يكون سوي لبعض الأفراد المتخلفين والمعاقين والبائسين؟

2- إن صحّ الاحتمال الأوّل في أنّ المستقبل سيشهد العدل والسلام فكيف سيكون ذلك؟

3- إن كان العالم يحث الخطي نحو «العدل» و «السلام» و «التآخي»، فهل يمكن تنفيذ هذه

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 9

المبادئ دون النهضة؟ وبعبارة اخري: هل يسع الاصلاحات «التدريجية» تغيير التوجه السائد لدي العالم رغم انطوائه علي كلّ هذه المطبات؟

4- إن كانت النهضة ضرورية فهل تقتصر علي القوانين المادية، أم يتعذر عليها ذلك دون الاستلهام من المبادئ المعنوية والقيم والمثل الإنسانية؟

5- لو سلمنا بقيام مثل هذه النهضة، فما هي الصفات التي ينبغي أن يتمتع بها زعيم هذه النهضة؟

6- هل ستقود هذه النهضة علي سبيل الضرورة إلي تشكيل «الحكومة العالمية الواحدة»؟

7- هل هناك من ضرورة لتوفر بعض الظروف المعينة لمثل هذه الحكومة؟

8- أمتوفرة مثل هذه الاستعدادات في عالمنا المعاصر؟ وإن لم تكن كذلك فهل ينطلق هذا العالم في العصر الراهن باتجاه تمهيد تلك المقدمات أم بالاتجاه المعاكس؟

9- هل ترتبط هذه الامور- علي كلّ حال- بالعقيدة العالمية العامة بالنسبة لظهور المصلح السماوي المطلق؟

10- ما طبيعة عقيدة المسلمين بظهور «المهدي»

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 10

وما كيفية ارتباطها بهذه القضايا المصيرية؟

11- هل يسوقنا الاعتقاد بهذا الظهور إلي ممارسة العملية الاصلاحية للعالم من خلال النهضة الشاملة، أم يبعدنا عنها كما يذهب البعض إلي ذلك؟

12- هل تمثل هذه الفكرة والعقيدة الدينية العامة حقيقة واقعية تنطلق من أدلة منطقية، أم لا تعدو الوهم والخيال بغية الاشباع الكاذب لرغبات الإنسان المكبوتة باتجاه ضالته الكبري في الوصول إلي «السلام» و «العدالة»؟ …

سعينا في هذا الكتاب للرد علي هذه الأسئلة والاستفسارات بعيداً عن كافة أشكال التعصب والرؤي المتطرفة واجتناب الأحكام التي لا تستند إلي العقل والمنطق؛

الردود التي تنطلق من أعماق النفس وتحاكي الفكر وتلبي تطلعات «العقل» و «العاطفة» وتشبع حاجات الروح ومتطلباتها.

لقد أوردت عدة أبحاث منذ زمان بهذا الشأن، غير أنّ كثرة المشاغل في قم لم تسمح لي ب

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 11

«شرح» و «ترتيب» و «اكمال» ذلك، كما أنّ وساوسي المتواصلة في تدوين الكتاب حالت دون طبعه بتلك الكيفية، حقاً كان الكتاب بسيطاً وليس ناضجاً.

إلّا أنّ بعض الأحداث دفعتني إلي موقع لم أكن أتصوره أبداً. چاه بهار! … أي أبعد منطقة إيرانية نائية ذات أسوأ مناخ، تبعد عن العاصمة طهران حوالي 2300 كيلومتر، كما لا تسع إمكاناتها المحدودة أبسط صور المعيشة، حيث يعاني سكنتها الأمرّين ويفتقرون إلي أدني المتطلبات.

وقد تزامن هذا السفر لحسن الحظّ مع فصل الشتاء، الشتاء الذي كان يفيض بعطر الربيع تارة، وتفوح منه رائحة الصيف تارة اخري، مع ما يتمتع به من برودة قارسة. ولما كان تسعون بالمئة من أهالي تلك المنطقة من أبناء العامة، فقد اغتنمت الفرصة لألتقي بعض مثقفيهم- لاتذكر الأيّام التي قضيتها في الحجاز- وقد عقدت الجلسات والاجتماعات التي كان هؤلاء الاخوة يمثلون أغلبيتها الساحقة؛ وكانت لهذه الجلسات ثمراتها الرائعة ونتائجها المطلوبة وللَّه الحمد.

طبعاً كان المجال واسعاً في تلك المنطقة النائية

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 12

المحاذية لمياه بحر عمان الزرقاء، تحت قبة السماء المفعمة لياليها بالنجوم والكواكب وفي ظلّ العزلة؛ فما كان مني إلّاأن سارعت في استغلال تلك الفرصة الذهبية لاعكف علي تلك الأبحاث (إلي جانب الاستغراق في بعض المطالعات والدراسات الفقهية التي لم أوفق إليها كما ينبغي في قم المقدسة)؛ بالتالي خلصت إلي هذه النتيجة وهي أنّ «النفي» كان مرحلة ضرورية من عدة نواحٍ «عسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم».

آمل

أن تكون أبحاث هذا الكتاب قد انطوت علي الاجابة عن استفسارات الشريحة الواعية التي تحاول الوقوف عن كثب وبصورة علمية تحقيقية علي قضية ظهور المصلح العالمي المطلق.

كما أرجو الاستلهام من مطالعة هذا الكتاب في مواصلة مسيرتنا الجهادية في مجابهة «الظلم والفساد»، حتّي تحقيق الأهداف المنشودة في القضاء علي الطواغيت والجبابرة وتطهير المجتمع من أرجاسهم. ولا يسعنا في الختام إلّا أن نتوقع إلي حد كبير وجود بعض النقائص في محتويات هذا الكتاب، ولا سيّما بالنظر إلي قلة

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 13

التحقيقات الواردة بخصوص مطالب هذا الكتاب.

وعليه فإننا نفتح صدورنا أمام الاخوة القرّاء الأعزاء ليتحفونا باقتراحاتهم وانتقاداتهم ومراسلتنا مباشرة علي العنوان التالي (قم- الحوزة العلمية).

چاه بهار- ناصر مكارم الشيرازي

شهر صفر سنة 1398 ه

شهر شباط سنة 1978 م

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 14

المشرق الذي ينتظر البشرية:

ستزول كلّ هذه السحب القاتمة والزوابع المرعبة.

ستنطلق تباشير الصباح من عتمة الليل.

وسيدمغ ربيع العدل والقسط شتاء الجهل والفساد والعنف والظلم.

سينجلي هذا الغم القاتل والعواصف المميتة والسيول الهدامة، ولو أمعنا النظر في آفاق المستقبل لاستجلينا شاطئ النجاة.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 18

والدليل المنطقي الأوّل علي هذا الموضوع هو قانون المسيرة التكاملية الذي يحكم المجتمعات:

فالإنسان لم يعِش الحياة الرتيبة قط منذ اليوم الذي تعرف فيه علي ذاته، بل اندفع بوحي من نوازعه الباطنية- ولعلّه بصورة تلقائية- للنهوض بوضعه ومجتمعه نحو الأمام. فقد استوطن من حيث المسكن الكهوف والمغارات ذات يوم، وشيد اليوم ناطحات السحاب التي تستوعب كلّ واحدة منها سكان مدينة صغيرة وبكلّ الوسائل والامكانات الضرورية لمعيشتهم!

ومن حيث الملبس، ارتدي يوماً أوراق الأشجار، أما اليوم فهو يمتلك آلاف الأنواع من الألبسة وبمختلف الموضات والفصالات، ولم يكتف بالبحث عن انتقاء الألوان والموديلات.

وأما مأكله فقد كان يتناول الأطعمة الغاية في البساطة آنذاك، بينما تنوعت اليوم مأكولاته وتشعبت أطعمته بحيث يتطلب ذكر أسمائها كتاباً ضخماً.

كما كان مركبه يوماً رجليه؛ واليوم يستقل السفن الفضائية ويحلق في عنان السماء ويكتشف الكواكب والمجرات.

وكما كانت صفحة واحدة تستوعب يوماً كافة علومه ومعارفه- وإن لم يتوصل حينها إلي اختراع الخطّ- لكن تعجز اليوم حتّي ملايين الكتب والمؤلفات وفي مختلف التخصصات عن بيان معلوماته ومعارفه.

كان اكتشافه للنار آنذاك واختراع «العتلة» والظفر بالحربة الحادة الرأس من قبيل «الخنجر» ممّا يعتبره ذروة الابداع والاختراع، كما شعر بالفرح

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 19

المفرط والسرور التام حين اطاح بجذع نخلة ليجعله بمثابة قنطرة يعبر بواسطتها من هذه الضفة من النهر إلي الاخري، في حين تمكن في العصر الراهن من استخدام الصناعات الثقيلة والاختراعات العملاقة التي تخطف أبصار

الناظرين وتقفز به أنظمة العقول الالكترونية المعقدة إلي عالم من الأحلام والآمال.

والغريب في الأمر أنّ طموحه لم يتوقف عند هذا الحد، بل واصل سعيه الحثيث ليتسلق قمم التطور والنهوض دون أدني كلل أو تعب.

ونخلص ممّا تقدّم إلي أنّ باطن الإنسان يشده إلي عشق السمو والتكامل؛ والحقيقة هي أنّ هذا الأمر يمثل إحدي أعظم الامتيازات التي تميز الإنسان عن الحيوانات وسائر الكائنات الحية التي تعشعش ملايين السنين في موضع معين وتعيش حياة ظاهرية رتيبة.

كما نخلص إلي نتيجة مؤداها عدم خمود تلك الجذوة المتوقدة في أعماق الإنسان والتي لا تنفك تسوقه إلي الكمال، وتعبئ طاقاته وامكاناته بغية التغلب علي المصاعب والمطبات التي تعترض طريق حياته. لتقذف به في خاتمة المطاف في المجتمع الذي يختزن «التكامل الأخلاقي» إلي جانب «التكامل المادي»، المجتمع الذي تغيب فيه مفردات الحرب وسفك الدماء المضاد للتكامل.

المجتمع الذي تنضوي فيه كافة مقدرات الناس لسيادة العدل والسلام، وتموت فيه روح العدوان والاستعباد التي تمثل العقبة الكؤود التي تقف حائلًا دون تكامله المادي والمعنوي.

لعلّ هنالك من يزعم أنّ مسيرة التكامل الماضية إنّما تركزت جميعاً علي

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 20

النواحي المادية، ولا يوجد ما يشير إلي امتدادها لتشمل الجوانب المعنوية.

إلّا أنّ الاجابة عن هذا السؤال واضحة لما يلي:

أوّلًا: يمكن الوقوف علي العديد من المبادئ المعنوية والاصول الإنسانية في مسيرة التكامل الماضية؛ فالعلوم التي بلغها الإنسان- علي سبيل المثال- في ظلّ مسيرته التكاملية وبالذات غير المادية ليست بالقليلة، فليست هناك من نسبة علي سبيل المثال للمقارنة والشبه بين إيمان الإنسان باللَّه آنذاك والذي كان يعبر عنه بعبادته للحجر والخشب وما ينحته من التمر، وما هو عليه الحكيم العارف اليوم من ادراك وعبادة.

ثانياً: التكامل تكامل في كافة المواقع؛

وليس هنالك من حدود كامنة في هذا الإنسان بالنسبة لعشقه لذلك التكامل. أضف إلي ذلك فإن الاصول المادية والمعنوية ليست منفصلة عن بعضها. فمثلًا الروح العدائية والمتسلطة المتطلعة للهيمنة تقضي علي الحياة المادية للإنسان علي غرار ما تفعله القنبلة الذرية، بل ليس للأخيرة من فاعلية دون الاولي.

ومن هنا نفهم أنّ هذا التكامل سيتواصل في كافة المجالات.

وعلي هذا الضوء تلوح أوّل بارقة أمل بغية الانفتاح علي مستقبل مشرق زاهر وعالم مفعم بالسلام والوئام والاخوة والمساواة في ظلّ «قانون المسيرة التكاملية للمجتمعات».

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 21

نسي كلّ ماضيه إثر حادثة مرورية أصيب خلالها برجة دماغية؛ بينما لم يكن يشكو من سائر أعضائه؛ لم يعد يعرف أخته وأخيه، ويشعر بالخوف والهلع من امّه التي احتضنته وأرضعته وضمته بين ذراعيها وسهرت الليالي علي راحته، فهو ينظر بريب لهذه المرأة الأجنبية ما عساها تريد منه!

حمل إلي مسقط رأسه، ثم إلي الغرفة التي ترعرع وكبر فيها، يتأمل أعماله اليدوية واللوحات الفنية، لعله يعود إلي رشده فيقول إنّه يشاهد هذه الغرفة وما فيها لأوّل مرة! وربّما كان يظن أنّه قدم من كوكب آخر ليري كلّ الأشياء التي تبدو له جديدة ولم يكن قد تعرف عليها من قبل. بالطبع إنّما توقفت بعض الخلايا الدماغية ذات الصلة بالذاكرة والتي تربط الماضي بالحاضر، دون سائر خلاياه التي ربّما جاوز عددها المليار! مع ذلك فإن هذا الاختلال الموضعي البسيط أدّي إلي تلك الآثار السلبية الفادحة! ولو اتجهنا صوب الذرة وجعلناها تحت المجهر لبدت لنا بشكل منظومة شمسية، والعكس بالعكس لو صغرنا علي سبيل الفرض المنظومة الشمسية لظهرت كالذرة، فهنالك نظام واحد يحكمهما؛ نظام واحد لأعظم المنظومات وأصغرها!!

فهل يسع الإنسان في مثل هذا العالم والذي يشكل فيه جزءاً من الكلّ أن يعيش وضعاً استثنائياً بحيث يخرج من هذا النظام ولا ينسجم معه.

وهل يستطيع المجتمع البشري أن يسلك «اللانظام» والفوضي والظلم

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 23

والجور وينأي بنفسه بعيداً عن مسيرة الخليقة وهذا العالم العظيم بما ينطوي عليه من دقة ونظام!

أفلا نتدبر من خلال نظرتنا إلي الأوضاع العامة لهذا العالم أن تخضع البشرية برمتها شاءت أم أبت للنظام الذي يحكمه، فتستجيب لقوانينه المنظمة والعادلة، فتعود إلي مسارها الأصلي وتتأقلم مع هذا النظام!

إننا إن تأملنا البنية المعقدة لأي من أجهزة الإنسان لرأيناها تسير

علي هدي قوانين وأنظمة دقيقة وغاية في الدقة؛ فإن كان الأمر كذلك فأني للمجتمع البشري أن يتمرد علي الضوابط والمقررات الصحيحة والعادلة! أننا ننشد البقاء ونجهد أنفسنا من أجل الظفر به، غير أنّ مستوي تفكير المجتمع لم يبلغ الدرجة التي تجعله يعلم بأنّ مواصلته لهذا الطريق إنّما تنتهي إلي الفناء والزوال، لكنه يفيق إلي عقله شيئاً فشيئاً ليقف علي هذه الحقيقة.

وأننا لنسعي لتحقيق مصالحنا، غير أننا نغفل عن أنّ استمرارنا في ممارسة أوضاعنا الفعلية إنّما تهدد بالصميم جميع منافعنا ومصالحنا. ونضع نصب أعيننا بعض الأرقام والاحصاءات الحية- علي سبيل المثال قضية سياق إلي التسلح- لنري كيفية ضياع ما يشكل نصف أنشط القوي الفكرية والطاقات الجسمية لمجتمعات العالم إلي جانب نصف ثرواتها وامكاناتها في هذا المجال، ليس الضياع فحسب، بل توظف من أجل القضاء علي النصف الآخر!

إننا لندرك علي ضوء تنامي مستوانا الفكري ضرورة الالتحاق بركب

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 24

قافلة النظام العام لعالم الوجود، وكما نرانا حقّاً جزءاً من هذا الكل، فإن علينا تفعيل ذلك علي مستوي العمل، لنتمكن بالتالي من تحقيق أهدافنا وفي كافة المجالات.

النتيجة: هي أنّ نظام الخليقة يعد الدليل الآخر علي المستقبل الزاهر للبشرية علي ضوء نظام اجتماعي صائب.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 25

ثورة عارمة في العالم، إلّاإثر ضغوط شديدة سبقتها ومهدت لها. بعبارة اخري أنّ التغييرات والتطورات وليدة التشددات؛ مثلًا:

1- النهضة العلمية لأوربا (عصر النهضة)- كانت ردّة فعل ازاء الف سنة من الجهل والتخلف السائد في القرون الوسطي، ومدي حجم الضغوط التي مارسها القائمون علي شؤون الكنيسة بغية الابقاء علي حالة التخلف لدي الناس- التي قضت علي العوامل التي تقف وراء الجهل ورفعت راية العلم والمعرفة فأخذت تخفق في كلّ مكان.

2- الثورة الفرنسية عام 1789- التي شكلت قفزة نوعية في المجال

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 26

السياسي والاجتماعي، فوقفت بوجه الاستبداد والاستغلال الطبقي والمنطق الغاشم والمتغطرس للأنظمة الحاكمة، وجعلت المجتمع الفرنسي ومن ثمّ سائر المجتمعات الأوربية تدخل مرحلة تأريخية جديدة يسود فيها القانون- طبعاً إلي حدود معينة- بدلًا من الاستبداد والطغيان.

3- الثورة ضد العبودية- التي انطلقت شرارتها الاولي عام 1848 من بريطانيا- والتي افرزتها المعاملة الفضة والغليظة للأسياد تجاه العبيد، فأججت نار الثورة لدي العبيد من جانب، واثارة عواطف المجتمع لصالح أولئك العبيد من جانب آخر، فانتهي الأمر إلي زوال نظام الاستعباد، وإن اتخذ هذا الاستعباد صيغ اخري أكبر سعة وأعظم خطورة، حيث ظهر «الاستعمار» بذريعة «إعادة بناء البلدان المتخلفة»! علي كلّ حال فكان ينبغي القضاء علي نظام الاستعباد، لكن اسلوب التعامل مع العبيد عجل في القضاء عليه.

4- الثورة علي الاستعمار، في عصرنا الراهن كانت وما زالت ردود فعل مباشرة لأساليب المستعمرين وتصرفاتهم، والتي ألهبت مشاعر قطاعات الناس وجعلتهم يهبون لمناهضة القوي الاستعمارية، وإن لم تتمخض هذه المواجهة عن استقلال تام اقتصادي واجتماعي وسياسي وفكري؛ غير أنها أفرزت أوضاعاً يصعب مقارنتها بما كانت عليه سابقاً.

5- الثورة الشيوعية- عام 1917 م كردّة فعل لظلم الرأسمالية وهضمها لحقوق أغلبية طبقات

المجتمع الكادحة والمحرومة؛ رغم ما ذكرناه في موضعه- من أنّ هذه الثورة لم تحرر هذه الطبقات الضعيفة وترفع من شأنها واستعاضت عن ذلك النظام الاستبدادي بنظام ظالم آخر تمثل في

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 27

«ديكتاتورية البرولتاريا» والتي تمثل في الواقع هيمنة بعض رموز الحزب.

6- الثورة علي التمييز العنصري كردّة فعل قام بها ذوو البشرة السوداء «الزنوج» ضد ذوي البشرة البيضاء، إلي جانب حرمانهم من حقوقهم الاجتماعية.

ولو تصفحنا التاريخ وعدنا إلي الوراء فإننا سنواجه قانون ردّ الفعل في كلّ مكان. تاريخ الأنبياء هو الآخر ينطوي علي سلسلة من النهضات والحركات التي أفرزها ما سبقها من ضغوط اجتماعية قوية، وقد وجه الأنبياء تلك النهضات في مسارها الصحيح من خلال قيادتها علي ضوء التعاليم السماوية. ولعلنا لا نتلمس مظاهر هذا القانون في التاريخ القديم والمعاصر في القصص الواقعية لحياة الامم والشعوب فحسب، بل إننا نري نماذج ذلك القانون في أساطير سائر الأقوام.

فقد جاء في اسطورة «الضحاك» و «كاوه الحداد» أنّ دماغ الإنسان كان طعام الحيتان التي يحملها علي كتفه، وكان عليه أن يخرج كلّ يوم دماغاً من جمجمة ويعطيها الحيتان كي تقرّ وتهدأ! ولعلّ هذه هي حقيقة «الاستعمار» الذي يقتات علي الأدمغة؛ حيث يعتبر الاستعمار الفكري الدعامة الأساسية لكافة أنواع الاستعمار!

ثمّ يطالعنا من بين ذلك المجتمع المحروم والذي يعاني من سطوة الضحاك، حداداً ذاق طعم النار فشمر عن ساعديه وجعل صدريته راية للثورة فواجه طغيان الضحاك وأطاح به.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 28

وتضمن علم النفس المعاصر بحثاً يكشف عن هذا القانون. يفيد هذا البحث: إنّ رغبات الإنسان ما لم تشبع بالصورة المناسبة فإنّ هذه الرغبات تكبت في اللاشعور لتنتقل من مرحلة «الشعور الظاهر» إلي مرحلة «الباطن» فتثير عقدة في

الضمير الباطن لدي هذا الإنسان. بل أبعد من ذلك أنّ البعض يعتقد أنّ الضمير الباطن ليس بشي ء سوي هذه الرغبات المكبوتة، وأنها لا تستقر في ضمير الإنسان وتنطفي ء جذوتها، وتسعي دائماً لأن تطفو علي السطح؛ وتبدو متفاوتةً ردود فعل هذه العقد لدي الأفراد، لكن يمكن القول إنّها عادة ما تعبر عن نفسها بإحدي الصيغ الآتية:

1- عن طريق إيجاد بعض الاختلالات النفسية وعرقلة التفكير التلقائي.

2- عن طريق الهروب من المجتمع والتقوقع والتشاؤم.

3- عن طريق الثأر من المجتمع الذي جعله كذلك.

4- عن طريق الاشباع الفارغ والخيالي.

5- عن طريق «التصعيد» والتحليق نحو المراحل الأرفع!

مثلًا، افرض أنّ فتي كانت له رغبة شديدة بفتاة، وحال والداه دون الزواج من هذه الفتاة، فالواقع أنّ هذه الرغبة الجامحة ستكبت في عقله الباطن، وهي ليس فقط لا تزول، بل ستظهر سريعاً بصيغة ردود أفعال عنيفة.

فلربّما جعلته مجنوناً، أو تسوقه إلي التقوقع والانطواء، أو تحيله إلي إنسان يحب الثأر والانتقام وبالتالي تجعله مجرماً خطيراً، أو تشده إلي الشعر

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 29

والأدب، ليعيش تلك الأجواء الرومانسية التي تسوقه إلي الأحلام بغية الوصال بالمحبوب.

لكن قد يتبدل نفس هذا العشق المادي أحياناً إلي عشق سماوي ورباني عميق، فينزع من قلبه ما سوي اللَّه ليكون شخصاً عارفاً وحكيماً منطوياً علي أفكار رفيعة متعالية؛ طبعاً ينشأ هذا الاختلاف من سائر الاختلافات النفسية والاستعدادات الروحية لمختلف الأفراد.

وبناءاً علي ما تقدّم فإننا نلاحظ أنّ الضغوط النفسية إنّما تواجه عادة بردود فعل عنيفة وثورات ونهضات متنوعة.

سيجعلها تبرز إلي السطح في خاتمة المطاف بصيغة ردود فعل عنيفة. وبالتالي فإنّ هذه الرغبات الإنسانية المكبوتة ستتحول في ظل تنامي مستوي يقظة الامم إلي عقدة اجتماعية تنطلق من العقل الباطن للمجتمع لتطيح بهذا النظام السائد لدي المجتمعات البشرية، وتقدم مشروعها الحديث؛ المشروع الذي يغيب فيه سباق التسلح المقيت من جانب، كما لا تشم فيه رائحة النزاعات البغيضة والحروب الدموية الطاحنة ومفردات الاستعمار والاستبداد والظلم والفساد من جانب آخر.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 30

وهذه بارقة أمل اخري علي إشراقة المستقبل الذي ينتظر المجتمع العالمي.

فليس هنالك ما يمنع الآخرين منه، وبالتالي سوف لن يكون هناك سوي الفوضي والارباك وأنواع المخاطر.

وعليه فإنّ عدم صواب هذا العمل لا يخفي اليوم حتّي علي الأطفال؛ ولابدّ من وجود بعض المقررات وإن تأخر الإنسان لساعات قبل بلوغه المكان الذي يريد، كما لابدّ أن تكون هنالك بعض الغرامات والضوابط الشديدة (العادلة والمنسجمة مع العقل) وإلّا فإنّ مئات الأفراد سيفقدون أرواحهم كلّ يوم أو تتحطم سياراتهم الشخصية.

هذا ما نقوله «عن الضرورة» أو «الإلزام الاجتماعي» إلّاأنّ المهم هو أنّ «الحاجة الواقعية» لمجتمع تبدو ملحة بحيث يقر بضرورتها علي الأقل مفكرو المجتمع وقادته؛ ويتوقف هذا في الدرجة الاولي علي الوعي الاجتماعي لأفراد المجتمع، ومن ثمّ اتضاح النتائج السلبية لأوضاع المجتمع القائمة واستحالة مواصلة الدرب. ولذلك لا نري من جدوي للصرخات التي تطلق هنا وهناك بشأن تلوث البيئة، وليس هنالك من يكترث للمقررات المتعلقة بنظافة البيئة.

لكن حين يري الناس- علي سبيل المثال- التلوث الذي يصيب منطقة معينة كطهران بحيث يبرز فيها العديد من الأمراض التي تهدد صحة الناس، ويتعذر عليهم التنفس، وتصاب عيونهم بالحرقة، حتّي قال بعض الإحصائيين: يصاب بالعمي عشرة أشخاص يومياً؛ ويسود اللعاب لمجرد التواجد بضع ساعات في المدينة، وانتشار الأمراض الجلدية وضيق

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 33

الأجهزة التنفسية وإصابة القلب والكبد وظهور حالات التسمم، فهنا ينصاع إلي المقررات الشاقة والمعقدة بصفتها ضرورة، ويستجيب لكافة الامور من قبيل اغلاق المصانع والمعامل الضخمة، والتخلي عن آلاف الوسائط النقلية ذات الدخان، والامتناع عن ممارسة أغلب الانشطة الاقتصادية ذات الأرباح الباهضة والتي توجب تلوث الأجواء.

ونعود الآن إلي أصل الموضوع علي ضوء هذا المثال؛ لعلّ الصورة التي رسمها إنسان القرن السابع عشر والثامن عشر عن القرن العشرين إثر مشاهدته للتطور الصناعي

إنّما كانت جنة، فاعتقد أنّ تلك الثورة الصناعية التي انطوت علي كلّ هذا التطور والازدهار ستؤدي يوماً إلي:

اكتشاف المصادر الجوفية الواحد تلو الآخر؛

السيطرة العلمية علي الطاقة «الذرية» التي تعد أهم وأعظم مصادر الطاقة؛

تحقيق حلم الإنسان بالتحليق في السماء؛

بمجرّد أنّ يضغط الإنسان علي زر سينظف البيت وينضج الطعام وتغسل الثياب ويدفأ البيت في فصل الشتاء ويبرد في الصيف؛ وما أن يضغط علي زر حتّي تحرث الأرض فيلقي فيها البذور فيجني محاصيلها بالماكنة والحاصودة فيعلبها ويجهزها للاستهلاك و …

آنذاك يجلس الإنسان في موضعه وينعم بالرفاه والدعة!

لكنه غفل عن أنّ إنسان الصناعة وحياة المكننة سوف لا يتمتع بهذه

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 34

الرفاهية، بل سوف لا ينتهي هذا التطور التكنولوجي سوي إلي المزيد من التعقيدات والارباكات التي تكدر صفو الحياة، وسيلقي شبح «الحروب العالمية» بظلاله المرعبة علي كافة مرافق حياته بما فيها قطاع الصناعة بالشكل الذي يحيلها خراباً ودماراً! حينئذٍ يدرك مدي خطورة هذه الحياة! فإن كان الكلام في الماضي عن الحروب التي تؤدي بحياة بضعة آلاف من الناس، فالحديث اليوم عن حرب متوقعة أدني نتائجها حضارة العالم والمدنية والعودة القهقري إلي العصر الحجري! وسيفهم تدريجياً أنّ المقررات السابقة لم تعد كافية لحفظ النجاحات الباهرة التي حققها في ميدان الصناعة والحضارة، ولابدّ من الانصياع لمقررات إضافية جديدة.

كما سيشعر شيئاً فشيئاً بأنّ «قيام الحكومة العالمية الواحدة» التي ستضع حداً لسباق التسلح المهلك والقضاء علي أطماع الدول الكبري وما تثيره من نزاعات وصدامات، سيكون «ضرورة» و «واقع لابدّ من تحققه»، آنذاك ستزول هذه الحدود المصطنعة ذات الطبيعة المعقدة لتعيش البشرية برمتها تحت راية واحدة وتمارس حياتها في ظلّ قانون واحد جامع!

وسيأتي اليوم الذي يتكامل فيه الشعور الاجتماعي والوعي لدي العالم

ليري بوضوح ذلك التوزيع الظالم للثروات بحيث ينعم البعض بالرفاهية وطيب العيش ويفرد فيه بعض الأماكن للحيوانات (كالكلاب والقطط) من قبيل المستشفيات والأطباء والمباني الشاهقة، بينما يأن البعض الآخر من الجوع والعطش والحرمان من أدني متطلبات العيش ووسائل الحياة.

لا شك في أنّ العالم لم ولن يذوق طعم الأمن والاستقرار إن ظلّ مفتقراً للنظام الذي يتكفل بالتوزيع العادل للثروات، وسوف لن يقتصر البلاء علي

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 35

البلدان الفقيره دون تلك الغنية. فإن بلغت هذه الامور مرحلة الضرورة إثر اتضاح وظهور ردود الفعل المقيتة التي يفرزها الواقع الموجود وتنامي الشعور الاجتماعي العام، آنذاك ستكون الثورة والنهضة حتمية الوقوع، علي غرار ما حصل في الماضي.

وعليه فإنّ «الالزام الاجتماعي» يعد العنصر الآخر الذي سيدفع بالمجتمع البشري شاء أم أبي نحو حياة مفعمة بالعدل والسلام، ويرسي قواعد الحكومة العالمية علي أساس مشروع جديد.

طفرة جديرة بالاهتمام بالنسبة للاعداد الفكري للأجواء.

وإليك بعض نماذج هذه القرائن:

الناس وحرياتهم …

المادة التاسعة والعشرون: كلّ فرد مكلف إزاء المجتمع بتوفير ممهدات حريته وتبلور شخصيته.

وأخيراً فإن المادة الثلاثين من الميثاق المذكور تغلق الطريق بوجه جميع المستغلين.

المادة الثلاثون: لا ينبغي تفسير أي من مواد هذا الميثاق بحيث يتضمن حقّاً لدولة أو جمعية أو فرد من شأنه القضاء علي الحقوق والحريات الواردة فيه.

نُذكِّر ثانية بعدم تفاؤلنا إلي هذا الحدّ في أنّ هذه الشعارات البراقة التي تسحر القلوب إنما تشبه إلي حدّ بعيد وفي ظلّ الظروف الراهنة حلماً جميلًا بعيداً جدّاً عن التحقق الخارجي، لكن لا يسعنا بالمقابل إنكار هذه الحقيقة

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 38

في أنّ الميثاق المذكور جعل البشرية تدخل مرحلة تاريخية جديدة.

نعلم أنّ «منظمة الامم المتحدة» هي في الواقع بحكم «المنظمة الامّ» وقد انبثقت منها عدة شعب إحداها تتمثل في «مجلس الأمن».

الفارق بين هذا «الابن» وتلك «الامّ» أنّه ليست لهذه الأخيرة من قدرة تنفيذية، ولا تعدو مقرراتها كونها سلسلة من الوصايا الرسمية لبلدان العالم.

ومن هنا فإنّ بعض الأفراد المتشائمين لا يري في هذه المنظمة الدولية سوي أنها «منبر خطابة» أو «صالة الخطاب العالمي» أو «البرلمان الحرّ» وما إلي ذلك من المسميات؛ لكن مهما يكن الأمر فهي تستبطن هذه الفائدة في اشتراك كافة بلدان العالم فيها في التصويت علي أساس «التكافؤ والمساواة»، ولمقرراتها آثارها النفسية والمعنوية الواضحة لدي الشعوب والرأي العام العالمي. بينما يتمتع «مجلس الأمن» بقدرة إجرائية وتنفيذية كافية! ولو أراد لاستطاع تفعيل قراراته، لكن ممّا يؤسف له افتقاره للقدرة الكافية علي التصويت والاقتراع؛ ذلك لتمتع الدول العظمي الخمس «أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا» الدائمة العضوية بحقّ النقض «الفيتو» حيث يسعها احباط أي قرار لا يروق لها.

ولعلّ هذا الحقّ الذي خلفه الاستعمار إنما يهدد هذا

المركز الدولي ويعطل جميع مشاريعه وقراراته.

ونخلص ممّا سبق إلي أنّ هنالك مؤسسة تتمتع بقدرة الاجراء دون التصويت واخري تصوت دون أن تكون لها قدرة علي الاجراء والتنفيذ!

لكن رغم كلّ هذه الاشكالات فإن هذه المنظمة الدولية وانجازاتها، وهذه المؤسسة ذات الضجيج العالي والقليلة الأثر إن راعينا العدل

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 39

والانصاف، استطاعت أن تقوم لحدّ الآن ببعض الأعمال المهمة- رغم صغرها- وبغض النظر عن فاعليتها فإنّ صورتها الظاهرية هذه، دليل علي تبلور اسلوب حديث من التفكير في العالم انطلق من مراحل «شبه جدية» أقرب شي ء للعفوية والمزاح وتتحرك باتجاه مراحل أكثر جدية؛ بحيث تشعر جميع بلدان العالم رغم اختلافها في المذاهب والأساليب بحاجة إلي وجود هذه المنظمة، ولاتري صحّة تجاهلها.

40

وجود نزعة تفكيرية إلي جانب ذلك البرنامج الفاحش، والتي تصرح باستحالة استمرار هذا البرنامج ولابدّ من إعادة النظر فيه.

وهذا بدوره يشكل خطوة اخري نحو تحقيق ذلك الهدف العظيم.

ذلك لأن قضية الاعراق السوداء والبيضاء لم تحل في المجتمع الذي يعد مدنياً متحضراً كالولايات المتحدة، وما زال السود (الزنوج) يأنون في هذا المجتمع من التمييز العنصري المقيت. وما زال النظام العنصري في جنون أفريقيا يحظي بدعم الدول العظمي، وما زالت الهوة قائمة بين الفئات الثلاث «المتخلفة» و «السائرة نحو التنمية» و «النامية» بل تعمقت أكثر فأكثر.

لكن بالرغم من كلّ ذلك- كما قلنا- فإن سعة هذه الأفكار وانتشارها واستيعابها من قبل أغلب قطاعات العالم وإن لاح في الافق البعيد، إلّاأنّه دليل حي علي نضج الاستعداد الروحي والفكري والاجتماعي لتحقق العدل والسلام العالمي.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 42

ناهيك عمّا أوردنا فإنّ بعض القرائن الاخري هنا وهنالك في المجتمعات البشرية من قبيل «السوق المشتركة» و «المحافل الدولية الكبري» وكافة اشكال النزوع نحو الحياة الجماعية والجنوح نحو الوحدة، تشير جميعاً إلي أنّ العالم قطع مسيرة طويلة نحو الهدف المذكور؛ ويبشرنا في خاتمة المطاف ببلوغ هذا الهدف.

ليوم واحد وأحياناً اخري لستة أشهر، بل قرأت في صحيفة أنّ نوعاً من الجراد يتكهن بأوضاع الجو قبل سنة، حقّاً أنّه لمن المثير للدهشة أنّ إنسان عصر الفضاء ورغم كلّ ما

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 44

يمتلكه من أجهزة دقيقة صنعت لأجل التكهن بالأنواء الجوية، ونصبه لكلّ المراصد في مختلف المناطق وإعداده للخرائط الجوية وما يرصد لها من ميزانية ضخمة لا يسعه التكهن بهذه الأوضاع لأكثر من ست ساعات، وبالعبارات التالية المذبذبة:

غائم جزئي.

غائم تماماً.

مع احتمال زخات مطر.

ولعلّه يكون مصحوباً بمطر شديد.

ويحتمل أن يكون صحواً ومشمساً! …

أمّا تلك الحشرة العالمة بالأنواء الجوية فهي تتكهن بالأوضاع قبل ستة أشهر ودون الاتصال بسائر الحشرات؛ أي تتنبئ بأوضاع الشتاء في فصل الصيف وتعد نفسها للتكيف مع تلك الأوضاع.

ولعلّ سبب قلة معلومات الإنسان الفطرية مقارنة بسائر الكائنات الحية إلي الحيز العظيم من القدرة العقلية المودعة لديه والتي يمكنها معالجة نقصه في سائر المجالات؛ لكن علي كلّ حال فإن الإنسان يستلهم من هذه الفطره في تلبية حاجاته الضرورية وشؤونه المعاشية في حياته، ولهذا السراج دوره في ارشادنا إلي مسيرتنا القادمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل لهذه الالهامات الفطرية أن تساعدنا بشأن ما نحن بصدده، أي نهاية العالم بالحرب وسفك الدماء والظلم والجور أو قيام حكومة العدل والسلام والأمن أم لا؟

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 45

الجواب بالايجاب عن هذا السؤال؛ فهنالك قرينتان مهمتان يمكنهما ارشادنا إلي هذه الحقيقة:

ولا أظن هناك دليلًا أعظم من كون القضية فطرية؛ فالمفروغ منه أنّ شمولية وعمومية المتطلبات دلالة علي فطريتها.

فهل هذا عطش كاذب؟ أم أنّه حاجة حقيقية تهتدي إليها الفطره بمعونة العقل، ليؤكد ضرورتها الملحة؟ (ينبغي التأمل).

أفلا يدلّ عطشنا الدائمي علي وجود الماء في الطبيعة، ولو لم يكن للماء وجود خارجي فهل من وجود في باطننا للعطش والرغبة فيه؟ إننا لنصرخ، ونتأوه، وتتعالي أصواتنا في طلب العدل والسلام؛ وهذا دليل علي تحقق هذه الرغبة في خاتمة المطاف وتطبيقها في العالم.

ليس هنالك أصلًا من مفهوم للفطرة الكاذبة، ذلك لأننا نعلم أنّ الخلق وعالم الطبيعة وحدة واحدة متصلة، وليست مركبة من سلسلة موجودات منفصلة عن بعضها البعض الآخر.

الجميع بمنزلة شجرة عظيمة امتدت أغصانها العملاقة لأنحاء الوجود،

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 46

وربّما كانت هنالك مسافة تقدر بملايين السنين الضوئية بين غصنين من أغصانها أو حتّي بين بذورها، إلّاأنّ هذه المسافة ليست دليلًا علي انفصالها وتفككها، بل تعد من خصائص سعتها وعظمتها.

إنّ كلّ جزء في هذه الوحدة العظيمة دليل علي الكلّ، وكلّ فرع مرتبط بالآخر، وردود أفعالها مرتبطة مع بعضها؛ وكلّ واحدة قرينة علي وجود الاخري، والجميع يسقي من جذر واحد. وعلي هذا الأساس فإن «كلّ عشق أصيل وفطري يحكي عن وجود معشوق في الخارج وأنّه جذبة واندفاع نحوه». و «العشق» الذي لا مكان لمعشوقه سوي في عالم الرؤيا هو «عشق مزيف»؛ وليس للزيف من مكان في عالم الطبيعة؛ والانحراف عن مسار الخلق فقط من شأنه استبدال الموجود المزيف بواقع أصيل. (ينبغي التأمل).

علي أيّة حال فإن فطرة الإنسان تنادي بوضوح أنّ العدل والسلام سيعم العالم في نهاية المطاف وينهار الظلم والجور، فهذه حاجة إنسانية مطلقة.

كافة شعوب العالم تنتظر زعيماً ثورياً عظيماً اصطلحت عليه باسم معين، إلّاأنّهم يتفقون جميعاً علي صفاته الكلية ومبادئ ثورته. وبناءً علي ما تقدّم فإنّ قضية الإيمان بظهور المنقذ والمصلح المطلق الذي يعالج أنين البشرية ويضع حدّاً لمعاناتها لا يقتصر علي المسلمين أو بعض المذاهب والمدارس الشرقية؛ بل تفيد «الوثائق والأدلة» أنّ هذه الفكرة قديمة ومتأصلة لدي جميع شعوب الشرق والغرب، وإن تأكدت هذه القضية لدي بعض الأديان كالديانة الإسلامية. وهذا دليل آخر

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 47

وشهادة حية علي كون هذه المسألة فطرية.

ونشير هنا بصورة مقتضبة إلي نماذج هذا الاعتقاد لدي الامم والشعوب من أجل غايتين؛ الاولي: الالتفات إلي عمومية هذه المسألة، والاخري:

الالتفات إلي المبادئ المشتركة بشأن مشاريع ذلك المصلح الكبير لدي جميع تلك الأقوام.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 49

وجاء في كتب الهنود «باتيكل»:

«إن انتهي النهار وتجددت الدنيا القديمة وأصبحت حية وظهر صاحب الملك؛ أحد أبناء إمامي العالم أحدهما ناموس آخر الزمان، والآخر يدعي بشن واسم صاحب الملك «المرشد»، هو الملك حقّاً والخليفة الذي يلي الحكومة وله معجزات كثيرة».

5- وورد في كتاب «باسك» من كتب الهنود:

«تؤول الدنيا إلي ملك عادل في آخر الزمان هو إمام الملائكة والجن والانس؛ والحقّ معه، ويستخرج ما في البحار والجبال وينبئ عن السماء والأرض، ولم يرد الدنيا أعظم منه».

… حسب قول «صادق»: بغض النظر عن العقيدة والإيمان التي تعد أساس هذه الأمنية فإن كلّ فرد حريص علي مصير البشرية وينشد تكاملها المعنوي، حين يصاب باليأس من كلّ شي ء ويري البشرية غافلة وتتجه نحو الفساد والانحطاط وتتمرد علي اللَّه ولا تمتثل أوامره رغم كلّ هذا التطور الفكري والعلمي المدهش، فإنّه يتوجه إلي اللَّه بوحي من فطرته الذاتية ويسأله رفع الظلم والجور والفساد. ومن هنا فقد عاش العباد علي مرّ العصور والدهور انتظار المصلح العالمي ولا تقتصر هذه الرغبة علي اتباع الديانات الكبري كالزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلامية؛ بل وردت في الكتب القديمة للصينيين وعقائد الهنود، والبلدان الاسكندنافية، حتّي لدي قدماء المصريين، بل حتّي أهل المكسيك وأمثال تلك الامم».

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 53

جدير ذكره أنّ كتاب «زند، وهو من يسن» وسائر الكتب الزرادشتية ومنها البابان الأخيران من رسالة جاماسب تشتمل علي النبوءة الزرادشتية علي لسان جاماسب الحكيم ب «كشتاسب» الملك آنذاك اعتنق الزرادشتية المتعلق بموعود آخر الزمان، ترجم من قبل صادق هدايت من البهلوية إلي الفارسية ونشر من قبل حسن قائميان رفيق هدايت بعنوان «علامات الظهور».

و «جون نيكولستام» و «هنري جيمس برينس»، كما نقل عن «برنارد باربر» عالم الاجتماع الامريكي في رسالته «نهضة المنقذ» وجود مثل هذا الاعتقاد حتّي لدي زنوج أمريكا وقال:

«إنّ هذه العقيدة شائعة بين قبائل الزنوج الأمريكيين … أنّه سيظهر يوماً ذلك الرجل ويدخلهم جنّة الأرض … وقد أحصي التأريخ

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 54

الأمريكي لما قبل سنة 1890 أكثر من عشرين نوعاً من هذه النهضات».

ذكرنا سابقاً في بحثنا بشأن كتاب «علامات الظهور» أنّ آثار هذه العقيدة موجودة بين الشعوب الاسكندنافية والمكسيك وأمثالهم «1».

ويتبين ممّا ذكرنا- وسائر الشواهد والقرائن التي لم نوردها رعاية للاختصار- أنّه ليس هنالك منطقة معينة لهذا الانتظار؛ فهو انتظار عام وشامل وعلي نطاق عالمي وبالتالي شاهد علي فطرية هذه العقيدة.

وسنري سعة كبيرة لهذه العقيدة في الأبحاث القادمة تحت عنوان ظهور «المهدي» في العقائد الإسلامية، مع كونه تشكل عقيدة أساسية.

وكما سنري كيف أسهم الإيمان بهذه الحقيقة الفطرية المؤيدة بالعقل في طرد غيوم اليأس وسحب الاحباط عن سماء روح الإنسان، وجند طاقاته وأعده لمستقبل مشرق وزاهر، لتكون

القوي أعظم استعداداً،

والأفكار أكبر يقظة،

والاستعدادات أشمل،

والنهضات أسرع،

والعشق أعمق،

وكيف مهد السبيل لمجتمع إنساني بمعني الكلمة؛ المجتمع الذي تذوب فيه مفردات الظلم فتنطفي ء جذوة ناره، والتمييز العنصري وما إلي ذلك من المصائب.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 55

التدريجية. وبالمقابل هناك البعض الآخر وهم الثوريون الذين لا يرون امكانية حدوث أي تغيير جذري في أوضاع المجتمع البشري دون النهضة.

يعتقد هؤلاء أنّ التغيير الذي يصيب الطبيعة إنما يقوم علي أساس قفزة ونهضة، ولا جدوي من التغييرات التدريجية «الكمية» والتي تتخذ صيغة «كيفية» وتنقلب ضدها لأدني نهضة. وقد أورد أصحاب هذه الفكرة وفي كافة التغييرات الاجتماعية عدة دوافع وعناصر في كيفية النهضة وتغيير

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 58

المجتمعات، تفتقر جميعها للدليل، ولا تنطبق علي القضايا التأريخية والشواهد العينية، مع ذلك لا يمكن انكار فاعلية هذه الفكرة في عدة ميادين.

توضيح ذلك:

الذي يبدو أقرب إلي الواقع أنّ درجات الفساد في المجتمعات متفاوتة؛ فالموضع الذي لم يستشر فيه الفساد، يمكن للإصلاحات التدريجية أن تكون أساس التغيير فيه.

بينما لا جدوي من التغيير في المواضع التي تتسع فيها رقعة الفساد سوي من خلال النهضة الشاملة ليمكنها التغلب علي الارباكات.

وكأن الأمر أشبه ببناء عظيم يراد ترميمه بالتعمير التدريجي واعادته إلي سابق جماله؛ أما حين يتحطم البناء من الأساس وتشرف اسسه علي التآكل، فليس هنالك من سبيل سوي هدمه من الأساس واعادة بنائه.

ولدينا عدة شواهد علي صحّة هذا الاعتقاد:

1- توضع الاصلاحات التدريجية دائماً علي تلك الاسس القديمة ويتوقف تأثيرها علي سلامة الاسس، وبعبارة اخري فإنّ النماذج والضوابط في «الإصلاحات» هي تلك النماذج والضوابط القديمة، وهي مجدية في المواضع التي تكون فيها النماذج سالمة، وإلّا ليست هنالك من ثمرة، ذلك أنّ الدار خاوية من الأساس. وهنا ينبغي البحث عن نماذج جديدة والتعامل مجدداً مع القضايا الأساسية باتجاه التغيير.

2- غالباً ما تنشأ الإصلاحات التدريجية من خلال الطرق السلمية، وتعتمد عادة علي «المنطق» في أغلب المواقع، ويتوقف تأثيرها علي الاستعداد الفكري للمجتمع، وإلّا فلابدّ من

اللجوء إلي الثورة علي أنّها تمثل

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 59

منطق القوة، وإن كان للمنطق دوره البارز في التحولات الثورية، إلّاأنّ الحرف الأوّل والأخير للقوة الثورية. فالاستعانة بالأساليب غير الثورية في المجتمعات التي تجذر فيها الفساد، تؤدي إلي تحصن عناصر الفساد إزاء الإصلاحيين والتسلح بالوسائل المتاحة لمواجهة أسلحة الاصلاح. بالضبط كالمكروب القوي الذي يتحصن تجاه الاستعمال التدريجي للدواء ويواصل نشاطه، ولا يمكن القضاء عليه سوي بهجوم خاطف لذلك الدواء!

3- تستحوذ العناصر الفاسدة المقتدرة المضادة للإصلاح في المجتمعات التي تجذر فيها الفساد علي كافة المراكز الحساسة في المجتمع ويستطيع هذه العناصر احباط كلّ مشروع إصلاحي تدريجي بسهولة؛ إلّاأن تُباغت ويقضي عليها بحركة ثورية قبل أن يأخذ حذرها وتتجمهر وتتجهز!

4- لا يمكن الابقاء علي القوي الثورية والإصلاحية وديمومة فاعليتها وتحمسها لمدة طويلة، وما لم تستثمر طاقاتها في الموقع المناسب فلربما تضيع جهودها علي مرور الزمان وتفقد حيويتها؛ فتتاح الفرصة للعناصر المضادة باختراق صفوفها بالتدريج، وعليه فلابدّ من الاستفادة القصوي حين ممارسة الإصلاحات الشاملة من هذه العناصر وبالسرعة الممكنة.

5- يشير التاريخ أيضاً إلي أنّ هذه الطائفة من المجتمعات لم تنتظم من خلال الإصلاحات التدريجية، بل تمّ إصلاحها عن طريق الثورة والنهضة.

وقد اعتمد الأنبياء العظام وقادة الاصلاح الاسلوب الثوري في مواجهتهم لمثل هذه المجتمعات، وقد استماتوا في ميادين الجهاد بعد أن جندوا كلّ قواهم وطاقاتهم في هذا المجال.

وخير مثال علي هؤلاء الثوريين الأبطال أنبياء اللَّه نوح وموسي وعيسي

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 60

وإبراهيم وفي مقدمتهم نبي الإسلام سلام اللَّه عليهم جميعاً.

كما عرف بالثورية سائر العظام من الرجال والنساء الذين مارسوا مهمة الاصلاح وغيروا مسيرة مجتمعاتهم. وهذا بحدّ ذاته دليل حي علي أنّ إصلاح مثل هذه المجتمعات لا يتم سوي

من خلال الثورة.

ويبدو الأمر أكثر وضوحاً بالنسبة لممارسة الاصلاح العام لأوضاع العالم والاطاحة بالنظام المعاصر القائم علي أساس الظلم والجور وارساء قواعد نظام عادل خالٍ من كلّ هذه المفاسد. فإذا كان الأمر كذلك فأنّي للإصلاحات التدريجية أن تقوم بهذه المهمة في ممارسة التغييرات الشاملة؟!

هنا لابدّ من القول:

إذا أريد لعالمنا المعاصر المليي ء بالظلم والجور والفساد أن ينقذ من هاوية الفناء والعدم فليس هنالك من سبيل سوي قيام الثورة الشاملة. الثورة علي جميع المستويات:

الثورة علي المستوي الفكري والثقافي والأخلاقي والاقتصادي والسياسي، وفي مجال القوانين والمشاريع، وإلّا فليس هنالك سوي السقوط في النيران المحرقة لحرب عالمية شاملة.

الدراسة الإجمالية أنّ في العالم أربعة أنواع من الحكومات هي:

1- الحكومة الاستبدادية (في صورتها الحقيقية) المراد حكومة استبداد فرد يعلم وضعه في الماضي والحاضر، ويمكن القول باختصار: إنّ كلّ بؤس

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 62

وشقاء وعبودية وتخلف أصاب الإنسان إنما أفرزته هذه الحكومة المقيتة.

2- الحكومة الاستبدادية (بلباس الديمقراطية) أي تلك الحكومة الفردية المستبدة والجبارة الطاغية التي تتمشدق بالديمقراطية وتحاول محاكاتها في انشاء الحزب والمجلس المزيف؛ الحزب والمجلس الذي تعد قائمة أعضائه سلفاً وهكذا سائر العناصر الذين يؤهلون للقيام بوظائفهم من خلال ظهورهم علي مسرح الأحداث. طبعاً يجلسون معاً خلف الكواليس يشربون ويأكلون ويمرحون ويمزحون، وحين يظهرون يتخذ أحدهم موقف المعارض والآخر الموافق، هذا من التيار المحافظ وذلك من التيار المعتدل ويفتعلون بعض الأزمات فيما بينهم بغية خداع العوام الذين لم تعد تنطلي عليهم هذه الألاعيب، بل يلجأون أحياناً إلي بعض الحركات العنيفة لإكمال الخطة.

لم يكن لهذه الحكومة من وجود في التاريخ الماضي وذلك لبساطة ووضوح الناس والحكّام وربّما لم يكن يسع عقولهم عرض الاستبداد في إطار الديمقراطية.

فقد ظهرت هذه الحكومة في عصرنا؛ عصر النفاق وتغيير المواقف والثمرة المرة التي ترتدي حلة اليوم بينما قعود نواتها إلي الماضي، ولا هم لهذه الحكومة سوي تأخير عملية انقاذ الشعوب ممّا هي عليه وتحريرها من قيودها.

3- الحكومة الاستبدادية الجماعية (دكتاتورية البرولتاريا) لم تكن هذه الحكومة بهذا المضمون في الماضي وهي وليدة عصر اتساع حياة المكننة وتقتصر علي البلدان الشيوعية التي تتزعم فيها البرولتاريا (طبقة العمال)

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 63

دفة الحكم، وتحقق تطلعاتها في كافة المجالات تحت راية الماركسية.

ورغم أنّ الماركسيين هم الذين اختاروا عنوان دكتاتورية البرولتاريا كشعار لحكومتهم، لكن وبغض النظر عن المفاهيم الكامنة في هذا العنوان لابدّ

من الوقوف علي هذه القضية وهي:

هل طبقة البرولتاريا تحكم هذه المجتمعات أم أعضاء اللجنة المركزية للحزب والأمين العام لهذا الحزب؛ الحزب الذي يفتقر إلي الشمولية وتغيب فيه الانتخابات الحرة وليس فيه سمة من ديمقراطية، أما استبداد قادة الحكومة واللجوء إلي العنف ومصادرة حرية الآخرين، فليست بالامور الخافية علي الآخرين.

ولو تأملنا التاريخ وما حفل به من حكّام مستبدين وطغاة، وحقب عاني فيها الناس من صنوف العذاب لتقدم كلّ من إستالين وخروشوف وماو قافلة أولئك الحكّام. صحيح أنّ زعماء هذه المجتمعات خطوا خطوات مؤثرة باتجاه توزيع الثروات، وصحيح أنّهم وضعوا حدّاً لعصور الأثرياء الخرافية، ولكن هل يمكن غض الطرف عن هذه الحقيقة الناصعة وهي أنّهم ينفقون المليارات من ثروات بلدانهم لترسيخ دعائم حكومتهم، ويفعلون دون وازع كلّ ما يروق لهم، ويسلبون شعوبهم حقّ ابداء الرأي والنقد والتظاهر والاحتجاج وكافة أنواع الاستجواب.

4- الحكومة الديمقراطية (في صورتها الحقيقية) يمكن ايجاز مفهوم هذه الحكومة التي تمثل أرقي أنواع الحكومات المعاصرة والتي يتباهي بها أغلب القادة والزعماء، في عبارة قصيرة وهي: يبدو أنّ الشعب بجميع طبقاته يستطيع ظاهراً في ظلّ هذه الحكومة أن يتقدم بكلّ حرية إلي

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 64

صناديق الاقتراع ويصوت لصالح ممثليه، فيفوض مصيره ومستقبله لعدة سنوات- وفق ضوابط معينة- لهؤلاء الأفراد. ولهؤلاء الأفراد من خلال تبادل وجهات النظر والمشورة أن يسنوا بعض القوانين التي يعتقدون أنها تتكفل بحفظ مصالح الآخرين.

وقد ينتخب رئيس السلطة التنفيذية من قبل هؤلاء الممثلين أحياناً، وأحياناً اخري ينتخب مباشرة من قبل الشعب ليكون رئيساً للوزراء أو رئيساً للجمهورية.

الحصيله الاولي لهذه الحكومة، أي حكومة «الأكثرية» - بالنظر إلي أنّ الإقلية ليست عدداً قليلًا من الأفراد علي الدوام وزهيدة بحيث يمكن اهمالها في الحسابات الفئوية- أنها تسمح بالاستغلال الجماعي ويجيز لواحد وخمسين بالمئة من شعوب العالم فرض أفكارهم وتطلعاتهم علي تسعة وأربعين بالمئة من سائر الناس؛ حيث تغيب مصالح وحقوق شريحة واسعة من الشعب بغية حفظ منافع شريحة اخري تمثل الأكثرية وقد لا تزيد سوي بنسبة اثنين أو واحد بالمئة علي الأقلية.

وهذه في الواقع ضربة مهلكة إلي العدالة والحرية في عالم البشرية والتي تتم في ظلّ أرقي أشكال الحكومة.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 65

2- الأقلية في صيغة الأكثرية- الأسوأ من ذلك ما في هذه الحكومة التي تلبس فيها «الأقليات» ثوب «الأكثرية» وتفرض عليها آراءَها؛ فأصحاب «الثراء» و «الاقتدار» إنّما يغسلون أدمغة الأكثرية ويمهدون الأجواء أمام تحقيق أطماعهم ومآربهم ليأتوا بحكومة لا تغطي سوي متطلبات ومصالح الأقلية المستكثرة من خلال سيطرتهم علي وسائل الارتباطات وإعدادهم لبعض الفئات وتغذيتهم بأهدافهم ومشاريعهم وخططهم واستحواذهم علي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والصحافية.

ومن هنا فليس هنالك ما يدعو إلي الدهشة أن نري في البلدان التي تدار من قبل هكذا حكومة، أن تكون الحكومات «عادة» ممثلة وراعية لمصالح البورجوازيين وكبار الرأسماليين (رغم وجود الانتخابات الحرة ظاهراً والمشاركة العامة للناس في التصويت). طبعاً إن استطاعت الأكثرية أن تُنحّي هذه الفئة بادئ الأمر عن السلطة ومن ثمّ تجري الانتخابات، فربّما تتمكن الأكثرية الحقيقية من زعامة الشعب، إلّاأنّ هذا العمل يبدو محالًا ينبثق من الدور والتسلسل كما يصطلح علي ذلك في الدين.

ولو استطعنا توجيه حكومة الأكثرية الواقعية للأقلية بنحو معين، فمن المسلم أنّه ليس هنالك من توجيه لحكومة الأقلية المستغلة للأكثرية المستغلة.

3- عدم التساوي

في ظروف المساواة- لكلّ فرد في أية ظروف رأي في ظلّ هذا النظام الحكومي، أي:

هناك مساواة تامة بين العالم الفاضل والفرد الامّي الجاهل وكذلك بين السياسي الحاذق والرصين والوطني والفرد الساذج والخام، والإنسان

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 66

العفيف الطاهر مع السارق الجاني …

وهذا ظلم فاحش، ذلك لأن أحدهما يعدل نظيره ألف مرة في صنع المستقبل وتقرير المصير. صحيح إننا إن أردنا أن نميز الأفراد نصطدم بفقدان المعيار والضابطة الواضحة، ولكن مهما كان الأمر فهذا نوع من العجز تختزنه طبيعة الحكومة الديمقراطية المادية الغربية.

4- المتابعة بدل الزعامة- يري الحكّام ووكلاء المجلس في هذا النظام أنفسهم ملزمين برعاية متطلبات الأكثرية (دون أي قيد أو شرط)، ذلك لحاجتهم إليهم في الحاضر والمستقبل، وإلّا تعرضت مواقعهم للخطر. وعليه فالزعامة في هذا النوع من الحكومة تتخلي عن موقعها للمتابعة، فلا يقتصر الأمر علي المتابعة للفساد والظلم والانحراف والانحطاط الاجتماعي بكافة اشكاله والذي يحظي برغبة الأكثرية، بل تتشدد وتستفحل كلّ هذه الأمراض.

وعلي هذا الضوء فلا غرابة أن نسمع علي سبيل المثال بمصادقة المجلس البريطاني علي «زواج المثل» ويشرعها كقانون، ذلك لأنّ لهؤلاء الأفراد ممثل أو عدة ممثلين في البرلمان! ولك أن تتصور علي هذا الأساس مدي بعد هذه الحكومة المثالية المادية عن روح المثالية، وذلك لأنه:

أوّلًا: أنّ القوانين المادية علي فرض أنّها مفيدة للضعفاء ومدعاة للعدالة تفتقر لأية ضمانة للتنفيذ، ذلك لأنه ليس هنالك من معني وأهمية للعدالة في الوسط الذي تتعين فيه كافة القيم علي ضوء المعايير المادية بالنسبة للأقوياء الذين يرونها تستلزم إغماضهم عن الكثير من منافعهم وامكاناتهم المادية، وعليه فالضعفاء وحدهم هم الذين يتحدّثون في هذه الأوساط عن

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 67

العدالة والمساواة، لا الأقوياء، أما إن

كان الكلام عن القيم المعنوية فالعدالة ستكون مهمة للجميع، ذلك أنّهم ينالون بعض المثل المعنوية والفضائل وإن تعرضت بعض مصالحهم للخطر بفعل تطبيق العدالة.

والنموذج الواضح علي ذلك، المنظمات الدولية الواسعة التي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية، فهذه المنظمات التي تعتبر من أهم المراكز الساعية لضمان السلام العالمي وينشط فيها ساسة العالم ومفكروه، ما زالت لحدّ الآن أُلعوبة بيد الدول الكبري، أو لم تعد أكثر من صالة لعقد المؤتمرات والاجتماعات والتي يسمح فيها للبلدان الصغيرة بالتحدّث لمدة وجيزة.

ثانياً: تفيد الدراسات التاريخية والتجارب أنّ شعور الإنسان بالحاجة إلي المزيد لا يلبي أبداً من خلال الطريق المادي؛ أي أنّ الإنسان لم يبلغ لحدّ الآن مرحلة ليقول أكتفي بهذا المقدار. فطلبات الإنسان ورغباته مفتوحة، بينما تمتاز الامكانات المادية مهما ازدادت بالمحدودية، وليس من شأن هذه الامكانات المحدودة تلبية تلك المتطلبات غير المحدودة، وهذا «التضاد بين المتطلبات والامكانات» هو الذي أفرز الحرب كونها من اللوازم الدائمية للحياة المادية.

لكن إن استعادت المعنويات والإيمان باللَّه والالتفات إلي القيم الإنسانية والأخلاقية والشعور بالمسؤولية إزاء ذلك المبدأ العظيم الذي يفوق الماديات وعالم المادة حيويته وفعاليته، فله أن يهذب هذه الغريزة ويحد من جموحها ويضعها في مسارها الصحيح، ويجلب الأمن والسلام بدلًا من الفوضي والحرب. وبعبارة اخري فإنّه يمكن اشباع غريزة طلب المزيد عن طريق الامور المعنوية التي لا تعرف أية محدودية، آنذاك سيزول ذلك

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 68

التضاد الذي يعد العنصر الرئيسي للحرب والظلم.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 69

ويتخلص العالم من اسم «العظمي» وكابوس قدرتها الجهنمية، وتتحول فيها المنافسة الاقتصاديه البغيضة والهدامة إلي تعاون وتكاتف بشري من أجل حياة أجمل ومعيشة أرغد، …

كلّ هذه الامور تبدو مبكرة وتتطلب استعداداً عاماً، مهما كنا متفائلين ونشعر بالأمل.

لكن بالنظر إلي التطورات والتغيرات التي تحدث بسرعة في العصر الأخير فلا ينبغي أن نراها بعيدة أيضاً لتصبح رؤيا خيالية.

علي أيّة حال هنالك أربعة استعدادات ينبغي توفرها لقيام هذه الحكومة.

علي كافة الأصعدة وعلي ضوء القيم الجديدة.

فليس هنالك من سبيل لبلوغ تلك المرحلة دون هذا الأمر.

ضخمة والتي لا تتيسر جميعاً دون وفرة الآلات الصناعية المتطورة.

أجل، يمكن قيام مثل هذا النظام دون الوسائل الصناعية المتطورة إن كانت هناك معجزة في هذه العملية، ولكن هل تتم إدارة شؤون المجتمع البشري علي ضوء المعجزة؟

إنّ المعجزة عبارة عن استثناء منطقي في النظام الجاري للطبيعة بغية

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 75

إثبات حقانية دين سماوي، وليست لإدارة امور الامّة، وعليه فلابدّ أن تتم هذه الادارة وفق القوانين الطبيعية.

سنتحدث في المباحث القادمة أيضاً عن هذا الأمر.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 77

الأصلية لروح الإنسان وتركيبته النفسية، بدليل عدم افتقار أية أمّة لمثل هذه الدوافع. وزبدة القول فإن حبّ الإنسان للرقي والتكامل وانفتاحه علي العلم والمعرفة والجمال والخير والفضيلة والعدل تمثل رغبة أصيلة ودائمية خالدة، وانتظاره لظهور مصلح عالمي مطلق هو ذروة هذه الرغبة والحبّ. «ينبغي التأمل في هذا الموضوع!».

كيف لا يكون للإنسان مثل هذا الانتظار وشعلة حبّ التكامل تتوقد في جميع أحشائه! وهل يتكامل المجتمع البشري دون ذلك!

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 79

وبناءً علي هذا فإنّ هذا الشعور يساور باطن كلّ من لم يعِش حالة الاحباط والانكسار في حياته … هذا من جانب. ومن جانب آخر، كما تساعد الإنسان أعضاؤه في السمو والتكامل، ولا يسعنا أن نظفر بعضو يغيب دوره بصورة مطلقة في هذه الحركة التكاملية، فإن خصائص الإنسان النفسية كذلك؛ أي لكلّ منها دور مهم في تقدّم مشاريعه الأصيلة. مثلًا «الخوف من العوامل الخطيرة» الكامن في وجود كلّ إنسان درع يحفظه من تلك المخاطر.

و «الغضب» الذي يستشعره الإنسان حين يري خطراً يهدد مصالحه، وسيله لمضاعفة القدره الدفاعية وتعبئة كافة طاقاته البدنية والروحية بغية إنقاذ مصالحه من الخطر. وعليه فإن حبّ التكامل وحبّ السلام والعدل وسيلة لبلوغ هذا الهدف العظيم، وبمثابة ماكنة قوية تحرك عجلات وجود الإنسان في هذا الطريق، وتساعده في الوصول إلي عالم مليئ بالعدل والسلام.

من جانب آخر فإنّه لا يمكن للأحاسيس والأجهزة في جسم الإنسان وروحه أن لا تنسجم مع عالم الوجود؛ لأن عالم الوجود برمته وحدة واحدة متصلة، ولا يمكن لوجودنا أن ينفصل عن سائر العالم. ويمكننا أن نستنتج من هذا الاتصال أنّ كلّ حبّ وعشق أصيل في جودنا دليل علي وجود «معشوقه» و «هدفه» في عالم الوجود، وهذا العشق وسيلة تقربنا

منه. أي إن عطشنا ورغبنا بالماء فإن ذلك دليلٌ علي وجود «الماء»، وقد أودع عالم الخليقة العطش في وجودنا.

وإن ملنا للجنس الآخر فإنّ ذلك دليلٌ علي وجود هذا الجنس في

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 80

الخارج، كما أنّ عشقنا للجمال والمعرفة دليل علي وجود العشق والجمال في عالم الوجود.

ونخلص من هذا أنّ انتظار الناس للمصلح العالمي الذي يملأ العالم بالعدل والسلام، دليل علي امكانية وعملية ذروة هذا التكامل في المجتمع البشري، فعشقه وانتظاره في أعماق أرواحنا وأنفسنا. وعمومية هذا الاعتقاد في كافة المذاهب والمدارس علامة اخري علي أصالته وواقعيته؛ لأن الشي ء إن كان وليد الشرائط المعينة والمحدودة، لا يمكنه أن يحظي بهذه الشمولية، فليست هنالك من شمولية سوي للقضايا الفطرية؛ وكلّ هذه الامور دليل علي أنّ هذه النغمات تعزف في روح الإنسان عن طريق لسان عاطفته وفطرته في أنّ الأمر سيؤول إلي إرساء العدل والسلام في حكومة العدل العالمية من جانب المصلح العالمي.

الحوادث، فإنّه تتضح ضرورة دراستنا للماضي والمستقبل من أجل اليوم والوقت الحاضر، وسنري عمّا قريب فاعلية هذا الانتظار العظيم.

إلّا أنّ العجيب في الأمر هو أنّ بعض الكتاب لم يتنكروا للجانب الايجابي لهذه القضية فحسب، بل صرّحوا بأنّ لمثل هذا الانتظار جوانبه السلبية في شلّ القدرات الاجتماعية والقضاء عليها! والأعجب من ذلك ما يراه البعض الآخر من أنّ الإيمان بمستقبل مشرق انعكاساً للحرمان الذي تعيشه الطبقة المسحوقة والذي يتخذ عادة صبغة دينية.

ولكن لا يمكن انكار هذه الحقيقة في أنّ هنالك بعض ضيقي الافق الذين يسعون لاستغلال قضية الانتظار، وقد تخلوا عن جميع مسؤولياتهم بذريعة الانتظار، والاكتفاء بها علي نطاق اللسان! وأري من الضروري- لإزالة إساءة الفهم من الجانبين- أن أُطلع الاخوة القرّاء علي الرسالة التي كتبتها سابقاً بشأن هذا الموضوع:

الواردة في المهدي وقال:

«كيفما فسروا هذه الأحاديث فليس هنالك من دليل مقنع في أنّ نبي الإسلام صلي الله عليه و آله قال بضرورة وحتمية ظهور مهدي لاحياء الإسلام وتحقيق كماله؛ إلّاأنّ نيران الحروب الأهلية بين أبناء الجيل الواحد بعد وفاة النبي صلي الله عليه و آله واضطراب العالم الإسلامي إثر الاختلاف، أدّي إلي اقتباس فكرة ظهور المنقذ من اليهود أو النصاري الذين ينتظرون عودة المسيح وظهوره».

ولا أدري ما هي الكتب التي رآها «مارغلي يوت» من المصادر الإسلامية بهذا الخصوص، وكيف لم يعثر في تفاسيرها علي دليل يقنعه،

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 83

والحال وردت عدّة أحاديث صريحة في مصادر الفريقين بشأن الظهور حتّي بلغت حدّ التواتر. أم كيف لا يكون لكلّ علماء الإسلام والمحققين دون استثناء (سوي النادر منهم كابن خلدون الذي أعرب عن ترديده في أحاديث المهدي في مقدمته التاريخية) من نقاش في صدور هذه الأحاديث عن النبي صلي الله عليه و آله واقتصرت كلماتهم علي القضايا الفرعية والجزئية، بينما لم يقتنع «مارغلي يوت»؟

ينبغي أن يجيب بنفسه عن هذا السؤال.

ويقول البعض الآخر:

«إننا ننظر إلي نتائج هذا الانتظار، ولا يعنينا العمل به ودوافعه، والتي تؤدي إلي احتمال المعاناة والصبر إزاء الارباكات والاستسلام إلي الظلم والجور والتهرب من المسؤولية. إننا ننظر إلي هذا في أنّ هذا الانتظار يقذف بالطبقات المحرومة في عالم الخيال ويجعلهم يغفلون عمّا يدور من حولهم، ويدعوهم إلي الكسل والهروب من الالتزامات الاجتماعية. وبعبارة اخري، فهو من الناحية الفردية عامل للركود والسكون، ومن الناحية الاجتماعية فهو وسيلة لإخماد حركات الشعوب ضد الاستعمار، وكيف كان فاثاره السلبية واضحة».

إلّا أننا نعتقد أنّ الباحث الواعي الذي لا يريد اصدار الأحكام جزافاً، بل يري نفسه موظفاً بالتعرف علي

«الدوافع والنتائج» عن قرب وعدم الاكتفاء بالأحكام التي تصدر بصورة اعتباطية. والآن دعونا نتناول بحياد دوافع الانتظار ونتائجه، لنري هل كان عامل ظهوره الاحباطات أم سلسلة من الواقعيات الفطرية والعقلائية، وهل نتائجه بناءة وايجابية أم هدامة وسلبية؟

الله عليه و آله بسيفه».

وفي رواية «بمنزلة من كان قاعداً تحت لواء القائم».

وفي رواية اخري «بمنزلة المجاهد بين يدي رسول اللَّه».

وفي رواية «بمنزلة من استشهد مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله».

فالتشبيهات الواردة في هذه الروايات بشأن انتظار ظهور المهدي عليه السلام عميقة المعني وتكشف عن هذه الحقيقة وهي أنّ هنالك نوعاً من الارتباط والتشابه بين مسألة «الانتظار» و «الجهاد» ومواجهة الأعداء. «لابدّ من تأمل هذا الموضوع».

كما صرّحت بعض الروايات بأن مثل هذا الانتظار يعد أعظم عبادة.

حيث ورد مثل هذا المضمون في أحاديث النبي صلي الله عليه و آله وروايات الإمام علي عليه السلام. فقد قال صلي الله عليه و آله:

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 86

«أفضل أعمال امّتي انتظار الفرج من اللَّه عزّوجلّ».

كما ورد عنه صلي الله عليه و آله أنّه قال:

«أفضل العبادة انتظار الفرج».

ويكشف هذا الحديث عن أهمية الانتظار، سواء الفرج بمعناه الواسع والشامل، أو مفهومه الخاصّ، أي انتظار ظهور المصلح العالمي.

وتشير كلّ هذه العبارات إلي أنّ انتظار تلك النهضة إنّما اقترن علي الدوام بجهاد واسع ومقاومة تامة.

ولو استند الاعتقاد وانتظار حكومة العدل للمهدي إلي قاعدة رصينة لافرز نوعين من الأعمال العظيمة (لأن الاعتقاد السطحي قد لا يتجاوز أثره اللسان، بينما الاعتقاد العملي يقتضي دائماً الآثار العملية). والنوعان هما:

الامتناع عن كافة أشكال التعاون والركون إلي عوامل الظلم والفساد إلي درجة مقاومتها من جانب، ومن جانب آخر تزكية النفس وتوظيف الاستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية بغية تبلور تلك الحكومة العالمية.

ولو تأملنا ذلك لرأينا كلا العملين بناءً ومدعاة للحركة والمعرفة والوعي واليقظة.

وهكذا يفهم معني الروايات الواردة في فضل المنتظرين من خلال الالتفات إلي مفهوم الانتظار الواقعي.

كما نفهم بعض الروايات التي صورت المنتظر الحقيقي وكأنّه في

الحكومة

العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 87

فسطاط المهدي أو تحت لوائه أو كمن جاهد بين يدي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بسيفه.

أوليست هذه المراحل المختلفة والدرجات المتفاوتة في الجهاد من أجل تحقيق العدل والحقّ إنّما تتناسب مع استعدادات الأفراد ودرجات انتظارهم؟ أي كما يتفاوت مقدار تضحية المجاهدين في سبيل اللَّه ودورهم، فإنّ انتظارهم واستعدادهم هو الآخر مختلف وعلي درجات.

طبعاً كلاهما جهاد ويحتاج إلي استعداد وتزكية. فالفرد الذي يكون في فسطاط زعيم تلك الحكومة والذي يمثل مركز القيادة والإمرة العسكرية لجميع العالم، لا يمكن أن يكون شخصاً غافلًا وجاهلًا، فليس كلّ فرد يلج ذلك الفساط، سوي من استعد له. كما ينبغي أن ينطوي من حمل السلاح وقاتل إلي جانب ذلك الزعيم كلّ من يقف بوجه حكومة العدل والسلام، علي استعداد روحي غزير وتأهب فكري وعسكري كبير.

عمّا سبقها من النهضات الاصلاحية، فهي لا تنطوي علي أية صبغة إقليمية، كما لا تختص بأي جانب من جوانب الحياة المختلفة؛ بل اضافة إلي كونها عامة، فهي تشمل كافة جوانب حياة البشرية؛ فهي نهضة سياسية وثقافية واقتصادية وأخلاقية.

طبعاً لسنا بصدد الدليل علي تحقق هذه النهضة، ونوكل ذلك إلي بحث آخر، ذلك لأن هدفنا في هذا البحث الاقتصار علي نتائج وآثار هذه العقيدة وذلك الانتظار، وهل ينطوي هذا الانتظار علي فكرة التخدير كما يزعم أصحاب المدارس المادية، أم أنّه انتظار بناء واصلاحي يدعو إلي الانطلاق والحركة. ذكرنا سابقاً أنّ «الانتظار» يتألف من عنصرين؛ «نفي» و «إثبات»، الامتعاظ من الوضع الموجود والرغبة في وضع أفضل. ونضيف هنا أنّ لكلّ نهضة وحركة محورية بُعدين بُعداً سلبياً وبُعداً ايجابياً.

فالبعد الأوّل لهذه النهضة يتمثل في القضاء علي عوامل الفساد والانحطاط وتطهير المجتمع من دنس العصاة. وما أن تنتهي هذه المرحلة

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 89

حتّي يأتي دور البعد الايجابي، أي اشاعة عوامل الاصلاح. كما أشرنا سابقاً إلي تركب مفهومي «الانتظار» و «النهضة العالمية» أي أنّ الآثار التالية إنما تتجلي في المنتظرين الواقعيين (لا مجرد ادعاء الانتظار كذباً):

النهضة ومصيرها لا تسمح له بأن يكون في الجبهة المقابلة، كما أنّ التحاقه بجبهة الإصلاح يتطلب منه قدراً كافياً من الأعمال الصالحة والانطواء علي الشجاعة واليقظة التامة.

فكيف لي إن كنت ظالماً متمرداً أن انتظر نهضة تستهدفني! وإن كنت فاسداً ومنحرفاً فأ نّي لي بانتظار قيام نظام لا مكان فيه للافراد الفاسدين والمنحرفين! أولا يكفي هذا الانتظار في تنقية روحي وتهذيب فكري من الزلل والدنس! والجندي الذي يتطلع إلي جهاد التحرير إنّما يعيش قطعاً

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 90

حالة التأهب القصوي، والسلام الذي ينبغي له حمله في هذه المعركة إنّما يهدف إلي إصلاح الأسلحة السائدة؛ ويقوم ببناء المواضع المحكمة، كما يرفع معنويات رفاقه ويفجر في نفوسهم عشق المواجهة، وإلّا فلا يسعه الانتظار، وإن زعم ذلك فهو كاذب، فانتظار المصلح العالمي يعني التأهب الفكري والأخلاقي والمادي والمعنوي التام من أجل إصلاح العالم بأجمعه.

ولك أن تقف علي أهميّة مثل هذا التأهب! فإصلاح كلّ ما علي الأرض ووضع حدّ للظلم ليس بالعمل الهين! والاستعداد لهذا الهدف العظيم ينبغي أن يتناسب معه، أي لابدّ أن يناسبه سعة وعمقاً.

وعليه فإنّ تحقيق مثل هذه النهضة يتطلب رجالًا أشداء من ذوي القوة والطهر وسعة الافق وبعد النظر والاستعداد التام، كما أنّ التزكية اللازمة لتحقق هذا الهدف تستلزم توظيف وتفعيل البرامج الأخلاقية والفكرية والاجتماعية، وهذا هو معني الانتظار الواقعي؛ فهل يسع فرد أن يزعم بأنّ هذا الانتظار ليس بناءً؟!

عمقها وشموليتها مع عظمة مشروع النهضة العالمية المنتظرة. ليس لأي فرد أن يتجاهل الآخرين في ميدان المواجهة

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 91

الشاملة، وعليه أن يسعي لمعالجة نقاط الضعف إينما وجدت، وتقوية مواطن الضعف، ذلك لعدم إمكانية تطبيق ذلك المشروع دون المساهمة الفاعلة للجميع.

وعليه فإن المنتظر الحقيقي يشعر بتكليفه في السعي إلي إصلاح الآخرين فضلًا عن اصلاح نفسه.

وهذا هو الأثر البناء الآخر من آثار انتظار قيام المصلح العالمي. وهذه هي فلسفة كلّ تلك الفضائل والامتيازات الواردة بشأن المنتظرين.

فيشعر بتحول في حياته يدعوه إلي الأمل بعفو اللَّه ورحمته والأمل بتغيير الوضع القائم؛ الأمر الذي يعدوه إلي الكفّ عن المعصية والعودة إلي الذات والطريق القويم.

ومن هنا يعد الأمل من العناصر التربوية المهمة في معالجة أوضاع الفرد الفاسد؛ كما لا يسع الفرد الصالح حفظ نفسه في الوسط الفاسد دون الشعور بهذا الأمل.

والنتيجة هي أنّ انتظار ظهور المصلح مدعاة لمضاعفة الأمل بظهوره مها اتسعت رقعة الفساد، والذي يلعب دوراً مهماً في بلورة العقيدة والاندفاع إلي العمل، إلي جانب تحصين المنتظر من أمواج الفساد.

وهنا يشعرون بقرب بلوغ الهدف فيزداد سعيهم ويتواصل عزمهم في الوقوف بوجه الفساد والانحراف.

ونستنتج من الأبحاث السابقة أنّ الانتظار الممسوخ والمشوه هو الذي ينطوي علي عنصر التخدير- حيث حرفه بعض المخالفين، بينما مسخه بعض الموافقين- أما إن طبق في المجتمع بصورته الحقيقية الناصعة فهو عامل مهم علي مستوي الأمل والحركة والتربية والتزكية.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 93

ولعلّ من بين الأدلة الواضحة التي تؤيد هذا الموضوع ما روي عن المعصوم عليه السلام بشأن الآية الشريفة: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ … » «1»

أنّه قال: «هو القائم وأصحابه».

وجاء في رواية اخري: «نزلت في المهدي» والحال قد وصف المهدي وأصحابه في هذه الآية بهذا الوصف «الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات».

وعليه يتعذر تحقق هذه النهضة العالمية دون إيمان راسخ يطرد كلّ ضعف وعجز وهوان، ودون عمل صالح يمهد السبيل من أجل إصلاح العالم، وينبغي لمن ينتظر أن يسعي لأن يرفع من مستوي معرفته وإيمانه وينشط في إصلاح نفسه وأعماله. وهؤلاء فقط من يسعهم التبشير بتلك الحياة في ظلّ حكومته، لا الظلمة والفجرة، ولا أُولئك البعيدون عن الإيمان والعمل الصالح، ولا الأفراد الجبناء الذين

جعلهم ضعف إيمانهم يخشون خيالهم.

ولا الضعفاء والكسالي والعاطلون الذين قبعوا هنا وهناك يتفرجون علي الوسط الفاسد دون أن ينبسوا ببنت شفة، ولم يكلفوا أنفسهم عناء أية حركة ومقاومة.

أجل هذا هو معني الانتظار الحقيقي!

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 95

والفطرة»؛ ولهذا الانسجام والاتفاق تأثيران: -

إنّه يرسخ إيماننا بأحكام العقل من جانب، ويضاعف من تفاؤلنا بأصالة التعاليم الإسلامية من جانب آخر.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 99

والتقوي والعلم والادارة.

فعليه يكون معني الآية علي هذا الأساس:

لقد كتبنا في الزبور بالإضافة إلي القرآن الكريم (أو التوراة) أنّ الأرض ستؤول إلي الصالحين من عباد اللَّه (أولئك الذين ينطلقون في مسار العبودية).

وذكر هذا الموضوع في الزبور (إن كان بمعني جميع الكتب السماوية

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 101

السابقة) دليل علي أنّ هذا الموضوع أصل ثابت في كلّ تلك الكتب.

وإن كان المراد منه كتاب داود فلعلّ ذلك لسعة حكومة داود الرامية لتطبيق الحقّ والعدل وضمان مصالح الناس؛ وإن كانت حكومة اقليمية وليست عالمية، لكن بشر الزبور بحكومة عالمية شاملة قائمة علي أساس الحرية والأمن والعدل تنتظر العالم بأسره. أي أنّ الناس إن بلغوا تلك المرحلة من الصلاح وأصبحوا مصداقاً حيّاً للعباد الصالحين فإنّهم سيرثون الأرض؛ سيرثون الحكومة المادية والحكومة المعنوية.

وقد تضمنت بعض الروايات الواردة في تفسير الآية المذكورة عبارات أوضح في هذا المجال. ومن ذلك ما رواه صاحب تفسير «مجمع البيان» في ذيل الآية أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال: «هم أصحاب المهدي في آخر الزمان».

جدير بالذكر، وردت الإشارة إلي هذا الموضوع بعدّة عبارات في «مزامير داود» ومنها المزمور 37:

«فسينقطع الأشرار ويرث الأرض المتوكلون علي اللَّه، وسوف لن يبقي شرير، ستتأمل مكانه وليس فيه وسيرث الحكماء الأرض».

كما جاء في المزمور 37 عبارات اخري:

« … سيرث الأرض الذي يباركهم الرب وسينقطع الملعونون. سيرث الصديقون الأرض وإلي الأبد» «1».

وبالطبع فإنّ كلمة «الصالحون» الواردة في القرآن هي كلمة جامعة تشمل «الحكماء» و «الصديقين» و «المتوكلين» و «المباركين».

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 102

وكما ذكرنا فإنّ المستفاد من الآية «إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَومٍ عابِدِينَ» أنّ الهدف النهائي للصالحين ليس الحكومة، بل هي وسيلة لبلوغ ذلك الهدف، أي تكامل الإنسان في كافة

الجوانب، لأن البلاغ ما يبلغهم هدفهم.

الأيدي بالتصفيق من جانب زعماء ما يسمي بحقوق الإنسان، ولا غرو فهم معاً ولا يستطيعون ضمان مصالحهم دون أن يسلكوا هذا الاسلوب.

الاستقرار والأمن آنذاك لا يمزج بالخوف، فهو ليس كالأمن الذي نراه في بعض بقاع العالم والذي يفرزه الخوف من الأسلحة الفتاكة. وهل هذا أمن أم رعب؟ فهذا الأمن يفرزه الخوف العظيم من عواقب الحروب الوخيمة، إنّه ليس بأمن حقيقي.

ونتيجة هذه الوعود الإلهية الثلاثة تمهيد السبيل لتزكية الإنسان وتكامله

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 104

علي مستوي المفاهيم الإنسانية والعبوديه للَّه وهدم الأصنام بكافة أشكالها «بعبدونني لا يشركون بي شيئاً».

لا بأس هنا أن نتطرق إلي بعض أقوال المفسرين وما ذكروه من سبب لنزول هذه الآية:

يري بعض المفسرين أنّ الآية نزلت حين هاجر المسلمون من مكة إلي المدينة.

فقد برزت نهضة جديدة هزت أركان ذلك المجتمع الملي بالخرافات والأساطير والجهل والظلم والتمييز العنصري، ممّا أثارت الطرف الآخر للمعارضة.

ورغم قلة عدد الأصحاب إلّاأنّهم عرفوا بالصمود والتضحية، إلّاأنّ حجم المعارضة كان عريضاً واسعاً، وقد تصاعدت حدّة الصراع بحيث كان المسلمون يعيشون علي الدوام حالة التأهب القصوي، فلا يفارقون أسلحتهم حتّي عند نومهم وينهضون صباحاً ليتقلدوا تلك الأسلحة الثقيلة.

وبالطبع فإن استمرار هذا الوضع كان يزعجهم، كيف يسعهم النوم بهذه التجهيزات والأسلحة، وأي نوم هذا الذي يحلمون به والعدو متربص بهم.

كانوا يتمنون أحياناً أن يستريحوا ليلة من ذلك العناء دون أن يكون من العدو خطراً يهددهم، كما يأملون بإقامة الصلاة دون أن يباغتهم العدو، فيعبدون اللَّه بكلّ حرية ودون خوف ويقضون علي الأصنام ويعيشون بأمان في كنف حكومة العدل الإلهي.

ومن هنا كان يسأل بعضهم البعض هل سيأتي ذلك اليوم؟! وهنا نزلت الآية وحملت البشارة بتحقق ذلك الوعد وقدوم ذلك اليوم، وقد رأينا كيف

الحكومة العالمية

للإمام المهدي(عج)، ص: 105

حلّ ذلك اليوم حين سيطر المسلمون بزعامة النبي صلي الله عليه و آله علي الجزيرة العربية.

ويبدو سبب النزول هذا منسجماً مع الآية، لكن لعلمنا بسائر أسباب نزول مختلف الآيات القرآنية فانه لا يسعنا حصر مفاهيم الآيات في أسباب النزول، بل سبب النزول يعد أحد مصاديق الآية.

ولعلّ الاقتصار بالآية علي سبب النزول من قبيل الأسلحة التي تعدها للقتال، وما أن يتوقف ذلك القتال حتّي نطرحها جانباً، وإن كانت باهضة التكاليف وصالحة للاستعمال.

طبعاً شهد أواخر عصر النبي صلي الله عليه و آله عملية جانب من المفهوم الشامل لهذه الآية، إلّاأن تطبيق ذلك المفهوم بأجمعه والاستخلاف في الأرض لم يطيق لحدّ الآن وما زال العالم ينتظره.

نعم، تبشر الآية الشريفة جميع المؤمنين الحقيقيين بالحكومة العالمية التي تكون من نصيب الصالحين، وتطوي جميع الصفحات السوداء التي خلفتها عصبة من الأنانيين والمستكبرين الذين تلاعبون في مقدارات والإنسانية.

ومن هنا ورد في بعض الروايات أنّ الآية واردة في قيام المهدي الموعود. فقد روي الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» عن الإمام السجاد عليه السلام أنّه قال:

«هم واللَّه شيعتنا أهل البيت يفعل اللَّه ذلك بهم علي يد رجل منا هو مهدي هذه الامّة».

ثمّ ذكر مثل هذا المضمون عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وأضافا أنّ

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 106

الآية مطلقة وتشمل خلافة جميع الأرض، وحيث لم يتحقق هذا الوعد الإلهي فلابدّ من انتظاره.

كما وردت عدّة روايات في تفسير «البرهان» عن الإمامين الصادق والباقر عليهما السلام في أنّ الآية إشارة إلي قيام القائم.

جدير بالذكر أنّه بالنظر إلي كلمة «منكم» فإنّ هناك أقلية مؤمنة صالحة تمارس النهضة العالمية حين تتوفر ظروفها فتبلغ بها شاطئ الأمان وتتغلب علي جميع المصاعب والمطبات التي تعترض سبيل

السفينة.

3- نقرأ في الآية 33 من سورة التوبة:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

ولابدّ من الرجوع إلي الآية السابقة للوقوف علي معني هذه الآية:

«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَي اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ».

ويتضح من هذه الآية أنّ إرادة اللَّه تعلقت بتكامل نور الإسلام، وسيكون تكامله حين ينشر لوائه علي كافة أنحاء العالم.

ومن ثمّ وضح هذه الحقيقة في الآية المذكورة:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

وقد تكرر هذا الوعد مع فارق طفيف في الآية 28 من سورة الفتح:

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 107

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَي بِاللَّهِ شَهِيداً».

وأخيراً جاء هذا الوعد للمرة الثالثة في الآية 9 من سورة الصف بالعبارة التي وردت في سورة التوبة:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

ولعلّنا ندرك أهمية هذا الوعد الإلهي من هذه الآيات القرآنية. إلّاأنّ المهم هو اتضاح مفهوم العبارة «ليظهره»:

أوّلًا: يرجع الضمير «هاء» إلي النبي صلي الله عليه و آله أو «دين الحقّ»؟

علي ضوء الاحتمال الأوّل المفهوم غلبة النبي لجميع الأديان، بينما مفهومها غلبة الدين الإسلامي علي أساس الاحتمال الثاني.

لكن يبدو علي أساس قواعد اللغة أنّ الضمير يعود إلي «دين الحقّ» كونه الأقرب (وإن لم يكن الفارق بينهما كبيراً). أضف إلي ذلك فإن انتصار دين علي سائر الأديان أنسب تعبيراً من انتصار شخص علي سائر الأديان (لابدّ من التمعن).

ثانياً: (وهذا هو المهم) ما المراد هنا بالظهور؟ لا شك أنّ الظهور هنا لا يعني البروز والوضوح، بل يعني الغلبة. جاء في كتاب القاموس- أحد المصادر اللغوية

المعروفة- ظهر به وعليه: غلبه.

كما جاء في مفردات الراغب: ظهر عليه غلبه.

وكما وردت بهذا المعني في عدّة آيات من سور القرآن كسورة المؤمن والكهف والتوبة:

«كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَايَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 108

بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَي قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» «1».

«يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ … » «2».

«إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» «3».

لكن ما المراد بغلبة دين لسائر الأديان؟

ذكر المفسرون ثلاثة آراء:

1- الغلبة المنطقية؛ أي بمقارنة الإسلام بسائر الأديان الممزوجة غالباً بالخرافات تظهر غلبة المنطق المستدل علي سائر المناطق.

يعتقد أصحاب هذا الرأي أنّه كلما قارنا التوحيد الإسلامي الخالص مع سائر أنواع التوحيد المشوبة بالشرك أو الشرك الخالص فانه يتضح منطق أفضلية الإسلام علي سائر الأديان، وكذلك سائر المباحث التي اكتسبت عملية هذا الوعد الإلهي؛ حتّي أنّ مقارنة شعار الأذان بفضله شعار محرك، بشعار الناقوس وعدم شعارية أغلب الأديان يكشف عن هذه الغلبة المنطقية.

2- الغلبة العملية والغلبة الخارجية علي سائر الأديان، غاية الأمر ضمن مقارنة اقليمية لا عالمية وعامة.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 109

فقد تحققت أيضاً؛ حيث تغلب الإسلام في عهد النبي صلي الله عليه و آله علي شبه الجزيرة العربية ومن ثمّ علي منطقة عظيمة من العالم، حتّي خضع لنفوذ الإسلام اتباع الديانات الاخري في تلك المناطق الممتدة من جدار الصين- بل ما وراء جدار الصين- حتّي شواطئ المحيط الاطلسي، وقد ظلّ الإسلام متجذراً في تلك المناطق حتّي بعد اضمحلال الدولة الإسلامية هناك.

3- الغلبة الخارجية والعملية علي مستوي العالم وجميع ما علي الأرض والتي تشمل الغلبة الثقافية والاقتصادية والسياسية، وهو التفسير الذي قال به بعض مفسري العامة فضلًا عن مفسري الشيعة.

قطعاً

لم يصبح هذا الوعد عملياً لحدّ الآن ولا ينطبق سوي علي الحكومة العالمية للمهدي الموعود عليه السلام، وهي الحكومة التي يعم الحقّ والعدل فيها كلّ مكان ويتغلب فيها هذا الدين علي ضوء القياس العالمي علي سائر الأديان.

ولدينا بعض القرائن التي تفيد ترجيح التفسير الثالث علي سائر التفاسير؛ لما يلي:

أوّلًا: الغلبة المستفادة من كلمة «الظهور» ظاهرة في الغلبة الحسية والعينية والخارجية، لا الغلبة الذهنية والفكرية، ولذلك لم يرد «الظهور» بمعني الغلبة الذهنية في أي من الموارد القرآنية المذكورة، بل لوعدنا إلي الآيات السابقة وأمعنا النظر فيها لرأيناها وردت بمعني الغلبة العينية والخارجية.

ثانياً: ذكر كلمة «كله» بعنوان تأكيد يشير إلي عدم وجود البعد الاقليمي للغلبة، بل هي عامة شاملة لجميع الأديان، وهذا لا يمكن سوي من خلال شمولية الإسلام للعالم.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 110

ثالثاً: الروايات التي وردت في تفسير الآية وتقوي التفسير الثالث، مثل:

1- روي العياشي باسناده عن عمران بن ميثم عن عبابة أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام حين تلي الآية «هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحقّ … » سأل أصحابه: أظهر ذلك؟ قالوا: بلي. قال:

«كلا، فوالذي نفسي بيده حتّي لا يبقي قرية إلّاوينادي فيها بشهادة أن لا إله إلّااللَّه بكرة وعشيا» «1».

2- وقال الإمام الباقر عليه السلام:

«إنّ ذلك عند خروج المهدي من آل محمّد فلا يبقي أحد إلّاأقر بمحمّد» «2».

3- قال المقداد بن الأسود سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول:

«لا يبقي علي ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلّاادخله اللَّه كلمة الإسلام» «3».

كما وردت عدة روايات تفسر الآية بهذا المضمون.

كانت هذه طائفة من الآيات القرآنية التي تؤكد العدل والسلام العالمي والإيمان بالتوحيد والإسلام في كافة أرجاء العالم.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 111

غير أنّ ذلك لا يعني عدم وجود بعض الضوابط في تمييز الأحاديث الصحيحة من الموضوعة، ومن ذلك علم الرجال والحديث والدراية.

2- رجل ثوري لا سياسي مادي:

إنّ الأدلّة التي ذكرت- كالآيات الواردة في هذا الخصوص- عن طريق

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 113

العقل أو الفطرة والتي تشير إلي تحقق نهضة اصلاحية شاملة في العالم، لم تتطرق إلي شخص معين، بل اقتصرت علي مباحث كلية؛ ولكن ممّا لاشك فيه أنّ هذه النهضة تتطلب زعيماً كسائر النهضات، زعيماً مقتدراً وعالماً ذا آفق بعيد ونظرة ثاقبة وعالمية، فهل يمكن أن ينبثق هذا الزعيم كسائر زعماء العالم المعاصر من المجتمعات المادية؟ أي كالزعماء الذين يكون هدفهم بالدرجة الاولي حفظ مناصبهم، ومن ثمّ كلّ ما من شأنه حفظ مكانتهم؛ وتعظيمهم إزاء المدارس السياسية والاقتصادية المختلفة بمستوي التأثير في حفظ مكانتهم؛ وقد تكون ذروة أهدافهم في المرحلة اللاحقة الانطلاق نحو تحقيق مصالح شعوبهم، وإن كان ذلك علي حساب ذبح الشعوب الاخري.

وقد اثبتت حرب فيتنام التي استغرقت عشرين سنة وقد خلفت ملايين القتلي والجرحي وهدم ملايين الأحياء السكنية وملايين الأفراد المشوهين ومليارات الأموال والثروات، أنّ الرأسمالية المعاصرة مستعدة للقتال من أجل حفظ منافعها، بل أحياناً لا لشي ء- بل أبعد من ذلك من أجل سلسلة من الأوهام الفارغة- وقد تغير خلال هذه الفترة عدد من هؤلاء الزعماء العظام (؟) غير أنّهم ساروا جميعاً علي نهج أسلافهم ليثبتوا أنّ ذلك العمل لم يكن نزعة فردية أو جماعية معينة، بل هو مبدأ ثابت من مبادئ وخصائص هذه الأنظمة.

إنّهم ينشدون الحرية كهدف سامٍ، لكنهم يقتصرون بها علي أنفسهم، وقد يتبنون شعارها أحياناً من أجل الآخرين، ولكن ما أن تتعارض مع مصالحهم حتّي يتنصلوا عنها.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص:

114

إنّهم يتفقون بغية ضمان منافعهم، وهذا هو مبدأهم المقدس المتفق عليه، وكأنّهم تعاقدوا معاً علي الدوام علي ذلك الأمر.

كما استغلوا حرية «حقوق الإنسان» و «حرية الشعوب في تقرير مصيرها» لضرب منافسيهم، ولذلك قد تنتكس تلك الحرية إن كان الكلام عن حلفائهم، فيتخلون عن تلك الشعارات حفظاً لمصالحهم ورعاية لتلك العلاقات.

فهل يسع مثل هذه الأنظمة أن ترفع راية الحرية والعدالة في العالم، وهل هناك من فرق بين الدول الكبري؟ فالظلم والاستعباد والقهر الذي تتميز به الأنظمة الرأسمالية واضح لا يتطلب مزيداً من العناء.

أمّا الأنظمة اليسارية؛ فقد واجهت جميع الأنظمة وحصرت سلطتها في بضعة أفراد- أي الفئة الحزبية الحاكمة- علي أساس بسط العدل وترفيه الطبقات المعدمة والمسحوقة وبناء المجتمع الخالي من الطبقية، ومن هنا فقد صهرت آلاف الاقطاعين الكبار والصغار في بوتقة ثورة «البرولتاريا» ثمّ اطلقت عدداً من كبارهم ليمسكوا بخيوط اللعبة لكافة حركات بيئتهم السياسية والاقتصادية. وقد حكموا مجتمعاتهم بقوة غاشمة سلبتهم حتّي التفكير في معارضة زعمائهم. وكأنّهم جعلوا بعض المبادئ المرنة التي يفرزها العقل البشري في اطار مسيرته التكاملية بمثابة مبادئ خالدة لإيقاف عجلة التاريخ عن التطور والحركة والإبقاء عليها ساكنة في موضع معين.

ويطالنا هنا بعض الزعماء المستبدين الذين يتمكنون بالتدريج من

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 115

الاطاحة بمعارضيهم ليذكروننا باساطير الدكتاتوريات المُبادة كسلاطين المغول، علي سبيل المثال فإنّ الزعيم الفذ استالين لا يري من ضير في قتل أكثر من مليون ومئتي شخص من أجل البقاء في منصبه وحفظ مصالحه.

ولكن ما أن مات حتّي سلوا جسده من قبره وعمدوا إلي إزالة اسمه، فتحول إلي عدم كأنّه لم يكن له من وجود، والحال، كان حتّي الأمس المدافع الوحيد عن حقوق الطبقة العاملة وضمان راحتها ورفاهيتها قد تتطلب

المصالح أحياناً الوقوف بشدّة بوجه حلفائهم وأعوانهم، وابرام اتفاقيات التعاون والصلح والسلام مع أعدائهم والتنازل عن جميع المبادئ والاصول التي يتشدقون بها.

فهل يسع مثل هؤلاء الزعماء حمل لواء العدل العالمي ونشره خفاقاً علي الشعوب؟

وهل تستطيع الأنظمة المادية الرأسمالية أو الاشتراكية أو الشيوعية الماركسية أن ترفد المجتمع بذلك الزعيم المنتظر؟ قطعاً لا.

حقّاً ليس ذلك سوي للمدرسة الإنسانية التي تفوق النزعة المادية والتي تستطيع تطبيق وتنفيذ ذلك المشروع الإنساني في كافة أرجاء العالم.

المدرسة التي لايفكر زعيمها قط في حفظ مكانته ومصلحته.

ولا يقتصر بنظره علي شعبه.

كما لا ينظر إلي ما حوله بعين مادية محدودة.

وأن يتمتع بالأفكار السماوية الرفيعة والعميقة والترفع عن الضحالة.

فذلك الشخص الذي تخالف مبادؤه نظيرتها لدي المدارس المادية التي تنهض اليوم بادارة شؤون المجتمعات، هو من يستطيع انقاذ البشرية من

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 116

هاوية الهلكة وايصالها إلي شاطئ الأمن والنجاة.

فمن هو ذاك؟ يعتقد المسلمون أنّ ذلك الرجل هو المهدي عليه السلام.

لا تحتاج إلي أدني توضيح، ولعلّها تلقم من يزعم بأنّ عقيدة ظهور المهدي فكرة مستوردة، حجراً وتخرسه عن الرد.

حيث تقدم قبل سنتين «1» شخص يدعي «أبو محمّد» من كينيا بسؤال إلي «رابطة العالم الإسلامي» التي تعتبر من المراكز الدينية الحجازية والمكية

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 117

المهمة بشأن ظهور المهدي المنتظر.

فبعث له «محمّد صالح القزاز» الأمين العام، برسالة ضمّنها جوابه وأشار فيها إلي قبول ابن تيمية للأحاديث المتعلقة بالمهدي، جدير بالذكر أنّ الفارق الكبير بين هذه الرسالة مع عقائد أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام هي أنّهم ذكروا اسم والد الإمام المهدي «عبداللَّه»، بينما المسلم لدي الشيعة أنّ والده هو الإمام الحسن العسكري، ولعلّ سر هذا الاختلاف ما ورد في بعض روايات العامة «اسم أبيه اسم أبي» بينما تفيد القرائن أنّ أصل هذه العبارة «اسم أبيه اسم ابني» والخطأ في التنقيط هو سبب اختلاف العبارة (أيد هذا الاحتمال الكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان).

وعلي كلّ حال فإنّه لا يمكن الاعتماد علي تلك العبارة للأسباب التالية: -

1- لم ترد هذه العبارة في أكثر روايات العامة.

2- ورد في رواية ابن أبي ليلي «اسمه اسمي واسم أبيه اسم ابني».

3- تفيد الروايات المتواترة عن طرق أهل البيت عليهم السلام أنّ اسم أبيه «الحسن».

4- صرحت بعض روايات العامة أنّه ابن الإمام الحسن العسكري.

(للوقوف علي المزيد بهذا الشأن راجع كتاب: منتخب الأثر صفحات 231 إلي 236، الباب 11، وكتاب نور الأبصار».

ما جاء من الفتوي في مسألة المهدي المنتظر وقد قام بكتابته فضيلة الشيخ محمّد المنتصر الكناني وأقرّته اللجنة المكنونة من أصحاب الفضيلة الشيخ صالح بن عثيين وفضيلة الشيخ أحمد محمّد جمال وفضيلة الشيخ أحمد علي وفضيلة الشيخ عبداللَّه خياط.

مدير ادارة المجمع الفقهي الإسلامي: محمّد منتصر الكناني

وقد دعم الفتوي بما ورد من أحاديث المهدي عن الرسول صلي الله عليه و آله وما ذكره ابن تيمية في المنهاج بصحّة الاعتقاد وابن القيم في المنار وإن شاء اللَّه تعالي ستجدون في الكتاب مطلبكم وما يغنيكم عن مسألة المهدي انتم ومن كان علي نهجكم آملين لكم التوفيق والسداد.

الأمين العام محمّد صالح القزاز

بعد التحية

جواباً عمّا يسأل عنه المسلم الكيني في شأن المهدي المنتظر عن موعد ظهوره وعن المكان الذي يظهر منه وعن ما يطمئنه عن المهدي عليه السلام.

هو محمّد بن عبداللَّه الحسني العلوي الفاطمي المهدي الموعود المنتظر موعد خروجه في آخر الزمان وهو من علامات الساعة الكبري يخرج من الغرب ويبايع له في الحجاز في مكّة المكرمة بين الركن

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 119

والمقام- بين باب الكعبة المشرفة والحجر الأسود عند الملتزم، ويظهر عند فساد الزمان وانتشار الكفر وظلم الناس، يملأ الأرض عدلًا وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يحكم العالم كله وتخضع له الرقاب بالاقناع تارة وبالحرب اخري، وسيملك الأرض سبع سنين وينزل عيسي عليه السلام من بعده فيقتل الدجّال أو ينزل معه فيساعده علي قتله بباب «اللد» بأرض فلسطين.

هو آخر الخلفاء الراشدين، الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبي صلوات اللَّه وسلامه عليه في الصحاح، وأحاديث المهدي واردة عن الكثير من الصحابة يرفعونها إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ومنهم عثمان بن عفان؛ وعلي بن أبي طالب، وطلحة

بن عبيداللَّه، وعبدالرحمن بن عوف، وعبداللَّه بن عباس، وعمّار بن ياسر، وعبداللَّه بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وثوبان، وقرة بن اياس المزني، وعبداللَّه بن الحارث بن جز، وأبو هريرة، وحذيفة بن اليماني، وجابر بن عبداللَّه، وأبو امامة، وجابر بن ماجد الصدفي، وعبداللَّه بن عمر، وأنس بن مالك، وعمران بن حصيني، وامّ سلمة.

هؤلاء عشرون منهم، ممّن وقفت عليهم، وغيرهم كثير، وهناك آثار عن الصحابة مصرّحة بالمهدي، من أقوالهم، كثيرة جداً، لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد فيها.

أحاديث هؤلاء الصحابة التي رفعوها إلي النبي صلي الله عليه و آله والتي قالوها من أقوالهم اعتماداً علي ما قاله رسول اللَّه صلوات اللَّه وسلامه عليه ورآها الكثير من دواوين الإسلام، وامّهات الحديث النبوي، من السنن

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 120

والمعاجم والمسانيد منها:

سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن عمرو الداني، ومسانيد أحمد، وابن يعلي، والبزاز، وصحيح الحاكم؛ ومعاجم الطبراني الكبير والآلوسي والروياني والدارقطني في الأفراد، وأبو نعيم في أخبار المهدي والخطيب في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تاريخ دمشق وغيرها.

وقد خصّ المهدي بالتأليف أبو نعيم في «اخبار المهدي» وابن حجر الهيثمي في القول المختصر في علامات المهدي المنتظر والشوكاني في التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجّال والمسيح، وادريس العرقي المغربي في تأليفه «المهدي» وأبو العبّاس بن عبدالمؤمن المغربي في كتابه «الوهم المكنون في الرد علي ابن خلدون».

وآخر من قرأت له عن المهدي، بحثاً مستفيضاً، مدير الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة في مجلة الجامعة، أكثر من عدد.

وقد نصّ علي أنّ أحاديث المهدي أنها متواترة، جمع من الأعلام قديماً وحديثاً منهم السخاوي في «فتح المغيث». ومحمّد بن أحمد السفاويني في شرح العقيدة وأبو الحسين الابري في «مناقب الشافعي»

وابن تيمية في فتاواه والسيوطي في الحاوي وادريس العراقي المغربي في تأليف له عن المهدي والشوكاني في «توضيح في تواتر ما جاء في المنتظر؛ والدجّال، والمسيح» ومحمّد بن جعفر الكناني في «نظم المتناثر في الحديث المتواتر» وأبو العبّاس بن عبدالمؤمن المغربي في «الوهم المكنون من كلام ابن خلدون» وحاول ابن خلدون في مقدمته

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 121

أن يطعن في أحاديث المهدي، محتجاً بحديث موضوع لا أصل له عند ابن ماجة لا مهدي إلّاعيسي. ولكن ردّ عليه الأئمّة والعلماء؛ وخصّه بالرد شيخنا ابن عبدالمؤمن، بكتاب مطبوع متناول في المشرق والمغرب منذ أكثر من ثلاثين سنة.

ونصّ الحفاظ والمحدّثون علي أنّ أحاديث المهدي فيها الصحيح والحسن ومجموعها متواتر ومقطوع بتواتره وصحته.

وأنّ الاعتقاد بخروج المهدي واجب وأنّه من عقائد أهل السنّة والجماعة ولا ينكر إلّاجاهل بالسنّة ومبتدع في العقيدة.

واللَّه يهدي إلي الحقّ ويهدي إلي السبيل

مدير إدارة المجمع الفقهي الإسلامي

محمّد المنتصر الكناني

ونري من الضروري هنا أن نورد بعض أقوال سائر علماء العامّة بهذا الشأن:

1- قال الشيخ منصور علي ناصف مؤلف كتاب التاج «1»:

«اشتهر بين العلماء- سلفاً وخلفاً- أنّه في آخر الزمان لا بدّ من ظهور رجل من أهل البيت يسمي «المهدي» يستولي علي الممالك الإسلامية ويتبعه المسلمون ويعدل بينهم ويؤيد الدين».

ثمّ قال:

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 122

«وقد روي أحاديث المهدي جماعة من خيار الصحابة وأخرجها أكابر المحدّثين كأبي داود والترمذي وابن ماجة والطبراني وأبي يعلي والبزاز والإمام أحمد والحاكم، رضي اللَّه عنهم أجمعين ولقد أخطأ من ضعَّفَ أحاديث المهدي كلّها كابن خلدون وغيره» «1».

2- ولم يستطع حتّي ابن خلدون المعروف بمخالفته لأحاديث المهدي أن ينكر شهرة أحاديث المهدي بين جميع علماء الإسلام حتّي قال:

المشهور بين جميع المسلمين طيلة العصور

أنّه يظهر آخر الزمان رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويبسط العدل ويتبعه المسلمون «2».

3- قال العالم المصري المعروف محمّد الشبلنجي في كتابه «نور الأبصار»:

«تواترت الأخبار عن النبي صلي الله عليه و آله علي أنّ المهدي من أهل بيته وأنّه يملأ الأرض عدلًا» «3».

4- وذكر الشيخ محمّد الصبان «4» في كتابه «اسعاف الراغبين»:

«إنّ الأخبار المتواترة عن النبي صلي الله عليه و آله أنّ المهدي سيظهر آخر الزمان وأنّه من أهل بيت النبي وسيملأ الأرض قسطاً وعدلًا».

5- وروي ابن حجر في صواعقه المحرقة عن أبي الحسن الأمري:

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 123

«إنّه وردت أخبار متواترة وكثيرة عن النبي صلي الله عليه و آله سيظهر المهدي وهو من أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله … ويملأ الأرض قسطاً وعدلًا» «1».

6- قال صاحب كتاب «التاج» بعد أن أشار إلي كتاب «الشوكاني» أحد مشاهير علماء العامة وقد ألفه بشأن الأحاديث المتواترة في المهدي وخروج الدجّال وعودة المسيح وضمنه شرحاً في تواتر تلك الأحاديث:

«هذا يكفي لمن كان عنده ذرة من الإيمان وقليل من انصاف» «2».

وللوقوف علي المزيد من شرح الأحاديث التي روتها العامة في قيام هذه النهضة العالمية الكبري، راجع كتاب «المهدي» وكتاب «منتخب الأثر في أحوال الإمام الثاني عشر».

تؤدي إلي ضعف المجتمع الإسلامي!

5- تصب هذه الأخبار في صالح الشيعة وعقائدهم!

لانكارها.

وحتّي إن بدا مضمون بعضها خلاف العادة فهو لا يفوق معاجز سالف الأنبياء، والاستبعاد لا يمكنه الحيلولة دون قبولها.

بالاضافة إلي أنّ أحاديث المهدي ليست وحدة متصله بحيث نقبلها جميعاً أو نرفضها جميعاً، بعبارة اخري فإن القدر المسلم من الأحاديث المذكورة، أي قيام شخص من أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله ومن ولد فاطمة عليهم السلام وممارسته للنهضة الاصلاحية العالمية ومل الأرض قسطاً وعدلًا، ليس بالمطلب الذي يشكل عليه عقلياً، بل اثبتنا سابقاً أنّ هذا الموضوع ينسجم مع سلسلة من الأدلة العقلية، واما بعض الأحاديث المتعلقة بعلامات الظهور

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 126

وأمثال ذلك، فإن كانت مستبعدة وليست واضحة من حيث السند ولا يمكن الوثوق بها، فلنا أن نردها، لكن لا علاقة لردّها بسائر الأحاديث.

وخلاصة القول فإننا لا ندري لِمَ أغمض البعض عن تفكيك الأحاديث عن بعضها البعض الآخر ونقد بعضها دون الآخر، فوقع في هذا الخطأ الفاحش!

فهذه الأحاديث تقول إنّ المدنية المادية لا تصلح البشرية، وتبدو حرب فيتنام التي استغرقت 25 سنة انبوبة اختبار عجيبة، يختبر بها جميع المفكرين آرائهم، إلّاأني كعالم دين أقول إنّ هذا دليل علي عجز المدارس المادية، وأنّ كافة الوسائل المادية عناصر تصعِّد حدّة الأزمة إن افتقرت للإيمان، وهذا ما نلمسه في سائر مناطق العالم.

ثالثاً: إن كانت هذه الأحاديث لصالح الشيعة فهل ذنب الشيعة أم الأحاديث؟! وما الذي يمنع من قبول الحقّ كيفما اتضح؟ إلي جانب ذلك فإن الأحاديث المذكورة وإن أيدت رأي الشيعة، لكن ليست هنالك من ملازمة بين قبول هذه الأحاديث وقبول التشيع، فما أكثر من يؤمن بنهضة المهدي لكنهم ليسوا شيعة. علي كلّ حال لا ينبغي لبعض التعصبات المقيتة أن تحول دون ادراك الحقيقة، فهذا الأمر

أشبه بما يقوله المريض المدين لطبيب ويكتب له وصفة طبية تتضمن شفاؤه فلا يلتزم بها، لأنّه إن التزم بها وتماثل للشفاء سيقول الناس أنّ ذلك الطبيب ماهر.

رابعاً: صحيح هناك استغلال لهذه الأحاديث ولكن هل هنالك من حقيقة لم تستغل؟

فهل قلة هم أولئك الذين ادعوا النبوة والألوهية وسائر المقامات المعنوية؟

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 127

وهل الأديان المبتدعة في العالم قليلة؟! فهل ينبغي طرح كلّ هذه الحقائق خشية الاستغلال؟! أم هل ينبغي التنكر للألوهية والنبوّة؟

وهل قليل استغلال مختلف القوي المادية في العالم؟

هل نتجاوزها جميعاً؟ ما هذا المنطق؟!

لقد شهد القرن الثاني عشر ظهور اثني عشر شخصاً كلهم ادّعي أنّه المسيح- وقد استقطبوا عدداً من الأفراد- وهذا ما أثار بعض النزاعات والمعارك التي اودت بحياة الكثير من الناس «1»، فهل يدعونا ذلك إلي انكار المسيح بذريعة استغلال البعض لهذه القضية!

خامساً: كما ذكرنا في بحث الانتظار فإن الاعتقاد بقيام المهدي بالنسبة لأولئك الذين يعيشون الانتظار الحقيقي لا يوجب الخمول والركود فحسب، بل هو أساس الأمل والوقوف بوجه مشاكل الحياة وصعوباتها، علي غرار الإيمان باللَّه وقدرته المطلقة الذي يمنح الإنسان قوة واقتداراً، ويبعده عن الشعور باليأس والاحباط. فانتظار المهدي عنصر قوة وحركة واصلاح.

والحال لم يدرك البعض معني هذا القيام كما ينبغي فنزع نحو الكسل والخمول والتهرب من المسؤولية، وهؤلاء هم المقصرون الحقيقيون كأولئك الذين لم يدركوا الإيمان باللَّه وقدرته المطلقة. وزبدة الكلام إنّه لا يمكن التنكر لواقع قائم لبعض الذرائع الواهية الجوفاء.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 129

الأوصياء.

وقد ذهب بعض الباحثين في الشؤون الإسلامية إلي أنّ الروايات الواردة عن طرق العامة بهذا الشأن بلغت 200 رواية، بينما تجاوزت الالف رواية من طرق الشيعة.

وإن عدّت العامة تلك الروايات في المصلح العالمي من الروايات المتواترة، فهي من «ضروريات المذهب» لدي الشيعة.

ومن هنا كانت مؤلفات علماء الشيعة تفوق نظيرتها من علماء العامة.

ورغم أنّ جلّ اهتمام المؤلفات تركز علي جمع الروايات دون التحليل سوي في بعض الموارد، إلّاأنّ جهوداً عظيمة بذلت لجمع تلك الروايات. ولعله يمكن الاشارة في هذا الخصوص إلي ثلاثة كتب- أُلفت بالاسلوب المذكور- تعتبر أكثر شمولية من غيرها والتي أُلفت من بعض العلماء المعاصرين وهي:

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 130

1- كتاب «المهدي» للفقيه الجليل سيّد صدر الدين الصدر.

2- كتاب «البرهان علي وجود صاحب الزمان» للعالم المجاهد المرحوم السيّد محسن الأمين.

3- كتاب «منتخب الأثر في أحوال الإمام الثاني عشر» للعالم الفاضل «لطف اللَّه الصافي» بتوجيه وتشجيع المرحوم آية اللَّه البروجردي. والذي لخص باللغة الفارسية تحت عنوان «البشارة بالأمن والأمان».

ومصادر هذه الكتب، العديد من مؤلفات قدماء علماء الفريقين والتي أُلفت بصورة مستقلة أو علي سبيل الاشارة لهذا الموضوع. وحيث لا يسع الكتاب نقل جميع الروايات الواردة بهذا الشأن، فاننا نكتفي بمقتظفات من الكتاب الأخير علي أن نشير في الفصول القادمة إلي بعض الأخبار والروايات بما يتعلق بالبحث:

1- تضمن الفصل الأوّل اشارة إلي بعض الأحاديث التي وردت بشأن الخلفاء وأوصياء النبي صلي الله عليه و آله الاثني عشر، وقد أحصت 271 حديثاً من المصادر المعروفة للفريقين والتي عبرت عنه بمختلف العبارات مثل «الإمام» و «الخليفة» و «الأمير» وما شابه ذلك. وقد جاءت هذه الأحاديث في أهم مصادر العامّة ومصادر أهل البيت عليهم السلام.

ولاتري الشيعة أية صعوبة

في توجيه هذه الأحاديث. إلّاأنّ العامّة عانوا الأمرين في توجيهها، فلا يسعهم من جانبٍ انكارها لأنّها وردت في مصادرهم المعتبرة، ومن جانبٍ آخر لم ينسجموا مع عقيدة الشيعة بشأن «الأئمّة الاثني عشر»؛ فقد ذهبوا أحياناً إلي أنّ الأصل هم الخلفاء الأربعة، ثمّ أضافوا لهم ثمانية خلفاء.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 131

والحال لو أرادوا حساب الخلفاء الذين وصفهم النبي صلي الله عليه و آله بالامراء والأئمّة الحقّ وإن اغمضوا، فإنّه يتعذر عليهم ذكر بعض الأفراد ضمن الأئمّة، كيزيد بن معاوية وسائر الحكّام من بني أمية، ولو أردنا حشر بعض الأفراد الأكثر اعتدالًا، وبالنظر إلي وحدة أهداف وخطط بني أمية وبني العباس فإنّه ليست هناك من ضابطة، ناهيك عن المشكلة التي يفرزها التقطيع لهذه السلسلة الاثني عشرية من حيث الزمان.

فزعموا أنّ الاثني عشر هم الخلفاء الراشدون وثمانية ممّن سيأتون لاحقاً وآخرهم المهدي! وعلي هذا الضوء فإن فاصلة كبيرة تتخلل سلسلة خلفاء النبي صلي الله عليه و آله وهذا ما لا ينسجم قط مع الروايات المذكورة.

2- وردت في الفصل الثاني الروايات التي تشير إلي أنّ عدد الأئمّة بعد النبي صلي الله عليه و آله كعدد نقباء بني إسرائيل الذين احصاهم القرآن 12 نقيباً، وقد تضمن 40 رواية من كتب الفريقين والتي تكمل البحث السابق.

3- الفصل الثالث الذي اشتمل علي الروايات التي تصرّح بأنهم 12 إماماً أولهم علي عليه السلام وقد بلغت هذه الروايات 133 رواية.

4- تضمن الفصل الرابع روايات عن مصادر الفريقين صرّحت بأن أوّل الخلفاء علي عليه السلام وآخرهم المهدي عليه السلام. وبلغت روايات هذا الفصل 91 رواية.

5- وردت في الفصل السابق الاشارة إلي الأحاديث التي صرّحت بأن عدد الأئمّة 12 وتسعة منهم من ولد الحسين بن

علي عليهما السلام. وقد تضمن الفصل 139 رواية.

6- بالاضافة إلي ما ورد في الفصل السابق من أنّ عدد الأئمّة 12 وتسعة

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 132

منهم من ولد الحسين بن علي عليهما السلام فقد ورد قيد آخر هو «تاسعهم قائمهم» وتضمن هذا الفصل 107 رواية.

7- تضمن هذا الفصل الأحاديث التي اشارت إلي أسمائهم، وبعض هذه الأحاديث من طرق العامّة، إلّاأنّ أكثريتها من مصادر الشيعة، وقد اشتمل هذا الفصل علي 50 رواية.

إلي جانب الروايات المستفيضة في الخصائص الجسمية والروحية للمهدي وعلامات الظهور وكيفية نهضته وحكومته العالمية وسائر القضايا المتعلقة بهذا القيام العظيم. ويتضح من هذه الأحاديث أنّ المصلح العالمي العظيم، المهدي الموعود يمتاز بالخصائص التالية:

أ) إنّه من أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله وولده.

ب) إنّه من ولد الإمام الحسين عليه السلام.

ج) الإمام الثاني عشر من الأئمّة بعد النبي.

د) هو ابن الحسن بن علي العسكري.

ه) صاحب الحكومة العالمية.

و) يتحرر المستضعفون في عصره من قيود واغلال الاسر، وتنتهي الحروب ويحل محلها الأمن والسلام والبناء.

وكما ذكرنا فإن عدد هذه الروايات من الكثرة بحيث تتطلب بمفردها كتاباً مستقلًا، وحيث أُلفت عدة كتب بهذا الشأن أشرنا سابقاً إلي بعضها، فاننا نتحفظ عن الخوض في هذه الروايات، ونقتصر علي بعض الاشارات في

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 133

الأبحاث القادمة لإكمال الأبحاث السابقة.

والمشكلة في هذه المباحث أنها غالباً ما تقتصر علي نقل الروايات دون أدني تحليل أو مناقشة، وهدفنا في هذا الكتاب هو الغوص بصورة أعمق في الأدلة العقلية، والوقوف عند الأدلّة النقلية والروايات وتسليط الضوء عليها.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 135

في انطلاقة هذه النهضة؟

إن كان هذا الأمر ممكناً، فما هي الوسائل التي من شأنها التسريع في الزمان؟

لابدّ من القول إنّ الاجابة عن أكثر هذه الأسئلة بالايجاب.

لأنّ أيّة عاصفة عظيمة لا تنطلق دون مقدّمة، ولا تحدث نهضة في مجتمع بشري دون علامات مسبقة.

فقد وردت أشارات في الأحاديث الإسلامية إلي سلسلة من العلامات التي تشير إلي قرب وقوع تلك النهضة الشاملة والتي يمكن تقسيمها إلي قسمين:

الطائفة الاولي: العلامات التي يمكن التكهن بها حسب خصائص كلّ نهضة.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 138

الطائفة الثانية: الجزئيات والتفاصيل التي يمكن ادراكها من خلال المعلومات الاعتيادية، وتنطوي في الغالب علي تكهنات اعجازية.

ونشير هنا إلي «ثلاث علامات مهمّة» من الطائفتين:

139

تحت عنوان «كما ملئت ظلماً وجوراً».

ذكرت عين هذه العبارات في أغلب الأحاديث التي روتها مصادر الفريقين.

ويستفاد من مجموعها أنّ أوضح علامات النهضة هي هذا الموضوع.

وهنا يرد هذا السؤال: هل يختلف «الظلم» عن «الجور» حيث تكرر هذان العنوانان كثيراً؟

يستفاد من جذور هاتين المفردتين أنّ التجاوز علي حقوق الآخرين علي نوعين ورد كلّ منهما مستقلًا في الآداب العربية.

الأوّل: إنّ يهضم الإنسان لنفسه حقّاً آخر ويغتصب عناء الآخرين وهذا ما يسمي بالظلم.

والآخر: أن يسلب الأفراد حقوقهم ويعطيها لآخرين، ويسلط أنصاره علي أموال الآخرين أو أنفسهم أو اعراضهم ويميز بينهم لترسيخ دعائم حكومته، وهذا ما يصطلح عليه بالجور. والذي يقابل «الظلم» هو «القسط» ويقابل «الجور» «العدل» «1».

علي كلّ حال فحين يعمّ «التجاوز» بحقوق الآخرين المجتمع البشري من جانب و «التمييز العنصري» من جانب آخر، فإنّه يظهر ويطيح بكلّ ذلك.

ما ذكر سابقاً، كليات بشأن سعة الفساد كعامل في كلّ نهضة.

والجدير ذكره أنّ الروايات الإسلامية قد أشارت إلي هذه العلامات

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 140

والمفاسد وكأنّ هذه التكهنات ليست مرتبطة بالقرون الأربعة عشر الماضية، بل كأنّها وردت في هذا القرن أو قبل بضع سنوات وقد نلمس اليوم أغلبها وهذا من المعاجز.

ومن ذلك رواية الإمام الصادق عليه السلام التي أشارت إلي عشرات الأنواع من هذه المفاسد ولبعضها جوانب اجتماعية وسياسية واخري أخلاقية، تدعو مطالعتها إلي تأمل الإنسان واستغراقه في التفكير. وإليك جانب من متن هذه الرواية:

قال الصادق عليه السلام لبعض أصحابه:

«1- إذا رأيت الجور قد شمل البلاد.

2- إذا رأيت القرآن قد خلق واحدث ما ليس فيه ووجه علي الأهواء.

3- إذا رأيت الدين قد انكفأ كما ينكفي الإناء.

4- إذا رأيت أهل الباطل قد استعلوا علي الحقّ.

5- إذا رأيت الرجال قد اكتفوا بالرجال والنساء

بالنساء!

6- إذا رأيت المؤمن صامتاً.

7- إذا رأيت الصغير يستحقر الكبير.

8- إذا رأيت الاحارم قد تقطعت.

9- إذا رأيت الثناء قد كثر.

10- إذا رأيت الخمور تشرب علانية.

11- إذا رأيت سبيل الخير منقطعاً وسبيل الشر مسلوكاً.

12- إذا رأيت الحلال يحرَّم والحرام يحلَّل.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 141

13- إذا رأيت الدين بالرأي.

14- إذا رأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلّابقلبه.

15- ورأيت العظيم من المال ينفق في سخط اللَّه.

16- ورأيت الولاة يرتشون في الحكم!

17- ورأيت الولاية قبالة لمن زاد!

18- ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور!

19- ورأيت القمار قد ظهر.

20- ورأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها لا يمنع أحد أحداً، ولا يجترء أحد علي منعها.

21- ورأيت القرآن قد ثقل علي الناس استماعه وخف علي الناس استماع الباطل.

22- ورأيت الجار يكرم الجار خوفاً من لسانه!

23- ورأيت المساجد قد زخرفت!

24- ورأيت طلب الحجّ لغير اللَّه.

25- ورأيت قلوب الناس قد قست!

26- ورأيت الناس مع من غلب!

27- ورأيت طالب الحلال يذم وطالب الحرام يمدح!

28- ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين.

29- ورأيت الرجل يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، فيقوم إليه من ينصحه فيقول هذا عنك موضوع!

30- ورأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف اللَّه!

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 142

31- ورأيت الناس همهم في بطونهم وفروجهم!

32- ورأيت الدنيا مقبلة إليهم.

33- ورأيت النساء يبذلن أنفسهن لأهل الكفر.

34- ورأيت اعلام الحقّ قد درست.

35- ورأيت الحرب قد أديل من العمران!

36- ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان.

37- ورأيت الرجل عنده المال الكثير لم يزكِّهِ منذ ملكه.

38- ورأيت الرجل يمسي نشواناً ويصبح سكراناً.

39- ورأيت الناس ينظر بعضهم إلي بعض ويقتدون بأهل الشرور!

40- ورأيت كلّ عام يحدث فيه من الشر والبدعة أكثر ممّا كان!

41- ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلّاالأغنياء.

42- ورأيتهم يتسافدون

كما تتسافد البهائم!

43- ورأيت الرجل ينفق الكثير في غير طاعة اللَّه، ويمنع اليسير في طاعة اللَّه.

44- ورأيت الرجل إذا مرّ به يوم لم يكسب فيه الذنب العظيم …

حزيناً!

45- ورأيت النساء قد غلبن علي الملك وغلبن علي كل أمر.

46- ورأيت رياح المنافقين دائمة، ورياح أهل الحقّ لا تتحرّك.

47- ورأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر اللَّه.

48- ورأيت المنابر يؤمر عليها بالتقوي، ولا يعمل القائل بما

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 143

يأمر!

49- ورأيت الصلاة قد استخف بأوقاتها.

50- ورأيت الصدقة بالشفاعة لا يراد بها وجه اللَّه …

فكن علي حذر واطلب إلي اللَّه النجاة» «1».

كما ذكرنا فما أوردناه خلاصة من حديث كإشارة لبعض المفاسد التي تسبق النهضة العالمية الكبري.

ويمكن تقسيم هذه المفاسد إلي ثلاثة أقسام:

1- المفاسد المتعلقة بقضايا الحقوق والحكومات مثل اتساع الظلم وغلبة حماة الباطل وانعدام حرية البيان والعمل حتّي لا يستطيع المؤمنون انكار الظلم والظلمة سوي بقلوبهم، إلي جانب صرف الأموال العظيمة في المصارف العبثية أو الضارة والهدامة واتساع الرشوة والمزايدة علي المناصب ونزوع الناس الضعفاء والذين يفتقرون إلي الثقافة الصحيحة نحو أصحاب القدرة والغلبة (مهما كان ذلك الشخص) وكذلك انفاق الأموال في الحروب وسباق التسلح والاهتمام بها أكثر من العمران والبناء (حتّي تكون ميزانية الحرب أكثر من ميزانية البناء).

كما يبتدع كلّ عام سبيل جديد للفساد والظلم والاستعمار، وقل من يشعر بالمسؤولية تجاه المشاكل الاجتماعية حتّي ليوصي بعضهم البعض بالصمت إزاء الأحداث.

2- المفاسد المرتبطة بالقضايا الأخلاقية من قبيل: اتساع التملق والمجاملة وانهماك الرجال بالأفعال الوضيعة (كالارتزاق عن طريق

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 144

المتاجرة بالزوجة!) إلي جانب اتساع الشراب والقمار وأنواع الملاهي المحظورة والقول دون العمل والاستغراق في الظاهر واحترام الأفراد علي أساس الغني والثراء.

3- المفاسد ذات الصلة بالامور الدينية

من قبيل تحميل الأهواء علي القرآن وتفسيره بالرأي والتعصب الشخصي في القضايا الدينية وتجمهر العصاة في المساجد، والاهتمام بظاهر المساجد دون باطنها ومحتواها وبالتالي الاستخفاف بالصلاة وما شابه ذلك.

ولو تأملنا قليلًا لرأينا أنّ أغلب هذه المفاسد تسود المجتمعات الراهنة ويتوقع حدوث ما تبقّي منها، وعليه فما الذي ينبغي علينا اعداده لقيام تلك النهضة العظيمة؟

الجواب ما ذكرناه سابقاً وهو أننا نفتقر إلي الوعي المطلوب، بعبارة اخري رد الفعل البناء والثوري إزاء هذه المفاسد.

علي كلّ حال فإنّ ظهور هذه العلامات لوحدها ليست شرطاً في تحقق تلك النهضة الشاملة؛ بل هي مقدمة لليقظة الفكرية وأسواط لايقاظ الأرواح الغافلة وأرضية لخلق الاستعداد الاجتماعي والنفسي. والعالم مطالب شاء أم أبي بتحليل جذور هذه الاختلالات بالاضافة إلي نتائجها وعواقبها، وهذا ما يؤدي إلي وعي ذاتي عام يوقنُ الناس من خلاله باستحالة مواصلة الوضع السائد ولابدّ من النهضة؛ النهضة علي جميع الأصعدة لإرساء قواعد النظام الإلهي العادل الحقّ.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 145

جدير بالذكر أنّه ليس من الضروري ظهور هذه المفاسد في كافة أنحاء العالم؛ ويتعذر حصول هذا الشرط لو كان هناك بقعة طاهرة، بل المعيار القضية النوعية للناس سواء كانت في الشرق أو الغرب. وبعبارة اخري فإن هذا الحكم كسائر أكثر الأحكام علي أساس الاسلوب الغالب.

الطرق والوسائل لاستقطاب الآخرين ويظهرون كحجر عثرة أمام النهضة البناءة.

جاء في الحديث الصحيح الذي أورده الترمذي أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال:

«إنّه لم يكن نبي بعد نوح إلّاانذر قومه الدجّال وأنا أُنذركموه» «2».

قطعاً كان الأنبياء السابقون يحذرون قومهم من فتنة الدجّال الذي يظهر

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 146

في آخر الزمان ويبتعد عنهم مدّة آلاف السنين. خاصة أنّه ورد آخر الحديث

«فوصفه لنا رسول اللَّه فقال لعلّه سيدركه بعض من رآني أو سمع كلامي».

الاحتمال الراجح أنّ ذيل الحديث إشارة إلي الطواغيت الماكرين كبني أمية وبعض الأفراد مثل معاوية الذي استغل بعض الامور من قبيل «خال المؤمنين» و «كاتب الوحي» إلي جانب سائر المكر والخداع واخراج الناس من الصراط المستقيم إلي السنن والعادات الجاهلية واشاعة الطبقية والحكومة الاستبدادية وتسليط الطالحين والمتملقين علي الناس واقصاء الفضلاء والصالحين.

وكما ورد عنه صلي الله عليه و آله في الدجّال أنّه قال:

«ما من نبي إلّاوقد انذر قومه ولكن سأقول فيه قولًا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنّه أعور … ».

وتركيز الأحاديث علي زمان نوح عليه السلام يمكن أن يكون إشارة إلي أبعد زمان، أو عدم وجود نموذج الدجّال في الأزمنة التي سبقت نوح، وذلك لأنّ الشريعة الاولي إنّما أتي بها نوح، أو لعدم نفوذ الحيلة والخداع في المجتمعات البشرية السابقة.

علي كلّ حال هناك تفسير لصفة العين الواحدة للدجّال والتي سنتناولها لاحقاً.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 147

جدير ذكره أنّ بعض الأحاديث «1» صرحت بظهور الدجّال قبل المهدي بثلاثين سنة! كما أشارت الأناجيل إلي ظهور الدجّال.

فقد جاء في الرسالة الثانية ليوحنا:

«سمعتم بظهور الدجّال فقد ظهر الآن الكثير من الدجّالين». «2»

فالعبارة تؤكد تعدد الدجّالين.

وجاء في الحديث:

«قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله

لا تقوم الساعة حتّي يخرج نحو من ستين كذّاباً كلّهم يقول أنا نبي» «3».

ورغم أنّ عنوان الدجّال لم يرد في هذه الرواية، ولكن يفهم منها اجمالًا أنّ المدعين الكاذبين والمخادعين في آخر الزمان لا يقتصرون علي شخص أو بضعة أشخاص.

علي كلّ حال ما لا يمكن الترديد فيه أنّ انطلاقة أية نهضة وفي أي مجتمع تشهد وجود بعض الأفراد الذين يمارسون الحيلة والمكر والخداع علي ضوء الابقاء علي الأنظمة الفاسدة وديمومة الأوضاع القائمة واستغلال أوضاع الناس الفكرية والاجتماعية وتوظيفها لصالحهم، وأبعد

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 148

من ذلك أنّهم ربّما يطلقون الشعارات الثورية، وهذه إحدي العقبات التي تشكل أعظم موانع الاصلاح والنهضة الأصيلة.

فهؤلاء بعض الدجّالين الذين حذر الرسل منهم أممهم ونبهوهم إلي خطورة خططهم الجهنمية.

غاية الأمر أنّه قبيل ظهور المهدي وتلك النهضة العظيمة والشاملة الحقّة، فإنّ الأرضية الفكرية والنفسية والاجتماعية كلما كانت أكثر اعداداً علي النطاق العالمي، تتضاعف انشطة هؤلاء الدجّالين فيأخذون بالظهور الواحد تلو الآخر؛ ليعرقلوا تطور المجالات الثورية ويعتمدوا آلاف الحيل بغية حرف الأفكار العامّة.

طبعاً لا ضير أن يكون هنالك دجّال كبير علي رأس الجميع. أمّا العلامات التي ذكرتها بشأنه بعض الروايات فلا تعدو الكتابة والرمز؛ مثلًا، يستفاد من الرواية الواردة في بحار الأنوار عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّ الدجّال يتصف ببعض الصفات مثل:

1- إنّ له عيناً واحدة وسط جبهته تضي ء كالنجم! إلّاأنها عين دموية كأنها قطعة من الدم!

2- له دابة سريعة بيضاء خطوتها ميل وتطوي الأرض بسرعة!

3- إنّه يدعي الألوهية ويسمع صوته كلّ من في العالم!

4- إنّه يغوص في البحار وتنطلق معه الشمس، بين يديه جبل من الدخان وخلفه جبل أبيض يراه الناس طعاماً.

5- يظهر حين يعيش الناس القحط و … «1».

لا شك

أننا لسنا مخولين أن نضفي الرمزية علي كلّ مفهوم من المفاهيم الدينية الواردة في القرآن أو مصادر الحديث، ذلك أنّ هذا الأمر من قبيل

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 149

التفسير بالرأي الذي نهي الإسلام عنه، والذي يرفضه أيضاً العقل والمنطق، مع ذلك ليس من الصواب الجمود علي المفهوم الابتدائي للألفاظ مع وجود بعض القرائن العقلية أو النقلية الواردة بهذا الخصوص والذي يوجب الابتعاد عن المفهوم الأصلي للكلام.

ويبدو أنّ مثل هذه المفاهيم بشأن حوادث آخر الزمان ليست بدعاً من المفاهيم الكنائية، ومن ذلك ما ورد من خبر أنّ «الشمس تطلع من المغرب» «1».

وهذا من أعقد الامور المرتبطة بهذه القضية والذي لا ينسجم ظاهراً مع العلم الحديث؛ ذلك لأن طلوع الشمس من المغرب يعني تغيير مسيرة حركة الأرض، فلو حصل هذا الأمر فجأة، لقذف بمياه البحار وكلّ ما علي سطح الكرة الأرضية خارجاً ولاضطرب كلّ شي ء، ولا يبقي شي ء من الحياة، وإن حصل بالتدريج فإنّ طول الليل والنهار يزيد حتّي يتجاوز الشهر والشهرين ويؤدي أيضاً إلي اضطراب الكائنات علي سطح الكرة الأرضية!

لكن هنالك تفسيراً رائعاً في ذيل الحديث الوارد بشأن الدجّال يفيد كنائية هذه العبارة. فراوي الحديث هو «نزال بن سبرة» سأل «صعصعة بن صوحان» أنّ أميرالمؤمنين علياً عليه السلام قال في آخر كلامه عن الدجّال «لا تسألوا عن الحوادث التي تقع بعد ذلك … » فما كان مراده؟

قال صعصعة:

«إنّ الذي يصلي خلفه عيسي بن مريم هو الثاني عشر من العترة التاسع

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 150

من ولد الحسين بن علي، وهو الشمس الطالعة من مغربها» «1».

وعليه فليس هنالك ما يدعو إلي الدهشة في أنّ للدجّال الذي ورد بالصفات المذكورة بعداً كنائياً. والسؤال هو كيف تفسير ذلك؟

والجواب: لا

يبعد أن يكون الدجّال بالصفات المذكورة اشارة إلي قادة المدارس المادية في العالم، للأسباب التالية:

1- لهؤلاء عين واحدة هي العين الاقتصادية والحياة المادية؛ فهم لا يرون سوي بعداً واحداً هو المنافع المادية؛ ويعتمدون مختلف الحيل والألاعيب والسياسات الاستعمارية بغية تحقيق أهدافهم، فهم دجّالون ومخادعون فقدوا أعينهم المعنوية والإنسانية.

إلّا أنّ هذه العين المادية حادة جدّاً تحقق تطورات باهرة في المجالات الصناعية حتّي تفوقوا علي كلّ من سواهم.

2- لديهم الوسائل النقلية الغاية في السرعة والتي تطوي الأرض في مدّة قياسية بسرعة ربّما تفوق سرعة الصوت!

3- إنّهم يدعون الألوهية عملياً ويسيطرون علي كافة المقدرات ورغم ضعفهم وعجزهم إلّاأنّهم يغزون الفضاء ويصعدون إلي القمر، مع العلم أنّ هزة أرضية بسيطة أو اصابة إحدي خلايا أجسامهم بالسرطان كافية للقضاء عليهم، ورغم كلّ ذلك وعلي غرار فرعون يدعون الألوهية والربوبية.

4- يغوصون في مياه البحار بغواصاتهم المتطورة وينطلقون بوسائلهم السريعة بمسيرة الشمس (وأحياناً يتقدمون علي مسارها). بين يديهم

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 151

معامل ضخمة يخرج منها الدخان وخلفهم جبال من المنتجات الصناعية والمعادن الغذائية (تراها الناس مواد غذائية وأطعمة سالمة، والحال ليس لها قيمة غذائية وغالباً ما تكون أطعمة غير سالمة).

5- يصاب الناس بقحط وشحة في المواد الغذائية- لبعض الأسباب من قبيل الاستغلال والاستعمار والتمييز العنصري وهدر الثروات الضخمة علي الأسلحة ونشوب الحروب وما تؤدي إليه من دمار شامل واضرار مادية جسيمة تنعكس سلباً علي حياة الناس- حتّي يموت البعض جوعاً، والدجّال بصفته العنصر الأصلي في هذه الاضطرابات يستغل هذه الأوضاع فيسارع إلي اغاثة المحرومين والضعفاء بغية ترسيخ دعائمه الاستعمارية.

كما ورد في بعض الروايات أنّ كلّ قطعة من وسيلة الدجّال تتضمن نغمة خاصة وجديدة، وهو الأمر الذي ينطبق علي كلّ هذه الوسائل

المعتمدة في اللهو واللعب والتي نشاهدها في البيوت والحدائق العامة وشواطئ البحار.

والمهم في الأمر هو عدم انخداع العناصر الثورية، أي جنود المصلح العظيم المهدي الموعود بتلك المظاهر المزيفة وعدم الغفلة عن استغلال أية فرصة بغية الاندفاع بكلّ حزم وممارسة النهضة الاصلاحية في اشاعة العدل والحقّ.

طبعاً ما ذكرناه تفسير احتمالي للدجّال علي أساس بعض القرائن المؤيدة، إلّاأنّ قبوله أو عدم قبوله لا يضر بأصل الموضوع، في أنّ لصفات الدجّال بُعداً كنائياً، وهو ليس بإنسان يمتاز بهذه الصفات.

التعرف علي كافة العناصر المناوئة والمناصرة للمشروع العالمي بغية تحقق

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 153

المفهوم الصحيح للانتظار.

يمتاز أبو سفيان زعيم السلسلة السفيانية ببعض الصفات مثل:

1- الثراء الفاحش الذي ناله من خلال غصب حقوق الآخرين والمعاملات الربوية المحرمة.

2- القدرة والقوة التي حصل عليها بواسطة الطرق الشيطانية فتزعم الأحزاب الجاهلية في مكّة ونواحيها، وكانت خلاصة شخصيته في هذين الأمرين.

وكانت له حكومة في مكّة قبل انبثاق الدعوة، إلّاأنّ هذه الحكومة تهددت بالزوال بعد ظهور الإسلام، ذلك لأن الإسلام إنما يعادي هؤلاء الأفراد الذين يتمتعون بالقدرات الشيطانية، ومن هنا فقد كان أبو سفيان عدواً لدوداً للإسلام.

3- كان أبو سفيان مظهر النظام الطبقي الظالم في المجتمع المكّي، ولذلك بذل كلّ دعمه واسناده للوثنية وعبادة الأصنام؛ فالأصنام أفضل وسيلة لإثارة النفاق وتخدير الآخرين، وبالنتيجة التسلط عليهم وفرض السيطرة.

وسر معارضته للإسلام- كما قلنا- أنّ الإسلام زعزع أركان سلطته وكشف النقاب عن شخصيته المريضة، ومن هنا فلم يألو جهداً من أجل القضاء علي الدعوة الإسلامية. لكن انتهي الأمر إلي تحطيم كافة معاقل قوته ليعيش التقوقع والانزواء وإلي الأبد، رغم بعض تحركاته السرية المشبوهة.

وقد نقل كلّ هذه الصفات- من خلال التربية والوراثة- إلي ولده معاوية ومن ثمّ حفيده يزيد، فتابعا خطط أبي سفيان- بصورة اخري- وإن فشلا في تحقيق أهدافهما.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 154

كان أبو سفيان رجلًا رجعياً بمعني الكلمة شعر بالهلع من الدعوة الإسلامية، ذلك لأن الإسلام تضمن المشاريع الاصلاحية الشاملة التي غيّرت كافة الأوضاع الفاسدة في ذلك المجتمع المتخلف، وهو التغيير الذي يطيح بهذه الرموز الفاسدة كأبي سفيان وأمثاله.

ومن هنا ندرك سبب سعي ولده واسلافه للقضاء علي الإسلام واعادة الامّة إلي العصر الجاهلي، وإن لم يكتب لهم النجاح؛ مع ذلك فقد

سددوا ضربات موجعة حالت دون تطور المسلمين وانتشار الإسلام.

ولا نريد الابتعاد عن أصل الموضوع فقد طالعتنا الأحاديث السابقة أنّ ظهور أبي سفيان بهذه الصفات لم يكن من خصائص النهضة الإسلامية، فازاء كلّ قائم ومصلح هناك أبو سفيان بتلك الخصائص من قبيل الثراء والقدرة والظلم والرجعية واشاعة الخرافات، والذي يسعي إلي القضاء علي جهود المصلح وخططه الاصلاحية، أو علي الأقل الحيلولة دون انتشار الاصلاح.

وسيكون هنالك سفياني أو أكثر يقف بوجه المصلح العالمي العظيم «المهدي» والذي يسعي بكلّ ما اوتي من قوة لعرقلة المسيرة الاصلاحية للمهدي والحيلولة دون فناء الأنظمة الطبقية الظالمة التي تسعي لاستغلال الامّة ونهب ثرواتها وخيراتها.

ولعلّ الفارق الرئيسي بين السفياني والدجّال أنّ الدجّال يعتمد الزيف والخداع والحيلة في ممارساته الشيطانية، بينما يعتمد السفياني علي قدراته الجهنمية الهدامة في أفعاله، حيث ورد في بعض الأخبار أنّه يستولي علي

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 155

المناطق العامرة في الأرض «1».

والذي ندرك نظيره في حكومة أبي سفيان ومعاوية ويزيد كما يفيد التاريخ.

نعم، ليس هنالك ما يمنع أن يكون السفياني الذي يقف آخر الزمان بوجه المصلح العالمي الكبير «المهدي» من ولد أبي سفيان واحفاده الذين ينتمون إليه كما ورد في بعض الأخبار.

لكن الأهم من مسألة النسب أنّ مشاريعه وصفاته وخصائصه وجهوده ومساعيه كنظيرتها لدي أبي سفيان. وستكون عاقبة هذا السفياني كسائر من سبقه، الركوع أمام حركة المهدي العالمية والاستسلام لها وتذهب كلّ جهوده ومساعيه أدراج الرياح.

والأهم من كلّ ذلك أن يتعرف الناس علي نماذج «الدجّال» و «السفياني». وينطوي هؤلاء السفيانيون- بغض النظر عن العلامات المذكورة- علي صفة اخري واضح نموذجها في التاريخ الإسلامي وهي:

أنّهم يقصون الصلحاء من مسرح الحياة ويستعيضون ببعض الأفراد الطالحين والمنحرفين، يتقاسمون بيت المال- كما ورد في

حكومة اسلاف أبي سفيان- مع بطاناتهم وذويهم، ويعتمدون التمييز بين الناس وهضم حقوقهم، وهكذا يمكن من خلال هذه الصفات التعرف عليهم.

فالدجّالون يشكلون الصفوف المشبوهة في الجبهة المناهضة للنهضة،

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 156

اما السفيانيون فيمثلون الصفوف المضادة للنهضة علانية، ولكليهما في الواقع موقف واحد، وبالطبع ليس هنالك من ضمانة لتقدم هذه النهضة وديمومتها دون القضاء علي هذه الجبهة.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 157

فإذا مضي جعفر فابنه موسي؛ فإذا مضي موسي فابنه علي؛ فإذا مضي علي فابنه محمّد؛ فإذا مضي محمّد فابنه علي؛ فإذا مضي علي فابنه الحسن؛ فإذا مضي الحسن فابنه الحجّة محمّد المهدي فهؤلاء اثنا عشر … ».

ثمّ سأله عن كيفية وفاتهم فأجابه صلي الله عليه و آله ثمّ قال:

«وأنّ الثاني عشر من ولدي يغيب حتّي لا يري، ويأتي علي امّتي بزمن

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 162

لا يبقي من الإسلام إلّااسمه، ولا يبقي من القرآن إلّارسمه فحينئذٍ يأذن اللَّه تبارك وتعالي له بالخروج فيظهر اللَّه الإسلام به ويجدده … ».

فلما اعتنق اليهودي الإسلام أنشد شعراً أشار فيه إلي أوصياء النبي صلي الله عليه و آله حتّي قال:

«آخرهم يسقي الظماء وهو الإمام المنتظر» «1».

2- كما ورد في هذا الكتاب عن «عامر بن وائلة» آخر من مات من صحب النبي صلي الله عليه و آله نقلًا عن علي عليه السلام أنّ النبي الأكرم صلي الله عليه و آله قال:

«يا علي أنت وصيي، حربك حربي، وسلمك سلمي، وأنت الإمام وأبو الأئمّة أحد عشر الذين هم المطهرون المعصومون ومنهم المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلًا» «2».

أمّا عن طرق أهل البيت فقد وردت عدة روايات في المهدي عليه السلام وأنّه الحادي عشر من ولد علي عليه السلام والتاسع من ولد الإمام الحسين وابن الإمام الحسن العسكري، لا يسعنا ذكرها جميعاً في هذا الكتاب الذي راعينا فيه الاختصار، وعليه نشير إليها باختصار ومن أراد المزيد فليراجع كتاب «منتخب الأثر في أحوال الإمام الثاني عشر».

فقد تضمن هذا الكتاب روايات بشأن والد وأجداد المهدي، ورد أغلبها عن طريق أهل البيت ومنها:

91 رواية في أنّ الأئمّة 12 أولهم علي عليه السلام وآخرهم المهدي عليه السلام.

94

رواية أنّ آخر الأئمّة المهدي عليه السلام.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 163

107 رواية أنّ الأئمّة 12 تسعة منهم من ولد الحسين عليه السلام وتاسعهم قائمهم.

50 رواية في أسماء الأئمّة الاثني عشر وأنّ آخرهم المهدي. وهكذا يمتاز أتباع هذه المدرسة وعلي أساس المدارك المذكورة بتشخيصهم للمهدي عليه السلام بجميع خصائصه.

جدير بالذكر هنالك العديد من الأحاديث في مصادر العامة الروائية المعتبرة والمشهورة في أنّ الأئمّة اثنا عشر (بشكل كلي وعام) وكما أشرنا سابقاً فإنّه يتعذر التفسير المنطقي لهذه الروايات سوي من خلال الاقرار بنظرية الشيعة.

وقد عبرت بعض الأحاديث كحديث «صحيح البخاري» و «صحيح الترمذي» عن الأئمّة باثني عشر أميراً «1»، واثني عشر خليفة «2» وفي «صحيح مسلم» وفي صحيح أبي داود كذلك اثني عشر خليفة «3»، ووردت في مسند أحمد بعشرات الطرق اثني عشر خليفة.

فهل يمكن انكار كلّ هذه الأحاديث في المصادر المعتبرة؟!

فهل يكتمل هذا العدد من خلال اضافة خلفاء بني امية كمعاوية ويزيد وعبدالملك، أم بني العباس كهارون والمأمون والمتوكل إلي الخلفاء

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 164

الأربعة؟!

والسؤال هو من هم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر الذين سماهم النبي الأكرم صلي الله عليه و آله ومدحهم؟ لابدّ من جواب منطقي- من قبل غير أتباع مدرسة أهل البيت الذين يؤمنون بالأئمّة الاثني عشر- حيث يتعذر اعتبار خلفاء بني أمية والعباس الذين حرفوا الحكومة الإسلامية عن مسارها الصحيح وارتكبوا مختلف الجرائم والجنايات للقضاء علي الإسلام وتشويه مفاهيمه الحقّة، هم أوصياء النبي صلي الله عليه و آله.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 165

يعني مضي أكثر من ألف سنة علي عمره، والحال ليست مشاهداتنا اليومية تدلنا علي مثل هذا العمر لبعض الأفراد، ولا يقر ذلك، العلم المعاصر، كما لم يتضمن التاريخ نموذجاً لذلك.

تعتقد بوجود عمر طبيعي في الموجودات الحية مثلًا:

بافلوف: يعتقد أنّ العمر الطبيعي للإنسان 100 سنة.

مجينكوف: يعتقد أنّ العمر الطبيعي للإنسان 150- 160 سنة.

كوفلاند: الطبيب الالماني الذي يعتقد أنّ متوسط عمر الإنسان 200 سنة.

فلوغر: الفيزيائي المشهور الذي يعتقد أنّ متوسط عمر الإنسان 600 سنة.

وأخيراً الفيلسوف والعالم الانجليزي بيكن الذي يعتقد أنّ عمر الإنسان 1000 سنة.

إلّا أنّ هذه الفكرة مرفوضة اليوم من قبل علماء الفسلجة حيث ابطلوا الحد الثابت للعمر الطبيعي. قال البروفسور اسميث استاذ جامعة كولمبيا «كما كسر حاجز الصوت وظهرت الوسائط النقلية التي تفوق سرعة الصوت فاننا سنشهد في خاتمة المطاف كسر حاجز سن الإنسان».

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 168

والدليل الحي الذي يمكن اقامته لاثبات هذه الفكرة، التجارب التي أجراها العلماء علي مختلف الحيوانات والنباتات حتّي تمكنوا في ظلّ بعض الظروف الاختبارية مضاعفة عمر بعض الكائنات الحية إلي اثني عشر ضعفاً.

فمثلًا التجارب التي أجريت علي بعض النباتات التي لا تعمر أكثر من اسبوعين اثبتت إمكانية مضاعفته إلي ستة أشهر.

ولو افترضت مثل هذه الزيادة بالنسبة لعمر الإنسان فإنّه يمكن أن يعمر بعض الأفراد لأكثر من ألف سنة.

والتجربة الاخري التي أجروها علي بعض حشرات الفاكهة والتي لها عمر قصير جدّاً أدّت إلي زيادتها بنسبة تسعمائة ضعف.

ولو أصبح هذا الازدياد العجيب ممكناً بالنسبة للإنسان لأمكنه أن يعمر إلي أكثر من سبعين ألف سنة.

طبعاً لا نرغب بمثل هذا العمر المتعب ولا نقبل به وإن منحناه مجاناً، فنحن كما قيل شعرنا بالاعياء من تعميرنا ليومين، فما عساك تفعل يا خضر وأنت بهذا العمر الخالد الأبدي.

ولو فرض قبولنا بهذا العمر فإن الكرة الأرضية ليست مستعدة لقبول كلّ هذه الأعداد! نعم هدفنا الدراسة العلمية لقضية طول العمر. ونعلم أنّ أغلب علماء البايلوجي

اليوم يعكفون علي دراسة مسألة طول عمر الإنسان، فلو لم يكن هذا الأمر ممكناً، لبدت هذه الدراسات عبثية.

ويعتقد علماء الأغذية أنّ لطول العمر علاقة وطيدة باسلوب التغذية والظروف الاقليمية؛ فقد أجروا بعض التجارب والدراسات لطول عمر ملكة

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 169

النحل التي تعدل عدة أضعاف الملكات العادية فتوصلوا إلي أنّ هذا الموضوع معلول لطعام معين تعده العاملات لتغذية الملكة والذي يختلف عن العسل المتعارف، فاعتقد البعض أنّ اعداد مقدار أكبر من هذا الطعام الجلاتيني يمكنه أن يضاعف عمر الإنسان.

ويقول علماء النفس أنّ طول عمر الإنسان يعتمد إلي حدّ كبير علي طريقة تفكيره وعقائده، والعقائد الروحية البناءة والمستقرة تسهم في إطالة عمر الإنسان.

ويري فريق من الأطباء أنّ الشيخوخة نوع من التوعك الذي يصيب الإنسان إثر تصلب الشرايين أو بعض الاختلالات العضوية لبدنه، ولو استطعنا التغلب علي هذه العوامل عن طريق التغذية الصحيحة والأدوية المؤثرة لقضينا علي الشيخوخة وتمتعنا بعمر طويل.

وكلّ هذه الامور تثبت بوضوح أنّ قضية العمر الطبيعي المحدود ليست أكثر من خرافة، ولا يمكن التكهن بعمر للكائنات الحية.

والحقّ أنّ قضية إطالة عمر الإنسان أصبحت أكثر جدية إثر الرحلات الفضائية والصعود إلي القمر، ذلك لأنّه أصبح من المسلم أنّ عمارنا القصيرة لا تتناسب وطي المسافات النجومية العظيمة، فالتقدم خطوة واحدة في هذا العالم الفسيح بالسفن الفضائية الحديثة يتطلب أحياناً آلاف السنين من العمر، وأكثر من ذلك بعشرات آلاف السنين للوصول إلي الطرق الأبعد، ومن هنا فكّر العلماء في طريقة اخري لإطالة عمر الإنسان تتمثل في التجميد.

ولعلّ هذا الموضوع كشف لأوّل مرة من خلال مشاهدة بعض الكائنات الحية التي احتفظت بحياتها خلال عملية التجميد الطبيعي؛ مثلًا عثروا قبل

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 170

مدة علي حوت منجمدة

في وسط الثلوج القطبية حيث يفيد وضع طبقات الثلج أنّها تعود لقبل خمسة آلاف سنة.

وظنوا في البداية أنّها ميتة، وحين وضعوها في ماء مناسب أخذت بالحركة مثيرة الدهشة، فاتضح أنّها كانت حيّة منذ خمسة آلاف سنة غير أنّها كانت تعيش تلك الفترة بصيصاً من الحياة! ومن هنا فكّروا في أن يجرِّبوا هذه الطريقة علي الإنسان، فمثلًا، لو بعثنا بجالس في سفينة فضائية إلي نقطة بعيدة وعرّضناه لحالة تجميد ويصل مقصده بعد مئات أو آلاف السنين فإن بدنه سيعود إلي حالته العادية تدريجياً وستحل مشكلة طول العمر في الرجلات الفضائية.

وقد فكر بعض الأطباء الآن بهذه الطريقة بالنسبة للمرضي الذين لم يتوصل الطب إلي سبيل علاجهم كأن يكون المريض مصاباً بالسرطان، فيرون ضرورة تجميد هؤلاء المرضي في نوم عميق- أو بما يفوق النوم- ومثلًا حين سيكشف علاجه بعد قرنين يعادون إلي حالتهم الأصلية ويخضعون للعلاج.

وتفيد كلّ هذه الأبحاث والدراسات أنّه ليس هنالك من حد ثابت للعمر بالنسبة للإنسان وسائر الكائنات الحية من وجهة النظر العلمية.

ويقدر عمرها بخمسة آلاف سنة.

2- يبلغ طول شجرة في كاليفورنيا مئة متر، وقطرها في الجانب الأسفل عشرة أمتار ويقدر عمرها بستة آلاف سنة.

3- هناك شجرة من بين الأشجار التي تنبت في جزر الكاناري من نوع (الصندم) لفتت انتباه العلماء؛ الشجرة التي يقال أنّه منذ اكتشاف هذه الجزيرة (أي قبل خمسمئة سنة) لم تسجل لحد الآن أيّة حالة نمو وتغيير! مع ذلك يبدو أنّها تتمتع بعمر طويل بحيث لا يبدو عليها آثار مضي الزمان، ومن هنا يعتقد بعض المتخصصين أنّها كانت موجودة قبل خلق آدم!

4- توجد بعض الأشجار في المناطق الاستوائية المعمرة كثيراً ولا ينتهي عمرها أبداً فهي في حالة غضة دائماً.

5- شوهدت بعض الحلزونات المعمرة آلاف السنين، كما اكتشف العلماء حيتان يقدر عمرها بثلاثة ملايين سنة.

6- تري بعض الأفراد بين الناس يقومون ببعض الأعمال المذهلة التي يصعب الوثوق بها حتّي لمن يراها. فمن منا لم يقرأ في الصحف بعض

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 172

الأخبار بشأن الأفراد الذين يقومون ببعض الأعمال التي تفوق البصر كأن يطوي بعض الأجسام الفلزية كالملعقة والشوكة دون أن يشير لها بيده! وقد قاموا بتلك الأفعال أمام أنظار المراسلين حتّي صورهم التلفاز الانجليزي حتّي أذعن الانجليز بعدم وجود خدعة في مثل هذه الأفعال، والواقع هو أنّ هذه الامور استثنائية حقّاً.

ولعلّ الجميع سمع عن ذلك الفتي الايراني الذي يتناول المصباح والزجاج وكأنّها أطعمة، والحال لو تناول ذلك بعض الأفراد العاديين لانبغي خضوعهم لعملية جراحية! قرأت في بعض الصحف عن شخص يتمتع بقوّة خارقة تمكن من ترويض الحيوانات الوحشية والمفترسة وهو يقترب منها دون خوف.

وقيل في سيرة ابن سينا ذلك الطبيب والفيلسوف المعروف أنّه كان يحفظ في المكتب كلّ ما كان يقرأه التلاميذ للُاستاذ؛

وقد ألم في بخاري في العاشرة من عمره ببعض العلوم التي أثارت دهشة الآخرين؛ وتصدي في الثانية عشرة من عمره للفتيا، فكان يفتي في بخاري.

ألف في السادسة عشرة كتابه (القانون في علم الطب) وهوالكتاب الذي درس لقرون في الجامعات الأوروبية الطبية، أما الأخبار التي نقلت في حدّة نظره وشدّة سمعه فمما تثير الدهشة، ولا يسعنا التطرق إليها «1».

كلّ هؤلاء أفراد استثنائيون يتمتعون ببعض الخصائص التي يعجز عن تفسيرها العلماء كونها لا تنسجم مع الضوابط والمقررات السائدة لدي الجنس البشري، إلّاأنّ عدم الانسجام هذا لا يمنع من أن نذعن لها ونقر

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 173

بوجودها.

كما نقر من خلالها بقانون كلي في أنّ ما نشاهده في «النباتات» و «الأحياء البحرية والصحراوية» و «الناس» ليس بقانون عام ودائمي؛ بل من الممكن أن يكون فيها بعض الأفراد الاستثنائيين بصفات خاصة خارقة للعادة سواء من حيث العمر أو القدرة الروحية والبدنية، ووضعها الاستثنائي لا يدلّ أبداً علي عدم علمية قبولها؛ بل لابدّ أن نذعن بأنّ دائرة جميع المقررات والضوابط التي يتبناها العلم تقتصر علي الأفراد العاديين، والاستثناء من الأفراد خارجون عن دائرة هذه المقررات.

سائر المعجزات من موسي عليه السلام بواسطة العصا (التي تعتبر قطعة خشبية غير ذات قيمة) واليد البيضاء وعبور النيل بتلك الطريقة الخارقة للعادة من الامور التي تنسجم مع الضوابط الطبيعية المتداولة؟

لا شك أنّ تفسير كافّة أتباع الأديان لمثل هذه الظواهر هو فاعلية اللَّه في

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 174

تأثير جميع القوانين والأسباب الطبيعية، وإن أراد شيئاً آخر تحقق، وإرادته تفوق العلل الطبيعية. ولو كان الوضع منذ البداية كذلك في أنّ الإنسان يحيي مرة اخري بعد الموت أو الذي يولد أعمي يبصر بعد مضي مدة من الزمان أو يكون متوسط عمر الإنسان ألف سنة، فهل هنالك من يتعجب من هذه الامور ويراها مخالفة للعقل؟ … قطعاً لا!

وعليه فإنّ نقض مثل هذه القوانين ليس بنقض لحكم عقلي ومنطقي، بل نقض لحالة عادية ألفِناها علي ضوء مشاهدة الأفراد العاديين.

2- يعتقد النصاري أنّ أعداء المسيح عليه السلام صلبوه ودفنوه، ثمّ نهض من بين الموتي وعرج إلي السماء وهو حي الآن. والمسلمون أيضاً يرونه حياً، رغم عدم قبولهم بصلب عيسي وقتله علي ضوء القرآن، وهذا ما يقره كافّة علماء الإسلام- سوي القلّة القليلة- ولو كان هذا الاستثناء ليس خلافاً للعقل، ويمكن أن يحيي الإنسان مجدداً بعد موته ودفنه ويعمر ألف سنة، فكيف يعتبر الكلام عن عمر طويل فقط لأكثر من ألف سنة محالًا وغير منطقي!

3- لا يوجد مسلم ينكر طول عمر نوح، ذلك لأنّه ممّا صرّح به القرآن في أنّه استغرق تسعمئة وخمسين سنة فقط في الدعوة إلي عبادة اللَّه والتوحيد «فَلَبِثَ فِيهِم ألَف سَنَةٍ إلَّاخَمْسِينَ عاما» «1»

. كما سمعنا الكثير عن الخضر وعمره الطويل.

العجيب أنّ طائفة أقرت بكلّ هذه المطالب، غير أنّها ما أن تصطدم بعقيدة الشيعة بشأن طول

عمر المهدي حتّي تصاب بالذهول والدهشة والتنكر

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 175

لذلك، وأحياناً يكتفون بابتسامة عريضة تفيد تعارض هذه العقيدة مع العقل والمنطق!! …

وهذا نموذج واضح للازدواج!

ولكن كما قلنا فإنّ مسألة طول العمر وبغض النظر عن العقائد الدينية بشأن قدرة اللَّه وقضية الاعجاز، فإنّها تنسجم تماماً ومنطق العلوم الطبيعية الحديثة، أمّا المشكلة الوحيدة فهي ضرورة تحرير أفكارنا وأنفسنا من بعض الأحكام المسبقة والتعصبات المقيتة والعادات التي ألفِناها، والتسليم للدليل والمنطق والبحث العلمي.

إننا حين نسمع برجل نمساوي عمَّر أكثر من 140 سنة ولم يمرض ولو لمرّة واحدة!

أو رجل كولومبي بلغ 167 سنة من عمره ومازال فتي!

أو رجل صيني أبيضَّ شعره بعد 253 سنة من عمره! نشعر بالدهشة؛ وذلك لأنّه يختلف عن العادة، ولكن لو كان هناك تركيز إعلامي علي هذا الخبر وورد بصورة قطعية فإننا سنقر به كحقيقة واقعة.

ولكن ما أنّ نقرأ في الحديث:

«القائم هو الذي إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر الشبان؛ قوي في بدنه».

حتّي يعتري البعض الحيرة والذهول. وهنا تتساءل الشيعة: لِمَ يعتقد البعض بطول عمر نوح والمسيح ويذكرون تلك الخصائص العجيبة لابن سينا، ولا يتسمون لمشاهدة انحناء الأجسام الفلزية بنظرة من شاب ورؤية الأشجار والأحياء المعمرة، ولكن ما أن يرد الحديث عن طول عمر المهدي عليه السلام حتّي يقطب البعض ويخطف لونه ويتساءل علي نحو الانكار

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 176

عن إمكانية ذلك.

زبدة الكلام إنّ مسألة طول العمر ليست من المسائل التي يمكن الاشكال عليها والتنكر لها علي ضوء الأحكام المنطقية والعقلية.

الظلم والفساد؟

لماذا لا يقوم ليملأها عدلًا وقسطاً؟

إلي متي هذا الجلوس ومشاهدة الظلم وسفك الدماء وطغيان حفنة من الغاشمين؟

لماذا هذه الغيبة الطويلة؟ تري ماذا ينتظر؟

وبالتالي ما سرّ هذه الغيبة الطويلة؟

ولكن ينبغي الالتفات إلي أنّ هذا السؤال وإن طرح عادة علي الشيعة بشأن مسألة الغيبة، إلّاأنّ أدني تمعن سيفيد أنّ للآخرين نصيباً من ذلك، أي يتوجه إلي سائر المؤمنين بظهور مصلح عالمي عظيم ينهض يوماً ويملأ العالم بالعدل والقسط، وإن رفضوا عقيدة الشيعة في طول العمر والغيبة.

فالسؤال الذي يساورهم لِمَ لم يولد ذلك المصلح العظيم لحدّ الآن، وإنّ ولد لم لا ينهض ويملأ الدنيا بالعدل؟ وعليه فمن الخطأ أن يتوجه هذا الإشكال إلي خصوص الشيعة.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 177

وبعبارة اخري، ممّا لا شك فيه أنّ مسألة طول العمر (البحث السابق) ومسألة وجود الإمام في الغيبة (البحث القادم) لمن الأسئلة التي تقتصر علي الشيعة، أمّا مسألة تأخير ظهوره فمن المطالب التي ينبغي أن يفكر بها كافة المعتقدين بظهور ذلك المصلح العالمي، في أنّ الظروف العالمية مؤاتية فلماذا لا يحصل ذلك الظهور؟ (ينبغي التمعن).

علي كلّ حال لهذا السؤال جواب بسيط وآخر مسهب. الجواب القصير:

إنّ وجود الزعيم الكفوء لوحده لا يكفي في قيام نهضة شاملة علي مستوي عالمي، بل لابدّ من استعداد عام، وللأسف مازال العالم لحدّ الآن غير مستعد لتلك النهضة والحكومة، وما أن يبرز هذا الاستعداد حتّي يكون قيامه قطعياً!

أما توضيح هذا الكلام:

أوّلًا: لابدّ من الالتفات- كما أشرنا سابقاً- إلي أنّ قيام المهدي عليه السلام كسائر نهضات جميع الأنبياء يتم عبر الوسائل والأسباب الطبيعية، وليس هنالك من مجال للاعجاز، فللمعجزات بعد استثنائي وليس لها من تدخل في المشاريع الاصلاحية للقادة الربانيين سوي في بعض المواقع الاستثنائية.

ومن هنا

كان الأنبياء يستفيدون من الأسلحة السائدة وإعداد الأفراد الاكفاء والاستشارة المطلوبة وطرح الخطط المؤثرة والتكتيكات العسكرية اللازمة، وبالتالي توفير كافة الامكانات المادية والمعنوية للنهوض بأهدافهم، ولا يفكرون في حدوث المعجزة في مجابهة العدو، أو اعداد

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 178

الأنصار وتكاملهم.

وعليه فلابدّ أن يتحقق تنفيذ مشروع حكومة الحقّ والعدل علي المستوي العالمي من خلال الاستعانة بالوسائل المادية والمعنوية اللازمة، سوي في بعض الحالات.

بعبارة اخري، إنّ المهدي عليه السلام لا يأتي بمدرسة جديدة، بل ينفذ المشاريع الثورية السماوية التي لم تدخل حيز التنفيذ. فرسالته لا تكمن في الانذار والتربيه والتعليم والتذكير، بل رسالته اجراء كافة الاصول والمبادئ في ظلّ حكومة العلم والإيمان، وهو الأمر الذي لا يتيسّر دون الاستعدادات المسبقة.

ثانياً: يتضح من خلال ما تقدّم ما نقوله من عدم وجود مثل هذا الاستعداد، وذلك لأنه ينبغي توفر عدة أنواع من الاستعدادات وهي:

لا يعني الزاماً تطور البشرية وضمان سعادتها ورفاهيتها، بل الازدهار والتطور التقني الذي يجلب السعادة والخير للبشرية هو ذلك الذي يتمّ من خلال سلسلة من المبادئ المعنوية والإنسانية، وإلّا كان هذا التطور- كما لمسناه مراراً- وبالًا علي البشرية وسبب دمارها وانهيارها.

ولابدّ أن يفهم العالم أنّ الصناعات أنّ ارتدت ثوب الصنمية ستضاعف من حجم المشاكل الراهنة.

ولابدّ أن تصبح وسيله تحت سيطرة البشرية.

وبالتالي لابدّ أن يشعر العالم بالعطش وما لم يشعر به فلا يتجه صوب الماء.

وبعبارة اخري، ما لم يعِش العالم قضية الطلب فليس هنالك من تأثير لعرض أيّة مشاريع اصلاحية، فقانون العرض والطلب ساري المفعول في القضايا الاجتاعية علي غرار المسائل الاقتصادية.

وهنا يرد هذا السؤال: ما هو العامل الذي يفرز حالة العطش والطلب؟

نقول في الجواب:

جانب من ذلك، مرور الزمان ولا يمكن بدونه، أما الجانب الآخر فيتوقف

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 180

علي التربية والتعليم، فينبغي أن يصبح عملياً من خلال النهضة الفكرية من جانب العلماء الملتزمين والمسؤولين عن شؤون المجتمع.

ينبغي لهؤلاء وبمشاريعهم التي تهدف تهذيب الإنسان أن يبلغوا بالعالم علي الأقل هذه الحالة من الوعي في الانسجام مع هذه المبادئ والقوانين، وهذا الأمر يتطلب بطبيعة الحال قدراً من الزمان.

بين كافة بقاع العالم، وهذا ما لا يتحقق أيضاً دون تقادم الزمان.

وكيف لحكومة أن تتعامل مع الوضع العالمي إن كانت هذه الارتباطات بطيئة؟

أم كيف يمكن إدارة شؤون العالم بالوسائل التي يستغرق إرسال رسالة فيها إلي مناطق العالم النائية عدّة سنوات من الزمان؟

يستفاد من بعض الروايات التي رسمت صورة عن حياة الناس في عصر

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 181

ظهور المهدي عليه السلام- والتي سيمر البحث عنها في المباحث القادمة- أنّ التطور التكنولوجي والصناعي خاصة صنائع الحمل والنقل والارتباط في ذلك العصر سيكون علي درجة من الرقي والازدهار بحيث تصبح قارات العالم بصورة مناطق متقاربة، ويكون الشرق والغرب بمثابة بيت واحد، فلا يبقي هنالك من مشكلة علي صعيد الزمان والمكان.

طبعاً يمكن أن يحصل بعض هذه الامور أثر حركة وثورة صناعية في ذلك العصر، ولكن لابدّ من استعداد علمي كأرضية لذلك العصر.

الكفاءات وتمييز الصفوف. وبعبارة اخري الهدف هو التربية والتكامل أو خلق الاستعداد، ذلك لأن احاطة اللَّه العلمية بكلّ شي ء تسلب أي هدف في ابتغاء طلب الوقوف والعلم من الاختبارات.

وهكذا يتضح ممّا تقدّم سبب غيبة المهدي هذه المدة.

حسناً، إلّاأن هذه الحياة يمكن توجيهها بالنسبة لفرد عادي، ولكن هل يمكن قبوله بالنسبة لزعيم بالذات ذلك الزعيم الرباني؟!

كيف يسع التلميذ الذي لا يعرف استاذه والمريض الذي لا يعلم بعيادة الطبيب والعطشان الذي لا يعلم بعين الماء- مهما كان قريباً من هذه الامور- أن ينتفع بهم؟

جدير بالذكر:

إنّ هذا السؤال لم يطرح الآن، بل ورد في الروايات الإسلامية أنّه طرح حتي قبل ولادة المهدي عليه السلام وإبان عصر الأئمّة حين كانوا يتحدثون عن المهدي وغيبته يطرح عليهم هذا السؤال فيردون عليه، وإليك جانب من ذلك.

الأفكار عبر حواجز الدماغ، كلّها تعتمد بصورة مباشرة أو غير مباشرة علي ضياء الشمس، ودون ذلك تخمد وتؤول إلي الخمود والانطفاء، وهذا ما يمكن ادراكه بسهولة.

والآن يرد هذا السؤال: هل تقتصر هذه البركات والآثار الحيوية علي الضياء المباشر للشمس؟

الجواب عن هذا السؤال واضح: كلا، فهذه الآثار موجودة حتّي حين تغيب الشمس خلف السحب.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 186

مثلًا هنالك بعض البلدان والمدن التي تختفي فيها الشمس لأشهر أو سنوات خلف الغيوم، ولكن هنالك الحرارة ونمو النباتات والطاقة اللازمة لإدامة عجلة الحياة ونضج الفاكهة والثمار وتفتح البراعم.

وعليه فإنّ لشروق الشمس من خلف السحب جانباً من الآثار والبركات، ولا تنطوي علي جانب من تلك الآثار التي تتطلب أشعة مباشرة، فمثلًا نعلم أنّ لشعاع الشمس أثره الحيوي علي جلد الإنسان وسائر أعضائه ومن هنا فإنّ الناس في أغلب البلدان المحرومة من هذا الشعاع يلجأون في الأيّام المشمسة إلي الحمامات الشمسية ويتعرون تماماً أمام شعاع الشمس لتقوم مساماتهم بامتصاص تلك الأشعة. كما أنّ أشعة الشمس المباشرة وعلاوة علي مضاعفتها للحرارة والضوء فإنّ لها أثراً عظيماً- بسبب الأشعة فوق البنفسجية- في قتل أنواع المكروبات والابقاء علي سلامة البيئة.

ونستنتج من هذا البحث أنّ حجب السحب وإن امتصت بعض آثار الشمس، إلّاأنّ الجانب الأكبر من تلك الآثار باق. كان هذا الكلام في المشبه به، يعني الشمس، ونعود الآن إلي وضع المشبه يعني وجود الزعيم الرباني في الغيبة، فللأشعة المعنوية غير المرئية لوجود الإمام عليه السلام حين تكون خلف سحب الغيبة عدّة آثار تكشف عن فلسفته الوجودية، رغم تعطيل مسألة التعليم والتربية والزعامة المباشرة ومنها:

العدو جهد الأمكان إلي الاطاحة بهذه الراية، ذلك لأنّ انتصاب الراية يبث روح الأمل والمقاومة والصمود وديمومة القتال.

كما أنّ وجود القائد- مهما كان صامتاً- يبعث علي رفع المعنويات وتجديد القوي وتعبئة الطاقات والاندفاع نحو القتال حيث يشعرون بقوّة حين يرون القائد واهتزاز الراية.

أمّا أن أشيع قتل القائد بين المقاتلين فإنّه يؤدي إلي بعثرة صفوف الجيش مهما كان عظيماً، وكانّ ماءاً بارداً سكب عليهم ليبرد إرادتهم، بل كأن روحهم سلت من أبدانهم.

كما أنّ المجتمع يواصل حركته ونظامه وإن سافر رئيسه إلي خارج البلد مادام علي قيد الحياة، إلّاأنّ خبر موته يبعث في قلوبهم الشعور باليأس والاحباط.

والشيعة تعتقد بوجود إمامها حيّاً وإن لم تره بينها، بالتالي فهي لا تري نفسها وحيدة في الساحة (لابدّ من التأمل).

فهي تنتظر قدومه وتحتمله في كلّ لحظة وهذا ما يؤثر علي مسيرتها ايجابياً.

ومن هنا يمكن إدراك الأثر النفسي لهذا الاسلوب من التفكير في بثّ الأمل والرجاء في قلوب الأفراد وسوقهم نحو التهذيب والاستعداد لتلك

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 188

النهضة الكبري التي مضي شرحها في بحث الانتظار.

أمّا إن لم يكن لهذا الزعيم من وجود خارجي وينتظر اتباعه ولادته في المستقبل فالوضع يختلف تماماً.

ولو أضفنا نقطة اخري إلي هذا الموضوع لأصبحت القضية أكثر جدية وهي: علي ضوء الاعتقاد العام للشيعة فقد وردت في أغلب الروايات في المصادر الشيعية أنّ الإمام يتفقد طيلة غيبته وبصوره مستمرة أوضاع شيعته، ويقف علي تفاصيل أعمالهم عن طريق الالهام وما شابه، وحسب الروايات فإنّ أعمالهم تعرض عليه كلّ اسبوع ويحيط علماً بتصرفاتهم وأفعالهم «1».

وهذا الاعتقاد يجعل هؤلاء الاتباع يخضعون لمراقبة دائمية يستحضرونها عند كلّ قول وفعل، الأمر الذي يمكن انكار دوره النفسي والتربوي.

الفذ في بعض الكلمات القصار في إشارته إلي ضرورة وجود الزعماء الربّانيين في كلّ عصر وزمان:

«اللّهم بلي لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً لئلّا تبطل حجج اللَّه وبيناته» «2».

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 189

وإليك توضيح ذلك:

إنّ مرور الزمان واختلاط الأذواق والأفكار الشخصية بالامور الدينية والنزعات المختلفة نحو المدارس الانحرافية المزيفة وتسلل الأيادي الأثيمة إلي المفاهيم السماوية يؤدي إلي أن تفقد بعض هذه الاصول والمبادي ء أصالتها وتتعرض إلي جانب من التحريف.

وبالطبع فإن هذا الماء العذب الفرات الذي ينزل من سماء الوحي ويعبر من فكر هذا وذاك يجعله يفقد بعض صفائه بالتدريج، علي غرار الضياء الذي يصطدم بالزجاج المعتم فيفقد بريقه.

والخلاصة، تبدو هناك بعض المشاكل والصعوبات في التعرف علي القضايا الأصلية بفعل ممارسات بعض الأفراد ذوي الافق الضيق، حتّي انبري أحد الشعراء باسلوبه المعهود في المبالغة مخاطباً النبي الأكرم صلي الله عليه و آله بأنّ ما حدث في الدين واضيف إليه، بلغ درجة بحيث لو عدت اليوم لما رأيته كما كان.

وعلي هذا الأساس، أوليس من الضروري أن ينبري من بين المسلمين من يصون التعاليم الإسلامية ويعيدها إلي مسارها الأصلي ويحفظها كما هي للأجيال القادمة؟

أو ينزل الوحي السماوي ثانية علي إنسان؟ قطعاً لا. فقد اغلق باب الوحي بمسألة الخاتمية.

فكيف ينبغي حفظ أصالة الدين، والحيلولة دون التحريفات

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 190

والخرافات؟

هل يتمّ ذلك سوي من جانب الإمام المعصوم سواء كان مشهوراً ومعلوماً أو مغموراً ومجهولًا «لئلّا تبطل حجج اللَّه وبيناته».

تعلم أنّ في كلّ مؤسسة مهمّة «صندوق محكم» تحفظ فيه الوثائق المهمة لتلك المؤسسة لتبقي بعيدة عن أيدي اللصوص؛ إضافة إلي ذلك إن حدث حريق في هذا المكان مثلًا كان ذلك الصندوق بعيداً

عنه. فصدر الإمام وروحه العظيمة هي صندوق حفظ معالم الدين وخصائص المفاهيم السماوية الرفيعة «لئلّا تبطل حجج اللَّه وبيناته».

إلي التربية التشريعية عن طريق القول والفعل والسلوك والتعليم والتربية العادية، فإنّ هناك تربية روحية من خلال النفوذ المعنوي في القلوب والأفكار والتي يمكن الاصطلاح عليها بالتربية التكوينية، ليس هنا من فاعلية للألفاظ والكلمات والأقوال والأفعال، بل الكلمة الفصل للجذب الباطني.

ونري في سيرة أغلب أولياء اللَّه العظام في أنّ بعض الأفراد المنحرفين

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 192

والملوثين وأثر اتصال خاطف يغيرون مسيرتهم بصورة تامة فتتغير عاقبتهم جذرياً، فيتحولون إلي أفراد مؤمنين مخلصين لا يألون جهداً في التضحية بالغالي والنفيس من أجل الدين.

فهذه التغييرات السريعة والشاملة، وهذا الانقلاب العظيم الجامع والذي يحصل من نظرة أو ارتباط بسيط (طبعاً رغم التلوث فإنّ هنالك استعداداً عالياً لديهم) فإنّه لا يمكن أن يعزي إلي التعليم والتربية العادية، بل معلول لاثر نفسي غير مرئي وجذبة تلقائية يعبر عنها أحياناً بنفوذ الشخصية.

ولعلّ أغلب الأفراد جرّبوا ذلك في حياتهم أنّهم حين يتلقون بعض الأفراد من ذوي الروح الرفيعة والعالية فإنّه يتأثر تلقائياً ودون أن يتمالك نفسه حتّي يصعب عليه التحدث بحضرتهم؛ فيرون أنفسهم وسط هالة عظيمة يصعب عليهم تصويرها. طبعاً يمكن توجيه بعض هذه الامور بالتلقين أحياناً؛ لكن من المسلم به أنّ هذا التفسير ليس صحيحاً في جميع الموارد، بل ليس أمامنا من سبيل سوي بأن نذعن بأنّ هذه الآثار تفرز من قبل ومضات سرية تنبعث من باطن الذات الإنسانية العظيمة.

وإننا نري القصص الكثيرة في تاريخ الأئمّة العظام والتي لا يمكن تفسيرها سوي من خلال هذا السبيل، كقصة قدوم شاب عاص علي النبي الأكرم صلي الله عليه و آله وتحوّله المعنوي والروحي

أو لقاء أسعد بن زرارة الوثني بالنبي الأكرم صلي الله عليه و آله عند الكعبة وتغيّر فكره وعقائده.

أو ما يسميه أعداء

النبي الأكرم صلي الله عليه و آله سحراً والذي كان يؤثر به علي من يقترب منه، كلّ ذلك يعكس نفوذ شخصية النبي صلي الله عليه و آله إلي أعماق أولئك

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 193

الأفراد.

وهكذا ما ورد بشأن تأثير كلام الإمام الحسين عليه السلام علي «زهير» في مساره إلي كربلاء، حتّي أنّه لم يستطع وضع ما كان في يده من طعام في فمه، فطرحه أرضاً وانطلق.

أو الجذبة العظيمة التي شعر بها الحرّ بن يزيد الرياحي فأخذ يرتعش كالسعفة رغم شجاعته؛ فقاده ذلك إلي الالتحاق بركب الإمام حسين عليه السلام ونيل الشهادة.

أو قصة الفتي الذي كان يسكن جوار «أبو بصير» والذي كان ثرياً ويعيش في دعة ورفاهية إثر خدمته لبني أمية، حتّي تغيّر تماماً إثر رسالة الإمام الصادق عليه السلام فهجر كلّ أفعاله وأعاد كافة الأموال التي حصل عليها من الطرق غير المشروعة إلي أصحابها، وانفق الباقي في سبيل اللَّه.

أو تلك الخادمة الحسناء لدي هارون والتي بعث بها إلي الإمام الكاظم عليه السلام ظناً منه بأنّه يؤثر علي الإمام عليه السلام فعاشت ذلك الانقلاب الروحي خلال تلك المدّة القصيرة حتّي سلبت لب هارون بمنطقها و … كلّ ذلك نماذج من هذا التأثير التلقائي والعفوي الذي يمكن اعتباره شعبة من الولاية التكوينية للنبي صلي الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام، ذلك لأن عامل التربية والتكامل هنا ليس الألفاظ والجمل والطرق المتعارفة والعادية، بل هو الجذبة المعنوية والنفوذ الروحي.

ولا يقتصر هذا الأمر- كما قلنا- علي الأنبياء والأئمّة، بل لبعض أولياء اللَّه ودعاة الحقّ هالة من هذا النفوذ والتأثير العفوي، غاية الأمر ليست هنالك من نسبة للمقارنة بين دائرة تأثير الفريق الأوّل والثاني من حيث السعة

الحكومة العالمية

للإمام المهدي(عج)، ص: 194

والشمولية.

ولوجود الإمام عليه السلام خلف غيوم الغيبه مثل هذا الأثر عن طريق الأشعة الخارقة والشاملة لنفوذ شخصيته في استقطاب القلوب القاصية والدانية وإعدادها باتجاه السمو والتكامل.

إننا لا نري بأعيننا قطبي المغناطيس الأرضي، غير أننا نلمس أثرهما علي عقارب البوصلات والسفن في البحار والطائرات في السماء وسائر الوسائل والأدوات. ولعلّ ملايين المسافرين يهتدون ببركات هذه الأمواج المغناطيسية في كافة الأماكن، وكذلك وسائط النقل الصغيرة والكبيرة التي تتخلص بأوامر هذه العقارب الصغيرة من الحيرة والضلال.

فهل من العجيب أن يهدي الإمام عليه السلام في غيبته بأمواج جاذبيته المعنوية أفكار العديد من الأفراد هنا وهناك وينجيهم من الحيرة والضلال؟

لكن لا ينبغي ولا يمكن أن ننسي بأنّ الأمواج المغناطيسية كما لا تؤثر علي كلّ قطعة حديدية تافهة، بل يقتصر تأثيرها علي العقارب الظريفة والحساسة ولها سنخية مع القطب المرسل للأمواج المغناطيسية، كذلك إنّما تتأثر بالإمام القلوب التي لها سنخية وشبه روحي به. وهكذا يتضح ممّا مرّ معنا الأثر الآخر من آثار فلسفة وجود الإمام عليه السلام في الغيبة.

شك أنّ الهدف التبعي ليس هو الدافع للعمل، أو موجه لحكمته؛ والمهم الهدف الأصلي الذي ينطوي علي الجانب المنطقي! ولو افترضنا الآن جفاف أكثر اشجار البستان وعدم بقاء أكثر من شجرة واحدة، لكنها الشجرة التي تعطينا الفاكهة والثمار التي لا تتوقعها من آلاف الأشجار، فممّا لا شك فيه أننا نواصل سقي تلك الشجرة، وكأن مزيداً من العلف أيضاً يستفيد من تلك المياه، ولو جفت تلك الشجرة يوماً فإننا سنتخلي عن السقي وإن مات كلّ ذلك العلف.

عالم الخلق كذلك البستان الزاهر والناس أشجاره. ومن سار نحو المال فهو بمثابة الشجرة المثمرة، ومن نزع نحو الانحراف والتسافل كعلف ذلك البستان.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 196

لا شك في أنّ هذه الشمس المشرقة وذرات الهواء وكلّ بركات الأرض والسماء لم تخلق من أجل حفنة من المفسدين الذين يتنازعون فيما بينهم ويأكل قويهم ضعيفهم ولا يذوق المجتمع سوي ظلمهم وجورهم وفسادهم.

كلا، حقّاً هذا ليس الهدف من الخلق!

فقد خلق هذا العالم وجميع النعم- من وجهة نظر فرد عابد وعارف ببعض المفاهيم كعلم اللَّه وحكمته- للصالحين والطاهرين، وهكذا ستخرج آخر الأمر من أيدي غاصبيها وتقع بيد أصحابها «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِي الصَّالِحُونَ» «1».

وبستان الخليقة (عالم الوجود الواسع) يواصل عطاءَه من أجل هذه الفئة؛ وإن انتفع به العلف كهدف تبعي، إلّاأنّ الهدف الأصلي تلك الفئة.

ولو فرض اليوم الذي ينقرض فيه آخر نسل من فئة الصالحين من علي الأرض قطعاً ستتوقف مواصله النعم.

آنذاك يربك استقرار الأرض وتمنع السماء بركاتها، وتقتر الأرض علي الإنسان منافعها.

يعتبر النبي أو الإمام رمز الثلّة الصالحة ونموذج الإنسان الكامل، أي الفئة التي تمثل الهدف الأصلي للخليقة، ومن هنا فإنّ وجوده بمفرده يوجه هدف

الخليقة ومصدر نزول كلّ خير وبركة وهطول أمطار الفيض ورحمة اللَّه، سواء كان ظاهراً وسط الناس أو مخفياً غير معروف.

صحيح أنّ سائر الأفراد الصالحين كلّ منهم هدف للخليقة، أو بعبارة

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 197

اخري جزء من الهدف العظيم، إلّاأنّ النموذج التام لهذا الهدف هو هؤلاء الأفراد القدوة والزعماء الربّانيون، وإن كان دور الآخرين محفوظاً.

ويتضح من هنا ما ورد في بعض العبارات مثل:

«بيمنه رزق الوري وبجوده تثبت الأرض والسماء».

فهذه ليست من قبيل «المبالغة» و «مجانبة المنطق» أو «الشرك».

وكذلك العبارة الواردة في الحديث القدسي الذي خاطب النبي «لولاك لما خلقت الأفلاك» التي تبيّن حقيقة وليست مبالغة، غاية الأمر أنّه ذروة هدف الخليقة، وسائر الصالحين جزء من هذا الهدف.

ونستنتج من مجموع ما أوردناه في هذا الفصل تحت العناوين الخمسة أنّ أولئك الذين قبعوا في زاوية وظنوا أنّ وجود الإمام في عصر الغيبة هو وجود شخصي دون ثمرة اجتماعية وحملوا- كما ذهبت الشيعة- علي فلسفة هذا الوجود وما عسي أن يكون انتفاع الخلق بزعامته، قد اخطأوا في حساباتهم وأنّ الأمر ليس كما ظنّوا فآثاره حتّي في هذه الحالة أعظم من أن تحصي.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 199

الأسلحة التقليدية للعصور السابقة (الأسلحة الحديدية البسيطة) بغية تحقيق العدل العالمي وتحقيق النصر وهزيمة الجبابرة والطواغيت من قبل جند الحقّ. إن كان

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 202

كذلك فكيف يسعه اقناع الآخرين بهذا الاسلوب القتالي، وأنّي لهذا السلام بالصمود مقابل أسلحة العصر المتطورة والفتاكة وبالتالي هزم العدو وتحقيق النصر؟ أم أنّه سيستعين بسلاح أكثر تطوراً من الأسلحة المتوفرة الآن لدي البلدان المتقدمة؟ ما ماهية هذا السلاح وكيف سيحصل هو وأتباعه عليه؟

2- بغض النظر عمّا سبق فقد جاء في الروايات:

إنّه عليه السلام «يقوم بالسيف»؛ الأمر الذي يفيد اعتماده علي الأسلحة البسيطة.

وهنا يرد الإشكال السابق: كيف يمكن تعطيل الأسلحة المتطورة والعودة إلي عصر الأسلحة المتواضعة؟

هل ستشهد الدنيا المعاصرة حرباً ذرية- كما يعتقد بعض العلماء- مدمرة بحيث لا يكون هناك من مجال سوي العودة إلي الماضي وآنذاك يظهر ويمارس النهضة؟

هل يمكن قبول هذا الاحتمال؟

3- أيضاً يرد هذا السؤال: هل تزول كلّ هذه الوسائل الحديثة والمتطورة المعدة لرفاه البشرية وسعادتها بحيث يرجع الإنسان إلي العصور القديمة؟

أيمكن قبول هذا النمط من التخلف والرجعية؟

أم بالعكس لا تبقي فقط، بل تتكامل بسرعة بالنحو الذي يجنبها آثار حياة المكننة السلبية؟ بعبارة اخري حصول التطور الذي يختزن التكامل والنقاء.

للاجابة عن هذه الأسئلة يمكن الاستعانة ببعض المصادر الروائية إلي

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 203

جانب الأدلة العقلية، لارتباطها بهذين المصدرين.

يصرح العقل بأنّ العودة إلي الوراء ليست ممكنة ولا منطقية، وهذا خلاف سنّة الخلق وأصل تكامل الحياة؛ وعليه ليس هناك من دليل علي جمود المجتمع وايقاف عجلة تطوره بغية تحقيق الحقّ والعدالة، وأنّ قيام المصلح العالمي الكبير بهدف بسط العدل والحرية في كافّة أنحاء العالم لا يؤدي بأي شكل من الاشكال إلي ركود أو إزالة الحركة الصناعية وما

عليها من تطور.

فالتطور الصناعي الراهن لم يتمكن من حلّ أغلب المعضلات التي تواجه الإنسان في حياته فحسب، بل كما ذكرنا في الأبحاث السابقة فإنّه يشكل أحد دعائم استقرار الحكومة العالمية الواحدة وتقريب المناطق العالمية علي صعيد الارتباط والعلاقات الاجتماعية، وهي الامور التي يتعذر تحقيقها دون التكامل الصناعي. ولكن لا شك في أنّ هذه الحركة والنهضة الصناعية والتكامل التقني ينبغي أن يخضع إلي غربلة لينقي من العوالق السلبية والمضرة ويصب في صالح الإنسان وتحقيق أهدافه في العدل والحرية، وهذا ما ستمارسه قطعاً حكومة العدل. هذا بشأن التطور الصناعي والتقني.

وامّا بشأن السلاح فنقول: لابدّ من الاطاحة بالحكومات الجائرة والمستبدة من أجل استقرار حكومة العدل، وينبغي علي الأقل توفير الاسلحة الأفضل للقضاء علي تلك الحكومات، السلاح الذي ربّما يصعب علينا اليوم حتّي تصوره.

فهل سيكون هذا السلاح من قبيل الأشعة المجهولة التي تفوق الأسلحة

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 204

المتطورة السائدة الآن وباستطاعتها القضاء عليها جميعاً؟

أم من خلال التأثير النفسي وشل قدراتهم الفكرية بحيث لا يستطيعون المبادرة إلي استخدام الأسلحة الفتاكة؟

أم حصول شي ء من قبيل الشعور بالخوف والهلع والرعب الذي يحول دون الاقدام؟

أم هنالك شي ء آخر …

لا ندري. ولا يسعنا الإشارة إلي هذا السلاح من الناحية المادية أو النفسية أو سائر النواحي، وكلّ ما يسعنا قوله أنّه سيكون السلاح الأقوي، كما نعلم أنّه ليس ذلك السلاح الذي يأتي علي الأخضر واليابس فيقضي علي هذا وذاك ليقيم صرح العدالة علي أساس الظلم.

هذا من حيث التحليل العقلي.

من هذه العبارة أنّ قضية الضوء والطاقة ستحل بحيث يستفاد في

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 205

الليل والنهار من أعظم ضوء يسعه أن يحل محل ضياء الشمس.

وهل ينبغي أن نصبغ هذا الموضوع بصبغة الاعجاز، في حين ينبغي أن تدور مشاريع الحياة اليومية- وبصورة مستمرة- حول محور السنن الطبيعية لا الاعجاز؛ فالإعجاز أمر استثنائي عند بعض الموارد الضرورية وفي اطار اثبات حقانية دعوي النبوة أو الإمامة.

علي كلّ حال فإنّ الحياة العادية للناس لم تجر علي أساس الإعجاز في عصر أي نبي. وعليه فإن تكامل العلم والصناعة سيبلغ مرحلة تمكن الناس بقيادة ذلك الزعيم من اكتشاف بعض مصادر الطاقة التي تغنيهم عن أشعة الشمس.

فهل سيكون السلاح اللازم لتحقيق العدل والسلام والحرية من أسلحة القرون الماضية، وهل هناك من تناسب بين الأمرين؟

2- ورد في رواية اخري عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«إنّه إذا تناهت الامور إلي صاحب هذا الأمر رفع اللَّه تبارك وتعالي له كلّ منخفض من الأرض، وخفض له كلّ مرتفع حتّي تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته، فايّكم لو كانت في راحته شعرة لم يبصرها» «1».

تنصب اليوم بعض المرسلات علي الجبال لتساعد في نقل الصور إلي مختلف نقاط العالم، كما استفيد من الاقمار الصناعية في تغطية عدة مناطق

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 206

بهذه الصور، حتّي يتمكن كلّ من كان لديه جهاز استقبال من التقاطها.

إلّا أنّ عكس هذا الموضوع لا يبدو عملياً علي الأقل في الوقت الحاضر، أي يمكن نقل الصور من نقطة إلي مختلف نقاط العالم، بينما لا يمكن نقلها من مختلف النقاط إلي نقطة معينة، إلّاأن تكون هناك مرسلة في كلّ بيت ومنطقة وصحراء وجبل وكلّ بقعة من بقاع العالم ليمكن الوقوف علي كلّ

ما في العالم، وهذا الأمر لا يبدو ممكناً بالوسائل الموجودة اليوم.

أمّا الذي يفهم من الحديث المذكور أنّ عصر المهدي عليه السلام سيشهد وجود نظام دقيق ومجهز يتولي نقل الصور، ولعله يصعب علينا اليوم تصوره، بحيث يصبح العالم بأسره كراحة اليد دون ظهور المرتفعات والمنخفضات التي تحجب رؤية ما علي الأرض.

طبعاً لا يمكن انبثاق الحكومة العالمية الواحدة التي تبسط العدل والقسط والأمن والسلام في كافّة أرجاء العالم دون أن تمتلك مثل هذه الأنظمة الاستخبارية المتطورة.

وتؤكد مرّة اخري بأنّ هذه الامور ذات الصلة بالحياة اليومية للناس، من المستبعد أن تتم علي أساس الاعجاز، بل علي ضوء الأسباب الاعتيادية وتطور العلم والصناعة.

كما يتضح أنّ هذه الأنظمة المتطورة لا ينبغي أن تكون في مجتمع متخلف، بل لابدّ أن يكون هنالك من تناسب بين سائر مرافق الحياة وهذا الأمر من حيث التطور والازدهار، بما في ذلك السلاح والآلة العسكرية.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 207

3- عن الإمام الباقر عليه السلام قال:

«ذخر لصاحبكم الصعب! قلت: وما الصعب؟ قال: ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة أو برق، فصاحبكم يركبه، أما أنّه سيركب السحاب ويرقي في الأسباب؛ أسباب السموات السبع والأرضين» «1».

طبعا ليس المراد من السحاب هذا السحاب العادي، لأنّ السحب ليست من الوسائل التي يمكن السفر بواسطتها إلي الفضاء، فالسحب تتحرك في جو قريب من الأرض ولا تبعد مسافة تذكر عنها ولا يمكنها الارتفاع كثيراً عن الأرض، بل هي إشارة إلي وسيلة غاية في السرعة بحيث تبدو في السماء بصورة كتلة مضغوطة من السحب لها صوت كالرعد وقدرة وشدة كالصاعقة والبرق، تشق السماء حين الحركة بقوتها الفائقة وتستطيع أن تبلغ أيّة نقطة في السماء.

وعليه فهي وسيلة تفوق الحداثة لا يوجد ما يشبهها

في الوسائل الموجودة، ولعلّها أكثر شبها بالصحون الطائره والوسائل الفضائيه ذات السرعة المذهلة التي نسمع عنها اليوم الكثير من القصص ولا نعرف علي وجه الدقّة مدي علميتها وواقعيتها، مع ذلك فهي ليست صحون طائرة.

علي كلّ حال يمكن أن نفهم من الرواية المذكورة أن ليس هنالك من تخلف صناعي، بل بالعكس هنالك التطور والازدهار والذي يعني تطور وتكامل سائر المجالات.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 208

4- الرواية الواردة عن جابر عن الإمام الباقر عليه السلام قال:

«إنّما سمّي المهدي لأنّه يهدي إلي أمر خفي، حتّي أنّه يبعث إلي رجل لا يعلم الناس له ذنباً فيقتله حتّي أنّ أحدهم يتكلّم في بيته فيخاف أن يشهد عليه الجدار» «1».

فهذه الرواية تدلّ علي أنّ عصره وإن شهد حرية واستقرار الصالحين، إلّا أنّ العصاة الأشرار يشعرون بأنّهم خاضعون لسيطرة دقيقة بحيث يمكن التعرف علي أمواجهم الصوتية من خلال بعض الوسائل المتطورة وهم داخل بيوتهم وبالتالي يمكن معرفة الكلام الذي أوردوه عند الضرورة اللازمة لذلك.

ولعلّ هذا الكلام لا يعني قبل أكثر من مئة سنة سوي الاعجاز. بينما لا نراه اليوم كذلك ونحن نري كيف تتمّ السيطرة في أغلب البلدان علي حركة السيارات بأجهزة الرادار من الطرق البعيدة ودون حضور الشرطة، أو ما نسمعه من أنّ العلماء تمكنوا من خلال بعض الأمواج علي الصفائح في المتاحف المصرية من أحياء أصوات أولئك الذين صنعوها قبل ألفي سنة، أو نسمع بوجود أجهزة تستطيع ببعض الأمواج الحرارية (الأمواج تحت الأشعة الحمراء) أن تلتقط الصور لتتعرف علي السارق أو القاتل الذي ترك المكان تواً وغادره.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 209

وهكذا تتضح إجابات الأسئلة المذكورة ممّا ذكرناه سابقاً، حيث قضية التخلف الصناعي ليست غير واردة في عصر المهدي عليه

السلام فحسب، بل هنالك تطور وإزدهار خارق للصناعة والتكنولوجيا لا يصب سوي في ضمان مصالح الإنسان وتحقيق أهدافه في الحرية والعدل والسلام.

المصلح الرباني تقتصر علي الوعظ وإسداء النصح والإرشادات في الميادين الاجتماعية. بل هو زعيم ينطلق في نهضته من محورين؛ يتمثل الأوّل في المنطق وحيث لا يجدي نفعاً سيّما تجاه الجبابرة والطواغيت، فإنّه يلجأ إلي السيف، أي يستعين بالقوة في مواجهة الظلمة، والواقع ليس هنالك من سبيل لممارسة الإصلاح والقضاء علي الفساد سوي ذلك، «الناس لا يقيمهم إلّا السيف».

وبعبارة اخري أنّ وظيفته لا تقتصر علي إرائة الطريق، بل مهمته الأعمق- إضافة لما تقدّم- إجراء القوانين الشرعية وتطبيق الأحكام الدينية وبلوغ السمو والكمال.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 211

ويبدو أنّ نقطة قد اتضحت ممّا ذكر وهي: خلافاً لما يظنه بعض ضيقي الافق من أنّ قيامه يستند دون مقدمة إلي السلاح، وعلي ضوء تلك الخرافة فإنّه يسفك الدماء حتّي تبلغ ركابه، فإنّه سيبدأ المواجهة بادئ الأمر من خلال الحوار الفكري وفي كافة الأصعدة، أي علي ضوء الاصطلاح الديني يتمّ الحجّة علي الخصوم بحيث يستجيب له كلّ من إمتلك بعض الاستعداد لقبول الحقّ، فلا يبقي سوي من لا تجدي معه الأساليب الاخري نفعاً غير القوة.

فالذي نستفيده من القرائن القائمة علي هذا الموضوع- بغض النظر عن دليله- أنّ اسلوبه وسيرته هي سيرة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؛ فقد مارس الدعوة السرية في مكّة لثلاث عشرة سنة وقد إلتف حوله أولئك الذين يسمعون منطق الحقّ، بينما هب لمواجهته أولئك الجفاة الذين يشكلون الأكثرية الساذجة، فاضطر للهجرة إلي المدينة وأرسي دعائم الحكومة الإسلامية واستعد لمواجهة الأعداء وشقّ طريقه نحو دعوة عامة الناس.

ورغم الدعايات المغرضة التي تثار ضد الدعوة الإسلامية من أنّها دعوة السيف، إلّاأنّ أفضل سند لدينا اليوم والذي لا يسعهم اخفاءَه أو إزالته هو القرآن الكريم.

ولو كان الإسلام دين العنف

والقوة لما غص القرآن بكلّ تلك الأدلة والبراهين لإثبات الحقائق، ولا سيّما في موضوعَيْ معرفة اللَّه والمعاد اللذين يشكلان أهم المحاور الأساسية للإسلام، ولما طالب أصحاب الفكر والعقل والمنطق بإصدار الأحكام، ولما تحدث بهذه الطريقة عن العلم والمعرفة،

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 212

فالنظام الذي يتصف بالعنف لا يعرف من معني للدليل والبرهان.

والإسلام حتّي حين يلجأ إلي القوّة ليكشف عن موقفه بالأدلّة والبراهين مشيراً إلي عدم امكانية التغاضي عن تلك القوة.

علي كلّ حال فهو يسير بسيرة النبي الأكرم صلي الله عليه و آله، إضافة إلي رقي المستوي الفكري للناس في عصره وتأكد ضرورة اعتماد المنطق، علي غرار ضرورة اعتماد القوة تجاه الطغاة.

طبعاً ستكون بعض جوانب هذه الثورة دموية حيث تهدف إلي إراقة تلك الدماء الملوثة، وهل هنالك من سبيل للاصلاحات الجذرية في المجتمعات الفاسدة سوي ذلك، إلّاأنّ هذا لا يعني أنّه يسفك الدماء عبثاً، فهو بالضبط كالطبيب الحاذق في امتصاصه للدماء الملوثة من بدن مريضه!

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 213

سلوك هذا الطريق وإلّا ليس

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 216

هنالك سوي الفساد والانحراف.

وقد تضمنت الروايات بعض الإشارات إلي الخطوط العامة لذلك المجتمع، وأنّها حقّاً لعبارات حية ورائعة بالرغم من كونها وردت قبل ثلاثة عشر قرناً.

ونشير هنا إلي بعضها:

الافق والأفكار الحرة والصدور الرحبة والهمة العالية والنظرة الثاقبة فيتمكنون من حلّ أغلب المصاعب الاجتماعية بروحهم السامية ويبنون العالم المليئ بالأمن والسلام.

والحقّ أنّ كلّ اصلاح اجتماعي إنّما يعتمد علي هذا الانقلاب الفكري والروحي.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 218

والتي تتطلب عدداً من الأفراد الذين يمارسون مهامهم ويستغرقون مدّة طويلة بغية كشف الحقّ والواقع- فهنالك أجهزة الشهود والحضور التي تدير شؤون المجتمع، ويا لها من أجهزة تشيع أجواء الهدوء والاستقرار والاستفادة من عامل الوقت.

كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إنّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق سيري أخاه الذي في المغرب؛ وكذا الذي في المغرب يري أخاه الذي بالمشرق» «2».

فالارتباط قائم بين الجميع ولا يقتصر علي مستوي الحكومة، ومن شأن الارتباطات الظاهرية والبدنية ترسيخ الوشائج المعنوية بحيث يصبح العالم بمثابة البيت وناسه اسرة واحدة.

وهكذا سيكون العلم والمعرفة والصناعة وسيلة لتحسين أوضاع العالم وتعميق اسس الاخوة، لا التفرقة والهدم كما هي عليه اليوم.

ذلك لأن خراب الأرض ليس بسبب قلة الطاقة البشرية ولا الازمة المالية، بل وليد خراب الإنسان وهدر

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 221

الطاقات الإنسانية وعدم الشعور بالمسؤولية، فإن غيبت هذه الامور في ظلّ النظام الاجتماعي الصحيح، فإنّ العمارة ستكون قطعية، سيّما أنها تستند إلي طاقات خارقة جديدة.

وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إذا قام القائم حكم بالعدل

وارتفع في أيّامه الجور

وأمنت به السبل

واخرجت الأرض بركاتها

ورد كلّ حقّ إلي أهله …

وحكم بين الناس بحكم داود عليه السلام وحكم محمّد صلي الله عليه و آله

فحينئذٍ تظهر الأرض كنوزها

وتبدي بركاتها

ولا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعاً لصدقته ولا لبره لشمول الغني جميع المؤمنين … » «1».

ويفيد التركيز علي ظهور بركات الأرض واستخراج الكنوز ازدهار القطاع الزراعي حتّي يبلغ ذروته، إلي جانب اكتشاف المصادر الجوفية والاستفادة منها.

وسيرتفع الدخل السنوي للأفراد بحيث لا يبقي في المجتمع فقير، والكلّ يعيش حالة الاكتفاء وعدم الحاجة.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 222

وممّا لا شك فيه أنّ اجراء مبادئ العدل والقسط واستقطاب الطاقات البشرية واستغلالها بالشكل الصحيح يفرز تلك النتائج الايجابية؛ وذلك لأن الجوع والفقر والفاقة ليست من افرازات الأزمة والقلّة، بل هي نتيجة مباشرة وغير مباشرة للمظالم والتمييز وانعدام العدالة وهدر الطاقات وتضييع الثروات.

وورد في حديث آخر في مصادر العامة عن أبي سعيد الخدري. قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«أُبشركم بالمهدي يملأ الأرض قسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضي عنه سكان السماء والأرض، يقسم الماء صحاحاً؛ فقال رجل: ما معني صحاحاً، قال بالسوية بين الناس؛ ويملأ قلوب امّة محمّد صلي الله عليه و آله غني؛ ويسعهم عدله، حتّي يأمر منادياً ينادي ويقول من له بالمال حاجة فليقم فما يقوم من الناس إلّارجل واحد، ثمّ

يأمر له بالمال فيأخذه ثمّ يندم ويرده» «1».

ولابدّ من الالتفات إلي بعض الامور في تفسير هذا الحديث.

1- المراد من رضي سكان السماء عن حكومته ربّما يكون إشارة إلي ملائكة السماء وملائكة اللَّه المقربين، أو إشارة إلي سعة حكومته إلي سائر الكرات المأهولة وافتتاح طرق السموات والرحلات الفضائية إلي نقاط العالم النائية.

2- المراد من التقسيم العادل للثروة بالسوية- بالاستناد إلي علمنا بأنّ

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 223

الإمام المهدي عليه السلام حافظ ومروِّج لأحكام الإسلام التي تقر بضرورة العطاء الأكثر بالنسبة للجهود الأكثر والكفاءات الأعمق- إمّا إشارة إلي أموال بيت المال والأموال العامّة بصورة كلية التي يتساوي فيها الجميع في الحكومة الإسلامية- كما ورد ذلك في سيرة النبي صلي الله عليه و آله وعلي عليه السلام علي العكس ممّا ورد في سيرة أغلب الخلفاء كعثمان الذي اعتمد صنوف التمييز- أو إشارة إلي التسوية في العطاء في ظل الظروف المتساوية، بالعكس ممّا عليه الوضع الآن حيث يتقاضي عامل مثلًا في منطقة من العالم عشرة دولارات مقابل الساعة من العمل، بينما لا يتقاضي عامل آخر في منطقة اخري وفي ظلّ ذات الظروف دولاراً واحداً إزاء عمل عشر ساعات، وهذا قمة الظلم والاجحاف.

3- النقطة الاخري التي نستفيدها من الحديث المذكور هي عدم وجود حتّي فرد واحد معدم ومحتاج في ذلك العصر، بدليل أنّ ذلك الفرد الذي يقوم لم يكن غنياً علي صعيد الروح ويشعر بالحرص والطمع، وإلّا لم يكن محتاجاً من الناحية المادية، والمهم أنّ ذلك الزعيم يملأ القلوب بالغني المعنوي والنفسي ويستأصل منها جذور الحرص المقيتة؛ ذلك الحرص الذي يعد المصدر الرئيسي لتلك الجهود الجبّارة التي يبذلها اللاهثون وراء الثروة والذين لا يكفّون عن طلب المزيد، وكأنّهم مصابون بمرض

الاستسقاء الذي لا يجعلهم يرتوون من الماء مهما نهلوا منه. ولعلّ العامل الآخر الذي يقف وراء جمع الثروة هو عدم الوثوق بالمستقبل، وهو الأمر الذي يزول بالمرة في ظلّ عدالته الاجتماعية، فلا يري شخص في نفسه من حاجة لجمع الثروة، ذلك لأن يومه وغده مضمون.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 224

كما ورد في حديث آخر عن النبي الأكرم صلي الله عليه و آله أنّه قال:

«.. حتّي تملأ الأرض جوراً فلا يقدر أحد أن يقول: اللَّه! ثمّ يبعث اللَّه عزّوجلّ رجلًا منّي ومن عترتي فيملأ الأرض عدلًا كما ملأها من كان قبله جوراً وتخرج له الأرض أفلاذ كبدها ويحثو المال حثواً ولا يعدّه عداً» «1».

«أفلاذ»: جمع (فلذ) بمعني القطعة. ويقال للأشياء النفيسة، أفلاذ الكبد، وهي هنا إشارة إلي المصادر الثمينة والقيمة تحت الأرض.

كما يحتمل أن تكون إشارة إلي أنّ الإنسان سيظفر بالنواة المذابة داخل جوف الأرض وهي عبارة عن قطعة نار وحرارة يمكن أن يستفيد منها كمصدر مهم للطاقة، كما يمكن أن يستخرج منها مصادر حيوية اخري من فلزاتها ومعادنها.

وهكذا السُمو الأخلاقي وضمان الحاجات المستقبلية واتساع مصادر الدخل، والخلاصة، إنّ جمع الغني الروحي والمادي سيؤدي إلي عدم الحاجة إلي عدّ الأموال، فلكلّ محتاج أن يقصد بيت المال ويسحب ما يشاء دون عناء.

كلّ هذا من جهة ومن جهة اخري:

فإنّ هنالك بعض الأخبار التي تشير إلي تمتع عصره بحركة عمرانية من قبيل بناء المدن وشق الطرق وبناء المساجد المتواضعة البعيدة عن التكلّف الظاهري، إلي جانب هَدْم المباني التي تسبب بعض الحرج للناس. ومن

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 225

ذلك:

1- قال الإمام الصادق عليه السلام:

«ويبني في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب ويتصل ببيوت الكوفة بنهر كربلاء وبالحيرة» «1».

ونعلم أنّ المسافة

بين هاتين المدينتين تبلغ أكثر من 70 كيلومتراً.

2- قال الإمام الباقر عليه السلام:

«إذا قام القائم …

تكون المساجد كلها جماء لاشرف لها كما كان علي عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله

ويوسع الطريق الأعظم فيصير ستين ذراعاً

ويهدم كلّ مسجد علي الطريق

ويسد كلّ كوة إلي الطريق

وكلّ جناح وكنيف وميزاب إلي الطريق» «2».

3- وورد في حديث طويل عن الصادق عليه السلام أنّه قال:

« … وليصيّرنَ الكوفة أربعة وخمسين ميلًا وليجاورن قصورها كربلاء، وليصيرن اللَّه كربلاء معقلًا ومقاماً» «3».

4- وكثيرة هي الروايات الواردة بشأن تقدم الزراعة ومضاعفة المنتجات الزراعية ووفرة المياه والعمران في كافة المجالات «4».

أنّ بسط العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات سيستأصل

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 227

جذور أغلب المفاسد الاجتماعية التي تنبثق من التنازع علي الأموال والثروات واستغلال الطبقات الضعيفة والتزييف والخداع وأنواع الغش والكذب والخيانة وارتكاب الجريمة من أجل الحصول علي الدخل الأكثر؛ ولعلّ تنامي حدة الفساد والظلم في كلّ مجتمع إنما تتوقف علي تلك الامور ومدي انتشارها.

ثانياً: للتعليم والتربية الصحيحة عظيم الأثر في مكافحة الفساد والانحراف الاجتماعي والأخلاقي؛ وأحد علل اتساع رقعة الفساد في المجتمعات المعاصرة إنّما يتمثل في عدم الاستفادة الصحيحة من التعليم؛ بل عادة ما يوظف في خدمة المشاريع الاستعمارية الفاسدة، والانهماك ليل نهار في عرض الأفلام المبتذلة والقصص المضلة وإشاعة الأخبار الكاذبة التي تضمن مصالح الاستعمار العالمي.

طبعاً لبعض هذه الامور جذور اقتصادية كما تهدف إلي تخدير العقول واستنزاف القوي الفاعلة والواعية في كلّ مجتمع لضمان مصالح الاستعمار الاقتصادي.

وبالطبع إن تغيّرت هذه الأوضاع فإنّ جانباً كبيراً من الفساد الاجتماعي سيزول خلال مدة قصيرة، ولا يتمّ ذلك إلّامن قبل حكومة عالمية صالحة تنشد تحقيق مصالح البشرية جمعاء- لا مصالح المستغلين- وبناء عالم معمور وحر مملوء بالعدل والسلام.

ثالثاً: أنّ وجود جهاز قضائي يقظ وفاعل ووسائل مراقبة دقيقة بحيث لا يفلت مجرم من سيطرته ولا يستطيع انتهاك عدالته، هو العنصر الآخر الذي يحد من انتشار الفساد وانتهاك حرمة القانون.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 228

فلو اتصلت هذه الأبعاد الثلاثة مع بعضها، لكانت أبعادها التأثيرية كثيرة للغاية.

يستفاد من الأحاديث المرتبطة بعصر حكومة المهدي عليه السلام أنّه يستعين بهذه العناصر الوقائيه الثلاثة في نهضته، حتّي وردت بشأن دولته تلك العبارة والتي أصبحت مثلًا يضربه الناس، في أنّ عصره سيشهد عيش الذئب إلي جانب الشاة.

قطعاً ليس هنالك من تغيير في ماهية الذئاب

ولا داعٍ أصلًا لذلك، كما لا تفارق الشاة حالتها الطبيعية؛ وهذا إشارة إلي بسط العدل في العالم وتغيير اسلوب الأفراد الذئاب في صفاتهم والذين يتواطأون مع الحكومات الجبارة في إمتصاص دماء الطبقات الضعيفة في المجتمع البشري.

فإمّا أن تتغير روحيات هؤلاء بصورة تامة في ظلّ النظام الجديد، ذلك لأنّ الذئبية ليست من طبيعة الإنسان، ومن الصفات العرضية التي يمكن تغييرها، أو علي الأقل كبح جماحها، والانتفاع بنعم اللَّه بصورة عادله بدلًا من هضم منافع الآخرين.

ومن الامور الجديرة بالتأمل في هذا المجال ما ورد في حديث النبي الأكرم صلي الله عليه و آله بشأن التوزيع الصحيح للأموال حيث يعيش الناس حالة من الغني الروحي والمادي حتّي تبقي الأموال دون من يطلبها، أي أنّهم يبلغون مرحلة تربوية تجعلهم يرون المال الزائد علي حاجتهم وبالًا عليهم.

ليس هنالك ما يقلقهم بشأن ضمان معيشتهم لحاضرهم ومستقبلهم

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 229

بحيث يقارفون الخطيئة بغية الحصول عليها.

كما ورد في حديث آخر أنّ المستوي الفكري للناس في عصره يبلغ مرحلة يصعب مقارنتها بالعصر الراهن، وبالطبع سوف تغيب كافّة النزاعات والخلافات التي يفرزها قصر النظر وضيق الافق وضحالة المستوي الفكري واستغراق الجهود في الأموال والثروات.

وعلي ضوء ما أوردناه سابقاً بشأن المراقبة الدقيقة في حكومته حسبما ورد في الروايات فإنّ المجرمين لا يشعرون بالأمن حتّي في بيوتهم، ربّما لوجود بعض الأجهزة المتطورة التي تحصي حتّي أمواجهم الصوتية، وهذا بحد ذاته إشارة إلي سعة ابعاد التصدي للفساد في عصر الإمام.

وعبارة (حكمه كحكم داود عليه السلام ومحمّد صلي الله عليه و آله) كأنّها تشير إلي نقطة لطيفة في أنّه يستعين بالضوابط القضائية الظاهرية من قبيل الاقرار والشهادة وما شابه ذلك إلي جانب الطرق النفسية والعلمية في التعرف

علي المجرمين، علي ضوء بعض النماذج في عصر داود عليه السلام.

بالاضافة إلي أنّ وسائل كشف الجرم تحرز تطوراً باهراً علي غرار تطور العلوم والتقنيات بحيث يصعب علي المجرم أن يفلت من العدالة.

قرأت في بعض الصحف بشأن عجائب دماغ الإنسان، أنّ هذا الدماغ يبعث بأمواج تتناسب مع مكنوناته الباطنية بحيث يمكن تمييز صدقه من كذبه علي ضوء تصريحاته! قطعاً أنّ هذه الوسائل تتكامل وستخترع وسائل متطورة اخري، وبالاستعانة بالأساليب النفسية المتطورة يمكن السيطرة

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 230

علي المجرمين، وإن قلّ تعداد المجرمين في مثل هذا المجتمع (مع ذلك فالقضية تبدو مهمة).

واكرر مراراً: من الخطأ الاعتقاد بأنّ كلّ هذه الامور تعالج في عصره من خلال المعجزة، ذلك لأنّ المعجزة استثناء وحين الضرورة سيّما في اثبات حقانية دعوي النبي صلي الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام. ولا ترد لتنظيم شؤون الحياة اليومية والطبيعية، والدليل علي ذلك لم يعتمدها أي نبي لهذه الاغراض.

وعليه فإنّ مسيرة حكومته العالمية من ذلك النموذج الذي أشرنا إليه، لا نموذج الاعجاز.

علي كلّ حال فإنّ الأمن في ظلّ حكومته العالمية علي درجة من السعة والشمولية بحيث تستطيع المرأة- كما ورد في الرواية- أن تسير لوحدها من شرق العالم إلي غربه دون أن يتعرض لها أحد!

وأخيراً إن أضفنا مسألة تواضع عيشة المهدي عليه السلام- كما جاء في بعض الروايات- تتضح الامور السابقة بجلاء، فسيرته قدوة واسوة لاتباعه فضلًا عن عامة الناس. وبالاستناد إلي هذا الموضوع في أنّ القسم الأعظم من الجرائم والجنايات والمفاسد الاجتماعية التي تفرزها الحياة الموغلة في الرفاه والمصارف العبثية الطائشة، فإنّه يتضح الدليل الآخر علي إزالة المفاسد في ظلّ حكومته العالمية.

فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال:

الحكومة العالمية

للإمام المهدي(عج)، ص: 231

«وما لباس القائم عليه السلام إلّاالغليظ وما طعامه إلّاالجشب» «1».

كما ورد نفس هذا المضمون عن الإمام الصادق عليه السلام «2».

المفاهيم من قبيل الزهد والتقوي والصبر والشهادة والانتظار والشفاعة والعبادة درجة من التحريف بحيث عادت غريبة عن هذا الدين الحقّ.

كما آلت أغلب الأحكام الإسلامية بالحيل الشرعية وغير الشرعية إلي الاضمحلال كحكم الربا والفائز والذي لم يبق سوي اسمه.

كما اعتري النسيان البعض الآخر- كالهجرة والجهاد والشهادة- أو علي الأقل اقتصرت علي صيغتها التاريخية والمختصة بعهد معين في صدر الإسلام.

واختلط التوحيد بالشرك وعاشت مدرسة أهل البيت عليهم السلام التي تمثل

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 233

الإسلام الأصيل علي ضوء: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي» «1»

الغربة بين أغلب الأوساط الإسلامية وقد أبتعد عنها الناس ابتعد أن قذفت بأشنع التهم.

وسيقوم المصلح علي غرار البستاني الماهر الذي يستأصل العلف من النبتة الأصيلة رغم تعلقه بها وصعوبة فصله عنها، باستئصال كلّ ما علق بهذا الدين، وسيقطع كلّ غصن أعوج اتصل بشجرة الإسلام.

وسيزيل تلك التفاسير المنحرفة للدين ويقطع الأيدي الأثيمة التي تطاولت علي حرمة مفاهيمه القيمة.

وخلاصة القول فإنّه سيعيد الإسلام إلي سابق عزّه علي عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعلي عليه السلام.

إنّ إحدي مهام المهدي عليه السلام تطهير الإسلام ممّا علق به من الغبار، وبعبارة اخري إعادة بناء صرحه العملاق.

فقد كان المسجد آنذاك مركزاً لكافة الأنشطة السياسية والعلمية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية، وأصبح اليوم بؤرة للعجزة والعاطلين ووسيلة لقضاء الوقت، وربّما عادت طبيعية، وسيعيده إلي سابق عهده، وسينفخ روح الحياة في جسد الجهاد، ويطهر التوحيد من كافة أنواع الشرك، ويفسر مفاهيم الدين بما يقضي علي كلّ انحراف وتشويه، وسيطرح الآراء

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 234

الشخصية المفروضة علي الدين، ويبعده عن صدأ العادات والتقاليد، وسينهض بالإسلام ويخرجه من حالة التقوقع الوطني والقومي ويظهره بشكله العالمي الأصيل، وسيقطع تلك الأيدي الأثيمة

التي دست الحيل الشرعية في الدين، ويعرض أحكامه وقوانينه كما ينبغي.

ويبدو أنّ سلسلة هذه التغييرات علي قدر من السعة والشمولية بحيث عبرت عنها بعض الروايات الإسلامية بالدين الجديد.

روي صاحب كتاب اثبات الهداة حديثاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إذا خرج القائم يقوم بأمر جديد، وكتاب جديد، وسنة جديدة، وقضاء جديد» «1».

ومن الواضح أنّ هذا الأمر الجديد والكتاب الجديد والقضاء الجديد لا يعني أنّه يأتي بدين جديد، بل يخرج الإسلام من خضم ما علق به من أساطير وخرافات وتحريفات وتفاسير خاطئة فيبدو وكأنّه دين جديد وبناء حديث.

كما أنّ الكتاب الجديد لا يعني نزول كتاب جديد عليه من السماء، ذلك لأن الإمام قائم وحافظ للدين، لا أنّه نبي ويأتي بكتاب جديد، بل يعيد القرآن الكريم إلي سابق عزّه فيبدو وكأنّه كتاب جديد بعد أن يطرح عنه التحريفات المعنوية والتفاسير المشبوهة.

والشاهد علي ذلك وإضافة إلي صراحة القرآن في مسألة ختم النبوة في

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 235

الآية 40 من سورة الأحزاب والروايات التي اثبتت صراحة خاتمية النبي صلي الله عليه و آله، بعض الأحاديث التي صرحت بأن سيرته سيرة جده رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والكتاب والسنّة.

سأل عبداللَّه بن عطاء الإمام الصادق عليه السلام عن سيرة المهدي عليه السلام فقال عليه السلام:

«يصنع ما صنع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يهدم ما كان قبله كما هدم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أمر الجاهلية ويستأنف الإسلام جديداً».

وورد في كتاب اثبات الهداة أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال:

«القائم من ولدي؛ اسمه اسمي وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنته سنتي، يقيم الناس علي شريعتي وطاعتي، ويدعوهم إلي كتاب ربّي» «1».

وورد في كتاب «منتخب

الاثر» عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال:

«وأنّ الثاني عشر من ولدي يغيب حتّي لا يري، ويأتي علي امّتي بزمن لا يبقي من الإسلام إلّااسمه، ولا يبقي من القرآن إلّارسمه فحينئذٍ يأذن اللَّه له تبارك وتعالي بالخروج فيظهر الإسلام به ويجدده» «2».

وهذه الأخبار صريحة بما يغنينا عن أي توضيح.

الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 237

«.. فواللَّه يا مفضل ليرفع عن الملل والأديان الاختلاف ويكون الدين كله واحداً، كما قال جلّ ذكره: إنّ الدِّين عند اللَّه الإسلام» «1».

ورد في تفسير بعض الآيات القرآنية التي أشارت إلي قيام المهدي عليه السلام.

وهكذا يرد الإسلام جميع القلوب والبيوت وزوايا الحياة بتوحيده الناصع.

مع ذلك لا يمكن القول إنّه سوف لن يكون هناك من وجود بصورة مطلقة لتلك الأقليات من اتباع الديانات الاخري في تلك الدولة، ذلك لأنّ الإنسان حر الإرادة وليس هنالك من اكراه في ذلك النظام، فمن الممكن أن يدفع الخطأ والتعصب بعض الأفراد لمواصلة عقائدهم السابقة وإن كان الإسلام هو الغالب وهذه مسأله طبيعية.

لكن علي كلّ حال إن كانت هناك مثل هذه الأقلية فهي أقلية وادعة، وبالتزامها بالمقررات الواردة في أهل الذمة فإنها تحظي بحماية الدولة الإسلامية.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 239

من الناس، وعلي ضوء الاستعداد الذهني للمسلمين وانتظار المهدي الموعود، بانتحال هذا الاسم وزعموا أنّهم المهدي.

إلّا أنّ مضي الزمان أثبت أنّهم ليس فقط لم يكونوا المهدي، بل كانوا من الظلمة الذين ينبغي القضاء عليهم بسيف المهدي.

وقد استمر هذا الأمر فكان البعض هنا وهناك يزعم أنّه المهدي ويجتمع حوله عدد من الأفراد، لكن سرعان ما ينكشف أمره.

طبعاً هذا الادّعاء يبدو كبيراً لا يصمد أمامه صاحبه وذلك لأنّ أهداف هذا المصلح تتمثل في مل الأرض قسطاً وعدلًا، وهذا يكفي لإفشال مخططات كلّ من يدعي أنّه المهدي.

وقد تفاوتت دوافع الأفراد في هذا الادّعاء، فالبعض كان مصاباً ببعض الأمراض النفسية أو السذاجة علي الأقل، بينما كان البعض الآخر يسعي وراء المنصب فادّعي ذلك لإشباع رغبته دون التأمل في عواقب الأمر.

كما كان البعض أُلعوبة بيد أعداء الإسلام الذين يستغلونهم لحرف أفكارهم من القضايا الحيوية التي يواجهونها، أو لبث الفرقة والاختلاف والنفاق بين صفوف المسلمين وإضعاف قدرة المذهب ولا سيّما قدرة علماء الدين الذين يشكلون الخطر الرئيسي الذي يهدد مصالحهم.

والخلاصة إنّ ادّعاء المهدوية تواصل حتّي الفتره الأخيره حين برز «السيّد محمّد علي باب»، رغم عدم قدرته بادئ الأمر علي مثل هذا الادّعاء، بل علي ضوء الوثائق الحية وشهادته المذكورة في كتبه أنّه لم يدع المهدوية، بل اكتفي بادعائه الباب وأنّه النائب الخاصّ للمهدي.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 243

ولكن مع مرور الزمان وتجمع البعض حوله جعله يغير رأيه فزعم أنّه المهدي «1».

وتفيد القرائن والوثائق عن سيرته وحياته وأتباعه- وقد جمعت بشكل رائع- أنّ ادّعاءَه هذا يعزي إلي الأسباب الثلاثة؛ أي من جانب عملاء الدول الاستعمارية- كروسية وبريطانيا وامريكا- حيث كان يتحرك علي ضوء توجيهاتهم ويحظي بدعمهم وإسنادهم، كما كان يسعي إلي الحصول

علي المنصب، وكان يشكو من بعض الأمراض النفسية «2».

ويبدو أنّه كانت هناك شبكة كبيرة، وقد عده بعض أعوانه متخلفاً فمنحوه شخصية تلعب دور مقدمة الظهور، وكان لهم دعاة كثيرون.

إلّا أن تشتت هذه الفرق «3» من جانب، ونشر الوثائق الحية عن الارتباط المباشر بالدول الاستعمارية، من جانب آخر «4».

والأهم من كلّ ذلك عدم وجود المضمون الذي يسعه تلبية رغبات حتّي عوام الناس، إلي جانب فضحهم من قبل بعض المسلمين الواعين علي أنّهم «حزب سياسي استعماري»، كلّ هذه الامور كشفت سريعاً عن حقيقة أمرهم.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 244

طبعاً بحثنا ليس في تقصي نقاط ضعف هؤلاء، فهذا يتطلب كتاباً مستقلًا، ولحسن الحظّ فقد أُلفت الكثير من الكتب بهذا الشأن وأنّ بعضها رائع في مضمونه «1».

وهدفنا هنا بيان موضوعين:

1- يقول البعض:

نعلم أنّ استغلالًا كبيراً حصل ويحصل بالنسبة للاعتقاد بظهور المهدي! أوليس من الأفضل أن نسكت عن هذا الموضوع لكي لا يكون شماعة فيستغله الآخرون، ولماذا نقر بشي ء يمكن أن ينعكس علينا سلباً؟

2- السؤال الآخر الذي يقابل السؤال الأوّل تقريباً:

هل كلّ من ادّعي المهدوية كان كاذباً، ألا يحتمل صدق البعض، فلم يكن الجميع ممّن يسعي إلي المنصب أو كان أُلعوبة بيد الاستعمار؟

وهدفنا هنا الجواب عن هذين السؤالين مع تحليل لهما.

أمّا بشأن السؤال الأوّل، فلابدّ بادئ الأمر من طرح هذا السؤال:

هل هنالك من حقيقة في هذه الدنيا لم تستغل من قبل الآخرين؟

أوَ لم يدلنا التاريخ علي كلّ أولئك الذين ادّعوا النبوة، ومازالت هذه الادعاءات قائمة حتّي في عصر الذرة والفضاء.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 245

فما أحرانا أن ننسي أصل دعوة الأنبياء ونتنكر كالبراهمة لأصل النبوة لكي نتخلص من الادعياء المستغلين!

هل هذا كلام منطقي؟

لقد سمعنا ونسمع الكثير من الأفراد الذين ينتحلون

مهنة الطب والهندسة بغية إشباع بطونهم والحصول علي الأموال، فهل يسعنا القول إنّ عنوان الطبيب أخذ يستغل من قبل البعض ولابدّ من التنكر بصورة تامة لهذه المهنة.

إنّ مثل هذا الكلام وإن بدا غاية البعد عن المنطق، إلّاأنّ المؤسف انه مذكور في بعض كتب من ينكر أصل ظهور المهدي.

علي كلّ حال فإن هذه قاعدة كلية في أنّ كلّ كذب يسعي لأن يلبس ثوب الصدق ليحظي بالاعتبار المطلوب، ليس هنالك من خائن وسارق وكاذب يظهر بصورته الحقيقية، بل يسعي لتحقيق أهدافه من خلال التظاهر بالأمانة والطهر والصدق. فهل هذا دليل علي عدم اعتبارية هذه المفاهيم الإنسانية الرفيعة. هذا أوّلًا.

وثانياً: هل الاعتقاد بظهور المهدي حقيقة مستغلة أم وهم وخيال؟ إن سلمنا بأنّه حقيقة- وينبغي أن تكون كذلك لوجود عدّة أدلة علي ذلك- فلا يمكن التخلي عنها لاستغلالها من قبل هذا أو ذاك، ولو (فرضاً) لم تكن حقيقة، فلابدّ من اسقاطها، سواء استغلت أم لم تستغل!

علي كلّ حال فإنّ اسلوب الاستفادة الصحيحة أو غير الصحيحة من موضوع لا يمكن أن تكون وسيله لاصدار الحكم بشأن ذلك الموضوع.

فلو أصبحت الطاقة الذرية وسيلة حربية مستغلة من قبل الظلمة لتضرب

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 246

بها منطقة هيروشيما وخلفت ثلاثمئة ألف قتيل ونفس هذا العدد من الجرحي الذين مازالوا يعانون من تلك الجروح بعد مرور ثلاثين سنة، فهل يدعونا هذا إلي التخلي عن هذه الطاقة العظيمة أو انكار أصل وجودها؟ أم نسعي إلي الاستفادة الصحيحة منها ولضمان مصالح المجتمع البشري.

أمّا السؤال الثاني فيبدو أهم وهو: هل كلّ من ادّعي المهدوية كان كاذباً؟

ونعتقد أنّ الجواب عن هذا السؤال يبدو سهلًا علي ضوء العلامات ونتائج هذا الظهور العظيم.

فقد علمنا في الأبحاث السابقة أنّ للمهدي رسالة

عالمية يسعي إلي تحقيقها من خلال الاستفادة من كافة الوسائل والامكانات المتاحة.

ورسالته الأصلية القضاء علي كافة أنواع الظلم والجور وإرساء قواعد الحكومة العالمية علي أساس العدل والقسط ومكافحة التمييز والاستعمار والاستغلال.

فهو ينهض بمستوي الأفكار.

وهو الذي يعمل علي تقدم العلوم والمعارف.

وهو الذي يحرك العالم في كافة المجالات.

وهو الذي يجمع كافة أتباع الأديان تحت راية واحدة.

وهو الذي يقوم بالتوزيع العادل لثروات العالم.

وهو الذي ينعش الاقتصاد العالمي بحيث لا يبقي محتاج في العالم.

وهو الذي يعطي كلّ ذي حقّ حقه.

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 247

وهو الذي لا يدع مكاناً خرباً إلّاعمَّره.

وسيبلغ الأمن في عصره مرحلة تجعل المرأة تنطلق من شرق العالم إلي غربه دون أن يسيئ لها أحد.

وسيستخرج كنوز الأرض ويصنع المجتمع التوحيدي الموحد.

هذه هي المشاريع العملية والخطط المنبثقة عن تلك النهضة العالمية الكبري في أكبر نهضة للتاريخ البشري، والتي أشارت إليها مختلف المصادر، وقد ذكرنا تفاصيلها في الفصول السابقة.

فهل استطاع أي من أولئك الادعياء تحقيق واحد بالألف من هذه المشاريع، بل هل استطاع أي منهم أن ينظم منطقته أو حيّه علي ضوء هذه البرامج؟

إننا نري اليوم مدي اتساع رقعة الظلم والجور والاعتداء وهضم الحقوق؛ وقد أودت الحرب العالمية الاولي والثانية بحياة الملايين وجرحت الملايين وملأت العالم بالدماء.

ومازالت الهوة تتعمق يوماً بعد آخر بين البلدان الغنية والفقيرة، بحيث ينام كلّ ليله ألف مليون من هذا العالم جوعي، ومازالت السجون مليئة بالأبرياء، ومازال الجبابرة يجرعون الناس أنواع العذاب، أي أنّ العالم مازال يأنُّ من الظلم والجور، فليت شعري متي ملئ بالعدل والقسط؟ وهذا أقوي دليل علي مزاعم أولئك الادعياء، رد قصير لكنه حاسم وقاطع.

أجل ما زالت تلك الشمس لم تخترق الحجب ولا بدّ من الانتظار حتّي ذلك اليوم الذي تنقشع

فيه كافة السحب والغيوم فيضي ء هذا

الحكومة العالمية للإمام المهدي(عج)، ص: 248

العالم المظلم بنور طلعته البهية، وما أقرب هذا اليوم «أليس الصبح بقريب».

انارك نائين «1» - ناصر مكارم الشيرازي

رمضان 1398 ه

تموز 1978 م