الا علي او أصلب من الايام

اشارة

نام كتاب: الا علي أو اصلب من الايام
مؤلف: سيد، كمال
موضوع اصلي: زندگاني
موضوع فرعي: زندگاني امام علي (ع) عربي
زبان: عربي
نوع مدرك: كتاب چاپي
محل نشر: لبنان، بيروت
ناشر: دارالنبلاء
تاريخ نشر: ١٤٢٦ ق، ٢٠٠٥ م
نوبت چاپ: اول
تعداد صفحات: ٢٨٧
قطع و اندازه: رقعي
نوع جلد: شوميز
محل در كتابخانه: ٢٤/٥/٠/٤٣
شماره اختصاصي: «١٠٥٦٣»

في البدء

لا يعدو الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ أن يكون محاولةً لاستكشاف شواطئ بحر لا نهائيّ.. وما فصوله سوي توقّفات مع ومضاتٍ من الجانب التسجيليّ لحياة ذلك العظيم..
لقد أحسست منذ «البدايات»، أنني سأضيع في عالمٍ زاخر بالنجوم.. وفي كل مرّة كنت أثوب إلي نفسي فأعود إلي الشواطئ، وأكتفي بتأمّل الأمواج من بعيد..
كنت واثقاً بأنّ الاقتراب أكثر سوف يؤدّي بي إلي الغرق.. من أجل هذا اكتفيت في رحلتي بالضفاف.. وفي رأيي سوف تبقي الكتابة في كلّ شيء أمراً ممكناً.. «إلاّ عليّ».
في ظِلال محمد صلّي الله عليه وآله
كنتُ أتّبعه اتّباعَ الفَصيل أَثَرَ أُمّه …

البدايات

مضت علي عام الفيل ثلاثون سنة، وقد أضحت قصة أصحاب الفيل مجرّد ذكريات يحكيها الأجداد للأحفاد، حتّي إذا أطلّ عام 600 للميلاد كانت الكعبة علي موعد مع حادث جديد.
بدا أبو طالب سيّد مكّة وشيخ البطحاء حزيناً، كان آخذاً سَمْتَه صوب الكعبة يتضرع إلي إله إبراهيم وإسماعيل، فلقد اشتدّ بزوجه الطَّلق وتعسّرت الولادة.
كانت غيمة حزن تطوف وجهه المضيء، وضع ابن عبدالمطلب كفّه علي جبينه، وقد طغت علي وجهه الكآبة، قالت نسوة من العرب:
ما شأنك يا أبا طالب؟!
أجاب ابن راعي البيت:
إنّ فاطمة بنت أسد في شدّة المخاض.
وضع يديه علي وجهه ليحجب حزنه؛ ربّما ليُغمض بصره لتنفتح بصيرته علي عوالم سماويّة.
وأقبل «محمّد» رجل في الثلاثين فألفي عمّه وكافله وحامي طفولته غارقاً في حزن مرير. ومدّ الشاب يده إلي عمّه يساعده علي النهوض، ووجد الشيخ نفسه ينقاد مع ابن اخيه، فطالما رأي بركات هذا الفتي الهاشميّ ذكري شقيقه «عبدالله».
وجاءت ابنة أسد تحفّها النسوة إلي بيت الله. قالت وهي تتمسّح بجدران البيت العتيق:
ياربّ.. إنّي مؤمنة بك وبما جاء به رُسُلُك، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل، فبحقّ من بني البيت العتيق يسِّرْ علَيّ ولادتي.
واشتدّ المخاض؛ وفي تلك اللحظات عندما يتّحد الإنسان مع السماء انشق الجدار لتلج فاطمة إلي جوف الكعبة.. إلي الاحضان الدافئة المفعمة بالسلام لتترك أهل مكّة في حيرة وذهول.
وتمرّ أيام ثلاثة، حتّي إذا أشرق اليوم الرابع خرجت فاطمة من أعماق الكعبة وهي تحمل صبيّاً في منظر ملائكيّ لا يقلّ بريقاً عن مشهد مريم ابنة عمران يوم جاءت تحمل عيسي بعد أن اشتدّ بها المخاض عند جذع النخلة.
وانطلق البشير إلي أبي طالب، فأقبل وأهل بيته مسرعين وقد غمرت الفرحة قلوبهم، وكان أكثرهم فرحة محمّد الذي ضمّ الصبيّ إلي صدره الدافئ وحمله إلي بيت أبي طالب.
وكما يومض البرق في السماء ومض اسم «عليّ» في ذهن أبي طالب؛ لقد كان عليّ هديّة السماء إلي الأرض؛ صبيٌّ خرج من أعماق الكعبة المعظمة كما تخرج اللؤلؤة من صدفتها الجميلة.
ونما علي يتخطّي الأيام والشهور، يتأمّل وجوهاً نَضِرة تحنو عليه وتبتسم له وتناغيه، وكان أحبّها إليه وجه يحمل اسماً جميلاً هو «محمّد»؛ وهكذا تدفّق نبع من الحبّ السماويّ بين محمّد وعليّ.
وتعصف أزمة اقتصاديّة بمكّة، ويعاني أبو طالب من وطأتها فقد كان كثير العيال؛ وهنا يتقدّم محمّد إلي عمّه الثريّ العباس ويقترح عليه التخفيف من أعباء سيّد مكّة وزعيم بني هاشم، ويرحّب العباس بذلك فيأخذ جعفراً ويأخذ محمّد وليد الكعبة عليّاً. وانتقل الصبي إلي ظلال وارفة لينشأ في بيت خديجة المُفعم بالمحبّة والسلام.
ومن ذلك التاريخ لم يفارق عليّ كافله ومعلّمه العظيم، وهكذا قُدّر لعلي أن يكون صورة مصغّرة لمحمّد المثال الأسمي للإنسانية عبر تاريخها الطويل.
هل رأيت الفصيل وهو يتبع أمّه، إنّه لا يشعر بالطمأنينة والأمن إلاّ في أحضانها أو بالقرب منها، وهكذا كان الصبي يتبع ابن عمّه يُلازمه كظلّ، يرافقه في طوافه حول الكعبة بيت إبراهيم، وينطلق معه صوب جبل حِراء موعده في كلّ عام، ولم يكن حراء قريباً بل كان يبعد عنها ثمانية أميال، وكان محمّد قد اختار في تلك السفوح غاراً لا يكاد يسع إلاّ لثلاثة أشخاص.
وكان محمّد يستغرق في تأمّلاته التي تأخذه بعيداً عن ويلات الأرض وأدرانها؛ وكان علي يراقب معلّمه يتعلّم من حركاته وسكناته وتأمّلاته ما يجعله يري بوضوح حقائق العالم؛ لقد وعي عليّ كلّ التحوّلات الروحيّة لابن عمّه العظيم، فكان له كالمرآة الصافية تنعكس فيها شخصيّة محمّد، وتتجلّي فيها اخلاقه الرفيعة.

وهبط جبريل

وعندما بلغ الصبي العاشرة من عمره شهد بكلّ جوارحه أعظم حدث في تاريخ الأرض يوم هبط الملاك يحمل البُشري لمحمّد هاتفاً:
يا محمّد! أنت رسول الله.. وأنا جبريل.
ولقد أفزع هذا الحادث الشيطانَ، فأطلق رنّة يأس وهو يري النور يغمر حراء وسيغمر العالم كلّه؛ وتساءل الفتي:
يا رسول الله ما هذه الرّنة؟!
وأجاب آخر الأنبياء:
هذا الشيطان قد أيس من عبادته.
وألقي النبيّ نظرة حبّ علي أخيه الصغير:
إنّك تسمع ما أسمع وتري ما أري..
ومنذ ذلك التاريخ أي في عام 610 للميلاد وعلي يتشرّب آيات السماء وكلمات القرآن، وفي مجتمع غارق في الوثنيّة حتي أذُنيه. كان عليّ الفتي الوحيد الذي أضاءت في قلبه حقيقة التوحيد التي جعلته ينظر إلي مئات الاصنام والأوثان المحيطة بالكعبة نظرة ازدراء ويتّجه بقلبه إلي السماء … إلي الآفاق اللانهائيّة حيث تتجلّي عظمة الإله الأوحد.
وكان رسول الله ينظر نظر حبّ إلي مثالٍ إنسانيّ رفيع اختارته السماء ليكون عَوناً في إبلاغ آخر الرسالات، فلقد حمل علي كلّ ملامح محمد إلاّ النبوّة.

الانذار

وانتقلت دعوة الإسلام إلي اطار أوسع عندما هبط جبريل بالآية الكريمة: وأنذِرْ عشيرتَك الأقربين، واخفِضْ جَناحَك لمنِ اتّبعك من المؤمنين، فإن عَصَوك فقُل إنّي بريء مِمّا تعملون.
ورأٍي النبيّ صلّي الله عليه وآله أن يدعو بني عبدالمطلب إلي وليمة في منزله، فأمر علياً أن يُهيّأ لذلك؛ لقد كان طعاماً مباركاً شبع المدعوون منه لحماً وارتووا لبناً؛ فعلّق أبو لهب دون أدب قائلاً:
ما أشدّ سحر محمّد.
وبذلك فوّت الفرصة علي النبيّ الذي اعتصم بالصمت، ونهض أبو طالب وهو ينظر إلي أخيه من أبيه نظرة غضب، ونهض الجميع.
وأدرك عليّ أن الجوّ لم يكن مناسباً للحديث في أمر هامّ، بعد الذي تفوّه به أبو لهب.
وتمرّ الأيام ورأي رسول الله أن يدعو قومه مرّة أُخري فقال لربيبه عليّ:
يا عليّ قد رأيتَ كيف سبقني هذا الرجل إلي الكلام، فاصنع لنا غداً كما صنعت بالأمس واجمعهم لعلّي أكلّمهم بما أمرني الله. وتمّت الدعوة عندما احتشد أربعون رجلاً من بني عبدالمطّلب، وكان أبو لهب ينظر إلي محمّد ولكنّه لم ينبس ببنت شَفة فقد هيمن شخص أبي طالب علي المكان، وكانوا يعرفون مدي حب سيّد مكة لابن أخيه محمّد، وتحدّث النبيّ بأدب يبهر كلّ من أصغي إلي منطقه، قائلاً:
ما أعلمُ إنساناً في العرب جاء قومه بمثل ما جئتُكم به.. لقد جئتُكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربّي أن ادعوكم إليه.. فأيّكم يؤازرني علي هذا الأمر فيكون أخي ووصيّي وخليفتي مِن بعدي؟
وهيمن الصمت؛ كان عليّ يُصغي إلي النبي وعيناه تتألقان بحماس الشباب؛ فنهض يعلن استعداده المطلق في نصرة النبيّ قائلاً:
أنا يا نبيَّ الله.
وطلب الرسول من فتاه أن يجلس؛ وكرّر عرضه مرّة ومرّة ولكن دون جدوي، وفي كل مرّة كان عليّ ينهض، وتأثّر النبيّ لمنظره فاتّجه إليه يُعانقه ويبكي وتمتم بكلمات تخترق الزمن: أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي.
وانتفض أبو لهب ساخراً كعادته، والتفت إلي أخيه شيخ مكّة:
قد أمركَ محمّد أن تسمع لابنك وتطيع!
وفي تلك اللحظات وُلِد الميثاق بين رجلَين تفصلهما ثلاثون سنة، وبرز عليّ لتحمّل مسؤولية لا ينهض بها إلاّ الأوصياء.

فوق جبل الصفا

الحقائق الكبري تضطرم في قلب محمد، تسطع بنور يكاد سنا برقه يُضيء العالم؛ ويأوي محمد إلي فراشه وهو ينوء بثقل الرسالات؛ وجاءت خديجة زوجته المؤمنة الصدّيقة فدثّرته بالغطاء وغادرت الحجرة تاركة رسول الله في استراحة هانئة؛ وفجأة دوّي الصوت الذي سمعه في حراء من قبل:
يا أيها المُدّثِّر، قُم فأنذِر، وربّك فكبِّر.
ودخلت خديجة لتري زوجها العظيم غارقاً في تأمّلاته وجبينه ينضح عرقاً.. فقالت بإشفاق:
لِمَ لا تنام يا أبا القاسم!
فاجاب آخر الأنبياء في التاريخ:
انتهي يا خديجة عهد النوم والراحة.. أمرني جبريل أن أُنذر الناس.
وانطلق رسول الله إلي جبل الصفا، حتّي إذا استوي علي قمّته نادي بصوت عال:
يا معشر قريش!
وهبّ الرجال إلي الجبل، ونفوسهم تتطلّع إلي ما سيقوله محمّد.. حتّي إذا اجتمع الناس هتف النبيّ صلّي الله عليه وآله:
أرأيتم لو أُخبرتُكم أنّ خيلاً بسفح هذا الجبل، أكنتم تصدّقون؟ وانطلقت صيحات التصديق من هنا وهناك:
نعم.. فأنت عندنا الصادق المصدَّق.. ما جرّبنا عليك كذباً قَطّ؛ وعندها أعلن النبيُّ رسالة السماء:
إنّي نذيرٌ لكم بين يدَي عذابٍ شديد.. لا إله إلاّ الله وأنا رسول الله!
وانتفض أبو لهب وجسمه البدين يكاد يتشظي حقداً قائلاً:
تبّاً لك سائر اليوم.
وتأثّر النبيّ بشدّة لموقف أبي لهب، وما لبث جبريل أن هبط يحمل سورة تتشظّي لهباً:
تَبّتْ يدا أبي لهب وتَبّ، ما أغني عنه مالُه وما كَسَب، سيصلي ناراً ذاتَ لَهَب، وامرأتُه حمّالةَ الحطب، في جِيدها حبلٌ مِن مَسَد.
وفي هذا المقطع الزمني دخلت دعوة الإسلام أدقّ مراحلها وأكثرها حساسيّة؛ فقد انتشرت كلمات الله، وراحت تطوف بيوت مكّة، واستنشق شذاها المحرومون والمقهورون كما يستنشقون نسمات «الصبا» وهي تحمل لهم بشارة الربيع القادم.
ما أن ينشر المساء ستائره، وتتألّق النجوم في صفحة السماء الصافية حتّي يشهد منزلُ النبيّ حركة غير عادية، حيث يهفو الظامئون في غمرة الظلام إلي نبع النور كما الفراشات تبحث عن الشموع.

لقاء في الكعبة

عبرت كلماتُ السماء حدودَ مكّة؛ انتشر شذاها في ربوع الجزيرة؛ وشهدت جلسات السَّمَر في مضارب القبائل أحاديث عن رجل مكّيّ اسمه محمّد، من بني هاشم، وخفقت القلوب لكلمة التوحيد، فجاءت تقطع المسافات تتنسّم أخبار النبيّ؛ وذات يوم شدّ جُندَب من قبيلة غِفار الرِّحالَ إلي مكّة، فدخلها علي حذر، واتّجه إلي الكعبة بيت الله الحرام عَلّه يعثر علي ضالته؛ وراح يراقب عن كَثَب الوجوه، فقد يري محمّداً، ويُصغي إلي الأحاديث المتناثرة فلعلّه يمسك بخيط فيها يدلّه علي النبيّ.. ولكن دون جدوي.
توارت الشمس خلف تلال مكّة، ودبّ المساء، وأقفرت الكعبة من الوافدين، والرجل الغِفاري ما يزال جالساً ينتظر، وقد اعتصر اليأس قلبه.. مرّت لحظات فدخل شابٌ حرم المسجد وراح يطوف حول البيت العتيق؛ ودار حوار مقتضب بينه وبين القادم الغريب:
من الرجل؟
من غِفار.
قُم إلي منزلك.
وأكبر الرجل الغفاريّ سماحة الفتي المكّي فنهض معه إلي منزله.
أمضي الغفاري ليلته في بيت أبي طالب، فوجد من الكرم العربي والسَّماحة ما بعث في قلبه الأمل، ولم يكن الغفاري ليعلم من يكون هذا الفتي؟
وفي الصباح عاد الرجل الغريب أدراجه إلي الكعبة وراح كعادته يتصفّح الوجوه ويُصغي إلي الأحاديث؛ وحلّ المساء، ومرّ الفتي وألقي كلمته بودّ:
أما آن للرجل أن يعرف منزله؟!
ونهض الرجل الغِفاري ملبّياً دعوة الفتي، ومضي معه إلي منزل كريم.
ويتكرّر ذات المشهد في اليوم الثالث، وقد ارتاح جندب إلي ذلك الفتي الطيب، وإن لم يعرف هويّته بعد. والتزم الرجل الغريب كعادته الصمت وإن بدت الحيرة علي وجهه، فسأل الفتي ضيفه:
أراك مفكّراً، ففيم تفكّر؟
ووجد الغريب نفسه يُصارح الفتي بشيء من الاحتياط:
إن كتمتَ عليّ أخبرتُك.
أكتم عليك إن شاء الله.
وارتاح الغريب لكلمة حبيبة إلي قلبه؛ فأفصح عن مهمّته التي جاء من أجلها مكّة:
بَلَغَنا أنّه قد خرج هنا رجل يزعم أنّه نبي، فأردتُ أن ألقاه.
أما إنّك قد رشدت، إتّبِعْني حيث أذهب، فان رأيتُ أحداً أخافُه عليك قمتُ إلي الحائط كأنّي أُصلح نعلي فامضِ في طريقك.
وهكذا سار الفتي وسار خلفه الرجل الغفاري، حتّي وصلا منزل النبيّ، وأسفر اللقاء عن إسلام جندب الذي اصبح اسمُه «أبا ذر»، ولم ينسَ المسلم الجديد أن يسأل رسول الله عن الفتي الذي دلّه عليه، فأجاب النبيّ صلّي الله عليه وآله باعتزاز:
هو ابنُ عمّي وأخي عليّ بن أبي طالب.
وتحوّل أبو ذر منذ تلك الليلة الحاسمة في حياته إلي بُركان، بعد أن اضطرمت في أعماقه حقيقة الإيمان، فهتف بعزم:
والذي بعثَكَ بالحقّ نبياً، لأصرخنّ بها في المسجد الحرام.
ما أن أشرقت شمس اليوم التالي حتّي كان أبو ذر في وسط المسجد يتحدّي جبروت قريش وهو يهتف بصوت جَهوري:
يا معشر قريش، إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمّداً رسول الله.
ولقد هزّت الصرخة الوضعَ السائد، ليبدأ فصل جديد في تاريخ الإسلام.

هزيمة الشعر الجاهلي

ورأي زعماء مكّة مواجهة خطر الدين الجديد باستخدام أمضي الأسلحة وهو الشعر الذي بلغ العرب فيه الذروة آنذاك، وهكذا انبري أبو سفيان بن الحارث وعمرو بن العاص وابن الزِّبَعْري وغيرهم إلي مُقارعة النبيّ، ولكنّهم وجدوا أنفسهم خاسرين لدي أول منازلة، ولم يصمد الشعر الجاهلي برُمّته أمام بلاغة آيات القرآن التي فتنت العربي بحلاوتها وطلاوتها وانسيابها وتأثيرها العميق.
ووقف العربي مشدوهاً أمام ظاهرة بلاغيّة لم تكن لتخطر علي باله؛ وقد نصح الوليد بن المغيرة قريشاً بعد أن اعترف قائلاً: إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه ليحطم ما تحته، وإنّه ليعلو لا يُعلي عليه؛ نصحهم أن يقولوا: ما هو إلاّ سحرٌ يُؤثَر أما رأيتموه يُفرّق بين الرجل وأهله وولده.
وقد لجّ كفار قريش في صراعهم مع النبيّ وقالوا أنّ ما يردّده محمّد لا يعدو أن يكون أساطير الأولين اكْتَتَبَها فهي تُملي عليه بُكرةً وأصيلا؛ وينبري النضر بن الحارث إلي ترديد أساطير قديمة من قبيل حكايات «اسفنديار ورستم» الفارسية الأصل، واتّخذ مكانه في المسجد الحرام حيث يجلس النبيّ لتلاوة القرآن، ولم تُجدِ كلُّ المحاولات في صرف المأخوذين برَوعة البيان السماويّ عن الاصغاء لمحمّد، ولم يجدوا سبيلاً سوي إبداء النصائح قائلين: لا تَسمعوا لهذا القرآنِ والغَوا فيه لعلّكم تَغلِبون!
إنّنا نذكر ذلك لأنّنا سنجد الفتي عليّ بن أبي طالب سوف يبهر العرب ببلاغته بعد عقود من السنين، فلقد تشرّب آيات السماء منذ اعتناقه الإسلام يوم الثلاثاء.

سنوات الرماد

تفتّق ذهن أبي جهل عن فكرة شيطانيّة تقضي بمقاطعة بني هاشم اقتصادياً واجتماعياً، وقد تحمّس لها زعماء قريش فحرّروا بذلك صحيفة قاسية وقّعها أربعون رجلاً منهم يمثّلون طوائف قريش؛ وعُلِّقت الصحيفة في جوف الكعبة لكي تكتسب صفة مقدّسة.
جدير بالذكر أنّ فكرة المقاطعة هذه قد تمّ تداولها في «دار الندوة» وهو المكان الذي تجتمع فيه قريش لمناقشة القضايا المصيرية.
وكان أبو طالب عم النبيّ صلّي الله عليه وآله في مستوي التحدّي الجديد، فنصح قبيلته بالنزوح إلي أحد أودية مكّة لأن روح المقاطعة يتضمّن شكلاً من أشكال إعلان الحرب، وبات من المتعذّر علي المحاصَرين مغادرة الوادي إلاّ في موسمَي الحجّ والعُمرة؛ وقد تفقّد أبو طالب الثغرات الموجودة في الوادي وبني فيها تحصينات منيعة للحؤول دون تسلّل من يهمّه الاعتداء علي حياة النبيّ الذي أضحي رمزاً لأكبر تحدٍّ يواجهه بنو هاشم وبنو عبدالمطلب.
ولقد كانت تجربة الحصار تجربة مريرة عاني فيها المحاصرون من الجوع والظمأ، ولكنّهم صمدوا حتّي النهاية، وكان أكبر همّ أبي طالب حماية النبيّ بأيّ ثمن، وأصبح من المَشاهد المتكرّرة أنّه كان يطلب من ابن اخيه العظيم أن يأوي إلي فراشه في ساعة الغروب حتّي يراه الجميع، فإذا غمر الظلام الوادي طلب من ابنه علي أن ينام في فراش ابن عمّه، فإذا كان هناك من يراقب النبيّ ويترصّده ليعيّن مكانه قبل أن يتسلّل لتنفيذ جريمته، فإنّه سوف يطعن قلب عليّ وبذلك ينجو محمّد صلّي الله عليه وآله وتستمرّ رسالة السماء.
وليس هناك ما يفسّر هذا الموقف سوي الإيمان.. الإيمان العميق لذلك الشيخ الوقور والسيّد المهاب.
ولنتصوّر مشاعر ذلك الفتي الشجاع وهو يتقدّم كلّ ليلة طائعاً لينام في فراش رجل تترصّده عيونُ الحقد تتربّص به خناجر الغدر، إنّه يعانق الموت كلّ ليلة فداءً للحبيب محمّد صلّي الله عليه وآله.
ولقد استمرّت أيام الحصار ثلاث سنين، وكانت الأُرضة تقضم خلالها البُنود الظالمة فلم تترك في الصحيفة سوي كلمة مقدّسة هي «باسمك اللهمّ».
ولقد بلغت النذالة لدي زعماء قريش أنّهم كانوا يشتسرون ما يُعرَض من طعام في مكّة لتخلوا الأسواق منه في الأيام التي يخرج فيها المحاصَرون في موسم الحجّ، حتّي إذا جاءوا ليشتروا طعاماً لم يجدوا شيئاً، فيعودوا لمواصلة رحلة الجوع المُضنية.
واستكملت الارضة التهام الصحيفة الظالمة ما خلا «باسمك اللهمّ» واتصلت السماء بالأرض، وجاء محمّد يبشّر عمّه أبا طالب، ووقف زعماء مكّة مذهولين أمام معجزة السماء، لقد قهرت هذه الحشرة الصغيرة كبرياء قريش، مرّغت غُرورهم بالوحل.
ولنتخيّل فرحة الصغار وهم يعودون إلي أحضان مدينتهم بعد معاناة طويلة في الوادي.

العام الحزين

مضت شهور علي انتهاء الحصار وكان أبو طالب الذي تخطي الثمانين يخطو صوب النهاية.. نهاية كلّ الحيوات، لقد هدّته السنون والحوادث.
وقف عليّ يتأمّل أباه بعينَين غارقتَين بالدموع، لقد توقّف القلب الكبير.. وسكنت تلك الأنفاس الدافئة، ووقف النبيّ صلّي الله عليه وآله يبكي بمرارة وهو يُؤبّن الراحل الكبير:
رحمك الله يا عمّ.. ربّيتَني صغيراً وكفلتَني يتيماً ونصرتني كبيراً..
ولم يجد أحداً يواسيه سوي أخيه وربيبه فعانقه وقد أجهش بالبكاء.
ويسدّد القدر سَهماً آخر، وإذا بخديجة تلك الزوجة المؤمنة الوفية تسقط هي الأُخري فريسة المرض، ولم تلبث أن ودّعت زوجها العظيم.
يا لعذاب الأنبياء! يا لصبر محمّد! الزمان يتخطّف أحبَّته مُذ كان جنيناً في بطن أُمّه، وعندما بلغ ستّ سنين ويوم بلغ الثامنة؛ غير أن أبا طالب لم يغادر الدنيا حتّي خلّف فتي يفدي أخاه بروحه، ولم ترحل خديجة حتي قدّمت لزوجها فتاةً تذوب حناناً ورحمة لأبيها.
بدأ زمن الزمهرير والذئاب التي كانت تهاب أبا طالب ذات يوم، هي الآن تعوي، عيونها تبرق حقداً وقد ذرّ الشيطان قرنَيه.

الحياة في موتكم قاهرين

سوف يبقي الموت والحياة لغزاً في حياة البشر، فالضباب الذي يهيمن علي العيون سوف يحجب الرؤية بوضوح لمن يريد الخلود، فأيّ الطريقَين يسلك: طريق الموت أم طريق الحياة؛ دعنا نراقب منزلاً كريماً في مكّة وقد مضت ثلاثة عشر عاماً علي هبوط جبريل في غار حراء.
شعر المشركون بالخطر وهم يرون أبناء مكّة يفرّون بدينهم متّجهين شمالاً إلي مدينة يثرب، لقد قيّض الله لهم قوماً لنصرة رسالة السماء، وقد تتابعت هجرة المسلمين حتّي أقفرت أحياء بكاملها.
وأدركت قريش أنّ وقوفها مكتوفة الأيدي يعني تنامي الخطر يوماً بعد آخر؛ وانبري أبو جهل ليضع خطّة جهنمية لتصفية محمّد إلي الأبد.
وهبط جبريل يفضح خطّة الشيطان لإطفاء النور الذي أضاء جبل حراء وسوف يضيء العالم بأسره:
وإذ يمكرُ بك الذين كفروا لِيُثْبِتوك أو يَقتلوك أو يُخرجوك، ويمكرون ويمكرُ اللهُ واللهُ خير الماكرين.
وفي تلك اللحظات التاريخية بدأت واحدة من أعظم قصص الفداء في تاريخ الإنسان.
ولا يمكن للمرء مهما أُوتي من سَعة الخيال أن يتصوّر مشاعر شاب في الثالثة والعشرين من عمره وهو يتقدّم إلي معانقة الموت.
تسارعت الأحداث بشكل مثير، ونسجت قريش أخطر مؤامراتها كما تنسج العنكبوت بيتاً هو أوهن البيوت، ودعا النبيّ ابن عمّه الحبيب وأطلعه علي فصول المؤامرة؛ وكان المطلوب من علي أن يرقد في فراش النبيّ، وكان همّ ابن أبي طالب الوحيد هو أن يسأل:
أوَ تَسلم يا رسول الله إنْ فديتُك بنفسي؟
نعم … بذلك وعدني ربّي.
وارتسمت مشاعر فرحٍ علي وجه علي، وتقدّم إلي فراش النبي ليرقد بسلام آمناً مطمئناً، فيما كانت عيون أربعين ذئب تبرق في الظلام، وتمرّ اللحظات مثيرة وانسلّ رسول الله خارجاً من المنزل متّجهاً صوب الجنوب إلي غار في جبل ثور.
واقتحم المتآمرون منزل رسول الله والسيوف تبرق في غبش الفجر، وكانت المفاجأة أن هبّ عليّ من الفراش، وأسقط في أيديهم.
وشهدت مكّة في الساعات الأولي من الصباح حركة غير عادية، لقد رحل الإنسان الذي أرسلته السماء ليغمر الأرض بنور ربّها.
فُرسان الدوريات تبحث في كلّ مكان، وقد رصدت قريش الجوائز المغرية لمن يأتيها بمحمّد حيّاً أو ميتاً أو يُدلي بمعلومات تساعد في محاصرته.
ومكث علي في مكّة أياماً كان خلالها يتّجه إلي الأبطح في الغدوّ والآصال فينادي:
ألا من كانت له قِبلَ محمّد أمانة فليأتِ لُتؤدّي له أمانتُه.

رسالة من قبا

وصل سيّدنا محمّد «قبا» وحطّ رحله في تلك البقعة من أرض الله؛ ومن قبا بعث النبيّ صلّي الله عليه وآله رسالة إلي ابن عمّه يأمره فيها بالقدوم، وانطلق أبو واقد الليثي إلي مكّة وسلّم الرسالة عليّاً.
تري لماذا هذا الاصرار علي انتظار عليّ؟ لماذا ظلّ النبيّ علي أبواب المدينة حتّي يقدم ابن عمه وأخوه؟ لقد وقف التاريخ الهجري ينتظر تلك اللحظات الدافئة في لقاء محمّد وعليّ، هناك في أعماق عليّ سرّ عجيب، عندما تضطرم الحقيقة الكبري في الذات الإنسانيّة فتُحيل كلّ ما حولها أشياءً متألّقة بضوء لا يستمدّ شعاعه من شمس ولا قمر، إنه الضوء القادم من قلب السماوات.. وهكذا كان إيمان ذلك الفتي أنّه لا يعرف في الوجود سيّداً غير محمّد.. محمّد الذي فتح عينيه علي ينابيع النور في سفوح حراء.
لا شيء في الأُفق سوي الرمال وذلك الخط الأزرق الذي يعانق سُمرة الرمال، ولاحت قافلة تسير علي هون.. قافلة فيها أربع فواطم.. فاطمة بنت أسد وفاطمة بنت محمّد، وفاطمة بنت حمزة وفاطمة بنت الزبير. وفي «ذي طوي» كان المقهورون ينتظرون عليّاً لينقذهم من القرية الظالم أهلها، وسارت القافلة تشقّ طريقها في بطون الأودية، ولا شيءَ سوي السماء الزرقاء والرمال السمراء.
عليّ يعرف أشياء كثيرة … منذ عشرين سنة وهو يرافق رجلاً اختارته السماء، إنّه لا يرافقه فحَسْب بل يذوب فيه ويندمج معه.. لهذا فهو يعرف سرّ العالم.
شيء واحد كان يجهله تماماً ولا يعرف له معني هو الخوف، لقد وقف الإنسان عاجزاً أمام لغز الموت نهاية كل الحيوات، هل هو نهاية أم بداية؟ ولكنّ علياً الذي اكتشف نبع الخلود قَهَرَ الموت أكثر من مرّة، وكان الموت يهرب منه، يفرّ من بين يديه كلّما أراد عِناقه.
لقد التحف قبل أيام ببُردة النبيّ وأغمضَ عينيه في فراش تغمره رائحة الفردوس، إنّه يقدّم نفسه قرباناً لآخر الأنبياء في تاريخ الإنسان؛ وإذا كان إسماعيل قد أسلم وجهه لله، فإنّه كان يدرك أن أباه سيذبحه علي هون، ولكنّ عليّاً أغمض عينيه ليفتحهما علي عشرات الخناجر المسمومة التي ستبضّعه، وسوف تتدفّق دماؤه من خلال مئات الجراح.
لقد تنافست الملائكة من أجل الحياة، لم يَفْدِ جبريلُ ميكال، واختار كلاهما الحياة، ولكنّ الإنسان الذي صاغته السماء حطّم حاجز الموت، كسّر قضبان الزمن الصدئة واختار الفداء.
القافلة تطوي المسافات.. حتّي إذا وصلت قريباً من «ضَجنان» أدركها «الطلب»، وإذا بثمانية فرسان يعترضون القافلة يريدون إعادة التاريخ إلي الوراء، وفي ذلك المكان فُوجئت جزيرة العرب ب «ذي الفقار» يتألّق في دنيا الفروسية؛ كانوا ثمانية فرسان يريدون إعادة القافلة إلي مكّة.. إلي القرية الظالم أهلها.. العيون تبرق حقداً؛ هتف فارس لم يكتشف علياً بعد:
أظننت يا غدّار أنّك ناجٍ بالنسوة.. ارجِع لا أباً لك.
أجاب علي بثبات جبل حراء:
فإن لم أفعل؟
لترجعنّ راغماً.
وأغار «جناح» علي النوق لإثارتها فاعترضه عليّ، فأهوي عليه جناح بضربةٍ تفاداها علي وسدّد له ضربة جبّارة فقضي عليه؛ تسمّر الباقون وقد أذهلتهم المفاجأة.. إنّهم لم يَرَوا في حياتهم ضربة كهذه؛ صاح أحدُهم وقد رأي الفتي يستعدّ لشنّ هجوم معاكس:
احبِس نفسَك عنّا يا ابن أبي طالب.
وهتف عليّ كأنّما يتحدّي العالم الوَثنَيّ بأسره:
إنّي منطلق إلي أخي وابن عمّي رسول الله.
وانطلقت القافلة صوب يثرب، وكان رسول الله ما يزال ينتظر في قبا؛ ووقف التاريخ الإنساني ينتظر قبل أن يلج عهداً جديداً من فصوله المثيرة في المنعطفات التي تُغيّر فيها المدن أسماءها.
وفي السادس عشر من ربيع الأول الموافق 20 أيلول عام 622 للميلاد وصلت قافلة التاريخ الهجري مدينة يثرب، وكانت الحُشود المسلمة تحدّق في «ثنيّات الوداع» تترقّب وصول آخر الأنبياء في تاريخ البشرية.
وكانت «القصوي» تشق طريقها إلي بقعة اختارتها السماء لتكون منزلاً ومسجداً وطهوراً؛ وتوقفت الناقة في «مربد» لغلامَين يتيمَين من بني النجّار.
وبُوشِر العمل في بناء مسجد النبيّ صلّي الله عليه وآله وكان ذلك إيذاناً بميلاد أُمّة جديدة؛ وانسابت كلمات الأذان معبّرة أخّاذة كلحنٍ قادم من السماء.

ومر عام

استقبلت المدينة المنوّرة عامها الثاني بالأمل، فالحياة الجديدة تتدفّق والمسلمون أُمّة واحدة؛ وفي الخامس عشر من شعبان هبط جبريل يعلن تحوّل القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة؛ وفي غمرة هذا العام المبارك تقدّم عليّ الذي بلغ من العمر خمساً وعشرين سنة إلي خِطبة فاطمة بنت رسول الله، وتمّ الزواج المبارك في مراسم غاية في البساطة رعاها النبيُّ بنفسه، وقد بلغ من البساطة والشفّافية أن ترك بصماته واضحة في التاريخ الإسلامي؛ وانتقل الزوجان إلي بيت دافئ مفعم بالمحبة والسلام.
وتمضي الحياة هادئةً كنهر تنثال مياهه علي الشطآن، والمجتمع الوليد ينمو، يتفتّح للعطاء كشجرة أصلُها ثابت وفَرعها في السماء؛ ولكنّ الذين تآمروا في مكّة لإطفاء النور كَبُر عليهم نجاح محمد، لهذا فكّروا ودبّروا فلم يجدوا سوي الحصار التجاري سلاحاً لتجويع شعبٍ آمن بالله وكفر بالأوثان.
وهكذا شحّت الموادّ الغذائية في المدينة وارتفعت الأسعار وتلاعب اليهود بالسوق؛ ولم يقف سيّدنا محمّد مكتوف الأيدي، فردّ كيد مكّة إلي نحرها وجرّد حملة عسكرية وقد أُذن للذين يُقاتَلون بأنّهم ظُلِموا وإنّ الله علي نَصْرِهم لَقَدير.
وكان هدف الحملة العسكريّة اعتراض قافلة تجاريّة مؤلّفة من ألف بعير وتضمّ رؤوس أموال ضخمة؛ وفي مصادرة هذه القافلة يكون المسلمون المهاجرون الذين صودرت ممتلكاتهم قد استرجعوا جزءً من حقوقهم المُغتصَبة.
وتسارعت الأحداث بشكل مثير، وإذا بالأنباء تفيد عن تحرّك عسكريّ خطير في مكّة، وتَقدّمَ جيش مؤلّف من ألف مقاتل؛ وكان أمام جيش النبيّ المؤلّف من ثلاثمئة وثلاثة عشر مقاتل من المشاة باستثناء فارس واحد أن يحسم موقفه بين الانسحاب أو المواجهة؛ وأراد سيدنا محمّد معرفة مدي الاستعداد القتاليّ لأصحابه، فوجد لدي المهاجرين عزماً علي القتال حتّي النهاية، ولدي الأنصار حماساً في الطاعة يصل إلي اجتياز البحر الأحمر، وفي فجر السابع عشر من شهر رمضان وقرب آبار بدر التحم الجيشان في معركة ضارية أسفرت عن انتصارٍ ساحق للجيش الإسلاميّ وسقوط سبعين قتيلاً من المشركين؛ وفي ذلك اليوم الخالد ارتفع اسم عليٍّ عالياً في سماء الشجاعة والفروسيّة.

الا ذو الفقار

نجم عن هزيمة المشركين الساحقة في بدر أن غيّرت قريش طرقها التجارية من الشام إلي العراق، وبالرغم من صعوبة ذلك وجهل قريش بالطرق الجديدة، إلاّ أنها فضّلت ذلك مُرغَمة بعد أن أصبحت قوافلها التجارية علي طريق الشام مُهدَّدة.
وفي مكّة كانت هند زوجة أبي سفيان تتحرّق حقداً وتترقّب ساعة الانتقام والثأر، وكان حقدها ينصبّ علي ثلاثة نفر هم محمّد صلّي الله عليه وآله وعليّ والحمزة؛ وقد رفضت تلك المرأة البكاء والنوح علي أبيها عتبة وأبنَيه لتحتفظ بأكبر مخزون من الحقد وروح الانتقام. ويمكن القول أنّ معركة أحد، إنّما جاءت استجابةً عمياء لروح الثأر التي ينطوي عليها عرب الجاهلية، وتقف هند وراء حماس أبي سفيان في صراعه مع الإسلام، مع أنّ البيت السفيانيّ لم يكن أقلّ حقداً من غيره علي سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله.
وفي شوّال وقد مرّت الذكري الأولي لأكبر وأوّل انتصار إسلامي قرب عيون بدر.. بدأ المشركون بقيادة أبي سفيان زحفهم باتّجاه المدينة، وقد خرجت هند ومعها بعض النسوة يحملن الدفوف وينشدن أشعار الثأر، التي تخرج عن دائرة الحياء.
تلقّت المدينة الأنباء وبدأت الاستعدادات للمواجهة بعد جَدَل في المسجد، ولكن النبيّ صلّي الله عليه وآله وقد رأي حماس الشباب في القتال خارج المدينة لبس لامة حربه وحسم الأمر، وتحرّك الجيش الإسلامي؛ المؤلّف من ألف مقاتل، ولكنّ رأس النفاق ابن أبي سلول قرّر العودة ومعه ثلاثمئة مقاتل مُحدِثاً بذلك شرخاً واسعاً في صفوف القوات الإسلامية وهي علي وشك الاشتباك، وقد رأي بعض الصحابة مواجهتهم ولكنّ النبيّ رفض ذلك.. وفي جبل أُحد التقي الجمعان، وضع النبيّ صلّي الله عليه وآله خطة المواجهة مؤكّداً علي احتلال مرتفعات جبل «عينين» وتمركز قوّة من أمهر الرماة مؤلّفة من خمسين جنديّاً مهمّتها الدفاع وحماية مؤخّرة الجيش الإسلاميّ من حركة التفافٍ قد يقوم بها العدو.
رتّب المشركون قواتهم في صفوف مستفيدين من تجربتهم المريرة في بدر، مقلّدين بذلك الجيش الإسلاميّ، فهي استراتيجيّة إسلاميّة في القتال.
اشتعلت المعركة وكانت الجولة الأولي للمسلمين، وقد استبسل علي في القتال فكان ينقضّ علي أصحاب اللواء من بني عبدالدار فتساقطوا تسعةً الواحد بعد الآخر، وعندما سقط اللواء للمرّة الأخيرة دبّت الهزيمة في قوّات الشرك، وأطلقت هند ساقَيها للريح وهي تري أحلامها تذروها رياحُ الغضب الإسلامي.
وفي تلك اللحظات المثيرة تناسي الرماة وصايا النبيّ صلّي الله عليه وآله وغادروا مواقعهم من أجل الغنائم رغم صيحات قائدهم.
وهنا انتهز خالد بن الوليد الفرصة فقاد فرسانه في حركة التفافٍ سريعة مفاجئاً مؤخّرة جيش المسلمين، فحدثت الفوضي وعمّ الارتباك صفوف المقاتلين، ومن ثم جاءت الهزيمة، وانتشرت شائعة حول مصرع النبيّ، وفي غمرة هذه الفوضي كان سيّدنا محمّد ومعه بعض أصحابه وفي طليعتهم عليّ بن أبي طالب يسطرون أكبر ملحمة في المقاومة، وكانت كتائب الشرك تهاجم بعنف مركز القيادة، وكان علي والزبير وطلحة وأبو دجانة والحمزة وحُذيفة ومصعب بن عمير وغيرهم يقاتلون ببسالة، وسقط مصعب شهيداً فأخذ علي اللواء، وسقط حمزة سيّد الشهداء، والملحمة مستمرة، والكتائب تندفع نحو رسول الله، وهو يهتف بعليّ: دونك الكتيبة، وأُغمي علي النبيّ من شدّة الجراح، وأفاق النبيّ صلّي الله عليه وآله، وقال لعليّ: ما فعل الناس؟ فأجاب: لقد نقضوا العهد ووَلَّوا الدُّبُر؛ وفي تلك الأثناء انقضّت كتيبة مؤلّفة من خمسين فارساً، فهتف النبيّ بابن عمه:
اكفني هولاء.
فانبري عليّ وتصدّي لها بمفرده وأجبرها علي التراجع؛ وفي تلك اللحظات وفي غمرة الغبار والقتال هبط جبريل قائلاً:
يا محمّد، إنّ هذه لَهي المواساة!
فقال النبيّ صلّي الله عليه وآله:
وما يمنعه من ذلك وهو مني وأنا منه.
فقال جبريل:
وأنا منكما.
وسمعت الأذن البشريّة في تلك البقعة الملتهبة من دنيا الله صيحةً سماوية تملأ الفضاء:
لا سيفَ إلاّ ذو الفقار.. ولا فتي إلاّ عليّ!

ويوم زاغت الأبصار

أسفرت معركة أحد عن زعزعة هيبة المسلمين في الجزيرة العربية إلي حدٍّ ما، ولكنّ سيّدنا محمّداً صلّي الله عليه وآله اتّخذ ما من شأنه استرداد مجد الإسلام، إذ عبّأ النبيّ صلّي الله عليه وآله جيشه بعد يومٍ واحد فقط من المعركة وقاد حملة لمطاردة جيش المشركين الذين فضّلوا الانسحاب مكتفين بما حقّقوه من نجاح مؤقّت؛ وقد رابط النبيّ صلّي الله عليه وآله في «حمراء الأسد» مدّة ثلاثة أيام والجيش الإسلامي يشعل النيران ليلاً إمعاناً في تحدّي المشركين الذين عسكروا في وادي الروحاء لاتخاذ قرار حول مهاجمة المدينة المنورة، ولقد كان أبو سفيان يُدرك قبل غيره أنّ النصر الذي أحرزه جيشه في أُحد كان بسبب مغادرة رماة الجيش الإسلاميّ مواقعهم، لهذا قرّر العودة إلي مكّة منحنياً للعاصفة.
وما يؤكّد هذا الرأي أنّ قوافل قريش التجاريّة ظلّت تسلك طرق العراق الأكثر صعوبة، ومع كلّ هذا فقد بدأ المسلمون يهدّدون هذه الطرق أيضاً مما جعل المشركين يشعرون بالذُعر، فالتجارة كانت عَصَب الحياة في قريش.
وفي السنة الرابعة للهجرة وقع حادث خطير عندما حاول يهود «بني النَّضير» اغتيال النبيّ صلّي الله عليه وآله، وقد أخفقت المحاولة في اللحظات الأخيرة.. فقد تدخّلت السماء وأنذرت النبيّ صلّي الله عليه وآله بما دُبّر له. ونتيجة لهذا الانتهاك السافر لمعاهدةٍ بينهم وبين المسلمين قرّر الرسول صلّي الله عليه وآله تأديبهم، فحُوصرت قِلاعهم، وانبري «عزّوك» لصبّ سهامه علي خيمة النبيّ فأُبعدت قليلاً عن مرمي السهام، وقد سقط عزوك في كمينٍ نصبه عليّ بن أبي طالب فقُتل هو وعشرة من أفراده، واخيراً استسلم يهود بني النضير فتمّ ترحيلهم من المدينة، ويبدو أنّ حُيَيّ بن أخطَب زعيم بني النضير قد اختار خيبر وفي رأسه فكرةٌ رهيبة للقضاء علي الإسلام.

العدوان

يمكن القول أنّ فكرة غزو المدينة علي النحو الذي وقع في شوّال من العام الخامس الهجري هي فكرة يهوديّة، وبالتحديد فكرة حُيَيّ بن أخطب، الذي وظّف ثلاثة عناصر هامّة: المال اليهوديّ، والحقد القُريشيّ الوَثَنيّ، والأطماع الغَطفانيّة بكلّ عمقها البشريّ الهائل.
وهكذا فوجئت المدينة المنوّرة بأنباء مثيرة حول تجمّع قَبليّ ضخم يربو علي العشرة آلاف مقاتل.
وثار جدل واسع حول أسلوب مواجهة هذا الزحف الكبير، وفي غمرة النقاش طرح الصحابي الجليل سلمان الفارسيّ فكرة الخندق، وهي فكرة لم يألفها العقل العربي في تلك الحقبة من الزمن، وقد حَظِيت الفكرة بحماس الجميع، وتحوّل سلمان في نظر المسلمين إلي بطل.
وفي ظروف بالغة القسوة بوشر العمل بحفر الخندق في الجهة الشمالية من المدينة، وهي المنطقة المكشوفة التي تشكّل نقطة الضعف في دفاعات المدينة.
كان الفصل شتاءً والرياح القارسة تعصف بعنف، والعام عام مجاعة، وكان المسلمون لا يجدون في بعض الأحيان ما يسدّ رمقهم، علي أننا لا ننسي أنّ شهر رمضان المبارك الذي استوعب مدّة الحفر قد منح المؤمنين إرادة جبّارة جعلت من كلّ تلك المعاناة عبادة وتقرّباً إلي الله. كما لا ننسي مدي الألم الذي يستشعره المؤمنون وهم يسمعون الشائعات التي يبثّها اليهود والمنافقون، والتي اتّخذت في بعض الأحيان طابع السخرية اللاذعة.
وبالرغم من كلّ الظروف المريرة فقد استكمل المسلمون حفر الخندق قبل ثلاثة أيام من وصول جيوش الغزو، وفُوجئ أبو سفيان بخندقٍ هائل يحول بينه وبين كلّ أحلامه المريضة في القضاء علي الإسلام.
عسكرت القوات الزاحفة، وهيّأت نفسها لضرب الحصار، ومرّت الأيام قلقة مثيرة للأعصاب؛ رابطت القوات الإسلاميّة قريباً من الخندق، وحدثت مناوشات بالسهام، وفي غمرة الحصار تناهت إلي النبيّ صلّي الله عليه وآله أنباء حول تحرّكات مشبوهة لبني قُريظة ونقضهم معاهدة الدفاع المشترك، بل ونيّتهم في الانضمام إلي قوات الغزو، وكانت قلاعهم داخل المدينة ممّا يُتيح لهم طعن الجيش الإسلامي في خاصرته، سيّما وأنهم يُشكّلون قوّة عسكرية ضاربة مجهّزة بأحسن الأسلحة ومؤلّفة من ألف مقاتل.
وتفاقمت الأخطار، وراح المنافقون والذين في قلوبهم مرض يتسلّلون من المعسكر الإسلامي ليلاً، فلم يبق مع النبيّ صلّي الله عليه وآله سوي ألف مقاتل فقط.
وفجأة.. حدث تطوّر عسكري خطير عندما نفّذ عدّة فرسان من المشركين مغامرة جريئة في اقتحام الخندق والعبور إلي الجهة الأخري، وليس هناك أفضل من هذه الآيات في رسم الحالة الخطيرة التي عاشها المسلمون في واحدة من أخطر المنعطفات التاريخية: يا أيّها الذين آمنوا اذكُروا نِعمةَ الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تَرَوها وكان اللهُ بما تعملون بصيراً، إذ جاءوكم مِن فوقكم ومِن أسفلَ منكم وإذ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ وتظنّون بالله الظُّنونا، هنالك ابتُلِيَ المؤمنون وزُلزِلوا زلزالاً شديداً.
راح الفارس المغامر يخطر في مِشيته ويقوم باستعراضات استفزازيّة متحدّياً الإسلام والمسلمين، وقد وصل به الاستهتار أن هتف ساخراً:
ألا مِن مشتاق إلي جَنّته؟!
وللأسف فقد سجّلت معنويات المسلمين أدني مستويً لها باستثناء فتي الإسلام عليّ بن أبي طالب الذي نهض منذ اللحظات الأولي للمواجهة، فأنقذ بذلك الكرامة الإسلاميّة، وسوف ينقذ المصير الإسلاميّ من أكبر كارثة.
نهض عليٌّ بثباته المعروف وشجاعته، وتقدّم نحو سيّدنا محمّد الذي أشرف شخصيّاً علي تجهيزه للصراع.
وعندما انطلق عليّ إلي ميدان المواجهة الخالدة رفع النبيّ صلّي الله عليه وآله يديه إلي السماء لتخترق دعواتُه الغيوم المتراكمة:
اللهمّ إنّك قد أخذتَ منّي عُبيدةَ يوم بَدر، وحمزةَ يوم أُحد.. وهذا عليّ أخي وابن عمي، فلا تَذَرْني فرداً وأنت خير الوارثين.
وكان من تقاليد القتال الفرديّ أن يعرّف كلّ طرف نفسه إلي الآخر، سأل الفارس المعلَّم خصمه:
من أنت؟
عليّ بن أبي طالب.
وهنا تغيرت نَبرة الخِطاب لدي عمرو بن عبد ودّ العامري، فتظاهر بالاشفاق قائلاً:
ليبرز إليّ غيرُك يابن أخي.. إنني أكره أن أقتُلك لأنّ أباك كان صديقاً لي.
ودار حوار قصير.. فقد عرض عليّ ثلاث نقاط علي خصمه قائلاً: إنّ قريشاً تتحدّث عنك أنّك تقول: لا يدعوني أحد إلي ثلاث خِلال إلاّ أجبتُه ولو إلي واحدة.
أجل.
فإنّي أدعوك إلي الإسلام.
قال ابن عبد ودّ:
دَع منك هذه.
أدعوك أن ترجع بمَن يتبعك من قريش إلي مكّة.
قال الفارس بكبرياء:
إذن تتحدّث عني نساء مكّة بالجُبن.
وهنا قال علي متحدّياً الوثنية كلّها:
إذن أدعوك إلي المبارزة.
وغلت عروق الفارس المعلّم، فقفز من فوق فرسه وسدّد ضربة إلي حصانه فعقره، وهذا يعني أنّه سيقاتل حتّي النهاية.
كان عمرو ما يزال في فورة الغيظ فهجم علي خصمه وسدّد له ضربةً جبّارة عليّ اتّقاها بدرقته ونشب السيف في الحديد، وهنا ردّ عليّ بالمِثل فأنشب ذا الفقار في عاتق الرجل الوثنيّ فسقط علي الأرض.. وانطلقت صيحة نصر من قلب الغبار:
الله أكبر.
وأدرك الجيش الإسلامي أنّ عليّاً قد قتل خصمه العنيد فانطلقت صيحات التكبير، وفي غمرة الذهول فرّ رفاق الفارس القتيل متجهين إلي الثغرة التي عبروا منها وسقط أحدهم في أعماق الخندق، وراح المسلمون يمطرونه بالحجارة، فهتف وهو يتقّي الحجارة بيده:
يا معشر المسلمين قتلة أكرم من هذه.
وقد أسفرت المواجهة عن نتائج هائلة، إذ تغيّر ميزان القوي لصالح المسلمين سيّما وأنّ عليّاً قد رابط ومعه مفرزة من المقاتلين عند الثغرة التي عبر منها المشركون، وبهذا يكون قد فوّت آخر فرصة للعدوّ في اقتحام الخندق واجتياح المدينة ومن ثمّ القضاء علي رسالة الإسلام إلي الأبد. وعاد بطل الإسلام إلي معسكره يبشّر رسول السماء بالنصر، واستقبله عمر بن الخطاب قائلاً:
هلاّ سلبته درعَه فإنّه ليس في العرب درعٌ مثلهاّ. فقال عليّ مجسّداً أسمي مُثل الفروسيّة والإنسانية:
استحييتُ أن أكشف سَوءته.

راية الحب الخالدة

ظلّت خيبر تمثّل تهديداً خطيراً للوجود الإسلامي، وكان سيّدنا محمد يراقب عن كَثَب التحرّكات اليهوديّة المشبوهة لتحريض القبائل العربية ضد الإسلام، سيما قبائل غطفان التي تحركها الأطماع في السلب والنهب.
وتنامي الخطر اليهودي بعد توقيع معاهدة سلام بين المسلمين ومشركي قريش، التي فُسّرت علي أنّها تراجع للإسلام وضعف.
وفي شهر صفر من السنة السابعة للهجرة تحرّك الجيش الإسلاميّ المؤلّف من ألف وأربعمئة مقاتل صوب الحصون اليهوديّة المنيعة؛ وانتخب سيّدنا محمّد صلّي الله عليه وآله الطريق المؤدية من خيبر إلي مضارب غطفان للحؤول دون أي تنسيق بينهما أو وصول إمدادات عسكرية.
وبالرغم من عنصر المفاجأة الذي وفّره النبيّ صلّي الله عليه وآله بجيشه إلاّ أنّ مناعة الحصون والقلاع اليهودية حالت دون سقوطها رغم تشديد الحصار.
كانت الجزيرة العربية تراقب باهتمام الصراع المصيريّ، خاصّة قريش التي كانت تتمني أن تدور الدائرة علي المسلمين.
أخفقت الحملات الإسلامية المتكررة في تحقيق تقدّم يذكر؛ وطالت مدّة الحصار وقاربت المُؤن علي النفاد، وراح اليهود يسخرون من المسلمين.
وفي تلك اللحظات التاريخية المثيرة هتف النبيّ:
لأُعطينّ الرايةَ غداً رجلاً يحبّ اللهَ ورسولهَ، ويحبّه اللهُ ورسولُه.
وبات الجميع وهم يحلمون براية الحب الأزليّة.
أشرقت شمس اليوم التالي.. وتطلّع المسلمون إلي مَن سيمسك بالراية، ولم يطل الوقت حتّي ظهر عليّ بن أبي طالب والراية تخفق فوق هامته.
قال النبيّ وهو يوصيه:
انطلق يفتح الله عليك.
وجسّد عليّ المَثَل الأعلي للجنديّ المسلم: تقدّم باتّجاه الهدف، ثمّ توقّف وسأل دون أن يلتفت إلي ورائه:
علي ماذا أُقاتلهم يا رسولَ الله؟
قاتِلهم حتّي يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله.
وتقدّم عليّ والحماس يملأ صدره، حتّي إذا أصبح قريباً من الحصن رمي بدرعه ليتخفّف من وزنه ويكون أكثر قُدرة علي المناورة والحركة، وأمر جنوده أن يفعلوا مثله.
ورأي اليهود في عليّ بلا درع لُقمة سائغة، فهبط إليه الحارث وهو غارق في الحديد وراح يتهادي بغرور، ولم يمهله علي إذ قفز عالياً ثم أهوي عليه بضربة مدمّرة فسقط إلي الأرض، وراح أبطال اليهود يبرزون إليه الواحد بعد الآخر فيلاقون ذات المصير، وانقلب الموقف وعمّ الحماس المسلمين الذين راحوا يسخرون من أبطال اليهود وهم يتساقطون عند قدمَي بطل الإسلام.
وهنا يقرّر مرحب خوض المعركة المصيرية وإعادة روح الثقة بالنفس لدي اليهود.
تقدّم مرحب وهو مُثقَل بالحديد والزرد، وفي يده رمح طويل ذي ثلاث رؤوس؛ وليس في جسده الفارع ثغرة يمكن للسيف أن ينفذ فيها.
سدّد البطل اليهودي رمحَه باتجاه صدر عليّ، وأيقن اليهود والمسلمون بأنّها ستكون نهاية لعليّ، ولكن البطل الإسلامي تحاشي الضربة وقفز في الهواء عالياً ليهوي بضربة أودعها غضب السماء. مرّت لحظات مثيرة ثمّ هوت كتلة الحديد فوق الأرض مُحدثة دويّاً رهيباً، وشعر اليهود بالرعب وانكفأوا داخل حصونهم، وهنا أعلن عليّ شارة الهجوم العام.
وفي لحظات سقط القموس وتساقط بعد ذلك سائر الحصون.
وظهرت علائم الارتياح علي وجه سيّدنا محمّد صلّي الله عليه وآله، وفي غمرة هذا الفرح وصل جعفر بن أبي طالب من الحبشة علي رأس المهاجرين، وتضاعفت فرحة النبيّ صلّي الله عليه وآله حتّي سُمِع يقول:
واللهِ ما أدري بأيِّهما أنا أشدّ سروراً: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر؟!
وعانق عليّ أخاه بعد فراق طويل.
إنّ أعظم ما في عليّ بن أبي طالب هو توازنه العجيب، فلقد ظلّ كما هو رغم كلّ هذه الأمجاد الحربيّة، وكان سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله لا يفتأ يذكر فضله واخلاصه، وكان عليّ يزداد حبّاً وولاءً لمعلّمه ومربّيه وأخيه العظيم.

آية في الطهر

رزق الله عليّاً صبيَّين هما ريحانتَي رسول الله، وتبلور مفهوم أهل البيت عليهم السّلام؛ وها هو سيّدنا محمد صلّي الله عليه وآله ينثر كلمات سماويّة ليجعل لهم مكاناً في قلوب المؤمنين. ليكونوا نجوماً في الأرض يهتدي بها الحائرون، وسفينةَ إنقاذٍ تشقّ عباب الأمواج الثائرة فينجو بها الراكبون، وباباً للرحمة والمغفرة.
وفي بيت أم سلمة هبط الملاك بآية الطهر، فالسماء تريد أن تطهّر أهل البيت، وتجعل من ذويه أمثلة للناس جميعاً، وتصفّد جبين محمّد صلّي الله عليه وآله وهو يتلقي كلمات من ربّه: إنّما يُريد اللهُ لِيذُهِبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكُم تطهيراً.
واستدعي سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله أخاه وابنته وسِبطَيه، ليضمّهم إليه قائلاً: اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهِبْ عنهم الرجس وطَهّرْهم تطهيرا.

آل محمد

ستبقي سورة ال عمران شاهداً علي مكانة أهل البيت، فهذه الأُسرة الكريمة التي طهّرتها السماء من أدران الأرض وباركها آخر النبوّات.. ستبقي وإلي الأبد معالمَ الطريق إلي الله.
في حدود السنة السابعة للهجرة، والجدل اليهودي الإسلامي في ذروته.. جاء وفد نجران، فالنصاري يريدون أن يُدْلوا بدَلْوهم ويقولوا كلمتهم في غمرة الجدل الدينيّ.
جاءوا يجادلون في طبيعة المسيح.. إنّه ابن الله، إنّه لا ينتمي إلي عناصر الأرض.
واستقبل النبيّ صلّي الله عليه وآله الوفد المؤلف من ستّين مسيحيّاً يتقدّمهم «العاقب» و «الأسقف».
استقبل النبيّ ضيوفه بودّ وخاطبهم بأدبه العظيم:
يا أهلَ الكتاب تعالَوا إلي كلمةٍ سواءٍ بينَنا وبينَكُم ألاّ نَعبُدَ إلاّ اللهَ ولا نُشرِكَ به شيئاً ولا يتّخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله.
وشرح لهم آخر الأنبياء توحّد المسار النبويّ عبر التاريخ:
آمنَ الرسولُ بما أُنزِل إليه من ربّهِ والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكتِه وكُتُبهِ ورُسُلهِ لا نُفرِّق بين أحدٍ من رُسُله وقالوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفرانَكَ ربَّنا وإليكَ المصير.
وتساءل الوفد عن طبيعة المسيح ولم يكن له أب، فهو ابن الله.
قال النبيّ صلّي الله عليه وآله بلغة السماء:
ما المسيحُ ابنُ مريمَ إلاّ رسولٌ قد خَلَت مِن قَبْلِه الرُّسُلُ وأُمُّه صِدّيقةٌ كانا يأكُلانِ الطعام.
وتساءل الأسقف عن طبيعة المسيح وقد وُلد من غير أب، ولدته العذراء البتول؟!
وكان جواب السماء:
إنّ مَثَلَ عيسي عند الله كمَثَل آدمَ خَلقَه مِن ترابٍ ثمّ قال له كُن فيكون.
واستاء الوفد ورفض أن يكون «يسوع» منتمياً إلي الطين، وهكذا وصل الجدل إلي طريق مسدود ف لن ترضي عنكَ اليهودُ ولا النصاري حتّي تتّبعَ مِلَّتَهم وعندما وصل الجدل ذروته هبط جبريل يحمل بلاغ السماء:
فمَن حاجَّكَ فيه مِن بعدِ ما جاءَك مِن العِلمِ فقُل تعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونِساءَنا ونِساءَكم وأَنفُسَنا وأنفسكم ثمّ نَبْتَهِلْ فنجْعَلْ لعنةَ الله علي الكاذبين.
وفوجئ الوفد المسيحي بدعوة النبيّ صلّي الله عليه وآله للمباهلة وتحكيم السماء، فأرجأوا الأمر إلي غد.
وأشرقت الشمس وخرج النبيّ في موكب عجيب.. كان يحمل سِبطَه «الحُسَين» وقد أخذ بيد سبطه الآخر «الحسن»، وكانت فتاة نحيلة القوام تمشي خلف أبيها العظيم لم تكن سوي البتول «فاطمة»، وكان زوجها يمشي خلفها.
وقف الأسقف مشدوهاً وهو يتأمّل وجوهاً مضيئة وفي فلاة تمتدّ بامتداد الأُفق.. جثا آخر الأنبياء في التاريخ، وجثا خلفه أهل بيته، والتفت النبيّ إليهم قائلاً:
إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا.
تمتم الأسقف.
جثا واللهِ كما يجثو الأنبياء.
وخاطب الأسقف النصاري ناصحاً:
إنّي لأري وُجوهاً لو سألوا الله أن يُزيل جَبَلاُ لأزاله! وهتف محذِّراً:
انظُروا إلي الشمس قد تغيّر لونها، والأُفق تنجع فيه السحب الداكنة.
وتقدم الأسقف إلي سيدنا محمّد وخاطبه متودّداً:
يا أبا القاسم، إنّا لا نُباهلك، ولكن نصالحك.
وهكذا انسحب الوفد المسيحيّ في آخر لحظة، وقال النبيّ صلّي الله عليه وآله بعد أن عاد الوفد إلي دياره
والذي نفسي بيده، إنّ العذاب تدلّي علي أهل نجران، ولو لاعنوا لَمُسِخوا قِردةً وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً».
لقد كشفت السماء المدي الذي وصل إليه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من السموّ حتّي أصبح نَفْسَ النبيّ صلّي الله عليه وآله.
وقد أكّد النبيّ صلّي الله عليه وآله نفسُه هذه الحقيقة في الحديث النبوّي الشريف؛ وهو يخاطب عليّاً عليه السّلام قائلاً: أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسي، ولكنْ لا نبيّ بعدي.
ومن يستكشف حياة هارون وعليّ عليهما السّلام سوف يجد نقاط لقاء عديدةً في حياة الرجُلَين، وأنّ عذابات عليّ هي امتداد لعذابات الأنبياء.

مشاهد وآيات

المشهد الأول: جلس العباس بن عبدالمطلب وطلحة بن شيبة يتفاخران.
العباس: أُوتيتُ من الفضل ما لم يُؤتَ أحد.. سقاية الحاجّ.
طلحة: وأنا أُوتيت عِمارةَ المسجد الحرام.
ومرّ عليّ بن أبي طالب ليُذكّر بالقيم الجديدة:
وأنا أُوتيت علي صغري ما لم تُؤتَيا..
وما الذي أُوتيت يا عليّ؟!
ضربتُ خراطيمكما بالسيف حتّي آمنتما بالله ورسوله.
نهض العباس غاضباً ودخل علي رسول الله صلّي الله عليه وآله:
أما تري ما استقبلني به عليّ؟!
أُدعُوا لي عليَّاً.
وجاء عليّ:
يا رسول الله، أصْدَقْتُه الحقّ، فإن شاء فليغضب، وإن شاء فَلْيرضَ.
ومرّت لحظات صمت، وتألقت حبّات عرق علي جبين النبيّ صلّي الله عليه وآله.. لقد هبط جبريل يحمل آية:
أجعلتُم سِقايةَ الحاجّ وعِمارةَ المسجدِ الحرام كمَن آمن باللهِ واليومِ الآخِر وجاهدَ في سبيلِ اللهِ لا يَستوون عند الله.
المشهد الثاني: في بيت فاطمة، وقد جلس عليّ وزوجه وجارية اسمها فضّة، وكان الحسنان مريضَين.
وجاء سيّدنا محمّد صلّي الله عليه وآله يعودهما ومعه صحابيان، قال أحدهما:
يا أبا الحسن، لو نذرتَ في ابنَيك نَذراً إن عافاهما الله.
قال عليّ عليه السّلام:
أصوم ثلاثة أيام شكراً لله.
قالت فاطمة:
وأنا كذلك.
وقالت فضّة:
وأنا أيضاً.
وقال الحسنان:
ونحن نصوم.
وبعد أيام ألبس اللهُ المريضَين ثوب العافية، حان وقت الوفاء بالنَّذْر، فلقد نهض الحسنان من فراش المرض.. وعادت إلي وجهَيهما دماءُ العافية، والسماء تنتظر نذراً نذره الإنسان، نذراً يقدّمه إلي نفسه ليكون قريباً من عوالم مغمورة بالنور..
لا شيء في منزل فاطمة.
انطلق عليّ إلي شمعون رجل من خيبر؛ رجل شهد انهيار حصون مليئة بالسلاح.. بالذهب.. بالذكاء أمام رجل لا يملك سوي سيف وقلب تنطوي في حناياه النجوم. وها هو اليوم يأتي يطلب شيئاً عجيباً.. إنّه يطلب قرضاً ثلاثة أصواع من شعير.. الرجل الذي اقتلع باب «القموص» وقهر خيبر … جاء يطلب حفنة من شعير.. وامرأته بنت محمّد.. تملك أرض «فَدَك».
تمتم شمعون وقد هزّته المفاجأة:
هذا هو الزُّهد الذي أَخبرنا به موسي بن عِمران في التوراة.
طحنت فاطمة صاعاً.. الرحي تدور و «فضّة» فتاة تعيش في منزل فاطمة.. تجمع الدقيق.. صار الدقيق عجيناً.. ثمّ خمسة أقراص: لكلّ صائم قُرص شعير!
النجم المهيب يهوي باتّجاه المغيب.. يُرسل أشعّة الوداع، يعلن نهاية يوم من حياة الإنسان والأرض.. الأُسرة الصائمة تتهيّأ للإفطار.. لقمة خبز تقيم أَود الجسد الآدميّ ليُكمل رحلته باتّجاه النور.
هتف إنسانٌ جائع:
مسكين! أطعِموني أطعمكم الله.
وحده الصائم في لحظة الافطار يُدرك آلام الجياع عندما تتلوي المعدة خاوية تبحث عن شيء تمضغه وإلاّ مضغت نفسها.
قدّم الصائمون خبزَهم.. وأفطروا علي الماء.. واستأنفوا رحلة الجوع.. الجوع زاد المسافر في ملكوت السماء.. حيث تِلال النور وبُحيرات تزخر بالنجوم.. الجوع يُلجم الشيطان القابع في الظلمات.. يسحقه فإذا هو خائر كثور محطّم القرون.
ومرّ يوم آخر والصائمون في رحلة اكتشاف ينابيع الحبّ الأزليّ.. وكلّ شيء آيل إلي الزوال إلاّ الحبّ.. والحبّ نداء الله إلي النفوس البيضاء.
ومرّ يتيم.. يا لوعة اليُتْم في ساعة الغروب.. الكائنات تعود إلي أوكارها، والطيور إلي أعشاشها، والأطفال إلي أحضان زاخرة بالدفء، وفي ساعة الغروب تتجمّع الدموع في عُيون اليتامي كسماوات مشحونة بالمطر.. يتجمّع البكاء في القلب.. والمرارة في النفس، فكيف إذا اجتمعت مع الجوع.. وهل تتحمّل نفوس الأطفال البرد والجوع!!
نادي اليتيم في لحظة الغروب الحزين:
أطعموني.. ممّا أطعمكم الله.
هناك في أعماق النفوس البيضاء كنوز من اللذّة، أين منها لذائذ البطن.. فكيف مع نفوس براها الجوع والنذر حتّي عادت شفّافة كالضياء، ساطعة كالنور..
لبّي الصائمون نداء اليتيم.. فباتوا ليلتهم يطوون رحلة مضنية تكاد تمزّق الجسد وتُحيله إلي حطام.. حيث يشهد عالَمُ الإنسان اللانهائيّ انتصار الملائكة وهزيمة الشيطان.. إلي الأبد.
السماء تراقب نفوساً في الأرض تطوي مسافات الجوع وفاءً بنذرها؛ وفي اليوم الثالث مرّ أسير ينشد لقمة خبز أو تُميرات.
الأجساد ترتعش أمام أمواج الجوع.. العيون غائمة.. والوجود يغمره ضباب ودخان.. ورياحين النبوّات تهتزّ.. تذبل أو تكاد.. والنفوس تشتدّ نصوعاً والورود تضوّعاً..
فاطمة تزداد نحولاً.. غارت عيناها.. وصوتها زاد وَهناً علي وَهَن وهي قائمة تصلّي في المحراب..
وفي منزل آخر الأنبياء هبط جبريل يحمل هدية السماء.. سورة الإنسان، وإنها:
بسم الله الرحمن الرحيم
هَل أتي علي الإنسان حِينٌ من الدهرِ لم يكن شيئاً مذكوراً. إنّا خَلَقنا الإنسانَ من نُطفةٍ أمشاجٍ نَبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً، إنّا هَدَيناه السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كفوراً، إنّا أعتَدْنا للكافرينَ سَلاسلَ وأغلالاً وسعيراً، إنّ الأبرارَ يشربونَ من كأسٍ كان مِزاجُها كافوراً، عَيناً يشربُ بها عِبادُ الله يُفجّرونها تفجيراً، يُوفُون بالنَّذرِ ويخافونَ يوماً كان شرُّهُ مُستطيراً، ويُطعِمونَ الطعامَ علي حُبّهِ مِسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنّما نُطعِمُكم لِوَجْهِ الله لا نُريدُ منكم جَزاءً ولا شُكوراً، إنّا نخافُ مِن ربِّنا يوماً عَبوساً قَمطَريراً، فوَقَاهمُ اللهُ شرَّ ذلك اليومِ ولَقّاهُم نَضْرةً وسُروراً، وجَزاهُم بما صَبروا جنّةً وحريراً … إنّ هذا كان لكم جَزاءً وكان سعيُكم مشكوراً …
ورأت فاطمة في تلك الليلة ما لا عينٌ رأت، وسمعت ما لا أذن سمعت ولم يخطر علي قلب بشر».
المشهد الثالث: الشمس تغمر مسجد النبيّ صلّي الله عليه وآله بالضوء، والرسول صلّي الله عيله وآله والذين آمنوا يُصلّون خلفه صفوفاً؛ الصمت يغمر المكان ما خلا تمتمات الصلاة.
ولما انفتل النبيّ صلّي الله عليه وآله من الصلاة دخل أعرابيّ.. يحكي في هيئته عناء الصحراء وقسوتها، الثياب مُهلهَلة ممزّقة خرّقتها ريحُ السَّموم، والعينان غائرتان منطفئتان ذهبت ببريقهما مرارة الأيّام.
لم يجد الأعرابي سوي اللجوء إلي رسول السماء.. إلي ظِلالٍ وارفة، واحة مُضمّخة بشذي جنّات الفردوس. وأطلق السائل صيحة استغاثة، فخلف جدران المسجد صِبية وبنات.. أجساد عارية تنشد الستر، وبطون خاوية تبحث عن رغيف الخبز.
وظلّت نداءات الأعرابي دون جواب، ورمق الأعرابيّ السماء بعينَين غارقتَين في حزن مرير:
اللهمّ اشهَدْ أنّي سألتُ في مسجد رسول الله فلم يُعطِني أحد شيئاً.
وفيما كان الأعرابي يهمّ بالانصراف رأي رجلاً يومي إليه.. خفّ إليه الأعرابي بلهفة، كان الرجل يصلّي، كان راكعاً لله ويده ممدودة، لم تكن الكفّ خالية ففي الخنصر خاتم فضّيّ.
نزع الأعرابي الخاتم، وعادت كفّ الرجل خالية.
ومضي الأعرابي فَرِحاً فيما ظلّ الرجل يصلّي لله. وتأثرّ النبيّ صلّي الله عليه وآله فرفع يديه إلي السماء قائلاً: اللهمّ إنّ أخي موسي سألك فقال: ربِّ اشْرَحْ لي صدري، ويَسِّر لي أمري، واحلُلْ عُقدة من لساني يفقهوا قَولي، واجعَلْ لي وزيراً من أهلي، هارونَ أخي، اشدُدْ به أَزْري، وأشرِكْه في أمري فأنزلتَ عليه قرآناً ناطقاً: سَنَشُدّ عَضُدَك بأخيكَ ونَجعَلُ لكما سُلطاناً فلا يَصِلون إليكمُا بآياتِنا، اللهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، اللهمّ اشرَحْ لي صدري، ويسِّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشدُد به أزري.
وعَرَجت الكلماتُ تطوي المسافاتِ وتخترق مداراتِ الزمن، وهبط جبريل..
تفصّد جبين النبيّ صلّي الله عليه وآله عَرَقاً، تألقت فوق جبينه الأزهر حبّات العرق كقطرات الندي، وفاحت في فضاء المسجد عطور الفردوس وأفاق النبيّ صلّي الله عليه وآله، وانسابت كلمات السماء كنهر هادئ:
إنّما وليُّكمُ اللهُ ورسولُهُ والذين آمَنوا الذينَ يُقيمونَ الصلاةَ ويُؤتونَ الزكاةَ وهم راكعون، ومَن يتَوَلَّ اللهَ ورسولَهُ والذينَ آمنوا فإنّ حزبَ اللهِ هُمُ الغالبون.
إنّ السماء ولا شكّ تأخذ بيد عليّ وترفعه عالياً، تمنحه ما منحت سيّد الخليقة محمّداً صلّي الله عليه وآله إلاّ النبوّة.

محطات الجهاد

دخلت السنة السابعة من الهجرة، وكلمة الإسلام تطوف ربوع الجزيرة العربية كفَراشة تُبشّر بالربيع القادم.
وتهيّأ سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله ومعه ألفان من الذين آمنوا إلي قضاء عُمرة الحجّ، وأُخليت مكّة للزائرين؛ وكان زعماء قريش يراقبون عن كَثَب أفواج المسلمين وهي تنحدر من شمال مكّة إلي بطن الوادي؛ كان عبدالله بن رواحة آخذاً بخطام ناقة النبيّ، وعندما انكشف البيتُ للوافدين تصاعدت هتافات التوحيد من أعماق القلوب المؤمنة:
لَبيّك اللهمّ لبيك.. لبيّك لا شريك لك لبيّك.. إنّ الحمد والنعمةَ لك والمُلك، لا شريك لك … ودخل النبيّ المسجد والتفت إلي اصحابه قائلاً:
رَحِم الله امرءً أراهم اليوم من نفسه قوّة.
واستلم الرُّكن ثم بدأ يهرول حول البيت، وهرول المسلمون خلف النبيّ صلّي الله عليه وآله سبعة أشواط وكان منظراً أدهش الوثنييّن.. وربّما تساءل بعضهم: كيف أمكن لهذا الطريد الذي خرج قبل سبع سنوات فارّاً بدينه أن يعود الآن ومعه ألفان من انصاره فيدخل مكّة دخول الفاتحين …
وفي تلك اللحظات دوّت نداءات لها مغزاها الخالد، وتجاوبت جنبات الوادي لهتافات المسلمين:
لا إله إلاّ الله وحده.. نَصَر عَبْدَه.. وأعز جُنده.. وهزم الأحزاب وحده..
وشعر الوثنيّون بالغيظ والحقد وتذكّروا تلك الأيام المريرة في ذلك الشتاء القارس، واستعادوا تفاصيل ذلك المشهد الخالد يوم سقط بطل الوثنيّة عمرو بن عبد ودّ عند قدمَي فتي الإسلام عليّ بن أبي طالب.
وكان همّ سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله أن يرسم صورة مشرقة لثقافة الإسلام الجديدة، ولا شك أنّ بعض أولئك الوثنيّين قد تأثّر لمنظر المسلمين وهم يطوفون حول الكعبة؛ وهم يصطفّون للصلاة فتنساب آيات السماء معبّرة بليغة جميلة.
ومرّت ثلاثة أيّام، وأرسلت قريش وفداً يُذكِّر النبيّ بانتهاء الأجل الذي نصّت عليه معاهدة «الحديبية». وعرض النبيّ صلّي الله عليه وآله أن يقيم مأدبة طعام لأهل مكّة، فرفضت قريش اقتراح النبيّ وطلبت من المسلمين مغادرة مكّة.

جعفر الطيار

في جُمادي الأولي من السنة الثامنة للهجرة الشريفة وقعت (معركة مُؤْتة) في شمال الجزيرة العربية، عندما اصطدم الجيش الإسلامي بحشود الرومان والتي قدّر بعضُ المؤرخين أنّها ناهزت المئتي ألف جندي، حيث هوي زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رَواحة شهداء، فيما قاد خالد بن الوليد الذي أسلم حديثاً عملية انسحاب ناجحة!

وجاء نصر الله

خرقت قريش صلح الحديبية بتحريضها «بني بكر» علي قبيلة خزاعة حليفة المسلمين، وحاول بعض سادة قريش تدارك الموقف وفي طليعتهم أبو سفيان، الذي شدّ الرحال إلي المدينة لاستباق الزمن وتجديد معاهدة الحُديبية مع سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله.
غير أنّه قد فات الأوان، فقد سبقه وفد خزاعة الذي أطلق صيحة استغاثةٍ بالنبيّ صلّي الله عليه وآله مذكّراً إيّاه بالتحالف.
والتقي أبو سفيان سيدنا محمّداً صلّي الله عليه وآله.
قال أبو سفيان:
جئتُ أُجدّد العهد وأزيد في أَمده.
سأل النبيّ:
إلهذا جئتَ يا أبا سفيان؟!
أجاب أبو سفيان بخبث:
نعم.
فسأل النبيّ صلّي الله عليه وآله:
فهل حدث عندكم ما يوجب ذلك؟
أجاب أبو سفيان وهو يخفي الحقائق الدامية:
كلاّ.. نحن علي صلحنا في الحديبية لا نغيّر ولا نبدّل.
وشعر أبو سفيان أنّ النبيّ صلّي الله عليه وآله يعرف ما حصل، فانطلق إلي ابنته رملة زوجة النبيّ صلّي الله عليه وآله وفوجئ بموقفٍ لم يكن يتوقّعه ابداً، فقد طوت أم حبيبة فراش النبيّ صلّي الله عليه وآله وقالت بشجاعة:
إنّه فراش رسول الله صلّي الله عليه وآله وأنت امرؤٌ مشرك نجس.
فقال الوثنيّ متظاهراً بالأسي:
لقد أصابكِ بعدي شرّ.
فأجابت المرأة المؤمنة:
بل هداني الله إلي الإسلام.
وأردفت تدعوه إلي النور:
واعجباً لك وأنت سيّد قريش وكبيرها تعبد حجراً لا يسمع ولا يُبصر ولا يُغني عنك شيئاً.
فقال أبو سفيان وهو يتشظّي حقداً:
بل الأعجب أنّكِ تريدين أن أترك دين آبائي واتّبع دين محمّد!!
أخفق أبو سفيان في مهمّته، ولكنّه أضحي كالغريق الذي يتشبّث بأيّ شيء من أجل النجاة؛ فراح يستنجد بهذا وذاك دون جدوي؛ وانطلق الزعيم الوثنيّ إلي عليّ بن أبي طالب فلم يجد لديه استعداداً للوساطة، فاستشاره فيما يتوجّب عليه أن يفعل في هذه الظروف السيئة، فقال عليّ:
إنّك من سادة كنانة.. ولا أري لك إلاّ أن تقوم فتُجير بين الناس.. ولا أظنّ أن ذلك يُجديك شيئاً.
وهكذا عاد أبو سفيان إلي مكّة صفر اليدين؛ واعتبرته قريش فاشلاً في رحلته، وراح بعضهم يتهكم منه قائلاً:
لقد لعب فيك عليّ بن أبي طالب!
وفي ظروفٍ بالغة السرّية كان النبيّ يُعدّ العدّة للزحف باتّجاه مكّة وكان أكبر همّه أن يفاجئ قريشاً بحشود هائلة فيضطرّها إلي الاستسلام دون إراقة للدماء؛ وبالرغم من كلّ الاجراءات فقد تسرّب النبأ إلي أحد الصحابة، فسطّر أخباره المثيرة في رسالة وبعث بها إلي مكّة، وكان قد استأجر امرأة لهذا الغرض.
وهبط الوحي يفضح هذه المؤامرة، فبعث سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله عليّاً والزبير علي وجه السرعة لتدارك الموقف، وفي منطقة الحليفة أوقف الفارسان المرأة، واستجوبها الزبير بن العوّام، فأقسمت أنّها لا تحمل أيّة رسالة وانخرطت في البكاء، فقال الزبير لعليّ بعد أن فّتش الرحل تفتيشاً دقيقاً:
ليس معها شيء، ارجِع بنا إلي رسول الله نُخبره.
فقال عليّ بلهجة تتدفّق ايماناً بصدق النبوّات:
يُخبرني رسول الله أنّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه، فتقول لا شيء معها!!
وأقبل عليّ علي المرأة مهدّداً:
واللهِ لئن لم تُخرجي الكتاب لأكشفنّك.
وانهارت المرأة وهي تري سيف عليّ فقالت:
أعرِضْ عني.
واستخرجت المرأة الكتاب من جدائلها.
واجتمع المسلمون في المسجد وقد بان الغضب علي وجه النبيّ صلّي الله عليه وآله:
أيّها الناس، لقد كنتُ سألتُ الله أن يُخفي أخبارنا عن قريش، وإنّ رجلاً منكم كتب إليهم يُخبرهم.. فليَقُم صاحب الكتاب قبل أن يفضحه الوحي.
وساد صمت رهيب، وكرّر النبيّ دعوته، وأخيراً نهض حاطب وهو يرتجف كسعفة في ريح باردة:
أنا صاحبه يا رسول الله.
ودمعت عيناه وهو يقول:
واللهِ إنّي لمسلم مؤمن بالله ورسوله ما غيّرتُ وما بدّلت، ولكنّي امرؤٌ ليس لي في مكّة عشيرة، ولي فيها أهل وولْد، فأردت أن أصانعهم.
وأمر النبيّ بإخراجه من المسجد، وراحت الجماهير تدفعه إلي خارج المسجد وهو ينظر إلي سيدنا محمّد بعينَين فيهما ذلّة الانكسار؛ وتدفّق نبع الإنسانيّة في قلب رسول السماء فأمر باعادته وأوصاه ألاّ يعود إلي مثلها ابداً.
واستكمل المسلمون استعداداتهم العسكرية وبلغت الحشود عشرة آلاف مقاتل، وغادر الجيش الإسلاميّ المدينة المنوّرة في شهر رمضان المبارك سنة 8 ه.
وصلت القوات الزاحفة مرتفعات «مرّ الظهران» المطلّة علي مكّة، وأراد النبيّ التهويل من ضخامة الزحف الإسلامي، فأمر جنوده بايقاد النار فوق المرتفعات، وشعر أبو سفيان بالانهيار وهو يراقب النار وهي تضيء الصحراء المترامية.
ولم يجد الوثنيّون سوي الاستسلام وفتح أبواب مكّة للفاتحين.
وفوجئ أهل مكّة بمنظر سيدنا محمد وهو يدخل مكّة علي ناقته مطرقاً برأسه تواضعاً، ولم تبدُ عليه أية ملامح تدلّ علي نشوة النصر ولا شهوة الانتقام، لقد اتّسع قلبه الكبير لكلّ الناس حتّي لأولئك الذين آذوه وعذبوه وشرّدوه عن مرابع صباه؛ ولقد كان بإمكانه أن يُحيل مكّة إلي خرائب، ولكن محمّداً صلّي الله عليه وآله لم يكن يفكّر بافتتاح المدائن أبداً، فهمّه الوحيد أن يفتح القلوب ويقود الإنسان الحائر إلي ينابيع النور والأمل والحرّية.

الزلزال

لقد كانت لحظات مثيرة تلك التي شهدت انهيار الأوثان العربية، وسط هُتافات (الله أكبر) التي ملأت فضاء مكّة؛ وراح سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله يطوف حول البيت علي ناقته «القصوي» ومئات الأصنام تتهاوي بين يديه لتتحول إلي أنقاض.
ها هو حفيد إبراهيم عليه السّلام يدخل المعبد وبيده فأس يهشم بها وجوه الآلهة المزيّفة، وكان «هُبَل» ما يزال جاثماً فوق الكعبة يحدّق ببلاهة، والتفت النبيّ صلّي الله عليه وآله إلي عليّ عليه السّلام، وتسلّق وليدُ الكعبة البيت الذي شهد ميلاده قبل ثلاثين سنة.
وتهشّم هبل تحت وقع ضربات عليّ، كان أبو سفيان يراقب تحطّم الآلهة بمرارة، ولعلّ تلك اللحظات كانت من أصعب ما واجهه أبو سفيان في حياته.
التفت الزبير إليه قائلاً:
يا أبا سفيان، لقد كُسِر هبل …
وأردف وهو يستعيد هتافات أبي سفيان في أحد: أُعلُ هُبل!:
أما إنّك قد كنتَ منه يوم أُحد في غرور.
قال أبو سفيان بضيق:
دع عنك هذا يا ابن العوّام.. لو كان مع إله محمّد إله غيره لكان غير ما كان.
وارتقي بلال سطح الكعبة في مشهد مثير، فهذا العبد المملوك قد جعل منه الإسلامُ بطلاً من أبطال الإنسانيّة، ولم يكن هناك من اسم أحبّ إليه من اسم محمّد صلّي الله عليه وآله.
ودَوَّت هتافات الأذان الخالد معلناً أن: لا إله إلاّ الله.. الله أكبر..
حتّي إذا وصل بلال إلي اسم حبيبه رفع صوته كأشدّ ما يكون قائلاً: أشهد أن محمّداً رسول الله.
وسيئت وجوه الذين في قلوبهم مرض.
لقد دمّر الزلزال أوثانهم، ومرّغ كبرياءهم بالوحل، وأحال مصالحهم وأمجادهم إلي مجرّد أنقاض، وبدّد أحلامهم المريضة فإذا هي هشيم تذروه الرياح.
لنراقب عن كثب هذا المشهد المضيء لنري كيف يحاول رسول السماء إنقاذ الإنسان من براثن النفوس الجاهلية،ها هو سُهيل بن عمرو يحثّ الخطي مذعوراً إلي منزله، لقد دخل جيش محمّد مكة فاتحاً وقد حانت لحظة القصاص، أغلق سهيل باب المنزل بإحكام وجلس يترقّب، قال لولده وكان قد أسلم من قبل:
اذهب يا عبدالله وخُذ لي أماناً من محمّد.. إنّي لا آمن علي نفسي..
وأضاف وهو يستعيد تفاصيل الماضي البعيد:
لأنّني لم أجد أحداً أساء إليه إلاّ واشتركتُ معه.. وقد حضرتُ مع قريش بدراً وأُحداً.
وتناسي الابن البارّ كلّ إساءات والده، وانطلق إلي ينابيع النور والرحمة إلي حبيب القلوب محمّد صلّي الله عليه وآله، قال النبيّ:
هو آمن.
والتفت إلي اصحابه يوصيهم بتناسي الماضي وفتح صفحة جديدة وبدء حياة جديدة:
مَن لقيَ منكم سُهَيلاً فلا يشدّنّ النظر إليه.. إنّ سهيلاً له عقل وشرف.
وأكبر المسلمون موقف النبيّ صلّي الله عليه وآله ازاء سُهيل.. سهيل الذي آلم قلب النبيّ في مفاوضات الحديبية.. وتذكّروا كلماته وهو يطالب بمحو عبارة رسول الله من نصّ المعاهدة قائلاً: لو كنتُ أعلم أنّك رسول الله ما قاتلتُك.. بل اكتُب اسمك واسم أبيك!
وردّ النبيّ بحزن: واللهِ إنّي رسول الله وإن كذبتموني!!
وجاء عبدالله يبشّر أباه بالطمأنينة والأمن والسلام.
واهتزّ سهيل للموقف النبيل، وحطّم الإنسان في أعماقه السلاسل وهتف:
كان واللهِ بَرّاً.. صغيراً وكبيراً.

حادثان

مكث سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله والمسلمون في مكّة خمسة عشر يوماً، ولعلّ عليّ بن أبي طالب الذي تخطّي الثلاثين قد تجوّل في ربوعها الزاخرة بالذكريات، وربّما ذهب إلي حراء جبل النور، إلي الغار الذي كان يأوي إليه مع أخيه وسيّده العظيم؛ غير أنّ «الشيخ» الغارق في السنين والحوادث لم يتذكّر سوي حادثتين فقط.. فرك جبينه بيده المعروقة وقال:
ذهب عليّ وهو بكامل زيّه الحربي.. يجتاز الأزقّة إلي منزل أخته أم هانئ، وعندما دخل فوجئت المرأة وكانت قد أجارت رجلَين من مكّة خائفين فأجارتهما.
قالت أم هانئ وهي تخاطب الجندي المسلم المدجج بالسلاح:
أنا أم هانئ بنت عمّ رسول الله!
وأماط عليّ اللثام، وارتسمت ابتسامة مشرقة علي وجه شقيقته التي خفّت إليه تعانقه. وفي تلك اللحظة وقعت عيناه علي المشركين فاخترط سيفه، هتفت أم هاني:
أنت أخي وتصنع معي ذلك.. لقد أجرتُهما.
قال عليّ:
أتُجيرين المشركين؟!
ألقت أم هانئ عليهما ثوباً واعترضت أخاها:
إذا اردتَ قتلهما فاقتُلني معهما.
ولم يجد عليّ سوي مغادرة المنزل.
وانطلقت أم هانئ بعد أن هدّأت من خوف الرجلَين إلي خيمة النبيّ.. لم تجده هناك ووجدت فيه ابنته فاطمة..
وجلست أم هانئ تشكو ما فعله أخوها وزوج ابنة النبيّ:
ما لقيتُ من ابن أُمّي! لقد أجرتُ حموَين لي.. فتفلّت عليهما ليقتلهما!
قالت فاطمة:
لأنّهما يستحقان ذلك.. وما يجدر بكِ أن تجيري المشركين.
وجاء النبيّ صلّي الله عليه وآله، ولمّا رأي أُمَّ هانئ هتف مستبشراً:
مرحباً بأم هانئ.
وشكت له أم هانئ ما حصل، فقال رسول الإنسانية:
قد أجرنا مَن أجرتِ، وآمنّا من آمنتِ.
وعادت أُم هانئ إلي منزلها تحمل البشري للرجلَين الخائفَين.
كانت القبائل العربية تترقّب ما سيسفر عنه الصراع بين محمّد وقومه من قريش، وكانت مكّة بكل ثقلها الدينيّ والقَبَليّ تمثّل أم القري، فهي مركز الوثنيّة وحصنها الحصين.

بنو جذيمة

ومن هنا جاء فتح مكّة ليسجل النصر الحاسم والنهائيّ للإسلام في مواجهة العقيدة الوثنيّة، وهكذا جاء اعتناق قريش للإسلام إيذاناً ببداية عهد جديد، ولكن ذلك لم يكن يمنع من وجود بعض الجيوب المشركة هنا وهناك في طوايا جزيرة العرب.
وفي خطوة لنشر الإسلام علي نطاق أوسع جهز النبيّ صلّي الله عليه وآله قوّة مقاتلة مؤلفة من ثلاثمئة وخمسين جنديّاً ضمّت الأنصار والمهاجرين لدعوة «بني جذيمة» إلي الإسلام؛ وكان علي رأس القوّة الإسلامية «خالد بن الوليد».
وللأسف.. فقد استيقظت في نفس القائد ذكريات الجاهلية، وتحرّكت في أعماقه روح الثأر من الذين قتلوا عمّه في غابر الأيام.
وهرع بنو جذيمة إلي السلاح؛ فقال خالد وقد بيّت لهم الغدر:
ضعوا السلاح؛ فإنّ الناس قد أسلموا.
وصاح جحدم وهو رجل من بني جذيمة:
ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد بن الوليد، واللهِ ما بعد وضع السلاح إلاّ الأسر، وما بعد الأسر إلاّ ضَرْبُ الاعناق، ولكنّ بني جذيمة مالوا إلي السلام وقال بعضهم:
يا جحدم، أتريد أن تسفك دماءنا!! فإنّ الناس قد أسلموا ووُضِعت الحرب وآمن الناس.
وألقي جحدم سلاحه، وهنا أمر خالد بأسرهم، وقتل جماعة منهم؛ واعترض عبدالرحمن بن عوف بشدّة قائلاً:
إنّك عملتَ بأمر الجاهلية في الإسلام.
قال خالد مخادعاً:
لقد أخذتَ بثأر أبيك.
أجاب عبدالرحمن مستنكراً:
كذبتَ.. لقد قتلتُ قاتل أبي يومذاك.. ولكنّك ثأرت لعمك «الفاكه»، واخترط خالد سيفه وشهر عبدالرحمن هو الآخر سيفه، وتدخّل بعض المسلمين فأصلحوا بينهما.
وصلت الأنباء المثيرة إلي مكّة وتألّم النبيّ بشدّة لهذا الانتهاك والغدر.. ورفع يديه إلي السماء قائلاً:
اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد.
واستدعي النبيّ أخاه عليّاً وسلّمه مالاً وقال:
يا عليّ اخرُج إلي هؤلاء القوم وانظُر في أمرهم واجعَلْ أمر الجاهليّة تحت قدمَيك.
وانطلق عليّ إلي مضارب بني جذيمة في خطوة إصلاحيّة، ودفع تعويضات عن ضحايا الحادث وبعض الخسائر الأخري.
قال عليّ:
هل بقي لكم بقيّة من دمٍ أو مال.
أجاب المنكوبون وقد طابت خواطرهم:
لا.
نظر عليّ فوجد لديه بقية من المال قد زاد، فقدّمها إليهم احتياطاً ممّا لا يعلم ولا يعلمون، وعاد إلي رسول الله يشرح له تفاصيل مهمّته، فقال النبيّ:
أصبتَ وأحسنتَ.
ورفع يديه إلي السماء مرّة أخري تعبيراً عن استنكاره الشديد لما حصل:
اللهمّ إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد.
قالها ثلاث مرات.

الطريق إلي حنين

يعدُّ ما حدث في وادي حُنَين آخر المواجهات العنيفة بين الإسلام والوثنيّة.
كانت قبائل هوازن وثقيف التي تقطن الطائف قد وقفت موقفاً سلبيّاً حيال الإسلام في مراحل الدعوة الأولي.
وعندما غادر سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله المدينة المنوّرة زاحفاً باتجاه مكّة ظنّت تلك القبائل أنّها ستكون الهدف من تلك الحملة العسكرية؛ وهكذا تدفّقت القبائل الوثنيّة إلي وادي حُنين وتمركزت في المرتفعات المشرفة علي الوادي في خطّة ذكيّة لمباغتة الجيش الإسلامي؛ وقد ضمّ التجمّع الوثنيّ قبائل هَوازن وثَقيف ونصر وجشم، وبلغت الحشود العسكرية اثني عشر ألف مقاتل؛ وكان الجيش الإسلامي يتألّف من اثني عشر ألف جندي هو الآخر.
وقد بلغ من تهوّر الزعيم الوثنيّ الشابّ أن هدد بالانتحار إذا لم تنفّذ القبائل المتحشدة تفاصيل خطّته دون قيد أو شرط، وكانت خطّته تستند إلي رُكنَين. الأوّل: ضمان عنصر المفاجأة في احتلال المرتفعات ومباغتة الحشود الإسلاميّة بهجوم عنيف، والثاني زجّه الأطفال والنسوة وما يمكن نقله من الأموال في المعركة وخلق حالة من الاصرار لدي القبائل ودفعها إلي القتال حتّي النهاية.
وقد علّق الشاعر دُرَيد بن الصمّة بمرارة قائلاً: إنّ المنهزم لا يردّه شيء؛ وانتقد مالكاً بن عوف لذلك.
كان علي الجيش الإسلامي الزاحف أن يسلك المنعطفات الجبلية في منطقة حنين؛ وعندما بدأت الكتائب الإسلاميّة في غبش الفجر الانسياب في بطن الوادي العميق، فوجئت بوابلٍ من السهام وهي تنبعث من قلب الظلمات، وسادت الفوضي الكتيبة التي يقودها خالد بن الوليد فارتدّت إلي الوراء في انسحاب فوضويّ جرف معه الكتلة الرئيسية من الجيش الإسلاميّ، وتحوّل الانسحاب إلي هزيمة، ولم يُعِر المنهزمون أُذناً إلي صيحات النبيّ وهي تدعوهم إلي الثبات والمقاومة، وبهذا سجّلوا موقفاً أسوأ بكثير ممّا حصل في معركة أُحد.
لم يَثْبُت مع النبيّ صلّي الله عليه وآله إلاّ ثلّة مؤمنة، وقد تضاربت الروايات فيمن ثبت.. ولكنّها أجمعت علي ثلاثة في طليعتهم عليّ بن أبي طالب والعبّاس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن الذي هوي شهيداً في أرض المعركة.
وأمر النبيّ صلّي الله عليه وآله عمّه العباس أن يطلق هتافاته الجَهوريّة ليتذكر المسلمون بيعةً في ظلال الشجرة.
ودوّت في الوادي صيحات العباس:
يا أهلَ بيعة الرضوان!.. يا أصحاب سورة البقرة.. يا أهل بيعة الشجرة.. إلي أين تفرّون؟!
وكان ذو الفقار يسطع في غمرة الغبار كصاعقة مدّمرة، وقد سجّل القرآن الكريم تلك اللحظات الحساسة من تاريخ الإسلام في قوله تعالي: ويومَ حُنينٍ إذ أعجَبَتْكم كَثرتُكم فلم تُغْنِ عنكم شيئاً وضاقَت عليكُم الأرضُ بما رَحُبَت ثمّ ولَّيتُم مُدبِرين، ثمّ أنزلَ اللهُ سَكينتَه علي رسولهِ وعلي المؤمنينَ وأنزل جُنوداً لم تَرَوها.
إن قلب المؤمن أقوي من الجبل.. وسيذكر التاريخ الإسلامي بإجلال تلك اللحظات المصيريّة؛ فيوم هبّت العاصفة الوثنيّة صفراء مدمّرة، لم يثبت سوي محمّد وعليّ ورجال صدقوا.. وأنزل الله جنوده.. وتحوّلت الهزيمة إلي نصر، وشيئاً فشيئاً عاد المنهزمون إلي الوادي الأيمن، وكانت راية الإسلام تخفق في قبضة عليّ؛ واقتحم النبيّ عن بغلته وراح يباشر القتال ببسالة أدهشت المسلمين أنفسهم، واندفع عليّ إلي حامل الراية الوثنيّة فقضي عليه، وسقطت راية الشرك، وكان لهذا الموقف البطوليّ أثره في ارتفاع معنويّات المسلمين.
وما أن أشرقت الشمس حتّي كانت أرض الوادي تهتزّ لضرواة المعركة، وعندما شاهد النبيّ صلّي الله عليه وآله أنّ كفّة القتال تميل لصالح الجيش الإسلاميّ هتف مُعلناً بدء الهجوم المعاكس:
الآن حَمِي الوَطيس، شُدّوا عليهم!
واندفع المسلمون في هجوم مدمّر، وراحوا يمزّقون الفُلول الوثنية التي فضّلت الفرار والنجاة بأي ثمن.
لقد سقطت راية الشرك إلي الأبد، فيما ظلّت راية الإسلام تخفق في قبضة بطل الإسلام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
انظر كيف يتألّق اسم عليّ في منعطفات التاريخ الإسلامي.. في اللحظات المصيرية.. في «بدر» و «أُحد» والأحزاب وفي يوم حُنين؛ ثمّ يختفي فجأة عندما يصبح الحديث عن الغنائم والأسلاب، والأطماع الرخيصة..
لقد حصل أبو سفيان وصفوان ومعاوية ويزيد علي ثروات طائلة لم يكونوا ليحلموا بها.. وعاد عليّ ولا شيء في يديه سوي البيرق الإسلاميّ، و «السَكينة» التي أنزلها الله علي رسوله تملأ قلبه.

هارون

في السنة التاسعة من الهجرة المباركة وصلت إلي المدينة أنباء مثيرة حول حشود عسكريّة هائلة في تَبوك؛ واستعدّ النبيّ صلّي الله عليه وآله لمواجهة أكبر امبراطوريّة في العالم آنذاك. كان الفصل صيفاً شديد الحرارة، والعام عام جَدب مما جعل هذه المهمّة العسكرية شاقّة، وأعلن النبيّ صلّي الله عليه وآله حالة النفير العام، ولأول مرّة استخدم سيّدنا محمّد صلّي الله عليه وآله أُسلوب الحرب الشاملة بالتحاق جميع القادرين علي حمل السلاح.
وسجل المجتمع الإسلامي حالة رائعة من التضامن مقابل تيار المنافقين الذين بذلوا جهوداً قذرة في تثبيط الهمم.
وبالرغم من قسوة الظروف فقد حشد النبيّ صلّي الله عليه وآله ثلاثين الف مقاتل، وغادر المدينة واستخلف عليها وصيّه عليّ بن أبي طالب وهي المرّة الأولي التي لم يشترك فيها عليّ في حروب الإسلام.
كان المنافقون ينتهزون هذه الفرصة ولكنّهم أُصيبوا بخيبة أمل لدي اكتشافهم أن خليفة النبيّ هو ابن عمه عليّ.
وجاء وفد من المنافقين وعرضوا علي النبيّ صلّي الله عليه وآله أن يصلّي في مسجدٍ لهم بَنَوه في قرية «قبا» في ضواحي المدينة؛ ولم يذهب النبيّ صلّي الله عليه وآله إلي قبا؛ وأرجأ ذلك لحين عودته من تبوك.
وقف الأطفال والنساء والشيوخ فوق سطوح المنازل يودّعون الجيش الإسلامي والشفاه تتمتم بالدعاء أن ينصر الله رسوله والذين آمنوا.
واستيقظت في نفوس المنافقين كوامن الخيانة والغدر، ووجدوا في عليّ عقبة كَأْداء في الوصول إلي أهدافهم الرخيصة.
أطلق المنافقون الشائعات حول استخلاف النبيّ صلّي الله عليه وآله لعليّ بن أبي طالب قائلين: إنّما خلّفه استثقالاً له. ولم يجد عليّ وهو الذي لم يفارق النبيّ صلّي الله عليه وآله طيلة حياته إلاّ أن يأخذ سلاحه ويلتحق بالنبيّ صلّي الله عليه وآله وكان النبيّ قد عسكر في «الجرف» قريباً من المدينة عندما وصل عليّ وقال مخاطباً رسول الله:
يا نبيّ الله، زعم المنافقون بأنّك إنّما خلّفتَني استثقالاً لي!
أجاب النبيّ مستنكراً:
كذبوا.. إنّما خلّفتُك لما ورائي.. إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك.. فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي..
وأردف قائلاً كلمته الخالدة:
أما ترضي يا عليّ أن تكون مِنّي بمنزلة هارون من موسي، ولكن لا نبيّ بعدي؟
وعاد «هارون» إلي المدينة وهو يحمل أوسمة المجد؛ وشعر المنافقون بالاحباط وهم يرون عليّاً يعود إلي المدينة، فانطلقوا إلي مسجدهم خارج المدينة.

مشاهد ونبوءات

المشهد الأول: حلّ ذو الحجّة الحرام من السنة التاسعة للهجرة، وهبط جبريل يحمل آيات «البراءة»، إيذاناً سماوياً بانتهاء الوثنيّة في شبه الجزيرة العربية، استدعي النبيّ صلّي الله عليه وآله أبا بكر وسلّمه البلاغ السماوي، ومضي أبو بكر أميراً علي الحجّ ذلك العام؛ حتّي إذا وصل «ذي الحَليفة».. هبط الوحي في المدينة المنوّرة، يأمر النبيَّ ألاّ يبلّغ تلك الآيات إلاّ نبيٌّ أو وصيّ نبيّ. واستدعي رسول الله علياً وأمره أن يركب «القُصوي» وأن يدرك أبا بكر ويأخذها منه.
وعاد أبو بكر إلي المدينة وهو يشعر بالقلق، وخاطب النبيَّ بلهجة يشوبها خوف:
يا رسول الله، أنزَلَ فيّ شيء؟!
أجاب النبيّ صلّي الله عليه وآله مُطمْئِناً:
لا.. ولكن قال لي جبريل: لا يُؤدّيها عنكَ إلاّ أنت أو رجلٌ منك.
عليٌّ يطوي المسافات يقود قوافل الحجّ الأكبر. وشهد البيت العتيق للمرّة الثالثة نداءات التوحيد؛ وكان الوثنيّون يبحثون عن اللات والعُزّي وهُبَل وعن عشرات الآلهة التي دكّها الزلزال الإسلامي.
وها هو عليّ بن أبي طالب ابن عمّ محمّد وزوج ابنته فاطمة يُعلِن موت الوثنية وزوالها إلي الأبد.
تألّقت شمس العاشر من ذي الحجة الحرام، ووقف عليّ يتلو بلاغ السماء:
إنّما المشركون نَجَسٌ فلا يَقربَوا المسجدَ الحرامَ بعد عامِهم هذا.
ودوّت نداءاته في فضاء مكّة وهو يهتف عالياً:
«لا يحجّن بعد هذا العام مشركٌ، ولا يطوفنّ في البيت عريان، ولا تدخل الجنّةَ إلاّ نفس مسلمة؛ ومَن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجلُه إلي مُدّته..».
المهشد الثاني: دخل الناس في دين الله أفواجاً، ما خلا بعض القبائل هنا وهناك، وفي شهر رمضان المبارك من السنة العاشرة للهجرة بعث سيّدنا محمّد صلّي الله عليه وآله علياً علي رأس ثلاثمئة من المقاتلين إلي قبيلة مذحج في اليمن، (وكانت مشاهد التوديع مؤثّرة، فقد عمّم سيّدنا محمّد صلّي الله عليه وآله علياً بنفسه وسلّمه اللواء، وقال له:
أُدعُهم إلي قول لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فإن أجابوك فَأْمُرْهم بالصلاة ولا تَبْغِ منهم غير ذلك.
وأردف قائلاً:
واللهِ لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مما طلعتْ عليه الشمس.
وحفظ عليّ وصيّة النبيّ، فعاش حياته كلها يجاهد من أجل الإيمان.
قال عليّ وقد هّم في مهمّته:
يا رسول الله، تبعثني إلي قوم وأنا حديث السنّ لا أُبصر القضاء.
تقدّم النبيّ صلّي الله عليه وآله ووضع يده علي صدر عليّ ونظر إلي السماء بخشوع وقال:
اللهمّ ثبِّت لسانه واهْدِ قلبه.
وأردف وهو ينظر إلي فتاه وصِهره:
إذا جاءك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتّي تسمع من الآخر، فإنّك إذا فعلت تبيّن لك القضاء.
وانطلقت خيول الإسلام إلي اليمن، وكان همّ عليّ الأول أن تدخل القبائل القاطنة هناك في دين الله؛ وقد نجح في مهمّته، ثم غادر اليمن بعد أن ترك فيها مُعاذ بن جبل يعلّم أهلها أحكام الشريعة؛ أما عليّ فقد توجه من هناك إلي مكة، فقد أطلّ موسم الحجّ، وها هو رسول الله ومعه عشرات الألوف من المسلمين يقطعون الصحراء وهم يلبّون نداء أبيهم إبراهيم، وقد سمّاهم المسلمين من قَبْل؛ وأسرع عليّ يحثّ خُطاه وفي قلبه شوق للقاء نبي الله صلّي الله عليه وآله، والتقي الأخوان علي مشارف مكّة.
وزفّ عليّ بشائر النصر إلي رسول الله.
قال النبيّ وقد اشرقت الفرحة في وجهه:
بِمَ أهلَلْت يا عليّ؟
قال عليّ:
يا رسول الله، إنّك لم تكتب إليّ بإهلالك ولا عرفتُه، فعقدت نيّتي بنيّتك، وقلتُ: اللهمّ إهلالاً كإهلال نبيّك، وقد سُقتُ معي من البُدن أربعاً وثلاثين بدنة.
وعندها قال النبيّ صلّي الله عليه وآله:
الله أكبر، وأنا سقتُ ستاً وستين.. وأنت شريكي في حجّي ومناسكي وهَديْي، فأقِم علي إحرامك وعُد إلي جيشك فعجّل بهم حتّي نجتمع بمكّة.
المشهد الثالث: وقف رسول الله صلّي الله عليه وآله يوم النحر من حِجّة الوداع خطيباً:
«أمّا بعد، أيّها الناس اسمعوا مني ما أُبيّن لكم فإنّي لا أدري لَعلَيّ لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلي أن تلقوا ربّكم كحُرمة يومكم هذا في شهركم وبلدكم هذا..».
«أيّها الناس إنّما المؤمنون إخوة، ولا يحلّ لأمرئٍ مالُ أخيه إلاّ عن طيب نفسه، فلا ترجعوا كفّاراً بعدي يضرب بعضكم أعناق بعض، فإنّي قد تركتُ فيكم ما إن أخذتُم به لن تضلّوا بعدي أبداً: كتاب الله وعِترتي أهل بيتي..».
انطوي موسم الحجّ، وغادر سيّدنا محمّد صلّي الله عليه وآله مكّة ومعه مئة ألف أو يزيدون؛ التاريخ يشير إلي يوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام من السنة العاشرة للهجرة.
قوافل الحجيج تهوي في بطون الأودية؛ الشمس في كبد السماء وقد بدت وكأنها تتشظّي لهباً، القوافل تصل مكاناً قريباً من الجُحفة، حيث مفترق الطرق.
وغمرت النبيَّ صلّي الله عليه وآله وهو علي ناقته «القصوي» خشوع الرسالات، لقد هبط جبريل يحمل بلاغ السماء، وتوقف النبيّ صلّي الله عليه وآله وهو يتشرّب إنذاراً سماوياً:
يا أيّها الرسولُ بلِّغْ ما أُنزِل إليكَ مِن ربِّك وإن لم تفعلْ فما بَلَّغْتَ رسالتَه واللهُ يَعصِمُك مِن الناس.
وتوقّفت عشرات الألوف وهي تتساءل عن السرّ في توقّف النبيّ في هذه البقعة الملتهبة من دنيا الله.
وانبري بعض الصحابة يصنعون للنبيّ مرتفعاً، فلديه كلمات تامّات يريد إبلاغها لعشرات الآلاف من الصحابة.. والأجيال القادمة.. والتاريخ:
كلمات الحمد والثناء لله تنساب من بين شِفاه آخر الأنبياء، قال النبيّ وعشرات الأُلوف تتطلع إليه:
ألستُ أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟
وجاء الجواب من عشرات الحناجر:
بلي يا رسول الله.
وأخذ النبيّ بيد عليّ ورفعها عالياً:
مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه..
ورفع آخرُ الأنبياء يدَيه إلي السماء:
اللهمّ والِ مَن والاه.. وعادِ مَن عاداه.. وانصُر مَن نصره.. واخذُل مَن خذله.
وهبط جبريل يبشر محمّداً صلّي الله عليه وآله أنه قد أدّي رسالته وقد آن له أن يستريح؛ لقد اكتمل الدِّين وتمّت النعمة وقِيل الحمد لله رب العالمين.
تصفّد الجبين الأزهر عرقاً؛ تألقت حبّات العرق كقطرات الندي وقد انطبعت كلمات السماء فوق شغاف قلبٍ وَسِع الدنيا والتاريخ:
اليومَ أكملتُ لَكُم دِينَكم وأتمَمتُ علَيكُم نِعمتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً.

ارهاصات الرحيل

عاد رسول الله إلي المدينة ينوء بثقل السنين، تؤرّقه هواجس المصير؛ جبريل يعرض عليه القرآن مرّتين، إنّه يقترب من النهاية.. نهاية كلّ الحيوات، وقد ظهرت في الأفق غيوم وغيوم.
انتصف الليل وبدت النجوم في صفحة السماء قلوباً تنبض بوهن، استدعي النبيّ صلّي الله عليه وآله مولاه «أبا مويهبة».
قال النبيّ بشيء من الحزن:
إنّي قد أُمرتُ أن أستغفر لأهل البقيع.. فاخرُج معي.
لبّيك يا رسول الله.
الصمت يهيمن علي المكان ما خلا خطوات واهنة في طريقها إلي أُناس عاشوا ثم ماتوا؛ وقف آخر الأنبياء يُحيّي أولئك الذين رحلوا بعيداً بالرغم من تلك الأشبار القليلة التي تفصلهم عمّا يجري فوق الأرض:
السلام عليكم يا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتُم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجّاكم الله منه..
أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أُخراها أُولاها، والآخرة شرّ من الأولي.
التفت رسول الله إلي مولاه:
يا أبا مُوَيهبة، إنّي قد أُوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخُلد فيها ثمّ الجنّة؛ وخُيِّرت بين ذلك ولقاء ربّي والجنّة، فاخترتُ لقاء ربّي والجنّة.
قال أبو مويهبة بحزن:
بأبي أنت وأمّي، فخُذ مفاتيح خزائن الدنيا والخُلد فيها ثمّ الجنّة.
أجاب النبيّ وقد هزّه لقاء الحبيب:
لا واللهِ يا أبا مويهبة، لقد اخترتُ لِقاء ربّي..
وسمع أبو مويهبة تمتمات الاستغفار..ها هو النبيّ الأمّيّ يتذكّر أصحابه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
الأيام تمرّ حزينة والرسول يخطو إلي النهاية.. وقد أزفت ساعة الرحيل.
لزم النبيّ فراش المرض، جسده يغلي من وقع الحمّي.
المسلمون رجالاً ونساءً يعودون آخر الأنبياء.. القلوب تذوب حزناً، وجاءت أم بُشر تعوده؛ قال النبيّ وقد ومضت في ذهنه حوادث خيبر:
يا أم بشر.. وجدتُ انقطاع أبهري مع الأكلة التي أكلتُ مع ابنك بخيبر.

الخميس (24 صفر 11 ه)

اليوم هو يوم الخميس، ارتدت الاشياء ثوب الحزن والقلق؛ أو هكذا خُيّل للمؤمنين، فالقلب الكبير يخفق بشدّة، تتسارع دقّاته تحت لهيب الحمّي.. والنبيّ يقطع الخطوات الأخيرة من حياته في كوكب الحوادث؛ عيناه مشدودتان إلي الأفق البعيد.. الأفق المغمور بالطمأنينة والسلام، والقلب يخفق لآخر الأمم وقد ذرّ الشيطان قرنَيه.
الحجرة الطينيّة المتواضعة تكتظّ برجال رافقوا النبيّ وها هم يجتمعون حوله، وآلاف الأفكار تصطرع في الرؤوس، وقد «أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم».
نظر النبيّ إلي اصحابه.. دمعت عيناه..ها هي لحظة الوداع قادمة من بعيد، إنّها تقترب، وها هي الفتن مقبلة.
تمتم النبيّ بصوت واهن:
ائتوني بصحيفةٍ ودواة لأكتُبَ لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً.
ونهض صحابيّ.. فاعترضه رجل فيه غلظة:
ارجع.. لقد غلب رسولَ الله الوجع.. إنّه يهجر.. حَسْبُنا كتاب الله.
الجسد يغلي تحت وطأه الحمّي.. غامت المرئيّات وولج النبيّ عالماً آخر، أغضبته كلمات الرجل الفظّ.
ولمّا أفاق وجد أصحابه يتنازعون، قال رجل:
ألا نأتي لك بدواةٍ يا رسول الله!
أجاب النبيّ بحزن:
أَبَعْدَ الذي قلتم!
أدار آخر الأنبياء وجهه إلي الحائط.. ونهض الرجال وكان ابن عمّ له يبكي.. يبكي بمرارة؛ لقد أضاع المسلمون مجدهم.. ولسوف يبكون.. يذرفون الدموع غِزاراً قبل أن يعثروا عليه.

الجمعة (25 صفر 11 ه)

جاءت فاطمة.. فتاة تحمل ملامح مريم.. النبع الدافق رحمة وحناناً.. جاءت «أم أبيها».. تعود أباها.. أراد آخر الأنبياء أن ينهض إجلالاً للمرأة المِثال.. لسيّدة كلّ امرأة في التاريخ.. ولكنّ الجسد الواهن لم يستجب للارادة.. هتف وقد شاعت الفرحة في وجهه:
مرحباً يا بنتي..
أخذ النبيّ بيدها وأجلسها إلي يمينه؛ همس في أُذنها بكلمات.. شهقت الفتاة بعبرات واخضلّت الأجفان بالدمع.. كسماء تمطر بحزن..
وهمس الأب بكلمات.. انقشعت الغيوم.. وأشرقت شمس الأمل تبعث النور والدفء.. أشرقت ابتسامة في الوجه المضيء.. تعجّبت عائشة. حفصة.. أم سلمة.. وكلّ النسوة.. نهضت فاطمة.. لحقتها عائشة:
لقد خصّك بسرّ.. تضحكين تارة وتبيكن أُخري!!
أخبريني بما قال لكِ.
قالت فاطمة وما تزال قطرات الدمع عالقةً بأهدابها:
ما كنتُ لأُفشيَ سرَّ رسول الله.

السبت (26 صفر 11 ه)

ترك أسامة جيشه في «الجُرُف» ودخل منزل النبيّ تموج في نفسه الهواجس، فهناك من الصحابة من يتذمّر من قيادته لحداثة سنّة، وهناك من يتعلّل بحالة النبيّ.. قال أُسامة وهو مطرق الرأس:
بأبي أنت وأُمّي.. أتأذن أن أمكُث أيّاماً حتي يشفيك الله؟
لا يا أُسامة.. أنفذْ بجيشك حتّي توطّئ خيلك أرض البلقاء والداروم حيثُ قُتل أبوك.
ورأي النبيّ صاحبَيه.
قال النبيّ صلّي الله عليه وآله بألم:
ألم آمركم بإنفاذ جيش أُسامة؟!
أجاب الأول: كنتُ في «الجرف» وقد جئت أُجدّد بك العهد.
وقال الثاني: أما أنا فلم أخرج.. لا أريد أن أسأل عنك الأعراب في الصحراء!
تضاعفت آلام محمّد صلّي الله عليه وآله.. غلت العروق بسبب الحمي والغضب، تمتم بحزن: أنفِذوا جيش أسامة.. أنفِذوا جيش أُسامة أنفِذوا …

الاحد (27 صفر 11 ه)

خفّت الحمّي.. وشعر آخر الأنبياء بشيء من النشاط يسري في جسده الواهن؛ تاقت روحه العظيمة إلي مسجدٍ أُسس بُنيانه علي التقوي؛ كان الوقت ضحي، طلب النبيّ من ابنَي عمّه أن يساعداه؛ وبالرغم من العصابة التي شدّها حول رأسه إلاّ أنّ الحمي قد خفّت قليلاً.. وها هو النبيّ يمشي الهُوَيْنا بين عليّ والفضل، وشاعت الفرحة بين أصحابه …
اتّجه آخر رُسُل السماء إلي المنبر فارتقاه، وكان يتساند علي يد الفضل حتّي استوي، قال النبيّ لابن عمه:
نادِ في الناس.
ولبّي المسلمون النداء.. ورمق النبيّ أصحابه بنظرات تشّع رحمة وقال:
أحمَدُ إليكمُ الله.. أيّها الناس. مَن كنتُ جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فَلْيَقْتَدْ منه، ومن كنتُ أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه..
ولا يقل رجل إنّي أخاف الشحناء من رسول الله.. ألا وإنّ الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني، ألا وإنّ أَحَبّكم إليّ مَن أخذ منّي حقاً إن كان له.. أو حلّلني فأتيتُ الله وأنا طيّب النفس …

الاثنين (28 صفر 11 ه)

دهمت الحمّي الجسد الواهن، والروح العظيمة توشك علي الرحيل؛ القلب الكبير يخفق بعنف.. وأخفقت مياه الآبار في إطفاء النار المشتعلة..
ارتفع صوت بلال يدعو إلي الصلاة … وخفّ بلال إلي بيت الرجل الذي علّمه كيف يحيا … وقف إزاء الباب وهتف بشوق:
الصلاةَ يرحمكم الله..
قال النبيّ وهو ينوء تحت وطأة الحمّي:
يُصلّي بالناس بعضُهم فإنّي مشغول بنفسي..
هتفت عائشة: مُروا أبا بكر!
وهتفت حفصة: مُروا عمر!
وتألّم النبيّ، فما يزال أصحابه في المدينة وقد أُمروا بالجهاد.. ما يزال جيش أُسامة في المدينة وقد أمر أن يذهب إلي تخوم «البلقاء».
ونهض رسول الله.. وساعده عليّ والفضل … وكانت قدماه تخطّان في الأرض.. ووجد صاحبه في الغار في المحراب، فنحّاه..
وعاد النبيّ إلي منزله ينوء بحمّي الرحيل …
وضع النبيّ رأسه في حِجر أخيه … وتوهّجت الذكريات البعيدة، تذكّر عليّ مشاهد مضيئة … انبعثت من بين غبار الأيّام وتراب السنين … تذكّر يوم كان صبيّاً في حجر محمّد … تذكّر رحلاته إلي جبل حِراء ويوم هبط جبريل يحمل آخر الرسالات … وتذكّر اللحظات التي ودّعه فيها يوم هاجر من مكّة … تذكّر سنوات الجهاد والعناء … ويوم تحطّمت الأصنام وعَنَت الوجوه للواحد القهّار …‌ها هو محمّد صلّي الله عليه وآله يذوي … يخبو بريق عينيه … يشعّ اسمه في القلوب … كلّ القلوب … نهضت فاطمة احتراماً للرجلَين أبيها وبعلها.. احتراماً للحظات الوداع … بعد رحلة طويلة ناهزت الثلاثين سنة، ونهضت النسوة احتراماً لفاطمة … لم يبق في الحجرة الطينية سوي محمّد وعليّ وكلمات الوداع … جلست فاطمة عند عتبة الباب.. في استسلام كامل للقضاء الإلهيّ، وانبعثت كلمات محمّد الأخيرة … السماء تخيّره فاختار:
بل الرفيق الأعلي …
وعانق عليٌّ أخاه وسيّده … وانطلقت الروح من أهاب الجسد تطوي المسافات …
ودوّي هتاف حزين:
وامُحمّداه!
وانطفأت الشمس وحلّ زمن الزمهرير.
فاطمة تنوء بنفسها وقد أسندت رأسها إلي صدرٍ لم يعد النسيم يزوره.
كانت تُصغي إلي صمت الأنبياء … وللصمت حديث تسمعه القلوب وتُصغي إليه العقول.. العينان اللتان كنتا نافذتَي نور قد أسدلتا جَفْنَيهما، واليدان اللتان كانتا مهداً هما الآن مُسبَلتان … والروح التي كانت تصنع التاريخ والإنسان قد رحلت بعيداً.. غادرت هذا الكوكب الزاخر بالوَيلات.
لقد حلّت لحظة الفراق؛ وتخفّف الإنسان السماويّ من ثوبه الأرضيّ ليرحل بعيداً … إلي عوالم حافلة بالنور والحبّ والسلام.

اصلب من الأيام

فَصَبَرْتُ وفي العَين قَذي وفي الحَلْق شَجي … أري تُراثي نَهْباً..

العاصفة

انطفأ السراجُ فالدنيا ظلام.. وخمد المَوقِد فالحياة في جزيرة العرب زمهرير. ورحل السلام.. فذرّ الشيطان قرنَيه يعربد.
أيّها الصامت، صمتُك أبلغ من كل أبجديّات الدنيا.. وسكوتك المدوّي صرخة حقّ في عالم الأباطيل. وقد زُلزلت الأرض زِلزالها، انهار عمود خيمة كانت تعصف بها الريح.. وتمزّق «الكساء» اليمانيّ وكان يُدثّر نبيّاً هو آخر الأنبياء في التاريخ.. ورجلاً يشبه «هارون» في كلّ شيء إلاّ النبوّة.. وامرأة هي سيّدة بنات حوّاء.. وسبطَين هما آخر الأسباط في التاريخ.
آهٍ منك يا يومَ الاثنين … !
جثا عليّ أمام جسدٍ كانت روحه العظيمة تضيء الجزيرة، وبقايا نور في الجبين البارد تشبه شمساً هَوَت في المغيب. هيمن صمت ملائكيّ في المكان فيما العالم خلف الحُجُرات يموج بالفتن.
ظهرت غيمة في الأُفق حجبت ضوء الشمس … وكَمَنْ يبحث عن ظِلّه في يوم غائم كان الناس ينظرون هنا وهناك … هل غادر الحبيب الديار؟!
واجتمعت طائفة من الأنصار في سقيفةٍ لهم … فهناك من يريد الاستيلاء علي «سلطان محمّد» (قُريش) لا تريد عليّاً.. ذلك الفتي الذي قهر ب «ذي الفقار» جبروتها.. لا تريد لبني هاشم أن يحوزوا النبوّة والإمامة.. والوحيَ والخلافة.. والسماء والأرض …
هل أدرك الأنصار ما يدور في الخفاء من همسٍ حول إقصاء عليّ؟ هل طمعوا ب «السلطان»؟ هل خافوا أن يضيع نصيبهم من «الأمر».

يا يوم الاثنين

اُغمض النبيّ عينيه … وعاد جبريل إلي السماء.. واستيقظت في النفوس غرائز كانت مُكبّلة أو نائمة..
دخل عمر حُجرة النبيّ.. كشف الملاءة عن وجهٍ أضاء الدنيا، قال بدهشة متصنّعة:
ما أشدَ غشي رسول الله!
أجاب المغيرة مصعوقاً من موقف عمر:
مات واللهِ رسول الله.
ردّ عمر بلهجة فيها وعيد:
كذبتَ ما مات، ولكنّه ذهب إلي ربّه … كما ذهب موسي بن عمران.
وظل المغيرة ينظر إلي عمر بدهشة.
خرج عمر وقد جحظت عيناه من الغضب.. شهر سيفَه مهدّداً وراح يهتف:
إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد مات … لا واللهِ … ما مات.. ولكنْ ذهب إلي ربّه كما ذهب موسي بن عمران ثمّ رجع بعد أربعين ليل …
والله ليرجعنّ رسول الله.. فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم …
تحلّق الناس حول رجل يبرق ويرعد ويُهدّد كلّ من يقول بموت محمّد صلّي الله عليه وآله.. ما أعجب ما يقوله عمر.. محمّد لم يمت.. ذهب إلي ربّه.. بعد ليال سوف يعود!
لقد ضربت الصاعقة الأذهان.. شلّتها عن التفكير في كلّ شيء.. ومن بعيد لاح «أبو بكر».. وصل توّاً من خارج المدينة.. من منزلٍ له في «السنح».
هتف من بعيد:
علي رِسْلك أيها الحالف!
والتفت إلي الأُمة المذهولة قائلاً:
أيّها الناس! مَن كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيٌّ لا يموت وما محمّدٌ إلاّ رسولٌ قد خَلَت مِن قَبْله الرُّسُل …
فجأة خمد البركان … وتظاهر «عمر» باستسلام عجيب، وقف إلي جانب أخيه … وانضمّ إليهما رجل ثالث هو «ابن الجرّاح»، تبادل الثلاثة نظرات … هي لغة كاملة.. ربّما كانوا يفكّرون ليومَين أو ثلاثة من المستقبل … أو ربّما للتاريخ بأسره.
إنّ كلّ التحوّلات الاجتماعية الكبري إنّما تولد في الضمائر الإنسانيّة قبل أن تشق طريقها إلي الواقع … إنّها موجودة في الأعماق حتّي يأتي من يستخرجها إلي أرض الوقائع، وكان في ضمائر جلّة المهاجرين وقريش قاطبة عزمٌ في ألاّ تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم، وقد قرأ رجال ما يجول من الخواطر، فأخرجوا ما استتر في الضمائر..

علامات استفهام

الشمس ما تزال وراء غيوم «نيسان» … جثمان آخر الأنبياء ما يزال مسجّيً … عليّ ذاهل بالفاجعة، شعر بغُربة شديدة، لقد رحل الحبيب … ستموت فاطمة … ستذوي مثل شمعة تحترق في ليل الجزيرة … وسيبقي وحيداً …
أسفر الجَدَل في «السقيفة» عن انتخاب «سعد بن عُبادة» خليفة للمسلمين!! الأطماع، والقلق، والخوف هي.. وراء اجتماع «الأنصار» في سقيفة بني ساعدة.. هناك من يحلم بالمجد، وهناك من ينظر إلي الأُفق البعيد فيري «قريشاً» تتحفّز للانتقام من «أهل يثرب»، تريد أن تأخذ ثاراتها من «بدر» و «أُحد» و «الأحزاب»!
الدقائق تمرّ بطيئة كأنّ التاريخ أُصيب بالذهول؛ الأوس يكظمون غيظاً إزاء «سعد الخزرجي».. ولكن ماذا بوسع «الأوس» أن يفعلوا؟ لا مفرّ من ذلك، ثمّ إنّه سيكون أهون من «قريش»!.. قريش التي لم تنس ثاراتها بعد. وفي لحظات تاريخية غادر رجلان من الأوس؛ والأنصار علي وشك البيعة.. انطلقا بأقصي سرعة إلي «أبي بكر وعمر وابن الجرّاح» وفي قلبَيهما عزم علي حرمان «سعد» من المجد!!
ولكن لماذا هولاء الثلاثة بالذات!! لماذا عمر؟ لماذا لم يذهبا إلي عليّ أو عمّه العباس؟!
السماء لم تزل غائمة، وانطلق الثلاثة إلي «السقيفة»، سوف يُفاجأ الرجل المريض. جاءت قريش تحتجّ بأنّها شجرة محمّد صلّي الله عليه وآله وقد رمت بعيداً ثمرتها اليانعة!!

اذا الشمس كورت

تُري ماذا كان يفعل عليّ في تلك اللحظات المثيرة … «الأنصار» و «المهاجرون» في صخب وجدل وشجار حول «سلطان محمّد» … لنترك «السقيفة» في صخبها ولنَعُد إلي حجرة آخر الأنبياء..
الصمت ما يزال يهيمن.. وبالرغم من غياب الشمس.. بالرغم من غيوم «نيسان» فقد بدت الحجرة مضيئة … مضيئة بنورٍ شفّاف لعلّه تألّقات لكائناتٍ سماويّة وفدت لتحمل «الروح العظيم».
محمّد صلّي الله عليه وآله يهيمن علي الزمن حيّاً وميتاً.. محمّد ساكت.. وما أعظم صمت الأنبياء!
ليت الذين يتشاجرون في السقيفة يصمتون ليُصغوا إلي صمت محمّد.. أو يحترمون صمته.
ما هذه الضجّة تقترب من المسجد؟! وكان هناك رجل طويل بيده عسيب نخل يحوش الناس؛ رفع عليّ عينيه وكان العبّاس قد ذهب يستطلع الضوضاء.. قال عم الرسول:
لقد بويع أبو بكر!!
وارتفعت علامات استفهام كبري فوق رؤوس بعض المهاجرين والأنصار …
سأل عليٌّ عمّه:
بِمَ احتجّوا علي الأنصار؟
قالوا إنّا شجرة النبيّ!
علّق الإمام بحزن:
احتجّوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة.
سوف تبقي السقيفة بداية لسلسلة من المآسي والنكبات في تاريخ الإسلام.
ومن يُرِدْ أن يبحث عن جذور كارثة «صِفِّين» أو مأساة «كربلاء» فانه سوف يجدها في تلك الأشبار من الأرض.. عندما ظلّ عليٌّ وحيداً.
تُري ماذا فعل عليّ وهو يشهد انعطافة التاريخ في غير الوجهة التي أرادها سيّد التاريخ؟
تلقّي عليٌّ أنباء السقيفة بصمت.. ربّما شاهد بعضُ الصحابة في عينيه حزناً عميقاً.. أسفاً..
استأنف عليّ عمله في تجهيز جثمان سيّد الخليقة..

الثلاثاء (29 صفر 11 ه)

وقف العبّاس عم النبيّ وولداه، وقفوا صامتين يتأمّلون عليّاً؛ التفت عليّ إلي الفضل:
ناوِلني الماء.
أُسامة يصبّ المياه فوق الجسد الطاهر، وعليّ يغسله.
شهق بعَبرته وهو يتمتم:
بأبي أنت وأُمّي، ما أطيبكَ حيّاً وميتاً!
فاحت في فضاء الحجرة رائحة طيبة.. وتوهجت ذكريات قديمة.. وتذكّر أُسامة حديثاً للحبيب الراحل:
«أيّها الناس، إنّما أنا بشر يُوشَك أن أُدعي فأُجيب، وإنّي تاركٌ فيكم الثقلين: أوّلهما كتاب الله، فيه الهُدي والنور.. وأهل بيتي. أُذكّركم اللهَ في أهل بيتي.. أُذكِّركم الله في أهل بيتي.. أُذكِّركم الله في أهل بيتي.
الإنسان السماوي يتأهّب للرحيل، يرتدي ثياباً بيضاء بلون رسالته، بلون حمائم السلام، بلون الرباب، بلون النور الذي سطع في جبل حراء.

الصلاة

تقدّم عليّ للصلاة علي الجثمان الطاهر.. تقدّم وحده والمسلمون في المسجد يخوضون جدلاً في من يؤمّهم في الصلاة.
وقال عليّ عليه السّلام:
إنّ رسول الله إمامُنا حيّاً وميتاً … فليدخل عليه فوجٌ بعد فوج فيصلّون عليه بغير إمام وينصرفون …
وأردف:
وإنّ الله لم يقبض نبيّاً في مكان إلاّ وقد ارتضاه لرمسه فيه؛ وإنّي لَدافنُه في حُجرته التي قُبِض فيها.
الشمس تسير حزينة وراء الغيوم.. تتجّه إلي المغيب، والمسلمون يودّعون آخر الأنبياء في صلاة طويلة.
الشمس تقترب من المغيب؛ وأنفذ العباس إلي أبي عبيدة بن الجرّاح وكان يحفر لاهل مكّة ويضرّح، وأنفذ إلي زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة؛ وهكذا اشترك أنصاريّ ومُهاجر في الحفر؛ ودسّ عليّ يديه تحت الجثمان العظيم.. ونادي الأنصار من وراء الحجرات:
يا عليّ، نُذكِّرك الله وحقّنا اليوم مِن رسول الله أن يذهب.. أدخِل منا رجلاً يكون لنا به حظّ من مواراة رسول الله.
أجاب عليّ:
ليدخل أوس بن خولّي …
ودخل الرجل البدريّ يمشي علي أطراف أصابعه لكأنّه يَلج عالماً زاخراً بالملائكة.
قال عليّ:
انزِل القبر!
ونزل الصحابيّ قبرَ مَن هداه إلي ينابيع النور والأمل، تمنّي أن يموت وتعود الحياة إلي سيّده العظيم. رفع عليٌّ الجُثمانَ الطاهر.. ووضعه علي يدَي الصحابي، وبرفق أنزله في أحضان الثري، فاحت رائحة المسك.. لكأنّ الفردوس فتحت أبوابها تستقبل آخر رُسل السماء إلي الكوكب الزاخر بالحوادث.
طلب عليّ من أوس أن يُخْلي القبر فخرج باكياً، وولج عليّ الضريح.. كشف عن الوجه الأزهر الذي أضاء الدنيا والتاريخ. انطفأت الشمس غابت خلف الأفق المثقل بالغيوم.. كتِلالٍ من الرماد.. التراب علا الضريح شيئاً فشيئاً..
وجاءت فاطمة.. وهي لا تكاد تصدّق أنّ لدي أيّ أحد القدرة علي أن يحثو التراب علي رسول رب العالمين.
قالت مفجوعة:
أطابت نفوسُكم أن تحثوا التراب علي رسول الله؟!
أخذت بكفّيها قبضة من التراب … وضعتْه علي وجهها الأزهر.. شمّته.. شعرت أنها ستختنق إذا لم تتنفس نسائم الهواء وهي تنبعث من مسامات التراب المُشْبع برائحة جنات الفردوس؛ همست بنت محمّد:
أن لا يَشمَّ مدي الزمان غَواليا
ماذا علي مَن شمّ تُربةَ أحمدٍ
لقد غابت الشمس، وانطوت آخر ساعة من نهار الثلاثاء.
البرد يجوس خلال المدينة الحزينة؛ ونهض عليّ ينفض يديه من تراب القبر.. لقد غابت كلّ الأشياء الجميلة.. لم يعد للحياة معني إلاّ في مواصلة الدرب الذي أضاءه نورُ محمّد صلّي الله عليه وآله..

الغضب المقدس

وانبري عليّ يسجّل احتجاجه ضد أوّل «فَلتة» في تاريخ الإسلام:
أفسدتَ علينا أمرنا ولم تستشر ولم تَرْعَ لنا حقاً.
أجاب أبو بكر بشيء من اللين!:
بلي!. ولكن خَشِيت الفتنة.
وهنا سكت التاريخ!!
ولكن موقف عليّ ورفضه البيعة يعبّر عن موقف واضح ازاء الطريقة التي تمّت فيها معالجة واحدة من أهمّ المشكلات في الحياة الإسلاميّة؛ والتزم عليّ جانب الصبر بالرغم من بعض العروض بالبيعة.
وظل عليّ علي مواقفه حتّي وفاة زوجته فاطمة التي التحقت بالرفيق الأعلي بعد حوالي ثلاثة أشهر أو تزيد.
ونظر عليّ يميناً وشمالاً فلم يجد معه أحداً، حتّي عمّه العباس هو الآخر استُرضي فرضي أو وقف موقف الحياد والإعراض عن النزاع.
وقد عبّر عليّ بن أبي طالب عن أساه وحزنه بعد ربع قرن من حادثة السقيفة بقوله: أما والله لقد تقمّصها فلان وإنّه لَيَعلم أنّ محلّي منها محلّ القُطب من الرحي. ينحدر عني السَّيل ولا يرقي إليَّ الطير؛ فسَدَلتُ دونها ثوباً وطَوَيت عنها كشحاً، وطفقتُ أرتئي بين أن أصول بيدٍ جَذّاء، أو أصبر علي طخيةٍ عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّي يلقي ربّه».
وهنا يقرّر الإمام الصبر: «فرأيتُ أنّ الصبر علي هاتا أحجي، فصبرت وفي العين قذيً وفي الحلق شجيً، أري تُراثي نهباً».
إنّ المرء ليشعر من خلال هذا الخطاب عمق المرارة والأسي في بَحّة الحزن ودرجة حرارة الكلمات وهو يستعرض تاريخ تلك الحقبة المريرة التي امتدّت لتستوعب ربع قرن من الزمن.

علي مع القرآن

واعتزل عليّ.. أوي إلي منزله يجمع القرآن كما أنزله الله، وذكريات الآيات، تتوهّج في قلبه.. وبين الفَيْنة والأخري يقتحم بعضهم حُرمة الصمت. فعلي عليّ أن يبايع.. وفي كل مرّة كانت فاطمة تصدّ هجمات بعض «الصحابة»، لقد انتزعوا منها «فدكاً» وها هم يرومون انتزاع زوجها وقد أغمد ذا الفقار بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

رحيل فاطمة

وتمرّ الأيام مريرة.. وتذوي فاطمة.. كشمعة في قلب الظلمات.. قوامها يزداد نحولاً.
سكتت فاطمة هي الأخري.. صامَتْ كما صامت مريم من قبل.. وأدرك عليّ أنّ رحيلها سيكون وشيكاً، وأنّ «البيت» الذي بناه من جريد النخل ب «البقيع» سيكون النهاية.. سيشهد ذلك البيت انطفاء الشموع.. رحيل النجوم.. ومصرع شمس أضاءت حياته، مدّته بالدفء.. النور.. الأمل.
سكتت فاطمة.. والذين اشتكوا من بكائها لم يعودوا يسمعون أنيناً ينبعث من أعماق قلبٍ كسير. لم يَعُد أحد يسمع نشيجها إلاّ الذين يمرّون بالبقيع.
غابت فاطمة كما تغيب النجوم خلف السحب الدكناء.. غابت فاطمة كفَراشة تبحث عن الشمس … عن ربيع مضي تطارده ريحٌ شتائيّة.
غابت فاطمة.. لم يَعُد أحد يسمع بها.. إنّها تذوي وحيدة في بيت من جريد النخل غادرته الحياة.. الملائكة لا تريد حياة الأرض، والحوريّات لا تعيش في عالم التراب.. والذين اكتشفوا السماء لن يُطيقوا الانتظار.
وعندما يدرك الأنبياء أنّ مواعظهم لا تَجد آذاناً واعية فإنّهم سيتحدّثون بلغة الصمت..
في «بيت الأحزان» كانت فاطمة تذوب كشمعة متوهّجة تحرق نفسها لتهب النور والدفء من حولها … فاطمة تتحدّث بلغة الشموع.. لغة لا يسبر غورها إلاّ فَراشات النور..ها هي فاطمة تصرخ بصمت:
بِدَوِيِّ صمتي أُناديكم.. ثورتي تنطوي في حزني.. ورفضي كامن في دموعي.. وهذا كلّ ما أملكه من لُغة علّكم تفهمون خطابي، أنا مظلومة يا ربّي.. حرِّرني من هؤلاء.
ذوت الشمعة.. أحرقت نفسها.. لم يبق منها إلاّ حلقات من نور واهن … آن لها أن تنطفئ. الوجه يشبه قمراً أنهكته ليلةٌ شتائيّة طويلة.. بدا مُصفرّاً.. وكان الصوت واهناً تحمله أمواج حزينة … والدموع غزيرة كسماء تمطر علي هون.
رقدت فاطمة في فراشها.. وضعت يدها تحت خدّها.. أغمضت عينيها ونامت.. سمعتها «أسماء» تهمس بصوت ملائكي:
السلام علي جبريل … إلهي في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام.
وجاء عليّ.. بدا مكسور الظهر.. كما لو أنّه ينوء بحمل جبال من الحزن.. راح يقرأ ما كتبته فاطمة قبل أن تغفو بسلام:
بسم الله الرحمن الرحيم … هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله … وهي تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله.. وأنّ الجنة حقّ والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور..
يا عليّ أنا فاطمة بنت محمّد زوَّجني اللهُ منك لأكون لك في الدنيا والآخرة..
حَنِّطني وغَسِّلني وكفّنيّ، وصلِّ عليّ وادفنّي بالليل ولا تُعلِم أحداً، واستودعك الله إلي يوم القيامة.
وهكذا شاءت فاطمة أن ترحل بصمت.. أن تُدفَن في قلب الليل.. أن يبقي قبرها مجهولاً لترسم سؤالاً كبيراً ما يزال حتّي اليوم يستفهم التاريخ والإنسان!
لم يدفن عليّ فاطمة حتّي دفن معها قلبه وحبّه العظيم، ثمّ يمم وجهه شطر الرجل الذي واراه الثري بالأمس فيهمس لديه بكلمات الحزن.. ولوعة الفراق:
السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة والسريعة اللحاق بك.. قَلّ يا رسول الله عن صفيّتكَ صبري ورقّ عنها تَجلُّدي..
أمّا حُزني فسَرْمَد.. وأمّا ليلي فمُسهَّد، إلي أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم..
وستُنبّئك ابنتُك بتظافر أُمّتك عل هَضْمِها، فأحْفِها السؤال، واستخبرها الحال..
هذا ولم يَطُل العهد، ولم يَخْلُ منك الذِكر.. والسلام عليكما.. سلام مُوَدّعٍ لا قالٍ ولا سَئِم.. فإن أنصرِفْ فلا عن مَلالة.. وأن أُقِم فلا عن سوءِ ظنٍّ بما وَعَد الله الصابرين … ».
ونهض عليّ يواجه الدنيا وحيداً.. يشعر بالغربة، فلقد واري بيده قلبه وسعادته وسيفه ذا الفقار.. تمتم بحسرة:
فَقْدُ الأحبّة غُربة.

توهجات الزمن الأول

بايع عليّ «مُكرَهاً».. وانطوي وحيداً يعالج همومه وأحزانه، وشيئاً فشيئاً بدأت عجلة الحياة تدور.. وقلّ الحديث عن مسألة الخلافة.. وانطلقت جيوش الفتح الإسلامي في الجبهات.. وانصرف عليّ إلي العمل.. يحفر الآبار ويفجّر العيون لتسيل أوديةٌ بقَدَر.. يحرث الحقل ويسقي الزرع لتخضرّ الأرض..
أنهي عليّ احتجاجه الصامت وعاد إلي المسجد.. إلي «الجماعة» بالرغم من كلّ الآلام..
• احتدم الجدل في مجلس الأول حول غزو دولة الروم؛ نظر أبو بكر إلي عليّ وكان ساكتاً، قال عليّ:
إن فعلتَ ظفرتَ.
قال أبو بكر:
بُشّرت بخير..
وانطلقت خيول الفتح الإسلامي تنشر النور في الشمال.
• كتب خالد بن الوليد إلي أبي بكر أنّه وجد رجلاً في بعض ضواحي العرب يُنكَح كما تنكح المرأة!! جمع أبو بكر جماعة من أصحاب النبيّ واختلفت الآراء في عقوبته، فقال عليّ:
إنّ هذا ذنب لم تعمل به أُمّة من الأمم إلاّ أُمّة واحدة فصنع الله بها ما قد عَلِمتُم.. أري أن يُحرَق..
كتب أبو بكر إلي خالد يأمره بتنفيذ الحكم.
• وصل وفد مسيحيّ إلي عاصمة الإسلام يحمل أسئلة عصره.. عجز «الخليفة» في حوار «الجاثليق» فأرسل وراء عليّ..
قال الجاثليق:
أين وجه الربّ؟!
أمر عليّ بإشعال النار في الحطب، وارتفعت ألسنة اللهب.. سأل عليّ زعيم الوفد:
أين وجه النار؟
قال الجاثليق:
هي وجهٌ من جميع الجهات.
هذه نار مصنوعة، لا يُعرَف وَجهُها، وخالقُها لا يُشبهها.. لله المَشرِقُ والمَغرِب.. فأينما تولّوا فثَمّ وجه الله.
وسكت الجاثليق خاشعاً!

مسار الأحداث

• وقعت بعض الحوادث العامة خلال تلك الحقبة التي امتدّت من ربيع الأول 11 ه وحتّي جُمادي الأولي سنة 13 ه.
في طليعتها تحرّك الجيش الإسلامي بقيادة أُسامة بن زيد إلي أرض البلقاء حيث اصطدم بالحاميات الروميّة هناك وأحرز انتصارات في تلك المواقع.
والجيوش الإسلاميّة بقيادة المثنّي بن حارثة الشيبانيّ تبدأ غزو العراق؛ وفي تلك الفترة تمّ اغتيال آزرمي بنت كسري وعمّت الفوضي في البلاد.
• كما وقع حادث له دلالته عندما قام خالد بن الوليد بقتل مالك بن نويرة وآخرين دون مبرّر مقنع، وقد عُدّ الحادث وقتها أفجع انتهاك لحقوق المسلم.
وفي سنة 12 ه طلب أبو بكر من زيد بن ثابت أن يجمع القرآن الكريم.
هرقل امبراطور الروم يجهّز حملة ضخمة بقيادة (بانس)، والجيوش الإسلاميّة التي تقاتل في الجبهة العراقية تقطع الصحراء متّجهة نحو الجبهة الشمالية لنجدة القوات الإسلاميّة المشتكبة مع الرومان؛ والجيوش الإسلاميّة تتقدّم باتجاه القسم الجنوبي من فلسطين.
• وفي جمادي الأولي من سنة 13 ه تدهورت صحّة أبي بكر، فاستدعي كلاًّ من عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وبحث معهما خلافة عمر.
وكان الأخيران يدركان تماماً منزلة عمر لدي أبي بكر، قال عبدالرحمن: إنّ عمر أفضل من رأيك فيه.
وقال عثمان: إنّ سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله.
وطلب أبو بكر من عثمان أن يكتب عهده … ويذكر التاريخ أن أبا بكر دخل في اغماءة اثناء مقدّمة العهد واستمر عثمان في الكتابة فسمّي «الخليفة الجديد»، وهنا أفاق أبو بكر وقرأ عثمان ما كتبه اثناء فترة الإغماء! فأقرّ «الخليفة» الأمر واستحسنه! وبهذه الطريقة تمت تسمية الثاني!

توهجات الزمن الثاني

تَسنّم عمر بن الخطاب قيادة وادارة الدولة الإسلاميّة وتمّت مبايعته كأمير للمؤمنين؛ وقد امتدت حكومته لتستوعب عقداً كاملاً من الزمن، قال عليّ فيها:
«حتّي مضي الأول لسبيله فأدلي بها إلي فُلان بعده.. فصيّرها في حَوْزةٍ خَشناء يغلظ كلمها ويخشن مَسّها، ويكثر العِثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصَّعبة إن أشنقَ لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم».
• جمع عمر أصحاب النبيّ صلّي الله عليه وآله بعد أن أصبح التأريخ للحوادث مشكلة، وكان السؤال: من أين نكتب التاريخ، وتضاربت الآراء، فقال عليّ عليه السّلام: من يوم هاجر رسول الله صلّي الله عليه وآله..
وهكذا بدأ التاريخ الهجري.
• استدعي عمر امرأة وكانت حاملاً، فشعرت بالذعر وأجهضت حملها، واستشار عمر في الدية، قال عبدالرحمن وعثمان:
لا عليك.. إنّما أنت مُؤدِّب.
فقال عليّ:
إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأا، وإن لم يجتهدا فقد غَشّاك..
أري عليك الدية.
• لم تُجْدِ العقوبة المفروضة آنذاك في الحدّ من استمرار تعاطي الخمرة في الشام؛ فبعث أبو عبيدة بن الجرّاح نداء استغاثة حول هذه الظاهرة، فاستشار عمر أصحاب النبيّ، فقال عليّ: اجعلها بمنزلة حدّ الفِرية «ثمانون جلدة».
إنّ الرجل إذا شرب هذي، وإذا هذي افتري؛ وأصبح رأي الإمام جزءً من القانون الإسلامي حتّي الآن.
• جاءت الشرطة تسوق امرأة راعية اتُّهمت بالزنا.
سأل عمر المرأة فاعترفت، وظنّ أن الأمر قد بات واضحاً، فأصدر حكمه برجمها.. وحضر عليّ في الوقت المناسب، ورأي عليّ أمارات حزن عميق تموج في وجه المرأة، فقال:
لعلّ بها عذراً.
وخاطب المرأة قائلاً:
ما حمَلَكِ علي ما فعلتِ؟
قالت المرأة وهي تشهق بالبكاء:
كان لي خليط، وفي إبله ماء ولبن ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن، فاستسقيته فأبي أن يسقيني حتّي أُعطيه نفسي، فأبيتُ ثلاث مرّات، حتّي كدتُ أموت عطشاً.. فأعطيته الذي أراد فسقاني.
هتف عليّ عليه السّلام:
الله أكبر!..
ثمّ تلا الآية المباركة:
فمَنِ اضطُرّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليه إنّ اللهَ غفورٌ رحيم.
وعندها سحب عمر حكم الموت.. وانطلقت المرأة سعيدة بالحياة.
• كانت الجيوش الإسلاميّة تندفع هنا وهناك من العالم وبرزت مشكلة الأرض المفتوحة، عندما طالب المسلمون بأربعة أخماس الأرض؛ علي أساس ظاهر الآية، وحدث جدل واسع حولها في المدينة، فأشار عليّ عليه السّلام علي عمر بإبقاء الأرض بأيدي أصحابها الأصليّين، وإلزامهم بدفع ضريبة الخراج لسدّ حاجات الدفاع عن الأُمة؛ وكان لهذا الموقف الأثر الكبير في انتشار الإسلام.
• وقعت جريمة فريدة في «صنعاء» عندما أقدمت امرأة مع عشيقها علي قتل زوجها، وتردّد عمر في إصدار حكم القصاص، فهل يصحّ قتل الكثيرين بالواحد؟!
فقال عليّ متسائلاً:
أرأيتَ لو أنّ نفراً اشتركوا في سرقة جزور، هذا عضواً، وهذا عضواً.. أكنتَ قاطعَهم؟
أجاب عمر:
نعم.
عندها قال عليّ عليه السّلام:
فكذلك.
وهنا كتب عمر إلي عامله هناك: أن اقتُلهما، فواللهِ لو اشترك أهلُ صنعاء كلّهم لقتلتُهم.

الحوادث

وقعت خلال العشرة أعوام تلك حوادث مهمّة، فعلي الصعيد الثقافي منع عمر تدوين الحديث، وعرّض بذلك تراث سيّدنا محمّد صلّي الله عليه وآله إلي خطر الضياع، غير أنّ عليّاً عليه السّلام كان قد انبري إلي جمع القرآن وتدوين الحديث منذ اليوم الأوّل لرحيل النبيّ صلّي الله عليه وآله إلي الرفيق الأعلي، فأصبح المرجع الأول في الأحكام باعتراف الجميع. وشهد هذا العقد من الزمن تتابع الفتوحات الإسلاميّة؛ ففي الجبهة العراقية تولّي سعد بن أبي وقّاص قيادة الجيوش هناك بعد مصرع أبي عُبيدة الثقفي.
وفي الجبهة الشاميّة كانت الجيوش الإسلاميّة تواصل معاركها الضارية مع الرومان بعد معركة اجنادين الحاسمة، وقوّات الإسلام تفتح عشرات المدن هناك.
وفي سنة 14 ه تُوفّي سعد بن عبادة في طريقه إلي الشام في ظروف غامضة.
وفي السنة الخامسة عشر من الهجرة وبعد مضيّ عامَين علي حكم عمر بن الخطاب.. بدأ الأخير في تنفيذ سياسة ماليّة جديدة مخالفاً بذلك سُنّة النبيّ صلّي الله عليه وآله و سياسة أبي بكر، وبدأ منذ ذلك التاريخ التمييز في نظام العطاء، في تقدّم «البدريين» علي غيرهم، وتفضيل المهاجرين علي الأنصار، وتقديم أُمّهات المؤمنين علي غيرهنّ، وتصنيف سائر شرائح المجتمع الإسلامي علي أساس الانتماء القبليّ، فتجذّرت بذلك ظاهرة العصبيّة التي ساعدت فيما بعد علي توفير المناخ المناسب للعنصريّة؛ ونهضت عليها سياسة الحكم بعد ثلاثة عقود من الزمن.
وفي تلك الفترة ألغي عمر مَنْحَ المؤلّفة قلوبهم الامتيازات الماليّة التي كانوا يحصلون عليها، وقد عُدّت هذه الخطوة في الدراسات المعاصرة محاولةً ناجحة في دمج تلك الشريحة المعادية للإسلام في الباطن بالمجتمع الإسلامي، وتمهيد الطريق أمام بني أمية في تسنّم أرفع المناصب القياديّة؛ فإذا أضفنا إلي ذلك سياسته تجاه ولاة المدن التي تتّسم بالشدّة والقسوة في بعض الأحيان، واستثناء معاوية بن أبي سفيان من ذلك حتّي أصبح الوالي المدلّل، فإن الأمر سوف يدعو إلي التساؤل عن بواعث هذا الاستثناء!

اضاءتان

• سافر أحدهم بعد أن أودع أمرأتَيه لدي صديق له، وكانتا حاملَين فوضعت كلتاهما، وضعت إحداهما بنتاً والأخري صبيّاً، واندلع النزاع حول الصبيّ، حين ادّعته المرأتان.
وجاء الصديق يستنجد بالقضاء لحلّ هذه المعضلة، وعرض عمر ملفّ القضية علي الصحابة فلم يجد لديهم حلاًّ، فقال عمر:
أما واللهِ إني لأعرف مَن لها.
وأدرك بعضهم ما عناه «الخليفة» فقال:
كأنّك تعني علياً.
أجل.
وتطوّع أحدهم باستدعاء عليّ ولكنّ عمر رفض ذلك قائلاً:
في بيته يُؤتَي الحَكَم.
ونهض الجميع منطلقين إلي ابن عم النبيّ صلّي الله عليه وآله؛ وبعد لأْيٍ وجدوه في بُستان يعمل … سمعوا صوته وهو يرتّل آيات من القرآن فيمتزج الترتيل بالبكاء والدموع:
أيَحسَب الإنسانَ أن يُتركَ سُدي، ألم يَكُ نُطفةً من مَنِيٍّ يُمني، ثمّ كان عَلَقةً فخَلَقَ فسَوّي، فجَعَلَ منه الزوجَينِ الذَّكرَ والأُنثي، أليس ذلك بقادرٍ علي أن يُحييَ الموتي.
ونظر بعضهم إلي بعض.. فالقضية التي جاءوا من أجلها تدور حول ذَكَر وأُنثي!
رحّب الإمام بضيوفه وروي عمر ما جاءوا من أجله.. فأشار إلي الرجل وقال:
إنّ هذا ذَكَرَ أنّ رجلاً أودعه امرأتَين، فوضعتا جميعاً، إحداهما ولداً ذَكَراً والأخري بِنتاً، وكلتاهما تدّعي الابن وتنفي البنت.
إجتث الإمام شوكة صغيرة من الأرض وقال:
القضاء فيها أيسر من هذه.
أمر الإمام بإحضار قدحَين متساويَين في الوزن، والتفت إلي إحداهما وقال: احلبي في هذا القدح.. فحلبت.. وقال للأخري مثل ذلك.. وجِيءَ بميزان للصاغة فوُضع في طرفَيه القدحان وكان حجم الحليب متساوياً؛ ودُهش الصحابة وهم يرون أنّ أحد القدحَين يرجح علي الآخر، فقال لصاحبة القدح الأثقل: خُذي ولدَكِ، والتفت إلي الأُخري فقال: خُذي ابنتك، والتفت إلي عمر. فقال: لَبَن البنت علي النصف من لَبَن الولد، وميراثُها نصف ميراثه.
وأُعجب عمر بقضاء الإمام فقال متأثراً:
لقد أرادك الحقُّ يا أبا الحسن ولكنّ قومَك أبَوْا!
فقال الإمام بشيء من الحزن:
هَوِّن عليك أبا حفص.. إنّ يومَ الفصل كان ميقاتا.
• واندلعت أزمةٌ قضائيّة أخري، عندما أقدمت امرأة علي افتضاض بكارة فتاةٍ يتيمة كان الرجل قد ربّاها في بيته، وخشيت المرأة بعد أن رأت تلك الفتاة قد شبّت وأضحت فائقة الجمال أن يُقدم زوجها علي الزواج منها، فانتهزت سَفَر الزوج وسقتها الخمرة وأزالت بكارتها بيدها بمعاونة بعض جاراتها؛ وعندما عاد الزوج اتّهمت الزوجةُ الفتاةَ بالبغاء. وحار عمر في فصل القضيّة، فانطلق مع أصحاب الدعوي وجمعٍ من الصحابة إلي الإمام عليّ عليه السّلام.
سأل عليّ الزوجة عن البيّنة في هذا الاتهام:
ألكِ بيّنة أو بُرهان؟
أجابت المرأة:
هؤلاءِ جاراتي يشهدنَ عليها بما أقول.
وجاءت النسوة فشهدن ضدّ الفتاة؛ ودخلت القضية مطبّاتها أمام إصرار الفتاة بأنّها لم ترتكب مثل هذا الإثم.
أمر الإمام بإجراءٍ لم يسبق له مثيل عندما طلب التفريق بين الشهود؛ بدأ الإمام استجوابه التحقيقيّ مع زوجة الرجل، فحذّرها من عاقبة القذف فأصرّت المرأة علي موقفها، فغادر الإمام الحجرة إلي حجرة أخري حيث توجد إحدي الشاهدات؛ استلّ الإمام سيفه ذا الفقار من الغمد، وجثا علي ركبتيه وخاطبها قائلاً:
أتعرفيني..؟ أنا عليّ بن أبي طالب وهذا سيفي..
ثم أردف قائلاً:
وقد قالت امرأةُ الرجل ما قالت ورجعتْ إلي الحقّ، فاصدقي القول وإلاّ ملأتُ سيفي منك.
وانهارت المرأة فالتفتتْ إلي عمر قائلة:
يا أمير المؤمنين، الأمانَ علي الصدق؟
قال الإمام:
فاصدقي إذن.
واعترفت المرأة بجريمة صاحبتها، فقالت:
واللهِ ما بَغَت الفتاة.. ولكنّ زوجة الرجل رأت فيها جمالاً وهيئة.. وخافت أن يتزوّجها، فسقتها المُسكر ودعتنا فأمسكناها فافتضّتها باصبعها!
وهنا هتف الإمام: الله أكبر.. أنا أوّل مَن فرّق بين الشهود بعد دانيال النبيّ..
وأصدر الإمام حُكمه في القضاء:
علي المرأة حَدُّ القَذْف وجميع العقر وهو أربعمئة درهم … وأن تنفي من الرجل.
وانتهز عمر الفرصة فقال للإمام:
حدِّثنا يا أبا الحسن حديث دانيال.
فقال عليه السّلام:
كان دانيال النبيّ يتيم الأبوَين.. احتضنته امرأة من بني إسرائيل فربّته.. وإن مَلِكاً من ملوك بني إسرائيل كان له قاضيان، وكان لهما صديق وكان رجلاً صالحاً وله زوجة صالحة علي جانب كبير من الجمال، فبعثه الملك في بعض أموره؛ فقال الرجل للقاضيين: أُوصيكما بامرأتي خيراً؛ وخرج الرجل، وكان القاضيان يأتيان باب الصديق، فعشقا امرأته فراوداها عن نفسها، فأبت. فقالا لها: إن لم تفعلي لنشهدنّ عليكِ عند الملك بالزِّنا ثمّ لنرجمنّك.
فقالت: إفعلا ما أحببتُما.
فأتيا الملك فشهدا عنده أنّها بغت، وكان لها ذِكْر جميل، فاعتري الملكَ من ذلك أمر عظيم واشتد غمّه فقال لهما: إنّ قولكما مقبول فأجِّلوها ثلاثة أيّم ثمّ ارجموها.
ونادي المنادي في تلك المدينة أن احضُروا رجم فلانة العابدة فإنّها قد بغت، وقد شهد عليها القاضيان.
فأكبر الناس هذا العمل ودُهِشوا له، وقال الملك لوزيره: ما عندكَ في ذلك؟ هل من حيلة؟ فقال الوزير: ما عندي في ذلك من شيء. فخرج الوزير في اليوم الثالث فإذا بغلمان عُراة يلعبون وفيهم دانيال، فقال دانيال لأصحابه: تعالوا نلعب فأكون أنا الملك وتكون أنت يا فلان العابدة، ويكون فلان وفلان القاضيَين الشاهدَين عليها. وأمسك بقصبة وقال: وهذا سيفي، ثمّ قال: خذوا بيد هذا الشاهد فاجعلوه في مكان كذا، ثمّ دعا أحدهما وقال: إن لم تَقلْ حقّاً قتلتُك.. بِمَ تشهد علي هذه المرأة؟ فقال: أشهد أنّها زنت.
قال: متي؟
قال: يومَ كذا وكذا.
قال: مع من؟
قال: مع فلان بن فلان.
قال: في أيّ مكان؟
قال: في مكان كذا وكذا.
قال: رُدّوه إلي مكانه.
وجاء بالآخر.
فقال: علامَ تشهد؟
قال: أنّها زنت.
قال: في أيّ يوم.
قا: في يوم كذا وكذا.
قال: مع من؟
قال: مع فلان بن فلان.
قال: في أيّ موضع؟
قال: في موضع كذا وكذا.
فخالف صاحبَه في الشهادة.
فقال دانيال: الله اكبر! شَهِدوا بزور.. نادِ في الناس أنّ القاضيَين شهدا علي فُلانة بالزُّور فاحضُروا قَتْلَهما.
فذهب الوزير إلي الملك مبادراً فأخبره بما رأي، فبعث الملك إلي القاضيَين، ففرّق بينهما، وفعل بهما كما فعل دانيال.. فاختلفا في القول كما اختلف الغلمان، فنادي في الناس وأمر بقتلهما.

النهاية

كان عمر قد أصدر أمراً بحرمان كل من بلغ الحُلم من السَّبِيّ الفارسيّ أن يدخل المدينة، فكتب المغيرة بن شعبة الداهية المعروف وكان والياً علي الكوفة، كتب إلي عمر يذكر له غلاماً من أهل فارس يُحسن كثيراً من الصناعات، وطلب من الخليفة أن يأذن له بدخول المدينة، وجاء في رسالته:
إنّ عنده أعمالاً كثيرة فيها منافعُ للناس؛ إنّه حدّاد ونقّاش ونجّار. فكتب إليه عمر أن أرسله إلي المدينة، وكان المغيرة قد حدّد علي الغلام ضريبةً باهظة في الخراج بلغت مئة درهم؛ وجاء الغلام ويُدعي أبو لؤلؤة (فيروز) إلي عمر يشكو شدّة الخراج.
فقال له عمر: ماذا تحسن من العمل؟
فذكر الغلام عدّة صناعات وفنون:
فقال عمر: ما خراجك بكثير في كُنه عملك.
فانصرف الغلام ساخطاً يتذمّر.
وبعد أيام مرّ غلام المغيرة «أبو لؤلؤة» بعمر فسألة قائلاً:
سمعتُ أنّك تقول: لو أشاء لصنعتُ رحي تطحن بالريح، فاصنع لي رحيً.
فالتفت الغلام إلي عمر وقال عابساً:
لأصنعنّ لك رَحيً يتحدّث بها الناس!
وأدرك عمر مغزي تهديده..
فالتفت إلي مَن حوله بعد أن مضي الغلام:
لقد أوعدني العبد.
فقال له الناس:
وما يمنعك من قتله؟
فقال عمر:
لا قِصاص قبل القتل.

شاهد عيان (25 ذو الحجة 23 ه)

قال ابن ميمون الأسدي: شهدتُ عمرَ بن الخطاب يوم طُعِن فما منعني أن أكون في الصفّ الأول إلاّ هيبته، فكنت في الصف الذي يليه؛ وكان عمر لا يكبّر حتّي يستقبل الصف المتقدّم بوجهه، فإن رأي رجلاً متقدّماً من الصف أو متأخراً ضربه بالدرّة.. وهذا ما منعني من الوقوف في الصف الأول.
أقبل عمر لصلاة الفجر، وكان الظلام ما يزال، فاعترضه أبو لؤلؤة وسدّد له عدّة طعنات بخنجر ذي رأسين، وطعن الذين أرادوا إلقاءَ القبض عليه.
وصرخ عمر بالناس:
دونكم الكلب فإنّه قد قتلني!
ومات من الذين جُرحوا في الحادث سبعة أشخاص.

مصير الخلافة

تدهورت حالة «الخليفة» الصحّية، ونصح الطبيب بكتابة الوصيّة، وبرزت أزمة الخلافة من جديد، فلا أحد يعرف من سيكون الخليفة القادم وكيف؟ وقيل لعمر: لو استخلفت؟
فقال: ومَن استخلف؟! لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفتُه لأنّه أمين هذه الأمّة، ولو كان سالم مولي أبي حذيفة حياً لاستخلفتُه لأنّه شديد الحبّ لله.
ثمّ شكّل مجلساً يتألّف من ستة أشخاص هم: عليّ بن أبي طالب، الزبير بن العوّام، عبدالرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقّاص، طلحة بن عبيدالله، عثمان بن عفّان.
وضع عمر مساراً لأعمال المجلس، وحدّد امتيازات الأعضاء بشكل تسير فيه الأمور لتسقط التفاحة في أحضان «عثمان ابن عفان» عثمان الذي حرّر بالأمس وثيقة العهد إلي عمر لمّا أُغمي علي أبي بكر! هل كان إجراء عمر نوعاً من ردّ الجميل أو استجابةً لما يموج في عواطف «قريش» التي لا تُكنّ لعليّ أيّة مشاعر بالارتياح.
استدعي عمر أعضاء المجلس المؤقّت، فجاءوا جميعاً، وتصفّح عمر وجوه بعضهم قائلاً:
أكلُّكم يطمع بالخلافة بعدي؟
واعتصم الجميع بالصمت.. وكرّر عمر السؤال ثانية وثالثة.. فانبري الزبير وقال بحدّة:
وما الذي يبعدنا عنها؟!.. وَلِيتَها أنت فقُمتَ بها، ولسنا دونك في قريش.. ولا في القرابة.
لقد نجح عمر بن الخطاب في إيقاظ كلّ الطموحات والأطماع في نفوس بعض الصحابة.
وانبري عمر ليردّ الصاع صاعَين في صراحة مريرة قائلاً:
أفلا أُخبركم عن أنفسكم؟
تمتم بعضهم:
إنّا لو استعفيناك لم تُعفنا.
التفت عمر إلي الزبير فقال:
أمّا أنت يا زبير.. فوَعِقٌ لَقِس (كثير البرم) مؤمن الرضي كافر الغضب، يوماً إنسان، ويوماً شيطان؛ ولعلّها (الخلافة) لو أفضت إليك ظلتَ يومك تلاطم بالبطحاء علي مُدٍّ من شعير!! فليت شعري مَن يكون للناس يوم تكون شيطاناً؟!
والتفت إلي طلحة فقال:
أقولُ أم أسكت؟
ردّ طلحة بانزعاج:
إنّك لا تقول من الخير شيئاً.
أما إنّي أعرفك منذ أُصيبت إصبعك يوم أحد واتياً (غاضباً) بالذي حدث لك.. ولقد مات رسول الله ساخطاً عليك للكلمة التي قلتَها يوم أُنزلت آية الحجاب.
وشعر سعد بن أبي وقاص بالضيق بعد أن وصل إليه الدَّور؛ قال عمر وقد أقبل عليه بوجهه:
إنّما أنت صاحب مقنب (جماعة الخيل) تقاتل به، وصاحب قنص وقوس وأسهم، وما زهرةُ والخلافة وأمور الناس.
والتفت «الخليفة» إلي عبدالرحمن بن عوف وقال:
أمّا انت يا عبدالرحمن، فلو وُزِن نِصف إيمان المسلمين بايمانك لَرجح إيمانك.. ولكن لا يصلح هذا الأمر لمن فيه ضَعف كضعفك، وما زهرة وهذا الأمر!

و اما أنت يا علي

والتفت عمر إلي عليّ فلم يجد له عيباً سوي أن قال:
للهِ أنتَ لولا دعابة فيك.. أما واللهِ لئن وليتَهم لتحملنّهم علي الحقّ الواضح، والمحجّة البيضاء.

و جاء دور عثمان

والتفت عمر إلي عثمان «مرشَّح قريش» فقال له:
هَيهاً إليك، كأنّي بك قد قَلَّدتْك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك فحملتَ بني أُميّة وبني أبي معيط علي رقاب الناس، وآثرتَهم بالفيء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك علي فراشك ذبحاً، والله لئن فعلوا لتفعلنّ، ولئن فعلتَ ليفعلنّ..
وأخذ عمر بناصية عثمان وأردف:
إذا كان ذلك فاذكُر قولي.
وهنا جاء دور الاجراءات المشدّدة في خلق جوٍّ إرهابيّ سوف يساعد علي دعم وتعزيز موقف عثمان.
استدعي عمر أحد الأنصار وقال:
يا أبا طلحة، إنّ الله أعزّ الإسلام بكم، فاختَرْ خمسين رجلاً من الأنصار فألْزِم هؤلاء النفر (أعضاء الشوري) بإمضاء الأمر وتعجيله.
واستدعي «المقداد» وأصدر إليه آخر أوامره التي تنضح تهديداً ووعيداً:
اجمع هؤلاء الرهط (أعضاء الشوري) في بيتٍ حتّي يختاروا رجلاً منهم، فإن اجتمع خمسة وأبي واحد فاشرخ رأسه بالسيف، وان اتّفق اربعة وأبي اثنان فاضرب رأسَيهما، وإن اتّفق ثلاثة منهم علي رجل ورضي ثلاثة منهم برجل آخر فحَكِّموا عبدالله بن عمر؛ فإن لم يرضَوا فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف؛ واقتُلوا الباقين!
وأدرك عليّ من خلال كلّ هذا «السيناريو» أنّ الهدف الأخير هو حرمانه مرّة أخري من حقّه في الخلافة.. فقال لعمّه العباس:
يا عمّ، لقد عدلت عنا.
قال العباس:
ومَن أدراكَ بهذا؟!
قال عليّ وهو يُميط اللثام عمّا وراء كلّ هذا «اللفّ والدوران»:
لقد قُرِن بي عثمان.. وقال: كونوا مع الأكثر، ثم قال: كونوا مع عبدالرحمن، وسعد لا يخالف ابنَ عمّه (عبدالرحمن)، وعبدالرحمن صِهر لعثمان.. فإمّا أن يولّيها عبدُالرحمن عثمانَ، أو يولّيها عثمانُ عبدَالرحمن … ».
يقول عليّ مؤرّخاً لتلك اللحظات المريرة:
«فصبرتُ علي طُول المدّة وشِدّة المِحنة، حتّي إذا مضي لسبيله جعلها في جماعة زَعَم أنّي أحدهم، فياللهِ وللشوري.. متي اعترض الريبُ فِيَّ مع الأوّل منهم، حتّي صرتُ أُقرن إلي هذه النظائر؟! لكنيّ أسْفَفْتُ إذ أسَفّوا وطِرْتُ إذ طاروا، فصغا رجل لضغنه ومال الآخر لصِهره مع هن وهنٍ، إلي أن قام ثالثُ القَوم نافجاً حِضنَيه بين نَثيله ومُعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمةَ الإبل نبتةَ الربيع.
وهكذا بدأت أعمال الشوري في ظروف بالغة الحسّاسيّة.. وبدأت الأطماع بالظهور؛ والمصالح والمؤامرات في موازنات يمكن القول أنّها محسوبة سلفاً؛ فالتوزيع القبلي لأعضاء الشوري يمنح الأرجحية لبني أُميّة.
لقد توقّف التاريخ مليّاً في السقيفة قبل أن يُغيّر مساره، وها هو الآن يتوقّف مرّة أخري لا ليغيّر من اتّجاهه ولكن ليزيد من سرعة ذات المسار، حيث المجتمع الإسلاميّ يفقد مقاييسه الصائبة في اختيار الحاكم اللائق.
تُوفّي عمر بعد ثلاثة أيّام وصلّي علي جسمه صُهَيب الرومي في غرّة المحرّم؛ وبدأ أوّل لقاء لأعضاء الشوري؛ وارتفعت نبرة الجدل العقيم.. لقد استيقظت في نفوس البعض شهوةُ الحُكم والزعامة، وضاع صوت عليّ سلام الله عليه وهو يحذّر أصحاب النبيّ من العواقب الوخيمة التي ستُسفر عن التنكّر لكلمة الحقّ:
لم يُسرِع أحدٌ قبلي إلي دعوة حقّ، وصِلة رَحِم، وعائدة كرم.. فاسمَعُوا قولي، وعُوا منطقي، عسي أن تَرَوا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تُنتضي فيه السيوف، وتُخان فيه العهود، حتّي يكون بعضُكم أئمّة لأهل الضلال، وشيعةً لأهل الجهالة.
ومرّ يومان.. ولكن دون جدوي، وقد حبس المجتمع الإسلاميّ أنفاسه، مترقّباً نتيجة الجدل الذي تحوّل إلي صراع.
وجاء أبو طلحة الأنصاري وأعلن أنّه سيُنفّذ أوامر «الخليفة الراحل» إذا انصرمت الأيّام الثلاثة دون انتخاب خليفة:
والّذي ذَهَبَ بنَفْسِ عمر.. لا أزيدكم علي الأيام الثلاثة التي أُمِرت.
وهنا وجّه عبدالرحمن أوّل ضربة عندما أعلن تنازله عن حقّه في الخلافة مقابل أن يكون له الحقّ في انتخاب الخليفة، وانبري عثمان لتأييد خطوة ابن عوف، وتهافت الآخرون علي تأييد عبدالرحمن أيضاً.. فيما ظلّ الإمام عليّ مُعتصماً بالصمت.
التفت عبدالرحمن إلي عليّ وقال:
ما تقول يا أبا الحسن؟
أدرك الإمام ما وراء خطوة ابن عوف فقال:
أعطِني مَوثِقاً لتُؤثرنَّ الحقّ.. ولا تتبعنّ الهَوي، ولا تخصّ رحماً، ولا تألو الأمّة نُصحاً.
وشعر عبدالرحمن أنّ مصير الخلافة قد أضحي في قبضته، فأعطي لعليّ ما يريد.. إنّها في كلّ الأحوال مجرّد كلمات.
وهنا وجّه عبدالرحمن سهمَه الخبيث عندما زجّ شرطاً لا مُبرّر له كأساسٍ للبيعة؛ قال لعليّ وهو في ذروة اعتقاده أنّ عليّاً سيرفض:
أُبايعكَ علي كتاب الله وسُنّة رسوله وسيرة الشيخَين أبي بكر وعمر.
قال عليّ موضّحاً موقفه الخالد ومعتزّاً بشخصيته الفريدة:
بل علي كتاب الله وسُنّة رسوله واجتهاد رأيي.
والتفت عبدالرحمن إلي عثمان فعرض عليه شروط البيعة.. فرددها عثمان علي الفور وهو يكاد يطير فرحاً.
وهنا صَفَق عبدالرحمن علي يد عثمان وهتف:
السلام عليك يا أمير المؤمنين.
وخاطب عليُّ بن أبي طالب عبدالرحمن قائلاً:
اِحْلِب حَلباً لك شَطْرُه …
وأردف وهو يكشف له معرفته ما يدور في الخفاء وراء الأبواب المغلقة:
والله ما فعلتَها إلاّ لأنّك رجوتَ منه ما رجا صاحبُكما من صاحبه.
والتفت عليّ إلي «قريش» التي ألقت بكلّ ثقلها من أجل عثمان، فقال بمرارة:
ليس هذا أوّل يومٍ تظاهرتُم فيه علينا، فصبرٌ جميل والله المستعان علي ما تَصِفون.
ونهض وغادر المكان وهو يتمتم بحزن:
سيَبْلُغ الكتابُ أجَلَه.
وشعر عمّار بن ياسر بالألم يعتصر قلبه.. فقال لعبد الرحمن:
«يا عبدالرحمن! أما واللهِ لقد تركتَه وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون».
وأحس «المقداد» كأن خنجراً يمزّق قلبه.. فقال:
تاللهِ ما رأيتُ مثل ما أُتي إلي أهل هذا البيت بعد نبيّهم!!
واعجباً لقريش!! لقد تركتْ رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ أحداً أقضي بالعدل ولا أعلم، ولا أتقي منه.
وأردف بغضب:
أما لو أجدُ أعواناً..!
ولم تكن الصفات التي ذكرها المقداد سوي كلمات لا تُرتضي في زمن يتنكّر للمجد الأخلاقي.. ولا يعرف غير الأساليب الهابطة طريقاً لتحقيق غايات تافهة سرعان ما تزول.
وهكذا بات علي عليّ أن يطوي رحلة العذاب صابراً محتسباً حتّي يبلغ الكتاب أجله.
2 في السنة السادسة للهجرة عزم النبيّ صلّي الله عليه وآله علي أداء العمرة، وكان من المفروض أن تسمح قريش لهم بذلك أُسوةً بسائر القبائل العربية، ولكنّ مشركي مكّة رفضوا ذلك بعناد، وعسكر النبيّ صلّي الله عليه وآله في الحُديبية قرب مكّة وأرسل وفداً يشرح لهم أهداف زيارته، وتأزّم الوضع بشكل أنذر بوقوع حرب مدمّرة، وأخيراً اتفّق الفريقان علي إبرام معاهدة سلام جاء فيها:
1 إنهاء حالة الحرب مدّة عشر سنين.
2 أن يرجع النبيّ صلّي الله عليه وآله وأصحابه هذا العام دون عُمرة، علي أن يعودوا في العام القادم، وتلتزم قريش بإخلاء مكّة مدّة ثلاثة أيام.
وعندما أراد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام تحرير بُنود الاتفاق وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» اعترض المفاوض الوثنيّ وأصرّ علي كتابة «باسمك اللهمّ» وكتب علي «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو» واعترض الأخير أيضاً قائلاً: اكتب اسمك واسم أبيك، ولم تطاوع نفس عليّ أن يمحو صفة الرسالة عن سيدنا محمد، فأخذ النبيّ صلّي الله عليه وآله الصحيفة ومحاها بنفسه والتفت إلي علي وقال بحزن:
إنّ لك مِثلَها يا عليّ!
لقد كان سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله ينظر إلي المدي البعيد، إلي أبعد من ثلاثين سنة قادمة! سوف يحارب عليّ في صفّين «القاسطين» معاوية وأتباعه، وسوف يُضطَرّ عليّ إلي وقف القتال والتفاوض.
وعندما يحرّر عبدالله بن عباس بُنود الاتفاق ويكتب: هذا ما صالح عليه عليّ أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، سوف يعترض المفاوض الشامي قائلاً: لو شهدت بأنّ عليّاً أمير المؤمنين ما قاتلُه، بل اكتب «عليّ بن أبي طالب»، ويرفض عبدالله بن عباس ذلك فيأخذ عليّ صحيفة الاتفاق ويمحو «أمير المؤمنين» وهو يستعيد تفاصيل ما وقع في «الحديبية».

توهجات الزمن الثالث

بدأت بحكومة عثمان حقبةٌ زمنيّة جديدة، حقبة شهدت ظهور أعداء الإسلام القُدامي من أمثال أبي سفيان ومروان والوليد وتولّيهم المناصب الرفيعة، وأصبحت مُقدّرات البلاد وثرواتها حكراً علي بني أُميّة. وارتفعت القصور المنيفة إلي جانب الأكواخ لتشهد علي مدي الحيف الذي حلّ بالشرائح المسحوقة من المجتمع الإسلاميّ.
وأدرك أبو سفيان أن الأوان قد آن للثأر من محمّد، فجاء إلي «الخليفة الثالث» وخاطبه بكل وقاحة قائلاً:
يا بنيّ أُمية تلاقفوها تلاقُف الكرة، فَوَالذي يحلف به أبو سفيان.. لا جنّة ولا نار.
• جاءت الشرطة تسوق إمرأة شابة تزوّجت منذ ستة أشهر وقد أنجبت.. فثارت الشكوك حول عِفّتها قبل الزواج؛ ورفع الزوجُ الأحمق الشكوي ضدّها، فأصدر «خليفة المسلمين» عثمان حُكماً بإعدامها رجماً بالحجارة؛ وأُخذت المسكينة إلي ساحة الاعدام، كانت تنظر إلي السماء بعينَين غارقتَين بالدموع فليس هناك من يطلّع علي السرائر سوي الله..
قالت الفتاة الشابة التي لم تهنأ بعد بعرُسها … قالت لأُختها:
يا أُخيّة لا تحزني … فوالله ما مسّني أحدٌ قطّ غيره.
وهبّ عليّ بن أبي طالب بعدما اطّلع علي حيثيات القضية فقال لعثمان:
إن خاصمتُك بكتاب الله خصمتُك.
؟!!
إنّ الله تعالي يقول: وحَمْلُه وفِصالُه ثلاثون شهراً.
ثمّ قال عزّوجلّ: والوالداتُ يُرضِعنَ أولادهنّ حَوْلَين كاملَين لمن أراد أن يُتِمّ الرَّضاعة.
فحولَين مدّة الرضاعة وستة أشهر مدّة الحمل.
جرت العملية الحسابية في ذهن عثمان بسرعة فقال مبهوتاً:
ما فطنتُ لهذا!
ثمّ أصدر أمره باطلاق سراح الفتاة وإلغاء عقوبة الموت بحقّها، ولكن رسول الخليفة وصل متأخّراً … لقد تمّ تنفيذ الحكم ورحلت الفتاة إلي السماء تشكو إلي بارئها ظلم الإنسان.
• بلغ استهتار الوليد بن عقبة والي الكوفة حدّاً لا يطاق؛ ولكن الوليد لم يكن ليكترث لأيٍّ كان مهما بلغت منزلته، فهو أخو «الخليفة» لأُمّه؛ وهكذا انصرف إلي حياة الملاذ والترف، وهام بالخمرة يكرع كؤوسها سرّاً وعلانية.
وجاء ذات صباح إلي المسجد يترنّح سكرانَ بنشوة الخمر، وراح يقرأ في صلاته بعد أن وقف بصعوبة في المحراب:
عَلِقَ القَلبُ الرَّبابا.. بعدما شابَتْ وشابا
ويقول في سجوده:
اشرب واسقِني.
واجتاحته رغبة عارمة بالقيء فتقيّأ!
وهكذا أتمّ الوالي صلاة الفجر في أربع ركعات.. والتفت ليخاطب المسلمين بكل وقاحة:
هل أَزيدكم؟!
أجاب الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود ساخطاً:
لا زادك الله خيراً.. ولا مَن بعثك إلينا.
وراح الناس يقذفونه بالحصي وهو يترنّح في طريقه إلي القصر..
أثار الحادث غضب جماهير الكوفة، فانطلق وفد إلي المدينة بعد أن انتزعوا خاتم الوالي السكران..
وقابل عثمانُ الوفدَ بلهجة فيها غيظ وغِلظةٌ قائلاً:
وما يُدريكم أنّه شرب الخمر؟
أجاب أعضاء الوفد:
هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهليّة.
وقدّم أحدهم إلي عثمان خاتم الوليد:
انتزعناه من إصبعه وقد كان ثملاً.
شعر عثمان بالحقد، فضرب أحد اعضاء الوفد في صدره ودفعه. وغادر الوفد القصر آسفاً لموقف عثمان.. ولم يجد الوفد الكوفيّ حلاًّ سوي اللجوء إلي عليّ بن أبي طالب فلعلّه يوقف عثمان وولاته عند حدودهم.
وانتفض عليّ وهرع إلي القصر وخاطب عثمانَ بلهجة تتشظّي غضباً مقدّساً:
دفعتَ الشهودَ وأبطلتَ الحدود؟!
وأدرك عثمان أنّ الأمور دخلت منعطفاً خطيراً، فقال بلهجة فيها مداراة:
ما تري؟
قال عليّ بحزم:
أري أن تبعث إلي صاحبك (الوليد).. فإن قامت الشهادة في وجهه ولم يُدْلِ بحُجّة أقمتَ عليه الحدّ. وصدر أمر باستدعاء والي الكوفة للتحقيق معه حول الحادث؛ وجاء الوليد غير مكترث كعادته.. إنّه يعرف عثمان جيداً!
حضر الشهود وأدلوا بإفاداتهم ضد الوليد بأنّه شرب الخمر، وصلّي الفجر ثملاً أربع ركعات وتقيأ في المحراب:
لم ينبس الوليد ببنت شفة واكتفي بالنظر ساخراً إلي وجوه الشهود … كانت لحظات مثيرة، فقد أصبح حكمه واضحاً أن يُجلَد ثمانين سوطاً عقوبةَ شارب الخمر.. ولكن مَن يجرؤ علي تنفيذ الحكم وهو «أخو الخليفة» وواليه المدلّل!
ومرّة أخري نظر الوليد بسُخرية إلي من جاءوا يشهدون عليه.
وهنا حدث ما لم يخطر ببال أحد، فقد اندفع عليّ وانتزع السوط، وفّر الوليد هنا وهناك.. ولكن عليّاً سرعان ما أمسك به وضرب به الأرض، وتوالت سياط عليّ الغاضبة تُلهب جسم الوالي الفاسق؛ وصرخ عثمان:
ليس لك أن تفعل هذا به!
فردّ عليّ بغضب سماويّ:
بل وشرّ من هذا إذ فسق ومنع حقّ الله أن يؤخذ منه!
وهكذا سقط الوالي إلي الحضيض.. ولكن عثمان لم ينس «أخاه» لأمّه، فأسند إليه مهمّة جديدة إذ عيّنه جابياً لصدقات «كلب» و «بلقين».
وانطوي عليّ علي جراحه فليس في الأفق ما يُبشّر بخير.

حوادث الزمن الثالث

استهلّ عثمان حُكمه بتمكين بني أُميّة من مقاليد الحكم، وتسنّم مروان بن الحكم أرفع المناصب حتّي كأن خاتم الخلافة في يده يحكم ما يشاء؛ وفي عهد عثمان تصاعدت وتيرة الفتوحات وراحت الجيوش الإسلاميّة تسيح في الأرض شرقاً وغرباً؛ وكنوز الغنائم تتدفّق ليكون طريقها إلي بني أُميّة وبعض الصحابة الذين وجدوا في سياسة عثمان ما يُشبع طموحاتهم وأطماعهم في المال والثراء. وفي مقابل هذا نجد صفحات تضجّ بالمآسي فيما يحتجّ بعض الصحابة علي ظاهرة الانحراف التي لم يعد السكوت عنها ممكناً.
إنّ المتأمّل في ما عاناه الصحابي المظلوم أبو ذر الغفاري علي أيدي الأوغاد من بني أُميّة سوف يلمّ بصورة مصغرة عن عمق المحنة التي عصفت بالإسلام والأُمّة، بل وحتّي الأجيال القادمة؛ كما إنّ المتوقّف عند مشهد أبي ذر حبيب محمّد صلّي الله عليه وآله وهو يُضرَب بقسوة ويُهان في «المدينة» عاصمة الإسلام سوف يتذكّر ولا رَيب معاناته في مكّة يوم كانت الكعبة تضجّ بالأوثان وكان الوثنيّون ينهالون علي «جُندَب بن جُنادة» وقد هتف: أن لا إله إلاّ الله.. محمّد رسول الله؛ وسوف يكتشف المرء أنّ الذين كانوا يضربونه في مكّة قد عادوا مرّة أخري يجلدونه في يثرب بعد أن تلبّسوا ثوب الإسلام كُرهاً وزوراً.

الدين والدنيا. معادلة الصراع

‏ها هو أبو ذر يعود من الشام مُنهَكاً أرهقه الجلاّدون سيراً، وهو الشيخ الذي أنهكته السنون والأيام من قبل.
عاد إلي المدينة … غريباً وحيداً، لم يستقبله أحد.. إنّها أوامر مروان «الخليفة الفعليّ» للبلاد …
لم يجد عثمان مع أبي ذر حلاًّ إلاّ أن يقتله أو ينفيه ليموت وحيداً …
لقد بلغ الارهاب ذروته، فلم يخرج لتوديع أبي ذر إلاّ عليّ وأخوه (عقيل) وابناه (الحسن والحسين) والصحابي الجليل عمار بن ياسر … أمّا الآخرون فقد خافوا سطوةَ مروان.. وجاء مروان ثائراً يتهدّد ويتوعّد الذين تمرّدوا علي إرادة الحاكم..
كان الحسن يُحدّث أبا ذر، عندما صرخ مروان:
أيهاً يا حَسَن! ألا تعلم أنّ أمير المؤمنين نهي عن كلام هذا الرجل؟! فإن كنتَ لا تعلم فاعلم!
ولم يجد عليّ بن أبي طالب ردّاً مناسباً سوي أن ضرب بالسوط بين أُذنَي راحلة مروان فولّي مذموماً مدحوراً.
وبدأت مراسم توديع صحابيٍّ آمن بالله ورسوله، وطوي سنوات عمره مجاهداً الذين أشركوا والذين في قلوبهم مرض.
تقدّم عليّ.. شدّ بيده علي يد صاحب رسول الله وقال:
يا أبا ذر، إنّك غضبتَ لله.. إنّ القوم خافُوكَ علي دُنياهم وخِفتَهُم علي دينك، فاترُكْ في أيديهم ما خافوكَ عليه، واهرَب منهم بما خِفتَهم عليه، فما أحوَجَهُم إلي ما منعتَهم وما أغناك عمّا منعوك، وستعلم مَنِ الرابحُ غداً، والأكثرُ حُسَّداً، ولو أنّ السماواتِ والأرضين كانتا علي عبدٍ رَتْقاً ثمّ اتّقي اللهَ لَجعلَ اللهُ له منها مَخرَجاً. يا أبا ذر، لا يؤنسْك إلاّ الحقّ، ولا يوحشك إلاّ الباطل.
وتقدّم عقيل ليسجّل تضامنه قائلاً:
ما عسي أن نقول يا أبا ذر، أنت تعلم أنّا نحبّك وأنّك تحبّنا، فاتقِّ الله فإنّ التقوي نجاة، واصبِر فإنّ الصبر كرم. واعلَمْ أنّ استثقالَك الصبر من الجزع، واستبطاءَك العافية من اليأس، فدع اليأس والجزع.
وقال الحسن مصبّراً:
يا عمّاه، لولا أنّه لا ينبغي للمودِّع أن يسكت، وللمُشيِّع أن ينصرف.. لَقصُر الكلام وإن طال الأسف … فضَعْ عنكَ الدنيا بتذكّر فراقها.. وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها، واصبِر حتّي تلقي نبيّك صلّي الله عليه وآله وهو عنك راضٍ.
وقال الحسين كلمته التي تنضح احتقاراً للدنيا، وتمجيداً للدين والكرامة:
يا عمّاه، إنّ الله قادر أن يغيّر ما قد تري، واللهُ كلَّ يومٍ في شأن. وقد منعك القومُ دُنياهم ومنعتَهم دِينكَ، فما أغناكَ عمّا منعوك، وأحوجهم إلي ما منعتَهم، فاسألِ اللهَ الصبر والنصر..
وتقدّم عمار يودّع صاحبه بكلمات هي مزيج من الحزن والغضب قائلاً:
لا آنس اللهُ مَن أوحشك، ولا آمن مَن أخافك، أما واللهِ لو أردتَ دُنياهم لآمنوك، ولو رضيتَ أعمالهم لأحبّوك. وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلاّ الرضي بالدنيا والجزع من الموت، ومالوا إلي السلطان جماعتهم، والمُلك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دُنياهم. فخسروا الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين.
وبكي أبو ذر.. فَجَّرت كلمات الوداع دموعه، حرّكت كوامن الجراح في قلبه المُترع بالحزن.. تصفّح بعينيه الغارقتَين بالدموع وجوه مودِّعيه كأنّه يريد أن يرتوي منها ويتزوّد بها ذكرياتٍ تُعينه علي وحشة الأيّام القادمة، قال أبو ذر:
رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة.. إذا رأيتُكم ذكرتُ بكم رسول الله.. مالي بالمدينة سَكَن ولا شجن غيركم … إنّي ثَقُلتُ علي عثمان بالحجاز، كما ثقلتُ علي معاوية بالشام، وكرِه أن أُجاور أخاه وابن خاله بالمِصرَين … فسيَّرني إلي بلدٍ ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله، وما أُريد إلاّ الله تعالي وما أخشي مع الله وحشة.
وراح أبو ذر يجرّ خُطاه المتعبة إلي منفاه في الرَّبذَة.. تلك البُقعة الجرداء الملتهبة من دنيا الله.
ترك هذا الإجراء التعسّفيّ من لَدُن حكومة عثمان جرحاً لا يندمل في قلوب المؤمنين.. وغضباً مكبوتاً سوف ينفجر بعد حين، ولسوف يبقي ضريح أبي ذر في تلك الصحراء علامة استفهام كبري فوق رؤوس الذين لم يتحمّلوا صوته … صوت المقهورين والمحرومين.

اندلاع الثورة

تململت الأمّة الإسلاميّة … غضبت لكرامتها المهدورة، واستيقظ الضمير المسلم بعد أن أدركت الجماهير أنّها لم تعد سوي سِلعة في أيدي الحاكمين، وأنّها جزءٌ من أملاك قريش وبالتحديد تلك الأُسرة المتغطرسة والشجرة الملعونة في القرآن التي تُدعي ب «بني أُميّة».
وشعر بعض الصحابة الذين ما انفكّوا يقاتلون تحت رايات الفتح الإسلامي لتحرير الأُمم المقهورة.. أنّ الجهاد الحقيقي هو في المدينة المنورة بإزالة تلك الطُغمة الظالمة التي استبدّت بالحكم فقهرت العباد، وعاثت في البلاد.
وهكذا بدأت المعارضة الشعبية والواسعة في كل البلاد الإسلامية باستثناء الشام حيث يحكم معاوية؛ وينفذ سياسته الداهية في تشويش الأدمغة … بدأت المعارضة همساتٍ وتساؤلات وكلمات لاذعة.. ثمّ أخذت بالانفجار، في العاصمة ذاتها إذ رفع لواءها صحابة النبيّ صلّي الله عليه واله بعدما شهدوا بأمّ أعينهم ما يجري علي الإسلام من مصائب تهددّه بالفناء والزوال.

مصرع عثمان

تفاقمت الأوضاع بشكل يُنذر بوقوع كارثة، فقد تمادت أجهزة الخلافة بالقمع.. وأرهبت بشكل لم يسبق مثيل كلَّ من حاول الاعتراض علي سياسة الحُكم الماليّة.
وقد وصل التذمّر حدّاً جعل عبدالرحمن بن عوف الذي يقف وراء وصول عثمان إلي سدّة الحكم، جعله يُعرب عن ندمه العميق قائلاً:
لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما ولّيتُ عثمان شِسْعَ نَعلي.
وتمتم عبدالرحمن في اللحظات الأخيرة من حياته وهو علي فراش الموت:
عاجِلوه.. عاجِلوه قبل أن يتمادي في مُلكه.
وكانت آخر وصاياه أن لا يُصلّي عليه عثمان.
وتصاعدت وتيرة المعارضة في الشهور الأخيرة من حياة عثمان، وما أكثر ما سمع الناس «أمَّ المؤمنين» عائشة تهتف بالمسلمين قائلة:
اقتُلوا نَعثلاً فقد كفر.
ولوّحت مرّة بقميص النبيّ صلّي الله عليه وآله وصاحت:
هذا قميصُ رسول الله لم يَبْلَ وعثمانُ قد أبلي سُنّته.
ولم تكن المعارضة تمثّل تياراً واحداً، بل جمعت تحت لوائها تيارات عديدة والتقت فيها بواعث عديدة، فهناك الغاضبون لحِرمانهم من بعض الامتيازات، وهناك الطامعون بالخلافة منذ أن نفخت الشوري في روحهم أنّهم أهلٌ لها، وهناك الجماهير المتذمّرة التي وجدت نفسها مهدورة الكرامة، وهناك الضمير الإسلاميّ الحيّ الذي يُمثله أجلاّء الصحابة ابتداءً بأبي ذرّ الغفاري وعبدالله بن مسعود وعمّار بن ياسر..
وفي كلّ تلك التيّارات التي هزّت الأمة الإسلامية من الأعماق، يقف عليّ بن أبي طالب موقفه الفريد في تفادي الكوارث التي تُنذر بوقوع الانفجار والدمار؛ واستطاع الإمام أن يكتسب ثقة الجميع بما في ذلك عثمان نفسه، أمّا زوجة عثمان فقد كانت تؤمن إيماناً عميقاً أن علياً عليه السّلام هو وحده الذي سيُجنّب عثمان الوقوع في الهاوية لو التزم عثمان نصائح الإمام؛ وبالرغم من كلّ هذا فلم يكن عثمان ليرتاح إلي عليّ ابداً.. لقد أصبح عثمان مجرّد أداة في يد مروان.
ومن المؤسف أنّ عثمان لم يَرْعَ حرمة الخلافة حتّي في تهجّمه علي مناوئيه، وصدرت منه ألفاظ نابية لا تليق ليس بمركزه فحسب، بل وبشيخوخته أيضاً.

الحصار الأول

حاول الإمام أكثر من مرّة توجيه الأحداث بعيداً عن الكارثة القادمة، ودَفْع المعارضة والمؤسسة الحاكمة إلي جادّة الصواب، وفي كلّ مرّة يبرز مروان ليُحبط تلك المساعي الخيّرة من خلال مواقفه الهابطة التي تنمّ عن حقد أعمي، وعن نفسية ملوّثة وعقليّة خاوية. وهكذا تدفّق الثوار من كلّ حَدب وصوب، ولم يعد هناك من طريق سوي الثورة.
وفي مطلع ذي القعدة بدأت وفود الثائرين بالوصول إلي عاصمة البلاد.
فقد وصل كلٌّ من مالك الاشتر ومعه ألف من الثوار في أربع فرق، ووصل حكيم بن جبلة العبدي ومعه مئة وخمسون ثائر.
ووصلت جموع المصريّين التي ناهز عددها الألفَين، وأحدقت الجماهيرُ الغاضبة بقصر عثمان وقدّمت مطاليبها العادلة.. وهي:
العودة إلي سياسة النبيّ في العطاء والتي تنهض علي مبدأ المساواة وإلغاء الامتيازات التي سنّها عمر بن الخطّاب، وجيّرها عثمان لصالح قبيلته.
تطهير المؤسسة الحاكمة من العناصر الفاسدة وفي طليعتهم مروان بن الحكم.
الحدّ من أطماع الأمويين واحتكار المناصب لصالحهم.
وقف الإجراءات الكيفية التي يمارسها الولاة إزاء رعايا الدولة، والحدّ من صلاحيات الحكام في التصرّف بالاموال العامّة.
وتجاهل عثمان مطاليب الثائرين، وتأزّم الوضع واتّخذ التجمّع الجماهيري الضخم شكل الحصار؛ وانقطعت سُبل التفاهم بين عثمان والثوار.
وفي تلك اللحظات الحسّاسة استنجد الطرفان بالإمام عليّ للتدخّل قبل أن يحدث ما لا تُحمد عُقباه.
ولبّي الإمام رغبةَ الجميع وقَبِل الوساطة، فانطلق يشقّ طريقه إلي قصر الخلافة واجتمع بعثمان.
بدأ الإمام حديثه مع عثمان فقال ناصحاً:
الناسُ ورائي وقد كلّموني فيك.. وواللهِ ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئاً تجهله.. ولا أدلّك علي أمرٍ لا تعرفه … فاللهَ اللهَ في نفسك فإنّك واللهِ ما تُبصر من عَمي، وما تعلم من جهل، وإنّ الطريق لَواضحٌ بيّن..
وذكّره الإمام بخطر مروان.. فقال:
لا تكُن لمروان سَيّقةً يسوقك حيث يشاء.
وأضاف في حديثه إلي أنّ الولاة يسيئون سياسة الناس وينسبون ذلك إلي عثمان:
إنّ معاوية يقتطع الأمور دونك فيقول للناس هذا أمر عثمان.. فيبلغك ولا تُغيِّر علي معاوية.
ولقد حثّت «نائلة» زوجَها عثمان علي الإصغاء إلي نصائح عليّ، فهو وحده الذي يمكنه أن يقنع الثوّار بالعودة، لهذا قال عثمان صادقاً:
يا أبا الحسن، ائتِ القومَ فادعُهُم إلي كتاب الله وسنّة نبيه.
قال الإمام مشترطاً:
نعم.. إن اعطيتَني عهدَ الله وميثاقه علي أنّك تَفي لهم بكلّ ما أضمنه عنك.
أجاب عثمان:
نعم.
وأخذ عليّ عليه السّلام العهود علي «الخليفة الخائف» بإصلاح الأمور، وخرج عليّ يبشّر الجماهير المحتشدة، وعلت الهتافات من كلّ صوب:
ما وراءك؟
فأجاب الإمام:
بل أمامي … تُعطون كتابَ الله وتُعتبون من كلّ ما سخطتم.
وفي هذه الكلمات أوجز الإمام كلّ مطاليبهم التي ثاروا من أجل تحقيقها …
وتساءل زعماء الثورة:
أتضمن ذلك عنه؟
فقال عليّ عليه السّلام:
نعم.
رَضِينا.
وهكذا تقرّر اجتماع بعض زعماء الثائرين بعثمان لتحرير ما أعلن هو بنفسه.
وهذه صيغة التعهد كما وردت في كتب التاريخ:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من عبدالله عثمان أمير المؤمنين..
لِمَن نَقِم عليه من المؤمنين والمسلمين..
إنّ لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيه صلّي الله عليه وآله.
يُعطي المحروم.
ويُؤمَن الخائف.
ويُرَدّ المنفيّ.
ولا تجمر البعوث «لا تبقي مرابطة في أرض العدوّ».
وتوفر الفيء.
وعليّ بن أبي طالب ضمين المؤمنين والمسلمين علي عثمان بالوفاء في هذا الكتاب.
الشهود: الزبير بن العوّام / طلحة بن عبيدالله / سعد بن أبي وقاص / عبدالله بن عمر / زيد بن ثابت / سهل بن حُنَيف / أبو أيوّب الأنصاري / خالد بن زيد. وقد حرّر الكتاب في ذي القعدة سنة 35 ه.
ونصح الإمام عليّ عثمانَ بن عفان بأن يواجه الجماهير شخصيّاً ويعلن علي الملأ العام سياسته الجديدة.
ونهض عثمان ليواجه الجماهير، وفي قلبه عزم علي أن يعود إلي جادّة الصواب:
سمعتُ رسول الله صلّي الله عليه وآله يقول: مَن زلّ فلْيُنب …
وأنا أوّل من اتعظ.. فإذا زللتُ فلْيأتِ أشرافُكم فليردّوني برأيهم.. فوالله لو ردّني إلي الحق عبدٌ لاتّبعته، وما عن الله مذهب إلاّ إليه …
وأشرقت وجوه الجماهير بالفرحة والأمل …
وخرج الإمام عليّ فتحدّث إلي الوفد المصري الذي فضّل العودة إلي دياره بعد أن حمل نسخة من كتاب عثمان.
وهنا تدخّل مروان فأجهض كلّ تلك المساعي الطيبة … إذ سطّر كتاباً باسم الخليفة ومهره بخاتم الخليفة وسلّمه إلي غلام الخليفة! وأركبه جملاً تعود ملكيّته للخليفة المغلوب علي أمره؛ وقد بلغ من خُبث مروان أنّه طوي الكتاب ووضعه في أُنبوب مصنوع من الرصاص، ووضع الأنبوب في قارورة، ووضع القارورة في قِربة ملأي بالماء … وقال للغلام:
حُثّ السير حتّي تصل مصر فتسلّمه إلي عبدالله بن سعد.
وتشاء الأقدار أن يكتشف الوفد المصريّ وهو في طريق العودة إلي دياره.. المبعوثَ المشبوه، وبعد تفتيش دقيق عثر أحد أعضاء الوفد علي انبوبة الرصاص وفيها كتاب ينضح بالدم والموت:
أمّا بعد..
فإذا قدم عليك عمرو بن بديل فاضرِب عُنقه واقطع يدَي ابن عديس وكنانة وعروة، ثمّ دَعْهم يتشحّطون في دمائهم حتّي يموتوا.. ثمّ أوثِقهم إلي جذوع النخل.
وثارت ثائرة الوفد المصري الذي قرّر العودة إلي المدينة والاطاحة بعثمان، توجّه الوفد المصري إلي عليّ الذي ضمن «الخليفة»؛ وشعر عليّ بالغضب وهو يتأمّل كتاب عثمان وأوامره بتصفية زعماء الوفد..
وانطلق الإمام إلي قصر عثمان، وقد فوجئ عثمان بالكتاب وأقسم أنّه لا يعلم منه شيئاً، وأنّه لم يكتبه ولم يأمر بكتابته ولكنّه اعترف قائلاً:
أمّا الخط فخطّ كاتبي.. والختم خاتمي..
وكان لابدّ من اتّهام أحد بِحَبْك هذه المؤامرة.. فسأل عليّ:
فمن تتّهم..
لقد انفتحت أمام عثمان فرصة رائعة.. للتحقيق في الأمر، ومن ثمّ الثأر لكرامته التي أهدرها مروان بتصرّفاته الحمقاء.. ولكنّنا نجد عثمان ومع بالغ الأسف يجيب دون رويّة قائلاً:
أتّهمكَ واتّهم كاتبي!!
ونهض عليّ غاضباً.. وشعر بأنّ دوره كوسيط قد انتهي وأنّ عثمان قد مات.. منذ زمن.. منذ الأيام التي سلّم فيها عثمان أموره إلي مروان وراح ينقاد وراءه.
تمتم عليّ بحزن:
ما يُريد عثمان أن ينصحه أحد.. اتّخذ بطانة غش ليس منهم أحد إلاّ وقد تسيّب بطائفة من الأرض يأكل خراجها ويستذلّ أهلها.

الحصار الثاني

تدهورت الأوضاع بسرعة مثيرة، وهتف المصريون بعثمان ولوّحوا بالكتاب:
يا عثمان، أهذا كتابك؟
وأنكر عثمان ذلك وأقسم.
فصاح المصريون:
هذا شرّ، يُكتَب عنك بما لا تعلم، مثلك لا يليق بالخلافة.. فاخلع نفسَك عنها.
أجاب عثمان وقد سدّ جميع أبواب السلام:
ما كنتُ لأنزع قميصاً سربلنيه الله!
وهكذا فُرض الحصار مرّة أخري، وتأزمت الأحداث وقد أوشك الوضع علي الانفجار.
وتقدّم شيخ قد هدّته السنون من أصحاب النبيّ صلّي الله عليه وآله، وناشد عثمانَ بإطفاء نار الفتنة باعتزاله الخلافة والحكم، وفيما هو يحاور عثمان انطلق سهم فأصاب من الشيخ الصحابي مقتلاً فهوي شهيداً.. وانفجر الوضع وتعالت هتافات الجماهير بتسليم القاتل، ورفض عثمان الاستجابة كعادته قائلاً:
لم أكن لأقتل رجلاً نصرني..
وفي فورة غضبٍ اندفعت الجماهير باتجاه باب القصر فأحرقته..
ووقعت عدّة اشتباكات عنيفة … وممّا دفع بالأمويين إلي القتال ومواجهة الجماهير بالعنف أخبارٌ عن زحف قوّات عسكرية من الشام باتّجاه المدينة؛ ومع كلّ هذا فقد تخلّي مروان عن «خليفة» وفرّ مع بعض الأمويين وتركوا عثمان يواجه مصيره المحتوم وحيداً.. ولقي عثمان مصرعه تحت ضربات المهاجرين والأنصار، وهكذا أُسدل الستار علي حياة «الثالث».. الذي تُرك ثلاثة أيام بلا دفن، وتضاربت الأنباء حول غسله ورفضت الجماهير فيما بعد دفنه في مقبرة البقيع فدُفن كما أجمعت مصادر التاريخ في بقعة تدعي «حش كوكب» كان اليهود يدفنون فيها موتاهم، وإذا كان لمعاوية فضلٌ علي عثمان فهو في هدم الحائط الذي يفصل بين «البقيع» و «حش كوكب»! وإلحاق الأخيرة بمقبرة المسلمين.

صفين.. سقوط الحضارة

أنَزَلني الدهرُ حتّي قيل معاوية وعلي!

موقف أمة

لخّص الإمام عليّ الحوادث التي انتهت بمقتل عثمان في حديثه مع بعض الثائرين قائلاً:
إنّ عثمان استأثر فأساء الأثَرَة، وجَزِعتهم فأسأتُم الجَزع، ولله حكمٌ واقع في المستأثر والجازع.
كما وأوجز سيرة عثمان في خلافته بقوله:
إلي أن قام ثالث القوم نافجاً حِضْنَيه (من كان سيره تكبّراً) بين نَثيله (الروث) ومُعتلفه (موضع العلف).. وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمةَ الإبل نبتةَ الربيع، إلي ان انتكث عليه فَتْلُه، وأجهزه عليه عَمَلُه، وكَبَتْ به بِطنتُه.
وأعقب مصرع عثمان أن عمّت الفوضي المدينةَ المنورة، واندفعت الجماهير إلي منزل الإمام عليّ تطالبه بتحمّل مسؤوليّاته في الحكم والخلافة في واحد من أكثر المنعطفات التاريخيّة حسّاسيّة وخطورة.
ولكنّ الإمام رفض بشدّة، وهتفت الجماهير تستنجد به:
يا أبا الحسن، إنّ هذا الرجل قد قُتِل ولابُدّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحقّ بهذا الأمر منك … لا أقدمَ سابقة، ولا أقرب من رسول الله.
فقال الإمام:
لا تفعلوا، ولا أفعل، فإنّي لكم وزير، خير لكم من أمير.
وتشبّثت الجماهير به كما تتشبّث بطوق النجاة:
أنت لنا أمير.
فقال الإمام:
لا حاجة لي في أمركم … أيّها الناس أنا معكم، فمن اخترتم رضيتُ به.
وأحدقت به الجماهير من كلّ صوب وقد زادهم إصرارُه علي الامتناع إصراراً علي التشبّث به، وهتف الإمام مرّة أخري:
دعوني والتمسوا غيري..
وأردف مشيراً إلي أنّ زمن الفتن قد بدأ:
إنّا مستقبلون أمراً له وجوه.. وله ألوان، لا تثبت له العقول، ولا تقوم له القلوب.
وارتفع صوتٌ مخلص من بين الجماهير يناشد الإمام:
ألا تري ما حدث في الإسلام؟
ألا تخاف الفتنة؟
ألا تخاف الله؟!
وهنا سكت الإمام … وحبست الجماهير أنفاسها؛ فقال:
إنّي إن أجبتُكم ركبتُ فيكم ما أعلم، وإن تركتوني فإنّما أنا كأحدكم.. بل أنا مِن أسمعِكم، وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم.
فردّت الجماهير بحماس:
ما نحن بمُفارقيك حتّي نبايعك!
وأخيراً أعلن الإمام استجابته، وأشار إلي المسجد البقعة التي صنعت تاريخ الإسلام من قبل:
إن كان لابدّ من ذلك ففي المسجد … فبيعتي لا تكون خُفية.. ولا تكون إلاّ عن رضي المسلمين وفي ملأ جماعتهم.
وفي اليوم التالي كان المسجد الجامع يموج بالجماهير التي احتشدت لمبايعة «عليّ» …
ولو قُدّر للمرء أن يري مشهداً واحداً من ذلك اليوم العظيم عندما هبّت الجماهير تبايع انساناً رأت في ملامحه وجه المنقذ.. رأت فيه الشمس التي أشرقت بعد ليالي الزمهرير الطويلة لرأي رجالاً ونساءً وأطفالاً صغاراً.. وقد أشرقت الوجوه تنتظر لحظات العهد الجديد.. ولرأي أيضاً شيوخاً قد هدّتهم السنون والأيام ولكنّهم تحاملوا علي انفسهم فجاءوا يعاهدون عليّاً …
وجاء عليّ في الصباح وقد أشرقت الشمس وغُمرت المدينة بالنور والدفء.. كان يرتدي قميصاً وعمامة من خزّ.. يحمل في يده نعلَيه.. يتوكّأ علي قوسه.
وفي يوم الثامن عشر من ذي الحجة ارتقي عليّ المِنبر ليواجه الجماهير المحتشدة:
أيّها الناس: إنّي كنت لأمرِكم كارهاً.. فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم.. رضيتم بذلك؟
وعلت هتافات الأمّة:
نعم.. نعم.. نعم.
فرفع الإمام طرفه إلي السماء وقال:
اللهمّ اشهَدْ عليهم.
وفي فرح عارم بدأت مراسم البيعة.. وامتدّت أولّ يد وكانت شلاّء لتعاهد عليّاً علي الوفاء.. وتدافعت الجماهير تبايع عليّاً، وأشرقت وجوه الفقراء والمقهورين … لقد بدأ عهد جديد … عهد تتنفّس فيه العدالة مِلء رئتيها.. واحتلفت الأمّة بهذا اليوم السعيد ليكون لها عيداً.. وبدأت كلمات الفرح والثناء والمجد تنثال لتملأ أُذن الزمان.. إذ انبري ذو الشهادتَين خزيمة بن ثابت ليسجّل شهادته أمام الناس والتاريخ والأجيال:
ما أصبنا لأمرنا غيرك.. ولا كان المنقلب إلاّ إليك؛ ولئن صدقنا أنفسنا فيك لأنت أقدم الناس إيماناً.. وأعلم الناس بالله.. وأوّل المؤمنين برسول الله.. لك ما لهم.. وليس لهم ما لك..
ونهض الحصابي صعصعة بن صوحان فقال وهو يري أجمل منظر في الإسلام:
والله يا أمير المؤمنين.. لقد زيّنتَ الخلافة وما زانتك، ورفعتَها وما رَفَعَتك، ولَهِيَ إليك أحوج منك إليها.
واندفع مالك الاشتر يهتف بحماس الجندي المخلص للإسلام:
أيّها الناس، هذا وصيّ الأوصياء.. ووارث عِلم الأنبياء.. العظيم البلاء، الحَسَن العناء.. الذي شَهِد له كتابُ الله بالإيمان، ورسولُه بجنّة الرضوان.. مَن كَمُلت فيه الفضائل.. ولم يشكّ في سابقته وعِلمه وفضله الأواخر والأوائل..
ولم يتخلّف عن البيعة الشعبية سوي مجموعة تُعَدّ بالأصابع في طليعتها: سعد بن أبي وقّاص، أُسامة بن زيد، أبو سعيد الخدريّ، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وحسّان بن ثابت الشاعر. ولم يتعرّض الإمام إلي أيّ منهم، وترك لهم الخيار بحرّية.. فقد أُحضر سعد إلي المسجد ليابيع ولكنه رفض ذلك قائلاً:
لا.. حتّي يبايع الناس.. والله ما عليك منّي بأس.
فقال الإمام:
خلّوا سبيله..
وقال عبدالله بن عمر بن الخطاب مثل قول سعد.
فقال الإمام:
ائتِني بكفيل.
قال:
لا أري كفيلاً.
فقال الإمام:
دعوه.. أنا كفيله.
وفي كلّ الأحوال.. فإنّ مبايعة الإمام عليّ كانت تعني الإعراض عن مباهج الدنيا والترف وحياة القصور، ولم يكن هذا يسيراً علي الذين انغمسوا فيها وغرقوا في أوحالها حتّي الحضيض.

العهد الجديد

وبصعود أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام المنبر بدأ فصل جديد من التاريخ.. لقد بدأ فصل الربيع وزمن العدالة والمساواة والأخوّة.. الجماهير والتاريخ والضمائر الإنسانيّة تُصغي إلي كلمات تتدفّق من روح عظيمة.. روح انصهرت في بوتقة النبوّات..ها هو عليّ ربيب محمّد صلّي الله عليه وآله يعلن انبعاث الرسالة،ها هو يخاطب التاريخ والحضارة والإنسانية:
ألا لا يقولنّ رجالٌ منكم قد غَمَرَتهم الدنيا فاتخذوا العقار.. وفجّروا الأنهار.. وركبوا الخيول الفارهة.. واتّخذوا الوصائف الروقة.. فصار ذلك عليهم عاراً وشَناراً.. إذا ما منعتُهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلي حقوقهم التي يعلمون.. فينقمون ذلك ويستنكرون.. ويقولون حرمنا ابنُ أبي طالب حقوقنا …
وأردف معلناً القاعدة التي تنهض عليها حقوق المواطن المسلم:
وأيّما رجل استجاب لله ورسوله.. فصدّق ملّتنا ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا.. فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله..
والمال مال الله..
يُقسَّم بينكم بالسوية..
لا فضل لأحدٍ علي أحد؛ وللمتّقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب..
واضاف قائلاً:
وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدُوا علينا.. فإنّ عندنا مالاً نقسّمه فيكم، ولا يتخلفنّ أحد منكم، عربيّ ولا أعجمي.. كان من أهل العطاء أو لم يكن.. إذا كان مسلماً حرّاً إلاّ حضر..
أقول قولي هذا وأستغقفر اللهَ العظيم لي ولكم.
هل هي مصادفة أن يتولي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الخلافة في الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام.. وهل تذكّر بعض صحابة النبيّ صلّي الله عليه وآله يوم غدير خم عندما هبط جبريل يعلن ولاية عليّ علي كلّ مسلم ومسلمة وكلّ مؤمن ومؤمنة.
إنّ الفترة التي أعقبت رحيل النبيّ صلّي الله عليه وآله وإقصاء الإمام عليّ عن حقّه هي من أكثر الفترات مأساويّة، والتأمّل في مواقف الإمام وتصريحاته ابّان تلك الفترة يكشف عن عمق المحنة التي عاشها وصيّ النبيّ ازاء قريش التي حاربت النبيّ صلّي الله عليه وآله ما يقارب ربع قرن من الزمن.. وهي مدّة الدعوة والدولة، وأقصت وصيّه عن حقّه في القيادة مدّة ربع قرن أيضاً.

حوادث يوم السبت (19 ذي الحجة 35 ه)

بويع الإمام عليّ عليه السّلام يوم الجمعة.. وتجلّت سياسته في اليوم التالي.. فإذا عليّ هو صوت العدالة الإنسانيّة، وهو الإسلام الذي لا يعرف أفضليّةً لعربيّ علي أعجمي، ولا لأبيض علي أسود إلاّ بالتقوي.
أصدر الخليفة الحقّ أمره إلي الصحابي عمّار بتوزيع «العطاء» علي الناس:
قم يا عمّار إلي بيت المال، فأعطِ الناس ثلاثة دنانير لكلّ إنسان، وادفع لي ثلاثة دنانير.
وانطلق عمّار وأبو الهيثم وجماعة من المسلمين إلي بيت المال.. ومضي عليّ إلي مسجد قباء أوّل مسجد في تاريخ الإسلام.. مضي ليصلّي..
وهناك في البيت الذي يضمّ خزائن الدولة حدث ما لا يستوعبه العقل البشريّ.. لقد وجد عمّار أنّ بيت المال يحوي ثلاثمئة ألف دينار، وكان أهل العطاء مئة ألف إنسان؛ ولم يبق دينار واحد!!
والتفت عمّار إلي مَن حوله وفي عينيه بريق وخشوع قائلاً:
جاء واللهِ الحقُّ من ربكم.. واللهِ ما علم بالمال ولا بالناس، وإنّ هذه لآية … وجبت عليكم بها طاعةُ الرجل.

من هنا مر الشيطان

إذا كانت سياسة العطاء قد كشفت عن الوجه الإنساني والإسلامي لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فإنّها قد فجّرت في الوقت نفسه الأحقاد والأطماع.. وفوجئ بها بعض المقرّبين إليه.. جاء سهل بن حنيف وهو من أصحابه فقال مذهولاً:
يا أمير المؤمنين.. هذا غُلامي بالأمس.. وقد أعتقتُه اليوم.
فقال الإمام:
نُعطيه كما نعطيك!
وأثارت هذه السياسية حفيظة عدد من الزعامات في طليعتهم: طلحة بن عبدالله.. الزبير بن العوّام.. عبدالله بن عمر.. مروان بن الحكم.. سعد بن العاص. وبدأت أوّل التكتّلات المناهضة لعليّ وسياسته؛ وقد امتنع هؤلاء عن حضور توزيع العطاء.. وبذلك سجّلوا أوّل استياء ضد العدالة. وتبلورت المعارضة لتجتمع تحت لواء المصالح والأطماع والأحقاد الدفينة.. وفي المسجد جاء الوليد بن عقبة وهو يمثل التكتّل الأموي لمساومة عليّ فقال:
يا أبا الحسن، إنّك قد وترتَنا جميعاً، أمّا أنا.. فقد قتلتَ أبي يوم بدر، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس.
وأمّا سعيد (بن العاص) فقتلتَ أباه يوم بدر، وكان ثور قريش.
وأمّا مروان فسخّفت أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه..
ونحن إخوانك ونظراؤك.. ونحن نبايعك اليوم علي أن تضع عنّا ما أصبناه من المال في عهد عثمان.. وأن تقتل قَتَلة عثمان، وإنّا إن خفناك تركناك والتحقنا بالشام.
قال الإمام واضعاً النقاط علي الحروف:
أمّا ما ذكرتم من وتري إيّاكم فالحقُّ وَتَركم.
وأمّا وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حقَّ الله عنكم ولا عن غيركم.
وأمّا قَتَلة عثمان، فلو لزمني قتلُهم اليوم لقتلتُهم أمس، ولكن لكم علَيّ إن خفتموني أن أؤمنكم، وإن خفتكم أن أُسيِّركم.
وعندما انتهت مراسم توزيع العطاء، انطلق عليّ عليه السّلام إلي العمل في بئر الملك.
وقد رفض كلٌّ من طلحة والزبير وعبدالله بن عمر استلام حقوقهم من العطاء، وجاءوا يطلبون الاجتماع بعليّ.
قال طلحة حانقاً:
هذا منكم أو من صاحبكم؟
أجاب عمّار:
هذا أمره، لا نعمل إلاّ بأمره.
استأذنوا لنا عليه.
ما عليه آذن، هو في بئر الملك يعمل.
من المدهش أنّنا نري هؤلاء الثلاثة يستمرّون في غيّهم فيمتطون خيولهم متوجّهين إلي «بئر الملك».
كان الجوّ حاراً.. وكان عليّ يعمل في الأرض مع أجير له وقد تصبّبا عرقاً! قال طلحة متضايقاً:
إنّ الشمس حارّة، فارتفع معنا إلي الظلّ..
واستجاب الإمام إلي رغبتهم، فجلس إليهم تحت ظلال شجرة؛ ابتدأ طلحة الحديث فقال:
لنا قرابة من نبيّ الله وسابقة جهاد.. وإنّك أعطيتنا بالسويّة.. ولم يكن عمر ولا عثمان يفعلان ذلك.. كانوا يفضّلوننا علي غيرنا.
أجاب الإمام مذكِّراً إيّاهم بطريقة أبي بكر:
فهذا قسم أبي بكر.. وهذا كتاب الله فانظُروا ما لكم من حقٍّ فخذوه.
أجاب الزبير:
فسابقتُنا.
قال أمير المؤمنين موجّهاً خطابه لطلحة والزبير:
أنتما أسبق منّي؟
لا.. فقرابتنا منه؟
أقرب من قرابتي؟
لا.. فجهادنا؟
أعظم من جهادي؟
لا.
واللهِ ما أنا في هذا المال وأجيري إلاّ منزلة سواء.
ومع كلّ هذه الحجج المقنعة.. إلاّ أنّ طلحة والزبير كما يبدو قد ركبا رأسَيهما ورفضا الانصياع للأمر الواقع.. لقد بنيا مجدَيهما علي تلك الامتيازات الوهميّة وراحا ينظران إلي كلّ شيء من خلال تلك الأوهام.
وشهد اليوم التالي انفجاراً في المسجد عندما حاول عمّار الدخول معهما في حوار.. ورفض طلحة بأسلوب عنيف الحديث صارخاً:
أعرف أنّ في كلّ واحد منكم خطبة..
وأساء عبدالله بن الزبير الأدب في خطابه لشيخ الصحابة عمّار فأُخرج من المسجد.. وهنا غادر الزبير المسجد منزعجاً وتأزّمت الأوضاع، وقد ذرّ الشيطان قرنَيه.. وأُحيط الإمام عِلماً بحركة الانشقاق.. والتّي تتخذ من القِدَم في اعتناق الإسلام ذريعةً للحصول علي امتيازات دُنيويّة زائلة..
وشعر الإمام بالغضب.. وغادر منزله إلي المسجد فألقي خطاباً مريراً انتقد فيه هذه الظاهرة المؤسفة قائلاً:
يا معشر المهاجرين والأنصار! أتمنّون علي الله ورسوله بإسلامكم؟ بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين..
وارتفعت نبرة الإمام وهو يهتف بغضب:
أنا أبو الحسن.. ألا إنّ هذه الدنيا التي تتمنّونها وترغبون فيها.. وأصبحَتْ تُغضبكم وتُرضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خُلقتم له، فلا تغرّنكم.. وأمّا هذا الفيء فليس لأحد اثرة.. فقد فرغ الله من قِسْمته.. وهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون.. وهذا كتاب الله، به أقررنا وله أسلمنا وعهدُ نبينا بين أظهُرنا..
ونزل الإمام وصلّي ركعتين.. وبعث عمّاراً لاستدعاء الزبير وطلحة لاجراء حوار معهما.
قال عليّ لهما:
نشدتُكما الله! هل جئتماني طائعَين للبيعة ودعوتماني إليها وإنّي كاره؟
نعم.
غير مجبورَين؟
نعم.
فما دعاكما إلي ما أري؟
أعطيناك بيعتنا علي أن لا تقضي في الأمور دوننا.. ولنا من الفضل علي غيرنا ما قد علمتَ.
وشعر الإمام بالغضب.. لقد تمكّن الشيطان من نفخ روحه فيهما، وقديماً رفض إبليس السجود لآدم قائلاً: أنا خير منه خلقتَني من نارٍ وخلقتَه من طين!
قال عليّ وهو يحاول قهر الشيطان فيهما:
لقد نقمتُما يسيراً وأرجأتما كثيراً.. فاستغفِرا الله يغفر لكما..
ألا تخبراني.. أدفعتُكما عن حقٍّ واجبٍ لكما فظلمتُكما إيّاه؟
معاذَ الله.
فهل استأثرتُ من هذا المال بشيء؟
معاذ الله.
أوَقَع حكمٌ أو حدٌّ من المسلمين فجهلتُه أو ضعفت فيه؟
معاذ الله.
وانطلقت صرخة مظلوم ظلّت مكبوتة ربع قرن:
فما الذي كرهتما من أمري حتّي رأيتما خلافي؟
خلافك عمر في القسمة.. إنّك جعلتَ حقّنا في القسم كحقّ غيرنا، وسوّيت بيننا وبين غيرنا.
وذكّرهم الإمام بأنّ السابقة والجهاد في الإسلام لا يمكن أن تكون قاعدة تنهض عليها الامتيازات الدنيويّة؛ إنها إذا خلصت لله فستكون المجد والمستقبل الحقيقي للمسلم في الآخرة:
أمّا قولكما «جعلتَ فيئنا وأسيافنا ورماحنا سواءً بيننا وبين غيرنا»، فقديماً سبق الإسلام قوم، ونصروه بسيوفهم ورماحهم، فلا فضّلهم رسول الله بالقسم ولا آثر بالسبق، والله موفٍ السابق المجاهد يوم القيامة..
ووصل الحوار إلي طريق مسدود، لقد وُضعت الأصابعُ في الآذان.. ولم يَعُد للمواعظ معني في زمن يبرق المعدنُ الأصفر فيخلب العقول والأبصار.

الطريق إلي البصرة

تسارعت الأحداث.. وشهد ليل المدينة رجالاً ملثّمين يجتمعون في الظلام يتآمرون للاطاحة بالحكم الجديد.. لِوأد الشمس التي أشرقت بعد ليالي الشتاء الطويل. لقد تحوّل عثمان بين ليلة وضحاها إلي مظلوم بعد أن كان ظالماً..ها هو طلحة الذي أنفق أموالاً طائلة وقدّم مساعدات كبيرة من أجل الإطاحة بعثمان، يتهيّأ للفرار إلي مكّة من أجل المطالبة بدم عثمان، لقد أصبح عثمان مظلوماً.. لأنهم فقدوا بغيابه الدنيا الجميلة.. دنيا القصور والامتيازات والليالي الجميلة!
ووصلت الحوادث منعطفاً خطيراً عندما دخلت عائشة زوجة النبيّ «أم المؤمنين» قلب الأحداث لترفع فيما بعد راية التمرّد علي الشرعيّة؛ حتّي عائشة التي كانت بالأمس تهاجم عثمان بقسوة باتت تهتف بظُلامته اليوم!!
وهنا يتوقّف التاريخ مذهولاً … فإذا بالذين قتلوا عثمان في الخامس عشر من ذي الحجّة الحرام يرفعون لواء المطالبة بدمه من عليّ.
وهكذا وجد مروان بن الحكم أنّ الظروف تسير في صالحه ففرّ إلي مكّة ومعه بنو أمية، فاجتمعت الأحقاد والأطماع والمصالح تحت راية عائشة.. لا حبّاً بعثمان ولكن كُرهاً لعليّ. وأنفق الامويون أموالاً طائلة لتجهيز جيش المتمرّدين الذي تحرّك صوب البصرة بقيادة عائشة زوج النبيّ صلّي الله عليه وآله.
وأُصيب البصريون بالدهشة وهم يرون عائشة وطلحة والزبير قد جاءوا إلي البصرة للطلب بدم عثمان الذي قُتل في المدينة!
وفي البصرة حدثت اشتباكات عنيفة مع أنصار الإمام.. وقع فيها عشرات القتلي والجرحي.
وتحرّك الإمام بقوّته باتّجاه العراق، وعسكر في منطقة «ذي قار» ينتظر وصول الإمدادات من الكوفة، غير أن الوالي وكان عثمانيَّ الهوي قد وقف إلي جانب عائشة، وراح يحثّ الناس علي نكث البيعة وعدم مساندة الإمام؛ وقد وصل الحسن بن عليّ وعمّار لحثّ الكوفيّين علي الالتحاق بجيش الإمام، وظلّ الموقف علي ما هو عليه، ولم تُجْدِ خطابات نجل الإمام ولا صاحبه في تغيير الموقف، وهنا وصل مالك الأشتر علي جناح السرعة، فاقتحم قصر الإمارة بالقوّة، وطرد الوالي الذي غادر القصر مذموماً مدحوراً.

العجل الجديد

وفي يوم الخميس العاشر من جُمادي الأولي سنة 36 ه شهدت منطقة «الخريبة» من أرض البصرة حشوداً عسكريّة هائلة، وكان جيش الإمام عليّ يضم ثمانين «بدريّاً €» ومئتين وخمسين صحابياً شاركوا في بيعة الرضوان. وتقدّمت عائشة علي جَمَل وعن يمينها وشمالها الزبير وابنه عبدالله وطلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص! وقد حاول الإمام عليّ عليه السّلام التوصّل إلي حلّ سِلميّ، وذكّر الزبير بن العوام بحديث لرسول الله. وكاد الزبير أن يتراجع في اللحظات الأخيرة قبل اشتعال المعركة لولا تدخّل ابنه عبدالله الذي اتّهم أباه بالجُبن..
وعرض الإمام مرّة أُخري التحاكم إلي كتاب الله وحَقْن الدماء، ولكن المتحمّسين للحرب في جيش عائشة أمطروا الشاب الذي حمل القرآن في منطقة القتال بوابل من السهام، فسقط شيهداً كما سقط بعض الجرحي في جيش الإمام.
هناك دعا عليّ عليه السّلام ابنه محمّد بن الحنفيّة وسلّمه راية الجيش العظمي وكانت راية رسول الله، وقال:
يا بُنيّ هذه راية ما رُدَّت قط ولا تُرَدّ.. يا أبا القاسم!
قد حملتُ الراية وأنا اصغر منك..
وكثّف جيشُ الناكثين هجومه بالسهام.. فأصدر الإمام أمره بالهجوم العام.. واشتبك الفريقان في معارك ضارية، وتحوّل الجَمَل في نوبة من نوبات الجنون الوثنيّ إلي عِجل جديد.. إذ دارت حوله أعنف الاشتباكات، وقد كان الهودج مصفّحاً بالحديد. وهتف الإمام وهو يري عنف المعارك حوله:
اعقُروا الجمل وإلاّ فَنِيَت العرب.
وبسقوط الجمل خفّت حدّة المعارك، وبدأت جبهات الناكثين تتزلزل بشدّة تحت وقع ضربات المحاربين.
وأمر علي ربيبه محمّدَ بن أبي بكر أن يُبادر إلي الهودج ويحمي أخته! وحسم جيش عليّ المعركة في ساعات معدودة.
وفُوجئت عائشة بيدٍ تمتدّ داخل الهودج فصاحت:
من أنت؟!
أبغضُ أهلك إليك.
ابن الخثعمية؟!
نعم.. ولم تكن دون أمّهاتك.
لعمري بل هي شريفة.. دع عنك هذا.. الحمد لله الذي سلّمك.
قد كان ذلك ما تكرهين.
يا أخي لو كرهتُه ما قلتُ الذي قلته.
كنت تحبّين الظفر وأنّي قُتلت؟
كنت أحبّ ذلك فاكفُف.
وجاء الإمام فقرع الهودج بالرمح وقال بلهجة فيها غضب وحزن:
يا حُمَيراء! بهذا أوصاكِ رسول الله؟!
أجابت عائشة:
يا ابن أبي طالب، مَلَكْتَ فاصْفَح.
فقال الإمام وهو يُطلق آهة حرّي:
والله ما أدري متي أُشفي غيظي؟
أحين أقدر علي الانتقام فيقال لي لو غفرتَ؟!
أم حين أعجز فيُقال لي لو صبرت؟
غير أنّ الإمام لا يجد سوي الصبر سلاحاً.. والصبر سلاح الأنبياء:
بلي أصبر، فإنّ لكلّ شيء زكاة، وزكاة القدرة العفو!
والتفت الإمام إلي محمّد بن أبي بكر وقال:
شأُنك بأُختك لا يدنو منها أحد سواك.
لقد أسفرت معارك الجمل الضارية عن سقوط ما يقارب من خمسة وعشرين ألف مقاتل.. ستة آلاف من جيش عليّ عليه السّلام.
وقد لقي طلحة مصرعه خلال احتدام المعارك، وتضاربت الأنباء حول انسحاب الزبير من أرض المعركة، هل كان قبل احتدام المعارك أو بعدها، وفي كلّ الأحوال فقد اغتيل في «وادي السباع»، وكانت دوافع القاتل الأطماع، فقد حمل رأسه وسيفه وجاء يبشّر عليّاً عليه السّلام.. وتناول الإمام سيف الزبير وتمتم أسفاً:
سيفٌ أعرفه.. طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله..
وأردف الإمام مخاطباً «ابن جرموز»:
والله ما كان ابن صفيّة جباناً ولا لئيماً، ولكنّه الحين ومصارع السوء.
قال ابن جُرموز وهو يتطلّع إلي المكافأة:
الجائزة يا أمير المؤمنين؟
وانبعثت في أعماق الإمام نبوءة قديمة:
أما إنّي سمعتُ رسول الله صلّي الله عليه وآله يقول: بَشِّر قاتلَ ابن صفيّة بالنار.
وأصدر الإمام عليّ عليه السّلام عفواً عاماً إثر توقف العمليات الحربية، ومنع أخذ غنائم الجيش المهزوم سوي ما استُخدم للحرب من أسلحة ووسائط نقل.
وطالب بعضهم الإمام بالسبي فرفض ذلك، فقالوا مستنكرين:
كيف تحلّ لنا دماؤهم وتُحرّم علينا سبيُّهم؟!
فاجاب الإمام:
كيف تحل لكم ذرّية ضعيفة في دار هجرة الإسلام؟!
وعندما رأي إصرارهم قال:
فاقرعوا علي عائشة إذن.
فهتفوا عندها مستغفرين:
نستغفر الله يا أمير المؤمنين!
لقد كشفت معركة الجمل والحوادث التي تلتها عن مستويات متدنّية من الوعي الديني.. وعمّقت التيارات المتناقضة التي استَشْرَت في فِكر الأمّة وضميرها، ومهّدت الطريق أمام كارثة صِفّين.

حوار مع الأصفر

ودخل الإمامُ بيت المال، ورأي دنان الذهب والفضة.. فقال:
يا صفراءُ غُرّي غيري! وألقي نظرة فاحصة وقال: فرِّقوه خمسمئة خمسمئة. وأخذ الإمام نصيبه أُسوة بجنوده، فجاء رجل وقال:
كنتُ شاهداً بقلبي وإن غاب عنك جسمي.
فأعطاه عليٌّ عليه السّلام نصيبه وانصرف هو صفرَ اليدين حامداً الله إذ لم يحصل علي شيء من الفيء..
ولمّا عوتب علي التسوية في العطاء قال:
أتأمروني أن اطلب النصرَ بالجَور فيمن وليت عليه؟! والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجمَّ في السماء نجماً؛ لو كان المال لي لسوّيتُ بينهم، فكيف وإنّما المال مال الله.
وألقي الإمام نظرة حزن علي جثث القتلي، ومرّ بطلحة وهو جثة هامدة، وقد غمر الظلام الاشياء.. فقال بأسي:
لقد أصبح «أبو محمّد» بهذا المكان غريباً! أما والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلي تحت بطون الكواكب!

مشهد في البصرة

وخلال مكوثه في البصرة.. توجّه الإمام إلي منزل أحد أصحابه وهو العلاء بن زياد الحارثي ليعوده في علّة ألمّت به.. وتأمّل الإمام سعة الدار فقال لصاحبه وهو يحاوره:
ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟
ويجيب الإمام ليفتح الطريق أمام الأغنياء الصالحين فيقول:
بلي إن شئتَ بلغتَ بها الآخرة: تَقري بها الضيف، وتَصل فيها الرَّحِم، وتُطلع منها الحقوق مطالعها.. فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.
قال العلاء بصوت واهن وقد وجد له فرصة ليشكو إليه أخاه:
يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصماً.
قال الإمام:
ما له؟
لَبِس العباءة وتخلّي عن الدنيا.
وانبري الإمام ليواجه ظاهرة التطرّف في الزهد:
علَيّ به.
لقد حدّد عليّ عليه السّلام موقفه من الغِني، فياتُري ماذا سيكون موقفه مع الذين يتركون الدنيا ويديرون وجوههم لها؟
جاء عاصم أخو العلاء.. كان يرتدي عباءةَ صوف رثّة.
قال الإمام بلهجة فيها عتب خفيف:
يا عُديَّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث..
أما رحمتَ أهلك وولدك!
أتري الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أن تأخذها؟
أنت أهون علي الله من ذلك.
نظر عاصم إلي ثياب أمير المؤمنين ربّما كانت أكثر رثاثة من ثيابه، فقال:
يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجُشوبة مأكلك.
قال الإمام وهو يبيّن له كيف يكون الحاكم القدوة:
وَيْحَك، إنّي لستُ كأنت.. إنّ الله تعالي فرض علي أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضَعَفة الناس؛ كلا يتبيّغَ الفقير بفقره.

العاصمة الجديدة

كان الإمام يدرك أن الخطر القادم يكمن في الشام.. حيث يمارس معاوية بن أبي سفيان سياسته المشبوهة في تلويث الأدمغة، وتزوير الحقائق، وتوجيه الرأي العام الجهة التي تخدم مصالحه وتحقّق طموحاته الشخصية. ومن هنا اختار الإمام الكوفة عاصمة جديدة للدولة الإسلاميّة؛ لموقعها الاستراتيجي ووفرة مواردها الاقتصادية.
غادر أمير المؤمنين عليه السّلام مدينة البصرة بعد أن عيّن عليها والياً جديداً هو عبدالله بن عباس، وفي البصرة قال كلمته الخالدة:
أرضكم قريبة من الماء، بعيدة عن السماء!
هي كلمة أثارت التساؤلات لدي سامعيها عقوداً من الزمن.
واتجه الإمام إلي الكوفة فهمس وقد لاحت من بعيد باسقات النخيل:
وَيْحكِ يا كوفان؛ ما أطيب هواءَكِ وأغذي تربتك؛ الخارج منكِ بذنب، والداخل إليك برحمة؛ لا تذهب الأيام والليالي حتّي يجيء إليك كلّ مؤمن، ويُبغِض المقامَ بك كلُّ فاجر، وتعمرين حتّي إنّ الرجل من أهلك ليُبكّر إلي الجمعة فلا يلحقها من بُعد المسافة..».
وقد وصل الإمام الكوفة يوم الاثنين الثاني والعشرين من رجب سنة 36 ه.
وعُرض علي الإمام أن ينزل في قصر الامارة فرفض قائلاً:
هذا قصر الخَبال.. لا حاجة لي في نزوله.
واتّجه إلي المسجد الأعظم فصلّي فيه ركعتين.. وفي يوم الجمعة ألقي الإمام خطاباً وعظيّاً حذّر فيه المؤمن من الدنيا، جاء فيه:
أُوصيكم عباد الله بتقوي الله..
احذَروا من الله ما حذّركم من نفسه.. وأشفِقوا من عذاب الله، فإنّه لم يخلقكم عَبَثاً، ولم يترك شيئاً من أمركم سُدي.. قد سمّي آثاركم وعَلِم أسراركم، وأحصي أعمالكم، وكتب آجالكم.. فلا تَغُرّنكم الدنيا فإنّها غَرارة لأهلها، والمغرور مَن اغترّ بها، وإلي فناءٍ ما هي، وإنّ الدار الآخرة هي دار القرار.

ارهاصات الحرب

شهدت دمشق بعد مصرع عثمان بدء الاستعدادات علي قدمٍ وساق للقيام بأوسع تمرّد ضد الشرعيّة، وتصاعدت وتيرة النشاط بعد حرب الجمل وما تمخّض عنها من جراح في أعماق الأمّة.
وعرف معاوية من أين ستؤُكل الكتف، فرفع قميص عثمان ليكون أفضل ذريعة لإعلان الحرب علي الإمام.
وبدأ معاوية نشاطاً محموماً في تعبئة كلّ ما يُمكن تعبئته ضدّ الإمام عليّ عليه السّلام، وكثّف من مراسلاته للشخصيّات والزعامات في مختلف مناطق الدولة الإسلاميّة.
وفي تلك الفترة تبلورت في ذهن معاوية فكرة التحالف مع عمرو بن العاص ضدّ أمير المؤمنين عليه السّلام.
وكان الإمام عليّ عليه السّلام قد أرسل مبعوثه جرير بن عبدالله البجلي إلي معاوية لأخذ البيعة، واجتمع جرير بمعاوية وسلّمه رسالة الإمام وقد جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدالله عليّ أمير المؤمنين إلي معاوية بن أبي سفيان.
أمّا بعد..
فقد لزمك ومَن قِبَلك من المسلمين بيعتي؛ وأنا بالمدينة وأنتم بالشام.
لأنّه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمانَ.. فليس للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وإنّما الأمر في ذلك للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا علي رجل مسلم، فسمَّوه إماماً كان ذلك لله رضي، فإن خرج من أمرهم أحدٌ بطعن فيه أو رغبة عنه رُدّ إلي ما خرج منه؛ فإن أبي علي أتباعه غير سبيل المؤمنين، ولاّه الله ما تولّي، ويُصْلِه جهنّم وساءت مصيراً.
فادْخُل فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار، فإنّ أحب الأمور فيك وفيمن قِبَلك العافية. فإن قَبِلْتَها وإلاّ فائْذَنْ بحرب.
وقد أكثرتَ في قَتَلة عثمان، فادْخُل فيما دخل فيه الناس، ثمّ حاكِم القوم إليّ، أحمِلكَ وإيّاهم علي ما في كتاب الله وسُنّة نبيّه..
فأمّا تلك التي تريدها، فإنّما هو خُدعة الصبي عن الرضاع.
كان معاوية يهدف إلي كسب المزيد من الوقت ريثما يصل عمرو بن العاص.
علي أن ذلك لم يمنع معاوية من الاحتفاء بجرير وإكرامه ومحاولة كسبه إلي جانبه.
ويبدو أنّ سياسته قد نجحت، فقد تأخّر جرير في عودته من مهمّته.
وفي الكوفة شعر بعضهم بالقلق ازاء ما يجري في الشام، فأشاروا علي الإمام بالاستعداد وإعلان الحرب؛ غير أنّ الإمام لم يجد ذلك مناسباً لأنّه سوف يئد كلّ مشروع خيّر.. فقال:
إنّ استعدادي لحرب أهل الشام وجريرٌ عندهم، اغلاق للشام وصرف لأهله عن خير أرادوه؛ ولكن وقّت لجرير وقتاً لا يُقيم بعده إلاّ مخدوعاً أو عاصياً، والرأي عندي مع الأناة.

الحلف الدنس

وصل عمرو بن العاص دمشق ودخل مع معاوية علي الفور في مفاوضاتٍ مكشوفة انتهت بتحالفٍ دَنِس.
لقد عرف كلٌّ منهما صاحبه، فمعاوية يحتاج إلي عقل داهية وشخصيّة يمكنها أن تُلبِس الاشياء غير ثوبها الحقيقي، شخصية متلوّنة وُصولية، انتهازيّة لا تعرف شيئاً مقدّساً. وعمرو بن العاص يحتاج هو الآخر إلي مَن يُمكّنه من تحقيق طموحاته وأطماعه، وبكلمة واحدة يصنع له دنياه.
لنتأمّل في جانب من حوار الرجلَين:
قال معاوية:
يا أبا عبدالله، طرقَتتا في هذه الأيام ثلاثة أمور، ليس فيها ورد ولا صدر.
ما هنّ؟
أمّا أولهن: فإنّ محمد بن حذيفة كسر السجن وهرب إلي مصر فيمن كان معه من أصحابه، وهو من أعدي الناس لنا.
وأمّا الثانية: فإنّ قيصر الروم قد جمع الجنود ليخرج إلينا ليحاربنا علي الشام.
وأمّا الثالثة: فإنّ جريراً قدِم رسولاً لعلي بن أبي طالب يدعون إلي البيعة له أو إيذان بحرب.
لنري الآن اجوبة ابن العاص، ورؤيته في معالجة المشكلات، وكيفية نفوذه لتحقيق غاياته، قال عمرو:
أمّا ابن حذيفة.. فما يغمّك من خروجه من سجنه في أصحابه، فأرسِلْ في طلبه الخيل، فإنَ قدرت عليه فذاك، وإن لم تقدر عليه لم يضرّك.
وأمّا القيصر.. فاكتُب إليه تُعلِمه أنّك تردّ عليه جميع من في يديك من أسري الروم، وتسأله المصالحة.
وامّا عليّ بن أبي طالب..
سكت عمرو لحظات ليسدّد سهامه فقال:
إنّ المسلمين لا يساوون بينك وبينه..
قال معاوية مقاطعاً:
إنّه مالأ علي قتل عثمان، وأظهر الفتنة، وفرّق الجماعة.
وتظاهر عمرو بتأييد تخرصات معاوية وقال:
إنّه وإن كان كذلك.. فليست لك مثل سابقته وقرابته.
وبرقت في عينَي عمرو الأطماع فأردف قائلاً:
ولكن ما لي إن شايعتُك علي أمرك حتّي تنال ما تريد؟
أعطي معاوية صاحبه صكّاً مفتوحاً:
حُكمك.
قال عمرو وقد سال لعابه لمملكة الفراعنة:
اجعَلْ لي مصر طُعمةً ما دامت لك ولاية.
سكت معاوية.. إنّ مفاوضه يريد مصر لُقمة خالصة له لا يشاركه فيها أحد، قال بعد لحظات صمت:
لو شئتُ أن أخدعك خدعتُك.
قال عمرو وقد برقت عيناه كثعلب:
ما مثلي يُخدَع.
أُدنُ مني أُسارَّك.
وأرهف عمرو أذنيه لمعاوية الذي قال:
هذه خدعة، هل تري في البيت غيري وغيرك؟!
وأردف:
أما تعلم أنّ مصر مثل العراق؟
قال عمرو بخبث:
غير أنها إنّما تكون لي إذا كانت لك الدنيا، وإنّما تكون لك إذا غلبتَ علياً.
وفي النهاية تمّت الصفقة، وتأسّس الحلف الدنس بين رجلَين جمعتهما المصالح والأطماع.
وفي جوّ محموم حرّر الطرفان صيفة الاتفاق، وأصبحت مصر شَعباً ومقدّراتٍ وثروات (طُعمةً) لعمرو بن العاص بموجب ذلك الاتّفاق.
وبدأ الطرفان منذ ذلك التاريخ التخطيط لمواجهة الخطر القادم من العراق.
ولقد حاول الإمام عليّ إسداء النصح إلي عمرو بن العاص قبل أن ينغمس في دنيا معاوية، فبعث إليه برسالة هذا نصّها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدالله عليّ أمير المؤمنين إلي عمرو بن العاص..
أمّا بعد..
فإنّ الدنيا مَشغلة عن غيرها، صاحبها منهوم فيها، لا يُصيب منها شيئاً إلاّ ازداد عليها حِرصاً، ولم يستَغْنِ بما نال عما لا يبلغ، ومن وراء ذلك فِراقُ ما جمع؛ والسعيد مَن اتعّظ بغيره، فلا تُحبِط عملَك بمجاراة معاوية في باطله، فإنّه سَفِه الحق واختار الباطل … والسلام.
غير أنّ ابن العاص كان قد سقط في حبائل الشيطان ولم يعد يبصر أمامه شيئاً سوي «مصر».
وهكذا بدأ التحضير لتفجير الصراع مع عليّ وفق خطّة مدروسة بعناية. ومن خلال الحوادث التي رافقت انفجار الاوضاع في صفّين يبرز وجه عمرو بن العاص كعقلٍ مدبّر وسياسيّ ماكر؛ فقد أشار علي معاوية بعد عودة مبعوث الإمام إلي الكوفة ألاّ يُعلن نفسه خليفة أبداً، وأن يبذل قُصاري جهده في إشاعة أكبر أُكذوبة في تاريخ الإسلام، وهي مسؤولية عليّ عليه السّلام الكاملة عن مقتل عثمان؛ وأن المطالبة بدمه سوف توحّد الرأي العام في الشام لصالحه.
وقد رتّب معاوية خطّة ماكرة في كسب عليّة القوم في الشام حتّي باتوا أكثر حماساً من معاوية نفسه في مُناوأة أهل العراق ورفض خلافة الإمام عليّ عليه السّلام.
وفي هذا قال عليّ عليه السّلام في إحدي المناسبات: «ألا وإنّ معاوية قادَ لُمّة من الغواة، وعمّس عليهم الخبر حتّي جعلوا نحورهم أغراضَ المنيّة». وراح ابن العاص يُطلق الأكاذيب تلو الأكاذيب ضدّ عليّ علي طريقة كذِّب ثمّ (كذّب حتّي يصدّقك الناس)؛ حتّي راحت أكاذيبه تُزكم الأُنوف، ووصلت أخبارها العراق.. فقال عليّ عليه السّلام:
عجباً لابن النابغة!! يزعم لأهل الشام أنّ فيّ دُعابةً وأنّي امرؤٌ تِلعابة! … لقد قال باطلاً.. ونطق آثماً.. أما وشرُّ القول الكذب إنّه ليقول فيكذب، ويَعِد فيُخلِف، ويُسأل فيبخل، ويَسأل فيلحف، ويخون العهد ويقطع الآل …
ويفلسف الإمام منهجه الأخلاقي وسيرة خصمه فيقول:
أمّا والله إنّي ليمنعني من اللعب ذِكرُ الموت، وإنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة..
ثمّ يفضح تحالفَ عمروٍ مع معاوية قائلاً:
إنّه لم يبايع معاوية حتّي شرط أن يؤتيه، ويرضخ له علي ترك الدين رضيخة.
وهكذا أوجز الإمام عليّ تحالف ابن العاص مع معاوية بعبارة بليغة: أنّها صفقة الدنيا مقابل الدين؛ ولقد باع عمرو بن العاص دينه بدنيا غيره.
وقد لجأ الكثير إلي معاوية.. لا حُبّاً به ولكن كرهاً لعليّ وفراراً من وجه العدالة؛ غير مدركين أنّ العدل هو الأساس الذي ينهض عليه الرخاء والأمن الاجتماعي، «إنّ في العدل سَعَة، ومَن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق».

الطريق إلي صفين

يشعر المرء وهو يستكشف حوادث تلك الحقبة التاريخيّة من الزمن بعمقِ التغيّرات النفسيّة والتحولات الفكريّة والاجتماعية التي ألمّت بالمجتمع الإسلاميّ والأمة آنذاك، والتي أدّت فيما بعد إلي ظهور تيّارات فكريّة متناقضة، ومن ثَمّ تنامي التيّار «السفياني» إذا صح التعبير واستيلاؤه علي مقدّرات الدولة الإسلاميّة، بل وانحرافه بالمسار الحضاري للإسلام منذ كارثة صفين.
يقول الإمام عليّ وهو يقسّم مجتمعه إلي خمسة أصناف ويصف زمانه:
«أيّها الناس.. إنّا قد أصبحنا في دهرٍ عَنود.. وزمان كَنُود.. يُعدّ فيه المُحسن مسيئاً.. ويزداد الظالم فيه عُتوّاً.. ولا ننتفع بما عَلِمنا، ولا نَسأل عمّا جَهِلْنا، ولا نتخوّف قارعة حتّي تحلّ بنا..
والناس علي أربعة أصناف:
منهم: من لا يمنعه الفساد في الأرض إلاّ مهانةُ نفسه وكلالة حَدّه..
ومنهم: المُصلِت لسيفه والمُعلن بِشَرّه والمُجلِب بخيله ورَجلِه..
قد أشرط نفسه، وأوبق دِينه.. لحطامٍ ينتهزه، أو مِقْنَبٍ يقوده.. أو مِنْبر يَفْرعه.. ولبئس المَتْجر أن تري الدنيا لنفسك ثَمَناً وممّا لك عند الله عِوضاً.
ومنهم: من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا..
قد طامن مِن شخصه وقارب من خَطْوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذّ سِترَ الله ذريعة إلي المعصية.
ومنهم: من أبعده عن طلب المُلْك ضُؤولةُ نفسه، وانقطاع سببه، فقَصَرَته الحال علي حاله فتحلّي باسم القناعة، وتزيّن بلباس الزهادة..».
وهنا يأتي دور الصنف الخامس وهو الذي يمثّل الضمير المقهور في أعماق الأمّة، فيقول عليه السّلام:
«وبقي رجال غضَّ أبصارَهم ذِكرُ المرجِع، وأراق دموعهم خوفُ المحشر، فهم بين شريد نادٍّ.. وخائف مقموع، وساكت مكعوم، وداعٍ مخلص؛ وثَكلانَ مُوجَع، قد أخملتْهمُ التقيّة وشملتهم الذلّة، فهم في بحر أُجاج، أفواههم ضامزة (ساكنة) وقلوبهم قرِحَة، قد وَعظوا حتّي مَلّوا، وقُهروا حتّي ذَلّوا، وقُتِلوا حتّي قلّوا».

طبول الحرب

وصلت المراسلات بين الإمام ومعاوية إلي طريقٍ مسدود.. ودوّت في دمشق طبول الحرب.. ولم يجد الإمام عليّ بدّاً من معالجة الانحراف بالقوّة، وسُمع أمير المؤمنين يقول وقد استنفد كلّ الوسائل السلميّة مع والي الشام الطَّموح:
« … ولقد ضربتُ أنفَ هذا الأمر وعينه.. وقلّبتُ ظهرَه وبطنه.. فلم أرّ فيه إلاّ القتال أو الكُفر بما جاء به محمّد صلّي الله عليه وآله … ».
وفي عاصمة الخلافة أعلن الإمام حالة النفير العام.. وتجمّعت الألوف وخرجت طلائع جيش الإمام إلي «النُّخيلة» التي أصبحت منطقة تحشّد عسكرية منذ ذلك التاريخ …
ولنحاول أن نتخيّل الإمام وهو يتقدّم من فرسه وقد وضع رجله في الرِكاب.. فيتذكّر كلمات قالها سيدنا محمّد صلّي الله عليه وآله قبل أكثر من ثلاثين سنة.. رنا الإمام بناظرَيه إلي السماء.. إلي العالم اللانهائي، وردّد ذات الكلمات قائلاً:
«اللهمّ إنّي أعوذ بك من وَعثاء السفر.. وكآبة المنقلب.. وسوء المنظر في الأهل والمال والولد.. اللهمّ أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل..».
وهنا يضيف الإمام من بنات أفكاره لتنفتح «الباب» علي المدينة، فيقول:
«ولا يجمعهما غيرُك، لأن المُستخلَف لا يكون مستصحَباً، والمستصحَب لا يكون مستخلَفاً».
فتتوحّد المسيرة التي ابتدأها رسول الله واستأنفها وصيُّه.. إنّها أخلاق محمّد صلّي الله عليه وآله تتألّق في عليّ.. ومعاني رسالته تنبض في مفردات أبدعها موسّس البلاغة في دنيا العرب.

النخيلة

استخلف الإمام عليّ عليه السّلام علي الكوفة الصحابيَّ أبا مسعود الأنصاري، واتّجه إلي النُّخيلة، وكان عمّار بن ياسر شيخ المهاجرين قد سبق الإمام إليها؛ ومن النخيلة بعث الإمام إلي ولاته علي المدن والاقاليم الإسلاميّة بالقدوم.
وبدأت الحشود العسكريّة تتجمّع من مختلف الأقاليم، وفي طليعة من استجاب لدعوة الإمام مدينة البصرة، حيث لبّي الأحنف بن قيس نداء الإمام.
وفي النخيلة ألقي الإمام خطاباً أوضح فيه خطّته في الزحف باتجاه الشام قائلاً:
الحمد لله كلّما وَقَب ليل وغسق.. والحمد لله كلّما لاح نجم وخفق.. والحمد لله غير مفقود الإنعام؛ ولا مُكافأ الإفضال.
أمّا بعد..
فقد بعثتُ مقدّمتي وأمرتُهم بلزوم هذا الملطاط (شاطئ الفرات) حتّي يأتيهم أمري..
وقد رأيت أن أقطع هذه النطفة (نهر الفرات) إلي شِرذمة منكم، موطّنين أكناف دجلة، فأُنهضهم معكم إلي عدوكم وأجعلهم من أمداد القوّة لكم.
وانطلقت مقدّمة الجيش تطوي المسافات، وكانت المقدمة تتألّف من 12000 مقاتل في قوّتَين منفصلَتين يقوهما كلّ من زياد بن النضر وشُريح بن هانئ، وزوّدهما بتعليماته الحربية التي يغلب عليها استراتيجيّته في الدفا وتفادي الاصطدام ما أمكن.
قال الإمام عليه السّلام وقد وقف القائدان أمامه باحترام:
ليسِر كلُّ واحد منكم منفرداً عن صاحبه؛ فإن جمعَتْكُما حرب فأنت يا زياد الأمير.. واعْلَما أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم. فإيّاكما أن تسأما عن توجيه الطلائع.. ولا تسيرا بالكتائب والقبائل من لَدُن مسيركما إلي نزولكما إلاّ بتعبيّةٍ وحذر، وإذا نزلتما بعدوٍّ أو نزل بكم، فلْيكن معسكركم في أشرف المواضع؛ ليكون ذلك لكم حصناً حصيناً، وإذا غشيكم الليل، فحُفّوا عسكركم بالرماح والترسة، ولْيَليَهم الرماة، وما أقمتم فكذلك فكونوا.. لئلاّ يُصاب منكم غِرّة، واحرُسا عسكرَكما بأنفسكما، ولا تذوقا نوماً إلاّ غراراً ومضمضة، وليكن عندي خبركما، فإنّي ولا شيء إلاّ ما شاء الله حثيث السير في اثركما.. ولا تقاتلا حتّي تُبدأا أو يأتيكما أمري إن شاء الله..».
ومرّت ثلاثة أيّام علي تحرّك مقدّمة الجيش، وفي اليوم الثالث تحرّك جيش الإمام بكّل فيالقه التي ناهز عدد مقاتليها الثمانين ألفاً … حتّي إذا أطلّت علي خرائب مدينة «بابل»، أمر الإمام بالاسراع في اجتيازها قائلاً:
«إنّ هذه مدينة قد خُسف بها مراراً، فحرّكوا خيلكم، وأرخوا أعنّتها حتّي تجوزوا موضع المدينة، لعلّنا نُدرك العصر خارجاً منها». وفي مدينة «الرقة» عبر الإمام بجيشه نهر الفرات؛ وفي مكان يدعي سور الروم اصطدمت مقدِّمة جيشه بفرسان الشام يقودهم أبو الأعور السلميّ؛ ووصلت أنباء ذلك للإمام عليّ، فأمر قائده الشجاع مالك الأشتر بالإسراع وقيادة المقدّمة.
واشتبك الفريقان إلي الليل …
وفي غمرة الظلام فضّل قائد مقدمة الشام الانسحاب والعودة إلي معاوية، وكانت جيوشه قد بسطت سيطرتها علي مصادر المياه في شواطئ الفرات في وادي صفّين الفسيح؛ ويبدو من خلال ما ورد في بعض المصادر التاريخية أنّ المنطقة التي احتلّتها كتائب من جيش معاوية كانت منطقة مشجّرة كثيفة، ما خلا طريق مرصوف بالحجارة يتوسّط تلك المنطقة المليئة بالأوحال؛ ومن هنا فإنّ احتلال ذلك الطريق يعني السيطرة علي منابع المياه، وهذا ما فعله جيش معاوية؛ فكشف بذلك عن أخلاقيّة هابطة في مبادئ الحرب؛ عِلماً بأنّ الإمام وحتّي تلك اللحظة لم يُعلن الحرب، وكان يؤكّد علي وجود فرصة للتفاهم وحلّ الأزمة بالطرق السِلميّة.
وصلت جيوش الخلافة وادي صفّين فوجدت قوّات معاوية قد احتلّت القرية وسيطرت علي الطريق الوحيد الذي يؤدّي إلي ضفاف الفرات.

الظامئون

أرسل الإمام صعصعة بن صوحان وكان صحابيّاً جليل القدر إلي معاوية وحمّله رسالة شفهية قائلاً:
«إيتِ معاوية فقُل له: إنّا سرنا إليكم لنعذر قبل القتال، فإن قبلتم كانت العافية أحبَّ إلينا … وأراك قد حلت بيننا وبين الماء، فإن كان أعجب إليك أن تدع ما جئنا له، ونذر الناس سقتتلون علي الماء حتّي يكون الغالب هو الشارب، فَعَلْنا».
واجتمع معاوية مع أركان حربه للتدارس حول الموضوع، وسيطرت علي الاجتماع روحٌ من الحقد الدفين والدناءة والغدر والقسوة.. باستثناء عمرو بن العاص الذي اعتبر خطوة معاوية خطوة حمقاء قائلاً:
أري أن تُخلّيَ عن الماء؛ فإن القوم لن يعطشوا وأنت ريّان.
غير أنّ معاوية الذي عُجنت روحه بالأطماع والغدر استجاب إلي آراء تنضح حقداً وانتقاماً.
وأدرك مُوفَد عليّ عليه السّلام أنّ معاوية سوف يشدّد قبضته علي النهر.. فعاد إلي الإمام يُخبره.
وتمرّ الساعات بطيئة قلقة … وقد استبدّ بجنود الإمام الظمأ.. وكان علي مَن يريد الماء أن يقطع مسافة 12 كم من أجل الحصول علي قطرات تطفئ لهيب الأعماق في ذلك الصيف الملتهب.
ومرّت ثلاثون ساعة، وقد لاحت في الأُفق ملامح الكارثة، وفي اللحظات الأولي من الفجر ألقي الإمام في كتيبة مالك الأشتر المؤلّفة من الفرسان كلمات تتألّق بسالة:
قد استطعموكم القتال … فأقِرّوا علي مذلّة وتأخير محلّة.. أو رَوُّوا السيوفَ من الدماء تُروَوا من الماء..
ثم دوّت كلماته الخالدة:
فالموتُ في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين!
وشنّ سلاح الفرسان هجوماً صاعقاً ودارت معركة ضارية، وبدأت خطوط العدوّ تتزلزل لعُنف الهجمات، واقتحم المهاجمون شواطئ النهر، وغمست خيول عليّ أقدامها في المياه الباردة.

علي. المجد الأخلاقي

أضاف عليّ بن أبي طالب نصراً أخلاقياً كبيراً إلي مجده العسكري.. فأصدر أوامره إلي قوّاته المرابطة في «الشريعة» بالتزوّد بالماء والانسحاب وفتح الطريق أمام جنود الخصم بارتياد النهر.
تلقّي معاوية نبأ هزيمة قوّاته بهلع، فلقد أصبح مصيره وطموحاته علي كفّ عفريت؛ فاستدعي علي الفور مستشاره ومعاونه عمرو بن العاص وقال له بقلق:
ما ظنُّك بعليّ؟!
أجاب ابن العاص وهو يدرك تماماً أخلاقيّة الإمام عليّ:
ظنّي أنّه لا يستحلّ منك ما استَحْلَلْتَ منه.. لأنّه أتاك في غير الماء.
وشهدت الطريق المرصوفة بالحجارة «السقّائين» من الفريقين وهم يتّجهون إلي شواطئ الفرات للتزوّد بما يلزمهم من المياه، وقد أحدثت مواقف الإمام الإنسانية أثراً معينّاً في صفوف الشاميين، إذ شهدت ليالي صفين محاولات تسلّل من المواقع الشاميّة إلي معسكر الإمام. وفي كلّ الأحوال.. فالذين اختاروا الدنيا كانوا يتطلّعون إلي معاوية، أمّا الذين أرادوا الآخرة وسَعَوا لها سعيها فكانوا يجدون طريقهم علي خطي عليّ عليه السّلام مع التأكيد علي وجود المخدوعين وهم الغالبية في جيش معاوية، ووجود الحمقي والأغبياء في جيش الإمام، وكان هؤلاء يمثّلون شريحةً فاعلة لها شأنُها.

تقارير من قلب المعركة

عاد الهدوء المَشوب بالحذر مرّة أخري إلي أرض صفّين.. ولم تحدث اشتباكات تُذكَر.
وجرت خلال تلك الفترة مراسلات بين الفريقَين لم تُسفر عن نتيجة؛ ومن الطبيعي أن تصطدم المطامع والأهواء بالمبادئ والقيم والدين الحقّ؛ ولهذا لم يجد الإمام حلاًّ مع هذا المتسلّط المتمرّد إلاّ الحرب أو الكفر بما جاء به محمّد صلّي الله عليه وآله كما عبّر عن ذلك الإمام في مناسبة من الصراع المرير.
وخلال الفترة التي سبقت الأشهُر الحُرُم.. شهد وادي صفّين ما يقرب من ثمانين اشتباكاً محدوداً علي مستوي الكتائب، وكان «القُرّاء» في كلّ مرّة يتدخّلون لوقف القتال والبحث عن طريق سلميّ لحلّ الصراع.
انسلخت الأشهر الحُرم، وأطلّ شهر صفر، وتمرّ الأيام، دون أن تلوح في الأفق بوادر للحرب، ويبدو أنّ أصحاب الإمام قد استبطأوا قيادتهم في إصدار الأوامر بالهجوم، وانتشرت شائعات حول شكّ الإمام في مشروعيّة قتال «القاسطين» وقد ردّ الإمام علي ذلك بقوله:
أمّا قولكم: أكُلَّ ذلك كراهيةَ الموت؟ فوالله ما أُبالي دخلتُ إلي الموت أو خرج الموت إليّ، وأمّا قولكم شكّاً في أهل الشام! فوالله ما دفعتُ الحربَ يوماً إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشوا إلي ضوئي، وذلك أحبُّ إليّ من أن أقتلها علي ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها.
وفي الغروب وقف جنديٌّ جهوري الصوت قريباً من معسكر القاسطين وهتف بأعلي صوته ناقلاً إنذار الإمام:
إنّا أمسكنا لتنصرم الأشهر الحُرُم.. وقد تصرّمت، وإنّا ننبذ اليكم علي سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين.
وأُعلنت في المعسكرَين حالة التعبئة العامّة، واشتعلت النيران، ايذاناً بخوض حرب شاملة.
وما أن اشرقت شمس اليوم التالي حتّي كان الجيشان يقفان علي أُهبة الاستعداد، وقد سيطرت حالة من الوجوم والرهبة. إنّ من يقف فوق الروابي المشرفة علي الوادي الفسيح سوف يري كتائب الجيشَين تصطفّ في شكل خطوط قتاليّة، سيري في كلّ جيش سبعة خطوط، سيري خطّين في الجناح الأيمن، وخطّين في الجناح الأيسر، وثلاثة خطوط في القلب.
عيّن الإمام علي سلاح الفرسان في جيشه الصحابيَّ الكبير عمّار بن ياسر الذي لم تمنعه شيخوخته من الاشتراك في المعارك بحماس المؤمن المجاهد الذي لا يساوره الشكّ في عدالة قضيته.
وعيّن علي المشاة عبدالله بن بديل، ودفع الراية العظمي إلي هاشم بن عتبة المرقال.
وفي جيش معاوية كان عمرو بن العاص يقود سلاح الفرسان، أما مسلم بن عقبة الذي اشتُهر في التاريخ بمجرم بن عقبة.. فقد تصدّي لقيادة المشاة.
ولم يحدث اشتباك ذلك اليوم، ثمّ حدث اشتباك محدود في صباح اليوم الذي تلاه.
وخرج في يوم آخر عمّار بن ياسر يقود مجموعة من الفرسان، فتصدّي له عمرو بن العاص وفي يده راية سوداء وصاح:
هذا لواءٌ عقده رسول الله.
فعلّق الإمام قائلاً:
أنا أُخبركم بقصّة هذا اللواء: هذا لواء عقده رسول الله صلّي الله عليه وآله وقال: مَن يأخذه بحقّه؟ فقال عمرو: وما حقُّه يا رسول الله؟ قال: «لا تفرُّ به مِن كافر، ولا تقاتل به مسلماً».. ولقد فرّ به من الكافرين في حياة رسول الله، وقد قاتل به المسلمين اليوم.
وخرج عبدالله بن بديل وكان من أفاضل أصحاب الإمام يقود مجموعة من فرسان العراق، فانبري إليه أبو الأعور السلميّ في مثل ذلك من أهل الشام وجرت معارك بين الفريقَين، وفي تلك اللحظات والاشتباكات مستمرة قام عبدالله بحركة جريئة إذ ألهب ظهر حصانه بالسوط وشنّ هجوماً صاعقاً مخترقاً خطوط العدو ولم يتمكّن أحد من اعتراضه.. وكان هدفه اقتحام مقرّ القيادة؛ حتّي إذا وصل قريباً منها تعرّض إلي عشرات الصخور فسقط شهيداً.. ولقد أثار هجومه الجريء إعجاب الجميع بما في ذلك معاوية نفسه، إذ قال وهو يقف متأملاً جثمانه الطاهر:
هذا كبْش القوم.

فروسية

عرض الإمام عليّ عليه السّلام علي معاوية وقد آلمه سقوط القتلي من الفريقين قائلاً: لِمَ نقتُل الناس بيني وبينك؟ ابرز إليّ.. فأيّنا قتل صاحبه تولّي الأمر.
واستشار معاوية ابن العاص:
ما تري؟
قال ابن العاص بخبث:
قد أنصفك الرجل.
فقال معاوية بحقد:
أتخدعني عن نفسي، ولِمَ أبرز إليه ودوني «عكّ والأشعرون».
لقد كان معاوية يدرك تماماً بأنّ مواجهة عليّ عليه السّلام تعني مواجهة الموت الأحمر المحتوم.
ويبدو أن معاوية قد أزعجه موقف ابن العاص وشكّك في نواياه تجاهه، ولم يجد عمرو بدّاً ومن أجل إعادة المياه إلي مجاريها من أن يقول لمعاوية بعد أيام من البرود في العلاقات:
سأخرج إلي عليّ غداً.
كان عمرو قد أعدّ عُدّته، وكان يعرف نقطة في خصمه العظيم. إنّها تكمن في مجده الأخلاقي الذي يستمدّه من معلّمه الأول.. وبرز عمرو بن العاص متحدّياً علياً:
يا أبا الحسن، أُخرُج إليّ أنا عمرو بن العاص..
وخرج بطل الإسلام، وقد تألّق ذو الفقار في قبضة الفارس الذي لا يُهزَم؛ وما أسرع أن زجّ ابن العاص بسلاحه السرّي! فكشف عن عورته وأظهر سوأته، ونجا من الموت المحقَّق!
وفرّ عمرو مذعوراً، وربّما مسروراً.
وتلقّي معاوية قائد فرسانه! بلهجة فيها تهكّم وسخرية قائلاً:
إحمَدِ اللهَ وسوداءَ إستك يا عمرو!!.

بدء الحرب الشاملة

تصاعدت حِدّة المعارك بين الفريقَين، وسري شعور بالرهبة بعد أن أُشيع عن نيّة الإمام في بدء الهجوم العام، فقد خطب عشيّة الهجوم قائلاً:
ألا إنّكم ملاقو القوم غداً بجميع الناس، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثِروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والعفو، والقوهم بالجدّ..».
وفي الجانب الآخر ضاعف معاوية رواتب قبائل عكّ والأشعرين التي أقسمت علي الصمود حتّي النفس الأخير.
أدّي الإمام صلاة الفجر في لحظاته الأولي وقام بجولة لاستطلاع كتائب العدو، وأجري تغييرات في صفوف قوّاته. ولأوّل مرّة منذ اندلاع المعارك قاد الإمام سلاح الفرسان المؤلَّف من اثني عشر ألف مقاتل في هجومٍ مدمّر، ودوّت في الفضاء هتافات: أللهُ أكبر.. وارتجّت الأرض تحت أقدام المحاربين.. وكانت خطّة الهجوم تقضي بالاندفاع الكاسح حتّي مركز القيادة، وقد تمكّن المهاجمون من تمزيق صفوف العدوّ، حتّي أن معاوية أمر بتجهيز فَرَسه للفرار بعد أن جرت الاشتباكات قريباً منه.
واستمرّت المعارك حتّي الليل، وقد أسفرت الاشتباكات العنيفة عن سقوط عشرات القتلي والجرحي؛ وفي طليعتهم الصحابيّ البطل عمار بن ياسر.
وفي صباح اليوم التالي استمر وقف القتال؛ لانتشال جثث القتلي ومواراتهم الثري.
وفي عشية ذلك اليوم خطب الإمام أيضاً حاثّاً قوّاته علي الاستبسال:
أيّها الناس، اغدُوا علي مصافّكم، وازحفوا إلي عدوّكم، غُضّوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقِلّوا الكلام، واثبتوا، واذكُروا الله كثيراً، ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب رِيحُكم واصبِروا إنّ الله مع الصابرين.
وفي اليوم التالي اشتبكت الفيالق في ملحمةٍ عظيمة، واندفع الجناح الأيسر في جيش الشام في هجوم عنيف لم يصمد له الجناح الأيمن في جيش الإمام، فأمر الإمام أحد قادته بإسناد الجناح الأيمن، ودارت معارك رهيبة، وكلّف الإمام قائده الشجاع الأشتر بإعادة قطعاته إلي مواقعها، فنجح في مهمته بعد أن قاد هجوماً جريئاً أجبر فيه العدوّ علي التراجع.
كان الوقت أصيلاً عندما هدأت حدّة القتال.. وجاء الإمام فأنّب قوّاته في الجناح الأيمن علي تقهقرهم في بدء المعركة، وأشاد باستعادتهم زمام المبادرة:
وقد رأيتُ جَولتكم، وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجُفاة الطغام وأعراب أهل الشام، وأنتم لَهاميم العرب، ويآفيخ الشرف، والأنف المقدَّم، والسِنام الأعظم، ولقد شفي وحاوحَ صدري أن رأيتُكم بأَخَرَة تحوزونهم كما حازوكم، وتُزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم حسّاً بالنصال، وشَجراً بالرماح، تركب أُولاهم أُخراهم كالإبل الهيم المطرودة تُرمي عن حياضها وتُذادُ عن مواردها!.
واشتعلت المعركة مرّة أُخري، وعندما كانت الشمس تجنح للمغيب قاد الإمام بنفسه قوّاته في هجومٍ كاسح، وكان هدفه احتلال مركز قيادة العدو، كان معاوية يراقب المعركة بذُعر وهو يري تقدّم المهاجمين، فاستشار عَمرَو بن العاص قائلاً:
ما تري؟
أجاب ابن العاص:
أري أن تُخلي سرادقك.
وانسحب معاوية إلي مكان أكثر أمناً.
وما هي إلاّ لحظات حتّي وصل الإمام ومعه قوّاته فأطبقوا علي مركز القيادة وحوّلوه إلي أنقاض، وغمر الأرضَ الظلام.. فتوقّفت المعارك.
وجيء إلي الإمام بأحد الأسري، فقال الأسير متضرّعاً:
لا تقتلني صَبراً.
فقال الإمام:
لا أقتلك صبراً، إني أخاف الله رب العالمين.
وأردف وهو يحاول إضاءة قنديلٍ في قلب أسيره:
خَلّوا سبيله …
وانطلق الأسير وقد هزّته المفاجأة.

الموت من أجل الخلود

اشتعلت المعارك مرّة أخري، وكانت كفّة النصر تميل إلي جانب الحق، وشوهد الإمام وهو يقاتل ببسالة، وكانت أقوي ضرباته بعد مصرع عمار بن ياسر.
وهتف الإمام: مَن يُبايعني علي الموت؟
فتقدّم العشرات يبايعون الإمام علي الموت الأحمر من أجل خلودٍ أخضر، حتّي وصل عددهم تسعاً وتسعين..
فقال الإمام وهو يترقب تحقّق نُبوءة ابن عمّه العظيم:
أين تمام المئة؟ أين الذي وُعِدتُ به؟
وجاء رجل عليه أطمارُ صوف.. كان محلوقَ الرأس لَكأنّه عاد توّاً من حجّ البيت العتيق.. تقدّم فبايع الإمام علي الموت قتلاً..
فسأله الإمام عن هويّته، فأجاب: أنا أُوَيس القرَنَي.

الليلة الطويلة

وصلت الحرب إلي أخطر منعطفاتها، وألقي الإمام خطاباً يزخر حماسة وإيماناً جاء فيه:
معاشر المسلمين، استشعِروا الخشية.. وتَجلبَبوا السَّكينة، وعُضّوا علي النواجذ، فإنّه أنبي للسيوف عن الهام.. وأكملوا اللأمة.. وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سَلها … واعْلَموا أنّكم بعين الله، ومع ابن عم رسول الله؛ فعاودوا الكَرّ، واستَحْيوا من الفرّ، فإنّه عارٌ في الأعقاب، ونارٌ يوم الحساب.. وطِيبوا عن أنفُسكم نَفْساً، وامشوا إلي الموت مَشياً سُجُجاً..
ومرّة أخري أكّد الإمام هدف الهجوم القادم:
وعليكم بهذا السواد الأعظم، والرواق المطنّب؛ فاضرِبوا ثَبَجَهُ، فإنّ الشيطان كامن في كِسْره، وقد قَدّم للوثبة يداً وأخّر للنُّكوص رِجلاً، فحمداً حمداً! حتّي ينجلي لكم عمود الحقّ وأنتمُ الأعلَوْن واللهُ معكم ولن يَتِرَكُم أعمالَكم.
وفي غَبَش الفجر بدأ الهجوم الشامل، وتزلزلت خطوط الدفاع في جيوش الشام، وكان الإمام قد خرج في أجمل منظر.. فقد ركب فرساً للنبيّ يُسمّي «الريح»، وقدّم بين يديه بغلة النبيّ «الشهباء»، وارتدي عِمامة رسول الله، وتوهّجت في أذهان المؤمنين ذكريات مضيئة لرسول السماء. وها هو عليّ يقودهم في ذات الطريق التي سار عليها نبيُّهم العظيم.
واستبدّ بمعاوية الهَلَع وهو يري تقهقرَ قوّاته تحت ضربات المهاجمين، وأمسك بزِمام فرسه وقد قفز قلبه إلي حُنجرته وراح يدقّ بعنف كطبل مجنون..
ولم تُفلح أوامر معاوية ولا صيحاته بعمرو أن يقدّم قبائل «عك الأشعرين» في تغيير الموقف.
واستمرت المعارك ستّاً وثلاثين ساعة لا يُسمَع فيها سوي «الهرير»، وبين الفَيْنة والأخري كانت تدوّي هتافات عليّ: الله أكبر.. حتّي بلغت أكثرَ من خمسمئة.
ولم تُفلح مساعي معاوية في وقف القتال وتوقيع هدنة مؤّقتة..
وإلي جانب معاوية وقف الرجل الذي باع آخرته بدنيا غيره.. كان يفكّر فقُتِل كيف فَكّر، ثمّ قُتِل كيف فكّر..
التفت معاوية إلي صاحبه وقد استبدَّ به يأس قاتل:
ما تري؟.. فإنّما هو يومُنا هذا وليلتنا هذه!
وهنا نفث الشيطان فقال وهو يعرف كيف يطعن في الخاصرة:
إنّي أعددتُ حيلةً ادّخرتُها لمِثل هذا اليوم.
قال معاوية متلهفاً:
ما هي؟!
تدعوهم إلي كتاب الله حَكَماً بينك وبينهم..
وأضاف بمكر:
فإن قبلوه اختلفوا، وإن ردّوه تفرّقوا.
واتّسعت عينا معاوية دهشة وأصبَحَتا أكثر جُحوظاً.
وعلي وجه السرعة جُمعت المصاحف في واحدة من أكبر المهازل في التاريخ..
وظهر مصحف دمشق الأعظم تحمله خمسة رماح طويلة.

مهزلة التحكيم

كان لظهور المصاحف علي الرماح الأثر البالغ في شلّ العمليات الحربية، وبدأت كلمات الاستنكار تشقّ طريقها ترشق الذين يريدون للحرب أن تستمرّ، وما أسرع أن ظهر تيّارٌ عنيف يدعو إلي وقف القتال فوراً، وحدث انشقاقٌ خطير في صفوف جيش الخلافة، ما لبث أن تحوّل إلي كُتلة عسكرية تهدّد وتتوعد القيادة العليا.
وبذل الإمام قُصاري جهده في توضيح خفايا «اللعبة» قائلاً:
عباد الله! امضُوا علي حقّكم وصِدقكم في قتال عدوكم، فإنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي مُعَيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحّاك بن قيس.. ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن..
أنا أعرَفُ بهم منكم.. قد صحبتُهم أطفالاً، وصحبتهم رِجالاً، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رِجال..
وَيْحَكم! إنّهم ما رفعوها لكم إلاّ خدعة ومكيدة!».
غير أنّ الذين لا يُدركون من الأمور إلاّ مظاهرها الفارغة قد جعلوا أصابعهم في آذانهم وأصمّوا أسماعهم، وازدادوا عُنفاً وشَراسة، فأحدقوا بالإمام وقد برق الشرّ في عيونهم.
وقد حدث تماسك مدهش في صفوف أهل الشام اثر ارتفاع ذلك الشِّعار البرّاق … في مقابل تمزّق مريع في جيش الإمام.
كان الجناح الأيمن بقيادة مالك الأشتر ما يزال يقاتل بضراوة ويتقدّم نحو إحراز النصر النهائي في خُطي واسعة، ولكنّ التصدّع كان قد عمّ جبهة الإمام ممّا أنذر بوقوع انهيارٍ عام؛ ومن تلك اللحظات المثيرة بدأت مأساة الإسلام وانهيار الحضارة.
وازدادت الأمور سوءً بعد أن أصبح الإمام وسط تلك الطُغمة من الحمقي، وبات علي القائد الأعلي للقوّات المسلحة أن يستجيب إلي مواقفهم، وها هو الإمام يتعجّب من ذلك فيقول:
لقد أصبحت الأُمم تخاف ظُلمَ رُعاتها؛ وأصبحتُ أخاف ظلم رعيتي!
ومن تلك اللحظة شعر الإمام بأنّ الباطل سوف يكسب الجولة إلي حين:
أما والذي نفسي بيده: ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولي بالحق منكم، ولكنْ لإسراعهم إلي باطل صاحبهم، وإبطائِكم عن حقّي..».
وأخد تيّار التمرّد يتصاعد بشكل مخيف ليُنذر بوقوع كارثة بعد أن أُطلقت تهديدات بقتل الإمام إذا لم يُصدر أوامره إلي الأشتر بوقف العمليّات الحربيّة والانسحاب فوراً.
وهكذا توقّفت المعارك في صفّين.. ونشطت الوفود للإعداد من أجل توقيع وثيقة التحكيم.

التاريخ يعيد نفسه

يعيد التاريخ نفسه أحياناً، فتظهر الحوادث وكأنّها قد انبعثت من جديد، حتّي في بعض التفاصيل.. لقد وضعت الحرب أوزارها في صِفّين، وبدأ الإعداد لتوقيع وثيقة سلامٍ بين الفريقَين المتصارعَين؛ وهنا يُطلّ التاريخ ليُعيد ذكريات صلح قديم بين الإسلام والوثنيّة، في وادي الحُديبية قريباً من مكّة المكرّمة.
فيومئذ أرسل أبو سفيان سُهيل بن عمرو ممثّلاً للوثنية لتوقيع معاهدة سلام مع النبيّ صلّي الله عليه وآله؛ واليوم بعث معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص ممثّلاً للقاسطين لتوقيع هُدنة مع وصيّ النبيّ وأوّل من أسلم من الرجال.
جاء عمرو ودخل خيمة الإمام، وبدأ الكاتب في تحرير وثيقة التحكيم فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما تقاضي عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.
وهنا تدخّل عمرو بن العاص معترضاً علي الكاتب:
هو أميرُكم.. أمّا أميرنا فلا.. بل اكتُب اسمه واسم ابيه.
وتردّد الوفد العراقي وأُصيب بما يشبه اللوعة. قال الأحنف بن قيس: لا تمحوا أمير المؤمنين.. يا أمير المؤمنين.
فقال عليّ عليه السّلام: الله أكبر، سُنّةً بسُنّة رسول الله.. واللهِ إنّي لكاتب رسول الله صلّي الله عليه وآله يوم الحديبية. فكتب محمّد رسول الله، فقالوا: لستَ برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم ابيك. فأمرني رسول الله أن أمحوها فقلتُ: لا أستطيع، فمحاها بيده.. ثمّ قال لي: إنّك ستُدعي إلي مثلها فتُجيب.
وتناول الإمام وثيقة التحكيم ومحا عبارة أمير المؤمنين منها..
فقال عمرو بخبث:
سُبحان الله! أتُشبّهُنا بالكفّار ونحن مؤمنون!.
فقال عليّ بغضب:
يا ابن النابغة! ومتي لم تكن للفاسقين وليّاً وللمؤمنين عدوّاً؟!
فنهض ابن العاص منزعجاً:
واللهِ لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم.
أجاب الإمام:
إنّي لأرجو أن يطهّر الله مجلسي منك ومن أشباهك.
وهكذا حُرّرت وثيقة التحكيم.

الاربعاء (13 صفر سنة 38 ه) مصرع حضارة

هل كان الأشعث يمثّل نفسيّة مجتمعٍ لم يعد يستسيغ عدل عليّ صلوات الله عليه لكي يظهر بكلّ هذه القوّة فيقف في وجه عليّ؟
هل كان الأشعث يمثل إرادة أُمّةٍ أخلدت إلي الأرض وكانت تنظر إلي السماء فإذا بها تجعل من معاوية نِدّاً لعليّ؟ها هو عليّ يجلس في خيمته ليوقع وثيقة التحكيم:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما تقاضي عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.. قاضي عليّ علي أهل العراق ومَن معهم وقاضي معاوية علي أهل الشام ومن معهم..
إنّنا ننزل عند حُكم الله وكتابه.. فنُحيي ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وجد الحَكَمان في كتاب الله وهما أبو موسي الأشعري عبدالله بن قيس، وعمرو بن العاص عَمِلا به، وما لم يجدا في كتاب الله فالسُنّة العادلة.
وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن الجندَين المواثيق أنّهما أمينان علي أنفسهما وأهلهما، والأمّة أنصار علي الذي يتقاضيان عليه، وأجّلا القضاء إلي شهر رمضان من هذه السنة، وإن أحبّا أن يُؤخّراه أخّراه.

كتب في يوم الأربعاء (13 صفر سنة 38 ه)

وبعد توقيع الوثيقة انسحبت الجيوش، وعاد عليّ إلي الكوفة، ورفضت بعض الفصائل دخول الكوفة و «خرجت» عن طاعة الإمام.
ومنذ تلك اللحظة وعليّ يتلقّي الطعنات المسمومة.. فيتأوّه وحيداً.

الكارثة

اجتمع الحكمان في «دومة الجندل» التي اختيرت جغرافياً كمكان وسط بين «العراق والشام» بين عليّ ومعاوية، فاختارها «التاريخ» ليمسك بالحضارة الإسلاميّة ويقذفها باتجاه المأساة.
فما بين «صفّين» و «دومة الجندل» انفجرت كلُّ أسباب النكبة في حضارة الإسلام، وظهرت للعيان دمامل الجسد الإسلاميّ بعد أن ظلّت مستورة مدّة ربع قرن أو تزيد.
سوف لا نواكب مسار المفاوضات بين عمرو بن العاص وأبي موسي الأشعري، لأنّ أيَّ تأملٍ عابر في شخصيّة الرجلَين سوف يكشف بوضوح تامّ ما أسفرت عنه المباحات التي لعبت فيها الأهواء والمطامع الدور الأول والأخير في تحديد النتيجة.
لقد أُجبر الإمام علي انتخاب الأشعريّ كممثّل له، كما أُجبر من قَبْلُ علي وقف القتال والحقُّ علي أبواب النصر الساحق؛ ومراجعة بسيطة لتاريخ الأشعريّ تكشف عن مدي الحقد الذي يُكنّه هذا الرجل للإمام.
إنّ أحداثاً كبري ووقائع مزلزلة وملابسات لا حدّ لها.. هي التي أدّت إلي وقف القتال وبدء سلسلة من المآسي انتهت بمصرع الإمام علي عليه السّلام علي ذلك النحو المؤسف، وإلي تنازل الإمام الحسن عن الحكم ومن ثَمّ استيلاء معاوية علي دفّة الأمور في الدولة الإسلاميّة.
وإذا كان الأشعث قد تصدّر الأحداث في تلك الحقبة من الزمن، ولعب دوراً في تصدّع جبهة قوّات الإمام وإحداث انهيار في الأوضاع لصالح معاوية، فإنّ ذلك لا يدلّ علي قابليّات ذاتيّة بقدْر ما يدلّ علي مُجمل التغيّرات النفسيّة والفكريّة والاجتماعيّة التي طبعت عصر الإمام.

رياح الزمهرير

شهدت دُومةُ الجَندَل بدءَ المباحثات السرّية بين عقليّتَين: ماكرة وغبيّة، تتحرّكان في اطار دُنيويّ رخيص، وقد وضح منذ البداية أنّهما وضعا كتاب الله فوق الرفّ. فممثّل أهل الشام يتحرّك باتجاه مصر، يريد ابتلاعها كجزء من الأسلاب؛ وأبو موسي كان يتحرّك باتّجاه صهره علي ابنته ليكون «خليفة للمسلمين»، وهكذا اجتمعت الإرادتان علي إقصاء عليّ، كما أُقصي عن حقه من قبل.
لم يواجه عمرو بن العاص داهية العرب أيّة صعوبة في احتواء عقليّة أبي موسي الفارغة، وقيادته باتّجاه النقطة التي يريد. لقد أدرك ابنُ العاص كيف يتغلغل في أعماق صاحبه ويأخذ بناصيته. وبدأ سير المحادثات كما وصفها أحد المؤرخين:
عمرو بن العاص يتفنّن في إبراز الإجلال لابي موسي فيقول:
صحبتَ رسول الله قبلي، وأنت أكبر سنّاً مني..
قال الأشعري وهو يدخل في صُلب الموضوع:
يا عمرو! هل لك فيما فيه صلاح الأمّة ورضي الله؟
ما هو؟
نولّي عبدالله بن عمر، فإنّه لم يُدخِل نفسه في شيء من هذه الحروب.
قال عمرو بخبث:
أين أنت من معاوية؟
ما معاوية موضعاً لها، ولا يستحقّها بشيءٍ من الأمور.
ألستَ تعلم أن عثمان قُتِل مظلوماً؟
بلي.
فإنّ معاوية وليّ عثمان، وبيته بَعْدُ في قريش ما قد علمتَ، فإن قال الناس: لمَ ولّي الأمر وليست له سابقة؟ فإنّ لك في ذلك عذراً تقول: إنّي وجدته وليَّ عثمان والله تعالي يقول: ومَن قُتِل مظلوماً فقد جَعَلْنا لوليّه سُلطاناً.. وهو مع هذا أخو أمّ حبيبة زوج النبيّ.. وهو أحد أصحابه..
أجاب أبو موسي:
اتّق الله يا عمرو.. أمّا ما ذكرتَ من شرف معاوية، فلو كان يستوجب بالشرف الخلافة، فكان أحقّ الناس بها أبرهة بن الصباح؛ فإنّه من أبناء ملوك اليمن التبابعة الذين ملكوا شرق الأرض وغربها.. ثمّ أيّ شرف لمعاوية مع عليّ بن أبي طالب؟! وأمّا قولك أنّ معاوية وليّ عثمان فأولي منه ابنه عمرو (ابن عثمان)، ولكن إن طاوعتَني أحيَيْنا سنّة عمر بن الخطاب وذِكره بتوليتنا ابنه عبدالله الحَبر..
وهنا ينبري ابن العاص ليدفعه بالاتّجاه البعيد:
فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته؟
إنّ ابنك رجلُ صِدق، ولكنّك قد غَمستَه في هذه الحروب غمساً.. هلمّ نجعلها للطيّب بن الطيّب عبدالله بن عمر.
يا أبا موسي، إنّه لا يصلح لهذا الأمر إلاّ رجلٌ له ضرسان.. يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر.
ويحك يا عمرو! إنّ المسلمين قد أسندوا إلينا أمراً بعد أن تقارعوا بالسيوف وتشاكّوا بالرماح، فلا نردّهم في فتنة.
وتظاهر عمرو بن العاص بأنّه يبحث عن حلّ:
فما تري؟
قال الأشعري:
أري أن نخلع هذين الرجلَين عليّاً ومعاوية، ثمّ نجعلها شوري بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من أحبّوا.
وكاد عمرو أن يصفّق فرحاً، فتظاهر بصمت المغلوب:
رضيتُ بذلك.. وهو الرأي الذي فيه صلاح الناس.
وبالرغم من كلّ التحذيرات حول مكر ابن العاص وغدره، ولكنّ الأشعري كان قد أصمّ أُذنيه عن سماع أيّة نصيحة.
وفي يوم شتائيّ والريح تعوي في الصحراء، تقدّم الأشعري ليرقي المنبر ويُعلن ما اتّفق عليه الحكمان؛ إنّ اللحظة التي ارتقي فيها الأشعري المنبر ليخلع عليّاً هي لحظة رهيبة، عوت فيها ريح الشتاء، وقد انقضّ قابيل علي أخيه، ودلّ الاسخريوطي فيها علي ابن مريم.
وفرّ أبو موسي إلي مكّة يحمل معه عار الأبد وسبّة الدهر؛ وعاد عمرو بن العاص إلي دمشق ليسلّم علي «صاحبه» بالخلافة.

غارات الشتاء

ومن تلك اللحظة بدأت حالة التداعي لأُمّة فقدت صوابها، فهي تتخبّط في طريق الهاوية. ولم يتمكّن الإمام من وقف حالة التداعي التي عصفت بالامّة بعد أن فقدت وعيها وبصيرتها؛ لنُصغي إلي ما يقوله الإمام عليه السّلام في ذلك المقطع التاريخيّ المهمّ:
كم أُداريكم كما تُداري البِكارُ العمدة، والثياب المُتداعية، كلّما حِيصت من جانبٍ تهتّكت من آخر.. الذليلُ واللهِ من نصرتموه.
والإمام يدرك الطريق الذي يُصلح هذا القطيع، ولكن:
وإنّي لعالمٌ بما يُصلحكم ويُقيم أَوْدكم.. ولكن لا أري إصلاحكم بإفساد نفسي.

موقف الإمام

تلقّي الإمام بحزن مريرٍ أنباء «دُومة الجَندل»، وهنا يقف أمير المؤمنين موقف التسليم الكامل لإرادة الله، فالحياة رحلة إلي الله:
الحمد لله وإن أتي الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليلٍ.. وأشهد أن لا إله إلاّ الله لا شريك له ليس معه إله غيره.. وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّي الله عليه وآله.
أمّا بعد..
فإنّ معصية الناصح الشفيق العالم المجرّب تُورِث الحسرة وتُعقِب الندامة..
وقد كنتُ أمرتُكم في هذه الحكومة أمري..
ونخلت لكم مخزون رأيي؛ لو كان يُطاع لقصير أمر؛ فأبيتُم علَيَّ إباء المخالفين الجُفاة، والمنابذين العُصاة. حتّي ارتاب الناصح بنصحه، وضنَّ الزند بقدحه، فكنتُ وإيّاكم كما قال أخو هوازن:
فلم تستبينوا النُّصحَ إلاّ ضُحي الغدِ
أمرتُكُمُ أمري بمُنعرَجِ اللِّوي

الخوارج

لقد استيقظ الخوارج ولكن في ضُحي الغد، وكانت يقظتهم عنيفةً مجنونة مدمّرة، وانطلقت صيحاتهم تهزّ دنيا الإسلام تريد اجتثاث شجرته من الجذور:
لا حُكم إلاّ لله!!
وبدأت العاصفة تزمجر لتُطيح بالصرح الإسلاميّ بأسْره، وانبري الإمام ليفقأ عين الفتنة، ويوقف حالة التداعي، ويفضح شعارهم الذي تحوّل إلي وَثَن تُذبح عنده الضحايا؛ قال الإمام عليه السّلام:
كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل! نَعَم إنّه لا حُكم إلاّ لله، ولكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة إلاّ لله، وإنّه لابُدّ للناس من أميرٍ بَرٍّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمنُ، ويستمتع فيها الكافر، ويُبلِّغ اللهُ فيها الأجل، ويُجمَع به الفَيء، ويُقاتَل به العدوّ، وتأمَنُ به السبل، ويُؤخّذ به للضعيف من القويّ، حتّي يستريح بَرّ، ويُستراح من فاجر».

العودة إلي صفين

أدان الإمام موقف الحكمَين، واعتبر ذلك منافياً للإسلام، وبدأ يتأهّب للعودة إلي صفين حيث انفجر الصراع من قبل.
وفيما كان الإمام يُعبّئ قوّاته لاستئناف الحرب بدأ الخوارج تحرّكهم، وتعدّوا نطاق التنديد بالتحكيم والخلافة ونظريّة القيادة وانتقلوا إلي دائرة التخريب، وأعلنوا حرباً شعواء علي كلّ من لا يُوافقهم آراءهم، وبدأوا يشكّلون خطراً داهماً لا يقلّ عن خطر العدوّ المتربّص في دمشق.
وكان من رأي الإمام تأجيل مشكلة الخوارج إلي ما بعد تصفية الحساب مع معاوية، ولكنّ الأنباء المثيرة التي وصلت حول الفظائع التي ينفّذها الخوارج غيّرت من مسار الأحداث إلي نقطة انهيار دامية، ومرّة أخري حاول الإمام أن يتفادي الاصطدام بهم، وأرسل إليهم يدعوهم للالتحاق لمحاربة العدوّ المشترك.
ووصل الحوار معهم إلي طريق مسدود، وكان لابدّ من مواجهتهم بعد أن استباحوا أمن المجتمع الإسلاميّ، وهكذا غيرت الجيوش طريقها باتجاه النهروان حيث عسكر الخوراج.
وحاورهم الإمام بنفسه وتمكّن من اقناع قطاع كبير منهم أعلن توبته وعودته إلي دائرة الشرعيّة، فيما أصرّ أربعة آلاف منهم علي القتال.
ووقف الإمام يوجّه لهم انذاره النهائي:
فأنا نذيرٌ لكم أن تُصبحوا سرعي بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، علي غير بيّنةٍ من ربكم، ولا سُلطانٍ مُبين معكم: قد طوّحَتْ بكم الدارُ، واحتَبَلَكُم المِقدارُ، وقد كنتُ نهيتُكم عن هذه الحُكومة فأَبَيْتُم علَيَّ إباءَ المُنابِذين، حتّي صرفتُ رأيي إلي هواكم؛ وأنتم مَعاشِرُ أخفّاءُ الهام، سُفَهاء الأحلام.
واشتعلت المعركة عند جسر «النَّهْرَوان» وكانت النتيجة مذهلة، فقد أُبيد المارقون إلاّ تسعة نفر فرّوا من ساحة المعركة، ولم يُستشهَد من جيش الإمام سوي تسعة نفر.
وعندما قال أحدهم:
يا أمير المؤمنين، هلك القوم بأجمعهم!
أجاب الإمام وهو ينظر إلي المدي البعيد:
كلاّ.. واللهِ إنّهم نُطَف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلّما نَجَمَ منهم قَرنٌ قُطِع، حتّي يكون آخرُهم لُصوصاً سَلاّبين.
وبالرغم من تكفيرهم للإمام فإنّه أوصي الأمّة بعدم قتالهم بعده مشيراً إلي مصدر الخطر الداهم:
لا تُقاتلوا الخوارج بعدي، فليس مَن طلب الحقَّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه.
كان الإمام يتحرّك في ضوء النور المنبعث من أعماق السماء، النور الذي أضاء فوق جبل حِراء، ولم يكن لَيَأْبه إلي ما يعدّه المنجّمون من خرائط للسماء، فَلْتقترن الكواكب كيف تشاء، ولْينكفئ الميزان، ولتنقدح الأبراج بالنيران، فطريق عليّ هو طريق الإسلام وطريق الرسالة.

غارات الزمهرير

ذرّ الشيطان قرنَيه فراح يعربد ويدمّر..ها هي عواصف الزمهرير تهبّ من جهة الشام حيث جثم القاسطون علي أرض الإسلام؛ لقد أخلد الذين آمنوا إلي الأرض، ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً.
ومن هنا بدأت تأوّهات الإمام وهو يعيش في زمن جائر.
بدأت غارات الزمهرير، والإمام يقاوم العواصف وحيداً، لقد أخلدت الأمّة إلي الأرض، وها هي الحضارة تتجه نحو الهاوية كشمسٍ تجنح للمغيب في يومٍ شتائي.
سقطت مصر في قبضة ابن العاص، وقد أنشب معاوية مخالبه في أهلها وثرائها.
وهكذا توالت الغارات، تعصف بالمدن والحواضر الإسلاميّة كريحٍ مجنونة منذ أن حكم الحَكَمان بما خالف كتاب الله وسنّة رسوله.
لنُصغي إلي الإمام عليّ عليه السّلام وهو يشهد تلك الجرائم فلا يجد له ناصراً..ها هو يواجه الأمة وقد دكّت خيولُ الغارات الأنبار وهيت:
ألا وأنّي دَعَوتُكم إلي قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسرّاً وإعلاناً، وقلتُ لكم: اغزُوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزِي قوم في عقر دارهم إلاّ ذلّوا.. فتواكلتم وتخاذلتم حتّي شُنّت عليكم الغارات، ومُلكت عليكم الأوطان.
وهذا أخو غامد وقد وردتْ خيلُه الانبار، وقد قَتَل حسان بن حسان البكري، وأزال خيلَكم عن مسالحها.. ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل علي المرأة المسلمة والأخري المعاهدة، فينتزع حِجلها وقُلبها وقلائدها ورُعُثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام، ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كَلْم، ولا أُريق لهم دم، فلو أن امرءً مسلماً مات مِن بعد هذا أَسَفاً ما كان به مَلوماً، بل كان عندي جديراً.
ثمّ يُعرِب الإمام عن عمق دهشته إزاء هذه الحالة المريرة التي وصلت إليها الأمّة:
«فياعجباً!.. عجباً.. واللهِ يُميت القلب ويَجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم علي باطلهم، وتفرّقكم عن حقّكم، فقُبحاً لكم وتَرَحاً حين صِرتُم غَرَضاً يُرمي.. يُغار عليكم ولا تُغيرون، وتُغزَون ولا تَغْزُون، ويُعصي الله وترضَون!..
وهنا تبلغ الآلام ذروتها فينفجر القلب الكبير ويتشظّي حِمماً، فيخاطب الضميرَ النائم بلهجة كلّها غضب:
«يا أشباهَ الرجال ولا رجالَ! حُلومُ الأطفال.. وعقولُ رَبّات الحِجال، لَوَدِدتُ أنّي لم أَرَكم ولم أعرفكم؛ معرفةً واللهِ جَرَّت ندماً، وأعقبَتْ سَأَماً … قاتَلَكُم الله! لقد ملأتُم قلبي قَيْحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نُغَبَ التَّهْمام أنفاساً … ».
ثمّ يعبّر عن مظلوميّته وضياع عقله الكبير وسط نقيق الحمقي، فيقول:
وأفسدتُم علَيَّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتّي لقد قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا عِلم له بالحرب: للهِ أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدُّ لها مِراساً.. وأقدمُ فيها مقاماً مني! لقد نهضتُ فيها وما بلغت العشرين، وهأ أنا ذا قد ذَرَّفت علي الستّين.. ولكن لا رأيَ لمِن لا يُطاع.
وها هو الإمام يقف حائراً، يتساءل عمّا ألمّ بالأُمّة، بينما الضحّاك بن قيس يُغير علي قوافل الحجيج في الشهر الحرام.. ليبُثّ الرعب في أيامٍ أرادها الله أن تكون مُفعمة بالسلام:
أيّها الناس المجتمعةُ أبدانُهم.. المختلفةُ أهواؤهم؛ كلامكم يُوهي الصُّمَّ الصِّلاب، وفِعلكم يُطمع فيكم الأعداء!
تقولون في المجالس كَيتَ وكيت، فإذا جاء القتال قُلتم حِيدي حياد! ما عزّت دعوةُ من دعاكم، ولا استراح قلبُ من قاساكم، أعاليلُ بأضاليل، وسألتموني التطويل، دفاع ذي الدَّين المَطُول … ».
وتنفجر تساؤلات الإمام المظلوم:
لا يمنع الضيم الذلول:.. ولا يُدرَك الحق إلاّ بالجدّ!.. أيَّ دارٍ بعد داركم تمنعون؟ ومع أيّ إمامٍ بعدي تقاتلون؟.. المغرور واللهِ مَن غررتموه.. ومَن فاز بكم فقد فاز واللهِ بالسهم الأخيب..
ومَن رمي بكم فقد رمي بأَفْوَقَ ناصل.. أصبحتُ والله لا أُصدّق قولكم؛ ولا أطمع في نصركم؛ ولا أوعد العدوّ بكم.. ما بالكم؟! ما دواؤكم؟! ما طبّكم؟!
وتبقي تساؤلات الإمام دون جواب؛ فيغضب من أجل الله ويحاول هزّ الضمير المثقَل بالخَدَر.. المصفَّد بأغلال الخوف.
ما بالكم؟! أمخرسون أنتم؟!
وجاءه جواب واهن:
يا أمير المؤمنين، إن سرتَ سِرنا معك!!
يا لهذه الأمّة؟! تطلب من إمامها أن يترك كلّ شيء ليتصدّي إلي الغارات هنا وهناك، بينما معاوية يربض في دمشق يخطّط كيف يقضم «تراث محمّد صلّي الله عليه وآله»:
ما بالكم لا سُدِّدتم لرُشد، ولا هُديتم لقَصد! أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟! وإنّما يخرج في مثل هذا رجلٌ ممّن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم، ولا ينبغي لي أن أدع الجُند والمصر وبيت المال وجِباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين، ثمّ أخرُج في كتيبة أتبع أخري … وإنّما أنا قطب الرَّحي تدور علَيّ وأنا بمكاني».
لقد بدأ عصر التيه وسوف تتيه أُمّة الإسلام كما تاه قوم موسي من قبل، تاهوا أربعين سنة، لنُصغِ إلي الإمام وهو يبشّر بالتيه والضياع لأُمّة لم تعرف قَدْر إمامها وراعيها، فتركته وحيداً في مواجهة القاسطين!
أيّها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحقّ، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم مَن ليس مثلكم، ولم يَقوَ من قَوِيَ عليكم.. لكنّكم تهتم متاه بني إسرائيل..
ولعمري لَيُضعّفنّ لكم التِّيهُ من بعدي أضعافاً بما خَلّفتُم الحقّ وراء ظهوركم..».
وهكذا غطّت الأُمّة في نوم عميق، وضُرب علي آذانها فلم تعد تسمع كلمات سيد الأوصياء في التاريخ.
ها هو الإمام يستنهض فيهم بقايا الروح.. يدعوهم لمواجهة الزمهرير القادم من أرض الشام حيث ربض الشيطان.
ولكن لا شيء سوي صمت المقابر … وقام رجل ليقول:
ها أنا ذا وأخي، فمُرْنا بأمرك..
فيقول الإمام متأسفاً:
وأين تقعان ممّا أريد؟
بل لقد وصل الأمر أن دعاهم للجهاد وقد عصفت الغارات بالمدن وقُتِل نِسوةٌ وأطفال.. فلم يستجب أحد.. فأخذ الإمام سلاحه ومضي صوب النخيلة وحيداً!
ولكنّ عليّاً سلام الله عليه لم يكن الرجلَ الذي يخشي شيئاً حتّي لو ظلّ وحيداً، وها هي كلماته وهو يخاطب أخاه وقد خوّفه عواقب الطريق الذي سلكه دون مساومة أحد: «لا يزيدني كثرةُ الناس حولي عِزّة، ولا تفرّقهم عني وحشة، ولا تحسبنّ ابنَ ابيك ولو أسلمه الناس متضرّعاً متخشّعاً، ولا مُقرّاً للضيم واهناً».
وهو الذي قال مرّة:
«واللهِ لو تظاهرتِ العربُ علي قتالي لما ولّيتُ عنها».

الجمعة (12 رمضان سنة 40 ه)

أطلّ شهر رمضان بوجهه الكريم ليدخل الإنسان المؤمن عوالم الملكوت؛ رياح شباط تجوس خلال المدينة المشهورة بالغدر.
صام عليّ.. بدأ رحلته إلي الملكوت، يتضوّر جوعاً، الجسد الآدمي يذوب أمام سطوع الروح وهي تتوهّج كلّما اقتربت ليلة القدر.
ها هو عليّ يرتقي المنبر.. فكأنّه يتأهّب للرحيل.. كان يرتدي قميصاً من صوف.. في رجلَيه نعلان من ليف خَصَفَهما بنفسه.. جبينه يتألّق نوراً من أثر السجود.. حبس التاريخ أنفاسه وهو يُصغي إلي كلمات رجل علي وشك الرحيل:
«الحمد لله الذي إليه مصائر الخَلْق.. وعواقبُ الأمر..».
« … لم يُولَد سبحانه فيكون في العزّ مُشارَكاً.. ولم يَلِد فيكونَ موروثاً.. ولم يتقدّمه وقت ولا زمان … ».
ها هو يُذكِّر الناس بالرحيل … لقد أزِفَت الساعة:
أُوصيكم عِبادَ الله بتقوي الله الذي … ألبسكم الرِّياش، وأسبغ عليكم المَعاش؛ فلو أنّ أحداً يجد إلي البقاء سُلَّماً أو لدَفْع الموت سَبيلاً لكان ذلك سليمان بن داوود عليه السّلام؛ الذي سخّر له ملك الجن والإنس مع النبوّة وعظيم الزُّلفة، فلما استوفي طُعمتَه واستكمل مُدّته، رمته قِسيُّ الفَناء بنبِال الموت.. وأصبحت الديار منه خالية والمساكن مُعطّلَة، وورثها قومٌ آخرون، وإنّ لكم في القرون السالفة لعِبرة!..
وهنا يفجّر أسئلة التاريخ ليتساءل عن مصير حضارات سادت.. ثم بادت:
«أين العمالقة وأبناء العمالقة؟! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟ أين أصحاب مدائن الرَّسّ الذين قتلوا النبيين، وأطفأوا سُنن المرسلين، وأحيوا سُنن الجبّارين؟! … أين الذين ساروا بالجيوش، وهزموا بالألوف، وعسكروا العساكر، ومدّنوا المدائن؟!».
وها هو يُذكّرهم بأنّه وريث الأنبياء، وأنّه خير الأوصياء، فهل ينتظرون مَن هو أهدي سبيلا:
أيّها الناس، إنّي قد بثثتُ لكم المواعظ التي وَعظ الأنبياء بها أُممهم، وأديت إليكم ما أدّت الأوصياءُ إلي مَن بعدهم.. للهِ أنتم! أتتوقّعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويُرشدكم السبيل؟!».
لقد بدأ عصر الانحطاط في اللحظة التي هوي فيها الشهدا في «صفين»:
ألا إنّه قد أدبر مِن الدنيا ما كان مُقبلاً، وأقبل منها ما كان مُدبراً، وأزمع الترحال عبادُ الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقي، بكثيرٍ من الأخرة لا يفني.
ما ضرّ إخوانَنا الذين سُفِكت دماؤهم وهم بصفّين ألاّ يكونوا اليوم أحياءً؟ يُسيغون الغُصص ويشربون الرَّنْق!..
وكأنّ الإمام ينظر هنا وهناك يبحث عن إخوان له طوَوا معه الطريق إلي صفّين:
«أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا علي السحقّ؟
أين عمّار؟
وأين ابن التيِّهان؟
وأين ذو الشهادتَين؟
وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المَنيّة، وأُبْرِد برؤوسهم إلي الفَجَرة؟!».
وهنا يصل الإمام إلي ذروة التأثّر، فيضرب علي لحيته الكريمة.. ويستغرق في البكاء.. البكاء من أجل كلّ الذين رحلوا وجباههم مرفوعة، إلي الشمس، فتنبعث من أعماق قلبه الكسير آهة حرّي:
أوِّه علي إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفَرْض فأقاموه.. أحيوا السُنّة وأماتوا البِدعة.. دُعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه..
ثمّ أطلق صيحاته كأنّه يخاطب التاريخ والأجيال:
«الجهادَ الجهاد عباد الله!..
ألا وإنّي مُعسكِرٌ في يومي هذا؛ فمَن أراد الرواح إلي الله فليخرج!».

صفين.. هاجس العودة

سوف تبقي «صفّين» أرض التاريخ.. نقطة للحضارة وميداناً للصراع.. الصراع الخالد بين الخير والشرور.. وعلي الذين يريدون توجيه حضارة الإسلام من جديد أن يعودوا إلي صفّين؛ إلي خنادق الصراع.. خلف «القائد».
ها هو عليّ يطالب الأُمّة بالعودة إلي صفّين.. لتحطيم الأوثان البشرية.. لإحراق العِجْل.. وليشهد رمضان انتصار الروح.. انتصار محمّد من جديد.. وهزيمة أبناء الأحزاب …

ليالي البرد

رياح شباط الباردة ما تزال تجوس الأزقّة، وها هو خير الأوصياء في التاريخ.. يخطو باتّجاه الرحيل.. ليالي رمضان تتألّق بنورٍ عجيب لا تستمدّه من ضوء القمر.. والأسحار تزخر بالنجوم كقلوب واهنة تنبض من بعيد.. تراقب من أغوارها السحيقة إنساناً يحمل ميراث الأنبياء.
الرجل الذي طهّرته السماء، يمضي لياليه الأخيرة في بيوت أبنائه وبناته.. خاوي البطن، لا يُفطر إلاّ علي كسيرات من خبز.. الجسد البشري يذوب تحت وهج الروح العظيم …

الخميس (18 رمضان 40 ه)

أفَلَت شمس الخميس سريعاً كطبعها في أيام شباط.. نسائم باردة تهبّ من ناحية الشمال تُبشّر بليالي الزمهرير الطويلة؛ وكان الأُفق الغربي شاحباً فكأنّه يعلن عن غدٍ غائم.
السَّحَر ظلمات يتراكم بعضها فوق بعض.. والنجوم تشتدّ سطوعاً في سماء غارقة في الليل..
الإمام جالس في المحراب، قد أوهنه السهر والانتظار.. هوّمت عيناه.. ليلج عالماً آخر.. عالماً شفافاً.. تدفّق شلاّل من نور محمّد.. أضاءت روحَه المُترَعة بالحزن ابتسامةُ آخر الأنبياء.. حبيب الله.. خفّ عليّ للقاء الحبيب يشكو إليه وَيْلات الأرض.. همس عليّ بأسيً:
يا رسول الله.. ماذا لقيتُ من أُمّتك من الأود واللدد؟!
قال محمّد صلّي الله عليه وآله لأخيه:
ادْعُ عليهم:
ووجد عليّ نفسه يتضرّع إلي السماء يشكوها ظُلم الأمّة:
أبدلني اللهُ بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شرّاً لهم منّي.
لقد استشري الانحراف في روح الأمّة وباتت الأشياء تُري بالمقلوب، ومن هنا كانت محنة عليّ، وهو يشقّ طريقه علي هدي محمّد صلّي الله عليه وآله في دربٍ قلّ سالكوه، فإذا هو بين فريقَين: أحدهما يكْفر به ويكفّره، وآخر يعبده.

اغتيال الشمس

تطلّع عليّ عليه السّلام إلي السماء الزاخرة بالنجوم.. الفضاء مشحون بشيء عجيب.. لَكأنّ السماء تكاد تمسّ الأرض، أو أنّ الأرض تتعلّق بالسماء.. هتف عليّ والناس نيام:
إنّها الليلة التي وُعِدتُ فيها! والله ما كَذبت ولا كُذِبت.. الظلمة تتكاثف، الفجر ما يزال يمزّق حُجُب الظلام.. وعليّ يتخطّي باحة المنزل وقد ولّي وجهَه شَطْر المسجد الأعظم.. صاح الوزّ.. كأنّه يطلق استغاثة أو يحذّر من المجهول؛ تمتم عليّ:
صوائح.. تتبعها نوائح..
ومضي عليّ يشق طريقه في ظلمة الفجر.. أزفت لحظة الرحيل.. هناك في زاوية من المسجد سيف مسموم.. سيف يشبه ثعباناً منتفخاً بالسم..
هتف أمير المؤمنين ليوقظ النيام:
الصلاةَ! الصلاة! عِباد الله!
تحرّك الثعبان.. تلوّي.. ظهر صوت يشبه فحيح الأفاعي.. صوت ابليس وهو ينفخ.. صفير موحش وبريق مخيف.. وسيف جبان يهوي باتّجاه وجهٍ ما سجد لغير الله.. وتفجّرت الآلام، وهتف عليّ وقد هوي في المحراب؛ وقد غمرت وجهَه ولحيته الدماء:
فُزتُ وربِّ الكعبة..
وظهر ابليس ينظر بحقد إلي آدم وقد اجتباه ربّه.. وبدا قابيل يتشظّي غيظاً وهو يري قُربان أخيه ترفعه السماء.. فسوّلت له نفسه قَتْل أخيه فقتله. فأظلمت الأرض وهبّت عاصفة الزمهرير..
انطفأت قناديلُ المسجد.. انكفأت الشموع.. وفرّ الربيع، وبدا محراب المسجد الأعظم خاوياً تغمره ظُلمة مخيفة.. وعليّ في منزله يذوب جسده تحت وهج الروح وهي تتأهّب للرحيل..

همسات قبل الرحيل

رغم كلّ الضجيج والصخب الذي ضجّت به تلك الحقبة من الزمن.. حيث عربدة الخنازير، وصخب الشهوات.. وحمّي اللذائذ.. ولكن عليّاً عليه السّلام كان يُصغي إلي نداءات قادمة من بعيد.. إنّها نداءات الرحيل،ها هو عليّ يفلسف الحياة.. يفضح كلّ بهارج الدنيا بكلمتين:
الرحيلُ وَشيك..
حتّي إنّ المرء ليحسّ سرعة الرحيل من ايقاع الكلمة.. لكأنّها سهم يخطف قرب الأُذن.. لا تشعر به ولا تسجّل سوي صوت قصير.. قصير للغاية..
وها هو ينادي شهود عصره:
تَجهَّزوا رحمكم الله! فقد نُودِيَ فيكم بالرحيل!
لقد عاش عليّ غريباً في عصره.. لم تكن غربته غربة وطن. لقد فقد أحبّته.. إنّه يحنّ إليهم يتمنّي لُقياهم.. فيقول:
فَقْدُ الأحبّةِ غُربة..
كلمات تنضح حزناً وأسيً.. ولوعة..
وعاش عليّ يحارب الشرور.. إنّه يعرف كيف يكافحها.. يعرف أنّ ميدانها الأول في أعماق النفس الإنسانيّة.. لهذا تراه يهمس بصوت هادئ:
احصُد الشرَّ من صَدْر غيرك بقَلْعه من صدرك..
وعلي يكشف للإنسانية مأساة العقل البشريّ، أنّها تكمن في الأطماع.. وها هي العقول تتساقط أمام الأطماع.. عندما تتحوّل الطموحات الرخيصة إلي صواعق تنقضّ علي العقول فتُطفئ فيها وهجها السماوي فيقول:
أكثر مصارعِ العُقول تحت بُروق المطامع.
ويقول:
الطمع رِقٌّ مُؤبَّد..
ويقول:
الطامع في وثاق الذلّ.
ويلتفت إلي رفاقه وقد مرّ بمزبلة فيقول:
هذا ما كنتم تتنافسون فيه بالأمس..
وهذا ما بخل به الباخلون.
وعليّ يرسم الطريق لمن يريد أن يحيا كريماً، فيهمس في الآذان الواعية:
مِن أشرف أعمال الكريم غفلتُه عمّا يعلم.
ويعلن رأيه في الثَّراء الحقيقي قائلاً:
كفي بالقناعة مُلكاً، وبحُسن الخلق نعيماً.
وعليّ يرفع لواء الرحيل لأن:
الدنيا دارُ ممرٍّ لا دار مقرّ..
والمجد لمن وعي كلمات عليّ.. فوهب لنفسه الحرّية.
وعليّ يثير أسئلة الإنسان حول ظاهرة محيّرة.. عندما يسكت الإنسان يفقد قدرته علي النطق والتعبير؛ ويسكت خاشعاً في حضرة الموت.. عندما يجلس الكائن البشري، وقد استسلم بذلّ؛ يتساءل عليّ وهو يخاطب الإنسان:
هل تحسّ به إذا دخل منزلاً؟ أم هل تراه إذا توفّي أحداً؟ بل كيف يتوفّي الجنينَ في بطن أُمّه؟!.. أيلج عليه من بعض جوارحها؟ أم الروح أجابته بإذن ربّها؟!.. أم هو ساكن معه في أحشائها؟!..
وينظر علي إلي السماء فتمتلئ روحه إجلالاً للواحد القهّار فيقول:
كيف يصف إلهَه مَن يعجز عن صِفة مخلوقٍ مِثْلِه؟!
وستبقي لحظة الموت ميعاداً وموعداً.. لغزاً يحيّر الإنسان.
وستبقي النفس البشرية عاجزة عن اكتشاف ذلك المجهول وقد قال خالق النفس وبارئ الروح: وما تدري نَفسٌ ماذا تَكسِب غداً وما تدري نفسٌ بأيّ أرضٍ تموت.
وها هو عليّ يخاطب الإنسانية جمعاء:
«أيّها الناس! كلُّ امرئٍ لاقٍ ما يفرّ منه في فِراره. الأجَلُ مَساقُ النفس؛ والهرب منه موافاته … ».
كلّما أمعن الإنسان في فراره من الموت كلّما أسرع في خُطاه نحو معانقة ما يفرّ منه.. حتّي لو أخفي نفسه في البروج المشيّدة.
فيقول عليّ صلوات الله عليه:
كم اطّردتُ الأيّامَ أبحثُها عن مكنون هذا الأمر، فأبي الله إلاّ إخفاءه! هيهاتَ! عِلمٌ مخزون!
ويلتفت الإمام عليّ إلي الذين تحلّقوا حوله.. وقد أوشك علي الرحيل فيقول:
أنا بالأمس صاحبُكم، وأنا اليوم عِبرة لكم؛ وغداً مفارقكم..
لقد انتهي كلّ شيء وسوف يرحل سيّد الأوصياء في التاريخ، ما زال يتكلّم فتتدفّق ينابيعُ الحكمة، ويلخّص وجوده قائلاً:
وإنّما كنتُ جاراً جاوركم بدني أيّاماً..
وستعقبون مني جُثّة خلاء..
ساكنةً بعد حراك..
وصامتة بعد نطق..
ليعظكم هدوِّي وخفوتُ إطراقي.. وسكونُ أطرافي..
وستكتشف الإنسانيّة عليّاً بعد رحيله.. وهو يعرف ذلك فيهتف عالياً:
غداً ترون أيّامي ويُكشَف لكم عن سرائري.. وتعرفونني بعد خلوّ مكاني.. وقيام غيري مقامي..

حديث مع الأجيال

رياح شباط تهبّ مجنونة.. تنخر في العظام.. تبشّر بالويل والثُّبور.. الإمام يتأهّب للرحيل.. لقد مضي عهد السلام..
أجري الطبيب فحوصاته.. لقد استشري السم.. وأمير المؤمنين مهدّد بالموت بين لحظة وأخري.. الروح العظيم يتوهّج.. فيذوب الجسد الآدمي.. والجبين الذي لامس الشمس ينضح عرقاً.. الشمس تهوي في هوّة الأفول.. رَمَق عليّ ولدَيه.. سبطَي محمّد وريحانتَيه من الدنيا..
عليّ يتحدّث يوصي الأجيال.. وقد توقّف التاريخ يُصغي لميراث خير الأوصياء:
أُوصيكما بتقوي الله! وألاّ تَبغَيا الدنيا وإن بغتكما..
ولا تحزنا علي شيءٍ منها زُوِي عنكما.. وقولا بالحقّ.. واعملا للأجر..
وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عَوناً..
وهنا يهمس في أذن الأجيال القادمة فيقول:
أُوصيكما وجميعَ ولدي وأهلي..
ومَن بَلَغه كتابي..
بتقوي الله.. ونَظْم أمركم.. وصلاح ذات بينكم.. فإنّي سمعتُ جدّكما صلّي الله عليه وآله يقول: «صلاحُ ذاتَ البَين أفضل من عامّة الصلاة، والصيام». ثّم يتدفّق النبع الإنسانيّ الذي يبني العالم الأخضر:
«واللهَ.. اللهَ في الايتام فلا تَغِبّوا أفواههم.. ولا يَضيعوا بحضرتكم.. واللهَ اللهَ في جيرانكم.. فإنّهم وصيّةُ نبيكم ما زال يُوصي بهم حتّي ظنّنا أنّه سيورّثهم..
واللهَ الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيرُكم..
واللهَ الله في الصلاة فإنّها عمود دينكم..
واللهَ الله في بيت ربّكم لا تُخلوه ما بقيتم، فإنّه إن تُرِك لم تناظروا..
والله والله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله..
وعليكم بالتواصل والتباذل: وإيّاكم والتدابر والتقاطع … لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّي عليكم شراركم.. ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم …
وهنا يوجّه الإمام خطابه إلي بني عبدالمطلب حتّي لا يصنعوا من ثيابه الملوّنّةً بدم الشهادة قميصاً آخر فيقول:
«يا بني عبدالمطلب لا ألفينّكم تخوضون دماءَ المسلمين خوضاً تقولون: «قُتِل أمير المؤمنين.. ألا لا تقتلّن بي إلاّ قاتلي..».
وهو يريد أن يغلق إلي الأبد ملف الحادثة:
انظُروا إذا أنا مِتّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربةً بضربة.. ولا تُمثّلوا بالرجل.. فإنّي سمعت رسول الله صلّي الله عليه وآله يقول: «إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور».
وسكت علي.. ليتحدّث فيما بعد بلغة الصمت.. ليبقي قبره المجهول عشرات السنين يرسم علامة استفهام كبري علي العهود المظلمة التي تلت اغتيال الشمس.

نبوءات الزمن القادم

وعلي يستشرف صفحات الغد القادم.. ويري الآفاق البعيدة: ويلات الحروب.. وأمواج الفِتَن.. وعواصف الزمهرير:
• سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفي من الحقّ.. ولا أظهرَ من الباطل.. ولا أكثر من الكذب علي الله ورسوله.. وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أَبْورَ من الكتاب إذا تُلي حقَّ تِلاوته.. ولا أنفق منه إذا حُرِّف عن مواضعه.. ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر..
فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم..
ومعهم وليسا معهم..
لأنّ الضلالة لا توافق الهدي، وإن اجتمعا.. فاجتمع القوم علي الفُرقة وافترقوا علي الجماعة.. كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم.. فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه..
• ويبشّر الإمام بعواصف الزمهرير التي ستهبّ من الشام بعد حين فيقول: «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم.. مُنْدحِقُ البطن (عظيم البطن بارزُه).. يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد.. فاقتلوه، ولن تقتلوه!.. ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة مِنّي، فأمّا السبّ فسُبّوني فإنّه لي زكاة، ولكم نجاة، وأمّا البراءةُ فلا تتبرّأوا مني، فإنّي وُلِدت علي الفِطْرة، وسَبقتُ إلي الإيمان والهجرة.
• وسوف يبدأ زمن السقوط والانحطاط عندما ينقضّ أعداء الإسلام القدامي علي دين الله الحقّ.. وتبدأ الحقبة الأمويّة المظلمة: «واللهِ لا يزالون حتّي لا يَدَعوا لله مُحرّماً إلاّ استحلّوه، ولا عقداً إلاّ حلّوه»، وستعمّ المأساة المدن والبوادي:
«حتّي لا يبقي بيتُ مَدَر ولا وَبَر إلاّ دخله ظلمُهم».
وسيبدأ زمن البكاء:
«وحتّي يقوم الباكيان يبكيان: باكٍ يبكي لدِينه، وباك يبكي لدنياه».
• وسيبدأ زمن الويلات، عندما تشتعل الحروب المدمّرة، وها هي البصرة تحترق في أتون المعارك: وستُملأ الأهوار بالجماجم.
يا أحنف، كأنّي به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجَب ولا قعقعة لُجُم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم، كأنّهم أقدام النَّعام..
وسوف تتهدّم البيوت وتخرّ سقوف المنازل:
وَيْلٌ لسكككم العامرة والدور المزخرفة.. التي لها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفِيَلة.. مِن أولئك الذين لا يُندَب قتيلهم، ولا يُفقد غائبهم.. أنا كابُّ الدنيا لوجهها، وقادرها وبقَدْرها، وناظرها بعينها..
وها هي الأقوام في آسيا الصغري تترك مراعيها لتجتاح بلاد الإسلام:
كأنّي أراهم قوماً «كأنّ وجوههم المَجانّ المُطَرَّقة».. يلبسون الرقّ والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك استحرار قتل.. حتّي يمشي المجروح علي المقتول، ويكون المُفِلت أقلّ من المأسور!».
ويشعر شهود ذلك العصر بالرهبة، وقد انكشفت أمامهم صفحات من الغد القادم.. فيقول أحدهم وكان كلبيّاً:
لقد أُعطيتَ يا أمير المؤمنين عِلم الغيب!
ويبتسم عليّ قائلاً:
يا أخا كلب، ليس هو بعِلم غيب، وإنّما هو تعلّم من ذي علم، وإنّما علم الغيب عِلم الساعة، وما عدد الله سبحانه بقوله: إنّ الله عنده عِلمُ الساعةِ ويُنزِّل الغيثَ ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأيّ أرض تموت … فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذَكَر أو أُنثي، وقبيح أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومَن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبيين مُرافِقاً.. فهذا عِلم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله.. وما سوي ذلك فعِلمٌ علّمه الله نبيَّه فعلّمنيه؛ ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطمّ عليه جوانحي.

ليلة القدر

وفي ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك رحل عليّ.. وفي قلب الليل خرج رجال يُعَدّون بالأصابع يحملون الجثمان العظيم ليطووا مسافة خمسة أميال خارج الكوفة.. وهناك في بقعة طاهرة جرت مراسم دفن سيّد الأوصياء في التاريخ.. لقد غاب عليّ عن هذه الدنيا ليسطع اسمُه في ضمير الأجيال.. ويبقي خالداً في وجدان الإنسانية علي مرّ العصور والأيام..
وفي تلك الليلة عرجت روح ذلك العظيم تتخطّي السماوات في الليلة التي تُوفّي فيها موسي بن عمران ورُفع فيها عيسي ابن مريم.
وهكذا انطفأت الشمس التي أضاءت العالم حيناً من الدهر وغمرته بالنور والدفء ليبدأ زمن الزمهرير.. وتضجّ الأرض بعواء الذئاب.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.