اعلام الهداية

اشارة

شابك: شابك دوره اي: 978-964-529-358-9

پديدآور: مجمع جهاني اهل بيت (ع) معاونت فرهنگي

عنوان و شرح مسئوليت: أعلام الهداية [منبع الكترونيكي] / لجنة التأليف في المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام

ناشر: موسسه تحقيقات و نشر معارف اهل البيت(ع)

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً). الأحزاب: 33: 33

أهل البيت في الُسنّة النبويّة

«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا».

«الصحاح والمسانيد»

الحمد لله الذي أعطي كلّ شيء خلقه ثم هدي، ثم الصلاة والسلام علي من اختارهم هداةً لعباده، لا سيما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبوالقاسم المصطفي محمد (صلي الله عليه وآله) وعلي آله الميامين النجباء.

لقد خلق الله الانسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.

وقد جعل الله العقل المميِّز حجةً له علي خلقه، وأعانه بما أفاض علي العقول من معين هدايته؛ فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلي طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلي هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.

وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة اُخري.

قال تعالي:

(قُلْ إنّ هُدي الله هو الهُدي) [الانعام (6): 71].

(والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم) [البقرة (2): 213].

(والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل) [الاحزاب (33): 4].

(ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلي صراط مستقيم) [آل عمران (3): 101].

(قل الله يهدي للحقّ أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتَّبع أ مّن لا يهدّي إلاّ أن يُهدي

فمالكم كيف تحكمون) [يونس (10): 35].

(ويري الذين اُوتوا العلم الذي اُنزل اليك من ربّك هو الحقّ ويهدي إلي صراط العزيز الحميد) [سبأ (34): 6].

(ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هديً من الله) [القصص (28): 50].

فالله تعالي هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الانسان إلي الصراط المستقيم وإلي الحقّ القويم.

وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم.

ولقد أودع الله في فطرة الانسان النزوع إلي الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلي الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف علي طريق الكمال، ومن هنا قال تعالي: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ) [الذاريات (51): 56]. وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلي قمّة الكمال.

وبعد أن زوّد الله الانسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال؛ لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة؛ والهوي الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الانسان بالإضافة إلي عقله وسائر أدوات المعرفة ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية؛ كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته.

ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الانسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء الارشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة.

وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلي مدي العصور والقرون، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء، كما أفصحت نصوص الوحي مؤيّدةً لدلائل العقل بأنّ الأرض لا تخلو من

حجة لله علي خلقه، لئلاّ يكون للناس علي الله حجّة، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن بشكل لا يقبل الريب قائلاً: (إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد) [الرعد (13): 7].

ويتولّي أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في:

1 تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الانعام (6): 124] و (الله يجتبي من رسله من يشاء) [آل عمران (3): 179].

2 إبلاغ الرسالة الإلهية الي البشرية ولمن اُرسلوا إليه، ويتوّقف الإبلاغ علي الكفاءة التامّة التي تتمثّل في «الاستيعاب والإحاطة اللازمة» بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و «العصمة» عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالي: (كان الناسُ اُمّةً واحدةً فبعث الله النبيِّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتابَ بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) [البقرة (2): 213].

3 تكوين اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالي: (يزكّيهم ويعلّمهم الكتابَ والحكمة) [الجمعة (62): 2] والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالي: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة) [الاحزاب (33): 21].

4 صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية، والتي تسمّي بالعصمة.

5 العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في

نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الاُطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف علي المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّي إدارة شؤون الاُمة علي أساس الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وصموداً كبيراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطي بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً علي مسيرة القيادة وانقياد الاُمة لها بحيث يتنافي مع أهداف الرسالة وأغراضها.

وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكّأوا طرفة عين.

وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ علي مدي العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله) وحمّله الأمانة الكبري ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي:

1 تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي علي عناصر الديمومة والبقاء.

2 تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.

3 تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة.

4 تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء.

5 تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في

قيادته (صلي الله عليه وآله).

ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري:

أ أن تستمرّ القيادة الكفؤة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر.

ب أن تستمرّ عملية التربية الصحيحة باستمرار الأجيال؛ علي يد مربٍّ كفؤ علمياً ونفسياً حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسلوك كالرسول(صلي الله عليه وآله)، يستوعب الرسالة ويجسّدها في كل حركاته وسكناته.

ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم علي الرسول (صلي الله عليه وآله) إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم؛ لتسلّم مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين، وتربية للأجيال علي قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها علي مرّ العصور، وحتي يرث الله الأرض ومن عليها.

وتجلّي هذا التخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرسول (صلي الله عليه وآله) بقوله: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض».

وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرم (صلي الله عليه وآله) بأمر من الله تعالي لقيادة الاُ مّة من بعده.

إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) تمثّل المسيرة الواقعية للاسلام بعد عصر الرسول (صلي الله عليه وآله)، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الاسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلي أعماق الاُمة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضأل بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله)، فأخذ الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يعملون علي توعية الاُمة وتحريك طاقتها باتجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشريعة ولحركة الرسول (صلي الله

عليه وآله) وثورته المباركة، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والاُمة جمعاء.

وتبلورت حياة الأئمّة الراشدين في استمرارهم علي نهج الرسول العظيم وانفتاح الاُمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء علي الله وعلي مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق اليه، والسابقين إلي تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود.

وقد حفلت حياتهم بأنواع الجهاد والصبر علي طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّي ضربوا أعلي أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالي، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ علي الحياة مع الذلّ، حتي فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.

ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق، عسي الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق.

إنّ دراستنا لحركة أهل البيت (عليهم السلام) الرسالية تبدء برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله) وتنتهي بخاتم الأوصياء، محمد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالي فرجه وأنار الأرض بعدله.

ويختصّ هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أول أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهو المعصوم الثاني من أعلام الهداية والذي تمثلت في حياته كل جوانب الشريعة روحاً وعملاً وسلوكاً، فكان نبراساً ومتراساً ومثلاً أعلي للبشرية بعد رسول الله محمد بن عبدالله (صلي الله عليه وآله).

ولا بدَّ لنا من ذكر كلمة شكر لكلّ العاملين الذين بذلوا جهداً في إخراج

هذا المشروع، لا سيما لجنة التأليف بإشراف سماحة السيد منذر الحكيم حفظه الله تعالي.

وأخيراً نسأل الله تعالي أن يوفّقنا لإتمام الكتب الاُخري من هذه السلسلة، وهو حسبنا نعم المولي ونعم النصير.

المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)

قم المقدسة

الامام المرتضي علي بن أبي طالب في سطور

- هو أميرالمؤمنين وسيّد الوصيّين وأوّل خلفاء الرسول (صلي الله عليه وآله) المهديّين بأمر من الله ونصّ من رسوله (صلي الله عليه وآله) وقد صرّح القرآن بعصمته وتطهيره من كلّ رجس، وباهل به وبزوجته وولديه رسول الله (صلي الله عليه وآله) نصاري نجران، واعتبره من القربي الذين وجبت مودّتهم مصرّحاً غير مرّة بأنّها عِدل الكتاب المجيد الموجبين للمتمسّك بهما النجاة وللمتخلّف عنهما الردي.

- نشأ الإمام في حجر رسول الله (صلي الله عليه وآله) منذ نعومة أظفاره، وتغذّي من معين هديه، فكان المتعلّم الوفيّ والأخ الزكيّ، وأوّل من آمن وصلّي وأصدق من تفاني في سبيل ربّه وضحّي في سبيل إنجاح رسالته في أحرج لحظات صراعها مع الجاهلية العاتية في كلّ صورها في العهدين المكّي والمدني وفي حياة الرسول وبعد رحيله ذائباً في مبدئه ورسالته وجميع قيمه مجسّداً للحقّ بكلّ شُعَبِه من دون أن يتخطّاها قيد أنملة أو ينحرف عنها قيد شعرة.

- لقد وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية بن أبي سفيان حتي أبكاه وأبكي القوم وجعله يترحّم عليه، بقوله:

«كان والله بعيد المدي شديد القوي، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة طويل الفكرة، يقلّب كفّه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه، وينبّئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع

تقريبه إيّانا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإن ابتسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله [1].

- لقد آزر الإمام (عليه السلام) رسول الله منذ بداية الدعوة، وجاهد معه جهاداً لا مثيل له في تأريخ الدعوة المباركة حتي تفرّي الليل عن صُبحه وأسفر الحقّ عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين بعد أن مُني بذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب [2].

- وبعد أن خطا الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) لتغيير المجتمع الجاهلي خطواته المدهشة في تلك الفترة القصيرة كان الطريق أمام الاسلام لبلوغ أهدافه الكبري شاقاً وطويلاً يتطلّب التخطيط الكامل والقيادة الواعية التي لا تقلّ عن شخصية الرسول القائد إيماناً وكمالاً وإخلاصاً ودرايةً وحنكةً، وكان من الطبيعي للرسالة الخاتمة أن تخطّط لمستقبل هذه الدعوة التي تعتبر عصارة دعوات الأنبياء جميعاً ووريثة جهودهم وجهادهم المتواصل عبر التأريخ.. وهكذا كان إذ اختار النبيّ الخاتم (صلي الله عليه وآله) بأمر من الله سبحانه شخصاً رشّحه عمق وجوده في كيان الدعوة حتي تفاني في أهدافها وخلص من جميع شوائب الجاهلية ورواسبها وتحلّي بأعلي درجات الكفأة وعياً وإيماناً وإخلاصاً وتضحيةً في سبيل الله.

لقد كان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو ذلك البديل الذي أعدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله) إعداداً رسالياً خاصّاً ليحمّله المرجعية الفكرية والسياسية من بعده، كي يواصل عملية التغيير الطويلة الرائدة بمساندة القاعدة الواعية التي أعدّها الرسول (صلي الله عليه وآله) له من المهاجرين والأنصار.

- ولكنّ الجاهلية المتجذّرة في أعماق ذلك المجتمع ما كانت لتندحر في بدر وحُنين وخلال عقد واحد من الصراع والكفاح، وكان من الطبيعي أن تظهر من

جديد متستِّرة بشعار إسلامي كي تستطيع أن تظهر علي المسرح الاجتماعي من جديد ولو بعد عقود من الزمن، وكان من الطبيعي أيضاً أن تتسلّل الي المواقع القيادية بشكل مباشر أو غير مباشر.. ومن هنا كانت الردّة الي المفاهيم والعادات الجاهلية من خلال الالتفاف علي القيادة الشرعية للمجتمع الإسلامي الفتي الذي كانت تحدق به الأخطار من كلّ جانب، ولم تكتمل قواعده وعياً ونضجاً أمراً محتملاً بل متوقّعاً لكلّ قياديّ يمتلك أدني وعي سياسيّ واجتماعيّ، فكيف برسول الله وخاتم أنبيائه (صلي الله عليه وآله)؟

- وإذا كانت الرسالة الإسلامية تهدف الي تغيير الواقع الاجتماعي الجاهلي، فلابدّ أن تلاحظ هذا الواقع بكل ملابساته ورسوباته، وتخطّط للتغيير الشامل علي المدي القريب والبعيد معاً … وهكذا كان، فقد رسمت الرسالة الخط الطبيعي الذي يفرضه المنطق التشريعي للمسيرة الإسلامية الرائدة، حيث تجلّي ذلك في إرجاع الأُمّة فكرياً وسياسياً الي الأئمّة المعصومين من كلّ رجس جاهلي، بعد أن نصب النبيّ عليّاً في غدير خم أميراًللمؤمنين، وأحكم له الأمر بأخذ البيعة له من عامّة المسلمين.

- لقد اصطدم التخطيط الرائد بواقع كان متوقّعاً للنبيّ (صلي الله عليه وآله) وبتيّار جارف يعود الي نقصان الوعي عند الاُمّة التي تشكّل القاعدة الأمينة لحماية القيادة الرشيدة، بحيث لم يكن يدرك عامّة المسلمين بعمق أنّ الجاهلية تتآمر وراء الستار عليهم وعلي الثورة الإسلامية الفتيّة، وأنّ القضية ليست قضية تغيير شخص القائد بقائد آخر، وإنّما القضية قضية تغيير خط الإسلام المحمدي الثوري بخط جاهلي متستّر بالإسلام.

- وهكذا أجهضت السقيفةُ التخطيطَ الرائدَ للنبيّ القائد (صلي الله عليه وآله) حينما وجدت أنّ الساحة قد خلت منه، وتحقّقت نبؤة القرآن العظيم حين قال: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن

مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم) [3]؟!!.

لقد كان النبيّ جعل عليّاً أميناً علي رسالته واُمّته ودولته، وكلّفه بحفظ الرسالة والشريعة كما كلّفه بتربية الاُمّة الفتيّة وصيانة الدولة التي لم تترسخ جذورها بعد.

وحاول الإمام عليّ (عليه السلام) إرجاع الاُمور الي مجاريها بإدانة السقيفة ونتائجها وبالامتناع من البيعة والتصدّي للمؤامرة، ولكن دون جدوي، بل كان الأمر قد دار بين انهيار الدولة سياسياً ودولياً وبين حفظها مع تصدّي غير الأكفّاء للقيادة.

- لقد وقف الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) موقفاً مبدئياً سجّله له التأريخ حيث قال: «فأمسكت يديّ حيث رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون الي محق دين محمد (صلي الله عليه وآله) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله؛ أن أري فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب» [4].

- وتلخّصت مواقف هذا الإمام العظيم خلال خمسة وعشرين عاماً من المحنة وهو يلعق الصبر الأمرّ من العلقم علي حدّ تعبيره (عليه السلام) في الحفاظ علي وحدة الاُمّة الإسلامية وعدم تصدّع الدولة النبويّة الفتيّة ولو بالتنازل عن حقّه الشرعي مؤقّتاً، وتقديم المشورة للخلفاء وإسداء النصح لهم، مع التوجّه الي جمع القرآن وتفسيره، وتثقيف الاُمّة علي مفاهيمه وتوعيتها علي حقائقه، وكشف النقاب عن حقيقة المؤامرة التي دانت لها طوائف من المسلمين، والتصدّي لأخطاء الحكّام في الفهم والتطبيق لأحكام الشريعة الإسلامية، وإيجاد كتلة صالحة تؤمن بالتخطيط النبويّ الرائد للقيادة الإسلامية، وتسهر علي نشره وتبليغه، وتضحّي من أجل تطبيقه وتنفيذه.

- واستطاع الإمام بعد عقدين ونصف من الصبر والكدح أن يقتطف ثمار سعيه، وبعد أن تكشّفت حقائق كانت وراء

الستار وتجلّي للاُمّة بجيليها الطليعي والتابع أنّ عليّاً (عليه السلام) هو الجدير بالخلافة دون غيره، وأنّه هو الذي يستطيع إصلاح ما فسد بالرغم من تعقّد الظروف وتبلبل القلوب واشتداد زاوية الانحراف عن نهج الحقّ القويم، حتي قال (عليه السلام): «والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة، ولكنّكم دعوتموني اليها وحملتموني عليها» [5].

- وأعلن الإمام عن سياسته قائلاً: «واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ الي قول القائل وعتب العاتب» [6] وقال أيضاً: «اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك» [7].

وأجهد الإمام (عليه السلام) نفسه علي أن يحقّق بين الناس العدل الاجتماعي والسياسي وفي طريق لا التواء فيه، وأن يسود الأمن والحرية والرخاء والاستقرار مع الاحتفاظ بوحدة الاُمّة مع السعي في تربيتها وتعليمها وإعطائها كامل حقوقها، وعزل الجهاز الإدراي الفاسد واستبداله بالولاة والعمّال الصالحين أو المعروفين بالصلاح ومراقبتهم أشدّ المراقبة، حيث أقصي عن دائرة المسؤولية كل الانتهازييّن والطامعين، والتزم الصراحة والحقّ والصدق في كلّ مجال، فلم يخادع ولم يوارب، فسار (عليه السلام) علي منهاج أخيه وابن عمّه رسول الله (صلي الله عليه وآله).

- وبدأت تتحرّك كلّ القوي الطامعة والانتهازية التي خسرت مواقعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ضدّ الإمام، وأخذت تتكاتف كلّ القوي التي دعت لمقاتلة عثمان والتحريض عليه يوم أمس، رافعة شعار المطالبة بدم عثمان مندّدة بسياسة الإمام الحكيمة والنزيهة، فنكثت طائفة وقسطت اُخري ومرقت ثالثة، وإذا بالإمام بعد كفاح مرير يقع شهيداً مخضّباً بدمائه الطاهرة في محراب عبادته وفي مسجد الكوفة

وفي ليلة القدر من عام (40) من الهجرة النبوية، إنّه الفوز بالشهادة والفوز بالثبات علي القيم الرسالية الفريدة والثبات علي الحقّ اللاحب والجهاد في سبيل إرساء قواعد الدين، إنّها ثورة القيم الإلهية علي القيم الجاهلية بكل شُعبها وفروعها.

فسلام عليك يا أميرالمؤمنين وقائد الغر المحجّلين يوم ولدت ويوم رُبّيت في حجر الرسالة، ويوم جاهدت من أجل أن تعلو راية الإسلام خفّاقة، ويوم صبرت ونصحت، ويوم بويعت وحكمت، ويوم كشفت النقاب عن براثن الجاهلية المتستّرة بشعار الإسلام، ويوم استشهدت وأنت تروّي بدمك الطاهر شجرة الإسلام الباسقة، ويوم تبعث حيّاً وأنت تحمل وسام الفوز في أعلي علّيّين.

انطباعات عن شخصية الإمام علي بن أبي طالب

لقد عاصر الإمام عليّ (عليه السلام) حركة الوحي الرسالي منذ بدايتها حتي انقطاع الوحي برحيل رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وكانت له مواقفه المشرّفة والتي يغبط عليها في دفاعه عن الرسول والرسالة طيلة ثلاثة وعشرين عاماً من الجهاد المتواصل والدفاع المستميت عن حريم الإسلام الحنيف، وقد انعكست مواقفه وإنجازاته وفضائله في آيات الذكر الحكيم ونصوص الحديث النبويّ الشريف.

قال ابن عباس: قد نزلت ثلاثمائة آية في عليّ (عليه السلام) [29]. وما نزلت: (يا أيّها الذين آمنوا) إلاّ وعليّ أميرها وشريفها [30]. ولقد عاتب الله أصحاب محمّد في آي من القرآن وما ذكر عليّاً إلاّ بخير [24].

ولكثرة ما نزل في علي (عليه السلام) من الآيات المباركة؛ خصّص جمع من المتقدّمين والمتأخرين كتباً جمعت ما نزل فيه (عليه السلام). ونشير الي بعض الآيات التي صرّح المحدّثون بنزولها في حقّه منها:

1 ما عن ابن عباس: أنه كان مع عليّ بن أبي طالب أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً، فأنزل الله سبحانه وتعالي: (الذين ينفقون أموالهم بالليل

والنهار سرّاً وعلانية فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون) [25].

2 وعن ابن عباس أيضاً: أنّ عليّاً (عليه السلام) تصدّق بخاتمه وهو راكع، فقال النبيّ (صلي الله عليه وآله) للسائل: من أعطاك هذا الخاتم؟ قال: ذاك الراكع، فأنزل الله: (إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) [26].

3 وقد اعتبرت آية التطهير [27] عليّاً (عليه السلام) من أهل بيت الوحي المطهَّرين من كلّ رجس، واعتبرته آية المباهلة [28] نفس النبي (صلي الله عليه وآله).

4 وشهدت سورة الإنسان بإخلاص عليّ وأهل بيته وخشيتهم من الله، وتضمّنت الشهادة الربّانية لهم بأنّهم من أهل الجنّة [29].

وعقد أرباب الصحاح وغيرهم من المحدّثين فصولاً خاصّة بفضائل عليّ (عليه السلام) في أحاديث رسول الله (صلي الله عليه وآله)، ولم تعرف الإنسانية في تأريخها الطويل رجلاً أفضل من عليّ (عليه السلام) بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله)، ولم يسجّل لأحد من الفضائل ما سجّل لعليّ بن أبي طالب بالرغم من كلّ ما ناله عليّ (عليه السلام) من سبّ وشتم علي المنابر طوال حكم بني اُميّة وما تداوله مبغضوه. وهم في صدد انتقاصه حتي لم يجدوا للعيب موضعاً فيه، ومما قاله عمر بن الخطّاب أنّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال: «ما اكتسب مكتسب مثل فضل عليّ، يهدي صاحبه الي الهدي ويردّه عن الردّي» [30].

وقيل لعليّ (عليه السلام): ما لك أكثر أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) حديثاً؟ فقال: «إنّي كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكتّ ابتدأني» [24].

وعن ابن عمر: أنّ النبيّ (صلي الله عليه وآله) يوم آخي بين أصحابه وجاء عليّ وعيناه تدمع قال (صلي الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): «أنت

أخي في الدنيا والآخرة» [25].

وعن أبي ليلي الغفاري أنّه قال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: «سيكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب فإنّه أول من آمن بي، وأوّل من يصافحني يوم القيامة، وهو الصدّيق الأكبر، وهو فاروق هذه الاُمّة، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين» [26].

واعترف الخلفاء جميعاً بأنّ عليّاً أعلم الصحابة وأقضاهم، وأنّه لولا عليّ؛ لهلكوا حتي صارت مقولة عمر مضرب الأمثال: لولا عليّ؛ لهلك عمر [27].

وعن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال: ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغض عليّ بن أبي طالب [28].

ولمّا بلغ معاوية مقتل عليّ (عليه السلام) قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب [29].

وقال الشعبي: كان عليّ بن أبي طالب في هذه الاُمّة مثل المسيح بن مريم في بني اسرائيل، أحبّه قوم فكفروا في حبّه، وأبغضه قوم فكفروا في بغضه [30].

وكان أسخي الناس، وكان علي الخلُق الذي يحبّه الله: السخاء والجود، ماقال: «لا» لسائل قطّ [24].

وقال صعصعة بن صوحان لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يوم بويع: والله يا أميرالمؤمنين لقد زيّنت الخلافة وما زانتك ورفعتها وما رفعتك، ولَهي إليك أحوج منها إليك.

وعن ابن شبرمة: أنّه ليس لأحد من الناس أن يقول علي المنبر: «سلوني» غير علي بن أبي طالب [25].

وقام القعقاع بن زرارة علي قبره فقال: رضوان الله عليك يا أميرالمؤمنين، فوالله لقد كانت حياتك مفتاح الخير، ولو أنّ الناس قبلوك؛ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنّهم غمطوا النعمة وآثروا الدنيا [26].

وقال «المسيحي» جورج جرداق في كتابه «الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية»: إنّ عليّ بن أبي طالب من الأفذاذ النادرين، إذا عرفتهم علي حقيقتهم بعيداً عن الصعيد التقليدي عرفت

أنّ محور عظمتهم إنّما هو الإيمان المطلق بكرامة الإنسان وحقّه المقدّس في الحياة الحرّة الشريفة، وبأنّ هذا الإنسان منظور أبداً، وبأن الجمود والتقهقر والتوقّف عند حال من أحوال الماضي أو الحاضر ليست إلاّ نذير الموت ودليل الفناء [27].

وقال شبلي شميل: الإمام عليّ بن ابي طالب، عظيم العظماء، نسخة مفردةٌ لم يرَ لها الشرق ولا الغرب صورةً طبق الأصل لاقديماً ولا حديثاً [28].

وبقدر ما بقي عليّ رمزاً وقيادةً عمليةً معاً، ملتزماً مع جيل الصحابة الكبار بالمفهوم الأوّل للإسلام كهداية وتضحية من أجل إصلاح العالم ودفعه الي طريق الحقّ والعدل، أي بمفهوم الدين كثورة دائمة ومستمرّة. كان معاوية يبرز من خلال صراعه مع عليّ … ممثلاً لجيل المسلمين الجديد الذي وضعته الفتوحات في قمّة السلطة من جهة، وفرضت عليه أن يري الاُمور أيضاً من وجهة نظر الحفاظ علي المكتسبات المادية … وفي مثل هذه المواجهة العنيدة القاسية الممزّقة المدمّرة فقط كان معاوية يستطيع أن يولّد المشاعر الدنيويّة القويّة ويمزّق وحدة المسلمين ويشقّ وعيهم، وينتزع للسياسة السلطانية والدولة في مواجهة الروح الرسالية والثورية أرضاً جديدة من أملاك الدين الشامل [29].

وكتب الاستاذ هاشم معروف: لقد كان الإمام عليّ بن أبي طالب حدثاً تأريخياً غريباً عن طباع الناس وعاداتهم منذ ولادته وحتي النفس الأخير من حياته، فقد أطلّ علي هذه الدنيا من الكعبة … فكانت ولادته في ذلك المكان حدثاً تأريخياً لم يكن لأحد قبله ولم يحدث لأحد بعده، وكما دخل هذه الدنيا من بيت الله فقد خرج منها حين أقبل عليه الموت من بيت الله … وقال: ولم يحدث لإنسان غيره ما حدث له، فقد وضعه من لا يؤمنون به إيمان شيعته ومحبّيه في طليعة قادة الفكر وعباقرة العصور،

ووصفه المعتدلون من محبّيه الي جانب الأنبياء والمرسلين، والمغالون منهم في مستوي الآلهة [30].

مظاهر من شخصية الإمام علي

اشاره

اجتمع للإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخِلال، وسناء الحسب وعظيم الشرف، مع الفطرة النقيّة والنفس المرضيّة ما لم يتهيّأ لغيره من أفذاذ الرجال.

تحدّر من أكرم المناسب وانتمي الي أطيب الأعراق، فأبوه أبوطالب عظيم المشيخة من قريش، وجدّه عبدالمطلب أمير مكّة وسيّد البطحاء، ثمّ هو قبل ذلك من هامات بني هاشم وأعيانهم [31].

واختص بقرابته القريبة من الرسول (صلي الله عليه وآله)، فكان ابن عمّه وزوج ابنته وأحبّ عترته إليه، كما كان كاتب وحيه، وأقرب الناس الي فصاحته وبلاغته، وأحفظهم لقوله وجوامع كلمه.

أسلم علي يديه قبل أن تمسّ قلبه عقيدة سابقة، أو يخالط عقله شوبٌ من شرك، ولازمه فتيً يافعاً في غدوّه ورواحه وسلمه وحربه حتي تخلّق بأخلاقه واتّسم بصفاته، وفقه عنه الدين وتفقّه ما نزل به الروح الأمين، فكان من أفقه أصحابه وأقضاهم وأحفظهم وأدعاهم وأدقّهم في الفتيا وأقربهم الي الصواب، حتي قال فيه عمر: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبوالحسن [32].

فكان العالم المجرّب الحكيم والناقد الخبير، وكان لطيف الحسّ، نقيّ الجوهر، وضّاء النفس، سليم الذوق، مستقيم الرأي، حسن الطريقة، سريع البديهة، حاضر الخاطر، عارفاً بمهمّات الاُمور [33].

عبادته وتقواه

اشتهر عليّ بن أبي طالب بتقواه التي كانت علّة الكثير من تصرّفاته مع نفسه وذويه والناس … وفيما تري العبادة لدي المعظم رجع أصداء الضعف في نفوسهم أحياناً، ومعنيً من معاني التهرّب من مواجهة الحياة والأحياء أحياناً اُخري، وهوساً موروثاً ثمّ مدعوماً بهوس جديد مصدره تقديس الناس والمجتمع لكلّ موروث في أكثر الأحيان … تراها تشتهر عند الإمام أخْذاً من كلّ قوّة ووصلاً لأطراف الحلقة الخلقية التي تشتدّ وتمتدّ حتي تجمع الأرض والسماء، ومعنيً من معاني الجهاد في سبيل ما يربط

الأحياء بكلّ خير، وهي علي كلّ حال شيء من روح التمرّد علي الفساد يريد محاربته من كلّ صوب، ثمّ علي النفاق وروح الاستغلال والاقتتال من أجل المنافع الخاصّة.. وعلي المذلّة والفقر والمسكنة والضعف، ثمّ علي سائر الصفات التي تميّز بها عصره المضطرب القلق.

إنّ من تبصّر في عبادة الإمام، تبيّن له أنّ عليّاً متمرّد في عبادته وتقواه، كما هو متمرّد في اُسلوبه في السياسة والحكم، ففي عبادته افتتان الشاعر يقف في هيكل الوجود الرحب صافي النفس ممتلئ القلب، حتي إذا انكشفت له جمالات هذا الكون؛ تجاوبت وما في كيانه من أصداء وأظلال وموازين، فأطلق هذه الكلمة الرائعة التي نري فيها دستوراً كاملاً لتقوي الأحرار وعبادة عظماء النفوس: «وإنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار» [34].

إنّ عبادة الإمام ليست شيئاً من سلبيّة الخائف الهارب أو التاجر الراغب كما هي الحال عند الكثيرين من المتعبّدين، بل هي شيء من إيجابية الإنسان العظيم الواعي نفسه والكون علي أساس من خبرة المجرّب وعقل الحكيم وقلب الشاعر.

وبهذا المفهوم للتقوي والعبادة كان عليّ يوجّه الناس الي أن يتّقوا الله في سبيل الخير الإنساني العام، أو قل: في سبيل أمر أجلّ من رغبة تجّار العبادات في نعيم الآخرة، كان يوجّههم الي التقوي لعلّ فيها ما يحملهم علي أن يعدلوا وينصفوا المظلوم من الظالم فيقول: «عليكم بتقوي الله.. وبالعدل علي الصديق والعدوّ» [35]. ولا خير في التقوي في نظر الإمام؛ إلاّ إذا دفعتك الي أن تعترف بالحقّ قبل أن تشهد عليه، وألاّ تحيف علي من تبغض ولا تأثم، والحياة بهذا المعني للعبادة لا تبتغي لمتاع ولا تُرجي

للذّة عابرة.

زهده

لقد زهد عليّ في الدنيا وتقشّف، وكان صادقاً في زهده كما كان صادقاً في كلّ ما نتج عن يمينه أو بَدَر من قلبه ولسانه، زهد في لذّة الدنيا وسبب الدولة وعلّة السلطان وكلّ ما يطمح لبلوغه الآخرون، ويَرَوْن أنّه مرتكز وجودهم، فإذا هو يسكن مع أولاده في بيت متواضع تأوي اليه الخلافة لا المُلك، وإذا هو يأكل الشعير تطحنه امرأته بيديها فيما كان عمّاله يعيشون علي أطايب الشام وخيرات مصر ونعيم العراق، وكثيراً ما كان يأبي علي زوجته أن تطحن له، فيطحن لنفسه وهو أميرالمؤمنين، ويأكل من الخبز اليابس الذي يكسره علي ركبته، وكان إذا أرعده البرد واشتدّ عليه الصقيع لا يتّخذ له عدّة من دثار يقيه أذي البرد، بل يكتفي بما رقّ من لباس الصيف إغراقاً منه في صوفيّة الروح.

روي هارون بن عنترة عن أبيه، قال: دخلتُ علي عليّ بالخورنق، وكان فصل شتاء، وعليه خلق قطيفة هو يرعد فيه، فقلت: يا أميرالمؤمنين! إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً وأنت تفعل ذلك بنفسك؟ فقال: «والله ما أرزؤكم شيئاً، وما هي إلاّ قطيفتي التي أخرجتها من المدينة» [36].

وأتي أحدهم عليّاً بطعام نفيس حلو يقال له: الفالوذج، فلم يأكله عليّ ونظر اليه يقول: «والله إنّك لطيّب الريح حسن اللون طيّب الطعم، ولكن أكره أن اُعوّد نفسي ما لم تعتد» [37].

ولعمري إنّ زهد عليّ هذا ليس إلاّ معنيً ومزاجاً من معاني فروسيّته ومزاجها وإن بدا للبعض أنّهما مختلفان.

وقد حملت هذه السيرة الطيّبة عمر بن عبدالعزيز أحد خلفاء الاُسرة الاُموية التي تكره عليّاً وتختلق له السيّئات وتسبّه علي المنابر علي أن يقول: أزهد الناس في الدنيا عليّ بن أبي طالب [38].

والمشهور أنّ عليّاً

أبي أن يسكن قصر الإمارة الذي كان معدّاً له بالكوفة، لئلاّ يرفع سكنه عن سكن اُولئك الفقراء الكثيرين الذين يقيمون في خِصاصهم البائسة، ومن كلامه هذا القول الذي انبثق عن اُسلوبه في العيش انبثاقاً: «أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أميرالمؤمنين ولا اُشاركهم في مكاره الدهر؟!» [39].

اباؤه وشهامته

مثّل عليّ بن أبي طالب الفروسيّة بأروع معانيها وبكلّ ما تنطوي عليه من ألوان الشهامة. والإباء والترفّع أصلان من اُصول روح الفروسيّة، فهما إذن من طبائع الإمام، لذلك كان بغيضاً لديه أن ينال أحداً من الناس بالأذي وإن آذاه، وأن يبادر مخلوقاً بالاعتداء ولو علي ثقة بأنّ هذا المخلوق يقصد قتله.

وروح الإباء والترفّع هذه هي التي ارتفعت به عن مقابلة الاُمويين بالسباب يوم كانوا يرشقونه به.. بل إنّه منع علي أصحابه أن ينالوا الاُمويين بالشتيمة المقذعة حتي قال لهم: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم؛ كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتّي يعرف الحقّ مَن جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان مَن لهج به» [40].

مرؤته

إنّ مرؤة الإمام أندر من أن يكون لها مثيل في التأريخ، وحوادث المرؤة في سيرته أكثر من أن تعدّ، منها أنّه أبي علي جنده وهم في حال من النقمة والسخط أن يقتلوا عدوّاً تراجع، كما أبي عليهم أن يكشفوا ستراً أو يأخذوا مالاً، ومنها: أنّه حين ظفر بألدّ أعدائه الذين يتحيّنون الفرص للتخلّص منه؛ عفا عنهم وأحسن اليهم وأبي علي أنصاره أن يتعقّبوهم بسؤ وهم علي ذلك قادرون [41].

صدقه وإخلاصه

وتتماسك هذه الصفات الكريمة في سلسلة لا تنتهي؛ وبعضها علي بعض دليل، ومن أروع حلقاتها: الصدق والإخلاص، وقد بلغ به الصدق مبلغاً أضاع به الخلافة، وهو لو رضي عن الصدق بديلاً في بعض أحواله؛ لما نال منه عدوّ ولا انقلب عليه صديق.. لقد رفض أن يقرّ معاوية علي عمله وقال: «لا اُداهن في ديني ولا اُعطي الدنيّة في أمري»؟. ولمّا ظهرت حيلة معاوية؛ أطلق عبارته التي صحّت أن تكون صيغة للخلق العظيم: «والله ما معاوية بأدهي منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر؛ لكنت من أدهي الناس» [42]. وقال مشدّداً علي ضرورة الصدق مهما اختلفت الظروف: «الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك، علي الكذب حيث ينفعك» [43].

شجاعته

إن شجاعة الإمام هي من الإمام بمنزلة التعبير من الفكرة وبمثابة العمل من الإرادة، لأنّ محورها الدفاع عن طبع في الحق وإيمان بالخير، والمشهور أنّ أحداً من الأبطال لم ينهض له في ميدان.. فقد كان لجرأته علي الموت لا يهاب صنديداً، بل إنّ فكرة الموت لم تجل مرة في خاطر الإمام وهو في موقف نزال، وأنّه لم يقارع بطلاً إلاّ بعد أن يحاوره لينصحه ويهديه.

وكان عليّ مع قوته البالغة يتورّع عن البغي أيّاً كان الظرف، وأجمع المؤرّخون علي أنّه كان يأنف القتال إلاّ اذا حُمِل عليه حملاً، فكان يسعي أن يسوّي الاُمور مع خصومه.. علي وجوه سلميّة تحقن الدم وتحول دون النزال.

وطبيعة التورّع عن البغي أصل من اُصول نفسيّة عليّ وخلق من أخلاقه، وهي متّصلة اتّصالاً وثيقاً بمبدئه العام الذي يقوم بمعرفة العهد وصيانة الذمّة والرحمة بالناس حتي يخونوا كلّ عهد ويقسوا دون كلّ رحمة.

وما كان لعليّ أن يستنجد الصداقة علي العداوة؛ لولا ذلك الفيض العظيم من الوفاء

والحنان الذي تزخر به نفسه ويطغي علي جنانه.

ولكنّ صاحب المودّات لم يرعَ أصدقاؤه له مودّة، لأنّهم لم يكونوا ليطمعوا بأن يحولوا بينه وبين نفسه، فيطلق أيديهم في خيرات الأرض دون سائر الخلق، يقول عليّ (عليه السلام): «والله لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها علي أن أعصي الله في نملة أسلُبها جَلبَ شعيرة ما فعلتُ، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة» [44] وليس عليّ في هذا المجال قائلاً ثمّ عاملاً، بل هو القول يجري من طبيعة العمل الذي يُعمل والشعور الذي يُحَسّ … فعليّ أكرم الناس مع الناس، وأبعد الخلق عن أن ينال الخلق بالأذي، وأقربهم الي بذل نفسه في سبيلهم علي أن يقتنع ضميره بضرورة هذا البذل، أوَليست حياته كلّها سلسلة معارك في سبيل المظلومين والمستضعفين، وانتصاراً دائماً للاُ مّة دون من يريدونه آلة إنتاج لهم من السادة ورثة الأمجاد العائلية، أولم يكن سيفاً صارماً فوق أعناق القرشيّين الذين أرادوا استغلال الخلافة والإمارة للسلطان والجاه وتكديس الأموال؟! أَلمْ يَضع الخلافةَ والحياةَ علي الأرض لأنّه أبي مسايرة أهل الدنيا في استعباد إخوانهم الضعفاء والفقراء والمظلومين؟

عدله

ليس غريباً أن يكون عليٌّ أعدل الناس، بل الغريب أن لا يكونَهُ، وأخبار عليّ في عدله تراثٌ يشرّف المكانة الإنسانية والروح الإنساني.

وكان الإمام يأبي الترفّع عن رعاياه في المخاصمة والمقاضاة، بل إنّه كان يسعي الي المقاضاة إذا وجبت لتشبّعه بروح العدالة.

وتجري في روحه العدالة حتي أمام أبسط الاُمور، ووصايا الإمام ورسائله الي الولاة تكاد تدور حول محور واحد هو العدل، وقد انتصر العدل في قلب عليّ وقلوب أتباعه وإن ظلموا وظلم.

تواضعه

إنّ من اُصول أخلاق الإمام أنّه كان يعتمد البساطة ويمقت التكلّف. وكان يقول: «شر الإخوان من تكلّف له» [45] ويقول: «إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه» [46] ويقصد بالاحتشام مراعاته حتي التكلّف.

وكان لا يتصنّع في رأي يراه أو نصيحة يسديها أو رزق يهبه أو مال يمنعه. وكانت هذه الطبيعة تلازمه حتي يسأم أصحاب الأغراض من استرضائه بالحيلة. وإذا هم ينسبون اليه القسوة والجفوة والزهو علي الناس، وليس صدق الشعور وإظهاره زهواً وليس جفوة، بل إنّه كان يمقت الزهو والعجب.. ولطالما نهي ولدَه وأعوانه وعمّاله عن الكبر والعجب قائلاً: «إيّاك والإعجاب بنفسك، واعلم أنّ الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب» [47]. وكره التكلّف في محبّيه الغالين كما كره التكلّف في مبغضيه المفرطين فقال: «هلك فيّ اثنان: محبٌ غال ومبغضٌ قال» [48].

لقد كان يخرج الي مبارزيه حاسر الرأس ومبارزوه مقنعون بالحديد، أفعجيب أن يخرج اليهم حاسر النفس وهم مقنعون بالحيلة والرياء؟.

نقاؤه

وتميّز عليّ بسلامة القلب، فهو لا يحمل ضغينة علي مخلوق ولا يعرف حقداً علي ألدّ أعدائه ومناوئيه ومن يحقدون عليه حسداً وكرهاً.

كرمه

وكان من خلقه أ نّه كان كريماً ولاحدود لكرمه، ولكنّه الكرم السليم باُصوله وغاياته لا كرم الولاة الذين «يكرمون» بأموال الناس وجهودهم. وهذا الكرم لم يعرفه عليٌّ مرّة في حياته، وإنّما كرمه هو الذي يعبّر عن جملة المرؤات، ففيما كان يزجر ابنته زجراً شديداً إذ هي استعارت من بيت المال قلادة تتزيّن بها في عيد من الأعياد. كان يسقي بيده النخل لقوم من يهود المدينة حتي تمْجلَ يده فيتناول اُجرته فيهبها لأهل الفاقة والعوز ويشتري بها الأرقاء ويحرّرهم في الحال.

وقد شهد معاوية علي كرم عليّ قائلاً: لو ملك عليّ بيتاً من تبر وبيتاً من تبن لأنفد تبره قبل تبنه [49].

علمه ومعارفه

قال ابن أبي الحديد: «وما أقول في رجل تُعزي اليه كلّ فضيلة، وتنتمي اليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبوعُذْرِها، وسابق مضمارها، ومجلّي حَلْبتها، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفي، وعلي مثاله احتذي.

وإنّ أشرف العلوم وهو العلم الالهي، من كلامه (عليه السلام) اقتبس وعنه نقل واليه انتهي ومنه ابتدأ … وعلم الفقه هو أصله وأساسه وكلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه … وعلم تفسير القرآن عنه اُخذ ومنه فُرّع.. وعلم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوّف (؟!) إنّ أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام اليه ينتهون، وعنده يقفون.. وعلم النحو والعربية قد علم الناس كافة أنّه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملي علي أبي الأسود الدؤلي جوامعَه واُصولَه … »

ثم قال: «وأمّا الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيّد البلغاء، وفي كلامه قيل: (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين)، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة.. فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره، ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه

دلالةً علي أنّه لا يجاري في الفصاحة ولا يُباري في البلاغة … »

ثم قال: «وأمّا الزهد في الدنيا فهو سيّد الزهاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدّ الرحال، وعنده تُنْفَضُ الأحلاس، ما شبع من طعام قطّ، وكان أخشنَ الناس مأكلاً وملبساً».

وأمّا العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته علي وِرده أن يُبسَط له نِطَعٌ بين الصفّين ليلةَ الهرير [50] فيصلّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمرّ علي صِماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتي يفرغ من وظيفته … وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ووقفت علي ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله وما يتضمّنه من الخضوع لهيبتهِ والخشوع لعزّته والاستخذاء له؛ عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلب خرجت، وعلي أيّ لسان جَرَت. وقال عليّ بن الحسين وكان الغاية في العبادة: عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله (صلي الله عليه وآله).

وأمّا قرأته القرآن واشتغاله به فهو المنظور اليه في هذا الباب؛ اتّفق الكلّ علي أنّه كان يحفظ القرآن علي عهد رسول الله (صلي الله عليه وآله)، ولم يكن غيره يحفظه، ثمّ هو أوّل من جمعه. وإذا رجعت الي كتب القراءات وجدت أئمّة القرّاء كلّهم يرجعون اليه.

وما أقول في رجل تحبّه أهل الذمّة علي تكذيبهم بالنبوّة، وتعظّمه الفلاسفة علي معاندتهم لأهل الملّة، وتصوِّر ملوك الإفرنج والروم صورته في بِيَعها وبيوت عباداتها، حاملاً سيفه؟ وما أقول في رجل أحبّ كلُّ واحد أن يتكثّر به، وودّ كلُّ أحد أن يتجمّل ويتحسّن بالانتساب إليه؟

وما أقول في رجل سبق الناس الي الهدي.. لم يسبقه أحد الي التوحيد

إلاّ السابق لكلّ خير محمد رسول الله (صلي الله عليه وآله) [51]؟

نشأة الإمام علي

نسبه الوضاء

هو الإِمام أميرالمؤمنين وسيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطلب ابن هاشم بن عبدمناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إياس بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان.

جده الكريم

عبدالمطلب شيبة الحمد، وكنيته أبوالحرث، وعنده يجتمع نسبه بنسب النبيّ (صلي الله عليه وآله) وكان مؤمناً بالله تعالي، ويعلم بأنّ محمداً سيكون نبيّاً [52].

ولمّا حضرت عبدالمطلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب، فقال له: يا بني! قد علمت شدّة حبّي لمحمّد (صلي الله عليه وآله) ووجدي به أنظر كيف تحفظني فيه؟.. قال أبوطالب: يا أبه! لا توصني بمحمّد فإنّه ابني وابن أخي [53].

والده

عبد مناف، وقيل: عمران، وقيل: شيبة، وكنيته أبوطالب، وهو أخو عبدالله والد النبيّ (صلي الله عليه وآله) لاُ مّه وأبيه. ولد أبوطالب بمكّة قبل ولادة النبيّ (صلي الله عليه وآله) بخمس وثلاثين سنة، وانتهت إليه بعد أبيه عبدالمطلب الزعامة المطلقة لقريش، وكان يروي الماء لوفود مكّة كافّة لأنّ السقاية كانت له، ورفض عبادة الأصنام فوحّد الله سبحانه، ومنع نكاح المحارم وقتل الموؤدة والزنا وشرب الخمر وطواف العراة في بيت الله الحرام [54]. ولمّا توفّي عبدالمطلب؛ تكفّل أبوطالب رعاية رسول الله(صلي الله عليه وآله) فكان أبوطالب يحبّه حبّاً شديداً لا يحبّه ولده، وكان لا ينام إلاّ إلي جنبه، ويخرج فيخرج معه، وكان يخصّه بالطعام دون أولاده.

وروي أنّ أباطالب دعا بني عبدالمطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمّد (صلي الله عليه وآله) وما اتّبعتم أمره، فاتّبعوه وأعينوه ترشدوا. وما زالت قريش كافّة عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) حتي مات أبوطالب [55].

توفّي أبوطالب قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروج بني هاشم مع النبيّ (صلي الله عليه وآله) من الشِعب وعمره بضع وثمانون سنة [56]، وكان للنبي (صلي الله عليه وآله) تعلّق شديد بأبي طالب، فقد عاش في كنفه (43) عاماً منذ الثامنة من عمره الشريف حينما توفّي جدّه عبدالمطلب.. وقد ثبت أنّ

أباطالب كان موحّداً مؤمناً بالله ومعتقداً بالإسلام أرسخ الاعتقاد، وبقي علي حاله هذه حتي وافاه الأجل، وإنّما أخفي إيمانه ليتمكّن أن يكون له شأن واتّصال مع كفّار مكّة، وليطّلع علي مكائدهم ومؤامراتهم، فكان يعيش حالة التقيّة، وكان مثله كأصحاب الكهف في قومهم، وهو ممّن آتاهم الله أجرهم مرّتين لإيمانه وتقيّته [57].

امه

فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبدمناف، تجتمع هي وأبوطالب في هاشم، أسلمت وهاجرت مع النبيّ (صلي الله عليه وآله) وكانت من السابقات إلي الإيمان وبمنزلة الاُمّ للنبيّ (صلي الله عليه وآله) [58] ربّته في حجرها، ولمّا ماتت فاطمة بنت أسد؛ دخل إليها رسول الله (صلي الله عليه وآله) فجلس عند رأسها وقال: «رحمك الله يا اُمّي، كنت اُمّي بعد اُمّي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والآخرة».

وغمّضها، ثمّ أمر أن تغسل بالماء ثلاثاً، فلمّا بلغ الماء الّذي فيه الكافور سكبه رسول الله (صلي الله عليه وآله) بيده، ثمّ خلع قميصه فألبسه إيّاها وكفّنت فوقه ودعا لها اُسامة بن زيد مولي رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطّاب وغلاماً أسود فحفروا لها قبرها، فلمّا بلغوا اللّحد حفره رسول الله (صلي الله عليه وآله) بيده، وأخرج ترابه ودخل رسول الله (صلي الله عليه وآله) قبرها فاضطجع فيه، ثمّ قال: «الله الّذي يحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، اللّهمّ اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد بن هاشم، ولقّنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء من قبلي، فإنّك أرحم الراحمين» وأدخلها رسول الله (صلي الله عليه وآله) اللحد والعباسُ وأبوبكر [59].

فقيل: يارسول الله رأيناك وضعت شيئاً لم تكن وضعته بأحد من قبل: فقال (صلي الله

عليه وآله): «ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنّة، واضطجعت في قبرها ليخفّف عنها من ضغطة القبر، إنّها كانت من أحسن خلق الله صُنعاً إليّ بعد أبي طالب رضي اللّه عنهما ورحمهما» [60].

مراحل حياة الإمام علي

ولد الإمام علي (ع) قبل البعثة النبوية بعقد واحد، وعاصر ارهاصات البعثة وكل حركة الرسالة خلال العهد المكّي – وهو عهد بناء الامة المسلمة وتكوين القاعدة الرسالية الصلبة – كما عاصر كل أحداث العهد المدني، حيث تم فيه بناء الدولة الإسلامية بقيادة سيّد المرسلين (ص)، وساهم بكل وجوده في بناء هذا الكيان الشامخ حتي تجلّي للجميع عمق وجوده في هذا البناء الرسالي الفريد.

وحمل الامام (ع) بأمر من رسول الله (ص) مشعل الهداهية الربّانية والقيادة الاسلامية بعد وفاة الرسول (ص) رغم تراجع جمع من الصحابة وتمرّدهم علي نصوص الرسول (ص) وخذلانهم للإمام (ع) والحيولة دون استلامه للقيادة السياسية.. ولكنه استمر في انجاز مهمامّه الرسالية في تلك الظروف العصيبة وعايس الخلفاء رغم انه كان يري محلّه من القيادة محل القطب من الرحي.. فصبر وفي العين قذي مدة عقدين وصنف عقد حتّي انكشفت للأمة جملة من نتائج انحرافها الخطير عن تخطيط الرسول الأمين.

من هنا الجتأت الامّة الي الإمام لتسلم له زمام أمرها بعد تلك الخطوب وذلك التصدع الذي طال كيانه فحمل عبء القيادة بكل جدارة خلال نصف عقد فقط حتّي قدّم دمه الطاهر في سبيل الله رخيصا يبتغي به رضوان الله تعالي تثبيتا للقيم الرسالية التي جاهد من أجل ارسائها في وجدان المجتمع الإسلامي وضمير المجتمع الإنساني.

وعلي هذا تنقسم حياة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) الي شطرين رئيسين:

الشطر الأول: حياته منذ ولادته وحتّي وفاة سيد المرسلين (ص).

الشطر الثاني: حياته من حين وفاة الرسول الأعظم (ص)

وتولّيه لمهامّ الإمامة الشرعية وحتّي استشهاده (ع) في محراب العبادة.

ونظرا لتنوّع الأدوار والظروف التي عاشها (ع) يمكننا أن نصنّف حياته إلي عدّة مراحل:

المرحلة الأولي: من الولادة إلي البعثة النبويّة المباركة.

المرحلة الثانية: من البعثة إلي الهجرة.

المرحلة الثالثة: من الهجرة إلي وفاة الرسول (ص).

وهذه المراحل الثلاث تدخل في الشطر الأول من حياته وقد تجلّي فيها انقياده المطلق للرسول (ص) والدفاع المستميت عن الرسالة والرسول (ص).

المرحلة الرابعة: حياة الإمام في عهد (أبي بكر وعمر وعثمان).

المرحلة الخامسة: حياته في عهد دولته.

وسوف ندرس المراحل الثلاث الأولي في الفصل الثالث من الباب الثاني.

كما نبحث عن المرحلة الرابعة من حياته في الباب الثالث بفصوله الأربعة، ونخصص الباب الرابع بالمرحلة الخامسة من حياته (ع).

من الولادة الي البعثة النبوية المباركة

ولادته

قال عليّ (عليه السلام): «فإنّي ولدتُ علي الفطرة وسَبقتُ إلي الإيمان والهجرة» [61].

ولِد الإمام عليّ (عليه السلام) بمكّة المشرّفة داخل البيت الحرام وفي جوف الكعبة في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة، ولم يولد في بيت الله الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصّه الله تعالي بها إجلالاً له وإعلاءً لمرتبته وإظهاراً لتكرمته [62].

روي عن يزيد بن قعنب أنّه قال: كنت جالساً مع العباس بن عبدالمطلب وفريق من بني عبدالعزّي بإزاء بيت الله الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد اُمّ أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وكانت حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: ياربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جديّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) وإنّه بني البيت العتيق، فبحقّ الّذي بني هذا البيت، وبحقّ المولود الّذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليَّ ولادتي.

قال يزيد: فرأيت البيت قد انشق عن ظهره، ودخلت

فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد الي حاله والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر الله عزّوجلّ، ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلي يدها أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) [63].

وأسرع البشير إلي أبي طالب وأهل بيته فأقبلوا مسرعين والبِشر يعلو وجوههم، وتقدّم من بينهم محمّد المصطفي (صلي الله عليه وآله) فضمّه الي صدره، وحمله الي بيت أبي طالب حيث كان الرسول في تلك الفترة يعيش مع خديجة في دار عمه منذ زواجه وانقدح في ذهن أبي طالب أن يسمّي وليده «عليّاً» وهكذا سمّاه، وأقام أبوطالب وليمةً علي شرف الوليد المبارك، ونحر الكثير من الأنعام [64].

كناه وألقابه

إن لأميرالمؤمنين عليّ (عليه السلام) ألقاباً وكنيً ونعوتاً يصعب حصرها والإلمام بها، وكلّها صادرة من رسول الله (صلي الله عليه وآله) في شتي المواقف والمناسبات العديدة التي وقفها (عليه السلام) لنشر الإسلام والدفاع عنه وعن الرسول.

فمن ألقابه (عليه السلام): أميرالمؤمنين، ويعسوب الدين والمسلمين، ومبير [65] الشرك والمشركين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومولي المؤمنين، وشبيه هارون، والمرتضي، ونفس الرسول، وأخوه، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، وأمير البررة، وقاتل الفجرة، وقسيم الجنّة والنار، وصاحب اللواء، وسيّد العرب، وخاصف النعل، وكشّاف الكرب، والصدّيق الأكبر، وذو القرنين، والهادي، والفاروق، والداعي، والشاهد، وباب المدينة، والوالي، والوصيّ، وقاضي دين رسول الله، ومنجز وعده، والنبأ العظيم، والصراط المستقيم، والأنزع البطين [66].

وأمّا كناه فمنها: أبوالحسن، أبوالحسين، أبوالسبطين، أبوالريحانتين، أبوتراب.

الاعداد النبوي للإمام علي

كان النبيّ (صلي الله عليه وآله) يتردّد كثيراً علي دار عمّه أبي طالب بالرغم من زواجه من خديجة وعيشه معها في دار منفردة، وكان يشمل عليّاً (عليه السلام) بعواطفه، ويحوطه بعنايته، ويحمله علي صدره، ويحرّك مهده عند نومه الي غير ذلك من مظاهر العناية والرعاية [67].

وكان من نِعَم الله عزّوجلّ علي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وما صنع الله له وأراده به من الخير أنّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبوطالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله) للعبّاس وكان من أيسر بني هاشم : «يا عبّاس، إنّ أخاك أباطالب كثير العيال، وقد تري ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفّف عنه من عياله، آخذُ من بيته واحداً، وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه، قال العباس: نعم.

فانطلقا حتي أتيا أباطالب فقالا له: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّي ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبوطالب: إذا

تركتما لي عقيلاً فاصنعا ماشئتما، فأخذ رسول الله (صلي الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) فضمّه إليه وكان عمره يومئذ ستة أعوام، وأخذ العبّاس جعفراً، فلم يزل عليّ بن أبي طالب مع رسول الله (صلي الله عليه وآله) حتي بعثه الله نبيّاً، فاتّبعه عليّ (عليه السلام) فآمن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العبّاس حتّي أسلم واستغني عنه [68].

وقد قال رسول الله (صلي الله عليه وآله) بعد أن اختار عليّاً (عليه السلام): «قد اخترت من اختاره الله لي عليكم عليّاً» [69].

وهكذا آن لعليّ (عليه السلام) أن يعيش منذ نعومة أظفاره في كنف محمّد رسول الله (صلي الله عليه وآله) حيث نشأ وترعرع في ظل أخلاقه السماويّة السامية، ونهل من ينابيع مودّته وحنانه، وربّاه (صلي الله عليه وآله) وفقاً لما علّمه ربّه تعالي، ولم يفارقه منذ ذلك التأريخ.

وقد أشار الإمام عليّ (عليه السلام) الي أبعاد التربية التي حظي بها من لدن اُستاذه ومربّيه النبيّ الأكرم (صلي الله عليه وآله) ومداها وعمق أثرها، وذلك في خطبته المعروفة بالقاصعة: «وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلي الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة [70]، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلي صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جَسده، ويشمّني عَرْفه [71]، وكان يمضع الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولاخطلة [72] في فعل».

الي أن قال: «ولقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل [73] أثر اُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً [74]، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء [75]، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلي الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما، أري نور

الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة [76] الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلي الله عليه وآله) فقلت: يارسول الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وتري ما أري، إلاّ أنّك لست بنبيّ، ولكنّك وزير، وأنّك لعلي خير» [77].

من البعثة الي الهجرة

علي أول المؤمنين برسول الله

لقد نشأ رسول الله (صلي الله عليه وآله) علي قيم إلهية سامية كما صرّح بذلك القرآن الكريم بقوله تعالي: (وإنّك لعلي خلق عظيم) [78]، فكان النموذج المغاير لإنسان الجزيرة في معتقده وتفكيره وسلوكه وأخلاقه، فسلك منذ نعومة أظفاره خطّاً موازياً لقيم رسالات الأنبياء سيّما شيخهم إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وكان في قناعة الرسول (صلي الله عليه وآله) أنّ هذا الخطّ لا يلتقي بقيم المجتمع الجاهلي، من هنا بدأ (صلي الله عليه وآله) بإنشاء نواة الاُسرة المؤمنة المتكونة منه وخديجة وعليّ (عليهم السلام).

وقرّر أن يشقّ مجري التأريخ، وأن يفتح طريقاً وسط التيار العام، وأن يقاوم بتلك الاُسرة الانحراف السائد، وأن يُحدث موجاً هادراً يتحوّل شيئاً فشيئاً إلي تيار جارف للوثنية والجاهلية من ربوع الأرض، إنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) والذي تربّي في حِجر الرسول (صلي الله عليه وآله) لم يسجد لصنم قطّ، ولم يُشرك بالله طرفة عين. وعندما نزل الوحي علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) كان عليّ (عليه السلام) الي جانبه، وكان أوّل من آمن برسالته (صلي الله عليه وآله) كما شهدت بذلك عامّة مصادر التأريخ.

وعن أنس بن مالك قال: اُنزلت النبوّة علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) يوم الإثنين وصلّي عليّ (عليه السلام) يوم الثلاثاء [79].

كما روي عن سلمان الفارسي أَنّه قال: أوّل هذه الاُمّة وروداً علي نبيّها (صلي الله عليه وآله) الحوض،

أوّلها إسلاماً عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) [80].

وعن العباس بن عبدالمطلب أنّه سمع عمر بن الخطاب وهو يقول: كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب إلاّ بخير، فإنّي سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: في عليّ ثلاث خصال، وددت أنّ لي واحدةً منهنّ، كلّ واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس، وذلك أنّي كنت أنا وأبوبكر وأبوعبيدة بن الجرّاح ونفر من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) إذ ضرب النبي علي كتف عليّ بن أبي طالب وقال: يا عليّ، أنت أوّل المسلمين إسلاماً، وأنت أول المؤمنين إيماناً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسي، كذب من زعم أنّه يحبّني وهو مبغضك [81].

وإذ اتّفق المؤرّخون علي أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) أوّل الناس إسلاماً [82]؛ فقد اختلفوا في سنّه حين أعلن اسلامه، والخوض في تحديد عمر الإمام (عليه السلام) حين إسلامه لا يُجدي نفعاً بعد أن عرفنا أنّه لم يكفر حتي يُسلم ولم يشرك حتّي يؤمن، ولقد قال سلام الله عليه: «ولدت علي الفطرة»، ومن هنا اتّفقت كلمة المحدّثين جميعاً علي احترام هذه الفضيلة وتقديسها بقولهم له حين ذكره «عليّ كرّم الله وجهه» فكان الإسلام في أعماق قلبه بعد أن احتضنه حجر الرسالة، وغذّته يد النبوّة، وهذّبه الخلق النبوّي العظيم.

قال الاُستاذ العقّاد وهو يتحدّث عن الإمام عليّ (عليه السلام): لقد ولد مسلماً علي التحقيق إذا نحن نظرنا إلي ميلاد العقيدة والروح، لأنّه فتح عينيه علي الإسلام، ولم يعرف قطّ عبادة الأصنام، فهو قد تربّي في البيت الّذي انطلقت منه الدعوة الإسلاميّة، وعرف العبادة من صلاة النبيّ (صلي الله عليه وآله) وزوجته الطاهرة قبل أن يعرفها من صلاة أبيه واُمّه [83].

علي أول من صلي

عاش الإمام عليّ

(عليه السلام) مع رسول الله (صلي الله عليه وآله) كلّ متغيّرات حياة الرسول الأعظم، فكان يري في محمّد المثل الكامل الّذي يُشبع تطلعاته وعبقرياته، فكان يحاكيه في أفعاله ويرصده في حركاته ويقتدي به ويطيعه في كلّ أوامره ونواهيه قبل البعثة النبويّة الشريفة وحتي آخر لحظة من عمر النبيّ (صلي الله عليه وآله)، كما أجمع المؤرّخون علي أنّه لم يردّ علي رسول الله كلمة قطّ.

وقد صرّح الإمام (عليه السلام) بأنّه أوّل من صلي بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله) قائلاً:

«لم يسبقني إلاّ رسول الله بالصلاة». [84].

كما روي عن حبّة العرني أنّه قال: رأيت عليّاً (عليه السلام) يوماً ضحك ضحكاً لم أره ضحك ضحكاً أشدّ منه حتي أبدي ناجذه، ثمّ قال: «اللّهم لا أعرف أنّ عبداً من هذه الاُمّة عبدك قبلي غير نبيّها (صلي الله عليه وآله)» [85].

وجاء في تفسير قوله تعالي: (واركعوا مع الراكعين) [86] عن ابن عباس: أنّها نزلت في رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعليّ بن أبي طالب وهما أول من صلّي وركع [87].

كما جاء عن أنس بن مالك: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): «صلّت الملائكة عليَّ وعلي عليٍّ سبعاً، وذلك أنّه لم يرفع إلي السماء شهادة لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله إلاّ منّي ومنه» [88].

اول صلاة جماعة في الإسلام

وكان رسول الله (صلي الله عليه وآله) قبل بدء أمره إذا أراد الصلاة خرج إلي شعاب مكّة مستخفياً، وأخرج عليّاً (عليه السلام) معه فيصلّيان ما شاء الله، فإذا قضيا رجعا الي مكانهما، فمكثا يصلّيان علي استخفاء من أبي طالب وسائر عمومتهما وقومهما، ثمّ إنّ أبا طالب مرّ عليهما فقال لرسول الله (صلي الله عليه وآله): ما هذا الذي أراك تدين به؟

قال

(صلي الله عليه وآله): «هذا دين الله وملائكته ودين رسله ودين أبينا ابراهيم، بعثني الله به نبيّاً إلي العباد، وأنت ياعمّ أحقّ من أبديتُ النصيحة له ودعوتُه إلي الهدي، وأحقّ من أجابني چاليه وأعانني عليه».

وقال عليّ (عليه السلام): «يا أبت، قد آمنت برسول الله (صلي الله عليه وآله) واتّبعته وصلّيت معه لله».

فقال له: يا بُنيّ، أما إنّه لم يدعك إلاّ إلي الخير فالزمه [89].

وهناك موقف آخر لعمّه العباس رواه عفيف الكندي حيث قال:

كنت إمرأً تاجراً فقدمت الحجّ، فأتيت العباس بن عبد المطّلب لأبتاع منه بعض التجارة، فوالله إنّي لعنده بمني إذ خرج رجل من خِباء قريب منه، فنظر إلي الشمس فلمّا رآها قد مالت قام يصلّي، ثمّ خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلّي، ثمّ خرج غلام راهق الحلم من ذلك الخِباء فقام معه يصلّي، فقلت للعبّاس: ما هذا يا عبّاس؟ قال: هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، فقلت: من هذه المرأة؟ قال: امرأته خديجة بنت خويلد، قلت: من هذا الفتي؟ قال: عليّ بن أبي طالب ابن عمّه، قلت: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلّي وهو يزعم أنّه نبيّ، ولم يتبعه علي أمره إلاّ امرأته وابن عمّه هذا الغلام، وهو يزعم أنّه سيفتح علي اُمّته كنوزَ كسري وقيصر [90].

نعم، بعد أن تشكّلت نواة الاُ مّة الإسلامية المباركة من رسول الله وعليّ وخديجة، وأخذ خبر الدين الجديد يتفشّي في صفوف القرشيين، وطفق الذين هداهم الله للإيمان يتقاطرون علي الإسلام، وأخذ عود المسلمين يقوي ويشتدّ أزره، وبعد عدّة سنوات تحوّل الي كيان قويّ وقادر علي الإعلان عن نفسه علي الجماهير والمواجهة والتحدّي من أجل الدين والعقيدة.. فأمر

الله سبحانه وتعالي نبيّه الكريم (صلي الله عليه وآله) أن يصدع بما يؤمر، وكان أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) قبل ذلك إذا أرادوا الصلاة يذهبون إلي الشعاب فيستخفون، فلما صلّي بعض الصحابة في الشعب اطّلع عليهم نفر من المشركين منهم أبوسفيان بن حرب والأخنس بن شريق وغيرهما، فسبّوهم وعابوهم حتي قاتلوهم [91].

حديث يوم الإنذار

وحديث يوم الإنذار هو الحديث الخاص عن اجتماع عشيرة النبيّ (صلي الله عليه وآله) بدعوة منه لغرض دعوتهم الي بيعته ومؤازرته، وكان أوّل من أعلن استجابته لرسول الله (صلي الله عليه وآله) ذلك اليوم من عشيرته الأقربين: هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). وقد ذكر المفسّرون والمؤرّخون ومنهم الطبري في تأريخه وتفسيره معاً أنّه لمّا نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) وضاق ذرعاً لما كان يعلم به من معاندة قريش وحسدهم، فدعا عليّاً (عليه السلام) ليعينه علي الإنذار والتبليغ.

قال الإمام عليّ (عليه السلام): دعاني رسول الله (صلي الله عليه وآله) فقال: يا عليّ، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت ذرعاً وعلمت أنّي متي اُبادرهم بهذا الأمر أري منهم ما أكره، فصمتّ عليه حتي جاءني جبرئيل فقال: يا محمّد إلاّ تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك.

فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عُسّاً من لبن، واجمع لي بني عبد المطّلب حتي أُكلّمهم وأُبلّغهم ما اُمرت به.

فصنع عليّ (عليه السلام) ما أمره رسول الله (صلي الله عليه وآله) ودعاهم وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، منهم أعمامه أبوطالب وحمزة والعباس وأبولهب فأكلوا، قال عليّ (عليه السلام): فأكل القوم حتي ما لهم بشيء من حاجة، وما أري إلاّ موضع أيديهم،

وأيم الذي نفس عليّ بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمتُ لجميعهم.

ثمّ قال (صلي الله عليه وآله): إسقِ القوم، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا منه حتي رووا منه جميعاً، وأيم الله إنّه كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله. فلمّا أراد رسول الله (صلي الله عليه وآله) أن يكلّمهم بادره أبولهب فقال: لقد سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم الرسول (صلي الله عليه وآله) فأَمَرَ عليّاً في اليوم الثاني أن يفعل كما فعل آنفاً، وبعد أن أكلوا وشربوا قال لهم رسول الله (صلي الله عليه وآله): يا بني عبد المطّلب! إنّني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالي أن أدعوكم اليه، فأيّكم يؤازرني علي هذا الأمر علي أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فأحجم القوم عنه جميعاً إلاّ عليّاً، فقد صاح في حماسة: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ النبيّ (صلي الله عليه وآله) برقبة عليّ وقال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع [92].

إذاً كان يوم الدار يوم الإعلان الصريح عن بداية مرحلة جديدة في حياة النبيّ وحياة الدعوة الإسلامية، وقد اتّسمت بالتحدّي المتبادل ثمّ المواجهة السافرة بين الإسلام والشرك.

ومن تتبّع سيرة رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأحاط علماً بجميع شؤونها وتفاصيلها في بدء تشكيل الحكومة الإسلامية وتشريع أحكامها وتنظيم شؤونها ومجرياتها وفق الأوامر الإلهية؛ يري أنّ علياً (عليه السلام) وزير النبيّ في كلّ أمره وظهيره علي عدوّه، وساعده الّذي يضرب ويبني به وصاحب أمره الي نهاية عمره الشريف. وكان يوم

الدار والإنذار يوم المنطلق الذي لم يشهد ناصراً لرسول الله (صلي الله عليه وآله) كعلي بن أبي طالب، شعاراً وشعوراً وجهاداً وفدأ.

علي من إعلان الرسالة الي الهجرة النبوية المباركة

عجزت قريش عن إيقاف مدّ الدعوة الإسلاميّة ومنع النبيّ (صلي الله عليه وآله) من التبليغ والهداية، فقد خابت مؤامراتهم ودسائسهم، وفشلت تهمهم وتهديداتهم، لأنّ أباطالب كان الكهف الحصين لرسول الله (صلي الله عليه وآله) الذي لم يزل يدفع عنه أذي قريش وجبروتها، فلجأت قريش الي طريقة جبانة تنمُّ عن حقدها وضعفها فدفعت بالصبيان والأطفال للتعرّض للنبيّ (صلي الله عليه وآله) ورميه بالحجارة، وهنا كان الدور الحاسم لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إذ لا يتسنّي لأبي طالب وهو شيخ الهاشميّين الكبير مطاردة الصبيان، فكان عليّ يطارد الصبيان المترصّدين للنبيّ ويذودهم عنه [93].

علي في شعب أبي طالب

وحين أسرع الإسلام ينتشر في مكّة وأصبح كياناً يقضّ مضاجع المشركين وخطراً كبيراً يهدّد مصالحهم؛ عمد المشركون الي اُسلوب الغدر والقهر لإسكات صوت الرسالة الإسلاميّة، فشهروا سيوف البغي ولم يتوانَ أبوطالب في إحكام الغطاء الأمين للرسول (صلي الله عليه وآله)، لما له من هيبة ومكانة شريفة في نفوس زعماء قريش الذين لم يجرؤا علي النَيْلِ من النبيّ (صلي الله عليه وآله) لأنّ ذلك يعني مواجهة علنية مع أبي طالب وبني هاشم جميعاً، وقريش في غنيً عن هذه الخطوة الباهضة التكاليف.

فاتّجهوا نحو المستضعفين المسلمين من العبيد والفقراء فأذاقوهم ألوان التعذيب والقهر والمعاناة ليردّوهم عن دينهم وتمسّكهم بالنبيّ (صلي الله عليه وآله). ولم تلق قريش غير الصمود والإصرار علي الإسلام والالتزام بنهج الرسالة الإسلامية، فوجد رسول الله (صلي الله عليه وآله) أفضل حلّ لتخليص المستضعفين من المسلمين هو الخروج من مكّة الي الحبشة [94].

ولمّا لم يبقَ في مكّة من المسلمين إلاّ الوجهاء والشخصيات فقد كانت المواجهة الدموية هي أبعد ما يكون، وعندها سقطت كلّ الخيارات، ولم يبق أمام قريش إلاّ أن تلجأ الي عمل يضعف

الرسول (صلي الله عليه وآله) ويجنّبها القتال، فكان قرارهم حصار بني هاشم ومن معهم إجتماعياً واقتصادياً باعتبارهم الحماية التي تقي الرسول من بطش قريش، فبدأت معركتها السلبية مع بني هاشم.

وتجمّع المسلمون وبنو هاشم في شِعب أبي طالب لتوفير سبل الحماية بصورة أفضل، حيث يمكن إيجاد خطوط دفاعية لمواجهة أيِّ محاولة هجومية قد تقوم بها قريش [95].

وللمزيد من الاحتياط والحرص علي سلامة حياة الرسول (صلي الله عليه وآله) كان أبوطالب يطلب من ولده عليّ أن يبيت في مكان الرسول ليلاً حرصاً علي سلامته من الاغتيال والمباغتة من قبل الأعداء من خارج الشِعب [96]، وكان عليّ (عليه السلام) يُسارع إلي الامتثال لأوامر والده ويضطجع في فراش النبيّ (صلي الله عليه وآله) فادياً نفسه من أجل الرسالة وحاملها.

ولم يكتف عليّ (عليه السلام) بهذا القدر من المخاطرة بنفسه، بل كان يخرج من الشِعب الي مكّة سرّاً ليأتي بالطعام الي المحاصرين [97]، إذ اضطرّوا في بعض الأيام أن يقتاتوا علي حشائش الأرض.

لم يكن لأحد أن يقوم بمثل هذه الأعمال في تلك الفترة العصيبة إلاّ من ملك جناناً ثابتاً وقلباً شجاعاً ووعياً رسالياً وحبّاً متفانياً للرسول (صلي الله عليه وآله)، ذلك هو عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) الذي قضي في الشِعب جزءً من زهرة شبابه حيث دخله وعمره سبعة عشر عاماً وخرج منه وعمره عشرون عاماً، فكانت تجربة جديدة في حياته عَوَّدته علي الاستهانة بالمخاطر، وأهّلته لتلقّي الطوارئ والمهام الجسام، وجعلته أكثر التصاقاً بالنبيّ (صلي الله عليه وآله) كما عوّدته علي الصبر والطاعة والتفاني في ذات الله تعالي وحبّ الرسول (صلي الله عليه وآله).

علي والهجرة الي الطائف

لقد تراكمت الأحداث علي الرسول، واشتدّت قريش في تحدّيه وإيذائه بعد وفاة عمّه أبي طالب، ولم

يعد في مكّة من تهابه قريش وترعي له حرمة، حتي قال النبيّ (صلي الله عليه وآله): «ما زالت قريش كاعّةً عنّي حتي مات أبوطالب» [98] فكان عليه أن يُغيّر مكانه ويستبدله بمكان أكثر أمناً يستطيع منه الانطلاق لنشر الدعوة الإسلاميّة الي أرجاء الجزيرة العربية والعالم أجمع، فأخذ يعرض نفسه علي القبائل وابتدأ أوّلاً بالطائف، وبعد عشرة أيام من مكوثه هناك لم تتجاوب معه ثقيف، بل أغْرت به الصبيان والخدم والعبيد ليرشقوه بالحجارة، فوقف عليّ (عليه السلام) ومعه زيد بن حارثة يتلقّيان الضربات ويمنعان الصبية عن مواصلة الاعتداء حتي اُصيبا بجروح في جسدهما، ومع ذلك تعرّض رسول الله (صلي الله عليه وآله) للإصابة وسالت الدماء من ساقيه [99].

وروي أنّه كان للنبيّ (صلي الله عليه وآله) عدّة هجرات اُخري تحرّك خلالها لعرض نفسه علي القبائل لنشر الدعوة الإسلامية وتحصين دعوته، ولم يكن معه في حركته إلاّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فخرج الي بني عامر بن صعصعة والي ربيعة وبني شيبان [100]. وعليّ يلازمه في كلّ خطواته.

علي في بيعة العقبة الثانية

وحين تمّ الاتّفاق علي اللقاء التأريخي بين طلائع المسلمين القادمين من المدينة مع قائدهم الرسول (صلي الله عليه وآله) في بيت عبد المطلب سرّاً وقف الي جانب الرسول عمّه حمزة وعليّ والعباس [101]، وتمّت البيعة علي أفضل شكل.

وعلي رغم كلّ التدابير التي اتّخذت لسرّيّة اللقاء وإنجاحه إذ تمّ انعقاده دون علم أحد حتي من المسلمين، إلاّ أنّ أنباءه قد تسرّبت الي المشركين، فتجمّعوا وأقبلوا مع أسلحتهم الي مكان الاجتماع، فخرج اليهم حمزة ومعه عليّ (عليه السلام) بسيفهما، فسألوا حمزة عن الاجتماع فأنكر ذلك فرجعوا خائبين.

إنّ حضور عليّ (عليه السلام) في هذا الحدث الهام والاجتماع التأريخي يكشف عن دور عليّ

(عليه السلام) في أهمّ لحظات الدعوة وتأريخ الرسالة، لأنّه كان يعطي الأنصار صورة جيدة عن رسول الإسلام وعن حماية بني هاشم له (صلي الله عليه وآله) فتزداد ثقتهم واطمئنانهم بالدعوة والرسالة الإسلامية.

وكان تخطيطاً مُوفّقاً وتدبيراً محكماً من النبيّ (صلي الله عليه وآله)، إذ استعان بأشجع رجال بني هاشم حمزة وعليّ (عليهما السلام) فهما اللّذان عُرفا بالبأس والشدّة في توفير القدر الكافي من الحماية للرسول وللرسالة معاً.

علي ليلة هجرة الرسول الي المدينة

كان الانفتاح الرسالي العظيم الذي قام به النبيّ (صلي الله عليه وآله) إثر المعاهدة التي أبرمها مع الأوس والخزرج في بيعة العقبة الثانية [102]، والذي كان نقطة انطلاق الدعوة الإسلامية الي العالم الأوسع، والخطوة الكبيرة لبناء المجتمع الرسالي المؤمن، بعد أن انتشر الإسلام في يثرب بجهود الصفوة من الدعاة المخلصين والمضحّين من أجل الله ونشر تعاليم الإسلام، وبذا أصبح للمسلمين بقعة آمنة تمثّل محطة مركزية ومهمة لبلورة العمل الثقافي والتربوي والدعوة الإلهية في مجتمع الجزيرة العربية.

وحين تمادي طغاة قريش في إيذاء المسلمين والضغط عليهم لإرغامهم علي ترك الدين الإسلامي وفتّهم عن نصرة النبيّ (صلي الله عليه وآله) وحين كثر عتوّهم واضطهادهم؛ أمر النبيّ (صلي الله عليه وآله) أصحابه بالهجرة إلي يثرب، فقال (صلي الله عليه وآله): «إنّ الله قد جعل لكم داراً تأمنون بها وإخواناً»، فخرجوا علي شكل مجاميع صغيرة وبدفعات متفرّقة خفيّة عن أنظار قريش [103].

ومع كلّ المعاناة التي لاقاها النبيّ (صلي الله عليه وآله) من القريب والبعيد والضغوط والتكذيب والتهديد حتي قال (صلي الله عليه وآله): «ما اُوذي أحد مثل ما اُوذيت في الله» [104] فإنّ أمله بالنصر علي الأعداء والنجاح من تبليغ الدعوة الإسلامية لم يضعف، وثقته المطلقة بالله كانت أقوي من قريش ومؤامراتها، وقد عرفت

قريش فيه (صلي الله عليه وآله) ذلك وتجسّدت لديها الأخطار التي ستكشف عنها السنون المقبلة إذا تسنّي لمحمّد (صلي الله عليه وآله) أن يلتحق بأصحابه ويتّخذ من يثرب مستقراً ومنطلقاً لنشر دعوته، فأخذوا يعدّون العدّة ويخطّطون للقضاء عليه قبل فوات الأوان علي شرط أن لا يتحمّل مسؤولية قتله شخص معيّن أو قبيلة لوحدها، فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة القبائل جميعاً في دم صاحبهم فيرضون حينئذ بالعَقل منهم.

فكان القرار بعد أن اجتمعوا في دار الندوة وقد كثرت الآراء بينهم أن يندبوا من كلّ قبيلة فتيً شابّاً جلداً معروفاً في قبيلته، ويعطي كلّ منهم سيفاً صارماً ثم يجمعون علي النبيّ (صلي الله عليه وآله) في داره، ويضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، واتّفقوا علي ليلة تنفيذ الخطة، فأتي جبرئيل الي النبيّ وأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في فراشه، وأذن له بالهجرة، فعند ذلك أخبر عليّاً باُمورهم وأمره أن ينام في مضجعه علي فراشه الذي كان ينام فيه، ووصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته، وقال له أيضاً: «إذا أبرمت ما أمرتك به؛ فكن علي اُهبة الهجرة الي الله ورسوله، وسر لقدوم كتابي عليك» [105]، وهنا تتجلي صفحة من صفحات عظمة علي (عليه السلام)، إذ استقبل أمر الرسول (صلي الله عليه وآله) بنفس مؤمنة صابرة مطمئنّة، فرسم لنا أكمل صورة للطاعة المطلقة في أداء المهمّات استسلاماً واعياً للقائد وتضحية عظيمة من أجل العقيدة والمبدأ، فما كان جوابه (عليه السلام) إلاّ أن قال للرسول (صلي الله عليه وآله): «أوتسلم يا رسول الله إن فديتك نفسي؟».

فقال (صلي الله عليه وآله): «نعم بذلك وعدني ربّي»: فتبسّم علي (عليه السلام) ضاحكاً، وأهوي إلي الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه به رسول الله (صلي

الله عليه وآله) من سلامته [106].

ثمّ ضمّه النبيّ (صلي الله عليه وآله) إلي صدره وبكي وَجْداً به، فبكي عليّ (عليه السلام) لفراق رسول الله (صلي الله عليه وآله) [107].

وعندما جاء الليل: اتّشح عليّ (عليه السلام) ببرد رسول الله (صلي الله عليه وآله) الذي اعتاد أن يتّشح به، واضطجع في فراش النبيّ مطمئن النفس رابط الجأش ثابت الجنان مبتهجاً بما أوكل اليه فرحاً بنجاة النبيّ، وجاء فتيان قريش والشرّ يملأ نفوسهم ويعلو سيوفهم، وأحاطوا بالبيت وجعلوا ينظرون من فرجة الباب الي حيث اعتاد النبيّ (صلي الله عليه وآله) أن ينام فيه فرأوا رجلاً ينام علي فراشه، فأيقنوا بوجود النبيّ، واطمأنت قلوبهم علي سلامة خطّتهم، فلمّا كان الثلث الأخير من الليل خرج النبيّ (صلي الله عليه وآله) من الدار وقد كان مختبئاً في مكان منها، وانطلق الي غار «ثور» وكَمَنَ فيه ليواصل بعد ذلك هجرته المباركة.

ولمّا حانت ساعة تنفيذ خطّتهم: هجموا علي الدار، وكان في مقدّمتهم خالد ابن الوليد، فوثب عليّ (عليه السلام) من فراشه فأخذ منه السيف وشدّ عليهم فأجفلوا أمامه وفرّوا الي الخارج، وسألوه عن النبيّ (صلي الله عليه وآله): فقال: لا أدري إلي أين ذهب.

وبذلك كتب الله السلامة لنبيّه (صلي الله عليه وآله) والانتشار لدعوته.

بهذا الموقف الرائع والإقدام الشجاع والمنهج الفريد سنّ عليّ (عليه السلام) سنّة التضحية والفداء لكلّ الثائرين من أجل التغيير والإصلاح والسائرين في دروب العقيدة والجهاد. لم يكن همّ عليّ (عليه السلام) إلاّ رضا الله وسلامة نبيّه (صلي الله عليه وآله) وانتشار دعوته المباركة، فنزلت في حقّه الآية المباركة: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد) [108].

مباهاة الله ملائكته بموقف علي

كان مبيت عليّ (عليه السلام) علي فراش رسول الله (صلي

الله عليه وآله) خذلاناً سافراً لقريش المعتدية، فقد خابت آمالهم وفشلت خططهم في قتل الرسول، وكان فيها إرغام الشيطان وعلو شأن الإيمان، ولم يكن أيّ عمل نظيراً للمبيت في الثواب والقيمة، كيف وقد باهي الله بهذه التضحية ملائكته، كما روي:

أنّه ليلةَ بات عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) علي فراش رسول الله (صلي الله عليه وآله)؛ أوحي الله تعالي الي جبرئيل وميكائيل: إنّي قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟

فاختار كلاهما الحياة وأحبّاها، فأوحي الله تعالي اليهما: أفلا كنتما مثل عليّ ابن أبي طالب حين آخيت بينه وبين محمّد، فبات علي فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا الي الأرض فاحفظاه من عدوّه، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجعل جبرئيل يقول: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة فوق سبع سماوات [109]؟

مهام ما بعد ليلة المبيت

مع إطلالة فجر اليوم الأوّل للهجرة المباركة وظِلال السلام والأمان الإلهي تحوط رسول الله (صلي الله عليه وآله) في كلّ خطوة يخطوها نحو يثرب مقرّ الرسالة الإسلامية الجديد، انفرجت أسارير قلب عليّ (عليه السلام)، فقد انصرم الليل الرهيب باحتمالاته العديدة ومكارهه الكثيرة دون أن يقع شيء يمس حياته (عليه السلام) بخطر أو مكروه، واستطاع أن يؤدّي المهمّة علي أكمل وجه، فقد كان علي قدر عال من الانضباط والدقّة والوعي في التنفيذ.

وبقيت أمام عليّ (عليه السلام) مهمات اُخري لم يكن بمقدور أحد أن يقوم بها، منها: أداء الأمانات التي كانت مودعة عند النبيّ (صلي الله عليه وآله) الي أصحابها وهم من المشركين الذين وثقوا بالنبيّ (صلي الله عليه وآله) لأمانته وإخلاصه، فقد اشتهر بين قريش بالصادق الأمين، وكذلك من يقدم

من العرب في الموسم فأودعوا عنده الحلي والأموال، ولم يكن الرسول ممّن يخل بتعهداته أو يخون أماناته حتي ولو كانت الظروف المحيطة صعبة والخطورة تهدّد حياته الشريفة في تلك اللحظات المتسارعة التي يطير لبّ العاقل فيها، لم ينس النبيّ (صلي الله عليه وآله) أن يوكل هذه المهمّة الي رجل يقوم بها خير قيام، ولم يكن إلاّ عليّ (عليه السلام) لأنّه الأعرف بشؤون رسول الله (صلي الله عليه وآله) وبالمودعين وأموالهم وهو القويّ الأمين.

فأوصل (عليه السلام) الأمانات الي مَن كان من أصحابها، ثم قام علي الكعبة منادياً بصوت رفيع: يا أيّها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصيّة؟ هل من صاحب عدة له قبل رسول الله (صلي الله عليه وآله)؟ فلمّا لم يأت أحد لحق بالنبيّ (صلي الله عليه وآله)، وكان مقام عليّ بن أبي طالب بعد النبي بمكّة ثلاثة أيام [110].

هجرة الإمام علي

وصل رسول الله (صلي الله عليه وآله) الي (قُبا) بسلام، واستقبلته جموع الأنصار، ومن هناك بعث بكتابه إلي عليّ (عليه السلام) يأمره فيه بالمسير إليه والإسراع في اللحاق به، وكان قد أرسل إليه أبا واقد الليثي، وحين وصل اليه كتاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) اشتري عليّ (عليه السلام) الركائب وأعدّ العدّة للخروج، وأمر من بقي معه من ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا ويتخفّفوا [111] إذا ملأ الليل بطن كلّ واد إلي ذي طوي [112]، وبدأت المهمّة الشاقّة الثالثة أمام عليّ (عليه السلام) وهي الرحيل برفقة النساء نحو يثرب، وخرج هو ومعه الفواطم: فاطمة بنت رسول الله، واُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب، وفاطمة بنت حمزة، وتبعهم أيمن مولي رسول الله وأبوواقد الليثي [113].

وتولّي أبوواقد الليثي سوق النياق، ولشدّة

خشيته كان يحثّ الخطي سريعاً حتي لا يلحق بهم الأعداء.

وعزّ علي عليّ (عليه السلام) أن يري نساء بني هاشم علي تلك الحالة من الجهد والعناء من سرعة الحركة، فقال (عليه السلام): ارفق بالنسوة أبا واقد، إنّهن من الضعائف.

وأخذ (عليه السلام) بنفسه يسوق الرواحل سوقاً رقيقاً، وهو ينشد ليبعث الطمأنينة في نفوس من معه:

ثمّ شدّ علي بقية الفرسان وهو راجل، ففرّوا من بين يديه فزعين خائفين [114].

وقالوا: احبس نفسك عنّا يا ابن أبي طالب، فقال لهم: فإنّي منطلق الي أخي وابن عمّي رسول الله، فمن سرّه أن أفري لحمه وأُريق دمه فليدنُ منّي، فهرب الفرسان علي أدبارهم خائبين.

ثمّ أقبل (عليه السلام) علي أيمن وأبي واقد وقال لهما: أطلقا مطاياكما، فواصل الركب المسير حتّي وصلوا «ضجنان» فلبث فيها يوماً وليلة حتي لحق به نفر من المستضعفين، وبات فيها ليلته تلك هو والفواطم يصلّون ويذكرون الله قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم حتي طلع الفجر، فصلّي بهم عليّ (عليه السلام) صلاة الفجر، ثمّ سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله حتي قدموا المدينة.

وقد نزل الوحي قبل قدومهم بما كان من شأنهم وما أعدّه الله لهم من الثواب والأجر العظيم بقوله تعالي: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم ويتفكّرون في خلق السماوات … فاستجاب لهم ربّهم … فالذين هاجروا واُخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي وقاتلوا … ولأدخلنّهم جنات … والله عنده حسن الثواب) [115].

وكان رسول الله (صلي الله عليه وآله) في «قباء» نازلاً علي عمرو بن عوف، فأقام عندهم بضعة عشر يوماً يصلّي الخمس قصراً، يقولون له: أتقيم عندنا فنتّخذ لك منزلاً ومسجداً؟ فيقول (صلي الله عليه وآله): لا، إنّي أنتظر عليّ بن أبي طالب،

وقد أمرته أن يلحقني، ولست مستوطناً منزلاً حتي يقدم عليٌّ، وما أسرعه إن شاءالله [116]!

وحين وصل عليّ (عليه السلام)؛ كانت قدماه قد تفطّرتا من فرط المشي وشدّة الحرّ، وما أن رآه النبيّ (صلي الله عليه وآله) علي تلك الحالة؛ حتي بكي عليه إشفاقاً له، ثمّ مسح يديه علي قدميه فلم يشكهما بعد ذلك [117].

ثمّ إنّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) لمّا قدم عليه عليّ (عليه السلام)؛ تحوّل من قباء الي بني سالم ابن عوف وعلي معه، فخطّ لهم مسجداً، ونصب قبلته، فصلّي بهم فيه ركعتين، وخطب خطبتين، ثمّ راح من يومه إلي المدينة علي ناقته التي كان قدم عليها وعليّ لا يفارقه، يمشي بمشيه، وأخيراً نزل رسول الله (صلي الله عليه وآله) عند أبي أيوب الأنصاري وعليّ معه حتي بني له مسجده وبنيت له مساكنه، ومنزل عليّ (عليه السلام) فتحوَّلا إلي منازلهما [118].

من معاني مبيت الإمام في فراش النبي

1 إنّ مبيت الإمام (عليه السلام) ليلة الهجرة في فراش النبيّ (صلي الله عليه وآله) بمثابة إعلان عن نضج شخصية الإمام علي الرسالية، وأهليّته في أن يمثّل شخصيّة الرسول الّذي يعهد اليه في كلّ أمر مستصعب وخطب جليل ودعوة مهمّة.

2 كانت عملية التمويه علي قريش بارتداء الإمام (عليه السلام) رداء رسول الله (صلي الله عليه وآله) ومبيته في فراشه ربطاً لصلة القرابة بالعلاقة المبدئية، وتأكيداً لمبدأ أنّ نفس علي هي نفس الرسول(صلي الله عليه وآله)، وخصوصاً حين أتمّ مهامّه الاُخري التي تصرّف فيها الإمام بالاُمور المالية والاجتماعية الخاصة بالرسول (صلي الله عليه وآله).

3 إنّ ثبات الإمام (عليه السلام) ثلاثة أيام في مكّة كان تأكيداً لشجاعته حين أعلن الإمام بكلّ جرأة وثقة موقفه المبدئي بأنّه ثابت علي خطي الرسول، وقد نفّذ أوامره

وأنجز مهامه بهدؤ ودقة تامّة، ثمّ هجرته العلنية أمام أنظار قريش.

4 تجلّت في عملية المبيت بعض الجوانب العظيمة من شخصيّة الإمام (عليه السلام) والتي أوجزت حقيقة شجاعة الإمام وقوّته النفسية والبدنية ونضوجه الذهني ووعيه الرسالي واستيعابه للأوامر الآلهية.

پاورقي

[1] الاستيعاب (المطبوع بهامش الإصابة): 44: 3، ط دار إحياء التراث العربي بيروت.

[2] من خطبة الزهراء (عليها السلام) المعروفة أَمام أبي بكر وعمر وسائر المهاجرين والأنصار بُعَيد رحيل الرسول (صلي الله عليه وآله) وغصبهم للخلافة.

[3] آل عمران (3): 144.

[4] بحارالأنوار: 596: 33 و 597 باب الفتن الحادثة بمصر ط وزارة الثقافة والارشاد الإسلامي سنة 1368 ه. ش.

[5] بحارالأنوار: 50: 32 باب بيعة أميرالمؤمنين (عليه السلام) ط وزارة الثقافة والارشاد الإسلامية.

[6] بحارالأنوار: 36: 32.

[7] بحارالأنوار: 111: 34 باب الفتن التي وقعت في زمان علي (عليه السلام).

[8] الفتوحات الإسلامية: 516: 2.

[9] كشف الغمة: 93.

[10] ينابيع المودّة: 126.

[11] البقرة (2): 274، وراجع: ينابيع المودّة: 92.

[12] المائدة (5): 55، وراجع: تفسير الطبري: 165: 6 والبيضاوي وغيرهما.

[13] الاحزاب (33): 33، وراجع: صحيح مسلم، فضائل الصحابة.

[14] آل عمران (3): 61، صحيح الترمذي: 300: 2.

[15] راجع: الكشّاف للزمخشري، والطبري في الرياض النضرة: 207: 2.

[16] الرياض النضرة: 166: 1.

[17] طبقات ابن سعد: 338: 2، وحلية الأولياء: 68: 1.

[18] سنن الترمذي: 595: 5 الحديث 3720.

[19] الاصابة لابن حجر: 171: 4 الرقم 994، ومجمع الزوائد: 102: 1.

[20] شرح نهج البلاغة: 6: 1، وتذكرة الخواص: ص87.

[21] الاستيعاب بهامش الاصابة: 45: 3.

[22] المصدر السابق.

[23] العقد الفريد: 216: 2.

[24] شرح نهج البلاغة: 7: 1.

[25] أئمتنا: 94: 1، عن أعيان الشيعة: ج3: القسم 1: ص103.

[26] تأريخ اليعقوبي: 213: 2.

[27] الامام علي صوت العدالة الانسانية: 14: 1.

[28] المصدر السابق: ص35.

[29] نقد السياسة،

الدولة والدين، برهان غليون: ص78، الطبعة الثانية 1993، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

[30] سيرة الأئمة الاثني عشر: 1: 141 142.

[31] مقدمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3: 1.

[32] مناقب آل أبي طالب: 361: 2 ط دار الأضواء.

[33] راجع: مقدمة شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبوالفضل ابراهيم.

[34] نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح: 510 الحكمة 237 ط دار الهجرة قم.

[35] بحارالأنوار: 236: 77 باب وصيّة أميرالمؤمنين (عليه السلام) ط الوفاء.

[36] بحارالأنوار: 334: 40 ط الوفاء.

[37] المصدر السابق: 327: 40.

[38] المصدر السابق: 331: 40 باب 98 ذ ح 13 ط الوفاء.

[39] نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح: 418 الكتاب 45.

[40] نهج البلاغة طبعة صبحي الصالح: 323، الخطبة 206.

[41] البداية والنهاية: 276: 7.

[42] نهج البلاغة، الخطبة: 200.

[43] نهج البلاغة، قصار الحكم: 458.

[44] نهج البلاغة، الخطبة: 224.

[45] نهج البلاغة، قصار الحكم: 479.

[46] المصدر السابق: 480.

[47] المصدر السابق من كتاب 31 رقم 57.

[48] نهج البلاغة: 117.

[49] تاريخ دمشق لابن عساكر: 414: 43 ترجمة علي بن أبي طالب (عليه السلام).

[50] هي أشد ليلة مرّت علي الجيشين في معركة صفّين، راجع مروج الذهب: 398: 2.

[51] من مقدمة ابن أبي الحديد لشرح نهج البلاغة 1: 16 30 تحقيق محمد أبوالفضل ابراهيم.

[52] الطبقات لمحمد بن سعد: 1: 74 ط. ليدن.

[53] كمال الدين للصدوق: 170 ط النجف الأشرف و 172 ط طهران عن ابن عباس. وفي موسوعة التاريخ الإسلامي: 285: 1.

[54] روضة الواعظين للفتال: 121 122 وصية أبي طالب لبني هاشم.

[55] الطبقات لابن سعد: 75: 1.

[56] الكامل في التأريخ لأبن الأثير: 90: 2، راجع: موسوعة التاريخ الإسلامي: 436: 1.

[57] بحارالأنوار: 72: 35. وانظر: منية الطالب في ايمان أبي طالب للشيخ الطبسي، وأبوطالب مؤمن قريش للشيخ عبدالله الخُنيزي

وموسوعة التاريخ الإسلامي: 1: 514 517 و 596 601.

[58] الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 31.

[59] بصائر الدرجات: 71 عن الصادق (عليه السلام)، وراجع: موسوعة التاريخ الإسلامي: 2: 433 437.

[60] الفصول المهمة لابن الصباغ: 32، وفي فرائد السمطين: 397: 1: «صنعت شيئاً لم تصنعه بأحد» وروي اسلام فاطمة بنت أسد وهجرتها وحنانها ورعايتها للرسول ووفاتها وما قال النبي (صلي الله عليه وآله) في فضلها كثير من الحفّاظ والمؤلّفين في كتبهم كابن عساكر وابن الأثير وابن عبدالبرّ ومحب الدين الطبري ومحمد بن طلحة والشبلنجي وابن الصبّاغ البلاذري وغيرهم.

[61] نهج البلاغة «صبحي الصالح»: الخطبة 57 ص92، وأمالي الطوسي: ص364 الرقم 765، ومناقب آل أبي طالب: 107: 2، وشرح النهج لابن أبي الحديد: 114: 4، وبحارالأنوار: 217: 41.

[62] خصائص أميرالمؤمنين للشريف الرضي: 39، والغدير للأميني: 22: 6، والمستدرك للحاكم النيشابوري: 483: 3، والكفاية للحافظ الكنجي الشافعي والخريدة الغيبيّة في شرح القصيدة العينيّة للآلوسي صاحب التفسير، ومروج الذهب للمسعودي، والسيرة النبوية، وموسوعة التاريخ الإسلامي: 306: 1 310.

[63] علل الشرائع للصدوق: ص56، وروضة الواعظين للفتال النيسابوري: ص 67، وبحارالأنوار: 8: 35، وكشف الغمة للأربلي: 82: 1.

[64] بحارالأنوار: 18: 35.

[65] اليعسوب: يقصد به هنا سيّد قومه. المبير: المهلك.

[66] كشف الغمة للأربلي: 93: 1. وقد وردت ألقاب اُخري عديدة لأميرالمؤمنين في مصادر الرواة والمحدّثين منها: صحيح الترمذي والخصائص للنسائي والمستدرك للحاكم النيسابوري وحلية الأولياء للأصفهاني واُسد الغابة لابن الأثير وتأريخ الإسلام للذهبي وغيرهم.

[67] بحارالأنوار: 43: 35.

[68] تأريخ الطبري: 58: 2 ط مؤسسة الأعلمي بيروت، وشرح ابن أبي الحديد: 198: 13، وينابيع المودة: 202، وكشف الغمة: 104: 1، وموسوعة التاريخ الإسلامي: 1: 351 356.

[69] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 15: 1، نقلاً عن

البلاذري والأصفهاني.

[70] الخصيصة: الخاصة.

[71] عرفه (بالفتح): رائحته، وأكثر استعماله في الطيب.

[72] الخطلة: الخطأ ينشأ من عدم الرؤية.

[73] الفصيل: ولد الناقة.

[74] عَلَماً: فضلاً ظاهراً.

[75] حراء: جبل قرب مكّة.

[76] رنّة الشيطان: صوته.

[77] شرح نهج البلاغة للفيض: 802، الخطبة 234.

[78] القلم (68): 4.

[79] تأريخ دمشق لابن عساكر: 41: 1، والكامل في التأريخ: 58: 2، وتأريخ الطبري: 55: 2، وسنن الترمذي: 600: 5 الحديث 3735.

[80] الاستيعاب لابن عبدالبرّ المالكي بهامش الإصابة: 29: 3، وتأريخ الطبري: 55: 2 وفيه: عليّ أول من أسلم، وفي تأريخ دمشق لابن عساكر: 32: 1، 36، 65 ذكر أنّ عليّاً أول من أسلم، وتأريخ بغداد: 81: 2 رقم 459.

[81] الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 126، وتأريخ دمشق لابن عساكر: 331: 1 رقم الحديث 401.

[82] من مصادر حديث أنّ علي بن أبي طالب أول من أسلم: سنن البيهقي: 206: 6، ومسند أبي حنيفة: رقم 368 ص173، وتأريخ الطبري: 55: 2 ط مؤسسة الأعلمي، والكامل في التأريخ: 57: 2، واُسد الغابة: 16: 4، تاريخ ابن خلدون: ج3: ص715، بدء الوحي والسيرة النبوية: 262: 1، والسيرة الحلبية: 432: 1، ومروج الذهب: 283: 2، وعيون الأثر: 92: 1، والإصابة في معرفة الصحابة: 507: 2، وتأريخ بغداد للخطيب البغدادي: 18: 2.

[83] عبقرية الإمام علي، عباس محمّود العقّاد: ص43. وقد ذكر العلاّمة الأميني في كتابه الغدير: 3: 220 236 ما يربو علي 66 حديثاً في أسبقية إسلام الإمام عليّ (عليه السلام) علي غيره من الصحابة.

[84] نهج البلاغة للفيض: 397 الخطبة 131.

[85] تأريخ دمشق لابن عساكر: 49: 1 رقم الحديث 88.

[86] البقرة (2): 43.

[87] شواهد التنزيل للحسكاني: 85: 1.

[88] المناقب لابن المغازلي: 14 رقم الحديث 19، وروي نحوه الشيخ المفيد في الارشاد:

30 الفصل 1 الباب 2، واُسد الغابة لابن الأثير: 18: 4 مثله.

[89] الفصول المهمّة لابن الصباغ: 33، والكامل في التأريخ: 58: 1، وأخرج مثله الطبري في تأريخه: 58: 2.

[90] مسند أحمد: 29: 1، والخصائص للنسائي: 3، وتأريخ دمشق لابن عساكر: 58: 1، وكفاية الطالب للكنجي: 129، والكامل في التأريخ: 57: 2.

[91] الكامل في التأريخ: 60: 2، السيرة النبوية: 315: 1 ط دار الفرقان بيروت لبنان.

[92] تأريخ الطبري: 63: 2 ط مؤسسة الأعلمي، والكامل في التأريخ: 62: 2، ومثله في الإرشاد للمفيد: 42 الباب 2 الفصل 7، وأيضاً في تفسير مجمع البيان: 206: 7 وتأريخ دمشق لابن عساكر: 86: 1.

[93] الاختصاص للمفيد: 146.

[94] سيرة ابن هشام: 321: 1.

[95] سيرة ابن هشام: 350: 1، واعلام الوري: 125: 1.

[96] البداية والنهاية لابن كثير: 84: 3.

[97] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 256: 13.

[98] أعيان الشيعة: 235: 1، وسيرة ابن هشام: 57: 2، 58.

[99] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 127: 1.

[100] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 125: 4.

[101] السيرة الحلبية: 174: 2.

[102] السيرة النبوية لابن هشام: 440: 1، وموسوعة التاريخ الإسلامي: 700: 1.

[103] السيرة النبوية لابن هشام: 480: 1، والمناقب لابن شهرآشوب: 182: 1، وموسوعة التاريخ الإسلامي: 717: 1.

[104] كنز العمال: 130: 3، ح 5818، حلية الأولياء: 333: 6.

[105] الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 45، وبحارالأنوار: 19: 59 60.

[106] ذكر قصّة مبيت الإمام عليّ (عليه السلام) في فراش النبي (صلي الله عليه وآله) عدد كبير من العلماء والمؤرّخين منهم: الطبري: 99: 2، وأحمد بن حنبل في مسنده: 331: 1، واُسد الغابة: 45: 4، وابن عساكر في تأريخ دمشق: 137: 1، والحاكم في المستدرك: 4: 3، وبحارالأنوار: 60:

19.

[107] أعيان الشيعة: 275: 1.

[108] البقرة (2): 207. راجع في شأن نزول الآية شرح النهج لابن أبي الحديد: 262: 13، وإحياء العلوم للغزالي: 238: 3، والكفاية للكنجي: 114، والتذكرة لسبط ابن الجوزي: 41، ونور الابصار للشبلنجي: 86، والطبقات لابن سعد: 212: 1، وتأريخ اليعقوبي: 29: 2، وسيرة ابن هشام: 291: 2، والعقد الفريد لابن عبد ربّه: 290: 3، وتفسير الرازي: 223: 5، وشواهد التنزيل للحسكاني: 96: 1.

[109] تذكرة الخواص: 41، والسيرة الحلبية بهامشه السيرة النبوية: 27: 2، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 48، والمناقب لابن شهراشوب: 65: 2، وبحارالأنوار: 39: 19، واُسد الغابة لابن الأثير: 25: 4.

[110] المناقب لابن شهرآشوب: 58: 2، ومروج الذهب للمسعودي: 285: 2.

[111] يتخفّفوا: لا يحملوا معهم شيئاً يثقل عليهم.

[112] ذي طوي: موضع قرب مكة.

[113] أمالي الطوسي: 84: 2، وعنه بحارالأنوار: 64: 19.

[114] بحارالأنوار: 65: 19.

[115] آل عمران (3): 191 195، راجع بحارالأنوار: 19: 66 67.

[116] روضة الكافي: 339.

[117] بحارالأنوار: 64: 19، والمناقب لابن شهرآشوب: 182: 1، والكامل لابن الأثير: 106: 2.

[118] روضة الكافي: 339 340.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.