده أنّ الولوج دخول شي ء في شي ء آخر؛ و يقال «وليجة الرجل»، مَن يختص بِدَخْلَة أمره دون الناس، الواحد و الجمع فيه سواء و كل شي ء دخل في شي ء ليس منه فهو وليجة.

و علي هذا فالآية ليست تنهي عن الإنتماء إلي غير جماعة الحق، بل هي تنهي عن فعل خاصّ و هو التعاون الأمني و السياسي و الثقافي مع الفئة المخترقة لجماعة الحقّ المتسلّلة في صفوفهم بنحو السرّي الخفيّ، أي الذين لم يتّخذوا سوي اللَّه و سوي رسوله و أئمة المؤمنين بطانة و أولياء يوالونهم سياسياً و ثقافياً

و يفشون إليهم أسرارهم.

و قد أشير إلي ذلك في روايات مستفيضة ومتواترة قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم:

إن أوثق عري الإيمان الحب في اللَّه والبغض في اللَّه وتوالي ولي اللَّه وتعادي عدو اللَّه. «1»

وقال صلي الله عليه و آله و سلم:

من أحب أعدائنا فقد عادانا ونحن منه بُراء واللَّه عزّوجلّ منه برئ. «2»

و قال الصادق عليه السلام:

من جالس لنا عائباً أو مدح لنا غالياً أو واصل لنا قاطعاً أو قطع لنا واصلًا أو والَ لنا عدواً أو عاد لنا ولياً فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم. «3»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 156

والمراد كفر بالايمان.

وقد ورد في الروايات أنّ البيعة السياسية للمهدي- عجل اللَّه فرجه- علي كتاب اللَّه وسنة رسوله والولاية لعلي بن أبي طالب والبراءة من عدوّه. «1»

و قال أبو جعفر عليه السلام:

ثلاثة لا يصعد عملهم إلي السماء ولا يقبل منهم عمل، من مات ولنا أهل البيت في قلبه بغض ومن تولّي عدونا ومن تولّي فلاناً وفلاناً. «2»

و في صحيحة عجلان أبي صالح، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: أوقفني علي حدود الإيمان فقال:

شهادة أن لا إله إلّااللَّه و أنّ محمّداً رسول اللَّه و الإقرار بما جاء من عند اللَّه وصلاة الخمس وأداء الزكاة وصوم شهر رمضان و حجّ البيت و ولاية وليّنا و عداوة عدوّنا والدخول مع الصادقين. «3»

و غيرها ممّا يجد المتتبّع في الأبواب وهي لا تقتصر علي الفعل القلبي من التولّي والتبّري، بل جملة منها صريحة في التولّي السياسي والبراءة السياسية بما يشمل الطاعة والإنتماء والتضامن والتَّبَنّي واتخاذ المواقف والتبعية والحماية والتأييد والتعاطف والمساندة والتحالف إلي غيرها من العناوين للأفعال السياسية وهي ذات درجات تشكيكية

متفاوتة والضعيف منها وإن لم يكن ولاء سياسي إلّا إنّ المتوسط- فضلًا عن الشديد- فإنّه من الولاء.

فالعيش المدني ضمن الطائفة المعيّنة بما لها من أعراف قانونية، تحكم نظام الأسرة ونظام العلاقات الإجتماعية ونظام القضاء والخصومات ونظام الضريبة المالية ونظام التعامل المالي والنظام العبادي ونظام الشعائر الدينية إلي غيرها من

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 157

فصول التشريع، كلّ ذلك يعدّ من الإنتماء السياسي والولاء السياسي لتلك الطائفة التابعة للولاء العقائدي، بخلاف ما إذا انفسخ هنا الإنتماء إلي الإنتماء إلي طائفة أخري والتعايش ضمن نُظُم ونظامات طوائف أخري، فإنّه ولاء لتلك الطوائف و بالتالي يتأثّر الولاء العقائدي بتبعه.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 159

2 الجهاد الإبتدائي و صلاحيّة رئاسة النظام الموحَّد العالمي … ص: 159

المقام الاول: ماهية الجهاد الإبتدائي … ص: 159

قد اختلف في بيان الغاية من الجهاد الإبتدائي، و البحث فيه بنحو مبسوط و إن كان سيأتي في الأبواب اللاحقة المعقودة لأنشطة الدولة و الحكومة الإسلامية إلّا أن الذي يعنينا في المقام صلة هذا الموقع بخصائص صلاحيّات الإمام المعصوم دون صلاحيّات النواب من الفقهاء.

و بيان ذلك: إنّه قد اختلف في بيان ماهية الجهاد الإبتدائي و ذلك بحسب تحديد الغاية منه، التي قد تُعزي إلي واحد من الغايات الثلاثة:

الأولي: إنّه لأجل الدعوة إلي دين الإسلام و إلزام الكفار بإعتناقه ديناً.

الثانية: إنّه لأجل إقامة النظام السياسي الإسلامي علي بقية ربوع و أرجاء الأرض لبسط العدالة الإسلامية و بالتالي نشر معالم الدين عن طريق نافذة القدرة السياسية من دون الإلجاء و الجبر و قد عبّر البعض عن هذه الغاية بأنّه لأجل حماية المستضعفين في كافّة أرجاء الأرض كما يشيرإليه قوله تعالي:

«وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا

اسس

النظام السياسي عندالامامية، ص: 160

مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» «1»

سواء الإستضعاف من ناحية العقائدية أم السياسية.

الثالثة: إنّه لأجل الحرب الوِقائية عن العدوان المترقَّب، فيكون غايته الدفع إلّا أنّه يختلف عن الجهاد الدفاعي في كونه مبادرة بالحرب و القتال في المورد الذي يكون هناك تهديد في البين أو خطر يهدّد أمن الدولة الإسلامية.

و تنقيح الحال في هذه الغايات سيأتي لاحقاً إن شاء اللَّه تعالي؛ إلّاأنّه علي ضوء القول الأول و الثاني و هما أشهر من الثالث يكون مؤدّي الجهاد الإبتدائي هو الوصاية علي جميع البشرية إمّا من ناحية عقائدية كما في قول الأول أو من ناحية سياسية كما في قول الثاني و يكون صاحب الصلاحيّة في الجهاد الإبتدائي هو الحاكم ذو الموقعية المتميّزة، إذ هذا الموقع هو من أوسع المواقع نفوذاً و قدرة و سعة و هي وصاية البشرية جمعاء، فالمتقلّد لهذا الموقع يحتلّ موقعية خطيرة كما هو الحال في أدبيات القانون الحديث أيضاً من الجدل القانوني السياسي الدائر أن هذا الموقع صلاحيّته لمن تعطي؟ و مَن يتأهل لها؟ فإنّ هذا الموقع متقدم بكثير علي صلاحيّة منظمة الأمم المتحدة و من ثمّ غالب الدول تُصرّ علي كون هذا الموقع لا يكون بيد دولة واحدة فضلًا عن شخص رئيس واحد، بل لابدّ من الإدارة المشتركة بين عدّة من الدول الرشيدة في العالم في قبال طمع الدولة الإمريكية في الإستبداد بهذا الموقع. و قد يُنَظَّر للجهاد الإبتدائي بحقّ (الفيتو) الذي تمتلكه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن.

المقام الثاني و علي ضوء هذه القراءة الموضوعية لماهية الجهاد الإبتدائي لابدّ من الإلفات إلي أن هذه الموقعية و الصلاحية … ص: 160

اشارة

قد تسالمت كلمات علماء الإمامية- إلّا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 161

الشاذّ النادر- علي كونها من صلاحيّات الإمام المعصوم و أنّه يحرم علي غيره- أياً كان- التصدي لهذا

الموقع، كما يحرم علي غيره تمكينه من ذلك أو التعاون معه و أنّ ذلك التعاون كحرمة أكل الميتة، كما وردت بذلك النصوص المستفيضة، بل عدّها بعض المحدثين بنحو التواتر ملاحظاً في ذلك إختلاف ألسن الطوائف الواردة و تفصيل الكلام في كلا المقامين آتٍ لاحقاً إلّاأنّ الذي يعنينا في المقام مؤدّي كلا المقامين وَصِلته لموقعية المعصوم الممتازة في أسس نظام الحكم علي المجتمع البشري؛ فإنّ هذا الإختصاص للمعصوم و إختصاص هذا الموقع به، أي اختصاص الوصاية علي المجتمع البشري بالمعصوم و إختصاص حق (الفيتو) به في مدرسة أهل البيت و مذهب الإمامية مؤدّاه أنّ هذه المسئولية العظيمة التي لا تفوقها مسئولية سياسية أخري، لا يتأهّل بالإضطلاع بها مَن لم يتوفّر علي العصمة في الجانب العملي و العلمي و يقود إلي هذه النتيجة جملة من البراهين الحقوقية و فلسفات القانون المدرسية في أدبيات القانون الوضعي البشري، فضلًا عن الأدلة العقلية.

و هذا المنصب من الوصاية علي النظام البشري- سواء بصورته المعلنة عند الظهور أو بصورته الخفية، كما هو الحال في تدبير خلفاء اللَّه منذ آدم إلي النبي الحاتم صلي الله عليه و آله و سلم و مِن بعده أوصياؤه الطهر- يشير إليه قوله تعالي:

«إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» «1»

حيث تشير الآية إلي أنّ الذي أوكل له مهمة حفظ النظام البشري عن الفساد و سفك الدماء هو خليفة المزوَّد بعلم الجمعي للأسماء.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 162

صلاة الجمعة و صلاحيّة التوجيه السياسي الموحَّد … ص: 162

فقد اختلف في حكم صلاة الجمعة في وجوبها في زمن عدم تصدّي المعصوم للأمور في

الظاهر و كما هو الحال في الغيبة، فإنّ هناك شبه تسالم- عند الأقدمين و المتقدمين و المتأخرين و متأخري المتأخرين و متأخري الأعصار عدا نَزر قليل- علي كون الوجوب العيني و التعييني في عقدها و لزوم السعي إليها مشروطاً بتصدّي المعصوم عليه السلام و مؤدّي هذا التسالم المستند إلي الأدلة و النصوص ينطوي علي علي معطيات و معاني عديدة تفيد خصائص يتميّز بها المعصوم في صلاحيّاته دون صلاحيّات النواب العامّين من الفقهاء.

و لتوضيح ذلك ينبغي الحديث عن مقامين:

الأوّل- في ماهية صلاة الجمعة و هويّتها

فإنّ صلاة الجمعة قد اشتملت علي خطبتين تتضمنّان الإرشاد الديني و السياسي كمنبر إعلامي توجيهي من الوالي للرعية كما في معتبرة عن الرضا عليه السلام قال:

إنّما جعلت الخطبة يوم الجمعة لأنّ اجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للأمير سبب إلي موعظتهم و ترغيبهم في الطاعة و ترهيبهم من المعصية و توقيفهم علي ما أراد من مصلحة دينهم و دنياهم و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق من الأهوال التي لهم فيها المضرّة و المنفعة … و إنّما جعلت خطبتين ليكون واحدة للثناء علي أللَّه و التمجيد و التقديس للَّه عزّوجلّ و الأخري للحوائج و الإعذار و الإنذار و الدعاء و لما يريد أن يُعلمهم من أمره و نهيه و ما فيه الصلاح و الفساد. «1»

فيتبين من ذلك أنّ حطبة الجمعة مخصّصة و مقررة لبيان السياسة العامّة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 163

للدولة و الحكومة في نظام المسلمين، كما أن الحالة الجماعية من الإجتماع المقدَّر و المقرّر لصلاة الجمعة يُعطي أنّ ماهيّتها و هويّتها ممّا ينطبع فيها الظاهرة الإجتماعية السياسية المرتبطة بالتدبير و النظم للنظام العامّ ممّا يقضي بأن تدبيرها هي نافذة للسلطة و للتصرف في

الشأن العامّ من الدين و الإجتماع السياسي كما هو الحال في إمارة أمير الحجّ حيث يدبّر الإجتماع العام للناس و يوقّت الموقف و الإفاضة و كذلك صلاة العيد و خطبتها و من ثمّ لم يقم النبي بتشريعها إلّابعد أن هاجر إلي المدينة المنورة حيث أسّس النظام السياسي للمسلمين و من ثمّ قد اصطلح عند الولاة في الحكومات التي توالت علي المسلمين نداء (الصلاة جامعة) في كلّ مورد أرادوا أن يخطبوا مقارناً للصلاة ليبيّنوا توجيهاً سياسياً و موقفاً حكومياً.

فيظهر من ذلك أنّ ماهيّة صلاة الجمعة بلحاظ خطبتها و إن اشتملت علي الجانب العبادي و الموعظي و تناول الأدبيات العقائدية إلّاأنّها تتضمن أيضاً إعلان الموقف السياسي و المسار و الرؤية السياسية التي يراد إرساؤها في نظام المسلمين أو المومنين.

الثاني- حيث مرّت الإشارة إلي التسالم، عدا النزر اليسير، عند الطائفة الإمامية علي اشتراط تصدّي المعصوم للنظام العامّ في العلن في الوجوب العيني و التعييني لإقامة و عقد صلاة الجمعة و وجوب السعي اليها حيث قال تعالي:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «1»

فإنّ وجوب السعي مقتضاه الإتّباع و الإنقياد و التبعية للتوجيه و الموقف السياسي الذي يُعلَن في صلاة الجمعة و من ثمّ يفسَّر الوجوب العيني و التعييني

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 164

لعقد صلاة الجمعة و السعي إليها بالإضافة إلي المعصوم أنّ إتّباع الخط و المسار السياسي الذي يعيّنه المعصوم خيار تعييني و أمر لابدّ منه لاحِياد عنه.

و هذا بخلاف حالة عدم تصدّي المعصوم بحسب الظاهر العلَن لإدارة الأمور العامّة فإنّ في تلك الحالة أي فترة نيابة الفقهاء بنحو العموم لا سيّما

في زمن الغيبة فإنّ الوجوب تخييري سواء في عقد و إقامة الصلاة أو السعي اليها و مؤدّي الوجوب التخييري هو التعدّدية في الولاء السياسي ضمن المسار العام للمذهب؛ فإنّ عقد و إقامة صلاة الجمعة بمثابة إقامة الكيان السياسي و بناء و عقد المشروع السياسي مِن قِبَل الفقيه في صلاحيّته النيابية و السعي إلي صلاة الجمعة بمثابة الإتّباع و الإنخراط في ذلك المشروع و المسار السياسي.

و مقتضي التخيير عدم إلزام الطائفة و بمشروع سياسي موحَّد من قِبل أحد الفقهاء، بل أبقي الائمة عليهم السلام للمؤمنين و لأتباعهم الخيار في المسارات السياسية مادامت في الإطار العام للمذهب و مدرسة أهل البيت و هذا ممّا يعني أنّ أهل البيت لم يخوّلوا و لم يفوّضوا أحداً من الفقهاء في صلاحيّته النيابية لأنّ يستبدّ و يتفردّ في رسم المسار العام للطائفة، بل جعلوا ذلك متوزعاً و بنحو المشاركة المتعدّدة لا المشروطة لنوّابهم.

و هذا كما هو لائح ظاهر في صلاة الجمعة فكذلك في مجمل المناصب النيابية التي فوّضوها للفقهاء فإنّها كما سيأتي بنحو العموم الإستغراقي لا العموم البدلي و لا العموم المجموعي و بين الصياغات الثلاث بونٌ بنيوي في صياغة هيكل نظام الطائفة كما أشرنا أليه في الفصل الثاني من كتابناالامامة الالهية و يأتي بيانه مفصلًا.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 165

البغي و البُغاة … ص: 165
اشارة

1. هل إنّ عنوان البغاة اصطلاح شرعي خاصّ علي من خرج علي الإمام أو إنّه يعمّ قتال كلّ فئة باغية علي فئة اخري، فهل تجري أحكام البغاة علي الباغية حينئذٍ أم إنّه لا تندرج في أحكام البغاة، بل تدرج في أحكام الدفاع والقصاص؟

الظاهر من تتبّع كلمات الفقهاء هو الأول.

2. لو هجم الكفّار علي بلاد من أهل الخلاف، لا لأجل محو

بيضة الإسلام، بل لأجل قتل وسلب أهالي تلك البلاد فهل يجوز الدفاع عنهم حينئذٍ أم لا؟ مع أن الفرض أنّه ليس من الدفاع عن النظام الجائر.

3. الغيلة و الفتك هل تحرم مطلقاً أو أنّها تستثني في مهدور الدم نظير قصاص القاتل أو المرتدّ وسابّ النبي؟

تجد أجوبة هذه الأسئلة في ضمن البحث التالي وهو البحث عن دار الإيمان.

دار الإيمان … ص: 165
اشارة

إنّ الدقّة في أبواب البغاة في الفقه والتاريخ تعطينا عدّة نتائج:

1. أصول السياسة المدنيّة والأمنيّة مع المخالفين هي في كتاب جهاد أهل البغي.

2. يظهر من بعض الفروع التي ذكروها في جهاد أهل البغي أنّ المخالفين،

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 166

فضلًا عن أنظمتهم في دولة الباطل، هم من أهل البغي؛ و بعبارة أخري: أهل البغي هم من لا يكونون تحت طاعة الإمام السياسية و إنّ عنوان البغي مسبّب ومتولّد من عدم الطاعة السياسية ومن عدم تولّي الإمام في الولاية السياسية و سلطان تدبيره، بخلاف عنوان المخالف أو الضالّ، فإنّه بلحاظ العقيدة وعدم الإيمان وباللحاظ الأول يحلّ للإمام عليه السلام قتال المخالفين مطلقاً ما لم يدينوا بطاعته السياسية.

3. عبّر الفقهاء عن دار الإيمان والمؤمنين بأهل العدل وعن دار التقية والمخالفين بأهل البغي.

4. و بذلك يتّضح أنّ عنوان الباغي قد ينطبق علي المؤمن في ما لو خرج عن طاعة المعصوم أو أقام نظاماً غير شرعي، وبالتالي يظهر أنّ البغي والباغي هو مطلق الحاكم الجائر، أي الذي لا يكون سلطانه وولايته منشعبة من ولاية المعصوم.

5. يظهر من ابواب أهل البغي أصول السياسات المدنية والحقوق السياسية للفئات المعارضة للنظام، كما في سياسة النبي صلي الله عليه و آله و سلم مع المخالفين المعروفين في زمانه صلي الله عليه و آله و سلم و سياسة

اميرالمؤمنين عليه السلام مع الخوارج و الخاذلين للحقّ كعبد اللَّه بن عمر.

6. دار الإسلام يعبّر عنها بالتسليم السياسي للمعتقَد.

7. في المغني لابن قدامة في كتاب البغاة:

فكلّ من ثبتت إمامته وجبت طاعته و حرم الخروج عليه. «1»

و قد اعتبر مانعي الزكاة من البغاة. «2» و ذكر:

إنّ الخوارج عند جمهور الفقهاء عندهم أنّهم فسّاق يستتاب وإلّا قتلوا علي إفسادهم لا علي كفرهم عند مالك. «3»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 167

و ذهب أهل الحديث عندهم إلي أنهم كفّار مرتدّون للنصوص الواردة في البخاري و الموطأ. و قد قيّد البغاة بأنّهم الجمع الذي يخرجون من قبضة الإمام بتأويل ويرومون خلعه لتأويل.

و حكي عن أحمد بن حنبل أنّه لا يصلّي علي الخوارج و لا علي أهل البدع و قال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تصلّوا عليهم.

و قال: الجهمية و الرافضية لا يصلّي عليهم، قد ترك النبي صلي الله عليه و آله و سلم الصلاة بأقلّ من هذا. «1»

و قال مالك: لا يصلّي علي الإباضية والقدرية وسائر أتباع الأهواء.

و قال ابن عياش: لا أصلّي علي الرافضي، لأنّهم زعموا أنّ عمر كافر.

و قال الفاريابي: من شتم أبا بكر فهو كافر لا يصلّي عليه. «2»

و أقول: و هذا يدلّل علي أنّ بحث البغاة يرتبط بالولاية السياسية للإمام العدل الحقّ وهو يوجب ترتّب سائر الحقوق المدنية وأحكام التعايش الإجتماعي وبالتالي في تكوين دار الإيمان وميزها عن دارالإسلام، أي المواطنة والأخوة والولاء بحسب الولاية السياسية للإمام.

و قال ابن قدامة:

وجه ترك الصلاة عليهم أنّهم يكفّرون أهل الإسلام ولا يصلّون عليهم، فلا يصلّي عليهم كالكفّار من أهل الذمّة. «3»

8. ثمّ إنّ عنونة باب البغي في التشريع القرآني والسنّة القطعية والفقه الإسلامي في كافّة المذاهب مؤشّر

علي تأصيل هذا الباب في الفروع وهو كما اتّفق

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 168

عليه الفريقان في تعريفه: الخارج عن طاعة الإمام العدل، فهذا الباب يمثّل ويدلّل علي جهة مهمة من جهات وصفحات ولاية الإمام العادل وهي الولاية السياسية له وقد روي الفريقان بطرق متعدّدة:

إنّ من مات ولم يبايع إمام زمانه مات ميتة جاهلية.

و في بعض الطرق:

من مات وليس في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية. «1»

و غيرها من ألفاظ الحديث النبوي ومفاده يقرّر أنّ تولّي الإمام العادل- والمقصود به عند الإمامية هو المعصوم خاصّة- سياسياً دخيل في الإيمان و صحّته و الخروج عن حدّ الكفر القلبي الأخروي، فضلًا عن معرفة ذلك الإمام و الإعتقاد بإمامته.

فالطاعة السياسية والولاء لحاكميّة المعصوم دخيلة في صحّة إيمان المؤمن و أيّ حركة وسَكَنَة و نشاط لا يستند إلي إشراف الإمام عليه السلام و إذنه وترخيصه وأمره، يكون خروجاً عن طاعته، و بالتالي يكون بغياً علي ولايته السياسية وقد ورد التعبير عنهم عليهم السلام:

إنّ الجهاد مع إمام غير عادل كالميتة- كما في خبربشير الدهّان «2»، بل في مصحّح أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام عن آبائه، قال أمير المؤمنين عليه السلام:

لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن علي الحكم ولا يُنَفّذ في الفي ء أمر اللَّه عزّوجلّ، فإنّه إن مات في ذلك المكان كان معيناً لعدوّنا في حبس حقّنا والإشاطة بدمائنا وميتته ميتة جاهلية. «3»

و مثله رواه الصدوق في الخصال في حديث أربعمأة المعروف.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 169

ومفاد هذه الأحاديث ليس علي الهلاك في ما إذا قُتل، بل مفادها أنّه لو وافاه الموت والأجل- و إن لم يُقتل- علي هذه الطاعة السياسية كانت ميتته ميتة جاهلية.

و نظير هذا

التعبير ورد في محاجّة مؤمن الطاق مع زيد بن علي عند خروجه في الكوفة. «1» و تقرير الإمام الصادق عليه السلام له علي تلك المحاجّة، حيث تضمّنت أنّ الحركة السياسية والنشاط السياسي غير المتصل بتدبير الإمام المعصوم بنفسه موجب للهلكة وإن لم يحصل القتل وإن كانت الغاية من هذا النشاط والحركة المزبورة غاية صالحة بحسب الظاهر.

و نظير ذلك ما ورد في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام:

قال اللَّه عزّوجلّ: لأعذبنّ كلّ رعية في الإسلام دانت بولاية كلّ إمام جائر ليس من اللَّه عزّوجلّ وإن كانت الرعية في أعمالها برّة تقية … «2»

و غيرها من عشرات الروايات الواردة في هذا الصدد الدالّة علي أنّ المكلّف يجب عليه أن يعيش في ظلّ النظام السياسي المدبَّر من قبل المعصوم، سواء كان ذلك النظام السياسي بشكل الحكومة الرسمية العلنية، كما في عهد حكومته صلي الله عليه و آله و سلم وحكومة الأمير عليه السلام في خمس سنوات أو في ظلّ الحكومة غير الرسمية وهو العيش في ظلّ النظام الإيماني في الطائفة الإثني عشرية التي أسّسوها هُم عليهم السلام.

ومن هذا القبيل ما ورد في التحاكم في القضاء إلي حاكم الجور، أي الذي لم يأخذ صلاحيّة قضائه من المعصوم، فقد ورد نظير هذا التعبير أيضاً وذلك لأنّ القضاء والتقاضي هو أحد شعب النظام السياسي، فاللازم فيه هو الإنتظام في ولاء المعصوم و العيش في ظلّ حكومته وحاكميته بأي شكل كانت تلك الحاكميّة ولو بنمط نظام الطائفة لا نظام الدولة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 170

ففي قوله تعالي:

«أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» «1»

دلالة

علي أنّ الطاعة السياسية لغير المعصوم- المعبّر عنه بالطاغوت- هو كفر في مقابل الإيمان لا مقابل ظاهر الإسلام وبالتالي فطاعة نظام التدبيري السياسي للمعصوم إيمان، سواء في حقل القضاء أو النشاط السياسي كالجهاد أو حقل الفتوي والتشريع. «2»

و قد ورد في معتبرة أبي خديجة، قال أبو عبد اللَّه عليه السلام:

إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلي أهل الجور ولكن انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه. «3»

و هذا الخطاب منه عليه السلام للشيعة من عصره وإن كان مفاده يقرّر للأزمنة اللاحقة أيضاً بتقريب مذكور في محلّه. وقد ورد في أبواب اخري يجدها المتتبّع.

و منه يتحصّل أنّ كتاب البغي والبغاة وهذا الباب له تأثير في المرتبة الطولية المتقدّمة وهيمنة وإشراف علي بقية الأبواب والأحكام المترتّبة والمذكورة فيها و إنّه حلقة الوصل بين بحث الإمامة في الإعتقادات والأبواب الفقهية في الفروع.

و سيأتي في كلمات فقهاء الفريقين بيان ترتّب الآثار في سائر الأبواب علي هذا الباب، كما في ما حكاه ابن قدامة في المغني عن مالك وابن حنبل ويشير إلي أهميّة الولاء السياسي للمعصوم و الطاعة و الإنقياد لحكومته، سواء العلنية الرسمية أم غير المعلنة، كما في النظام السياسي ضمن الطائفة الإمامية في عصر

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 171

الغيبة زائداً عن المعرفة و الإعتقاد ما ورد في مستفيض روايات الرجعة، أنّ رجوع المؤمنين في الرجعة لكي يتمّ ويستكمل إيمانهم بحصول مبايعتهم السياسية للمعصوم.

و منه يظهر أنّ انتماء المكلّف لأيّ نظام اجتماعي سياسي لابدّ أن يكون تحت ظلّ نظام المؤسَّس من قبله عليه السلام سواء في عصر حضورهم وظهورهم أو في عصر الغيبة وسواء في ذلك حالة تقلّدهم للحكومة العلنية أم لا.

ومن ذلك

يحتمل من مفاد قوله تعالي:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «1»

إنّ إكمال الدين حصل بالبيعة السياسية لأمير المؤمنين عليه السلام وإلّا فأخذ المعرفة بإمامته والإقرار بها من حصول الإيمان قد تمّ في الآيات العديدة قبل ذلك.

و قال أبوبكر القاساني في بدائع الصنائع في كتاب القضاء:

إنّ العدالة ليست شرطاً في القاضي، بل شرط كمال وكذلك في المفتي فيجوز اتّباع فتوي المفتي الفاسق مع أنّه اعترف ان القضاء من الولايات العظمي و الأمانات الكبري علي الدماء والفروج والأعراض والأموال. «2»

كلمات الفقهاء في ذلك … ص: 171
اشارة

1. قد ذكر الحلبي في الكافي في الفقه:

و إن كانوا متأولين- وهم الذين يتظاهرون بجحد بعض الفروض واستحلال بعض المحرّمات المعلومة بالاستدلال كإمامة أمير

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 172

المؤمنين أو أحد الأئمّة عليهم السلام أو مسح الرجلين أو الفقاع أو الجرّي أو وصف اللَّه تعالي بغير صفاته الراجعة إليه تعالي نفياً وإثباتاً وإلي أفعاله- دعوا إلي الحق و يبيّن لهم ما اشتبه عليهم بالبرهان، فإن أنابوا قبلت توبتهم وإن أبوا إلّاالمجاهرة بذلك قُتلوا صبراً. «1»

و يظهر من هذه العبارة؛

أولًا: إنّ ما سيقوم به صاحب العصر عليه السلام من جهاد بقية الفِرَق هو جهاد ابتدائي نظير ما قد ابتدأ به رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم من دعوة الناس إلي الإسلام، لأنّ الدعوة إلي إمامتهم هي دعوة لحقيقة الإسلام وحيث تتمّ الدعوة إلي الحقّ وتتنجّز الحجّة فيحلّ القتال حينئذٍ كجهاد ابتدائي وأنّ الجهاد الابتدائي معهم لم يحن إلي هذا اليوم لعدم حصول الدعوة إلي الإمامة من المعصومين بعد إقامتهم الدولة وتولّيهم لزمام الأمور إذ شرط الجهاد الإبتدائي هو الدعوة أولًا إلي الحقّ وإقامة الحجّة ثمّ يشرع الجهاد.

ويظهر من كلامه أنّ النبي

صلي الله عليه و آله و سلم وأمير المؤمنين عليه السلام حيث لم يَدعُ الناس إلي الدخول في الإيمان جهاراً بالإعلان ظاهراً بتقيّدهم بالإيمان إلّافي حقبة قصيرة، مبدؤها بيعة الغدير إلي وفاة النبي صلي الله عليه و آله و سلم وهي مدّة أشهر، فلم يقاتلا الناس علي ذلك، وبعد ذلك أُبْهِمَ علي الناس الشبهات ولم يجاهَر بالدعوة إلي الإمامة من قِبَل المعصوم حتي في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام.

والمقصود من الدعوة إلي الإمامة جهاراً من قِبل المعصوم عليه السلام بعد استلامه لزمام الأمور ليس هو أصل تبليغ الإمامة الذي كان في طيلة عهد رسالة النبي صلي الله عليه و آله و سلم من يوم الدار إلي يوم وفاته صلي الله عليه و آله و سلم وفي طيلة حياة المعصومين، بل المقصود من ذلك هو الدعوة إلي التقيّد بولايتهم في الظاهر وإقامة الحجّة علي ذلك ومن ثمّ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 173

الإلجاء بالجهاد علي ذلك؛ نظير الفرق بين دعوة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم في مكّة إلي الإسلام والشهادتين وبين دعوته صلي الله عليه و آله و سلم إلي الإسلام بعد إقامته للدولة في المدينة المنورّة، فإنّ الدعوة الأولي من مكّة عقائدية بحتة قائمة علي الدليل و الإستدلال و أمّا الدعوة في المدينة بعد تشكيل الحكومة فهي دعوة عقائدية سياسية، أي الدعوة إلي الإنتساب إلي الإسلام كنظام عقائدي سياسي في السلوك الظاهري؛ و السنخ الثاني من الدعوة لم يتحقّق إلي إمامة أهل البيت عليهم السلام إلّافي تلك الحقبة القصيرة من أواخر حياة النبي صلي الله عليه و آله و سلم وما بعدها، فإمّا لم تنجَّز الدعوة لإمامتهم عليهم السلام أو لم يستقرّوا في

مسند السلطة.

و ثانياً: يظهر من كلامه في الكافي، أنّ الهدنة مع الفرق الأخري في تلك العصور، المعبّر عنها بزمان الهدنة في الروايات و الفتاوي، هي حقيقة الحرمة بيننا وبينهم من حرمة الأموال والدماء والأعراض و أنّ هذه الهدنة أنشأها النبي والوصي عليهما السلام وغايتها ومنتهي أجلها ظهور الإمام الثاني عشر عليه السلام، فإنّ بظهوره وتسلّمه للقدرة ودعوته إلي الإمامة تنتهي تلك الهدنة المضروبة والمعقودة من قِبل النبي والوصي عليهما السلام.

فحقيقة حال القوم أنّهم سلّموا بالهدنة لا بالإسلام حقيقة ومن ثمّ يطلق عليهم في كلمات المتقدّمين أنّهم منتحلون له، كما في انتحال النصاري لشريعة المسيح وانتحال اليهود لشريعة موسي مع كونهم غير قائمين علي دين النبي موسي وعيسي حقيقةً.

ولك أن تقول: ان لعقد الهدنة درجات أو إنّ لمتعلّقه موارداً، فإختلاف هؤلاء مع الكفّار المشركين المهادنين هو باختلاف شرائط الهدنة عليهم ولهم. و من ثمّ اختلفت أحكام الذبايح والأنكحة والطهارة والنجاسة. ثمّ إنّ هذه الهدنة حيث إنّ عقدها باقٍ إلي ظهور الإمام- عجل اللَّه تعالي فرجه- فليس لأحد نكثها أو حلّها.

2. و قد ذكر ايضاً الحلبي في الكافي:

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 174

و إن كانوا مستسرّين به في دارالأمن، لم يعرض لهم بغير الدعوة إلي الحقّ بالحجّة، فإنّ خرجوا بتأوّلهم هذا عن دار الأمن وأظهروا السلاح و أخافوا سلطان الحقّ و متبعيه، كطلحة والزبير وعائشة و أتباعهم و معاوية و أنصاره و أهل النهروان، فإنّ الخلال المذكورة اجتمعت فيهم من جحد إمامة الإمام العادل واستحلال دماء المسلمين وإظهار السلاح في دار الأمن وقتل أنصار الحقّ علي أتباعه وخلافهم والسيرة في من جري مجراهم بعد الدعوة وإقامة الحجّة وحصول الإصرار بمنابذتهم بالحرب وقتلهم والحرب قائمة مقبلين ومدبرين و الإجهاز علي

جرحاهم. «1»

يظهر من كلامه:

أولًا: إنّ البغاة ينطبق علي من قصد محاربة الطائفة الإثني عشرية وإزالة كيانهم الإجتماعي وإن لم يفرض فيه خروج علي الإمام المعصوم ولا تكوّن دولة للإمام لقوله: «و قتل أنصار الحقّ علي اتباعه و خلافهم».

ثانياً: يظهر من جميع كلامه أنّ جهاد البغاة هو بمنزلة خروج البغاة عن الهدنة وحرمتها فيجاهدون جهاداً دفاعياً إلّاأنّ لهم أنْ يؤوبوا إلي الهدنة مرّة أخري، كما سنّ فيه ذلك أمير المؤمنين عليه السلام.

3. و قال المفيد في المقنعة:

و إذا تمكّن الغافل مِن قِبَل أهل الضلال علي ظاهر الحال من إقامة الحدود علي الفجّار وإيقاع الضرر المستحقّ علي أهل الخلاف، فليجتهد في إنفاذ ذلك فيهم، فإنّه من أعظم الجهاد. «2»

و يظهر من كلامه لزوم تقوية كيان أهل الإيمان وإضعاف كيان أهل الخلاف

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 175

ما استطاع إلي كسب ذلك سبيلًا و مراده من إضعاف كيانهم ليس خفر حرمة الدماء و الأموال و الأعراض، بل مراده إضعاف كيانهم من جهة مذهبهم، نظير ما في شرائط الذمّة مع أهل الكتاب، فإنّ مضمون شرائط أهل الذمّة هي إضعاف لكيانهم الديني دون كيانهم المدني المعيشي.

و يظهر منه أنّ هذا حكم مستثني تخصّصاً من عقد الهدنة معهم، فإنّ مفاد روايات من تشهّد الشهادتين الواردة عنهم عليهم السلام لا يفيد جواز اقتدار كيانهم المذهبي و إنّما غاية مفاده هو حفظ الحقوق المدنية بالإصطلاح الحديث والمصير المعيشي وهو ما يعبّر عنه بحرمة الدماء والأعراض و الأموالِ. وحلّيةُ الذبائح و المناكحة تشير إلي التعامل المدني التجاري لا ما له لون ديني من دعوة الضلال لهم.

4. قال في التجريد:

محاربو عليّ عليه السلام كَفَرَةٌ و مخالفوه فَسَقَة. «1»

و هذا التعبير قد تكرّر عند متكلّمي الأصحاب والمتقدّمين من الفقهاء، فقد

قال المفيد في كتاب الجمل:

و اجتمعت الشيعة علي الحكم بكفر محاربي عليّ ولكنهم لم يخرجوه بذلك من حكم ملّة الإسلام، إذ كان كفرهم من طريق التأويل كفر ملّة ولم يكفروا ردّة عن الشرع، مع إقامتهم علي الجملة منه وإظهار الشهادتين وإن كانوا بكفرهم خارجين من الإيمان مستحقّين اللعنة والخلود في النار.

و علي أيّ تقدير فتفسير هذا التفصيل (كلام الخواجه) هو أنّه بالمحاربة حيث يكونوا بغاةً و البغي يخرجهم من الهدنة، فيعود حكمهم جذعاً كجهاد

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 176

الكفّار، فإنْ أبوا فيكون مخالفين مهادنين، لكنهم ليسوا علي عدالة الدين.

5. و قال المفيد رحمه الله في أوائل المقالات:

و اتفقت الإمامية علي أنّ أصحاب البدع كلّهم كفّار وإنّ علي الإمام مَن يستتيبهم عند التمكّن بعد الدعوة لهم وإقامة البيّنات عليهم، فإن تابوا عن بدعهم وصاروا إلي الصواب وإلّا قتلهم لردّتهم من الإيمان.

ثمّ نقل عن المعتزلة أنّهم فساق و ليسوا بكفّار. و مؤدّي عبارته نظير العبارة المتقدّمة عن الحلبي في الكافي هي انّ حرمة أهل الخلاف من باب الهدنة، فإذا تمّت الدّعوي إلي حقيقة الإسلام و الإمامة و قامت عليهم الحجّة و دعوا إلي التقيّد بذلك، فإنّهم يجاهدون جهاد الإبتدائي.

و قال في الكتاب المزبور أيضاً:

واتفقت الإمامية علي أنّ الناكثين و القاسطين من أهل البصرة و الشام أجمعين كفّار ضلّال بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام و أنّهم بذلك في النار مخلّدون.

ثمّ نقل عن المعتزلة أنّهم فساق و ليسوا بكفّار؛ ثمّ حكي اتفاق الإماميّة علي أنّ الخوارج المارقين عن الدين كفّار بخروجهم علي أمير المؤمنين عليه السلام و أنّهم بذلك في النّار مخلّدون.

6. و في كتاب المنقذ من التقليد، قال في محاربي علي عليه السلام:

فإن قيل: لو تساوي حكم الحربيين (حرب الرسول و حرب الأمير

عليه السلام) لغُنم مال كلّ واحد منهما … قيل: الظاهر يقتضي ذلك، لكن عَلِمْنا بالدليل اختلافهما في بعض الأحكام، فأخرجناه بالدليل وبقي ما عداه، ثمّ يقال للمعتزلة: ألستم تحكمون بكفر المجبّرة و المشبّهة، أفيلزمكم أن يجري عليكم حكم الكفّار من أهل الحرب؟

و بعدُ فإنّ أحكام الكفّار المختلفة ألا تري أنّ الحربي حكمه مخالف

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 177

لحكم الذمّي والمرتدّ يخالف حكمه حكمهما وإذا كان أحكام الكفر مختلفة لم يمتنع أن يكون أحكام البغاة مخالفة لأحكام سائر الكفّار.

و الذي ذكره مضمون ما ذكره الشيخ في الاقتصاد.

و قد روي في تفسير البرهان «1»: إنّه عليه السلام قال يوم البصرة:

واللَّه ما قتل أهل هذه الآية حتي اليوم وتلا: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَي الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» «2»

و يظهر من كلمات كثير من الأصحاب أنّ المنتحل للإسلام و إنْ حكم بكفره إلّا أنّه يفترق عن الكافر الأصلي في باب الجهاد والأموال والأعراض؛ كما مرّ في عبارة الشيخ المفيد في كتاب الجمل.

و في البحارجواب سيد الشهداء عليه السلام لمعاوية لمّا ذكر أنّه قتل حجر بن عدي وغيره من شيعة علي عليه السلام:

لو قتلنا شيعتك ما كفّناهم ولا صلّينا عليهم ولا أقبرناهم. «3»

7. وقد ذكر في الحدائق «4»:

إنّ المتقدّمين حكموا بكفر المخالفين ونصبهم ونجاستهم خلافاً لمشهور المتأخّرين حيث ذهبوا إلي الحكم بإسلامهم وطهارتهم.

وحكي عن النوبختي في فصّ الياقوت: إنّ جمهور الأصحاب علي الحكم بكفرهم إلّاجماعة فيحكمون بفسقهم وتابعه العلّامة في شرحه للكتاب معلّلًا بإنكارهم الضروري.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 178

وكذا في المنتهي كما حكي عن المقنعةفي باب الميت عدم جواز تجهيز الميت منهم.

ومثله ابن البرّاج والشيخ

في التهذيب معلّلًا بأنّ المخالف للحقّ كافر تترتّب عليه أحكامه إلّاما أخرجه الدليل.

وكذا ابن إدريس في السرائرو مذهب المرتضي معروف وكذا الفاضل المازندراني ومثله القاضي نور اللَّه والفاضل أبي الحسن الشريف جدّ صاحب الجواهر.

لكنك عرفت أنّ القدماء في الأبواب المختلفة رتّبوا عليهم أحكام المنتحلين للإسلام، أي مقتضي مفاد عقد الهدنة، و من ثمّ سمّوا دار الإسلام أي الشهادتين باللسان دار الهدنةو تقدّم عبارة المفيد في الجمل حيث نقل إجماع الشيعة علي عدم إخراجهم عن حكم ملّة الإسلام لأنّه كفر بالتأويل لا ردّة عن الشرع الظاهر وإن كانوا خارجين من الإيمان. وقد جوّز في المقنعةنكاح المخالف غير المعلن العداوة وذبحه، و مثله الشيخ في النهايةو القاضي في نكاح المهذّب.

8. نعم في السرائرذكر «إنّ المسلم يرث المسلم»؛ ثمّ قال:

وقد يوجد في بعض نسخ المقنعة في باب أهل الملل المختلفة و الإعتقادات المتباينة: ويرث المؤمنون أهل البدع من المعتزلة والمرجئة والحشوية ولا ترث هذه الفرق أحداً من أهل الإيمان كما يرث المسلمون الكفّار ولا يرث الكفّار أهل الإسلام. والأول هو المذهب والقول المأوّل عليه والمرجوع إليه والنسخة المعروفة من المقنعة هو القول بالإرث.

و ذكر في باب الذبح عدم جواز تولّي غير معتقد الحقّ إلّاالمستضعف.

وكذا في المراسم في شرائط من يجوز العقد عليها قال:

ومنها أن تكون المرأة مؤمنة أو مستضعفة، فإن كانت ذمّية أو

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 179

مجوسية أو معاندة لم يصحّ نكاحها غبطة.

و في المهذب للقاضي خصّ جواز التزكية بالمسلم من أهل الحقّ.

وكذا الحلبي في الكافي عند تعداد المحرم من الذبيحة قال: «أو مِن دون التسمية تديناً أو بفعل كافر كاليهودي أو النصراني أو جاحد النص». لكن هذا التخصيص- في جملة من كلماتهم في بعض الأبواب لدلالة بعض النصوص- لا يدلّ علي عدم حكمهم بالإسلام الظاهري المنتحل ما دامت الدار دار إسلام وهي

الهدنة لا دار إيمان، أي دولة الحقّ للمعصوم، حيث يقيم الدعوة و الحجّة علي حقيقة الدين؛ فغاية الأمر ترتيب الآثار في بعض الأبواب عند بعضهم علي الإسلام الواقعي وهو الإيمان كما هو الحال في مصرف الزكاة. «1»

9. وفي جهادالجواهر:

إنّ هذا الزمان المسمّي في النصوص بزمان الهدنة يجري عليهم- أي علي العامّة- فيه جميع أحكام المسلمين في الطهارة وأكل الذبائح والمناكحات وحرمة الأموال حتي يظهر الحقّ فيجري عليهم حكم الكفّار الحربيين. «2»

و قوله «بجريان جميع أحكام المسلمين عليهم» قد عرفت التأمّل فيه بحسب كلمات الأصحاب في الأبواب وإنما تجري عليهم جملة من الأحكام التي هي مفاد عقد الهدنة وهي عقد استجابة لدعوته صلي الله عليه و آله و سلم إلي الشهادتين، فاللازم ترتّب الأحكام المذكورة في مفاد عقد الهدنة- أي نصوص الشهادتين- من حرمة الأموال والدماء والأعراض وحلّ الذبائح والمناكحات علي تفصيل فيها وكذا التوارث ممّا هو من أحكام التعايش والنظام المدني.

و أمّا الحقوق المترتّبة علي الديانة فلا تجري، بل قد مرّ في عبارةالشيخ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 180

المفيدأنّ الحقوق و الأحكام المدنية والتعايشية ليست مترتّبة لهم بنفس الدرجة التي للمؤمنين، نظير الفرق الذي بين المسلمين وأهل الذمة في الحقوق المدنية وإن كان المنتحلون للإسلام أرفع درجة منهم، سوي المعلنين عداوتهم لهم عليهم السلام، كما يعلم ذلك من بحث أحكام الناصب بالنصب الإصطلاحي، بل في جملة من روايات الباب إنّ النُصّاب غير المعلنين للعداوة لا تترتّب عليهم أو لا تثبت لهم جملة من الأحكام أيضاً وإن ثبتت لهم جملة أخري.

فما يقرب في كلمات متأخّري الأعصار من «أنّه بمقتضي الحكم بإسلامهم بجهة الهدنة يترتّب عليهم جميع أحكام الإسلام» محلّ تأمّل ومنع، لإيهام هذا التعبير بترتّب كلّ حكم

أخذ في موضوعه عنوان الإسلام مع أنّ في جملة من الأحكام التي أخذ فيها ذلك العنوان ليس المراد منه إسلام الهدنة، بل حقيقة الدين.

10. وفي البحار:

ذهب أصحابنا إلي كفر البغاة. قال في التجريد: محاربو عليّ كَفَرَةٌ و مخالفوه فسقة … قال شارح المقاصد: و المخالفون لعليّ بغاة لخروجهم علي إمام الحقّ بشبهة من ترك القصاص من قتلة عثمان ولقوله صلي الله عليه و آله و سلم: «تقتلك الفئة الباغية»، و لقوله عليه السلام: «إخواننا بغوا علينا» «1». و ليسوا كفّاراً ولا فسقة وظلمة لما لهم من التأويل وإن كان باطلًا …

و البغي لا يجامع في الغالب معرفة الإمام ولو فرض باغٍ علي الإمام لأمر دنيوي من غير بغض له ولا إنكار لإمامته فهو كافر أيضاً لعدم القائل بالفرق …

والذي نفهم من الأخبار أنّهم واقعاً في حكم المشركين وغنائمهم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 181

وسبيهم في حكم غنائم المشركين وسبيهم والحجّة عليه السلام يجري تلك الأحكام عليهم ولمّا علم أمير المؤمنين استيلاء المخالفين علي شيعته لم يجرِ هذه الأحكام عليهم لئلّا يجروها علي شيعته وكذا الحكم بطهارتهم وجواز مناكحتهم وحلّ ذبيحتهم لاضطرار معاشرة الشيعة معهم في دولة المخالفين. «1»

و ما ذكره قدس سره في محلّه إلّاما ذكره مِن «كونهم في الواقع في حكم المشركين إلّا أنّهم في الظاهر لا يحكم بإسلامهم بقول مطلق» فإنّه محلّ تأمل ونقول: بل هو بمعني انتحال الإسلام الذي هو مورد عقد الهدنة لاستجابتهم دعوة الشهادتين بالتقيّد بهما في الظاهر.

و بعبارة اخري: محصّل معني الإسلام الظاهري هو تسليمهم بالتظاهر بالإسلام الذي هو غاية دعوة الرسول في ما قبل بيعة الغدير وهذه الدعوي بمنزلة عقد هدنة معهم بتلك الشروط؛ و بالتالي فالآثار مترتّبة علي هذا التعاقد والتقيّد

به بحسب شرائطه التي هي في الأفعال الظاهرة ولا ربط لذلك بحقيقة الإسلام التي هي الإيمان وآثارها التي هي بحسب الوجود القلبي.

كما إنّه يمكن فرض التفكيك بين التظاهر بالإيمان في أفعال الجوارح- وهي نحو من الإستجابة لدعوة النبي صلي الله عليه و آله و سلم في غدير خم وبقية حياته الشريفة- وبين حقيقة الإيمان بحسب القلب، فتختلف الآثار بحسب هذا التمايز أيضاً.

وظاهره صلي الله عليه و آله و سلم في الأشهر الأخيرة من حياته الشريفة أنّه كان يقنع بالتقيّد بالإيمان في الظاهر- وهي مرحلة ثالثة في دعوته صلي الله عليه و آله و سلم و هي التظاهر بالإيمان- و من ثمّ لم يَقْبَلْ صلي الله عليه و آله و سلم من حارث بن عمرو الفهري «2» الإنسلال من التقيّد بالإيمان بولاية علي عليه السلام في الظاهر؛ فقال صلي الله عليه و آله و سلم له كما في بعض الروايات: يابن عمرو، إمّا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 182

تبتَ و إمّا رحلتَ، فأختار الرحيل، فأتاه العذاب «1»، كما في سورة المعارج «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ».

11. قال في الجواهر في معرض الاستدلال علي شرطية المساواة في الدّيْن في قصاص القتل:

و بغير ذلك ممّا دلّ علي عدم قتل واحد من الشيعة بألف من العامّة، إذا قام الحقّ. «2»

المستفاد من فحواه عدم قتل الواحد منهم بألف من الكفّار وغيره وهو يشير إلي ما رواه عبد اللَّه بن سليمان العامري، قال:

قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: أي شي ء تقول في رجل سمعته يشتم علياً عليه السلام و يبرأ منه؟ قال: فقال لي: «واللَّه هو حلال الدم وما ألف منهم برجل منكم. دعه. «3»

و الرواية ليس فيها تقييد بما إذا قام الحقّ والذي

يفهم منها: عدم الإعلان بذلك وبعبارة أخري: إنّ مفاد الرواية عدم تسويغ قتلهم لدار الهدنة حتي يقوم الحقّ لا ثبوت الكفاءة في دار الهدنة.

و قال أبو عبد اللَّه عليه السلام:

مال الناصب وكلّ شي ء يملكه حلال إلّاامرأته، فإنّ نكاح أهل الشرك جائز، و ذلك إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم قال: لا تسبّوا أهل الشرك، فإنّ لكلّ قوم نكاحاً ولولا أنا نخاف عليكم أن يقتل رجل منكم برجل منهم؛ و رجل منكم خير من ألف رجل منهم؛ لأمرناكم بالقتل لهم ولكن ذلك إلي الإمام. «4»

و يظهر من ادراج صاحب الوسائل لها في باب قتال البغاة مَيْله إلي ما

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 183

استظهرناه عن أبي الصلاح الحلبي من عموم عنوان البغاة للمعاندين القاصدين بالسوء إلي نظام طائفة الحقّ.

وفي صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال:

ذكر له رجل من بني فلان فقال إنما نخالفهم إذا كنا مع هؤلاء الذين خرجوا بالكوفة فقال: قاتلهم، فإنّما ولد فلان مثل الترك والروم وإنّما هم ثغر من ثغور العدو فقاتلهم. «1»

و يظهر من هذه الصحيحة إنّ دار أهل الخلاف بمنزلة دار الترك والروم وموضع الإتصال بينها وبين دار الإيمان يكون ثغراً من ثغور العدو والمرابطة و إنّه إذا قطعت الحرمة أو الهدنة بنحو موّقت لنشوب حرب البغاة، فإنّهم يكونون بتلك المنزلة وهذا يدعم ما ذهب إليه الحلبي من أنّ البغي علي جماعة الحق وإن لم يقوموا أهل الخلاف علي إمام الحقّ. وروي مثل ذلك عن موسي بن جعفر عليه السلام في قوله عليه السلام لشهيد الفخّ:

يا بن عم إنّك مقتول أجِدَّ الضراب، فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويسرّون شركاً. «2»

فإنّ مفادها عين مفاد صحيحة

البزنطي.

وفي موثّقة السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: ذُكِرَتْ عن الحرورية عند علي عليه السلام فقال:

إن خرجوا علي إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم وإن خرجوا علي إمام جائر فلا تقاتلوهم، فإنّ لهم في ذلك مقالًا. «3»

ومفاد هذه الموثّقة كما تقدّم في السابقتين، مضافاً إلي دلالتها علي أنّ نظام

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 184

الجائر السياسي أو الإجتماعي وكُتَلِهِ البشرية لا حرمة لهم ومن ثمّ تفسّر الجماعة المعطوفة علي إمام عادل بأنّها جماعة الحقّ وتكون الرواية نصّاً في ما ذهب إليه الحلبي، بل إنّ مفاد الآية الكريمة هي الأخري نصّ في ما ذهب إليه، لأنّ لفظها «طائفتين» وحينئذٍ مقتضي حرب البغاة ليست علي وزان الدفاع، بل هي مزيج منه و من الإبتداء، فإنّ البغاة يُقتل المُدْبِر منهم أيضاً إذا كانوا مجتمعين إلي فئة أو رئيس لهم.

وما في صحيح أبي البختري «1» من أنّ قتال الفئة الباغية حتي يفيئوا بخلاف قتال الفئة الكافرة حتي يسلموا، دالّ علي أنّ أهل الخلاف إن لم يفيئوا إلي الهدنة مع جماعة الحقّ، فإنّهم ينطبق عليهم مشروعيّة قتال الباغي.

و في معتبرة الفضل عن الرضا عليه السلام في حديث طويل:

فلا يحلّ قتل أحد من النصّاب والكفّار في دار التقية إلّاقاتل أو ساعٍ في فساد وذلك إذا لم تخف علي نفسك وعلي أصحابك. «2»

و الساعي في الفساد شامل للبغي علي طائفة الحقّ.

وبالجملة مفاد روايات هذا الباب يؤكّد ما تقرّر من أنّ الحرمة بيننا وبينهم هي حرمة الهدنة لا حرمة ترتّب الآثار علي تحقّق الديانة الحقيقية. ومثلها الرواية السابعة في الباب.

12. وقال صاحب الجواهر رحمه الله في موضع آخر:

و يُقتل ولد الرشيدة بولد الزنيّة بعد وصفه الإسلام لتساويهما في الإسلام عندنا؛ نعم مَن حَكم بكفره

من الأصحاب وإن أظهر الإسلام لا يقتله به؛ بل قيل: لا يقتل به وهو صغير، لعدم إسلامه التبعي بعدم الأبوين له شرعاً إلّاأن يُسبي، بناءً علي صحّة سبي مثله؛ فيحكم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 185

حينئذٍ لإسلامه تبعاً للسابي و كأنّه مبني علي اشتراط المساواة في الدين في القصاص للإجماع ونحوه؛ و إلّافما سمعته من النصوص عدم قتل المسلم بالكافر وولد الزنا قبل وصفه الإسلام لا يحكم بكفره ولذا قلنا بطهارته فيندرج في قوله تعالي: «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» و غيره ممّا دلّ علي القصاص. «1»

و ظاهره أن حقّ القصاص ثابت للنفس الإنسانية وإنّ المُسقط لهذا الحقّ أو المانع لثبوته هو الكفر، كما أنّه يظهر منه أنّ مطلق انتحال الإسلام لا يوجب ثبوت حقّ القصاص.

13. قال الشيخ في الحدود من المبسوط:

و كلّ شخصين تكافأ دماؤهما واستوت حرمتهما، جري القصاص بينهما؛ و التكافؤ في الدماء والتساوي في الحرمة أن يحدّ كل واحد منهما بقذف صاحبه. «2»

14. و قال المفيد في حدّ القذف من المقنعة:

وإذا قال له: يا كافر و هو علي ظاهر الإيمان، ضُرب ضرباً وجيعاً تعزيراً له بخطائه علي ما قال، فإن كان المقول له جاحداً لفريضة عامّة من فرائض الإسلام، فقد أحسن المكفّر له وأجر بالشهادة عليه بترك الإيمان.. ومن عيّر إنساناً بشي ء من بلاء اللَّه عزّوجلّ أو أظهر عنه ما هو مستور من البلاء، وجب عليه بذلك التأديب وإن كان محقّاً في ما قال لأذاه المسلمين بما يؤلمهم من الكلام، فإن كان المعيَّر بذلك ضالّاً كافراً مخالفاً لأهل الإيمان لم يستحقّ المعيّر له به أدباً

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 186

علي حال. «1»

15. و قال الأنصاري في المكاسب:

ثمّ إنّ ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن، فيجوز اغتياب المخالف، كما يجوز

لعنه؛ و توهّمُ عموم الآية كبعض الروايات لمطلق المسلم، مدفوع لما علم بضرورة المذهب من عدم احترامهم وعدم جريان أحكام الإسلام عليهم إلّاقليلًا ممّا يتوقّف استقامة نظم معاش المؤمنين عليه، مثل عدم انفعال ما يلاقيهم بالرطوبة وحلّ ذبائحهم ومناكحتهم وحرمة دمائهم لحكمة دفع الفتنة و نسائهم، لأنّ لكلّ قوم نكاحاً ونحو ذلك، مع أنّ التمثيل المذكور في الآية مختصّ بمن ثبت أخوته، فلا يعمّ من وجب التبرّي عنه. «2»

أقول: قد صرّح الشيخ رحمه الله بما استظهرناه من التفصيل من كلمات الأصحاب سابقاً من عدم ترتّب الحقوق الدينية لهم، بل ولا المدنية إلّابمقدار الضرورة وهو ما لولاه لوجب اختلال نظم معيشة المؤمنين. فبحث الغيبة هو من حقوق وحريم شخصية الأشخاص.

ثمّ إنّ الأصحاب قد بحثوا في من اعتاد قتل أهل الذمّة بعدما عزّر عدّة مرّات أنّ للحاكم قتله واختلف في أنّه من باب القصاص أو من باب الحدّ؟ واختار جماعة الثاني؛ لأنّ القصاص يتوقّف علي حرمة المجنيّ عليه وثبوت الحقوق له و أمّا الحدّ فهو يقتضي أنّ الحقّ عامّ لنظام المسلمين أو المؤمنين الإجتماعي بما هم مسلمون أو مؤمنون، أي يعود إلي نظام دينهم وهو المعبّر عنه بحقّ اللَّه، فلا تُقام العقوبة لحقّ شخصي ولا لحرمة الفرد المجني عليه، ومن ثمّ كان الأقوي هو الثاني

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 187

في بحث الذمّي ونظير ذلك في مَن قتل النصّاب بدون إذن المعصوم، فإنّ معصيته ليس لحرمة الناصبي، بل لعدم استئذانه من الوالي العادل الذي بيده نظم نظام المؤمنين.

16. وقال في الجواهر:

فالظاهر إلحاق المخالفين بالمشركين في ذلك- أي في الغيبة- لاتحاد الكفر الإسلامي و الإيماني فيهم، بل لعلّ هجائهم علي رؤوس الأشهاد من أفضل عبادة العباد ما لم تمنع التقية؛

و أولي من ذلك غيبتهم التي جرت سيرة الشيعة عليها من جميع الأعصار والأمصار وعوامهم حتي ملأوا القراطيس منها، بل هي عندهم من أفضل الطاعات وأكمل القربات، فلا غرابة في دعوي تحصيل الإجماع كما عن بعضهم بل يمكن دعوي كون ذلك من الضروريات، فضلًا عن القطعيات. «1»

إلي أن قال:

لا يخفي علي الخبير الماهر الواقف علي ما تضافرت به النصوص، بل تواترت من لعنهم وسبّهم وشتمهم وكفرهم وأنّهم مجوس هذه الأُمّة وأشرّ من النصاري و أنجس من الكلاب، أنّ مقتضي التقدّس والورع خلاف ذلك- وهو يشير إلي احتياط المقدّس «2» في غيبتهم- وصدر الآية التشبيه بأكل لحم الأخ، بل في جامع المقاصدأنّ حدّ الغيبة- علي ما في الأخبار- أن يقول في أخيه … وكيف يتصوّر الأخوة بين المؤمنين والمخالف بعد تواتر الروايات وتضافر الآيات في وجوب معاداتهم والبراءة منهم وحينئذٍ فلفظ الناس والمسلم يجب إرادة المؤمن منهما …

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 188

وما أبعد ما بينه وبين الخواجه نصير الدين الطوسي والعلّامة الحلّي و غيرهم ممّن يري قتلهم ونحوه من أحوال الكفّار حتّي وقع منهم ما وقع في بغداد ونواحيها.

وبالجملة طول الكلام في ذلك كما فعله في الحدائق من تضييع العمر في الواضحات، إذ لا أقلّ من أن يكون جواز غيبتهم لتجاهرهم بالفسق، فإنّ ما هم عليه أعظم أنواع الفسق، بل الكفر وإن عوملوا معاملة المسلمين في بعض الأحكام للضرورة. «1»

و يظهر من كلامه رحمه الله عين ما تقدّم من الشيخ الأنصاري أيضاً، بل قد يستشعر منها عدم ثبوت القصاص بيننا وبينهم إلّامن جهة كونه حدّاً لا قصاصاً أو من المستضعف دون المعاند، فقد قصر ترتّب أحكام وحقوق المسلم عليهم في موارد الضرورة.

ثمّ إنّه يظهر من الآية «يا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلي الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ … » «2» إنّ الكفاءة في القصاص وهي الحريّة هي الناشئة من الإيمان، فكلّ من يجوز استرقاقه لا يكون كفواً في الحرية وإن حَرُم قتله كالذمّي؛ فبضميمة مفادها مع ما ورد من أنّ الحكم الأوّلي فيهم هو جواز الإسترقاق في الحرب يتّضح عدم الكفاءة في القصاص وفي جملة من الحدود أيضاً وإن ورد الدليل بحرمة قتلهم أو بعدم جواز استرقاقهم نظير أهل الذمّة، لكن ذلك لا يقضي بالكفاءة في الإيمان والحرّية.

و ما تقدّم من كلمات الأصحاب ووجوه الأدلّة المشار إليها في ضمن عبائرهم ليس مفادها يوهم عدم مراعاة الحقوق المدنية بحدّ درجتها الإنسانية، بل المراد هو عدم استحقاق الحقوق بدرجاتها الممتازة الأخري التي هي تكريم لما

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 189

فوق أدني درجات الإنسانية بسبب صفة الديانة والإيمان، فلا يتوهّم منافاة المحصَّل من عبائرهم لما في قصّة النصراني الهرم الذي رآه أمير المؤمنين عليه السلام يستجدي أو لما في رواية الصادق عليه السلام من إحسانه إلي غير مَن هم علي هذا الأمر.

والفرق في البحث بين باب البغاة وباب تولّي ولاية الجائر أنّ الأول هو في تعامل لنظام المؤمنين مع أفراد وجماعات المخالفين، و أمّا الثاني فالبحث فيه عكس المقام، فهو مِن بحث كيفية تعامل الفرد المؤمن مع نظام المخالفين سواء السياسي أو الإجتماعي الديني.

17. وقال في الجواهر:

قال في الشرائع: نعم لو اضطرّه السلطان إلي إقامة الحدّ، جاز حينئذٍ إجابته ما لم يكن قتلًا ظلماً، فإنّه لا تقية في الدماء. «1»

في غسل الميت … ص: 189

18. قال المحقّق الهمداني رحمه الله:

إنّما الإشكال في ما هو المشهور بين الأصحاب من وجوب تغسيل كلّ مظهر للشهادتين من سائر فرق المسلمين، مع أنّ مقتضي

الأدلة ليس إلّاوجوب تغسيل المسلم المعتقد للإمامة لا مطلقاً …

و كيف كان فإنْ تم الاجماع (علي وجوب غسل كلّ مسلم) فهو و إلّا فالمسألة في غاية الإشكال، خصوصاً بملاحظة ما صرّحوا به- بل نسبه المحقّق الثاني إلي ظاهر الأصحاب- من أنّ الواجب إنّما هو تغسيلهم غسل أهل الخلاف؛ فإنّ مقتضاه أن لا يكون مستندهم فيه إطلاقات أدلّة الغسل … و غاية ما يمكن استفادته من تلك الأدلّة إنّما هو وجوب المعاملة معهم معاملة المسلمين صورةً من جهة المداراة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 190

معهم لدفع شرّهم أو جلب قلوبهم إلي الإيمان أو توقّف انتظام أمر المعاش عليه، لا أنّه يجب علينا ترتيب آثار كونهم مسلمين في الواقع وإلّا لكان الواجب علينا السعي في تغسيلهم غسل أهل الحقّ وهو خلاف ما صرّح به جملة من الأصحاب، فالإنصاف أنّ القول بوجوب غسلهم من حيث هو- لولا الإجماع- مشكل. «1»

19. و قال في التحرير:

و المقتول من أهل البغي لا يُغسّل ولا يُكفّن ولا يُصلّي عليه. «2»

20. وقال شيخ الطائفة في التهذيب:

ولا يجوز لأحد من أهل الإيمان أن يغسل مخالفاً للحقّ في الولاية ولا يصلّي عليه إلّاأن تدعوه ضرورة إلي ذلك من جهة التقية فيغسله تغسيل أهل الخلاف … «3»

فالوجه فيه أنّ المخالف لأهل الحقّ كافر، فيجب أن يكون حكمه حكم الكفّار إلّاما خرج بالدليل وإذا كان غسل الكافر لا يجوز، فيلزم منه عدم جواز غسل المخالف أيضاً.

21. و قال صاحب مفتاح الكرامة:

في النهاية و المبسوط و الدروس و البيان و الذكري: إنّه (أي تغسيل المخالف) مكروه.

و في كشف الإلتباس و جامع المقاصد و الذكري: المشهور إنّه مكروه.

و في الدروس: إنّها أشهر.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 191

و نصّ جماعة من هؤلاء: إنّه يغسّل

تغسيل أهل الخلاف إن كان عارفاً به.

و في المقنعة و التهذيب: إنّه حرام؛ و هو خيرة حاشية المدارك و كشف اللثام؛ و يظهر من الأخير: دعوي الإجماع علي أنّ المخالف كالجماد.

و في المراسم كما عن المهذّب: إنّه لا يغسل المخالف.

و في كشف اللثام: لم أرَ موافقاً للمصنّف في التنصيص علي وجوب تغسيل المخالف. و يمكن تنزيل الوجوب علي التقية … و الحاصل أنّ جسد المخالف عندنا كالجماد لا حرمة له فإنْ غسل كغسل الجمادات من غير إرادة إكرام له لم يكن به بأس وعسي أن يكون مكروهاً وإن أُريد إكرامه لكونه أهلًا له … فهو حرام. «1»

22. وقال في الجواهر:

لعلّ وجهه هو إلحاق أحكامه بعد الموت بأحكامه في الآخرة، إذ لا إشكال في كونه كالكافر بالنسبة إليها وإن حُكم بإسلامه وأُجري عليه جميع أحكام الإسلام من الطهارة واحترام ماله ونفسه وغير ذلك في الدنيا ولا تلازم بينهما … ظهر من بعض الأخبار أنّ التغسيل احترام للميت وتكرمة له ولا يصلح له إلّاالمؤمن. «2»

ويستخلص من هذه أُمور:

1. إنّ الحقوق النابعة من الإكرام والتكريم والإحترام والتعظيم لا تثبت لأهل الخلاف وهي تغاير الحقوق والأحكام النابعة من الحقوق الأولية للحياة والمعاش و التعايش.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 192

2. إنّ قاعدة الإلزام عامّة لكلّ الأبواب والأحكام والحقوق.

3. إن القدر اللازم من الحقوق والأحكام التي تراعي معه هو ما يحفظ به النظام الإجتماعي التعايشي أو موارد الخوف الفردية أو المداراة. وهذا تفسير لمعني الهدنة الوارد في ألسنتهم عليهم السلام إنّ الدار هي دار الهدنة، أي إنّ مقدار الأحكام التي تُرَتَّب علي إسلامهم الظاهري هو ما يحفظ به النظام الإجتماعي المزبور.

4. إنّ المائز بين الوظائف الدينية ووظائف دار الهدنة هو أنّ كلّ حكم يطلب فيه التعذير

والتنجيز الأخروي بما هو هو، فهو من أحكام الديانة وولاء الإيمان و كلّ ما لا يطلب فيه في نفسه ذلك بل بمجرّد اسقاط إلزام الطرف الآخر فهو من أحكام الهدنة.

5. يظهر من التهذيب في غسل الميت: أنّ مقتضي القاعدة في المخالف ترتيب أحكام الكافر (أي في أحكام الديانات أو في الحكم الذي وَصْفُ الدين فيه قيد بنحو الحيثية التعليلية أو التقييدية) إلّاما خرج بالدليل.

6. إنّ الأحكام الأخلاقية الناشئة من حقوق الإيمان والديانة لا تعمّ المخالفين وليست مشمولة لقاعدة الهدنة.

عدم صحة عباداتهم … ص: 192
اشارة

23. وفي الجواهرأيضاً:

للإجماع المنقول علي شرطية الإيمان في صحّة العبادات ومن الأخير يعلم بطلان عبادة المخالف أيضاً وإن كانت موافقة لما عند الشيعة، إذ الظاهر أنّ المراد بالإيمان هو المعني الأخصّ. «1»

24. وقال السيد الشاهرودي رحمه الله:

مهما قامت قرينة علي كون المراد من القبول مرتبة أُخري غير

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 193

الصحيحة قلنا به … و أمّا في ما نحن فيه، فلم تقم قرينة علي كون المراد من القبول مرتبة أُخري غير الصحة … ثمّ لو سلمنا دلالتها علي نفي القبول- وهي غير مرتبة الصحّة- فلا ينبغي الإشكال في الحكم بصحّة عباداته لو أتي بها علي طبق مذهب أهل الحقّ مع فرض تمشّي قصد القربة منه. «1»

25. و في الحدائق:

و التحقيق المستفاد من أخبار أهل البيت عليهم السلام إنّ جميع المخالفين العارفين بالإمامة و المنكرين القول بها، كلّهم نُصّاب و كفّار و مشركون، ليس لهم في الإسلام ولا في أحكامه حظّ ولا نصيب و إنّما المسلم منهم هو الغير العارف بالإمامة وهم في الصدر الأول من زمان الأئمّة عليهم السلام أكثر كثير ويعبّر عنهم في الأخبار بأهل الضلال وغير العارف والمستضعف.

ومن الأخبار الواردة بهذا الفرد توهّم متأخّرو أصحابنا الحكم بإسلام

المخالف الغير المعلن بالعداوة والحكم لعدم الإعادة هنا شامل لهذين الفردين …

و بالجملة فإنّ المستفاد من الأخبار إنّ الناس في زمنهم عليهم السلام ثلاثة أقسام: مؤمن و هو من أقرّ بالإمامة، وناصب كافرو هو من أنكرها، ومن لم يعرف ولم ينكر، و هم أكثر الناس في ذلك الزمان، ويعبّر عنه بالمستضعَف والضالّ. «2»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 194

النتائج: … ص: 194

1. يظهر من الحدائق في بحث الحجّ: التفرقة بين المستضعف وهم أهل الضلال وبين أقسام الناصب (الأربعة أو الستّة) في الأحكام، سواء بلحاظ أحكام قاعدة الهدنة أو غيرها، ويؤيّد ما قاله تفرقة جماعة من المتقدّمين وطبقة المتأخّرين في النكاح والذبيحة بين القسمين.

2. إنّ العبادات خارجة جملةً عن أحكام الهدنة.

3. إنّ الخمس والزكاة حيث اشترط فيهما قصد القربة والعبادة كانا من أحكام الديانة الحقيقية وكانا ضريبة ماليّة في النظام الإجتماعي الدياني الإيماني وليسا ضريبة في النظام السياسي التعايشي كعقد اجتماعي، عقد الإقرار بالإسلام ونظير ذلك بحث الجهاد حيث إنّه عبادي بخلاف ما في القوانين الوضعية، فلذلك لا يصحّ بأقسامه من الدعوة والدفاع إلّابلحاظ المؤمنين وإمام المؤمنين.

عدم جواز دفع الزكاة والخمس إليهم … ص: 194

26. وفي الجواهرأيضاً:

لقوّة ما دلّ علي اعتبار الإيمان في دفع الزكاة من النصوص والفتاوي ومعاقد الإجماعات حتي أنّه ورد في بعض النصوص طرحها في البحر مع عدم المؤمن و أنّ أموالنا و أموال شيعتنا حرام علي أعدائنا و أنّك لا تعطيهم إلّاالتراب. «1»

27. و قال السيد الخوئي رحمه الله:

و يشترط في الثلاثة الأخيرة (سهم السادات) الإيمان.

فلا يُعطي الخمس لغير المؤمن وإن كان هاشمياً فضلًا عن الكافر؛ لبدلية الخمس عن الزكاة المعتبر فيها الإيمان إجماعاً و أنّه يُعطي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 195

للمخالف الحجر، كما في النصّ، فكذا في ما هو بدل عنها. «1»

28. و في الرياض:

الإيمان بالمعني الخاص وهو الإسلام مع المعرفة بالأئمّة الإثني عشر واعتباره في من عدا المؤلّفة مجمع عليه بين الطائفة علي المقطوع به … فلا يعطي كافر … ولا مسلم غير محقّ في الإمامة بإجماعنا والمتواتر من أخبارنا. «2»

29. وأيضاً فيه:

و في اعتبار الإيمان تردّد … و لاريب أنّ اعتباره أحوط خروجاً عن الشبهة وتحصيلًا للبراءة اليقينية وجزم باعتباره جماعة

من غير مخالف صريح لهم أجده. «3»

30. و قال النراقي رحمه الله في أوصاف المستحقين للزكاة:

الإيمان: أي الإسلام مع معرفة الأئمة الإثني عشر، فلا يجوز دفع الزكاة إلي غير المؤمن بلا خلاف يعلم، كما في الذخيرة، بل بالإجماع المحقّق والمحكي، كما عن الانتصار و الغنية و المنتهي.

و في الحدائق: له و للمستفيضة من النصوص … (و) ما مرّ من عدم جواز إعطاء الزكاة إلي غير المؤمن عامّ لصورتي وجود المؤمن و عدمه، كما صرّح به بعض الأخبار، و قد يحكي قول بجواز إعطاء المستضعفين من أهل الخلاف الذين لا يعاندون الحقّ مع عدم وجود المؤمن. «4»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 196

31. و أيضاً فيه:

الحقّ اشتراط الإيمان فيه وفاقاً للأكثر، كما صرّح به بعض من تأخّر (الحدائق والرياض) و عن الغنية و المختلف: الإجماع عليه. «1»

في النكاح … ص: 196
اشارة

32. وفي الجواهر:

لاريب في كراهة تزوّج المؤمنة بالمخالف ولا بأس بالمستضعف وهو الذي لا يعرف بالعناد بمعني عدم تلك الكراهة الحاصلة في غيره وإن كان هو أيضاً مكروهاً للنهي عنه كالنهي عن النكاح منهم وخصوصاً علي المؤمن. «2»

33. و في الرياض:

و هل يشترط (بين الزوجين) التساوي في الإيمان الخاص؟ المراد منه الإقرار بالأئمة الإثني عشر، فيه أقوال: ثالثها اختصاصه بالزوج دون الزوجة، و هو المشهور بين الطائفة، بل حكي علي الأول الإجماعات المستفيضة عن الخلاف و المبسوط و السرائر و سلّار و الغنية و هي الحجّة فيه كالنصوص المستفيضة. «3»

34. وقال في الحدائق:

ثمّ إنّه علي تقدير القول المشهور و هو اعتبار الإيمان، فمذهب الأكثر اعتباره في جانب الزوج دون الزوجة … وحكي الشهيد الثاني في الروضةعن بعضهم أنّه ادّعي الإجماع علي ذلك … والذي يظهر

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 197

لي من الروايات اعتبار الكفاءة من الطرفين؛ نعم

دلّت علي استثناء المستضعفة، فيجوز تزويجها. «1»

النتائج: … ص: 197

1. إنّ التعليل الوارد في الروايات «2» لعدم إعطاء الزكاة والخمس للمخالفين هو قاعدة عامّة في السياسة المدنية معهم وليست خاصّة بالتأمين الإجتماعي المتكفّل له باب الزكاة و الخمس؛ و هذا دليلُ ما مرّ من نقاط في الأبحاث السابقة التي منها إنّ المخالفين لا تُراعي حقوقهم الدينية الخاصّة بمذهبهم، بل خصوص الحقوق المدنية وقد تبيّن من هذا الدليل أنّ الحقوق المدنية لا تُراعي لهم بدرجة المؤمنين، بل هم يكونون من الدرجة الثانية من المواطنين كما أنّ أهل الكتاب من الدرجة الثالثة.

2. يظهر من تفصيل بعض الروايات الواردة في الزكاة وكذلك فتاوي الأصحاب بين المستضعف والمعاند- المراد به مطلق أقسام الناصب- أنّ الحقوق المدنية للمستضعف أعلي رتبة من المعاند، مع أنّ الحقوق المدنية للمستضعف هي دون المؤمن وهذه التفرقة بين المستضعف والمعاند إذا كانت في الحقوق المدنية، فالحال أوضح بالنسبة إلي الحقوق الدينية. ومن ثمّ فصّل بعض في النكاح والذبيحة غيرهما بين المستضعف والمعاند طبقاً لبعض الروايات الواردة ثمّة.

3. و قد ورد في صحاح عدّة في باب الزكاة ومستحقيها «3» إنّ موضع الزكاة هم أهل الولاية و هذا العنوان عامّ شامل للزكاة في الموارد التسعة والفطرة والزكاة الندبية، بل والخمس أيضاً وإن لم يكن من الزكاة بالمعني الأخصّ، لكنه صادق

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 198

بالمعني الأعمّ، كما أطلق عليه في بعض روايات الخمس الواردة وكذلك مطلق الصدقات الواجبة الأخري كالكفّارات والفداء والضمانيات العبادية والهدي و الأضحية وغيرها، أي مجموع الضرائب المالية العبادية موضعها أهل الولاية وهذا يقتضي أنّ كفالة بيت المال وهو يسمّي بالتأمين الإجتماعي الذي هو من مسؤولية الدولة لا يشمل غير أهل الولاية إذا كان من صنايع

الضرائب المالية المقرّرة بخلاف ما إذا كان أسباب التملّك كإحياء الموات ونحوه.

و في حسنة ضريس عن الباقر عليه السلام:

ولا تدفعها إلي قوم إذا دعوتهم غداً إلي أمرك لم يجيبوك وكان- و اللَّه- الذبح. «1»

و في رواية ابن أبي يعفور:

لا واللَّه إلّاالتراب إلّاأن ترحمه، فإنْ رحمته فأعطه كسرة. «2»

و مفاده ما تقدّم من إعطائهم أدني درجات الكفالة الإنسانية.

وفي رواية يعقوب بن شعيب:

إن لم يجد من يحملها إليهم؟ قال: يدفعها إلي من لا ينصب. قلت: فغيرهم.

قال: ما لغيرهم إلّاالحجرِ. «3»

و هو يفيد التفصيل بين المستضعفين ومطلق أقسام الناصب.

و في رواية إبراهيم الإوسي عن الرضا عليه السلام بعد نهيه عن إعطاء الزكاة لغير الشيعة علّل عليه السلام بقوله:

فإن اللَّه حرّم أموالنا وأموال شيعتنا علي عدوّنا. «4»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 199

و هذا يفيد قاعدة عامّة في مصرف الأموال والسياسة المالية لبيت المال، لاسيما إذا استظهر العموم من كلمة «أموالنا» للفي ء والأنفال إلّاما أخرجه الدليل- كدليل إحياء الموات- كما أنّ ما في الرواية من طرحه بحراً إشارة إلي أنّ إعطائهم وتقويتهم في المعاش المدني مفسدته أعظم من هدر الأموال في البحر.

في الذبيحة … ص: 199

35. وقال في الجواهر:

وكيف كان فلا يشترط الإيمان بالمعني الأخصّ وفاقاً للمشهور … و لكن مع ذلك فيه قول بعيد باشتراطه، و عدم الجواز محكي عن الحلّي وأبي الصلاح وابني حمزة والبرّاج …

و علي كلّ حال، فمنشأ هذا القول من القائل به استفاضة النصوص و تواترها بكفر المخالفين و إنّهم مجوس هذه الأمّة و شرّ من اليهود و النصاري التي قد عرفت كون المراد منها بيان حالهم في الآخرة لا الدنيا؛ نعم الظاهر كراهة ذلك خصوصاً مع وجود المؤمن …

ولا تصحّ ذباحة المعلن بالعداوة لأهل البيت عليهم السلام كالخارجي

وإن أظهر الإسلام، … بلا خلاف أجده فيه، بل عن المهذّب و غيره الإجماع عليه لاستفاضة النصوص المعتضدة بالفتوي بكفره. «1»

في الجهاد مع أهل البغي (الخلاف) … ص: 199

36. وفي الرياض:

و لا يسترقّ ذرّيتهم ولا نساؤهم … من غير خلاف بينهم أجده، و في صريح الشرائع و السرائر: الإجماع عليه، لكن في الروضةعزّاه إلي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 200

المشهور، مؤذناً بوجود الخلاف فيه، كما صرّح به أخيراً وفاقاً للدروس، لكن عزّاه إلي الشذوذ معربين عن الإجماع أيضاً، و المخالف غير معروف ولا منقول إلّافي المختلف، فنقل فيه عن العماني بعد اختياره المنع.

قال: وقال بعض الشيعة: إنّ الإمام في أهل البغي بالخيار إن شاء منّ عليهم وإن شاء سباهم … وظاهر عبارته المزبورة إنّ القائل غير واحد من الشيعة وهو أيضاً ظاهر جملة من الأخبار مستفيضة … إلي غير ذلك من الأخبار الكثيرة … ولولا إعراض الأصحاب عنها ونقلهم الإجماع علي خلافها مع ضعف أسانيدها جملة لكان المصير إليها متّجهاً.

و لا تُؤخذ أموالهم التي ليست في العسكر، بل عليه الإجماع في التحرير و المنتهي و المسالك و الروضة و غيرها … و الأظهر جواز أخذ أموالهم التي في العسكر وفاقاً لأكثر الأصحاب علي الظاهر المصرّح به في جملة من العبائر، بل في ظاهرالغنيةو عن صريح الخلاف: الإجماع عليه وهو الحجّة مضافاً إلي الأصل والأخبار المستفيضة. «1»

في المرابطة والهجرة … ص: 200

37. وفي الجواهر:

و علي كلّ حال فالهجرة باقية ما دام الكفر باقياً … وعن الشهيد إلحاق بلاد الخلاف التي لا يتمكّن فيها المؤمن من إقامة شعار الإيمان، فتجب عليه الهجرة مع الإمكان إلي بلد يتمكّن فيها من إقامة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 201

ذلك واستحسنه الكركي … و قد يظهر من النصوص … عدم وجوب المهاجرة في زمن الغيبة و إن تمكّن من بلاد يظهر فيها شعار الإيمان، لأنّ الزمان زمان تقية حتّي يظهر وليّ الأمر، بل لعلّ ذلك معلوم من مذهب

الإمامية قولًا وفعلًا. «1»

38. وأيضاً فيه:

المرابطة وهي الإرصاد لحفظ الثغر من هجوم المشركين الذي هو الحدّ المشترك بين دار الشرك ودار الإسلام … نعم هي راجحة ولو كان تسلّط الإمام عليه السلام مفقوداً أو كان غائباً، لأنّها لا تتضمّن قتالًا ابتداءً مع غير إمام عادل كي يكون مندرجاً في ما دلّ علي النهيّ عنه، بل تتضمّن حفظاً وإعلاماً …

ولو اتفق الإحتياج معه إلي القتال فهو من الدفاع عن البيضة …

ولا ينافي النهي عن الجهاد الأمر بالمقاتة عن البيضة بعد حمله علي إرادة الإبتداء بالقتال مع غير العادل. «2»

تولّي الولاية … ص: 201

39. وأيضاً:

و أمّا (الولاية) من الجائر فلا ريب في أنّها تحرُم مع الإختيار إذا كانت علي محرم كالولاية علي ما ابتدعه الظالمون من القمرك و نحوه بلا خلاف، بل هو من الضروريات … كذا تحرم … ما يشتمل علي محلل ومحرم كالحكومة علي بعض البلدان المشتملة علي خراج و سياسة ونظام … ومال العلّامة الطباطبائي رحمه الله في مصابيحه إلي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 202

كون الولاية في نفسها من المحرّمات الذاتية مطلقاً وأنها تتضاعف إثماً باشتمالها علي المحرّمات لتضمّنها التشريع في ما يتعلّق بالمناصب الشرعية. «1»

وقد ورد عنهم عليهم السلام في باب التقية (باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ينبغي التقية في موضعها كما ينبغي تركها في غير موضعها بقوله عليه السلام:

تتقون حيث لا ينبغي التقية ولا تتقون حيث ينبغي التقية. «2»

و الظاهر أنّ الفارق بين الموردين هو كلّما عاد الضرر إلي الدين والمذهب ومجموع الطائفة فهو من مواضع التقية، و يلحق بذلك في ما لو عاد الضرر إلي البدن أو المال أو العرض لا بقول مطلق، بل بما يوجب إهانة المؤمن غير الجائزة لنفسه فضلًا عن الفروج؛ و

أمّا المورد الآخر وهو الذي لا يجوز فيه التقية فهو في كلّ ضرر راجع إلي فوت المنافع كالشهرة والقدرة وفوات الصلاحيّات و الأرباح و فوت فرص الغنائم الماليّة و الإعتبارية.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 203

3 أساليب السلطة … ص: 203

اشارة

علي ضوء ما تقدّم في المباحث السابقة- من لزوم تنقيح الموضوع في أدلّة الأحكام و أنّ تنقيح الموضوع يتمّ علي مراحل خمسة، أحدها مرحلة تنقيح وتحليل ماهيّة الموضوع وتحديد أجزائها الذاتية من قبل المتخصصين في مجال العلم الباحث عن ذلك الموضوع- فاللازم في المقام تنقيح ماهيّة أشكال الحكومة بحسب أنحاء وجودها، فإنّها قد اتخذت أشكالًا وأطواراً وصياغات ونُظُماً هيكلية عديدة جدّاً عبر التاريخ وتتدخّل عدّة علوم في بيان ذلك كعلم الإدارة وتاريخ القانون والتاريخ الإجتماعي والعلوم السياسية، و قد تناهت الأدبيات الأكاديمية من بعض تلك العلوم إلي أنّ هناك من ظواهر الحكومة البشرية المختلفة الأنواع وراء الحكومات الرسمية المعلَنَة في كلّ عصر، كما سيأتي بيان ذلك

وَ لِنَجْرِدْ جملة منها- لا بنحو الإستقصاء-: … ص: 203

الأول: و هو الحكومة الرسمية المعلنة … ص: 203

علي السطح- وقد تسمّي بحكومة الأمّ- التي قد تعرّف بالقدرة والقوة الغالبة في النظام الإجتماعي؛ وهي تكون ميزان التوازن لبقية القدرات الإجتماعية. وقد اتخذ هذا النمط من الحكومة أشكالًا مختلفة من النظُم عبر عصور التاريخ، وقد كانت ذات أجزاء وأعضاء بدائية بسيطة وأخذت في التضخّم شيئاً فشيئاً بحسب تنامي العدد البشري وبحسب نُظُم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 204

المدينة والبلدان وطريقة المعيشة في التمدن الإنساني إلي أن آلتْ إلي الأشكال الموجودة في العصر الحديث في تقسّم السلطات إلي ثلاث مع بعض الفقرات الأخري كالمحكمة الدستورية ومجالس أهل الخبرة ومراكز الدراسات المتنوعة علي اختلاف في كيفية التقسيم والضمّ والاندراج.

الثاني: وهي الحكومات الصغيرة المتعايشة في ظلّ حكومة الأم … ص: 204

وهذه الحكومات تكون نصف رسمية، فلا هي معلنة تماماً ولا هي خفية تماماً، بل بين بين. وهي ذات أنواع مختلفة كنظام القبائل والعشائر ونظام الطائفة أتباع المذهب الخاص أو الدين الخاص أو النظام الداخلي في أتباع قومية وفِرقٍ خاصّة أو الشريحة الإجتماعية ذات القاسم المشترك، كطبقة التجار وأرباب الأموال الطائلة أو الطبقة المِهَنِيّة العاملة وغير ذلك من الشرائح الإجتماعية، و بالتالي فهذه القوي و القدرات الإجتماعية ذات نفوذ في بقعة من المجتمع إمّا جغرافية أو دينية أو عِرقية أو إقتصادية أو غيرها من الخرائط الإجتماعية.

وهذه القوي في ضمن مساحتها الإجتماعية، لها نفوذها الخاص في الأبعاد المختلفة، سواء في القضاء (التحاكم) والقدرة الماليّة والمسار الثقافي الخاص والمسار القانوني الخاص بها أيضاً في ضمن النظام الداخلي وقد تكون لها قوّة البطش الخاصّة، سواء يكون المسلح أو العسكري أو غيره.

و في تحليل الأدبيات التخصصية الأخيرة قد أدرجت المرجعية الدينية من أيّ دين من الأديان ضمن هذا النمط من الحكومة. والمتتبّع لحياة الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام يجد أنّهم عليهم السلام

قد مارسوا هذا النمط من الحكومة والنفوذ كلّهم من دون استثناء حتي بدءاً من أميرالمؤمنين عليه السلام خلال الخمسة وعشرين سنة؛ و منه يظهر أنّ التعبير عن تلك الحقبة بأنه عليه السلام جليس الدار تعبير مقلوب لا يتابع الحقيقة من جهة الدور الذي قام به عليه السلام وإن كان الغرض عنه بيان ما قامت به السقيفة من إزوائه وإقصائه عن رأس القدرة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 205

وكذلك كان دور الحسنين عليهما السلام وعبر هذا المنظار يمكن قراءة صلح الإمام الحسن عليه السلام من قراءة أخري بأنّ صلحه عليه السلام لم يكن تنازلًا عن القدرة بتمام مراتبها و إنّما الحفاظ علي القدرة بالنمط الثاني بعد امتناع تحقّقه بالنمط الأول. من ثمّ كان عامل الضغط بيده عليه السلام علي حكومة معاوية كان ذلك العامل باقياً لديه عليه السلام، يقف به أمام جموح معاوية، فكانت لديه عليه السلام تمام الفرصة في محاسبة معاوية والتشديد عليه بنحو أقوي مماكان عليه أميرالمؤمنين عليه السلام مع حكومة السقيفة.

وكذلك الحال في سيرة السجاد والباقر والصادق عليهم السلام وبلغ ذلك في عهد الكاظم عليهم السلام حتي أنّه جاء في تقرير أحد عيون هارون الرشيد بأنّه لا يمكن وجود خليفتين في أرض واحدة.

وهذا التقرير يوقف الباحث علي حقيقة الحكومة والقدرة من النمط الثاني و أنّه يحصل التوازن والتدافع بين القدرة الإجتماعية في النمط الثاني والحكومة الرسمية في النمط الأول ولعلّ إلي ذلك يشير ما ورد من أنّ الحسين عليه السلام بدا للَّه أن يكون مهدي آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم وكذلك بدا للَّه في موسي بن جعفر عليه السلام أن يكون مهدي آل محمّد صلي الله عليه و آله و سلم وتلك

تشير إلي مدي تنامي الحكومة الإجتماعية للأئمّة عليهم السلام في عهد الحسين والكاظم عليهما السلام وكذلك يشير إلي ذلك إضطرار المأمون إلي تولية الرضا عليه السلام ولاية العهد بعده، مناورة منه أمام عامل الضغط من القاعدة الإجتماعية وهذا الذي يفسّر إقدام السلطة العباسية في جعل العسكريين عليهما السلام تحت الإقامة الجبرية في سامرّاء.

النمط الثالث: وهي حكومة القِيَم الإجتماعية … ص: 205

وليس المقصود من تلك القيم، الآراء النظرية، بل تلك التي تحتلّ مكاناً في قناعة أفراد المجتمع وتمادت التربية الإجتماعية عليها بحيث يُري مسير الشارع الإجتماعي علي وفقها وتكون تلك القناعات محرّكات وبواعث تلقائية للمجتمع نحو الأفعال المناسبة لها.

وهاهنا تكمن خطورة أهميّة التواصي بالحقّ والتواصي بالصبر والتعاون علي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 206

البرّ والتقوي وعدم التعاون علي الإثم والعدوان والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر وتعارف المعروف والحقّ وتناكر المنكر والباطل والقاعدة الشرعية المتواترة بين الفريقين:

من سنّ سُنّة حسنة كان له ثوابها وثواب من عمل بها إلي يوم القيامة ومن سنّ سنّة سيئة …

و هناك أحكام كثيرة في هذا الباب كلّها تصبّ في الحفاظ علي حكومة الدين في هذا الباب نظير الأحكام المتعلّقة بالعادات الإجتماعية كحرمة التشبّه بالكفّار في اللباس والمأكل ونحوهما وكتعظيم الشعائر التي هي إحياء لمعالم الدين في البيئة الإجتماعية؛ فإنّ هذا الباب هو الذي تقوم به الظاهرة الإجتماعية الحاكمة علي مسير الأفراد.

وهذه القدرة النافذة للقيم التي تعبّر بحكومة الإجتماع- أي القيم السائدة في المجتمع- لها تناسب معيّن مع الحكومة من النمط الأوّل، فإنّ النمط الأول وإن كان هو الظاهر الرسمي النافذ القدرة، إلّاأنّ النمط الثالث يتحكّم في حدود قدرة النمط الأول وذلك بسبب تولّد النمط الأوّل من النمط الثالث وكون الثالث بمنزلة البنية التحتية للنمط الأوّل، فلا يقوي الأول علي الإصطدام

بالثالث، إلّاأن يفرض ممارسة التغيير للقيم وبالتالي تغيير نوعية النمط الثالث و من ثمّ يمكنه التعدّي عن ضوابط القيم السابقة إلي ضوابط القيم الجديدة. مثل ما قامت به الولاة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم وبنو أُمية وبنو العباس مثل ترويج عقيدة الجبر وترويج القدرية وترويج الإجتهاد بالرأي والإكتفاء بالكتاب دون السنّة وسنّة العداء لأهل البيت عليهم السلام والإزراء بالولاء لهم.

وإلي ذلك يشير ما ورد عنهم عليهم السلام: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول:

لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملنّ عليكم شراركم فيدعو

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 207

خياركم فلا يُستجاب لهم. «1»

و عن أمير المؤمنين عليه السلام:

قولوا الخير تُعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله. «2»

و هذه الروايات تشير إلي معلولية نشوء نوعية النمط الأول من النمط الثالث وبملاحظة ذلك يتنبّه إلي البناء الذي شيّده النبي صلي الله عليه و آله و سلم في المسلمين وهو النمط الثالث بحدود معيّنة ودرجات مخصوصة بحيث لم يتمكّن مجتمع القَبَلي ومُسلِمة الطُلَقاء وبادية الأعراب وطوائف المنافقين والذين برزوا علي النفاق وفي قلوبهم مرض من إزالة الدين والعود إلي أوثان الشرك.

فيظهر من التمعّن في هذا النمط بالغ خطورته وشدّة أهميّته و أنّه أدني درجات الحكم بمعني وأعلي درجاته بمعني آخر.

أمّا كونه أدني الدرجات فبلحاظ خفائه في وجود القيم، حيث إنّها إذعانات ذهنية غير مرئية للحسّ و إنّما يتلوّن السلوك الإجتماعي بها و أمّا كونه أعلي الدرجات، فلأنّها من أقوي أنماط وروافد القدرة و الحكومة علي النظام الإجتماعي، و لذلك بالغت توصيات القرآن الكريم و السنّة النبوية و سنّة المعصومين عليهم السلام علي باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كظاهرة إجتماعية بألسن وعناوين و قوالب متعدّدة مختلفة،

و من ذلك يظهر أيضاً أحد الأدوار التي مارسها و قام بها أئمة أهل البيت عليهم السلام من التأثير في مسير الأمّة الإسلامية.

و بالإلتفات إلي هذا النمط يتنبّه إلي خطورة الغسيل الفكري والثقافي الذي تمارسه قُوي الكفر العدوانية بأساليب شتّي ومسخ المفاهيم عن محتواها وتلبيس المفاهيم القبيحة بلباس المفاهيم الحسنة وهذا من أخطر ألوان الإنحراف المنطق

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 208

الإجتماعي والفكري أو التركيز علي الجانب السلبي في ظاهرة حسنة وإغماض الجوانب الحسنة الغالبة فيها وغيرها من الطرق الملتوية الخادعة.

ومن الأمور التي تتّضح في هذا الباب أيضاً أهميّة الشعائر الدينية الإسلامية وكذلك الإيمانية المختصة بالمذهب الحقّ، فإنّ التفريط بتلك الشعائر من القسمين يوجب بروز الزيغ في السلوك الإجتماعي والفكري والإعتقادي لدي المجتمع؛ فإنّ الشعائر و الممارسات والطقوس الإجتماعية هي من أعظم حُرّاس الدين والمذهب في نفوس الناس وهي الواقية لأفراد المجتمع عن الإنحراف والضلال، لأنّه سبب مؤثّر تربوي بالغ الأثر؛ فالتفريط بها علي حساب ما هو دونها في الأهميّة غفلة خطيرة.

النمط الرابع: الحكومة الخفيّة والسّرّية … ص: 208

وتعتمد في العصر الحديث علي نفوذ العناصر المختلفة في الأقسام السابقة من الحكومة بأن تخترق تلك العناصر مراكز القوّة في الحكومات والتيّارات الإجتماعية وتُدير دَفّة الأمور بنحو خفي في حين تشكيلها لمنظومة شبكة هِرَميّة تكون في القدرة أقدر علي التحكّم في مسير الأمور من الأشكال الأخري للحكومة وهذا النمط من القدرة والحكومة في النظام الإجتماعي السياسي للبشرية وإن نُظّر في القرن الأخير أو السابق في الأدبيات السياسية إلّاأنّ نشأة هذا النمط ليس وليد هذا العصر المتأخّر، بل عَهِدَتُه الدول والحضارات البشرية منذ قديم الأيام وإن كان بصُوَر بدائية إلّاأنّه تطوّر واستفحل مهارة وتدبيراً في الأعصار المتأخّرة.

ولا يتوهّم أنّ المراد بهذا النمط هو جهاز الإستخبارات

الذي يكون ساعداً ويداً للحكومة الرسمية أو للقُوي المختلفة، بل المراد من هذا النمط هو كون تمام أجزاء الحكومة ومرافقها تنشط في الخفاء وبالتغلغل في أجهزة الأشكال السابقة للحكومة.

فليس دورها وإطارها يقتصر علي جميع المعلومات أو يصبّ في الدائرة الأمنية فقط، بل مرافق هذه الحكومة يتكوّن من المتولّين لكلّ المجالات

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 209

الإقتصادية والقضائية والسياسية والعسكرية والأمنية والثقافية والتعليمية والصحّية و غيرها من المجالات، كما لا يقتصر نفوذ هذا النمط في النمط الأول فقط، بل يتمّ الإختراق في النمط الثاني والثالث أيضاً.

و قد أشارت جملة من الآيات والسور «1» وكذلك روايات الفريقين إلي هذا النمط من القدرة و أنّ خليفة اللَّه في الأرض يتمتّع بمثل هذه القدرة عبر دوائر الأركان والأوتاد والنجباء والنقباء والأبدال. «2»

و ليس مقصوراً هذا علي زمن الغيبة، بل هو منذ استخلاف آدم، فمن ثمّ كانت تلك الحكومة للرسول صلي الله عليه و آله و سلم قبل البعثة وبعد البعثة وكانت للأئمة عليهم السلام في جميع أعصارهم؛ و في روايات الفريقين إشارة إلي لقطات من أنشطة هذه الحكومة كثيرة.

و الحاصل أنّ الدول العصرية لا تقوم قائمتها بشكل النمط الأول، بل دعامتها هي بهذا النمط فإنّه لا تتمكّن من تحصين نفسها ومجتمعها من الغزو الإقتصادي أو الثقافي أو الأمني أو غيره إلّابجدار وبُني هذا النمط الأخير؛ فهو من الضرورات اللازمة لإنشاء الدولة من النمط الأول.

وهذه الضرورة كما مرّ متقادمة في العصور السابقة بالأشكال المعهودة حينذاك. وهذا النمط يمارس دوره أئمّة أهل البيت عليهم السلام بجانب أدوارهم في الأنماط السابقة.

النمط الخامس: الحكومة بتوسّط قوي الخفيّة عن المادّة والحس … ص: 209

والمحسوسات ذات الوجود اللطيف للتحكّم في النظام الإجتماعي السياسي وقد عَهِدَت البشرية استعمال السلاطين والملوك لمثل هذه القوي كاستخدام فرعون

اسس النظام السياسي

عندالامامية، ص: 210

للسَّحَرة واستخدام نمرود المنجّمين والكَهَنة وتسخير بعض الموجودات اللطيفة بتوسّط بعض العلوم المرموزة قديماً وحديثاً وقد يطلق علي منظومة هذه القوي الإستعانة بالملكوت الأسفل وقد وظّف علم الأثير وبقيّة شعب علم الروح وقدراتها الخفيّة في باب الإستخبارات العالمية والتنبّوء للمستقبل وترسيم السياسات المختلفة، علي حذو ما عَهِدَته البشرية قديماً من استعمال الحكّام لهذا النمط من القوي والقدرات. ولم يبتعد الأنبياء والرسل والأوصياء عن استخدام هذه القوي أيضاً، بل بالدرجات العالية منه، أي بتوسّط الملكوت الأعلي، كما في المعاجز التي يظهرونها والتي تكون ذات تأثير حاسمة في النفوذ الإجتماعي في جملة من الموارد وبها يطّلعون علي مجريات الأحداث المستقبلية وصلة ارتباطها بالماضي والوضع الحالي فيرسمون السياسات الإلهية في المجتمع والأجيال عبر ذلك العلم.

ومن ذلك يجد الباحثون بالغ الصعوبة في تحليل سياسات الرسل و الأوصياء، حيث أنّهم في كثير من الموارد لا يجدون الظروف الموضوعية المحيطة بالحدث الذي كانوا فيه يتلائم مع السياسة المتّخذة منهم وهذه الصعوبة ناشئة من ضيق الأفق والظرف الذي تقرأ فيه مواقفهم عليهم السلام.

و قد ألجأت هذه الصعوبة جملة من الكُتّاب إلي تهجين والقول بسذاجة سياسات الأنبياء والأوصياء؛ هذا مضافاً إلي عدم اطلاع أولئك الكُتّاب علي الأهداف الإلهية المرسومة لهم عليهم السلام التي تطغي علي حركاتهم بلون الحكمة البالغة والتدبير الفائق إلي حدّ الاعجاز لا سيما و أنّ جملة من تلك الحِكَم تستلزم الخفاء والإخفاء قروناً متمادية أو طيلة الدهر البشرية كي تجد طريقها إلي التحقّق.

والحاصل إنّ الرسول صلي الله عليه و آله و سلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام قد مارسوا هذا الدور أيضاً حتي في الحقب التي لم يتسنّموا النمط الأول من الحكومة.

ثمّ إنّه لا يخفي أنّ استعمالهم لهذا

النمط من القدرة ليس بدرجة يُلغي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 211

الإمتحان و الإختيار عن البشرية وما سبق من أدوار الحكومة- في ما مرّ من الأنماط- بل لا جبر ولا تفويض و إنّما أمرٌ بين أمرين.

و بعبارة أخري: إنّ الإرادة البشرية الفردية و الإجتماعية الإختيارية لها مجال ودوائر معيّنة وما وراء تلك الدوائر وذلك المجال فهي تُعزي إلي أسباب القضاء والقدر الإلهي وبالتالي فيكون مجال هذا النمط الخامس.

وهذا هو الذي أسماه المتكلّمون بقاعدة اللطف من قِبَله تعالي ومن قِبَل خلفائه عليهم السلام.

*** توضيح ذلك:

إنّ البحث في بُعدين: بُعد ما هو المتداول الآن في الأدبيات السياسية؟ والبُعد الثاني مدي حجّية ما يقرّر هناك … ص: 211

أٌما البعد الأول الصغروي: في الأدبيات السياسية الحديثة … ص: 211

يعبّرون أنّ الحكومات البشرية في أيّ قطر من أقطار البلدان و إن كانت تختلف في الشكل الظاهري و لكن هناك جهة مشتركة و هي أنّه ليس هناك حكومة بسيطة، ففي الواقع الحكومات دائماً مركبّة من قدرات اجتماعية وحكومات اجتماعية متعددة.

في الشرائح الإجتماعية التي تختلف إمّا بسبب الدين أو الطائفة أو العِرق أو العنصر أو الصنعة والقدرة المالية وبأسباب متعددة … تري هناك إذاً قدرات وحكومات اجتماعية مختلفة في المجتمع الواحد، تتوازن علي معادلة وصيغة معينة، يسود فيها الأقوي والمتنفّذ إلي حدود لا بشكلٍ مطلق.

هذه أدبية وبالتالي لها بنود؛ منها: أنّ أيّ قدرة في التيّار الإجتماعي- سواء ثقافية أو مالية أو عسكرية أو اعتقادية أو عرفية- فيها حكومة، قد تداول قدرتها في بعض حقائب الوزارات ألتي هي بعض أبعاد الحكومة، وقد تداول قدرتها في كلّ الأبعاد. هذا بند من بنود الأدبيات السياسية التي لا يقرأها مَن لا يعرف الأبجديات السياسية علي ضوء العلوم والمقررات السياسية الحديثة في علم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 212

النظم السياسية.

هناك بندٌ آخر أيضاً في الأدبيات السياسية الحديثة و هو: أنّهم يفصّلون بين الحكومة السياسية و بين ألوان الحكومة الأخري؛ فألوان الحكومة

تختلف، حيث إنّ هناك حكومة قضائية، كما أنّه هناك حكومة تنفيذية، وحكومة سياسية، و حكومة تشريعية؛ مثلا لديهم أنّ الحكومة الدستورية وإن لم تكن حكومة بصياغاتها المعروفة و لكن في الإنعطافات الخطيرة في أيّ مجتمع، أقوي قوّة حاكمة بين رئاسة الجمهورية أو الوزراء وبين القوي القضائية المجلس التشريعي والقوي المقنّنة والمشرّعة؛ ففي الواقع المحكمة الدستورية لها دور معين.

فمن باب المثال في أوروبا أو أمريكا لا تجد قانوناً مدوّناً إنّ الأسود لا يُنتخب، بل الكلّ يُنتخب، لكن كعرف قانوني الذي هو أقوي من القانون المدّون، هذا العرف القانوني يقول إنّ الأبيض لا يَنتخِب الأسود ولذلك لا يُنتخب رئيس جمهورية أسود في أيّ دولة أوروبية، و لا في المناصب الحساسة جداً إلّا نادراً، أي إنّ نفس الطبيعة و التركيبة الأوروبية في ثقافتها القانونية هكذا رسّت.

فالذي يبني الأعراف يتحكّم في المسار أكثر من الحاكم السياسي، والحاكم السياسي له دائرة مرنة محدودة يتصرف فيها، ولا يقدر أن يتخطّي الخطوط الحمراء في الأعراف والمجتمعات لأيّ مجتمع؛ فالذي يبني الأعراف القانونية والأعراف من عادات وتقاليد وثقافة وغيرها هو في الواقع أكثر تحكّماً.

والحاكم السياسي أوّلًا: دائرته محدودة من حيث مرونة اللعبة السياسية أو الحكومة والقدرة والنفوذ ضمن الأعراف ولا يقدر أن يتخطّاها، هذا من جهة الدائرة التي يتحكم فيها. و ثانياً: دائرته الزمنية مؤقتة مهما يكن الحاكم السياسي، بخلاف الحاكم القانوني، فإنّه قد يحكم البلدان سنين مديدة؛ مثلًا ماركس فرضاً أو المؤسّس للفكر الإشتراكي، هو في الواقع بنوده وحاكميّته ورأيه يتحكّم في أجيال من البشر، لذلك عُرّف في علم السياسة حكومات حضارات أو حكومات قوانين.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 213

و الأنبياء يُعتبرون بُناة أعراف بشرية وإلي الآن لا زالوا يتحكّمون. وهذا أحد

معاني أنّ حاكميّة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم علي المسلمين و حاكمية الأئمة عليهم السلام علي المسلمين- حسب من ائتمّ به ممّن اتّخذ أئمّة في إمامة المسلمين- و هذه حكومة حضارية.

و هذه نقطة حلّ لمشكلة الخلاف بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم، هل هو الآن مؤثّر لدينا ام لا؟ و هم يظنّون أنّ البحث و الإختلاف منحصر في الحاكم السياسي، والآن الحاكم السياسي لا علي عليه السلام ولا عمر مثلا أو ولا السقيفة، ففي الواقع هذه قراءة ناقصة؛ لأنّنا إذا كنّا نقرأ النظام الإجتماعي السياسي فقط من بُعده السياسي، فتثير تلك المشكلة و لكنّا ضمن دائرة أعراف قانونية، هل استقيناها من ألف أو من باء أو من جيم أو من دال؟

و في إثارتي مع أحمد الكاتب ذكرت له هذه في بعض الأجوبة أنّه في الحكومات هناك حكومة حضارية، و حكومة قانونية و حكومة أعراف بشرية وعادات، بل حكومة أخلاقية. فالحاكم السياسي صحيح أنه مرن ولكن عندما يصل إلي ثوابت أخلاقية عند المجتمع، فلا يمكن للمجتمع أن يقرّ عليها الحاكم إذا تخطاها.

هاتان الأدبيّتان مهمة جداً في قراءة النص الديني في الفقه السياسي، بل وفي الفقه العقائدي أيضاً؛ بل و في قراءة التاريخ الإسلامي.

أما هذان البندان في العلوم والأدبيات السياسية هل لها حجية في قراءة النص أو لا؟ فها هو البُعد الثاني من البحث.

البُعد الثاني: حجّية هذه الأدبيات … ص: 213
اشارة

فيُبحَثُ فيه من وجوه عديدة:

أحدها: ما قرّره علماء الأصول من أنّ في عمليّة الإستنباط، في أيّ علم من

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 214

العلوم الإسلامية، عندما يريد العالم أو الفقيه أن يستنبط، بادئ ذي بدء ينتقل من علاقة اللفظ أو ألفاظ النص الي المعني، وهذا الدور هو ما يرتبط بحجّية قول اللغوي.

بعد أن يصل إلي

المعني فاللغوي يفارق البحث وليس المعني من اختصاص اللغوي، فالمعني ما هي ماهيّته؟ ما هو جنسه و فصله و خصوصياته و طبيعته؟ هذا ليس من اختصاص اللغوي، بل جميع علوم اللغة و الأدب، جسرٌ واصل بين اللفظ والمعني، أمّا المعني و شؤونه الخاصّة به فليست من شأن اللغوي.

فهنا يأتي دور آخر، وليس هو للفقيه، أو الباحث في العلوم الإسلامية الأخري كالمفسّر والمحدّث والمتكلّم والمؤرّخ وغيرهم وإن كان يشرف علي هذه العملية بدقّة، بل يأتي دور النخبة وأهل الخبرة في كلّ تخصّص؛ مثلًا في الموضوع الطبي يجب علي الطبيب أن يشرح لنا أنّ المرأة لها ماء أو ليس لها ماء؟

و أنّه هل تختلف طبيعة ماء المرأة أصلا أو لا تختلف؟ هل يمكن أن تأتي الدورة الشهرية بدون رحم أو لا تأتي ممن اقتلع رحمها؟ فهل يمكن أن تحيض أو لا؟

ليس من الجهة الشرعية، بل من الجهة الطبيعية والدورة الشهرية.

أو في الموضوع الفلكي يأتينا المنجّم يقول فما معني أنّهم يقولون أول الشهر كذا، فهل الشهر هناك شهران: شهر فلكي محاقي؟ و شهر هلالي استطلاعي؟ أو مثلا في المسح إلي الكعبين، ما هو الكعب عند الأطباء وعلماء التشريح؟ تجد علماءنا مثل صاحب الجواهر و الآغا رضا الهمداني و الميرزا فتح اللَّه الأصفهاني شيخ الشريعة و الملا هادي المحقّق الطهراني و غيرهم نقلوانصوصاً عن علماء التشريح أنّ الكعب ما هو؟

فلماذا يستعين الفقيه بأهل التشريح و الطب؟ لأنّ هذه الموضوعات موضوعات من علم التشريح و يُبحث عن ماهيتها في علم التشريح؛ و نأتي إلي بحوث أخري، كبحث النقد؛ و تضخّم النقد؛ هل يضمن أو لا يضمن و ما هو

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 215

معني التضخّم؟ فلا بدّ للفقيه أن يستعين

بعلماء النقد والمال؛ و في العمليات المصرفية لابدّ للفقيه في تحديد الموضوعات من الرجوع إلي أصحابها. فتحديد الموضوع خبرويّاً كتحديد الموضوع لغة، فيعرف ما هي ماهيّته و حقيقته؟ لكي يبدي صورة علي أساس ذلك.

يقولون إنّ العلّامة الحلّي ربما هو أعلم من المحقّق الحلّي في المعاملات، لأنّ عنده خبروية موضوعية في المعاملات أكثر من المحقّق، بينما المحقّق في العبادات كما يقال و إن كان هذا يحتاج إلي مسح ميداني أقوي، لأنّه مارس في بنود العبادات أكثر من العلّامة الحلّي. بما امتاز العلّامة الحلّي؟ يقولون إنّه حينما يدخل في المزارعة، كأنّما عنده خبرة مزارع، و عندما يدخل في المضاربة كأنّما هو حرّاف دلّال في السمسرة، وهذا في الواقع يرجع إلي الإلمام في الموضوع.

و هذا بحث مهم في نفسه، فيه جدلية بين المثقّفين وبين الحوزويين و بين الغربيين و بين الشرقيين، أين دور الدين و دور العلم؟ هل العلم يتصادم مع الدين أو بالعكس هناك التئام؟ هذه بحوث بنيوية، وأمّ وأسس، تفتح مجالا لكلّ هذه الأبحاث، لا نخوض فيها، بل نشير إلي فوائدها.

نرجع إلي أصل البحث وهو: أنّ حجّية قول أهل الخبرة في تحديد الموضوع إنّما هي من باب حجّية قول أهل الخبرة. في الفقه الجعفري، بل في فقه المذاهب الإسلامية، كلّهم مجمعون علي أنّ لأهل الخبرة حجّيةً في دائرة خبرويتهم لا في ما وراءها؛ و قولهم حجّة كما أنّ قول اللغوي حجّة و هذا وجه لحجّية الأدبيات السياسية.

الوجه الآخر: إنّ هذه الأمور في الأدبيات السياسية ليست من قبيل التقنينات الإعتبارية، لكي نقول إنّ الإعتبارات الشرعية تختلف عن الإعتبارات السياسية أو النُظُم الوضعية. هذه عبارة عن تحليل لَمَسات ظواهر تكوينية، فإنّ القدرة ليست هي اعتبارية و إنّما هي

ممارسة نفوذ خارجي، العلوم السياسية تحلّل ظواهر نفوذ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 216

القدرة في المجتمع، وهي قدرة خارجية، و ليست اعتبارية مقنّنة، هي موجودة لا أنّها تابعة لاعتبار أو تقنين.

و لذلك أنت تري عمليّة الإستشراق، فما هو المستشرق؟ إنّهم لا يستطيعون أن يكوّنوا صورة عن الشرق الأوسط ضمن المعطيات التي حسب بيئاتهم وتقنيناتهم، بل لابدّ أن يدرسوا البيئة الشرقية نفسها بما لها من ظواهر ونفوذ وموازنات ومعاملات اجتماعية ثقافية دينية عبادية شعارية و ما شابه ذلك؛ فحينئذ يستطيعون أن يتعاملون مع هذا النظام الإجتماعي الذي له موازنات معيّنة و يلعبون في تلك الموازنات والمعادلات ويسيطرون عليها.

فنحن أيضاً لكي نهدي الغرب لابدّ أن نستغرب ويصير لدينا عمليّة إستغراب، أي ندرس البيئة الغربية؛ لا أنّه نحمل تصورات عن بيئتنا ونريد أن نطّبقها بحذافيرها علي البيئة الغربية؛ لأنّ البيئة الغربية لها معادلاتها الإجتماعية المعيّنة، موازناتها؛ ثوابتها ومتغيّراتها؛ فلا بدّ أن ندرسها لكي نري أنّ الحلّ الإسلامي في كلّياته يستطيع أن ينطبق عليهم بغير ما ينطبق علينا، لكن مع ثبات الجانب الثابت الديني؟

وهذه الأمور في تحليل الأدبيات السياسية، لاتخضع لاعتبار أو قانون و إنّما هي لمس لظواهر ميدانية في النظام الاجتماعي، لذلك مع أنّ المرجعية ليست بظاهرة عندهم ولكن هم يحلّلونها حسب ما يجدونه من مسح ميداني استبياني، إنّ ظاهرة النفوذ ونسيج النظام الإجتماعي في الشرق عند الشيعة بهذا الشكل؛ هذا باختصار في الجانب الموضوعي.

فقه النُظُم علي ضوء الثابت والمتغيّر … ص: 216

إنّ فقه النُظُم ليس هو ثابت محض ولا متغيّر محض وإنّما هو نوع في الثابت الديني والمتغيّر الديني؛ لأنّ الإسلام لا يعيّن نظاماً بيئيّاً خاصاً و إلا لَفَشَل الدين

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 217

الإسلامي في الخلود واستمرارية الدين في مواكبة كلّ الأدوار والبيئات والأعصار،

و إنّما يحددّ ثوابت كلّيّة تنسجم مع روح الثوابت الدينية. أمّا أن نقول لا نستلم أيّ نتائج تجريبية بشرية، فهذا إغفال للجانب المتغيّر، و لا أن نطغي الجانب المتغيّر علي الجانب الثابت الديني و إنّما نوزن بين الجانب المتغيّر و الجانب الثابت بدقّة أصولية وصناعية فقهية و كلامية.

حصر السلطة بالرسمية من أدبيات السياسة القديمة … ص: 217

الأدبيات السياسية في القديم تقول إنّ الحكومة الرسمية العلنية هي فقط الحكومة و لا غير، ولكن الآن طَوَّروها و بدّلوها ولذلك أقول في جهة الموضوعات لا مفرّ من البحث في قراءة النص الديني من دور أهل الخبرة، لأنّه من باب تحديد نفس المعني اللغوي.

إنّ السلطة هي كلّ نفوذ و قدرة تمارس نفوذاً في المجتمع أو شريحة من المجتمع، سواء وجد الإعتراف الرسمي من دول أخري أو مجتمعات أخري، أو من داخل النطاق الداخلي لممارسة صاحب النفوذ نفوذه أم لا يوجد؛ فهذا لا يغيّر من واقع السلطنه بحال؛ مثلا كثير من القبائل لا يعترف بسلطتها رسمياً. السلطة إن كان لها وجود فهي و كثير من السلطات في الأدبيات السياسية من هذا القبيل.

و يُذكر إنّ سلطة المال حسب النظرية الرأسمالية هي أقوي السلطات؛ فهي التي تحرّك السلطة العسكرية و هي التي تحرّك السلطة السرّية الخفيّة المافيا، يعني تتلاعب فيها كما تشاء و تحرّك السلطات الصناعية والسياسية وما شابه ذلك. و إن كان نحن في قناعاتنا نعتقد أنّ السلطة العقائدية التي هي السلطة العليا الحضارية و الثقافية و مهما تكن السلطة المالية فهي سلطة قزمة محدودة في دائرة معيّنة وقتية، بخلاف تلك.

و أما بالنسبة للحاكم الحضاري والحاكم السياسي فالحضارة هي ممارسة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 218

طرق الوصول إلي السعادة البشرية، عن طريق دراسة عوامل مختلفة بشكل هيكلي إجمالي وكيفية تأثيرها

في سعادة الإنسان وأدوار سعادة الإنسان في مجالات عديدة وكمال الإنسان وتمدّنه ومدنيّته، و انّه ما هي المدنيّة وتعريفها وما شابه ذلك. و هذا الذي يؤثّر في مدنيّة وسعادة وكمال الإنسان كثيراً؛ فهذا لا ريب أنّ له دوراً في الرؤية العقائدية و الرؤية الثقافية والأخلاقية والحقوقية، ثم تأتي الأدوار الأخري السياسية، القضائية و العسكرية والمالية والأسرية وما شابه ذلك؛ فهذه أذرع وشعب وبني هرمية متشعّبة من هذا الهرم الكبير.

إنّ الرؤية الكونية تؤثّر علي النظرة التي نسمّيها باصطلاحنا العقائدية- سواء عقيدة الماديين أو عقيدة الإلهيين أو أيّ عقيدة أخري- هي تؤثّر في البنيةِ الأخلاقية؛ و المدرسةُ الأخلاقية تؤثّر في توليد منظومةٍ حقوقية، والمنظومةُ الحقوقية تؤثّر في توليد القوانين و القوانينُ تُهَيمِن علي النُظُم السياسية ويتفرّع بقية النُظُم الأخري المتشعّبة منها. الرؤية الفكرية تهيمن علي النظامات الأخري، فمن يقول بعدم وجود ماوراء الطبيعة و إنّه ليس هناك إلا الفيزياء والطبيعة.

فالأصل عنده في الإنسان حقوقه الطبيعية و غرائزه لا الجانب الخُلقي، فهو تعدم الأخلاق وتبني نسيج القوانين علي ضوء هذه الرؤية الكونية الفلسفية و يتلوّن بألوان مختلفة في مجالات متعدّدة كأومانيزم أو سكولاريزم أو مدرسة الفيمينيسم. فهذه مدارس متعدّدة أصلها يبدأ برؤية فلسفية، أي عقائدية معرفية، ثمّ تضفي بظلالها علي البُني الأخلاقية والنظام الأخلاقي، ثمّ النظام الأخلاقي علي الحقوقي، ثمّ النظام القانوني ثمّ النظام السياسي؛ و علي هذا حتي المفردات السياسية كالعدالة الإجتماعية و الحرّية الإجتماعية و المساواة الإجتماعية و الحقوق و الإحترام و الإرهاب يختلف معناها. كلّ هذه المفردات في الواقع منشعبة من الفلسفة الحقوقية، وهي متشعبة من الفلسفة الأخلاقية وهي متشعبة من الفلسفة المعرفية أي العقائدية. فاذاً الذي يتحكّم في المعرفة والعقائد- وهو

اسس النظام السياسي عندالامامية،

ص: 219

الشغل الشاغل للأنبياء وذوي الحضارات- هو الذي يتحكّم في مسار الأمم في الواقع.

أضف إلي هذا البيان:

إنّ العرف قانون مُفعِّل أشدّ من القانون المدوَّن، وهذا البيان موجود في القرآن أيضاً يشير إليه العلّامة الطباطبائي في تفسير (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) بأنّ المراد الأعراف التي هي قوانين متمرّسة، و لديّ تعريف في علم الأصول للسيرة، فبدل أن نسمّيها «السيرة» كتعريف، فواقع السيرة هو قانون مُفعِّل نشط، سواء السيرة العقلائية أو حتي السيرة المتشرعية. فالقانون له مراحل و مدارج غير الحكم الإنشائي والفعلي والتنجيز والإمتثال، هناك قانون مُفعِّل غير النطق الرسمي للقانون وإبلاغه، و هو الممارسة، هذا يأخذ الإبلاغ فيه جذوره، ويشير إليه الحديث النبوي:

فمَن سَنَّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلي يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيّئة كان عليه وزرها وَوِزر من عمل بها إلي يوم القيامة.

فهذه الجذور وهذا العرف له دراسة نحن نتناولها أيضاً في علم الأصول بألفاظ تختلف عن اللغة الموجودة في العلوم القانونية والسياسية.

وهذا يصبّ أيضاً في نفس المطلب وهو أنّ الذي يتحكّم في الأعراف يكون أكثر نفاذاً مِنَ الذي يتحكّم في القوانين المدوّنة، فضلًا عن النظام السياسي. ربما يعتبر الحاكم السياسي في رتبة محافظ للحاكم العرفي، لأنّ الحاكم العرفي هو الذي يتحكّم في الأعراف.

و عليه فإنّ حصر السلطة بالسلطة السياسية (الرسمية) هو الخطأ الذي يقعون فيه، فإنّها أحد نوافذ السلطة و آليّة تطبيقية تتحكّم فيها آليّات أخري فوقها مهيمنة من حيث نشعر أو لا نشعر، لسنا في صدد نفي أنّ السلطة السياسية هي سلطة، بل هي سلطة وهي من الأهداف الإسلامية وأهداف المشروع الديني،

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 220

وأهداف مشروع الأئمة عليهم السلام، ولكن الكلام في هذا

المجال، و هو أنّه ليس دور النفوذ والقدرة محصوراً في السلطة السياسية، بل هي أحد الأدوار وأحد القدرات، ولها رتبتها وموقعها ونوبتها ودورها.

وربما هذا الدور قد يؤثّر حتي في الأدوار العالية كما عرف أنّ المذاهب كثيراً منها نشأت من السياسات؛ لأنّ السياسة لا بدّ أن تبني علي بني خلقية حقوقية عقائدية كي تشرعَن و بالتالي هذا السائس الذي لا يريد أن يسير علي الجادة الصحيحة لا بدّ أن يشرعن لنفسه بني أخري غير الموجودة، كي يستطيع له أن يسير في هذا المسار السياسي، وهذا يدلّ علي ترابط هذه الحلقات ومدي خطورة السلطة السياسية أيضاً في التأثير حتي في السلطة الحضارية وتأثيرها في السلطة القانونية والسلطة الثقافية.

فلسنا- اذن- في صدد إلغاء السلطة السياسية كهدف للمشروع الإلهي وإنّما في صدد بيان أنّها ليست هي النافذة الوحيدة، وإنّما هناك نوافذ أخري للتأثير وأشكال أخري وطرق أخري ولا تنحصر في دور واحد.

الهدف هو إقامة أحكام الدين ضمن السلطات المختلفة … ص: 220

إنّ الهدف عند أهل البيت عليهم السلام دوماً هو السعي في إقامة أحكام الدين، هذا هو الهدف الأقصي الذي لابدّ من عدم التخلّي عنه في حال من الأحوال؛ غاية الأمر إنّه لا ريب في أنّ الطور الأمثل والأتمّ والأكمل لإقامة أحكام الدين، هو إذا كانت كلّ السلطات بيدهم عليهم السلام، سواء السلطة السياسية أو السلطة القانونية التشريعية أو القضائية الرسمية أو التي في الظلّ، أو كذلك التوجيه العقائدي والبني العقائدية، وأيضاً سلطة بناء الأعراف في المسلمين التي هي سلطة تركّز عليها الآن الدراسات الدولية بشكل مهم أو السلطة الخفية التي هي نوع من أنواع السلطة التي يمارسونها هُم عليهم السلام و تشير إليها عدّة آيات وسور قد نتعرّض لها في بحث لاحق

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 221

وروايات

كذلك عند الفريقين. فهناك سلطات خفية متداولة منذآدم عليه السلام إلي النبي إبراهيم ونوح و موسي و عيسي و بقية الأنبياء والذي هو الآن في بناء الدولة عُرف الأجنحة الخفية، بل هي ليست جناحاً، بل جسم كامل متداخل في الجسم المعلَن للدولة، وهذا الجسم هو في الواقع كالروح يسيّر نظام الدولة وربما في هذا الجهاز الخفي ما هو أخفي منه وهو كالروح لتلك الروح أيضاً، كما هو في طبقات الإنسان الفرد، فأيضاً في طبقات الإنسان المجموع.

و استكمال النظام الإجتماعي كنظام حديدي متكامل نموذجي قوي، كلّ ما يحاذي الفرد بحسب وجوداته وطبقاته، فإنّه يستكمل قوّة واستحكاماً وجدارة وَرُقيً و تطوّراً أكثر وأكثر. في كافّة الجوانب.

و لا ريب أنّ استكمال إقامة الحكومة الإسلامية بجمع السلطات كلّها، هو أكمل نموذج يطرحه أهل البيت عليهم السلام و هو نص التشريع علي إمامة أمير المؤمنين و الأئمة عليهم السلام لكن الكلام في أنّهم عليهم السلام لا يحكرون ولا يحبسون أنفسهم ولا نوّابهم ولا رعيّتهم في إقامة الأحكام الإسلامية عبر شكل واحد من السلطة، بل عبر أشكال متعدّدة و لا ريب أنّ استجماع أنواع السلطة يؤدّي إلي إقامة النمط الأكمل، لكن قد تكون ظروف قاهرة لقوّة المتغلّبين أو المعاندين أو ظروف أخري كخذلان الناصر وما شابه ذلك، يؤدّي شكل من أشكال السلطة إلي أنّ هذه السلطة بدل ما تؤدّي إلي إقامة الأحكام الإسلامية تؤدّي إلي مسخ الأحكام الإسلامية أو قلب الأحكام الإسلامية وذلك بيد مَن يكون في تلك السلطة.

فهذا بلا شك يرفضه المعصوم، لأنّ الغاية النهائية لديه هي إقامة الأحكام؛ فأيّ وقت يشعر أنّ هذا النوع من النفوذ أو السلطة بسبب القوة المعارضة الأخري أو المعاندة الأخري يؤدّي إلي أنّ صاحب السلطة يكون مقوداً

لا قائداً مثلًا، فإنّهم عليهم السلام لا يحصرون العمل ضمن هذه النافذة من نوافذ السلطة، بل عندهم نوافذ أخري مرونة تحرّك و مرونة عمل وسلاسة عمل و لا سيما أنّ بعض نوافذ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 222

السلطة لا يتخلّون عنها بحال من الأحوال، كسلطة التوجيه الإعتقادي والعقائدي والمعرفة الدينية.

و يعبّر كثير من أئمة الرجال الشيعة، أنّ بعض بديهيات مذهب التشيع الآن، كانت في السابق نظرية أو ربما يظن خلافها عند الرواة، لكنه ببركات أئمة أهل البيت عليهم السلام و توجيهاتهم للعلماء من أصحابهم الذين تربوا علي علومهم ونوّابهم سواء في النيابة العامّة أو الخاصّة، خلقوا مثل هذه الأمور التي هي حقائق كانت نظرية فأصبحت بديهية لا سيما علي أنّ البديهية والنظرية أمر نسبي إلي حدّ ما في غير الرأسمال الأصلي من بديهيات الإنسان.

فلذا دورهم في السلطة العقائدية و في سلطة التغيير الإجتماعي لا يتركونه.

فمن زمن الرسول صلي الله عليه و آله و سلم أعطي للفقهاء مسند النيابة، فآية النفر للتفقه في الدين نزلت في زمن النبي صلي الله عليه و آله و سلم. حتي في القضاء كما هو نص سورة المائدة:

«إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُديً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» «1»

طبقات ثلاث:

الطبقة الأولي: الأنبياء وهم الحكّام، ثمّ الرّبانيون وهم غير الأحبار العلماء.

الربانيون يعني المعصومون الأوصياء والأحبار العلماء، إذاً هناك سلسلة طولية موجودة حتي في زمن المعصومين، بل وفي زمن النبي صلي الله عليه و آله و سلم

و هي: النبي، ثمّ الوصي، ثمّ الفقهاء. فإنّ النبي يرسل سعد بن معاذأوسعد بن عبادةأو يرسل أباذر أو غيرهم، فهؤلاء فقهاء تربوا في مهد النبي أو الوصي. ولا ريب أن النظام

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 223

الإسلامي كنظام- حتي نظام كجسم، فضلًا عن الأمّة- يتطلب مساعدين و أذرع كثيرة وأيدي، فإذاً دور الفقهاء سواء في الفتيا أو في القضاء أو في الحكم نيابة في طول حاكميّة اللَّه ورسوله وأوصيائه كان و لا يزال، و هذا لا يمكن التفريط فيه، هذا أيضاً ذراع من أذرع سلطة الأئمة عليهم السلام، سواء في ظهورهم أو غيبتهم و سواء في الجانب العقائدي أو في جانب بناء الأعراف الصحيحة واستصلاح واقتلاع الأعراف المريضة المكبّلة للمجتمع عن رقيّها الديني ورقيّها الإنساني والتكاملي، وبناء الأعراف القانونية والتقنينات وتبيان دفع الشبهات والحفاظ علي الدين و القضاء، حتي في دولة الظلّ التي كانت تعيشها الشيعة دائماً كما ورد عن الصادق عليه السلام:

انظروا إلي رجل منكم روي حديثنا وعرف أحكامنا، فاجعلوه حاكما فإنّي جعلته عليكم حاكماً.

حتي في تقريرٍ أمنيٍ ذكره الكشّي لأحد المخبرين لهارون العباسي، أنّ الشيعة كم قسم؟ قال: الشيعة في الكوفة علي أقسام: زرارية وعمارية ومسلمية، يعني كلّ مرجعية لها تيّارها الخاص في الكوفة، وهذا في زمن الإمام الصادق و الإمام الكاظم عليهما السلام ممّا يدلّ علي أنّ الفقهاء كانوا توابع لهم في مجالات الحكم القضائي في دولة الظل أو في الفتيا التي هي قوة تشريعية.

تري إذاً نسيج الطائفة الإمامية يحتكمون ويأتمرون في دولة الظل وكانت الدولة العباسية والأموية إلي حدٍ مّا تقبل بهذه الموازنة، أنّ شيعة علي عليه السلام كطائفة وكتيّار في الأمّة، لهم نسيجهم الخاص وبنودهم الخاصة والأحوال الشخصية الخاصّة التي يعيشونها في الأسرة ونظام الزواج

والطلاق. و يعيشون في نظام مالي و تقنيني خاصّ و أعراف خاصّة، وإن كانوا يشتركون مع باقي فئات الأمّة في عناصر أخري.

بناء التشيع أصلا كطائفة هو بناء دولة لم يأت لها الحين لأن تتمكّن من كلّ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 224

السلطات، لكن لها سلطاتها الخاصة. كما مرّت رواية هارون مع الإمام الكاظم عليه السلام:

أفي بلاد المسلمين خليفتان؟ أنت في بغداد، وراءك عشرون ألف سيف ضارب وموسي بن جعفر في المدينة و شيعته يقدرون بسبعين ألف سيف ضارب وتجبي إليه الأموال.

هناك نقاط تحتاج إلي بسط: … ص: 224

النقطة الاولي: حول الأسلوب السلمي … ص: 224

إنّ طبيعة السلم والحالة السلمية ليس معناه الإنكماش و أنّه علي وتيرة واحدة، بل هي تختلف مثلًا الإمام زين العابدين عليه السلام كانت حالة الشدة عنده في العمل الخفي علي درجة عالية جداً، باعتبار أنّ الوضع كان متكهرباً جداً، كان وضعا استخبارياً وضع عصابات وبشراسة شديدة؛ بينما في زمان الإمام الباقر عليه السلام خفّ الوضع و في زمان الصادق عليه السلام أكثر، وحتي في زمان الإمام الصادق عليه السلام حالاته تختلف؛ في قضية المعلّي ابن خنيس نجد أنّ الإمام الصادق عليه السلام ذهب واقتص من والي الدولة الذي ارتكب الأجرام، و لم يسمح أن تتجاوز الدولة حدودها بشكل سافر، لكن في مواضع أخري تري الإمام الصادق عليه السلام ربما لمس أو ارتأي أنّ الجانب الخفي أنجح و أنجع.

و في حالة الإمام الكاظم عليه السلام نجد مع أنّه كان أسلوبا سلمياً، لكن مع شدّة، مثلًا عندما أتي هارون العباسي ليقسم القسم الدستوري باصطلاح اليوم وبالإصطلاح القديم يزور النبي صلي الله عليه و آله و سلم أول ما يتسلّم منصب الخلافة و تعني هذا الحلف الدستوري تقريباً في عرف المسلمين آنذاك.

قد كانت الإمبراطورية العباسية في ذاك الوقت

بالغة ما لم تبلغه إمبراطورية المسلمين في ذلك الوقت و يجد نفسه كامبراطور؛ فهو بين حشود الدولة و صداها جاء الي قبر النبي صلي الله عليه و آله و سلم و قال: السلام عليك يابن العمّ. و في ذلك الوقت

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 225

يأتي الإمام الكاظم عليه السلام ويخترق الصفوف ويقول: السلام عليك يا جداه! و هذا يعني شرعيتي في الحكم اكثر من شرعية هارون الرشيد العباسي. أيضاً في تلك السنة يحجّ هارون العباسي فيطوف الإمام الكاظم عليه السلام أمامه ثمّ يأتي هارون ليصلي في مقام ابراهيم عليه السلام فيصلي الامام أمامه، هذا نوع من المعارضة و إبداء العصيان المدني نشاهده في الإمام الكاظم عليه السلام أكثر منه في سائر الأئمة الباقين.

إنّ أئمتنا عليهم السلام رفضوا أن يتسلّموا أيّ منصب. هذا حالة عصيان صارخ في هذه النافذة من عملهم ومن الواضح أنّها إدانة صارخة وبيّنة، رفضوا أيّ تسلّم قضاء و أيّ شرعنة فتوي لخطوة قام بها الحاكم.

ونشاهد هذا في سيرة علماء الشيعة، فإنّ كثيراً منهم و إن رفضوا الثورات الساخنة أو المسلّحة، لكنه يأبي أيّ تولّي منصب أو ربما يسمح لآخرين ولكنه يرفضها لنفسه، لأنّه يجد في خروجه عن الدولة الرسمية نوع إدانة دائمة يهددها كما حدث ذلك للسيد البروجردي والشيخ عبد الكريم الحائري أو الآخوند الخراساني أو الميرزا الشيرازي صاحب فتوي التنباكو. إذن ليس حالة إرخاء دائماً بل شدّ وإرخاء، وهي كموازنة سياسية ومعادلة سياسية يجب أن تتخذ أدواراً مختلفة.

الضابطة كلّ الضابطة هي أنّه يجب أن لا نفرط في حدّ من الحدود الإلهية تحت طائلة أنّه إقامة الحكم. و يجب أن لا نتقوقع في نافذة و شكل وفي زيّ و أطروحة وفي إطار

سياسي خاص ونقول هو هذا ولا غير. فالآليّات في العمل لا تنحصر بطريقة وبجهة معيّنة، بل الإنسان دائماً يكون مرناً لا بمعني إنّه يفرط بالحدود، بل مرونته لئلّا يفرط في الحدود ولئلّا يتكاسل ويتقاعس، بل بالعكس إذا حبس وَقَوْقَعَ الإنسان نفسه في شاكلة معيّنة من العمل السياسي لا يستطيع أن يثير تغييراً وحيوية في المسار و قد يفقد المبادرة في التغيير الإصلاحي؛ يكون هذا هو الجمود.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 226

و من ثمّ نستطيع أن نقرأ الروايات التي تنهي عن الخروج أنّه لا تعرض نفسك بمعني و لا تحبس و لا تقوقع نفسك في شاكلة السلطة الرسمية ولديك طرق عديدة للوصول اليها بصورة مغلفة.

النقطة الثانية: إنّ بعض الأمور حاضرة عند الإنسان بالإرتكاز … ص: 226

ويتعاطاها بالإرتكاز، لكن مع ذلك لايتبلور ولذلك اذا واجه بمسائل منشعبة عنه أو بأحكام وتفريعات وبمقابلات مع إرتكازات أخري، حيث إنّ هذا الإرتكاز موجود بشكل اجمالي عند الإنسان، فلا يقتدر علي تفريع الإنشعابات علي ضوئه إلّا بالبلورة التفصيلية التحليلية؛ كمثال أذكر: إنّه نحن أبناء اللغة العربية توجد القواعد لدينا بالإرتكاز، لكن أبناء غير اللغة العربية يدرسونها بشكل البسط والتفصيل للمرتكزات الإجمالية الموجودة. فالمعلومات التي عند الإنسان يتعاطاها الانسان بنحوين:

بنحو علوم إجمالية إرتكازية وبنحو تفصيلية تحليليّة مبسّطة.

و الذي يمكن أن يدّعيه انسان أنّ الأعلام إرتكازاً يتعاطون هذا الأمر، ولكن كبلورة تفصيلية في الآونة الأخيرة أخذت تظهر هذه البلورات و إلّا فإنّ كثيراً من القناعات التي يحملها جملة من فقهائنا مبتنية علي بعض البلورات في الأدبيات السياسية القديمة..

و كثير من الدرر الموجودة في القرآن الكريم، لم يكن السابقون من الفقهاء يقرأون من النص القرآني ما نقرأه الآن بسبب أنّ نفس طبيعة الموضوعات عندما تتبلور بشكل أكثر عند الإنسان يري أنّ القرآن أعطاها موقفاً

لم نكن نحن ملتفتين اليه، أعطاها رؤية دينية، لكن البشر لايلتفتون إلّا بحسب الإبتلاءات فيتبلور لديهم كيف يستخرجونها من القرآن الكريم والروايات.

مثلا هذه الآية الكريمة:

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 227

«إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثي وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» «1»

هل الإسلام يشطب القومية والعنصرية والوطنية كما أنّ العولمة تريد أن تشطب الهويّة القومية والهويّة الثقافية أو أنّ للوطنية دوراً في التقنين؟

هذه الآية الكريمة تعطينا أسس التشريع أنّ القومية الوطنية كيف؟

والوَحْدَويّة أو العولمة البشرية أين؟ من جهة الروح والايمان وَحْدَويّة عولمية و من جهة بعض عوامل البيئة تعطيها الآية الكريمة دوراً في التقنين لكن لا بقول مطلق كي تكون عصبيات خاطئة جاهلة ولا أيضا ماحي لها بالمرّة لكي لا تكون لها أيّ دور وتخترق القوميات من قوميات أخري باسم العولمة وغيرها ويصير فيها استعمار من نوع جديد وتحميل لثقافات أو نظم أو أفكار أو رؤي من أمّة لأمّة أخري.

فالقرآن يقول: لتعارفوا يعني لتتبادلوا مصالح المعاش، هو حدود وغاية المواطنة و القومية أو العنصرية لا ينفيها ولا يفندها؛ أمّا في الأحكام التي تعتمد علي القيم، فتلك مدارها التقوي والإنتماء الديني؛ فعندنا إذاً ملفّان من الأحكام في التشريع؛ ملفّ يرجع إلي الإنتماء الديني والمذهبي، وملفّ يرجع إلي الإنتماء الوطني والقومي والعنصري ولكن كيف تبيّن حدوده وقيوده وضوابطه؟ فهذه الآية الكريمة لم تكن في السابق سوي آية خُلقية، أمّا الآن فتعتبر من آيات التشريع المحتدم جدّاً.

في مطلع سورة الكهف توجد هذه الاية الكريمة

«فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلي آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» «2»

يعني: تريد أن تهلك نفسك حرصا علي هدايتهم. بعد ذلك الباري تعالي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 228

يرشد أن لا

ييأس الإنسان و لا يتأذي ولا يحصل له الإحباط من عدم تحقّق أهداف الرسالة له.

هناك عدة طرق تطرحها سورة الكهف في إنجاز أهداف الرسالة:

الطريق الأول: قضيّة أصحاب الكهف (من الآية 9 إلي الآية 26 تقريباً)

أصحاب الكهف هدايتهم ليست برسول ولانبي في الظاهر و إنّما بهداية فطرية. و هذه الهداية الفطرية هي هداية ملكوتية نوريّة عبر الإمام في ذلك العصر كما قالوا: إنّ النفوس الجزئية مرتبطة بالنفس الكلّية والنفس الكلّية مرتبطة بالعقول، و بعبارة أخري: إنّ نور الإمام في قلوب المؤمنين أبين من نور الشمس في النهار وهذا هو نور هداية فطرية.

الطريق الثاني: آدم عليه السلام مع الملائكة

و قصة آدم عليه السلام مع الملائكة ليست نبوة ولا رسالة «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» لم يعبّر القرآن الكريم إنّي جاعل في الأرض نبياً أو رسولًا، بل خليفة يعني يستخلف، يتصرّف و يقتدر و أحد عناوين الإمام في القرآن عنوان الخليفة، لأنّ الإستخلاف قدرة تصرّف و إدارة، هنا يطرح القرآن الكريم ذلك عن طريق آدم والخلافة و يتبين أنّ هذا عن طريق الإمامة و أنّ الإمامة هي التي تنجز هداية ايصالية.

الطريق الثالث: طريقة الخضر عليه السلام (تبدأ من الآية 60 إلي الآية 82 تقريباً)

كأنّما قصة من باب ايصال الفكرة الأمن السرّي الغامضة الرمزية المؤثّرة في ثلاثة أمور في النظام الإجتماعي جداً:

1. قضية الظلم الإقتصادي، في حكاية السفينة- من الآية 71 الي 79- بيان للظلم الإقتصادي أو الإجتماعي، فالخضر له تدخّل في العدالة الإجتماعية بشكل أن الحاكم الرسمي يريد أن يزيد من الإجحاف والظلم الإجتماعي والإقتصادي،

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 229

لكن هناك أنواع من المعوقات في تدبيرات أولياء اللَّه علي أرضه تعاوق هذه الحكومة الرسمية عن أن تنفّذ كلّ

ما تريد، و الآن الدول الكبري يبنون علي مشروع ويرسمون رؤية ونظرية مستقبلية، ثم يشاهدون في النتائج أنّ البيئة غير ما كان في الحسبان، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فيبيّن أنّ الخضر له دور في العدالة الإجتماعية و السفينة رمز لرأس مال ثروة يغتصبها غصبا ومن ورائها ملك واللطيف أنّ الخضر لا يتقيّد ببلد دون بلد، بل في هذا البلد وفي ذاك، يعني له دور مكوكي في قراءة أمنية سياسية.

2. والحدث الآخر الذي قام به الخضر أمام النبي موسي عليه السلام هو قتل الشاب وفي روايات الفريقين أنّ هذا الشاب كان يعاوق تنسيل نسل طاهر سبعين نبياً، يعني كان ربما يؤدّي إلي صدمة في والديه الذين هما صالحان؛ سينجبان بنتاً تنجب سبعين نبياً بالتنسيل الذري؛ فله دور في استصلاح النسل البشري أو المحافظة علي الهداية التشريعية البشرية أيضاً، فهذا دور آخر خطير ترسمه لنا الآية الكريمة في سورة الكهف.

3. الدور الثالث: بناء الجدار

تستطيع أن تسميه مؤسسة كفالة عوائل الشهداء فالدولة الخفية التي يقوم بها الخضر مسئولة عن كفالة الأسر الصالحة الايمانية وهذا يدخل أيضاً في العدالة الإجتماعية.

إذن يبين لنا الخضر في قصته أنّه يقوم بأدوار متعددة وهو من ضمن شبكة منظومة مروية عندنا في الروايات بالأبدال والأوتاد والنقباء والأركان. فالخضر يمثّل مجموعة منظومة من أولياء اللَّه المصطفين، ليسوا حججاً رسميين، بل حجج غير رسميين لكنهم مصطفون، يقومون بهذه الأدوار عبر دور الإمامة.

4. الدور الرابع الذي تذكره السورة هو قصة ذي القرنين:

وذو القرنين يعني الدولة الرسمية، بل التسلط علي كلّ الأدوار، هو امام

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 230

تخضع له الملائكة مخاطب بالوحي التنفيذي.

و أحد أسرار قراءة الإمام الحسين عليه السلام سورة الكهف بعد الشهادة ليبين

أنّ طرق انجاز الغايات والأهداف الإلهية لن يعاوق بقتل الإمام الحسين عليه السلام بل له بنوده؛ فأهداف الرسالة و سير الإمام و الامامة لإنجاز أهداف الرسالة له طرق متعدّدة و لا تظنون أنّه بالطريقة الظاهرية و قد قتل وانتهي الأمر، لا و إنّما تبقي هي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 231

الحكومة الخفيّة … ص: 231

اشارة

قد مضت الإشارة إلي أنّ تعريف الحكومة في الأدبيات الآكاديميّة الحديثة لا تقتصر علي شكل الحكومة المعلَنة الرسميّة، بل يعمّ أشكالًا عديدة نافذة في النظام الإجتماعي، سواء في الجانب الثقافي أم الأمني أو المالي أو السياسي أو القضائي؛ و من ثمّ جري تقسيم السلطات الي السلطة التنفيذية و السلطة القضائية و السلطة التشريعية؛ و كلّ منها إلي شعب متعدّدة و الحكومة إلي حكومة العَلَن و الظلّ و الخفاء و قسّموا الحكومة بلحاظ منابع القدرة من المال أو الإعتقاد و المذهب أو العنصر و القوميّة أو السلاح و الرهبة إلي غير ذلك من التقسيمات و الأقسام التي لا تنحصر في الأشكال و النماذج المعهودة لا سيما و أنّ اسلوب الخفاء تقرّر عندهم أنّه من عناصر القوّة التي تزيد في ضريب القدرة والنفوذ.

فظاهرة الخفاء ليست ضموراً و انحساراً عن النفوذ و التصرف بقدر ما هو عنصر نفاذ و اقتدار و سِعة في دائرة التدبير، فإنّ كثيراً من القوي الخفيّة البالغة التأثير في النظام الإجتماعي غير ملموسة و لا محسوسة و لا مبصرة، لكنها تحتلّ مكانها في تدبير بُنَي المجتمع و قد انتهت علوم الأمن الإستراتيجية إلي هذا النظرية و هي أنّ الأمن في المجالات و الأصعدة المختلفة: الإقتصادية و الثقافية و السياسية و العسكرية و المدنية و القضائيه و الصناعيه و غيرها، لا يتحقّق إلّا

اسس النظام السياسي

عندالامامية، ص: 232

بحراسة ضمن نظام خفي مُنْبَث في ذلك المجال.

هذا مضافاً إلي تقسيم النُظُم إلي نظامات هِرميّة مختلفة، تنتظم عبر حلقات و محاور و دوائر ذات مساحات و أبعاد مختلفة بقواعد هندسية تُضفي بتأثيراتها المختلفة بأمواج في البحر الإجتماعي.

أدلّة الحكومة الفعليّة الخفيّة للإمام عليه السلام في لغيبة … ص: 232
الأول: الآيات القرآنية … ص: 232

منها: قوله تعالي:

«إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.» «1»

فإنّ المجي ء باعتراض الملائكة في مقام التعريف للخليفة يقضي بالصلة الوثيقة بين هذا الإعتراض و حقيقة دور الخليفة، لا سيما و أنّ إعتراض الملائكة لا محالة ليس علي الإفساد في الأرض و سفك الدماء القليل و المقدار اليسير في مقابل الخير الأكثر، إذ هذا ليس بأمر مستنكر يعترضون به، بل أمر راجح عند العقل؛ فلا محالة يكون مورد اعتراضهم هو في الفساد و الشرّ الأكثري؛ و حينئذٍ يكون المجي ء بهذا الإعتراض في مقام تعريف الخليفة هو لبيان أنّ الخليفة يُدرَءُ به هذا المحذور ما دامت البشرية متواجدة علي الأرض و عنوانُ الجعل الوارد في الآية الكريمة هو «الخليفة» لا النبيّ و لا الرسول ممّا يدلّ علي وجود سنّة دائمة له تعالي في جعل الخليفة ما دامت البشرية و أنّ من أبرز مهمّات جعل الخليفة هو حفظ الأمن البشري عن الشرّ و الفساد الأكثري، فهذه السنّة من اللَّه دائمة؛ كما أنّ هذه الوظيفه يؤدّيها الخليفة علي الدوام.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 233

و من الظاهر أنّ دائرة هذه المسئولية تشمل جميع البشريّة، فمن مسئوليات الخليفة حفظ النظام البشري عن ذلك و عنوان الخليفة يقتضي بذاته التصرّف و التدبير؛ أي إنّ هذه المسئولية الملقاة علي الخليفة

إنّما يقوم بها الخليفة بآليّة التدبير و هو التحكّم في إدارة النظام الإجتماعي السياسي عبر شتّي الأشكال و الألوان و النُظُم و من الواضح انطباق هذه السنّة الإلهية علي آدم- ابتداءاً- و مروراً بجميع المرسلين و أوصيائهم إلي النّبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله و سلم و من بعده سيّد الأوصياء حتي خاتم الأوصياء في غيبته. و هذا المدلول في الآية و ان كان في قالب النظريّة العامّة من دون ذكر التفاصيل إلّا أنّ في ما يأتي ايضاحاً للتفاصيل.

و هذا عين مفاد الروايات الواردة في حق الأئمة عليهم السلام مثل ما نقل عن الحجّة القائم عليه السلام:

و أمّا وجه الإنتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأنظار السحاب و إنّي لأمان أهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان أهل السماء. «1»

و قد ورد فيهم عليهم السلام أنهم أمان أهل الأرض. «2»

و منها ما قصّه القرآن من قصة خضر و موسي حيث قال تعالي:

«فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً- إلي قولي تعالي- وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.» «3»

فتبيّن الآيات الكريمة أنّ هناك مجموعة من العباد عُنُوا بالرحمة الخاصة الإلهيّه و حُظُوا بالعلم اللّدني و هم يقومون بأدوار مصيريّة في النظام الإجتماعي البشري و أنّ هذه الأدوار هي في المجالات المختلفة الإقتصادية و التربوية الأديانية الحضارية و الأمنية و الخدمات العامّة و أنّ نظام تدبيرهم هو في الخفاء و

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 234

السرّية و أنّ كلّ تفاصيل برنامجهم و تدبيرهم هو بتعيين و أمر ربّاني إلهي.

و ظاهر هذه الآيات بقرنية مطلع سورةالكهف، حيث يتعرّض إلي قوله تعالي:

«فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلي

آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً.» «1»

والتعرض بكيفية إنجاز أهداف الرسالة السماوية و تحقّق أغراضها و إنّ ذلك ليس منحصراً في الطرق المعتادة و الحكومة الرسمية المعلَنة و أنّ هناك وسائل و طرقاً أخري لتحقيق تلك الأغراض و الأهداف و يبيّن- تعالي- في سورةالكهف نموذج أصحاب الكهف و نموذج إطواء الملائكة أجمعين بآدم كخليفة إلهي في الأرض و نموذج آخر ما يقوم به الخضر من مهمّات في ضمن مجموعة و منظومة خفيّة و نموذج آخر ذي القرنين و ما أوتي من أسباب القدرة و القوّة للتدبير.

و منها قوله تعالي:

«وَ إِذِ ابْتَلي إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.» «2»

و قوله تعالي في سورةالسجدة:

«وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ» «3»

و في سورةالأنبياء:

«وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ.» «4»

و مفاد الآيه صريح في جعل الإمامة الفعلية للنبي إبراهيم عليه السلام لجميع الناس و

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 235

لم يحدّثنا التاريخ عن تسلّم النبي إبراهيم للحكومة العلنية الرسمية في بلد من البلدان، فضلًا عن جميع بلدان البشر؛ مع أنّ ظاهر الآية هي الإمامة الفعلية و كذلك في قوله تعالي في سورة الأنبياء و السجدة، و هو في شأن اسحاق و يعقوب والحال فيهما كأبيهم ابراهيم عليه السلام حيث لم يتسلّما الحكومة الرسميّة المعلَنة.

لا يقال: إنّ جعلهم أئمة قد يحمل علي الجعل الإعتباري القانوني للمنصب، غاية الأمر إنّهم لم يمكّنوا من مباشرته و تفعيله لعدم إعانة الناس لهم.

فإنّه يقال: إنّ ظاهر هذا المقام هو من المقامات التكوينية

التي أحد شعبها و شئونها المناصب الإعتبارية و الصلاحيّات القانونية و يشير إلي ذلك التعبير في الآية الثانية «وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ» فجعل فعل الخيرات و إقام الصلاة بنفسه متعلّق الوحي؛ أي إنّه وحي تسديدي و هداية لدنيّة بالإتيان بأفعال الخير و هو معني العصمة الذاتية.

و كذلك التعبير في الآية بأنّهم «يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» * و الأمر الإلهي قد أشير إليه في العديد من الآيات بإرادة الأمر التكويني من الروح المسدِّد للأنبياء و الأوصياء؛ فهدايتهم للناس منبعثة عن مقامهم التكويني و هذه الهداية ليست إرائة للطريق، بل هي الايصال للمطلوب؛ كما هو معني الإمامة لغة من القيادة الفعلية للمأمومين.

و من ذلك يظهر أنّ الإيصال للمأمومين فعليّ لهم و لذا عبّر بالفعل المضارع «يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» * أي تحقّق منهم ذلك و مقتضي هذا التعريف ايصالهم النظام البشري و إقامتهم له علي الخيرات و إقامته علي أركان العبوديّة للَّه تعالي.

و قد أسندت الإمامة في الآية الأولي أيضاً بأنّها إمامة للناس و قد ذكرت هناك جملة من السنن الإبراهيمية الحنيفية التي أفشاها إبراهيم و ولده عليهما السلام في نظام الأعراف البشرية من نبذ عبادة الأوثان و غير اللَّه و حجّ بيت الحرام و جملة من السنن، المرتبطة بباب الطهارة البدنية و الروحية و البرائة من المشركين و سننهم المنحرفة و غيرها.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 236

و منها: الآيات المتعددة من السور المختلفة المصنّفة في آيات ليلة القدر كسورةالقدرو أوائل سورةالدخان و أوائل سورةالنحل، حيث قال تعالي:

«يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.» «1»

و غيرها من الآيات الكريمة الدّالة علي نزول الروح ليلة القدر- بل مطلقاً- علي من يشاء اللَّه من عباده المصطفين للنبوة و الرسالة أو

الإمامة، لتفاصيل كلّ المقدّرات من الآجال و الأرزاق و البلايا و الرخاء و كلّ ما يحدث من صغير و كبير، من جليل الأمور و عظيمها و علي نطاق الأفراد أو الجماعات أو البلدان أو الدول و الملوك و من الواضح أنّ هذه الملفّات من المعلومات ليست ترفاً علمياً و لا زخرفاً صورياً، بل هي مهمة و مسئولية موكولة إلي صاحب الأمر أن ينفّذها كبرنامج إلهي لتدبير النظام البشري و هو ما يُعرف في العلوم السياسية و استراتيجية الحديثة بأنّ هذه الإحصائيات و المعلومات هو المخطّط الإستراتيجي للمستقبل و هذه إنّما تكون مِن شئون مَن يُعني بتدبير النظام الإجتماعي السياسي لجميع البشرية.

الثاني: الروايات … ص: 236

منها: قد ذكر العلّامة المجلسي رواية مفصّلة جداً عن المفضّل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام نذكر فقرة منها:

قال الصادق عليه السلام: أحسنت يا مفضل، فَمِن أين قلتَ برجعتنا؟ و مقصّرة شيعتنا تقول معني الرجعة أن يردّ اللَّه الينا ملك الدنيا و أن يجعله للمهدي، ويحهم متي سلبنا الملك حتي يردّ علينا. «2»

فهذه الرواية صريحة في أنّ دولة الرجعة ما هي الّا إعلان و إظهار لدولتهم و

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 237

تدبيرهم وزيادة في قدرتهم و سلطتهم علي النظام البشري و الّا فتدبير النظام البشري هو كائن لهم في كلّ حقب حياتهم.

و منها: ما في زيارة العسكريين عليهما السلام:

و أتوسل إليك يا رب بإمامنا و محقّق زماننا … اللّهم واحشرنا في زمرته و احفظنا علي طاعته و احرُسنا بدولته و أتحفنا بولايته.

و منها: ما في دعاء أمّ داود في أعمال رجب:

اللهم صلّ علي الأبدال و الأوتاد والسُيّاح.

و منها: ما في الزيارة الرجبيّة و في دعاء رجب أيضاً المروي عن الناحية المقدسة عليه السلام:

صلّ علي

محمّد و آله و علي عبادك المنتجبين و بشرك المحتجبين و ملائكتك المقربين. «1»

و في صدر الدعاء أيضاً:

أللّهم إني اسئلك بجميع ما يدعوك به ولاة أمرك المأمونون علي سرّك …

فبهم ملأت سمائك و أرضك.

و روايات الأوتاد و الأبدال قد تكثّر ورودها في طرق الفريقين. «2»

و منها: مارواه الوحيد البهبهاني في تعليقته علي منهج المقال في ترجمة علي بن المسيب الهمداني عن بعض الكتب المعتمدة و أنّه أخذ من المدينة مع الكاظم عليه السلام و حبس معه في بغداد و إنّه اشتدّ شوقه إلي عياله بعدما طال حبسه،

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 238

فقال عليه السلام له: إغتسل، فاغتسل؛ فقال: غضّ عينيك؛ فقال: افتح، ففتح فرآه عند قبرالحسين عليه السلام فصليّاً عنده و زاراه؛ ثمّ قال: غمّض و قال: افتح؛ فرآه معه عند قبر الرسول صلي الله عليه و آله و سلم؛ فقال: هذا بيتك، فاذهب الي عيالك و جدّد العهد وارجع اليّ.

ففعل فقال: غمّض و قال: فافتح. فرآه معه فوق جبل قاف و كان هناك من أولياء اللَّه أربعون رجلًا فصلّي و صلّوا مقتدين به؛ ثمّ قال: غمّض و قال: افتح، ففتح فرآه معه في السجن.

و منها: ما روي مستفيضاً- إن لم يكن متواتراً بين الفريقين- من الحديث النبوي إنّ الخلفاء بعده صلي الله عليه و آله و سلم اثنا عشر خليفة؛ و في ذيل الحديث في طرقه المتعدّدة:

إنّ هذا الدين لا يزال عزيزاً لا يضره كيد من أراده بسوء مادام الخليفة من الإثني عشر باقياً.

و في بعض طرق ألفاظ الحديث:

لا يزال أمر امّتي عزيزاً ظاهراً مادام الخليفة من الاثني عشر باقياً.

و في طرق أخري منه أيضاً:

لا يزال أمر الناس بخير مادام الخليفة من الإثني عشر موجوداً.

و غيرها من

طرق الحديث النبوي «1» الدالّ علي منعة الدين و الأمان له و للأمّة المسلمين- بل لعموم الناس و البشرية- مادام الخليفة من الإثني عشر موجوداً؛ أي: يباشر خلافة اللَّه في الأرض بتصرّفه و تدبيره و إدارته لشئون العباد و البلاد؛ كما يقتضيه معني عنوان الخليفة.

و منها: جملة من الموارد التي فيها استعراض لتصرفات الأئمّة الماضين عليهم السلام عبر تدابير خفيّة مع مجموعات غير معلَنة و غير معروفة لدي خاصّة الشيعة، فضلًا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 239

عن عامّتهم، فضلًا عن السلطات المعاصرة لهم؛ مثل ما في تغسيل الإمام الرضا عليه السلام لبدن موسي بن جعفر عليه السلام بنحو خفي و قوله عليه السلام للمسيّب بن زهير:

يا مسيّب، مهما شككت فيه، فلا تشكنّ فيّ، فإنّي إمامك و مولاك و حجّة اللَّه عليك بعد أبي. يا مسيّب، مَثَلي مثل يوسف الصديق و مثلهم مثل إخوته حين دخلوا عليه فعرفهم و هم له منكرون. «1»

و مثل ما في تدبير موسي بن جعفر عليه السلام لجملة من المناطق الخزرية و التركية بنحو خفي و تنبّؤ هارون الرشيد بذلك الخبر عند ما أراد قتل أبي الحسن عليه السلام «2».

و مثل ما روي عنهم عليهم السلام:

إنّ صاحب الأمر فيه شبه من يوسف و أنّه عليه السلام يباشر الأمور كما يباشر يوسف من دون أن يعرفه الناس. «3»

و قد روي عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم:

لينتفعون به و يستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن جلّلها السحاب. «4»

و في صحيحة معاوية بن وهب؛ قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم:

إنّ عند كلّ بدعة تكون من بعدي- يكاد بها الايمان- ولياً

من أهل بيتي موكلًا به يذبّ عنه ينطق بالهام من اللَّه و يعلن الحق و ينوّره و يردّ كيد الكائدين يعبّر عن الضعفاء فاعتبروا يا أولي الأبصار و توكّلوا علي اللّه. «5»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 240

و يقول الإمام المهدي في رسالته الأولي للشيخ المفيد:

فإنّا نحيط علماً بأنبائكم و لا يعزب عنّا شي ء من أخباركم … إنّا غير مهملين لمراعاتكم و لا ناسين لذكركم و لولا ذلك لنزل بكم اللأواء و اصطلمكم الأعداء. «1»

و قد ورد في زيارة الأئمة بالبقيع في زيارة الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام:

فلقد بلغ في عبادته و نصح لك في طاعته و سارع في رضاك وسلك بالأمة طريق هداك و قضي ما كان عليه من حقك في دولته و أدّي ما وجب عليه في ولايته حتي انقضت ايّامه … «2»

و منها: قوله رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم:

من مات و ليس في عنقه بيعة لإمامٍ [أو عهد الإمام] مات ميتة جاهلية. «3»

و الملفت للنظر في هذا الحديث النبوي الشريف مع أنه قد ورد بألفاظ متعدّدة أخري مثل:

«من مات و لم يعرف امام زمانه.» «4» و مثل «من مات و هو يبغضك- يا علي- ففي سنّة جاهلية.» «5» أو «من مات و هو يبغضك مات ميتة جاهلية.» «6» أو «من أبغضك أماته اللَّه ميتة جاهلية.» «7» أو «من أبغض علياً محياه و ماته فميته ميتة جاهلية.» «8»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 241

إنّ لفظ الحديث ليس «لم يعرف» ليكون مشيراً إلي فريضة الإعتقاد و الايمان، بل التعبير فيه عن فريضة البيعة التي هي ولاء سياسي و تعاقد و التزام بذلك الولاء السياسي و أنّ هذه الموالاة السياسية هي من

الخطورة بمكان يترتّب علي الخلل بها خروج المرء عن حقيقة الايمان و صيرورته عند الموت و في الآخرة بمنزلة كفّار الجاهلية.

هذا من جهة حكم البيعة في الحديث و لا ريب أنّ هذا الحكم لا يصلح أن يكون شأناً إلّا للإمام الذي هو معصوم مصطفيً من قِبل اللَّه تعالي، فإنّ هذا الشأن لا يتناسب مع من تجوز عليه المعصية.

و إذا تقرر هذا المعني اجمالًا للحديث فالملفت للنظر في معني الحديث حينئذٍ هو كون هذه الفريضة السياسية مستمرة في طول القرون و الأعصار إلي يوم القيامة بما في ذلك العصر الحاضر، عصر غيبة الإمام المهدي- عجل اللَّه فرجه- و هذا ممّا يقتضي أنّ له- عجل اللَّه فرجه- قيادة سياسية فعلية في عصر الغيبة، أي في عصر السريّة و التستر و الخفاء و الّا فكيف تكون البيعة السياسية فرضية بهذه المثابة من الخطورة و الحال أنّ إمامة المهدي السياسية مجمّدة غير مفعّلة؟

فهذا الولاء السياسي له المفترض في الغيبة بشير الي أنّ كيان الطائفة المحقّة و جماعة أهل الحق من أتباع أهل البيت هم كيان اجتماعي لدولته و بالإنتهاء إلي هذا الكيان يكون ولاءً سياسياً له- عجل اللَّه فرجه- كما أنّ القيام بالمسئولية تجاه الطائفة هو أداء لبعض هذه الفريضة السياسية؛ كما أنّ إقامة الأعراف الإجتماعة المبنيّة علي تعاليم أهل البيت هو تفعيل لقوانينهم و أحكامهم و إنفاذ لها في النظام الإجتماعي السياسي، كما أن التقيّد بأحكام أهل البيت عليهم السلام في الأبواب المختلفة الإجتماعية هو ولاء لحاكميّتهم في الحياة الإجتماعية و الأُسرية و الفردية.

فيتحصل من مفاد الحديث أنّ حاكميّة المهدي- عجل اللَّه فرجه- السياسية فعلية مُفَعَّلة، قائمة الأركان في النظام الإجتماعي مع خفائها و تسترّها إلا أنّ ذلك لا

اسس

النظام السياسي عندالامامية، ص: 242

يسقط فريضة الولاء السياسي لتلك الحاكميّة. فهذا الحديث من الشواهد البيّنة النبويّة أنّ جميع أئمة أهل البيت الإثني عشر عليهم السلام لم تزل حاكميّتهم السياسية فعلية مفعّلة و إن اتخذت ألواناً و أشكالًا و أساليب مختلفة و أطواراً متعدّدة من الظهور و الخفاء و أنحاءً من العلن و الظلّ.

الثالث: الدليل العقلي و العقلائي … ص: 242

و تقريره بوجوه:

1. ما أشاراليه غير واحد من المتقدّمين في قاعدة اللطف أنّ مقتضاها هو تصرفه عليه السلام لإقامة الأود وردّ الزيغ و حفظ الأمّة عن الإنحراف و الدين عن الضياع و لو بنحو غير ظاهر و قد ذكروا ذلك في بحث حجّية الإجماع بقاعدة اللطف فلا حظعدّةالشيخ الطوسي وذريعةالسيّد المرتضي.

2. ما تقرّر في العلوم الآكاديميّة في أدبيات النُظُم السياسية و الحكم من أنّ الخفاء و السرّية عنصر قوّة في التأثير و التدبير، تعتمده الأنظمة العصرية جاعلة له البُنية الأساسية في هيكل الحكم و أذرعه؛ حيث أنّ في الخفاء تنشط الأجهزة في كلّ الأصعدة مطلقة العنان في الحركة و التصرّف تشتدّ في النشاط و النفوذ و الوصول إلي كلّ المواقع بنحو أقوي و أيسر و أوسع؛ فالخفاء عنصر قوّة لا عنصر ضعف و عامل في الحكمة و الحنكة في التدبير لا عامل انكسار و تقحقح و سبب للحضور و التواجد في كلّ الأصعدة و المراكز لا سبب انكفاء و تقعقع.

و هذه الحقيقه باتت أمراً حياتياً اساسياً في أدبيات علم الدولة و علوم الأمن و المراكز الإستراتيجية و به يتجلّي أنّ ما اعتقدته الإماميّة في الغيبة بمعني الخفاء و السرّية للإمام و القائد الإلهي- لا بمعني الزوال و الذهاب و الإبتعاد- هذا المعني الصحيح للغيبة هو من الرُّقي المتطورة الحضارية في إدارة شئون النظام

البشري قد اعتنقته الإمامية قبل ما يزيد علي إحدي عشر قرناً بل تظافرت به روايتهم قبل

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 243

أربعة عشر قرناً و كانت المذاهب الإسلامية الأخري تهرّج مستهزئة بهذه العقيدة واصفة لها بالخرافة و حيث لم تبلغ عقولهم مغزي الحقيقة وصفوها بذلك و الآن صحصح العقل البشري بعملاقية هذه النظرية و الحقيقة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 244

من هو خليفة المسلمين الآن؟ … ص: 244
هل المهدي- عجل اللَّه فرجه متصدٍّ بالفعل لزمام الأمور؟ … ص: 244

كم يطرح السؤال عن الخليفة الشرعي بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم و كم ينادي بإسدال الستار علي الجواب و السؤال و يلهج ب «ما لنا و للتاريخ، نحن أبناء عصرنا و لسنا مسئولين عن ما مضي»، رغم أنّ هذه المقولة تتجاهل أنّ هوية الحاضر مكوناتها مبنيّة علي عناصر أحداث الماضي، و أنّ تاريخ الأمم هو الصانع لهويّتها الحاضرة الماثلة، و أنّ وعي الأمم و ثقافتها و درجة تمدّنها و حضارتها وليد لِوَعْيِها و تفعّلها بالعبر المستخلصة من تاريخها.

و من الأمور الراهنة المبنية علي الرؤية تجاه الماضي هو السؤال عن الخليفة الحاضر علي المسلمين من هو؟ و من يكون؟ و ماهي الدلائل عليه؟

لا ريب أنّ المسلمين اتّفقوا علي خلافة المهدي عليه السلام من ولد فاطمة عليها السلام عند ظهوره و صلاة النبي عيسي بن مريم عليه السلام خلفه، و إنّه قد بشّر به سيد الرسل صلي الله عليه و آله و سلم و إنّ اللَّه تعالي يفتح علي يديه البلدان و يُظهره علي الدين و لو كره المشركون، و به يتحقّق الوعد الإلهي بإظهار الإسلام الذي هو دين جميع الرسل علي كافة أرجاء البسيطة.

فلاريب أنّه الخليفة الأخير من الذين بشّر بهم النبي صلي الله عليه و آله و سلم من الحديث المتواتر

عند الفريقين أنّ بعده اثني عشر خليفة، كلّهم من قريش، و أنّ الدّين

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 245

لايزال عزيزاً ما بقي هؤلاء الإثني عشر، و أنّ الأمّة ظاهرة علي من عاداها ما بقي هؤلاء الإثني عشر، بل أمر الناس (جميع البشر) لا يزال بخير ما بقي هؤلاء الإثني عشر، أي ما بقيت سلسلة الإثني عشر.

و يكفي هذا المقدار من إنضمام الأحاديث النبوية ليخرج الباحث إلي حقيقة أنّ المهدي عليه السلام هو الباقي الحي القائم من هذه السلسلة الذي تحفظ به أمر نظام البشرية فضلًا عن حفظ أصل بقاء كيان الأمة الاسلامية و أهل الإيمان، بما يمارسه من دور خفي الذي عبّر عنه بالغيبة و الإستتار كي يظلّ مأموناً علي حياته و ممارسة دوره الفاعل بتوسط مجاميع من الأولياء و الأصفياء المعبّر عنهم في روايات الفريقين بالأوتاد و الأركان و النقباء و السياح و الأبدال و غيرها من المجاميع النافذة في المجتمعات المختلفة كيانات و أنظمتها.

فهو حاضر في كبد الحدث البشري متصدّ للأمور، فاعل ناشط، قائم بالأمر غير قاعد عنه و لا متقاعس، حيّ، لا هالك، حاضر لا متباعد، ذاهب سالك في الأودية النائية مهما تطاول هذا الإستتار الخفي و لم ينكشف بالظهور حقيقة دوره و نشاطه الحاسم في مصير نظام البشرية.

فالظهور ليس إلّاإنكشاف لحقيقة ما قد قام و يقوم به القائم من آل محمّد عليهم السلام من مهامّ في تدبير النظام البشري في مجالات شتّي.

و هذا الإعتقاد بوجود خليفة اللَّه تعالي «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» و بوجود خليفة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم «الخلفاء اثني عشر كلّهم من قريش»، «إنّي تاركم فيكم الثقلين، كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي» الخليفة علي المسلمين في الوقت الراهن الحاضر،

هذا الإعتقاد يضفي برؤية وسطية في الوقت الراهن الحاضر، نظرية المسئولية الملقاة علي عاتق الأمّة و علي النخبة و علي أهل العلم تجاه الإصلاح الإجتماعي و تغيير الفساد و القيام بإقامة المعروف و دفع المنكر.

هذا الإعتقاد يكوّن نظرية متوازنة في تحديد المسئولية و التكليف، الإختيار

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 246

في التغيير و للإصلاح لا مع مسلك التفويض و لا الجبر، فليس المسئولية مفوّضة بكاملها للأمّة و نخبتها و رجالات العلم فيها تفويضاً تامّاً علي إختلاف فهم المصدر و المرجع الأوّل و الأخير.

و لا المسئولية ساقطة عن كاهل الأمّة و رجالاتها تحت عنوان الجبر التاريخي أو الجبر القدري من القضاء الإلهي، أو الجبر الإجتماعي أو جبر البيئة و الظروف.

بل المسئولية و التكليف علي الأمّة و نخبها و رجالات العلم هي بين الجبر و التفويض، أمر بين الأمرين، و هو الإختيار ضمن حدود صلاحيّات الإختيار، لا التفويض المطلق و لا الجبر المطلق، بل وسط بينهما. و هذه الرؤية للإختيار ضمن حدود الإختيار و صلاحيّاته هي تجلّي لمعني عظيم من معاني الإنتظار، إنتظار الظهور انتظار الحضور و القدوم، إذ لم نفتقد الخليفة و لم يذهب عن ساحة الحدث لنترقّب قدومه و حضوره، بل خفيت هويّته علينا و استقرت معالم شخصيته عن معرفتنا مع كونه صاحب الدور الأوّل و وليّ التدبير المهيمن، فأصل زمام التدبير بيده، و هذا باعث علي الأمل بإستمرار و الطمأنينة و لإبتعاد اليأس عن قاموس همم الأمّة و رجالاتها في القيام بالإصلاح و تغيير الفساد.

و هذا بخلاف رؤية التفويض، و أنّ زمام الأمور كلّها بيد الأمّة، فإنّ مردودها العكسي هو حصول اليأس و إنعدام الأمل عند ماتري الأمّة نفسها عاجزة عن الوصول إلي الهدف المنشود

أمام قوّة أعدائها، و عندما تري أنّ قواها محدودة تجاه ما يملك عدوّها من طاقات و قدرات.

و أمّا علي رؤية الإختيار ضمن حدوده و مدار صلاحيّاته، فإنّ الإعتقاد بوجود تدبير مهيمن خفي علي مقادير النظام البشري فضلًا عن الأمّة يوجد دوام الأمل و تنبض الحيوية و يتدفّق النشاط الدائم بلا كلل، و لن تكون هناك في قاموس الأمة هزيمة مستأصلة لها و لا فشل حاسم في أدبياتها و استراتيجيتها، كلّ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 247

ذلك لحتمية ظهور الدين علي كافة أرجاء الأرض علي يد المهدي عليه السلام و حتمية بقاء الأرض في بيئاتها المختلفة تحت حفظ تدبيره و إدارته الفعلية و من ثمّ

«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»

إذ بولاية الخلفاء الإثني عشر و تدبيرهم لنظام الملّة و الدين و الإمّة لن يكتب استئصال لهذا الدين و لن يقدّر غلبة للعدو مقوّضة لجذور كيان الأمّة، كما جاء في مفاد الحديث النبوي عين ما هو مفاد آية الغدير في سورة المائدة.

لكن كلّ ذلك لا يعني في الجانب الآخر نظرية الجبر في إصلاح الإجتماعي و تغيير الفساد في كلّ مجالاته لبدع الأمّة و رجالاتها في بلهنية من العيش و رغد رفاه مغدق، بل هو أمر بين أمرين، فكما لا تفويض في الفعل و الإدارة و القيادة للنظام الإجتماعي السياسي، فكذلك لا جبر في الفعل الجماعي السياسي، بل هناك اختيار إرادة للأمّة ضمن حدود الإختيار تحدّد موقفها تجاه مسيرة الإصلاح الإجتماعي وفق الرؤية الإلهيّة.

و كما أنّ نفي التفويض في المجال السياسي و الإجتماعي يفرز نوعاً من الشعور بالرقابة من الجهاز الحكومي الإلهي الذي

يديره المهدي عليه السلام فيكون قوّة ردعٍ فكرية و نفسانية و سياسية و أمنية ردع للأمّة و رجالات الإصلاح عن أن يطغوا عن الجادة المستقيمة «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا» «1» كي لا يعود دعاة الإصلاح بالأمس هم روّاد الفساد في اليوم الحاضر، و هذه عظمة ديناميكية وحيوية الإصلاح في عقيدة الإنتظار للمهدي عليه السلام و الروية الصحيحة لعقيدة الغيبة بمعني خفاء و استتار التدبير و سرّية الإدارة المهدوية.

فإنّ الشعور بالرقابة الدائمة الميدانية علي الصعيد الخارجي صمام أمانٍ و

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 248

ضمانة لوجود خطّ الإستقامة في الأمّة و لو ضمن فئة منها و بمراتب نسبيّة.

فكذلك نفي الجبر القدري و الجبر الإلهي و الجبر الإجتماعي و غيرها من أطر الجبر، فإنّ نفيها ينفي عن الأمّة تقاعسها و تخاذلها و تخلّفها عن نماذج ركب الإصلاح فإن نموذج الإصلاح لا ينحصر في أسلوب خاصّ و طريقة معينة، بل له أدوار مختلفة، و منه ما هو معلن علي السطح و منه ما هو في الظلّ و منه ما يتناول الهيكل و الشكل السياسي الزيّ البيئي الإقتصادي و غيرها من أنحاء و قوالب و قنوات الإصلاح، فنفي الجبر لا يقرّ للأمّة قرارها في ترك باب الأمر بالمعروف و إقامته و دفع المنكر و إزالته في كلّ الأصعدة بحسب الدرجات و المراتب المتكثّرة.

فنظرية الإصلاح علي ضوء عقيدة الإنتظار و غيبة الخفاء و السرية لتدبير الخليفة الفعلي علي المسلمين نظرة وسطية بين إفراط الأمل أو تفريط اليأس، وسطية بين الجبر القدري أو التفويض العزلي، و توازن بين الجمود عن المسئولية الإجتماعية أو التفرد و الإستبداد في تولي المسئولية و الإضطلاع بها، كلّ ذلك لعدم تغييب

الخليفة الفعلي علي المسلمين عن الخريطة السياسية الإجتماعية.

و كيف لا تكون علاقته فعلية في الحاضر الراهن و قد أنبأ القرآن بذلك مشفوعاً بالأحاديث المتواترة النبوية و البراهين العقلية و العلمية التجريبية كما أشار تعالي في قوله «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» يشير بذلك إلي الإستخلاف الإصطفائي الخاصّ.

إنّ اللَّه اصطفي لضرورة في ضمن الإستخلاف العام لبني البشر بني آدم لتحقيق عبادة و عمارة الأرض، و أنّ ذلك الخليفة الذي يصطفيه الباري تعالي معادلة دائمة ما دامت الطبيعة البشرية علي الأرض، فذكر الجملة اسمية من دون تقييدها بالنبوية أو الرسالة أو باسم آدم.

و أبرز تعريف ذكر تعالي لذلك الخليفة أنّه به يدفع مخاوف الملائكة من

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 249

وقوع الفساد في الأرض في المجالات المختلفة بنحو طاغ مطبق و من وقوع سفك للدماء و استئصال النسل البشري، فوجوده و تدبيره ضرورة في إصلاح نظام الحياة للبشر علي وجه الأرض، بما يزوّد من البرنامج الإلهي التدبيري الذي يتنزل عليه من معلومات إحصائية خطيرة حول الكيان البشري و بقية الكائنات الأرضية، يتنزل عليه في ليلة القدر كما أشارت إليه آيات سورة القدر و الدخان و النحل و سورة الغافر و غيرها من الآيات و السور ليس المقام مصبوباً للبحث فيها، و كذلك الأحاديث النبويه كحديث الثقلين و حديث الخلفاء بعدي اثني عشر و الأحاديث الصادرة عنه صلي الله عليه و آله و سلم حول المهدي عليه السلام و التي قد رصدها بعض المحقّقين و كذلك بعض مراكز الحديث، فوصل إستقصاؤهم إلي إثني عشر ألف حديثاً من مصادر شتي.

و كذلك الدليل العقلي و العلمي و التجريبي، فإنّ العناية الإلهية بخلق الفرد الكامل في الطبيعة الإنسانية لإيصال سائر الافراد إلي الكمال ضمن

تدبير النظام الإجتماعي السياسي البشري، قد حفلت كتب الحكمة قديماً أو حديثاً ببسط و شرح هذا الدليل حتي في الفلسفات البشرية القديمة.

و أمّا الدليل العلمي التجريبي، فإنّ البيئات الكائنة المختلفة التي تحيط بالإنسان فضلًا عن نظام وجود الإنسان من طبقات النفس و الروح و البدن، لا ضمان من تخريبها و زوال نظامها الكوني لو خليّت البشرية تعبث فيها كمختبر لتجاربها و فرضيات النظريات المختلفة، فإنّ من ذلك مخاطرة للأمن الحياتي للبشري بتهديد نظام الكائنات كما تعترف بذلك إحصائيات التقارير العلمية في الحقول المختلفة التي برزت في العقود و السنين الماضية.

و بكلمة؛ إنّ الأدلة قائمة علي ضرورة أنّ الخليفة الإلهي علي البشرية خلافته فعلية قائمة و هو القائم بالأمر الإلهي في النظام البشري بالفعل في الوقت الراهن كما كان و يكون إلي يوم إنكشاف أستار السريّة التي يعيش فيها، و هو يوم الظهور.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 250

و هذا معني تقارن الثقلين الذين أمرنا بالتمسك بهما، فإنّ حسبان أنّ معني التمسك بالعترة هو مجرد التمسك بتراثهم الروائي حسبان واهي.

فإنّ إستغناء البشرية بذلك التراث عن الإمام القائم بالفعل بتدبير الأمور في الحاضر الراهن يساوي الإعتقاد السائد لدي جملة من الناس بالإستغناء بالمصحف الشريف، و هو القرآن الصامت، بعد وفاة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم عن أمير المؤمنين عليه السلام في قولهم «حسبنا كتاب اللَّه» و لم يدروا أنّ الكتاب المبين و اللوح المحفوظ في عالم الملكوت و أم الكتاب لا يصلوا إليها من خلال الإستبداد بعقولهم، فإنّه لا يوصلهم إلي القرآن الكريم في الكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلّا المطهّرون؛ و بذلك فيكون ضيّعوا التمسك بالكتاب بعد تضييعهم و تفريطهم بالتمسك بالعترة.

فكذلك حال من يقول حسبنا

المصحف الشريف و تراث أهل البيت، فإنّ دعوي التمسك بالقرآن الصامت و بالإمام الصامت لا يغني عن القرآن الناطق و الإمام الناطق عن أم الكتاب و اللوح المحفوظ و الكتاب المبين، فإنّه لا وسيلة للتمسّك بتلك الطبقات الملكوتية من الكتاب إلّابالإمام الحيّ القائم بما يتنزّل عليه من الأمر في ليلة القدر و ليلة الجمعة و كلّ ليلة و آنٍ من الأمر الإلهي في إدارة البشر.

و بهذه الرؤية العقيدية للخليفة الإلهي الحاضر الحي علي البشر و المسلمين يتسنّي رسم مسيرة الصلاح و الإصلاح و بيان خريطة النظام الإجتماعي السياسي، و هو نظام التوحيد الإسلامي.

فإنّ نظام التوحيد الذي يرسم بعيداً عن عقيدة القدرية و عقيدة الجبر و عقيدة الإرجاء و التفويض العزلي، هو بتصوير و تفسير و رسم حاكميّة الإله سبحانه في نظام البشر فضلًا عن حاكميّته في صلاحيّته و سلطة التشريع (إن الحكم إلّااللَّه) و هو الحكم في التنفيذ و التشريع و القضاء و كل مجال (أليس اللَّه

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 251

بأحكم الحاكمين) فعزل إرادة الباري عن مقدّرات النظام البشري و تفويض ذلك لإرادة البشر هو تفويض عزلي في كائن الإنسان الكبير و هو مجموع الإجتماع الإنساني، و هو لا يختلف في حقيقته عن التفويض العزلي في الإنسان الصغير و هو الفرد.

و كذلك الحال في نظرية القدرية الجبرية أن كلّ الأمور بالقدر و القضاء المحتوم في العلم الإلهي و لا حفل للإرادة الإنسانية في الفعل الإجتماعي و لا الفعل الفردي سيان هما في فكرة القدر، يعني الجمود عن الإصلاح و تغيير الفساد، و التنكّر لعقيدة جعل الخليفة الإصطفائي الإلهي التي نادي بهاالقرآن الكريم، و أنّه الضامن لإستمرار النظام البشري و الحامي له عن خطر الزوال

و الفناء و الدثور.

فالوسطية و عقيدة الإختيار تتمثل في معرفة الخليفة الفعلي الراهن علي البشر و المسلمين في عصرنا الحاضر.

و بالجملة بعد قيام الأدلّه القطعية علي امامة الإمام الثاني عشر ينبغي تسليط الضوء علي جانب قيادته السياسية للنظام و المجتمعات البشرية في العصر الراهن في فترة الغيبة، فضلًا عن النظام الإجتماعي للمسلمين و لمجتمع المؤمنين من أتباع أهل البيت عليهم السلام؛ فإنّه قد شاع في الأذهان معني خاطي ء للغيبة و تفشَّي في الكلمات و هو بمعني عدم الحضور، فتكون الغيبة في مقابل الحضور، حتي وصل الأمر الي بعض من الذين بحثوا حول مشروعية الحكومة في عصر الغيبة من قِبَل الفقيه الجامع للشرائط، أن عبَّروا في جملة من كُتبهم أنّ موضوع نص الإمامة منتفٍ في الغيبة و إنّما هو متحقّق في الحضور لا في الغيبة و هذا ذهول و غفلة بالغة السبات من جهات عديدة:

اٌلأولي: إنّ معني الغيبة ليس في مقابل الحضور، بل في مقابل الظهور؛ فهي بمعني الخفاء و التستر لا بمعني الزوال و الإبتعاد؛ و هذا القلب و التبديل لمعني

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 252

الغيبة قد تجذَّر في الأذهان بنحو يصعب التوقّي عنه في خِضَمّ الأفعال العقائدية و الفقهية.

و علي ضوء المعني الصحيح، أي الخفاء و التستر، فإنّه- عجل اللَّه فرجه- يمارس دوره في التصدّي لتدبير النظام البشري في ضمن إدارة و تدبير خفي يخفي علي الأنظمة البشرية مهما كانت تلك الأنظمة قويّة عملاقة؛ فإنّ عنصر الخفاء هو سرّ القوة و القدرة في تدبيره.

و قد أشارت جملة من الآيات إلي ممارسة الإمام من قبل اللَّه و حجّته علي عباده هذا الدور الخفي؛ كما في سورةالكهف حيث كان مطلعها أسي النبي صلي الله عليه و آله

و سلم علي عدم هداية البشر، فأخذت السورة في بيان تحقّق الأغراض الإلهية ضمن وسائل متعدّدة، ذكرت منها السورة قصّة الخضر و موسي عليهما السلام؛ حيث بيّنت قيام الخضر ضمن برنامج إلهي بجملة من الأعمال الهامّة في المجتمعات البشرية بنحو خفي جداً و تلك الأدوار بالغة التأثير في تدبير البشر و تشير السورة أنّه ضمن منظومة من رجال الغيب، أي رجال الخفاء و التستر «عَبْداً مِنْ عِبادِنا» و هو حيّ باق إلي الآن في صحبة و تابعة المهدي- عجل اللَّه فرجه- و كذلك في سورةالبقرة، حيث قال تعالي:

«وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ» «1»

فإنّه تعالي أبدي أول تعريف للخليفة باعتراض الملائكة ليبيّن أنّ دفع اعتراضهم أمر بالغ الصلة بتعريف حقيقة الخليفة، أي إنّ كون الخليفة في الأرض و سفك الدماء هو من أبرز آثار خلافة خليفة اللَّه في الأرض.

و من المعلوم أنّ الفساد و سفك الدماء الذي اعترض به الملائكة ليس ما

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 253

يكون القليل من المقدار، بل ما يكون الأكثر إذ هو القبيح؛ و بذلك يظهر أنّ بتصرف خليفة اللَّه في الأرض يكون تدبيره دارءاً و حارساً عن وقوع هذا المحذور و ان لم يقلع تمام الفساد و سفك الدماء، الّا بعض الحروف.

و كذلك يشير إلي هذا الدور و التدبير الخفي مجموعة الآيات الواردة في ليلة القدر في السور المختلفة كسورة القدر و الدخان و النحل و غيرها؛ فإنّ نزول تقدير كلّ شي ء من الأرزاق و الآجال و البلايا و الرخاء و الأحداث و الوقائع و الصحّة و السقم؛ فإنّ هذا الكمّ الهائل من الإحصائيات التي لا

تخطأ عن كلّ العقول ليس طرفاً معلوماتياً، بل له غاية و حكمة؛ و هو بناء الإستراتيجية الإلهية في تدبير البشر و هو ما يعرف حالياً في إدارة الدول بالتخطيط الإستراتيجي و علم المستقبل و بناء نظرية المستقبل؛ لكن أين الإحصاءات البشرية الحدسية من القضاء و القدر و احصاءاته التي لا تتخلّف و لا تخطي ء؟ بل أين إحاطة ملفّات القضاء و القدر و الإحصاءات البشرية كالنقطة في البحر؟ فملّف ما يتنزّل في ليلة القدر صريحة في قيام و تدبير صاحب الأمر الالهي الذي يتنزّل عليه الروح و الملائكة في ليلة القدر بتدبير النظام البشري في كلّ حقوله و أصعدته.

و كذلك قوله تعالي في ابراهيم حيث قال تعالي «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» فإنّ مفاد الآية الإمامة الفعلية للبني ابراهيم، مع أنّه لم يحك لنا التاريخ تقلّد النبي ابراهيم لسلطة علنيّة ظاهرة و كذلك في حق اسحق و يعقوب، إذ قال تعالي «وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» و كذلك الحال في النبي آدم عليه السلام حيث جعل خليفة و اماماً و متصرفاً و لكن لم يكن بصورة سلطان.

و غيرها من الآيات و السور التي تظهر دلالتها علي ذلك بالتدبّر، هذا فضلًا عن الروايات الدالة علي انتفاع الناس به في غيبته كانتفاعهم بالشمس إذا جللّها السحاب، ممّا يدلّ علي قيامه- عجل اللَّه فرجه- بدوره في التدبير و اصلاح النظام البشري إلّا أنّ هذا الدور يقوم به من خلف الستار و بصورة خفية. و ما ورد من أنّه

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 254

كيوسف يعرف الناس و لا يعرفونه ممّا يشير التمثيل الي الدور و التدبّر الذي كان ليوسف من دون أن يشعر به الناس أنّه نبي من اللَّه.

الثانية: إنّه لو

سلّم أنّه عليه السلام ليس بحاضر و أنّه النائي و قاصي الديار و غير متصدٍّ بالفعل لتدبير الأمور، فكيف يفرض أنّ ذلك بمعني انتفاء موضع النص؟

لأنّ الولاية العامّة مجعولة له، فكما أنّ الإعتقاد به منجَّز و لازم و الايمان بامامته، فكذلك الولاية المجعولة له أيضاً هي فعلية، فهو صاحب الشرعية و مصدرها و صاحب الولاية و منبعها، فكيف يفرض سلبها عنه عليه السلام؟

و هذا نظير جعل الباري تعالي ملكية عين لشخص ثمّ غاب ذلك الشخص، فإنّ غيبة ذلك الشخص لا يزيل ملكيته و لا ولايته علي العين و لا يسوّغ التصرّف فيها من دون إذنه أو الترخيص من قبل الشارع؛ فالولاية العامّة علي الحكم و قيادة المجتمعان له- عجل اللَّه فرجه- و مجرّد غيبته لا يسقط ولايته المجعولة له من قبل اللَّه تعالي علي شأن الحكم السياسي لا سيما و أنّ الغيبة بأيّ معني فسرّت- من المعني الصحيح أو الخاطي ء- هي بسبب المانع و هو منع الظالمين و البطش به قبل توفّر القدرة لديه في الخروج.

و لو بني علي أنّ عدم التصدّي بحسب الظاهر المعلن لممانعة الظالمين مسقط لولاية المهدي عليه السلام لكان ذلك أيضاً موجباً لسقوط الولاية الفعلية لأميرالمؤمنين عليه السلام و لزوال إمامته عند ما غصبت الخلافة منه في السقيفة و كذلك بقيّة الأئمة عليهم السلام حيث اغتُصبت منهم الخلافة و مانَعَهُمُ الظالمون عن الوصول إلي سدّة القدرة و لما كانوا أئمةً بالفعل- العياذ باللَّه- و لما صحّ منهم عليهم السلام أن يَجبُوا الأخماس و لا أن يتصدّوا إلي الإذن بتولّي القضاء لشيعتهم لعدم ولايتهم الفعلية حسب الزعم المزبور و كذلك تصدّيهم في الإذن في الأراضي الخراجية و الإذن في المقاسمات و الإذن

في قبول هدايا السلطان من بيت المال و الإذن في استيجار أراضي المفتوحة عنوة و الإذن في إقامة الحدود و غيرها من شئون

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 255

الولاية التي تصدّوا في الخفاء بممارستها.

و كذلك إذنهم لشيعتهم في تولّي الولاية في أنظمة الظالمين لتخفيف الظلم و دفعه عن شيعتهم و مساعدتهم للوصول إلي حقوقهم و إباحتهم للمَغنَمْ أو إذنهم لبعض الخواص و التصدّي لجملة من الأمور السياسية إلي غير ذلك من الموارد؛ إذ مقتضي هذه المقولة الزاعمة أنّ عدم تصدّيهم بالفعل للأمور- في العلن بسبب حجب الضالمين لهم- يوجب زوال ولايتهم و سقوطها تنسحب هذه المقولة لحالات كلّ الأئمة و اللازم علي ذلك ليس سقوط ولايتهم فحسب، بل إمامتهم أيضاً لأنّ الولاية بدرجاتها الإعتبارية و التكوينية و الغيبية هي حقيقة الإمامة بدرجاتها و شئونها التكوينية و الإعتبارية و التفكيك لا محصلّ له و من اللوازم و المحاذير حينئذٍ أن يكون الإمام المعصوم رعيّة لغيره و بدل أن يطاع، يطيع و لما تحقّق معني الغصب من رأس، إذ الفرض أنّ ولايتهم تزول بعدم التصدي فأيّ معني للغصب حينئذٍ؟

الثالثة: إنّهم وقعوا في تدافع في الإستدلال و الفرض، حيث أنّهم حاولوا الإستدلال علي نيابة الفقيه في الغيبة عن المعصوم في إقامة الحكم، ثمّ استدلوا بقاعدة الشوري أو ولاية الامّة و أنّه علي تقدير عدم تمامية أدلّة النيابة، فإنّه يمكن الإستدلال بالشوري و ولاية الأمّة علي نفسها في زمن الغيبة و عدم النص.

وجه التدافع في الفرض: إنّ الإستدلال بقاعدة الشوري أو ولاية الامّة علي نفسها يتضمن فرض مسبق و هو عدم موضوع للنص بإمامة الأئمة الإثني عشر و الإستدلالُ بأدلّة النيابة يتضمن فرض موضوع النص و أنّ مركز و قطب

الولاية الفعلية هي العصمة و بالتالي يحصل تدافع في الإستدلال أيضاً، حيث أنّ أدلة الإمامة بنفسها دالّة علي أنّ الولاية ليست للأمّة و لا للشوري بحالٍ أبداً و أنّ الشوري بمعني مداولة الآراء و البحث عن استقصاء المعلومات كبنك المعلومات

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 256

و التجارب و الخبرات لا حاكميّة اكثرية الإرادات. «1»

ثمّ إنّ استدلالهم علي النيابة أيضاً يتضمن تدافع آخر مع دعواهم بعدم الموضوع للنص، حيث إنّهم استدلّوا لنيابة الفقيه بالروايات الصادرة عن الصادق عليه السلام و الأئمة السابقين عليهم السلام علي نصب الفقهاء نوّاباً بالنيابة العامّة و هذا يقتضي أنّ ولاية المعصوم الفعلية لا يشترط فيها التصدّي الفعلي الظاهر و لا حياته و وجود المعصوم في دار الدنيا كالأئمة السابقين عليهم السلام فضلًا عمن هو حيّ موجود منهم في دار الدنيا و هو المهدي عليه السلام و من ثمّ كانت ولاية الرسول صلي الله عليه و آله و سلم فعلية في زمن الغيبة و بعد وفاة الرسول و لم تنقطع ولايته و كذلك الحال في ولاية اللَّه تعالي، مع أنّ الباري تعالي ليس بجسم يتصدّي فعلًا للأمور بالمباشرة، بل توسّط خليفة اللَّه في الأرض و هو المهدي- عجل اللَّه فرجه- في عصر البشرية الراهن و إلّا فاللازم قصر ولاية اللَّه تعالي و حقّه علي التشريع فقط و أن نقول: لا ولاية للَّه تعالي- العياذ باللَّه- في السلطة التنفيذية و لا السلطة القضائية.

الرابعة: إنّ لازم هذا الفرض القول بالإمامة النوعية في الجانب السياسي و عدم حصرها بإمامة الإثني عشر؛ إذ علي تقدير أنّ الحاكم في زمان الغيبة لا يستمدّ ولايته من الإمام الثاني عشر و ليست ولايته منشعبة و لا متفرّعة و لا منحدرة منه،

بل هو يستمدّ الولاية من قاعدة الشوري بالمعني المغلوط لها، أي بمعني حاكميّة الأكثرية، غاية الأمر إنّ الإمامة تارة بالنص و أخري بقاعدة الشوري و هذا نكاح غير مشروع بين نظرية النص و نظرية الشوري، مع أنّ أدلّة نظرية النص مقتضاها امتناع خلوّ الأرض من الإمام المعصوم و أنّه لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها و مع ضرورة وجود خليفة اللَّه في الأرض فلا تنزع منه الولاية السياسية.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 257

و بعبارة أخري: إن الإستناد إلي قاعدة الشوري يتناقض و يتدافع مع الأدلة العقلية و النقلية التي يستدلّ بها علي ضرورة العصمة في الإمام و لابديّة وجوده في كلّ الأزمان؛ فالجمع بين أدلّة النظريتين لا يستقيم بحال. و بالتالي فالبناء علي قاعدة الشوري يستلزم الخدشة في أدلة النص.

الخامسة: ما تقدّم من الأدلة القرآنية و الروائية فضلًا عن العقلية الدالّه علي فعلية مباشرته- عجل اللَّه فرجه- و كذا آبائه عليهم السلام بنحو خفي متستّر بنظام الحكومة الخفية السريّة، بل هذه الحكومة ممارسة من آدم صفي اللَّه إلي خاتم الأوصياء.

دلالة وصف «القائم بالأمر» … ص: 257

إنّ ممّا يقضي بإمامة المهدي- عجل اللَّه فرجه- الفعلية وتصدّيه الفعلي للأمور و أنّ منه تنشعب الولايات، وصفه عليه السلام ب «القائم بالأمر»، فإنّه يعني إنّه غير قاعد عن الأمر، و هو ولي الأمر الفعلي، و لا يخفي أنّ الغاية والحكمة من التأكيد علي هذا الوصف هو لأجل دفع الوهم بأنّه عليه السلام في غيبته لا يقوم بالأمر بل يكون قاعداً عنه بل قد تكرّر هذا الوصف في جميع الأئمة أنّهم كلّهم قائمون بالأمر، مع أنّه لم يفصح لهم المجال رسمياً بإدارة دفّة الأمور في الظاهر المعلن ممّا يقتضي أنّ القيام بالأمر لا ينحصر بصورة الحكومة

الرسمية المعلنة، بل بأشكال اخري عديدة مُلكية وملكوتية، كما تقدم تفسيرها وتقسيمها في أقسام الحكومة.

وإلي ذلك يشير المفيد في المقنعة:

ومن تأمّر علي الناس من أهل الحق بتمكين ظالم له وكان أميراً من قبله في ظاهر الحال فانما هو أمير في الحقيقة من قبل صاحب الأمر الذي سوّغه ذلك وأذن له فيه د ون المتغلّب من أهل الضلال

و قال:

ومن لم يصلح للولاية علي الناس لجهل بالأحكام أو عجز عن القيام بما يسند إليه من أمور الناس فلا يحلّ له التعرض لذلك والتكلّف له،

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 258

فإنّ تكلّفه فهو عاصٍ غير مأذون له فيه من جهة صاحب الأمر الذي إليه الولايات ومهما فعله في تلك الولاية فإنّه مأخوذ به محاسب عليه ومطالب فيه بما جني.

و قال:

فأمّا إقامة الحدود فهو إلي سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللَّه تعالي وهم أئمة الهدي من آل محمّد صلي الله عليه و آله و سلم ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكّام وقد فوّضوا النظر فيه إلي فقهاء شيعتهم مع الإمكان. «1»

و قال:

وللفقهاء من شيعة الأئمّة عليهم السلام أن يجمعوا بإخوانهم في الصلوات الخمس … ولهم أن يقضوا بينهم بالحق ويصلحوا بين المختلفين في الدعاوي عند عدم البيّنات ويفعل جميع ما جعل للقضاة في الإسلام، لأنّ الأئمة عليهم السلام قد فوّضوا إليهم ذلك عند تمكّنهم منه بما ثبت عنهم فيه من الأخبار وصحّ به النقل عند أهل المعرفة به من الآثار وليس لأحد من فقهاء الحقّ ولا من نصبه سلطان الجور منهم للحكم أن يقضي في الناس بخلاف الحكم الثابت عند آل محمّد عليهم السلام. «2»

و يظهر من عبارته جلياً أنّ مركز الولايات والصلاحيّات بالفعل في زمن الغيبة هو صاحب الأمر وهو

صاحبه لا غيره ومنه تتشعّب الصلاحيّات والمأذونيات ومن يتصدّي لأيّ تدبير عامّ من دون إذنه عليه السلام فقد اقتحم ما ليس له.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 259

4 في طريق الوصول إلي الغاية … ص: 259

اشارة

لا ريب في أنّ الوصول إلي السلطة الرسمية أمر مطلوب للأئمة عليهم السلام لكن ليس الوصول لها بمعني أنّه بكلّ ثمن، حتي لو يفرطون في قسم كبير من المبادئ، فإذا دار الأمر أنّهم لو وصلوا إلي السلطة يفرط في الأحكام الإسلامية، بسبب المعوقات و الأعداء و خذلان الناصر و ما شابه ذلك، لا ريب في أنّهم لن يفرطوا في الأحكام الإسلامية، بل يبقي ربما في الظلّ من خلال مواقع السلطات الأخري لكي يحافظ علي إقامة الأحكام الإسلامية بشكل أكثر و أكثر لكيلا يبتزّ و يزايد عليه في تغيير أعراف صحيحة وفي تغيير قوانين و سنن و عقائد و برامج أخري صحيحة، فما الفائدة في ذلك إذا كان هو بسبب قلّة الناصر أو معاوقة المعاوق، سوف يلجأ إلي التغيير؟ بالعكس يبقي خارجاً عن هذه السلطة، لأنّ هدفه الأحكام.

نعم إذا توفّرت تلك الأيدي والأسباب لا ريب أنّه يتصدي لأن يقيم تلك الأحكام؛ لذلك نشاهد أنّ كثيراً ممّن يحلّل نهضة الإمام الحسين عليه السلام و كثيراً ممّن يحلّل سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام يقول ليسوا بسياسيين؛ طبعاً إذا كان أفق أميرالمؤمنين عليه السلام والأئمة عليهم السلام هي السياسة التي هي بند من بنود الحكم، يعني تقلّد و تربّع لأجل المقاعد الدنيوية و متعة الشخص و الفرد، فليس هو بسائس بهذا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 260

المعني وليس قيمه وسياساته وضوابط سياساته وقواعد سياسات الأئمة عليهم السلام هي هذه التي هي معروفة لدي البشر. إذا كانت هذه هي قواعد اللعبة السياسية، فطبعاً بهذا المعني

ليسوا ساسة، وإنما لديهم قواعد للسياسة الربانية لبناء الحضارات و دولة القوانين ودولة الأعراف، لا دولة الفرد و لذائذه و شركاته المالية و ما شابه ذلك أو تعصبات أخري عرقية أو عنصرية أو قومية. فهذه ليست محطّ نظرهم ولا مطمح نظرهم النهائي، هم فوق هذه الآفاق، وفوقها هناك دوائر و آفاق أوسع.

و من ثمّ لو أردنا أن نستقرأ نفس الأنبياء، فالنبي ابراهيم عليه السلام و قد جعله اللَّه تعالي إماماً- و هذا يخاطب به كلّ المسلمين حيث ورد النص بإمامته- فَلِمَ لَم يسعَ للخلافة الظاهرية بكلّ وسيلة كان فيها تفريط بالمبادئ، لا بمعني السعي بمعناه المطلق و إلّا فَهُم دائما يسعون.

و قد مرّ بنا أنّ الأول و الثاني و الثالث كانوا يرقبون من بُعد أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام تتجذّر قاعدته الشعبية أكثر فأكثر، فيقولون هو في مسير يوصل نفسه إلي سدّة الحكم … لأنّ أميرالمؤمنين عليه السلام لا يفرط في الحكومة الظاهرية؛ لأنها مسئوليات وواجبات يجب أن يقوم بها، لكن الكلام: لِمَ لَم يَسعَ بكلّ وسيلة و بأي ثمن حتي ثمن التفريط بالمبادئ و الأحكام للوصول الي الحكومة المعلنة الظاهرة؟

نقول: هذا هو الذي يتحاشونه، لا أنّهم يتحاشون الوصول إلي نفس القدرة بموازين مشروعة؛ أمّا إذا أصبحت السلطة هي هدفاً نهائياً، و إقامة الأحكام بسبب معاوقة المعاوقين غير ممكنة؛ فحينئذ لن يكون ذلك عندهم الهدف بشكل مطلق، حتي لو أدّي إلي التفريط بإقامة الأحكام، و ليس ضمن كسل أو بلهانية من العيش أو ابتعاد عن مجريات الأمّة. فإنّ الذي يبتعد عن مجريات الأمّة، لن يستطيع أن يقوم ببقيّة دوائر ونوافذ وأنواع السلطات بالشكل التام ولذلك هم يقولون: «من ألمّ بحوادث زمانه لم تلبس عليه اللوابس.» يعني

من عرف ما يدور حوله، فلا ريب في أنّ للمؤمنين نظاماً سواء في الظلّ أو العلن، غاية الأمر قد يحكمه غيره هذا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 261

النظام الإجتماعي، وفي فترة أخري قد يحكم نفسه، و يتوازن مع غيره و إلّا فدائماً لدينا حكومة بهذا المعني و لدينا هذا النظام، فإنّهم في صدد إقامة الأحكام الإسلامية و بالسلطات المختلفة، لكن مع مراعاة إقامة الهدف النهائي و هو إقامة الأحكام من دون تفريط، فإذا أعوقهم معاوق فلا يسعون نحو السلطة المعلنة؛ نعم مرونة حركتهم و عملهم دائما موجودة.

وهذا الذي أنا أقرؤه من روايات عدم الخروج يعني إنّ في ظلّ مسيرة الحق يجب أن لا يفتقد برنامج وموازين الحق بمنطق الغاية تبرّر الوسيلة أو غيرها.

مشروع إختراق السلطة الرسمية وكلمات الفقهاء … ص: 261

عبّر جميع الفقهاء في بحث المكاسب المحرّمة أنّه يجوز، بل يجب تولّي ولاية الجائر إذا كان في ذلك دفع للضرر عن المؤمنين وعن الإيمان و الإسلام أو كان في ذلك نفع للمؤمنين ولمسيرة الإيمان و للإسلام، سواء ولاية قضاء أو ولاية سياسية أو عسكرية. و لذلك نري الإمام الصادق عليه السلام عنده داوود الزربي وزير في دولة المهدي العباسي والسفاح والمنصور الدوانيقي؛ و الإمام موسي بن جعفر عليه السلام عنده علي بن يقطين وهذا كمثال بارز و إلّافعندهم جنود أكثر. فالروايات تحثّ أنّ هؤلاء كالنجوم الزاهرة الذين يخترقون ويعينون مسيرة الإيمان ويصحّحون المسيرة ويدافعون عن الإسلام، فإنّ كثيراً من مسلّمات الإسلام يتلاعب بها السلاطين، مقابل مصالح و نزوات و مآرب دنيوية لديهم أو لتعاونهم مع الكفار؛ فوجود مثل هذه المفاصل في النظامات ضروري منّا، كي نُدرأ عملية الإعوجاج أكثر، لا يدعم الإعوجاج أكثر، بل يدفع عن المؤمنين وعن الإيمان و عن مسلّمات الإسلام.

كذلك الإمام الرضا

عليه السلام كان لديه من خلّص أصحابه محمد بن إسماعيل بن يزيع، وزيراً عند المأمون، مع أنّ هذا الشخص من حواريي الرضا عليه السلام.

إذاً هذا أحد المشاريع السياسية التي يؤكّد عليها دائماً فقهاء الشيعة ولم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 262

يرتاب في جوازه، بل ضرورته، فلدينا مشاريع سياسية وأدوار ونوافذ وأشكال من النشاط السياسي و الإجتماعي و العقائدي أو نشاط الحكومة، شريطة أن نقوي بني المبادئ، لا أن نستهين بها ونتهاون بأدني ذريعة في التفريط بها، تحت ذريعة الوصول إلي هدف مقدس أكثر.

النبي ابراهيم عليه السلام كان إماما بنص القرآن وقد سعي ولكن لا إلي السلطة الظاهرية، بل كانت لديه السلطة الخفية و قد قام في وجه النمرود في ثورة عقائدية معلنة، بل مواجهة ميدانية اصطدامية معه في قضايا ورموز عقائدية.

فالمقصود إذاً إنّ الأنبياء لا نستطيع أن نحلّل أدوارهم إلّابعد دراسة أساليب السلطة و القدرة.

السلطة الرسمية مطلوبة لهم عليهم السلام ضمن موازين … ص: 262

إنّ الأئمة عليهم السلام يريدون الحكومة الظاهرية، ولكن لايريدونها بأيّ ثمن حتي ثمن المشي والدوس علي المبادي أو الموازين و إنّما يريدونها بثمن الموازين الصحيحة؛ فإقامة الحكم الإسلامي عندهم مواقع متعدّدة، جملة منها كلّهم مشتركون فيها، مثلا الحكومة الخفية التي هي حكومة الأبدال والأوتاد والنقباء، هذه موجودة منذ آدم عليه السلام إلي يومنا هذا و هذه غير النواب الأربعة في الغيبة الصغري وغير النواب العامين، فلهم سمة أخري و يقومون بأدوار في مفاصل الأنظمة البشرية عموماً، أو دور التوجيه العقائدي وكلهم يشتركون في ذلك مع شدّة الضوء وخفّة الضوء عند إمام دون إمام. نعم إنّ نمطاً من الأئمة عليهم السلام يقومون بالحكومة السياسية المعلنة، ونمطاً لا يقوم، و نمطاً يقوم بالمواجهة العسكرية المسلحة و نمط لا يقوم، فربما يستلزم نوعاً من التسعير،

لأنّ نوع المدافعة و المحافظة علي الثوابت لا بدّ منه، ولكن تختلف بحسب الظروف، قد يكون الأسلوب السلمي نافعاً و قد يتطلب الأمر تسعيرا في الموقف، كما في الجهاد الدفاعي، فالكلّ أفتي بالجهاد الدفاعي أو جهاد البغاة، حتي في زمن الغيبة لم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 263

يتردّد فيه أحد، ذلك لأنّ في الجهاد الدفاعي تصل النوبة إلي أنّ أصل الثوابت تهدّد، فأيّ سلم يبقي؟!

أمّا في بعض الموارد فالثابت نسبة منها محفوظة، غاية الأمر لو أردنا أن نكمل بقية الثوابت أو إقامة بني الأحكام الإسلامية يستلزم لدينا تضييع و تفريط، لابدّ حينئذ أن نستسعي بالطريق السلمي وما شابه ذلك.

فهي آليات وبرمجيات يجب علي الباحث قراءتها، شريطة أن يلتفت إلي أنه:

ما هي الثوابت؟ وما هو أفق العمل؟

قد يتساءل أنّه ألّا يجعل هذا التفسير من المذهب الشيعي مذهباً باطنياً؟

هذا السؤال في الواقع كان يرمي به خصوم الشيعة كثيراً، و الغريب أنّ هذا الذي يرمون به الشيعة تبين أنّه عنصر متطوّر في منهج الشيعة. إن كان المراد من الباطنية التخليط والانكفاء والجمود فهذا طبعاً ليس من مذهب الشيعة؛ لكن إن كان المراد بالباطنية هذا المعني الذي هو من أسماء اللَّه الحسني في سورة الحديد:

«هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ» فهو اسم كمال لا نقص. فإن كانت الباطنية أنّ للقرآن تأويلًا حقاً عند" الراسخين في العلم"؛ فنؤمن به.

فالغيبة ليس عبارة من أنّه عليه السلام قاصي الديار و إنّما هي مقابل الظهور لا مقابل الحضور و إن كان في جملة من تعبيرات علمائنا غفلة و خطأ عبّروا بزمان الحضور وزمان الغيبة. هذا خطا وليس تعبيراً روائياً والتعبير الروائي زمان الغيبة وزمان الظهور.

و كلاهما حضور ولكن حضور معلن وهو الظهور،

وحضور غير معلن وهو الغيبة، فإذاً حتي الغيبة منطق من العمل والمحافظة علي القيادة في ضمن نشاط القيادة وحركيتها علي قدم وساق من دون أن تعطل. فالباطنية بمعناها الصحيح أي الخفاء حذراً من تحمّل شوكة ورماح العدو، هذا شي جيد.

نعم ليس لدينا استيحاش من ابداء عقائدنا والبرهنة عليها والسجال العلمي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 264

عليها، وهذا ما يدّل علي نصاعة مدرسة أهل البيت عليهم السلام و عقائدهم، التي بحيث لا تتهيّب أمام أيّ سجال و حوار علمي موجود.

حول روايات حرمة إعانة الظالم والتقية علي ضوء النظرية … ص: 264

لاريب أنّها ثوابت وتوصيات لا محيد عنها، وهي تعطي بصيرة في المشاريع السياسية المختلفة و يجب عدم خلط الأوراق بعضها مع البعض، مثلا في الجهاد يبحث لدينا الإمامية أنّه لو هجمت دولة كافرة علي نظام مستبد اسلامي يجب إدارة المعادلة بنحو لا يصبّ البرنامج الدفاعي الذي نرسمه في إبقاء الظالم وحماية نظامه، وبنحو يجهض المشروع الكافر أو الأجنبي في طمس الإسلام، فلا يكون فيها إعانة الظالم و لا التفريط ببيضة الإسلام ودار المسلمين؛ فهنا تكمن الفطانة والفراسة من الخبراء السياسيين و العسكريين والخبراء القانونيين في تفكيك الأوراق.

تفكيك الأوراق هي التي- للأسف- لا تحصل في المشروع السياسي ويصير خلط وافراط وتفريط دائماً؛ فعند ما يقال: أحد بنود المشروع السياسي الإختراق، لا يعني الإختراق بما يدعم الكيان الظالم أو الظالم في ظلمه.

إذن فمن الذكاء في التدبير أن لا تتصادم الثوابت و لا يسوِّف ثابتاً علي حساب ثابت آخر.

إنّ القاعدة العامّة في المبادئ والحدود الإلهية أن يحافظ علي الحدّ الالهي ولا يفرط فيه تحت ذريعة احتمال حدّ الهي أهمّ ليس مجزوماً به ولا مقطوعاً به، فهذا يفتح باب الذرائع والتفريط في الحدود الإلهية.

إنّ اللَّه تعالي حينما رسم لنا حدوداً، فهذا

يعني أنّ مسئوليتنا في ضمن تلك الحدود لا ما وراء تلك الحدود. نعم نعمل الفطانة والخبروية الموضوعية والذكاء في التدبير، كما قلنا أنّها إحدي الآليّات. فإذا كان الإنسان لم يقصّر و قام بمسئولية الإلمام بزمانه، بيئةً و علوماً و ثقافةً و قام بالمسئولية الشرعية و ضمن الحدود

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 265

الإسلامية، بعد ذلك تقع المسئولية علي البرنامج الإلهي عبر الإمام المعصوم عليه السلام هو المسئول؛ فليس فيه تواكل ولا تكاسل ولا افراط، بل عملية فيها تناسب و رجاء و خوف، سواء من نظرة معرفية أو من نظرة آلية فقهية. الإنسان قد قام بمسئوليته عبر أسباب عديدة فيجب أن يلمّ بها ثمّ يقوم بالمشورة و التوسل و الإرتباط باللَّه و الدعاء، فمن يتوكّل علي الأسباب و التدبير من دون أن يتوكّل علي الدعاء، هذا إفراط أيضاً أو من يتوكّل علي الدعاء دون عمل، هذا تواكل و تفريط، فيجب أن يكون الإنسان بين الخوف و الرجاء مذعن أنّ الأسباب من ورائها كلّ شي بيد اللَّه.

أذكر كنموذج لهذا الدور: قد تصوّر الأمويون والمذاهب العامّة أنّ الإمام الحسن عليه السلام في صلحه سلّم الأمور بالتمام لمعاوية؛ هذا كذب، بل هو نوع من المهادنة المؤقتة مع معاوية أو نقول هدنة مؤقتة لا هدنة تامّة لأجل أن لا يفرط بمصالح أخري شرعية، و هو قطع المفسدة أو الشر الذي سوف يعيق مسار الايمان والمؤمنين.

و في قضية أخري: انظر كيف هدّد المامونُ الإمام الرضا عليه السلام بالقتل ان لم يستلم ولاية العهد؛ الإمام يرضي بقدر ما يدفع به هذا، بشرط أن لا يعزل ولا ينصب، يعني ماذا؟ يعني عملًا لايشارك في هذا الظلم والعدوان ولا يصبغه شرعية أكثر؛ بل يصير بدل

ما يلعب المأمون لعبته كي يشرعن نظامه أو يخمد حركات العلويين المعارضة، فإنّ الإمام الرضا عليه السلام جعل اللعبة تصبّ في مسير الإمامة والايمان. قال: أقبل الولاية، بتخيل المأمون أن هذا يكفي لشرعنة نفسه، أما أرفض أيّ عزلٍ وأيّ نصب، أي لا يوجد أيّ تفعيل للمنصب، وقد رأي الكلّ أنّ هذا ليس انتصاباً فعلياً إذَن.

ثمّ بعد ذلك هو عليه السلام اخترق السلطة، المنتدي الرئاسي للدولة الإسلامية العلمي ينعكس صداه في كلّ الأصقاع سيما أنّ المأمون قد جلب من أمم أخري،

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 266

النصاري واليهود و من محافل دولية أخري، واستطاع الإمام أن يبرهن برهانا علميا أنّهم أئمة أهل البيت عليهم السلام بإحاطتهم بالتوراة و الإنجيل و العلوم الغريبة و غير ذلك و هذا هو الظفر للإمام و الإمامة. و لذلك قال المأمون لعبتُ لعبة ولكن أتت بها عَلَيّ.

و هذه قاعدة من قواعد العلوم السياسية و من علائم الحكمة و الذكاء أن تستثمر الضربة التي وجهت لك؛ كيف تعود إلي عدوك؟ أو لعبة أو مؤامرة جرت كيف تستثمرها مؤامرة للمتآمرين عليك؛

قاعدة دفع الأفسد بالفاسد وفرقها عن قاعدة التزاحم والعناوين الثانوية … ص: 266

إنّ المعني الفاسد لهذه القاعدة هو جواز ارتكاب الفاسد- و لو من الكبائر- لدفع الأفسد الأكبر. هذا لا يبني عليه الإمامية، فما ورد من أنّ التقية في كلّ شي حتي تبلغ الدماء، فإذا بلغت الدماء فلا تقية؛ ليس إشارة للتقية فقط، بل اشارة لكلّ العناوين الثانوية.

إنّ العناوين الثانوية لاجل البلوغ إلي درجة معينة فرضاً الإضطرار للكذب أو للتصرف في مال الغير و غير ذلك ولكن إذا وصلت إلي الدماء أو إلي ملاكات كبيرة فحينئذ لايسوغ مثلًا إنّ عنصراً مخابراتياً يرتكب الزنا و اللواط والفحشاء و القتل و غير ذلك لأجل أن يسترقّ معلومات

خطيرة مثلًا عن الكيان الصهيوني هذا لا يسوغ و الغاية لا تبرر الوسيلة. كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: واللَّه إنّي أعلم ما يصلحكم ولكن هيهات أن أفسد نفسي بصلاحكم.

فلو فتحنا باب العمل بقاعدة دفع الأفسد بالفاسد، لكان فتحاً للفاسد علي مصراعيه تحت محتملات الأفسد، وبالتالي يصبح الفاسد هو الأفسد؛ لذلك تري المشهور يقولون لو أكرهت علي أن تقتل زيداً، أو يقتلك الظالم، لا يجوز لك أن تقتل زيداً، و قد شذّ السيّد الخوئي قدس سره بين علماء الإمامية أنّه مخيّر ولكن العلماء كلّهم يفتون بالحرمة، فإنّ حفظ النفس واجب ولكن هل نحن مأمورون أن نخلد

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 267

في الأرض؟ لا، حفظ النفس إلي حد الإمكان و في الوسائل المباحة، أمّا في الوسائل غير المباحة فَمن قال أنّه يجب علينا حفظ النفس؟

فالأصل الأولي في الحدود الإلهية أن يتقيّد بها، وارتكاب المحذور يجب أن يكون بمسوّغ دقيق مضبوط مقولب، و هذه قواعد صعبة التطبيق، وجملة من العلماء لديهم نقد وابرام حادّ لاجل صعوبة التطبيق فيها ولا سيما مع جهالة غير المعصوم و عدم إلمامه بالدقة بدرجات الكبائر و أنا كنت أمثّل لدولة الحضارة للمعصومين، بهذا المثال:

كيف لو رمي الإنسان حجراً في حوض تتداعي لك الأمواج إلي نهاية الحوض، المعصوم عندما يرتكب فعلًا يعلم بتموّج هذا الفعل و هذه السيرة إلي آخر أمواج الأجيال البشرية، يعني يعلم عندما يرتكب هذا الفعل أنّه سوف تأتي أجيال إما ستسترفد منه ايجابياً أو سلبياً. هذا هو عظمة الإعجاز في التدبير الإلهي و ضرورة حاكميّة اللَّه سياسياً عبر المعصوم.

فالقانون الإلهي لا يكفي فيه العصمة في التنظير، بل يجب أن يكون هناك عصمة في التطبيق أيضاً كي لا يطبق

القانون بشكل مناقض لأهدافه.

***

هل المصلحة في النظام الإسلامي [تسوّغ إرتكاب المحرّمات الأوّلية بقاعدة حكومة مصلحة النظام الإسلامي علي الأحكام الأوّلية أم لا؟] … ص: 267

اشارة

سواء فسّرت بالوصول إليه أو بالمحافظة عليه، تسوّغ إرتكاب المحرّمات الأوّلية بقاعدة حكومة مصلحة النظام الإسلامي علي الأحكام الأوّلية أم لا؟

و نسلّط الضوء علي ذلك القانون في بنود ثلاثة:

1. تفسير قاعدة المصلحة

2. معاني المصلحة

3. أدلّة القائلين بمشرّعية المصلحة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 268

1. قاعدة مشرّعية المصلحة و تفسيرها … ص: 268

و لهذه القاعدة في نظام الحكم السياسي تفسيران:

الأوّل: إنّه لأجل الوصول إلي الحكم و القدرة أو المحافظة علي بقائها يُسَوَّغ ارتكاب المحظورات تحت ذريعة أنّ وصول أهل الصلاح و العدل إلي سدّة القدرة و بقائهم فيها يوجب الخير الكثير في مقابل الشر و المفسدة الأقل.

الثاني: إنّ الحاكم يَسُوغ له ارتكاب المحظورات في موارد دفع الأفسد بالفاسد.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 269

2. معاني المصلحة … ص: 269

الأول: حرمة النفس والعرض والمال ورعايتها وسلامة الأنفس والأعراض و الأموال، سواء بين الجهة الفردية أم المجموعية.

الثاني: سلامة النظام المدني الإجتماعي الضروري للمعيشة، سواء علي صعيد الضرورة الأوليّة أم الكمال الثانوي. و لعلّه إلي هذا يشير قول أميرالمؤمنين عليه السلام:

لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعملُ في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلِّغ اللَّه فيها الأجل ويُجمَع به الفئ ويُقاتَل به العدوّ وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتي يستريح بَرّ ويُستراح من فاجر. «1»

والظاهر من قوله عليه السلام: «يعمل في إمرته المؤمن»، هو أدني درجات إقامة البرنامج الديني.

و قوله عليه السلام: «يستمتع فيها الكافر»، أي حصول الكمالات المعيشية.

و قوله: «ويبلِّغ اللَّه فيها الأجل»، أي تقديرات الأمور وبلوغ ما يمكن بلوغه من الأمور إلي غايته.

و قوله: «ويجمع بالفئ»، تنظيم النظام المالي في النظام الإجتماعي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 270

وقوله: «ويقاتل به … » إلي آخره، فالمراد به الأمن الداخلي والخارجي والأمن القضائي ويتمّ به أدني درجات العدل النظامي ويُرْدَع المتخلّف عن ذلك.

الثالث: حفظ معالم الدين الأصلية والأساسية وهما قد يسمّي ببيضة الدين و هو كلّ مَشعَر ومَعْلَم ركني أمَر الشارع بإقامته في بناء الدين سواء علي صعيد الإعتقاد أو التشريع التنظيري أو التطبيق العملي والسنن السائرة. الرابع: كلّ ما كان مقدّمة

لأداء واجب أو ترك حرام.

لخامس: التزاحم والورود والتوارد؛ أي مراعاة الأهم ومراعاة ذي الرتبة المقدّمة.

السادس: تبرير الهدف والغاية للوسيلة.

السابع: ملاكات الأحكام وجهات الحسن والقبح وهو الذي يطلق عليه المصالح والمفاسد والكمال والنقص. ويشير إليه قوله عليه السلام «إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» والمعبّر لدينا في الأصول بحكمة المجعول وعلل الجعل.

الثامن: أخذ العلم بتحقّق الموضوعات أو العلم بجعل الحكم أيضاً قيداً في موضوعات الأحكام وهذا يلزم منه التصويب في التكوين أيضاً مضافاً إلي التشريع. والغريب من القائل تفسير ذلك بأنّه قيد التنجيز مع أنّه قيد الفعلية؛ و المعذوريةُ في مقام التنجيز في البحث لا يغني ولا يسمن من جوع.

التاسع: حفظ قدرة الحاكم والحكومة وبقاؤهما في الحكومة الدينية.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 271

3. أدلّة القائلين بمشرّعية المصلحة … ص: 271
اشارة

قد يبرّر إرتكاب الوسيلة المحرّمة لأجل الوصول إلي الهدف و الغاية المهمّة تحت ذريعة وجوه كالتالي:

1. قاعدة سدّ الذرائع؛

2. قاعدة المصالح المرسلة؛

3. قاعدة العناوين الثانوية؛

4. قاعدة التزاحم؛

5. قاعدة لا ضرر و لا حرج؛

6. حكم العقل بتقديم الأهمّ؛

7. قاعدة دفع الأفسد بالفاسد؛

8. منطقة الفراغ؛

9. قاعدة الشروط الإلزامية؛

10. دور الزمان و المكان في الإجتهاد؛

11. الحكم الولائي؛

12. قصة داود عليه السلام.

و ندرس تلك الوجوه في ما يلي:

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 272

قاعدة سدّ الذرائع و المصالح المرسلة … ص: 272

و يرد عليهما ما هو محرّر في علم الأصول من الخدشة في صحتهما لا سيّما مع بيان النقاط الآتية.

مع أنّ المصالح المرسلة ليست قاعدة لتشريع الأحكام و أمّا هي- علي القول بها في التدبير السياسي في موارد المباحات- فكيف يتصور رفع اليد بها عن الأحكام الأولية من دون وجود تزاحم أو ورود أو عنوان آخر من عناوين معالجة الحكم في ما لو كانت هذه المصلحة تؤول إلي إقامة أغراض شرعية ملزمة.

وفي القول بتخصيص عمومات الكتاب والسنّة بالمصالح المرسلة خَلْطٌ بين مقام التشريع ومقام التطبيق.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 273

و أمّا العناوين الثانوية … ص: 273

فيرد علي التمسك بها:

أولًا- إنّ العنوان الثانوي لا يسوغ التمسك به بنحو الدوام وإلّا لانقلب الثانوي إلي أولي والأولي إلي ثانوي.

ثانياً- إنّ العنوان الثانوي يرجع في المآل إلي قاعدة التزاحم كما حُرّر في علم الأصول.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 274

و أمّا قاعدة التزاحم … ص: 274

فيرد علي التمسك بها بنحو دائم كثير:

أولًا- إنّ الحاكم السياسي أو الشرعي يجب عليه أن يتحفّظ علي الملاكات والأحكام الشرعية وإقامتها بقدر الوسع المستطاع بتدبير يتكفّل مراعاتها أجمع مع ما أمكن إلي ذلك سبيلًا.

أي يجب عليه الممانعة عن التفريط بأيّ منها وعدم التشبّث بذريعة أهمية بعضها للتفريط بالمهم، فيجب عليه الممانعة عن وقوع التزاحم أو المسير في مسار يُؤدّي إلي الاضطرار أو إلي التمسّك بالعناوين الثانوية ونحو ذلك؛ لأنّ كلّ هذه الحالات هي خلاف الغرض من الحكم التنفيذي وإجراء الأحكام الذي هو إقامة جميع الأحكام، بل لو قُدّر وفرض وقوع التزاحم أو حالات الإضطرار اتفاقاً فاللازم عليه التحرّي سبيل عدا موضوع التزاحم و الإضطرار أوّلًا، لا المسارعة في التشبّث بمقتضي التزاحم و الإضطرار.

و بعبارة أخري: هدف الإسلام أن يغير الظروف الإجتماعية المريضة إلي المرام التي هو فيها لا أن يتأثّر منه وإلّا إنّ النظام الرأسمالي أو النظام الشيوعي ضرورة عصرية. فالضرورة عنوان فضفاض لابدّ أن يحدّد إن كان يرجع إلي بديهيات عقلية وإن كان يرجع إلي نظريات علمية ويصادم الأحكام الشرعية

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 275

الأولية فلا يعول عليه.

وعلي ضوء هذا الأصل- أي لزوم تحفّظ الحاكم علي الأغراض الشرعية والأحكام الأولية- كان اللازم الفحص في الشبهة الموضوعية للحاكم؛ لأنّ إقامة الأحكام وأداء الأغراض الشرعية لا يتمّ إلّابذلك؛ لا أن يعالج هذه الموضوعات العامّة بعَفَوِيّة وبالإدراك السطحي الظاهري لها، بل عليه أن يفحص جوانبها وجهاتها درءاً عن التدافع

بين الأحكام فضلًا عن التطبيق الخاطئ لها.

ومن ثمّ ذكرنا من بحث الربا أنّ التوسّل بالحيل الشرعية الثانوية أو تسويغ ارتكاب بعض محرّمات الربا في النظام المصرفي والمالي تحت ذريعة الإضطرار غير سائغة، بل اللازم علي الحاكم هو تعبئة أهل الخبرة في الموضوعات المختلفة لتكييفها وبنائها علي الصورة الشرعية للأحكام لا تكييف وعطف الحكم علي وجودات الموضوعات بحسب بنائها القائم الراهن.

فالمسئولية تقع علي أهل الخبرة والإختصاص في كلّ مجال لصياغة وبناء بُني النظام المدني علي هيئة الأحكام الشرعية لا عطف الأحكام علي صورة الموضوعات والبُني كيف ما كانت كمنع عمر عن زواج المتعة، فإنّه بدل عن أن يحافظ علي أصل التشريع ويسعي لتنظيم طرق الإجراء، منع عن أصل الحكم الإلهي.

و بعبارة أخري: إنّ اللازم في الحكومة السياسية هو المهارة في تطبيق الأحكام وأصولها علي الموضوعات المختلفة، كما أنّ اللازم في الظروف المستجدّة والموضوعات المختلفة المتولّدة هو فطنة الفقيه في الوصول إلي الأصل التشريعي المناسب في التطبيق واستكشاف المنطبق منها علي تلك الموضوعات لا تجميدها- وهو تحكيم صيغة المصلحة عليها- هذا أوّلًا.

ثانياً- إنّه لا يسوغ إجراء قواعد التزاحم، لا سيما في النظام السياسي الحاكم في الأموال والأعراض والنفوس فضلًا عن إقامة معالم الدين، بمجرد احتمال

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 276

التدافع لا سيّما بين موضوع فعليّ قائم وموضوع مستقبليٍ محتمل؛ فإنّ بمجرّد الإحتمال لا يجوز رفع اليد عن الملاك الملزِم الحاضر وهذا الميزان جارٍ حتي بالإضافة إلي الحكم ذي الملاك الأهمّ مع فرض مجرّد احتمال تحقّق موضوعٍ مستقبلًا.

وعلي ضوء هذا الميزان وهذه الضابطة عند الجواب سابقه ولاحقه عُرفت عدّة قواعد في التشريع الإسلامي متولّدة من ذلك:

نظير: لا عقوبة قبل الجناية ولا حدّ قبل ارتكاب الموجِب و نظير ما عُرّف

من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام مع مُناوِئيه من قبيل الخوارج أو بغاة الجمل إنّه لم يُقِم عليهم الردع السياسي ما لم يتورّطوا بارتكاب المواجهة المسلحة.

ونظيره ما جري من اعتراضات النبي موسي عليه السلام علي خضر عليه السلام فإنّه- و ان بيّن الخضر وجه الحكمة بتوسّط العلم اللدني الذي أعطاه اللَّه إيّاه الذي هو ليس ميزان عملٍ للتشريع العامّ في النظام المدني البشري ولا النظام الفردي عدا المعصوم- فإنّه دالّ علي أنّ الميزان العامّ في الشريعة والتشريع هو علي لزوم التحقّق والعلم به من الطرق المعتبرة لدي الشارع لا بمجرد الظن السياسي والحدس النفسي لدي الحاكم السياسي فضلًا عن التعويل علي الكَهَنَة والمنجّمين ونحو ذلك.

ومن تلك القواعد التي نشأت من هذه الضابطة، ما عُرف لدي الإمامية من ردّ قاعدة المصالح المرسلة، فإنّ عمدة ما أشكل به علي قاعدة المصالح المرسلة هو أنّها إقامة لباب التزاحم في المورد المحتمل غير المحقّق.

وفي سيرة أمير المؤمنين موارد عديدة رفض عليه السلام منها التدّرع بقاعدة التزاحم للوصول إلي الحفاظ علي جملة من الأغراض والأهداف الشرعية بالتفريط في جملة أخري كما في قوله المشهور:

أتَأمرونّي أن أطلب النصر بالجور في من وُلّيتُ عليه واللَّه لا أطُورُ به ما سَمَرَ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 277

سمير وما أمَّ نجم في السماء نجماً. «1»

بل إنّ في سيرته شواهد علي ما تقدّم في الجواب الأول من أنّ وظيفة الحاكم رفع موضوع التزاحم.

ومن تلك القواعد التي نشأت من ردّ التدّرع بقاعدة التزاحم ما عرّف في الفكر القانوني الإسلامي من أنّ الأهداف لا تبرّر الوسيلة.

ثالثاً- إنّ تحديد ومعرفة درجات الأهمية في الملاكات وموازنتها بعضها مع البعض وموازنة درجة التدافع بينها لا سيما بحسب اختلاف أفراد موضوعات كلّ

منهما لا يتيسّر إلّاللمعصوم وأمّا غيره فليس له حظّ من ذلك إلّافي موارد محدودة؛ وعلي ذلك فلا يسوغ له الخوض في إعمالها بالتّضنّي والتحدّس.

بيان ذلك: أنّه قد استفاض عنهم عليهم السلام «إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول»، أي أنّ علل التشريع الإلهي وحِكمه لا تحيط بها العقول المحدودة فضلًا عن أن تحيط بتفاصيل ملاكات ودرجاتها ولأجل ذلك كانت الضرورة والحاجة من البشر إلي بعثة الرسل وهداية اللَّه بإبلاغ الشرائع.

هذا مع أنّ الحال في الأحكام الشرعية بحسب مجموع المجتمع البشري ونظامه أكثر تعقيداً منه بحسب الحال الفردية لا سيّما بالإضافة إلي تعدّد شعب النظام الإجتماعي ومرافقه.

رابعاً- إنّ التزاحم والعناوين الثانوية كما حُرّر في محلّه لا توجب رفع الحكم الفعلي فضلًا عن الملاك، بل غاية ما توجب هو رفع التنجيز وكذلك الحال في موارد التقية، فإنّ غاية ما تقتضيه العذر دون تبدّل الواقع عمّا هو عليه وفي موارد إجزاء العمل بالتقية يكون من قبيل إجزاء الأبدال الإضطرارية عن الوظيفة الأوليّة من دون تبدّل الأمر الأولي عمّا هو عليه.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 278

ومن ذلك يتبيّن قاعدة شريفة في الأحكام الشرعية وهي ثباتها ودوامها في كافّة الأحوال، غاية الأمر طروّ المعذورية أو جعل البدل في مقام الإمتثال؛ وعلي ذلك فالتشريعات لا تتبدّل عمّا هي عليه في مختلف الظروف والأحوال؛ ومن ثمّ تحدّ ولاية الولاة بعدم مخالفة التشريعات الأولية كما في قوله صلي الله عليه و آله و سلم:

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقوله صلي الله عليه و آله و سلم:

المؤمنون عند شروطهم إلّاشرط خالف الكتاب والسنّة.

و أمّا التدافع بين التشريعات في مقام التحقّق والموضوع الخارجي والإمتثال فقد مرّ أنّ وظيفة الوالي هي التجنّب عن وقوع ذلك والسعي إلي

التحفّظ علي مراعاة ملاكاتهما بقدر الوسع.

خامساً- إنّ فتح الباب للموازنات الظنية و الإحتمالية بعنوان تشخيص المصلحة سوف يؤدّي إلي تغيّر معالم الأحكام الشرعية إلي معالم الأحكام الوضعية البشرية؛ لأنّ رسم بقاء الأحكام لن يكون الحالة الغالبة فيه الثبات، بل ستكون الحالة الغالبة فيه التغيّر أو بنحو المختلط بين ثبات بعضها وتغيّر واختلاف جملة وافرة أخري؛ لا سيّما وأنّ مجريات الحال في الموضوعات الخارجية إذا بني علي الإنقهار والإنفعال عنها سوف تكون قاصرة بدل أن تكون مقهورة وسوف توجب تكييف أنّ الأحكام معها بدل أن تتكيَّف هي علي وفق الأحكام وهذه عين الجدلية القائمة بين المدرسة العلمانية والمدرسة الدينية.

سادساً- إنّ مقتضي تقديم وترجيح الحكومة السياسية الظاهرة وولاية الحكم السياسي علي كلّ الفروع هو موضوعيته الذاتية في قبال تلك الأحكام فلا يصحّ حينئذٍ تعليل أهميتها وثبوتها بأنّه يتوصّل بها إلي إقامة الأحكام ولحفظ بيضة الدين، لأنّ هذا التعليل يقتضي أهمية الغاية علي ذي الغاية لا العكس، مع أنّ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 279

مقتضي القول بأهمية الحكومة علي كلّ فروع الدين هو كون الحكومة غاية بنفسهما لا أنهمّا وسيلة للأحكام الشرعية. فبين هذه الدعوي ودليلها تدافع بيّن.

وكيف يحتمل أن تكون الحكومة السياسية لغير المعصوم أهمّ من الحكومة السياسية للمعصوم التي وصفت في الأدلّة الشرعية بأنّهما وسيلة لإقامة الحق في قوله عليه السلام في نهج البلاغة:

واللَّه لهي «1» أحبّ إليّ من إمرتكم إلّاأن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلًا. «2»

ولا يصحّ مقايسة ولاية غير المعصوم في الحكومة السياسية بأصل ولاية أهل البيت عليهم السلام وذلك لما اتّضح من أنّ الحكومة السياسية للمعصوم هي أحد شئون ولايته لا كلّ ولايته وأنّ الحكومة السياسية الظاهرة للمعصوم ليست في حدّ ودرجة أصل ولاية

المعصوم، فكيف بالحكومة السياسية الظاهرية لغير المعصوم.

والغريب التفسير للمصلحة الدينية بنفس الحكومة السياسية وبقائه ثمّ الإستدلال علي ذلك بفعل أمير المؤمنين عليه السلام في الخمسة وعشرين سنة، حيث غضّ الطرف عن المواجهة المسلّحة مع حكومة السقيفة لأجل عدم التفريط لمصالح الدين.

وجه الغرابة: أنّ معالم الدين إذا كانت أهمّ من الحكومة السياسية الظاهرية للمعصوم، فكيف يكون هذا دليلًا علي أهمية الحكومة السياسية الظاهرية لغير المعصوم علي معالم الدين وإذا فسّرت المصلحة بالأحكام الأولية ومعالم الدين فكيف تفسّر تارةً أخري بالحكومة السياسية الظاهرية. مع أنّ الحكومة التي هي الضرورة هي آلية لإقامة الأحكام الأولية فإذا فقدت حيثية الآلية مسخت وتبدّلت ماهية الحكومة!

ثمّ إنّ هذا الإستدلال المتدافع ينطوي علي مغالطة أخري أيضاً وهي تصوير

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 280

أنّ حفظ معالم الدين والأحكام الأولية لا يتمّ إلّابالحكومة السياسية الظاهرية الدينية مع أنّ التجربة التاريخية للمسلمين تكذّب هذه الدعوي، فإنّ الحكومات السياسية المتعاقبة علي المسلمين قروناً عديدة لم تكن دينية حقيقة وإن تقمّص جملة منهما باسم الدين ومع ذلك تمّ المحافظة علي جملة مهمّة من معالم الدين.

كلّ ذلك لما بيّناه سابقاً من أنّ أنواع الحكومة للمجتمع لا ينحصر بالحكومة السياسية الظاهرية، بل هناك أنواع عديدة كثيرة من أشكال الحكم والحكومة غير الظاهرية نظير القدرة والسلطة الثقافية والعقائدية و إدارة نظام الطائفة بالنحو التقليدي عبر القنوات التقليدية غير الرسمية وكذلك قدرة الملكوت الخفي النازل وقدرة التحكم في الشرائح المختلفة للمجتمع بتوسط المال أو التعليم أو الإعلام أو الطقوس التربوية الدينية وغيرها من أشكال وقنوات وسلطات التحكم.

و بعبارة أخري: أنّ هناك أنظمة متعدّدة و مختلفة:

منها: النظام المعارفي والعقائدي.

منها: نظام السنن والآداب الإجتماعية.

ومنها: نظام الأسرة.

ومنها: النظام الثقافي والمالي و الإقتصادي والنظام السياسي

وغيرها من الأنظمة.

و لكلّ نظامٍ حكومة أو حكومات وقدرة أو قدرات تتحكّم فيه وليس النظام السياسي وحكومته هو المتصرّف الوحيد في الأنظمة الأخري لا سيما وأنّ الحكومة والقدرة في النظام العقائدي- التي هي من أهمّ أنظمة الدين ومعالمه وبيضته- ليست القدرة والحكومة فيه هي الحكومة السياسية، بل المرجعية الدينية الشرعية هي صاحبة القدرة والنفوذ فيه.

ثمّ إنّ هنا مغالطة ثالثة أيضاً وهي أنّه لا يعقل أهمية الحكومة السياسية الظاهرية لغير المعصوم علي الحكومة السياسية الظاهرية للمعصوم وإذا ساغ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 281

تأخير الحكومة الثانية فكيف لا يسوغ فرض تعطيل الحكومة الأولي وأنّهما فرع لذلك الأصل.

فتحصّل:

إنّ تفسير المصلحة الدينية بنفس الحكومة السياسية الظاهرية وولاية شئون الأمور العامة ثمّ الإستدلال لذلك بقاعدة التزاحم ونحوها وأهمية بيضة الدين ومعالم الأحكام تدافع واضح.

سابعاً- إنّ المراد بالمصلحة وتحديد دائرتها إن كان في ضمن حدود موقّتة زَمَنيّة وفي حدود جيل معيّن أو فئة معيّنة من دون لحاظ المصلحة في جميع الأزمان وجميع الأجيال فسوف يكون في ذلك إجحافاً ببقية الأجيال، بل بنفس الجيل بلحاظ الفترات الزمنية الأخري.

و من ثمّ بني مذهب الإمامية علي أنّه لا يحيط بالمصلحة بتمام دوائرها وبنحو منسجم متناسب في جميع الأزمان وجميع الأجيال إلّامَن وهبه اللَّه تعالي العلم اللدني.

هذا مضافاً إلي ما مرّ من أنّ الإحاطة بالموضوعات بتفاصيلها وشئونها وعلائق التأثير بين بعضها مع البعض لا يتمكّن بنحو الأتمّ إلّاذو العلم اللدني من المعصوم ومن ثم قُرّر في علوم الإدارة والتدبير في الآكاديميات الحديثة أنّ علم الإحصاء ونُظُم المعلومات من العلوم الخطيرة الهامّة ببالغ الدرجة في رسم الإدارة السياسيّة الناجحة ورسم التشريعات واللوائح البنّاءة.

ومن ثمّ أيضاً أقرّ- من قال بالعمل علي المصلحة المظنونة والمحتملة وتحكيمها علي الأحكام

الأولية- بلزوم الرجوع إلي الخبراء والمتخصصين في جملة من الموضوعات كي يرسم صورة واضحة عن واقع الموضوعات المختلفة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 282

ثامناً- إنّ جعل المصلحة مداراً ومحوراً تُعطَفُ عليها الأحكام هو بمعني جعل المصلحة المادية والقدرة والقوة السياسية المادية أعلي شأناً من الغايات الشرعية المعنوية والأخروية وبالتالي سوف يكون القدرة والقوة والغلبة السياسية هي مصدر الحق والتشريع لا الكمال المعنوي والأخروي وبدل أن تكون الدنيا ممرّاً والآخرة مقرّاً، تكون النظرة إلي الدنيا في أصول التشريع مقرّاً.

نعم هناك توازن بين الطريقية ومقدّمية المصالح المادية والدنيوية مع غائية المصالح الأخروية من أنّ الغاية ليست بنحو تُعدم الوسيلة ولا بنحو يؤول إلي جعل الوسيلة الغاية، بل لابدّ من حفظ التوازن بينهما لا سيما علي الصعيد التناسب بين الجهة الفردية والمجموعية لمجموع المجتمع من جانب ومن جانب آخر التناسب بين معالم الدين والمصالح المعيشية.

تاسعاً- إنّ تعيين المصلحة إمّا بِيَد المتخصصين في الموضوعات المختلفة، فهذا يؤول إلي عدم حاكمية المرجعية الدينية وإمّا أن يكون بضميمة نظر الفقيه باعتبار أنّ له الولاية النيابية ومن ثمّ تتعنون وتنتسب المصلحة بالحيثية الشرعية فيبقي السؤال علي حاله: من أنّ الحيثية الشرعية للمصلحة الآتية من حاكمية الفقيه لابدّ وأن تكون من جهة معرفته بالأحكام الشرعية وفِقْهِه للدين وبالتالي فسوف يكون مدار الشرعية للمصلحة هي نفس الأحكام الأولية وهذا كَرٌّ علي ما فَرَّ منه القائل بمدارية المصلحة في الحكم.

عاشراً- إنّه قد وقع الكلام والبحث حول صلاحيّة التشريع بنحو محدود للرسول صلي الله عليه و آله و سلم بعد الفراغ عن أنّ المشرّع الأوّل هو اللَّه تعالي وكذلك الكلام في صلاحيّة عترته مِن بعده للتشريع في دائرة أضيق مما كانت للنبي صلي الله عليه و آله

و سلم، فَبَيْنَ مُثبِت لذلك وبين نافٍ وإن كان الأصحّ هو ثبوت ذلك بنحو التبعية للتشريع الإلهي وتبعية تشريع الأئمة عليهم السلام لتشريعات الباري تعالي وتشريعات النبي صلي الله عليه و آله و سلم ولم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 283

يذهب ذاهب بالضرورة إلي ثبوت هذه الصلاحيّة لغير المعصومين سواء تعويلًا علي ميزان المصلحة أو علي أيّ ميزان آخر، فإنّ جملة هذه الموازين لا تُعطي ولا تُخَوّل الفقيه صلاحية التشريع ومن ثمّ افترق حقيقة الإجتهاد عند الإمامية عن معناه لدي المذاهب الأخري حيث إنّه عند الإمامية عبارة عن الإستنباط والفهم وللكشف للحكم الشرعي وتنزّلاته لا إنشاء الحكم بالرأي كما هو لدي المذاهب الأخري.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 284

لا ضرر … ص: 284

أمّا التمسّك بقاعدة لا ضرر أو لا حرج، فالصحيح أنّ قاعدة لا ضرر- كما ذهب إليه مشهور الفقهاء- تؤول إلي التزاحم، أي بين حفظ النفس من الحياة والبدن والصحة والسلامة وحفظ العِرض من الفروج والسُمعة والعفّة والشرف وحفظ الأموال والمنافع أو في مقام التزاحم مع ملاكات الأحكام الأولية، فحقيقتها ترجع إلي التزاحم إذن، ومن ثمّ لا يقدّمون الضرر بأيّ درجة كانت ولو بدرجة خفيفة أو متوسطة في مقابل الحكم الالزامي البالغ الأهمية، فلم يتوهّم أن ترفع حرمة الفاحشة تحت ذريعة تسويغ الضرر الصحّي من حبس الماء، كما هو الحال في قاعدة الحرج أيضاً فإنّه لا يرفع بها بالحرج المتوسط عزيمة الأحكام الهامّة الإلزامية.

وعلي ذلك فكلّ ما تقدّم تسجيله من أحكام قاعدة التزاحم وبالتالي التحفظات التي تسجل علي قاعدةالغاية تبرّر الوسيلةومشرّعيّة المصلحة تسجّل علي التمسك بذيل قاعدةلا ضررللتدليل علي قاعدة مشرّعية المصلحة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 285

حكم العقل بتقديم الأهم … ص: 285

و ممّا استدلّ به لرعاية المصلحة إنّه من باب مراعاة الأهمّ قبال المهم والذي هو حكم عقلي، فحكم الحاكم النائب وإن خالف جملة من مصالح الأحكام الأولية إلّاأنّه يكون رعاية لما هو أهم.

وفيه:

أولًا- إنّ الأهمّ إن أريد منه حفظ القدرة والسلطة في الحكم بما هي هي، فهذه ليست غاية مشروعة، بل هي غاية الفراعنة.

وإن كان المراد من الأهمّ بقية مصالح الأحكام الأولية، فهذا يندرج في بحث التزاحم الإصطلاحي إلّاأنّ اللازم علي المدبّر الفطن هو الممانعة عن تدافع المصالح الأولية وعلي فرض وقوعها فاللازم ايجاد التدبير الحكيم لرفع استمرار ذلك التدافع.

ثانياً- ان التفريط بسلسلة المهمّات تحت طائلة الأهمّ الواحد سوف يقلب معادلة التزاحم ويكون التفريط بسلسلة المهم هو التفريط بالأهمّ المتعاقب الشديد في مقابل حفظ الأهمّ الموقّت.

ثالثاً- إنّ ارتكاب المحظور

ومخالفة الحدود الإلهية بنفسه يجذّر سنّة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 286

المخالفة كسنّة باطلة في النظام الإجتماعي، حيث أنّ عامّة طبقات المجتمع علي دين ملوكهم، أي تَسْتَنُّ في منهاجها بسنن النظام الحاكم.

وهذا من أخطر محاذير ارتكاب المحظورات وعدم حفظ الحدود الإلهية ولو تحت ذريعة التزاحم أو الأهمّ والمهم أو العناوين الثانوية أو غيرها من القواعد العذرية.

رابعاً- إنّ فرض تدافع الأهمّ والمهم إنّما هو من الاغفال عن حلول موضوعية والإلتجاء إلي الحلول الحُكْمية مع أنّ العكس هو المتعيّن؛ إذ إنّ اللازم تكييف البيئات الموضوعية علي طبق التشريع وهو هدف التشريع لا تكييف التشريع علي طبق البيئات الموضوعية المرضية في الحقول المختلفة.

خامساً- إنّ فرض التزاحم والتدافع والتنافي بين إقامة الأهمّ والمهم إنّما هو لتصوير فرض خاطئ مبتنٍ علي أنّ وسيلة إقامة الأهمّ منحصرة بشكل الحكومة الرسمية، مع أنّ هناك أشكالًا مختلفة أخري غير صيغة الحكومة الرسمية أي عبر أشكال القدرة الإجتماعية المختلفة يمكن إقامة الأحكام بلا تدافع بينهما.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 287

دفع الأفسد بالفاسد … ص: 287

وهذه القاعدة في الغالب تستعمل ويستدلّ بها لارتكاب المحظورات في دفع ما هو أشدّ حرمة وأكثر ضرراً وفساداً وهي مع التأمّل الدقيق ترجع إلي تطبيق قاعدة التزاحم والأهمّ والمهم في مورد المحرّمات.

فيرد عليها ما تقدّم من التمسّك بذيل القاعدتين.

مضافاً إلي اختصاصها ببعض آخر:

أولًا- إنّ دفع الأفسد ليس من المسئولية والتكليف الشرعي إلّاضمن الحدود المشروعة و أمّا ما وراء ذلك فليس هو من المسئولية الواقعة علي عاتق المكلّف إلّا في ما أذن الشرع فيه بالخصوص ومن ثمّ تسالم فقهاء الإمامية علي أنّ التقية في كلّ شي ء وأمّا إذا بلغت الدماء فلا تقية. فلو دار الأمر بسبب الإكراه أن يقتل مجنوناً مسلماً غير بالغ في قبال أن

يحفظ دم نفسه، فإنّ التقية لا تجوّز ذلك، أي إنّ الأدلّة العذرية برمّتها لا تجوّز له ارتكاب ذلك المحظور ومن ثمّ استفاد الفقهاء من قاعدة «لا تقية في الدماء» أنّ النفي هنا بمعني النهي يفيد الحرمة ممّا يدلّل علي أنّه لا يسوغ ارتكاب المحرم لأجل التوصّل إلي دفع المفسدة إلّافي المورد الذي ورد الترخيص الشرعي فيه بالخصوص، كمثل قتل المسلمين المتَتَرَّس بهم في

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 288

الحرب مع الكفّار وما ورد من تحريم التداوي بالخمر و أنّه لم يجعل اللَّه الشفاء في الخمر ونظيره ما قاله جملة من الفقهاء من أنّه لا يسوغ تشريح جثث الميت لأجل معالجة مرضي الأحياء بتركيب الأعضاء فإنّ الواجب في انقاذ حياة الأحياء ليس واجباً مطلقاً بلغ ما بلغ، بل إنّما اللازم هو اتخاذ الوسائل المشروعة وكم له نظير في الفقه.

ثانياً- إنّ فرض اطلاق وجوب دفع الأفسد بلغ ما بلغ يبتني علي فلسفة في التشريع وهي أنّ مسئولية إصلاح النظام الإجتماعي مفوّضة تماماً إلي الإرادة الإختيارية البشرية وإلي الإرادة التشريعية، مع أنّ هذه النظرية هي إفراط في مقابل نظرية المرجئة والقدرية التي تفترض الجبرية وتتبّناها في المسرح النظام الإجتماعي السياسي، أي اعطاء المساح ء والدور إلي الإرادة التكوينية الإلهية فقط مع إلغاء دور الإرادة الإختيارية البشرية في ظل الإرادة التشريعية بخلاف النظرية الوسطية التي هي الأمر بين الأمرين، فإنّها لا تتبنّي رؤية اليأس كما في النظرية الثانية كما أنّها لا تتبنّي رؤية الإستقلال التفويضي كما في النظرية الأولي وهذا معني لزوم تقيد الإرادة الإختيارية في ظل دائرة التشريع والتكليف وقد قال تعالي:

«وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» «1» «إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» «2»

فالتقيّد بالحدود الإلهية هو سبيل

المَخْرَج، ففي ظلّ الصراع السياسي و الإقتصادي والفكري والإعتقادي أو المالي والتجاري أو العسكري والأمني، التقيد بالحدود الإلهية (والحافظون لحدود اللَّه) هو السبيل والمخرج من المأزق لا ارتكاب المحظورات كما هو سبيل الإنتهازيين وعصابات المرتزقة السياسية. ثالثاً- إنّ العقل لمّا يحكم بمؤدّي هذه القاعدة لا بمعني ارتكاب الفاسد

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 289

وايجاد العقل المختار لذلك الفساد بيده، فإنّ قبح الفساد لا يزول بذريعة المزاحمة وإنّما بمعني أنّه إذا اضطرّ المختار إلي أحد الخيارين بحيث يكون ما فيهما من الفساد هو من قبل الغير إلّاأنّ أحد الطريقين أكثر من الآخر؛ فالعقل يحكم بأنّ تحمّل أحد الضررين أهون من تحمّل الضرر الآخر فمورد القاعدة ما إذا كان الفساد حاصلًا من قبل الغير واضطرّ المختار إلي سلوك أحد الطريقين أو الموردين الذين فيهما ذلك الفساد.

وأمّا ما ذكره الفقهاء في تولّي ولاية الجائر وغيرها من الموارد من جواز تولّيهما إذا خاف علي نفسه ولو استلزم إلحاق الضرر بمؤمن إذا كان الضرر الّذي يتهدّده أشدّ من الضرر القليل علي الغير تمسّكاً منهم بمشروعيّة التقية إلّاإذا بلغت الدم، فكلامهم هذا ناظر إلي ما لو كان دوران الأمر بين الضرر المزبور وبعض الموارد القليلة عدداً لا ما إذا دار الأمر بين ذلك الضرر علي نفسه وبين الإضرار بنوع المؤمنين في جملة عديدة من الموارد بسبب طبيعة ذلك العمل.

هذا مع أنّ في الفرد الأوّل أيضاً لم ينفوا الضمان الوضعي ولا مبغوضية الفعل بل غايته معذورية الفاعل وبالجملة فتطبيق قاعدة دفع الأفسد بالفاسد وتزاحم الأفسد مع الفاسد إذا طبّقت بنحو مستمر متكرّر والسنّة العملية المتصلة فسيؤول الأمر إلي إرتكاب مجموعة موارد الفاسد وهي أكثر فساداً من الأفسد الواحد.

و بعبارة أخري، فاللازم هو تحمّل

الأفسد الذي يرتكبه الغير في مقابل ارتكاب الفاسد بنحو المستديم. ومثل ذلك ما لو فرض أنّ عامّة المؤمنين يرتكب الفاسد دفعاً للأفسد كسنّة منتشرة شائعة بينهم بنحو يؤدّي إلي زوال محذوريّة الفاسد في العادة لعمليّة لديهم أو يستلزم ذلك منهم ارتكاب البقية للفاسد في صورة عدم المدافعة مع الأفسد ونحو ذلك من الصور والفروع. فإنّ في مثل هذه الموارد لا يكون من دفع الأفسد بالفاسد إلّاصورياً وهو في الحقيقة من دفع الأفسد بما هو أفسد منه في اللبّ وحقيقة المآل ولأجل ذلك يشدّد علي أصحاب

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 290

الولايات والمناصب في النظام الإجتماعي السياسي من ارتكاب الأعذار، فإنّ أفعالهم حيث تكون متصلة بسلسلة حلقات النظام فلأجل ذلك يصعب احراز دائرة اطراف التزاحم والتدافع وتداعيات كلّ طرف أي لوازمه ومستلزماته ولا يمكن قصر النظر علي خصوص المتدافعين مباشرة ومن ثمّ لا يحيطوا بتداعيات وتلازمات الموضوعات والحالات في أنظمة النظام الإجتماعي والسياسي بنحو لا يشذّ عن الحيطة والإحاطة شي ء إلّامن لديه علم لدنّي وهو المعصوم الذي يتنزّل عليه كلّ أمر في ليلة القدر بخلاف غيره، فإنّ اللازم عليهم التحفّظ علي الحدود الأوليّة وعدم المبادرة لارتكاب مخالفتهما بذريعة التدافع.

هذا، مضافاً إلي ما مرّ عن مجمل الأجوبة عن قاعدة التزاحم والعناوين الثانوية كلزوم تكييف الموضوع مع التشريع لا التشريع مع الموضوع.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 291

منطقة الفراغ … ص: 291

وممّا استدلّ به علي مراعاة المصلحة وشرعيّتها ومداريّتها في نظام تدبير السياسي وجود منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي وهي منطقة المباحات؛ فإنّ فلسفة وجود مثل هذه المنطقة وهذه المساحة من الفراغ هو لأجل مواكبة التشريع وملائمته من للأدوار البشرية المختلفة والظروف البيئية المتغيّرة وهي نحو مرونة في التشريع الإسلامي مع الجانب المتغير

في الحياة البشريّة.

وقد يصاغ هذا الدليل بتقريب آخروهو أنّ التشريع الإسلامي لم يتعرّض إلي تفاصيل النظام السياسي أو النظام الإقتصادي أو المالي أو القضائي أو الأمني أو العسكري أو الثقافي أو الصحّي والبيئي أو غيرها من الأنظمة المختلفة وإنّما تعرّض إلي أسس فوقية كليّة والحكمة في ذلك هي دوام بقاء التشريع وأهداف ضمن الظروف البشرية المختلفة والتكيّف معهما في إطار المحافظة علي الأغراض والمصالح الشرعية الأساسيّة من دون نظر إلي التفاصيل الجزئية المتناوبة.

و يرد عليه:

أولًا- إنّه قد استفادت الدلالات الشرعيّة علي عدم خلوّ أي واقع عن حكم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 292

اللَّه تعالي مثل قوله تعالي: «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

و قوله تعالي: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «2» و غيرها من الآيات الدالّة علي أنّ كلّ صغيرة وكبيرة وكلّ شي ء مستتر في الكتاب المبين مضافاً إلي الروايات المستفيضة والمتواترة علي أنّ ما من واقع إلّاوللَّه فيه حكم. «3»

فالتعبير بالفراغ في الشريعة الإسلاميّة لا يخلو عن مسامحة واضحة وإرادة منطقة المباحات من ذلك لا يصحّح اطلاق هذه التسمية عليهما.

ثانياً- إنّ حصول المصالح الملزمة وتصادقها مع المباحات في جملة من الموارد ليس له معني محصّلٌ ولا تفسير صحيح إلّابارادة انطباق العناوين الأوليّة الإلزاميّة علي الموضوعات المباحة وإلّا فمن أين يتصور الإلزام من دون أن يكون قد شرّع في الأحكام الأولية ومن ثمّ أشكل علي العامّة في اعتمادهم علي المصالح المرسلة وسدّ الذرائع مع أنّ كلتا القاعدتين عندهم هي بلحاظ الأحكام الإلزامية الأولية والحيطة عليها والحفاظ عليها إلّاأنهم حيث جعلوا التأدية إلي التفريط بهما ولو احتمالًا أو ظنّاً لازم الرعاية.

و قد يقرّب بأنّ الفقيه مَلأ منطقة الفراغ، فإنّ في التشريع الإسلامي قسماً ثابتاً وهو ما

قد يعبّر عنه في الأثر الشريف «حلال محمد حلال إلي يوم القيامة وحرامه حرام إلي يوم القيامة» «4» وهناك قسم غير ثابت متغير حسب الظروف المختلفة لكنه مشروط ومتأطّر بعناوين القسم الأول ويطلق عليه منطقة الفراغ ومَلأ هذا القسم المتغير هو العارف بأحكام القسم الأول هو الخبير باستنباط أحكام القسم الثاني بنحو لا يتعارض مع أحكام القسم الأول ولا يتمكن من ذلك إلّاالفقيه.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 293

والضوابط المرعيّة في ملأ منطقة الفراغ:

الأولي: وهي الأهداف والعلل المنصوصة للأحكام الثابتة كما في تعليل جعل الفي ء للَّه وللرسول ولذي القربي كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم أي لا تتكدّس الأموال بين الأغنياء، بل يكون لصالح الدولة والأمّة. فهذه العلّة كضابطة حدّدتْه الآية وباستطاعة الفقيه تشريع بعض القوانين الممانعة من تكدّس الأموال عند الأغنياء كفرض الضرائب علي أموالهم ونحو ذلك لتحقيق الهدف المنصوص عليه في الآية.

ونظيره ما عُمل في روايات الزكاة من أنّ غايتها إلحاق الفقير بالمستوي المعتاد في المعيشة، كما في معتبرة أبي بصير عن الصادق عليه السلام:

وما أخذ من الزكاة فَضَّه علي عياله حتي يلحقهم بالناس. «1»

ونظيره ما ورد أيضاً من ان من له جارية ودار وغلام وجمل له أنّ يأخذ من الزكاة. «2»

فهذا التعليل يفيد أنّ مِن حق الوالي إذا عجزت أموال الزكاة عن هذا الهدف أن يشرّع المزيد من الزكاة لأجل ذلك.

ومثلها الأهداف المستنبطة من مجموعة أحكام كقاعدة «لا ربح بلا عمل» من جملة من الأحكام الأخري كعدم تملك الأرض من دون إحياء وعدم ملكية المعدن إلّابمقدار ما استخرج وعدم مشاركة الربح إذا كان صاحب رأس المال ماله مضموناً والمسأجر لا يؤجر بأزيد من أجرته إلّاإذا أحدث حدثاً.

الثانية: القيم الإجتماعية التي أكّدت عليها النصوص

كالعدالة والمساواة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 294

والأخوة في قوله تعالي:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» «1»

وقوله تعالي:

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبي» «2»

وقوله تعالي:

«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثي وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» «3»

فاللازم علي الحاكم سنّ إقامة النُظُم والقوانين المؤدّية إلي ذلك.

الثالثة: المَيْز في الأحكام المستفادة من النصوص بين الأحكام الثابتة والأحكام التدبيرية المتغيرة كما في جملة من الموارد من النواهي في الأرضين وباب الإجارة والثروات المشتركة الطبيعية فإنّها عُلّلَ بعدم الضرر والضرار، كالنهي عن الإحتكار في البيوعات.

الرابعة: الغايات التي حدّدت للحاكم أن ينجزها كمسئولية تقع علي عاتقه.

و فيه:

أولًا- ما مرّ من عدم خلو أيّ واقعة من الحكم الشرعي وهذا ليس من الفراغ في التشريع بقدر ما هو تطبيق للثابت التشريعي علي المتغيّر الموضوعي في الحقول المختلفة.

ثانياً- إنّ الأصول التشريعية- وهو ما قد يعبّر عنه بأصول القانون أو فقه المقاصد أو روح الشريعة ومذاقها علي حسب اختلاف النظريات المعالجة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 295

لأسس التشريع- وإن كانت تشريعات أوليّة فوقية لا سيما علي وفق النظرية الأولي إلّاأنّ ذلك لا يعني رفع اليد عن التشريعات النبوية الأخري التي هي في طول تلك الأصول التشريعية ونحو من التنزيل لها. وكذلك التشريعات أو البيانات التشريعية من الأئمة عليهم السلام هي في طول التشريعات النبوية أيضاً في المراتب اللاحقة ولا معني لرفع اليد عن مدارج التشريع النازلة تحت ذريعة أنّها أحكام تدبيرية متغيّرة غير ثابتة، فإنّ البناء علي ذلك بنحو العموم بدعوي إقتضاء الأصول التشريعية الفوقية لذلك، لازمه التخلّي عن التسليم بولاية الرسول والأئمة عليهم السلام وعدم التبعية لهم وبالتالي القفز

علي ذلك وتخطّيه هو مروق والإنفساخ عن ولايتهم والتأسّي بهم والطاعة والإنقياد لهم؛ فمقتضي ولايتهم وطاعتهم و التسليم لهم في طول ولاية اللَّه وأحكامه هو اقتضاء ذلك البناء علي ثبات التشريعات النبوية والأحكام المبنيّة من قبلهم عليهم السلام إلّاما نصّ عليه الدليل الخاص كما في جملتها من الموارد الدالّة علي أن حكمهم هو من التدبير الخاص بذلك المورد.

ثالثاً- إنّ مقتضي هذا التقريب هو بيان الأصول القانونية للتشريع وذلك لا يقتضي ثبوت صلاحية التشريع للفقيه علي مصراعيه، بل اللازم حينئذٍ مراعاة قواعد أصول القانون وضوابطه وهي تشتمل علي موازين عديدة قد طفح وبرز تنقيحها في التحقيقات الأخيرة في علم أصول الفقه.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 296

جعل الشروط الإلزامية … ص: 296

واستدلّ بإمكان تعاقد الدولة والنظام مع أفراد الأمّة والمؤسّسات الخاصّة بانشاء عقود وعهود مشروطة تلزمهم بالمصلحة الّتي تشخّص وذلك بازاء ما تقوم به الدولة من توفير خدمات وامكانات مادية لهم؛ فعبْر نظام العقود والشروط تتمكّن الدولة من إقامة الأنظمة المختلفة المقترحة المتوفّرة علي المصلحة المدركة، سواء النظام الإقتصادي أو نظام العمل أو نظام التجارة ونظام الأحوال الشخصية والأسرة ونظام البلدية والعمران ونظام الزراعة وغيرها من الأنظمة الأخري. فتتوصّل عبر نظام العقد والشروط إلي الوصول إلي عملية التغيير المطلوبة في أنظمة النظام الإجتماعي السياسي في الموارد التي تضطر الأمّة والشعب في سدّ حاجتها إلي خدمات وظائف الدولة. فالعقد والشروط صياغة قانونية لتنفيذ السياسات العامّة للإلزام أو للحظر في الموارد المختلفة وللرخصة وللمنع.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 297

و يرد عليه:

أوّلًا- إنّ الشروط إنّما تشرع إذا لم يستلزم منهما تغيير الأحكام الأوليّة لا سيما إذا فرضت تغيير ماهيّة الأنظمة الّتي قرّرتها الشريعة والّتي هي مجموعة أحكام أساسية أصليّة.

ثانياً- إنّه قد تقرّر أنّ ما

هو واجب لا يصح اتخاذ الأجرة عليه والعوض لا سيّما الوالي لاعتبار الشارع ذلك الوجوب كون المكلّف مقهوراً عليه فلا يكون متوقفاً علي طيب نفسه ولا تكون له حرمة ويكون أكلًا للمال بالباطل ولعلّ وجهه في الوالي وغيره أنّ تلك الأفعال لم يجعلها الشارع مصدراً ومنبعاً للمال.

نعم، قد ورد في أراضي الأنفال أنّه للإمام- عجل اللَّه فرجه- أن يأخذ العوض عليها. «1»

وقد يفهم من ذلك جواز أخذه عليه السلام علي مطلق ما كان فيئاً ونفلًا لا سيّما أنّه قد علّل في الرواية جواز أخذه ذلك بأنّ الأرض كلّها لهم، أي تحت ولايتهم. «2»

ولكن ذلك لا يعني أخذ الشروط والتعاقد بهما بنحو يخالف الكتاب أو السنة أو يحرّم حلالًا أو يحلّل حراماً كما مرّ في الملاحظة الأولي مضافاً إلي ما مرّ ذكره من الملاحظات الكثيرة علي الوجوه المزعومة لمشروعيّة المصلحة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 298

دور الزمان والمكان في الإجتهاد … ص: 298

واستدلّ بأنّ الزمان والمكان لهما تأثير ملحوظ في الأحكام الشرعية واستنباطها واجتهاد الفقهاء ممّا ينبّه علي أنّ الجانب المتغيّر في البيئة المحيطة للبشر لها واضح التأثير في تحديد الأحكام المنطبقة عليها أو المتعلّقة بها؛ فكما أنّ في الشريعة جانب ثبات هناك جانب تغيّر أيضاً.

و لذلك قيل بأنّ كلّ ما له تأثير في حفظ النظام الإسلامي، أي إنّ عدم مراعاته يوجب اختلاله والتفريط به يوجب الفساد أو الحرج فاللازم مراعاته ما دام ذلك الموضوع بهذا الوصف.

وفيه:

إنّه إن أريد انطباق كليات العناوين الأولية علي المصاديق هو بنحو متغيّر فهذا متّجه ولكن لا صلة له بتصوير المصلحة المزعومة وراء الأحكام الأولية.

وبعبارة أخري: إنّ نظام الموضوع ودرجات وجوداته ومصاديقه يتصوّر فيه عدم الثبات في المراتب التحتانية فقد يكون مصداقاً جزئياً ينطبق عليه عنواناً موضوعياً مّا

ثمّ يؤول الأمر إلي انتفاء ذلك العنوان وانطباق عنوان آخر عليه وهذا ما يعبّر عنه بالطروء الثانوي في الجانب الموضوعي وهو يغاير حالة الأحكام الثانوية فإنّ الثانوية، فيها هي بلحاظ الحكم وقد مضي أنّ اللازم علي الوالي مراعاة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 299

عدم وقوع التدافع بين الأحكام لا التشبث المستمر بتكييف الأحكام علي البيئات الموضوعية، بل تكييف الموضوعات علي نهج الأحكام وإلّا لعاد الحكم الثانوي أولياً.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 300

قصةُ داود … ص: 300

وقد يستدلّ لمشرعية المصلحة بما قَصَّه اللَّه عزّوجلّ من فعل الملائكة في قوله تعالي:

«وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلي داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغي بَعْضُنا عَلي بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلي سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلي نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلي بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ» «1»

حيث إنّ الخصومة التي حكاها الملكان لم يكن لها تحقّق في الواقع وإنّما قاما بحكايتها إمتحاناً من اللَّه تعالي لداود عليه السلام، فالمصلحة اقتضت الإمتحان وإن كانت بحكاية غير مطابقة للواقع فلم تقع الواقعة ولا كان هناك متخاصمان في الحقيقة ولا نعجة ولا نعاج في البين؛ فالمصلحة تقتضي حينئذٍ انتهاج ما هو

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 301

محظور بطبعه الأولي.

و فيه:

إنّه لو سلّم بأنّ المتخاصمين ملكان- لا رجلان- فإنّ ذلك ليس من المجي ء في عالم المحسوس المادي، بل قد يكون من باب التمثّل

كما في قوله تعالي:

«فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا»

. «1»

وكان رسم الحكم من داود المعلّق في ظرف التمثّل كما لو كان رآه في ما يري النائم. فصورة الحدث كالصورة في عالم الرؤية وهي تعكس الميول الباطنة في النفس الإنسانية فهي إمّا من التمثّل المنفصل أو المتصل وهي الرؤيا لا من الحدث في الحس المادي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 302

الحكم الولائي … ص: 302

ويستدلّ أيضاً علي مشرعية المصلحة بأنّ حكم الحاكم هو بنفسه من الأحكام الأولية في قبال بقية الأحكام ولا ضرورة لانطباقه علي الأحكام الأولية الأخري، فعندما يري الحاكمُ المصلحةَ في موردٍ مّا ويُلزِم الآخرين بمراعاتها هو بنفسه حكم أوليّ؛ فالمصلحة لو خلّيت ونفسها لا توجب تشريع الحكم ولكن بطرو عنوان حكم الحاكم وأمره بها أصبحت مُلزمة وممّا يدلّل علي أنّ حكم الحاكم من الأحكام الأولية قوله تعالي:

«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» «1»

وهي تشير إلي أنّ الغاية من التشريع هي إقامة الحكم.

كما يستدلّ بذلك بقوله تعالي:

«أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «2»

بتقريب أنّ طاعة الأحكام التشريعية تندرج في طاعة اللَّه وعندما يأمر

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 303

الرسول صلي الله عليه و آله و سلم أو ولاة الأمر بحكم من أحكام اللَّه تعالي فالطاعة في الحقيقة للَّه تعالي لا للرسول ولا لأولي الأمر، بل لو فرض أنّه صلّي أو صام وقصده إطاعة الرسول أو الإمام لبطلت صلاته وفسد صومه؛ فلا محالة تكون طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر هي من جهة الولاية.

و يشير إلي ذلك أيضاً تكرار كلمة «أَطِيعُوا» ممّا يشير إلي اختلاف سنخ الطاعة. مضافاً إلي أنّ الأمر يستعمل في ما هو في الشأن العامّ ممّا يقتضي أنّ الطاعة لوليّ

الأمر إنّما هي في الحكم والتدبير في الأمور العامّة.

و في ردّ الخوارج (لا حكم إلّاللَّه) قال عليه السلام:

لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر و يبلغ اللَّه فيها الأجل و يجمع به الفي ء و يقاتل به العدو و تأمن به السبل. «1»

يشير عليه السلام إلي حكم العقل الضروري بإقامة النظم والتدبير في الإجتماع السياسي البشري فهذا الحكم ممّا يقضي به العقل بديهةً.

و فيه:

إنّ هذا خلط بين ضرورة الحكومة وإقامة النظام وبين تفاصيل وجزئيات التدبير وتصرّفات الحاكم. فإنّ ضرورة الحكومة وفعلَ النظم والتنسيق في التدبير والأمور لا يعني ضرورة آحاد وجزئيات كلّ تدبير، بل إنّ مقتضي ذلك هو ضرورة التدبير في الجملة ممّا يحفظ النظم واتّساق الأمور وهو لا يتوقّف علي مخالفة الأحكام الأولية، بل الأحكام الأولية المفروض إنّها تشريع سماوي يُقيم النظم لا أنّه يشيع الفوضي؛ غاية الأمر قد يقع التزاحم بين موضوعات التشريعات الأولية أو الورود ونحو ذلك فكيف يتصوّر أن تكون هناك مصلحة مُدرَكة لم يعلمها الشارع الأقدس ويُدركها البشر بعد فرض عدم كون الأمر الذي تعلّق بذلك الفعل

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 304

منحدراً ومنشعباً عن أصول تشريعية أولية وأن الفرض كونه في عرضها.

هذا أوّلًا.

وأمّا ثانياً- فلأنّ ماهيّة الحكومة في علم القانون والعلوم السياسية والإدارية والعلوم الإنسانية ليست إلّاتدبيراً لتطبيق الأحكام والقوانين الكليّة؛ فمثلًا في الحكومة الوضعية، الحكومة التنفيذية تُجري وتُنَفّذ وتطبّق القوانين والمواد الدستورية أو القوانين للمجالس النيابية وهي تَنَزُّل وتطبيق للمواد القانونية الدستورية ولا معني للقول بأنّ تدبير الحكومة في عرض المواد الدستورية، بل العرضية تَعني عدم تقيّد الحكومة التنفيذية بالدستور، بل لازم عدم تقيّد الحكومات بالقوانين وهو حكومة شرع الغاب أو استبداد

الهوي وإلّا فاللازم تحكيم الأحكام المقرّرة المشرَّعة من دون تجاوز حدود التشريعات.

وثالثاً- إنّ طاعة الرسول لا تنفكّ عن طاعة اللَّه، كما أنّ طاعة اللَّه تعالي لا تنفكّ عن طاعة الرسول.

و بعبارة أخري: إنّ كلّ فعل طاعة يصدق عليه طاعة اللَّه، فإنّه يصدق عليه طاعة الرسول أيضاً وكذلك العكس.

و الوجه في ذلك: أنّ المبلّغ عن اللَّه في أحكامه هو الرسول صلي الله عليه و آله و سلم في ما بلّغه و كذلك طاعة الرسول في ما يأمر به وينهي عنه هو طاعة للَّه تعالي، حيث أمر بطاعة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم كما في الآية المتقدّمة وكما في قوله تعالي: «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «1»

نعم هناك من التشريعات القرآنية ونحوها ما يطلق عليه تشريعات اللَّه تعالي وأحكامه، كما أنّ هناك سنن النبي صلي الله عليه و آله و سلم وتشريعاته التي هي منشعبة ومنحدرة عن أصول تشريع اللَّه تعالي كما في الصلاة؛ فإنّ الركعتين الأوليتين من الفرائض

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 305

اليومية هي من فرائض اللَّه تعالي و أمّا الركعتين الاخريتين فيها، فإنّها من تشريع النبي صلي الله عليه و آله و سلم كما رَوي ذلك الفريقان.

فمن الغريب دعوي بطلان الصلاة إذا أتي بها طاعةً للنبي صلي الله عليه و آله و سلم فإنّ الذي أمر بالركعتين الأخريتين هو النبي صلي الله عليه و آله و سلم كما أنّ في جملة من تشريعات العبادات كالإمساك عن بعض الأمور في الصوم وتحديد مواقيت الإحرام وغيرها من أجزاء وشروط العبادات هي من تشريعات النبي صلي الله عليه و آله و سلم والإتيان بها طاعة للَّه تعالي كما هي طاعة للنبي صلي الله

عليه و آله و سلم ومآل طاعة النبي هي إطاعة اللَّه تعالي وكأنّ تلك الدعوي قد افترض فيها أنّ طاعة الرسول في عرض طاعة اللَّه لا في طول طاعة اللَّه تعالي ومن ثمّ توهّم فيها الإنفكاك.

وبذلك يظهر أنّ طاعة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم لا تنحصر بحكومته السياسية، بل كذلك في تشريعاته وبقية شئون مقاماته وأنّ الوجه في تكرار كلمة «أَطِيعُوا» وتعدّد الطاعة في السنخ هو بلحاظ أنّ التشريعات علي نمطين ومن ثمّ اسندت الطاعة للرسول صلي الله عليه و آله و سلم لمقام رسالته لا لخصوص ولايته للأمر، بل الحال في أولي الأمر كذلك أيضاً بناء علي ما هو الصحيح من صلاحيّتهم في التشريع في طول تشريعات اللَّه ورسوله، أي التابعة لأصول تشريعية إلهية ونبوية لا في عرض تشريعات اللَّه ورسوله، كما ورد في وضع أمير المؤمنين عليه السلام الزكاة علي الخيل وفي كثير من أحكام الحدود والديات وأحكام البغاة وغيرها ممّا يجده المتتبع.

فطاعة أولي الأمر ليست منحصرة في الشأن العام وتدبير الحكم والسبب في هذا الوهم والخبط هو تفسير الأمر بالشأن العام، مع أنّ لفظ الأمر قد ورد في رواياتهم عليهم السلام تفسيره بنحو بيّن بمعني «روح القدس» و «الروح الأمري الابداعي» كما في قوله تعالي:

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 306

«تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «1»

وقوله تعالي:

«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «2»

و قوله:

«وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ» «3»

رٌابعاً- إنّ طاعة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام كما مرّ ليست منافية لطاعة اللَّه في العبادات فحسب،

بل هي لابدّ منها في صحّة و قبول العبادات؛ فإنّ عبادة إبليس الرجيم لم تقبل ولم تصحّ وكانت هباءً منثوراً لأنّه أبَي الخضوع لآدم خليفة اللَّه، فلم يعبد اللَّه من الباب الذي أمره به، فرُدَّتْ عليه عبادته، بل كانت عبادته عبادة لأنانية النفس.

خامساً- إنّ تصوير المصلحة في حكم الوالي النائب بنحوٍ تكون في قبال وعرض المصالح لأحكام الأولية يستلزم فرض نقص التشريع الإلهي عن استيفاء كافّة المصالح والمفاسد.

وإن كانت في طولها بنحو يكون منشعبة عنها وتنزّلًا لها في الموارد فهذا لا يعقل في غير المعصوم إلّابنحو التطبيق والتنفيذ فهو ليس مصلحة وراء المصالح الأولية.

و بعبارة أخري: ليس الوالي غير المعصوم مُزَوَّدٌ بعلم يتميز به عن غيره بنحو يُدرك ما لا يُدركه غيرُه.

وعلي ضوء هذا فلا مجال لتوهّم التمسّك بإطلاقات أدلّة النيابة لعموم نفوذ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 307

ولاية النائب في غير ما كان تدبيره رعايةً للمصالح للأحكام الأولية.

قيل: «أنّ ولاية ولي الأمر (المراد من وليّ الأمر في هذه العبارة هو الفقيه) تشمل موارد القطع بخطئه، لأنّ الولاية ليست حكماً ظاهرياً كي تقيّد بعدم العلم بالخطأ وانّما هي حكم واقعي وعندئذٍ يصبح المقياس للمولّي عليه هو رأي الولي حتّي لو اعتقد المولّي عليه بأنّ الولي قد أخطأ في تقديره للمصالح والمفاسد وغير هذا ليس بولاية، بل امارة وحكم ظاهري. وإن شئتم قلتم: إنّ الخطأ في الحكم لا معني له لأنّ حكم الحاكم واقعه هو هذا الحكم وليس كاشفاً عن حكم الشريعة لأنّ المفروض هو أنّ الشريعة لم تأتِ بحكم في مورد حكم الحاكم ولو أتت الشريعة بحكم في هكذا مورد لما احتجنا حكمه، فحكمه يعني أنّ الشريعة قد فوّضت الأمر إليه.

فإن كانت الشريعة قد فوّضت أمر

الحكم إليه، فحقيقة الأمر وواقع الحكم الذي يريده اللَّه هو نفس حكم هذ الحاكم وإن أخطأ في تقديراته وحينئذٍ لا معني لافتراض الخطأ في حكم ولي الأمر وعليه يجب اتّباعه؛ ومن هنا يتبيّن أنّ نفوذ حكم الحاكم لا يختصّ بمن لا يعلم خطأه، بل يشمل كلّ واحد؛ نعم إذا افترضنا أنّ أخطاء الحاكم قد كثرت إلي الحد الذي أسقطه عن الكفاءة فحينئذٍ سيخرج هذا الحاكم عن كونه ولياً لفقدان الكفاءة». «1»

ويرد عليه:

أولًا- إنّ هذا القائل قد افترض وقرّر أنّ الشريعة الإسلامية لا تعمّ كلّ الوقائع والحوادث التي يبتلي بها الإنسان وأنّ أصول التشريع في الدين غير شاملة لكلّ موارد الحياة والمعاش وهذا يناقض قوله تعالي: «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْري لِلْمُسْلِمِينَ» «2»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 308

وقوله تعالي: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «1»

وقوله تعالي: «وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلي عِلْمٍ هُديً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «2»

وقوله تعالي: «وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» «3»

وقوله تعالي: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» «4»

وقوله تعالي: «وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُديً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «5»

وقوله تعالي: «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» «6»

وقوله تعالي: «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَري وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «7»

وقوله تعالي: «إِنِ الْحُكْمُ

إِلَّا لِلَّهِ» * «8»

وقوله تعالي: «الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ» «9»

ثانياً- إنّ هذا التقرير لولاية الفقيه وأنّها فوق النقد وأنّ الولي فوق أن يناقش

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 309

لا يتم إلّامع فرض أن صلاحيته في عرض صلاحيّة اللَّه و رسوله والمعصومين، مع أنّ صلاحيّة الرسول والمعصومين ليست في عرض صلاحيّة اللَّه بل في طوله كما أنّ صلاحيّة الأئمة المعصومين ليست في عرض صلاحيّة الرسول، بل في طولها وتابعة لها. فهل يكون صلاحيّة الفقيه في عرض صلاحيّة المعصوم أو في طولها؟ فإن كانت في طول هذه المراتب فلابدّ من تحكيم حكم اللَّه ورسوله والأئمة المعصومين عليهم السلام عليه والإحتكام إلي تلك التشريعات لأنّها فوقه إلّاأن يفرض أنّها في عرضها وهذا ممّا لا يمكن التفوّه به أو يفرض عصمة الفقيه في تبعيّته إلي أحكام اللَّه وأحكام رسوله والأئمة المعصومين عليهم السلام فلا يمكن فرض خطائه في التبعية وهذا ما لم يدّعِ أحد أيضاً فلا محالة يكون مسلك التخطئة هو المحكّم لا التصويب.

و من ثمّ عرّف عن مسلك الإمامية بلحاظ المجتهد والفقيه بأنّه مسلك التخطئة لا مسلك التصويب الذي هو مسلك العامّة العمياء المتبنّي علي نقص الشريعة وعلي عدم وجود امام معصوم من عترة النبي صلي الله عليه و آله و سلم هو المبيّن لأحكام الكتاب التي أشكلته علي الناس الوصول إليها وعجزت قدرتهم عن الإهتداء إلي مظانّها كما قال تعالي: «وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

وقال تعالي: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «2»

والضمير فيه عائد إلي القرآن.

وقد وردت الروايات المتواترة «ما من شي ء إلّاوفيه كتاب أو سنّة». «3»

ثالثاً- قوله: «إنّ الشريعة قد فوّضتْ أمر الحكم إليه» إمّا يريد تفويض

اسس النظام السياسي

عندالامامية، ص: 310

التشريع أو تفويض التدبير. أمّا تفويض التشريع فالخلاف قد وقع في الولاية التشريعية للرسول صلي الله عليه و آله و سلم وللأئمة المعصومين عليهم السلام فكيف بغيرهم؟ مع أنّ مَن قال بذلك في الرسول والأئمة عليهم السلام قد قال بذلك في الرسول في طول تشريعات الباري تعالي بحيث يكون الرسول تابعاً مطيعاً لأحكام اللَّه تعالي ويكون الأئمة المعصومون عليهم السلام تابعين مطيعين في تشريعهم لأحكام اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله و سلم فكيف يفرض في غيرهم صلاحيّة التشريع مع عدم القول بالعصمة فيه، فضلًا عن أن لا يكون تابعاً لأحكام اللَّه ورسوله والأئمة المعصومين عليهم السلام، حتي إنّه قد وردت روايات مستفيضة «عرض الحديث المنقول عنهم عليهم السلام علي الكتاب والسنة القطعية» وهذا التحكيم وإن لم يكن من قبيل تحكيم غير المعصوم علي المعصوم بل هو من تحكيم الكتاب المعصوم وسنة المعصوم القطعية علي نقل الرواة غير المعصومين لأحاديث المعصومين عليهم السلام.

رابعاً- ما قاله في ذيل كلامه من أنّه «إذا كثر الخطأ إلي الحدّ الذي يسقطه عن الكفاءة، يخلّ بشرائط الحاكم والولي» يناقض كلامه السابق، إذ مع عدم فرض واقعٍ في نفس الأمر يطابقه حكم الحاكم وإنّما حكمه هو متن الواقع ولا واقع وراءه فأيّ خطأ يمكن فرضه بنحو متكرّر؟!

ففرض الخطأ في كلّ مورد مورد إلي أن يكثر يناقض الدعوي السابقة وهو نوع من تحكيم الواقع والإعتراف بوجوده، أصابه من يصيبه وأخطأه مَن يخطئه، ممّا يستلزم أنّ غير المعصوم لا يتعقّل اطلاق حاكميته وولايته، بل الحاكم غير المعصوم محكوم بالكتاب وسنة المعصومين، وهو ما يعبّر عنه بالواقع، وهذا بخلاف المعصوم فإنّه يُجَسّم الواقع. بل إنّ في المعصومين عليهم السلام حيث تتفاضل

مقاماتهم بلحاظ الكمالات الواقعية نري الأئمة عليهم السلام تابعون لسيّد الأنبياء صلي الله عليه و آله و سلم والرسول صلي الله عليه و آله و سلم تابع لولاية اللَّه تعالي.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 311

وقد يستدلّ لكون حكم الحاكم هو بنفسه من الأحكام الأولية- بغضّ النظر عن الأحكام الأولية الأخري وبغضّ النظر عن وجود واقع وراء التدبير- بأنّ الحكومة والحاكمية كفعل ونظم، فالتدبير والقيادة والحكم والحكومة بنفسه فعل راجح ذو مصلحة ملزمة، كما ذكر ذلك في استدلال الحكماء علي ضرورة النظام الإجتماعي، حيث قالوا بأنّ الإنسان مدني بالطبع لا يتمّ وصوله إلي كمالاته وسعادته إلّابالتكافل الإجتماعي وتبادل الخدمات والصناعات والمهارات مع بَني جنسه ولا يتمّ ذلك إلّابالنظم والنظام الإجتماعي وإقامة السنن والقوانين وتطبيقها واجرائها لحصول النظم.

ويتضح من هذا الدليل الذي صاغوه أن النظم بنفسه فعل راجح وكمال مطلوب ولعله إليه الإشارة في قوله عليه السلام:

و إنّه لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ اللَّه فيها الأجل ويجمع به الفي ء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتي يستريح بر ويستراح من فاجر.

وقال:

أمّا الإمرة البرّة فيعمل فيها التقي وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي إلي أن تنقطع مدّته تدركه منيته. «1»

فهذا التقريب يقضي بأنّ الحكم والحكومة والتدبير فعل مطلوب لذاته وأنّه من المهامّ الكبري في مصالح الإجتماع البشري، بل لا يقاس بأهميته شي ء، كما في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

بُني الإسلام علي خمسة أشياء: علي الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية.

قال زرارة: قلت: وأي شي ء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل لأنّها

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 312

مفتاحهنّ والوالي هو الدليل عليهنّ. «1»

فجعلت الولاية-

بمعني الحكومة- مفتاحاً، أي علّة لإقامة تلك الأركان من الدين والوالي والحاكم هو المقيم لهنّ.

ومن ذلك يتبيّن أنّ الحكم والحكومة والتدبير الحكومي هو من الواجبات الأولية الركنية في الدين ولا يعدلها بقية الأركان فهي حكم أولي بنفسها وعلي درجة من الأهمية مقدمة علي الأحكام الأولية الأخري.

وفيه:

أولًا- إنّ التدبير والنظم إنّما يتحقّق ويرسو بتطبيق القوانين والحدود لابتضييعها، فالحكومة والتدبير ليس إلّااجراءً وتنفيذاً للأحكام والتشريعات الكلّية وهو غاية الحكم والحكومة، فكيف يُفَرَّط بالغاية في سبيل المقدّمة؟ و لايكون ذلك إلّانقضاً للغرض «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً» «2»

ثانياًإنّ التدبير والحكومة إذا كان بنفسه ميزاناً وواقعية، فهذا يقضي إمّا بصحّة وكمال كلّ أنواع الحكومات البشرية بأنّ الفرض أنّ كلّها تحكم وتملك القدرة! وإمّا باستصواب بعضها والحكم بفساد الأخري ولا يكون ذلك إلّابفرض موازين واقعية حاكمة علي النهج الحكومي وفِعلِ السلطة، فإذا روعيت تلك الموازين أصبحت الحكومة صائبة وإلّا تكون إفساداً في الأرض.

و أمّا ما في كلامه عليه السلام من بيان ضرورة الحكومة بالعلل الغائية التي بيّنها عليه السلام والتي هي ضرورات أولية في النظام الإجتماعي، فهذا يُعَزّز أنّ الحكومة والحكم وسيلة لتحقيق غايات أخري في النظام الإجتماعي وأنّ بعض تلك الغايات ضرورية في أصل حياة المجتمع البشري لا يمكن بقاؤه إلّابها، فمن ثمّ تكون

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 313

أصل الحكومة- بمختلف درجاتها وأنماطها من الصالحة والفاسدة- ضرورية لأنّ جملتها تُلَبّي جملة من الضرورات ذات الأهمية بالدرجة القصوي لأصل حياة المجتمع الإنساني والنسل البشري.

ومن ثمّ عَقَّب عليه السلام ببيان جهة الإختلاف بين أنماط الحكومات، فإنّها وإن اشتركت في تحقيق وتلبية ايجاد بعض الضرورات القصوي لمجتمع البشري وهي الجانب لمصالح مدنية إلّاأنّها تختلف في جملة أخري من النتائج؛ حيث

إنّ في الحكومة الصالحة تتحقّق فيها النتائج الصالحة الأخري كالعدالة والهداية والسداد بينما في الحكومات الفاسدة تُضَيَّع فيها تلك الغايات إلي نقائضها وأبدالها، فمن ذلك يتبيّن أنّ صلاح وفساد الحكومة بلحاظ إقامة الحدود والموازين العادلة.

نعم قد يحصل التزاحم والمدافعة بين الضرورات الأولية في النظام الإجتماعي وغايات الحكومة وبين الضرورات الكمالية اللاحقة المطلوبة في التشريع الإلهي لتأمين السعادتين الدنيوية والأخروية للبشر وهنا ليس من دوران الأمر بين تلك الغايات الدينية التشريعية من الحدود الإلهية والحكومة بما هي هي كما قد يصوّر، بل إنّما هو دوران بين الضرورات المعيشية المدنية والغايات التشريعية وهذا التدافع ليس بطبيعة الأشياء الأولية، بل هو طارئ بسبب سوء التدبير في النظام السياسي الإجتماعي المدني وبسبب الأعراف والعادات الفاسدة المنتشرة في الظواهر الإجتماعية. فمع اصلاح التدبير واصلاح الأعراف والعادات بتوسط سلسلة من العوامل والمناشئ يعود الوئام والتناسب بين ضرورات المعاش المدني وبين غايات التشريع، بل إنّ طبيعة الإجتماع البشري الأولية تقتضي بفطرتها المسير نحو تلك الغايات إذا أريد لها الكمال والتكامل.

ثالثاً- إنّ المراد من الولاية في الأحاديث المستفيضة التي بني عليها الإسلام ليس خصوص الحكومة السياسية الرسمية المعلنة من قِبل المعصوم فضلًا عن

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 314

الحكومة السياسية الرسمية من قِبل غيره، بل ليس المراد يقتصر علي أشكال الحكومة الأخري كحكومة ودولة الظلّ- و هو ما يعبّر عنه بتيّار المعارضة- ولا الحكومة الخفية- والمعبّر عنها بالحكومة الأمنية المخابراتية- والحكومة المذهبية- والمعبّر عنها بالطوائف والتيارات الأديان الإعتقادية والثقافية- وغيرها من أشكال القدرة والسلطة والحكومة في المجتمعات البشرية المعلنة وغير المعلنة، بل لا يقتصر علي الهداية الملكوتية للأرواح لإيصالها إلي المنازل والكمالات المعنوية، بل هي تشمل كلّ ذلك وبالذات يراد منها مقام الإعتقاد والمعرفة

بإمامتهم ومن ثمّ عَظُمَتْ الولاية علي بقية أركان الدين، بل في بعض الروايات ذكر أنّ المراد منها ولاية اللَّه ورسوله والأئمة عليهم السلام ممّا يعني إرادة التسليم للتوحيد والمعاد والنبوة والإمامة وانعكاس ذلك التسليم والتولّي علي بقية مقامات الأفعال الإنسانية والشئون البشرية ومن ثمّ تقدّمت الولاية علي الصلاة مع أنّ الغالب فيها البُعد الروحي الفردي لا يتّصل بعلاقات الأفراد في نظام التعايش الإجتماعي بالذات وإن كان تنعكس آثار الصلاة بالتبع لاحقاً عليه لكنها بالدرجة الأولي مرتبطة بعروج الروح للمؤمن والقرب الإلهي ومع ذلك فإنّ هذا السلوك الروحي الفردي لا يقدّر له أن يتحقّق وينجز إلّابباب الولاية للَّه ورسوله والأئمة عليهم السلام وكذلك الحال في الصوم والجانب المهمّ من الحج أيضاً.

ومن ثمّ ورد في الروايات المستفيضة أنّ الولاية في كلّ النشئات من عالم الذرّ والميثاق والأشباح والأظلّة والآخرة والبرزخ. وكانت الولاية حتماً علي عهدة الإنسان وإن كان وحيداً فريداً لا يعيش في ظلّ اجتماع بشري، فإنّ صلاته وصومه وحجّه وبقية أعماله لا يتم لها الصحّة والقبول إلّابالولاية.

إنّ القائلين بحصر ولاية الأئمة المعصومين في التشريع في دائرة الحكومة والقوانين التنفيذية والإجرائية غفلوا عن أقسام الحكومة، فإنّ الحكومة وقدرة تدبير المجتمعات البشرية وسياسة العباد لا تنحصر في الحكومة السياسية العلنية

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 315

المؤقتة، بل تعمّ الإشكال والإنماط الأخري من الحكومة كالحكومة الخفية وكذلك دولة الظلّ وكذلك قدرة النفوذ في التيارات الإجتماعية والثقافيّة فضلًا عن قدرة بناء الحضارات التمدنية، فإنّ هذه نمط من الحكومة علي المجتمعات لا تحدّ بسنين قصيرة، بل تتطاول قروناً مديدة قد تبلغ محاذاة طول عمر البشر.

وهذا النمط بخصوصه من الحكومة الذي يؤسّسه الأنبياء والرسل والأوصياء تكون قوانين المشرَّعة فيهما بمنزلة القوانين التشريعية الثابتة الّتي

لا تتغيّر وبالتالي فصلاحيّة التشريع لديهم تندرج في إطار الأحكام التشريعية الثابتة وهذا وجه اختلاف ولاية وحكومة المعصومين عن الحكومة وصلاحيّة الفقهاء حيث أنّ قدرة غير المعصوم من ناحية العلم والمعلومات والإحاطة بالبيئات المختلفة وقدرة التدبير لا تصل إلي علم واحاطة وتدبير المعصوم، فإنّ احاطة المعصوم ثاقبة للأدوار الزمانية المتباعدة المتطاولة ومن ثمّ امتنع تماثل صلاحيّة غير المعصوم لصلاحيّة وولاية المعصوم.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 317

5 دور الأمّة في السلطة السياسية … ص: 317

إنّ مشاركة عامّة الناس في الحكم في نظرية الإمامية تتصوّر عبر عدّة قنوات: … ص: 317

الأولي: رقابة الدولة … ص: 317

وهذه الرقابة تتّخذ أشكالًا وصيغاً في كلّ زمن بحسبه وهي تنشعب بدورها أيضاً إلي شعب:

منها: إقامة الحكومة الصالحة والحاكم صاحب الحقّ والصلاحيّة.

ومنها: الإطاحة بالحكومة الفاسدة والحاكم الفاقد للشرائط.

ومنها: مراقبة كافة أجهزة الدولة القضائية والتنفيذية وكذا الولاة رؤساء المحافظات والوزراء وغيرهم.

وهذه الوظيفة الملقاة علي عاتق الأمّة تعمّ حتي حكومة المعصوم عليه السلام لأنّ حكومته تتشكّل من أعضاء غير معصومين فتكون الرقابة لجهازه معونة له عليه السلام ونصيحة من الرعية للحاكم؛ هذا فضلًا عن حكومة نوّاب المعصوم سواء في عصر الحضور كالولاة في الأطراف أم في عصر الغيبة كنيابة الفقهاء العامّة.

كما أنّ المراد من إقامتهم للحكومة الصالحة ليس اعطاؤهم الصلاحيّة وتوليتهم الحاكم، بل المراد إعانتهم لصاحب الولاية والمشروعية في الحكم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 318

وتمكينه ببذل القدرة التكوينية له وبهذا المعني يستعمل التعبير بالتولية في كثير من النصوص القرآنية والروائية والقانونية لا بالمعني الأول.

والدليل علي مجمل هذه الصلاحيّة في المشاركة في الحكم وتقرير المصير في النظام الإجتماعي قوله تعالي:

«الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «1»

وكذا قوله تعالي:

«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ

بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» «2»

وذيل الآية نص في كون إقامتهم للقسط بمناصرة صاحب المشروعية في الحكم.

ومثله قوله تعالي:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلي أَنْفُسِكُمْ» «3»

وقوله تعالي:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلي أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوي» «4»

ولا يخفي أنّ هذه المشاركة وإن لم تكن تقرّر ولاية الحكم للأمّة بأن تكون مشروعية الحكم مستمدّة من الأمّة إلّاأنّ هذه المشاركة والإعانة لصاحب

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 319

المشروعية وتدخّلها في مصير النظام الإجتماعي هو نحو ولاية من نمط آخر.

الثانية من قنوات المشاركة: الجبر الإجتماعي … ص: 319

و هو نحو سلطة للقيم الاجتماعية تتحكّم في سلوك الأفراد كما تتحكّم في الظواهر الإجتماعية الأخري التي تكون من قبيل السلوك الجماعي أيّاً كانت تلك القيم وأيّاً كان منشؤها وارتباط باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه السلطة وثيق جدّاً وقد ورد عنهم عليهم السلام:

لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلطنّ اللَّه عليكم شراركم.

وهذه تشير إلي حقيقة الارتباط بين سلطة الأمّة ونوعية سلطة الحاكم علي النظام الإجتماعي و أنّه وليد تلك السلطة في المجتمع.

وكذلك ورد عنهم عليهم السلام: كما تكونون يولّي عليكم.

فهاتان تشيران إلي حقيقة من حقائق علم الإجتماع وظاهرة من ظواهر السلوك الجماعي والإجتماعي من ارتباط وتولّد الرأس المدبّر في النظام السياسي الاجتماعي من سلطة النمط القيم السائدة المنتشرة في المجتمع، فان كانت حسنة وحقّة فيكون معلولها اتصاف الحاكم بالفضيلة والحقانية إن كانت سيّئة وباطلة فيتولّد منها كون الحاكم متّصفاً بالطغيان والشرّ والفساد وإلي ذلك يشير قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» «1» أي حتّي يغيّروا ما بأنفسهم من قيم ومبادئ وآداب.

فهذه السلطة للقيم المتمثّلة

بزاجرية جمعية وجماعية وآمرية مجموعة يكون لها بالغ قدرة في التحكّم علي مصير النظام السياسي الإجتماعي ومقدّرات الأمّة وهذا أحد أسباب التقاطع والصدام الحاصل بين أئمة أهل البيت عليهم السلام والسلطة الأموية والعباسية حيث كانوا عليهم السلام يقومون ببناء القيم ونشرها وتصحيح

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 320

موازينها في نفوس وأذهان الناس مما ينجم عنه الضغط علي النظام السياسي والتسبيب في تغييره. وهذه السلطة الإجتماعية والقدرة في حين كونها خفية وغير محسوسة إلّاأنّها من أعظم القدرات الحاكمية وأكبر فرص مشاركة الأمّة في تقرير مصيرها.

ومنه يعلم مدي الإرتباط بين باب الأمر بالمعروف ومجمل أبواب الفقه السياسي وقد جعل بعض الفقهاء الباب المزبور يعمّ بقية أبواب الفقه السياسي من الجهاد والقضاء والحدود والقصاص وغيرها لا سيما وأنّ الفقهاء يستندون إلي الأدلّة العامّة في باب الأمر بالمعروف في كثير من مسائل أبواب الفقه السياسي الدالّ علي الإرتباط الماهوي بينه وبينها. وهذا أحد وجوه مفاد قوله تعالي:

«الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» بل هو من عمدتها.

القناة الثالثة: نفوذ قول أهل الخبرة في مختلف الموضوعات العامّة وفي مختلف مرافق الدولة … ص: 320

فإنّ حجّية قول أهل الخبرة وأصحاب التخصّص قاعدة متسالم عليها عند فقهاء أهل البيت عليهم السلام حيث أنّ القضايا الشرعية، سواء في باب الإفتاء والتشريع أم القضاء وفصل النزاع أم التنفيذ والحكم السياسي تتشكّل من محورين أو ثلاثة:

محور الموضوع وهو قيود الحكم ومحور المحمول وهو الحكم ومحور متعلّق الحكم وهو الفعل.

وقد تقدّم في بحث ماهية السلطة وتعريف الحكم والحكومة أنّ أحد مراحل الإستنباط من ناحية الموضوع علاوة علي الرجوع إلي قول اللغويين يجب الرجوع إلي قول أهل الخبرة إلّاأنّ وظيفة اللغوي ومورد حجّية قوله هو الإرتباط بين اللفظ والمعني، أي تحديد رابطة اللفظ مع أيّ معني من المعاني.

وأمّا

وظيفة أهل الخبرة في الموضوعات المأخوذة في القضايا الشرعية

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 321

الكلّية ومورد حجّية قوله إنّما هو في تحليل ماهية معني الموضوعات وفي هذا المقام لا شأن للّغوي في ذلك وإنّما هو شأن أهل الإختصاص والخبرة كلّ بحسب مجاله.

وكلّ باب فقهي يتضمّن موضوعاً مّا أو أكثر ومجموع الأبواب الفقهية يشتمل علي غالب الأشياء المحيطة بالإنسان ومن ثمّ حكي عن المرحوم الميرزا أبي الحسن الشعراني صعوبة علم الفقه لاشتماله علي موضوعات علوم عديدة.

و حجّيّة ونفوذ قول أهل الخبرة وإن بني في علم الأصول علي كونها أمارة محضة وحجّية كاشفٍ إلّاأنّه في التحليل القانوني يكون لصاحب الأمارة- بلحاظ حجيّة قوله، لا سيّما الحدسي- نحو نفوذ وقدرة وسلطة ومن ثمّ كانت فتيا الفقيه نحو حاكمية تشريعية نظير السلطة التشريعية في الدول وكما يحكم الحاكم الشرعي بثبوت الهلال- مثلًا- وهذا لون ونمط من القدرة والسلطة تقدّمت الإشارة إليه في بحث أنواع الولايات ذيل ماهيّة السلطة.

فحجّية أهل الخبرة ليس اعتبار الإستكشاف المحض، بل مطوي فيه معني ونوعاً من القدرة والولاية إلّاأنّ القدرة والولاية ذات أنواع متخالفة كثيرة جداً؛ و بالتالي فَقَول أهل الخبرة في أيّ موقع من مواقع الدولة له نفوذ في تقرير ماهية الموضوع وتشخيص طبيعته.

وبالتالي يظهر لنا أنّ الحكم والحكومة في المرافق المختلفة ذات بُعدين: بُعد من ناحية المحمول وهو الحكم والقانون وبُعد موضوعي بيد أصحاب التخصّص.

نعم التطبيق النهائي للقانون علي الموضوع هي بعهدة الحاكم الشرعي بعد اعتبار صلاحيّة أهل التخصّص والخبرة في الموضوع.

فالحاكم الشرعي من وظيفته ومسئوليّته تشريك أهل الخبرة وإسناد المواقع المختلفة في الدولة لهم بما يرتبط بالمجال التخصّصي لهم.

وهذا هو مفاد قاعدة الشوري في مذهب أهل البيت عليهم السلام فإنّ مفادها- كما هو

اسس

النظام السياسي عندالامامية، ص: 322

المعني اللغوي- مداولة الآراء لاستخراج الصواب والصائب منها ويقال:

الإستصواب، أي الفحص عن الصواب والحقيقة وهو مفاد العقل الجمعي والعلم الجمعي؛ أيّ ما روي عنهم عليهم السلام:

أعقل الناس من جمع عقول الناس إلي عقله وأعلم الناس من جمع علوم الناس إلي علمه.

وليس بمعني حاكميّة الأكثرية- بل بمعني الفحص وبناء الأمور علي الرؤية العلمية ومسير الصواب وبناء القرارات علي الجانب الخبروي والتخصّصي وهذا المعني للشوري يتطابق مع شعار الحضارة في العصر الحديث- وهي حضارة المعلومات وعصر الإتصال والإنفتاح والثورة المعلوماتية- وهذه النظرية في الشوري ناشئة من نظرية الحسن والقبح الذاتيين في جميع الأمور بحسب الواقع ونفس الأمر لا يتبدّل عما هو عليه سواء أحرزه الإدراك البشري أم لم يحرزه وإن كان قد أخطأه رأي الأكثرية وسيأتي الكلام فيه مفصلًا في بحث الشوري.

والحاصل أنّ الحاكم ملزم بتبعية أقوال أهل الخبرة في البحث الموضوعي وإن كان علي صعيد الشبهة الحكمية أو الشبهة الموضوعية في الموضوعات المستنبطة في مجال تحليل الماهية وكيفية التطبيق علي الأفراد.

ثم إنّه لو وقع التعارض بين أهل الخبرة فالترجيح لجانب الكيف دون الكمّ و لو فقد فالترجيح للجانب الكمّي لا لحاكمية إرادة الأكثرية، بل لقوّة الإستكشاف في جانب الأكثرية. وهذا ينسجم مع تفسير الشوري بمعني الخبروية والقناة العلمية لا بمعني القدرة المجموعية.

نعم الشوري يمارسها الحاكم إذا كان معصوماً لأغراض عديدة أخري غير استكشاف الواقع.

منها: أن يكون مأموراً بالعمل بالموازين الظاهرية كما في القضاء بالبيّنات.

ومنها: أن يجذب القاعدة للمساهمة بشكل فاعل في وظائف الحكومة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 323

ومنها: أن يربّي الجهاز الحاكم ومرافقة علي بناء الأمور علي النهج العلمي والخبروي.

ومنها: لتفهيم خطأ أو جهل الأكثرية بواقع الحال وحقائق الأمور فيداول الشور بينهم

لتصطكّ الآراء والحوار فيصحصح ويتجلّي الواقع المجهول لهم وبالتالي تزرع الثقة في ما بينه وبينهم علي صعيد القرارات المتخذة.

القناة الرابعة: في موارد تفويض المعصوم احراز الواجد للصفات لمنصبٍ ما … ص: 323

ولهذا النمط أمثلة عديدة:

منها: تعيين المرجع المقلَّد والواجد للصفات كما في قوله عليهم السلام:

فللعوام أن يقلّدوه.

وقوله عليه السلام- في مصحّح عمر بن حنظلة-:

فاجعلوه حاكماً.

وقوله- عجل اللَّه تعالي فرجه-:

فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا.

وفي سيرته صلي الله عليه و آله و سلم بعض الموارد التي فوّض فيها تعيين الوالي في بعض المناطق لقبائل تلك المنطقة بمعني إحرازهم وتعيينهم لأحد الواجدين للصفات المعينة وفي هذا النمط من التفويض للناس وعامّة المجتمع ليست التولية بقولٍ مطلق وإنّما هي عملية الإستكشاف والإحراز منهم للواجد للصفات وإلّا فالتولية حقيقةً من المعصوم.

ونظير ذلك قد يقوم به الفقيه النائب بالنيابة العامّة عن المعصوم في أن يفوّض للناس إحراز الواجد للصفات لرئاسة الجمهورية أو تعيين النواب لمجلس المشورة أو ناظر الوقف أو غير ذلك من موارد أخري.

وهذا الإحراز قد يطلق عليه بالإنتخاب وفي المصطلح التقليد الفقهي يطلق عليه ببسط اليد والمقصود منه تمكين المقلّدين والمنتخِبين للمرجع أو القاضي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 324

أو الحاكم من بسط نفوذه. ومن ثمّ ذهب جمع من الأصحاب إلي أنّ التصرّفات العامّة لا يقدم عليها الفقيه إلّابعد بسط يده فيكون بسط اليد بمثابة الشرط الشرعي أي رجوع الناس إليه. وعبّر بعض الأعلام بأنّ ولاية الفقيه النيابية عن المعصوم تتّسع بقدر بسط اليد له.

نعم لا يخفي أنّ في جملة من الموارد إحراز بعض الصفات كالفقاهة لابدَّ أن يرجع فيها عامّة الناس إلي أهل الخبرة. فيحرِزُوا لهم توفّر الصفة المعيّنة وهذا النمط من الترابط قد يتّخذ أشكالًا مختلفة بحسب أساليب كلّ عصر بأن ينتخب الناس مجلس أهل الحلّ والعقد أو مجلس أهل

الخبرة وهم بدورهم ينتخبون ويحرزون الواجدين للصفات بأن يفوّض العامّة لذلك المجلس الإنتخاب أو يُدْلونَ بشهادات علي توفّر الصفات في عدّة من المرشّحين فيقوم الناس بالإنتخاب كما هو النمط الجاري التقليدي في انتخاب وتعيين المرجع الديني.

القناة الخامسة: وهي الإعلام … ص: 324

بكلّ وسائله وتطوّره.

وقد اصطلح علي تسميته بالسلطة الرابعة وفي الحقيقة أنّ القوي والقدرة لا تكمن في الإعلام من حيث هو هو، بل من جهة آراء الناس وضغط الرأي العام علي الأنظمة والحكومات وعلي الجهات السياسية الأخري فهو يرجع إلي الرقابة الإجتماعية علي كافّة الجهات وتلك الرقابة تشكّل عنصراً ضاغطاً إلّاأنّه حيث كانت آلية الإعلام مؤثّرة بقوّة وبسرعة جدّاً في صنع الآراء وموقف المجتمع فمن ثمّ عبّر عن هذه الآلة بأنّها قدرة وسلطة رابعة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 325

مبدء المشروعية حقيقة انتخاب الأمة للحاكم و نظام الحكم … ص: 325

اشارة

إنّ هناك جدلية قائمة بين الديموقراطية و الإستبداد و بين الحرية العامّة للمجتمعات البشرية و كَبْتِها، حيث يظنّ أنّ من لوازم الحرية كون صلاحيّة الحاكم و الهيئة الحاكمة منبثقة من خيار الشعب و إنتخابه، كما أنّه يظن في الطرف المقابل أنّه من لوازم كون مبدء المشروعية هو الشرع أو العقل أو القانون هو سلب الأمّة دورها و إرادتها و صيرورة نهج الحكم و نظامه فردياً استبدادياً.

فكأنّ هناك فرضية مسبقة في المدارس السياسية و القانونية من التنافي بين حضور الأمّة في كلّ ميادين تقرير مصيرها و بنحو التواجد الدائم علي طوال الخط في مسيرة النظام السياسي في تكوينه و القيام بالرقابة عليه في أداء مسئولياته، و بين كون مبدء و منبع الصلاحيّة من الشرع أو العقل و أنّه معيّن سَلَفاً بنحو الخصوص أو بنحو إطار المواصفات الكلّية، سواء علي مستوي رأس الهرم في نظام الحكم أو درجات المتوسطة لأجنحة الحكم و مواقع الإدارة.

مع أنّ هذا التنافي لم يتوهم في أصل معرفة النبوة و الرسالة و لا معرفة الإمامة، حيث قد وقع التسالم لا سيّما بين الإمامية علي أنّ اللازم علي البشرية النظر و الفحص و التثبّت من وجود

المعجزة العلمية أو العملية لدي مدّعي الرسالة و النبوة، و هذا ممّا يعني أنّ مقام النبوة و الرسالة و هو من أكبر المقامات لابدّ فيه

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 326

من إشراف البشرية و رقابتهم و تحفظهم علي واجدية مدّعي النبوة علي الصفات العلمية و العملية المناسبة لشأن النبوة و كذلك الحال في الإمامة الإلهية.

بل إنّ سيرة أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام لم تزل علي مساءلة أئمتهم عليهم السلام و الإستكشاف و الفحص عن توفرّهم علي صفات العلم اللدني و صفة العصمة العلمية. فإذا كان الحال في المعصوم هكذا فكيف يكون الحال في غيره و في مجموع الجهاز الحكم، بل إنّ ذلك يكشف بنحو بيّن علي أنّ علي الأمّة و لها المراقبة و المساءلة و المحاسبة في كلّ شئون الحكم؛ غاية الأمر إنّ هذا الدور لابدّ أن يتمّ عبر آليّات و أدوات تتناسب مع كلّ عصر و بحسب شكل و نمط الجهاز الحاكم.

فإذا كان هذا هو الحال النظام الديني الذي هو نظام أوسع من النظام الإجتماعي و السياسي، فإنّه يتجاوزهما إلي النظام الفردي و الروحي و العقلي، بل يتجاوز النظام الدنيوي، فكيف لايكون كذلك في ما هو أضيق دائرة منه و في ما هو فصل من فصول ذلك النظام الوسيع.

و إذا كان الحال في من هو معين بالخصوص و الشخص من قِبَل السماء و كان واجداً للمقامات اللدنّية، فكيف تتوقع الحال في غيره ممّن كان معيّناً بالخصوص، فضلًا عمّن كان بالعموم وفق شرائط و مواصفات غير ضرورية الثبات، فضلًا عن أذرع الجهاز الحاكم و المواقع الأخري فيه من مراتب المُدراء و المسئولين.

فهذا ما يكشف بنحو بيّن أنّ تعيين الصلاحيّات مسبقاً من قِبَل الشرع أو العقل

في الحاكم لا يعني و لا يستلزم في حال من الأحوال تعطيل و لا شطب دور الأمّة في الرقابة و المشاركة و الحضور في أنشطة الحكم، كما أنّه لا يعني حيويّة دور الأمّة و ديمومة حركيّتها لا يستلزم إنبثاق تشريع الصلاحية و لا كونها مصدراً للإلزام و الإلتزام.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 327

فالحاكمية الإلهية بمراتبها المتسلسلة لا تُعدم الإرادة الشعبية و الإختيار البشري، بل هي ترشده و تهديه إلي السبيل السويّ و الصراط القويم؛ كما هو الحال في المذهب العقلي في القوانين الوضعية البشرية الراهنة، فإنّ التعطيل العقلي و التقنين لشرائط و مواصفات الحاكم لا يُفقد المجتمع مساهمته في تكوين مسيره السياسي و بناء حياته الإجتماعية، بل يعطيه دفعة حيوية و دعامة تطلق حريّته، إذ الحرّية كامنة في سعة فضاء الكمال و الإستكمال لا في الوقوع في المجالس الترّدي و السقوط في الحضيض.

و من ثمّ نقف علي حقيقة الإنتخاب في عرف العقلاء في القوانين الوضعية أنّها عبارة عن مسئولية إستكشاف ذي الصلاحية و إستكشاف المصاديق الواجدة للمواصفات المعيّنة سلفاً في حكم العقل. فعملية الإنتخاب عملية مزيجة من الإستكشاف و المساهمة و التكوين و الرقابة في حين أنّ مبدء المشروعية من حكم العقل.

فالإنتخاب قدرة تحكمّ من الناخبين في المنتخب، إلّاأنّ اللازم عليهم مراعاة الأصول المقررة سلفاً من قبل الشارع و العقل في المنتخب الذي يسانده بالقدرة و يُعزي إليه مقاليد الأمور، فإطار الحاكمية و إن كات محدّداً بنحو الخصوص أو العموم في النيابة، إلّاأنّ ذلك ليس بنحو الإلجاء القسري التكويني، بل حاله حال بقية التكاليف المقررة من قبل الشرع في الأبواب الأخري التي هي في حين كونها تكاليف تقنينيّة من قِبل الشرع إلّاأنّه لا يُلجي ء المكلفين

عليها بنحو القسري التكويني و إن كان لغة القوة قد تستخدم لحماية خيار الأمّة الصائب في قبال المتمردين البغاة، فلا تلازم بين النصب و التعيين من جهة و الإستبداد و إلجاء الأمّة قسراً من جهة أخري، كما لا تلازم بين مشاركة الأمّة و تقرير مصيرها بيدها من جهة و كون المنتخب يستمدّ صلاحيّته و شرعيّته من الأمّة.

فالحضور الفعّال الحاسم الشعبي للأمّة في جميع الأصعدة و العرصات في

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 328

النظام السياسي لا يَشُلُّه و لا يصطدم معه كون الحاكمية من اللَّه لا سيّما و أنّ نُظُم الحاكمية الإلهية و أهدافها كلّها من الكمالات النموذجية و القِيمَ الرفيعة التي تكفل العدالة و فتح الفرص أمام الجميع و إزالة الإستبداد البشري و ربوبية بعض البشر لبعض؛ فهي لا تسمح بإلغاء دور فرد من الأفراد و لا حذف مشاركته و لا تكميم صوته فضلًا عن جميع الأمّة.

بل إنّ البرهان العقلي و التجربي قائم علي أنّ الحاكمية و مصدر المشروعية إذا أسندت لغير اللَّه فإنّه لا محالة ينبثق منها الإستبداد و ربوبية بعض البشر لبعض و أنّ في ظلّ التوحيد و نفي الربوبيات إلّاربوبية اللَّه يتمّ نفي الإستبداد و الطغيان و الظلم و العدوان.

فنظام المؤسَّس علي حاكمية اللَّه هو الكفيل بفتح المجال لمشاركة الناس و إسهامهم بأتمّ أنحاء الحضور و التصدّي لتكوين مسير النظام السياسي و أنّ أي نظام لا يؤسّس علي حاكمية اللَّه و حاكمية الرسول و أهل بيته الإثني عشر عليهم السلام مِن بَعده فلن تُؤَمَّل فيه العدالة و ذلك بتغييب الأمة عن مواقع القدرة بإستئثار طبقةٍ تستبدّ الأمور لنفسها و هذا ما يشير إليه تعالي في قوله:

«ما أَفاءَ اللَّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُري فَلِلَّهِ

وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبي وَ الْيَتامي وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ» «1»

فتبيّن الآية أنّ توزيع الثروة من المنابع الطبيعية لن يتم بصورة عادلة إلّا بتقلّب قربي النبي الإثني عشر عليهم السلام مهامّ الأمور و إلّافمصير القدرة في النظام السياسي سوف يكون بشاكلة الإستئثار و الإستبداد و من ثمّ البطش و السطوة و العدوان. و متي تحقق حُلم البشرية في التوزيع العادل للثروة، هذا الحُلم الذي لم تُبصرِه البشرية في ظل أشكال و نظم مختلفة من المدارس الفكرية.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 329

نعم إنّ هناك مَن يستغفل العقل الإسلامي و وعي المسلمين بتصوير أنّ معني حاكميّة اللَّه تعالي مقتضاه تشطيب دور الناس و عزلهم عن مركز القدرة و إزوائهم عن الرقابة و تهجينهم بالجمود عن الحرمة بآليات المشاركة، كما أنّ في الصورة المعاكسة هناك مَن يصوّر أن الديموقراطية و نظام الحرّية و حرّية إنتخاب الناس مقتضاها عزل حاكمية اللَّه عن ترسيم نظام الحكم، كما هي نظرة الغرب تجاه المسيحية، مع أنّه في الحقيقة أنّ عزل حاكمية اللَّه تعني أنّ ربوبية القدرة تقع في يد فئة بشرية مستئثرة لمقدرات الحكم مستغلة لشعار الحرّية و خيار الشعب للوصول إلي ذلك و ذلك عبر وأد و إماتة ما هو مصدر العدالة و منبعها و هو الحاكمية الإلهية.

«قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلي كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» «1»

فتشير الآية الكريمة إلي أنّ النظام الذي يحقّق السواسية بين البشر و العدالة هو النظام المبني علي توحيد و اختصاص الربوبية

باللَّه و أن لا تكون هناك عبودية و طاعة و إنقياد اتّباع إلّاإلي اللَّه و إلّاإلي ما ينتهي إليه تعالي.

و في ظل هذا النَظم في كلّ حقول ذلك النظام البشري يمكن تفادي الإستبداد البشري و هو ربوبية البشر بعضهم لبعض و سيطرتهم المنتهية إلي محورية ذواتهم الفردية و هذا هو معني النظام الإسلامي، أيّ بأن يكون الكلّ مُسَلّمين للقانون، مطيعين لربوبية اللَّه و محورية الذات الإلهية و إلي كلّ ما ينتهي إلي ذات الإلهية دون سواه و بالتالي تُزال طبقات الإستبداد و الإستعباد البشري و ظاهرة الرقّ من بعضهم لبعض.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 330

و تتضمن هذه الآية بيان برهان عقلي علي التلازم بين التوحيد و الإسلام و العدالة في نظام التعامل البشري و هو النظام الإجتماعي السياسي؛ فإنّ الإستبداد و الإستئثار و الإستعباد من أصحاب السلطة و مواقع القدرة في الأنظمة البشرية لا يَرسو إلّاعلي منطق الذات و محورية «الأنا» و فوقية الذات البشرية في بعض الأفراد علي سائر البشر و من ثمّ تجعل لها حقوق ممتازة تصب في الصالح الشخصي من منطلق الطمع و الحرص و الجشأ و تسخير الكلّ ذي الرغبات الذاتية سواء في النُظُم السياسية أو الإقتصادية أو القضائية و الحقوقية أو التجارية أو غيرها من المجالات و هذا بخلاف ما إذا جعل الحقّ المطلق هو للَّه تعالي الذي هو غني بالذات عن البشر و المخلوقات و نسبته كَرَبّ و خالق من جهته علي سواء مع جميع مخلوقاته فإنّ هذا المنطق هو الذي يحقّق السواسية و الإستواء و تكافؤ الفرص و الحقوق و علي مثل هذا المنطق يجب أن ترسم المنظومة الحقوقية و القانونية و النُظُمية في سائر مفاصل النظام البشري.

ثم إنّ

من الآيات الكريمة الأخري قد بيّن مراتب امتداد هذا الأساس التوحيدي كما في قوله تعالي:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1»

و قوله تعالي:

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» «2»

و قوله تعالي:

«ما أَفاءَ اللَّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُري فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 331

وَ الْيَتامي وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ» «1»

فبينّت الآية الكريمة أنّ الفي ء الذي هو جميع منابع الطبيعة في الأرض و المال و الثروة و بالتالي القدرة لابدّ أن يكون تحت حاكمية و وصاية اللَّه تعالي علي البشر و أنّ امتداد حاكميّة اللَّه هي حاكمية الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و امتداد حاكمية اللَّه و رسوله مِن بَعدُ هي حاكمية ذي القربي من أهل بيته المطهرين الذين هم أصحاب الأمر الذي يتنزل عليهم الأمر في ليلة القدر، ذلك الأمر الذي ينظّم جميع أمور النظام البشري و يقدّر فيه حدوده و مساره التكويني و التشريعي و علّل في الآية الكريمة أنّ هذه الحاكمية و الوصاية كي تصل الثروات و المنابع إلي الطبقات المحرومة و كي لا تكون الثروة و القدرة دولة و ملكاً متداولًا بين فئة خاصة تستغني بفاصل طَبَقي فاحش و تتحكم و تستبدّ بمجامع القدرة فلا يناله أحد من الفقراء و يستضعف عامّة البشر عن الرقابة و المشاركة.

فتحصّل: أنّ حقيقة الإنتخاب في النظام الإسلامي في رؤية أهل البيت عليهم السلام نفي للإستبداد عبر الحاكمية الإلهية، فيكون حقيقة الإنتخاب ذات قيمة معرفية و تحضيضاً علي القيام بالمسئولية في التعرّف علي مواطن

ذوي الصلاحية المنشعبة و المنحدرة من الحاكمية الإلهية التي يهدي اليها العقل الفطري.

إنّ مقتضي مالكية اللَّه سبحانه للمخلوقين ولأفعالهم أنّ مبدأ وأصل الولاية للَّه تعالي وأنّ كلّ الولايات تتشّعب من ولايته «الولاية للَّه الحق» وهذا أصل.

غاية الأمر حيث جعل للإنسان الإختيار لا القسر كانت الولاية الربّانية عليه من نمط تكويني غير قاسر ونمط تشريعي اعتباري قانوني.

فمنطق التوحيد ومنطق الشريعة الإلهية يُبني علي أنّ أصل الولاية للَّه وأنّ كلّ

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 332

شعبة لابدّ وأن تنتهي إلي ذلك الأصل.

نعم المنطق الوضعي غير المتقيّد بالملّة والمنهاج السماوي وأنّ للكون خالقاً مالكاً، يجعل مصدر الولاية هو الإنسان وسلطة الفرد علي نفسه، فيجعل من العقد الفردي والإجتماعي مصدر السلطات والولايات، كما يفصل ذلك الدكتور السنهوري في الوسيط، فبين المنهجين بُعدُ المشرقين.

العقد ليس سبباً للسلطة … ص: 332

هذا مع أنّ الباحثين من فقهاء القانون الوضعي قد حقّقوا أنّ العقد ليس هو مبدأ نشوء السلطنة سواء علي الأفعال أو الأعيان، بل السلطة التكوينية علي الاولي والحيازة أو العمارة للثانية هو المنشأ، وأمّا فقهاء الشرع من الفريقين فقد نصّوا علي لزوم إمضاء الشرع لهذا الإعتبار البشري، للسلطة إذ إنّ للَّه ما في السماوات و الأرض.

فلا يملك الفرد البشري في الإعتبار من الأفعال والأعيان إلّاما حدّده الشرع له، إذ الشارع الأقدس مبدأ السلطات والولايات، لا أنّ الإنسان فاعل ومالك لما يشاء ومطلق العنان، إلّاما ينقله هو بإختياره عن نفسه بالعقد الفردي أو العقد الإجتماعي (الإنتخاب) أو العقد السياسي (البيعة) إلي الغير؛ فبين المنهج التوحيدي والمنهج الوضعي بون بعيد.

وبذلك يتّضح أنّ أساس الحكومة في المجتمع بين المنهجين مختلف، فعند المنهج التوحيدي هو متشعّب من ولاية اللَّه تعالي علي المخلوقات البشرية، وعند المنهج الوضعي هو مستمّد من سلطة الفرد والأفراد علي أنفسهم.

أٌساس الحكومة حكم العقل … ص: 332

بل إنّ الدراسات القانونية في الفقة الوضعي تكاد تصل إلي هذه النتيجة، وهي أنّ الأساس في الحكومة هو حكم العقل الفطري، وذلك لأنّ العقد الإجتماعي (الإنتخاب) الناشي ء من سلطة الفرد علي نفسه لا يبرّر حكومة الأغلبية

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 333

علي الأقليّة ولو بتفاوت يسير.

وكذلك لزوم توفّر شرائط في الشخص المنتخب بالعقد الاجتماعي ليس هو من وضع سلطة الأفراد علي أنفسهم، بل كلا الأمرين وغيرها من النتائج التي لا تتلائم مع فلسفة السلطة الفردية والعقد هي من قضاء العقل كمواد قانونية مرعيّة عند الكل، فمثلًا لزوم كون الرئيس المنتخب ذو خبرة وكفائة عالية (العلم بمعناه الوسيع) وذو أمانة فائقة (العدالة وإذا ترقّت أصبحت عصمة) لابدّ منه، وليس للفرد والأفراد تخطّي هذا القانون تحت ذريعة السلطة الفردية

المطلقة العنان، وهذا ما يقال من غلبة النزعة للمذهب العقلي في القانون الوضعي الحديث علي المذهب الفردي.

العقد زيادة تعهّد … ص: 333

و من ذلك يتضح أنّ العقد الإجتماعي والسياسي (سواء الإنتخاب أو البيعة) ليس إلّاعبارة عن عملية توثيق وإحكام وعهد مغلّظ للعمل بالقانون، سواء علي المنهج التوحيدي الديني أو الوضعي أخيراً، فضابطة الصحّة للحاكم ليس هو العقد السياسي، بل هو توفّر شرائط القانون الإلهي فيه أو الوضعي، والعقد ما هو إلّا إلتزام زائد لاستحكام العمل والمتابعة لذلك الحاكم.

نعم بين المنهجين فارق من جهة أخري، وهو أنّ المنهج الإلهي حيث أنه يشعّب الولاية من المالك المطلق الخالق طبق موازين الكمال والعصمة والإصطفاء، فهو يعيّن المصداق المتوفّر فيه الشرائط ويكسبه ولاية الحكم وتكون البيعة والعقد السياسي معه من قبل الناس ما هو إلّازيادة تعهّد وإلزام بالعمل نظير النذر والقسم المتعلق بأداء صلاة الظهر أو صيام رمضان تغليظاً للوجوب.

و يشير إلي ذلك عدّة من الروايات:

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 334

منها- موثّقةمسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: إنّه قال له:

إنّ الايمان قد يجوز بالقلب دون اللسان؟ فقال له: إن كان ذلك كما تقول فقد حرم علينا قتال المشركين، وذلك أنّا لا ندري بزعمك، لعلّ ضميره الايمان، فهذا القول نقض لامتحان النبي صلي الله عليه و آله و سلم من كان يجيئه يريد الإسلام، وأخذه إياه بالبيعة عليه وشروطه وشدة التأكيد، قال مسعدة: ومن قال بهذا فقد كفر البتة من حيث لا يعلم «1».

و أمّا المنهج الوضعي فهو يترك مجال تعيين المصداق لاختيار الأمّة، لكن يظلّ هذا التخيير له لون صوري غير واقعي في حالة تخلّف الشرائط والمواصفات في الشخص الحاكم التي يعيّنها القانون، ويظلّ التخيير غير صائب في حالة توفّر

المواصفات بنحو أكمل في شخص لم يقع عليه الإختيار، وهذا الجانب السلبي في المنهج الوضعي قد عالجه المنهج الرباني الإلهي بجعل الإنتخاب بيد العالم بالسرائر وبمعادن البشر «وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة».

فكون العقد السياسي هي وثيقة إلزام وإلتزام وسبب لزيادة التعهد لا أنّه عملية مولّدة لصحّة الشي ء الذي تمّ التعاقد عليه، بل الصحّة والسلامة آتية من الشارع أو القانون، وكون العقد هذا مفاده من أوليات الأبحاث القانونية، فالعقد السياسي والبيعة لا يؤمنّان صحّة الإنتخاب وسلامة المنتخب والمبايع وإنّما الذي يؤمنه تعيين الشرع في المنهج التوحيدي والقانون في المنهج الوضعي.

فالعقد لا يؤمّن الصحة والسلامة، وهذا ما نجده عند فقهاء القانون من

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 335

تمييزهم أدلة الصحة عن أدلة اللزوم.

هذا مضافاً إلي أنّ الإعتراف بأنّ الوجوب الشرعي ثابت علي الأمّة في إيقاع البيعة مع المعصوم عليه السلام يعني نصب الشارع الأقدس للمعصوم خليفة ووالياً، غاية الأمر إلزامه إياهم بالالتزام والتعهد وزيادة إستيثاق بالعمل بهذا النصب، نظير إيجاب الشارع الأقدس السعي إلي صلاة الجمعة وعقدها فإنه وليد وجوب ذات صلاة الجمعة علي المكلفين.

الحرّية الفردية ذريعة شعارية … ص: 335

ومن المضحك المبكي التشبث بشعار حرّية اختيار الفرد في العقد السياسي (البيعة) من جانب، ومن جانب آخر تصحيح البيعة بجزء من الأمّة مهما كثر ذلك علي الجزء الآخر الذي لم يبايع وإلغاء رأيه، أو بايع شخصاً آخر، مع أنّه قد تكون النخبة في جانب الأقلية وذوي العقول الراجحة كمّاً أو كيفاً.

ولذلك تري أنّ أصحاب مدرسة السقيفة القائلين بذلك يقعون في حيرة أمام صور وتساؤلات عديدة تقع في المجتمع لا يؤمَّن الجواب عنها تحت ذريعة الحرية الفردية، فهل الغلبة مسوّغة لإلغاء الحرية الفردية للأقلية، فإذا كانت مسوّغة فالسلطة الفردية يرفع

اليد عنها عندهم في موارد، فكيف لا يسوغ رفع اليد عنها أمام الإختيار الإلهي الصائب الذي لا يخطأ بينما الغلبة البشرية ممكنة الخطأ.

وكيف يكون وجوب البيعة للمعصوم عليه السلام علي الأمّة لا ينافي السلطة الفردية والإختيار، بينما نصب الشرع وتعيينه للوالي منافي للإختيار وحرّية أفراد الأمّة.

وكيف يصحّح الشارع بيعة الأمّة لغير المعصوم عليه السلام مع أنّه أوجب عليهم البيعة للمعصوم عليه السلام.

و كيف يتلائم القول بأنّ الحكمة الإلهية في المعصوم عليه السلام هي تجسيده للقانون الإلهي علي كلّ الأصعدة السياسية والإجتماعية والفردية وغيرها، مع

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 336

القول بعدم نصب الشارع له حاكماً ووالياً علي الأمّة، وهل يكون ناطقاً حيّاً بالقانون إلّابجعل الزعامة له علي الأمّة.

الشوري والنص … ص: 336

والقول: بأنّ قوله تعالي: «وأمرهم شوري بينهم» يفيد أنّ أمر الحكم وكلّ شي ء جماعي هو برأي الأكثرية، وأنّ مفاد الآية أصل أصيل في قواعد الحكم الإسلامي مطلقاً، أو إذا لم يكن أصل آخر مقدماً كالنص علي الأئمة الإثني عشر عليهم السلام، وأنّ ذلك مفاد ما ورد من النصوص المستفيضة في حسن الاستشارة و ذمّ الإستبداد بالرأي.

فهو وهم: إذ أنّ التعبير بلفظ الشوري المشتق من تشاورواشتور، والإشارة والمشورة هي إراءة المصلحة، وشاورته في كذا: راجعته لأري رأيه، وشرت العسل أشوره: جنيته، وأشار بيده إشارة؛ أي لوح بشي ء يفهم من النطق.

فمادةالشوري تعطي معني الإستفادة من الخبرات والعقول الأخري لكي يكون العزم علي بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أنّ أعقل الناس من جمع عقول الناس إلي عقله، وأعلم الناس من جمع علوم الناس إلي علمه، فهي توصية بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كلّ زواياه الواقعية عبر الأذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللغويين إنّها استخراج الرأي بالمفاوضة في

الكلام ليظهر الحق، سواء كان الأمر بيد الفرد الواحد أم لا، كما هو الحال في سلطة الإنسان علي أمواله إذا أراد أن يقدم علي بيع أو عقد معاملي، فإنّ استبداده برأيه يؤدّي به إلي الجهالة بخلاف ما إذا اعتمد المشورة والإستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط سلطة المشير علي المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير وولاية الناصح شركة مع المستنصح، وإنّما يعني اعتماد الوالي علي الأمر منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 337

وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الاشارة والمشورة والإستشارة والشوري، أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع بل الفيصل والنقض والإبرام والترجيح بين وجهات النظر يكون للولي علي الشي ء بعد استطلاعه علي الآراء المختلفة، كما هو دارج قديماً وحديثاً في الزعامات الوضعية البشرية حيث تعتمد علي لجان وخبرات- مستشارين- «1» في كلّ حقل ومجال مع عدم افادة ذلك لدي المدرسة العقلية البشرية ولاية لأفراد تلك اللجان يشاركون فيها ذلك الزعيم.

ولذلك عدّ الفقهاء تلك الروايات المستفيضة أحد أنواع الإستخارة بل أفضلها، والإستخارة هي طلب الخير لا تولية المشيرين مع المستشير، فلا يتوهّم أنّ فتح باب الإستشارة والشوري في الرأي لغو إذا لم يكن بمعني التشريك في الولاية وتحكيم سلطة المستشارين، إذ أيّ فائدة أبلغ و أتمّ من استكشاف الوالي واقع الأشياء وحقائق الأمور عبر مجموع الخبرات والعقول، واعتماده منهج جمع العلوم إلي علمه، فإنّ ذلك يصيّره نافذ البصيرة، سواء كان ذلك علي الصعيد الفردي كولاية الفرد علي أمواله أو علي الصعيد الإجتماعي كولاية الشخص علي المجتمع.

فمجيئ مادةالمشورةفي قوله تعالي يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البتّ فيه

بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الأخري، أمّا أنّ الباتّ والمدبّر مَن هو فليست الآية في صدده، لاختلاف ذلك التعبير مع (وأمرهم بأيديهم) حيث إنّ اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة، وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالي: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلي بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» *، وغيرها من التعبيرات القرآنية المتعرضة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 338

للولاية في الأصعدة المختلفة.

وممّا يعزّز ما تقدّم قوله تعالي: «فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» فإنّ اللَّه تعالي ندب إلي التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل مع أنّ ولاية الرضاعة ذات الأجرة بيد الزوج فقط، وإن كانت الحضانة في غير ذلك من حق الزوجة.

وكذا قوله تعالي:

«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» «1»

ففيه ندبة من اللَّه للرسول صلي الله عليه و آله و سلم إلي مشورة المسلمين في سياق الرأفة والرحمة بهم واللين معهم والعفو عنهم والإستغفار لهم، لا لتحكيم ولايتهم عليه صلي الله عليه و آله و سلم (والعياذ باللَّه) إذ ذيل الآية صرّح بأنّ العزم علي الفعل مخصوص به صلي الله عليه و آله و سلم.

بل إنّ الأمر بالتوكّل فيه إشعار بنفوذ عزمه وحكمه صلي الله عليه و آله و سلم وإن خالف آراءهم، و لذلك ذكر أكثر المفسرين وجوها في أمره بالمشاورة.

أحدها: إنّ ذلك لتطييب أنفسهم والتآلف لهم والرفع من قدرهم.

الثاني: أن يقتدي به في المشاورة، كي لا تعد نقيصة في المستشير.

الثالث: لامتحان الأصحاب بالمشاورة ليتميّز الناصح من

الغاشّ، كتشاوره صلي الله عليه و آله و سلم قبل واقعة بدر- الكبري والصغري- وغيرها من الوقائع.

الرابع: لتشجيعهم وتحفيزهم علي الأدوار المختلفة والتسابق إلي الخيرات والأعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكي يتعرفوا علي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 339

حكمة قرارات الرسول وأفعاله صلي الله عليه و آله و سلم.

ومن الغفلة الإستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد علي كون الشوري ملزمة له صلي الله عليه و آله و سلم، بدعوي أنّ رأيه صلي الله عليه و آله و سلم كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه علي الخروج ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج إلي جبل أحد.

وجه الغفلة أنّ الخروج من المدينة كما ذكره عدّة من المحققين كان رأيه صلي الله عليه و آله و سلم كما في رواية علي بن إبراهيم في تفسيره:

فلما بلغ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم ذلك جمع أصحابه وأخبرهم أنّ اللَّه قد أخبره أنّ قريشاً قد تجمعت تريد المدينة وحثّ أصحابه علي الجهاد والخروج.

بخلاف رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار حيث لم يكن عزمهم علي القتال والمواجهة.

كما صرّح بذلك الواقدي في كتاب المغازي «1»:

وكان ذلك رأي الأكابر من أصحاب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم من المهاجرين والأنصار.

وهو الذي تشير إليه الآيات في سورةآل عمران حيث تحثّ علي الخروج وتذمّ القعود وتوبّخ ذلك، أمّا الهزيمة التي مني بها المسلمون فلتخلفهم عن طاعة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم في ترك الرماة مكانهم، لكن حيث أنّ حزب السقيفة المتسلط لم يرقه ذلك، قام بجعل الأحاديث في أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم كان يميل إلي اللبث في

المدينة.

وممّا يستأنس لكون معني الشوري بمعني المشورة والإستشارة لا تحكيم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 340

السلطة الجماعية أنّ الآية مكية ولم يكن ثمة كيان سياسي للمسلمين، بل إنّ ظاهر الآية ترغيب المؤمنين حين نزولها في الإتصاف بتلك الصفات، فكيف يلتئم مفاد السلطة الجماعية مع ولاية الرسول صلي الله عليه و آله و سلم المطلقة، ولذلك تري أن كثيراً من مفسري العامّة فسّروا الآية بمعني الإستشارة واستخراج الرأي لا تحكيم السلطة الجماعية.

ولنعم ما قاله بعض الأجلة «قده»: إنّ الآية لو كان مفادها تحكيم سلطة الأمّة في إدارة نفسها بتأويل الشوري إلي معني الإنتخاب لا معني الإستشارة، لكان علي الرسول صلي الله عليه و آله و سلم تثقيف الأمّة وإعدادها بشكلّ وافر وبالغ علي هذا النظام من الحكم.

لا سيما وإنّ الأمّة كانت تعيش نظام الحكم القبلي، وأنّ نظام الشوري (الإنتخاب) فيه عدّة مبهمات غائمة للترديد في كون المدار علي أكثرية عامّة الأمّة أو أكثرية أهل الخبرة، وأنّ الترجيح للكيف أو للكمّ، وأيّ مقدار من نسبة الأكثرية هو المعيّن، وما هي مواصفات المرشح إلي غير ذلك من التساؤلات، الذي يحتاج في أصل بلورته إلي تقنينات عديدة مبسوطة، فهو باب متكثر الفصول، هذا بعد كون البشرية- الغرب والشرق- لم تعهد هذا النظام إلّافي القرنين الأخيرين من عصرنا هذا.

ولو بيّن الرسول هذا الباب الواسع لوصل إلينا ذلك، لا سيما وأنّ الدواعي متوفّرة لنقله بشدة، إذ هو اتجاه أهل السلطة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم في مقابل اتجاه أهل النص، ألا تري أنّ أحاديث النبي صلي الله عليه و آله و سلم في فضائل عليّ عليه السلام وتنصيصاته بنصبه زعيماً قد رواها الغفير من الصحابة مع توفّر

الدواعي الكثيرة لإخفائها، فكيف لا تَرِد الأحاديث منه صلي الله عليه و آله و سلم حول نظام الشوري وإعداده الأمّة لكي تتهيأ من بعده علي ذلك النظام.

بل إنّ ممارسات مدرسة أهل السقيفة كانت بعيدة كلّ البعد عن نظام الشوري، إذ استدلالهم في إبعاد الأنصار عن الإمارة كان بمنطق الوراثة والقربي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 341

للرسول صلي الله عليه و آله و سلم، وتعيين الأول للثاني كان بمنطق أنّ له الحق في التعيين علي الأمّة، وكذلك حصر الثاني المرشحين من بعده بذلك المنطق أيضاً.

ولو كانت الآية في ذلك الصدد و أنّه صلي الله عليه و آله و سلم قنّن نظام الشوري (الإنتخاب) من بعده لكانت الآية والأحاديث علي فرض صدورها في ذلك محل استدلال في مساجلاتهم التي جرت بينهم وبين مدرسة النص.

و من الغريب الإستدلال بكلمات أميرالمؤمنين عليه السلام في الشوري- في نهج البلاغة و غيره- علي كون البيعة هي مصدر تعيين الخليفة والحاكم علي الأمّة، بدعوي ظهور كلامه عليه السلام في إقرار ذلك.

وجه الغرابة إنّه عليه السلام ذكر ذلك جدلًا بالتي هي أحسن وحجّة علي الخصم المقرّ بذلك، وممّا يفصح بذلك قوله عليه السلام في رواية سليم بن قيس في جواب كتاب معاوية حيث طلب من أمير المؤمنين عليه السلام قتلة عثمان ليقتلهم، وذلك لمّا قرأ عليه السلام كتاب معاوية وبلغه أبو الدرداء وأبو هريرة رسالته ومقالته، قال عليه السلام لأبي الدرداء:

قد بلغتماني ما أرسلكما به معاوية فاسمعا مني ثم أبلغاه عني وقولا له إنّ عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين، إمّا إمام هدي، حرام الدم، واجب النصرة، لا تحلّ معصيته ولا يسع الأمّة خذلانه، أو إمام ضلالة، حلال الدم، لا تحلّ ولايته

و لا نصرته، فلا يخلو من إحدي خصلتين.

والواجب في حكم اللَّه وحكم الإسلام علي المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ضالّاً كان أو مهتدياً مظلوماً كان أو ظالماً حلال الدم أو حرام أن لا يعملوا عملًا ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلًا ولا يبدؤوا بشي ء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنّة.

قال: هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه، وإن كانت الخيرة إلي اللَّه عزّوجلّ وإلي رسوله، فإنّ اللَّه قد كفاهم النظر في ذلك والإختيار ورسول اللَّه صلي الله عليه و آله و سلم قد رضي لهم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 342

إماماً وأمرهم بطاعته واتباعه.

قال: وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان وبايعني المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا فيه ثلاثة أيام وهم الذين بايعوا أبابكر و عمر وعثمان وعقدوا إمامتهم ولي ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والأنصار غير أنّهم بايعوهم قبلي علي غير مشورة من العامّة وأنّ بيعتي كانت بمشورة من العامّة.

قال عليه السلام: فإن كان اللَّه (جلّ اسمه) جعل الإختيار إلي الأمّة وهم الذين يختارون ويمضون لأنفسهم و إختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار اللَّه ورسوله لهم، وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدي وكان إمام واجباً علي الناس طاعته ونصرته فقد تشاوروا فيّ واختاروني باجماع منهم،

وإن كان اللَّه عزّوجلّ الذي يختار وله الخيرة فقد اختارني للأمة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه صلي الله عليه و آله و سلم فذلك أقوي لحجّتي وأوجب لحقّي.

فإنّه عليه السلام يشير إلي قوله تعالي: «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ

الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالي عَمَّا يُشْرِكُونَ» «1» فليس الإختيار من جذوره إلّاللَّه عزّوجلّ، مضافاً إلي مناشداته العديدة بالنص، وقوله عليه السلام في نهج البلاغة:

فطفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر علي طخية عمياء … فياللَّه وللشوري … «2»

فلو كان عليه السلام يقرّ الشوري فلِمَ يخيّر نفسه بين أن يصول صولة الحق عليهم، ولِمَ يندد بالشوري.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 343

وكذا في احتجاجات المعصومين عليهم السلام من عدم تمكّن البشرية من تحقيق الإنتخاب الصائب للقيادة، والتاريخ ببابك، ومن هذه الإحتجاجات قول الرضا عليه السلام:

إنّ الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلي مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم.

ومن عجيب الغفلات محاولة الجمع بين أدلّة التعيين والنصب- ككثير من الآيات القرآنية الدالّة علي أنّ الإمامة عهد وجعل إلهي و أنّ المنصوب هو علي عليه السلام و ذرّيته- وبين ما يزعم من مفاد آية الشوري ودلالتها علي أن السلطة للأمّة، بأنّ مورد الأدلّة الأولي هو مع وجود المعصوم عليه السلام وتقلّده للزعامة الإجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده عليه السلام كما في زمن الغيبة.

وجه الغفلة: إنّه إن جعل المدار لسلطة الأمّة و الشوري عدم تقلّد المعصوم الزعامة بالفعل، فذلك يعني شرعية سلطة الأمّة في الفترة الزمنية التي كان فيها علي عليه السلام مبعداً عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن عليه السلام إلي عصر الغيبة، حيث إنّهم عليهم السلام لم يكونوا متقلّدين بالفعل زمام أمور الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص.

وإن جعل المدار علي وجودهم عليهم السلام وإن لم يتقلّدوا زمام الأمور والحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الأرض

اللّهمّ بلي لا تخلو الأرض من قائم

للَّه بحججه، إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لكي لا تبطل حجج اللَّه وبيّناته. «1»

ولا فرق بين حضور الإمام وغيبته بعد كون عدم تقلّده زمام الأمور بالفعل

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 344

غير مؤثّر في كونه إماماً بالفعل- بما للإمامة من عهد معهود إلهي ذات شئون عظيمة بالغة- كما في الحديث النبوي المروي عند الفريقين «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا» فقعودهما عليهما السلام بسبب جور الأمّة لا يفقدهما الجعل الإلهي والخلافة الإلهية علي الأمّة.

و هل من الإمكان إبداء الإحتمال أنّه- عجل اللَّه تعالي فرجه- في غيبته يفقد هذا المنصب والجعل الإلهي، إذ هذا لا ينسجم مع مبدأ النص والتعيين، ومن هنا كان تمسّك الفقهاء في نيابتهم في عصر الغيبة الكبري بنصبه لهم نواباً في قوله المروي مسنداً في غيبة الشيخ الطوسي «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللَّه» فقوله عليه السلام: «فانهم حجتي عليكم» استنابة منه عليه السلام للفقهاء.

و هل يتعقّل أن يكون للَّه حجّتان بالأصل في عرض واحد بالفعل، بأن يكون الحجّة في غيبته حجّة بالأصل، ومنتخب الأمّة حجّة أخري بالأصل ولكن بالإنتخاب لا بالنيابة عنه، ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية علي ضوء مبدأ النص والتعيين أنّ صلاحيّات الفقيه مستمدّة منه- عجّل اللَّه فرجه الشريف- في الغيبة لا أنّها للفقيه بالأصالة مع خلعه عليه السلام عن ذلك المنصب.

هذا ولا يغفل عن أنّ سبب عدم تقلّده- عجّل اللَّه فرجه الشريف- زمام الأمور والحكم وعدم الظهور هو المذكور في قوله عليه السلام:

لو كنتم علي اجتماع من أمركم لعجل لكم الفرج.

ولذلك قال السيد المرتضي والخواجة وغيرهما أنّ سبب غيبته منا.

نعم إذا أمكن أن تخلو الأرض من الحجّة المعصوم، وأن يترك اللَّه

البشر وحالهم مع قوانين دينه علي أوراق وتكون يد اللَّه مغلولة- والعياذ باللَّه تعالي- أمكن حينئذٍ ذلك الإحتمال والجمع المزعوم بين الأدلّة.

ومن الطريف أنّ الدعوي المزبورة تذعن في طيّاتها بشروط في المرشّح

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 345

بالإنتخاب من الفقاهة والكفاءة والأمانة و العدالة والضبط وسلامة الحواس إلي غير ذلك من الشروط التي لا تتوفر بنحو الإطلاق والسعة وبنحو الثبات الذي لا تزلزل فيه إلّافي المعصوم عليه السلام، وكأنّ ذلك أوْباً إلي النص مرّة أخري، إذ الإشتراط في جذوره تعيين.

نعم نصبه- عجّل اللَّه فرجه الشريف- للفقهاء كنوّاب بالنيابة العامّة قد استفيد منه من قوله: «فارجعوا» الإيكال للأمّة في إختيار أحد مصاديق النائب العامّ الجامع للشرائط ولا يعني ذلك أنّ النصب بالأصالة من الأمّة بالذات، بل منه- عجّل اللَّه فرجه الشريف- بالأصالة ومن الأمّة بتبع إيكال وتولية المعصوم لها، كما هو الحال في القضاء والإفتاء عند التساوي في الأوصاف.

و لا يتوهّم أنّ تولية الأمّة ذلك يلزمه إمكان توليتها السلطة علي نفسها بالأصالة من اللَّه تعالي في اختيار خليفة اللَّه في أرضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق، حيث إنّه لابدّ من العصمة في قمّة الهرم الإداري للمجتمع دون بقية درجات ذلك الهرم، إذ بصلاح القمّة يصلح مجموع الهيكلّ.

كما لا يتوهّم أنّه حيث لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر تدار به رحي إدارة النظام الإجتماعي البشري وهذا اللابدّية والضرورة العقلية التي نبّه عليها علي عليه السلام في النهج تقتضي تنصيب الأمير علي الناس بمقتضي تلك الضرورة بالذات بالأصالة من دون حديث النيابة عن المعصوم.

وجه اندفاع التوهّم: إنّ الضرورة العقلية تقتضي الزعيم، أمّا شرائط كونه أمير برّ لا فاجر هو كون إمارته من تشريع اللَّه تعالي وإذنه إذ الولاية

للَّه تعالي الحقّ، والإمارة تجري علي يد الفرد البشري المخول منه تعالي في ذلك.

ولذلك تري أنّ عدة من الفقهاء- قدس اللَّه أسرارهم- استدلّوا بتلك الضرورة في الكشف عن إذنه وتنصيبه للفقهاء بإعتبار أنّهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة في كلماتهم.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 346

وبذلك ننتهي إلي أنّ الآية هي في صدد الإشارة بصفة ممدوحة مهمّة في المؤمنين وهي عدم الإستبداد بالرأي، واعتماد العقل المجموعي في استخراج الرأي الصائب وفتح الأفق أمام الخبرات في استعلام جودة الفكر والرأي، و أمّا أين هي منطقة السلطة الجماعية و أين هي منطقة السلطة الفردية و مَن هو و مَن هم، فذلك يتمّ استكشافه من مبدأ السلطات و هو اللَّه تعالي و من ثمّ رسوله صلي الله عليه و آله و سلم وخلفائه المعصومين، بالوقوف علي حدود نصوص الجعل والتنصيب كما ذكرنا لذلك مثالًا في النائب العام والقاضي والمفتي.

والمهم التركيز علي هذه الجهة في الآية أنّ مادةالشوري هي لاستطلاع الرأي الصائب والمداولة مع بقية العقول، و فرق بين استطلاع رأي الآخرين وبين جمع إرادة الآخرين، فالأول هو موازنة بين الأفكار والآراء من المستطلع والمستشير، و الثاني سلطة جماعية، فلا يمكن اغفال التباين الماهوي بين الفكر والإرادة، و إنّ الشركة في الأول لا تعني الشركة في الثاني بتاتاً.

فالتوصية في الآية هي في اعتماد التلاقح الفكري في إعداد الفكرة، أمّا مرحلة البتّ والعزم و الإرادة فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرّد إضافة الأمر إلي ضمير الجماعة لا يعني كونها في المقام الثاني، بعد كون مادة المشورة صريحة في المقام الأول.

بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخص وتتتعلّق بمجموعهم، هذا لو

جمدنا علي استظهار الموضوع المتعلّق بالمجموع من لفظة (أمرهم)، ولم نستظهر معني الشأن من الأمر- كما استظهره كثير من المفسرين- أي بمعني شأنهم وعادتهم ودأبهم علي عدم الإستبداد بالرأي واعتماد طريقة الإستعانة بالمستشارين.

ونكتة الإضافة إلي ضمير الجماعة هي وحدة سوق الأفعال في الآيات كما في «أَقِيمُوا الصَّلاةَ» * و «مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» * و «يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ» *، وأمّا لفظة «بينهم»

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 347

فهي ظرف لغو متعلّق بمادة الشوري لكونها مداولة بين الآراء ومفاوضة لا تقل عن كونها بين اثنين، فهي فعل بينيُّ و في ما بينهم.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 349

ملحق قراءة في أدوار أميرالمؤمنين عليه السلام … ص: 349

اشارة

هناك جملة من التساؤلات تثار حول سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام، بل ربما تثار شبهات في سيرة الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام، لكن تلك الأسئلة قديماً و حديثاً تثار و تشتدّ حول سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام.

و التساؤل في الواقع و إن كان ظاهره البادي قد يستوحش أو يتنفّر منه الإنسان منه، إلّا أنّ الإثارة و التساؤل تمحّص و تبلي و تجلّي الحقائق أكثر فأكثر، و من خصائص مذهب أهل البيت عليهم السلام أنّه يصطدم و يجابه بالتساؤلات، و كلّما أثيرت التساؤلات حوله، تضّوع منه رائحة الحقائق أكثر، و تجلّت حال البشرية و استنارت بمنهج المعصومين عليهم السلام و من جملة تلك الأسئلة التي تتصل بالفقه السياسي و الفقه العقائدي و ربما قد حيرت الكثير:

1. لِمَ لم يقبل عليه السلام عرضَ أبي سفيان نصرتَه لأجل الوصول إلي سدّة الحكم و السلطة؟ فإنّ استلامه للحكم غاية مهمة تبرّر اتخاذه لأبي سفيان- رغم كلّ الصفات التي يتصف بها و مع أنّه لا يفتأ يكيد بالإسلام- جسراً يعبر فيه إلي السلطة، و يُعدّ ذلك من الوسيلة

الإضطرارية للوصول إلي الغاية الراجحة، بينما نجد الإمام عليه السلام قد أجابه:

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 350

«وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً»

2. في يوم الشوري الذي نصِّب فيه عثمان، عرض عبد الرحمن بن عوف علي أميرالمؤمنين عليه السلام أن يعمل بكتاب اللَّه و سنة نبيه صلي الله عليه و آله و سلم و سيرة الشيخين، فما الضير في أن يُنعِمَ عليه السلام في الجواب و يقبل هذا العرض، إلّا أنّه عندما يستلم زمام الحكم لا يعمل إلّابما يرتئيه هو عليه السلام و يحول بذلك دون إفساد الثالث أكثر؟!

و يبرَّر هذا الموقف فقهياً بأنّ الشرط الفاسد غير ملزم، فلِمَ حرّم- إن صحّ التعبير- من بركات سلطته وإدارته ونشر العدل و تحقّق هذا الهدف السامي مقابل شرط فاسد، بين مجموعة سداسية الأطراف، يعلم عليه السلام بفساده و بأنّ الإلتزام به فاسد أيضاً؟

3. لماذا لم يعط معاوية ولاية الشام، ثم يصفّيه بطريقة مّا، كما أشار عليه جملة من حوارييه ومنهم عبد اللَّه بن عباس، ولم تنشب بذلك فتنة صفين التي ذهب فيها أكثر من 90 ألف قتيل، وجذّرت تلك الإحن في نفوس الأمة والقطيعة التاريخية إلي يومنا هذا.

4. لِمَ لم يولِّ طلحة والزبير ناحية بعيدة من نواحي العالم الإسلامي، وعندما تستحكم سلطته يصلح الأمر بالشكل الذي يراه، وبالتالي يتخلّص من فتنتهما وهي حرب الجمل؟ فلماذا يريد أن يشيّد صرح الحكم الإسلامي من البداية علي طبق الأحكام الأولية و لم يتغامض عن بعض الحدود الإلهية و بعض الملزمات، ثم يصلح الأمر شيئاً فشيئاً عندما تقوي سلطته؟

5. لماذا يعلن من بداية تسلّمه الحكم سواسية العطاء من بيت مال المسلمين، ولم ينتهج سيرة الأول بالتفرقة في العطاء؟ أو سيرة الثاني الذي

توسّع بالتفرقة في العطاء بين القرشي وغير القرشي، والعربي وغير العربي، إلي أن يستوثق من الحكم يقوم بمعالجة الأمور شيئاً فشيئاً؟ ممّا أثار عليه حفيظة القاعدة، أثار عليه بعض الصحابة والقبائل حتي أن أخاه عقيل قام في ذلك المجلس وقال

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 351

أنا وعبدي سواسية؟ فقال عليه السلام لم يكن غيرك ليقوم ويعترض!.

6. هل إنّ الأسلوب الذي اتبعه عليه السلام ساهم في خدمة حكومته أو أنّه أدّي إلي نقض الغرض؟ فقد يبدو لنا أنّه ممّا سبب زعزعة قوّة سلطته عليه السلام فأنّه كان يتشدّد في إقامة الحدود من الجلد والرجم والقطع … حتي بالنسبة إلي أشراف القبائل مما جعلها تقاطعه وتعاديه وبالتالي تذهب إلي معاوية.

و قد أشار عليه عبد اللَّه بن عباس وبعض حوارييه: «أنه يجتثّ قوّته بيده»، بل إنّ نفس الأمير عليه السلام قد عبّر: «ما ترك لي الحقّ من صاحب»، و هذا التشدّد في حرفية تطبيق حدود اللَّه أدّي في النظرة الأولي القاصرة إلي نقض الغرض، و أدّي إلي أن لا تطبق الحدود وأن تضعف قوة حكومته أو حكومة المعصومين عليهم السلام من بعده.

و قد أشاروا عليه أن يغدق القبائل في العراق والجزيرة- وقد كانت القوة الضاربة من الناحية العسكرية والأمنية والقاعدة الشعبية- بالأموال الزائدة، فقال لهم:

أتأمروني أن أطلب النصر بالجور في من ولّيت عليه، واللّه ما أطور به ما سمر سمير و ما أمّ نجم في السّماء نجمة، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف و إن المال مال اللَّه.

وهذا الأسلوب حالَ دون قوّة حكومته، ودون تطبيق الأحكام الإسلامية، وقلّل من مدّة حكومتهم عليهم السلام و أدّي إلي ضعف خلافة الإمام الحسن عليه السلام، وإلي توجه القبائل إلي معاوية.

7. لماذا

لم يستعمل عليه السلام أسلوب الغيلة في تصفية مناوئيه كما فعل معاوية، ولا سيما مع ما توفّر له من فُرَص ذهبيّة لتصفية كلّ المناوئين؟

8. لماذا كان يسارع بتنحية وإقصاء بعض الولاة المقرّبين منه بمجرّد تعديهم علي بيت المال؟ وهذا قد يفتت القوّة التي بيده.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 352

في سيرة باقي الأئمة عليهم السلام … ص: 352

و هذه التساؤلات قد يطرح شبيه لها في سيرة باقي الأئمة عليهم السلام

1. لقد أشار علي الإمام الحسين عليه السلام بعض حوارييه أنّ جيش الحُرّ قرابة الألف فارس، بينما أصحاب الحسين عليه السلام و مَن يحيط به ما يقارب 300 قبل يوم عاشوراء، فيمكن طلب المدد والعون من القبائل و يستوثق الأمشاج الضاربة ويبيد هذه الفرقة، بل و يكون هو الغازي للكوفة بدل أن يغزي هو، بينما نجده في كلّ خطوة يتخذ الأسلوب السلمي و لا يبرّر لنفسه لأجل الوصول إلي السلطة و يصلح بالتالي نظام المسلمين، مخالفةَ خطوةٍ واحدةٍ من حدود اللَّه.

2. يعرض أبو مسلم الخراساني الخلافة علي الإمام الصادق عليه السلام، قبل أن يستوثق بنو العباس من سلطتهم، فلِمَ لم يقبل بهذا العرض، ويقوم بما قام به المنصور الدوانيقي و مَن بعده من الخلفاء استوثقوا من السلطة ثم قاموا بعد ذلك بتصفية أبي مسلم وغيره، فلماذا لم يستلم الحكم ورويداً رويداً يصلح الأمور كما يراه الأنسب والأصلح؟ أوليس هدفهم إقامة نظام وحكم إسلامي؟ بينما نجد الإمام الصادق عليه السلام لم يحرّك و قد عابه في ذلك عبد اللَّه بن الحسن المثني بن الحسن المجتبي عليه السلام.

3. لِمَ لم يقم الإمام الكاظم عليه السلام بما كان يتمتع من قوّة ونفوذ علي هارون الرشيد؟ والتقرير الأمني الذي ذكره أحد أعوان هارون شاهد علي ذلك، حيث خاطب

هارون قائلا: «أفي بلاد المسلمين خليفتان؟ أنت في بغداد تجبي إليك الأموال، و وراءك 120 ألف سيف ضارب، و موسي بن جعفر في المدينة تجبي إليه الأموال و وراءه سبعون ألف سيف ضارب … »، و في بعض الروايات أنه بَدا للناس أن الكاظم عليه السلام هو مهدي آل محمد، و مع ذلك لم نجد الإمام الكاظم عليه السلام سعي للوصول إلي السلطة.

4. لِمَ لم يقبل الإمام الرضا عليه السلام الخلافة أو ولاية العهد حتي ولو كانت صورية؟ ثم شيئاً فشيئاً يتقلّد زمام الأمور و يخطّط ضدّ المأمون ويسحب البساط

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 353

من تحته، ولو استلزم ذلك بعض المحذورات ولكن يقوم بها من باب دفع الأفسد بالفاسد؟

الصياغة العلمية لهذه التساؤلات … ص: 353
اشارة

و يمكن صياغة هذه التساؤلات بصياغة علمية وهي: لِمَ لم يستخدم الأئمة عليهم السلام بالنظرة البدويّة القاصرة أسلوب الغاية تبرر الوسيلة أو قاعدة التزاحم أو قاعدة العناوين الثانوية أو قاعدة دفع الأفسد بالفاسد؟ و إنّما تشدّدوا في إرساء الحدود الإلهية بالدقة و بحرفيتها، مع أنّ هذا الأسلوب- بالنظر البدوي القاصر- يفوّت الأحكام الكبري الأهم؟

بل قد يدّعي بعض العامة بأنّه كيف تدّعون أنّ أئمتكم لهم الحق بالولاية والحكم، والحال أنّهم لم يسعَوا للوصول إلي السلطة، بل تعرض عليهم ويرفضون؟!. و ربما يحصي البعض قرابة 40 أو 100 موقف و تساؤل حساس يطرحه بعض المستشرقين أو تطرحه المذاهب الأخري، فما هي فلسفة هذه المواقف لأمير المؤمنين عليه السلام و الأئمة من بعده، الذين يجب علينا أن نتأسّي بهم ونحذو حذوهم؟. فما هي الضابطة في منهاجهم لكي نعرفهم حقّ المعرفة، ولكي يكونوا لنا قدوة وعبرة؟

الإجابة علي هذه التساؤلات … ص: 353
اشارة

للإجابة علي هذه التساؤلات واستخلاص منهاج أهل البيت وسيرتهم ينبغي التفطن لعدّة نقاط:

الأولي: الحكم وسيلة أو غاية؟ … ص: 353

إنّ الوصول إلي القدرة وتسنّم سدّة الحكم ليس بنفسه غاية، كما يذكر أميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة عندما دخل عليه ابن عباس و هو يخصف نعله،

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 354

فسأله عليه السلام: «ما قيمة هذا النعل؟ فقال له: لا قيمة له. فقال عليه السلام: واللَّه لهي أحبّ إلي من إمرتكم إلّا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلًا».

و في جملة من خطبه حدّد الميزان و أنّ الغاية من القدرة والسلطة وشرفها هو إقامة حدود اللَّه و أحكامه، و ليست القدرة بنفسها غاية، لكن لا يعني ذلك التواني منهم و ترك الحبل علي الغارب، و لا يدعو هذا المنطق منهم عليهم السلام التواني والتقصير عن مصير الأمّة، بل لديهم نظرية وسطية تأتي في النقاط اللاحقة.

الثانية: ما هو دور الحاكم عند التزاحم؟ … ص: 354
اشارة

إنّ نظرية التزاحم أو دفع الأفسد بالفاسد أو العناوين الثانوية قواعد طويلة الذيل تعرّض لها الأصوليون و المتكلّمون، و هي قواعد معقّدة، ولكن نتعرض في المقام لنتائجها بشكل مختصر.

قاعدة التزاحم: لقد عمل بهذه القاعدة علماؤنا وفقهاؤنا، ولكن الكلام هو: ما هي مسئولية و وظيفة الحاكم- كالأئمة عليهم السلام، سواءٌ كانوا في سدّة السلطة الرسميّة أم القدرة الإجتماعية التي كانوا يمسكون دائماً بعنانها بفضلٍ من اللَّه- تجاه التزاحم؟

و الجواب: إنّ دور الحاكم أن يمانع وقوع التزاحم، لا أن يجذّر وقوعه بين المصالح والحدود الشرعية كي يراعي مصلحة الأهم علي المهم، بل وظيفته ممانعة وقوع التزاحم، وإذا وقع فوظيفته أن يمانع بقاءه، وذلك بفراسة التدبير وفطنة السياسة والتسييس.

مشكلة الإستفادة من قاعدة التزاحم هي أنه إذا كانت هذه هي سياسة الحاكم- سيما إذا كانت التدافعات والتزاحم في الغايات الشرعية- فسوف بالتالي تضيع مصالح كثير من الأمور المهمة بِاسم الأهم، وسيعود بالتالي المهم بمجموعه

وبسلسلته وبدائرته هو أهم بكثير من الدرجات من الأهم في الصورة الظاهرية، ولذا الوقوع في ورطة التزاحم ابتداءً أو بقاءً للمدبّر في النظام الإجتماعي السياسي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 355

خطير جداً.

حقيقة دور النُخب: … ص: 355

في كتاب فقه الحيل الشرعية، تعرضنا لمسألة أنّ الكثير من النُخَب الإقتصادية أو النُخب في علم النقد أو الحقوق أو القضاء أو أي حقل من الحقول، دائماً تطالب الشريعة بأن توجد لها حلولًا وتسهيلًا مع البيئة في الحقول المختلفة، وهذا في الواقع قصور وتكاسل وتقصير من النُخَب في حقولها المختلفة، لأنها لو كانت نشطةً فطنةً لكانت هي التي تكيّف البيئة المريضة أو الخاطئة علي وفق الشريعة، لا أن تكيّف الشريعة علي وفق البيئة، فهي تكيّف بيئة الإعلام أو البيئة الإجتماعية أو البيئة في حقول الأحوال الشخصية علي وفق الشريعة، بل إنّ هدف الشريعة أن تقوّم وتستصلح تلك البيئات الخاطئة والمريضة.

والمشكلة في العناوين الثانوية تماماً كالمشكلة المتقدّمة في قاعدة التزاحم، و هي أنّها تفرّط بشريحةٍ كبيرةٍ من الغايات والمصالح الشرعية، وسيؤول التمسك بزمام السلطة والحكم- بدلًا من أن يكون وسيلةً لنشر الأحكام- وسيلةً وسبباً لهدم بُني الأحكام. إذن من خلال الحيطة الكاملة في الموضوعات يمكن الحيلولة دون وقوع التزاحم، والحيلولة دون التمسك بالعناوين الثانوية.

التشديد أو التساهل في الأحكام والحدود؟ … ص: 355

وهذه جدلية أو معادلة ديالكتيكية خَطِرة يجب أن نعيها، والأئمة عليهم السلام في منهجهم هذا قد تفادوا مثل هذه العقدة المبهمة التي ربما قد يعاني منها أيُّ أحدٍ ممّن يتقلّد التدبير في النظام الإجتماعي السياسي، لأنّ التشدّد في مراعاة الحدود في الواقع لن يفوّت الحدود، بل بالعكس فإنّ التساهل في إقامة الحدود هو الذي يؤدّي إلي تفريط كبير في إقامة الأحكام الإسلامية.

و في الواقع إنّ العناوين الثانوية كما هو عند علماء الإمامية لا يزيل واقع ولا

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 356

مصلحة الحكم الأولي، وغاية ما يقوم به الحكم الثانوي هو زوال المؤاخذة، سواء علي صعيد لمسئولية الفردية أم مسئولية الحاكم؛ و بعبارة

أخري إنّ الأحكام الثانوية عبارة عن كيفيات في مقام التطبيق والتنفيذ كي لا تتصادم الأحكام بعضها مع بعض، لا أنّه هي بنفسها أحكام، و هي شبيهة بقاعدة التزاحم. إذن لا يمكن لهذه القواعد المذكورة أن تحلّ لنا المشكلة في مقابل هذا المنهج الذي تشدد فيه أهل البيت عليهم السلام.

الثالثة: ما حقيقة معني السلطة؟ … ص: 356
اشارة

فلسفة أهل البيت عليهم السلام للقدرة والسلطة هو إقامة الحق أو دفع الباطل، وهذه الغاية لا تنحصر بالسلطة الرسمية، بل كما يذكر في الدراسات الأكاديمية وهو من المسلّمات السياسية أنّ كلّ قدرة لها نفوذ في المجتمع أو شريحة من الشرائح الإجتماعية يمكن أن تؤثّر في عملية التوازن وفي مسار النظام السياسي تعتبر حكومة بحدّ ذاتها، ويقولون أنه لا يوجد في العالم قدرة أو سلطة بسيطة، بل كلّ الحكومات فدرالية وإن لم يعلن عنها، كالقدرة القَبَليّة في العراق أو شبه الجزيرة العربية، فهي حكومة في عيالة الحكومة المركزية وتتوازي معها.

إذن فالحكومة ليس كما كان يفهمه الفكر الإسلامي وظلّ دهراً في أدبيّات المسلمين و أذهانهم أنّها ذات شكل واحد و أنّها تعني السلطة الرسمية، بل هي كما تنبّهت له الدراسات السياسية لها أشكال مختلفة، و بناء علي هذا الفهم فإنّ تخلّي الأئمة عليهم السلام عن السلطة الرسمية أو الحكومة الرسمية لا يعني تخلّيهم عن السلطة مطلقاً. و لِمَ قام بنو أميّة وبنو العباس بسجن وبتصفية الأئمة عليهم السلام لو لم تكن عندهم عليهم السلام سلطة و قوّة يخافون منها؟

فالنكتة واضحة و هي أنّ مَن يكون في السلطة الرسمية يشعر بالذي ينازعه و يشعر بمَن له القدرة فيهابه و يخاف منه. و من ثَمّ رأَوا أنّ أهل البيت عليهم السلام بأسلوبهم

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 357

السلمي البارد الخفي لهم

دولة، و إذا استطعنا أن نعي هذا المفهوم في الفكر السياسي المعاصر لاختلفت قراءتنا لسيرة أهل البيت عليهم السلام، فَهُم علي هذا الفَهْم لم يتخلّوا أبداً عن النشاط والقيام بالمسئولية والأدوار في إقامة الحكم الإسلامي، ولكنهم لم يكونوا ضيّقي الأفق فيحشروا أنفسهم بالسلطة الرسمية ويقولوا: إما هي أو لا!. بل نظام الطائفة نظام دولة و ممّا يدلّل علي ذلك هو تسليم الشارع الإسلامي قاطبة لأميرالمؤمنين عليه السلام بالخلافة بعد موت عثمان، فإنّه منبّه واضح علي مدي نفوذ سلطته عليه السلام بين الناس، فإنّ زمام الأمور الإجتماعية كانت بيده وقد سحبها من الثالث.

وبناءً علي ما تذكره كثير من الدراسات السياسية و الإجتماعية يمكن القول بأنّ استلام السلطة الرسمية الآن قد يكبّل الأيدي عن إقامة الأحكام الإسلامية تحت قاهرية الظروف الراهنة، وتتراجع أكثر فأكثر فرص إقامة دولة إسلامية، وهذا ما يبيّن فلسفة تنحي الإمام الصادق عليه السلام و الإمام الرضا عليه السلام عن السلطة الرسمية الظاهرية، و ما تصفية الأئمة عليهم السلام إلّالأنّ الخلفاء رأَوا أنّ الأئمة يستلمون زمام الأمور شيئاً فشيئاً و ينشرون التشيع ممّا يعني أنّه (انتشار التشيّع) سيؤدّي إلي استلام كلّ الأمور ومنها الحكومة الظاهرية.

أولوية صيانة الثوابت الإعتقادية … ص: 357

الأمر الذي حرِص الأئمة عليهم السلام عليه هو الموازنة بين الأغراض السياسية والثوابت العقائدية، فلا العقائد تدعو إلي الجمود، و لا النشاط السياسي الحركي يتناسي أهدافه بالتفريط بالثوابت العقائدية. فإذا كان لابدّ من الحفاظ علي حدود اللَّه في الفروع، فكيف بالأصول؛ أليس الأمر فيها أخطر؟ وهذا كان مُتحَسّساً من أميرالمؤمنين عليه السلام حين كان يجيب ب" لأجل هذا نقاتل"، حين كان يسأل عن الصلاة والأمور العقائدية في مواقف حرجة كليلة الهرير في صفين. ومن الخطأ ما

اسس النظام السياسي عندالامامية،

ص: 358

تورّطت به بعض الجماعات الإسلامية من تبديل الوسيلة إلي هدف.

إذن هناك تنوّع في أساليب أهل البيت عليهم السلام، وموازنة في الثوابت وحفظ الحدود، الذي إن كان لا بدّ منه فحفظ الثوابت العقائدية أولي، ولا يعني ذلك التفريط في الآلية السياسية، فلا هذا علي حساب ذاك ولا ذاك علي حساب هذا، و إنّما هناك وسطية في الموازنة، كما أنّ أهل البيت عليهم السلام يتشدّدون في الحفاظ علي النظام الإمامي، أي نظام الطائفة الشيعية، وفي المقابل يفتحون الجسور أمام المجتمع الإسلامي، فلا يفرطون بثوابت المسيرة الإيمانية التي هم خطوها، ولا يفرطون بأهمّية ثوابت ظاهر الإسلام؛ فظاهر الإسلام يحمي الإيمان ووسيلة لخلق لبّ الإيمان، فالقشر بلا لبّ لا يفيد واللبّ بلا قشر لا يبقي.

الرابعة: نظريات الإصلاح الإجتماعي … ص: 358
اشارة

يوجد في نظرية الإصلاح الإجتماعي و إقامة الأحكام الإسلامية عدّة نظريات: الجبر والتفويض و الإختيار، فكيف يمكن فلسفة هذه النظريات؟

نظرية الجبر: … ص: 358

نظرية مخدِّرة لنشاط المجتمع الإسلامي عن مواجهة الظلم بأساليب مختلفة، لأنّها تعتبر أنّ كلّ الأمور مقدّرة من اللَّه. و هي نظريةٌ لأجل تخدير الأمة الإسلامية، كان جماعة الخلافة والسلطان أشدّ الناس ترويجاً لها، ولعلّ جذورها يهودية أو نصرانية.

نظرية التفويض: … ص: 358

و مفادها، أنّ كلّ صلاح في النظام الإجتماعي السياسي هو بيد البشر، وهذا ممّا يزيد الهمّ لدي الإنسان فلا بدّ له من الوصول إلي القدرة مهما كان نوعها. و هذا يبرّر التفريط بحدود اللَّه الفروع منها والعقائد، لأنّ الهمّ الشاغل هو القدرة، فإذا فرّطنا بها فسوف نخسر الغاية المنشودة.

و تعتبر هذه النظرية تفويضية لأنّ الإلتزام بها يعني أن لا نطوِّعَ حركتنا ومسيرتنا ضمن الإرادة التشريعية للَّه في الفروع والأصول، أو ضمن الموازنة

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 359

الوسطية، و نحن إذا لم نطوّع و نسيّر منهجنا و حركتنا ضمن الإرادة التشريعية للَّه، فسوف نظنّ أنّ كلّ تغيير في النظام السياسي من واجبنا.

نظرية الإختيار: … ص: 359

و هي تسلّم بوجود إرادة تكوينية لكن لا كالجبرية التي تعتبر أنّ الإرادة التكوينية هي التي تفعل كلّ شي في النظام الإجتماعي السياسي، بل هناك مسئوليات ملقاة علي عاتقنا لابدّ أن نقوم ونَنشَط لتحقيقها في إطار الإرادة التشريعية. و عليه، إذا لم تؤمّن الإرادة التشريعية- مع ما نقوم به من مسئوليات- وصولَ التيار الإسلامي إلي أهدافه ونظامه، فلا ريب أن تؤمّنه الإرادة التكوينية للَّه سبحانه و تعالي، نعم لابدّ من توخي الوسائل الموضوعية لتشغيل وتفعيل النُخب لتوظيف وتكييف الواقع ضمن الحدود بلا تجاوز أيّ حد من الحدود، وبلا خلق أيّ مزاحمات شرعية أو توسل بذرائع أخري، بل علي العكس من ذلك، لابدّ من الجهد في فطنة التدبير ودراسة الآلية والموضوعية حتي نسلك من خلالها منهج أهل البيت عليهم السلام.

و هذه النظرية الوسطية نستطيع أن نبوّبها ونمنهجها بين الإرادة التشريعية والتكوينية، فلا يأس ما دامت الإرادة التكوينية خير عون لنا في تحقيق الأهداف، ضمن قيامنا بالمسئولية وهي حفظ الإرادة التشريعية. فالمسئولية لم يكلها اللَّه لنا فقط،

كما ولم يطلب منّا أن نكون خاملين متحجّرين. إذن صحة المسيرة كما نقتبسها من سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام بالتشدّد بالحدود والنشاط بالدراسة الفاحصة في حقول النظام الإجتماعي السياسي.

أسئلة … ص: 359

س 1: هل يمكن القول بأنّ السبب الأساس في عدم تولّي الأئمة عليهم السلام السلطة الظاهرية هو عدم وجود الناصر لهم، … ص: 359

وإن تهيّأت لهم الظروف لتولّي السلطة ولكن خوفهم من عدم وجود الناصر أو خوفهم من خذلان بعض الأنصار أدّي بهم إلي عدم التولّي للسلطة؟ و ربما كان السبب هو حفظ شيعتهم عبر العصور.

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 360

ج: تشير العلوم السياسية الحديثة أنّ أسلوب الإمساك بالسلطة له أشكال وألوان مختلفة، وإذا كانوا عليه السلام يفتقرون لوجود الناصر في قناة مّا، كانوا لا يفرطون في قنوات أخري، بل في الواقع إنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام هم ساسة السياسة، كانوا بناة حضارة؛ فهناك حكومة سياسية لبناء قدرة سياسية وهناك حكومة لبناء التشريع و الدستور و القوانين الأصلية في أيّ دولة هي غرض الدولة، والحكومة التنفيذية والقضائية والبرلمانات التشريعية ما هي إلّا ممهّدات لإقامة صرح الدستور ففي الواقع إذا كان هناك حكومة سياسية فهي مؤقته ولو تمتّد إلي حقبة زمنية معينة، أمّا إذا استطعنا أن نقرأ أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام حاكم حضاري و ليس حاكماً سياسياً فحسب، لأنّ السياسة تتّسع لمدّة زمنية محدّدة، أمّا الحاكم الحضاري كالأنبياء والمرسلين والأوصياء هؤلاء يمسكون بالقدرة البشرية لا في حال حياتهم فقط، بل يمتدّ ذلك إلي ما بعد غيابهم في ضمن المنهاج الذي خطوه وجذروه وبنوه ورسموه، ففي الواقع إنّ هذه الحكومة الحضارية التي أقامها أهل البيت عليهم السلام نفاذة أخاذة وخطيرة جداً، فإذا استطعنا أن نقرأ في أدبيات العلوم الإنسانية والحضارية والسياسية الجديدة بشكل معمّق سوف يكون لنا نظرة أخري عميقة في تلك الأساليب التي اتبعها أهل البيت عليهم السلام.

س 2: لما ذا لم يُعمِل أهل البيت عليه السلام الولاية التكوينية في مقام المواجهة للحفاظ علي الدين الحنيف … ص: 360

كما قد استعمله النبي صلي الله عليه و آله و سلم في بعض مواقفه؟ أم أنّ هناك مصلحة من عدم استعمالها في ذلك، فهل المصلحة في سلوك الطريق العادي التدريجي؟

ج: إن

فلسفة الإصلاح الإلهي وإنزال الشرائع السماوية وبعث الأنبياء والرسل ليست هي فلسفة جبرية بمعني أن تجبر الناس علي الصلاح وليست أيضاً تفويضية و إنّما هي فلسفة اختيارية أي وسطية بين الجبر و الاختيار، فبعض بنودها هناك إرادة تكوينية حاسمة من اللَّه تعالي يمارسها أهل البيت عليهم السلام ضمن

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 361

الحكومة الخفية يشير إليها القرآن الكريم في سورة الكهف، فالمهدي- عجل اللَّه فرجه- بجانب الأساليب المتعدّدة يعمل هذا الأسلوب إذا كان هناك حاجة إلي ذلك

س 3: هل ترون أنّه من غير الصحيح إجراء الأحكام الثانوية لرفع فعلية بعض الأحكام الأولية تحت وطأة تسلّم السلطة أو القيام ببعض الحركات السياسية … ص: 361

بما في ذلك من فوائد جمّة أو أنّه ربما كان مقبولا في بعض الأحيان وإذا كان مقبولا فهل ترون له حدود واضحة؟

ج: من الخطأ أن يترك الفقهاء أو النخبة الإسلامية السلطة، لكن لابدّ أن تكون نافذة في المجتمع فقد تسالم الفقهاء كلّهم سياسة الإختراق في الأنظمة الأخري كما فعل علي بن يقطين من خلال تولّيه للوزارة فهذا يعني أنّ أهل البيت أبداً لم يفرطوا في السلطة ولكن من الخطأ. أن نحشر كلّ طاقاتنا للوصول إلي شكل خاص من السلطة. الأساليب المختلفة ضمن الحدود الشرعية يجب أن لا نفرط ولا نتواني عن التمسك بها. من الخطأ، التفريط بزمام السلطة ولكن أيّ سلطة؟

س 4: كما تفضّلتم فإنّ أئمتنا عليهم السلام بذلوا جهداً كبيراً حتي استطاعوا أن يجعلوا الكثير من الأفكار العقائدية الباطلة التي كانت مشعشعة في قلوب الناس بديهية البطلان. فكيف السبيل إلي الحفاظ علي بداهة بطلانها مع ما نراه اليوم من التشكيك في كلّ شي في العقائد و غيرها

ج: في الواقع هدف الشريعة هو الرقي بمعارف الإنسان عبر الرقي بآداب وقيم الإنسان و عبر أمره بالأعمال الصالحة للمجتمع والنظام الإجتماعي و هذا الدين عميق كلّما تأتي أدوار البشر تزداد

الإثارات التي هي من قبيل الفتن، فأميرالمؤمنين عليه السلام يقول: لا تخشوا الفتن، يعني إذا تنظر إلي عاقبة الفتنة الفكرية والعقائدية أنت تجذبك إلي الفتنة وليس فقط ينجذب إلي الجانب السلبي فيها و إنّما فيها جانب ايجابي؛ فهي تبيّن حقائق الدين العميقة، لا أقول هذا يدعونا إلي

اسس النظام السياسي عندالامامية، ص: 362

ترويج الشبهة؛ بالعكس المقصود عدم التخوّف من الشبهة و صدم الشبهة بالبيّنات و الحلول العلمية لأنّ السلاح الفتّاك هو العلم و بالتالي هو يجلي حقائق العلم. كلّما تصدم الدين الإسلامي أكثر هي تروّج من حيث لا تشعر للدين الإسلامي وبالتالي تجعل البشرية أخّاذة ومنجذبة ومتمغنطة للإنجذاب إلي الدين الإسلامي وفهمه وكذلك ما يفعله الوهابيون وغيرهم ففي الواقع هم يروّجون لمذهب أهل البيت من حيث لا يشعرون لأنه لو لم تكن هناك فتنة لما تجلّت كنوز الحقائق إذن لا نخشي من الفتنة، بل يجب أن نقيض جهودنا لأجوبة العلمية الرصينة لجذب أفكار الشارع الإجتماعي ضمن منطق عقلاني وعلمي رصين.

والحمد للَّه رب العالمين

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.